هذه فاطمة صلوات الله عليها المجلد 3

هوية الكتاب

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله عليها

اسم المؤلف: السيد نبيل الحسني

التنضيد: محمد رزاق السعدي

الإخراج الفني: احمد محسن المؤذن

التدقيق اللغوي: أ. خالد جواد العلواني

المتابعة الطباعية والتوزيع: إحسان خضير عباس

إصدار شعبة الدراسات الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2012-2801

الرقم الدولي ISBN : 9789933489472

الحسني، نبيل، 1965 - م.

هذه فاطمة صلوات الله وسلامه عليها: وهي قلبي وروحي التي بين جنبي (النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم): دراسة وتحليل نبيل الحسني. ط 1 - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، 1434 ق. = 2013 م.

8 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 100).

المصادر.

1. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. السيرة. 2. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - فضائل. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - في القرآن. 4. واقعة إحراق باب دار فاطمة الزهراء (س)، 11 ق. 5. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. إيذاء وتعقيب. 6. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - الشهادة. 7. الشيعة - أحاديث.

تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و هی قلبي و روحي التي بین جنبي

کاتب:نبیل حسنی

المنتج: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة. شعبة الدراسات و البحوث الإسلامیة

عدد المجلدات :8 ج

لسان: العربي

الناشر:العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة - کربلای معلی عراق

سنة النشر: 1434 هجری قمری|2013 میلادی

قانون الكونجرس:/ح5ھ4 27/2 BP

ص: 2

ص: 3

ص: 4

توطئة

أحببنا قبل الغوص في بحور علوم بيت فاطمة عليها السلام، أن نبين للقارئ الكريم السبب الذي دفعنا إلى البدء بعلم الاجتماع العائلي، وما يرتبط به من علوم نفسية وتربوية ؟

وهو: توصيل فكرة لدى القارئ الكريم، بأن كثيراً من النظريات التي قدمها علماء الاجتماع عند دراستهم للعائلة، هو نفسها التي وضعتها فاطمة عليها السلام قبل أربعة عشر قرناً، إلا أن علماء السوسيوكلوجيا والأنثروبولوجيا قد توصلوا إلى هذه النظريات عن طريق البحث والتحليل والمراجعة والمتابعة، بينما سيدة نساء العالمين عليها السلام قدمت للمجتمع هذه المناهج عن طريق (العلم اللدنّي) الذي خصها الله به.

قال الله تعالى:

(وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً)(1).

ص: 5


1- سورة الكهف: الآية 65.

وقال عزّ وجل:

(وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ )(1).

فيما قال لها رسول الله:

«فاطمة بضعة مني».

وقال لها أيضا، وقد ضمها إلى صدره:

(ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ )(2).

بعد أن أجابت على مسألة عجز عنها المسلمون(3).

وغيرها من الدلائل التي نص على أنها عليها السلام قد قدمت هذه الأسس والمناهج، والقواعد، والنظريات، عن طريق ما خصها الله به، وبما ورثته من علوم أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً عن ذلك أنّ النظرية عند الأئمة المعصومين تختلف بمصداقها عن النظرية التي يتوصل إليها العالم الذي يعمل في المؤسسات والهيئات والجامعات المعاصرة؛ إذ ترتكز النظرية عند المعصوم عليه السلام على تفسير الظاهرة أو القانون أو القاعدة طبقاً لعين الواقع، ولذا فهي علمية لاستحالة نفوذ الاحتمال أو الظن إليها، بمعنى لا يكون بيان الإمام يستند إلى الظن أن عدم الإحاطة الكاملة والشاملة والدقيقة للسنن والقوانين والظواهر الكونية، ونقصد بالكونية جميع ما يمكن أن يدركه الإنسان ويحسه بل وحتى الأشياء التي لم يتمكن من إدراكها ومعرفتها فجميع ذلك علمه عند الإمام

ص: 6


1- سورة يس: الآية 12.
2- سورة آل عمران: الآية 34.
3- كتاب ألف باء للبلوي: ج 2 ص 76؛ الإسلام والأسرة لمعوض عوض: ص 64.

المعصوم عليه السلام.

وذلك أن علم المعصوم هو علم حضوري أو لدنّي - كما أسلفنا -. وقال عزّ وجل عن سيد الأئمة وخازن النبوة أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ )(1).

وفي بيانه عزّ شأنه لعلم نوح عليه السلام حينما أمره ببناء السفينة وحمل المخلوقات فيها قال له:

(اِحْمِلْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّٰ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ مٰا آمَنَ مَعَهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ )(2).

وهذا الجمع يستلزم المعرفة التامة والإحاطة الشاملة بجميع ما خلق الله تعالى؛ كي يتمكن نوح عليه السلام من حمل هذه المخلوقات بل يستلزم ذلك معرفته وعلمه بأصناف هذه المخلوقات وأجناسها أي الذكر من الأنثى حتى يتمكن من إعادة دورة الحياة على الأرض، فكم من حيوان ونبات وحشرة خلقها الله تعالى على الأرض، وحملها معه نوح عليه السلام في السفينة.

ولذا لا يمكن أن يكون فعل نوح عليه السلام بغير علم لدنّي علمه الله تعالى إياه.

وعليه: تكون نظرية المعصوم عليه السلام هي عين الواقع، ونظرية غيره من الخلق تبنى على مجموعة من الظنون تتفاوت في نسبها وقوتها ومرجحاتها، فقد يصل هذا العالم أو ذاك من خلال الدراسة والبحث إلى معرفة الحكم بنسبة محدودة

ص: 7


1- سورة يس، الآية: 12.
2- سورة هود، الآية: 40.

تقترب أو تبتعد عن الحكم الواقع والمطابق لعين الحق.

وقد يبتعد كل البعد عن عين الواقع فتكون نظريته واهية سرعان ما يظهر فشلها حينما يأتي عالم آخر يقدم أدلته التي تكتسب أهميتها من خلال قربها من الواقع، ومن ثم إحراز نسبة من الحقيقة التي سنها الله تعالى، من هنا ذهب البعض إلى: (أن النظرية بسبب اتساعها يبقى صدقها احتماليا مهما بلغ النجاح فيها)(1).

وعلى هذا نجد أن نظرية المعصوم هي عين الواقع فلا وجود للاحتمالات فيها ولا ظنون نافذة إليها فهي عين الصدق؛ لأنها ترتكز على فيض من سن السنن وأجراها ومن بيده مقاديرها وتصريفها فكان علم الإمام بها علماً ربانياً ولدنيّاً.

أما دورنا هنا هو محاولة إيصال نظرية المعصوم عليه السلام بصفتها حقيقة مطابقة لعين الواقع إلى الباحثين والدارسين من خلال إلزامهم بما ألزموا أنفسهم من التمسك بالظواهر والأدلة التي ارتكزت في مفاهيمهم أنها علمية.

وحيث إن الكمال لله تعالى ولحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وعترته ثقل القرآن وعدله فإنه قد يخوننا البيان ويفارقنا التوفيق فيما سعينا من أجله في بعض مواضع الكتاب فنسأل الله تعالى العفو والمغفرة ومن رسوله وأهل بيته الشفاعة.

ثانيا: ولأن علم الاجتماع العائلي يُعدّ من (أحدث فروع علم الاجتماع التي تبلورت موضوعاتها ومناهجها، كما يعد في نفس الوقت من أخصب فروع علم الاجتماع من حيث المشكلات الهامة والقضايا التي تتجدد أهميتها ويتعاظم

ص: 8


1- أسس البحث العلمي للدكتور محمد نجيب والدكتور محمود ميلاد: ص 43.

وزنها في مجتمعنا الحديث)(1).

ولأن علم الاجتماع العائلي يشرح ويفسر طبيعة النظم العائلية حيث يهتم العلماء بدراسة نشأة وتطور الأسرة الإنسانية من حيث نظامها وتركيبها ووظائفها، ونظم القرابة فيها، ويهتم بعوامل تغيرها، وكذلك بعوامل ثباتها واستمرارها وبقائها في جميع المجتمعات كنظام اجتماعي من أهم النظم الاجتماعية.

وكذلك يهتم بدراسة وتفسير نماذج العلاقات العائلية بين أفرادها، والتفاعل الاجتماعي بين الزوجين، وبين الأخوة والأبناء والوالدين، وبين بقية الأقارب الآخرين.

ونظرا لاهتمام علم الاجتماع بدراسة الجماعات، وكذلك دراسة البناء الاجتماعي، والنظم الاجتماعية الكبرى التي تتفاعل فيها الجماعات والأفراد، فإن علم الاجتماع العائلي كفرع هام من فروع علم الاجتماع العام قد خصص في (دراسة الأسرة) كجماعة اجتماعية أولية، وكنظام اجتماعي(2).

ومن هنا: فإننا ونحن نسير في رحاب حياة السيدة الطاهرة والصدّيقة الكبرى فاطمة البتول عليها السلام فلابد لنا من الوقوف بإجلال أمام أسرة فاطمة عليها السلام، كي نستلهم منها المناهج والنظم، والروابط الأسرية، كما يستلهم الباحث والأكاديمي من المحافل العلمية مادته البحثية، وعنوانه التخصصي.

وفي نفس الوقت تقدم منهجية أخرى في دراسة الأسرة تضاف إلى تلك

ص: 9


1- الاتجاهات المعاصرة في دراسة الأسرة للدكتورة علياء شكري: ص 15.
2- للمزيد من الاطلاع على ما يتناوله علم الاجتماعي العائلي أنظر: علم الاجتماع العائلي للدكتور الوحيشي: ص 5-6؛ علم اجتماع العائلة للدكتور محمد صفوح: ص 3.

المناهج المتبعة في حقل الاجتماع العائلي بشكل خاص، وفي علم الاجتماع وفروعه بشكل عام، فلعل المهتمين بهذا الحقل ونواته - أي - الأسرة يجدون ما يضيفونه إلى مادتهم البحثية، ومنهجهم العلمي الأكاديمي.

ولذا فإننا سنقوم بطرح النظم الأسرية الفاطمية بادئ الأمر كونه نظاماً نابعاً من أستاذة مجازة في تدريسها من جامعة القرآن، وبتصديق وإقرار من معلم البشرية الأول، وخيرهم أبي الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم الذي:

(وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ )(1).

ثم نقارنه بما صدر عن المحافل والهيئات العلمية التخصصية، سواء على نطاق فردي، أو هيئوي، أو مؤسساتي فلعلنا بذلك نكون قد قدّمنا للباحث والقارئ ما يساعدهما على الوصول إلى مبتغاهما في حفظ (الأسرة، وبنائها وتطويرها).

ص: 10


1- سورة النجم: الآية 3.

الفصل الاول: اسرة فاطمة عليها السلام

اشارة

ص: 11

ص: 12

قد لا يخفى على أهل الاختصاص في العلوم الاجتماعية والتربوية والنفسية ما للأسرة من دور أساس في بناء الإنسان ورقيه.

كما لا يخفى على الباحثين والقراء في مختلف الديانات السماوية والحركات الإصلاحية سواء كانت فلسفية أو سلوكية أو سياسية أو اجتماعية من أنّ بيوت الأنبياء التي:

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ )(1).

من دور قيادي في تأسيس الإنسان النموذجي وصلاحه والذي به تصلح الحياة على الأرض.

من هنا: كانت الأسرة مصب اهتمام الفكر الإنساني، وموضع اهتمام المصلحين، والمهتمين بصلاح ورقي المجتمع الإنساني.

(ولعل كل مشتغل بالعلوم الاجتماعية - على اتساعها وتشعبها - يدرك إدراكا واضحا ليس في حاجة إلى تدليل: أن اهتمام المفكرين بالأسرة وخصائصها ومشكلاتها، اهتمام يضرب بجذور عميقة في تاريخ الفكر الإنساني، بل يكاد يكون

ص: 13


1- سورة النور، الآية: 36.

قديما قدم الفكر الإنساني نفسه)(1).

(ولا نعرف حضارة راقية - خلفت لنا تراثا مكتوبا - لم يهتم مفكروها من زاوية أخرى - بالأسرة -. ولكن الاهتمامات تتنوع وتتباين، فمن اهتمامات فلسفية، إلى أخرى أخلاقية إلى ثالثة تأملية.

ويمكن القول: بأن دراسات الزواج والأسرة قد شهدت مرحلة طويلة تمتد منذ بداية التاريخ المدون وحتى منتصف القرن التاسع عشر: (وتضم هذه المرحلة الفكر العاطفي - الخرافي أو التأملي - في موضوع الأسرة).

كما يتمثل في: التراث الشعبي عن الأسرة وكتابات الأدباء، والتأملات الفلسفية، وربما كان من أعلام هذا الفكر في عالم الأدب: شكسبير وروبرت، وإليزابيث براو فنج، ووالت وايتمان.

وفي عالم الدين: كونفو شيوس، وسانت أوغصطين، وفي عالم الفلسفة: أفلاطون، وأرسطو، وجون لوك)(2).

وعليه كيف يمكن لنا أن نهمل ما لفاطمة عليها السلام من نظريات - مطابقة لعين الواقع - ومناهج في خلق الأسرة الأنموذج في الإسلام.

ونحن نستعرض كل تلك الرؤى الفكرية والمعطيات الثقافية لأهل الفكر الإنساني والإبداع الحياتي.

ص: 14


1- الاتجاهات المعاصرة في دراسة الأسرة للدكتورة علياء شكري: ص 17.
2- الاتجاهات المعاصرة، للدكتورة علياء شكري: ص 17؛ نقلا عن: تطور ميدان الأسرة للدكتورة علياء شكري وغيرها؛ قراءات في الأسرة ومشكلاتها في المجتمع المعاصر: ص 91، ط دار الثقافة؛ دراسات في الاجتماعي العائلي، فصل (الأسرة في نظر الفلاسفة: ص 6).

المبحث الأول: مفهوم الأسرة وتعريفها

اشارة

وبالنظر إلى أهمية موضوع الأسرة، فقد اختلف الباحثون في علم السوسيوكلوجيا والانثروبولوجيا(1) في صياغة تعريف موحد، أو الاتفاق على مفهوم معين في الأسرة، سواء كانوا دينيين، أو علمانيين، (رغم أن مدلول الأسرة معروف لدى جميع الناس، وموجود في كل مكان)(2).

وحتى في حالات الرجوع إلى اللغة لمعرفة (الأسرة) لغة، أو اصطلاحا، أو عند النظر في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة - على صاحبها وآله الصلاة والسلام - فإننا لن نقف على تعريف موحد للأسرة في هذه المنابع والأصول الثلاثة.

ص: 15


1- الأنثروبولوجيا: هو من الإختصاصات التي تمخضت عن علم الاجتماع وهو يعرف بعلم (الإناسة) ويتبنى دراسة جميع الظواهر والآثار التي ترسم حركة الإنسان وطريقة تعايشه مع أبناء جنسه، وفهم جميع الوسائل التي تدل على أنواع هذا التعايش؛ للمزيد أنظر: الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة للسيد نبيل قدوري الحسني: ص 15-22.
2- نظام الأسرة في الإسلام لمحمد عقلة: ص 18.

فالأسرة في اللغة

هي: الدرع الحصينة، وأهل الرجل وعشيرته، وتطلق على الجماعة يربطها أمر مشترك، وجمعها: أُسر(1).

مفهوم الأسرة في القرآن والسنة النبوية

اشارة

إذا جئنا إلى القرآن والسنة النبوية فإننا: لا نجد فيهما مصطلحا يعادل تماما كلمة (الأسرة) ولكن نستطيع استعمال اصطلاح (الأهل) المستعمل فيهما - أي القرآن والسنة النبوية - على أنه يعني الأسرة.(2)

ومن جهة أخرى فإن سبب الاختلاف بين أقوال الباحثين والمختصين في دراسة الأسرة يعزى إلى مفهوم الأسرة عند كل باحث حسبما تمليه عليه المعطيات المعتمدة في مادته البحثية ورؤياه الفكرية، إذ يختلف هذا المفهوم باختلاف ما تعطيه لها الديانات والمجتمعات من وظائف ومسؤوليات وبحسب متنوع النظم والتشريعات العالمية المتصلة بها.

فللديانات مفهومها، وللنظم العلمانية مفاهيمها، وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة مفهومها الخاص المترتب على خصوصيات أدوارها ومسؤولياتها في القانون الدولي(3).

بينما نسب بعض المتخصصين هذه الصعوبة في تعريف الأسرة إلى نفس التعريف

ص: 16


1- المعجم الوسيط في اللغة: ج 1، ص 18؛ تهذيب اللغة للأزهري: ج 13، ص 60؛ لسان العرب لابن منظور: ج 1، ص 140؛ جميعا في مادة: أسر.
2- الإسلام وتنظيم الأسرة لمحمد ظفار: ج 1، ص 221، ثبت أعمال مؤتمر الرباط.
3- أزمة القيم ودور الأسرة في تطوير المجتمع - فصل: مفهوم الأسرة ووظيفتها، لعبد الهادي بو طالب.

لما: تترتب عليه من نتائج على حياة الناس، إذ إن الاعتقاد بأن شكلا معينا من الأسر، ليس هو المرغوب فقط، ولكنه الأكثر واقعية أو أصالة قد يفرض بعض السياسات الاجتماعية التي قد تصف بعض الأسر، أو بعض السلوك الجنسي بأنها منحرفة(1).

ثم تدور تساؤلات الباحثين عن نفس المفردة، - أي: الأسرة ماذا تعني ؟!

هل الأسرة النواة الصغيرة، الزوجان وأطفالهما؟ هل العلاقات بين الزوج والزوجة، أم العلاقات القائمة بين الوالدين والأطفال هي عماد الأسرة ؟ هل تضم الأسرة كل شجرة الأسرة، جميع الأقارب الأعمام والعمات، الأخوال والخالات، والجدود والجدات، إضافة إلى الزوجين وأطفالهما وأبناء هؤلاء الأطفال وبقية الأقارب من الدرجة الثانية والثالثة، أو ما نطلق عليه العائلة أو العيلة(2) - هي الأسرة -؟

بينما يصب أحد الباحثين تساؤلاته عن: (العناصر التي يمكن إغفالها عند تعريف الأسرة هل هي: روابط الدم، روابط الزواج، معيشة الأفراد مع بعضهم البعض وشعورهم بالولاء، وبالمماثلة والتطابق، أم هي بعض هذه العناصر؟

وكيف تختلف قيمة تجربة الحياة في جماعات نطلق عليها أسر، في جماعات أخر لا نعدّها أسرية ؟ وهل يمكن تطبيق تعريف معين للأسرة على كل الثقافات، وفي كل العصور التاريخية)(3)؟

ص: 17


1- علم الاجتماع العائلي للدكتور الوحيشي: ص 53.
2- المصدر السابق.
3- البيئة العاطفية لارلين سكولينك، ط شركة بروان - بوسطن لسنة 1978 م، وعنه الوحيشي في علم الاجتماع العائلي: ص 58.

ولذلك كلما تقدم الزمن كلما ازداد مفهوم أو تعريف الأسرة صعوبة، ولاسيما في العصر الحديث، حيث ظهرت (الأسر العصرية) التي: (لا تأتلف رابطتها من أجل الإنجاب، بل قد يتعاقد الزوجان على إقصائه، كما لا تكون مكوناتها هي الأب والأم والأولاد، ولا تربطها علاقة أب وأم)(1) والعياذ بالله.

لكن هذا الوضع المحيط بمفهوم أو تعريف (الأسرة) لا يمنع من وجود مفاهيم واقعية، وتعاريف (جامعة) وإن لم تكن (مانعة)، كما هو متبع في المنهج الأصولي والمنطقي.

فأعطت للمهتمين بهذه النواة للمجتمع الإنساني، صورة جميلة وواضحة ومقبولة إلى حد ما، وإن اختلفت الرؤى الفكرية لهذه الصورة عند الناظرين إليها.

المسألة الأولى: الأسرة في المفهوم الشرعي

وهي الوحدة الأولى للمجتمع، وأولى مؤسساته التي تكون العلاقات فيها في الغالب مباشرة ويتم داخلها تنشئة الفرد اجتماعيا ويكتسب منها الكثير من معارفه ومهاراته وميوله وعواطفه واتجاهاته في الحياة، ويجد فيها أمنه وسكنه(2).

المسألة الثانية: الأسرة في الديانات الثلاث

هي: (مؤسسة أخضعها الله لقيم وروابط، وحد لها مسؤولياتها ووظائفها ووكل أمر تنظيمها وتحديد العلاقة بين أعضائها إلى التشريع الديني.

ص: 18


1- أزمة القيم ودور الأسرة في تطوير المجتمع، فصل: مفهوم الأسرة ووظيفتها، لعبد الهادي بو طالب: ص 158.
2- من أسس التربية الإسلامية، د. الشيباني: ص 497.

وأجمعت الديانات الثلاث: - (اليهودية والنصرانية، والإسلامية) - على أن الإنجاب هو وظيفتها الأساسية وأن لها مسؤولية في تربية الأولاد المنجبين على أسس دينية.

واتفقت كلها على أن الزواج الشرعي، شعيرة دينية لا تقام الأسرة خارجه، أو بدون استكمال شروطه، وأن هذه العلاقة لا تقتصر على إشباع الجنس، بل هي جزء من ممارسة البشر لأمانة الخلافة على الأرض نيابة عن الله لتأمين استمرار جنس الإنسان، وممارسة مهمة إصلاح الأرض وإعمارها على النهج الذي جاء به الأنبياء المرسلون)(1).

المسألة الثالثة: الأسرة في مفهوم علم الاجتماع

حمل علم الاجتماع مفاهيم متعددة للأسرة، ف -:

1 - فهي: (عربة الوعي الجمعي، ومن ثم فإن النظام الأسري يشكل من الأمور التي تخضع لها الأسرة باعتبارها الوحدة الاجتماعية الأولى في البناء الاجتماعي من حيث تكوينها ونطاقها ووظائفها وعلاقة أفرادها بعضهم ببعض، ومحور القرابة، وطقوس الزواج، والطلاق، والحضانة، وشؤون المواريث)(2).

2 - (الأسرة في طبيعتها اتحاد تلقائي تؤدي إليه الاستعدادات والقدرات الكامنة في الطبيعة البشرية النازعة إلى الاجتماع، وهي بأوضاعها ومراسيمها عبارة

ص: 19


1- أزمة القيم ودور الأسرة في تطوير المجتمع - فصل: مفهوم الأسرة ووظيفتها، لعبد الهادي بو طالب: ص 176.
2- المرأة بين الدين والمجتمع للدكتور عبد الباقي: ص 114.

عن مؤسسة اجتماعية تنبعث عن ظروف الحياة الطبيعية التلقائية للنظم والأوضاع الاجتماعية)(1).

3 - وفيما تتعدّد المفاهيم للأسرة في علم الاجتماع، فإن مفهوم وتعريف الأسرة بدا من السيدة ديان كارو ( Diane Gareau ) الكندية، يكشف عن رؤية تتناغم مع الحس الروحي الذي جاء به قوله تعالى:

(وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً )(2).

من حيث لا تعلم فتقول:

(هناك حيث تبدأ التربية، وهناك، حيث تتشكل قيمنا الأخلاقية، وهناك، حيث يتحسس البشر بيئته الاجتماعية وهنا، حيث يحتضن المودة فذلكم هو ما ينبغي أن تكون عليه الأسرة)(3).

المسألة الرابعة: الأسرة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

بقي أن نشير إلى ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من تعريف للأسرة

جاء في المادة 36 (الفقرة الثالثة) للإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة المعلن في العشرين من ديسمبر 1948 ما يلي:

ص: 20


1- النظرية الاجتماعية ودراسة الأسرة للدكتورة سامية الخشاب: ص 3؛ علم الاجتماع العائلي للدكتور الوحيشي: ص 54.
2- سورة الروم: الآية 21.
3- أزمة القيم ودور الأسرة في تطوير المجتمع، فصل: مفهوم الأسرة ووظيفتها، لعبد الهادي بو طالب: ص 176.

(الأسرة هي الخلية الطبيعية الأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة، ونصّت المادة نفسها على تحديد سن الزواج بالبلوغ، وعلى أن للرجل والمرأة - متى أدركا سن البلوغ - حق التزويج وتأسيس الأسرة دون قيد بالعرق أو الجنسية أو الدين. وعدم اعتبار قيد الدين يتنافى مع مقتضيات الديانات الثلاث الموحدة التي نظمت هذا النوع من الزواج فأحلّت بعضه وحرّمت بعضه.

وقد نصت المادة 16 من الإعلان العالمي على مساواة الذكور والإناث فيما يخص حقوق الزواج وفسخه ولم تسم هذا الفسخ باسم الطلاق وأضافت: أن المرتبطين بعلاقة الزوجية متساويان في الحقوق عند التزوج وخلال قيامه وعند فسخه)(1).

المسألة الخامسة: مفهوم الأسرة في الاتحاد الدولي لمنظمات الأسرة ( U.I.O.F )

( Union Intrenationale Des Organisations Dela Famille )

جاء في المادة الأولى من المشروع الذي أعده الاتحاد الدولي لمنظمات الأسرة، تعريف جامع لمفهوم الأسرة محدّد لمسؤولياتها ووظائفها هو: (الأسرة هي العنصر الأساسي للمجتمع، يمارس أعضاؤها وظائف ولهم حقوق وعليهم واجبات.

والأسرة حقيقة واقعة لا يمكن الاستغناء عنها، وهي تضطلع بمسؤولية التربية والتكوين والتثقيف وتساهم في بناء الاقتصاد وإرساء قواعد المجتمعات.

وهي: إطار طبيعي لتوفير تربية وعيش رغيد لأعضائها، وهي: مكان متميز للتبادل والأخذ والعطاء بين مجتمعاتها)(2).

ص: 21


1- المصدر السابق: ص 171.
2- أزمة القيم، فصل: مفهوم الأسرة: ص 175.
المسألة السادسة: مفهوم الأسرة في الإسلام

وللإسلام مفهوم آخر للأسرة يتباين في الرؤى بحسب ما تمليه العناصر الثقافية والعقائدية لدى الكاتب الإسلامي.

ولذلك لم ننقل هذه المفاهيم فيما ذكرنا من تعاريف ورؤى لدى الباحثين حول مفهوم الأسرة ما يسد رمق الباحث، ولا يضفي على القارئ الإحساس بالملل.

بقي أن نعرج إلى حق القارئ علينا بمعرفة رؤية المؤلف لهذا الكتاب ومفهومه للأسرة فنقول:

(الأسرة هي: آية من آيات الله تعالى الخَلْقية لسعادة الإنسان، وحفظ عنصره، وقطب عواطفه وبلورة إنسانيته، ومنشأ قيمه الخلقية، ونواة حسه السايكلوجي والوجداني، تنشأ من رجل وامرأة يربطهما رباط مقدس، حظي بمكانة خاصة لم يحظَ غيره من العقود والمواثيق في جميع المعاملات الفردية أو الجماعية بمثل ما خصه الله به فسماه ب -:

(مِيثٰاقاً غَلِيظاً)(1).

ثم سن لهذين المتعاقدين - أي: الرجل والمرأة - نظم حياتهما، وحدّ لهما حدودهما، وأوضح لهما تعدد أدوارهما من آباء وأمهات، وما يترتب على هذه الأدوار من نظم جديدة تكفلت بحفظ العلاقة بينهما، والتي نشأت على ركيزتين أساسيتين وهما (المودة والرحمة) اللتان مصدرهما ومنشؤهما (السكن)، النفسي، والعاطفي، والجسدي.

ص: 22


1- سورة النساء: الآية 21.

ثم أوضح لهما: أن دورة الحياة لا تكتمل، تكاملاً يثمر ثمارا صالحة لدوام الحياة على الأرض، حياة إنسانية، ميزتها الأوحدّية هي: (الوجدان) إلا بحفظ تلك الحدود والالتزام بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق.

فكم من علاقة أسرية تفلتت عن هذه النظم والحدود، فتمخضت عن هياكل بشرية تحمل سجايا بهيمية غاية أحدهم في الأرض أن:

(يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمٰاءَ )(1).

المسألة السابعة: مفهوم الأسرة في البيت الفاطمي

ولذا فالأسرة عند فاطمة عليها السلام هي: (حاضنة التكامل الإنساني، الذي يبحث عنه الرجل والمرأة كلا في الآخر.

فقال الله تبارك وتعالى:

(هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ )(2).

والذي لا يتبلور إلا بمحارة الزواج الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم كي ينتج لآلئ تزهر في جيل الحياة الإنسانية).

ومن هنا:

فنحن في أمسّ الحاجة إلى بيت فاطمة عليها السلام، كي نفهم أسلوب الحياة الأسرية ونتعلم المناهج في استمرار هذا البناء وتواصله، وندرك سبل التوافق، والنسق العاطفي والنفسي بين الزوج والزوجة.

ص: 23


1- سورة البقرة: الآية 30.
2- سورة البقرة: الآية 187.

ونستلهم طرق التنشئة الأسرية، والمناهج التربوية الصحيحة التي خطها وسنّها كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وسنرى كيف تأسس البضعة النبوية عليها السلام المناهج والأسس في العلوم الاجتماعية والعلوم النفسية، التي سنتناولها من خلال أبواب الكتاب، ونحن نطوف بين منابر علوم بيت بنت المصطفى الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 24

المبحث الثاني: فاطمة الزوجة

اشارة

كثيرة هي أدوار المرأة، وكثير هو عطاؤها، بل لا نبالغ إن قلنا: إنها نبع ماء ارتبطت به حياة الكثيرين من حولها.

وهنا: في هذا المبحث.. (فاطمة الزوجة) سنرى صورة الزوجة التي لم تتمكن أرقى تقنيات الحضارة من إظهارها بذلك النقاء والوضوح الذي أبداه بيت فاطمة عليها السلام، هذا البيت الذي سنرى فيه فاطمة وهي تؤدي دورها كزوجة، تعرف حقوقها، وتدرك واجباتها، سنراها كيف تتعامل مع هذا الوضع الجديد، فبالأمس كانت في بيت أهلها تأدّي دور البنت الذي له مسؤوليات محدودة، أما اليوم فالمسؤوليات عديدة، والحدود كثيرة، والأدوار التي تنتظرها عديدة.

ومن هنا: نرى سيدة نساء العالمين، وهي في بيت الزوجية كيف تعطي المناهج العديدة والأسس الثابتة التي يقوم عليها هذا البيت.

فهل نستطيع أن نتعلم من فاطمة هذه المناهج، كي نعلم بناتنا، وأخواتنا، ونرشد أمهاتنا ونساءنا؟

ص: 25

وهل ستعي المرأة من سيدة النساء عليها السلام كيف تؤدي واجباتها، وكيف توصل صوتها إلى الطرف الآخر عندما تنادي بحقوقها التي حدّها الله تعالى لها؟ والذي خلقها فأحسن خلقها وكرمها بما لا يكرمها به أحد من الخلق، قال تعالى:

(وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلاً)(1).

أما ما وضعه بعض الناس من مناهج وأسس لحقوق المرأة ورسم أدوارها في الحياة، فهو في حقيقته: مناهج لإشباع الشهوات، وأسس لإرضاء الرغبات، ثم تترك المرأة في بحر عميق تتلاقفها الأمواج، تحوم حولها شباك الصيد، فلا تدري أيكون البحر وأعماقه أرحم لها، أم البر وذئابه أرفق بها؟!

فلا.. يا أختي المؤمنة، لا يصلح المرأة غير دينها، كما لا يصلح السفينة غير سفانها، وكذلك هو الرجل لا يصلحه إلا دينه.

ولكن علينا أن نفهم الدين بأخذه من أهله، (أهل الذكر)، وأن نركب السفينة التي دلّ عليها معلم البشرية ومنقذها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قائلا:

«إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى»(2).

ص: 26


1- سورة الإسراء: الآية 70.
2- كفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص 378؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 168؛ المعجم الصغير للطبراني: ص 113؛ ينابيع المودة للقندوزي: ص 28 و ص 298؛ رشفة الصادي للحضرمي: ص 79؛ الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 91.

ومن هنا:

جئنا إلى بيت فاطمة عليها السلام كي نتعلم منها كيف نؤدي دورنا في الحياة، ومن بينها دورنا كأزواج، كيف نتعامل مع أزواجنا، ما هي حقوقنا؟ ما هي واجباتنا؟

كيف نتصرف إن كان الزوج مهموما؟ ماذا نصنع إن كان معسور الحال ؟ كيف نشعره بحبنا ومودتنا له ؟ وأهم من هذا وذاك كيف نحفظ هذا البيت، بيت الزوجية ؟

المسألة الأولى: أنّ فاطمة زوجة لعلي في الدنيا والآخرة

اشارة

المسألة الأولى: أنّ فاطمة زوجة لعلي في الدنيا والآخرة(1)

أحببت أن يكون مدخل الولوج إلى بيت فاطمة عليها السلام يتضمن موضوعا مهما فيما يخص الحياة الزوجية، والذي قلما وجدت من يركز عليه، أو يوليه اهتماما خاصا، - حسبما توفر لدي من مصادر - ألا وهو: (استمرارية الرباط الزوجي) في الدنيا والآخرة.

إذ إن المعروف بين الناس، أو الذي جرت عليه العادة منذ أن كان هناك رباط شرعي يجمع الرجل والمرأة سواء كان هذا الجمع لشهور أو سنين عديدة، أن يحرص كلا الزوجين على أن لا يفترقا.

لكن هذا الحرص سرعان ما يتبدد أمام سلطان قاهر لا يستطيع أحد أن يقول

ص: 27


1- أنظر: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: «فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة»: تفسير فرات الكوفي: ص 277؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 3، ص 386؛ المبسوط للسرخسي: ج 2، ص 72؛ بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: ج 1، ص 306؛ حاشية رد المحتار لابن عابدين: ج 2، ص 214.

له: لا، ألا وهو (الموت)، ولذلك سمي بمفرق الجماعات، وهادم اللذات(1).

إذ ما دام هناك ارتباط كانت هناك لذة وجدانية وهي لذة القرب والأنس، فأكثر ما يؤلم الإنسان هو الوحشة والوحدة، اللتين يسببهما الفراق.

ولذا نجد أن البعض قد أعلن حالة التمرد على الموت، ظانا أنه لا يفرق فيما بينه وبين من يحب، فتراه يرمي بنفسه في أحضانه منتحراً، دون أن يدرك أنه الأسرع في الاستجابة لهذا الموت ممن يحب.

في حين أن الموت لا يجمع تحت سلطانه الأحباب، فكم من حبيب لا يعلم عن حبيبه شيئا إذ كل إنسان مرهون بعمله، فإن جمعهما رباط الزواج في الحياة الدنيا، فسيفرقهما بعد الموت العمل، أو أن العمل هو الذي سيجمعهما، لكن يبقى الموت في عقول الناس هو المفرق.

ولذلك نجد أن الكثير من النساء والرجال، يعرضون عن الزواج بعد رحيل الزوج، أو الزوجة، حرصا على أن لا يدخل القلب زائر جديد، وحتى الذين تزوجوا بعد وفاة أزواجهنّ ، أو زوجاتهم، لم يكن هذا الزواج الجديد، بحائل عن الحنين لتلك العشرة، ولم يكن هذا الارتباط بقادر على محو تلك الذكرى.

فهذا الحنين، وهذه الذكرى، لطالما أبداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أم المؤمنين خديجة عليها السلام فلم يُحل تعدد الزوجات من الشوق والحنين لأم الزهراء، مما أثار غيرة عائشة، كما تروي الصحاح(2).

ص: 28


1- هذه التسمية جاءت في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قائلا: «أذكروا هادم اللذات».
2- صحيح مسلم: ج 5، ص 2419، كتاب الفضائل، باب: فضائل خديجة أم المؤمنين - عليها السلام -، حديث: 76 و 78، برقم 2437.

وهذا الحنين أيضا لطالما أبداه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد استشهاد فاطمة عليها السلام، ورحيلها إلى جوار ربها وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

فيناديها راثيا:

ما لي وقفت على القبور مسلما *** قبر الحبيب فلا يرد جوابي

أحبيب ما لك لا ترد جوابي *** أنسيت بعدي خلة الأحبابِ

لا خير بعدك في الحياة وإنما *** أبكي مخافة أن تطول حياتي(1)

ومن أجل ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتبشير الإمام علي عليه السلام وتطمينه، بأن فاطمة عليها السلام، معه في الدنيا والآخرة.

قائلا له:

«أنت معي يا علي في قصري في الجنة مع فاطمة بنتي، هي زوجتك في الدنيا والآخرة، وأنت رفيقي»(2).

ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(إِخْوٰاناً عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقٰابِلِينَ )،

«المتحابون في الله ينظر بعضهم إلى بعض»(3).

ص: 29


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 217.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 227.
3- العمدة لابن البطريق: ص 168؛ تفسير الفرات الكوفي: ص 227؛ بحار الأنوار: ج 38، ص 346، باب: أنه عليه السلام كان أخص الناس بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ مستدرك سفينة البحار للنمازي: ج 8، ص 247.

وفي رواية أوردها ابن شهر آشوب في المناقب عن سفيان الثوري، عن الأعمش(1)، عن أبي صالح في قوله تعالى:

(وَ إِذَا اَلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ )(2).

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما من مؤمن يوم القيامة إلا إذا قطع الصراط زوجه الله على باب الجنة بأربع نسوة من نساء الدنيا وسبعين ألف حورية من حور الجنة إلا علي بن أبي طالب فإنه زوج البتول فاطمة في الدنيا وهو زوجها في الآخرة في الجنة ليست له زوجة غيرها من نساء الدنيا، لكن له في الجنان سبعون ألف حوراء لكل حوراء سبعون ألف خادم»(3).

مسائل البحث في الحديث:

أولا: لا يحرم الله المؤمن مما بذل له من نعم الدنيا في الآخرة

يكشف الحديث عن حقيقة غيبية تظهر حجم اللطف الإلهي بعباده المؤمنين ودوام حسنه وكرمه إليهم، ففي الوقت الذي سخر الله تعالى للمؤمن نعم الحياة

ص: 30


1- الأعمش: ترجم له السيد الخوئي قدس سره في معجم رجال الحديث: ج 9، ص 294؛ برقم 5518، وقال عنه الشبستري: أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي، وقيل الكاهلي بالولاء، الرازي، الكوفي، المعروف بالأعمش. من ثقات محدثي الإمامية، ومن خواص الإمام الصادق عليه السلام، وقيل من المهملين، كان مقرئاً جليل القدر، ورعا، حافظاً، مستقيم الرأي، فاضلاً أصله من دباوند من قرى الري ولد بالكوفة سنة 61 وتوفي بها سنة 148 ه -.
2- سورة التكوير، الآية: 7.
3- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 324.

الدنيا وأباح له الزواج من أربع نساء ولم يتمكن من الاستفادة من هذه النعمة والتنعم بها فإن الله يجعل له هذا المباح المبذول له في الدار الدنيا متحققاً ومنالاً في الآخرة.

فمن تزوج بواحدة من النساء في الحياة الدنيا وكانت هذه الزوجة من أهل الإيمان والصلاح جمعهما الله في الجنة وتزوج من ثلاث نساء من نساء الدنيا كي يتحقق ما قدر الله تعالى للمؤمن من استحقاق حياتي في الدار الأولى.

ثانياً

كما يكشف الحديث عن الحكمة في هذا التفاوت السكاني بين الرجل والمرأة؛ إذ غالباً يكون عدد النساء أكثر في جميع المجتمعات الإنسانية على الأرض، ومن ثم فكثير منهن قد لا يتنعمن بنعمة الزواج والأمومة والزوجية.

وعليه:

ستعوض في الآخرة فتنال الزوجية التي حرمت منها في الحياة الدنيا.

ثالثاً

يدل الحديث على أن هذه الحقيقة الغيبية قد دل عليها أيضا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة عليها السلام حينما دخل عليها في أيامها الأخيرة وهي متهيئة للالتحاق بربها سبحانه وتعالى (فقال لها:

«بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون».

ص: 31

قالت:

«وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟».

قال:

«نعم».

قالت:

«بالرفاء والبنين»)(1).

والحديث يكشف بوضوح عن تحقق الزواج من أربع نساء في الآخرة مع بيان مقام الشأنية للمؤمن فسيد الخلق زوجه الله سبحانه من أربع نساء من نساء الدنيا في الجنة وهن خديجة ومريم وآسية وكلثم أخت موسى وهن سيدات أهل الجنة مع خصوصية مقام خديجة عليها السلام.

رابعاً

يكشف الحديث عن شأنية فاطمة عليها السلام وعلو مقامها عند الله تعالى وأن ليس هناك امرأة في الدنيا ترقى إلى تلك الشأنية ولذا لا تتناسب هذه الشأنية والمقام الخاص الذي خصها الله تعالى به مع نزول ضرة فتكون مقارنة لها في الحقوق الزوجية.

بل لا يمكن أن تتحقق العدالة هنا مع ما يفرضه مقامها عند الله تعالى من حدود خاصة تتقاطع مع حقوق وجود ضرة لها.

ص: 32


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 19، ص 20؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 218؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 451؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 10، ص 119.

المسألة الثانية: تقسيم مسؤوليات الحياة الزوجية بينهما عليهما السلام

اشارة

اهتمت الدراسات الحديثة بالتوافق الزواجي اهتماما كبيرا، فهي ما بين دراسة ميدانية مستفيضة في المراقبة والتحليل، وما بين نظرة موضوعية ومرجعية لأداء الباحثين.

ومن بين هذه وتلك تبرز النظم النبوية على صاحبها وآله الصلاة والسلام، في الأسرة كأساس يقوم عليها التوافق الزواجي.

لكن تختلف الدراسات الحديثة عن النظم النبوية في الأسرة، في المنهجية: فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل التكافؤ الزواجي هو الأساس لنجاح التوافق الزواجي الذي أنتجته الدراسات الحديثة، بينما الدراسات الحديثة جعلت التوافق الزواجي هو نقطة الانطلاق وهو الركيزة التي ترتكز عليها السعادة الزوجية.

ولو رجع المعنيون بدراسة الأسرة إلى النظم النبوية لما احتاجوا إلى بذل الجهود المتواصلة لمعرفة الأسس التي يقوم عليها نجاح العلاقة الزوجية وتواصلها، وما يرتبط بها.

فالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:

«زوجوا الأكفاء».

يكون قد وضع للباحثين والمفكرين الحجر الأساس في نجاح العلاقة الزوجية واستمرارها.

ولذلك عندما أراد أن يزوج فاطمة عليها السلام انتظر بها القضاء؛ لأن الله

ص: 33

عزّ وجل هو الأعلم بكفؤ فاطمة، كما مرّ بيانه في الفصول السابقة، فهذا التكافؤ فيما بين علي وفاطمة عليهما السلام كان الأساس في ظهور التوافق الزواجي ودوامه.

وقد توصّلت الدراسات الحديثة: إلى أنّ الأسس التي يقوم عليها (التوافق الزواجي) هو مفهوم الذات، وقد دلت الكتابات والدراسات التي دارت حول مفهوم الذات أنه يعد حجر الزاوية في الشخصية، وقد أصبح الآن ذا أهمية بالغة، ويحلّ في هذه الأيام مكان القلب في التوجيه النفسي، وفي العلاج المركز حول العميل(1).

وتكمن أهمية (مفهوم الذات) في تحقيق التكافؤ المؤدي إلى حصول (التوافق الزواجي)، إذ كيف يمكن أن يتحقق التكافؤ بين الزوجين ومن ثم التوافق وكلٌّ منهما لا يعرف ولا يفهم ذاته ؟ فهذه المعرفة بالذات هي التي تحدد بنجاح حالة التكافؤ الزواجي المؤدي إلى حصول التوافق في الحياة الزوجية، فكلما عرف الإنسان ذاته كلما استطاع الوصول إلى الكفؤ والنظير له.

وعليه: فعلي وفاطمة عليهما السلام كل منهما عارف بذاته، أي: (نفسه) متيقّن بكفؤ شريكه في الحياة، وعند العودة إلى النظريات الحديثة فإن نظرية (كارل روجرز) تعدّ من أبرز نظريات مفهوم الذات، حيث ينظر إلى مفهوم الذات كمفهوم متطور عن تفاعل الكائن الحي مع البيئة ولذلك يكتشف الفرد من هو؟ خلال خبرته مع الأشياء والأشخاص الآخرين.

كما يقرر (روجرز) أن كل فرد يعيش في عالم متغير من الخبرة المستمرة التي

ص: 34


1- الإرشاد والتوجيه النفسي لحامد عبد السلام: ص 258.

يكون هو محورها ويستجيب للمجال كما يخبره ويدركه، ويتضمن مفهوم الذات قيما عن الذات قد تكون إيجابية، أو سلبية كما يدرك أي خبرة غير متسقة مع مفهوم الذات على أنها عمل مهدد لكيانه.

ولذلك تتكون الدفاعات التي تنكر هذه الخبرات على الشعور وتصبح صورة الذات أقل انسجاما لذلك يقع الفرد في صراع ويصبح أقل تكيفا(1).

وهذه النظرية وإن كانت من أبرز نظريات مفهوم الذات، إلا أنها لا يمكن حملها على فهم ومعرفة ذات علي وفاطمة عليهما السلام! لأنهما ذاتان قد ذابت في الفيوضات الإلهية فلم تريا إلا الله عزّ وجل ولم تحبا سواه، ولم تعبدا إلا إياه جلت قدرته.

ومن كانت ذواتهم بهذه الكيفية فإنهم لا يكتسبون هذا الفهم عن ذواتهم من خلال تفاعلهم مع البيئة ثم يكتشفون من هم، فهم عليهم السلام قوم اختارهم الله لعبادته واجتباهم لطاعته فعرفوا ربهم من معرفتهم لنفوسهم كما نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من عرف نفسه فقد عرف ربه»(2).

ولكن أوردنا هذه النظرية وغيرها في مفهوم الذات للتدليل على أن (التكافؤ) لا يتحقق إلا بمعرفة الذات وفهمها.

ولذا قالوا: (بأن الذات في علاقة دائمة مع الآخرين قد تكون هذه العلاقة -

ص: 35


1- علم النفس الاكلينيكي لمصطفى فهمي: ص 116.
2- بحار الأنوار: ج 2، ص 32.

علاقة - تعاون، أو صراع، أو تنافس، فما لم يتحقق للفرد تقدير لذاته لن يعترف بالآخرين، وما لم يقدم مصلحته الشخصية لن يهتم بالمصلحة المشتركة.

فالفردية لابد أن تكون الأساس الذي تقوم عليه الغيرية، فالذات لابد من الاعتراف بها قبل المطالبة بإنكارها)(1).

(والذات تدرك الخبرات وتتقبلها، أو ترفضها في ضوء قيمها المعينة، فتسمح لما تستقبله من خبرات بالانتظام في بنائها فيقرر للشخصية الهدوء والاستقرار، أو تتبرأ من هذه الخبرات وتستبعدها من الاتساق الذاتي فيتصدع نشاطها ويصيبها القلق)(2).

أولا: كيف يتحقق التوافق الزواجي ؟

كي يتحقق التوافق الزواجي، والحياة الزوجية السعيدة، لابد للزوجين أن يعملا معا على تنمية الأساليب الصحية الصحيحة في التعامل، مع الحرص على تجنب أسباب الاحتكاك ومناسبات الاختلاف الشخصي(3).

والتوافق بصفة عامة يريده الإنسان هدفا ويتخذه وسيلة لتحقيق هذا الهدف وهو يستهدف الرضا من النفس وراحة البال، والاطمئنان نتيجة الشعور بالقدرة الذاتية على التكيف مع البيئة والتفاعل مع الآخرين، وحسن التعامل مع الغير(4).

ص: 36


1- علم النفس ودراسة التوافق لكمال دسوقي: ص 284.
2- سيكلوجية العلاقات الزوجية للدكتور محمد بيومي: ص 16، نقلا عن: (1951 و 515 Crogers ) .
3- سيكلوجية العلاقات الزوجية لمحمد بيومي: ص 16، نقلا عن: (434 و 1938 Willard W ) .
4- علم النفس ودراسة التوافق لكمال دسوقي: ص 385.

وهو يتضمن التحرر النسبي من الصراع والاتفاق النسبي بين الزوجين على الموضوعات الحيوية المتعلقة بحياتهما المشتركة، وكذلك المشاركة في أعمال وأنشطة مشتركة وتبادل العواطف(1).

والتوافق الزواجي لكونه يقوم على أساس علاقة متبادلة بين زوجين لكل منهما تنظيمه الخاص للشخصية من حيث سماتها وإطارها المرجعي الذي يحدد الميول والاتجاهات والقيم وأساليب المعاملة الزوجية؛ لذا لا تخلو الحياة الزوجية السعيدة من بعض الاختلافات التي تتحول بالتفاهم والمصارحة إلى مدعم جيد ومنشط بين الزوجين، وعلى قدر نجاح الزوجين في تحقيق هذه المهمة يكون التوافق الزواجي.

وقد أوضحت الدراسات المتعلقة بالتوافق الزواجي: أن التوافق الزواجي يتوقف على عوامل شخصية واجتماعية(2).

وعليه:

فلا مجال للخروج عن القاعدة التي وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نجاح العلاقة الزوجية، بقوله: (زوجوا الأكفاء) والتي دارت من أجل الوصول لها أقلام الباحثين والمفكرين.

فمنهم من جعل التوافق الشخصي هو الأساس في حصول التوافق الزواجي، كالدراسة التي قام بها (هوفمان)(3).

ص: 37


1- الزواج والعلاقات الأسرية للدكتورة سناء الخولي: ص 190.
2- سيكلوجية العلاقات الزوجية: ص 17، نقلا عن: (2987 و 1970 و K.G و Hofma ) .
3- المصدر السابق.

ومنهم من جعل نجاح التوافق الزواجي متوقفاً على الأشخاص الذين يتسمون بالاتزان الانفعالي والموضوعية والاجتماعية، كالدراسة التي قام بها (بيكفورد) وآخرون، التي أجراها على عينة من المتزوجين من الجنسين(1).

ثانياً: منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحقق التوافق الزواجي
اشارة

والنتيجة المستقاة من هذه الأبحاث، أن التوافق الزواجي الذي ركزت عليه الدراسات لا يمكن أن يتحقق في الحياة الزوجية دون الرجوع إلى القواعد التي وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي ضمنت لمتبعها الحياة الزوجية السعيدة المتسمة بأعلى درجات التوافق الزواجي.

وهذه القواعد هي:

1 - قاعدة (التكافؤ)

ويشترط أن يكون التكافؤ هو الخطوة الأولى في منهاج بناء الحياة الزوجية، وهو الركيزة التي ينطلق من خلالها الرجل والمرأة؛ إذ تنعدم مصداقية التكافؤ بعد الاقتران.

والتكافؤ لا يمكن أن يتحقق في ضوء فقدان مفهوم الذات، فكيف لمن يريد أن يجد الاحترام لذاته وهو جاهل بها؟!

وكيف يمكن أن يطلب الإنسان التواصل مع شريك الحياة وهو غير عارف بذاته ؟! ومن عجز عن فهم ذاته فهو أعجز عن فهم الآخر.

ولهذا نجد أن ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في معرفة

ص: 38


1- سيكلوجية العلاقات الزوجية لمحمد بيومي: ص 29، نقلا عن: (1960 و G.HOthers و Pickford ) .

النفس(1)، هو قطب العلاقة الناشئة بين الفرد ونفسه، وبينه والآخرين.

فمن عرف ذاته استطاع معرفة كفؤه الذي سيشاركه مسيرة الحياة الزوجية التي تتسم بالتوافق والانسجام والفهم.

2 - قاعدة (المودة والرحمة)

ليس من المجهول لدى جميع المسلمين أن القرآن الكريم أول ما نص في بحثه الحياة الأسرية ورسم حدودها وعوامل دوامها هما: (المودة والرحمة).

(وذلك لأن هذا الأسلوب يقوم على احترام ذاتية الآخر واعتباره شريكا وليس يتابع بمعتمد على الأخذ والعطاء المتبادل، المشاركة الوجدانية، الانسجام والتفاهم، في ظل هذا الأسلوب يتم مبادلة الآراء واحترامها، وتبادل الثقة وتدعيمها، فتنمو العواطف نموا سليما، وتستقيم الحياة الزوجية ويكتب لها النجاح والتوافق الزواجي السوي)(2).

3 - قاعدة تقسيم مسؤوليات الحياة الزوجية بين علي وفاطمة عليهما السلام

من الأمور التي يقوم عليها كيان الأسرة هو تقسيم مسؤوليات الحياة الزوجية، فالرجل الذي يلقي بأعباء الحياة الزوجية فوق عاتق المرأة لا يمكن له أن يضمن دوام المحبة والاستقرار في الأسرة، وفي حال تكون الزوجة من النوع الذي لا يطيق هذه الأعباء الإضافية فإن مصير هذه الحياة والعلاقة سيؤول إلى الزوال والانفصال.

ص: 39


1- وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من عرف نفسه عرف ربه».
2- سيكلوجية العلاقات الزوجية لمحمد بيومي: ص 29.

وفي المقابل نجد أن الأسرة التي اتبعت منذ الأيام الأولى لتكوينها منهاج تبادل المسؤوليات تكون أسرة يطفو على وجوه أصحابها الهدوء والحيوية وفي عيونها بريق المودة وإبداء الرغبة الحقيقية في مواصلة الحياة جنبا إلى جنب.

ولذلك: نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع هذا المنهاج منذ الأيام الأولى لتكوين الأسرة المحمدية صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقد قسم (بأبي وأمي) مسؤوليات الحياة الزوجية بين علي وبين شريكة حياته فاطمة الزهراء بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

كي يحفظ لهذه الأسرة الهدوء والطمأنينة، وكي تحيا بهم المودة وتتعايش معهم الرحمة، وهو ما كشفت عنه الروايات:

1 - فقد روى الحميريّ القمي عن الصادق عليه السلام، وابن أبي شيبة عن حمزة ابن حبيب، كل بسنده، واللفظ للإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر عليهما السلام، قال:

«تقاضى عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْخِدْمَةِ فَقَضَى عَلَى فَاطِمَةَ عليها السلام بِخِدْمَتِهَا مَا دُونَ الْبَابِ وَقَضَى عَلَى عَلِيٍّ عليه السلام بِمَا خَلْفَهُ ، قَالَ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ فَلا يَعْلَمُ مَا دَخَلَنِي مِنَ السُّرُورِ إِلاّ اللَّهُ بِإِكْفَائِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَحَمُّلَ أَرْقَابِ الرِّجَالِ »(1).

ص: 40


1- قرب الإسناد للشيخ الحميري القمي: ص 25؛ وسائل الشيعة للعاملي: ج 20، ص 172 وص 222؛ مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 13، ص 48-49؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 6، ص 10؛ الزهد لهناد: ج 2، ص 386، برقم 750؛ حلية الأولياء: ج 6، ص 104؛ المغني للمقدسي: ج 7، ص 225.

2 - أخرج الكليني رحمه الله عن علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن هاشم بن سالم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب، ويستقي، ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن، وتعجن، وتخبز»(1).

3 - وفي رواية، عن البزنطي، عن حماد بن عثمان، عن زيد بن الحسن، قال:

سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول:

«كان علي عليه السلام أشبه الناس طعمة وسيرة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم، قال وكان علي عليه السلام: يستقي ويحطب، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز وترقع»(2).

ثالثاً: مسائل البحث في الروايات
1 - التقسيم السوي بين المسؤوليات الحياتية

تدل الرواية بوضوح على التقسيم السوي في مسؤوليات الحياة الزوجية بين علي وفاطمة عليهما السلام، فثلاثة أعمال يقوم بها الإمام علي عليه السلام يقابلها ثلاثة أعمال تقوم بها فاطمة عليها السلام.

ص: 41


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 8، ص 165، باب 176؛ أمالي الشيخ الطوسي: ص 661، عن: الحسن بن علي الزعفراني، عن البرقي عن ابن أبي عمير (مثله)؛ البحار للعلامة المجلسي: ج 43 ص 151، وج 41 ص 54؛ المناقب لابن شهر: ج 1، ص 372.
2- بحار الأنوار: ج 41 ص 131.
2 - مراعاة الجانب الإنساني في التقسيم

مراعاة الجانب الإنساني في هذا المنهاج الأسري في تحمل تبادل المسؤوليات، فقد اختار عليه السلام العمل الذي يتسق ومقام الرجولة ويتلاءم مع تكوين الرجل الفاسيولوجي والسايكولوجي في آن واحد.

فالمرأة بطبيعتها البدنية والنفسية لا تنسجم مع الاحتطاب، أي: مع الحطب وحمله إلى البيت أو أن تذهب لتحمل الماء وتأتي به إلى الأسرة، فضلاً عن ما يحتاجه الإنسان من كمية الماء في استخداماته هو والأسرة مما يتطلب تكرار حمل الماء في اليوم الواحد أكثر من مرة.

3 - الحفاظ على المرأة وصيانتها

الحفاظ على كرامة المرأة وصيانتها من التعرض لها في أثناء الخروج بالنظر والمضايقة، ولاسيما في الأماكن التي يتردد عليها المارة وطلاب الحاجة كمنابع المياه أو الأنهار، كما هو الحال في السابق.

ولكن هذه الحالة أي: تكليف المرأة بالخروج لسد احتياجات الأسرة أصبحت اليوم من الأمور المألوفة، بل إن بقاءها في الدار ربما أصبح من غير المألوف، فلا الرجال أخذت تحرص على كرامة المرأة، ولا هي أخذت تقنع بأن يكف عنها أعباء الحياة خارج المنزل.

وبين تملص بعض الرجال من أداء مسؤوليات الحياة خارج الدار، ورغبة بعض النساء بممارسة دور الرجل، يبقى أداؤها لمسؤولياتها ضمن حدود بيت الأسرة، هو أحفظ لها وأليق بأنوثتها، وأدوم بجمالها.

ص: 42

ولو كان القوام الجمالي يسمح للمرأة بممارسة مهام الرجل لما أسقط الله عنها الجهاد في ساحات القتال.

ولو كان القوام الجمالي يسمح للرجولة بتحميل المرأة أعباء الحياة لما كان الإمام علي عليه السلام يحمل الحطب والماء لأسرته.

4 - مسؤوليات الحياة داخل الأسرة لا تقل عنها في الخارج

قد يتبادر إلى الذهن: (أن الطحن والعجن والخبز) هم جميعا لعمل واحد وهو: (الرغيف) سواء أكان من الشعير أو من القمح، وفي الواقع أنه ليكشف لنا عن صعوبة الحياة التي كانت تفرضها مسؤوليات الزواج على المرأة داخل الأسرة في ذلك الوقت.

فالأمر لم يكن بهذا الشكل المعهود في عصرنا الحاضر الذي هيأ للمرأة ما تحتاج إليه في تأدية وظيفتها داخل البيت وهي في نفس الوقت تشكو من الصعوبة، في حال أن مجرد الحصول على رغيف الخبز كان يكلف المرأة معظم وقتها، ويستنفد جهدها.

فمن بين تنقية القمح أو الشعير إلى الجلوس أمام (الرحى) وهي تحكي في دورانها قصة المعاناة في تلك الأزمنة، إلى جمع الطحين، ثم عجنه، ثم سجر التنور والوقوف أمام لهبه وتنظيم حرارته إلى تعدد اللسعات الحارقة في اليدين وهما تصافحان جوانب التنور.

فضلاً عن التسابق مع اللهب فأما أن يسرق الرغيف من المرأة فيحرقه لها وأما أن تعرض يديها له فتنتزعه من سلطانه، كي تأتي به، أي: (الرغيف) فتضعه أمام الرجل، فكل هنيئا مريئا.

ص: 43

5 - الباعث في سرور فاطمة عليها السلام الحشمة وليس اللجوء للراحة من الخروج للسوق

إن الواضح في سياق الرواية هو تحديدها لمسؤوليات الزوج والزوجة ضمن نطاق الحياة الزوجية التي جعلها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إحدى القواعد الأسرية في تحقيق التوافق الزواجي.

وحيث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حدد من البدء تقسيم هذه المسؤوليات والأعمال بين الرجل والمرأة فجعل ما دون الباب وإلى داخل الدار هو من مسؤوليات المرأة وما خلف الباب (أي الخارج) هو من مسؤوليات الرجل.

فإن سرور فاطمة عليها السلام وبحسب ما يفيد سياق الرواية لم يكن لتحقق الراحة وكف العناء عنها بما يقوم به الرجل من جهد وتعب في تحمل الماء والحطب والطعام واستحصال موارد العيش.

وإنما هو لمكوثها في دارها وعدم تعرضها للتعامل مع المواطن التي تلزم وجود الرجال فيها، بدلالة استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفظ (الباب) بكونه الحد الفاصل في تحديد هذه المسؤوليات والتي أناطها بحسب ما ينسجم مع تكوين الرجل والمرأة من الناحية النفسية والبدنية فضلاً عن انسجام هذا التقسيم مع ما يترتب على المرأة والرجل من تكاليف شرعية، كالحجاب ومخاطبة الأجنبي وغيرهما.

وعليه: يكشف سرور فاطمة عليها السلام الكبير والذي عبرت عنه ب - (فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله) بسبب إعفائها من الخروج إلى خارج الدار لتقوم بما تفرضه الحياة الأسرية من تهيئة لوازم العيش.

ص: 44

هو لتحقق حشمتها ودفع الضرر عنها سواء كان دنيوياً أو أخروياً وهو ما ينبغي بكل امرأة ورجل الامتثال لهذا النهج المحمدي كي يضمن الزوجان حياة أسرية هادئة ومطمئنة وطاهرة تنجب ثماراً تكون ذخراً لهما في الدنيا والآخرة.

رابعاً: إعانة الزوجة في المنزل منهج حضاري
اشارة

ربما يجد البعض أن قيام الرجل بإعانة المرأة في إنجاز بعض أعمال البيت هو مما لا يتناسب مع مقامه الذكوري، بينما يجد البعض الآخر تحميل المرأة المشاق هو من نتاج فرض ذكوريته عليها.

في حين أن إسهام الزوج بالقيام ببعض أعمال البيت هو منهج حضاري يحقق للأسرة دوام المودة، ويشعر الزوجة بجو الرحمة، كما يدل على رسوخ المروءة في شخص الرجل.

وعند النظر إلى بيت فاطمة وعلي عليهما السلام نجد أن أمير المؤمنين عليّاً، كان أول من وضع هذا المنهج الحضاري في حفظ الأسرة وسلامتها.

فكان عليه السلام يعين البضعة النبوية في إنجاز بعض الأعمال المترتبة على عاتقها، فيقوم ب - (كنس الدار) كي يدل بهذا العمل الإنساني أن الدار التي تجمعه مع شريكة حياته تستحق أن يعتني بها لأنها حاضنة الحب الأسري، وهي الرمز لهذا لحب.

وهو في نفس الوقت يشير بهذا العمل إلى منهاج أخلاقي يسفر عن طباع الزوج اتجاه شريكة حياته وأم أولاده، فهذه الطباع لا يمكن أن تنكشف أو تظهر للطرف الآخر إلا من خلال المعاشرة.

ص: 45

وقد توصلت الأبحاث والدراسات المعاصرة: (أن الإنسان يظهر في مجرى معاشرته للناس الآخرين جوهره الأخلاقي من جهة، ومن جهة أخرى تبدو المعاشرة كوسيلة لتطوره الأخلاقي.

وعن طريق المعاشرة الحقيقية الحميمية الداخلية يحاول الإنسان التخلص من محدوديته ونواقصه وإيجاد ذاته الأخرى ( atter eqo ) وبسط مكامن روحه أمامه)(1).

وقد دلت: (أن أساليب التعامل التي تنشأ في الأسرة منذ مستهل الحياة الزوجية هي بمثابة العوامل الحاسمة التي تعمل على بقاء الأسرة أو انحلالها)(2).

بينما عدّت بعض الدراسات أن (الارتباط السيكلوجي والروحي يتوطد بين المحبين بالزواج مقترضاً قدرة عند كليهما للاعتناء أحدهما بالآخر ومساعدته، واحترام مشاعر الأسرة، ووجود قدرة أيضا على تبادل تحمل المسؤوليات)(3).

في حين أن: (الناس المحدودين روحيا وغير المستعدين للزواج الأخلاقي، لا يستطيعون تحمل هذه المسؤولية أو امتلاك هذه القدرات)(4).

وكفى بالباحث المتبع لسبل السعادة الزوجية بالنظر إلى منهاج علي وفاطمة عليهما السلام في تبادل تحمل مسؤوليات الحياة الزوجية، وكفى ببيت فاطمة دلالة على نمو

ص: 46


1- أخلاقيات المعاشرة ل - (غ. ب. بوتيليكو): ص 28، ترجمة يوسف إبراهيم الجهماني ط دار حوران بدمشق.
2- الزواج والاستقرار النفسي لزكريا إبراهيم: ص 71-82، وعنه: محمد بيومي، سيكلوجية العلاقات الزوجية: ص 16.
3- أخلاقيات المعاشرة (لبوتيليكو): ص 35 ط دار حوران بدمشق.
4- المصدر السابق.

التوافق الزواجي في جميع جوانب الحياة الأسرية.

وذلك من خلال مجموعة من الصور الحياتية التي دلت عليها الروايات وهي كالآتي:

1 - رعاية الإمام علي لفاطمة عليهما السلام وإيثارها على نفسه في تحمل عمل البيت

من الصور الحياتية الكاشفة عن طبيعة التعامل فيما بين علي وفاطمة عليهما السلام التي تقدم أنموذجاً جديداً في رفع مستوى الحب والمودة فيما بين الزوجين هو قيام الزوج بإيثار زوجته على راحته وحرصه في استحصال راحتها على الرغم من احتياجه إلى ذلك وهو ما كان مخالفاً - ربما - لكثير من الأعراف الاجتماعية لدى الناس؛ إذ غالباً من يقوم بالإيثار المرأة فهي تقدم راحة زوجها على راحتها لاسيما إذا كانت هذه المرأة قد نشأت في بيئات ذكورية أي: طغيان الجانب الرجولي على الجانب الأنوثي الذي يلقي بجل أتعابه على كاهل المرأة.

في حين نجد أن بيت علي وفاطمة عليهما السلام يعطي أنموذجا أخلاقياً ينطق عن روح القرآن والإسلام الذي يقدم المرأة في مجال الرفق والعطف والرأفة على الرجل ضمن قاعدة نبوية متوغلة في سيوكولوجية المرأة، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:

«المرأة ريحانة وليست قهرمانة».

ومن هذا النهج النبوي في التعامل مع المرأة ينطلق الإمام علي عليه السلام وهو التلميذ المطيع والمتبع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله مع زوجته وشريكة حياته.

ص: 47

فقد روى شاذان بن جبريل القمي رحمه الله قائلاً: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي وفاطمة (وهما يطحنان الجاورس(1)، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«أيكما أعيا؟».

فقال علي عليه السلام:

«فاطمة يا رسول الله».

فقال لها:

«قومي يا بنية».

فقامت، وجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعها مع علي فواساه(2) في طحن الحب).

وتدل الرواية أيضاً:

ألف: حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتساوي لهما وحرصه على إعانة المتعب منهما، سواء كان علي أو فاطمة عليهما السلام، في حين يكون الأمر لدى أغلب الناس تقديم الأب ابنته على زوجها لأنها الأقرب إلى قلبه فضلاً عن عاطفة الأبوة لكننا هنا: نلمس حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتساوي لهما، وهذا فيما يخص حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من موضع النبوة لهما.

ص: 48


1- الظاهر أن العبارة: يطحنان بالجاورس، والجاورس: جسم مجوف من حديد أو نحاس يضرب بمدقة يوضع في داخله الحب فيدق ليطحن.
2- الروضة في فضائل أمير المؤمنين لشاذان بن جبريل القمي: ص 56.

باء: أما فيما يخص موضع التربية الأسرية فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم درساً تربوياً للآباء حينما يقومون بزيارة بيوت أبنائهم أو بناتهم أن يعتمدوا أعلى استخدام هذا الأسلوب التربوي الكاشف عن إظهار الحب لكلا الزوجين مما يعزز أوامر المودة فيما بين الأسرة فضلاً عن دفع الهواجس النفسية الغالبة أحياناً كثيرة في إشعار الطرف الآخر في تحميل المرأة فوق طاقتها.

جيم: امتثال فاطمة عليها السلام لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيامها دون أن تبادل علياً عليه السلام هذا الإيثار كان للأمور، منها:

1 - طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«قومي يا بنية».

فكان الامتثال أمراً واجباً.

2 - إن الجانب الأنوثي في المرأة يدعوها بإشعار الزوج بأنها تستظل بظله ولا غنى لها عن عونه ورعايته ومن ثم سكوتها كاشف عن أنوثتها وتغليب هذه الصفة على غيرها من المشاعر كإظهار الرغبة في تحقيق راحة الزوج لاسيما إذا كان الأمر لا يشكل في الواقع عبئاً على الرجل أو يستلزم منه بذل جهود كبيرة كطحن الحب بالجاروس.

3 - حقيقة حالها عليها السلام أنها كانت قد تعبت إلا أنها لم تجد من يعين عليّاً عليه السلام إذا قامت ولذا كانت أيضا قد آثرت علياً مع احتياجها للراحة.

ص: 49

2 - تعظيم حق الأسرة وتهذيب النفس على خدمة العيال عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

إن التتبع للروايات التي تتحدث عن طبيعة الحياة الزوجية لفاطمة عليها السلام يكشف عن برنامج نبوي مقتضب يتابع فيه أسلوب التعايش والمعاشرة فيما بين هذين الزوجين لغرض خلق البيت الأنموذج في الإسلام.

ولذا: ما فتئ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من تعدد زياراته لبيت فاطمة وكثرة متابعته للحياة الأسرية الجديدة.

من هنا:

إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يستغل تلك اللحظات التي يدخل فيها إلى بيت علي وفاطمة كي يضع الأسس والضوابط في تقنين تلك الحياة ويرسم لكل منهما حدود ذلك التعايش المبني على قاعدة الحقوق والواجبات وقاعدة العرض والطلب.

وهنا: في هذه الصورة التي سنوردها نجد مجموعة من المعطيات سواء على المستوى الامتثالي بمن سبق من الأنبياء عليهم السلام أو على المستوى التهذيبي للنفس أو المستوى الإيماني ممثلاً في الأجر والثواب، أي تعزيز الشعور بمراقبة الباري عزّ وجل حرصاً على نيل الرضا منه سبحانه وتعالى.

فقد روى المحدث النوري نقلاً عن جامع الأخبار، عن علي عليه السلام قال:

«دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَفَاطِمَةُ عليها السلام جَالِسَةٌ عِنْدَ الْقِدْرِ وَأَنَا أُنَقِّي الْعَدَسَ ، قَالَ : يَا أَبَا الْحَسَنِ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : اسْمَعْ وَمَا

ص: 50

أَقُولُ إلاّ مَا أَمَرَ رَبِّي، مَا مِنْ رَجُلٍ يُعِينُ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهَا إلاّ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ عَلَى بَدَنِهِ عِبَادَةُ سَنَةٍ صِيَامُ نَهَارِهَا، وَقِيَامُ لَيْلِهَا وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ الصَّابِرِينَ ، وَدَاوُدَ النَّبِيَّ ، وَيَعْقُوبَ ، وَعِيسَى، عليهم السلام.

يَا عَلِيُّ مَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ عِيَالِهِ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَأْنَفْ كَتَبَ اللَّهُ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الشُّهَدَاءِ وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَوَابَ أَلْفِ شَهِيدٍ وَكَتَبَ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ ثَوَابَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عِرْقٍ فِي جَسَدِهِ مَدِينَةً فِي الْجَنَّةِ .

يَا عَلِيُّ سَاعَةٌ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ ، وَأَلْفِ حَجٍّ ، وَأَلْفِ عُمْرَةٍ ، وَخَيْرٌ مِنْ عِتْقِ أَلْفِ رَقَبَةٍ ، وَأَلْفِ غَزْوَةٍ ، وَأَلْفِ مَرِيضٍ عَادَهُ ، وَأَلْفِ جُمُعَةٍ ، وَأَلْفِ جَنَازَةٍ ، وَأَلْفِ جَائِعٍ يُشْبِعُهُمْ ، وَأَلْفِ عَارٍ يَكْسُوهُمْ ، وَأَلْفِ فَرَسٍ يُوَجِّهُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ ، وَمِنْ أَلْفِ أَسِيرٍ اشْتَرَاهَا فَأَعْتَقَهَا، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ بَدَنَةٍ يُعْطِي لِلْمَسَاكِينِ ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ .

يَا عَلِيُّ مَنْ لَمْ يَأْنَفْ مِنْ خِدْمَةِ الْعِيَالِ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، يَا عَلِيُّ خِدْمَةُ الْعِيَالِ كَفَّارَةٌ لِلْكَبَائِرِ، وَيُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، وَمُهُورُ حُورِ الْعِينِ ، وَيَزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ ، وَالدَّرَجَاتِ ، يَا عَلِيُّ لاَ يَخْدُمُ الْعِيَالَ إلاّ صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ »(1).

والرواية - كما أسلفنا - تعطي جملة من المعطيات النبوية في تحديد نظام هذه الحياة الأسرية وتقنين حالة التعايش الحياتي بين الرجل والمرأة، وهي كالآتي:

ص: 51


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 13، ص 48-49، برقم (14706) 2.
ألف: مداومة الإمام علي عليه السلام على إعانة فاطمة عليها السلام في عمل البيت لاسيما في إعداد الطعام

إن أول أمرٍ ترشدنا إليه الرواية هو مداومة الإمام علي عليه السلام على إعانة زوجته في عمل المنزل وذلك من خلال دلالة الروايات في بيانها لهذه الصورة عند كل دخول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت فاطمة عليها السلام، فمرة يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجد عليا جالسا يطحن الحب بالجاورس ويعين فاطمة ومرة أخرى يدخل عليها فيجده يعينها في أمر الطبخ فينقي لها العدس.

مما يدل بوضوح على أن وقوف الزوج في المطبخ لإعانة زوجته في إعداد الطعام لم يكن من إفرازات الحداثة ولم يبتكره الحداثيون وإنما هو من صميم التربية الأسرية الإسلامية المخصوصة في بيت علي وفاطمة عليهما السلام.

بل إن ما قدِم إلينا من ثقافة أسرية ينادي بها أهل الاختصاص في علم الاجتماع بأنها نتاج جهد ودراسة متواصلة في رصد طبيعة العلاقة الزوجية وتقويمها فكان من بينها إعانة الزوج لزوجته في عمل المنزل هو في حقيقته جهد مسروق من الثقافة الإسلامية كان المسلمون الذين تخلفوا عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام هم المسؤولين عن تغييب هذه الثقافة عن المسلمين وهم المسؤولين عن سرقته فيما لو أردنا أن نضع ذلك المنهج ضمن حقوق الملكية الفكرية لبيت فاطمة عليها السلام.

وعليه:

ينبغي بأهل الاختصاص في التربية والنفس والاجتماع وعلى رأسها علم الأخلاق الرجوع إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام لأخذ المعلومة الصحيحة فيما يبحثون عنه في مجالات بحثهم ودراستهم.

ص: 52

باء: حرص الشريعة المقدسة على حفظ الأسرة وصيانتها

يرشدنا قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما خاطب الإمام عليّاً عليه السلام قائلا:

«يا أبا الحسن، قلت لبيك».

قال:

«أسمع وما أقول إلا ما أمر ربي».

يرشدنا إلى أن الأسرة في الشريعة الإسلامية لها من الحرمة الخاصة ما جعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدّم هذه المقدمة في كلامه مع علي عليه السلام قبل أن يبدأ في بيان ما للرجل من الأجر والثواب والمنزلة عند الله تعالى فيما لو أعان زوجته وعياله.

وإلاّ كان يمكن أن ينتقل مباشرة بعد رؤيته لعمل الإمام علي عليه السلام وهو جالس ينقي العدس لفاطمة وهي واقفة بجانب القدر، إلى المباشرة في ذكر ما للرجال من الأجر والثواب عند الله تعالى.

ولكن أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقدّم حرمة الأسرة في الشريعة وحرصها الكبير على حفظها وصيانتها قبل التسلسل في بيان الأجر والثواب كي يعيَ المتتبع لسيرة أهل البيت عليهم السلام حجم هذه النعمة ويدرك خطورتها في بناء المجتمعات الإنسانية، ولذا اهتم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل هذا الاهتمام فقدم لها هذه المقدمة في حديثه مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

ص: 53

جيم: اهتمام الشريعة بالتربية النفسية الأسرية من خلال تهذيب الأنا الذكورية

ثم ينتقل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد بيانه لحرمة الأسرة وحرص الشريعة على صيانتها وتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها، ينتقل إلى مرحلة جديدة في هذا البيان وهو اهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بالتربية النفسية الأسرية من خلال تهذيب الأنا الذكورية فيقول:

«ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة في بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله من الثواب ما أعطاه الله الصابرين».

واختصاص الرجل المعين لزوجته بثواب الصابرين لكونه مخالفاً للطبيعة الذكورية، بمعنى آخر اعتياد الرجل من وحي الأنا الذكورية على العمل والجهد خارج البيت وبما يتناسب مع تكوين الرجال فضلاً عن إظهار مظاهر الرجولة التي تفرض بطبيعتها عليه التحكم والقيمومية ومن ثم لا تسمح تلك الأنا للرجل بمزاولة أي عمل يدخل ضمن حدود عمل المرأة.

ومن ثم يشعر الرجل بأن وقوفه إلى جانب امرأته هو إعانته لرجولته وهو الذي يفترض أن يزاول الأعمال الصعبة والشديدة التي لا قدرة للمرأة على الإتيان بها.

وعليه: أن يصبر الرجل على ترويض نفسه وتهذيبها عبر التنازل عن ذكوريته والنظر إلى الرحمة والرقة وبناء حياة مطمئنة تنعكس على الأبناء فينهضون لبذل التعاون فيما بينهم فضلاً عن الاهتمام بالوالدين.

مما يترجم إلى عمل دؤوب في بناء العلاقات الاجتماعية التي قوامها التعاون والمشاركة.

ص: 54

دال: ما هي الحكمة في ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الأنبياء الثلاثة (أيوب، ويعقوب، وعيسى عليهم السلام) وما علاقتهم بإعانة الرجل لامرأته

يحدد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من الأنبياء عليهم السلام في إحراز الرجل الذي يعين امرأته لثواب عملهم فما هي الحكمة في هذا التحديد، فهل أن بقية الأنبياء لم يكونوا يعينون عيالهم، أو أن الأمر له وجه آخر من الحكمة.

ونقول:

نحن نؤمن بأن جميع الأنبياء هم على خلق واحد لأنهم مبعوثون من قبل إله واحد هو الله الواحد الذي لا شريك له ومن ثم لا يمكن حصول اختلاف في أخلاقهم.

فالأسرة والمرأة والأولاد هم جميعاً لهم حرمة عندهم وإن الإنفاق عليهم وإعانتهم وحفظهم من أساسيات الشريعة سواء كانت عند داود أو أيوب أو عيسى أو موسى أو غيرهم سلام الله عليهم أجمعين.

أما الحكمة في ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الأنبياء الثلاثة فهي لما يلي:

1. أما ما يخص نبي الله داود عليه السلام فلكونه كان يعمل في صناعة الدروع وهو ما جاء في قوله تعالى:

(وَ عَلَّمْنٰاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ )(1).

ص: 55


1- سورة الأنبياء، الآية: 80.

وهذا فيها دلالات عديدة تتناسب مع عمل الرجل في إعانة عياله وامرأته وذلك من خلال:

ألف: هذا التعاون بين الرجل والمرأة يقي الأسرة من التصدع إذ يترك وقوف الرجل بجانب زوجته وإعانتها أثراً كبيراً في شد أواصر المحبة ودوام الألفة ومن ثم ستكون هذه الأسرة محصنة.

باء: قد لا يخفى أن التعامل مع الحديد كما كان يصنع داود عليه السلام يتطلب جهداً كبيراً وصبراً أكبر كي يصل عليه السلام إلى إخراج الدرع وهكذا يكون عمل الرجل داخل البيت في إعانة المرأة فهو يتطلب جهد كبيراً في تهذيب النفس لما تفرضه طبيعة الرجل من أنفة في العمل داخل البيت ولذا يحتاج إلى صبر أكبر كي يصل الرجل إلى هدفه في تحصين أسرته.

جيم: لوجود التقابل في الدلالة اللفظية بين المرأة والدرع فكلاهما من اللباس الذي يلبسه الرجل والمرأة.

كما دل عليه قوله تعالى:

(هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ )(1).

وهناك قال سبحانه:

(صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ).

كما أن المرأة لها نوع خاص من أنواع الملابس التي تتستر بها وهي المدرعة.

2. أما ما يخص نبي الله يعقوب عليه السلام فلكونه كان كثير العيال، وكثرة

ص: 56


1- سورة البقرة، الآية: 187.

العيال تستلزم بذل جهود كبيرة في تنشئتهم ورعايتهم؛ فضلاً عن أنه قد ابتلي بفقدان أحد أبنائه وغيابه عنه فبات لفقده جاري الدمعة عظيم الحزن.

مما يعني أنه قد قدم صورة رائعة في تمثيل الجانب الأبوي والإنساني المتفرد في حب الوالد لولده.

أي: بيان حالة أنموذجية في التماسك العاطفي الوالدي.

3. أما ما يخص نبي الله عيسى عليه السلام فهو لدوره المتميز في بيان حالة أسرية خاصة قد أكدت عليها الشريعة المقدسة من آدم وإلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألا وهو بر الوالدة.

أي: يدور الأمر أيضاً في هذه الصورة الحياتية لأحد الأنبياء عليهم السلام في تكوين الأسرة وحرمة العائلة كما كان لداود ويعقوب وعيسى عليهم السلام.

قال تعالى:

(وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا)(1).

فالقرآن الكريم يتحدث في معرض بيانه لسيرة نبي الله عيسى عليه السلام عن دور الأم وما تفرضه الأمومة من جهد وجهاد وتعب منذ اللحظات الأولى للحمل وإلى يوم المخاض والولادة ثم السهر والمثابرة والاجتهاد في رعاية المولود إلى حين يصبح رجلاً كل هذه الرحلة يستعرضها القرآن من خلال جوانب متعددة في حياة نبي الله عيسى عليه السلام.

ولذا مثلما أوصاه الله بالصلاة والزكاة كذاك أوصاه بما يوازي ذلك، أي

ص: 57


1- سورة مريم، الآية: 32.

الصلاة والزكاة، وهو البر بوالدته.

فكان كل رجل يقوم بإعانة زوجته لاسيما في مرحلة الحمل وما بعدها ينال من الثواب المعدود للأبرار بالوالدين كما كان عيسى عليه السلام.

هاء: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يخصص ساعة في اليوم لخدمة العيال

من المناهج التربوية في صلاح الأسرة وبنائها التي تضمنتها الرواية الشريفة وضعه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من منهاج للرجل في تخصيص ساعة في كل يوم يتفرغ فيها في خدمة البيت.

فقال:

«يا علي ساعة في خدمة البيت خير من عبادة ألف سنة وألف حج وألف عمرة وخير من عتق ألف رقبة وألف غزوة، وألف مريض عاده، وألف جمعة، وألف جنازة، وألف جائع يشبعهم، وألف عار يكسوهم، وألف فرس يوجهه في سبيل الله، وخير له من ألف دينار يتصدق على المساكين وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ومن ألف أسير اشتراها فأعتقها وخير له من ألف بدنة يعطي للمساكين ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة»(1).

واو: التهذيب النفسي قبل التنفيذ العملي

يسعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال هذا المنهاج في التربية الأسرية إلى خلق نموذج متميز من الرجال الذين تجتمع فيهم بحكم وجودهم في

ص: 58


1- جامع الأخبار: ص 102-103.

الأسرة صفة الرجولة والقيمومية والوالدية ومن ثم يلزم أن يكون هؤلاء الرجال صورة أنموذجية في هذا التكوين الإنساني الممثل بالأسرة.

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يقدم كل تلك الحوافز والدوافع الترغيبية في خلق هذا الأنموذج الأسري، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم يتدرج في هذا المنهاج ليصل بالقارئ إلى رتبة خاصة بالرجل ومرتبطة بتهذيبه نفسياً، أي إرجاع الأمر إلى التربية النفسية قبل أن تكون في التربية الأسرية.

بمعنى: من لم يدفعه المحفز الأخروي في استحصال الأجر في خدمة العيال ورعايتهم فلا أقل أن يحظى هذا الرجل بجانب من التربية النفسية.

بمعنى آخر:

إن المانع الذي يمنع الرجل من السعي في استحصال الأجر الأخروي هو محصور بين أمرين؛ إما أن هذا الرجل يحتاج إلى التهذيب النفسي كي يتسنى له التنفيذ العملي في رعاية الأسرة وإما أنه من الأساس قد رقى إلى رتبة كمالية وأخلاقية متسامية ولذا فهو لا ينظر إلى الأجر الأخروي بقدر ما تدفعه سجيته الأخلاقية ورتبته الإيمانية إلى المضي في هذا العمل داخل الأسرة كما سيمر في الفقرة اللاحقة.

وعليه:

نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الممتنع من رعاية العيال في رتبة المريض نفسياً ومن ثم يحتاج إلى علاج، وهو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 59

«يا علي من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب».

بمعنى: أن هذا الإنسان الذي قدم على خدمة عياله هو في الحقيقة صحيح نفسياً ومن كان يأنف أي: يستنكف، فإنه مريض ومن ثم عليه أن يسعى في تغيير أخلاقه ويقوم بتهذيب نفسه.

فضلاً عن ذلك:

فإن مجرد انتفاء الأنفة عن النفس حتى ولو لم يقم الإنسان في خدمة عياله لظروف عمله وصحته إلا أنه في حقيقة الحال لا يأنف من خدمتهم، ولذا فهو يؤجر على ذلك لانتفاء هذه الصفة السلبية عنه.

زاي: خدمة الرجل لعياله كاشفة عن مستواه الخلقي ومنزلته الإيمانية

يختم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حديثه حول هذا المنهاج التربوي للأسرة ببيان حال الرجل الذي يقوم بخدمة عياله ويكشف عن منزلته الإيمانية فيقول:

«يا علي لا يخدم العيال إلا صدّيق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة».

بمعنى: أن خدمة العيال لها كاشفية عن حال الإنسان ومستواه الإيمان ومن ثم يمكن أن يستدل الإنسان سواء كان هو الذي قد قام بهذا العمل، أي: خدمة العيال أو من عايشه على حقيقة نفسه ودرجة إيمانه فليس لكل رجل أن يقوم بهذا العمل فقد أنيط بمن خصهم الله بلطفه.

وعليه: لزم من المسلم أن يهذب نفسه على السعي في خدمة عياله وأن

ص: 60

يخصص لهم من وقته ولو ساعة وأن يحرص على هذه الخدمة فهي فضلاً عن ما ادخرته من أجر وثواب تقود الإنسان إلى الرقي والرفعة ليصل إلى تلك الرتبة التي كشف عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن يكون (صدّيقا أو شهيداً أو رجلاً يريد الله به خير الدنيا والآخرة).

المسألة الثالثة: كشفها لهموم زوجها

لو أردنا الحديث عن هموم الرجل وأسبابها لطال بنا المقام، ولخرجنا عن حدود الموضوع الذي من أجله نواصل البحث، وهو دور فاطمة عليها السلام في الحياة الأسرية كزوجة.

ولكن لو أردنا الحديث عن كشف هذه الهموم، فلربما لن نجد هناك شيئاً أسرع وأقوى أثرا وتأثيرا من المرأة.

فالمرأة هي الدواء السحري، وهي صمام الأمان الذي يتحكم بالضغط النفسي للرجل، وهي الكاشف الوحيد لتلك الغيوم المتلبدة في فضاء الروح، ولا نبالغ إن قلنا إنها الوحيدة القادرة على تحويل هذه الغيوم إلى سحب تحمل الغيث والماء الذي يجدد حياة الرجل، فتراه يمطر همة وثقة بنفسه، وحيوية عالية تسخّر جميع قدراته الروحية والبدنية، فتراه يجعل من الخسارة ربحا، ومن التأخر تقدماً، ومن الهزيمة نصرا.

وتلك صفحات التاريخ قد ملئت بنماذج متعددة لما أسلفنا، بل إنك أيها القارئ الكريم: لتجد صورا أخرى تحكي، أن المرأة، وإن كانت في تلك الأدوار والأثر فهي أيضا موضع هبوط الهمة، وعنوان الفشل لكثير من الرجال.

ص: 61

لكن هذا لا يغير من حقيقة كونها الشيء الوحيد الذي يكشف هموم الرجل وأن تعددت هذه الهموم بتعدد أسبابها، وهي أيضا الشيء الوحيد الذي تجتمع فيه جميع معاني السكن، الذي جاء به الوصف القرآني، قال تعالى:

(وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً )(1).

ولذلك قد نجد أن كثيراً من الرجال ربما يعيشون ويسكنون أرقى الدور، وأجمل القصور لكنهم في سكنهم هذا مضطربون؛ لأنهم فاقدون لسكن الروح والنفس، أنهم فاقدون للزوجة، بينما تجد الكثير لا يستظل إلا بسقف متهاوٍ، وجدران ضعيفة، لكنه مطمئن ساكن النفس لوجود زوجة تشاطره الحياة.

ومن معاني السكن القرآني: أن المرأة هي الحاضنة التي يزرع فيها الحب، فبغيرها لا يمكن أن تجد الدفء، ولا الجو، ولا الظرف الملائم للحب.

(فهو بالنسبة للزوجين غذاء روحي لا يقل أهمية ولا يقل خطورة لنفس كل من الزوجين، وكلما كان الحب الذي يسود الحياة الزوجية هو الواقعي الإنساني المتزن، ارتفع مؤشّر السعادة في الأسرة.

والحب المتزن قوامه قلب متعاطف وعقل متفاهم وجسم متجاذب، وهو أشبه بالمثلث الدائم المتلاقية أضلاعه فتعاطف القلبين بين الزوجين ضرب من ضروب ا لحب المتبادل بينهما، ومن آيات التعاطف بين الزوجين ذلك الحنين الذي يشعر به كل منهما في غيبة الآخر)(2).

ص: 62


1- سورة الروم: الآية 21.
2- الصحة النفسية للحياة الزوجية، لصالح عبد العزيز: ص 239 ط الهيئة المصرية العامة لسنة 1972 م.

ومن آيات الحب هو كشف هموم الزوج، وتسكين آلامه على الرغم من وجود هموم قد تثقل عاتق المرأة، وأحزان قد تنهك قواها لكنها هي السكن النفسي والنبع العاطفي لكل من يحيط بها، فمنها يتعلم الأبناء معاني المودة والرحمة، ليكونا كما كانت أمهم لأبيهم.

ونحن عندما نركز الضوء على المرأة دون الرجل، فذلك التركيز أصله القرآن وتطبيقه العترة الطاهرة عليهم السلام.

فنموذج العلاقة الأسرية تجده في بيت علي وفاطمة عليهما السلام، وأسس التوافق والتواصل الزواجي نأخذه من بيت علي وفاطمة عليهما السلام، وتعلم الحب الحقيقي الذي تتجلى فيه معاني المودة والرحمة تجده في هذا البيت، الذي فيه كل مصاديق السكن الروحي والنفسي والإيماني.

ويكفي من الشواهد على كيفية كشفها لهموم وأحزان علي عليهما السلام، هو ما أخرجه السيد ابن طاووس، وأبو عيسى الترمذي، والفقيه الشافعي ابن المغازلي(1) مختصرا، وغيرهم في حديث المؤاخاة: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين

ص: 63


1- هو الحافظ الفقيه المحدّث: أبو الحسن، أو أبو محمد، علي بن محمد بن محمد بن الطيب الجلابي الواسطي، الشافعي، الشهير بابن المغازلي، مؤرخ واسط وخطيبها، ترجم له ابن حجر في (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه)، ترجمة 380/1 بتحقيق علي محمد اليحاوي ط الدار المصرية للتأليف، وسبب تسميته ب - (ابن المغازلي) يعود إلى أن أجداد المصنف كان نزيلا بمحلة المغازليين بواسط فنسب إليها، ذكر ذلك السمعاني في: الأنساب ط مرجليوث ورقة 146، ولد بواسط العراق، وتلقى العلم فيها على أبيه القاضي محمد بن محمد الطيب الذي كان من أفاضل علماء واسط، وكان قاضي المرافعات بها كما أخذ وروى عن كثير من الثقات الأثبات، حملة الحديث، ذكره المرتضى الزبيدي في تاج العروس، وقال إنه توفي سنة 534 ه - التاج 186/1 الطبعة المصرية سنة 1306 ه - بينما أرجع السمعاني وفاته إلى سنة 480 ه -.

المهاجرين والأنصار، وعلي واقف يراه ويعرف مكانه، لم يواخ بينه وبين أحد، فانصرف علي عليه السلام باكي العين فافتقده النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«ما فعل أبو الحسن ؟».

قالوا: انصرف باكي العين يا رسول الله. قال:

«يا بلال اذهب فأتني به».

فمضى بلال إلى علي عليه السلام وقد دخل إلى منزله باكي العين.

فقالت فاطمة:

«ما يبكيك لا أبكى الله عينيك ؟»

قال:

«يا فاطمة آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار وأنا واقف يراني ويعرف مكاني، ولم يواخ بيني وبين أحد».

قالت:

«لا يحزنك إنّه لعله أدّخرك لنفسه».

قال بلال: يا علي أجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما يبكيك يا أبا الحسن ؟».

قال:

«آخيت بين المهاجرين والأنصار يا رسول الله وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تواخ بيني وبين أحد؟».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 64

«إنما ادخرتك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك ؟».

قال:

«بلى يا رسول الله أنى لي بذلك ؟».

فأخذ بيده فأرقاه المنبر وقال:

«اللهم هذا مني وأنا منه إلا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه»)(1).

وحديث المؤاخاة من الأحاديث المشهورة وقد تناقلته حفاظ المسلمين بأسانيد صحيحة وطرق عديدة(2).

ص: 65


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 37 ص 186-187.
2- راجع حديث المؤاخاة بين علي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المصادر التالية: صحيح الترمذي، كتاب المناقب: ج 5، ص 454، حديث 3720؛ تلخيص المستدرك للذهبي مطبوع بذيل المستدرك؛ كفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص 194؛ مصابيح السنة للبغوي الشافعي: ج 2، ص 275؛ الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 120؛ مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لابن المغازلي: ص 37، ح 57 و 59، وفي ط منشورات دار مكتبة الحياة جاءت الأحاديث في الصفحة: 4-44؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 170؛ أسد الغابة: ج 4، ص 29؛ تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي الحنفي: ص 24؛ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص 56؛ الشافعي: ص 140، وبهامشه إسعاف الراغبين: ص 140؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 94؛ ترجمة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي: ج 1، ص 103، ح 143 و 145 و 246؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 9، ص 468؛ الرياض النضرة للطبري: ج 2، ص 242 و 277؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ص 21؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 14؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 112؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 18، ص 24؛ السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 108؛ مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي الحنفي: ج 1، ص 48؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 22؛ كنز العمال للهندي: ج 15، ص 92، ح 260 و 271 و 286 و 299 و 304 و 325 و 334 و 350 و 355 و 383.

ومن خلاله يظهر لنا الأسلوب الجمالي الذي اتخذته البضعة النبوية في استدراك الموقف وتهوين الأمر الذي لحق بأمير المؤمنين علي عليه السلام، فكانت كلماتها بلسماً يرطب القلب ويخرج الهم ويزيل الحزن عن علي عليه السلام.

ومن ناحية أخرى يكشف عن دقة تقييمها للأمور، وحسن معرفتها ببواطن الحوادث.

وأخيرا: قد أعطت درسا لكل امرأة تتعلم من خلاله كيفية التعامل مع الزوج عندما يعود إليها مهموما حزينا متكدر الحال، فأي هم يبقى في نفس الرجل وهو يسمع زوجته تستقبله بهذا الحب واللطف والحنان.

وأي جمال حملته تلك الكلمات وهو يسمعها بصوت هادئ: (ما يبكيك لا أبكى الله عينيك).

فهذا الجمال وحدها المرأة التي تقرأ معانيه، ووحده الرجل الذي يرى ملامحه.

المسألة الرابعة: الحالة الانفعالية والوجدانية للمرأة بين مقارنتها لمستواها ومستوى الزوج العلمي والاجتماعي وبين ضعف حاله المادي

اشارة

قد تظهر المرأة عدم الرضا أو الانزعاج عندما تكون بين أمرين لا تستطيع الخضوع لأحدهما، فهي بين حالة سماعها للمديح أو الإطراء على زوجها لما يحمله من خصائص وامتيازات، وهي في نفس الوقت تحمل أيضا خصائص وامتيازات قد تكون بنفس المستوى لما يحمله الزوج، فتتصور أن ذلك تعريض بها، وبين أن تقر بأفضليته عليها دون أن يمس ذلك كبرياءها.

ص: 66

وبمعنى آخر: فهي إما أن تستجيب لهذا الكبرياء فتجعل نفسها نداً أو خصما لهذه الامتيازات التي يشاد بها عند زوجها، وأما أن تقر له بذلك غير ملتفتة إلى كبريائها لأنها تجد حبها له أكبر مما تحمله من امتيازات.

هذه الحالة يمكن ملاحظتها في موضعين:

الأول: عندما يكون الزوجان على نفس المستوى التخصصي في مجالات الحياة العلمية والعملية.

والثاني: هو عندما يكون الزوجان على نفس المستوى الاجتماعي والأسري، من حيث عوامل الجاه والشهرة والثراء، ومن حيث المآثر العائلية والقبلية، وهو ما يعرف بالاحساب.

وهنا:

تقدم البضعة النبوية النموذج القويم للمرأة عندما توضع في مثل هذه الحالات فهي عليها السلام، تظهر بأسلوب عملي لكل امرأة تنطبق عليها هذه الحالة أو أنها واقعا تعيشها وتعاني منها، بكيفية التعامل والتعايش معها.

إذ قد تختار المرأة الوقوف إلى جانب كبريائها منقادة إلى هواجس توهمها بأن الإقرار للزوج بالأفضلية عليها يعرض كرامتها للخدش، ويقلل من شأنها.

في حين أن بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم توجه كل امرأة بهذا الوضع الخاص إلى الأسلوب الصحيح الذي يعزز مقامها عند زوجها، ويزيد في إجلالها، ويرفع شأنها، لا العكس كما تتوهم البعض من بنات حواء.

ولكن قبل التعرف على المنهاج الفاطمي في تعليم المرأة كيفية حفظ كرامتها

ص: 67

ورفعة مقامها عند زوجها مع ما تحمله من امتيازات سواء على الصعيد العلمي أو الاجتماعي أو الأسري، ننتقل إلى بيان مقام كل من الزوجين الأنموذجين، أي: علي وفاطمة عليهما السلام.

فأما من حيث المستوى العلمي، فعلي عليه السلام باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1)، الذي فيها علم الكتاب.

وباب مدينة حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قوله:

«أنا مدينة الحكمة وعلي بابها»(2)،

وفي المقابل فإن فاطمة عليها السلام هي:

«بضعة النبوة وصفوة الرسالة».

وأما من حيث المستوى الاجتماعي: فهي بنت محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهي سيدة نساء العالمين(3)، وفي المقابل فإن عليّاً عليه السلام: هو أمير المؤمنين وسيد المسلمين.

وأما من حيث المستوى الأسري: فكلاهما من أشرف الأسر في مكة وأجلها عزا وشأنا فعلي بن أبي طالب عليه السلام هو ابن عم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما من حيث المناقب والمقامات التي لهما عند الله عزّ وجل فهو ما لا يسعه

ص: 68


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 314.
2- أمالي الصدوق: ص 619.
3- مسند أبي داود: ص 197؛ الأمالي للطوسي: ص 569؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 157؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 82.

مقام، ولكن يكفي أنها بضعة النبي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها(1)، وأن عليّاً عبد الله وأخو رسوله، وهو ولي كل مؤمن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2).

وهنا: عندما يكون الزوجان بهذا المستوى من المقامات والشأن الأخروي والحياتي كيف يعيشان كزوجين من حيث المنظور الحياتي الواقعي ؟!

وهل تؤثر هذه المستويات الرفيعة في علاقتهما، وهل يتعارض ذلك مع كبريائهما عندما يريدان أن يعيشا في بيت واحد، يحب أحدهما الآخر ويسعى لسعادته، ويحرص على راحته، وهل المرأة تستجيب لدورها كزوجة فتلبي حاجات ومتطلبات الزوج، دون أن يكون ذلك ماسا بمقامها؟!

ربما أن الكثيرين قد مروا بمثل هذه الحالات، لكن هل أحسنوا التكيف مع حالة كهذه، وهل أجادوا الأسلوب، كل هذه التساؤلات سنأخذ أجوبتها من بيت علي وفاطمة عليهما السلام.

أولا: كيف ينبغي بالمرأة أن تتصرف عند سماعها من يثني على زوجها ويعدد مناقبه ويشيد بسجاياه، وهي ترى أنها أيضا تحمل مناقب عديدة، وتتمتع بسجايا كثيرة، وفي نفس الوقت ترى منه ضعف الحال فجاءت تشكو هذا الضعف.

قبل أن نورد الرواية التي تكشف عن تصرف وأسلوب فاطمة عليها السلام، في التعامل مع هذه الحالة، نشير إلى أن المرأة قد لا يحرك شعورها سماع هذا الثناء

ص: 69


1- فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 82.
2- لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

على الزوج؛ لأنها لا تقل عنه شأنا، وقد تكون الحالة الشعورية لديها إيجابية بحيث أن هذا السماع يفرحها؛ لأنها وجدت أن نظرة الغيرة لها تدل على حسن اختيارها لشريك حياتها، وأنها قد ارتبطت بمن هو يليق بمقامها، ومن ثم فإن هذا الثناء يرضي كبرياءها، لأنه في حقيقته ثناء عليها.

لكن أن تأتي المرأة لتشكو ضنك الحياة، وقساوة المعيشة فتسمع مقابل هذه الشكوى الثناء على الزوج فهذه حالة خاصة قلما تمر بها النساء، وإن مررن بها فكيف كانت الحالة الشعورية والانفعالية لهن.

إذن فلننظر إلى أسلوب سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، وما بدا منها من حالة انفعالية وجدانية.

عن أبي حمزة، عن علي بن الخرور، عن القاسم بن أبي سعيد، قال:

أتت فاطمة عليها السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكرت عنده ضعف الحال!

فقال لها:

«أما تدرين ما منزلة علي عندي ؟ كفاني أمري وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وضرب بين يدي بالسيف وهو ابن ستّ عشرة سنة، وقتل الأبطال وهو ابن تسع عشرة سنة وفرّج همومي وهو ابن عشرين سنة، ورفع باب خيبر وهو ابن اثنين وعشرين سنة وكان لا يرفعه خمسون رجلا».

قال: فأشرق وجه فاطمة عليها السلام ولم تقرّ قدماها حتى أتت عليا عليه السلام، فأخبرته.

ص: 70

فقال:

«كيف لو حدّثك بفضل الله علي كلّه ؟»(1).

مسائل البحث في الحديث:
أولا: بحث تربوي: المعالجة التربوية للأسرة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

في هذا الحديث نجد أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد عالج هذه الشكوى بأسلوب خاص؛ إذ إن المرأة المتزوجة عندما تشكو ضعف الحال، فإن هذا الضعف سببه الدخل المادي للزوج، فحال المرأة في الأسرة مرتبط بحال الرجل ووضعه، هكذا هو الجاري في الأسر العربية والإسلامية سابقا وحديثا، على الرغم من وجود نساء كثيرات في نطاق العمل في الوقت الحاضر، لكن تبقى المرأة مرتبطة اقتصاديا بالرجل.

وهنا: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يدفع هذا الإحساس بأمرين:

الأول: الترابط العاطفي والتماسك الروحي بين المرأة والرجل فلا شيء يعين المرأة في الحياة غير الحب والعاطفة الزوجية، فكان حديثه عن علي عليه السلام محركا للشعور الوجداني والانفعالي العاطفي اتجاه الزوج.

الثاني: حقيقة حال الدنيا وأنها مهما تكن من عسر أو يسر فهي فانية، ولذا أرجعها إلى مكان الخلود والبقاء حيث النعيم الدائم، فذكر لها فضائل علي عليه السلام عند الله تعالى.

ص: 71


1- الأمالي للصدوق: ص 483.
ثانيا: بحث سيكولوجي: بُعد الانفعالات والوجدانات عند المرأة

تكشف لنا انفعالات الفرد عموما عن كفاءة الأنا من متصل الايجابية والسلبية من حيث النشاط السائد والانفعال الذي يصاحب هذا النشاط.

إن كفاءة الأنا لا ينبغي النظر إليها من حيث مدى قدرتها على مواجهة الواقع الخارجي والتغلب على ما يزخر به هذا الواقع من مشاعر سلبية ومن ثم فإن النشاط الإيجابي يعد بمثابة القشرة الخارجية التي يكمن نقيضها خلفها والتي تبدو في صورة مشاعر، فالهدف هنا(1) هو تسجيل مشاعر المرأة، وتسجيل الحياة الداخلية ورسم صورة كلية في تكوينها الداخلي، فالعالم الداخلي يفرض نفسه على معطيات الاختيار وتكون استجاباتهن تسجيلا أمينا للواقع النفسي وللعوامل اللاشعورية الانفعالية للمرأة.

إذ ليس من الغريب أن يكون الانفعال الأكثر شيوعا هو الحب والحنان، فالمرأة عطوفة بغريزتها، فهي الأم مع أبنائها وزوجها، فالمرأة غيرية أكثر منها فردية(2)، وقد أكد بحث كارلسون هذه الفرضية(3).

وأيضا يجب أن تكون المرأة عاطفية، لبقة دافئة وقد أكدت دراسة لماكونالد: أن هناك سمات مثل السيطرة، التوكيد، العدوان، والقيادة، والحب، والصداقة، والدفء، تختلف توزيعها بين الإناث والذكور، وقد كان عند كارلسون الاجتماعية للإناث في مقابل الفردية للذكور، وهنا في نتائج ماكدونالد كانت السيطرة لدى

ص: 72


1- أي: في الدراسات التي أجراها الباحثون على بعض العينات من النساء في المجتمعات المختلفة.
2- أي: إنها تبذل نفسها لغيرها لمن يرتبطون معها بصلة الأمومة، أو الزوجية، وتقدمهم على نفسها.
3- ( Polarity Theory . 1970 Tompkins From Derivations Effects Vales Self . R و Carlson )

الرجال، والحب لدى الإناث(1).

بينما ذهب الأستاذ مصطفى زيور إلى القول: (بأن قليلا من التفكير يدلنا على أن الحياة نفسها مستحيلة بغير الحب وأن علاقة الناس بعضهم ببعض تستند إلى أساس منها فماذا تكون حياة الأسرة بغير رابطة الحب، وكيف يظل المجتمع قائما ما لم يؤلف الحب بين أفراده.

إن هذه العاطفة السامية استغلقت على الفهم وليس من العسير علينا أن نفهم كيف يكون الحب طاغيا فياضا، مع ذلك فهو لا ينتسب إلى الحب الأصيل ولا يستحق أن يسمى حبا فهناك فارق شاسع بين الواقع النفسي والواقع الفعلي(2).

إن مشاعر القلق والحيرة والخوف تتم عن شعور عقيم بالعجز وإحساس بالتفاهة والنقص وقلة الرضا عن النفس، ومن أجل ذلك كانت الحاجة إلى العطف مطلباً حيويّاً يرمي إلى بلوغ الطمأنينة والظفر بالرضا عن النفس، ومن أجل ذلك كان طلبها ملحا لا يصبر ولا يطيق استثناء.

إن الحب في هذه الحالة ليس إلا دواء يطلب للشفاء، الشفاء من داء الشعور بالعجز والإثم فإذا امتنع الداء فلا اقل عن أن يلصق الإثم بالمحبوب كدواء بدلا من دواء الحب وتخلصا من الشعور بالعجز والإثم والقلق، فالغيرة الملحة ليست دليلا على الحب وإنما هي الغضب من قلة دواء الحب(3).

ص: 73


1- ( Fog Fronsell and Kay Frast,1977 )
2- النفس بحوث مجمّعة، تأليف مصطفى زيور لسنة 1982 ص 287.
3- النفس، مجموعة بحوث، تأليف مصطفى زيور: ص 228.

إن الطب النفسي يعد عاطفة الحب مقياس الصحة والمرض، فالإنسان في الحب عنوان شخصيته ومبلغ نضجه وما ظفر به من السعادة)(1).

ولقد أشارت بعض الدراسات إلى: (أن الرجل يحب من زوجته أن تتصف بشيء من الأمومة نحوه، والمرأة تحب من زوجها أن يتصف بشيء من الأبوة نحوها فإذا استطاعا أن يتبادلا العطف والمودة والحب والرحمة - وكان هذا دليلا على نضجهما - فتستقى السعادة في البيت.

وأما إذا طلبت المرأة من زوجها أن يكون أبا فحسب فلن يرضيها مهما بذل لها لأن الواقع أنه ليس أبا فينشأ الغضب ويدب الشقاء وهذا يدل على العجز والطفولة)(2).

ومن هنا:

فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع المنهج الصحي للنفس بمعرفة مواضع تحريك الانفعالات والوجدانات عند المرأة، وأن الحب هو أقوى الانفعالات لدى المرأة فقام صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة ضعف الحال الذي لقيته فاطمة وجاءت تبينه له صلى الله عليه وآله وسلم، بتحريك عاطفة الحب والمودة والرحمة باتجاه علي عليه السلام كي لا تلتفت عليها السلام إلى هذا الضعف الذي تشكو منه، لأن دوام الحال من المحال، ولذا يبقى بين الرجل والمرأة المودة والحب والرحمة.

ولذلك جاءت إلى علي عليه السلام كي تعبر عن كل هذا الحب الذي تحمله

ص: 74


1- دراسات في سيكولوجية المرأة، تأليف: د. سهير كامل أحمد، ص 136.
2- النفس لمصطفى زيور: ص 228؛ دراسات في سيكولوجية المرأة، سهير كامل: ص 137.

وتكنه له، وما كان من إشراق وجه فاطمة، ولم تقر قدماها حتى أتت عليّاً عليه السلام كي تسمعه ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ حالة وجدانية نقية، وانفعالية قوية تنطق في كل خطوة بما تحمله من حب لابن عمها وشريك حياتها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

وفي المقابل لتبين لكل متتبع وباحث في مناهج الرقي والحضارة الإنسانية النقاط التالية:

1 - أن حب المرأة لزوجها ينسيها ويغنيها عن ضعف الحال، وقلة المال.

2 - أن المرأة التي تتمسك بزوجها الذي يحمل كل هذه الفضائل والسجايا الحميدة، والمناقب العديدة التي له عند الله عزّ وجل - كما هو حال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بشكل خاص - وبشكل عام كل رجل يتحلى بالخلق الحميد والدين القويم، فإن تمسك المرأة بزوجها إنما يكون منها ذلك لأنها تجد فيه ومعه الأمن والأمان، والحب والرحمة، والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي السعادة الأبدية.

3 - حب فاطمة لعلي عليهما السلام يرفع من مقامها، مع علوها ورفعتها عند الله عزّ وجل، لأنها كزوجة ترى فيه نفسها، فإن امتدحه أحد فكأنما يمتدحها لأنها منه وهو منها.

وعليه:

فسرور المرأة بما تسمع من ثناء على زوجها من الناس إنما هو دليل حبها المخلص النقي له إذ لا ترى وجوداً لنفسها بغير هذا الحب.

ص: 75

ثالثا: أثر المفاخرة بين الرجل والمرأة على الحياة الزوجية

في هذا الجانب من بُعد الانفعالات عند المرأة ننتقل إلى ركن مهم وهو التفاخر بين الرجل والمرأة، وأثر ذلك على جو الأسرة.

إذ قد يجر ذلك التفاخر إلى حالة من النفور بين الزوجين، وبخاصة عند تحرك الإحساس بالفوقية، أو إذا كانت المرأة ممن تشعر بالنظرة الدونية، أو: (النظرة الفرويدوية)!

فإن ذلك سيؤدي إلى حالة من الصراع بين هذه النظرة، وبين النهوض على الواقع لتحسيس الرجل بأنها أفضل منه، أو لعلها واقعا تمتلك خصائص لا يمتلكها الرجل كما هو حال كثير من الزوجات، وهي مع هذا غير متأثرة بالنظرة الدونية، فتكون بين حالتين:

1 - إما أن يجرها هذا الإحساس إلى التعامل بأسلوب الاسترجال فتفقد أنوثتها أولا ثم لا تجيد تجسيد دور الرجل فتقتل الإحساس بوجودها في الأسرة، مما ينعكس سلبا على الطفل؛ لأنه يرى أن الأدوار مختلفة في أسرته الصغيرة، فيشاهد والدته تقوم بدورين في آنٍ واحد ولربما بدون أن تلتفت إلى أنها تمارس دور الاسترجال على أطفالها فتجعل منهم ذكوراً لا يملكون حسن الرجولة، وإناثاً لا تملك التعبير عن أنوثتها، وبالنتيجة تتحول الأسرة إلى مجتمع ذكوري استرجالي.

2 - وإما وهي الحالة الثانية: أن تدرك المرأة أن هذا التفرد في مجال لأحد منهما لا يعني أنه هو الأفضل بشكل مطلق، أو أنها لم تمارس الدور الأساس في الأسرة!

بل على العكس فهي تبنت حالة الأفضلية ضمن نطاق ما ينسجم مع دورها

ص: 76

كامرأة، وكذلك هو الحال بالنسبة للرجل.

هذه الحالة من التفاضل والتفاخر بين الرجل والمرأة، وبعدها الانفعالي نالت اهتماماً كثيراً من الأبحاث المعاصرة، فقد خلصت إحدى هذه الأبحاث إلى القول: (بأن المرأة عندما تشعر برغبة الاحتباس نحو الخارج، أو رغبة الصعود نحو الإبداعية والعمل فإنها تعاني من شك في نفسها! هل ستظل أنثوية بما فيه الكفاية ؟!

أو أنها ستفقد أنثويتها إن أبدعت، أو انطلقت نحو التفكير والعلم)(1).

والسبب في هذا الشك بين فقدان الأنوثة أو البقاء عليها بالقدر الكافي يعود إلى الدفاع عن الذات عندما ترى أنها تألقت في حين خبا ضوء الرجل وتهافت جنحه فتأخذ بالنظر إليه من منظار التفاضل والتفاخر، وليس الدفاع عن الذات هو السبب الوحيد وإنما هو: سيكلوجية المرأة.

رابعا: بالقياس إلى أي شيء تتصف المرأة بأنها أدنى ؟

لقد وضع العالم النفسي (بيّر داكوا) بحثاً قيماً إلى جانب أبحاثه العديدة في سيكلوجية المرأة، يتناول فيه وضعاً ضابطه يرجع إليه عندما يتولد الإحساس بالدونية أو التفوق، أي التفاضل والتفاخر عند المرأة فيبدأ بحثه متسائلاً: بالقياس إلى أي شيء تتصف المرأة بأنها أدنى ؟

ثم يجيب على هذا التساؤل قائلاً:

(تصاغ ضروب السلوك الإنساني دائما بمصطلحي الدونية والتفوق.

فغالبية الكتابات والمناظرات تقع في الالتباس ذاته، ويرفع المرء إضافة إلى

ص: 77


1- تحليل سلوك الارتجال عند المرأة، ليلى شريف: ص 14.

ذلك، من قيمة سلوكه.

وعلى هذا النحو، ينتهي الناس إلى الإعجاب عندما يكون (التفوق)، وإلى الاحتقار عندما تكون (الدونية).

و (المتفوق) ينضح بالأهمية و (الأدنى) ينسحب خجلا مرتبكا.

ويعود النظام إلى نصابه، ويسود الهدوء، ولكن النار تستمر كامنة.

أيهما (المتفوق)، المرأة أم الرجل ؟ ليس لهذا السؤال معنى! لأن التفوق والدونية يقاسان مقياساً مشتركاً.

فعندما نفصل، والحالة هذه، بين الجنسين، كما حدث ذلك على وجه العموم يصبح متعذرا كل قاسم مشترك، أن مثلنا في ذلك مثل من يتساءل: (أيهما المتفوق ؟ الماء أم النار؟ الذهب أم الفضة ؟ الجبل أم الوادي)؟

وما دمنا نفصل على هذا النحو بين الجنسين، فإن كل مناظرة تبقى مناظرة متعذرة، كيف يمكننا أن نبرهن على تفوق أحد الجنسين ؟ بالقياس إلى أي شيء يتصف أحد الجنسين بأنه متفوق ؟

إننا لا نتساءل أبدا إذا ما كانت المرأة والرجل هما حقا ما يمكن أن يكونا عليه، أوليست المرأة والرجل، كلاهما في مستوى أدنى من حيث إمكان تحقيقهما الخاص ؟

هنا إنما تكمن المسألة، على ما يبدو لي.. فالمرأة المتحفظة (أسمى) من رجل مراهق ولو كان عبقريا، والرجل المكتمل (أسمى) من امرأة طفل، وكذلك فالمرأة الجميلة التافهة أدنى من امرأة تتصف بأنها امرأة على نحو كلي، والفلاح الذي يحب

ص: 78

أرضه أسمى من قائد لامبال بمهنته.

إنني أقترح أن يحل مصطلح (معوق) محل مصطلح (أدنى) ومصطلح (متميز) محل مصطلح (متفوق)، ذلك يتيح لنا أن نرى من خلالها على نحو أكثر وضوحا، فالمسألة مسألة قدرات بالطبع، ولكنها أيضا مسألة تحقيق الذات، وكون الإنسان، في هذا المجال امرأة أو رجلا لا يدخل في الحساب كما لا يدخل في الحساب كون الإنسان حاكما أو محكوما.

وأود أن أشير إلى التباس آخر، يوازن المرء على وجه العموم شخصا بشخص آخر بدلا من أن يقيسه بمعيار إمكاناته الخاصة.

فلنتصور عاملة فقدت استخدام ذراعها، أنها تعتقد في نفسها مباشرة بأنها (أدنى) من الآخرين، والواقع أنها معوق بالقياس إلى معيارين: عملها ومردودها.

ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق أنها أصبحت (أدنى) (من الناحية الداخلية) من ذاتها ولا من أي شخص، بيد أن احتمال أن تعاني الشعور بالدونية يبلغ 90 بالمئة، لأنها تخلط بين ما عليه وبين ما يتوقعه منها المجتمع، ومع ذلك، لن يبدو أي شعور بالدونية إذا كانت هذه العاملة متوازنة ولن تعاني غير إحساس بالإعاقة التي ستسعى جهدها لتعويضها في حدود إمكاناتها ومن الواضح أننا جميعاً متميزون أو معوقون مائة مرة في اليوم وبحسب الظروف - فبطل العالم بالملاكمة على سبيل المثال، معوق بالقياس إلى مغرم بالرياضيات في الخامسة عشرة من عمره، إذا اتخذنا الرياضيات معيارا، وينقلب كل شيء إذا أصبحت الملاكمة هي المعيار.

ص: 79

ومن اليسير أن نكثر الأمثلة، فكل إعاقة وكل ميزة منوطتان بالوقت والظروف، والإعاقة هذا اليوم قد تصبح ميزة في الغد)(1).

وبنفس التساؤل الذي طرحه (بير داكوا)، نحن نسأل أيضا: (ما هو المعيار الذي ينوط به التفوق أو الدونية)؟

ولكي نضفي إلى بحث هذا العالم معيارا ربما لم يوجد له بديل، فإني وجدت ومن خلال بيت علي وفاطمة عليهما السلام، أن المعيار هو: (حب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم).

فعن جابر بن عبد الله:

(أنه افتخر علي وفاطمة بفضائلهما، فأخبر جبرائيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهما قد أطالا الخصومة في حبك فاحكم بينهما.

فدخل صلى الله عليه وآله وسلم وقص عليهما مقالتهما، ثم أقبل على فاطمة وقال:

«لكِ حلاوة الولد وله عزّ الرجال، وهو أحب إلي منك».

فقالت عليها السلام:

«والذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك الأمة، لا زلت مقرّة له ما عشت»(2).

في هذا الحديث تظهر الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، (معيار)

ص: 80


1- المرأة، بحث في سيكولوجية الأعماق لبير داكوا: ص 41-43؛ الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث، لبير داكوا: ص 300-306 ترجمة وجيه أسعد.
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 38؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 112.

التفوق أو الدونية عند المرأة والرجل على حدٍ سواء، وتبين أنه المعيار الوحيد الذي يستحق أن ينظر إليه الإنسان ويحمل عليه تفوقه أو دونيته.

وبالأصح أنه المعيار الوحيد الذي ينال صاحبه الإحساس بالتفوق الكامل الذي لا دونية معه، والذي يوصله إلى رتبة العزة، فصاحب هذه الرتبة يحيا حياة الاطمئنان والأمن الذي لا تضطرب به المشاعر ولا تختلج به النفس، لأن أي معيار آخر وإن كان يعد تفوقا عند البعض فإنه لا يشعر صاحبه بالعزة والطمأنينة، والسر فيه أن الفطرة التي فطر الله عزوجل النفس الإنسانية عليها، لها نظام لا تستقر فيه إلا بوجود تلك العناصر التي خصها الباري عزّ وجل والتي أشار إليها في محكم التنزيل:

(وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ )(1).

وقد تجر بعض النفوس أصحابها إلى الوهم بأنها عزيزة، وهي النفس الخالية من التقوى فتأخذها.

(اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ) ، فهذه النفس الأسيرة بوهم العزة لا يمكن لها أن تحيا ولو للحظات بالأمن، ولا عرفت معنى الإحساس بالطمأنينة.

أما الأبحاث والدرسات في علم النفس فهي تصب جل طاقتها في معرفة تلك العناصر التي ركبت منها النفس الإنسانية، ويبدو أنها لن تصل إلى المعرفة الكاملة (وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً)(2) ؟

ص: 81


1- سورة المنافقون: الآية 8.
2- سورة الإسراء: الآية 85.

وعليه:

يبقى الطريق الأصح والأيسر لمعرفة هذه النفس وخفاياها وما يصلحها لا يكون إلا من خلال من أطلعهم الله عزّ وجل على هذه العلوم، وتبقى الأبحاث والدراسات هي أحب السبل الموصلة إلى فهم سنة النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين اتخذوا حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (المعيار) الوحيد في التفوق.

ولعل سائلاً يسأل عن الحكمة في اتخاذهم هذا المعيار في التفوق أو الدونية ؟ سنرى جوابه فيما يلي:

خامسا: سيكولوجية الحب والإتباع
اشارة

إذا رجعنا إلى القرآن الكريم الذي فيه علم كل شيء، فإن المعيار في التفوق هو (التقوى) لكن تحصيل التقوى لا يتم إلا بتطبيق أحكام الله عزّ وجل، وهذا التطبيق لا يمكن أن يحصل كواقع عملي إلا بإتباع صاحب الشريعة ومبينها للناس وهو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطبيق ما ورد عنه، لا يمكن حصوله من الناحية النظرية والعملية إلا من خلال حب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فبدون حب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن تطبيق أحكام الله عزّ وجل؛ لأن هذه الأحكام وتطبيقها معدة من قبل الباري عزّ وجل ضمن قاعدة وضابطة:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ )(1).

ص: 82


1- سورة آل عمران: الآية 31.

وحصول الإتباع من الناحية السيكولوجية لا يتم إلا بوجود الدافع والمحرك الانفعالي والوجداني في النفس وهو الحب، ولذلك لا يصدق إتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون حبه، هذا لا يمكن لا من الناحية السيكولوجية عند الرجل والمرأة، ولا يمكن من الناحية الإيمانية! لأنه إن تم مثل هذا الإتباع - أي إتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون حبه - كان نفاقا وهو من أخطر الأمراض النفسية لأنه يصيب القلب وهو موضع الحب والإيمان، وهو عند الله تعالى أشد من الكفر لما يحمله من خطر على هيكلية المجتمع الإنساني.

ومن هنا: ورد في الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

1 - قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(1).

2 - وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يؤمن أحدكم حتى أكن أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين، ولا يحبني حتى يحب أهل بيتي لحبي»(2).

3 - وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته»(3).

ص: 83


1- صحيح البخاري، كتاب الإيمان: ج 1، ص 10.
2- نظم درر السمطين للزرندي: ص 233؛ شرح إحقاق الحق: ج 9، ص 458.
3- الأمالي للصدوق: ص 415؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 1، ص 88؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 7، ص 75؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 1، ص 41.

ولأجل ذلك كان حب أهل بيته فرضاً على جميع الخلائق لأن فيه صلاح النفس ونواتها وهو القلب.

ومن هنا: نلمس ومن خلال الواقع العملي والنفسي والإيماني، مغزى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا علي لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق»(1).

لأن إتباع علي عليه السلام دافعه الوجداني والانفعالي هو حب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبه يصدق العمل إيمانا وهداية، ولأجله كان حبه عليه السلام جنة تقي الإنسان من الوقوع في النفاق، وبحبه تقسم الأعمال، فكان قسيم النار والجنة.

وهذه الحقيقة والسنّة الإيمانية التي سنّها الله عزّ وجل تظهر مغزاها فاطمة عليها السلام بعد أن سمعت أباها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها:

(وهو أحب إلي منك)

فأدركت أن هذا الحب مرتبط بالوحي، كما قال الله تبارك وتعالى:

(وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ )(2).

فعندها ردت قائلة: (والذي اصطفاك واجتباك وهداك، وهدى بك الأمة لا زلت مقرّة له ما عشت) وهذا الإقرار هو (إقرار بالولاية) رزقنا الله إياها.

فمن كان أكثر الناس حبا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حق له أن يفتخر

ص: 84


1- أمالي الصدوق: ص 197؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 31، ص 322.
2- سورة النجم، الآيتان: 3 و 4.

على مَنْ أقلّهم درجة في ذلك فمما لا شك فيه أنه في رتبة الدونية بمعيار حب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

أما أثر ذلك على الحياة الزوجية

فمن البديهي أن البيت الذي يتخذ حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم معيارا في التفوق أنه يحيا حياة المودة والرحمة والطمأنينة والأمن وهو (السكن)، لأن هذا الحب يفرز من خليته مزيجاً من العناصر التي تغذي قلب الرجل والمرأة وهي:

1 - الاحترام المتبادل.

2 - حفظ الحقوق والواجبات.

3 - الحرص على رعاية الآخر.

4 - حفظ الذات.

5 - الأنوثة المحققة عند المرأة.

6 - الرجولة المتكاملة عند الرجل.

وكل هذا منوط بحب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سيجعل الرجل أو المرأة حريصا أشد الحرص على تطبيق شريعته، فمن أحب محبوبا حرص على إرضائه.

وأما من لا يؤمن بحب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجعله معيارا في تفوقه فإني أعتقد أنه لن يجد معيارا ينقذه من الإحساس بالدونية، وإن اختلفت لديه المعايير.

ص: 85

المسألة الخامسة: خوفها على زوجها عند خروجه للقتال

اشارة

(الخوف) في علم النفس والسلوك الإنساني، هو:

(انفعال يثيره الشعور بالخطر، وهو إرتكاس وجداني سوّي للعضوية المعرّضة لتهديد واقعي)(1).

وفي هذا الفصل نعرض لحالة وجدانية تمر بها الزهراء عليها السلام كزوجة، وهي ترى أن هناك خطراً يهدد حياة زوجها فتبدو مظاهر القلق والبكاء عليها واضحة دون أن تتمالك نفسها من حبس هذا الشعور الممزوج بالخوف والقلق والإشفاق عليه عليها السلام، بل تعبر عنه بكل وجدانية.

ونحن وإن كنا سنعرض في هذا الفصل لروايتين تدور حول حديث واحد، لكل رواية صورة تعبيرية عن الحالة الوجدانية لفاطمة عليها السلام إلا أن الكتاب سيتضمن العديد من الصور التي تعبر عن الحالة الوجدانية والانفعالية لفاطمة عليها السلام وهي ترى أن حياة زوجها، وأبي أولادها في خطر حقيقي فتندفع لرد هذا الخطر والعدوان، وإن كلفها ذلك حياتها، كما حدث في الهجوم على دارها لإخراج علي أمير المؤمنين عليه السلام كي يبايع قهرا(2)، فتلحق به عليها السلام على الرغم ممّا بها من آلام وجراح ونزف للدماء وهي تنادي:

«خلوا ابن عمي أو لأكشفن بالدعاء رأسي».

ص: 86


1- المعجم الموسوعي في علم النفس، نور بير سيلامي: ج 3 ص 1034 ترجمة وجبة أسعد.
2- سنوافي القارئ الكريم في الجزء الأخير من الكتاب وهو (فاطمة ومقاومة الإرهاب) بكل التفاصيل التي أخرجها حفاظ المسلمين، ومصنفو أمهات كتبهم، حول ما جرى على فاطمة عليها السلام بعد وفاة أبيها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
الرواية الأولى: ذكر أصحاب السير
اشارة

(أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذات يوم جالسا إذ جاء إعرابي فجأة بين يديه ثم قال: إني جئت لأنصحك قال:

«وما نصيحتك»؟.

قال: قوم من العرب قد عملوا على أن يبيتوك بالمدينة ووصفهم له.

قال: فأمر أمير المؤمنين عليه السلام، أن ينادي بالصلاة جماعة، فاجتمع المسلمون فصعد النبي فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

«أيها الناس إن هذا عدو الله وعدوكم قد أقبل عليكم يزعم أنه يبيتكم بالمدينة فمن للوادي ؟».

فقام رجل من المهاجرين، فقال: أنا يا رسول الله فناوله اللواء وضم إليه سبعمائة رجل وقال له:

«أمضِ على اسم الله».

فمضى فوافى القوم ضحوة، فقالوا له: من الرجل ؟ قال: رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إما أن تقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أو لأضربنكم بالسيف.

قالوا له: ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع لا تقوم له، فرجع الرجل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«من للوادي ؟».

ص: 87

فقام رجل من المهاجرين فقال: أنا يا رسول الله، قال: فدفع إليه الراية ومضى ثم عاد بمثل ما عاد به صاحبه الأول.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أين علي بن أبي طالب ؟».

فقام أمير المؤمنين عليه السلام فقال:

«أنا ذا يا رسول الله».

قال:

«أمضِ إلى الوادي».

قال:

«نعم».

وكانت له عصابة لا يتعصب بها حتى يبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجه شديد، فمضى إلى منزل فاطمة عليها السلام فالتمس العصابة منها.

فقالت:

«أين تريد؟! وأين بعثك أبي ؟!».

قال عليه السلام:

«إلى وادي الرمل».

فبكت إشفاقا عليه.

فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي على تلك الحال، فقال لها:

«ما لك تبكين ؟ أتخافين أن يقتل بعلك ؟ كلا إن شاء الله».

ص: 88

فقال علي عليه السلام:

«لا تنفس(1) علي بالجنة يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

ثم خرج ومعه لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمضى حتى وافى القوم بسحر فأقام حتى أصبح ثم صلى بأصحابه الغداة وصفهم صفوفا واتكأ على سيفه مقبلا على العدو، فقال لهم:

«يا هؤلاء أنا رسول، رسول الله إليكم، أن تقولوا لا إله إلا الله أو أضربنكم بسيفي هذا، أنا علي بن أبي طالب».

فاضطرب القوم لما عرفوه ثم اجتروا على مواقعته فواقعهم فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم المشركون، وظفر المسلمون وحازوا الغنائم وتوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أنزل الله عزّ وجل في هذه الحادثة قوله تعالى:

(وَ اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً)(2)(3) .

والرواية تشير إلى مناقب عديدة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، أما الغزوة فتسمى أما ب - (وادي الرمل) أو (السلسلة).

موضع البحث

قولها عليها السلام:

«أين تريد وأين بعثك أبي ؟».

قال:

ص: 89


1- لا تنفس: أي لا تبخل عليّ بالجنة.
2- سورة العاديات، الآية: 1.
3- الإرشاد للشيخ المفيد رحمه الله: ج 1، ص 115؛ البحار للعلامة المجلسي: ج 21، ص 81.

«إلى وادي الرمل».

فبكت إشفاقا عليه عليها السلام.

أولاً: بعض المواقف المثيرة للقلق

على الرغم من صعوبة تحديد أسباب القلق إلا أنه توجد أربعة مواقف على ما يبدو تحدث القلق وهي:

1 - الدوافع المتصارعة مثل الرغبة في تكريس الحياة لخدمة الآخرين وفي نفس الوقت الرغبة في تكوين ثروة من المال.

2 - الصراع بين المثل العليا الداخلية والسلوك، وهذا يحدث عندما نعمل شيئا ونعتقد أنه خطأ.

3 - مواجهة بعض الأحداث غير العادية لا نستطيع أن نفهمها فورا ونتوافق معها، ويحدث هذا عندما نلتحق بعمل جديد ولا نعرف أي أنواع السلوك هو المقبول.

4 - مواجهة أحداث لا يمكن التنبؤ بنتائجها، مثل الدرجة التي يمكن أن نحصل عليها في امتحان هام.

في هذه الحالات يرتبط انفعال القلق بالدوافع بوضوح، في المواقف (1)، (2) ينتج القلق من الصراع بين الدوافع أو بين أحد الدوافع والمثل الداخلية للفرد.

في المواقف (3)، (4) ينتج القلق من إحباط دافع اليقين.

أي موقف تظلله غيوم عدم اليقين - أي عدم معرفة ما سوف يحدث، وعدم

ص: 90

معرفة ما يمكن توقعه، وعدم معرفة السلوك الأمثل المرغوب - يكون سببا في خلق القلق.

وعند الرجوع إلى الرواية نجد أن فاطمة عليها السلام كانت غير عارفة بما سيحدث لزوجها أمير المؤمنين عليه السلام وهو ذاهب إلى وادي الرمل.

بل إن طلبه للعصابة منها كان كافيا في خلق القلق؛ لأنها تدرك أن هذه العصابة شعار الموت وهي ناقوس الخطر فلذا بكت وكما أخبرت الرواية: (إشفاقا عليه) عليها السلام.

ثانياً: كيف يمكن التغلب على القلق ؟

كيف يتم التعامل مع إنسان بدا سلوكه متأثرا بالقلق ؟ سؤال ربما قد أجيب عليه كثيرا في حلقة بحث أو محفل علم، ولكن ربما الإجابة عليه هذه المرة تكون من خلال بيت فاطمة عليها السلام.

وعليه: فإن المصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - عندما دخل إلى بيت فاطمة عليها السلام وهي على تلك الحال من البكاء، عرف بأنها من القلق والخوف - والذي كما أشار إليه البحث كان من النوع، أو الموقف الرابع، أي: مواجهة أحداث لا يمكن التنبؤ بنتائجها، أي: عدم اليقين بمعرفة ما يحصل لعلي عليه السلام.

وهنا: قام النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بتبديد هذه الغيوم وبتحويلها إلى سحابة خير تمطر يقينا بنجاة وسلامة زوجها عليها السلام قائلا:

«أتخافين أن يقتل بعلك ؟ كلا إن شاء الله».

ص: 91

وبالطبع عندما يسمع الإنسان المؤمن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن أثر ذلك على المشاعر والأحاسيس، ليس كما يسمع من غيره.

أما نحن في حياتنا اليومية وانفعالاتنا النفسية بما للدوافع من مدخلية في تحرك هذه الانفعالات فإنه ينبغي علينا أن نتدارك القلق بما يلي:

أولا: بمعرفة الموقف الذي دعا إلى خلق القلق.

ثانيا: إزالة هذه الغيوم وتبديدها بتحقق اليقين بالله عزّ وجل بأنه خير حافظ وهو القادر على رد البلاء ودفعه.

ثالثا: أن يكون حوارنا فيما نحن قلقون بسببه أو من أجله مع شخص يتسم بالثقة لدينا وله القدرة على بث الطمأنينة في نفوسنا كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ابنته فاطمة عليها السلام.

وأما في الموقف (1)، (2) الذي أشار إليهما البحث فجوابها أيضا في بيت علي عليه السلام إذ يضع قاعدة علمية لتبديد الصراع النفسي والتغلب على القلق من خلال إتباع ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

فقال:

«خالف نفسك تستقم، وخالط العلماء تعلم»(1).

وقال عليه السلام:

«اركب الحق وإن خالف هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك»(2).

ص: 92


1- العلم والحكمة في الكتاب والسنة للريشهري: ص 416.
2- المصدر نفسه.
أما الرواية الثانية

وهو ما يمنع حصول تصارع بين الدوافع النفسية كالرغبة في تكريس الحياة لخدمة الآخرين وفي نفس الوقت الرغبة في تكوين المال؛ أو الصراع بين المثل العليا الداخلية والسلوك.

فنوردها التماسا للأجر دون البحث لأنها تصب في نفس المنهل الذي نهلنا منه وهو كيف كانت فاطمة عليها السلام وهي في حالة الخوف على زوجها علي عليه السلام عند خروجه للقتال.

أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله في أماليه، عن يحيى بن زيد رضي الله عنه عن زيد بن علي رضي الله عنه، عن علي بن الحسين عليهما السلام، قال:

«خرج رسول الله ذات يوم وصلى الفجر، ثم قال: معاشر الناس أيكم ينهض إلى ثلاثة نفر قد آلوا باللات والعزّى ليقتلوني وقد كذبوا وربّ الكعبة ؟».

قال:

«فأحجم الناس وما تكلم أحد، فقال: ما أحسب علي بن أبي طالب منكم فقام إليه عامر بن قتادة فقال: إنه وعك في هذه الليلة ولم يخرج يصلي معك، فتأذن لي أن أخبره ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، شأنك فمضى إليه فأخبره، فخرج أمير المؤمنين عليه السلام كأنه نشط من عقال، وعليه إزار قد عقد طرفيه على رقبته، فقال: يا رسول الله ما هذا الخبر؟ فقال: هذا رسول ربي يخبرني عن ثلاثة نفر قد نهضوا إليّ لقتلي وقد كذبوا ورب الكعبة، فقال علي عليه السلام: يا رسول الله أنا لهم سرية وحدي، هو ذا ألبس عليّ ثيابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل هذه ثيابي، وهذا درعي، وهذا سيفي، فدرّعه وعمّمه وقلّده وأركبه فرسه، وخرج

ص: 93

أمير المؤمنين عليه السلام، فمكث ثلاثة أيام لا يأتيه جبرائيل بخبره ولا خبر من الأرض.

وأقبلت فاطمة بالحسن والحسين على وركيها تقول: أوشك أن يؤتم هذين الغلامين، فأسبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عينه يبكي، ثم قال: معاشر الناس من يأتيني بخبر علي أبشّره بالجنة، وافترق الناس في الطلب لعظيم ما روأ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج العواتق، فأقبل عامر بن قتادة يبشّر بعلي عليه السلام»(1).

المسألة السادسة: إنها لا تسأل زوجها ولا تكلفه في شيء حتى فيما تحتاج إليه

اشارة

ماذا تقدم المرأة للرجل كي تأخذ؟ وماذا عليه هو أن يقدم لها كي يأخذ منها في المقابل ؟

ربما هذه النقطة هي من أكثر النقاط حساسية في حياة الأسرة، إذ يدور كل من الرجل والمرأة حول نواة الاستحقاق، كلا يعتقد من الآخر البذل دون أن ينظر ماذا هو قد قدم لشريك حياته.

وربما قد يعطي أحدهما دون أن يأخذ فيما لو نظرنا إلى هذا الشيء الذي يناله فعرضناه على طاولة القيمة الاعتبارية والمعيشية فإنه يساوي ما هو أغلى من التراب قيراطا.

أي: أن يعطي أحدهما دون أن يأخذ شيئاً يذكر وغالبا وكما هو معهود في

ص: 94


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 166؛ البحار للمجلسي: ج 41، ص 74-75.

مجتمعاتنا العربية، والشرقية - وليس المجتمع الغربي بمأمن عن ذلك - أن المرأة هي التي تبذل أكثر مما تأخذ.

فأين يكمن الخلل ؟

أهو: ثقافتنا الأسرية ؟ أو الدينية ؟ أو الأكاديمية ؟

أم هو: الأنانية ؟ أو لعلها الاتكالية، أم هو تركيبة المرأة السيكولوجية ؟

أسئلة عديدة، فكيف عالجها علماء النفس ؟ وكيف عالجها بيت فاطمة عليها السلام.

أولاً: قانون العرض والطلب في علم النفس

في كل علاقة إنسانية، يعرض كل فرد على الآخر ويطلب منه شيئا ما، بصورة سطحية أو عميقة بصورة مرئية أو غير مرئية، وكل امرأة ينبغي أن تتساءل:

1 - ماذا يمكن أن أعرض على الرجل الذي يعيش معي ؟

2 - ماذا أطلب منه ؟

هذان سؤالان يوميان، إن لم يكونا سؤالي كل لحظة، ذلك أن العرض والطلب يتغيران بحسب الحالة الداخلية والأمزجة والمتاعب، وجاهزيات الفكر والقلب، وضروب الوفاق أو عدم الوفاق.

ويتغير العرض والطلب بالتأكيد وفق العمر والنضج الداخليين في المرأة، والمرأة التي تملك الزهيد لا يمكنها أن تعرض غير الزهيد، وعندما لا تملك المرأة غير الزهيد، تكون مطالبها في بعض الأحيان لا متناهية، إنها تعرض سحرها النزوي

ص: 95

وحبها الطفولي، لأن أنوثتها ضعيفة، وذكورتها عدم من الناحية العملية، وهي، من جهة أخرى، تطلب أن تكون باستمرار مرفوعة على رؤوس الأصابع محاطة بالرعاية والاهتمام.

وماذا تقدم إلى رفيقها؟ امرأة جعلتها الغيرة متصلبة، إن لم يكن إخلالا؟ وماذا تطلب غير أن تكون المركز الوحيد (المرضي) لرجلها (هي)؟

وما دامت مثل هذه الأوضاع مستمرة، فإن الثنائي لا يمكن أن يؤكد ديمومته، إنه يمضي من آن إلى آن، تحطمه بصورة مستمرة، ضروب اللوم والخصام، والضغائن، ثم يستأنف ديمومته الهزيلة، ولا يكون هؤلاء الرجال والنساء ثنائيا، بل سلسلة من ضروب الثنائي، ضروب تختلف من يوم إلى آخر على الرغم من المظاهر الخارجية.

هاهي ذي امرأة (لها حنان الأم) ماذا تعرض ؟ إذا كانت أنوثتها قوية، أمكنها أن تعرض نزعاتها الدافئة، والمتسامحة، والمسؤولة، والحفية، والنشيطة، والمشاركة، ولكنها إذا كانت ذات أنوثة مشوهة، فليس بإمكانها أن تعرض غير نزعة لها حنان الأم المشوّه، وستصبح دبقة ونزاعة إلى الملك، وسلطوية، ومدققة، و (مراقبة).

وماذا تطلب ؟ إذا كانت أنثويتها محققة، طلبت ثقة الرجل و (عفويته، وأصبحت بالنسبة إليه، زاد السفر الذي لا غنى عنه، أما إذا كانت أنوثة المرأة مشوّهة، فإنها تقتضي وبصورة لا شعورية أن يبقى الرجل طفلا بوسعها السيطرة عليه، إنها تطلب أن يكون رفيقها بحاجة إليها، بالمعنى السيئ للكلمة، وتريد أن يقدّم إليها تقريرا بصدد كل شيء ولا شيء، ومن المؤكد إنها تتلقى الإجابة التي

ص: 96

تطابق ما تعطيه وسيتخلص أي رجل سوي بأي ثمن، من هذه السلاسل التي تحول بينه وبين الحياة، وتمنحه إحساس السقوط مرة ثانية في عبوديات الطفولة.

ويقودنا هذا القدر من الأمثلة إلى التساؤل ما يجري عادة لدى ثنائي، حيث وقعت المرأة، وقد فقدت إستطاعة أنوثتها، في حبائل نقائص صفاتها)(1).

ثانياً: قانون العرض والطلب في بيت فاطمة عليها السلام
اشارة

بعد أن أسلفنا أولا لقانون العرض والطلب في علم النفس وكيف يراه علماؤه، نأتي الآن إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام، لنرى كيف أن العرض والطلب يطبق بينهما، وما هي الأصول التي ارتكزت عليها فاطمة عليها السلام في عرضها كزوجة لعلي عليه السلام وماذا تطلب منه.

أخرج العياشي رضي الله عنه في تفسيره، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«إن فاطمة عليها السلام ضمنت لعلي عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز، وقسم البيت، وضمن لها علي عليه السلام ما كان خلف الباب: نقل الحطب وأن يجيء بالطعام.

فقال لها يوما: يا فاطمة هل عندك شيء؟

قالت: والذي عظم حقك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به(2).

- وفي رواية -، قالت:

«لا والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة عندي شيء

ص: 97


1- المرأة، بحث في سيكولوجية الأعماق لببير داكوا: ص 317-318.
2- تفسير العياشي: ج 1، ص 171؛ البحار: ج 43، ص 31.

وما كان شيء أطعمناه منذ يومين إلا شيء كنت أؤثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين.

فقال علي: يا فاطمة إلا كنت أعلمتيني فأبغيكم شيئا.

فقالت: يا أبا الحسن إني لأستحي من إلهي أن أكلفك نفسك مالا تقدر عليه»(1).

وفي رواية قالت:

كان رسول الله نهاني أن أسألك شيئا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسألي ابن عمك شيئا إن جاءك بشيء عفواً وإلا فلا تسأليه(2).

قال: فخرج علي عليه السلام فلقي رجلا فاستقرض منه دينارا ثم أقبل به وقد أمسى، فلقي مقداد بن الأسود فقال لمقداد: ما أخرجك في هذه الساعة ؟

قال: الجوع والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين.

قال الراوي: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيّ؟! قال:

ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيّ . قال علي عليه السلام: فهو - أي الجوع - أخرجني، وقد استقرضت دينارا وسأؤثرك به، فدفعه إليه.

فأقبل فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا وفاطمة تصلي وبينها شيء مغطى فلما فرغت اجترّت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم.

قال: يا فاطمة أنى لك هذا؟ قالت:

ص: 98


1- تفسير فرات الكوفي: ص 83؛ البحار: ج 43، ص 59-60.
2- تفسير العياشي: ج 1، ص 171؛ البحار: ج 43، ص 31.

(هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ )(1).

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أحدثك بمثلك ومثلها؟ قال: بلى.

قال: مثلك مثل زكريا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا.

(قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰى لَكِ هٰذٰا قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ ).

فأكلوا منها شهرا، وهي الجفنة التي يأكل منها القائم عليه السلام، وهي عندنا»(2).

وعند الرجوع إلى علم النفس نجده قد أوكل قانون (العرض والطلب) ومجال تطبيقه إلى أنوثة المرأة، بوصفها هي المعنية بالدرجة الأولى بإنجاح العلاقة الزوجية وكما سميت (بديمومية الثنائي).

وأيضا يتحكم في هذا القانون كل من العمر والنضج الداخليين في المرأة، وبحسب الحالة الداخلية، والأمزجة، وجاهزيات الفكر والقلب وضروب الوفاق أو عدم الوفاق.

لكن كل ذلك وإن كان يتحكم في العرض والطلب إلا أن أنوثة المرأة تبقى هي الركيزة التي يرتكز عليها هذا القانون.

ومن ثم فمن كانت أنوثتها متحققة، طلبت ثقة الرجل و (عفويته)، وأصبحت بالنسبة إليه زاد السفر الذي لا غنى عنه.

ص: 99


1- سورة آل عمران، الآية: 37.
2- تفسير العياشي: ج 1، ص 172؛ البحار للمجلسي: ج 14، ص 198؛ التفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج 1، ص 333.
ألف: أنوثة المرأة وعفوية الرجل في مدرسة بيت فاطمة عليها السلام

فمن كانت - أولا وقبل الدخول في البحث - (سيدة نساء العالمين) بمقتضى الإرادة الربانية الدال عليها قوله تعالى:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1).

فإنما هي (امرأة كاملة الأنوثة) ومتحققة عندها بأعلى رتبة، وعليه: فهي بالنسبة لعلي عليه السلام ك - (زاد السفر الذي لا غنى عنه).

ويكفي دليلا على ذلك قوله عليه السلام:

«ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان»(2).

ورثاها بعد استشهادها قائلا:

أرى علل الدنيا عليّ كثيرة *** وصاحبها حتى الممات عليلُ

لكل اجتماع من خليلين فرقة *** وكل الذي دون الممات قليلُ

وإن افتقادي فاطما بعد أحمد *** دليل على أن لا يدوم خليل(3)

فهذه الكلمات لا تنبع إلا من معنى حب علي لفاطمة عليها السلام، وقد قال أيضا:

ما لي وقفت على القبور مسلما *** قبر الحبيب فلا يردّ جوابي

أحبيب مالك لا ترد جوابنا *** أنسيت بعدي خلة الأحبابِ

لا خير بعدك في الحياة وإنما *** أبكي مخافة أن تطول حياتي(4)

ص: 100


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 373؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 134.
3- بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 180.
4- اللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري: ص 889.
باء: ركائز قانون العرض والطلب في بيت فاطمة عليها السلام

من الناحية العلمية التي يهتم بها الباحث وهو يغض النظر (ربما) عن الإرادة الإلهية في اصطفاء وقوام وكمال البضعة النبوية عليها السلام فإن قولها:

«ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلا شيء كنت أؤثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين».

وقولها:

«إني لأستحي من إلهي أن أكلفك ما لا تقدر عليه».

هو قمة الأنوثة إذا نظرنا لها من المنظور السيكولوجي (النفسي) للمرأة.

فحالة (العرض والطلب) عند الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام ترتكز على أمرين:

فأولا: إنها تستحي من الله عزّ وجل أن تكلفه بما لا يطيق.

وثانيا: التزاما بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا تسألي ابن عمك شيئاً، إن جاءك بشيء عفواً، وإلا فلا تسأليه».

وإذا نظرنا إلى هذا الشيء الذي لا تريد أن تكلف زوجها به وهو (الطعام لها ولأولادها)، ثم عرضناه على مائدة (علم النفس) وقارناه بما جاء في البحث ب - (الطلب) وهو (الطعام) الذي أخبرت عنه الرواية، والذي سئل عنه عليه السلام، مقابل (العرض) الذي آثرت به زوجها على نفسها وأولادها على الرغم من احتياجها إليه.

نلمس بعمق سمو الحالة الإنسانية بكل جوانبها عند أهل البيت (بيت علي

ص: 101

وفاطمة عليهما السلام) ودنوها اليوم عند كثير من الناس لابتعادها عن نهج أهل البيت عليهم السلام، وتعلقها بمناهج غيرهم فأصبحت الأنوثة من خلال ذلك الابتعاد مشوهة، إن لم تكن مصدومة لما تركته هذه المناهج من ترسبات ذهنية وفكرية على كثير من الأسر المسلمة.

ويكفي بالقارئ المسلم المنصف والأكاديمي أن ينظر إلى تلك الأحاديث التي صاغتها قلوب مريضة وأيد مأجورة عصفت بها المصالح والسياسات، لتصف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحمل إحدى زوجاته والعياذ بالله على ظهره واضعة خدها على خده كي تستمتع برقصات الأحباش، أي - الزنوج - ثم لا ينزلها حتى تكتفي من النظر(1).

فلو عرضت هذه الأحاديث وغيرها على طاولة البحث ونظر إليها من المنظور السيكولوجي فكيف تبدو هذه الصورة ؟! وما هو (العرض والطلب)؟! وكيف تتحقق (ديمومية الثنائي)؟!

لا شك إنه يلمس بعمق - إن كان مسلما منصفا وأكاديميا مدققاً - صورة مشوهة، الأنوثة فيها معدومة، فضلاً عن انتهاك حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيذائه والعياذ بالله.

ومن يؤذ الله ورسوله لعنه الله في الدنيا والآخرة، قال تعالى:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(2).

ص: 102


1- صحيح البخاري، كتاب العيدين: ج 2، ص 3.
2- سورة الأحزاب: الآية 57.

ولذلك لم يجد القارئ صورة أجمل مما يجده في بيت علي وفاطمة عليهما السلام، لأنه - وكما أسلفنا - البيت الأنموذج في الإسلام، بل في الحياة الإنسانية، وحيثما وجدت علاقة زوجية شرعية بين رجل وامرأة.

ولعل هناك من يسأل عن السبب، وآخر يقول: أين بيوتات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوجاته وهنّ أمهات المؤمنين.

والجواب من عدة محاور:

1 - علة كينونتهن أمهات للمؤمنين غير مرتبطة بعصمتهنّ وكمالهنّ

كونهن أمهات المؤمنين سببه كونهن زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي: بمعنى أنهن قد حرّمْنَ على كل رجل بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن عقد عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل بها، أم لم يدخل هي قد حرمت على غيره من الرجال فكانت برتبة الأم التي يحرم الزواج منها، وهذا كله كرامة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيما لحرمته، وهو ليس له علاقة بهن من حيث التكريم، بل العكس، فهو قانون يشدد عليهن الالتزام ببيوتهن وعدم رؤية الرجال لهن فكيف بالزواج، والقرآن واضح في تشديده على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - انعدام التكافؤ

لم تكن أي واحدة منهن كفؤاً لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم ثم قد تعرض بعضهن للتوبيخ والتحذير في القرآن كعائشة وحفصة في قوله تعالى:

(إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اَللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا وَ إِنْ تَظٰاهَرٰا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ

ص: 103

وَ صٰالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ)(1).

وقد حذرهن الله جميعا من أن يبدلهن بنساء آخر أفضل منهن:

(عَسىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوٰاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ )(2).

وقد هجرهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعا وآلى منهن شهرا(3)، وطلق حفصة ثم راجعها(4)، كل ذلك يكشف عن أن بيوتهن لم يكن كبيت فاطمة عليها السلام وهو في طبيعته محال لأنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة وعليه: فهي سيدتهن، وعليهن التعلم منها.

3 - حصر الكفؤ في علي وفاطمة عليهما السلام حقق الثنائي الزوجي الأنموذجي

فاطمة وعلي عليهما السلام كلاهما كفؤ للآخر، فقد مر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لو لم يخلق الله عليا ما كان لفاطمة كفؤ»(5).

فضلاً عن كونها (بضعة النبوة) بنص قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأن عليّاً عليه السلام هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنص القرآن في آية المباهلة:

ص: 104


1- سورة التحريم، الآية: 4.
2- سورة التحريم، الآية: 5.
3- صحيح البخاري، كتاب المظالم: ج 3، ص 104.
4- روضة الطالبين لمحي الدين النووي: ج 6، ص 184.
5- ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 244.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(1).

فهنا بإجماع المفسرين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلى المباهلة فجعل الله عزّ وجل أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين ونفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو علي عليه السلام، ونساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي فاطمة عليها السلام.

وعليه فمن كان هو وزوجه بهذه الرتبة فلا شك أن البيت الذي جمعهما هو البيت الأنموذجي الأول والأخير، ومنه تأخذ العلوم بكل أقسامها وإليه يرجع الطالب للعلم، فمن ركب معهم نجا ومن تخلف عنهم غرق(2).

ثالثا: السبب في بقائها ثلاثة أيام على يسير من طعام حتى نفد في اليوم الثالث

قد ورد في الرواية قولها عليها السلام:

«والذي عظم حقك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به».

وبلفظ آخر:

«والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان أطعمناه مذ يومين إلا شيء كنت أؤثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين».

ص: 105


1- سورة آل عمران: الآية 61.
2- مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي: ج 6، ص 176.

فما هو السبب في بقائها على طعام يسير؟ هل الإمام علي عليه السلام لم يكن حاضرا عندها، أي: إنه في سفر؟ أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بعثه في أمر ما فغاب عن فاطمة يومين أو ثلاثة ؟

والجواب:

1 - أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن في سفر أو غياب من البيت، فلو كان كذلك لما طلب منها إخباره، فهذا محال، أي: إخباره بما تحتاج إليه وهو غير موجود.

فإذن: الإمام علي عليه السلام كان حاضرا، لكنه لم يتناول الطعام في بيت الزهراء عليها السلام منذ يومين أو ثلاثة فما هو السبب ؟

من الثابت في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان ملازما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يفارقه إلا في حالات خاصة ينصرف فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى شؤون أزواجه، ثم سرعان ما يجتمعان، فإما أن يبعث وراءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإما أن يأتي إليه علي عليه السلام، وهذه الحالة من التلازم تقتضي أن يكون طعام علي عليه السلام، مشتركا من طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن أن بيت علي عليه السلام لا يفصله عن بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا الجدار فهو في المسجد النبوي المطهر.

ولذا فإن طعام علي عليه السلام كان خلال اليومين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - ليس المراد من عدم سؤالها عليّاً عليه السلام من أن يجلب لها شيئاً خلال

ص: 106

الأيام الثلاثة من أنها لم تأكل أي شيء لا هي ولا ولداها الحسن والحسين عليهم السلام، فقد دلّ قولها:

«ما أصبح الغداة عندي شيء وما كان أطعمناه مذ يومين (إلا) شيء كنت أؤثرك به على نفسي وابني هذين الحسن والحسين».

إنها قد تناولت ما كانت قد آثرت به عليّاً عليه السلام خلال الأيام السابقة والتي خلت قبل هذين اليومين فلما لم يبقَ عندها سوى ما كانت تؤثر به عليّاً عليه السلام قامت فأطعمت به ولديها ونفسها، ولكنه حتى هذا الشيء قد نفد في صبيحة اليوم الثالث، وهو اليوم الذي كان أمير المؤمنين علي عليه السلام قد سألها في صبيحته (هل عندك شيء؟).

المسألة السابعة: تزيّنها لعلي عليه السلام

اشارة

(الزينة) اسم جامع لكل ما يتزين به(1)، وقد عدّت (الزينة) من بين النقاط المهمة في حفظ العلاقة الزوجية، وعاملا قويا في دوام التفاعل الزواجي.

وبخاصة ونحن نعيش اليوم في مجتمعات قد انفتحت على ثقافات وأخلاقيات مختلفة من العالم فبين ما يعمل الإعلام من نقل لهذه الثقافات من خلال شاشات التلفزة والصحف والمجلات إلى داخل البيت، وبين ما ينعكس على الشارع من تطبيقات لهذه المشاهدات سواء كانت سلبية أو إيجابية فإن تأثيرها السايكولوجي على أفراد البيت يكون بنسبة لا يستهان بها.

إذ يصبح المرء بين مشاهدتين، الأولى: لصورة تتجدد ألوانها مرات عديدة

ص: 107


1- كتاب العين: ج 7، ص 387؛ لسان العرب: ج 13، ص 201.

فينجذب هنا أو هناك وهذا بطبيعة الحال خارج البيت سواء في العمل، أو بجانب مقعد الدراسة أو حتى في موقف الباص، فضلاً عن زحمة الركوب في بعض الباصات التي قد لا يفصلك عن الجنس الآخر بعض مليمترات وقد لا تحصل عليها في مرات أخرى لندرتها كما يحدث في بعض المدن الإسلامية.

فهذه المشاهدات العديدة قد تجمعت في الصورة الأولى والتي هي خارج البيت وبين مشاهدة ثانية لصورة داخل البيت قد لا يرى فيها أي لون فتكون حالته النفسية بين ما يراه خارجا فلا يتمكن من الحصول عليه، وبين ما يطلبه في بيته فلا يجده، فينعكس عليه ذلك سلبا فيصبح في تعكير للمزاج، أو أنه يكون منصرف الذهن مشغول البال مع تلك الصورة التي تكرر ظهورها خارج بيته، فإذا سمع بكاء أحد أطفاله أو بعض كلمات من زوجته تطلب من خلالها بعض حوائج البيت تراه ينتفض عليها! لأنها مع ابنها الصغير قد قطعا عليه تلك اللحظات التي كان منسجماً معها وهو ينظر بعين الخيال إلى تلك الصورة التي لم ينل منها شيئاً، ثم لم يجد لها شبيهاً في بيته إن لم يجد النقيض!!

والنتيجة: واحدة من اثنتين، إما أنه سيصاب لا محالة بالضغط النفسي ( Stress ) وانعكاساته الخطيرة على الصحة العامة للإنسان (فيبدأ الجسم بإفراز هرمون الأندرينالين، والنوادرينالين وهذان الهرمونان يحدثان في الجسم تغيرات ملحوظة، فتحت تأثيرهما تزداد سرعة نبض القلب ويتغير قطر الشرايين بشكل واضح فتعيد توزيع كمية الدم على القلب والعضلات الضرورية لمواجهة مصدر الخطر، وتصبح الأنفاس أيضا أسرع وأعمق لتزويد العضلات بكمية أكبر من الأوكسجين فتشتد وتقوى، وتتوسع حدقة العين فيغدو الشخص أكثر تنبها، أما

ص: 108

على مستوى الجلد فتنقبض الشرايين، ويزداد إفراز العرق ويقشعر الجسم)(1).

(ويفرغ جسم الإنسان الأورينالين الفائض عن طريق نشاطات جسدية بديلة مثل سحب نفس طويل أثناء التدخين.

ويدفع الضغط النفسي بالغدد الكظرية الواقعة فوق الكليتين إفراز هرمونات أخرى مثل الكور فيزول فترفع معدل السكر في الدم كي تؤمن الطاقة الإضافية للعضلات والدماغ، وهي بشكل عام تعد الجسم لمواجهة معركة البقاء، فضلاً عن تأثير هذه الهرمونات على منطقة الهيبوكامب ( Hippocampe ) المسؤولة عن الذاكرة وضبط الانفعالات في الدماغ فيشير إلى الأهمية البيولوجية للحدث المسبب للضغط النفسي فيصبح الفشل غير قابل للنسيان(2).

ومن ثم: فإن استمرار حالة الضغط النفسي يؤدي بالإنسان إلى الإصابة بأمراض جسدية مثل (السكري وضغط الدم وغيرهما).

وهذا نتيجة لما يمر به الإنسان من انعكاسات الحالة التي يعيشها بين ما يراه ولم ينله، وبين ما يراه ولم يجده في بيته.

وأما النتيجة الثانية فهي: انصرافه عن بيته وتبدد الصورة الجميلة التي من أجلها فتح هذا البيت وقرر أن يحيا فيه مع شريكة حياته لينتهي به المطاف إلى جعل هذا البيت عبارة عن مظهر اجتماعي لا يربطه به سوى تلك الضرورة الإجتماعية الدافعة لكلام الناس؛ أما وجوده الإنساني والوجداني فمنصرف إلى تلك الصورة التي رآها خارج البيت.

ص: 109


1- كيف تواجه الهموم والضغوطات اليومية لفاديا عبدوش: ص 11.
2- كيف تواجه الهموم والضغوطات اليومية لفاديا عبدوش: ص 11-12.
أولا: كل امرأة فيها جمال دفين فكيف تستطيع من لفت انتباه زوجها وشده إليها؟!

(الجمال) يبقى أنشودة المرأة والرجل معا، لكن المرأة تطلبه في نفسها، والرجل يطلبه فيها.

وهنا تكمن ساحة القتال فهي تقاتل لأجل إظهار جمالها، وهو يقاتل ليحظى بهذا الجمال، ومما لا شك فيه أن كل امرأة فيها جمال دفين وفيها جمال ظاهر، إذ لم يترك الله عزوجل المرأة دون أن يجعل فيها أكثر من موضع للجمال، ولكن على المرأة أن تعرف مواضع جمالها لتبديها لزوجها كي تتمكن من لفت انتباهه وشده إليها.

ومن هنا: يقول أحد المختصين في علم التجميل:

(قد لا تستطيعين - يا سيدتي - أن تصبحي آية من آيات الجمال ولكن باستطاعتك دون شك الاستحواذ على إعجاب زوجك حتى ولو كان فيك (عيب) ما، أو ما تعتقدين أنت أنه عيب.. وهذه (فينوس) تعد مثالا فريدا لا مثيل له من أمثلة الجمال.. ومع هذا فإن فينوس مقطوعة الذراعين.

فماذا تستنتجين من ذلك ؟.. إن (عاهة) فينوس التي اختارها لها النحات العبقري الذي صنعها لم تمنع سحرها الطاغي، وهي تمثال من الحجر، من أن يشده كل من شاهده، وأن يهفو بروحه ويهتف في أعماق نفسه: هذا هو الجمال الحقيقي)(1).

إن الجمال مسألة نسبية بحتة، وقوانين الجمال التي تعارف الناس عليها

ص: 110


1- جمالك سيدتي: ص 22-23.

عرضة للتطور والتبدل، ولم يعد المثل الأعلى للجمال يستوحى من التماثيل واللوحات الفنية التي أبدعها الرسامون والنحاتون، بل أصبح مفروضا على أذواقنا الهشة ما تفرضه شاشات التلفزة والصحافة.

لقد تبيّن لمختصّ التجميل أن العيوب التي تشكو منها بعض النساء ليست في الواقع من الأهمية بقدر ما يتوهمن، وأن هناك من هنّ أسوأ حالا منهن ومع هذا فقد أدرجن في سجل الجميلات الساحرات.

ووراء (الفكرة الثابتة بوجود عيب) أو (الشعور بالنقص) تكمن كل العلة.. فقد تكون هناك من تشعر شعورا مدمّرا بوجود علة في جمالها، وقد لا يلحظ جلساؤها تلك العلة، ولكن شعور الانكسار والهم الذي يسيطر عليها يجعلهم يشعرون بما تتمنى إخفاءه(1).

فكيف بزوجها الذي أصبح مطلعاً على جميع خصوصياتها وهو العارف الوحيد بمكامن جمالها وعيوبها إلا أنها، أي المرأة، تستطيع من لفت انتباه زوجها وشده إليها من خلال معرفتها بمكامن جمالها الروحي والأخلاقي والبدني ومن ثم سيجد الرجل نفسه منقاداً إلى بيته لأنه وجد في بيته ما يجذبه ويغنيه عن بريق كل لون خارج بيته.

فإذن قيادة المعركة اليوم أصبحت بيدها، وهي وحدها القادرة على حفظ بيتها من الانهيار أو التصدع لأنها استطاعت أن تلغي كل تلك الصور المتعددة التي يراها زوجها اليوم وهو خارج البيت أو حتى داخله لأن التلفاز قد ينقل الكثير

ص: 111


1- جمالك سيدتي: ص 24.

إليه، ومما لا شك فيه وينقل التلفاز إليها أيضا.

وإن غاب عن ذهنك شيء فلا يغب قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عندما دخلت عليه إحدى النساء لتسأله عن حقوق الزوج فأجابها قائلا:

«أكثر من ذلك، أي: مما تسألين»!!

فقالت: فخبرني عن شيء منه ؟

فقال: ليس لها أن تصوم إلا بإذنه، يعني تطوعا، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وعليها أن تطيب بأطيب طيبها وتلبس أحسن ثيابها وتزين بأحسن زينتها وتعرض نفسها عليه غدوة وعشية وأكثر من ذلك حقوقه عليها»(1).

ثانياً: هل ترغب المرأة أن ترى زوجها متزيناً لها؟ وما أثر ذلك في العلاقة الزوجية ؟

قد يكون الدافع من وراء تزين المرأة هو إظهار جمالها، ومن ثم لفت الانتباه إليها وشد الأنظار لها فيتحقق بذلك إشباع الحس الأنثوي برغبة الزوج إليها، وأحيانا يكفيها أن تشعر أنها جذابة، ولها حضور، وإن لم تتكلم بكلمة أو تقوم بنشاط ما وإن كان هذا من الجمال أيضا، لكن يشترك فيه معها الرجل، أي: سحر البيان، وجمالية العمل.

أما الرجل فقد اختلفت عنده النظرة للزينة، فهو يرى أن زينة الرجل لا تنحصر باللباس الفاخر أو نوع الوسيلة التي يستخدمها في نقله وما إلى ذلك، بل يتعداها إلى إظهار الجوانب الذكورية من البدن المفتول بالعضلات، أو تضخيم

ص: 112


1- الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، أخرجها الكليني رحمه الله في الكافي: ج 5، ص 508، وسائل الشيعة: ج 20، ص 158، باب: 79 (وجوب تمكين المرأة زوجها من نفسها).

الشارب وإطلاق الذقن وترخيم الصوت، أو القيام بالأعمال الشاقة والخطرة، وقد يرى البعض أن زينة الرجل تكمن في رجاحة عقله وبلاغته، وتحكّمه في الأمور، وقيادته للأسرة، بينما ذهب كثير من الرجال ومع الأسف إلى عدم الاهتمام بزينته من خلال اللباس، أو العطر، أو الخضاب؛ لأن هذه الأمور منوطة بالمرأة، ومن ثم فليست هناك ضرورة للتهيّؤ للزوجة.

ربما قد تكون الحالة تختلف بالنسبة للمرأة..، أي: أقصد طلبها لزينة الزوج من حيث اختلاف النظرة للزينة، فهي تراها من الثوابت الجمالية سواء لها أم للرجل، أما هو فقد يراها من المكملات الظاهرية.

وهذا الاختلاف في النظرة عائد إلى الاعتبار بأن الجمال وتحريكه في الحياة الإنسانية بعد نور المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم عائد لها ومنوط بها.

فهي بين جمالية الشكل لحد الفتون، وتناغم الحركة لدرجة السحر، وبريق النظرة لحد الانشغال وعذوبة الابتسامة لحد الارتواء وبين لمسات الأمومة، ودفء الطمأنينة.

كل ذلك وغيره ارتبط بالمرأة، هكذا جعلها الله عز وجل، وهكذا رتبها الإسلام بين رتبة الطهر والجمال وبين العطر والصلاة.

وهكذا عرفها الحس الإنساني: تأخذ القليل، ويبذل لها الكثير، وخذ على ذلك شاهدا أن الثقافات الإنسانية لم تشهد تغزل المرأة بالرجل، بل على العكس ما عرف الغزل إلا لها، حتى أنها قد احتكرت عليه في أدب الشعوب وفنون الأمم.

ص: 113

وما يقاتل الرجال من أجل الذهب إلا ليساغ لها فيما بعد، عله يحظى بها، أو قد يكتفي البعض بابتسامة منها وهي لا تأبه لقتاله المرير! بقدر ما تأبه لما قدم لها!

ولذلك (التزيين) عرف سابقا وحديثا للمرأة، ولكن لا يعني هذا أنها لا ترغب أن ترى الرجل وهو غير متزين ومتهيئ لها.. بل على العكس ربما تكون أشد رغبة من الرجل في أن ترى شريك حياتها قد تزين وتهيّأ لها؟! لأن من يظهر الجمال أشد رغبة في طلبه.

فتلك حقيقة قد نبهت لها العترة الطاهرة عليهم السلام وبيّنت أثرها في العلاقة الزوجية، وحفظها من الانهيار.. بل من حفظ المرأة نفسها وصون كرامتها وعفتها فكانوا عليهم السلام دعاة للصواب بأعمالهم، وممارساتهم الحياتية، كي يتعلم الناس منهم نظم الحياة الأسرية، وقد ورد عنهم في هذا الخصوص شواهد كثيرة، منها:

1 - عن ذروان المدائني، قال:

«دخلت على أبي الحسن الثاني عليه السلام(1)، فإذا هو قد اختضب(2)، فقلت: جعلت فداك قد اختضبت ؟! فقال:

«نعم إن في الخضاب لأجرا.. أما علمت أن التهيئة تزيد في عفة النساء، أيسرك أنك إذا دخلت على أهلك فرأيتها على مثل ما تراك عليه، إذا لم تكن على تهيئة ؟!».

ص: 114


1- المراد به الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام.
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص 79؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 73، ص 100.

قال: قلت: لا، قال عليه السلام:

«هو ذاك»(1).

2 - عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«النساء يحببن أن يرين الرجل في مثل ما يحب الرجل أن يرى فيه النساء من الزينة»(2).

3 - عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام وهو مختضب بسواد، فقلت: جعلت فداك قد اختضبت بالسواد؟ قال:

«إن في الخضاب أجرا، إن الخضاب والتهيئة مما يزيد في عفة النساء، ولقد تترك النساء العفة لترك أزواجهن التهيئة لهن»(3).

4 - عن عبد الله بن مسكان، عن الحسن الزيات البصري، قال:

(دخلت على أبي جعفر عليه السلام أنا وصاحب لي فإذا هو في بيت منجد وعليه ملحفة وردبة وقد صف لحيته واكتحل فسألناه عن مسائل فلمّا قمنا قال لي:

«يا حسن».

قلت لبيك، قال:

ص: 115


1- الكافي للشيخ الكليني رحمه الله: ج 5، ص 567، باب النوادر؛ وسائل الشيعة: ج 20، ص 246، باب 141؛ مكارم الأخلاق: ص 79؛ بحار الأنوار: ج 73، ص 100.
2- مكارم الأخلاق: ص 80؛ بحار الأنوار للمجلسي رحمه الله: ج 73، ص 101، باب الخضاب.
3- الكافي: ج 6، ص 480، باب: الخضاب؛ من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق رحمه الله: ج 1، ص 122، باب: غسل يوم الجمعة؛ وسائل الشيعة: ج 2، ص 88، باب: 46؛ مكارم الأخلاق للطبرسي: ص 79؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 73، ص 100.

«إذا كان غدا فأتني أنت وصاحبك».

فقلت: نعم جعلت فداك.

فلما إن كان من الغد دخلت عليه فإذا هو في بيت ليس فيه إلا حصير وإذا عليه قميص غليفا ثم: أقبل على صاحبي فقال:

«يا أخا أهل البصرة إنك دخلت عليّ أمس وأنا في بيت المرأة وكان أمس يومها والبيت بيتها والمتاع متاعها فتزيّنت لي على أن أتزين لها كما تزينت لي فلا يدخل قلبك شيء».

فقال له صاحبي:

جعلت فداك قد كان والله دخل قلبي شيء فأما الآن فقد والله اذهب الله ما كان وعلمت أنّ الحق فيما قلت)(1).

5 - عن صفوان عن برير عن مالك بن أعين الجهني(2) قال:

(دخلت على أبي جعفر الباقر عليه السلام وعليه ملحفة حمراء جديدة شديدة الحمرة فتبسمت حين دخلت!

فقال:

«كأني أعلم لم ضحكت ؟ ضحكت من هذا الثوب الذي هو عليّ ، إن

ص: 116


1- الكافي للشيخ الكليني رحمه الله: ج 6، ص 44؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 5، ص 32، باب 17؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 73، ص 101، وج 46، ص 293.
2- مالك بن أعين الجهني البصري، عده الكشي رحمه الله من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وقال: هو ابن عم أعين وليس من أخوة زرارة، رجال الكشي: ص 388، برقم 216؛ رجال ابن داود: ترجمة رقم 1231، ص 282-283؛ رجال البرقي: ص 13 وقد عده من أصحاب الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام.

الثقفية(1) أكرهتني عليه وأنا أحبها، فأكرهتني على لبسها».

ثم قال:

«إنا لا نصلي في هذا، ولا تصلوا في المتبع المضرج».

قال مالك بن أعين: ثم دخلت عليه وقد طلقها! فقال عليه السلام:

«سمعتها تبرأ من علي عليه السلام فلم يسعني أن أمسكها وهي تبرأ منه»(2).

وفي هذه الشواهد كفاية في بيان ضرورة أن يتزين الرجل للمرأة، ويتهيأ لها كما تتزيّن هي له.

فضلاً عن أثر هذا الفعل في عفة المرأة، أي ميولها النفسي لغير زوجها ثم إن الأحاديث تظهر حقيقة أخرى وهي: (شدة تأثر المرأة بالحس الجمالي)، وأن هذه الظواهر الحياتية والتي تصادفها في العمل، أو في الدراسة، أو حتى في محيط الأسرة، لها أثر سلبي في حصانتها، ولاسيما إذا كانت هذه الأسرة قد تخلقت بأخلاق لم تمد بصلة إلى واقع المجتمع الإسلامي والعربي، وإن كانت تحيا في إحياء محافظة.

ثالثا: ما هي زينة فاطمة عليها السلام وكيف كانت تتزين ؟
اشارة

لم يغب عن فاطمة عليها السلام وهي تقوم بتأدية وظيفتها كزوجة الاهتمام بزينتها وتزينها لعلي عليه السلام.

ولكن الزهراء عليها السلام لم تستخدم أدوات التجميل المعهودة لدى

ص: 117


1- أي زوجته التي كانت من بني ثقيف، فالثقفية نسبة إلى قومها.
2- الكافي للشيخ الكليني رحمه الله: ج 6، ص 447.

النساء، وإن كانت بحسب عصرها بسيطة، ومقصورة على العطر والكحل وغيرهما، كما أن الاكسسوارت لم تعرف طريقها إلى بيتها! ليس بسبب عدم معرفتها بها، فقد كانت العقود والأساور والتيجان والحلق والخواتم تسحب أرتالها أين ما تحركت المرأة منذ بدء النمو المعرفي لدى الإنسان، فضلاً عن ما حمله القرآن من وصف للحلي والزينة واللباس الفاخر الذي وعد الله به المؤمنين.

فضلاً عن ذلك أن الرجال سابقا كانت تضع من القلائد والأساور ما يفوق أحيانا ما تضعه المرأة.

كل هذا لم يغب عن معرفة الزهراء عليها السلام به، كما لم يغب عن سوق مكة والمدينة سواء ما كان يصنع محليا وبخاصة لدى اليهود وحرصهم على تجارة الذهب واقتنائه، أو ما كانت تحمله قوافل التجار من مادة مصنعة خارجيا، أي: ما يرد إلى الشام من بضائع رومانية وفارسية، وما يرد إلى اليمن من بضائع أفريقية، ومنهما إلى سوق مكة والمدينة.

ولذلك: العروض من البضائع المختلفة في كل زمن متوفرة، والأذواق متعددة، والطبقية متجذرة في كل مجتمع، ويبقى الإنسان أين ما حل يطلب الجديد ويميل إلى ما هو متميز، وتبقى المرأة تواقة إلى التزيين حتى وإن اقتصر على عيدان القش كما هو حال بعض القبائل الآسيوية والأفريقية.

ويبقى السؤال مطروحاً: كيف كانت تتزين سيدة نساء العالمين عليها السلام ؟

مما لا شك فيه أن المرأة تستخدم الزينة في كل الطبقات التي تشغلها، من كونها ربة بيت أو أستاذة جامعية، أو سفيرة، أو وزيرة، أو أميرة، أو ملكة، فكل

ص: 118

واحدة منهن تتزين بحسب ذوقها وتعليمها ورتبتها الاجتماعية، ومن البديهي أن ما تتزين به من كانت ملكة ولها عرش كملكة سبأ التي وصفها القرآن بقوله:

(إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَهٰا عَرْشٌ عَظِيمٌ )(1).

أو كملكة تدمر زنوبيا، وغيرهما من الملكات والأميرات قديما وحديثا فإن ما يتزيّن به قطعا يختلف عن بقية النساء، والعلة بديهية.

ولذلك هذه البديهة في أمر التزين الذي رافق الطبقية، والرتبية بين النساء تستلزم من الناحية العقلية والذوقية أن تكون زينة سيدة نساء العالمين أيضا تتناسب مع هذه الرتبة، بل الحس الجمالي يستلزم من زينة سيدة نساء العالمين وهي بهذا الموقع أن تكون فريدة، ولا مثيل لها بين ما يتزين به النساء قديما وحديثا، وأن تقدم أمر الحداثة حتى يوم يبعثون؛ لأن هذا المقام الرفيع لم ولن يشغله غير بضعة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.

وبالفعل فقد زيّنها الله عزّ وجل بزينة تنسجم مع كونها سيدة نساء العالمين من ناحية، ومع سنخ جوهرها من ناحية ثانية.

فإليك أيها القارئ الكريم ما ورد عن أهل بيت النبوة عليهم السلام في نوع زينة فاطمة وكيف كانت تتزين لزوجها أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام.

فقد أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله عن محمد بن جعفر الهرمزاني عن أبان بن تغلب قال:

ص: 119


1- سورة النمل، الآية: 23.

(قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يا بن رسول الله لم سميت الزهراء: زهراء؟ فقال:

«لأنها تزهر لأمير المؤمنين عليه السلام في النهار ثلاث مرات بالنور، كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فراشهم فيدخل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة فتبيض حيطانهم فيعجبون من ذلك فيأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عما رأوا فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي والنور يسطع من محرابها ومن وجهها فيعلمون أن الذي رأوه كان من نور فاطمة.

فإذا انتصف النهار وترتبت للصلاة زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة فتدخل الصفرة حجرات الناس فتصفر ثيابهم وألوانهم فيأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عما رأوا فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيرونها قائمة في محرابها وقد زهر نور وجهها صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجهها.

فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس أحمر وجه فاطمة عليها السلام فأشرق وجهها بالحمرة فرحا وشكرا لله عزّ وجل، فكان تدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمر حيطانهم فيعجبون من ذلك ويأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه عن ذلك فيرسلهم إلى منزل فاطمة فيرونها جالسة تسبح الله وتمجده ونور وجهها حتى ولد الحسين عليه السلام فهو يتقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام»(1).

ص: 120


1- علل الشرائع: ج 1، ص 180؛ مناقب آل أبي طالب للمازندراني: ج 3، ص 330؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 11.
نقاط البحث في الحديث

أولا: قوله عليه السلام:

«لأنها تزهر لأمير المؤمنين عليه السلام في النهار ثلاث مرات بالنور».

1 - أي: إنها كانت تتزين له في اليوم ثلاث مرات، لكن كما أسلفنا أن هذه الزينة تختلف عن زينة كل امرأة منذ حواء زوجة آدم عليها السلام وإلى يوم القيامة، فهي زينة مادتها نورانية وأثرها نوراني ومنشأها رباني.

2 - قالوا في اللغة: (الزهرة) نور كل نبات، وزهرة الدنيا حسنها وبهجتها، وشجرة مزهرة ونبات مزهر، والزهور: تلألؤ السراج الزاهر، والزاهر والأزهر: الحسن الأبيض من الرجال وقيل: هو الأبيض فيه حمرة، ورجل أزهر، أي: أبيض مشرق الوجه، والأزهر: الأبيض المستنير.

والزهرة: البياض النير وهو أحسن الألوان، ومنه الحديث الشريف: أكثروا عليّ الصلاة في الليلة الغراء واليوم الأزهر، أي: ليلة الجمعة ويومها.

والأزهران: الشمس والقمر لنورهما، وقد زهر يزهر زهرا، وزهر فيهما وكل ذلك في البياض.

والأزهر: النيّر.

ودرة زهراء: بيضاء صافية، وأحمر زاهر: شديد الحمرة.

ومن صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزهر اللون، وزهر الشيء يزهر: بفتحتين: صفا لونه وأضاء(1).

ص: 121


1- كتاب العين للفراهيدي: ج 4، ص 63؛ لسان العرب لابن منظور: ج 4، ص 331؛ مجمع البحرين: ج 3، ص 321.

ثانيا: قوله عليه السلام:

«فإذا انتصف النهار وترتبت للصلاة زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة».

1 - قال العلامة المجلسي رحمه الله في بيانه للحديث: إن المراد من (ترتبت)، أي: ثبتت في محرابها كما في اللغة أو تهيأت في الترتيب العرفي بمعنى جعل كل شيء في مرتبته ويحتمل أن يكون تصحيف تزينت(1)، انتهى كلامه رحمه الله.

2 - وهذه حالة خاصة بفاطمة عليها السلام فقد ورد في وصف الأئمة كعلي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام أنه إذا تهيأ للصلاة كان يرتعد ويتغير لون وجهه فسأله سائل عن ذلك، فقال للسائل:

«ويلك بين يدي من أقف»(2).

ومن قبله كان جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كذلك فإذا أذن المؤذن لم يعرف أهلا ولا حميماً، أما أمير المؤمنين علي عليه السلام فكان يغمى عليه في مناجاته لربه.

أما فاطمة عليها السلام: فإنها إذا حان وقت الصلاة ثبتت و (الثبوت) لا يكون إلا في حالة الاستقرار والطمأنينة وهما لا يتحققان إلا بذوبان الذات في العبودية كالماء الذي علقت فيه الشوائب فإنه لا يصفو حتى يستقر ويثبت فإن تم ذلك ظهر صفاؤه وزهر لونه.

ثالثا: تنقل النور من اللون الأبيض إلى اللون الأصفر ثم إلى الأحمر يشير إلى الحركة الدورانية للنور الفاطمي، فالشمس وهي عمود الحياة قبل شروقها

ص: 122


1- البحار: ج 43، ص 12.
2- ينابيع المودة للقندوزي: ج 3، ص 105.

يسبقها ظهور اللون الأبيض، وعند الزوال يكون شعاعها أصفر وعند الغروب يكون أحمر، وهو يشير بذلك إلى تنقل مجاميع الفيض الإلهي، وهم المدبرات أمرا عليهم السلام لذلك النور.

فكما أن الشمس هي السبب الذي جعله الله عزّ وجل لمد الأرض بالحياة، كذلك نور الإمامة جعله الله السبب الذي تقوم به الأرض، ولذا ورد في الحديث الشريف:

«لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها»(1).

ولذلك:

«لم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين عليه السلام فهو يتقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام».

كما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام.

ص: 123


1- مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي: ج 5، ص 278.

ص: 124

الفصل الثاني: فاطمة عليها السلام الام

اشارة

ص: 125

ص: 126

المبحث الأول: الأمومة

اشارة

الأمومة.. هي من أسمى المعاني التي تدل على شخص المرأة، والأمومة.. هي حاضنة الحياة بكل أجناسها.. وهي دور من أدوار الرقي الإنساني تسمو بسمو المرأة، وتنحدر بانحدارها.

ولذا.. طاب المحتضن بطيب حاضنته.. يكفيك من ذاك دليلا من احتضنه حجر فاطمة عليها السلام(1).

وقد اختلفت الثقافات في رسم صورة الأم وتحديد أبعادها واختيار ألوانها، ومن بين هذه الثقافات برزت الثقافة الإسلامية التي أعطت صورة رائعة للأم، فهي ما بين الرتبة الشرعية وما يرتبط بها من أحكام وحقوق، وبين الرتبة الاجتماعية التي تكونت لها من خلال الكم الهائل الذي نطقت به تراجم الوحي، وهم العترة النبوية عليهم السلام، انطلاقا من قول معلم البشرية صلى الله عليه وآله وسلم:

«الجنة تحت أقدام الأمهات»(2).

ص: 127


1- قدم الإمام الحسين عليه السلام للإنسانية حقيقة ودور حجر الأم وأثره في تكوين الشخصية عندما خيّر يوم عاشوراء بين القتال والموت أو الاستسلام والذلة، فرد على هذا الخيار قائلا: ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله وحجور طابت وطهرت.
2- ميزان الحكمة لمحمد الريشهري: ج 4، ص 367؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 7، ص 4.

المسألة الأولى: الأمومة في المنظور السيكولوجي

إن الدراسات المعاصرة في العلوم النفسية والاجتماعي قد أولت الأمومة حيزاً كبيرا من البحث والاستنتاج (فالأمومة في سيكولوجيا المرأة تعد المرحلة الخطيرة في حياتها؛ لأنها فرصة رائعة لها كي تحقق شعورها المباشر بالخلود.

إنّ وظيفة المرأة التناسلية ليست عملية فردية ومتكررة بل هي تنطوي على شعور باطني في نفس المرأة يشعرها بأنها القطب المبدع في الإنسانية، القطب الذي يحقق ظفر الحياة على الموت دائما، وليست الأمومة بالمرحلة البيولوجية الصرفة، بل هي تنطوي على وحدة بسيكولوجية مليئة بالذكريات والرغبات والمخاوف تتجمع قبل مرحلة الأمومة بكثير)(1).

فروح الأمومة: تعني فكرتين.. الأولى: مجموعة المميزات الخاصة التي تطبع شخصية المرأة، والثانية: الحوادث المثيرة التي تحرك المرأة عند رؤيتها لطفلها وشعورها بضعفه.

ومنذ البدء نستطيع أن نقول أن ضعف الطفل هو الموجه الأول في نفسية الأم بمقدار ما يتحرر الطفل من حاجة أمه إليه، فتغير نفسية الأم وتعود إليها الروح النرجسية.

ذلك أن الأمومة تقتضي قبل كل شيء تخلي الأم عن كثير من أنانيتها، أما الأمهات اللواتي تحررن من الروح النرجسية فإنهن يعطفن عطفا طبيعيا على أولادهن وينتظرن الساعة التي يكبرون فيها ويتحررون من حاجتهم إلى الأم.

ص: 128


1- سيكولوجيا المرأة لهيلين دوتش: ص 44.

والواقع أن هذه الغبطة تقف إلى جانب العذاب الذي تعانيه المرأة في رعاية طفلها فالأم السوية تنظر إلى عذابها وأفراحها نظرة المتقبل الراضي لأن (الأنا) فيها تعبر بالعذاب والفرح عن فعاليتها وتكونها تبدو لنا مثل هذه الفعالية في حرص الأم على طفلها.

وقد ينقلب هذا الحرص عند بعض النساء إلى سلوك قاس شرس وهذا يذكرنا بتلك الشراسة التي تبديها أنثى الحيوان في النضال لكي تؤمن مكانا وغذاءً لصغارها ولكي تحميها.. ولعل هذا الدافع هو الذي جعل العلماء يعدّون غريزة الأمومة أقوى الغرائز في المرأة، والواقع أن غريزة الأمومة والحب الأمومي هما عنصران يختلفان في نفسية الأم، فالغريزة هي ذات أصل بيولوجي وكيمياوي وبينما الحب عند الأم يعدّ تعبيرا مباشرا للعلاقات الإيجابية مع الطفل.. ولذا فإن ملامح هذا الحب تبدو لنا يسمونه (الحنان).

والواقع أننا مطالبون منذ البدء بأن نفرق بين الناحيتين العاطفية والبيولوجية في حياة الأم وهذا التفريق يدفعنا إلى أن نلتمس في كل من العنصرين (غريزة الأمومة والحب الأمومي) فرقا أيضا، وهذا يدفعنا إلى أن نعد فروقا كبيرة بين الغريزة الجنسية التي تلعب فيها العاطفة دورا كبيرا، وبين غريزة التناسل التي تعدّ شيئا بيولوجيا محضا، والواقع أن اكتفاء الشهوة الجنسية هو الهدف المباشر لهذه الغريزة وليس التناسل إلا نتيجة للفعل الجنسي، وهذه الصفة التي تتصف بها الحاجة الجنسية تجعلنا نعدّ لها هدفا آخر: هو حفظ النوع، وحفظ النوع هو شيء يأتي بعد الحماية الجنسية أيضا، فكثيرا ما نلمس في بعض النساء يجعل شعورهن بالتناسل وبالأمومة وحفظ النوع شيئا لا وجود

ص: 129

له، وعلى الرغم من هذا فإن لغريزة حفظ النوع والتناسل أثرا كبيرا في الحاجة الجنسية.

فعلم البيولوجيا يرينا أن بعض الحيوانات تعدل حاجتها الجنسية وفق غريزة حفظ البقاء، وكثيرا ما تخفق شهوة الأنثى عندما تحمل، كما أننا نلاحظ أن الأنثى تتعرض لنفس الشيء أثناء الرضاعة وهذا يدفعنا إلى أن نلمس عناصر فكرية وروحية في هاتين الغريزتين في الأم، الغريزة الجنسية وغريزة حفظ البقاء أو التناسل.

على أن روح الأمومة وعلاقتها بالناحية الجنسية تخضع لكثير من التعقد، ولذلك فإن أول ما نلاحظه في بعض سمات هذه العلاقة هو أن هناك نساء لا يحملن نزعة جنسية ولا عاطفة الأمومة، كما أن هناك أخريات يحملن قوة في كلتا النزعتين، كما أن هناك نماذج كثيرة من الاختراق ما بين هاتين النزعتين، فثمة امرأة تحب زوجها ولكنها تحجم عن الاتصال به لمجرد تصورها أنه قد لا يكون أبا صالحا لأبنائها.. كما أن بعض النساء يفكرن بالناحية الغريزية أكثر من الأمومة.. والمرأة السوية هي التي تتحقق لديها في شخص زوجها حاجتها الغريزية ونزعتها إلى الأمومة، وبذا نستطيع أن نقول: إن هناك محذورا عن سيطرة ناحية من هاتين الناحيتين على حياة الأم، وهذه السيطرة تتعلق بلا شعور المرأة)(1).

(وقد صور بلزاك في كتابه (ذكريات متزوجة) نفسية امرأة كانت تشعر بفظاعة وجودها لأنها لم يكن لها أولاد وكانت تشعر بأن المرأة إنما وجدت لتكون

ص: 130


1- سيكولوجيا المرأة لهيلين دوتش: ص 44-45.

أما، كانت تقول: إن أفكارا رهيبة تمتلكني تتمثل في هذه الفكرة: (ألا يتاح لي كائن حقير يدعوني أما له).

بينما كانت امرأة أخرى تشعر بأن المرأة: (إنما هي كائن وجد من أجل الحب فقط)، وكانت تقول: (لا شيء يعدل ملذات الحب) على أن السبب الرئيس في وجود هذا الفاصل بين هاتين النزعتين هو حب الأم لطفلها هذا الحب الذي يعدّ مزاحما لحبها للرجل.

وتصور لنا كثير من الروايات أقاصيص عديدة عن نساء كان فيهن صراع بين حب الأب وحب الولد، هذا الصراع الذي يكون كثيرا من الكوارث، ولكن الدافع الداخلي لحب الطفل هو حب الأم لنفسها وتعلقها بفكرة الخلود عن طريق التناسل، وهذا الحب هو بحد ذاته فرار وخوف من قبل المرأة من أن تنتقص قيمتها، على أن النساء اللواتي يعشن في حالة طبيعية يظهرن عاطفة الأمومة على نحو واحد، فمنهن من تتحول فيهن عاطفة حب الابن إلى عاطفة مجردة، وبذلك تكون الأم قد تعرضت لنوع من فقدان الشخصية، فيما يتعلق بأمومته، وأما النوع الآخر فهو الذي يحس بأن هذا النوع من العاطفة مفقود عنده.

والخلاصة:

أن الشروط المادية لحياة المرأة والوسط الاجتماعي، والتجارب السابقة واللاحقة توجد عند مختلف نماذج النساء اختلافات فردية كما أن علاقة المرأة بزوجها وأسرتها والوضع الاقتصادي وتأثير علاقتها بطفلها كل هذا يفرض على روح الأمومة في المرأة طابعا شخصيا)(1).

ص: 131


1- سيكولوجيا المرأة لهيلين دوتش: ص 45-47.

المسألة الثانية: متى تبدأ المراحل الأولى للأمومة عند المرأة ؟

تتناول الباحثة هيلين دوتش مراحلة الأمومة بقولها: (تبدأ المراحل الأولى للأمومة عند المرأة منذ شعورها بأنها قادرة على التناسل، وتبدأ نفسيا هذه المرحلة - أي: مرحلة الشعور بالقدرة على التناسل - عندما تشعر المرأة بأن (الأنا) فيها لا تزدهر وتتضح إلا في تحقيقها للأمومة، فثمة انفعالات كثيرة ترافق هذه المرحلة وتسمح (للأنا) بأن تحل مشكلات كثيرة ولم تكن تستطيع حلها من قبل، ويبدأ هذا بفهمها لكثير من المشاكل الجنسية التي لم تكن تعرفها وبذلك - تكون النتيجة النفسية الأولى لهذه المرحلة: تخلص المرأة من الهموم الكثيرة التي كانت تملأ نفسها قبل هذه المرحلة - أي: مرحلة الشعور بالقدرة على التناسل.

ومنذ دخولها في هذا الطور تشعر بالضعف والاستقلال بنفس الوقت ويغمرها شعور بالألم ونزعة إلى الشر. إن جميع هذه المشاعر تكون في البدء في اللاشعور وهي على الرغم من أنها تكون جانبا كبيرا من الغنى في نفس المرأة فهي تسبب كثيرا من الاضطرابات في نموها السيكولوجي، ولابد لنا لكي نفهم هذه المراحل بدقة من أن نربط مرحلة الأمومة بالناحية الجنسية فالواقع أن التغيير الأول لمرحلة الأمومة ينشأ من أن تتوجه نفسية المرأة وفاعليتها إلى الولد فهي منذ أن تتوضح أمامها هذه الغاية تتغير أشياء كثيرة في نفسيتها وهذا التغير يتمثل في تخيلاتها الكثيرة وفي نظرتها إلى علاقتها الجنسية مع الرجل... وبذلك نستطيع القول إن عناصر شتى فكرية وعاطفية وانفعالية تدخل في نفسية المرأة في هذا الدور الأول(1).

ومن أول مظاهر هذا التحول (تحول الرغبة) في المرأة في أن تكون رجلا إلى

ص: 132


1- المصدر السابق.

رغبة في أن تكون مع طفلها كائنا واحدا، وهذا يعبر عن نزعة ديناميكية قوية في نفسيتها ونتيجة ثانية تنتج عن هذا التحول هي هذا الانتقال في عواطف المرأة من النزعة الانفعالية إلى نشوء النزعات الفعالة فتشعر المرأة بأنها قد أصبحت شيئا يستطيع أن يولّد.

ولا ريب أن شعورا كهذا يلعب دورا كبيرا في نفسيتها، وبذلك فإن النساء كثيرا ما يقوين في نفوس بناتهن هذه الروح الفعالة باعتبار أنها شيء يعزيهن كثيرا كأن تقول المرأة مثلا لابنتها: حقا إنك لست رجلا ولكن سوف يكون لك طفل.

(وبذلك تغذي في نفس المرأة شعورا عميقا بالاكتفاء) ولكن هذه المراحل التي تبدأ فيها العقد النفسية عند المرأة تعد بالفعل مرحلة ما قبل الأمومة وهي تنمو وتنحل ضمن إطار ما يسمونه عقدة (أوديب) ذلك أن الأب هو العامل الأول الذي يعيض بشكل فعال في نفس الفتاة، وصفة الرجولة في الأب هي التي تجعل له هذه الأهمية. ومن هنا نستطيع أن نفهم من اعتبار الفتاة لأمها عزيمة لها منذ أن ينبثق في نفسها شعور الأمومة.

أما المرحلة الثانية من هذا التهيؤ للأمومة فهو يرجع إلى مرحلة المراهقة، والواقع أن الأخلاقية - في مرحلة المراهقة - تكون لا شعورية في نفس الفتاة ولكنها تؤثر كثيرا في إعداد نفسية الفتاة للأمومة، والذي يلعب الدور الحاسم في هذا الإعداد هو الحيض، والحيض يلفت نظر المرأة إلى جسدها فتشعر بحاجة كبيرة إلى - الاهتمام - ببعض النواحي في جسدها وتربط ما بين هذا - الاهتمام - وبين استعدادها لأن تكون أما.

والفتاة تحتاج إلى وقت كثير لكي تتحرر من الترسبات النفسية التي تجد لها في

ص: 133

نفسها عقدة (أوديب) المرتبطة بما هو جنس فيها ومنذ أن تتحرر من هذه العقدة تكون قد وضحت لنفسها حقيقة الانفصال بين الناحية الجنسية والأمومة..

وتختلف النساء اختلافا كبيرا في هذا التحرر فبعضهن يتعرضن لازمات كثيرة قبل أن يستطعن ذلك، أي: قبل أن يشعرن بوظيفتهن الحقيقة كأمهات على أن هناك عددا من النساء لا يلبث فيهن هذا التحرر متأخرا حتى أنهن في كثير من الأحيان يتزوجن وينجبن أولادا دون أن يستطعن التفريق بين كونهن نساء يعدن الناحية الجنسية وسيلة للذة أو يعدنها وسيلة للتناسل.

على أن هذه الأشياء كلها تقودنا إلى فكرة بسيطة وهي أن مراحل ما قبل الأمومة بكل ما فيها من اضطرابات بيولوجية ونفسية إنما تنتهي بأن تكوّن نفسية أم كاملة تقدر مسؤوليتها.. وبذلك فإننا نستطيع أن نقول: إن ما امرأة إلا وتكون عندها قابلية للأمومة.. ولكن هذا لا يعد نفوسهن لأن يكن غيريات مع عدم التضحية بأنانيتهن وذلك بتخلصهن من الاضطرابات التي يكونها الجهل في هذه النفوس...)(1).

ولكن.. لا يمكن أن تكون هناك امرأة كنموذج حي للأمومة غير الزهراء عليها السلام، والعلة في ذلك: هو أن المعد لها كأم هو الله عزّ وجل بمقتضى قوله في آية التطهير:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2).

وهذه الإرادة الإلهية اقتضت أن تكون الزهراء عليها السلام أماً للأئمة وهم

ص: 134


1- سيكولوجيا المرأة للدكتورة هيلين دوتش: ص 47-48.
2- سورة الأحزاب، الآية: 33.

ثقل القرآن وحجج الله على الخلق، ولذا ورد في كناها (أم الأئمة) و (أم الأنوار).

وثانيا: ليس للجهل موضعٌ في شخصية الزهراء عليها السلام وهي المصطفاة من الله تعالى كما اصطفى مريم عليها السلام.

(يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ )(1).

وهي المتعلمة في مدينة العلم وأكمل الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك: لا شيء اسمه (اضطرابات نفسية)، بل اطمئنان وسكينة، وهي الواضعة لحدود وشكل المرأة الغيرية، والذاتية، لأن لفظ (الأنانية) وإن كان يعطي مفهوما سلوكيا إيجابيا بحسب ما أرادته الباحثة في علم السيكولوجيا، بقولها: (إنّ هناك فتيات يعدن نماذج حية للأمومة، وهنّ اللواتي يستطعن أن يعددنَ نفوسهنّ لأن يكنّ غيريات مع عدم التضحية بأنانيتهن، وذلك بتخلصهن نهائياً من الاضطرابات التي يكونها الجهل في هذه النفوس)(2).

إلا أن هذه النظرية لا يصح استخدامها في الإشارة إلى سيدة نساء العالمين عليها السلام لأنها تعطي أيضا مدلولا سلبيا.

ولذا أشرت إلى لفظ (ذاتية) أي: إشارة إلى محافظة الزهراء عليها السلام على ذات المرأة إثناء دورها كأم.

فهي (غيرية) لأولادها، و (ذاتية) لنفسها كامرأة، وبذلك يكون دورها ك - (أم) هو الأنموذج الحي للأمومة في الوجود الإنساني.

ص: 135


1- سورة آل عمران: الآية 42.
2- الدكتورة هيلين دوتش في كتابها: سيكولوجيا المرأة، ص 48.

المبحث الثاني: حملها بالإمام الحسن عليه السلام

اشارة

تعد ولادة الإمام الحسن عليه السلام الظاهرة الأولى للأمومة في بيت فاطمة عليها السلام وحينما نقول بيت فاطمة فهذا يعني أننا نتحدث عن بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي فما بيت فاطمة إلا بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الرسالي الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه.

إلا أننا ونحن نخوض غمار البحث في بيت (فاطمة الأم) فلابد أن نعرج أولاً إلى تلك المباحث في العلوم النفسية والفايسولوجية والاجتماعية لمعرفة ما توصل إليه المختصون ولو إجمالاً في تأثيرات الحمل والولادة على نفسية المرأة وانعكاسات ذلك على سلوكها في الحياة، وبما أننا نتحدث عن شخصية رسالية ومصطفاة من قبل الله تعالى فلابد أن نعيَ تلك التأثيرات التي ترافق حالة الحمل وانعكاساتها على شخصية المرأة الأنموذج كي نستمد الدروس والحكمة منها في تعاملاتنا وسلوكياتنا الحياتية.

ص: 136

وعليه: بدأت أولاً ببيان رأي أهل العلوم النفسية والاجتماعية في هذا الخصوص قبل الإشارة والحديث عن الجانب الروائي.

المسألة الأولى: مرحلة الحمل

تعدّ مرحلة الحمل من أهم المراحل التي تحدد نمط وهيكلية شخصية المرأة، وهي المحطة التي يتم فيها الانتقال من عالم الفردية والركود إلى عالم التعددية والتجديد والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني.

والحمل تتدخل فيه عوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية، وإن كل عامل من هذه العوامل له آثاره التي يتركها على المرأة (وقد أثبت الطب الحديث أن حادثة الحمل في الواقع هي حادثة اضطراب جسدي في حياة المرأة ولكنها تعبر عن فعالية داخلية في نفسيتها، ذلك أن الميول السيكولوجية تسلك فعالية كبيرة قد تؤثر في هذه الحادثة تأثيرا حاسما، وقد بين الطب الحديث أن الناحية السيكولوجية قد تسبب العقم للمرأة كما أنها تسبب كثرة النسل)(1).

المسألة الثانية: الآثار النفسية والاجتماعية لحادثة الحمل

ألف: الآثار النفسية

إن الآثار النفسية الأولى لحادثة الحمل تبدو بشكل واضح في محاولة المرأة لإخفاء كل شيء عن حادثتها الجديدة، فهي تعدّ جميع هذه الأمور خاصة بها وسرية وذلك يعيد إلى ذاكرتنا موقف الفتاة من نفسها ومشاكلها في زمن (المراهقة)

ص: 137


1- بسيكولوجيا المرأة، لهيلين دوتش: ص 49-50.

الزمن الذي نستطيع أن نسميه (بالسري) لكثرة ما تضم فيه الفتاة من أسرار وألغاز حول النواحي العاطفية في حياتها.

وسبب هذه النزعة الجديدة في حياة المرأة هو ذلك التنازع الخفي بين ناحيتين في حياتها ولا ريب أن غريزة حفظ النوع هي الغالبة في كل حين ولكن أثر هذا الصراع لا يلبث قويا في المراحل الآتية لنفسية المرأة.

فثمة اتجاه داخلي إلى نفسية المرأة تتوجه فيه بكليتها إلى خلق توازن وعندئذ تسيطر الجوانب النفسية على حياتها ويبقى الخيال الموجه الأول في تصرفاتها وحتى الطفل يظل في نظرها كائنا خياليا تولده فعالية نفسها وعندما تقترب المرأة من تحقيق هذا الخيال يقوى الدافع النفسي فيها وتصبح جميع عواطفها الثانية شيئا ثانويا بالنسبة لحياتها ذلك أن نزعتها إلى التوحيد ما بين نفسها وولدها تظل على قوتها.

وهنا: يبدو لنا هذا الحنين الأبدي في النفس الإنسانية على التوحيد ما بين (الأنا واللاأنا) هذا الحنين الذي يعد الرغبة العميقة إلى أن يجد الإنسان أحلامه متحققة في الآخر.

وهنا تبدو لنا ناحية جديرة بالاهتمام: هي أثر الأماني والأحلام في تكوين الطفل وكثيرا ما تبدو لنا المرأة وهي تنسج من خيالها طفلا نموذجيا يحمل جميع الصفات الحسنة التي تحلم بها، وهكذا فإن من أبرز صفات الأمومة في هذا الدور والحمل هي مثل هذه الأحلام، ولعل خوف المرأة من أن لا يكون عندها أولاد يرجع إلى خوفها من عدم تحقيق هذه الرغبة، ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الصفات تحتاج إلى كثير من المساعدة التي تنشدها الأم في أمها، وهنا يدخل في دور

ص: 138

الحمل عنصر جديد هو ما نسميه عنصر الجدة بالنسبة للطفل الذي سيولد.

والواقع أن (الجدة) (أم الأم) تلعب دورا كبيرا في نفسية الأم الحامل وتؤثر في اتجاه نمو طفلها، ويأتي هذا التأثير عن طريق التربية النفسية التي توصيها الأم لابنتها.. وكثير من النساء تؤثر فيهن هذه التربية تأثيرا كبيرا، فمنهن من تكون مؤمنة تتوجه إلى الله دوما لحماية طفلها.

ومنهن من تكون ملحدة فهي ترغم أمام المهمة الصعبة التي أمامها إلى أن تتوجه إلى قوة تساعدها في هذه المهمة.

وعلى كل فإننا نستطيع أن نجد في جميع هذه الحوادث نوعا من الصراع بين (الأنا النرجسية) أي: (شخصية المرأة)، وبين إعطائها نفسها لطفلها.

ولكن هذا الصراع لا ينكشف بشكل سافر إلا بعد الولادة، فالمرأة ما تلبث أن تشعر بعد الولادة بأن لها الحق أن تطمئن نزعاتها الأنانية، فهي ما تنفك تقول: إنني أنا أم هذا الولد كثيرة في الحياة اليومية توضح لنا مظاهر هذا الصراع الذي يورث المرأة اضطرابا كثيرا في حياتها.

على أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فالمرأة عندما تنتهي من إنهاء علاقتها بطفلها تقع في مشكلة جديدة هي علاقاتها مع زوجها، وهنا يبدو لهذه العلاقة أثر كبير في الحمل نفسه، فإذا كانت العلاقات طيبة كان نمو الطفل الجنين سليما، وكان مثلث الصداقة الذي أشرنا إليه، - أي: (الأم وطفلها وزوجها) - هو الذي يخيم على الحياة العائلية.

وهكذا فإن مثل هذه العلاقات تعزز في نمو الطفل العناصر السليمة،

ص: 139

والعكس صحيح، فالعلاقات إذا كانت سيئة بين الأم والأب تسيء إلى نمو هذا الولد.

كما أن طبيعة المرأة في اقبالها على المجتمع، أو عزوفها عنها تؤثر كثيرا في نفسيتها أيضا.

ذلك أن سلوكها الاجتماعي إما أن يستنفد كثيرا من قوتها أو يسبب لها نوعا من الهم والضيق، ذلك أن رغبتها الاجتماعية تتجسم بشكل واضح في محاولتها تلبيث رغبات (الأنا) في أن تكون شيئا في المجتمع، فهي تشعر بحقها في أن تكون شيئا بعد أن تعذبت وأشرفت على أن تعطي المجتمع مولوداً جديدا.

أن نضالها في سبيل توكيد شخصيتها على هذا الشكل يعدّ مرحلة هامة من حياتها النفسية وأول شكل لهذا النضال يتجسم في اعتدادها بنفسها.

وثمة ظاهرة غريبة في النساء تبين لنا مدى ضعف ارتباط المرأة بطفلها أمام ارتباطها بتوكيد ذاتها على هذا الشكل فكثيرات يقلن: (نعرف أن عندنا أطفالا، وهذا يسعدنا، لأننا أردناهم)، كما أن بعضا منهن يشعرن بالطفل كأنه شيء دخيل عنهن.

تقول إحدى النساء: إنني أشعر أن ولدي هو مرن دائم الانشغال في أحشائي خلال الشتاء وأنه ليس إلا من أجلكم.

وهكذا فإننا نرى أن اضطرابات نفسية شتى تدخل في حياة المرأة عقب الحمل وتسبب لها اضطرابها وتمثل في شكل واضح، وفي تلك الحالات المرضية التي تتعرض لها بعض النساء عندما يشعرْنَ بانفعال نهائي بينهن وبين أطفالهن، فتقول

ص: 140

إحداهن مثلا: كيف تريدون مني أن أحب كائنا لم يوجد بعد.

ولكن الحمل بصورة عامة يتصف بأنه المرحلة الخطيرة التي تتركز فيها عواطف المرأة في نقطة وحيدة هي (الأمومة) وعلى الرغم من جميع مظاهر الأمراض العصبية التي تتعرض لها حياة المرأة النفسية في هذا المجال فإن شيئا أساسيا يظل حقيقة هو: (أن عاطفة الأمومة تزداد نموا واتساعا في عملية الحمل)، ومهما كان وضع المرأة حاملا أم غير حامل، تكره الأولاد أو تحبهم، فإن المحرك الأساسي في عواطفها لا يلبث ما نسميه بعاطفة الأمومة.. وفي الواقع إن كل امرأة تستطيع أن تشعر شعورا كليا بعاطفة الأمومة حتى ولو كانت لم تحمل ولم تعرف ولدا وتعييني أن ذلك يرجع إلى غريزتها وإلى بنيانها الفيزيولوجي(1).

باء: الآثار الاجتماعية

لعل التشاريع الكثيرة التي جاء بها المصلحون، والأديان من أجل التفريق بين المرأة العقيم والمرأة الولود إنما كانت لتعبر عن محاولات دائمة لصيانة اتجاه المرأة الغريزي اتجاه الولد.

كما أن حفظ النوع بحد ذاته يؤثر تأثيرا كبيرا في تفسير هذا الاتجاه، كما أن فكرة الخلود هي التي تعمل أيضا عملها في انضاج غريزة الأمومة، فالأديان والعادات في كثير من الشعوب تعد المرأة التي لا أولاد لها كائنا منحطا ولا تقيم لها قيمة أو وزنا إلا عندما تصبح أما، كما أن جميع الأمم تقريبا تعدّ المرأة المسؤولة الوحيدة عن العقم.

ص: 141


1- المصدر السابق: ص 56-57.

ففي الشعوب الابتدائية ينظر إلى هذه المرأة على أنها ملعونة، وفي الشعوب الراقية تتهم بأنها مريضة (عاجزة).

أن تاريخ المدنيات والحضارات تعلمنا أن عقاب المرأة العقيم كان رهيبا جدا فقد كانت تحتقر ويسخر منها، وترفض؛ وعند اليهود - وبعض المسلمين - كان العقم يمكن أن يكون من أسباب الطلاق، وفي بعض القبائل الأفريقية وهنود أمريكا تطرد المرأة التي لا أطفال لها، وقلما يحدث الطلاق لهذا السبب، وفي كثير من الشعوب تحترم المرأة حسب ما يكون لها من أولاد، ولاسيما من ذكور، ولكن في عصورنا الأخيرة نرى أن كثيرا من هذه المسؤولية قد خف عند المرأة إذ أصبحت الضرورات الاجتماعية والحرية الشخصية لتعقيد المجتمع مخففة إلى حد كبير من الضغط على المرأة العقيم.

ذلك أن المجتمع أصبح يرجع أسباب العقم إلى حياة المرأة الفيزيولوجية وإلى الظروف الاقتصادية وحالة المجتمع وغير ذلك، وهذا كما يلاحظ يعد معززا لبقية الروح النرجسية في المرأة فكثير من النساء أصبحن يفتخرن بأنهن بدون أولاد ولاسيما في الطبقات الراقية وأصبحن يملن إلى حياتهن الخاصة وإلى تحقيق غرائزهن.

وبذلك نستطيع أن نقول إنهن حاولن تصعيد عاطفة الأمومة ولكن أية محاولة من هذا النوع تعد فاشلة حتى عند أولئك اللواتي كانت لهن موهبة اجتماعية كبيرة قوية(1).

ص: 142


1- المصدر السابق: ص 56-57.

المسألة الثالثة: العلاقة بين نفسية الأم ونفسية الجنين

أن تطور العلوم النفسية أدت إلى استقلال مادة بحثية متخصصة في نفسية الجنين وهو في بطن أمه، فقد أصبح اليوم وضع دراسات تعنى بنفسية الجنين وما يطرأ عليها من تغيرات بحسب تأثير العوامل الخارجية الواردة على نفسية الأم، إضافة إلى ما يحمله الشريط الوراثي لهذا الجنين.

(إن مجموع ما يتكون لدى الجنين من إحساسات أولية، وخبرات جسدية ونفسية تجعل العلماء يرون: أن الجنين يحيا حياة تامة وهو في بطن أمه، وإنه حين يولد يكون قد قطع شوطا كبيرا من النضج يساعده على متابعة حياته المستقلة، كما يساعده على متابعة وظائفه المستقبلية، وهو عندما يغدو إلى هذا العالم لا يواجه عالمه كما لو كان غريبا عنه ويجهله، بل هو يتابع خبراته التي تكونت عنده وهو جنين)(1).

ويقول (توما فرين)(2): إن بدء التطور في حياة المولود يعود إلى ما قبل الولادة وهو جنين وإلى بعد الولادة أيضا، وأن عملية الولادة في حد ذاتها ما هي إلا مجرد فاصل (يتم فيه الانتقال من بيئة إلى أخرى)(3).

(ولم يكن يخطر على بال الناس أن هناك ارتباطا بين الواقع النفسي للجنين والواقع النفسي للأم الحامل، لكن الدراسات أثبتت بما لا يدع المجال للشك في أن

ص: 143


1- سيكولوجية الأمومة ومسؤولية الحمل لعدنان السبيعي: ص 149.
2- مؤلف كتاب خفايا وأسرار حياة الجنين.
3- سيكولوجية الأمومة للسبيعي: ص 150.

حياة الأم النفسية هي المنبع الأول لكل ذاك الثراء النفسي الذي سوف تحتويه نفسية المولود من مشاعر وتعلقات وميول واتجاهات.

لقد ثبت أن شخصية الجنين تتكون اتجاهاتها وملامحها بدءا من الشهر السادس من ساعات تخلقه، وفي هذا الشهر تبدأ سمات المحبة أو الكراهية والاستعداد للكآبة والخوف أو الهلع يتكون ويتفتح)(1).

ولذلك:

فإن ما تمر به الأم أثناء مرحلة الحمل لا يترك أثره فقط على نفسيتها بل هو كذلك له أثره على نفسية الجنين، وأن ما تحاط به الأم من شعور عاطفي يبذله زوجها من الحنان والحماية لها وهو ما يعرف ب - (الأمن الاجتماعي الداخلي) سيحدد نمط شخصية الجنين وسيساعد الأم على ازدهار الأنا فيها.

ونحن ومن خلال ما ننهله من دروس وقواعد حياتية من بيت الزهراء عليها السلام، فإن كل هذه النقاط التي أثبتتها الدراسات فيما يفرضه حالة الحمل والولادة على شخصية الأم ووليدها كانت قد رسمت في بيت فاطمة عليها السلام؛ بل نستطيع القول وبكل ثقة إن هذه الأسس الصحية والحقائق العلمية كانت ولم تزل تصدر عن ذلك المرجع العظيم.

إلا أن انشغال الباحثين بمواكبة ما ظهر من أبحاث ودراسات ميدانية وعينية ومن خلال البحث والتقصي جعلهم يواكبون هذه الدراسات، ولعل لذة البحث تشغل الباحث عن الالتفات إلى المرجع الأول للحقائق الحياتية وهو القرآن

ص: 144


1- المصدر السابق.

الكريم، أو أن جبروت العقل عند البعض لا يرضخ مباشرة لما هو ثابت في مكنون الكتب السماوية، وإن كان قلب المؤمن موقناً بما حوته هذه الكتب سواء ما ظهر منها على أيدي أهلها أو ما لم يظهر.

ولذلك: لم يتحقق لامرأة ما تحقق لفاطمة عليها السلام من عناصر سلامة الحمل وصحته بدون أدنى مجال للشك، وكيف لا وهي في بيت والدها سيد الخلق وزوجها سيد الوصيين، وهي سيدة نساء العالمين، وهذه الصفات وإن كانت تحمل المقام الأقدس، لكن هي في الواقع تحمل جميع عناصر الكمال الإنساني، أي: إنهم يمثلون جميع نظم الحياة، والنظم الحياتية لا تحدث إلا في حالة التمسك بالحدود التي شعرها الله عزّ وجل.

وعليه:

كان حملها يسير ضمن تلك العناصر المتناهية الدقة بكل ما يحتاج إليه الجنين من تكوينات نفسية وعقلية وبدنية، لأنه سيلد وهو متحد بنورها ونوره، أو كما يعبر عنه المصطلح العلمي من اتحاد (الأنا باللاأنا).

وإلا كي يولد مولود يحمل صفة قيادة الأمة، وإنه حجة الله، فلابد أن يكون قد مرّ أثناء مدّة الأجنة بما هو سائر ضمن الأسس والحدود الإلهية، وإن شئت فسمّها العلمية، ف -:

(لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )(1).

ص: 145


1- سورة يس: الآية 40.

المسألة الرابعة: خصوصية الحمل الرسالي على المرأة نفسياً واجتماعياً وعقائديا

اشارة

يرسم لنا القرآن الكريم في مجموعة من الآيات الكريمة صورة واضحة الملامح عن الحمل الرسالي وآثاره على المرأة من جهة ومن جهة ثانية على العقيدة والمجتمع.

ولقد قدم القرآن أربع صور للحمل الرسالي، أي: الحمل الذي يتمخض عنه مولود رسالي مقلد إليه أمر النبوة والرسالة الإلهية، فكانت هذه الصور كالآتي:

1 - حمل سارة بنبي الله إسحاق عليه السلام.

2 - حمل أم موسى بنبي الله موسى كليم الله عليه السلام.

3 - حمل ابنة عمران بمريم عليها السلام.

4 - حمل مريم بعيسى عليه السلام.

ولقد اشتركت جميع هذه الصور بمجموعة من الظواهر الخاصة بهذا الحمل الرسالي والتي بمجموعها تحقق مجموعة من الأهداف الإصلاحية للمجتمعات، وهي كالآتي:

ألف: الغرض الإرشادي

ويتكون الغرض الإرشادي في هذه الصور من شقين:

1 - الغرض الخاص.

2 - الغرض العام.

ص: 146

فأما الغرض الخاص فهو يشمل عناية الله سبحانه وسابق لطفه بهذا المولود والمخصوصة بحمله فيكون ذلك كاشفاً عن بيان هذه المنزلة للأم ووليدها.

وأما الغرض الإرشادي العام فهو إرشاد الناس إلى أن هذه المرأة ووليدها هم ممن اختارهم الله عزّ وجل لحمل الرسالة وخدمة الشريعة وبيان أحكام الباري عزّ وجل ومن ثم قطع العذر على المعتذر في عدم الاهتداء لأصحاب هذه الرسالات.

واقتصار القرآن على هذه الصور لا يعني إلغاء تلك الأغراض الإرشادية من بقية الحالات التي رافقت حمل الأمهات بحملهنّ الرسالي وهذا فضلاً عما زخر به التاريخ الإسلامي من ظواهر إرشادية رافقت حمل آمنة بنت وهب بخير خلق الله وسيد رسله لا مجال لذكرها هنا.

باء: الاهتمام بالحامل قبل المحمول

وهذا ظاهر في تلك الصور القرآنية التي أوردها الوحي في محكم الذكر فقد دلت تلك الشواهد القرآنية على أن الاصطفاء كان مسبوقاً للأم قبل الوليد ليؤسّس القرآن لنمو الفكر العقائدي والإيمان بالغيب لدى الآباء والأمهات قبل الأبناء، بمعنى الاستفادة من هذه الحالة لجيلين من الناس، الأول كان يشاهد عملية الاصطفاء للأم، والثاني يشاهد عملية الاصطفاء للمولود الجديد، وفي ذلك تحقق أسس الصلاح قبل البدء بالنبوة وذلك لوجود مقدمات الإصلاح في المجتمع الذي سيبعث فيه هذا النبي أو ذاك الرسول سلام الله عليهم أجمعين.

ولعل المعطيات التي قدمها القرآن الكريم حول مريم ابنة عمران هي الأمثل في إيصال هذه الحقيقة إلى أذهان الناس.

ص: 147

ففي الاصطفاء الرسالي للأم يقدم القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى:

(إِذْ قٰالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرٰانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مٰا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ )(1).

والآية الكريمة حاكية عن ذلك التأسيس الإصلاحي والظهور الاصطفائي للأم قبل وليدها مريم عليها السلام اختار الله لها أبوين صالحين لتنشأ هذه المرأة في بيئة أعدها الله تعالى لحملة رسالته.

ثم يمضي البيان القرآني لهذا الاصطفاء الرسالي للأم فيقول سبحانه:

(فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثىٰ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثىٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ )(2).

ومما ترشد إليه الآية الكريمة في بيان هذه الحقيقة هو:

1 - قوله تعالى:

(وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ ).

وهذا هو الاصطفاء الإلهي للأم فهو الذي قدر برحمته أن تلد امرأة عمران أنثى.

2 - قوله تعالى:

(وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ )(3).

ص: 148


1- سورة آل عمران، الآية: 35.
2- سورة آل عمران، الآية: 36.
3- سورة آل عمران، الآية: 36.

وهذا هو الاصطفاء الرسالي للمولود الذي أعدّه الله تعالى لحمل الرسالة.

ولذا:

نجد أن آثار هذا الاصطفاء في عملية الإصلاح المجتمعي في البنية العقائدية ظاهرة في المجتمع من خلال تلك الشواهد القرآنية الآتية.

1 - تنشئتها الاجتماعية فقد تكفل بها نبي الله زكريا عليه السلام لتكون بذلك محل اهتمام أتباع زكريا ومعارضيه فلا يخفى حالها ومنزلتها على أحد في مجتمع بني إسرائيل.

قال تعالى:

(وَ أَنْبَتَهٰا نَبٰاتاً حَسَناً وَ كَفَّلَهٰا زَكَرِيّٰا)(1).

وبهذا يكون الإنبات قائماً في بناء شخصية مريم بنت عمران من خلال:

أولاً: الاصطفاء الإلهي الذي عبرت عنه الآية ب - (الإنبات) و (الحسن).

وثانياً: من خلال المربي والمنشئ وهو زكريا عليه السلام الذي جسد أجمل صورة للنمو الحياتي والإثمار، إذ لابد الإنبات من عوامل للنمو والحياة والأرض الصالحة فكانت امرأة عمران والإنبات الحسن وهو الاصطفاء الإلهي والمتكفل بهذا الزرع الذي دأب على رعايته وهو زكريا عليه السلام ليعطي في النهاية الثمر وهو نبي الله عيسى بن مريم عليهما السلام.

ولذلك:

نجد أن هذه المقدمات جعلت عملية الإصلاح المجتمعي مهيأة وبنسبة عالية

ص: 149


1- سورة آل عمران، الآية: 37.

وذلك من خلال الشاهد القرآن الآتي الحاكي عن قدوم مريم وهي تحمل وليدها إلى قومها فلما رؤا ما هو مخالف لسيرتها وما عرفوه من منزلتها قالوا لها:

(يٰا أُخْتَ هٰارُونَ مٰا كٰانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ مٰا كٰانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)(1).

أي إن عملية الاصطفاء الإلهي لهذا الحمل الرسالي قد أخذت بجميع مقدمات الإصلاح في المجتمع وإن آثار هذا الحمل الإرشادية قد نفذت في النفوس ولذا قدم أهل العقل في المجتمع الإسرائيلي التزكية النفسية والمقومات الإصلاحية للمرأة قبل سؤالهم عن المولود وذلك في نفي السوء عن الأب والبغي عن الأم.

بمعنى:

أن المجتمع كان يراقب حال هذه المرأة قبل أن تولد وتراقب نشأتها ونموها وأنها محصنة من العيوب ومنزهة من الذنوب ولذا ففي حملها لهذا الغلام أمر غريب يتنافى مع تلك المقدمات والمعرفة التي تخللت جيلين من بني إسرائيل.

فلما تبيّن لهم حقيقة المولود وأنه:

(قٰالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّٰهِ آتٰانِيَ اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)(2).

أيقنوا حينها أن هذه الأم ووليدها ممن اصطفاهم الله تعالى لشريعته فلزم الإيمان بنبوة عيسى عليه السلام.

والحال يجري مجراه في سارة ووليدها إسحاق عليه السلام وذلك من خلال البيان القرآني الآتي:

ص: 150


1- سورة مريم، الآية: 28.
2- سورة مريم، الآية: 30.

(وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ (71) قٰالَتْ يٰا وَيْلَتىٰ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هٰذٰا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(1).

وفي موسى الكليم وأمه قال سبحانه وتعالى:

(وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ )(2).

وعليه:

نجد أن حقيقة الحمل الرسالي وآثاره على المرأة والمجتمع والعقيدة ظاهرة في تلك الصور القرآنية وممهدة لغرض القيام بالإصلاح للفرد والمجتمع كما جرى ذلك بشكله الأوضح في حمل مريم ومن قبل امرأة عمران ولعل الحكمة في هذا البيان القرآني هو قرب زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زمان عيسى عليه السلام إذ لا فاصل بينهما من حيث البعث والرسالة.

وهذا له من الأثر الإصلاحي ما يغني عن الشرح بل إن هذا البيان القرآني كان الغرض منه إعطاء صورة لخديجة وابنتها فاطمة وأبنائها الأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام، فحالهم ليس بالغريب على المجتمع المكي وإن الغرض الإرشادي والإصلاحي في إنبات فاطمة وتكفل سيد الخلق بها لأعظم مما أعطاه إنبات مريم وتكفل زكريا عليهما السلام بما فضل الله الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على سائر خلقه وأنبيائه ورسله، كما فضل القرآن

ص: 151


1- سورة هود، الآيات: 71 و 72 و 73.
2- سورة القصص، الآية: 7.

والإسلام وفاطمة على سائر نساء العالمين.

ولذا:

فإن حملها الرسالي بالحسن والحسين عليهما السلام كان له من الاصطفاء الرباني والغرض الإرشادي والتقويم السلوكي والإصلاحي ما لم يكن لآل بيت في بيوت الأنبياء عليهم السلام بمقتضى قوله تعالى:

(هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ )(1).

ص: 152


1- سورة التوبة، الآية: 33.

المبحث الثالث: ولادة الإمام الحسن عليه السلام

المسألة الأولى: آثار مرحلة الولادة على المرأة

هناك مظاهر كثيرة للولادة تتعرض لها المرأة حسب محيطها ومدنيتها، ففي الشعوب الابتدائية تلجأ المرأة إلى القابلات، فالقابلة هي التي تملك مصير الولد والمرأة ويروى أن المرأة في جاوا تلد في ساعة واحدة فقط وكأنها تقدم على عمل طبيعي، وفي بعض القبائل لا تستغرق - الولادة - إلا عدة دقائق تستحم بعدها المرأة وينتهي كل شيء، كما أن بعض القبائل الابتدائية تهيئ أمكنة أمينة لتلد فيها النساء، ففي زيلندا الجديدة تلد النساء على ضفاف الأنهار ويكن وحيدات، ونساء قبائل فليس يلدن دون مساعدة.

أما المرأة الهندية في جزر هند البريطانية فإنها تترك تريثها عندما يأتيها المخاض وتقف مدة ساعة في كوخ في الغابات في انتظار الولادة التي لم يكن فيها بالنسبة

ص: 153

إليها أي خطر ثم تعود لوحدها مع وليدها إلى العائلة، وكذلك تفعل نساء بعض القبائل الهندية في (الكواتيمالا)، ويروى السائحون نفس الحوادث من النساء في فرجيني، أما في حياتنا الراهنة فإن النساء يلجأن بعد الولادة إلى المستشفيات ويعانين ضعفا ويحتجبن للراحة والهدوء والسكون ولكن تلك السهولة التي تبدو بها الولادة عند القبائل الابتدائية لا تخلو من عناصر نفسية غريبة ذلك أن بعض الشعوب الابتدائية ترى في المرأة كائنا قذرا وخطرا طول مدة الحمل والولادة وكانوا يتخيلون أن شياطين خبيثة تسكن في المنزل الذي تقطنه المرأة الحامل، وكثير من الشعوب تعدّ المرض الخبيث متجسدا شكل امرأة، ولعل الأساطير الكثيرة متأثرة بهذه النظرة عندما تجعل السحرة والشريرين نساء ولذلك فإن كثيرا من التصرفات الغريبة ترغم المرأة الحامل على سلوكها أثناء الولادة فالمرأة في (نيام نبام) في أفريقيا الوسطى تهجر بيت زوجها وتلجأ إلى الغابات المجاورة حيث تلد بمساعدة صديقات لها، ومن الملاحظ أن هذه المرأة تهتم كثيرا بمساعدة صديقة لها أثناء الوضع.. والواقع أن الابتدائيين يعدّون المرأة المساعدة في الوضع عنصرا أساسيا عند الولادة.. ويرونها نموذجاً للمرأة المجربة التي تعرف كل شيء، وفي قبائل الماوري في زولندا الجديدة تحضر الجدة أي أم الأم ولادة أول طفل، وفي بعض القبائل الأخرى يكون ضروريا أن تحضر الحماة أثناء الولادة، والواقع أن هذا الحضور لوجود حالة حيوية في الولادة بل هو نوع من التقاليد.. فهناك علاقة سيكولوجية بين المرأة الرائدة وبين (القابلة) التي اعتبر أن يكون حضورها ضروريا أثناء الولادة... وذلك أن هناك اعتقادا ابتدائيا يصوّر ضرورة وجود امرأة عاقلة حسنة تطرد الأرواح الخبيثة عند الولادة وذلك ما يبقي اطمئنانا في نفسية المرأة، وفي مونيثينا الحالية تتبع

ص: 154

المرأة(1) نفس الأساليب في تعبيرها عن حاجتها للمساعدة او للقابلة ولكنها كثيرا ما تنظر إلى هذه القابلة نظرة كره في الغالب؛ لأنها تعدّها مسؤولة عن آلامها في بعض الأحيان، كما أن بعض النساء يوجهن هذا الكره إلى أزواجهن فيسبُبْنهم باللعنات والواقع أن دور الرجل في سيكولوجيا الولادة عند المرأة هو دور رئيس.

وفي بعض القبائل الابتدائية تطلب المرأة من زوجها أن يحضر الولادة ويتحقق بذلك ثالوث تطمئن إليه المرأة (هي والزوج والقابلة) ففي جزر ( Andaman ) عندما تأتي ساعة الولادة يعد من القاعد أن يحضر الزوج وإحدى صديقات زوجته فالزوج يمسك بظهر زوجته ويضغط جسمها عندما تكون هناك حاجة لذلك والصديقة تضع حاجزا من الأغصان أمام القسم السفلي من جسم المرأة.

أما في مدنيتنا الراهنة فإن هذا الثالوث يتمثل بالممرضة والطبيب وبذلك تتحول عواطف المرأة الحامل إليها وتتنازعها عاطفة جارفة من الحب والكره والثقة والحقد والاستسلام وعدم الصبر ولا ريب أن إحاطة المرأة بجو عاطفي هادئ يسهل كثيرا من عملية الولادة ولكن ما لا ريب فيه أن من مسائل المدنية الحديثة أنها أبعدت فكرة الأرواح الشريرة والقوى الخارقة من عملية الولادة وأصبح المعطف الطبيعي يلعب الدور الأول في نفسية المرأة عند الولادة.

وقد أثبتت الدراسات الطبية أن هناك تبادلا عميقا بين جميع العوامل النفسية والبيولوجية في حادثة الحمل والولادة وبذلك نستطيع أن نفهم بوضوح أن نفسية المرأة بعد

ص: 155


1- سيكولوجيا المرأة د. هيلين دوتش: ص 60.

الولادة تصبح أكثر تعقيدا واضطرابا كما كانت قبلا فالواقع أن المرأة بعد الولادة تنسى أشياء كثيرة من وظائفها الطبيعية كأنثى.. ولاسيما الوظائف الجنسية، وهذا يؤثر تأثيرا كبيرا في نفسيتها.

وقد درس الأطباء النفسانيون الأحوال الابتدائية للوليد لكي يوضحوا لأنفسهم مدى الفراغ الذي كانت تملؤه أمه فرأوا أن ارتباط الأم بالولد يعدّ شيئا أصيلا وأن جميع الآلام التي يعانيها الوليد إنما ترجع إلى موقفه من أمه (بعده أو قربه منها والواقع أن دراسة الوليد تفيد كثيرا في معرفة نفسية المرأة النفساء ذلك أن الطفل هو من العناصر الأولية التي تسبب الفرح والحزن للأم ومهما يكن من أمر فإن الولادات في العصر الحاضر تميل غالبا إلى أن تكون سليمة لا تحدث فيها تلك الهزات الانفصالية التي تحدث للمرأة المتأخرة أو الابتدائية.

والملاحظات المتعددة تفيد بأن العامل الأول في نفسية المرأة أثناء الحمل هو التغيرات الفيزيولوجية كما أن علاقتها بالوليد بعد الولادة هي الشيء الأساس ومن المفيد جدا أن نذكر بأن نوعا من الصراع الداخلي تمر به المرأة قبل الولادة يؤثر في نفسيتها بعد ذلك، هو ذلك الصراع بين احتضانها للولد وبين وضعه وهذا الصراع معقد كثير الجوانب فهو يعبر أحيانا عن خوف من الولادة ومن آلامها كما قد يعبر عن روح نرجسية تريد فيها المرأة أو الأم أن تكون لها وحدها ثمرة الحمل.. وقد يكون خوفها من جنس الولد باعثا على احتفاظها فكثيرا ما تنتهي المرأة أن يكون وليدها أنثى أو ذكراً فإذا ما علمت(1) بعد ذلك أنه كان غير ما تريد سبب لها هذا نوعا من القلق العميق.

والواقع أن هذه الناحية خطيرة جدا بالنسبة لحياة المرأة فالعدد الأكبر من

ص: 156


1- المصدر السابق: ص 61.

النساء الطبيعيات المسترجلات يشتهين أن يكون ابنهن الأول ذكراً والحقيقة أن سبب ذلك هو أن هذه الرغبة عند النساء إنما تتكون لحبهن لأن يلدن ما يشعرن بحاجة إليه أي عناصر الرجولة والحقيقة أن العوامل الاجتماعية لها أثر أيضا في هذا، فالمجتمع بأثره غالبا يطالب المرأة بأن تلد ذكرا، فالجد والأب يريدان الذَّكر لكي يخلّدا فيه.

والواقع أن الرغبة النرجسية يجب أن تدفع المرأة إلى أن ترغب في أن يكون ابنها بنتا تسير فيها من جديد وتجدد فيها جمالها ولذلك فإن ما يبدو لها في أول الأمر هو ذلك القلق من الذكر فكثيرا ما نسمع نساء يقلن لأزواجهن أنظروا هذا هو الولد الذي اردتم كم هو مخيف مثلكم ولكن في أعماق نفس المرأة تلبث الرغبة في الذكر حية وأقوى من كل رغبة والأحلام التي تراودها تظل أقوى من جميع التصورات المخيفة عن الذكر، من هذه التصورات المخيفة خوف المرأة من أن تلد مسخا.

إلى جانب الخوف من نتائج الولادة يأتي خوف آخر هو الحالة التي تتم بها عملية الولادة وكثيرا ما يمتلك المرأة شعور رهيب بأن الموت ينتظرها وأن حادثة الولادة لابد أن تؤدي إلى كارثة لها ولولدها، وبالواقع أن هذا الخوف لا يؤثر تأثيرا كبيرا في نفسية المرأة المتفائلة التي لا تنفك تقول في كثير من الاستبشار أنه لابد من حدوث أشياء مفاجئة تزيل كل هذا الألم، إن الشيء البارز في كل هذا هو خوف الأم من العملية الجراحية ذلك أن هذا الخوف يقترن بالموت غالبا والألم الفيزيولوجي الكبير ومن مثل هذا الخوف تقع جميع الأمراض العصبية التي تتعرض لها المرأة بعد ذلك.

ولأهمية تلك الآثار على المرأة وفعاليتها التغيرية في شخصيتها فقد أولى الإسلام مرحلة الحمل والولادة أهمية خاصة فركز على جوانب عديدة كالجانب

ص: 157

النفسي والاقتصادي والاجتماعي والتكويني وقد نبه الإسلام قبل نشوء العلوم الحديثة وتطورها إلى دور الغذاء في تحديد المعالم التكوينية والعقلية والنفسية والبدنية للجنين، وأن الغذاء له الدور الثاني بعد الوراثة في تحديد شخصية الجنين: وفي هذا الخصوص أخرج الشيخ الكليني رحمه الله مرفوعا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«ليكن أول ما تأكل النفساء الرّطب فإن الله تعالى قال لمريم:

(وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسٰاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)(1).

قيل: يا رسول الله فإن لم يكن أوان الرطب ؟ قال:

«فسبع تمرات من تمر المدينة فإن لم يكن فسبع تمرات من تمر أمصاركم فإن الله عزّ وجل يقول: وعزتي وجلالي وعظمتي وارتفاع مكاني لا تأكل نفساء يوم تلد الرّطب فيكون غلاما إلا كان حليما وإن كانت جارية كانت حليمة»(2).

وعن الحسين بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أطعموا حبالاكم اللّبان فإن الصبي إذا غذي في بطن أمه اللبان اشتد قلبه وزيد في عقله فإن يك ذكرا كان شجاعا وإن ولدت أنثى عظمت عجزتها فتحظى بذلك عند زوجها»(3).

ص: 158


1- سورة مريم: الآية 25.
2- الكافي للشيخ الكليني رحمه الله: ج 6، ص 22، ح 4.
3- الكافي: ج 6، ص 23، حديث 6؛ وسائل الشيعة: ج 21، ص 405 ح 27418؛ مستدرك الوسائل: ج 15، ص 137، باب 25.

وأما ما يخص الرضاعة وأحكام الإنفاق على المرأة الحامل وغيرها فكثيرة لا ينبغي إيرادها لأنها ليست من موضوع البحث، وإنما نريد أن نبين أن الإسلام لم يدع جانباً من الجوانب النفسية والبدنية إلا وقد وضع لها حدودها كي لا تهتضم المرأة وكي يحفظ الجنين من التشوهات الخَلْقية والخُلُقية.

المسألة الثانية: الرواية الواردة في ولادة الإمام الحسن عليه السلام

ولدت فاطمة بكرها عليهما السلام في المدينة بفنى المسجد النبوي حيث دار سكنى فاطمة عليها السلام، وكانت السنة التي ولد فيها الحسن عليه السلام هي سنة بدر الكبرى(1)، وقيل في السنة الثالثة للهجرة النبوية، في ليلة النصف من شهر رمضان المبارك(2).

والإمام الحسن عليه السلام هو أول مولود يستقبله النبي صلى الله عليه وآله سلم من بضعته فاطمة عليها السلام فجاءت تحمله إليه صلى الله عليه وآله وسلم وهي تزفه بالبشرى، فقد ولدت أحد أئمة العترة النبوية، وسبط هذه الأمة.

وقيل: إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليغيب عن بضعته فاطمة عليها السلام وهي تمر في مثل هذه الحالة التي تحتاج فيها المرأة إلى الأم والأهل، ولاسيما أن فاطمة قد فقدت أمها خديجة عليها السلام وهي في سن

ص: 159


1- أصول الكافي لثقة الإسلام الكليني رحمه الله: ج 1، ص 461، باب: ولادة الحسن عليه السلام.
2- الإرشاد للشيخ المفيد رحمه الله: ج 2، ص 5؛ البحار: ج 43، باب: أولادها، حديث 25؛ الكامل لابن الأثير: ج 2، ص 54؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 537؛ عيون التواريخ: ج 1، ص 169؛ غاية الأماني ليحيى بن الحسن: ج 2، ص 77؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 102، عن ابن البرثي؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، ص 404؛ سيرة مغلطاي: ص 101.

الخامسة، فعن سوادة بنت مسرح قالت: كنت فيمن حضر فاطمة حين حضر بها المخاض، قالت: فجاءنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«كيف هي»؟

قالت: إنها لتجهد(1).

ولذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر زوجته سودة بنت زمعة(2)، ومولاته أم أيمن وأسماء بنت عميس أن يحضرن عند فاطمة كي لا تشعر فاطمة بالوحدة، وإن كان لا شيء يسد خلة الأم وفقدها، وبخاصة في حالة كهذه.

فلما ولدت فاطمة عليها السلام، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأسماء:

«يا أسماء هلمي ابني».

فدفعته إليه في خرقة صفراء، فرمى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

«ألم أعهد إليكم أن لا تلفوا المولود في خرقة صفراء؟! ودعا بخرقة بيضاء فلفه فيها. ثم أذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى»(3).

وفي رواية: أنه صلى الله عليه وآله وسلم سره ولباه بريقه وقال:

«اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم».

ص: 160


1- أسد الغابة لابن أثير: ج 1، ص 156-157.
2- تاريخ القضاعي: ص 129.
3- وسائل الشيعة: ج 21، ص 410، باب: استحباب تحنيك المولود؛ سنن الترمذي: في باب الأذان في آذان المولود من أبواب الأضحية؛ سنن أبي داود: كتاب الآداب، باب: الصبي يولد فيؤذن في أذنه، ج 2، ص 126؛ وأحمد في مسند: ج 6 ص 391-392، عن عبد الله بن رافع.

المبحث الرابع: مرحلة ما بعد الولادة

المسألة الأولى: سلوك الأمومة وسلوك التعلق

لا يمكن لامرأة في العالم أن تتجاهل اللحظات الأولى التي تأتي بعد الولادة تلك اللحظات التي تنظر فيها الأم إلى وليدها.. وهي لم تجد فيها غير الصمت وسيلة للتعامل مع الحدث، فهي بين نظرة إلى هذا الكائن الذي كل شيء فيه ينادي في تلك اللحظات بطلب المساعدة ومد يد العون وبين نظرة منه إليها تقول: ضميني إليك.

شعور لم يحرك أحاسيس الأم فقط بل ربما كل من تقع عينه على الطفل ولذلك سرعان ما يتفجر في الأم سلوك الأمومة الذي سيتحدد نمطه من خلال التأثير الهرموني والتجربة والوعي الثقافي، وفي المقابل سيتحرك عند الطفل سلوك التعلق مع كل من يقوم برعايته.

(إن تأثير الوسط الاجتماعية تؤثر تأثيرا هاما في سلوك الأمومة فقابلية الأهل

ص: 161

للتبني وتزويد الأطفال المتبنين بالعناية والمحبة، يظهر الدور البارز للعوامل الثقافية - الاجتماعية كما يظهر محدودية تأثير العوامل الهرمونية.

إذ يتوافق سلوك الأمومة مع احتياجات الطفل منذ الولادة، وتساعد العوامل البيولوجية الغريزية في انطلاقة هذا السلوك)(1).

(لقد توافق سلوك الأمومة، عبر التطور مع سلوك التعلق عند الطفل، وتتلخص وظيفة هذين النظامين السلوكيين في حماية الصغير الذي كان عرضة للافتراس فحين يستخدم الطفل مؤثرات كالبكاء أو التمسك، تقوم الأم بالاستجابة لحمايته، فتأخذ بيده عندما يبتعد أكثر مما يجب، وتزوده بالغذاء، وتعمل على إرضائه عندما يعاني من كربة.

- إن - كلا النظامين - (سلوك الأمومة، وسلوك التعلق) - يستدعي المحافظة على الاتصال بالأم والطفل، ويقود - هذا - الاتصال بدوره إلى تبادل عاطفي بين الطرفين، فسباق التعلق يتم عبر التجربة بين الاثنين.

- وتستند إحدى النظريات المتعلقة بدراسة السلوكين سلوك الأمومة وسلوك التعلق عند الطفل، وهي نظرية بولبي - إلى بعد بيولوجي، وتستدعي تركيز الاهتمام على الطبيعة التبادلية في سلوك الأم والطفل، فبالرغم من أن التبادل المشترك يستند إلى قاعدة داخلية عند الأم، فهو لا يأخذ طريقه إلى النور إلا مع وجود الطفل، فالخصائص السيكوبيولوجية الاستثنائية للطفل عند الولادة تدفع إلى الاعتقاد بأن الاتصال والتفاعل الاجتماعيين بين الأم والطفل موجهان ليلعبا

ص: 162


1- الأمومة (تطور النمو بين الطفل والأم) لدفيز قنطار: ص 66-67، نقلا عن ( Schaffer, 1984, p.37 ) .

دورا خاصا في التطور النفسي البشري)(1).

(فالطفل حديث الولادة يعتمد على البالغين في بقائه، حيث تتضمن التجربة الاجتماعية التي يتعرض لها، طرفا عالي القدرات (الأم)، مؤهلا ثقافيا، بينما يكون الطرف الآخر (الطفل) صفحة بيضاء من هذه الناحية.

فالتحويل الثقافي من جيل إلى جيل عند البشر، يحل محل الانتقال بالوراثة عبر الجينات والمورثات - ( New.Son,1979 ) ويعتقد هذا المؤلف - على خلاف الفكرة السائدة - بأن السلوك الطبيعي للأم البيولوجية، (الوالدة) لا يكمن في دافع غريزي خاص بالأمومة، إنما يكمن في المسؤولية الثقافية الاجتماعية للكائن تجاه أنجاله، مسؤولية تحتمها القيم الأخلاقية والثقافية السائدة المتعلقة بطريقة التعامل مع الصغير بلطف ومحبة وحنان، فهو أحد أفراد العائلة، ويحتاج للمساعدة كونه سريع العطب)(2).

فمن وجهة نظر هذا المؤلف، مشكلة التواصل مع الصغير هي تعلم جملة العناصر التي تؤهل أي شخص للتفاعل مع هذا الصغير، شخص يمتلك الدافع ليفعل ما هو ضروري من أجل الصغير ويخصص الوقت المناسب للحوار معه، فالمسألة ليست مسألة ضرورية بيولوجية، إذ يمكن للذكر أن يربي الطفل في شروط مناسبة)(3).

ويبدو أن هناك رأياً آخر ربما يكون متقاربا إلى حد كبير مع مفهوم هذا المؤلف

ص: 163


1- المصدر السابق.
2- الأمومة وتطور النمو بين الطفل والأم لفايز قنطار: ص 67.
3- المصدر السابق: ص 68.

في التواصل مع الطفل، إذ يعتقد الدكتور (لي سالك)(1): (أن الوالدية تعني كلا من (الأبوة) و (الأمومة) وما كانت الوالدية قط مسؤولية نسائية فقط، وبالرغم من أن تربية الأطفال عمل شاق ومتعب، فإنها عمل سار إلى حد بعيد، إن الرجال - مثلهم - كمثل - النساء - لهم الحق الكامل في السرور العميق الذي يستشعره من يربي طفلا ويوجهه الوجهة الصحيحة.

وهو يرى: أن على الزوج أن يبدأ المساهمة النشطة في تعلم الأمور ذاتها التي تتعلمها زوجته بخصوص العناية بالوليد قبل ولادته، وتربيته بعد الولادة، إن الآباء الذين يهتمون بمثل هذه الأمور يساهمون أكثر من سواهم من الآباء في العناية بأولادهم، إن مقاسمة الأب للأم هذه الخبرة يحسّن العلاقة بين الزوجين ويقويها، ويحولها إلى علاقة تساعد الأمهات والآباء على أن يكونوا خيرا من الأمهات والآباء الذين لا يكون لهم هذه الخبرة)(2).

المسألة الثانية: كيف يكون سلوك الأمومة وسلوك التعلق في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدى الطفل

وبالطبع فإن هذه العناية بالطفل وبذل الرعاية له والاهتمام به يحفز بشكل كبير سلوك التعلق عنده اتجاه والديه (الأم والأب)، وفي نفس الوقت لا يمكن إغفال الجانب الغريزي الفطري لدى الإنسان ولاسيما الأم في حدبها على وليدها تحنو عليه، بل يعلمنا ديننا وقيمنا أن الجانب الفطري لدى الوالدين هو العنصر

ص: 164


1- د. لي سالك، مدير قسم علم نفس الطفل في مستشفى نيويورك بمركز كورنيل الطبي.
2- الوالدية، د. لي سالك: ص 39-40.

الأساس في تحديد سلوك الأمومة والأبوة، وما التجربة - الثقافية والاجتماعية والعلمية سوى مقومات لهذا السلوك في نبذ ما هو سيئ في التعامل، أو التركيز على ما هو حسن فيه.

والعلة في ذلك، هو أن حكمة الله عزّ وجل قد جعلت هذا الكون يسير ضمن قوانين وسنن وأن أي تغير في هذه القواعد يؤدي إلى نتائج تتناسب مع المقدمات إذ لا يمكن أن تكون العاطفة والتعلق عند الأم وابنها أو الأب وابنه متساوية في زواجين أحدهما لا شرعي والآخر شرعي فالمقدمات هناك تختلف هنا، ولذلك لا تنتهي الأمومة في حالة الاقتران الشرعي بانتهاء احتياج الطفل إلى العناية به، ولا يتحجم تعلق الطفل لوالديه عند مقدرته على الاعتناء بنفسه.

بل إن عاطفة الأمومة في الأسرة المسلمة لا تنتهي فهي تكبر كلما كبر الولد، وأن تعلق الابن بوالديه واحتياجه إليهما يكبر مع سنين عمره، فكم من أم تنتظر رجوع ابنها الغائب وحفيدها الشاب، وكم من أم قد انعكفت على لبس السواد ووليدها غيبه الموت.

فسلوك الأمومة وسلوك التعلق عند الطفل في الأسرة المسلمة لا ينتهي بإنهاء الاحتياجات أو بزوال الدوافع، فهما يبدآن منذ الولادة، وإن صح القول: فالأمومة عند المرأة تبدأ قبل الولادة كما مرّ بيانه، ولا تنتهي إلا برحيل الأم عن الحياة، والتعلق يبدأ عند المولود منذ ولادته ولا ينتهي حتى بعد وفاة الأم.

فالسنن الإلهية تأخذ دورها في رسم هذا السلوك، كما أن للتجربة والوعي الثقافي والاجتماعي دوره أيضا، فضلاً عن ذلك أن دور الإيمان بالله عزّ وجل

ص: 165

والخوف من اليوم الآخر والثواب والعقاب وانعكاساته على شخصية الإنسان له دوره الفعال في بيان نمط سلوك الآباء اتجاه الأبناء، كما يبين نمط سلوك الأبناء اتجاه الوالدين.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث له مع علي أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:

«يا علي لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما.. يا علي يلزم الوالدين من حقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من حقوقهما.. يا علي رحم الله والدين حملا ولدهما على برهما..»(1).

ولذا: نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أسس لهذا السلوك منذ الأيام الأولى لنشوء العلاقة الزوجية حينما وضع منهاجاً في التربية الأسرية - كما مرّ بيانه - ليدل على أن هذه العلاقة الوالدية المخصوصة بالأب والأم وانعكاساتها على الطفل إنما تبدأ من سلوك المودة والرحمة بين الزوجين.

ص: 166


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق رحمه الله: ج 4، ص 371، باب: النوادر؛ وسائل الشيعة: ج 21، ص 389، باب استحباب تسمية الولد.

المبحث الخامس: الإرضاع

اشارة

مما لا شك فيه أن مرحلة الرضاعة هي من أخطر مراحل التكوين النفسي والبدني وقد حدّ القرآن هذه المرحلة بحدود خاصة شملت الجوانب الشخصية والأسرية والاجتماعية.

والرضاعة لا تقتصر على الجانب الغذائي، بل لها الأثر البالغ في بناء الشخصية وتحديد معالمها، فهي مزيج من عوامل عديدة يخضع الإنسان لتأثيراتها القوية وهو لا يملك أي حول أو قوة في تحديدها أو اختيارها، فكم من فضيلة أو رذيلة مزجتها ذرات الحليب وغرستها محالب الأم في أرض وليدها فنمت فيها جذورها.

ولسعة الموضوع وأهميته الكبيرة نحاول أن نركز على بعض النقاط فيه.

ص: 167

المسألة الأولى: من تولى إرضاع وليد فاطمة عليها السلام ؟

لقد كانت العرب قبل الإسلام قد تنبهت لخطورة مرحلة الرضاعة، كما عرفت من قبلها دور الأم وأثر الأعراق في تكوين الجنين، وهو ما يعرف حديثا بعلم الوراثة، أي: دور الجينات وفعلها في نقل وتثبيت المعالم الحسنة أو السيئة للجنين، ثم جاء الإسلام فبين بشكل أوسع تلك الآثار لهذه المرحلة.

ولما ولدت فاطمة عليها السلام بكرها الإمام الحسن عليه السلام، مرت كذلك بهذا الدور أي: إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يتولى أمر اختيار المرضع لولده الحسن عليه السلام بنفسه لغاية تمر علينا إن شاء الله تعالى.

إذ تقول الرواية: لما حملت فاطمة بالحسن عليه السلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض وجوهه، فقال لها:

«إنك ستلدين غلاما قد هنأني به جبرائيل، فلا ترضعيه حتى أصير إليك».

قالت - برة بنت أمية الخزاعي - فدخلت على فاطمة حين ولدت الحسن عليه السلام وله ثلاث ما أرضعته، فلما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها:

«ما صنعت ؟».

قالت عليها السلام:

«أدركتني عليه رقة الأمهات فأرضعته».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أبى الله عزّ وجل إلا ما أراد الله»(1).

ص: 168


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 3، ص 209؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 254، حديث 32؛ مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: ج 3، ص 493.

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير بذلك إلى الإمامة التي أرادها الله عزّ وجل أن تكون في صلب الحسين عليه السلام وهم الأئمة التسعة عليهم السلام، وبذلك تكون فاطمة الزهراء عليها السلام هي التي تولت إرضاع وليدها الحسن عليه السلام.

المسألة الثانية: السلوك النفسي للمرأة عند إرضاعها وليدها

اشارة

ولمعرفة نفسية الأم وانبثاق روح الأمومة وتطور العلاقة فيما بينها وبين الطفل فلابد من النظر إلى نفسيتها خلال مرحلة الولادة وما بعدها.

إذ (إن المرأة تشعر خلال الولادة بعاطفة توهمها بأنها في نهاية العالم، ذلك أنها تكون قد قطعت جميع علاقتها مع العالم المحيط بها ويتولد هذا الشعور فقط خلال الحمل وذلك أنها ترى أن كل منفعتها وفائدتها تتركز مباشرة على وضعها الجديد.. ولكنها عندما تلد تبني عالما جديدا حول الولد وتبدأ صلتها بالعالم من جديد من خلال طفلها ونستطيع أن نلاحظ ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: ما قبل الولادة

ترافق آخر لحظة من لحظات الولادة عندما تتكون عاطفة النشوة في نفس الأم من أجل ولدها.

المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد الولادة

وهي مرحلة سعيدة بالنسبة للمرأة تتركز فيها ذاتها ويقوى مركزها بصورة عامة، وإلى جانب فرحها الكبير في ولدها، فإن يقظة جديدة بروحها النرجسية

ص: 169

تعيش وتنبثق في نفسها، وهذه الروح تتمثل بمحاولة (الأنا) الإتحاد مع طفلها الذي كان السبب في إعطاء المرأة هذه الأهمية في اتحادها مع الطفل الذي كان مصدرا لقوتها الجديدة.

وتبدو هذه الروح بشعور المرأة الدائم بأن طفلها هو قبل كل شيء من نتائج عملها وتحقيقا (للأنا) وبذلك يتحد الفرح والفخر ويعطي للمرأة نفسية جديدة... إن المرحلة التي تتبع الولادة تتميز بأنها مرحلة أولى لتحقيق روح الأمومة.

ونستطيع أن نقول:

إن الأوضاع الاجتماعية والتقاليد كثيرا ما تخفف من نشوة هذه الروح الجديدة، وتصدم المرأة الأم صدمة شديدة وذلك بفرض تقاليد تجعلها لا تزال بعد الولادة غير طبيعية كأن تمنع الرجال من دخول غرفتها واعتبارها عند بعض الشعوب الابتدائية والقديمة، كما أن بعض الشعوب الأخرى تعد المرأة بعد الولادة نجسة، بعضهم يرونها خطرة.

أما في مجتمعاتنا فإن الاحترام هو الجو الذي يطلب أن تحاط به المرأة على أننا لا نستطيع تكرار العنصر النرجسي يعود من جديد كموجه أساسي للمرأة بعد الولادة، ولا نستطيع أن نقول إن حبها لطفلها يمحو روحها النرجسية، ولعل تعرض المرأة للأخطار في سبيل الولد يكون موقظا لهذه الروح ومن ثم تعود من جديد إلى اعتقادات الناس فكرة إضفاء تلك القوى السحرية على المرأة الوالدة.

ص: 170

المرحلة الثالثة: مرحلة ترميم العلاقات بين الأم وما يحيط بها

فهي مرحلة ترميم علاقات الأم بالعالم الذي يحيط بها وذلك رغبة منها في ان تتخلص من الحدود النرجسية وأن تجدد تفاعلها مع العالم الخارجي، ولا سبيل لذلك إلا عن طريقين، الأولى: من خلال الولد)(1).

ولقد قامت (د. هيلين دوتش) بدراسة الناحية الانفعالية التي توجه في علاقة الأم بولدها بوصفه موضعا خارجيا لها، وقد توصلت إلى إرجاع هذه العناصر إلى ثلاثة - عناصر - رئيسية:

1 - الحنان.

2 - الغيرية.

3 - فعالية خاصة.

وهذه العناصر إذا أخذت بمجموعتها تكون في نظري الجو النفسي لروح الأمومة، (فالغيرية) تقوم على أن المرأة تنسى نفسها كليا من أجل الولد، وتقبل بتضحية كل شيء لأجله حتى حياتها الخاصة كما أن جوهر الحب الأمي لا يتطلب تحفظا أو ترددا إنه يطالب الأم دائما أن تكون مندفعة بدعم علاقتها مع طفلها.

وهذا ما يكون في الواقع الوحدة التي نسميها (وحدة الولد والأم).. هذه الوحدة التي كانت متجمعة في الرحم زالت بقطع حبل السرة لكي تفسح المجال لنشوء وحدة جديدة هي، (الوحدة النفسية) التي نعبر عنها ب - (الحب الأمي).

والواقع أن كل افتراق بين (الأنا) (الأم) أو اللا أنا الجديد (الطفل) هو شيء خيالي في المراحل الأولى من الأمومة، أن شغف الأم بولدها أمر لا حد له.

ص: 171


1- سيكولوجيا المرأة للدكتورة هيلين دوتش: ص 66.

المسألة الثالثة: دور الرضاعة في تحقيق الوحدة ما بين الأم ووليدها

(إن القضايا الأساسية للأمومة تظهر في بدء ظهور وظيفة التناسل ثم تستمر إلى ما بعد ولادة الطفل.. وترتكز هذه القضايا في الدرجة الأولى على ذلك النزاع الذي لا مفر منه بين مصالح الفرد ومصالح النوع، والأم لا تلبث موزعة بين هذين الاتجاهين وتبقى مطالبة بأن تنسجم بينهما.

أما إذا كانت الأمومة قد أرهقت الأم بدفعها إلى التخلي عن حياتها النفسية من أجل النوع فإنها تفقد كثيرا من نزعتها وتبدو مغمورة بروح الأمومة، ذلك أن نزعة دفاعها عن النوع تصبح شيئا أساسيا لها بعد الولادة، ولذا فهي تكون دائبة على الاهتمام بصغيرها وتكون فعاليتها متوجهة في البدء إلى تغذية الولد وتأمين الراحة الجسدية له.

ولعل من مظاهر هذه العناية ذلك العجز الذي يبديه الطفل خلال زمن الرضاعة، وبذلك نستطيع أن نقول: إن جميع العوامل تدفع إلى تحقيق الوحدة ما بين الأم وولدها في بداية عهد الأمومة، ومنذ ذلك الحين يصبح عمل الأم الرئيسي بالنسبة للطفل الاهتمام بالتربية فهي تبدأ بالاهتمام بالصحة النفسية للطفل وتحاول أن تحقق له الملاءمة مع الواقع بقدر الإمكان وتدربه منذ صغره على مراقبة غرائزه وعلى اهتمامه بتوجيهاتها ونصائحها.

وهنا يبدو لنا أنه من المفيد أن نبحث في أثر التحليل النفسي في معرفة نفسية الأم في هذه المرحلة، وهذه الدراسة تؤدي بنا إلى أن نلمس نوعاً من الصراع بين ماضي الأم وحاضرها فالماضي الذي يحمل بالنسبة إليها روحها الجنسية ورغباتها

ص: 172

قد أصبح اليوم مسخراً في عاطفة الحنان الأمومي، وهي تروض نفسها بين يوم وآخر على تقبل هذا التحول الخطير وعلى الاكتفاء به.

إن تحقيق هذا التحول في الواقع هو أحد الشروط الضرورية للأمومة الصحيحة وبمقدار هذا التحول وسلامته تكون علاقة الأم بطفلها سليمة ومجدية.. والأم تعتمد لتحقيق تحول كهذا على طريق عملي، فهي تراقب منذ البدء طفلها مراقبة كبيرة وتتوجه بإمعان نفسها إليه وتصبح بينها وبينه عاطفة حدس تعد نواة لتحقيق تلك الوحدة بينهما.

وقد درست ( Daathy Bwlinghom ) في كثير من التوسع مردود الأفعال الانفعالية شعورية وغير شعورية التي تبديها المرأة أمام التطور النفسي للطفل، ورأت أن الأم في الواقع هي نقطة البدء لجميع التصرفات النفسية للطفل.

وقد رأت د. هيلين دوتش من مشاهدات خاصة أن الأم هي الكائن الذي يتلقى جميع تصرفات الطفل الانفعالية وأنهما ينموان معا في تحقيق عاطفة الأمومة، فتقول:

وقد رأيت أن الأم تتبع في هذا السبيل نوعين من الفعالية:

الأولى: الفعالية الحدسية، والثانية: الفعالية الفكرية

على أننا لابد أن نعترف لبعض الحالات المرضية التي تتعرض لها الأمهات في عملية التوحيد بينها وبين الطفل، فثمة أمهات يحاولن أن يجعلن هذا التوحيد لمصلحتهنّ فيرون أن يكون أولادهن نماذج لهن مطبوعين بطابعهن، ولذلك يطلبن إليهم أن يقلدوهن.

ص: 173

وهناك نوع آخر من النساء: هي المرأة التي تنتظر من طفلها أن يكون نموذجا لها فهي تحاول بقدر الإمكان أن توهم نفسها بأن كل ما كانت بحاجة إليه سوف يتحقق في طفلها، بنوع من التربية المثالية يغذين نفوسهن التي نقصها في الماضي كثير من الرغبات القديمة.

والواقع أن عراقيل كثيرة قد تحول بين الأم وبين تأديتها لوظيفتها العضوية اتجاه ولدها، وعند ذلك يأخذ شعورها نحوه أشكالا عديدة تؤثر في التكوين النفسي كل التأثير فهي إما أن تخاف عليه، أو تهمله أو يكون سلوكها نحوه حياديا.

ولهذه الحالات المختلفة مظاهر مرضية في بعض الأحيان تكشف عنها العصابات التي تصاب بها الأمهات، وقد وصف (رادو Rado ) حالة امرأة مصابة بقلق على طفلها كان يدفعها هذا القلق إلى التخلص من الوحدة بينها وبين الطفل فمثلا كانت تجلس إلى جانبه على شاطئ البحر وتقرأ كتابا وهو يلعب بالرمال ويلهو بالأمواج وكانت تراقبه في حذر أينما اتجه ومن حين لآخر ترفع رأسها وتناديه باسمه، وإذا ما عرفت أنه بعيد عنها قليلا قذفت نفسها إليه وضمته إلى صدرها وغمرته بقبلاتها)(1).

(ويصف ( Rado ) أيضا حالة امرأة من هذا النوع كان هذا الشعور بالقلق على ولدها يرهقها فكانت تكرهه وتحبه بنفس الوقت، وتبالغ في كلتا العاطفتين، ولكن مهما حاولنا لأن نجد مبررا لمثل هذه الحالات المرضية فإن الشيء الذي لا ريب فيه هو أن عاطفة الأمومة تبقى الرابط الأساسي بين الولد والأم.

ص: 174


1- سيكولوجيا المرأة: ص 71-72.

يقول فرويد: إن الشيء الوحيد الذي يحقق للأم اكتفاءً كليا هو علاقتها مع ابنها، إنه أقوى علاقة يمكن أن توجد بين كائنين إنسانييين.

وبالمقابل فإن الولد يشعر بعواطف مماثلة اتجاه أمه من قلق وحب وحرص عليها، على أن ناحية أخطر يجب النظر إليها وهي تلك الحالات الشاذة التي يمكن أن تتحول إليها عاطفة الأم والولد ولاسيما إذا كانت الأم مفتقرة إلى عاطفة زوجية صحيحة تبدو هذه الحالة في نشوء علاقة عاطفية غريبة بين الأم والابن تشبه علاقة (اوديب)، فإذا كان الأب قاسيا على الأم تحولت الأم بكليتها إلى الولد.

والخلاصة: إننا إذا ألقينا نظرة خاطفة على العناصر النفسية للأمومة رأينا أن هذا الحادث البيولوجي في الظاهر والذي يبدو بسيطا وطبيعيا يفرض على المرأة مهمات صعبة، قد رأينا أنه قد يتطلب نزاعا بين قطبين مصالح الأنا وخدمة النوع، ولا سبيل لإبعاد أي تشوه وفساد في التوفيق بين هاتين النزعتين إلا بحل واحد، هو أن يكون للمرأة كثير من الأولاد، ذلك أن طريق الحياة هي أسلم طريق، والطبقة الإنسانية قد علمت المرأة كل ذلك.

والحقيقة أن الواقع يرينا أنه لا وجود مطلقا لعاطفة أمومية صرفة.. كما أنه لا وجود لأنوثة ولا لرجولة صرفة، ولا صحة لكل تمييز بين امرأة وأخرى في هذا المجال ولاسيما عندما نتعرض لبحث الأمومة.

ذلك أن الأمومة تلقي على جميع النساء رداء واحداً يجعلهن متوجهات أبدا بطبيعتهن إلى هدف مشترك، والنقاط والصفات النوعية للأمومة التي تجعل من بعض النساء من يتصفن بصفات تختلف عن الأخريات، هي في الواقع صفات

ص: 175

تتعلق بعناصر ثانوية. إن وجود هذه العناصر هو شرط لابد منه لروح الأمومة، لأنه في الواقع لا وجود مطلقا لنموذج واحد للأمومة، كما أنه لابد من الاهتمام الكبير بالعناصر الثانوية في هذه المرحلة)(1).

أقول: ومما لا شك فيه أن هذه العناصر الثانوية التي لم تشر إليها (د. هيلين دوتش) في بحثها القيم حول روح الأمومة، تتمثل في الإيمان بالله عزّ وجل والثقافة الاجتماعية، والوعي الديني، والحب بين المرأة وزوجها، بل إن الحب الأسري الذي تنشأ فيه الفتاة قبل انتقالها إلى الحياة الزوجية لكفيل بها من أن تنقله إلى أطفالها - فضلاً عن استمرار والديها بتغذيتها بهذا الحب وهما يحدبان عليها وعلى أولادها بالحنان والدفء والمحبة.

وهذه العناصر جميعها وغيرها قد وجدت في بيت فاطمة عليها السلام فقد تغذت بحب أسري لا مثيل له، ثم انتقل هذا الحب معها يحط ركابه أينما نزلت وحلت فما عرف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أغفل عن فاطمة وأبنائها، وهو الأب الحنون فضلاً عن حب علي لها وحبها لعلي عليه السلام.

ولذلك فإن القول: (بعدم وجود نموذج واحد للأمومة) يفتقر إلى الدقة والبحث ولو كانت الباحثة قد اتخذت من هذا النموذج أي فاطمة عليها السلام لها عنوانا في الأمومة إضافة إلى اهتمامها بالعناصر الثانوية لكان ذلك أصدق وأسرع في نمو روح الأمومة لديها، فإتباع النموذج أفضل عند العقلاء من عدم معرفته.

ص: 176


1- سيكولوجيا المرأة: د. هيلين دوتش: ص 74-75.

ولعل المتخصصين في علم النفس التحليلي وعلم النفس التكويني وغيرهما من فروع علم النفس وعلم الاجتماع لو تناولوا حياة سيد المرسلين وعترته أهل بيته لاختزلوا كثيرا من الوقت في الوصول إلى الحقيقة، ولوضعوا يدهم على الجرح.

(وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّٰهِ قِيلاً)(1).

المسألة الرابعة: الإرضاع وأثره في التكوين الخُلقي للإنسان

اشارة

لم تلتفت الأبحاث المعاصرة إلى أثر الإرضاع في التكوين الخُلقي للإنسان مثلما بيّنت أثر الحالة النفسية للأم خلال هذه المرحلة، ونمو العلاقة فيما بينهما، إلى جانب تركيزها، أي الأبحاث، على الدور الغذائي للإرضاع الطبيعي وهو حليب الأم.

بينما نجد في مقابل هذه الأبحاث، أبحاثاً أخرى لكنها لم تجرِ من خلال المراقبة والتحليل والدراسة، وإنما هي نتائج خلص إليها أصحابها من خلال مصدر جامع لكل العلوم وما تحتويه من حقائق وسنن وقواعد، والتي تكون ليس فقط صحيحة لا تخطئ وإنما في منتهى الدقة والتصويب وذلك إنما يعود إلى كونها صادرة من معلم البشرية الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، وقد تم نقل هذه العلوم الجمّة إلى عترته الطاهرة وهم فاطمة وبعلها وبنوها عليهم السلام. ولذلك لا يحتاج بك أيها القارئ الكريم الرجوع إلى صغائر الأمور وكبائرها هنا وهناك وإلى نظريات صحيحة اليوم قد تكون فاقدة لمحتواها غدا،

ص: 177


1- سورة النساء، الآية: 122.

وعليك بالرجوع إلى مصدرها الأول فكم من حقيقة لم يتوصل إليها باحث قد حوتها دفّتا هذا المصدر.

ف - (مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )(1).

فخذها من مصدرها الأول ثم تلذذ بما حوته من حقائق اكتشافها بنفس والتقطها بفهمك كما يلتقط الطير حبة القمح من بين حبات الحجارة.

أولاً: الجانب الغذائي لحليب الأم في روايات أهل البيت عليهم السلام

أما ما يخص الجانب الغذائي لحليب الأم وأثره في صحة الطفل، فقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الحقائق التالية:

1 - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«ما من لبن يرضع به الصبيّ أعظم بركة عليه من لبن أمه»(2).

2 - عن أم إسحاق بنت سليمان قالت: - قال لي أبو عبد الله الصادق عليه السلام -:

«يا أم إسحاق لا ترضعيه من ثدي واحد وأرضعيه من كليهما يكون أحدهما طعاما والآخر شرابا»(3).

3 - عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«الرضاع واحد وعشرون شهراً فما نقص فهو جورٌ على الصبي»(4).

ص: 178


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- الكافي: ج 6، ص 40، باب الرضاع.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
ثانيا: الأثر التكويني للإرضاع في روايات أهل البيت عليهم السلام

وأما ما يخص الأثر التكويني للإرضاع في خلق الإنسان:

1 - عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يعدي، وإن الغلام ينزع إلى اللبن، يعني إلى الظئر في الرعونة والحمق»(1).

2 - عن عبيد الله الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام امرأة ولدت من الزنا اتخذها ظئرا قال:

«لا تسترضعها ولا ابنتها(2)، التي ولدت من الزنا»(3).

3 - عن مسعدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

كان أمير المؤمنين يقول:

«لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغلب الطباع»، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسترضعوا الحمقاء فإن الولد يشب عليه»(4).

4 - عن محمد بن مروان قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام:

«استرضع لولدك بلبن الحسان وإياك والقباح فإن اللبن قد يعدي».

5 - عن سعيد بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

ص: 179


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني رحمه الله: ج 6، باب: ما يكره لبنه، ح برقم 8.
2- المصدر السابق: ص 42.
3- المصدر السابق: ص 44.
4- المصدر السابق: ص 44.

«لا تسترضعوا للصبي المجوسية واسترضع له اليهودية والنصرانية ولا يشربن الخمر، ويمنعن من ذلك»(1).

ولهذه الحقائق التي لم يتوصل إليها العلم المعاصر فقد جاء في الأثر عن سيد الكونين أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان يأتي مراضع ولد فاطمة عليها السلام فيسقيهم من ريقه، ويقول لفاطمة عليها السلام:

«لا ترضعيهم»(2).

أي: مزيج من علم وحي الكتاب وعلم النبوة، وبهذا يكون وليد فاطمة قد ارضع منها مع ريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغذته بحنانها وحبها كما غذاه جده المصطفى، ولذا (كان أشبه الناس به خلقا وهيأة وسؤددا)(3)، صلوات الله عليهم أجمعين.

ص: 180


1- المصدر السابق: ص 44، برقم 14.
2- الخرائج والجرائح: ج 1، ص 94؛ بحار الأنوار: ج 43، ص 250، ح 25.
3- العدد القوية: اليوم الخامس عشر، ص 29.

المبحث السادس: مراسيم اليوم السابع للمولود

اشارة

امتاز اليوم السابع من عمر الطفل بمراسيم وسنن لم تكن معظمها معروفة لدى العرب قبل الإسلام، ولما ولد الإمام الحسن عليه السلام قام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتلك المراسيم مع ولده الحسن عليه السلام فكانت سنة يستحب إتباعها وإحياؤها، وبخاصة أن كثيراً من الأسر أصبحت اليوم تتبع ما هو بعيد عن روح الإسلام، ولعل ذلك يعود إلى سوء نقل المعلومة إلى الأهل، أو لانجرافها بدون دراية أو فهم لما يرد على الأسرة المسلمة من ظواهر مستهجنة تحت غطاء التطور العلمي للحياة أو ظنّاً من البعض أنه يحمل مستوى ثقافياً وهو غير قادر على التمييز بين ما هو ثقافة اجتماعية دينية وبين ما هو ثقافة عجائزية.

ولذلك قام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بفرز ما هو مستهجن عن روح الإسلام فيما يخص مراسيم اليوم السابع، وحتى اختيار هذا اليوم لم يكن معتمدا عند العرب ولا تدري ما يحمله من آثار نفسية وروحية وشخصية للمولود، ولذلك سنستعرض لهذه المراسيم حسب تسلسلها، وإن كانت تجرى جميعها في هذا اليوم كما هو ثابت في السنة النبوية.

ص: 181

فعن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن العقيقة والحلق والتسمية بأيها يبدأ؟ قال:

«يضع ذلك كله في ساعة واحدة»(1).

المسألة الأولى: استقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمولود فاطمة

يبدو من خلال الروايات أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان مواكبا لهذا الحدث أي: حمل فاطمة وولادتها وما تبعها من أمور، ولذلك نجد أن الروايات قد تناول قسم منها متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لولادة فاطمة لحظة الولادة وحضوره عندها، مخففاً عنها جهد الولادة، ثم استقباله المولود وتغيير القماش الذي لف فيه من الأصفر إلى الأبيض ثم قيامه صلى الله عليه وآله وسلم بالأذان في أذن المولود اليمنى، والإقامة في اليسرى كما مرّ بيانه سابقا.

وأما القسم الثاني من الروايات فقد رصدت حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم السابع من عمر الإمام الحسن عليه السلام، وكي يلفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتباه المسلمين إلى المكانة الخاصة التي يحملها هذا المولود. تولى أمر هذا اليوم بنفسه في حين إنها من عمل الأب، لذلك يدل على هذا العمل أنه ابنه، كما كان ينبّه عليه المسلمين، وكان يقول لفاطمة: ادعي لي ابنيّ فيشمهما إليه(2)، أي

ص: 182


1- وسائل الشيعة للعاملي: ج 21، ص 420، برقم 27469.
2- أخرجه البخاري في التاريخ الكبير: ج 8، ص 377-378، ضمن ترجمة يوسف بن إبراهيم 3388؛ وأخرجه الترمذي في السنن: ج 5، ص 657-658، كتاب المناقب (50) باب فضل الحسن.. (31) الحديث 3772؛ والبغوي في مصابيح السنة: كتاب المناقب، باب مناقب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برقم 4831.

الحسن والحسين عليهما السلام، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«كل بني أم عصبتهم لأبيهم إلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم»(1).

كل ذلك كي تتمسك الأمة بأهل بيته من بعده، ويعلموا منزلتهم ومكانتهم عند الله ورسوله.

ولذا: لما كان اليوم السابع من مولده جاءت به أمه فاطمة عليها السلام تحمله إلى أبيها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو (ملفوف في خرقة حرير من الجنة نزل بها جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2)، فسماه والظاهر: أن هذه الخرقة هي التي استبدلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخرقة الصفراء التي لف بها الإمام الحسن عند ولادته فرمى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفه بخرقة بيضاء، أي: التي نزل به جبرائيل من الجنة، كما يدل عليه حديث الإمام الصادق عليه السلام في التسمية - الذي سيمر علينا -.

المسألة الثانية: كيف جرت التسمية ؟ ومن الذي سماه ؟ جبرائيل عليه السلام أم والداه عليهما السلام

أخرج الشيخ الكليني رحمه الله، عن الحسين بن خالد، قال سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن التهنئة بالولد متى فقال عليه السلام:

«إنه لما ولد الحسن بن علي هبط جبرائيل بالتهنئة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم السابع وأمره أن يسميه ويكنيه، ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه

ص: 183


1- المعجم الوجيز للميرغني: ص 286، حديث 568؛ ورواه الطبراني في المعجم الصغير: ج 2، ص 278، برقم 2694.
2- العدد القوية لرضا الدين الحلي: ص 29، اليوم الخامس عشر.

وكذلك كان حين ولد الحسين أتاه في اليوم السابع وأمره بمثل ذلك»(1).

وعن الصادق عليه السلام قال:

لما ولد الحسن بن علي أهدى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه في سرقة(2) من حرير من ثياب الجنة فيها (حسن) واشتق منها اسم الحسين فلما ولدت فاطمة الحسن أتت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمّاه حسنا، فلما ولدت الحسين أتته به قال صلى الله عليه وآله وسلم: هذا أحسن من ذاك فسماه الحسين»(3).

ويبدو من خلال رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استلم الاسم من جبرائيل عليه السلام وهو في خرقة من ثياب الجنة كما بعد حوار بينهما.

فقد أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: حدثتني أسماء بنت عميس قالت:... قال رسول الله لعلي:

«يا علي بم سميت ابنك هذا؟».

قال:

«ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله».

قال:

«وأنا ما كنت لأسبق ربي».

ص: 184


1- الكافي: ج 6، ص 33-34، برقم 6؛ وسائل الشيعة للعاملي رحمه الله: ج 21، ص 432، برقم 27507.
2- سرقة، أي: أحسن الحرير، قال الجوهري: السرق، شقق الحرير، قال أبو عبيد: إلا أنها البيض منها، والواحدة سرقة.
3- بحار الأنوار: ج 43، ص 251، برقم 28.

فهبط جبرائيل عليه السلام فقال:

«إن الله عزّ وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمد علي منك بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدك فسمِّ ابنك باسم ابن هارون».

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا جبرائيل وما اسم ابن هارون ؟».

قال جبرائيل عليه السلام:

«شبّر».

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«وما شبّر؟».

قال عليه السلام:

«الحسن(1).

قالت أسماء: فسماه الحسن.

وقد وردت في كثير من الأحاديث: تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهما عليهما السلام باسم ابني هارون(2).

أما السبب في نزول اسم في خرقة من حرير الجنة فهو للتكريم، ولبيان أنهم

ص: 185


1- أمالي الطوسي رحمه الله: المجلس 13، ص 367؛ صحيفة الرضا عليه السلام: متن الصحيفة 73، ص 39؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 2، ص 25؛ المناقب لابن شهر: ج 4، ص 25، وقريب من لفظه؛ أخرجه الصدوق بسند عن أبي حمزة الثمالي، عن زيد بن علي، عن أبيه، علل الشرائع: ج 1، ص 137؛ معاني الأخبار: ص 57؛ شرح الأخبار: ج 2، ص 25.
2- مسند الفردوس للديلمي: برقم 3533.

سادات أهل الجنة وقد ورد عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«سمي الحسن (حسنا)؟ لأن بإحسان الله قامت السموات والأرضون، واشتق (الحسين) من الإحسان، و (علي والحسن) اسمان من أسماء الله تعالى والحسين تصغير الحسن»(1).

وكان الله عزّ وجل حجب هذين الاسمين عن الخلق، يعني: (حسنا وحسينا) حتى يسمى بهما ابنا فاطمة عليها السلام، فإنه لا يعرف أن أحدا من العرب تسمى بهما في قديم الأيام إلى عصرهما لا من ولد نزار، ولا اليمن مع سعة أفخاذهما، وكثرة ما فيهما من الاسامي.

وإنما يعرف فيهما (حسْن) بسكون السين، و (حَسِين) بفتح الحاء وكسر السين، وأما حسن بفتح الحاء، والحسين - كذلك - فلا نعرفه إلا اسم جبل معروف، قال الشاعر:

لأم الأرض وبل ما أجنت *** بحيث أضر بالحسن السبيل(2)

المسألة الثالثة: العقيقة وحلق شعر رأس المولود

(العقيقة: وهي الذبيحة التي تذبح للمولود وأصل العق الشق والقطع، وقيل للذبيحة عقيقة ؟ لأنه يشق حلقها، وأصلها كما قال الأصمعي وغيره: الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وجعله الزمخشري أصلا والشاة المذبوحة

ص: 186


1- بحار الأنوار للمجلسي رحمه الله: ج 43، ص 25، حديث 30.
2- البحار: ج 43، ص 252؛ قلائد الجمان للقلقشندي: ص 159.

مشتقة منه(1)، قال: أبو عبيد: فهو من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه، وقد أنكر أحمد بن حنبل قول الأصمعي وغيره أنها الشعر بأنه لا وجه له وإنما هي الذبح نفسه، قال: أبو عمر! وهذا أولى وأقرب إلى الصواب، واحتج له بعض المتأخرين بأنه المعروف لغة يقال: عق إذا قطع(2).

ولأهمية العقيقة وأثرها في سلامة المولود، فقد أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام عليها، فعن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«كل غلام مرتهن بعقيقته تذهب عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى»(3).

وأخرج الشيخ الكليني رحمه الله عن الفراء، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«الغلام رهن بسابعه بكبش يسمى فيه ويعق عنه»(4).

وفي حديث عن عائشة أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المسلمين بأن يعق كل مولود له عن ولده(5).

ص: 187


1- سبل السلام للضعاني: ج 4، ص 189-190.
2- الموطأ بشرح الزرقاني: ج 3، ص 136.
3- رواه أبو داود، في كتاب الأضاحي، باب العقيقة حديث رقم 2838، ج 3، ص 106؛ والنسائي في السنن: كتاب العقيقة، باب: متى يعق: ج 7، ص 166؛ ورواه أحمد، وابن ماجه، وصححه الترمذي.
4- الكافي: ج 6، ص 26، كتاب: العقيقة حديث 5؛ وسائل الشيعة للعاملي: ج 21، ص 416، حديث رقم 27455.
5- صحيح الترمذي: ج 4، ص 96-97، كتاب الأضاحي، باب: ما جاء العقيقة: حديث رقم 1513؛ ورواه ابن ماجه في كتاب: الذبائح، باب: العقيقة، حديث رقم 3163، ج 2، ص 1056.

ولذلك نجد أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قام بنفسه بأمر العقيقة عن الحسن والحسين عليهما السلام، بل ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم عق بيده عن الحسن عليه السلام.

فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن بيده، وقال: بسم الله عقيقة عن الحسن، وقال: اللهم عظمها بعظمه ولحمها بلحمه ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللهم اجعلها وقاء لمحمد وآله»(1).

وقد تناقلت الحفاظ فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا، أي قيامه بالعق عن الحسن والحسين عليهما السلام فعن ابن عباس أنه قال:

«إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا»(2).

وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا يوم السابع وسماهما وأمر أن يحاط عن رأسيهما الأذى(3)، أي الحلق.

والعلة في حلق شعر المولود هو لما يحمله من آثار رحم الأم خلال مدّة الحمل، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم يحاط عنه الأذى، وكلمة (الأذى) تشمل الأذى الوارد عن طريق المكونات الجرثومية وتشمل الأذى من خلال الآثار

ص: 188


1- الكافي: ج 6، ص 26، كتاب: العقيقة؛ أخرجه العاملي رحمه الله في الوسائل: ج 21، ص 430، حديث رقم 7504.
2- رواه أبو داود، في كتاب الأضاحي، باب العقيقة حديث رقم 2841، ج 3، ص 107؛ وصححه ابن خزيمة، وابن الجرود، وعبد الحق، ورواه النسائي في كتاب العقيقة، باب: كم يعق عن الجارية.
3- موارد الظمآن للهيثمي: ج 3، ص 385.

الروحانية كما تدل عليه كثير من النصوص كحدث أم الصبيان.

والغرض هو: التمسك بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس بما يؤوله كثير من الناس، ولكن قلنا لا يخلو الأمر من أن ترك الشعر على رأس المولود بعد الولادة وعدم حلقه وبخاصة في اليوم السابع يسبب أذى له.

والمهم في الأمر أن يكون هذا كله يجري في اليوم السابع، أما إذا لم يتم الحلق والعقيقة والتسمية والختام في هذا اليوم فيبدو أنها تفقد الأثر الإيجابي ويصبح الأمر سيَّين تمّ أم لم يتم سوى العقيقة فهي مطلوبة حتى وإن لم تتم في هذا اليوم(1).

وذلك جاء في الحديث أن النبي الأكرم أمر فاطمة عليها السلام بحلق رأسيّ الحسن والحسين عليهما السلام(2) والتصدّق بوزنيهما ورقا(3)، وفي رواية فضة(4).

ص: 189


1- التهذيب للطوسي رحمه الله: ج 7، ص 446، باب: الولادة والنفاس والعقيقة؛ الكافي: ج 6 ص 28.
2- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 518؛ مكارم الأخلاق للطبرسي: ص 228؛ مسند أحمد: ج 6، ص 39؛ والبيهقي في الآثار: ج 9 ص 304؛ المغني: ج 13، ص 397.
3- أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ج 4، ص 333-334، كتاب العقيقة، باب: العق يوم السابع؛ وابن أبي شيبة في المصنف: ج 8 ص 241، كتاب العقيقة، باب: في أي يوم تذبح العقيقة؛ وسائل الشيعة: ج 21، ص 410، وفي ص 420.
4- الكافي للكليني رحمه الله: ج 6، ص 33، برقم 5؛ وسائل الشيعة للعاملي: ج 1، ص 431، حديث رقم 7506، وفي ص 420، برقم 27469؛ الموطأ لإمام المالكية، كتاب العقيقة، باب: ما جاء في العقيقة؛ والزرقاني في شرحه للموطأ: ج 3، ص 137؛ وأخرجه البيهقي في معرة السنن والآثار: ج 14، ص 69، حديث 19140؛ السيل الجرار للشوكاني: ج 4، ص 92؛ نيل الأوطار: ج 5، ص 154؛ المجموع للنووي: ج 8 ص 413؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 390، كتاب العقيقة؛ المغني: ج 13 ص 397؛ طبقات النعيمي: ص 403.

وفي قول آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم حلق رأسيّ الحسن والحسين عليهما السلام بنفسه وأمر فاطمة بأن تتصدق بوزن شعرهما(1)، فكان وزن شعر الحسين عليه السلام درهما ونصفاً(2).

فيستحب بعد الحلق أن يطلى رأس المولود بالخلوق(3)، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك مع الحسن عليه السلام(4)، ولقد كانت العرب قبل الإسلام تطلي رأس المولود بالدم، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

إن الدم من فعل الجاهلية(5).

والمراد بالدم: هو دم الذبيحة، أي: عقيقة المولود(6).

ويستحب أن يبعث إلى القابلة برجل الشاة أو الكبش(7)، وأن لا تأكل أم

ص: 190


1- وسائل الشيعة للعاملي رحمه الله: ج 21 ص 410، باب: استحباب التحنيك؛ مستدرك الوسائل: ج 15، ص 142، باب: أنه يستحب أن يعق عن المولود.
2- مستدرك الوسائل: ج 15، ص 142، باب: إنه يستحب أن يعق عن المولود؛ شرح الزرقاني على الموطأ: ج 3، ص 137، حديث رقم 1104.
3- طيب مركب من الزعفران وغيره.
4- وسائل الشيعة للعاملي رحمه الله: ج 21، ص 410، باب: استحباب التحنيك؛ بحار الأنوار: ج 43.
5- المصدر السابق.
6- الكافي: ج 6، ص 26-29؛ وسائل الشيعة: ج 21، ص 416، حديث رقم 27455.
7- وسائل الشيعة: ج 21، ص 408، حديث رقم 27427؛ وأخرجها البيهقي في معرفة السنن، ج 14، ص 70، حديث رقم 17143؛ وأخرجه أبو داود في المراسيل في باب العقيقة؛ شرح الأخبار: ج 2، ص 44، برقم 170.

المولود وأبوه من لحم العقيقة(1)، وأن يجرى عليها الإطعام، أو تهدى إلى الجيران كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام(2)، فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«كلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظاما»(3).

أي: يكره أن تقطع الذبيحة على قطع صغيرة فتكسر عظامها.

المسألة الرابعة: تحنيك الغلام وختانه وثقب أذنه

ألف: التحنيك

قد ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قام بتحنيك الحسن والحسين عليهما السلام في اليوم السابع من ولادتهما.

فقد أخرج الشيخ الكليني رحمه الله عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«حنكوا أولادكم بالتمر هكذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن والحسين عليهما السلام»(4).

والتحنيك هو: أن تمضغ التمر ثم تدلكه بحنك الصبي داخل فمه(5)، وقد

ص: 191


1- الكافي: ج 6، ص 32، حديث رقم 1، باب: إن الأم لا تأكل من العقيقة.
2- الكافي للكليني رحمه الله: ج 6، ص 33، باب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة عليها السلام عقا عن الحسن والحسين عليهما السلام.
3- البيهقي في معرفة السنن: ج 14، ص 70، حديث 19143.
4- الكافي: ج 6، ص 24، حديث رقم 5.
5- لسان العرب: ج 10، ص 416، مادة (حنك).

ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يحنك أولاد الأنصار(1).

ولذلك ورد في أحاديث العترة النبوية أحاديث تحث على القيام بهذه السنة النبوية فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«يحنك المولود بماء الفرات، ويقام في أذنه»(2).

وفي رواية أخرى:

«حنّكوا أولادكم بماء الفرات وبتربة قبر الحسين عليه السلام فإن لم يكن فبماء السماء»(3).

باء: الختان

ومن المراسيم الخاصة باليوم السابع (الختان) وهو من السنّة المؤكدة الواجب فعلها للغلام. أما النبي والإمام فإنه يولد مختونا لأنه طاهر أصلا لما ورد في محكم التنزيل من تطهير أهل البيت من كل رجس(4).

جيم: ثقب الأذن

أما ثقب أذن الغلام فقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثقب أذن الحسن والحسين عليهما السلام، كما أمره جبرائيل عليه السلام، وهو ما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخ الكليني رحمه الله عن الحسين بن خالد قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن التهنئة بالولد متى ؟ فقال عليه السلام:

ص: 192


1- المصدر السابق.
2- الكافي: ج 6، ص 24، حديث رقم 4.
3- المصدر السابق.
4- (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). الأحزاب، الآية: 33.

«إنه لما ولد الحسن بن علي عليهما السلام هبط جبرائيل عليه السلام بالتهنئة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم السابع وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه، وكذلك كان حين ولد الحسين عليه السلام أتاه في اليوم السابع فأمره بمثل ذلك، وكان الثقب في الأذن اليمنى في شحمة الأذن وفي اليسرى في أعلى الأذن، فالقرط باليمنى والشنف في اليسرى»(1).

والعلة في ذلك هي خلاف سنة اليهود، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«يا فاطمة أثقبي أذنيّ الحسن والحسين خلافا لليهود»(2).

المسألة الخامسة: حقيقة تظهرها ولادة الإمام الحسن هي ليس لفاطمة عليهما السلام نفاس ؟!

كشفت ولادة الإمام الحسن عليه السلام حقيقة عملية من حقائق الرفعة والطهر لبيت العترة النبوية الطاهرة عليهم السلام.

وهذه المرّة قد قطع الطريق على المنافقين والمنكرين لفضائل العترة النبوية، فلكم من حديث سمعه المسلمون في مناقب أهل البيت عليهم السلام ولاسيما في البضعة الزهراء وقد كانوا بين موقن به قلبا وعقلا، أو موقن به قلبا غير محتمله عقلا، أو منكر له عقلا وقلبا، ولاسيما تلك الأحاديث التي فيها خصوصية هي في واقعها مغايرة للطبيعة البشرية.

ص: 193


1- الكافي: ج 6، ص 33-34، حديث رقم 6؛ وسائل الشيعة: ج 21، ص 432، حديث رقم 27507.
2- وسائل الشيعة: ج 21، ص 433، باب: استحباب ثقب الأذن؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 3، ص 489، باب: العقيقة.

والنفاس: هو وظيفة طبيعية وفيزيولوجية من وظائف رحم المرأة، وخصوصية من خصوصيتها التكوينية التي ركبها الله عزّ وجل فيها إذ يقوم الرحم في هذه المرحلة بقذف الدم إلى خارج الجسم.

وتختلف النساء في مدة النفاس، وفي مقدار الدم الخارج، وقد عرّفه الفقهاء في مصنفاتهم بأنه: (دم يقذفه الرحم بسبب الولادة، معها، أو بعدها، لا قبلها، فكل دم المرأة الحامل قبل الولادة إن أمكن فيه الحيض فحيض، وإلا فاستحاضة.

أما حكمة: فليس لأقل النفاس حد فلو رأت الدم عند الولادة، أو بعدها لحظة ثم طهرت، تجعل اللحظة نفاسا.

وأما أكثره، فالمشهور عشرة أيام إن حصل النقاء ولم يتجاوز الدم العشرة، وإلا فإن تجاوز العشرة عليها أن ترجع إلى عادتها في الحيض، فتجعلها نفاسا، والباقي استحاضة، ويجب غسل النفاس عند النقاء من الدم(1).

وهذا الاختلاف بين امرأة وأخرى، هو في حد ذاته كاشف عن حكمة الله عزّ وجل وعن عناصر تكوينية ووراثية ومزاجية، فالمرأة التي تنحدر من جذور هاشمية أو قرشية تختلف عن غيرها في مقدار مدة خصوبتها وقدرتها على الإنجاب والتناسل، فسن اليأس عندها في الستين(2)، وفي غيرها في الخمسين ولا ملاك لمن زاده على الخمسين في غير الهاشمية والقرشية.

فإذن:

ص: 194


1- اجماعيات فقه الشيعة: للفقيه المحقق السيد إسماعيل أحمد المرعشي: ج 1، ص 128، كتاب الطهارة، باب الاغتسال الواجبة - غسل النفاس.
2- المصدر السابق: ص 121.

تلك التغيرات هي بقدرة الله عزّ وجل، ومن قدرته أن جعل بنات الأنبياء لا يطمثن، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: ما البتول ؟ فإنا سمعناك يا رسول الله تقول: إن مريم بتول وإن فاطمة بتول ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«البتول التي لم تر حمرة، أي: لم تحض، فإنه مكروه في بنات الأنبياء»(1).

وإذا كان هذا حال بنات الأنبياء عليهم السلام فمن باب أولى أن تكون ابنة سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم هي البتول قطعا.

أضف إلى ذلك أن هذا أحد الأدلة التي تؤكد حقيقة كونها (وحيدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم). إذ لم يرد ولو من باب الرواية الضعيفة أن (رقية، وأم كلثوم، وزينب) كانت كل واحدة منهنّ بتولاً ولم يشر إلى إحداهن ذلك لا من بعيد أو قريب.. وحتى لو حملت البتول على المعنى اللغوي الآخر لها وهو: (المنقطعة عن الدنيا إلى الله) أو (المنقطعة من الرجال لا أرب لها فيهم)(2)، فهو لم يرد لإحداهن ذلك كما أن التبتل في الإسلام منهيّ عنه.

ولذا يبقى المراد والمشهور من (البتول) هي التي لا ترى حمرة الدم عند الدورة الشهرية أو عند الولادة، أي: إن فاطمة البتول عليها السلام لم تتوقف عن أداء الفرائض الواجبة في أي حال من الأحوال، وفي أي وقت من الأوقات وبذلك

ص: 195


1- مستدرك الوسائل: ج 2، ص 37، باب: نوادر ما يتعلق بأبواب الحيض؛ علل الشرائع للصدوق: ج 1، ص 181؛ معاني الأخبار: ص 64؛ دلائل الإمامة للطبري: ص 54؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 464؛ مجمع البحرين: ج 5، ص 317.
2- لسان العرب: ج 11، ص 42، مادة: بتل؛ مجمع البحرين: ج 5، ص 316.

فقط يصح القول بأنها (المنقطعة عن الدنيا إلى الله تعالى) وهذا الانقطاع وعدم التوقف في العبادة يستلزم أن تكون المرأة في حالة الطهر، إذ أجمع المسلمون على أنّ شرط صحة الفروض التكليفة للمسلم ذكرا أو أنثى متوقف على الطهارة، والمرأة التي ترى حمرة الدم لا يصح منها أداء الفريضة لأنها غير طاهرة تلك المدّة.

ولذلك: تبقى فاطمة الزهراء عليها السلام هي (البتول) سواء حمل على عدم رؤية الدم أو (المنقطعة إلى الله تعالى) ففي كلتا الحالتين يستلزم دوام الطهارة، وهو ما لم يتحقق إلا لها عليها السلام فتلك هي حكمة الله عزّ وجل، وتلك هي إرادته في أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا(1).

أضف إلى ذلك ما ورد بسند صحيح عن طريق أهل بيت النبوة عليهم السلام عن علي بن جعفر رضي الله عنه عن أخيه أبي الحسن عليه السلام(2)، قال:

«إن فاطمة صديقة شهيدة وإن بنات الأنبياء لا يطمثن»(3).

وأما ما ورد عن طرق العامة، فقد أخرج الحافظ ابن المغازلي، عن زيد بن علي عن أبيه عن زينب بنت علي، قالت حدثتني أسماء بنت عميس قالت: وقد كنت شهدت فاطمة وقد ولدت بعض ولدها فلم ير لها دم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 196


1- سورة الأحزاب: الآية 33.
2- الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام.
3- الكافي للكليني رحمه الله: ج 1، ص 458، كتاب الحجة، باب: مولد الزهراء عليها السلام.

«يا أسماء إن فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية»(1).

وفي رواية انه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«إنها حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث»(2).

وعن عائشة قالت: وكانت فاطمة لا تحيض، ولقد وضعت الحسن بعد العصر وطهرت من نفاسها فاغتسلت وصلّت المغرب(3).

وخير ما نختم به البحث ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام، عن أسماء، قالت: قبلتُ ، أي: ولدت فاطمة بالحسن فلم أرَ لها دماً! فقلت: يا رسول الله إني لم أر لها دما في حيض ولا نفاس ؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرى لها دم في طمث ولا ولادة»(4).

ص: 197


1- مناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي: ص 229، برقم 416.
2- كنز العمال للهندي: ج 12، ص 109، حديث 34226؛ ذخائر العقبى للطبري: ص 26.
3- أخبار الدول للقرماني: ج 1، ص 256؛ ذخائر العقبى للطبري: ص 44.
4- صحيفة الرضا عليه السلام: ص 90.

المبحث السابع: الحمل الثاني لفاطمة عليها السلام

المسألة الأولى: أمور خاصة رافقت الحمل الثاني لفاطمة عليها السلام

اشارة

امتاز الحمل الثاني لسيدة النساء عليها السلام بأمور خاصة، نقتصر على ذكرها ونعرض عن ما تم سرده في ولادة الحسن عليه السلام من التسمية والعقيقة وحلق الرأس وغيرها، فما قام به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للحسن عليه السلام قام بمثله لأخيه الحسين عليه السلام.

أولاً: حال الزهراء قبل ولادة الحسين عليه السلام ليس له مثيل في سجل الأمومة

ولكن جرت أمور خاصة، بل فريدة في الحمل الثاني لفاطمة لم تشهدها الإنسانية بل لم يعرفها سجلها الحضاري، إذ لم يعهد أن هناك أمّاً حملت ثم يقال لها: إن ما تحملين في أحشائك هو غلام وستلدينه ويكبر، لكنه يقتل في أرض فلاة حيث لا ناصر له ولا معين سوى ثلة من أهل بيته وأصحابه يقتلون معه أيضا!!

ثم يمضي الليل والنهار وتراها تعد الساعات لترى هذا المولود وتضمه إلى

ص: 198

صدرها، وتبكيه وليدا وقد بكته من قبل جنينا...

وفي الواقع.. لا أدري أي أحاسيس.. وأي مشاعر كانت تختلج في نفس بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهي تنظر إلى حملها حيناً.. وتتأمل حيناً آخر في حركات جنينها وهو يناغي أحشاءها بل روحها؟!

وعندما ولدته.. لا أدري كيف كانت تنظر إليه.. وهي عارفة أن هذا الصدر الذي يشابه صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1) المصطفى ستسحقه خيول بني أمية ؟!

ترى هل كانت تتحسس بيديها تلك الأضلع عندما كان يغفو في مجرها.. ترى هل كانت ترى مواضع السيوف عندما تشم عنقه وهو يداعب بأنامله الرقيقة خصلات من شعرها؟!

لا أدري.. كيف كانت تسرّح شعره وصورة رأسه المقطوع أمام ناظرها.. هل كانت دموعها ترطب خصلات شعر ولدها.. لا أدري كيف كانت تلبسه ثيابه وهي تعلم أنه مسلوب الثياب عريانا تحرقه حرارة الشمس ورمضاء الثرى في كربلا؟!

ترى.. كيف كانت تطعمه.. كيف لها قلب أن تسبقه.. أو كيف هي تشرب الماء وهو ينظر إليها أو يطلبه منها! هل تتأخر عليه ؟! أو تأتيه بالماء وهي مسرعة باكية ؟!

ص: 199


1- رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب عليه السلام في السنن: ج 5، ص 660، برقم 3779؛ الإرشاد للمفيد: ج 2، ص 27؛ طبقات النعيمي: ص 403؛ وذكره الهيثمي في موارد الظمآن: ص 553؛ كتاب المناقب 36 باب: ما جاء في الحسن.... ص 15، الحديث 2235؛ وذكره القارئ في المرقاة: ج 5، ص 66؛ وعزاه لأبي حاتم، والبغوي في مصابيح السنة كتاب المناقب: ص 28، باب مناقب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ص 10، حديث 4834.

ترى.. أهناك أم حملت بمثل ما حملت الزهراء عليها السلام من الآلام.. أي أم علمت ما يجري على ولدها وهو يكبر أمام ناظرها.. وفي نفس الوقت صابرة محتسبة ومسلمة لأمر ربها؟!

كيف لنا أن نتحدث عن الأمومة وآثار الحمل والولادة على نفسية المرأة، بل على كل كيانها ثم نتجاهل تلك الآلام والأحاسيس التي عاشتها هذه الأم ؟!

وهل يتغافل البعض عن هذا، هل حقا بقي عندهم شيء من إنسانيتهم وضمائرهم ؟!

وإليك أيها القارئ الكريم بعض الأحاديث التي تتحدث عن أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام بما يجري على ولدها قبل أن يلد كما سيمر في ثانيا:

ثانياً: حملته كرها ووضعته كرها

1 - عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الكريم بن نصر عن عبد الكريم بن عمرو عن المعلى بن خنيس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح صباحا فرأته فاطمة باكيا حزينا، فقالت:

«ما لك يا رسول الله»؟

فأبى أن يخبرها، فقالت:

«لا آكل ولا أشرب حتى تخبرني».

فقال:

ص: 200

«إن جبرئيل عليه السلام أتاني بالتربة التي يقتل عليها غلام لم يحمل به بعد».

ولم تكن تحمل بالحسين عليه السلام.

«وهذه تربته»)(1).

عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«لما حملت فاطمة عليها السلام بالحسين جاء جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن فاطمة ستلد غلاما تقتله أمتك من بعدك، فلما حملت فاطمة الحسين عليه السلام كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه».

ثم قال أبو عبد الله عليه السلام:

«لم تُر في الدنيا أم تلد غلاما تكرهه ولكنها كرهته لما علمت أنه سيقتل، قال وفيه نزلت هذه الآية:

(وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً)(2)»(3) .

وفي رواية أخرى: إنها لما علمت أنه سيقتل قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا حاجة لي فيه».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله عزّ وجل قد وعدني فيه عدة».

ص: 201


1- كامل الزيارات: ص 62.
2- سورة الأحقاف: الآية: 15.
3- الكافي: ج 1، ص 464، كامل الزيارات: ص 55، المناقب لابن شهر: ج 4، ص 46.

قالت عليها السلام:

«ما وعدك ؟».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«وعدني أن يجعل الإمامة من بعده في ولده».

فقالت:

«قبلت»(1).

ورضاها هنا هو لمعرفتها في هذه الحالة أن صلاح الأمة وحفظ الشريعة متوقف على هذا الأمر وهو الإمامة، وهذا المقام لا يرتقى إليه إلا بالابتلاء وبالشكل الذي شاءه الله عزّ وجل، ولذا قال عليه السلام:

«شاء الله أن يراني قتيلا»(2).

وخذ له مثلا من محكم التنزيل فقد رأى إبراهيم الخليل أن قيام بيت الله متوقف على ذبح ولده إسماعيل.

وإسماعيل عليه السلام فهم المراد من قول أبيه عليه السلام:

(يٰا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ )(3).

فرد متفهما أن الأمر ارتبط بذبحه وأن مشيئة الله اقتضت ذلك.

فكان تسليما ورضا بمشيئة الله فقال:

(يٰا أَبَتِ اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ).

ص: 202


1- كمال الدين للصدوق: ج 2، ص 415، باب: ما روي في الإمامة.
2- الأخلاق الحسينية لجعفر البياتي: ص 42.
3- سورة الصافات، الآية: 102.

عرف إسماعيل أن هذه الرؤيا التي رآها أبوه هي أمر إلهي فعليه الامتثال ولذا قال: افعل ما تؤمر ولم يقل افعل ما رأيت، وفاطمة عليها السلام: فهمت من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم: أن قيام البيت ومناسكه متوقف على فدائه.

وفداؤه يجب أن يكون عظيما لأن الشيعة أعظم، ولذا:

(وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )(1).

والهاء في فديناه تعود إلى البيت وليس إلى إسماعيل، لأن إسماعيل هو الفدو المقدم للبيت فرفع عنه الأمر وقدم للبيت الحرام الحسين عليه السلام وكيف لا وهو من رسول الله ورسول الله منه(2)، ولذا كان عظيما لمقامه عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

المسألة الثانية: ولادته عليه السلام

اشارة

ولد بالمدينة لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع للهجرة(3).

ص: 203


1- سورة الصافات الآية: 107.
2- وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي رواه أصحاب الصحاح والمسانيد، فعن يعلى ابن مرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط»، وقد أخرجه أحمد في مسنده: ج 4، ص 172؛ وأخرجه البخاري في الأدب المفرد: ص 133-134، باب: معانقة الصبي 170، الحديث 366؛ وأخرجه الترمذي في السنن: ج 5، ص 658-659، كتاب المناقب 50، باب: مناقب الحسن والحسين الحديث 144؛ وأخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 177، كتاب معرفة الصحابة، باب استشهد الحسين يوم الجمعة، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي؛، وأخرجه البغوي في مصابيح السنة، كتاب المناقب برقم 4833.
3- الإرشاد للمفيد رحمه الله: ج 2، ص 27.

ولم يولد لستة أشهر خلا عيسى بن مريم عليه السلام، والحسين بن علي عليهما السلام(1)، ولعل وجه التشابه بينهما يرتبط بتخفيف المعاناة على الأم، فمريم عليها السلام لوضعها في بيت المقدس، وفاطمة عليها السلام لعلمها بأنه سيقتل فطول الحمل يزيد في أحزانها.

ولما وضعته جاءت له إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأذن بأذنه اليمنى وأقام في اليسرى(2)، ثم قال:

«خذيه يا فاطمة فإنه إمام ابن إمام، أبو الأئمة التسعة من صلبه أئمة أبرار والتاسع قائمهم»(3).

وفي اليوم السابع لولادته قام النبي بتسميته وعقّ عنه كبشا(4)، وقيل كبشين أملحين(5)، وحلق شعر رأسه ووزن فكان درهما ونصفاً من الفضة(6)، وتصدق به على المساكين، وبكاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ولد ويوم سابعه، بل كلما وقعت عيناه عليه دمعتا.

ص: 204


1- أخرجه ثقة الإسلام الشيخ الكليني رحمه الله في الكافي: ج 1، ص 464.
2- أخرجه أبو داود في السنن: ج 2، ص 621، كتاب الأدب، باب: الصبي يولد فيؤذن في أذنه؛ وأخرجه الترمذي في باب: الأذان في أذن المولود، من أبواب الأضحية؛ عارضه الأحوذي: ج 6، ص 315؛ وأحمد في المسند: ج 6، ص 391-392؛ وابن قدامة في المغني: ج 13، ص 401، مسألة رقم 1773؛ والنوري في المجموع: ج 8، ص 414.
3- كفاية الأثر للخزار: ص 194.
4- الكافي: ج 6، ص 33، برقم 5؛ وسائل الشيعة: ج 21، ص 431، برقم 27506؛ الإرشاد للمفيد: ج 2، ص 25.
5- وسائل الشيعة للعاملي رحمه الله: ج 21، ص 408، برقم 27427.
6- مستدرك الوسائل: ج 15، ص 142.
أولاً: رضاعته من إبهام النبي صلى الله عليه وآله وسلم

من الأمور الخاصة التي رافقت الحمل الثاني لفاطمة عليها السلام هو رضاعة وليدها الحسين عليه السلام، إذ لم تتولَّ الزهراء رضاعته وإنما كان الأمر منوطا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحكمة بيّنها هو».

فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها السلام ولا من أنثى، كان يؤتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع إبهامه في فيه فيمص منها ما يكفيه ليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين عليه السلام من لحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودمه»(1).

وفي رواية أخرى يبين صلى الله عليه وآله وسلم المغزى من هذا الفعل، قائلا لفاطمة عليها السلام:

«إنك ستلدين غلاما قد هنأني جبرائيل فلا ترضعيه حتى أجيء إليك ولو أقمت شهرا».

قالت:

«أفعل ذلك».

وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين فما أرضعته، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها:

«ماذا صنعت ؟».

قالت:

«ما أرضعته».

ص: 205


1- أخرجه الشيخ الكليني رحمه الله في الكافي: ج 1، ص 464.

فأخذه فجعل لسانه في فمه فجعل الحسين يمص، حتى قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«إيها حسين، إيها حسين».

ثم قال:

«أبى الله إلا ما يريد هي فيك و في ولدك».

يعني: الإمامة(1).

و قد روي أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يأتي مراضع فاطمة عليها السلام فيتفل في أفواههم ثم يقول لفاطمة لا ترضعيهم»(2).

و قد مرّ علينا في الفصل السابق أثر الإرضاع في التكوين الخلقي للإنسان، وهنا يؤكد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بهذا العمل انتقال السمات الخاصة برتبة الإمامة إلى الإمام الحسين عليه السلام من خلال هذا الإعجاز الخاص به صلى الله عليه و آله و سلم. أما مدة إرضاعه فكانت سنتين(3)، لقوله عزّ و جل:

(وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً)(4).

فحملته ستة أشهر و فصاله أربع و عشرون شهرا و هو تمام الثلاثين.

ص: 206


1- المناقب لا بن شهر: ج 4، ص 50.
2- الخرائج و الجرائح: ج 1، ص 94.
3- بحار الأنوار: ج 43، ص 258.
4- سورة الأحقاف: الآية 15.
ثانيا: تكريم النبي صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة عليها السلام و المسلمين بولادة الحسن و الحسين عليهما السلام
اشارة

من سنن اللطف و الجمال و الذوق أن يقدم للمرأة بعد معاناتها و مخاطرتها بالحمل و الو لا دة، أن يقدم لها تهنئة بالسلامة و تكريما لما أدخلته على الأهل و الأسرة من بهجة و سرور بإنجابها مولودا ليمارس دوره في الحياة و ليكون موضع فخر و اعتزاز للأهل.

و النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لم يغب عن ناظره هذا الأمر، بل إن كل جميل في الإسلام إنما نبع منه، و كل عذوبة في الحياة الإنسانية المستقيمة كان مصدرها، و لذا كانت تهنئته لا بنته و الأمة تنسجم مع كونه رحمة للعالمين.

فمن أنعم الله عليه بنعمة و جب الشكر له عليها، و قد أنعم الله عزّ و جل على هذه الأمة المرحومة - بنبيها و أهل بيته - بنعمة عظيمة أن جعل منها

«سيدي شباب أهل الجنة»(1).

و لذا و جب أن يكون الشكر من سنخ هذه الرحمة ألا و هي الصلاة، كي تكون دليلا منه صلى الله عليه و آله و سلم على عظم النعمة و ثانيا: كي تعم الرحمة على هذه الأمة و تتحقق النجاة لها يوم القيامة لا كتمال سبيلي الهدآية و هما الثقلان:

ص: 207


1- و هو الحديث النبوي الشريف، أخرجه أحمد في المسند: ج 5، ص 391؛ و أخرجه الترمذي في السنن: ج 5، ص 660-661، كتاب المناقب (50، باب مناقب الحسن و الحسين عليهما السلام 31، الحديث 3781؛ و ذكره المزي في تحفة الأشراف: ج 3، ص 30-31، الحديث 3323، و عزاه للنسائي؛ و أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 381، كتاب معرفة الصحابة، باب: كان حذيفة أعلم الناس.. و قال الذهبي: صحيح.

(كتاب الله و عترتي أهل بيتي)(1).

و التكريم تم بهذا الشكل:

ألف: زيادة الصلاة الواجبة سبع ركعات

أخرج الشيخ الكليني رحمه الله، عن عبد الله بن سليمان العامري، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال:

«لما عرج برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم نزل بالصلاة عشر ركعات، ركعتين، ركعتين، فلما ولد الحسن و الحسين زاد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم سبع ركعات شكرا لله، فأجاز الله له ذلك، و ترك الفجر لم يزد فيها لضيق و قتها و لأنه تحضرها ملائكة الليل و ملائكة النهار. فلما أمره بالتقصير في السفر وضع عن أمته ست ركعات و ترك المغرب لم ينقص منها شيء، و إنما يجب السهو فيما زاد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، فمن شك في أصل الفرض في الركعتين الأوليين استقبل صلاته(2)، أي و جب عليه إعادتها، كالصبح و الجمعة و المغرب و صلاة السفر، و كذلك في الرباعية إذا مرأ الشك

ص: 208


1- و هو الحديث النبوي الشريف المتواتر و المتفق على صحته عند جمهور المسلمين، و تناقلته مصنفات الفريقين و قد رواه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أربعة و ثلاثون من الصحابة و الصحابيات، راجع: سنن الترمذي: ج 5، ص 663، كتاب المناقب 50، باب مناقب أهل البيت 32، الحديث 3788؛ و أخرجه أحمد في المسند: ج 4، ص 366-367؛ و أخرجه الدارمي في السنن: ج 2، ص 431-432، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من القرآن؛ و أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 148، كتاب معرفة الصحابة: باب إني تارك فيكم الثقلين، و قال على شرط الشيخين و رافقه الذهبي.
2- الكافي للكليني رحمه الله: ج 3، ص 487؛ البحار للمجلسي رحمه الله: ج 43، ص 258، برقم 41.

قبل اكمال السجدتين من الثانية»(1).

باء: إن النبي صلى الله عليه و آله و سلم سن ّ نافلة المغرب شكرا لله على سلامة فاطمة عليها السلام

روي عن الصادقين عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بشر بالحسن عليه السلام و هو في آخر تسبيح المغرب قبل الدعاء فقام من و قته من غير أن يتكلم أو يصنع شيئا فصلى ركعتين جعلهما شكرا لله تعالى على سلامة فاطمة عليها السلام و و لا دتها الحسن عليه السلام ثم دعا بعد الركعتين و عقب بسجدتي الشكر و التعفير بينهما و كان ذلك سنّة، حتى ولد الحسين عليه السلام فجاء البشير به و قد صلى هاتين الركعتين بعد المغرب و هو في آخر تسبيحه فقام من غير تعقب فصلى ركعتين جعلها شكرا لله تعالى عقب الدعاء بعدهما و سجد، فجرت به سنته صلى الله عليه و آله و سلم أن لا يتكلم أحد بين فريضة المغرب و نافلتها(2).

جيم: إخبار النبي صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة عليها السلام بما يجري على الحسين عليه السلام بعد و لا دته

مثلما كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يخبر فاطمة عليها السلام بما يجري على الحسين عليه السلام قبل و لا دته كذلك كان حاله صلى الله عليه و آله و سلم مع فاطمة عليها السلام و ولدها بعد و لا دته ليدل على أن الحسين عليه السلام حالة فريدة و ابتلاءه و رزيته شاء الله أن تكون من خصوصيات سيد الأنبياء و المرسلين

ص: 209


1- اجماعيات فقه الشيعة: ج 1، ص 358.
2- المقنعة للشيخ المفيد رحمه الله: ص 117.

وابنته فاطمة عليها السلام التي لم تبتل أم مثلها مع ما لها من المنزلة و الحرمة عند الله تعالى، و إليك أيها القارئ الكريم هذه الروآية الكاشفة عن بعض هذه الخصوصية و الشأنية الابتلائية و انعكاساتها الوجدانية على الأم.

عن فرات قال حدثني جعفر بن محمد الفزاري عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان الحسين عليه السلام مع أمه تحمله فأخذه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قال:

«لعن الله قاتلك و لعن الله سالبك و أهلك الله المتوازرين عليك و حكم الله بيني و بين من أعان عليك».

قالت فاطمة الزهراء عليها السلام:

«يا أبه أي شيء تقول»؟!.

قال:

«يا بنتاه ذكرت (ذكرته) ما يصيبه بعدي و بعدك من الأذى و الظلم و (الغدر) و البغي و هو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل و كأني أنظر إلى معسكرهم و إلى موضع رحالهم و تربتهم».

قالت:

«يا أبي و أني (وأي و أين) هذا الموضع الذي تصف»؟.

قال:

«موضع يقال له كربلاء و هي دار كرب و بلاء علينا و على الأمة، يخرج (عليهم) شرار أمتي و إن أحدهم لو يشفع (شفع) له ما في السماوات و الأرضيين ما شفعوا فيه و هم المخلدون في النار».

ص: 210

قالت:

«يا أبه فيقتل»؟.

قال:

«نعم يا بنتاه و ما قتل قتلته أحد كان قبله و تبكيه السماوات و الأرضون و الملائكة (والوحش) و النباتات و البحار و الجبال و لو يؤذن لها (ما بقي) على الأرض متنفس و يأتيه قوم من محبينا ليس في الأرض أعلم بالله و لا أقوم بحقنا (لحقنا) منهم و ليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم أولئك مصابيح في ظلمات الجور و هم الشفعاء و هم واردون حوضي غدا أعرفهم إذا و ردوا عليّ بسيماهم و كل أهل دين (يطلبون أئمتهم و هم) يطلبونا و (لا يطلبون غيرنا و هم قوام الأرض و بهم ينزل الغيث».

فقالت فاطمة (الزهراء) عليها السلام:

«يا أبي إنا لله».

و بكت فقال لها:

«يا بنتاه إن أهل الجنان من الشهداء في الدنيا:

(أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا)(1).

(الحق) فما عند الله خير من الدنيا و ما فيها قتلة أهون من ميتته من كتب عليه القتل خرج إلى مضجعه و من لم يقتل فسوف يموت يا فاطمة بنت محمد أما تحبين أن تأمرين غدا (بأمر) فتطائعين في هذا الخلق عند الحساب أما ترضين أن

ص: 211


1- سورة التوبة، الآية: 111.

يكون ابنك من حملة العرش أما ترضين (أن يكون) أبوك يأتونه (يأتيه) يسئلونه الشفاعة أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش من الحوض فيسقي منه أولياءه و يذود عنه أعداءه أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار و الجنة و يأمر النار فتطيعه يخرج منها من يشاء و يترك من يشاء أما ترضين أن تنظري إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك و إلى ما تأمرين به و ينظرون إلى بعلك و قد حضر الخلائق و هو يخاصمهم عند الله فما ترين الله صانعا بقاتل ولدك و قاتليك إذا أفلحت (فلجت) حجته على الخلائق و أمرت النار أن تطيعه أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي لا بنك و يأسف عليه كل شيء أما ترضين أن يكون من أتاه زائرا في ضمان الله و يكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت الله الحرام و اعتمر و لم يخل من الرحمة طرفة عين و إذا مات، مات شهيدا و إن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي و لم يزل في حفظ الله و أمنه حتى يفارق الدنيا»

قالت:

«يا أبة سلمت و رضيت و توكلت على الله».

فمسح على قلبها و مسح (على) عينيها، فقال:

«إني (أنا) و بعلك و أنت و ابناك في مكان تقر عيناك و يفرح قلبك».

(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ )(1).

ص: 212


1- سورة التوبة، الآية: 119.

الفصل الثالث: الطفولة في بيت فاطمة عليها السلام

اشارة

ص: 213

ص: 214

اهتم القرآن و العترة النبوية الطاهرة بالطفل و الطفولة، و لقد ركز القرآن على جميع الجوانب الخاصة بهذه المرحلة، ابتداء من انعقاد النطفة و انتهاء بمرحلة الرشد، و لقد سبق القرآن العلوم الحديثة في بيان خصائص الطفل و الطفولة.

فمن حيث إن علم نفس الطفل، و علم نفس النمو، و علم النفس التكويني، و غيرها قد عدّ انعقاد النطفة، و تكوين الجنين في رحم أمه و هو ما يعرف ب - (البيئة الرحمية)(1) بدآية لتكوين الخصائص النفسية للطفل: فرأى أن كل ما تعمله الأم أو تفكر فيه أو تشتهيه له تأثير مباشر على الجنين، رأى البعض الآخر: أن تجارب الأم لها تأثير قليل جدا على الجنين، في حين ذهب علماء الوراثة و المتخصصون في حياة الجنين إلى أن الصحة الجسمية و النفسية للأم تؤثر تأثيرا كبيرا في صحة الجنين، و قد كشف بعض الباحثين (عن أن الشهور التي تسبق عملية الحمل تقرر سلامة صحة الجنين)(2).

ص: 215


1- علم نفس الطفل للدكتور محمد الريماوي: ص 37، نقلا عن ( Witherspoon,1980 ) .
2- المصدر السابق.

والسبق القرآني و النبوي لهذه الحقائق و غيرها بدا و اضحا لدى العترة الطاهرة فحثوا على العناية بالأم الحامل و الإنفاق عليها و تخصيص بعض الأطعمة لها و إطعامها إياها كيما يتمكن الوالدان من الحصول على و ليد يتميز عن غيره بالصحة الجسدية و النفسية.

و لقد انطلق القرآن في قضية الطفل من المراحل الأولى لتكونه و هي انعقاد النطفة و نبه إلى خطورة هذه المرحلة فقال عزّ و جل:

(وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ )(1).

و قوله تعالى:

(إِنّٰا خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ )(2).

و البلاء هنا ما يرد على الإنسان في رحم أمه و هو جنين و ما يرد عليه بعد خروجه إلى الحياة الدنيا.

ثم أشار القرآن بعد ذلك إلى مرحلة الو لا دة و ما بعدها، أي: الطفولة فركز على العناية بالصحة الجسدية من حيث الإرضاع الطبيعي و بين حدوده و ما يترتب عليه من آثار تتدخل في بناء شخصية الإنسان.

ثم انتقل إلى الصحة النفسية و آثارها فبين أن الطفل الذي حرم من أبيه يكون بوضع نفسي خاص و كيما لا يتحول إلى إدائرة ضارة في المجتمع حث على الاهتمام

ص: 216


1- سورة المؤمنون، الآية: 12-14.
2- سورة الإنسان، الآية: 2.

به و الترغيب في رعايته و التكفل به فقال عزّ و جل:

(فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ)(1).

و قال المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم:

«أنا و كافل اليتيم كهاتين».

و أشار بسبابته(2).

و لكن كي يتمكن القارئ الكريم من الاطلاع على تلك المناهج التربوية في الصحة النفسية و الجسدية التي جاء بها القرآن الكريم و بينتها العترة الطاهرة مع ما تناوله المتخصصون في العلوم النفسية و التربوية قمنا بزيارة بيت فاطمة بضعة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لننهل منه ما إن تمسكنا به لن نضل أبدا.

و على الرغم من قلة الروآيات التي تنقل لنا تلك الصور الحياتية لمرحلة الطفولة في بيت فاطمة عليها السلام، إلا أنها تغني الباحث و المربي عن الكثير مما ذهب إليه الماديون و المثاليون و المتخصصون، إذ مهما يحمل الباحث من خصائص تسهم في الوصول إلى الحقائق إلا أنه يبقى قاصرا عن إدراك مكنونها؛ لأن هذا المكنون هو عند من خصهم الله تعالى بفضله، و اصطفاهم على خلقه و زادهم بسطة في العلم، فسبحان من سن السنة و أحصى كل شيء في إمام مبين(3).

ص: 217


1- سورة الضحى، الآية: 9.
2- بحار الأنوار: ج 35، ص 117.
3- سورة يس، الآية: 12، و هو قوله تعالى: (وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ ).

المبحث الأول: الطفولة ( Childhood )

المسألة الأولى: الطفولة في القرآن الكريم

ذكر القرآن الكريم لفظ (الطفل) في موضعين قال تعالى:

(يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلاٰ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)(1).

وقال عزّ وجل:

(هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )(2).

ص: 218


1- سورة الحج، الآية: 5.
2- سورة غافر، الآية: 67.

ومن خلال سياق الآيتين يظهر أن مرحلة الطفولة تبدأ منذ الولادة إلى بلوغ الأشد وهو الشباب لأن بلوغ الأشد لا يقتصر على النمو الجسمي بل على النمو العقلي وفي الشباب يكون الطفل قد أصبح راشدا، ولذلك تجد القرآن يقسم حياة الإنسان إلى ثلاث مراحل مرحلة الطفولة ومرحلة بلوغ الأشد ومرحلة الشيخوخة، وهذه المراحل هي مصب اهتمام علماء نفس النمو Developnmtal Psychology.

المسألة الثانية: الطفولة في الاصطلاح واللغة

لقد فطن العرب إلى مراحل النمو حيث تبدأ عندهم بالجنين، فالوليد، أي: الطفل المولود لتوه، فالصبي أي: الطفل الذي لم يكمل سبعة أيام من حياته لاعتقادهم بأن صدغه لا يشتد إلا في تمام السبعة أيام، فالفطيم، فالجحوش وذلك عندما يغلظ وتذهب عنه ترارة الرضاع، فالدارج إذا دب ومشى، فالخماسي إذا بلغ طوله خمسة أشبار، فالغور إذا سقطت أسنانه اللبنية، فالمثغر، إذا نبتت أسنانه بعد السقوط فالمترع الناشئ إذا كاد يجاوز العشر سنين أو جاوزها، فاليافع المراهق إذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه(1).

والطفل لغويا:

البنان الرّخص الناعم، وهو الصغير من كل شيء، وقال أبو الهيثم: الصبيّ يدعى طفلا حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم(2).

ص: 219


1- علم النفس التكويني لصباح حنا مزهر: ج 1، ص 14.
2- لسان العرب لابن منظور: ج 8، ص 174، مادة (طفل).

المسألة الثالثة: الطفولة في علم النفس

(مرحلة من الحياة تمتد من الولادة إلى المراهقة، أي حتى الرابعة عشرة من العمر، لم يعد الطفل يعد بدافع من علم النفس، راشدا تنقصه المعارف والحكم بل فردا له ذهنيته الخاصة وتحكمه وقوانين خاصة في نموّه السيكولوجي، فالطفولة هي المرحلة الضرورية لتحويل الوليد راشدا، وكلما صعدنا في السلم الحيواني، امتدّ زمن الطفولة: ثلاثة أيام لدى خنزير الهند، تسع سنوات لدى الشمبانزي، خمسا وعشرين سنة لدى الإنسان في رأي أرنولد جيزيل (1881-1961)، والموجود الإنساني بحاجة إلى هذه المدة الزمنية الطويلة ليفهم ويتمثل البنية الثقافية المعقدة التي ينبغي له أن يتكيّف معها، والواقع أن الإنسان يفقد في سن الرشد مرونته أو (قابليته للصيرورة) (إد. كلاباريد)، فالطفل يتعلم، ويبدع، ويجدّد، ويولّد التقدم بفضل مكتسباته إرث الأجيال الماضية: الطفولة، يقول جيزيل، خلاصة ومقدمة في وقت واحد).

ويميّز المرء، في هذه المرحلة الدينامية وذات الغنى الأقصى حيث النماء يتم في جميع المجالات معا، ثلاث مراحل كبيرة (كان علماء البيداغوجيا قد لاحظوها من قبل): الطفولة الأولى(1) من الولادة إلى السنة الثانية أو الثالثة، الطفولة الثانية من الثانية أو الثالثة حتى السادسة أو السابعة، والطفولة الثالثة التي تنتهي بالبلوغ ويتم نمو الطفل وفق سيرورة من التمايز التدريجي، فالنظام أحد الوقائع النفسية الأولى التي تتيح للطفل أن يتمايز من أمه ويجتاز أفضل الشعور بالواقعي، ويتوسع عالمه، مع ضروب التقدم المسجلة في المجالات النفسية الحركية (استعمال إليه، اكتساب

ص: 220


1- المعجم الموسوعي في علم النفس لنور بير سيلامي، ترجمة وجيه أسعد: ج 4، ص 1560.

وضع الوقوف والسير) واللفظية (كلمات، جمل) وتزداد اهتماماته وتتوطد فكرته، ويكتشف في السنة الثالثة شخصيته، التي يؤكدها مستخدما كلمة (أنا) ومعارضا الغير دون باعث، وانطلاقا من هذه المدة الزمنية تجري اكتساباته بإيقاع يزداد سرعة(1).

المسألة الرابعة: والطفولة في علم نفس الطفل ( Childhood Psychology )

هي مرحلة عمرية من دورة حياة الكائن الإنساني تمتد من الميلاد إلى بداية المراهقة، ويشير فليب أريس في كتابه الطفولة في قرون (1962 Genteries of Childood ) إلى أن الطفولة مصطلح حديث نسبياً، فالأطفال في القديم كانوا يعيشون بيننا ويرتدون نفس الطراز من الملابس، وعليهم أن يتصرفوا كالكبار، ولم يكن معروفا أن للطفولة خصائصها وحاجاتها وأغراضها وفرصها كالخيال واللعب، فدورة حياة الكائن الإنساني كانت تنقسم إلى ثلاث مراحل: الرضاعة ( Onfancy ) ، وما قبل البلوغ ( Preadulthood ) ، والبلوغ ( Adulthood ) ، ففي مرحلة ما قبل البلوغ يعد الفرد للعمل والإنتاج ويحمل المسؤولية، وهذا ما سيمارسه في مرحلة البلوغ.

ولذلك فإن علم نفس الطفولة يدرس سلوك الطفل وعملياته العقلية والانفعالية بمنهج علمي وصفيا كان أو تجزيئيا أو اكلينيكيا(2).

وقد تعامل المدرسيون - فلاسفة أوربا في القرون الوسطى - تعاملوا مع

ص: 221


1- المعجم الموسوعي في علم النفس لنور بير سيلامي ترجمة وجيه أسعد: ج 4، ص 1560.
2- علم نفس الطفل للرماوي: ص 45 و 48، نقلا عن ( Santrock.J.W.,OP.CITP.15 ) .

الطفولة من منظور فلسفي أو منظور ديني، فمن خلال المنظور الأول بحثوا في أصل المعرفة، هل المعرفة فطرية، أم مكتسبة ؟ فإن كانت المعرفة فطرية بالمفهوم الأفلاطوني فالنفس كانت تعرف كل شيء وهي في عالم المثل وقبل أن تحل في الجسد ولكنها تنسى ما كانت تعرفه، ثم تبدأ باسترجاع ما نسيته ثم خلال ما تقع عليه عبر الحواس الخمس، فالتعلم عندئذ لا يكون سوى عملية تذكر، وبالتالي يلزم المربين إتاحة الفرصة للأطفال كي يتحسسوا ما حولهم من مثيرات حتى تسترجع النفس ما كانت قد نسيته.

أما إن كانت المعرفة مكتسبة بالمفهوم الأرسطي فإن الطفل يولد وعقله صفحة بيضاء، والمربي ينقش على هذه الصفحة البيضاء ما يشاء، وعليه يكون التعلم متدرجا تبعا لإمكانيات الطفل الجسمية والعقلية.

ومن خلال المنظور الثاني - أي الديني - فقد بحثوا في أصل الطبيعة الإنسانية، هل الإنسان خيّر بالفطرة أم شرير بالفطرة ؟ ففي وجهة النظر الأولى يترتب عليها المطالبة بتدعيم هذه الخيرية وحماية الطفل من الانحراف عنها، ووجهة النظر الثانية تطالب بدراسة الكتاب المقدس وإكساب الطفل الخبرة الدينية(1).

وقد برزت بعض الأسماء في دراسة ميدان الطفولة منهم جون لوك (1693 John Lock ) .

أكد جون لوك على أن الطفل يولد وهو صفحة بيضاء، وإن المعرفة تكتسب من خلال الخبرات الحسية، وإن تربية الحدث الناشئ فرصة أمام المجتمع لتعليمه الحكمة والفضيلة، ومن هذا المنطق يعطى التدريب أهمية أكبر من اكتساب المعرفة

ص: 222


1- المصدر السابق: ص 46، ( IBID P. )

والمهارات، ولذلك نادى بضرورة تكوين عادات جديدة عند الطفل مع قمع نوازعه الطبيعية التي تنسجم مع تلك العادت، وبناء على ذلك فان المجتمع الذي تسود فيه وجهة النظر هذه يسعى الكبار فيه إلى خلق مواقف يستطيع الأطفال من خلالها أن يتعلموا معايير السلوك التي يفضلها المجتمع، كما ترفض وجهة النظر هذه أية قدرات أولية أو فروق مزاجية أو أسس يمكن أن نتنبأ بواسطتها عن الفروق الفردية في السلوك الذي قد يكون نتاج الخصائص الوراثية أن الأطفال قد يتصرفون بنفس الطريقة إذا تعرضوا لنفس الظروف البيئية والأكثر من ذلك فإن وجهة النظر هذه تفترض بان نفس البيئة المثالية سوف تكون مناسبة لجميع الأطفال.

جان جاك روسو (1778-1712 J.J.Rousseau )

يرى روسو أن الطفل خير بطبيعته منذ الولادة وأنه يتعلم بطريقة أفضل إذا أتيح له أن ينمو حرا طبقا لما تقتضيه حاجاته، ولذلك نادى بإعطاء الطفل حريته المطلقة للتعبير عن نوازعه الطبيعية وتنمية قدراته ومواهبه، وأن الطفل يتعلم بالقدرة الحسنة والممارسة والتجربة وقد أكدت نظريته على أهمية النمو والحرية والدافع، والنشاط في عملية التعلم.

وإضافة إلى هؤلاء ظهرت دراسات كثيرة لباحثين في ميدان الطفولة، مثل بستالوزي (1827-1782 Pestalozzi ) الذي يعدّ من مؤسسي المدرسة الابتدائية بصورتها الحديثة وفروبل (1852-1782 Froebel ) ويعدّ من الرواد الأوائل الذين اهتموا بتربية الطفل، وهو أول مؤسس لرياض الأطفال، وقد أكد على أهمية النشاط واللعب في تنمية النواحي الروحية والخلقية.

ص: 223

ومن الأسماء اللامعة في هذا المجال أيضا:

ألفرد بينة ( A.Binet ) وقد اهتم بالنمو العقلي للأطفال ووضع عام 1904 أول اختبار لقياس الذكاء.

وفي سيكولوجية الطفولة المبكرة وهو كتاب لوليم شتيرن (1914 W.Stern ) بحث فيه المؤثرات السيكولوجية في بداية مرحلة الطفولة،(1)، ويضاف إلى تلك الأبحاث والدراسات ما قدمه علماء النفس أمثال (ستانلي هول) و (هافجهرست Havighurst ) و (بياجية Piaget ) و (أريكسون Erickson ) و (كولبرج Kohlberg ) ، وعلماء مدرسة التحليل النفسي، وعلماء الاجتماع المهتمين بالتغير الاجتماعي، وكذلك نتائج الدراسات الأكلتيكية والتجربية، أقنعتنا أن الطفولة مرحلة حياتية فريدة متميزة تتميز بأحداث هامة، فيها توضع أسس الشخصية المستقبلية للفرد البالغ(2).

وعند الرجوع إلى الثقلين (كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) لم نجد أن تلك النظريات قد جاءت بما هو جيد، فنظرية (جون لوك) إنما هي مستوحاة من قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

«كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون وأبواه يهودانه وينصرانه، ويمجسانه»(3).

ص: 224


1- علم النفس التكويني لصباح حنا هرمز ويوسف حنا إبراهيم: ص 15-18؛ الاضطرابات النفسية عن الأطفال للدكتورموفق هاشم الحلبي: ص 9.
2- علم نفس الطفل للدكتور الريماوي: ص 46، نقلا عن: الأطفال مرآة المجتمع لمحمد عماد الدين، النمو النفسي الاجتماعي للطفل في سنواته التكوينية.
3- المبسوط للسرخسي: ج 10، ص 62.

فهو الحقيقة النبوية لنقول أن الطفل صحيفة بيضاء وأن ما ينقش جلها من المعارف يكون بالدرجة الأولى من النقاش وهما الوالدان.

وأن قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في تحميل الأب جميع الخصائص السلوكية والمعرفية سواء من خلال كونه الوسيط الوراثي أو الوسيط المعرفي كان مصدرا لما ذهب إليه جون لوك، وجاك روسو، فقال عليه السلام:

«ما زال المرء بأهله حتى يدخلهم جميعا الجنة، وما زال المرء بأهله حتى يدخلهم جميعا النار»(1).

فهذه الحقائق وغيرها سنتعرف عليها إن شاء الله من خلال مدرسة بيت فاطمة عليها السلام بضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 225


1- عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1، ص 35، ح 18؛ وجاء في هامش الكافي للكليني: ج 6، ص 13، بهذا اللفظ: «كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه».

المبحث الثاني: النمو اللغوي أو كيفية اكتساب اللغة لدى الطفل

اشارة

تعرف اللغة بأنها مجموعة من الرموز(1) تمثل المعاني المختلفة وهي مهارة اختص بها الإنسان واللغة نوعان: لفظية، وغير لفظية، وهي وسيلة الاتصال الاجتماعي والعقلي، وهي إحدى وسائل النمو العقلي والتنشئة الاجتماعية والتوافق الانفعالي، وهي مظهر من مظاهر النمو العقلي والحسي والحركي، ونحن نسمعها منطوقة ونقرؤها مكتوبة ونفهم لغة الإشارات وتحل اللغة قلب التفاعل الاجتماعي، ويعدّ تحصل اللغة أكبر إنجاز في إطار النمو العقلي للطفل.

والكلام صورة من صور اللغة يستعمل فيها الإنسان الكلمات للتعبير عن أفكاره، وهو الأصوات التي تخرج من فرد ويفهمها شخص يسمعه، والكلام مزيج من التفكير والإدراك والنشاط الحركي.

ويلاحظ أن الاستعداد للكلام فطري، أما اللغة التي يصب فيها الكلام فمكتسبة(2).

ص: 226


1- علم نفس الطفل لحمد الريماوي: ص 150.
2- علم نفس النمو للدكتور حامد عبد السلام زهران: ص 141.

المسألة الأولى: كيف يكتسب الطفل اللغة ؟

اشارة

يكتسب الطفل لغته من خلال التعرض للغة وحياته اليومية معا، ويبدو أن التعرض للغة من خلال التحدث مع الطفل أقدر على الإسراع في اكتسابه إياها، ولكن سماع اللغة يؤدي إلى تعلمها حتى ولو لم يمارس الطفل الكلام ولكن عملية التعلم تكون بطيئة، ويختلف العلماء في الكيفية التي يكتسب بها الطفل اللغة، فبعضهم يؤكد على أن اللغة غريزية بينما يشير البعض الآخر إلى دور التعلم في اكتساب اللغة، بينما يركز آخرون على كلا العاملين، وفيما يأتي النظريات التي كتبت حول هذا الموضوع.

ألف: النظرية الفطرية

ترى هذه النظرية أن الطفل السوي يكون مهيئا للكلام من الناحية البيولوجية لتعلم أي لغة بشرية بسهولة، وإن اللغة نظام معقد من القوانين غير متعلم بطرائق التعلم التقليدية ويرى (جومسكي) أن الجهاز العصبي البشري يحوي تركيبا عقليا يتضمن مفهوما غريزيا عن لغة البشر، ( Chomsky ) ، وتدّعي جماعة هذه النظرية أن السمات العامة والمألوفة لجميع البشر غريزية، وقد استهوت هذه الآراء علماء النفس التجريبي ولقيت إقبالا لديهم.

ويفترض (لينبرج Len Berge 1961 ) ، أن القابلية لإنتاج اللغة هي خاصة من خصائص البشر الموروثة، وتستند اللغة إلى مؤثرات بيولوجية آلية، وأن مراحل اكتساب اللغة تحدث لدى(1) الأطفال الأسوياء بنسق ثابت ومنتظر في جميع أنحاء

ص: 227


1- علم النفس التكويني لصباح حنا هرمز ويوسف حنا إبراهيم: ص 196-197.

العالم، كما تحدث بنفس المعدل تماما رغم التباين البيئي والثقافي، فالأطفال في كافة أنحاء العالم ينطقون كلمتهم الأولى قبل نهاية سنتهم الأولى تقريبا وتعد هذه العملية المنسقة كما لو كانت مرتبطة بالنضج البيولوجي بنفس الطريقة التي يحدث فيها نضج مراحل تعلم المشي(1).

باء: نظرية المحاكاة ( Imitation Theory )

يرى أصحاب هذه النظرية أن الطفل يكتسب اللغة من خلال محاكاة الطفل لما ينطق أبواه أو المحيطون به، وقد أكد (بريير 1894) منذ قرن مضى أن المحاكاة أهم عامل في تعلم اللغة وأنها المرحلة الحساسة في هذا التعلم وتؤكد (مكارتي) أن المحاكاة تظهر لدى الغالبية من الأطفال بعد الشهر التاسع من العمر.

وتدل نتائج الدراسات ما يناقض هذه النظرية، فقد بينت أن الطفل عندما يسمع جملة فإنه لا يكررها يسمعها أو يقلدها(2).

وقد وجد (سلوبن وولش، 1973) أن الطفل لا يستطيع أن يقلد الجمل التي نطقها هو نفسه لذلك لا نستطيع أن نقول إن هذه النظرية ناجحة في تفسير الكيفية التي يكتسب بها الطفل لغته، وتفشل النظرية في تفسير أسباب محاكاة الطفل لأبويه كما أنها لا تشير إلى الميكانزمات النفسية والبيولوجية التي تعمل على اكتساب اللغة في طريق المحاكاة(3).

ص: 228


1- علم النفس التكويني: ص 197.
2- Ervin,1984.
3- دراسات في علم النفس في الأقطار الاشتراكية لموفق الحمداني؛ ومنه: علم النفس التكويني لصباح
جيم: نظرية التحليل النفسي ( Psychoanalytic theory )

تؤكد على عامل اللذة المشتقة من المرحلة الفمية والتي تضفي على أشخاص معينين يحيطون بالطفل ويكونون موضع حبه، وبذلك تشير (أنا فرويد) أن اللغة ترتقي عند الطفل في السنتين الأوليين بزيادة حصول الطفل على اللذة بسبب تزايد الضوضاء والألحان وصور التلفظ الأخرى التي يعملها الطفل.

أما العامل الآخر فهو حاجة الطفل للتعبير عن نفسه إلى أشخاص يحبهم في العالم الخارجي ويريد الاتصال والتفاهم معهم وهذه هي اللذة الآتية من الغير، كما يؤكد جماعة التحليل النفسي على العامل البيئي وبخاصة في المدة الأولى من حياة الطفل إلى آخر السنة الثانية حيث يكون اعتماد الطفل على أبويه، وهذه مرحلة مهمة في اكتساب اللغة(1).

دال: نظرية التعلم الشرطي ( Conditioned Learning Theory )

يعد التعزيز أهم عنصر في هذه النظرية، والتعزيز هو الإثابة التي يحصل عليها الفرد أو أية نتيجة ترفع أو تزيد احتمال ظهور السلوك فعندما يحصل الطفل على الإثابة لنطقه الأصوات المتعارف عليها في اللغة فإن الطفل يكرر نطقها ويواصل تحسين استجابته اللغوية.

ويفترض أصحاب هذه النظرية أن التعزيز الثانوي يلعب دورا مهما في تنمية

ص: 229


1- علم النفس التكويني لصباح حنا: ص 198؛ نقلا عن: ارتقاء اللغة عند الطفل لصالح الشماع؛ تطور اللغة عند الطفل لعبد الرحمن صالح: ص 55-58.

اللغة، فكلام الأم يرتبط مع عملية الإرضاع فيصحب صوت الأم وكلامها معززا ثانويا، ويفسر أصحاب هذه النظرية اكتساب الطفل لمعاني الكلمات على أساس نفس المنطق، فيعلم الطفل قول (باب) عندما يظهر الأب، وبتكرار نفس الموقف عددا من المرات مع مصاحبات أخرى تجد الطفل لا يقول (باب) إلا عندما يظهر الأب)(1).

وتفسر المدرسة السلوكية(2) ارتباط الكلام ذي الدلالة والفهم بمدلولاتها على أساس الفعل الشرطي.

وقد قام (أحد الباحثين وزوجته) بعرض مصاحبة اللبن على طفلهما في الشهر الخامس والنصف وقالا له (دا) وبعد حوالي عشرين يوما وبتكرار العملية يوميا أخذ مجرد ظهور المصاحبة وبدون الحافز السمعي يكفي ليلفظ الصوت (دا) وهكذا تتكون اللغة، حسب نظرية السلوكيين.

ويعد رأي (ماورو Mawrew ) من الآراء السديدة لتفسير اكتساب الطفل للغة - فطبقا لنظرية (ماورو) يلذ للطفل أن يسمع نفسه ويكرر صوته، وعندما تقوم الأم بالعناية بالطفل وتحدث بعض الأصوات التي ينتبه لها الطفل ثم يقوم بالربط بين هذه الأصوات وحاجاته التي تعنى بها الأم ويحاول تقليدها ويشعر بالرضا والسرور فيكررها ثانية ويؤكد (ماورو) على التكرار والمكافأة التي تحسّن استجابات الطفل اللغوية، ويعد عامل العمر هاما في تعلم اللغة والطفل الذي يترك

ص: 230


1- علم النفس التكويني: ص 198.
2- راجع، تطور اللغة عند الطفل لعبد الرحيم صالح: ص 47-54؛ علم نفس الطفل لمحمد الرحاوي: ص 193.

دون تعلم الكلام حتى السادسة أو السابعة من العمل نادرا ما يستطيع تعلم الكلام بطريقة طبيعية(1).

المسألة الثانية: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقة في اكتساب اللغة لدى الطفل

اشارة

بعد هذا العرض لنظريات اكتساب اللغة، عدنا لبيت بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة الزهراء عليها السلام لنرى المنهاج الذي اتبعه أهل هذا البيت عليهم السلام في تعليم أطفالهم اللغة وكيفية اكتسابها. روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يحر الحسين التكبير، ثم كبر رسول الله، فلم يحر الحسين التكبير، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبر ويعالج الحسين التكبير فلم يحر حتى أكمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع تكبيرات، فأحار الحسين عليه السلام التكبير في السابعة».

فقال أبو عبد الله عليه السلام:

«فصارت سنة»(2).

نقاط البحث في الحديث وهي كالآتي:

ص: 231


1- علم النفس التكويني: ص 198-199.
2- علل الشرايع للشيخ الصدوق: ج 2، ص 322؛ التهذيب للشيخ الطوسي: ج 2، ص 67؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 6، ص 20؛ البحار: ج 44، ص 194، باب: محاسنه وأخلاقه؛ مناقب آل أبي طالب: ج 3، ص 329.
أولاً: (و ما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى)

من البديهيات التي ترافق العقيدة الإسلامية أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق في قول أو عمل إلا وكان مسددا من الوحي، ولذا فكل ما قاله أو فعله أو قرره وأمضاه فهو تشريع وبذلك جاء مفهوم لفظ (السنّة).

ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينطلق من تكرار التكبير من ميول عاطفية أو رغبة خاصة لتعليم ولده كلمة (الله أكبر) إنما مفهوم السنّة يلزم بإتباع هذا الفعل النبوي لأنه مرتبط بالله عزّ وجل وما آتاكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخذوه. وهذا يعني أن الله عزّ وجل أراد هذا الفعل من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في تكرار كلمة (الله أكبر) في هذا الوقت وفي هذه الحالة التعبدية وهي صلاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعند الافتتاح والإذن لدخول الحرم الأقدس والعروج إلى ساحة الفيض والكمال واللطف الإلهي، فهذا الإحرام أراده العزيز الحكيم أن يكون حاصلاً في المرة السابعة حين نطقها الحسين عليه السلام فكان أحد المعاني لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«حسين مني وأنا من حسين»(1).

ثانيا: فصارت سنّة

جعلت سنة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل تكبيره قبل الدخول إلى الصلاة سبع تكبيرات فلعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصبحت سنة، هذا أولا.

ص: 232


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 261.

ثانيا: يعني أيها المؤمن كي يتحقق لك العروج والإذن في ساحة اللطف الإلهي فعليك أن تحرم بهذه التكبيرات السبع.

ثالثا: الحديث يدل على أن عمر الإمام الحسين عليه السلام كان بين السنة الثانية والثالثة

ذكر المتخصصون في علم نفس الطفل، وعلم نفس النمو: أن هذا الشكل المكون من نطق الطفل لكلمتين يبدأ من منتصف السنة الثانية إلى نهايتها، وقد تمتد إلى بدايات السنة الثالثة(1)، وتعرف هذه (الجمل) المكونة من كلمتين أو ثلاث بالجمل البرقية(2)، ويأتي التعبير سليما عند الأطفال لنطقهم هذه الكلمات من الناحية الوظيفية، أي يعبر بها الرضيع عن حاجاته الأساسية، ولكنها لا تكون سليمة من الناحية البنائية، أي: من ناحية التركيب اللغوي (القواعد)(3).

رابعاً: لماذا هذا التكرار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكلمة ؟ وما أثره على الطفل ؟ وكيف يراها المتخصصون في العلوم الحديثة ؟

يرى الباحثون في علم اللغة والمتخصصون في الاكتساب اللغوي: أن الأطفال مقلدون (جيدون) ونستنتج من ذلك أن المحاكاة واحدة من الاستراتيجيات المهمة التي يستخدمها الطفل في اكتساب اللغة، وليس هذا الاستنتاج بعيدا عن الدقة على المستوى العام.

ص: 233


1- علم نفس الطفل لمحمد الريماوي: ص 156.
2- أسس تعلم اللغة وتعليمها، تأليف ه. دوجلاس براون، ترجمة د. عبدة الراجحي: ص 36، ط دار النهضة العربية بيروت.
3- علم نفس الطفل لمحمد الريماوي: ص 156؛ علم نفس النمو لحامد زهران: ص 143.

فالذي لا شك فيه أن (الترجيع) يعد إستراتيجية بارزة في تعلم اللغة المبكرة، وبخاصة في الاكتساب المبكر للأصوات، وفوق ذلك كله فإن المحاكاة تعد أساسا من الأسس السلوكية للغة(1)، وهي أسس صالحة في المراحل المبكرة على أقل تقدير.

على أنه من المهم أن نسأل: أي نمط من المحاكاة ؟

يذهب السلوكيون إلى أن هناك نمطا واحدا، لكن هناك - في الحقيقة - مستوى أعمق وهو أكثر أهمية في عملية اكتساب اللغة، أما النمط الأول فهو ما يعرف بالمحاكاة السطحية حيث يقلد الشخص العبارات السطحية مركزا اهتمامه على الأصوات لاعلى الدلالة، وهذا المستوى هو الذي يجعل شخصا كبيرا قادرا على ترديد أعداد لا نهاية لها من المقاطع التي لا تدل على معنى أو يقلد لغات لا يعرفها، ومن ثم فإن البحث الدلالي الذي يكمن تحت السطح لا يجد التفاتا ولا تمثلا، وهكذا فإن تدريبات الاستظهار ترتكز غالبا على المحاكاة السطحية في قاعة الدرس حيث يحاكي الطالب أصواتا دون أي فهم لما تحمله من معنى، نعم، قد تكون المرحلة الباكرة من اكتساب الطفل للغة مرتكزة على المحاكاة السطحية حين لا يكون على بينة من الفضائل الدلالية فينغمس في المحاكاة العميقة حتى إنه قد يلهيه عن البنية السطحية، ولننظر إلى المثال التالي بين أم وابنها:

ص: 234


1- تعتمد نظريات اكتساب اللغة على اتجاهين، الأول: هو الاتجاه السلوكي ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الأطفال يولدون صفحة بيضاء، بعقل لا يحمل أي شيء عن العالم ولا عن اللغة، ومن ثم فإن البيئة هي التي تشكلهم وتصوغهم بوسائل متنوعة من التعزيز، وأما الاتجاه الثاني فيزعم أن الأطفال يولدون بمعرفة فطرية معينة، أسس تعليم اللغة، تأليف ه -. دوجلاس براون ترجمة د. عبده الراجحي: ص 36.

الطفل: أنا لم أكلت.

الأم: قل أنا ما أكلت.

الطفل: أنا لم أكلت (بعد مرات عديدة من التكرار)....

الأم: الآن، انتبه جيدا، أنا ما أكلت.

الطفل: أنا لم ما أكلت.

ولك أن تتخيل الإحباط الذي يصيب الأم والطفل معا، لأن الأم هنا تلتفت إلى المستوى النحوي السطحي، أما الطفل فيبحث عن المعنى.

وقد كشف البحث أن الأطفال حين يطلب منهم أن يكرروا جملة ما، يكررون البنية العميقة مع ما يلزم من تغيير في البنية السطحية، لأن الطفل حين يردد الأنماط السطحية إنما ينهمك في البحث عن قيمة الصدق في الكلام لأنه يبحث عن المعنى(1).

خامساً: لماذا توقف تكرار الكلمة عند المرة السابعة ؟ وشرافة العدد (7)

قلنا في النقطة الأولى إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) ولذلك لا يكون هذا التكرار عن فراغ ولا يكون ستة أو ثمانية، والعلة فيه على الظاهر أن للعدد (7) شرافة على بقية الأعداد، إذ ظهر من ألطاف حكمة الله عزّ وجل أن السموات سبع والأرضين سبع، وأن أبواب الجنة سبع، وأبواب النار سبع، وأيام الأسبوع سبعة، ومراحل

ص: 235


1- أسس تعلم اللغة وتعليمها، تأليف: ه -. دوجلاس براون، ترجمة د. عبده الراجحي وعلي أحمد شعبان: ص 49-50؛ تطور اللغة عند الطفل لعبد الرحمن صالح: ص 55.

النمو والتكوين الجنيني يحسب على الأسابيع، وللمولود مراسيم خاصة في اليوم السابع من عمره، كالعقيقة والتسمية والحلق، والختان، وللمتوفى ذكر وقراءة للقرآن عن روحه في اليوم السابع، وغيرها من الحقائق والسنن الكونية التي جرت حكمة الله عزّ وجل في سنها.

ولذا يكون تلفظ الإمام الحسين عليه السلام ل - (الله أكبر) بعد تكرارها من سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم سبع مرات له دلالة على إشراق الذات الحسينية وانطلاقها إلى تحقيق التكبير بعد جده، والحال هو كمن يريد الدخول إلى عالم الحاسوب فعليه أن يستخدم أحرفاً وأرقاماً معينة، أو كمن أراد الوصول إلى شخص ما فلابد له من حفظ وتكرار أرقام معينة تخص هاتفه أو بريده.

وهنا - ولله المثل الأعلى - هذه الانطلاقة الحسينية في إقامة العدل والحق وإزاحة الظلم كانت من خلال الوحي وعلى يد سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم وفي حالة الصلاة، ولذا بدأ حياته عليه السلام بالتكبير وختمها وهو على رمضاء كربلاء صريعا يردد (الله أكبر).

ص: 236

المبحث الثالث: مرحلة المناغاة

اشارة

اعتاد الباحثون في ميدان الطفولة تقديم مرحلة المناغاة على مرحلة اكتساب اللغة ضد الطفل، والسبب أن المناغاة تبدأ عند الطفل في الأسبوع الثالث والثامن بينما يكون الكسب اللغوي بعد منتصف السنة الثانية كما أسلفنا.

والسبب الذي جعلني أؤخر هذه المرحلة لوجود أحاديث تروي عن كيفية تعامل النبي الأكرم مع ولديه الحسن والحسين عليهما السلام في هذه المرحلة إضافة إلى ترديد الزهراء عليها السلام لأبيات تحاكي فيها ولديها وتنقزهما وهي بذاك تغذيهما أموميا ولغويا.

المسألة الأولى: ما هي المناغاة ( Babbling ) ؟

اشارة

تتطور الأصوات من صيحات إلى أنغام يرددها الطفل في لعب صوتي ثم يستطرد في تنغيمه حتى يكتشف بنفسه جميع الدعائم الصوتية لأية لغة يتحدث بها النوع الإنساني. والمناغاة صوت أو مجموعة أصوات تصدر عن الطفل في الأسبوع الثالث والثامن، وتستمر حتى نهاية السنة الأولى عندما ينطق الطفل كلمته الأولى.

ص: 237

وتظهر المناغاة عندما تصبح المراكز العليا صالحة التوافق مع العضلات اللفظية ويصبح الطفل قادرا على اللغة اللفظية فيتمرن السيطرة على الأصوات واجدا فيها لذته، والمناغاة بشكل من أشكال الترويض اللفظي التلقائي(1).

وتذكر (هيرلوك Harlock ) في كتابها (نمو الطفل) أنه عند الشهر الثالث أو الرابع يأخذ الطفل في السيطرة على مجرى الهواء في حباله الصوتية فيبدأ بإصدار أصوات تأتي في الغالب بشكل تلقائي عشوائي وليس من السهل استدعاؤها أو تسجيلها.

ومن هنا ترى (مكارتي Mccarthy ) أنه من الصعب دراسة هذه الأشكال، وقد لوحظ أن الأصوات التي يصدرها الأطفال في هذه المرحلة تكون على نفس الشاكلة بغض النظر عن الثقافة أو العرق أو المكان الجغرافي الذي ينتمي إليه الطفل، فالأصوات الأنفية في اللغة الفرنسية والأصوات الحلقية في اللغة العربية والألمانية مما لا وجود لها في اللغة الإنجليزية، ينطق بها الأطفال سواء أكانوا ألمانا أم إنجليزا أم فرنسيين أم عربا(2).

وتدلنا هذه الدراسة بأن الطفل قبل أن يتكلم لغته القومية ينطق كل الأصوات اللغوية سواء كانت موجودة في لغته أم لا، وأنه يستطيع نطق أصوات لا يتمكن من نطقها في المستقبل بعد أن يتعلم لغته القومية لأن بعض هذه المقاطع والأصوات تختفي عندما تستغني عنها لغة الأم(3).

ص: 238


1- علم النفس التكويني لصباح حنا: ص 202-203.
2- علم نفس الطفل للريماوي: ص 153.
3- علم النفس التكويني: ص 203، نقلا عن اللغة وعلم النفس للحمداني.
أولاً: أنواع المناغاة

1 - المناغاة العشوائية: تتضمن أصواتا لا معنى لها يكررها الطفل وينطق بها بطريقة عشوائية.

2 - المناغاة التجريبية: هي امتداد للمرحلة السابقة، يحاول الطفل تكرار الأصوات التي يصدره، ويختار بعضها ويعيدها، وكأنه في هذه المرحلة يقوم بتجريب أنواع من الأصوات التي تصدر منه، والتمرن عليها، وأن سرور الطفل مما يحصل عليه من نتائج في المناغاة التجريبية يشجعه على تقليد حركات من يسمعهم، ويضطره هذا التقليد إلى إجادة الاستماع والانتباه إلى كل صوت(1).

ثانيا: مناغاة الزهراء للحسن والحسين عليهم السلام

ولهذه الخاصية كانت فاطمة الزهراء عليها السلام تنغز ولدها الحسن عليه السلام وتنشده قائلة:

أشبه أباك يا حسن *** واخلع عن الحسن الرسن

واعبد إلها ذا منن *** ولا توال ذا الإحن

وتقول للحسين:

أنت شبيه بأبي *** لست شبيهاً بعلي(2)

وكان الحسين يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العنق إلى البطن(3).

ص: 239


1- علم النفس التكويني: ص 204.
2- المصدر السابق؛ وأخرجه أحمد في مسنده: برقم 26484.
3- جامع الترمذي: كتاب المناقب، حديث رقم 3779.

وهذه المحاكاة والمناغاة مع ما مرّ من بيان في عملية الاكتساب اللغوي ليفيد أن الزهراء عليها السلام كانت لتنمي العملية اللغوية لدى الطفل وتثبت المعنى الأخلاقي لما يسمعه الطفل من كلمات.

وقد أكد الباحثون في علم نفس الطفل أن وجود الكبار من حول الطفل ليكونوا هم مصدر الصوت ضرورة لازمة، بتعبير آخر أن الوسط الاجتماعي ضروري جدا كي يخطو الطفل الرضيع خطواته الأولى نحو إنتاج الكلام(1).

فكيف إذا أضيف إلى الكبار عامل سماوي اقتضته البيئة الخاصة لبيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان من ضروريات هذه البيئة وجود جبرائيل عليه السلام!

وكيف سيكون أثر الوحي على مناغاة أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعلمهم وترديده لتلك الأصوات التي يتلفظها روح القدس وهي تطرق أسماع النبوة.

المسألة الثانية: جبرائيل عليه السلام يناغي الحسين عليه السلام

روى العلامة المجلسي رحمه الله في بحاره، قائلا: روي في بعض الكتب المعتبرة عن الطبري عن طاووس اليماني، أنّ الحسين بن علي عليهما السلام كان إذا جلس في المكان المظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان كثيرا ما يقبل جبينه ونحره وأن جبرائيل عليه السلام نزل يوما فوجد الزهراء عليها السلام نائمة والحسين في مهده يبكي فجعل يناغيه

ص: 240


1- علم نفس الطفل: ص 154.

ويسليه حتى استيقظت فسمعت صوت من يناغيه، فالتفتت فلم تر أحدا فأخبرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان جبرائيل عليه السلام(1).

لو تأملنا بهذا الحديث وإلى ما أشار إليه المتخصصون في دراسة الطفولة وإلى أثر البيئة والوسط الاجتماعي في دفع الطفل إلى أن يحذو خطواته الأولى في إنتاج الكلام، فمما لا شك فيه أن الطفل الذي ينمو في بيئة روادها الملائكة وحديثها الوحي، يكون قد حمل من المعاني والمفاهيم مما لا يحمله أحد غيره، وهو ما يعرف ب - (البناء المعرفي Cognitive Stureture ) (2).

وإذا تأملنا قليلا بهذه المناغاة القدسية كيف يمكن أن تكون ؟ هل هي مجرد أصوات أو كلمات ؟ وهل يتكلم روح القدس بغير الذكر الإلهي ؟ وهم:

(عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ (26) لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )(3).

وإذا كان نفس روح القدس تنبثق منه الحياة، فكيف بتلك الكلمات ؟!

إني أرى أن الأمر لم يكن محض صدفة ينزل فيها جبرائيل عليه السلام وهو المنقاد لأمر ذي العزة والجلالة، ولم يكن جبرائيل عليه السلام يناغي الحسين عليه

ص: 241


1- بحار الأنوار للمجلسي رحمه الله: ج 44، ص 187، باب فضائلهما.
2- تفكير الأطفال للدكتور يوسف قطامي: ص 76؛ ويقصد بالبناء المعرفي: الوحدة المعرفية التي تتطور لدى الطفل نتيجة احتكاكه وتفاعله مع البيئة، أو الظروف الاجتماعية التي ينتج عنها من جراء ذلك كلمة أو مصطلح أو مفهوم، ويتكون البناء المعرفي للطفل من مجموعة هذه البنى التي تشكل البصمة المعرفية التي تميزه عن غيره، والتي تعدّ متميزة في خصائصها وفي مضامينها، ومعانيها، ومدلولاتها، وصعوباتها، وحسيتها وتجريدها. المصدر السابق نقلا عن: ( Cognitive Thumb , Morrison ,1988 , P 116 , Structures , Cognitive Tumb ) .
3- سورة الأنبياء، الآية: 26.

السلام عن رغبة منه، فهو من قوم لا يعصون الله طرفة عين.

إذن:

هو إعداد خاص لهذا المولود ومنذ الأشهر الأولى والسنين الأولى، لانّه مشروع شهادة صاغته يد القدرة الإلهية، ودعته حوامل الفيض الأقدس، كي يكون في يوم عاشوراء صورة تحاكي الإنسانية بكلام يشد القلوب السليمة، وترتعد منه فرائص الظالمين.

ص: 242

المبحث الرابع: اللعب ودوره في نمو النواحي العقلية والمعرفية، والاجتماعية والحسية والجسمية

اشارة

يمثل اللعب خبرة رئيسية في نمو الطفل في مختلف نواحي الشخصية، إذ باللعب تنمو النواحي العقلية المعرفية، والاجتماعية، والانفعالية، والجسمية، وتشكل خبرة اللعب خبرة ذاتية في المراحل الأولى، إذ يطور الطفل في بداية سنوات عمره محاولات، يحاول من خلالها اكتشاف البيئة، والاحتكاك بها للتعرف عليها، وعن طريق ذلك يكتسب الطفل مفهومه عن ذاته ويطور فهما ولو بسيطا عن إمكاناته، عن طريق ما يستطيع الوصول إليه، والحصول عليه، وعن طريق ما يستطيع نقله وتغييره، وحله وتركيبه، ولمسه وتذوقه وتحسّسه، ويطور الطفل هذه الفكرة المعرفية عن طريق توظيف قنوات الحس التي تعمل كالاسفنجة، في مجال إدراك واستيعاب الخبرات(1).

ص: 243


1- تفكير الأطفال للدكتور يوسف قطامي: ص 769.

واللعب له أهميته النفسية في التعليم وتشخيص العلاج، ويعد اللعب من أهم وسائل الطفل في تفهمه للعالم من حوله، وهو إحدى الوسائل الهامة التي يعبر بها الطفل عن نفسه ويعده البعض مهنة الطفل(1).

ويسهم اللعب في تنمية الجانب الذهبي في شخصية الطفل، ويتم ذلك عن طريق نمو الوظائف المعرفية مثل: الإدراك، والذاكرة، والتفكير، والتخيل، والكلام، والخيال، ابتداء بالوظائف المعرفية البسيطة وانتهاء بالأكثر تعقيدا حسب المرحلة النمائية التي يمر بها(2).

إن الأهمية الكبرى للعب في حياة الأطفال الصغار، وتنوع الألعاب عند هؤلاء الأطفال وأولئك وتشابهها لدى أطفال من شتى البلدان وفي مختلف المراحل التاريخية، كل ذلك دفع العديد من العلماء للبحث عن تفسير طبيعة هذا النشاط الطفولي المدهش(3).

المسألة الأولى: النظريات التفسيرية للعب الأطفال

1. نظرية الطاقة الزائدة

حيث ينظر إلى اللعب على أنه تنفيس غير هادف للطاقة الزائدة عند الفرد(4)، فلما كانت هذه الطاقة لا تنفق في العمل فقد تجلت في اللعب، وأصحاب هذا التفسير كل من ك. شلروغ، سبنسر(5).

ص: 244


1- علم نفس النمو للدكتور حامد عبد السلام زهران: ص 271.
2- تفكير الأطفال للدكتور يوسف قطامي: ص 769.
3- علم نفس الطفل تأليف أ. أ. لوبلينسكايا، ترجمة: بدر الدين عامود، علي منصور: ص 152.
4- علم نفس النمو للدكتور حامد عبد السلام: ص 271.
5- علم نفس الطفل، تأليف أ. أ. لوبلينسكايا، ترجمة بدر الدين: ص 152.
2. النظرية الغريزية

ويقول أصحابها إن بعض الغرائز لا تتضح دفعة واحدة ولكن بالتدريج وعلى هذا يكون التعبير عنها أو إشباعها في شكل لعب يتيح فرصة تهذيب وتدريب وممارسة الأنشطة الغريزية الضرورية في حياة الرشد والنضج قبل نضجها، ومن القرن الماضي قال (غروس Groos ) إن الغريزة معلمة بعيدة النظر تعمل حساب المستقبل فتعلم الطفل عن طريق اللعب أن يعد نفسه(1)، بمعنى: أن اللعب يؤدي إلى تطوير القدرات الحسية والحركية ومن ثم القدرة على بناء علاقات اجتماعية مع الآخرين(2).

3. نظرية التلخيص

وتفترض أن كل طفل يكرر تاريخ الجنس البشري في لعبه، وتعد نشاط اللعب ملخصا للعادات الحركية للجنس البشري في ماضيه حتى حاضره، يقول أصحاب هذه النظرية أنظر إلى الطفل وهو يعوم وهو يبني الكهوف وهو يتسلق الأشجار... الخ.

إنه يلخص ما كان يعمله أجداده(3).

4. نظرية تجديد النشاط باللعب وحصول السرور

حيث ينظر إلى اللعب على أنه وسيلة لتجديد النشاط والترقية(4)، وأكد

ص: 245


1- علم نفس النمو: ص 273.
2- أولادنا، لرتيا مرهج: ص 106؛ علم نفس الطفل، تأليف أ. أ. لوبلينسكايا: ص 152.
3- علم نفس النمو: ص 273.
4- المصدر السابق.

ك. بيولر، بأن مغزى اللعب يكمن في السرور الذي يجلبه للطفل، غير أن السبب الذي يولد شعور الأطفال بالسعادة يبقى مجهولا تماما(1).

نظرية التخلص من الشعور بالنقص: وصاحبها فرويد، إذ يرى أن الطفل يندفع إلى اللعب نتيجة معاناته الشعور بالنقص فانعدام قدرته على أن يكون طبيبا أو سائقا أو مربيا بشكل فعلي يدفعه إلى القيام بهذا الدور باللعبة، وفي هذه الحياة الخيالية (وخيال) الطفل عن أهوائه ورغباته(2).

ويبدو أن (بياجية) لم يعجبه هذا الرأي لفرويد فتجاهل هذا البعد النفسي، ورأى: (أن اللعب جزء لا يتجزأ من عملية التطور الذهبي الطبيعي عند الأطفال: ففي السنة الأولى يأتي اللعب على شكل تدريب وتكرار لبعض النشاطات التي يجد فيها المولود لهذه معينة، ومن ثم يصبح اللعب رمزيا، أي: إن الطفل يمنح الأشياء المحيطة به صفات مختلفة من مخيّلته (فالمكنسة تصبح حصانا، والكرسي يصبح سيارة) ومن خلال التدريب والتكرار واللعب الرمزي تتطور القدرات الفكرية وتزداد المفاهيم، ويبرز في العام الثالث اللعب المبني على التمثيل (يمثل الطفل أنه يشرب العصير من كوب وهمي) فينتقل من اللعب المنفرد إلى اللعب الثنائي(3).

ورأى بياجية أيضا: (أن اللعب عملية تمثل، تعمل على تحويل المعلومات الواردة لتلائم حاجات الفرد، فاللعب والتقليد والمحاكاة جزء لا يتجزأ من عملية

ص: 246


1- علم نفس الطفل: ص 152.
2- علم نفس الطفل: ص 152.
3- أولادنا، ريتا مرهج: ص 106-107.

النمو العقلي والذكاء، وقد افترض بياجية كذلك أن اللعب وسط بيني مناسب، يسهم في تطوير الأبنية المعرفية لدى الطفل، إذ عن طريق اللعب، الطفل وتفاعله مع البيئة يطور لغته، وتراكيبه اللغوية، والمفاهيم الحسية والعلاقات الاجتماعية(1).

المسألة الثانية: منهاج العترة النبوية في لعب الأطفال

أولاً: المرحلة العمرية وما يناسبها من احتياجات تربوية ومعرفية ونمو فكري وجسدي

انطلقت العترة النبوية الطاهرة عليهم السلام في المنهاج النظري والعملي في لعب الطفل إلى القرآن الكريم وإلى ملازمة جبرائيل عليه السلام لهذا البيت وأهله، ولما كان يضفيه على ولدي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وريحانتيه من سرور ومباشرة لبعض لعبهم كما سيمر علينا، إضافة إلى مباشرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه على لعب ولدي فاطمة عليها السلام بضعته وروحه التي بين جنبيه.

ولذا كان عرضنا لما سبق من أقوال العلماء والمتخصصين في دراسة الطفولة من باب اطلاع القارئ الكريم على حقيقة النعمة التي أنعم الله بها على المسلمين والناس أجمعين؛ إذ بعث فيهم نبي الرحمة فسن السنن وخط المناهج التي من تمسك بها لن يضل من بعده وقد أعلن عن ذلك مرارا، مبشرا ومنذرا:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا من بعدي»(2).

ص: 247


1- تفكير الأطفال ليوسف قطامي: ص 769-770.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق: ج 1، ص 68.

وكيما يلمس المحب للمعرفة ولتطوير العلوم وتفرعاتها، الأثر الذي يقبله عقله ويأنس به قلبه، ذكرنا آراء العلماء في هذا الخصوص، ثم سنورد عليه المنهاج النبوي كي يعلم أن علاقته برسول الله وأهل بيته يجب أن تكون علاقة قوية ومتينة لا يخالجها الشك ولا يسرق حبه وميوله الأسماء البراقة هنا وهناك وتبعده عن الثقلين وقد ضمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى عدم الضلال لمن تمسك بهما، وهذا يلزم جميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا والآخرة.

ثانيا: دور اللعب في بناء النواحي الشخصية في منهج العترة النبوية

وردت أحاديث عن العترة في بيان أثر اللعب ودوره في بناء النواحي الشخصية للإنسان وهو في مرحلة التأسيس والنمو التكويني على كافة الجوانب الحياتية، العقلية والمعرفية والاجتماعية والنفسية والجسمية.

ولاعتبارات كانت تتعلق بالمستوى المعرفي للسائلين في ذلك الزمن كان أئمة العترة عليهم السلام يجيبون على قدر المستوى المعرفي للسائل، وكما هو معروف فإن نهجهم في ذاك نهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمر بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، فلذا لم يرد بيان تفصيلي في هذا الخصوص.

واقتصر الأمر على الأصول فعدوا اللعب من أهم الأدوار التي يحتاج إليها الطفل ضمن مرحلة الطفولة المبكرة وهي (3 و 4 و 5) وقسم من مرحلة الطفولة الوسطى وهي (6 و 7 و 8)(1)، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد

ص: 248


1- علم النفس التكويني للدكتور صباح حنا: ص 68 و 71؛ علم نفس النمو للدكتور حامد عبد السلام: ص 62.

الصادق عليهما السلام:

«دع ابنك يلعب سبع سنين»(1)،

وهذا اللعب كان مطلقا بما يتناسب مع المستوى المادي والثقافي للأسرة، وإن هذه المدّة الزمنية لكافية للإعداد التكويني للطفل ثم تبدأ مرحلة جديدة عند أئمة أهل البيت في البناء والنمو للكائن الإنساني ولكن دون لفظ (اللعب) لاعتبارات اجتماعية ترتبط مع المستوى البيئي والنفسي والثقافي لمجتمع الجزيرة خاصة والمجتمع العربي عامة، فكان (اللعب) يمارس لدى الطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة (9 و 10 و 11 و 12 و 13 و 14) من خلال ممارسة (الفروسية، والرماية، والسباحة)(2).

وهذه الموارد الثلاثة كانت تأخذ في نمو الإنسان على مختلف النواحي (العقلية، والمعرفية والاجتماعية، والنفسية، والجسدية، والأخلاقية) وهي في نفس الوقت حفظت القوانين الاجتماعية والعرفية لأهل الحجاز وغيرهم قديما وحاضرا.

ثم ينتقل منهاج أئمة العترة النبوية عليهم السلام في النمو الإنساني بشكل عام دون تحديد مدة معينة من مراحل النمو، بل كان منهاجا شمل المراحل الانتقالية الثلاث التي حددها الله عزّ وجل في محكم كتابه، وهي (مرحلة الطفل، مرحلة بلوغ الأشد، مرحلة الشيخوخة)(3) ضمن خصائص وقوانين بيئية يخضع صاحبها لها فترسم على شخصيته تلك الآثار الخاصة بهذه البيئة.

ص: 249


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 104، ص 95، باب فضل الأولاد.
2- الأعلام لخير الدين الزركلي: ج 6، ص 252.
3- وهو قوله عزّ وجل: (هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً)، سورة غافر، الآية: 67.

المسألة الثالثة: منهاج الإمام علي عليه السلام في النمو الخَلْقي والخُلُقي للإنسان حسب المرحلة العمرية

اشارة

قال عليه السلام وهو يوجه كلامه إلى أحد الآباء وقد سأله عن المنهاج الذي ينبغي عليه أن ينتهجه في إعداد هذا الكائن الإنساني الذي تربطه معه رابطة الأبوة وقد منّ الله عليه بنعمة الخلفة وحفظ النوع والنسل فلم يجعله أبتر، ثم هو يرى أنه مسؤول شرعا عن هذا المولود لقوله عزّ وجل:

(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ )(1).

ولهذا وذاك التجأ إلى أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين.

فأجابه عليه السلام:

«يربى الصبي سبعاً، ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين وعقله في خمس وثلاثين سنة وما كان بعد ذلك فبالتجارب»(2).

وبهذا تنتهي مرحلة الإعداد والبناء التكويني للإنسان خَلقا وخُلقا.

فالسنين السبع الأولى - أي من الولادة إلى السنة السابعة - يعيش فيها الإنسان ضمن بيئة تشابه إلى حد كبير بيئة الملك، من حيث العناية الفائقة بالبدن والثوب، والغذاء الجيد واللهو واللعب، وتنفيذ الطلبات، ومجالسته ومحادثته والاستماع إليه، واحترامه والسهر عليه، وتهيئة كل وسائل الراحة، ولكن لا يخفى:

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ )(3).

ص: 250


1- سورة التحريم، الآية: 6.
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3، ص 493.
3- سورة الطلاق، الآية: 7.

المهم أن يكون المغزى من ذلك هو العناية الخاصة للطفل منذ ولادته وإلى حين بلوغه السنة السابعة والتركيز على الجانب الحسي والنفسي والعقلي والمعرفي والعاطفي ضمن الحدود الشرعية، والمثل القرآنية.

حتى إذا أكمل هذه المرحلة يكون مهيّأً لما يرد عليه من آثار التنشئة الاجتماعية لبيئة يكون فيها الشخص المطيع، وهذه البيئة يمكن تمييزها بعنصرين وهما (الصقل النفسي والأخلاقي)، و (طاعة الأب المربي)، ولا يتوهم أنه يراد به الإذلال والتنكيل والخدمة فهذا بعيد جدا لأن ذلك لا يتفق مع منهاج العترة في تطور النمو الأخلاقي. والمنهاج التأديبي خلال هذه السنوات السبع الثانية أي من السنة السابعة إلى السنة الرابعة عشرة.

وعلى هذه الأسس يرى المتخصصون ك - (بياجية Piaget ) أن النمو الأخلاقي يحدث بمرحلتين منفصلتين واضحتين.

أولا: مرحلة الواقعية الأخلاقية ( Stage of Moral realism )

وفيها يتميز سلوك الأطفال في هذه المرحلة بالخضوع الأوتوماتيكي للقواعد الخلقية دون الاستدلال والحكم، يعد الأطفال الآباء والكبار الآخرين الذين يمثلون السلطة أفرادا مقتدرين، ولهذا يتبعون القواعد ويخضعون لها دون الاستفسار عن عدالة هذه القواعد.

في هذه المرحلة يصدر الأطفال حكماً خلقيا على الحدث أو الفعل بكونه صوابا أو خطأ على أساس النتائج المترتبة على الفعل، وليس على أساس النية أو القصد الكامن وراء الحدث.

ص: 251

فعلى سبيل المثال فإن أي عمل يعد (خطأ) بسبب نتائجه يعاقب عليه سواء من قبل الناس الآخرين أو من قبل العوامل الطبيعية أو العوامل الخارقة للطبيعة.

ثانيا: مرحلة الأخلاقية المستقلة ( The Stage of Autonomous Motality )

إذ يصدر الأطفال أحكامهم الخلقية في هذه المرحلة على الفعل أو الحدث بكونه (صوابا) أو خطأً على أساس النية أو القصد، تبدأ هذه بين 7 و 8 سنوات من العمر وتمتد حتى عمر 12 سنة وما بعدها.

بين عمر (7,5 أو 8) سنوات تبدأ مفاهيم الأطفال عن العدالة بالتغير، أن تصلب أو عدم مرونة الأفكار عن (الصواب) و (الخطأ) التي سبق وأن تعلمها عن طريق الوالدين تبدأ تدريجيا بالتحول وكنتيجة لذلك فالأطفال يأخذون بنظر الاعتبار الظروف التي ترتبط بالمخالفات الخلقية.

فعلى سبيل المثال، أن الطفل بعمر (5) سنوات يدرك أن الكذب (خطأ) دائما، بينما الطفل بعمر أكبر من (5) سنوات يدرك بأن الكذب يكون مبررا في بعض الحالات وعليه فلا يعد بالضرورة خطأ.

بالنسبة لوجهة نظر بياجية فإن المرحلة الثانية للنمو الخلقي، أي: (مرحلة الأخلاقية الذاتية) تتطابق مع مرحلة الإجراءات الشكلية في النمو العقلي المعرفي، فحينما يكون الأطفال قادرين على أن يأخذوا بنظر الاعتبار كل الوسائل الممكنة لحل المشاكل الخاصة، ويستطيعوا أن يعلّلوها على أسس افتراضية متوقعة، فإن ذلك يمكنهم من النظر إلى مشكلاتهم من وجهات نظر مختلفة مع الأخذ بنظر الاعتبار العديد من العوامل عند حلها(1).

ص: 252


1- علم النفس التكويني للدكتور صباح حنا هرمز ويوسف حنا إبراهيم: ص 520-521.

ولذلك تبرز أهمية هذه المدة المرحلة في تطور النمو الأخلاقي عند العترة الطاهرة وهي مرحلة (7-14) سنة وفيها يتم الصقل النفسي والأخلاقي، كي يتمكن الإنسان من المحافظة على الثوابت الأخلاقية، ولا يبحث عن المبررات والخطأ.

وهذا يعني عدم اختلاط المفاهيم، إضافة إلى عدم الاستهانة بقيمة (الصواب).

وفي تكون المفاهيم الأخلاقية تقول البروفسو (أ. أ. لوبيلنسكايا) المتخصصة في علم نفس الطفل: (إن الأطفال غالبا ما يفهمون الكثير من المفاهيم الأخلاقية التي يستعملونها في السنوات الأولى، بل وفي السنة العاشرة والثانية عشرة، وبصورة غير صحيحة أو غير دقيقة. فهم يعرفون الإنسان الشجاع على أنه القوي، والطيب هو - بالنسبة لهم - الجيد والمرح والكريم (يعطي الجميع كل شيء)، والعادل هو ذلك الإنسان النبيه واللطيف والرقيق، كما أنهم يعرفون بعض المفاهيم بشكل خاطئ، فهم يخلطون مفهوم المبدئي والمجد مع مفهوم العنيد، والشجاع مع العنيد والمستقل. يتكون المفهوم، كل مفهوم، على أساس تجريد الصفات الجوهرية والثابتة والدائمة من الصفات الثانوية والمتغيرة في جميع الأشياء والوقائع التي تجعل كلا منها يتمتع بخصوصية معينة(1).

ومن هنا تجد أن العترة ضمت إلى عملية الصقل النفسي والأخلاقي الناحية المعرفية في هذه المرحلة الثانية (7-14) حتى يتمكن الطفل من معرفة هذه المفاهيم الأخلاقية ويحس بها فيتفاعل مع المواقف التي يتميز بها الرجال فقد أمر الإمام الصادق عليه السلام أن يضم إلى هذه المرحلة تعليم القرآن الكريم فيه جميع الحقائق والثوابت الأخلاقية، وإذا كان الأساس من السنة الأولى هو سقاية ورعاية

ص: 253


1- علم نفس الطفل، أ. أ. لوبيلنسكايا، ترجمة الدكتور بدر الدين عامود: ص 5710.

شجرة الإيمان في قلب الطفل ونفسه فلابد له أن يتفاعل مع هذه المفاهيم القرآنية، فقال عليه السلام:

«الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتاب سبع سنين، ويتعلم الحلال الحرام سبع سنين»(1).

حتى إذا أكمل (14) سنة انتقل إلى مرحلة جديدة وبيئة نشأوية أخرى عرفها أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله:

«ويستخدم فيها سبعاً».

وهي من (14-21) أي يكون وزيرا لأبيه يشاوره في أمور الحياة ويجالسه في مجالس الرجال يسمع الكلمة ويعي المراد منها يحادث الناس ويفهم أبعاد حديثهم، ثابتاً، عزيزا، معدا لخوض غمّار الحياة. وقد جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد أوكل قيادة الجيش في آخر أيامه المباركة إلى شاب دون العشرين وهو أسامة بن زيد بن حارثة وأمره بالخروج لقتال الروم وعبأ بنفسه المقدسة جميع المهاجرين والأنصار ولم يبقَ منهم أحد بما فيهم كبار الصحابة واستثنى عليا لنفسه، ولكنهم رفضوا الخروج لصغر سنه وهم الشيوخ فدعاهم مرة آخر وعقد اللواء بيده ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لعن الله من تخلف عن جيش أسامة»(2)،

فهذه الحادثة خير دليل على قدرة من هو في هذه السن إن اتبع والداه معه هذا النهج النبوي الذي رسمته العترة الطاهرة عليهم السلام.

ص: 254


1- وسائل الشيعة للعاملي رحمه الله: ج 7، ص 194.
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 30، ص 433.

المبحث الخامس: المنهاج العملي لأهل البيت عليهم السلام في لعب الطفل

اشارة

عند الوقوف على باب فاطمة عليها السلام نجد أن الأملاك تنهل قبلنا من معين سيد الخلق وهو يغمر أهل بيته بحبه الذي لا يمكن لعقل أو حس أن يقيس مقدار هذا الحب النبوي، كيف يمكن إدراكه وهو إنما بعث رحمة للعالمين فكيف بحبه لأهل بيته وهو بعامة المؤمنين رؤوف رحيم(1)؟!

اللهم لا تحرمنا من رأفته ورحمته وثبّتنا على حبه وحب أهل بيته ففيهم يقترب إليك المتقربون، ويفوز المتبعون إن صدقوا في حبهم.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ )(2).

وكي نتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلابد من حبه وحب أهل بيته فبدون هذا الانفعال الوجداني لا تولى الوجوه شطرهم ولا تهوى القلوب إليهم.

فإن وجد هذا الشرط فتعال معي لنتعلم أحد السبل العملية في البناء والتكوين الإنساني، ولنفهم أن كل شيء قائم في هذا البيت فهو على الحب، ونواته حب الله.

ص: 255


1- وهو قوله تعالى: (لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) سورة التوبة، الآية: 128.
2- سورة آل عمران، الآية: 31.

المسألة الأولى: ملاعبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولديه عليهما السلام داخل البيت

اشارة

وجد ومن خلال الأحاديث أن النبي الأكرم كان يلاعب ولديه وابني بضعته فاطمة كلما رآهما أو إن صح التعبير غالب ما اجتمع بهما، ويبدو أن العلة فيه بعد كونهما ريحانتيه في الدنيا، وحبه الشديد لهما، هو أنهما كانا ضمن هذه المرحلة الزمنية من النمو المعرفي والاجتماعي والنفسي والحسي والجسمي، أي: السنين السبع الأولى، فقد توفي عنهما وهما في السنة السابعة من العمر الإمام الحسن، والسادسة من العمر الإمام الحسين عليه السلام ولذلك كان يمشي معهما في هذه المرحلة من النمو، فبعد الإشراف على نموهما اللغوي والمعرفي بدأ بأبي وأمي يشرف على النمو الحركي لهما.

أولاً: تدريبهما على المشي

عن أبي هريرة قال: سمعت أذناي هاتان وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بكفيه جميعا حسنا - أو حسينا - وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول:

«مزقة مزقة ترق عين بقة».

فيرقى الغلام فيضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم قال:

«افتح فاك».

ثم قبله، ثم قال:

ص: 256

«اللهم من أحبه فإني أحبه»(1).

وعنه أيضا، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بيت فاطمة عليها السلام فسلم فخرج إليه الحسن أو الحسين عليهما السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أرق بأبيك عين بقة».

أي: اصعد على أبيك وهو يمازحه بقوله (عين بقة) - وأخذ بإصبعيه فرقي على عاتقه، ثم خرج الآخر من بقعة أخرى.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أرق بأبيك أنت عين البقة».

وأخذ بإصبعيه فاستوى على عاتقه الآخر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باقفيتهما حتى وضع أفواههما على فيه.

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«اللهم إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما»(2).

ثانيا: المشي وأثره في النمو الحركي والعقلي للطفل

النمو الحركي يتضمن التحكم التدريجي بضبط حركة الجسم ولاسيما العضلات الإرادية ويتوقف النمو الحركي على التحسين المستمر في التآزر الحسي العصبي والعقلي.

ص: 257


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 280، برقم (15040)؛ المعجم الكبير للطبراني برقم (2654)؛ النهاية في الحديث لابن الأثير: ج 1، ص 378.
2- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 288، برقم 15070؛ المعجم الكبير للطبراني: برقم 2652.

ومن أهم مطالب النمو الحركي في مرحلة السنين (الحركي والجلوس والوقوف والحبو والمشي).

ويعد المشي بصفة خاصة أهم نواحي النمو الحركي وأكثرها اتصالا بالنمو العقلي والنمو الاجتماعي؛ لأنه يتيح للطفل عالما أوسع وخبرة أوفر وتحرراً أكثر(1).

أما في عمر (2-6) سنوات فإن حركات الطفل تمتاز بالشدة وسرعة الاستجابة والتنوع واطراد التحسن، وتكون غير منسجمة أو مترابطة أو متزنة في أول المرحلة ويكاد النمو الحركي في أول المرحلة ينحصر في العضلات الكبيرة، وبعد ذلك بالتدريج يسيطر الطفل على حركاته ويسيطر على عضلاته الصغيرة بفضل التدريب المتقدم نحو النضج.

وهنا أيضا يكتسب الطفل مهارات حركية جديدة كالجري والقفز والحجل والتسلق وركوب الدراجة والحركات اليدوية الماهرة كالدق والحفر والرمي... الخ، ويكون نشطا بصفة عامة(2).

والشيء المهم في هذه الصورة التي تنقلها الروايتان: هو استخدام العاطفة والحب مع الحركة في تعامل الأب لولده.

ففي حين يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتدريب ولده على التسلق عليه والارتقاء على كتفه فإنه يشجعهما قبلا ويسمعهما كلمات الحب، بل ويحث على حبهما.

ص: 258


1- علم نفس النمو للدكتور حامد زهران: ص 129.
2- المصدر السابق: ص 167.

وهو يكون بذاك قد عمل على تطوير النمو الحركي والانفعالي والاجتماعي والمعرفي والنفسي لهما، وفي نفس الوقت إعطاء درس عملي للإنسانية عن المنهاج الصحيح في التنشئة والتكوين للطفل، وكيف لا وهو معلم البشرية.

المسألة الثانية: الألعاب الاجتماعية والذهنية والتفكير ( Social , Intellectual Games and Thinking )

اشارة

إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحث الحسن والحسين عليهما السلام على المصارعة باعتبار أن اللعب واسطة يتصل بها الطفل، (فإنه (اللعب) يمكن أن يكون مصدر تعلم ( Playing is Learning ) ، وتعد المحاكاة المباشرة للأفراد المحيطين به والأدوار التي يمارسونها أحد مصادر تعلم الطفل في نشاط اللعب، وبهذه الطريقة يستقبل الكلمات، وتزداد معرفته اللغوية مصحوبة بخبرات، وأهمية هذه الخبرة ترجع إلى عضويتها وتلقائيتها، ويمكن أن تكون هذه الخبرات تربوية إذا ما أخضعت للمراقبة والتخطيط والإعداد دون الاعتماد على العشوائية.

وللعب قيمة اجتماعية وانفعالية في شخصية الطفل، إذ إن مناسبات اللعب المختلفة تنتج فرصا تساعد على نضج الطفل الاجتماعي، لأن اللعب يساعد الطفل على التحرك من حالة تمركزه نحو نفسه إلى الانفتاح على الآخرين، وأخذ وجهات نظرهم بعين الاعتبار، ويتدرب على سلوك الأخذ والعطاء وتبني الدور والالتزام به، والالتزام بقوانين الألعاب مع مجموعة كما أنه يسعى نحو تطوير مركز بين أقرانه، ويجاهد لأن يكون مقبولا من قبل الرفاق.

إن أكثر أنواع اللعب إسهاما في تحقيق هذا النضج هو اللعب الحر، إذ فيه يتاح

ص: 259

للطفل إنشاء علاقات، واختبار قدراته، ومهاراته الاجتماعية.

وفي اللعب يطور الطفل نظاما خلقيا، ويبتدئ ذلك فيما يشترك فيه من ألعاب، وما يمارسه من مواقف انتظار للدور، والالتزام بمعايير وقوانين اللعب، وتحمل نتائج الفوز والهزيمة كما ويتعلم المعايير المرتبطة بسلوك الصواب والخطأ، والمسموح، والممنوع، والمرغوب، والمكروه.

وللعب دور معرفي اجتماعي هام يتجلى من خلال إسهامه في نمو عملية الإدراك الاجتماعي ( Social Perception ) إذ إن القدرة على الإحساس بشعور الآخر ( Empathic Ability ) تنمو وتتطور من خلال العلاقات الاجتماعية التي يتعرض لها الطفل في السنوات الأولى من حايته.

وفي أنشطة اللعب التي يعشها الطفل، فإنه يقف بدرجة كبيرة على التشابه الحقيقي ( Actual Similarity ) حيث تؤثر صورة الذات عند الفرد في تكوين مفهومه عن ذات الفرد الآخر وعلى التشابه المدرك ( Perceived Similarity ) الذي يدركه الفرد بين صورة ذاته وبين مفهومه عن ذات الآخرين، ويمكن فهم الأطفال عن طريق لعبهم إذ يقال: (تعرفونهم من لعبهم) وهناك قول آخر: (الأطفال يعلموننا كيف يفهمون) ومن ثم يصل المعرفيون ذوو التوجه الاجتماعي إلى موقف مفاده: (أن الأطفال يعلموننا كيف نعلهم) و (أن لعب الأطفال يعلمنا بأي وسيلة يتعلمون)(1).

تلك الأطر والنظريات التي تمخضت عن هذه الدراسات إنما هي في الواقع

ص: 260


1- تفكير الأطفال، د. يوسف قطامي: ص 773-775، ط الأهلية للنشر والتوزيع لسنة 1990 م.

من ضمن المناهج التي رسمتها العترة النبوية عليهم السلام، ولكن ابتعاد الباحثين عن بيت الرسالة جعلهم يخوضون غمار النتائج الفكرية المختلفة لدى الحضارة الإنسانية التي تعود - أي، هذه الحضارة - إلى معلم البشرية الأول صلى الله عليه وآله وسلم، الذي نهل عن وحي الله وهو الذي:

(عَلَّمَ اَلْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ )(1).

ولذلك تجده صلى الله عليه وآله وسلم كان يلاعبهما بنفسه مرة، ومرة أخرى يأمرهما بالاصطراع بين يديه كي ينمي من خلال هذا اللعب المباني المعرفية، والنفسية، والجسدية، والحسية إضافة إلى النمو الاجتماعي والخلقي، إذ يتمكن الطفل من التحرر من قيود الفردية إلى الغيرية، وينمو إدراكه اتجاه الآخر فيتطور لديه مفهوم التنافس والنصر والهزيمة ونظرة الوالدين له أثر هذه النتائج، وغيرها من الإدراكات المعرفية.

إذن: فلنرَ كيف كانت صور الطفولة في بيت بضعة النبي فاطمة عليها السلام.

أولاً: اصطراع الحسن والحسين عليهما السلام

أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله، عن البرقي، عن فضالة، عن زيد الشحام، عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال:

«دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة بيت فاطمة عليها السلام ومعه الحسن والحسين عليهما السلام، فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوما واصطرعا.

ص: 261


1- سورة العلق، الآية: 5.

فقاما ليصطرعا وقد خرجت فاطمة عليها السلام في بعض حاجاتها، فسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ايه يا حسن شد على الحسين فاصرعه!

فقالت: يا أبه وا عجبا أتشجع هذا على هذا، تشجع الكبير على الصغير؟!

فقال لها: يا بنية أما ترضين أن أقول أنا: يا حسن شد على الحسين فاصرعه، وهذا جبرائيل يقول: يا حسين شد على الحسن فاصرعه»(1).

2 - هذا التشجيع من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلزم سماع الحسن والحسين عليهما السلام لصوت جبرائيل عليه السلام وإلا لا يمكن أن ينادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ايه يا حسن شد على الحسين فاصرعه، والحسين أصغر من الحسن، وقصده العدل والمساواة بينهما وتربيتهما على ذلك، وهما لا يسمعان صوت المشجع الآخر.

3 - سؤال فاطمة عليها السلام وتعجبها كان من ناحيتين:

ألف: لكونها خرجت لبعض شؤونها فلم تكن حاضرة لتسمع صوت جبرائيل عليه السلام كما سمعه ولداها.

باء: كي يظهر الله عزّ وجل مكانة أهل هذا البيت عليهم السلام فتسمع صوت أبيها صلى الله عليه وآله وسلم دون صوت جبرائيل عليه السلام فتتعجب

ص: 262


1- الأمالي: ص 446، المجلس الثامن والستون؛ مستدرك الوسائل: ج 14، ص 81، باب نوادر ما يتعلق بأبواب كتاب السبق والرماية، برقم (16152)؛ بحار الأنوار: ج 43، ص 268، باب فضائلهما، وج 100، ص 189، باب السبق والرماية؛ الإرشاد للشيخ المفيد رحمه الله: ج 2، ص 128؛ أعلام الورى للطبرسي: ص 217؛ أمالي الطوسي: ص 513؛ المناقب لابن شهر: ج 3 ص 392؛ قرب الإسناد: ص 48؛ كشف الغمة: ج 2، ص 7؛ شرف المصطفى للخركوشي (مخطوط): الورقة 182، جهة اليمين، بألفاظ متقاربة.

وتستفهم الحال فيخبرها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، (أما ترضين)، أي: بهذه المنقبة والكرامة.

4 - قد أسلفنا في بداية الفصل: أن لجبرائيل عليه السلام دورا في تربية وتنشئة ريحانتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وولديه، منذ ولادتهما وحتى وفاة جدهما صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك انقطع الوحي عن زيارة هذا البيت ظاهرا لأن الذي كان يراه قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، أما واقعا فهو لم ينقطع عن هذا البيت وإن لم يره أحد، ولكن يسمعون صوته ولم يكن وحيا، كما سيمر علينا في أبواب الكتاب بعونه تعالى.

ثانيا: المطابقة بين مستوى الطفل النمائي الاجتماعي ومستوى الألعاب التي يلعبها

أما هذه الألعاب الاجتماعية عند المتخصصين، فهي: مطابقة بين مستوى الطفل النمائي الاجتماعي ومستوى الألعاب التي يلعبها أو يميل إليها.. إذ إن كل مرحلة من مراحل نمو الطفل الاجتماعية ترتبط بمظاهر معرفية، لذلك، يرى البعض أن النمو الاجتماعي يرتبط في مظاهره بمظاهر النمو المعرفي.

فالمنافسة مفهوم معرفي، يتطلب من الطفل معرفة ما لدى الطفل الآخر من إمكانات وقدرات، واستعدادات، يبحث عنها الطفل، ويتقصاها في الطفل الآخر، واعتمادا على ذلك يحدد موقفه منه.

لذلك، يفترض بعض علماء النفس المعرفيين أن المفهوم المعرفي يرتبط بمفاهيم اجتماعية تحت اسم ( Soeral Cognition ) أي المعرفة الاجتماعية، ولهذا، فإن هناك الكثير من المفاهيم الاجتماعية التي تتطلب معرفة قبل تمثلها واستيعابها لدى الطفل.

ص: 263

فمثلا: أن مفهوم التعاون، ومظاهر التعاون، وسلوك التعاون، وفهم مبادئ الأخذ والعطاء، وسيطرة الانجاز الجماعي على الانجاز الفردي... الخ، وغير ذلك من مضامين مفهوم التعاون، أن كل تلك الأمور، وقبل أن تصبح صيغاً اجتماعية هي أبنية معرفية ممثلة عند تجمعها في بناء اجتماعي هو مفهوم التعاون.

ومن خلال ذلك:

أمكن فهم العلاقة بين النواحي الاجتماعية والنواحي العقلية المعرفية ومظاهرها(1).

المسألة الثالثة: أهمية الوقت في اللعب عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

تحدثنا الروايات وتنقل لنا صورة ثانية من داخل بيت الزهراء عليها السلام عن الطفولة وأطوارها المتعددة، والتي بالطبع يترجمها الحسن والحسين عليهما السلام من خلال تغير أنواع اللعب حسبما تقتضيه المرحلة العمرية التي يمران بها.

وهنا: يعطي النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم درسا جديدا في الاجتماع العائلي يرسم من خلاله النهج الصحيح للأبوين في بناء ونمو النواحي العقلية المعرّفية والحسية والبدنية والنفسية والاجتماعية للأبناء.

فقد أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام بإسناده إلى جده الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قال:

«إن الحسن والحسين كانا يلعبان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى

ص: 264


1- تفكير الأطفال للدكتور يوسف قطامي: ص 780-781.

مضى عامة الليل ثم قال لهما: انصرفا إلى أمكما فبرقت برقة فما زالت تضيء لهما حتى دخلا على فاطمة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليهما.

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الحمد لله الذي أكرمنا أهل البيت»(1).

نقاط البحث في الحديث:
أولا: عامل الوقت المستخدم في اللعب ودوره في النمو

أشار كثير من الباحثين في العلوم النفسية الاجتماعية إلى دور اللعب في نمو شخصية الطفل وبنائه النشأوي؛ ولأهمية هذا الدور وأثره على الطفل فلابد أن يكون هناك اختيار لنوع الألعاب التي يمارسها الطفل حسبما يتناسب مع الفئة العمرية له.

وأن يكون أيضا له الفسحة في أخذ كفايته من اللعب، إذ إن لعامل الوقت دورا لا يقل عن دور أصل اللعب في البناء النشأوي له.

بل: قد يؤدي نقصان الوقت في اللعب إلى نتيجة عكسية تظهر في تعامل الطفل مع والديه وأخوته وسببه عدم أخذ الوقت الكافي لممارسة الألعاب.

والحديث يشير إلى هذا الدور المهم في نمو الطفل من خلال ممارسة اللعب نفسيا ومعرفيا واجتماعيا، وغيرها من الجوانب التي تتداخل في تكوين شخصية الإنسان.

ص: 265


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 39-40؛ المناقب للمازندراني: ج 3، ص 390، فصل معجزاتها؛ صحيفة الرضا عليه السلام: ص 71؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 266-288؛ الجعفريات: ص 183، كتاب التفسير.

ولذا:

أشار الحديث بوضوح إلى هذه المسألة العلمية بقوله عليه السلام:

«كانا يلعبان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى مضى عامة الليل».

أي إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تركهما يلعبان حتى يأخذا كفايتهما من الوقت في ممارسة ألعابهما فيشعرا بالاكتفاء، ومن ثم هدوء النفس واحتياجهما للنوم؛ لأن هذه الطاقات النفسية والعقلية والبدنية قد وجدت منفذها وسد حاجتها.

أضف إلى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعهما إلى التفريط في الوقت، بل راعى الحاجة عندهما إلى ذلك؛ كي يشعرا أن هناك حدوداً وضوابط يجب عليهما مراعاتها حتى لا يكون هناك هدر في معظم اليوم، أو قد يؤدي هذا التفريط إلى الإنهاك والضعف وقلة النوم وتضييع الواجبات.

ولذا: أمرهما - بأبي وأمي - بالانصراف إلى أمهما عليهما السلام.

بقي أن نقول:

إن الأبحاث المعاصرة إشارة إلى ضرورة وجود أحد الأبوين عند ممارسة الأبناء للعب كي يشرفا على تصحيح بعض السلوكيات عند الأطفال في أثناء ممارستهما للألعاب المختلفة إذ إنّ كثيراً من هذه السلوكيات يكتسبها الطفل أثناء اللعب ويظهرها للآخر ولاسيما تلك الألعاب الجماعية.

ومن هنا نراهما كان يلعبان في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دلت عليها الرواية.

ص: 266

ثانيا: الحكمة في ظهور الكرامة لهما عليهما السلام أثناء اللعب

من المساءل التي أظهرها هذا الحديث والحديث السابق - الذي نقل لنا مناداة جبرائيل عليه السلام، أه يا حسن عليك بالحسين فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم آه ياحسين عليك بالحسن - مسألة ظهور هذه الكرامات للحسن والحسين عليهما السلام أثناء ممارسة اللعب؛ فما هي الحكمة في ذلك ؟!

تكمن الحكمة في ذلك من شقين:

1 - هو إلفات نظر الذين من حول العترة الطاهرة عليهم السلام إلى أن هذا البيت بأفراده الخمسة قد تم اصطفاؤهم واختيارهم لحمل شرع الله وأمنائه على وحيه.

ولذا: فهي رسالة للجميع مفادها: اعلموا من هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما لهم عند الله من الشأن فلا يساء فهم الظاهر من فعلهم صغارا،: اللعب، والمطالبة بالحاجات من الآباء والتلطف إليهم في الحصول عليها وغيرها مما يظهره الطفل في هذه المراحل، فما ضرّ عيسى عليه السلام صغره في المهد، كما لا أفقد يحيى صباه قربه من الله عزّ وجل.

ولذا: صحبهما جبرائيل عليه السلام في الحالة الأولى من اللعب، أي: عند اصطراعهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وظهرت لهما البرقة من السماء فأضاءت لهما الطريق إلى الدار، فاستقبلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء حامدا ومثنيا عليه لهذه الكرامة.

2 - أما الشق الثاني من الحكمة في ظهور هذه الكرامات فهو:

ص: 267

عدم انشغال قلبيهما عن ذكر الله أثناء اللعب - وهذه خاصة بالمعصوم عليه السلام -.

بمعنى آخر:

كي يحصل المدد الإلهي والعون الرباني فلابد من توجه الإنسان إلى الله عزّ وجل، فالغافل لا يحصل له المدد، ونقصد به التسديد، لا الرازقية التي هي من مظاهر الرحمانية الإلهية، فالله هو الرزاق الرحمن الرحيم.

ولكن: هل التسديد مناط بكل الخلق، أو أنه مخصوص بخاصة الله تعالى وهم الأنبياء والمرسلون والأوصياء عليهم السلام ؟! ومن لزم سبيلهم وسار بهديهم؛ فكل يَرِد عليه بقدره:

(فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا)(1).

نعم: إنه مخصوص بهذه الثلة المصطفاة:

(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(2).

ولذا:

دل الحديث على عدم انشغال قلبيهما من ذكر الله عزّ وجل، فلو شغل القلب لانقطع التواصل وفقد الأثر.

في حين كان صوت جبرائيل عليه السلام وظهور النور يدلان على التواصل والارتباط بالله عزّ وجل.

ص: 268


1- سورة الرعد، الآية: 17.
2- سورة آل عمران، الآية: 33-34.

المبحث السادس: منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ملاعبة الحسن والحسين عليهما السلام خارج البيت

اشارة

اعتمد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم منهجا خاصا في التعامل مع الحسن الحسين عليهما السلام خارج بيت أمهما فاطمة عليها السلام، لغرض تثبيت ركائز عديدة في المجتمع الذي دأب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على بنائه بناءً جديدا، هذا البناء الذي بدأ في تغيير الأسس التي قام عليها المجتمع الملكي والمدني، على الأسس التي قامت عليها المجتمعات الأخرى، ولذا تراه صلى الله عليه وآله وسلم اتبع مناهج متعددة كانت تعالج القيم من الجذور كي تبدأ مرحلة جديدة من الحياة خالية من العوالق التي تعيق حركة النمو والإصلاح.

وإلا فهو - بأمي وأبي - ظاهره وباطنه القرآن، أي لا يختلف تعامله داخل البيت عن خارجه، وإنما اتبع هذا المنهاج الخاص الذي سنعرض له من أجل قلع الأسس التربوية القديمة وإبدالها بأسس تربوية جديدة.

ص: 269

المسألة الأولى: فوائد المنهج الجديد في التربية والتنشئة الاجتماعية

اشارة

صوّر لنا التأريخ تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الحسن والحسين خارج المنزل، في حالتين أو صورتين:

الصورة الأولى كانت تأسيسه لبناء رعاية الأطفال وآلية التعامل معهم بأسلوب جديد لم يعهده أولئك الرجال من آبائهم أو أجدادهم؛ بل لا نبالغ إن قلنا ولم يلحظوه في أترابهم؛ لأن المجتمع غالبه نشأ على القسوة والقهر واستعباد الغير سواء من خلال سلطة المال كشراء العبيد واستملاكهم وما يلدون؛ أو من خلال سلطة السطو والأسر الذي تمارسه القبائل.

ولذلك: نشأت هذه النفوس على عدم الشفقة لأنهم يرونها نقصا في الرجولة ويفهمون أنّ رعاية الطفل والمرأة من الميوعة التي لا تنسجم مع المكونات الذكورية لديهم.

وإذا بهم اليوم يرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل برقة لطالما حنت إليها قلوبهم وإن أنكرتها نفوسهم فبدأوا يلاحظون أثر السعادة في أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين عليهما السلام فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا طبعا سيدفعهم إلى الممارسة الفعلية لهذا اللون من التعامل كي يعوضوا ما فقدوه من عاطفة في صباهم.

وعليه: كان تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع ولديه خارج المنزل خطوة تأسيسية ترتكز عليها آلية التعامل مع الأطفال ضمن منهج حضاري للتنشئة الاجتماعية.

ص: 270

وقد ورد في الأثر عن أنس، وعبد الله بن شيبة، عن أبيه: أنه دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلاة والحسن متعلق به فوضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابل جنبه وصلى فلما سجد أطال السجود، قال شيبة: فرفعت رأسي من بين القوم فإذا الحسن على كتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فلما سلم صلى الله عليه وآله وسلم، قال له القوم يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها كأنما يوحى إليك.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لم يوحَ إلي ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجل له حتى يقضي حاجته»(1).

وفي رواية أنه قال:

«لم يوحَ إلي ولكن ابني كان على كتفي فكرهت أن أعجله حتى نزل»(2).

نعم الجمل جملكما

وفي حالة مماثلة ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دخل عليه جابر فرآه والحسن والحسين عليهما السلام على ظهره وهو يحثو لهما ويقول:

ص: 271


1- علل الشرائع للصدوق رحمه الله: ج 1، ص 174؛ معاني الأخبار: ص 351؛ البحار: ج 43، ص 294؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 2، ص 263؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 14، ص 160؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 257؛ غريب الحديث لابن قتيبة: ج 2، ص 358.
2- المصدر السابق.

«نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما»(1).

وهما عليهما السلام يقولان:

«حل، حل»(2).

المسألة الثانية: فوائد المنهج الجديد الذي اتبعه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في التنشئة الاجتماعية

أولا: (مبحث سيكولوجي) حضور الأب في تربية الطفل وتطوير مهاراته وتنمية قدراته من خلال اللعب

عرض الحديث جانبا مهما في التربية النفسية للطفل وتطوير مهاراته وتنمية قدراته البدنية والعقلية والنفسية والاجتماعية من خلال حضور الأب في بناء وتنشئة الطفل تنشئة صحيحة وسليمة.

إذ يؤكد التربويون أن من أهم عوامل نمو الطفل هو اللعب الذي ينمي حواسه وجسده وعقله كونه نشاطا ينغمس فيه الأطفال بحماسة بالغة من تلقاء أنفسهم ويمضون ساعات طويلة في ممارسته.

ومن خلال اللعب تتم عملية التنشئة الاجتماعية وتكوين الهوية، بإيصال المفاهيم الثقافية والمعلومات وتطوير المهارات.

ص: 272


1- مستدرك الوسائل: ج 15، ص 172؛ البحار: ج 43، ص 285؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 182؛ ذخائر العقبى: ص 132؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 88، بلفظ: «نعم المطي مطيكما وأبوكما خير منكما».
2- البحار للمجلسي رحمه الله: ج 43، ص 285.

ومع أن التربويين وعلماء النفس يختلفون في تفسيراتهم لدوافع اللعب عند الطفل، إلا أنهم يتفقون على ضرورة حرص الآباء، باختلاف أعمارهم وطبقاتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على تخصيص أوقات يقضونه للعب مع أطفالهم(1).

وأكدوا على أن اللعب مع الأطفال خلال الأشهر الأولى من حياتهم قد يحميهم من المشكلات الصحية سواء النفسية أو العضوية، وأكدوا على أن الآباء أو الأمهات الذين يتصرفون بعدوانية مع أطفالهم الصغار وبشكل غير مسؤول يؤثرون سلباً على نموهم السليم ويعرقلون عملية تطورهم الطبيعي بدنيا وذهنيا؛ لأن دماغ الطفل يتطور بسرعة خلال السنة الأولى من حياته.

كما أن الغذاء الذي يعطي للطفل في بداية حياته يؤثر بشكل كبير في وضعه الصحي لاحقا، لأن الدماغ البشري يتطور أسرع خلال الثمانية عشر شهرا الأولى من حياة الإنسان أكثر من أي وقت أو مرحلة عمرية أخرى، حيث يضع الدماغ الإشارات العصبية والاتصالات التي تبقى إلى الأبد.

وحذر الدكتور يير فوناجي أستاذ التحليل النفسي في كلية لندن الجامعية من أن الوالدين اللذين يفتقدان إلى المهارات التربوية قد يسهمان في إصابة أطفالهما بمشكلات عقلية في المستقبل، أو حتى زيادة خطر إصابتهم بأمراض القلب.

كما دعا ذوي الشأن إلى اتخاذ استراتيجيات مناسبة لتحسين مهارات الوالدين في العناية بأطفالهم وتربية وإنشاء أجيال ذكية وسليمة للمستقبل.

ص: 273


1- سيكولوجية اللعب: ص 95.

وقد أظهرت الدراسات التي أجريت بهذا الشأن أن الأشخاص الذين تربوا في بيئات سلبية أو عدوانية لم يتمكنوا من التعامل مع ضغوطات الحياة والتوترات التي سيواجهونها في المستقبل حيث يقفون عاجزين عن وضع الحلول لأبسط المشكلات.

كما أن نوع الاستثارة الذهنية التي يقدمه الآباء لأطفالهم تلعب دورا كبيرا في تحفيز تفكيرهم وقدراتهم الإدراكية(1).

وأشارت الدراسات التي أجروها أطباء متخصصون في مجال سيكولوجية الطفل إلى وجود نسب متزايدة من الأطفال المصابين بمرض التوحد أو اضطرابات فرط النشاط وعجز الانتباه الذي يتسبب عن نقص في جزء الدماغ المسؤول عن السيطرة على السلوكيات الاندفاعية والمحافظة على التركيز، حيث إن هذه المنطقة تنمو وتتطور في السنوات القليلة الأولى من حياة الإنسان.

وأكدوا أن النقص الشديد في هذه المنطقة الدماغية يميز اضطرابات التوحد في حين أن النقص الخفيف قد يسبب مشكلات نفسية مثل العنف والميول العدوانية واضطرابات السلوك ومشكلات اجتماعية؛ وأشاروا إلى أن الآباء كلما تكلموا مع أطفالهم أكثر كلما شجعوا نموهم وتطورهم العقلي الطبيعي السليم.

وأشارت دراسات أخرى إلى أن نقص الاستشارة الذهنية الإيجابية من قبل الآباء قد يزيد فرص نمو أطفال لا يملكون القدرة على التعبير عن عواطفهم وتفسير ردود الفعل من حولهم.

ص: 274


1- سيكولوجية اللعب عند الأطفال للدكتور فضل سلامة: ص 95-96.

ويتساءل المربون الإيطاليون عن كمية الوقت الذي يمضيه الأب للعب مع أبنائه ؟ وإذا كان بعض الآباء يتذكر عدد الحكايات التي رواها لابنه ؟ وكم عدد المرات التي فتح الأب الأبواب أمام مخيلة أطفاله نحو عالم الفنون كالرسم بجعل الطفل متذوقا صعبا ومشاهدا مهما لأنه ينتظر على الدوام من يشجع رغباته وحاجاته واستعداداته للارتقاء.

وأكدت آخر الاستطلاعات أن الأطفال يعانون من قلة حضور الآباء في حياتهم اليومية إذ إن 15 من الآباء يقضون معدل 30 دقيقة يوميا مع أولادهم، وأكثر الألعاب التي يؤديها الأب عادة مع طفله لا ترتقي إلى المستويات المطلوبة، لأن الآباء لا يحملون أي قناعة أو رغبة في ممارستهم هذه ولهذا السبب فإن الأطفال يفضلون الأجداد والجدات، كونهم قادرين على المرونة والتعاطف المطلوبين من الطفل.

ويبين الاستطلاع الذي أجري على عينة من 1600 طفل تتراوح أعمارهم ما بين 6 و 14 عاما أن أكثر من 85 يفضلون البقاء واللعب مع أجدادهم وجداتهم، ونحو 78 يعتقدون بأن لعب الأب مع طفله بين الحين والآخر، يعدّ واجبا لابد من إنهائه بسرعة، و 92 يتمنون مشاركة الأب في اللعب بصورة مستمرة.

ويقول طبيب الأطفال مارشيللو بيناردي مؤلف كتاب «مغامرة البحث عن طريق لآباء اليوم» أن التحالف ما بين الأب وأبنائه داخل العائلة له وجود حقيقي في العديد من العوائل في مختلف أنحاء العالم فالأب الجيد يجب أن يدرك أن عليه احترام الآخرين وأن يكون في الوقت نفسه في موقع احترام الآخرين الذين حوله،

ص: 275

وأن يعرف كيف يحب من دون انتظار المقابل وأن يكون مقتدرا على الاحتفاظ بقراراته ووعوده مع أطفاله، ومن شأن المشاركة الدائمة في اللعب مع الأطفال أن تقوي مثل هذا الدور.

ويقول البروفسور بينديتو فيرتيكي من جامعة لاسبينسا (المعرفة) فر روما: علاقة الطفل مع البالغ أساسية في عملية التربية منذ بدايات الأشهر الأولى في حياة الطفل، وابتداء من عمر 3 سنوات وما فوق فإن نوعية عامل اللغة المستخدمة يكون ضروريا(1).

ويقدم الكاتب التربوي بيرناردي، وصاياه للآباء من أجل حثهم على اللعب مع أطفالهم فيقول: معرفة الأب من وجهة نظر العديد من المربيين أنها لم تعد عصرية بفعل التطور السريع للعلوم، إلا أنه من ناحية أخرى ليس باللاعب المحترف.

لهذا عليه إلغاء الفكرة القائلة أن الترفيه لا ينطوي على أي سمة تعليمية عليه أن ينظر إلى اللعب لا بوصفه عملية خداع للنفس، بل كونه أسلوبا تربويا مختلفا بإمكانه الانطلاق للمساهمة في تحسين الظروف للنمو العاطفي السليم من منطلق تثبيت ثقة الطفل بنفسه وبشخصيته، لأن الابن يرى بأبيه الشخصية المثالية القادرة على إعطائه كل الصفات الخيالية التي يحتاجها.

وكما يوحي التربويون فإن الطفل لا يحتاج إلى من يوقظ فيه الإحساس بالجمال، لأنه متذوق لكل الفنون بفطرته وكل ما يحتاجه هو من يغذي هذا الإحساس بالمثيرات من خلال الألعاب بشكل مبدع ودؤوب.

ص: 276


1- سيكولوجية اللعب عند الأطفال للدكتور فضل سلامة: ص 96-100.

والأب قادر على ممارسة هذا الدور السهل أيا كان عمره ومستوى ثقافته، شرط توافر الرغبة.

ثانيا: اختيار لعب الأطفال

مما لا شك فيه أن للعب تأثيرا في النمو في جميع النواحي، فالطفل يتعلم عن طريق اللعب الذي تحكمه قواعد، وهو أيضا وسيلة للنمو الاجتماعي، إذ يتعلم الطفل التعاون وفق إقامة علاقات اجتماعية مع العالم الخارجي لغير محيط الأسرة.

كما أن في اللعب فرصة للتخلص من القلق والتوتر وبعض المتاعب وتختلف ألعاب الأطفال من تلك التي تقوم بها الكبار، لذا ينبغي أن نختار اللعب التي تناسب كل سن حتى تحقق الهدف التربوي منها وتترك الأثر النافع، وعلى الكبار إذن تقع المسؤولية كاملة في اختيار اللعبة المناسبة حتى لا يصبح اللعب مضيعة للوقت وبخاصة أننا لا نستطيع أن نحرم صغارنا من اللعب لأننا لن ننجح في ذلك.

فسواء رغبنا أم كرهنا فلابد للأطفال من اللعب ولو في غفلة منا عندما تتاح لهم الفرصة لمخالفة أوامرنا لأنه من غير الممكن أن نتحكم في حياتهم وخيالهم وأحلام يقظتهم.

ولذلك يجب أن نفهم جيدا أن الطفل الذي لا يوجد عنده ميل للعب يكون طفلا غير طبيعي وينبغي دراسة حالته.

ومن هذا المنطلق ينبغي أن نولي الأطفال العناية والرعاية ونتيح لهم فرصة اللعب الهادف ونعمل على إعدادهم الإعداد الجسمي عن طريق التربية الرياضية.

وليس معنى ذلك أن نطلق لهم الحبل على الغارب بلا قيود ولا حدود، فلا

ص: 277

يجوز أن يكون الاهتمام بالألعاب الرياضية على حساب واجبات أخرى أو على حساب تحصيل العلم وطاعة الوالدين، بل يجب أن يكون الارتباط في حدود الوسط والاعتدال(1).

المسألة الثالثة: تأثير المنهج النبوي في التنشئة الاجتماعية في مجتمع المدينة

اشارة

ضمت المدينة المنورة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نماذج متعددة من بيئات اجتماعية مختلفة إلى حد ما؛ وإن كانت تجمعها صفات مشتركة نشأت عليها أصول الرجال والنساء؛ وهي ما تعرف بصفات البداوة.

والسبب في هذا التنوع هو لقدوم وهجرة أهل مكة، - أي: المسلمون - إليها وهذا يعني نقل صفات المجتمع المكي إلى المدينة.

ثم لوجود ديانات سماوية أخرى وهي اليهودية والمسيحية واعتناق بعض أهلها لهذه الديانات وهو ما يضفي على المجتمع من نقل وممارسة لهذه الإيديولوجية أو تلك؛ ومحاولة التأثير على هذا الدين الجديد ممثلا بأفراده.

فضلاً عن انتقال بعض سمات المجتمع الفارسي أو الرومي أو الأفريقي بفعل التجارة والصناعة وكون بعض التجار أو الغلمان في المدينة يتبضعون منها وإليها.

بمعنى: وجود عوامل للغزو الثقافي المتعدد الوجوه، تعمل على صدّ هذا المنهج الجديد في التنشئة الاجتماعية أو على الأقل تحاول أن تدخل فكرها فيه وهو ما تم فعلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مناح متعددة من المجتمع الإسلامي.

ص: 278


1- سيكولوجية اللعب عند الأطفال للدكتور فضل سلامة: ص 105-106.

ولذا.. نجد الصعوبة الكبيرة التي كانت تحيط ببعض المسلمين عندما يرى تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ولديه الحسن والحسين عليهما السلام وكيف يحيطهما بحبه الكبير ويوليهما بالغ عنايته وجزيل رعايته.

فيقف أحدهم، وهو: الأقرب بن حابس، حائرا متفكرا في فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو ينظر إليه كيف يلاعبهما ويشبعهما قبلا فتملأ ضحكاتهما القلب سرورا وبهجة.

فيطيل النظر إليهما وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى نفسه أين هو من هذا السرور!

ولذلك.. لم يملك نفسه أن قال: يا رسول الله إن لي عشرة - أولاد - ما قبلت واحدا منهم قط؟!

فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى التمع لونه وقال للرجل:

«إن كان قد نزع الرحمة من قلب فما أصنع بك؛ من لم يرحم صغيرنا ويعزز كبيرنا فليس منا»(1).

فهذا الرجل قد تكلم وكشف ما يجول في خاطره من إعراض لهؤلاء الأولاد مع كثرتهم ولم يرق قلبه لأحدهم وكأنه منزوع الرحمة فأصبح ميئوساً منه، بل هو لا يصلح أن يكون ضمن هذا المجتمع الجديد الذي ظاهره الرحمة وباطنه الحب والرأفة.

وربما كان غيره كثيرون هم على نفس هذه الحالة النفسية إلا أنهم سكتوا؛ أو

ص: 279


1- المناقب لابن شهر آشوب المازندراني: ج 3، ص 384.

فطنوا أن هذا الفعل النبوي هو التشريع الجديد وهو المنهج الصحيح في تنشئة أبنائهم.

وتعرض لنا السيرة النبوية صورة أخرى عن تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الحسن والحسين عليهما السلام وملاعبتهما خارج المنزل، ما أخرجه بعض حفاظ المسلمين لهذه الصورة.

فقد روي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج مع أصحابه إلى طعام دعوا له فإذا بالحسين عليه السلام وهو صبي يلعب مع صبية في السكة فاستتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم - أي تقدّمهم - فطفق(1) الصبي يفر مرة هنا ومرة هنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضاحكه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت فاس رأسه وأقنعه؛ فقبله وقال:

«أنا من حسين وحسين مني، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط»(2).

نقاط البحث في الحديث:

أولا: (بحث سيكولوجي) اللعب خارج المنزل

تفاوتت آراء الأمهات والآباء في السماح لأطفالهم باللعب خارج المنزل بين

ص: 280


1- طفق: أي، جعل يفعل كذا؛ الصحاح للجواهري: ج 4، ص 1517.
2- الأمالي للسيد المرتضى: ج 1، ص 157؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 172، من حديث ابن إبراهيم عن أبيه؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 177؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 14، ص 149؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 6، ص 401؛ أمتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 18؛ المناقب للمازندراني: ج 3، ص 226.

القبول والرفض فمنهم من رأى أن اللعب خارج المنزل يعرض الطفل إلى المخاطر بوصفه سيختلط مع أطفال قد لا يتحلون بمستوى تربوي مثلما ينبغي؛ أو قد يؤدي به اللعب خارج المنزل إلى الشجار وكسب عادات سيئة وتوسيخ الملابس وغيرها بينما يرى الآخرون اللعب خارج المنزل له فوائد جمة لا يمكن أن تتوفر للطفل داخل المنزل.

وعليه: نعرض لبعض الدراسات فقد توصلت دراسة فرنسية إلى أن لعب الأطفال خارج المنزل يعد ضروريا من أجل نموه الجسدي ونصحت الدراسة الآباء بضرورة تشجيع أبنائهم على الحركة واللعب خارج المنزل على الدراجة أو الركض من أجل النمو الجسدي الصحيح والتخلص من الوزن الزائد.

وبخاصة أن آخر الإحصاءات أظهر أن 30 من الأطفال بين 6 سنوات فما فوق هم أما مصابون بالسمنة أو البدانة مما يعرضهم لخطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل مرض القلب، ارتفاع ضغط الدم، والسكري والمشاكل العاطفية أثناء المراهقة وفي الحياة اللاحقة.

وفي دراسة أخرى أجراها باحثون أمريكيون استمرت ثلاث سنوات وامتدت لتشمل عشرين مدينة أمريكية ظهر أن أمهات أميركيات فضلن جلوس أطفالهن في البيت ومشاهدة جهاز التلفاز طوال أوقات فراغهم بدلا من الخروج واللعب لشعورهن أن الشارع في المدن الأميركية غير آمن وخطر على الأطفال وبخاصة في السن التي تسبق ذهابهم إلى المدرسة.

ولاحظت الدراسة ظهور دلائل البدانة على هؤلاء الأطفال مقارنة بقرنائهم

ص: 281

الذين يخرجون إلى الشارع أو الحدائق المجاورة للعب، وفي ختام الدراسة رأى الباحثون أنه يفضل أن يقوم الوالدان بالسماح لأطفالهما باللعب خارج المنزل.

نشرت الدراسة في مجلة طب الأطفال الأمريكية، وقالت رئيسة فريق الباحثين هيلاري بورديت وهي طبيبة أطفال (أن هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تدرس عينة خاصة بعلاقة رؤية الوالدين لسلامة البيئة المحيطة وعلاقة ذلك بالبدانة فضلا عن أن الدراسة تناولت البدانة والنشاط البدني في المدة التي تسبق دخول الطفل إلى المدرسة.

وأشارت الطبيبة أيضا إلى علاقة مشاهدة - جهاز التلفاز - مع نمو الروح العدوانية وضعف الأداء الدراسي خلال السنوات الدراسية - باعتبار أن البيت يصبح هو المكان الذي يتحرك فيه الطفل فلا يجد فيه سوى جهاز التلفاز من وسيلة لإشغاله وملء فراغه وبخاصة إذا لم يكن لديه أخوة قريبون من سنة مع اشتغال والديه عنه -.

ولذا: ألمحت الطبيبة هيلاري بورديت - إلى عمق تأخير المشاهدات التلفزيونية في الفترات المبكرة من حياة الإنسان - وقالت: لذلك قررنا دراسة مثل تلك الأنماط لتأثيرها على الأطفال في أوقات لاحقة من حياتهم.

ولجأ الباحثون إلى اختيار الفرضية القائلة بأنه في حال شعور الأمهات بأن البيئة المحيطة بالمنزل غير آمنة فإن تلك الأمهات يلجأن إلى منع أطفالهن من الخروج من المنزل لقضاء بعض الوقت في اللعب وبالمقابل ستضاعف عدد الساعات التي سيقضونها أمام الشاشة الصغيرة، ورأى الباحثون أن تناقض نشاط الطفل خارج

ص: 282

المنزل يؤدي إلى زيادة حجم الطفل ومن ثم تحوله إلى البدانة.

وعليه: ينبغي للولدين أن يراعيا هذا الجانب المهم من حياة الطفل ويمكن لهما الجمع بين الخروج واللعب خارج المنزل مع المحافظة على أبنائهم من المخاطر التي أصبحت الآن مواكبة لحركة كل فرد في المجتمع من وجود حوادث السير أو انتشار ذوي السلوك المنحرفة وغيرها.

فيمكن للأب أو الأم أن ترافق ولدها أو البنت إلى خارج المنزل في الحدائق المخصصة أو العامة والمراقبة له ولو عن بعد كي يتمكن الطفل من التحرك بحرية وحيوية لا يمكن أن يحصل عليها داخل المنزل وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن النظام البنائي في أغلب الدول هو نظام السكن العمودي وهذا يستدعي من المستثمر حساب كل سنتمتر كي يجني أرباحا، مما يضيق الخناق على حركة طفل واحد فكيف إذا كانت الأسرة لها أربعة أو خمسة أطفال.

فعندها لا يبقى أمامهم إما الجلوس أمام جهاز التلفاز مع ما يرافق ذلك من مساوئ وهذا في حال اتفاقهم على برنامج واحد ولون واحد من العرض وإما الشجار فيما بينهم وإما أن تتحول الأسرة وأثاث المنزل هو المتنفس لهذه الحركة.

إذن: يبقى الخروج إلى خارج المنزل واللعب هو أفضل بكثير من الجلوس والحركة داخل المنزل؛ ولكن لا بأس بمرافقة أحد الوالدين أو أحد أفراد الأسرة البالغين كي يتوفر للطفل الأمن والحرية الحركية.

ثانيا: (بحث عقائدي) حسين مني وأنا من حسين

كثيرا ما كنت أسأل نفسي عن الوجه الذي عناه سيد الأنبياء والمرسلين صلى

ص: 283

الله عليه وآله وسلم من قوله:

«وأنا من حسين».

باعتبار أن الشطر الأول من القول الشريف:

«حسين مني».

الوجه فيه معروف للكثير، وهو: كونه ابن بنته فاطمة البتول عليها السلام.

ثم وجدت أن هذا الوجه وإن كان قائماً إلا أن سياق الحديث لا يدل عليه بأنه هو المعنى أو المراد أن يتعرف عليه الناس سواء كانوا في زمانه أو سواء من يحيون بعده إلى يوم القيامة.

إذن: ما هو الوجه ؟

بالطبع لا أستطيع أن أجزم بما أفاضه قلبي لذهني بأنه هو المعنى والمطابق لعين الواقع الذي عليه رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن هذا يجر والعياذ بالله إلى الخروج من الإيمان.

إلا أنني هكذا فهمت الوجه، وهو: أنه أراد من قوله:

«حسين مني وأنا من حسين».

هو الحكم الشرعي بأجزائه الخمسة (الواجب، والمندوب، والمكروه، والحرام، والمباح).

لأن (أنا) محل صدورها، هو الشريعة التي نزل بها الروح الأمين على قلبه فكانت طاعته طاعة الله عزّ وجل:

ص: 284

(قُلْ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ )(1).

وهنا لم يفصل الوحي بين الله والرسول.

وإتباعه هو محل حب الله:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ )(2).

وغيرها من الآيات الكثيرة.

ولذلك: صدور الحكم قولا وفعلا وتقريرا من الحسين عليه السلام هو صدوره من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه لا يوحى له.

فكان هذا القول والفعل والتقرير لم لا يؤمن بالعصمة محله عند الله ورسوله نفس محل صدوره من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكأن الخطاب في الحديث موجه إلى عامة المسلمين سواء من اعتقد بأن الإمام معصوم أو لم يعتقد.

وإلا ما المناسبة والضرورة البلاغية في قوله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا من حسين ثم يتبعها بالتلازم والترابط فيما بين حبه عليه السلام، وحب الله المقرونين وتبع لحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي)(3).

إذن: هو توجيه لعامة المسلمين الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا منه والحسين عليه السلام صغيرا بعد لم يبلغ الحلم، كيما إذا خرج الحسين إلى العراق لزم عليهم نصرته، فكيف بمن قتله وسبى أطفاله وحرمه.

ص: 285


1- سورة النور، الآية: 54.
2- سورة آل عمران، الآية: 31.
3- سورة آل عمران، الآية: 31.

فهذا وجه.

وللحديث وجه آخر؛ وهذا الوجه يستخلص من كون النتيجة تبعا للمقدمة وإنهما من سنخ واحد.

بمعنى: أن النبي الأعظم عرض في حديثه مقدمة مفادها.

«حسين مني».

ونتيجتها:

«أنا من حسين».

وكلاهما من سنخ واحد، وهو الإسلام.

بمعنى آخر: بدأ الإسلام منه صلى الله عليه وآله وسلم ودوامه واستمراره وحفظه به صلى الله عليه وآله وسلم ولكن ليس بالتبع وإنما بالعين.

وبمعنى أوضح: هو الإسلام والإسلام هو، فعندما يقول - بأبي وأمي - (أنا) يعني الإسلام ف - (حسين عين الإسلام) و (الإسلام عين الحسين)! ولعل سائلاً يسأل عن الوجه في ذلك ؟

والجواب: يجعل الإمامة في صلبه أولهم ولده علي زين العابدين وتاسعهم قائم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

بدلالة:

(هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ

ص: 286

كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ )(1).

فهذا الظهور للإسلام على الدين كله في الأرض، والذي هو نتيجة للرسالة المحمدية إنما يكون بالحسين وبنيه وجده وأمه وأبيه.

ومن هنا: نجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد ختم حديثه بقوله:

«حسين سبط من الأسباط».

والسبط عند العرب هو ولد الابن والابنة(2)، وقالوا أيضا: السبط، أي: الممتد من القصب(3).

والنتائج المرتبة بعضها تلو البعض الآخر ثم ليقول إن الحسين ولد من الأولاد في حال حمل معنى السبط على المعنى الأول.

وعليه: فهو أحد أولئك الخلفاء الذين اصطفاهم الله لامتداد شرعه في الأرض، حين عرض الأمر على الملائكة قائلا - جل شأنه -:

(إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً )(4).

ص: 287


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- لسان العرب: ج 7، ص 310.
3- لسان العرب: ج 7، ص 309.
4- سورة البقرة، الآية: 30.

المبحث السابع: رعايتها لأبنائها

المسألة الأولى: تربيتهما على أم الفضائل وهو العدل

اشارة

دأب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على رفد ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بقيم القرآن والخلق الذي تميز به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على الخلق أجمعين بشهادة رب العالمين:

(وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ )(1).

أضف إلى ذلك أن مكتسب هذا الخلق العظيم (لدني) لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لقد أدبني ربي فأحسن تأديبي»(2).

وهذا الأدب اللّدني.

(وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً)(3).

ص: 288


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- بحار الأنوار: ج 16، ص 210؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 11، ص 233؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 1، ص 51؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 10؛ تفسير الرازي: ج 6، ص 214.
3- سورة الكهف، الآية: 65.

نقل إلى سبطي هذه الأمة وريحانتيه من الدنيا.

وهنا: لابد من القول بأن الحسن والحسين عليهما السلام حظيا بما لم يحظَ به مخلوق من الحب والرعايا والتربية والتعليم، وحسبك أيها القارئ أن تعرف فقط أن معلمهما هو الحبيب عند الله؛ ومن أحب أعطى، فكيف إذا كان المعطي أكرم الأكرمين ؟!

وكيف إذا كان العطاء لا يبلى ؟ وكيف إذا كان العطاء قد جيد فيه غاية الجود:

(وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ )(1).

فهذا كله قد سخّر للحسن والحسين عليهما السلام لأنهما ريحانتا الحبيب.

ولأجل ذلك: لم يفارقهما في ليل أو نهار؛ أو يطيب العيش له بدونهما؟ وهما ريحانتاه من الدنيا، لا والله.. فما أسرع الدمع من عينيه لما يراهما - كما سيمر بيانه من خلال فصول هذا الباب -.

أما كيف دأب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تأديبهما على العدل منذ الصغر فهو كما يأتي:

أخرج الشيخ الطوسي رحمه الله عن زوجتي النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ميمونة وأم سلمة رضي الله عنهما، قالتا: استسقى الحسن عليه السلام فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجدح له في غمر كان لهم، يعني: قدحا يشرب فيه ثم أتاه به.

ص: 289


1- سورة الضحى، الآية: 5.

فقام الحسين عليه السلام، فقال:

«اسقنيه يا أبت، فأعطاه الحسن عليه السلام».

ثم جدح للحسين عليه السلام فسقاه. فقالت فاطمة عليها السلام:

«كأن الحسن أحبهما إليك ؟ قال: إنه استسقى قبله، وإني وإياك وهما وهذا الراقد في مكان واحد في الجنة»(1).

نقاط البحث في الحديث:
أولاً: العدل منذ الصغر

من الثوابت التي - نعتقد بها - أن المعصوم خُلقه القرآن وأدبه نبوي ومن ثم فهو محفوف باللطف الإلهي مسبوق بالتسديد معه للكمال بكينونة كونه أمين الله في أرضه وحجته على عباده، إلا أنه تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أوصيائه الحسن والحسين منذ الصغر على العدل وهو أم الفضائل إنما لبيان الحجة وإلزام المعترض بأنهما مؤهّلان لقيادة الأمة وصلاح الناس.

فضلاً عن سنة الإنبات التي تحدث عنها القرآن الكريم واصطفائهم لتبليغ الرسالة.

ثانياً: العدالة أشرف الفضائل

يكشف الحديث الشريف عن قيام النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بزرع أشرف الفضائل في نفس الحسن والحسين عليهما السلام منذ الصغر ألا وهي

ص: 290


1- جامع السعادات للنراقي: ج 1، ص 111-112.

العدالة - وإن كنا نعتقد بأنهما إمامان اصطفاهما الله وعصمهما عن الخطأ - إلا أن هذا لا يمنع من إجراء السنن التكوينية المرافقة لعالم الشهادة.

ولذلك: صنف علماء الأخلاق العدالة بأنها كل الفضائل أو ما يلزمها، كما أن الجور كل الرذائل أو ما يوجبها، لأنها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع الصفات والأفعال، ورد الزائد والناقص إلى الوسط، وانكسار سورة التحالف بين القوى المتعادية، بحيث يمتزج الكل وتتحقق بينهما مناسبة واتحاد تحدث في النفس فضيلة واحدة تقتضي حصول متوسط بين أفعالها المتحالفة، وذلك كما تحصل من حصول الامتزاج والوحدة بين الأشياء المتخالفة صورة واحدية يصدر عنها فعل متوسط بين أفعالها المتخالفة فجميع الفضائل مترتبة على العدالة، ولذا قال أفلاطون: (العدالة إذا حصلت للإنسان كل واحد من أجزاء نفسه ويستضيء بعضها من بعض، فتنهض النفس حينئذ لفعلها الخاص على أفضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدعها سبحانه).

ومن خواص العدالة وفضيلتها أنها أقرب الصفات إلى الوحدة وشأنها إخراج الواحد من الكثرات والتأليف بين المتباينات، والتسوية بين المختلفات، ورد الأشياء من القلة، والكثرة والنقصان والزيادة إلى التوسط الذي هو الوحدة، فتصير المتخالفات في هذه الرتبة متحدة نوع اتحاد، وفي غيرها توجد أطراف متخالفة متكاثرة، ولا ريب في أن الوحدة أشرف من الكثرة، وكلما كان الشيء أقرب إليها يكون أفضل وأكمل وأبقى وحدانية صارت أكمل مما كان، ولذا قيل كمال كل صفة أن يقارب ضدها، وكمال كل شخص أن يتصف بالصفات المتقابلة يجعلها متناسبة متسالمة، وتأثير الأشعار الموزونة والنغمات والإيقاعات المتناسبة، وجذب

ص: 291

الصور الجميلة للنفوس، إنما هو لوحدة التناسب، ونسبة المساواة في صناعة الموسيقى أو غيرها أشرف النسب لقربها إلى الوحدة وغيرها من النسب يرجح إليها.

وبالجمة: اختلاف الأشياء في الكمال والنقص بحسب اختلافها في الوحدة والكثرة، فأشرف الموجودات هو الواحد الحقيقي الذي هو موجد الكل ومبدئه، ويفيض نور الوحدة على كل موجود بقدر استعداده كما يفيض عليه نور الوجود كذلك، فكل وحدة من الوحدات جوهرية كانت أو خلقية أو فعلية أو عددية أو مزاجية، فهو ظل من وحدته الحقة وكلما كان أقرب إليها يكون أشرف وجودا، ولولا الاعتدال والوحدة العرضية التي هي ظل الوحدة الحقيقية لم تتم دائرة الوجود، لأن تولد المواليد من العناصر الأربعة يتوقف على حصول الاتحاد والاعتدال، وتعلق النفس الربانية بالبدن إنما هو لحصول نسبة الاعتدال، ولذا يزول تعلقها به بزوالها بل النفس عاشقة لتلك النسبة الشريفة أينما وجدت(1).

ثالثاً: إن العترة عليهم السلام هم جميعا في مكان واحد في الجنة

اعتاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تطييب قلب فاطمة عليها السلام في كل حادثة تمر أمامها وفيها ولو مجرد إشغال للفكر.

وهنا.. وكونها أماً رحوماً بأولادها استوقفها تقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولدها الحسن على الحسين عليهما السلام في سقي الماء، وكلاهما قد طلب شرب الماء من جده صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 292


1- جامع السعادات للنراقي: ج 1، ص 111-112.

فبادرت بالسؤال:

«كأن الحسن أحبهما إليك ؟».

فأجاب:

«إنه استسقى قبله».

ولم يشأ النبي الأعظم أن تمر الحادثة دون تطييب لهذا القلب، فاتبع كلامه:

«وإني وإياك وهما وهذا الراقد في مكان واحد في الجنة».

وهنا.. تبين حكم شرعي ؟ بمعنى أن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة شرعية يلزم اتباعها فيكون إتباع الوالدين أو أحدهما في التعامل مع أبنائهم قائماً على أسس الاستحقاق، لا على أساس التفاضل في أكثرهما حبا وأقربهما لقلب الأب والأم أو الصغر والكبر.

والملاحظ في فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سقيه للحسن والحسين عليهما السلام في نفس الوقت ولكن تقديم سقي الحسن عليه السلام لكونه طلب شرب الماء أولا، وهذا يكشف عن عدل سيد الأنبياء والمرسلين في أدق الأمور وأبسطها.

ثانيا: يكشف هذا الحديث عن منقبة خاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحبه للأفراد وإن كانوا أبناءه وفلذة كبده وريحانتيه من الدنيا قائم على الحب الإلهي.

بمعنى: أنه يحب من موقع الطاعة لله عز وجل فمن كان مطيعا لله عز وجل حظي بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلما ازداد الإنسان في طاعة الله

ص: 293

عزّ وجل كلما ازداد حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي: إنه لا يحب على أساس عاطفي وجداني حتى وإن كان ريحانته من الدنيا فحبه صلى الله عليه وآله وسلم لهما وكونهما ريحانتيه نابع من كونهما بالدرجة الأولى سيدي شباب أهل الجنة وحجتي الله عزّ وجل على الخلق، وإلا فالقرآن منهاجه واضح بالنسبة للأنبياء والمرسلين في حبهم وارتباطهم بذويهم؛ فلاحظ قوله تعالى في نوح وولده:

(قٰالَ يٰا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )(1).

وفي إبراهيم الخليل عليه السلام وأبيه قال عزّ وجل:

(وَ مٰا كٰانَ اِسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّٰ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ )(2).

إذن: عندما توجّهت بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال عن مقدار حب رسول الله للحسن عليه السلام:

«كأنه أحبهما إليك».

أجاب:

«إنه استسقى قبله».

أي إن الدافع في تقديم الحسن لهذا السبب أما أمر حبي فلا يكون إلا لله عزّ وجل، ولكونه لله ف -:

«وإني وإياك وهما وهذا الراقد في مكان واحد في الجنة».

ص: 294


1- سورة هود، الآية: 46.
2- سورة التوبة، الآية: 114.

أي: يجمعنا حب الله الذي جعلنا في مكان واحد في الجنة - مع حفظ المقامات لكل منهم، بمعنى أنهم صلوات الله عليهم في مكان واحد في الجنة، كأن يكون المكان جنة الفردوس لكن المنزل الذي فيه سيد الخلق يختلف عن المنزل الذي فيه غيره من أهل بيته عليهم السلام وإن كانوا في مكان واحد، والله العالم ونسأله شفاعة محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم.

والتحقيق: أنها معنى وحداني يختلف باختلاف محالها، فهي في الأجزاء العنصرية الممتزجة اعتدال مزاجي، وفي الأعضاء حسن ظاهري، وفي الكلام فصاحة، وفي الملكات النفسية عدالة، وفي الحركات غنج ودلال، وفي المغنيات أبعاد شريفة لذيذة والنفس عاشقة لهذا المعنى في أي مظهر ظهر، وبأي صورة تجلى، وبأي لباس تلبس.

فإني أحب الحسن حيث وجدته *** وللحسين في وجه الملاح مواقع

والكثرة والقلة والنقصان والزيادة تفسد الأشياء إذا لم تكن بينها مناسبة تحفظ عليها الاعتدال والوحدة بوجه ما وفي هذا المقام تفوح نفحات قدسية تهتز بها نفوس أهل الجذبة والشوق، ويتعطر منها مشام أصحاب التأله والذوق فتعرض لها إن كنت أهلا لذلك(1).

ولذلك.. فهي: (الوسط بين طرفين، والوسط محصور بين الأطراف، والأطراف لا تنحصر عند حدّ)(2).

وإذا عرفت شرف العدالة وإيجابها للعمل بالمساواة، ورد كل ناقص وزائد

ص: 295


1- جامع السعادات للعلامة النراقي رحمه الله: ج 1، ص 112-113.
2- مقدمة في علم الأخلاق للعلامة السيد كمال الحيدري: ص 62.

إلى الوسط، فاعلم أنها إما متعلقة بالأفعال؛ أو بالكرامات، وقسمة الأموال، أو بالمعاملات والمعارضات؛ أو بالأحكام والسياسات، والعادل في كل واحد من هذه الأمور ما يحدث التساوي فيه برد الإفراط والتفريط إلى الوسط.

ولا ريب في أنه مشروط بالعلم بطبيعة الوسط، حتى يمكن رد الطرفين إليه؛ وهذا العلم في غاية الصعوبة ولا يتيسر إلا بالرجوع إلى ميزان معرف للأوساط في جميع الأشياء، وما هو إلا ميزان الشريعة الإلهي الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة(1).

ومن هنا: نجد أن سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم كان عادلا حتى في إعطاء الماء لأولاده فقد اتبع المساواة فيما بينهما في سقيه لهما؛ لكن قدم الذي استسقى أولا كي يزرع في قلبيهما أشرف الفضائل - وإن كانا كذلك، ولكن عمله إجراء للسنن الشرعية في عالم الملك والشهادة -.

المسألة الثانية: تعويذهما عليهما السلام بزغب جناح جبرائيل عليه السلام

اشارة

من السنن الغيبية التي تدور بين عالم الأرواح هي تأثر لروح الإنسانية بما يحيطها من أرواح العوالم الأخرى ولاسيما عالم الجن الذي تحدث عنهم القرآن في مواضع عدة؛ منها ما أظهر معتقداتهم كقوله تعالى:

(يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا)(2).

ص: 296


1- جامع السعادات: ج 1، ص 113.
2- سورة الأنعام، الآية: 13.

ومنها ما تحدث عن انحرافهم وتأثيرهم على الإنس كقوله تعالى:

(وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنٰا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّٰنٰا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمٰا تَحْتَ أَقْدٰامِنٰا لِيَكُونٰا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ )(1).

وغيرها من الآيات القرآنية.

ولأن هذه الأرواح تدعو إلى عوالم أخرى ولها تأثيرات سلبية على الإنسان فقد جعل الله تعالى بعض السبل التي تقي الإنسان منها وتدفع عنه ضررها، ألا وهي التعويذ.

والتعويذ لغةً ، مأخوذ من (العوذ، أي: الالتجاء كالعياذ بالكسر والمعاذة والتعوذ والاستعاذة، أعاذ به يعوذ لاذ به ولجأ إليه واعتصم، وعذت بفلان واستعذت به، أي لجأت إليه، وفي الحديث إنما قالها تعوذا أي إنما أقر بالشهادة لاجئا إليها ومعتصما بها ليدفع عنه القتل، وليس بمخلص في إسلامه.

و (العوذة) بالهاء:

(الرقية يرقى بها الإنسان من فزع أو جنون، لأنه يعاذ بها، وقد عوذه، وزعم بعض أرباب الاشتقاق أن أصلها هي الرقية بما فيه أعوذ، ثم عمت، فيقال: عوذت فلاناً بالله وبأسمائه وبالمعوذتين، إذ قلت أعيذك بالله وبأسمائه وبالمعوذتين، إذا قلت أعيذك بالله وأسمائه من كل ذي شر ولك داء وحاسد)(2).

ومن هنا: كان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ما يعوذ الحسن

ص: 297


1- سورة فصلت، الآية: 29.
2- تاج العروس للزبيدي، مادة عوذ: ج 5، ص 380-384.

والحسين عليهما السلام بقراءة سورة الفلق والناس(1)؛ حتى ظن عبد الله بن مسعود أنهما ليستا من القرآن الكريم(2).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعوذهما بهذه الكلمات:

«أعيذكما بكلمات الله التامات وأسمائه الحسنى كلها عامة من شر السامة والهامة ومن شر كل عين لامة ومن شر حاسد إذا حسد».

ثم التفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«هكذا كان يعوذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام»(3).

وروى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن أبيه يرفعه إلى الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل أنه قال:

«وإذا أراد أحدكم النوم فلا يضعن جنبه على الأرض حتى يقول: أعيذ نفسي وديني وأهلي وولدي ومالي وخواتيم عملي وما رزقني ربي وخولني بعزة الله وعظمة الله، وسلطان الله، ورحمة الله، ورأفة الله، وغفران الله، وقوة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وبصنع الله، وأركان الله، وبجمع الله، وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 298


1- مسند أحمد: ج 5، ص 130؛ تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 1، ص 116؛ مسالك الأفهام للشهيد الثاني: ج 1، ص 212.
2- المجموع للنووي: ج 3، ص 396؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، ص 416؛ تفسير الآلوسي: ج 30، ص 279.
3- الكافي، باب الحرز والعوذة: ج 2 ص 569؛ العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 3، ص 226؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 7، ص 325؛ شرف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم للخركوشي (مخطوط) يرقد في مكتبة الأسد بدمشق ويحمل الرقم 6887، ويقع الحديث في الصورة رقم 182 جهة اليمين؛ بهيمة المحافل (مخطوط) يرقد في مكتبة الأسد بدمشق ويحمل الرقم 13471.

بقدرة الله على ما يشاء الله من شر السامة والهامة، ومن شر الجن والإنس، ومن شر ما يدب في الأرض وما يخرج منها، ومن شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوذ بها الحسن والحسين عليهما السلام، وبذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

فهذه الأحاديث لترشد الإنسان إلى سبل النجاة من التأثر بما يحيط به من أخطار متعددة ومتنوعة، إلا أن لفاطمة عليها السلام تعويذاً آخر كانت تعوّذ به ولديها الحسن والحسين عليهما السلام، تعويذاً من نوع خاص لم ولن يكون لغيرهما منذ أن خلق الله الخلق! إنه زغب جناح جبرائيل عليه السلام، فكيف صنعته بضعة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لها؟

روى الأربلي، عن أم عثمان، أم ولد علي بن أبي طالب عليه السلام، قالت كانت لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطيفة يجلس عليها جبرائيل عليه السلام لا يجلس عليها غيره وإذا خرج طويت وكان إذا عرج انتفض فيسقط من زغب ريشه فيقوم فيتبعه ويجعله من تمائم الحسن والحسين عليهما السلام(2)، وفي لفظ: فتلتقطه فاطمة عليها السلام فتجعله في تمائم الحسن والحسين عليهما السلام(3).

ص: 299


1- الخصال للصدوق: ص 631.
2- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 172.
3- المناقب لابن شهر: ج 3، ص 162.

وجاء عن ابن شهر آشوب، عن ابن عمر أنه قال:

كان للحسن والحسين تعوذان حشوهما من زغب جناح جبرائيل عليه السلام(1).

مسائل البحث في الحديث:
أولاً: الحكمة في تخصيص قطيفة لجلوس جبرائيل عليه السلام عليها

1 - القطيفة: فرش مخملة، وقيل: دثار مخمل، وقيل: كساء له خمل(2)، ومن خلال هذا المعنى يظهر أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد هيّأ هذا النوع من الفرش لغرض إظهار الحفاوة والتكريم للجالس عليها وهي سنة نبوية تدل على استحباب تكريم الضيف مع ما يتناسب ومنزلته الدينية العلمية والاجتماعية.

2 - إن هذا التخصيص يدل على أن جبرائيل عليه السلام كان يهبط بشكل متواصل على بيت فاطمة عليها السلام وأن هذا الجلوس في أغلب الأحيان هو جلوس استئناس بأهل هذا البيت النبوي عليهم السلام، وإلا كان بالإمكان الوقوف في البيت لإبلاغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يوحى إليه أو التحليق في فضاء البيت النبوي.

3 - أن طوي هذه القطيفة بعد عروج جبرائيل عليه السلام يشير إلى أن هناك

ص: 300


1- المناقب: ج 3، ص 162. ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق: ص 113، ط مؤسسة المحمدي.
2- لسان العرب، مادة قطف: ج 9، ص 286.

زيارات لمختلف الملائكة وهبوطها لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد دلت عليه كثير من الأحاديث، كقول أنس بن مالك:

أن ملك المطر استأذن أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأذن له، فقال لأم سلمة:

«أملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد»(1).

والرواية تكشف أيضا عن حصول الاستئذان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدخول عليه حسبما تعبر به سياق الرواية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لميكائيل في زيارته ولذلك قال لأم سلمة أملكي علينا الباب، وأن لفظ (استأذن ربه) التي وردت في مسند أحمد دخيلة على النصّ وقد أوردها أحمد بن حنبل استظهارا لما فهمه هو بدليل أن هذه اللفظة لم ترد في المصادر الأخرى.

ومما يدل عليه استئذان ملك الموت عليه السلام عند حضوره لقبض روح النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم(2)، وإذا كان الحال مع ملك الموت بهذه الكيفية فمن باب أولى استئذان بقية الملائكة عليه قبل دخولها لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم.

رابعا: أن الحكمة في طوي القطيفة بعد خروج جبرائيل عليه السلام يشير إلى

ص: 301


1- الأمالي للطوسي رحمه الله: ص 330. مسند أحمد: ج 3، ص 242، ط دار صادر. مجمع الزوائد: ص 187.
2- الأمالي للصدوق: ص 349، ط مؤسسة البعثة. الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، ص 259، ط دار صادر.

حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حفظ آثار روح القدس بمعنى آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتبع أسلوب الزراع في جنيهم لثمار الأشجار، إذ جرت العادة عندهم أن يضعوا أسفل الأشجار المثمرة كالزيتون والكرز وغيرها قطعاً من القماش ليتساقط عليه التمر ثم يجمع.

فمن هذا المعنى كانت فاطمة عليها السلام تفرش هذه القطيفة لتجني ما يتساقط عليها من زغب جناح جبرائيل عليه السلام لحكمة سيمر بيانه، ثم إنها عليها السلام أرادت بهذا الصنع عدم اختلاط زغب غيره من الملائكة عند نزولهم وزيارتهم إلى رسول الله وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ثانيا: الحكمة في جمع زغب جناح جبرائيل عليه السلام

يعرض لنا القرآن الكريم حقائق عدة حول الملائكة ولاسيما جبرائيل عليه السلام فقد أظهر القرآن الكريم في بعض آيات خص الله عزّ وجل بها جبرائيل عليه السلام من خصائص خاصة، منها ما يتعلق بمقامه القربي من الله، ومنها ما كان يظهر مقامه بين الملائكة. ومنها ما كان يظهر قوته الربانية.

فقال عزّ وجل:

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ )(1).

وفي موضع آخر يظهر القرآن مقامات أخرى كمقام روح القدس الذي ورد في قوله تعالى:

ص: 302


1- سورة التكوير، الآية: 19-21.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا)(1).

فهنا تعددت المقامات فهي:

(مقام الرسولية، مقام القوة عند ذي العرش، مقام التمكين، مقام الطاقة، ومقام الأمانة).

وأن ما يسقط من زغب جبرائيل عليه السلام يحمل بعض آثار هذه المقامات الربانية ولاسيما مقام القوة والتمكين وروح القدس والقرآن الكريم يظهر انتقال هذه الخصائص في آثار جبرائيل عليه السلام وتأثر الأشياء الدنيوية بها فمنها تأثر عجل السامري بأثر تراب حافر فرس جبرائيل عليه السلام وانتقال الحياة إليه فإذا له خوار (صوت) يسمعه الناس فافتتنوا به وعبدوه.

قال تعالى:

(قٰالَ فَمٰا خَطْبُكَ يٰا سٰامِرِيُّ (95) قٰالَ بَصُرْتُ بِمٰا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهٰا وَ كَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(2).

فإذا كانت قبضة من تراب حافر فرس جبرائيل عليه السلام تعيد الحياة إلى تمثال مصنوع من المعادن فإذا له صوت يسمعه الناس(3)، فكيف بالأثر الذي يخلفه زغب جبرائيل عليه السلام على سلامة الحسن والحسين عليهما السلام حينما وضعته فاطمة عليها السلام في تمائمهما.

ص: 303


1- سورة النحل، الآية: 102.
2- سورة طه، الآية: 95-96.
3- تفسير التبيان للشيخ الطوسي: ج 1، ص 237؛ جام البيان للطبري: ج 16، ص 248؛ تفسير الثعلبي: ج 1، ص 194.

المسألة الثالثة: استغاثة فاطمة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند مرض ولدها الحسين عليهما السلام

اشارة

من الملازمات البديهية للأم هي حالة الخوف على أبنائها، ولاسيما في حال مرض أحدهم إذ تكون هذه الحالات من أوضح الصور التي يتجلى فيها خوف الأم للعيان، فيظهر عليها القلق والاضطراب وربما الحيرة في كيفية إسعاف ولدها، وجميع هذه الانفعالات النفسية متفاوتة بين الأمهات حسبما يخالج الأم من مشاعر أمومية قد تكون مفرطة عند بعضهن.

وفاطمة صلوات الله عليها تندفع في هذه الحالات التي تظهر فيها عاطفة الأمومة كما هو حال الأمهات لكن الفارق بين بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبين باقي الأمهات هو التسليم لأمر الله وحسن الظن به عز وجل والالتجاء إلى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كي يدعو الله لولدها في مرضه كما تظهر الرواية هذه الخصال. فقد روى المحدث النوري، عن القطب الراوندي قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«اعتل الحسين عليه السلام فاحتملته فاطمة عليها السلام فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله أدع الله لابنك أن يشفيه، إنّ الله هو الذي وهبه لك، وهو القادر على أن يشفيه.

فهبط جبرائيل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله تعالى لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء، وكلّ فاء من آفة ما خلا الحمد، فإنه ليس فيها فاء فادع بقدح من ماء فاقرأ عليه الحمد أربعين مرة ثم صب عليه، فإن الله يشفيه».

ص: 304

ففعل ذلك، فعوفي بإذن الله)(1).

والحديث يكشف عن مسائل عدة:

أولاً: الالتجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل صغيرة وكبيرة

تضع الزهراء عليها السلام لنا منهاجا عقائديا في الاستغاثة والالتجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقديمه بين يدي حاجاتنا كي يقضيها الله تعالى به صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا كان بالإمكان أن تهرع إلى زوجها أمير المؤمنين عليهما السلام وهو الحال الذي تتبعه الأمهات، إلا أن فاطمة التجأت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد ورد في الأثر أن رجلا ضريراً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسأله أن يدعو له بالشفاء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك».

قال الرجل: فادعه. قال الراوي: فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء:

«اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي ليقضي لي، اللهم شفعه فيّ »(2).

ص: 305


1- مستدرك الوسائل: ج 4، ص 300.
2- أورده تقي الدين السبكي في شفاء السقام: ص 301، وأتبعه بقوله: قال الترمذي هذا حديث صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ وقد أخرجه أحمد في المسند: ج 4، ص 138؛ والحاكم في المستدرك: ج 1، ص 314؛ والنسائي في السنن الكبرى: ج 6، ص 169.
ثانياً: مراتب التوحيد وأثرها في قضاء الحاجات

ترشدنا بضعة الهادي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملازمة في مراتب التوحيد فلا يرتقي الإنسان من مرتبة إلى أخرى ما لم يكن محصلا لكليهما، بمعنى لا يحصل الشفاء بدون الاعتقاد بأن الله هو الذي وهب هذه النعمة وهو المالك لها ولذا فهو القادر وحده عز وجل على منح الشفاء لما يملك.

وهنا وقفة في غاية الأهمية: إذ يعتقد الأبوان ولاسيما الأم بالتملك لهذه النعمة، أي نعمة الولد متوهمين بين هذا الإحساس وبين إحساس الوالدية فلا يستطيعون حينها التفريق بين هذين الشعورين إذ ينصرف ذهن الأم إلى طلب الشفاء والعافية لولدها دون أن تشعر أنها تطلب أمرا لشيء هي لا تملكه وقلنا إحساسها بالأمومة يغلب على إحساسها وحضورها القلبي إلا أن المالك هو الله عز وجل وهو الذي يبتلي وهو الذي يشفي.

ولذا: قدمت في حديثها عليها السلام رتبة الملكية للخالق عز وجل على رتبة طلب العافية، ولو حرص الإنسان على هذه الرتبة من التوحيد لقضيت جميع حاجاته الدنيوية والأخروية.

ثالثاً: الاستشفاء بكتاب الله تعالى

تضافرت النصوص في بيان أثر الاستشفاء بالقرآن الكريم كقوله تعالى:

(وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاٰ يَزِيدُ اَلظّٰالِمِينَ إِلاّٰ خَسٰاراً)(1).

وقد ورد في تفسيرها: أنّ ال - (من) هنا بيانية، تبين معنى قوله تعالى: (مٰا هُوَ شِفٰاءٌ ) . بمعنى: وننزل ما هو شفاء ورحمة، وهو القرآن.

ص: 306


1- سورة الإسراء، الآية: 82.

وعدّ القرآن شفاء؛ والشفاء إنما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، وهو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر أن الدين الحق فطري للإنسان فكما أن للبنية الإنسان التي سويت على الخلقة الأصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية وآثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة، كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدأ والمعاد وما يتفرع عليهما من أصول المعارف، وأخلاق فاضلة زاكية تلائمها ويترتب عليها من الأحوال والأعمال ما يناسبها.

فللإنسان صحة واستقامة روحية معنوية كما أن له صحة واستقامة جسمية صورية وله أمراض وأدواء روحية باختلاف أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا وأدواء جسمية باختلاف أمر الصحة الجسمية ولكل داء دواء ولكل مرض شفاء.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا وهو غير الكفر والنفاق الصريحين كما يدل عليه قوله:

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ )(1).

وقوله تعالى:

(وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْكٰافِرُونَ مٰا ذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِهٰذٰا مَثَلاً)(2).

ص: 307


1- سورة الأحزاب، الآية: 60.
2- سورة المدثر، الآية: 31.

وليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب واستقامة النفس من أنواع الشك والريب الموجبة لاضطراب الباطن وتزلزل السر والميل إلى الباطل وإتباع الهوى مما يجامع إيمان عامة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان ومما هو معدود نقصا وشركا بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية.

وقد قال تعالى:

(وَ مٰا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّٰهِ إِلاّٰ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ )(1).

وقال:

(فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(2).

والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة والمعارف الحقيقة ويدفع بمواعظه الشافية وما فيه من القصص والعبر والأمثال والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والأحكام والشرائع عاهات الأفئدة وآفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.

وأما كونه رحمة للمؤمنين والرحمة إفاضة ما يتم به النقص ويرتفع به الحاجة فلأن القرآن ينور القلوب بنور العلم واليقين بعدما يزيل عنها ظلمات الجهل والعمى والشك والريب، ويحليها بالملكات الفاضلة والحالات الشريفة الزاكية بعدما يغسل عنها أوساخ الهيئات الردية والصفات الخسيسة.

فهو بما أنه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض والأدواء وبما أنه رحمة يعيد إليها

ص: 308


1- سورة يوسف، الآية: 106.
2- سورة النساء، الآية: 65.

ما افتقدته من الصحة والاستقامة ويهيئها لقبولها، وبكونه رحمة يلبسه لباس السعادة وينعم عليه بنعمة الاستقامة، فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى ورحمة للنفوس غير الآمنة من الضلال، وبذلك تظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله:

(مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )(1).

فهو كقوله:

(هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )(2).

فمعنى قوله:

(وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ).

وننزل إليك أمرا يشفي أمراض القلوب ويزيلها ويعيد حالة الصحة والاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة(3).

رابعاً: أثر سورة الحمد في الشفاء

إنّ الكثير من النصوص الشريفة لترشد الإنسان المؤمن إلى دور سورة الحمد في شفاء المريض وهي كالآتي:

1 - روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«ما قرأت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن»(4).

ص: 309


1- سورة الإسراء، الآية: 82.
2- سورة الأعراف، الآية: 52.
3- تفسير الميزان: ج 13، ص 184.
4- الدعوات للراوندي: ص 189.

2 - وقال عليه السلام:

«قراءة الحمد شفاء من كل داء إلا السام»(1).

3 - وقال عليه السلام:

«من نالته علة فليقرأ في جيبه الحمد سبع مرات فإن ذهبت العلة، وإلا فليقرأها سبعين مرة، وأنا الضامن له العافية»(2).

4 - قال عليه السلام:

«لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرة فردت فيه الروح ما كان ذلك بعجيب»(3).

5 - قال عليه السلام:

«من لم تبرئه الحمد لم يبرئه شيء»(4).

المسألة الرابعة: نذرها عليها السلام لشفاء الحسن والحسين عليهما السلام

اشارة

ما زلنا في طور الحديث عن الحالة الوجدانية للوالدين عند مرض أحد أبنائهما، وكيفية التعامل مع تلك الأجواء التي تتعاظم على نفس الوالدين حينما يمرض أكثر من ولد لهما في آن واحد. وهنا في هذا المبحث نحاول استظهار المنهج التربوي الذي قام به أمير المؤمنين وسيدة النساء عليهما السلام في كيفية التعامل مع حالات كهذه كي يكون مرشدا للآباء والأمهات في رعاية أبنائهما.

ص: 310


1- فقه الرضا عليه السلام: ص 346.
2- وسائل الشيعة، باب استحباب تكرار الحمد: ج 6، ص 232.
3- الكافي للكليني، باب فضل القرآن: ج 2، ص 23.
4- وسائل الشيعة، باب استحباب تكرار الحمد: ج 6، ص 232.
أولا: ما ورد في الأثر عن كيفية وقوع الحادثة

روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن سلمة بن خالد، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام عن أبيه في قوله عزّ وجل:

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).

قال عليه السلام:

«مرض الحسن والحسين عليهما السلام، وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه رجلان».

فقال أحدهما: يا أبا الحسن، لو نذرت في ابنيك نذرا إن الله عافهما.

فقال عليه السلام:

«أصوم ثلاثة أيام شكرا لله عزّ وجل، وكذلك قالت فاطمة عليها السلام، وقال الصبيان: ونحن نصوم ثلاثة أيام وكذلك قالت جاريتهم فضة، فألبسهما الله عافية، فأصبحوا صياما وليس عندهم طعام».

فانطلق علي عليه السلام إلى جار له في اليهود يقال له شمعون يعالج الصوف، فقال:

«هل لك أن تعطيني جزة صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع من شعير؟».

قال: نعم.

فأعطاه فجاء بالصوف والشعير، وأخبر فاطمة عليها السلام، فقبلت وأطاعت، ثم عمدت فغزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعا من الشعير، فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرص، وصلى علي عليه السلام

ص: 311

مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب، ثم أتى منزله، فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي عليه السلام، إذا مسكين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة، فوضع اللقمة من يده، و (طلب من فاطمة عليها السلام أن تعطي طعامه إلى هذا المسكين)(1)، فأقبلت فاطمة عليها السلام وعمدت إلى ما كان على الخوان فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعا وأصبحوا لم يذوقوا إلا الماء القراح(2).

ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعا من الشعير فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، صلى علي عليه السلام وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي عليه السلام إذا بيتيم من يتامى المسلمين قد وقف بالباب، فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من يتامى المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة، فوضع علي عليه السلام اللقمة من يده، ثم (طلب منها أن تعطيه طعامه) ثم عمدت فاطمة فأعطته جميع ما على الخوان وباتوا جياعا لم يذوقوا إلا الماء القراح، وأصبحوا صياما، وعمدت فاطمة عليها السلام فغزلت الثلث الباقي من الصوف وطحنت الصاع الباقي وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، وصلى علي عليه السلام إذا بأسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب، فقال: السلام

ص: 312


1- ما بين المعقوفتين، غير تابع للنص أوردناه اختصارا للأشعار، ومن رغب في الاطلاع عليها فليراجع، الأمالي للصدوق: ص 329.
2- القراح، الخالص، أي: لم يفطروا على غير الماء.

عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! فوضع علي عليه السلام اللقمة من يده ثم قال: فاطمة يا بنت النبي أحمد (الخ الأبيات).

فأقبلت فاطمة عليها السلام وهي تقول: لم يبق مما كان غير صاع (الخ قولها عليها السلام) وعمدوا إلى ما كان على الخوان فأعطوه، وباتوا جياعا، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء. قال شعيب في حديثه:

(هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ).

وأقبل علي بالحسن والحسين عليهم السلام نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«يا أبا الحسن، شد ما يسوءني ما أرى بكم، انطلق إلى ابنتي فاطمة».

فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضمها إليه وقال:

«وا غوثاه بالله، أنتم منذ ثلاث فيما أرى!».

فهبط جبرائيل عليه السلام فقال:

«يا محمد، خذ ما هيأ الله لك في أهل بيتك».

قال:

«وما آخذ يا جبرائيل ؟».

قال عليه السلام:

(هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ)(1).

ص: 313


1- سورة الإنسان، الآية: 1.

حتى إذا بلغ.

(إِنَّ هٰذٰا كٰانَ لَكُمْ جَزٰاءً وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)(1).

فوثب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل منزل فاطمة عليها السلام فرأى ما بهم فجمعهم، ثم أنكب عليهم يبكي ويقول:

«أنتم منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم!».

فهبط جبرائيل عليه السلام بهذه الآيات:

(إِنَّ اَلْأَبْرٰارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كٰانَ مِزٰاجُهٰا كٰافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهٰا عِبٰادُ اَللّٰهِ يُفَجِّرُونَهٰا تَفْجِيراً)(2).

قال عليه السلام:

«وهي عين في دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين».

قال الله تبارك وتعالى:

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).

يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وجاريتهم فضة.

(وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً).

يقول: عابسا كلوحا.

(وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ ).

يقول: على شهوتهم للطعام وإيثارهم له.

(مِسْكِيناً).

ص: 314


1- سورة الإنسان، الآية 22.
2- سورة الإنسان، الآيتان: 5-6.

من مساكين المسلمين.

(وَ يَتِيماً).

من يتامى المسلمين.

(وَ أَسِيراً).

من أسارى المشركين ويقولون إذا أطعموهم:

(إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً).

قال: والله ما قالوا هذا لهم، ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بأضمارهم، يقولون: لا نريد منكم جزاءً تكافئوننا به ولا شكورا تثنون علينا به، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه.

قال الله تعالى ذكره:

(فَوَقٰاهُمُ اَللّٰهُ شَرَّ ذٰلِكَ اَلْيَوْمِ وَ لَقّٰاهُمْ نَضْرَةً ).

في الوجوه.

(وَ سُرُوراً).

في القلوب.

(وَ جَزٰاهُمْ بِمٰا صَبَرُوا جَنَّةً ).

يسكنونها.

(وَ حَرِيراً).

يفترشونه ويلبسونه.

(مُتَّكِئِينَ فِيهٰا عَلَى اَلْأَرٰائِكِ ).

ص: 315

والأريكة السرير عليه الحجلة.

(لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً).

قال ابن عباس: فبينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا مثل الشمس قد أشرقت لها الجنان، فيقول أهل الجنة: يا رب إنك قلت في كتابك:

(لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً).

فيسر الله جل اسمه إليهم جبرائيل، فيقول: ليس هذه شمس، ولكن عليا وفاطمة ضحكا فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، ونزلت:

(هَلْ أَتىٰ ).

فيهم إلى قوله تعالى:

(وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)(1).

وصلى الله على رسوله محمد وآله الطاهرين(2).

والحديث نقلناه بتمامه لاشتماله على مسائل عديدة في التربية الأسرية، والتربية الاجتماعية، والأخلاقية سنعرض لها إن شاء الله تعالى.

ثانيا: مشاركة الأبوين في الاهتمام بالمريض وأثرها في التربية الأسرية

يرى بعض المختصين في التربية الأسرية: «أن الأطفال عندما يمرضون يصبح الاهتمام بهم أمرا متعبا جدا للأهل جسديا وعقليا وذلك بسبب الشعور بالقلق والتوتر إضافة إلى فقدان الرغبة بالنوم وضعف الشهية.

ص: 316


1- سورة الدهر، الآيات: 1-22.
2- أمالي الصدوق: ص 333.

لذلك من المهم أن يعتني الوالدان بأنفسهما أولا، وهذا يعني بأن يجبروا أنفسهما على تناول الطعام الغني بالفيتامينات، حتى يكونوا أقوياء عند العناية بالطفل، ويمكنهما التناول للعناية به حتى يحصل كل فرد منهما على الراحة والغذاء المناسبين).

ثم يقدم المصدر بعض النصائح للأم كونها المعني الأول بالعناية بالطفل المريض داخل الأسرة.

1 - لا تظهري خوفك، وطمئني الطفل وأخبريه بأن كل شيء على ما يرام، أما إذا كان الطفل يفهم أخبريه ما مرضه، وانصحيه تناول الدواء بانتظام ليشفى بسرعة لأن الطفل إذا رأى قلقك وخوفك حتى الأطفال الرضع يستطيعون الإحساس بخوفك فكيف يثق بك أو بنفسه أو بالدواء؟ إن حالتك النفسية ضرورية لأنها تعكس على نفسية الطفل لذلك أظهري دائما بمظهر المتفائل والمتبهج، لأن هذا يرفع معنويات الطفل.

2 - أسسي علاقة جيدة مع طبيبه، واختاري طبيبا تطمئنين له فالطبيب الجيد والمهني سيوفر لك الدعم أو يوجهك إلى مجموعة من الأهل مروا بمثل حالة طفلك ليوفروا لك الدعم والنصائح.

3 - دعي الجميع مما يرفع معنوياته ويمنحك ذلك بعض الوقت لترتاح ويخفف عنك بعض الأعباء النفسية والجسدية.

4 - لا تهملي احتياجات الأطفال الآخرين إذا كان لديك أطفال آخرون في البيت، بل حثيهم على العناية بشقيقهم المريض واشرحي لهم بأن هذه الحالة مؤقتة حتى يشفى وأنهم لاقوا نفس الاهتمام عندما مرضوا.

ص: 317

فقد يشعرون بالاستياء من شقيقهم المريض لأنه يستحوذ على اهتمام الجميع وقد يتصرفون بطريقة تزعج الطفل المريض مثل الابتعاد عنه مما يسبب التوتر والغضب للطفل المريض، يمكنك أيضا توجيههم فربما لا يعرفون كيف يعتنون به مثلا أطلبي من أحدهم أن يقرأ له قصة، أو يرسم له رسما جميلا، ولا تطلبي منهم الخروج والابتعاد عن الطفل إلا إذا كان المرض معديا.

5 - أتركي خطوط التواصل مفتوحة بينك وبين الشريك، فمن المهم أن تتناقشا ولكن بهدوء، لا تثيرا غضب بعضكما ولا تلوما بعضكما، فالمرض أصبح واقعا والمهم الخروج من الأزمة والوقاية منها في المستقبل، إن التوتر في العلاقة قد يسبب تراجعا في حالة الطفل الذي سيشعر بأنه السبب ومن ثم يزداد شعوره بالإحباط حتى الأطفال الرضع يشعرون بالتوتر بين أهلهم(1).

فهذه مجموعة من النصائح التي يراها بعض المختصين تنفع الأسرة في رعاية الطفل والعناية به وأثر ذلك في المستوى التربوي للأبناء.

في حين أننا وجدنا أن لعلي وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهما منهجا آخر في التعامل مع الطفل المريض والعناية به ليس فقط على المستوى الأسري وإنما على المستوى التربوي والنشأوي والاجتماعي والأخلاقي وهذا ما كشفته الرواية التي نصت على نزول سورة الإنسان فيهما وفي ولديهما الحسن والحسين عليهما السلام.

ففي المستوى التربوي والنشأوي للأسرة نجد أن عليّاً وفاطمة عليهما السلام اهتما اهتماما بالغا في العناية بولديهما المريضين، بل إننا وجدنا أن الجميع قد شاركوا في هذه العناية والرعاية، وأنهم قد تعايشوا الحالة بأجواء خاصة تغمرها

ص: 318


1- WWW.gulfson , WWW.balogh.com

المحبة والرأفة والتوجه إلى الله بالدعاء والتضرع ليمن على هذا المريض بالشفاء.

وهذه حالة قل نظيرها، بل لا نبالغ إن قلنا إنها حالة فريدة وقد شهد الوحي بها فكم من أسرة مؤمنة تسلك سبيل التضرع إلى الله في شفاء ولدها المريض، لكن أن تجتمع الأسرة بما فيها المريض على قصد واحد وهو التضرع إلى الله بالشفاء فهذه حالة خاصة جمعت في أهل هذا البيت النبوي لتنطلق منه إلى كل أسرة مؤمنة بالله واليوم الآخر، وهذا أولا.

ثانيا: ليس من المبهم على ذي الاختصاصات بالعلوم الاجتماعية والنفسية أثر العامل النفسي في المريض في سرعة امتثاله للشفاء أو تباطؤ ذلك، وقد يكون الأمر عكسيا فيؤدي العامل النفسي إلى انتكاسة صحّية طويلة الأمد.

ولذلك نجد أن المريض يضع في ذهنه بادئ بدء شخص الطبيب وأنه القادر على شفائه ولذا يبحث عن أي شيء يعزز له هذا الشعور كي يثبت الثقة في نفسه وأنه سيمثل للشفاء على يد هذا الطبيب، فنراه يسعى بكل جهد للبحث عن أشهر الأطباء وأحذقهم في التشخيص وقد يبذل الأموال الطائلة من أجل العلاج في أرقى وأشهر المشافي في هذا البلد أو ذاك.

في حين لو أننا استطعنا أن نثقّف المريض على حسن الظن بالله عزّ وجل وأنه هو الواهب للشفاء وأن هؤلاء الأطباء ومراكزهم الصحيحة ما هي إلا وسائل قد تنجح وقد تفشل ما لم يأذن الله عزّ وجل بالشفاء لما ساءت حالته النفسية ولما كان يبذل هذه الأموال وهو يعتقد أنه يشتري الشفاء من هذه المشفى أو تلك غافلا أن أرقى المشافي لا يمكن أن تمنعه من التعرض لأبسط الأمراض فكيف بعلاج العسير منها.

ص: 319

ولذلك: يبقى العامل النفسي مؤثرا في شفاء المريض وهذا العامل لا يمكن أن ينمو بدون أن يثقف المريض ويربى منذ الصفر على الثقة بالله وحسن الظن به والاعتقاد القوي بأنه الوحيد القادر على أن يهب لعباده الحياة والعافية.

ومن هنا: نجد أن الأجواء الإيمانية والروحانية التي عاشها الحسن والحسين عليهما السلام وهما يريان أبويهما قد نذرا لله تعالى أن يصوما ثلاثة أيام إن منّ عليهما بالشفاء قد انعكست على نفسيهما انعكاسا إيمانيا قويا ولذا نراهما عليهما السلام قد شاركا أبويهما في نية النذر لله على شفائهما فأي أجواء روحانية وتربوية تلك التي عاشها أهل هذا البيت النبوي عليهم السلام!

ثالثاً: أثر المشاركة الجماعية لأفراد الأسرة في التربية الاجتماعية

ومما أسست له الحادثة في المستوى الاجتماعي هو خلق روح المساهمة في بذل الخير والتواصل مع الناس وتلبية احتياجاتهم ولاسيما أولئك الذين كانت لهم احتياجات خاصة كالمساكين واليتامى والأسرى وكل هؤلاء يجمعهم عامل نفسي واجتماعي واحد وهو العوز والافتقار إلى الغير في تلبية أبسط احتياجاتهم الحياتية ألا وهي الطعام والكلمة الطيبة المعبرة عن الشعور بالغير وتحسس آلامه وأنه ينتمي إلى هذا المجتمع الإنساني، فلو فقدت هذه الجوانب الحسية من الإنسان لأصبح المجتمع أقرب ما يمكن أن يوصف أنه مجتمع الغاب.

ومن هنا يبرز الأثر الكبير والمتميز الذي أظهرته الحادثة في تنشئة الأبناء وتربيتهم على الشعور بالغير والمساهمة مع الوالدين في بذل الخير للمحتاجين الذين حددتهم الآية المباركة بثلاثة أصناف، وهم المسكين واليتيم والأسير، لاسيما وأن

ص: 320

هذه المشاركة والمساهمة في بذل الطعام لهم على الرغم من احتياجهم إليه يزرع في النفس شعور الإحساس بالآخر، إذ المريض يحرص بشكل كبير على رؤية الآخرين من حوله وأنهم يشاركونه همه ويحاولون أن يبدّدوا عنه آلامه وشعوره بالخوف والقلق.

هذه الأحاسيس إلى الغيرية تظهر لدى الإنسان في حالة المرض وتتطور كلما اشتدت حالة المريض، ولذا نجد أن هناك كما كبيرا من الأحاديث الشريفة تحث الإنسان المسلم على عيادة المريض لغرض خلق حالة فعالة من التواصل الاجتماعي والإنساني والمحافظ على الشعور بإنسانية الإنسان.

فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وآله وسلم:

«من عاد مريضا ناداه مناد من السماء باسمه يا فلان طبت وطاب لك ممشاك بثواب من الجنة»(1).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«كان فيما ناجى به موسى ربه أن قال: يا رب ما بلغ من عيادة المريض من الأجر؟ فقال الله عز وجل أوكل به ملكا يعوده في قبره إلى محشره»(2).

فهذه الأحاديث وغيرها تكشف عن إحساس المريض بالاحتياج إلى غيره وأن عيادته تنمي عنده الإحساس بضرورة أن يسهم في تلبية احتياجات أخوانه فلقد

ص: 321


1- الكافي للشيخ الكليني، باب ثواب عيادة المريض: ج 3، ص 119.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق، باب غسل الميت: ج 1، ص 141؛ الدعوات للراوندي: ص 222؛ ثواب الأعمال للصدوق: ص 194.

عاش لحظة الشعور بالألم حينما كان مريضا وهو ينظر إلى أهله ويلتمس عطفهم وحنانهم وحضورهم عنده.

إذن: الحادثة تكشف عن استثمار هذه الحالات الوجدانية عند الإنسان المريض وتنميتها في التربية الاجتماعية لغرض التواصل والمساهمة في تلبية احتياجات ذوي الاحتياجات من أبناء المجتمع.

رابعا: استثمار حالة مرض الطفل في زرع الفضائل الأخلاقية في نفسه
اشارة

من المناهج التربوية التي أظهرتها الحادثة، منهج التربية الأخلاقية وزرع القيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية عند الأبناء في حالة مرضهم وهذه في الواقع حالة خاصة لم يلتفت إليها ذوو الاختصاصات في العلوم النفسية والاجتماعية - بحسب ما توفر لدينا من مصادر -.

إذ الغالب عند جميع الأسر أن الطفل الذي يمرض تسوء أخلاقه وتكثر احتياجاته وقد يستغل البعض منهم عطف والديه فيتدلل عليهم، فضلاً عن تبذر بعض الأخلاق السيئة في نفس الطفل في هذه المدة من خلال إحساسه بأنه المفضل لدى والديه وأنه ينال منهم أكثر مما يناله أخوانه فيرى في نفسه الفوقية عليهم وقد يفتعل بعض المشاكل كي يحصل على المزيد من هذا العطف والرعاية.

فضلاً عن انعكاس ذلك سلبيا على بقية أفراد الأسرة.

أما إذا تماثل الطفل للشفاء وذهب المرض عنه فإنه سيلمس تغيرا ملحوظا في رعاية والديه له وقلة اهتمامهم به فيندفع إلى التمرض أو إيقاع نفسه بالمرض وإيقاعهما بالأذى كي يعيد تلك الأجواء التي عاشها مع والديه وتميزه عن أخوانه.

ص: 322

في حين أننا وجدنا في بيت علي وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهما، أن الحالة مغايرة تماما لهذه الحالات والأجواء فمن حيث المشاركة فنجد أن الجميع كان مهتما وعلى مستوى واحد حتى بالنسبة إلى الخادمة فضة رضي الله عنها.

وأما من حيث استثمار هذه الظروف التي يمر بها الطفل فقد قام الوالدان عليهما السلام بزرع الفضائل الأخلاقية التالية:

1 - الصبر.

2 - الإيثار.

3 - الجود.

4 - الوفاء.

5 - الإيمان بالغيب.

ألف: زرع فضيلة الصبر في نفس الطفل عند مرضه

مما لا شك فيه أن أول الفضائل الأخلاقية التي يحتاج إليها المريض هي الصبر، بل إنها أول الفضائل ظهورا وبما أن الطفل عادة لا صبر له على المرض لاختلافهما مع طبيعته ومع المرحلة العمرية التي يمر بها الإنسان، إذ يندفع الطفل إلى الحركة دون الالتفات إلى المحاذير والنواهي فإن الصبر هو أول المحاذير التي يواجهها الطفل وهي أول الفضائل التي ينبغي للوالدين أن يلتفتوا إليها ويسرعوا في زرعها في نفس ولدهما المريض.

إلا أن البعض لا يعي بشكل جيد كيفية زرع هذه الفضيلة الأخلاقية في حالات كهذه يمر بها أطفالهم فيطالبونهم بالمكوث في الفراش وتجرع مرورة الدواء

ص: 323

وألم وغز الأبر ويتناسون تعويد الطفل على اللجوء إلى الله تعالى والحديث عن صبر الأنبياء والأولياء وشدة ابتلائهم وما أعده الله تعالى للصابرين.

بل إن الوالدين ليغفلان عن نفسيهما فلا يظهران لأطفالهم هذه الفضيلة الأخلاقية فالآباء والأمهات هم مبتلون أيضا فالمريض ولدهما فإن كانا صبورين ومتوجهين إلى الله تعالى بالدعاء سينعكس ذلك على الأطفال دونما شك وسيزرعان هذه الفضيلة الأخلاقية في نفوس أطفالهم.

ومن هنا:

نجد أن الحسن والحسين عليهما السلام قد أظهرا من الصبر ما أظهره والديهما فقد شاركا في الصوم والصبر عليه وأسهما كذلك في الإنفاق والصبر مع والداهما على الجوع ثلاثة أيام متواصلة فكان صبرهما في هذه الأيام كصبر والديهما صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وتتميماً للبحث نذكر حديثين في فضيلة الصبر وعلاقته بالإيمان.

روى الصدوق رحمه الله عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام أنه قال:

«رأس طاعة الله الصبر والرضا»(1).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:

«رأس الإيمان الصبر»(2).

ص: 324


1- فقه الرضا عليه السلام لعلي بن بابويه: ص 339.
2- عيون الحكم والمواعظ للواسطي: ص 263.
باء: زرع فضيلة الإيثار في نفس الطفل عند مرضه

قالوا في اللغة: آثره، أكرمه، وآثره عليه، وفي الشريك:

(لَقَدْ آثَرَكَ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا)(1).

وآثرت فلانا على نفسي: من الإيثار.

وقال الأصمعي: آثرتك إيثارا، أي فضلتك(2).

من الفضائل الأخلاقية التي تظهر بشكل واضح أمام المريض هي الإيثار، إذ يلمس المريض إيثار والديه له على نفسيهما وتقديمه في أولويات اهتماماتهما وهو قد لا يلتفت إلى أنهما يتصرفان ضمن نطاق الفضيلة الأخلاقية.

إذ قد يتبادر إلى ذهن المريض أن هذا الذي يراه هو من وحي العاطفة الأبوية وأن لا علاقة للإيثار بالذي يفعلان في حين أن العاطفة لا علاقة لها بالإيثار إذ محرك العاطفة الأبوية هو الغريزة والفطرة التي فطر الله عليها الخلق سواء بسواء إلا أن المصاديق فيما بين المخلوقات تختلف فالحيوانات والطيور وغيرها ترعى أبناءها وبني جنسها من بواعث الغريزة الرحمانية التي فطر الله الخلق عليها كي تدوم الحياة على الأرض.

بينما الإيثار دافعه الفضيلة الأخلاقية التي منشأها العقل وحكمه بتكريم هذا أو تقديم ذاك أو تفضيل ذلك ولذلك: لا يتصرف الأبوان من وحي العاطفة الأبوية فقط وإنما من خلال تحليهما بالفضائل الأخلاقية فهناك بعض الآباء

ص: 325


1- سورة يوسف، الآية: 91.
2- لسان العرب، مادة (أثر): ج 4، ص 7.

والأمهات يقومون بتأدية واجباتهم اتجاه أبنائهم إلا أنهم لا يظهرون لهم العواطف كما أن هناك من يظهر العواطف الممزوجة بالإيثار وهو ما يغمر الابن بعناية فائقة يتعاظم معها الشكر لهما.

والمهم في الأمر: كيف يلتفت الآباء والأمهات إلى زرع الإيثار في حالات مرض أبنائهم، بمعنى أن يسهم الابن في الإحساس بوالديه وما يبذلان من مجهود عظيم في تفضيله وإكرامه على أنفسهما، وإنهما يؤثرانه فيبادر هو كذلك بتخفيف الخوف عنهما وأنه في حالة حسنة وأن يهم بقضاء حوائجه قدر المستطاع فلا يترك المرض يسيطر عليه.

وهذا كله ممكن الحصول فيما لو تحدث الوالدان عن تلك الأخلاق والفضائل مع أبنائهما وأن يدربا أخوان المريض على تنمية هذا الشعور وأنهم يؤثرون هذا الأخ المريض على أنفسهم.

وعند الرجوع إلى المنهج التربوي الأخلاقي لعلي وفاطمة صلوات الله عليهما في رعاية ولديها أثناء مرضهما نجد أن حالة الإيثار التي قام بها الأب، أي أمير المؤمنين عليه السلام لهذا المسكين الذي وقف عند الباب يسأل شيئا من الطعام وتقديم الإمام عليه السلام طعامه من الإفطار إليه وإيثاره لهذا المسكين وسلوك الزهراء عليها السلام هذا السلوك دفع بابنيهما عليهما السلام أن يحذوا حذو والديهما فيؤثران المسكين على أنفسهما.

ولو عمد الوالدان على زرع هذه القيم الأخلاقية واستخدما هذه المناهج التربوية داخل الأسرة لضمنّا خروج أبناء صالحين في المجتمع، لاسيما إذا قرنت هذه الأساليب التربوية بذكر بعض الأحاديث الكاشفة عن منزلة أثر هذه الفضائل على

ص: 326

النفس الإنسانية وقوة تأثيرها في إصلاح النفس.

ومن ذلك، الحديث الذي رواه الشيخ الكليني رحمه الله، عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

«خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم، ومن خالص الإيمان البر بالإخوان، والسعي في حوائجهم، وأن البار بالإخوان ليحبه الرحمن، وفي ذلك مرضمة للشيطان وتزحزع عن النيران ودخول الجنان، يا جميل أخبر بهذا غرر أصحابك».

قلت: جعلت فداك من غرر أصحابي ؟ قال عليه السلام:

«هم البارون بالإخوان في العسر واليسر».

ثم قال:

«يا جميل أما إن صاحب الكثير يهون عليه ذلك وقد مدح الله عز وجل في ذلك صاحب القليل»(1).

فقال في كتابه:

(وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ )(2).

2 - وعن علي بن سويد السائي، عن أبي الحسن عليه السلام قال: قلت له: أوصني ؟ فقال عليه السلام:

«آمرك بتقوى الله».

ص: 327


1- الكافي للكليني: ج 4، ص 42، باب: معرفة الجود والسخاء، برقم 15.
2- سورة الحشر، الآية: 2.

ثم سكت، فشكوت إليه قلة ذات يدي وقلت: والله لقد عريت حتى بلغ من عريتي أن أبا فلان نزع ثوبين كانا عليه وكسانيهما. فقال عليه السلام:

«صم وتصدق».

قلت: أتصدق مما وصلني به أخواني، وإن كان قليلا؟ قال عليه السلام:

«تصدق بما رزقك الله ولو آثرك على نفسك»(1).

3 - عن أبي بصير، عن أحدهما، أي الباقر أو الصادق عليهما السلام، قال: قلت له: أي الصدقة أفضل ؟. قال عليه السلام:

«جهد المقل»(2).

أما سمعت قول الله عزّ وجل:

(وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ ).

ترى ههنا فضلا(3).

جيم: زرع فضيلة الجود في نفس الطفل عند مرضه

الجود: (هو الإكثار من فعل الإحسان إلى الغير)(4) هذا المعنى البياني يتجلى بصورة واضحة في رعاية المريض من خلال السهر عليه والقيام بخدمته وتحمله والخوف عليه ومراقبة حالته والإنفاق عليه وغيرها من الأفعال الكثيرة التي تعد بمجموعها من الإحسان.

ص: 328


1- الكافي، باب الإيثار: ج 4، ص 18.
2- المقل، أي قدر ما يحتمله حال القليل المال؛ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 1، ص 320.
3- الكافي، باب الإيثار: ج 4، ص 19.
4- وسائل المرتضى، للشريف المرتضى: ج 2، ص 267.

وحينما يلحظ الطفل هذه الأفعال التي يقوم بها الوالدان اتجاهه لاسيما الأم فإنها ستزرع في نفسه الجود فنراه يمارس هذا الفعل الحسن اتجاه الآخرين ولاسيما أخوانه الذين يحيطون به في بيت واحد.

أما في بيت علي وفاطمة عليهما السلام فقد ظهر مصداق الجود لدى الأبناء بشكل عملي وسريع وذلك حينما قدما طعام فطورهما لثلاثة أيام كما فعل والداهما (سلام الله عليهم أجمعين).

دال: زرع فضيلة الوفاء في نفس الطفل عند مرضه

تمتاز هذه الفضيلة الأخلاقية من بين الفضائل الأخرى التي تظهر أثناء مرض الطفل والتي يمكن للأبوين زرعها في نفسه لاسيما فضيلة الصبر والإيثار فهما غالباً ما يمكن ملاحظتهما والتركيز عليهما من خلال تعاملهما مع ولدهما المريض.

أما فضيلة الوفاء فيتعذر زرعها عند الطفل المريض وبخاصة حينما يكون وحيداً لوالديه أو أنه الطفل الأول.

إذ يمكن اعتماد الوالدين على تعليم الأبناء على الوفاء أثناء المرض وذلك من خلال التوجيه للأبناء حينما يمرض أحدهما فيقوم الآخرون برعايته ولذا يلزم الوفاء لمن قام منهم بالعناية لأخيه المريض أن يقوم بما قام به أخوه.

ولذلك: ينبغي الاهتمام بشكل كبير بالطفل الأول (وهو بكر الوالدين) وزرع هذه الفضائل الأخلاقية فيه كي يكون قدوة لأخوته في ذلك.

وترتكز عملية زرع الفضائل في الطفل الأول وتنشئته بعنوان القدوة لأخوته هو أن يبدأ الأبوان بأنفسهما ويلفتان انتباه ولدهما الأول إلى ذلك.

ص: 329

فهنا في بيت علي وفاطمة عليهما السلام كان الأبوان هما من ابتدأ بالوفاء لله تعالى بالنذر وبخاصة حينما يدرك الطفل أن هذا النذر إنما كان لأجله ولشفائه من مرضه فكيف لا يبدر كذلك هو بالقيام بهذه الفضيلة ولذلك نجد أن الحسن والحسين عليهما السلام قد صاما لله تعالى كما فعل والداهما وهما جميعاً حينما قدموا على هذا الصوم إنما كان وفاءً للنذر.

وعليه: من الضرورة بمكان أن يتبع الوالدان في الأسرة هذا النهج النبويّ الذي قام به أهل البيت عليهم السلام.

هاء: زرع فضيلة الإيمان بالغيب لدى الطفل حال مرضه

إن من أهم الفضائل التي تجد أرضاً خصبة لزرعها لدى الطفل في مرضه هي الإيمان بالغيب وذلك أن المريض يضع اهتمامه واعتقاده من النجاة مرتكزاً في ثلاثة أمور، وهي:

1 - والديه فهما أول من يستغيث بهما ويلتجئ إليهما في مرضه.

2 - الطبيب الذي سيعالجه.

3 - والدواء الذي تناوله.

وحينما يقدم له الأبوان هذه الأمور الثلاثة فإن تعلقه بهما سيكون كبيراً وسيرتكز في ذهنه إنهما هما اللذان يستطيعان نجاته وخلاصه من ألمه وتبديد خوفه.

في حين يغفل كثير من الآباء عن إسماع ولدهما المريض ما يرجعه إلى نواة فطرته ويلجئانه إلى الله تعالى والإيمان بالغيب وإنه سبحانه هو الوحيد الذي بيده الشفاء وهو الوحيد المعافي وليس هما ولا الطبيب ولا الدواء وهذه المسألة تحديداً

ص: 330

يبرز إيمان الوالدين وكيفية تعاملهما حسب هذه الثقافة.

فكيف إذا أضيف إلى هذا الشعور والدرس الإيماني ما أخبر به أهل البيت عليهم السلام من الالتجاء إلى الدعاء والاستشفاء بالقرآن والصدقة والنذر كما هو واضح في بيت علي وفاطمة عليهما السلام.

وكيف بآثار هذه الفضيلة (الإيمان بالغيب) على الأبناء حينما نتبع ما قام به الإمام علي وفاطمة عليهما السلام من النذر لله تعالى كي يتفضل عليهم بشفاء الحسن والحسين عليهما السلام فنقوم نحن كذلك باتباع هذا المنهج حينما يمرض أبناؤنا ونروي لهم هذه السيرة العطرة لآل البيت عليهم السلام.

وكيف لا يقوم الأبناء كذلك بالاقتداء بالحسن والحسين فيصومون كما صاما شكراً لله تعالى على شفائه عندما يمرض أحدهم.

من هنا: فإن هذه الفضيلة هي تحقق بقية الفضائل أي الصبر والإيثار والجود والوفاء وهو ما دلت عليه الآيات المباركة في سورة الدهر ففي صومهم نذراً لله تعالى. نحقق الصبر وهو حال الصائم، والإيثار والجود، وهو:

(وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ )(1).

والوفاء بالنذر الذي سنامه ومحركه الإيمان إذ لولا الإيمان بالغيب لما صام الإنسان ولو لم يلتزم بالوفاء لما نذر. ولذا: صرحت الآية بهذه الفضيلة:

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(2).

فهم الأوفياء المؤمنون بالغيب.

ص: 331


1- سورة الإنسان، الآية: 8.
2- سورة الإنسان، الآية: 7.

ص: 332

المحتويات

توطئة 5

الفصل الاول: اسرة فاطمة عليها السلام

المبحث الأول: مفهوم الأسرة وتعريفها 15

فالأسرة في اللغة 16

مفهوم الأسرة في القرآن والسنة النبوية 16

المسألة الأولى: الأسرة في المفهوم الشرعي 18

المسألة الثانية: الأسرة في الديانات الثلاث 18

المسألة الثالثة: الأسرة في مفهوم علم الاجتماع 19

المسألة الرابعة: الأسرة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 20

المسألة الخامسة: مفهوم الأسرة في الاتحاد الدولي لمنظمات الأسرة ( U.I.O.F ) 21

المسألة السادسة: مفهوم الأسرة في الإسلام 22

ص: 333

المسألة السابعة: مفهوم الأسرة في البيت الفاطمي 23

المبحث الثاني: فاطمة الزوجة 25

المسألة الأولى: أنّ فاطمة زوجة لعلي في الدنيا والآخرة 27

أولا: لا يحرم الله المؤمن مما بذل له من نعم الدنيا في الآخرة 30

ثانياً 31

ثالثاً 31

رابعاً 32

المسألة الثانية: تقسيم مسؤوليات الحياة الزوجية بينهما عليهما السلام 33

أولا: كيف يتحقق التوافق الزواجي ؟ 36

ثانياً: منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحقق التوافق الزواجي 38

1 - قاعدة (التكافؤ) 38

2 - قاعدة (المودة والرحمة) 39

3 - قاعدة تقسيم مسؤوليات الحياة الزوجية بين علي وفاطمة عليهما السلام 39

ثالثاً: مسائل البحث في الروايات 41

1 - التقسيم السوي بين المسؤوليات الحياتية 41

2 - مراعاة الجانب الإنساني في التقسيم 42

3 - الحفاظ على المرأة وصيانتها 42

4 - مسؤوليات الحياة داخل الأسرة لا تقل عنها في الخارج 43

5 - الباعث في سرور فاطمة عليها السلام الحشمة وليس اللجوء للراحة من الخروج للسوق 44

رابعاً: إعانة الزوجة في المنزل منهج حضاري 45

1 - رعاية الإمام علي لفاطمة عليهما السلام وإيثارها على نفسه في تحمل عمل البيت 47

2 - تعظيم حق الأسرة وتهذيب النفس على خدمة العيال عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 50

ألف: مداومة الإمام علي عليه السلام على إعانة فاطمة عليها السلام في عمل

ص: 334

البيت لاسيما في إعداد الطعام 52

باء: حرص الشريعة المقدسة على حفظ الأسرة وصيانتها 53

جيم: اهتمام الشريعة بالتربية النفسية الأسرية من خلال تهذيب الأنا الذكورية 54

دال: ما هي الحكمة في ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الأنبياء الثلاثة (أيوب، ويعقوب، وعيسى عليهم السلام) وما علاقتهم بإعانة الرجل لامرأته 55

هاء: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يخصص ساعة في اليوم لخدمة العيال 58

واو: التهذيب النفسي قبل التنفيذ العملي 58

زاي: خدمة الرجل لعياله كاشفة عن مستواه الخلقي ومنزلته الإيمانية 60

المسألة الثالثة: كشفها لهموم زوجها 61

المسألة الرابعة: الحالة الانفعالية والوجدانية للمرأة بين مقارنتها لمستواها ومستوى الزوج العلمي والاجتماعي وبين ضعف حاله المادي 66

مسائل البحث في الحديث 71

أولا: بحث تربوي: المعالجة التربوية للأسرة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 71

ثانيا: بحث سيكولوجي: بُعد الانفعالات والوجدانات عند المرأة 72

ثالثا: أثر المفاخرة بين الرجل والمرأة على الحياة الزوجية 76

رابعا: بالقياس إلى أي شيء تتصف المرأة بأنها أدنى ؟ 77

خامسا: سيكولوجية الحب والإتباع 82

أما أثر ذلك على الحياة الزوجية 85

المسألة الخامسة: خوفها على زوجها عند خروجه للقتال 86

الرواية الأولى: ذكر أصحاب السير 87

موضع البحث 89

أولاً: بعض المواقف المثيرة للقلق 90

ص: 335

ثانياً: كيف يمكن التغلب على القلق ؟ 91

أما الرواية الثانية 93

المسألة السادسة: إنها لا تسأل زوجها ولا تكلفه في شيء حتى فيما تحتاج إليه 94

أولاً: قانون العرض والطلب في علم النفس 95

ثانياً: قانون العرض والطلب في بيت فاطمة عليها السلام 97

ألف: أنوثة المرأة وعفوية الرجل في مدرسة بيت فاطمة عليها السلام 100

باء: ركائز قانون العرض والطلب في بيت فاطمة عليها السلام 101

ثالثا: السبب في بقائها ثلاثة أيام على يسير من طعام حتى نفد في اليوم الثالث 105

المسألة السابعة: تزيّنها لعلي عليه السلام 107

أولا: كل امرأة فيها جمال دفين فكيف تستطيع من لفت انتباه زوجها وشده إليها؟! 110

ثانياً: هل ترغب المرأة أن ترى زوجها متزيناً لها؟ وما أثر ذلك في العلاقة الزوجية ؟ 112

ثالثا: ما هي زينة فاطمة عليها السلام وكيف كانت تتزين ؟ 117

نقاط البحث في الحديث 121

الفصل الثاني: فاطمة عليها السلام الام

المبحث الأول: الأمومة 127

المسألة الأولى: الأمومة في المنظور السيكولوجي 128

المسألة الثانية: متى تبدأ المراحل الأولى للأمومة عند المرأة ؟ 132

ص: 336

المبحث الثاني: حملها بالإمام الحسن عليه السلام 136

المسألة الأولى: مرحلة الحمل 137

المسألة الثانية: الآثار النفسية والاجتماعية لحادثة الحمل 137

ألف: الآثار النفسية 137

باء: الآثار الاجتماعية 141

المسألة الثالثة: العلاقة بين نفسية الأم ونفسية الجنين 143

المسألة الرابعة: خصوصية الحمل الرسالي على المرأة نفسياً واجتماعياً وعقائديا 146

ألف: الغرض الإرشادي 146

باء: الاهتمام بالحامل قبل المحمول 147

المبحث الثالث: ولادة الإمام الحسن عليه السلام 153

المسألة الأولى: آثار مرحلة الولادة على المرأة 153

المسألة الثانية: الرواية الواردة في ولادة الإمام الحسن عليه السلام 159

المبحث الرابع: مرحلة ما بعد الولادة 161

المسألة الأولى: سلوك الأمومة وسلوك التعلق 161

المسألة الثانية: كيف يكون سلوك الأمومة وسلوك التعلق في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدى الطفل 164

المبحث الخامس: الإرضاع 167

المسألة الأولى: من تولى إرضاع وليد فاطمة عليها السلام ؟ 168

المسألة الثانية: السلوك النفسي للمرأة عند إرضاعها وليدها 169

المرحلة الأولى: ما قبل الولادة 169

المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد الولادة 169

المرحلة الثالثة: مرحلة ترميم العلاقات بين الأم وما يحيط بها 171

ص: 337

المسألة الثالثة: دور الرضاعة في تحقيق الوحدة ما بين الأم ووليدها 172

المسألة الرابعة: الإرضاع وأثره في التكوين الخُلقي للإنسان 177

أولاً: الجانب الغذائي لحليب الأم في روايات أهل البيت عليهم السلام 178

ثانيا: الأثر التكويني للإرضاع في روايات أهل البيت عليهم السلام 179

المبحث السادس: مراسيم اليوم السابع للمولود 181

المسألة الأولى: استقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمولود فاطمة 182

المسألة الثانية: كيف جرت التسمية ؟ ومن الذي سماه ؟ جبرائيل عليه السلام أم والداه عليهما السلام 183

المسألة الثالثة: العقيقة وحلق شعر رأس المولود 186

المسألة الرابعة: تحنيك الغلام وختانه وثقب أذنه 191

ألف: التحنيك 191

باء: الختان 192

جيم: ثقب الأذن 192

المسألة الخامسة: حقيقة تظهرها ولادة الإمام الحسن هي ليس لفاطمة عليهما السلام نفاس ؟! 193

المبحث السابع: الحمل الثاني لفاطمة عليها السلام 198

المسألة الأولى: أمور خاصة رافقت الحمل الثاني لفاطمة عليها السلام 198

أولاً: حال الزهراء قبل ولادة الحسين عليه السلام ليس له مثيل في سجل الأمومة 198

ثانياً: حملته كرها ووضعته كرها 200

المسألة الثانية: ولادته عليه السلام 203

أولاً: رضاعته من إبهام النبي صلى الله عليه وآله وسلم 205

ثانيا: تكريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام والمسلمين

ص: 338

بولادة الحسن والحسين عليهما السلام 207

ألف: زيادة الصلاة الواجبة سبع ركعات 208

باء: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنّ نافلة المغرب شكرا لله على سلامة فاطمة عليها السلام 209

جيم: إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام بما يجري على الحسين عليه السلام بعد ولادته 209

الفصل الثالث: الطفولة فى بيت فاطمة عليها السلام

المبحث الأول: الطفولة ( Childhood ) 218

المسألة الأولى: الطفولة في القرآن الكريم 218

المسألة الثانية: الطفولة في الاصطلاح واللغة 219

المسألة الثالثة: الطفولة في علم النفس 220

المسألة الرابعة: والطفولة في علم نفس الطفل ( Childhood Psychology ) 221

المبحث الثاني: النمو اللغوي أو كيفية اكتساب اللغة لدى الطفل 226

المسألة الأولى: كيف يكتسب الطفل اللغة ؟ 227

ألف: النظرية الفطرية 227

باء: نظرية المحاكاة ( Imitation Theory ) 228

جيم: نظرية التحليل النفسي ( Psychoanalytic theory ) 229

دال: نظرية التعلم الشرطي ( Conditioned Learning Theory ) 229

المسألة الثانية: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقة في اكتساب اللغة لدى الطفل 231

ص: 339

أولاً: (و ما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى) 232

ثانيا: فصارت سنّة 232

ثالثا: الحديث يدل على أن عمر الإمام الحسين عليه السلام كان بين السنة الثانية والثالثة 233

رابعاً: لماذا هذا التكرار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكلمة ؟ وما أثره على الطفل ؟ وكيف يراها المتخصصون في العلوم الحديثة ؟ 233

خامساً: لماذا توقف تكرار الكلمة عند المرة السابعة ؟ وشرافة العدد (7) 235

المبحث الثالث: مرحلة المناغاة 237

المسألة الأولى: ما هي المناغاة ( Babbling ) ؟ 237

أولاً: أنواع المناغاة 239

ثانيا: مناغاة الزهراء للحسن والحسين عليهم السلام 239

المسألة الثانية: جبرائيل عليه السلام يناغي الحسين عليه السلام 240

المبحث الرابع: اللعب ودوره في نمو النواحي العقلية والمعرفية، والاجتماعية والحسية والجسمية 243

المسألة الأولى: النظريات التفسيرية للعب الأطفال 244

1. نظرية الطاقة الزائدة 244

2. النظرية الغريزية 245

3. نظرية التلخيص 245

4. نظرية تجديد النشاط باللعب وحصول السرور 245

المسألة الثانية: منهاج العترة النبوية في لعب الأطفال 247

أولاً: المرحلة العمرية وما يناسبها من احتياجات تربوية ومعرفية ونمو فكري وجسدي 247

ثانيا: دور اللعب في بناء النواحي الشخصية في منهج العترة النبوية 248

ص: 340

المسألة الثالثة: منهاج الإمام علي عليه السلام في النمو الخَلْقي والخُلُقي للإنسان حسب المرحلة العمرية 250

أولا: مرحلة الواقعية الأخلاقية ( Stage of Moral realism ) 251

ثانيا: مرحلة الأخلاقية المستقلة ( The Stage of Autonomous Motality ) 252

المبحث الخامس: المنهاج العملي لأهل البيت عليهم السلام في لعب الطفل 255

المسألة الأولى: ملاعبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولديه عليهما السلام داخل البيت 256

أولاً: تدريبهما على المشي 256

ثانيا: المشي وأثره في النمو الحركي والعقلي للطفل 257

المسألة الثانية: الألعاب الاجتماعية والذهنية والتفكير ( Social , Intellectual Games and Thinking ) 259

أولاً: اصطراع الحسن والحسين عليهما السلام 261

ثانيا: المطابقة بين مستوى الطفل النمائي الاجتماعي ومستوى الألعاب التي يلعبها 263

المسألة الثالثة: أهمية الوقت في اللعب عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 264

نقاط البحث في الحديث 265

أولا: عامل الوقت المستخدم في اللعب ودوره في النمو 265

ثانيا: الحكمة في ظهور الكرامة لهما عليهما السلام أثناء اللعب 267

المبحث السادس: منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ملاعبة الحسن والحسين عليهما السلام خارج البيت 269

المسألة الأولى: فوائد المنهج الجديد في التربية والتنشئة الاجتماعية 270

نعم الجمل جملكما 271

المسألة الثانية: فوائد المنهج الجديد الذي اتبعه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 341

في التنشئة الاجتماعية 272

أولا: (مبحث سيكولوجي) حضور الأب في تربية الطفل وتطوير مهاراته وتنمية قدراته من خلال اللعب 272

ثانيا: اختيار لعب الأطفال 277

المسألة الثالثة: تأثير المنهج النبوي في التنشئة الاجتماعية في مجتمع المدينة 278

أولا: (بحث سيكولوجي) اللعب خارج المنزل 280

ثانيا: (بحث عقائدي) حسين مني وأنا من حسين 283

المبحث السابع: رعايتها لأبنائها 288

المسألة الأولى: تربيتهما على أم الفضائل وهو العدل 288

نقاط البحث في الحديث 290

أولاً: العدل منذ الصغر 290

ثانياً: العدالة أشرف الفضائل 290

ثالثاً: إن العترة عليهم السلام هم جميعا في مكان واحد في الجنة 292

المسألة الثانية: تعويذهما عليهما السلام بزغب جناح جبرائيل عليه السلام 296

مسائل البحث في الحديث: 300

أولاً: الحكمة في تخصيص قطيفة لجلوس جبرائيل عليه السلام عليها 300

ثانيا: الحكمة في جمع زغب جناح جبرائيل عليه السلام 302

المسألة الثالثة: استغاثة فاطمة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند مرض ولدها الحسين عليهما السلام 304

أولاً: الالتجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل صغيرة وكبيرة 305

ثانياً: مراتب التوحيد وأثرها في قضاء الحاجات 306

ثالثاً: الاستشفاء بكتاب الله تعالى 306

رابعاً: أثر سورة الحمد في الشفاء 309

المسألة الرابعة: نذرها عليها السلام لشفاء الحسن والحسين عليهما السلام 310

أولا: ما ورد في الأثر عن كيفية وقوع الحادثة 311

ص: 342

ثانيا: مشاركة الأبوين في الاهتمام بالمريض وأثرها في التربية الأسرية 316

ثالثاً: أثر المشاركة الجماعية لأفراد الأسرة في التربية الاجتماعية 320

رابعا: استثمار حالة مرض الطفل في زرع الفضائل الأخلاقية في نفسه 322

ألف: زرع فضيلة الصبر في نفس الطفل عند مرضه 323

باء: زرع فضيلة الإيثار في نفس الطفل عند مرضه 325

جيم: زرع فضيلة الجود في نفس الطفل عند مرضه 328

دال: زرع فضيلة الوفاء في نفس الطفل عند مرضه 329

هاء: زرع فضيلة الإيمان بالغيب لدى الطفل حال مرضه 330

ص: 343

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.