اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله عليها
اسم المؤلف: السيد نبيل الحسني
التنضيد: محمد رزاق السعدي
الإخراج الفني: احمد محسن المؤذن
التدقيق اللغوي: أ. خالد جواد العلواني
المتابعة الطباعية والتوزيع: إحسان خضير عباس
إصدار شعبة الدراسات الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2012-2800
الرقم الدولي ISBN : 9789933489465
الحسني، نبيل، 1965 - م.
هذه فاطمة صلوات الله وسلامه عليها: وهي قلبي وروحي التي بين جنبي (النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم): دراسة وتحليل نبيل الحسني. ط 1 - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، 1434 ق. 2013 م.
8 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 100).
المصادر.
1. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه. السيرة. 2. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه. - فضائل. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه. - في القرآن. 4. واقعة إحراق باب دار فاطمة الزهراء (س)، 11 ق. 5. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه. إيذاء وتعقيب. 6. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه. - الشهادة. 7. الشيعة - أحاديث.
الطبعة الأولى
1434 ه - 2013 م
ص: 1
اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله عليها
اسم المؤلف: السيد نبيل الحسني
التنضيد: محمد رزاق السعدي
الإخراج الفني: احمد محسن المؤذن
التدقيق اللغوي: أ. خالد جواد العلواني
المتابعة الطباعية والتوزيع: إحسان خضير عباس
إصدار شعبة الدراسات الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
إن السبب الذي دفعني لإفراد فصلٍ مستقلٍ عن رضاع فاطمة سلام الله عليها كان لأهمية حجر الأمومة وأثره الكبير في بناء شخصية الإنسان؛ إذ إن لبن الأم له تأثيرات بايلوجية وأخرى سايكلوجية.
فالأم التي تغذي وليدها بلبنها لا تنمّي فيه الجانب التكويني الخلقي فقط بل هي تنمي فيه الجانب الخلقي أيضاً فتورثهُ من صفاتها الأخلاقية الكثير من دون أن تشعر بذلك أو تريد، وهو ما أشار إليه حديث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الخصوص فقال:
«لا ترضعوا أولادكم عند المرأة الحمقاء فإن لبنها يعدي»(1).
ص: 7
أي إن هذا اللبن يحمل بين جزيئاته وبحسب لغة الطب الوقائي (جرثوماً) أو (فايروساً) لكن لا يصيب الخلايا الجسمية إنما يصيب الخلايا العقلية، أو فلنقل المسؤول عن الإدراك والوعي في الدماغ، فيؤدي إلى نشوء طفل لا يحسن التصرف ولا يميز الأمور ولا يدرك بجدية ما يدور من حوله وبالنتيجة يتخرج من هذا الحجر الذي نما فيه وتربى عنده إنسان فاشل لا يشعر بالمسؤولية ولا يسعى لتحقيق أي هدف.
فكيف إذا أضيف له ما يتوارث من حجر الأم خاصة فهو وفي الوقت الذي يتناول فيه اللبن فإن آذانه تسمع ما تتلفظه هذه الأم وأن جهازه السمعي الباطني يسجل هذه الألفاظ في ذاكرة الدماغ فما إن يكبر الإنسان فإنه يجد هناك أموراً كثيرة تدفعه وتحرك مشاعره أما إلى الخير وأما إلى الشر وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1).
وعليه كيف يمكن أن يتحقق معنى التحصيل للعلوم فيما لو كان هذا الجهاز معطلاً أي الجهاز السمعي الباطني عند الطفل كما يتوهم الكثير باعتبار عدم مقدرة الطفل على تحصيله للعلوم وهو في حجر الأمومة لكن القرآن يتحدث عن وجود هذا الجهاز فيطلق عليه اسم: (الإذن الواعية)(2).
ص: 8
وهذه الأذن الواعية تتجلى بأكبر صورها وأعلى قدرتها عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعند الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، وقيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب سلام الله عليه خاصة(1).
فالمعصوم يسمع ويعي ما يسمع ويجيب على ما يسمع، ونحن نجد ذلك جلياً واضحاً في عيسى بن مريم عليهما السلام، عندما جاءت به تحمله إلى قومها فعندها وجّهوا إليها الأسئلة الكثيرة فلم تجب أحداً منهم واكتفت بالإشارة إلى هذا الطفل فكانت هذه الإشارة أفصح من مئات الكلمات فيما لو نطقت بها مريم عليها السلام.
وهنا لحظة كشف الحقائق ورد الظالمين لظلمهم فقالوا:
(كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كٰانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا)(2) .
وإذ يأتي الجواب من هذا الطفل الذي في المهد وليس من مريم عليها السلام ليدل بذلك على أنه كان يسمع كل ما يقال وينظر إلى أمه وإلى قومها فرأى إشارتها إليه أن اسألوا هذا الطفل الذي تنكرون عليَّ وجوده.
ومن هنا فإن الأنبياء والأئمة وهم عترة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
ص: 9
يسمعون ويرون ويدركون بإذن الله تعالى.
وإنّ البضعة النبوية المحمّدية وكما مر علينا سابقاً في الفصل الأول أنها كانت تسمع وترى وتجيب على ما كان يدور من حولها، وهذه إحدى خصائص من اجتباهم الله عز وجل لرسالته وجعلهم تراجمة وحيه ولسان توحيده، والدالين عليه والهادين إليه سلام الله عليهم أجمعين.
ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى الخصائص والمزايا التي يشترك بها بنو آدم معهم لنبين أنها حتى من هذا الجانب فقد خصها الله بما لم يخص به أحداً من العالمين.
ومن بين هذه الخصائص التي تشترك فيها الزهراء مع بني آدم من جهة المثلية لهم أنها عليها السلام دخلت إلى حجر الأمومة كما دخلوا لكن حجر الأمومة الذي ربيت فيه فاطمة الزهراء ليس له مثيل على وجه الأرض.
إنه حجر أم المؤمنين الصديقة الطاهرة الزكية الجليلة مسكن خاتم الأنبياء وأنس سيد المرسلين ومأوى حبيب رب العالمين وملجأ أشرف الخلق أجمعين.
فعندما تكون الأم التي تروي طفلها وتغذيه بلبنها بهذه الصفات كيف سينمو طفلها وأي صفات سيرثها؟!
وعندما يكون حجر هذه الأم التي كانت مأوى ووقاء لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشكل، فكيف سيكون لفلذة كبدها ولاسيما أنها فقدت طفلين من قبل فكيف ستحنو على هذه المولودة سلام الله عليها.
فلذلك كانت إذا ولدت ولداً دفعته إلى من يرضعه، فلما ولدت فاطمة لم
ص: 10
يرضعها غيرها(1).
بل هي تولت ذلك بنفسها وهذا فيه من العناية الإلهية الخاصة بأن جعل فاطمة تنمو في أحشاء خديجة سلام الله عليها وترضعها وتتولى رعايتها والإشراف عليها منذ اللحظات الأولى لولادتها.
فما ن انتهت مراسيم استقبالها وتغسيلها بماء الجنة ولفها بخرقة بيضاء من الجنة كما مر بيانه، فتناولتها أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهي فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها فكانت فاطمة عليها السلام تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة(2).
والحكمة في ذلك هو لكي يراها الناظر وهي على هيأه المرأة الكبيرة فيدرك وهو ينظر إليها وهي تمشي وجلبابها يخط الأرض أن الذي يمشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أولاً.
أما ثانياً: فلكي تُعد إعداداً خاصاً لما ينتظرها بعد وفاة خديجة سلام الله عليها من العناية والرعاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكي تكون قادرة على خوض عملية بناء الإسلام مع أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً: إقراراً لعين رسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن يراها وهي أمامه امرأة تحاكي هيأتها من كانت في الخامسة عشرة فيسعد بها وهو يراها قد بلغت مبلغ النساء هيأتها فيعيد بالنظر إليها تلك اللحظات السعيدة التي عاشها مع أمها زوجته الحبيبة.
ص: 11
رابعاً: إن في ذلك حرباً على المنافقين وشوكةً في عيون الكافرين وقد وصفوا النبي من قبل بالأبتر بعد أن مات ولداه فهاهي فاطمة تنمو بأسرع مما ينمو به الطفل فتملأ الدار النبوي بهجةً وسروراً.
خامساً: إن في ذلك صفة جمالية خاصة بأن تكون المرأة تحمل سناً صغيراً مع هيأتها تحاكي العشرين لتقرّ بذلك عين سيد الأوصياء علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومولى الموحدين بعد النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 12
إن من السنة المؤكدة استحباب اختيار الاسم الجميل للمولود، بل قد ورد في الحديث: استحباب اختيار اسم للمولود قبل ولادته(1).
ولقد كانت العرب قبل تشرفها ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسمي أبناءها أسماء تكشف عن غلظة نفوسهم وحبهم للحروب، فكانت تختار ما يرمز إلى القوة والشدّة فذهبت إلى تسمية أبنائها بأسماء الحيوانات وبخاصة المفترسة أو الطيور الجارحة (كنمر، وأسد، وفهد، وصقر، وعقاب، وغيرها) وأيضاً ما كان يدل على الصلابة والتحدي: كصخر، وحرب، ومرة... الخ.
ص: 13
فلما جاء الإسلام وظهر في مجتمع الجزيرة تغير الحال وأخذ المسلمون أبناءهم بتسميات جميلة عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن»(1).
لكن قبل ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يباشر بتغيير أسماء كثيرة كأبي بكر وكان اسمه قبل الإسلام عبد العزى فسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عبد الرحمن)(2) وكتغيير اسم زينب بنت أم سلمة وكان اسمها (برة) فسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (زينب)(3)، وغير ذلك هم كثر.
ثم بعد ذلك أخذوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبنائهم فيضعونهم في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو لهم ويبارك عليهم ويسمي البعض منهم؛ وقد سجل التاريخ حادثة جرت لأحد هؤلاء الأطفال وهو (مروان بن الحكم) فما أن أدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظر إليه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«هو الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون»(4)؟!
وتمر الأيام ويكبر هذا «الوزغ» وإذا به خليفة ؟
فكيف يكون حال الإسلام والحاكم الذي تسلط على رقابهم قد لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والعجيب في الأمر أنك تجد صحاح المسلمين
ص: 14
مليئة بأحاديث هذا الملعون على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأعجب منه أن يصنفه البعض ضمن قائمة الصحابة ونظرية: (كلهم عدول) فأي عدلٍ هذا والرجل إنما هو (بعض من لعنه الله) أو (قصص من لعنه الله) كما قالت له عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).
والأمر لم يتوقف عليه فقد لعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعن أباه وولده جميعاً وهو ما رواه الشعبي عن ابن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لعن الحكم وولده»(2).
وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه: (بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره كما تنزُّ القردة، فما رؤي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستجماً ضاحكاً بعد هذه الرؤيا حتى توفي)(3).
وقد نزل جبرائيل عليه السلام بعد هذه الرؤيا بقوله تعالى:
(وَ مٰا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنٰاكَ إِلاّٰ فِتْنَةً لِلنّٰاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ )(4) .
وهذه الشجرة الملعونة هم: (بنو أمية)(5).
ص: 15
ومن ذلك نعلم كيف أن الله ابتلى الإسلام بهم وجعلهم فتنة للناس جميعاً لا المسلمين فقط وهو ما دلّ عليه قوله تعالى بكلمة: (الناس) ولم يقل: (المسلمين)؟! لأن بلاءهم وأفعالهم أهلكت النسل والزرع ولم يسلم منهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، لأنهم أشر الخلق لله تعالى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ودين الله دغلاً»(1).
ومن هذا كله يستفاد أن مجيئهم بأولادهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو لحكمة خاصة كان لله فيها الحجة البالغة ليعلم المسلمين أن هذا المولود وذلك إنما حقيقتهم هي بهذا الشكل الشنيع حتى يعلموهم ويتجنبوهم ويحذروهم لكن هيهات هيهات فكثير من المسلمين آزروه وناصروه فنالوا بذلك أثم إعانة الظالمين وتحمل أوزارهم وقد كشف لهم حقائق إيمانهم قائلاً صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء وبعضكم يومئذ شيعته»(2).
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والشيء الثاني المستفاد من تغييره صلى الله عليه وآله وسلم لأسمائهم: هو أن هذه الأسماء تؤثر من الناحية النفسية في الشخص الحامل للاسم غير الجميل.
ص: 16
وهذا الأمر من أسرار علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما لم يتوصل إليه أحد من العلماء والباحثين في علم النفس - على حد تتبعي -، على الرغم من تطور الحياة العلمية في جميع المجالات، وإن هذه الحقيقة لها أثارها السلبية والإيجابية في نفسية الإنسان ومدخليتها في السلوك.
وحديث سعيد بن المسيب يكشف لنا هذه الحقيقة، فعن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فحدثني أن جده «حزناً» قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
«ما اسمك»؟.
قال: اسمي حزن. قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«بل أنت سهل».
قال: (ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي).
قال ابن المسيب: (فما زالت فينا الحزونية)(1).
بعد هذه الجولة التي بينا فيها أحد مناهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء هذه الأمة ورفع مستواها الحضاري بعد أن كانت تعصف بها رياح الجهل والظلام فأنقذها الله بأبي الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم.
نعود إلى رحاب فاطمة ونسأل: من الذي سمى البضعة النبوية بفاطمة عليها السلام ؟!
والجواب على هذا السؤال نسمعه أو نقرأه من خلال الحديث التالي الوارد عن العترة النبوية: فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:
ص: 17
«لمّا ولدت فاطمة عليها السلام أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق به لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فسماها: فاطمة»(1).
إنّ السر في اختصاص فاطمة عليها السلام بهذا الاسم يمكن معرفته من خلال الاحاطة بالمعاني الكثيرة والتفسيرات العديدة لهذا الاسم، وهي كالآتي:
1 - فعن الإمام الرضا عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني سميت ابنتي فاطمة لأن الله عز وجل فطمها وفطم من أحبها من النار»(2).
2 - عن أبي الحسن الثالث - وهو الإمام علي الهادي عليه السلام - عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«سميت ابنتي فاطمة لأن الله عز وجل فطمها وفطم من أحبها من النار»(3).
3 - عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال علي عليه السلام:
«إنما سميت فاطمة لأن الله فطم من أحبها عن النار»(4).
ص: 18
4 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«إنما سميت ابنتي فاطمة لأن الله فطمها وفطم محبيها من النار»(1).
ولكي نصل إلى معنى الحديث، والقصد المراد منه فلا بد من الرجوع إلى معنى الاسم لغةً و (فاطمة) أصله: (الفَطْمُ ، ومعناه: القطع)(2)، ويقال فطمت وهي فاطم فطاماً(3) وفطمت الصبي أمه، أي تفطمه عن الرضاع(4)، وهو الولد الذي انقطع عنه اللبن(5)، فيقال له فطيم(6)، والأنثى فطيمة، والأم فاطم، وبه سميت المرأة فاطمة على الهاء للعلمية(7)، ويقول الرجل للرجل: لأفطمنَّك عن كذا، أي لاقطعنَّ طمعك عنه(8).
ومن خلال هذا المعنى يستبان المراد من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله فطمها ومحبيها عن النار) أي: القطع والمنع من دخولها ومحبيها إلى النار.
أما فطامها من النار فهذا لا غرابة فيه؛ لأنها المعصومة من الخطأ بنص القرآن في آية التطهير وسيأتي، إن شاء الله بيانه لاحقاً في باب منزلتها في القرآن، وهي مع
ص: 19
ذلك يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ولا يرضى الله لرضى امرئ ما لم يكن عالماً محيطاً بجميع الحلال والحرام بل قوله تشريع وحجة بدلالة وقوع التلازم بين رضا الله ورضاها، وغضب الله وغضبها.
وعليه يتحقق معنى فطام محبيها عن النار وبمعنى أدق: إن الله بها فطمهم عن النار أي باتباعها والسير على نهجها بمعناه الأقصى وهو: «شيعتها» وجميع من دخل حبها في قلبه بمعناه الأعم ولا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا كافر.
1 - عن الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي:
هل تدري لمَ سميت فاطمة ؟
قال علي:
لم سمّيت فاطمة يا رسول الله ؟
قال:
لأنها فطمت هي وشيعتها من النار(1).
وهذا الحديث يدل على اختصاص شيعتها بالنجاة من النار بفضل الله ولمشايعتهم فاطمة عليها السلام أي لاتباعهم وسيرهم على نهج فاطمة عملاً والتزاماً بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تظلوا من بعدي».
ص: 20
عن الإمام الرضا - علي بن موسى الرضا - عن آبائه عن علي - أمير المؤمنين - عليهم السلام قال:
«سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سميت فاطمة لأن الله فطمها وذريتها من النار(1)، من لقي الله منهم بالتوحيد والإيمان بما جئت به»(2).
هذا الحديث الشريف جاء كنتيجة نهائية لما قدمته الأحاديث السابقة وهذه النتيجة هي الأساس للفوز في الحياة الآخرة.
إذ إن الملاك في تحقق «الفطم» من النار هو: (حب فاطمة عليها السلام) وإن بغضها موجب للدخول في النار وإن كان من ذريتها؟! بدلالة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«من لقي الله منهم بالتوحيد والإيمان بما جئت به».
ومما جاء به عن الله عز وجل وما أمره الله تعالى به هو: (حق فاطمة) في قوله تعالى:
(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ )(3) .
ومن حقوق فاطمة على كل من آمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حبها وموالاتها ومشايعتها) وهو: (التولي)، ومعه يكون: (التبرؤ من
ص: 21
أعدائها وظالميها ومن آذوها وسلبوا حقوقها) وهو: (التبري) وهما أحد فروع الدين.
ولا يستحق هذا المعنى إلا بالتبري أيضاً ممن رضي بظلمها والتمس العذر لفعل الظالمين؛ لأن ذلك أشد عليها ممن ظلموها؟!
ولأجله: منعتهم شهود جنازتهم وستمنعهم يوم القيامة شفاعتها أعاذنا الله من سخط الله وسخط رسوله وسخط فاطمة، وأماتنا على الإيمان به متمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
عن أبي جعفر - الصادق - عليهما السلام قال: لما ولدت فاطمة عليها السلام أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسماها فاطمة، ثم قال:
«إني فطمتك بالعلم وعن الطمث»(1).
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله:
فطمتك بالعلم أي أرضعتك بالعلم حتى استغنيتِ وفُطِمتِ ، أو قطعتك عن الجهل بسبب العلم أو جعلت فطامك من اللبن مقروناً بالعلم كناية عن كونها فيفطمها في فطرتها عالمة بالعلوم الربانية.
وعلى التقادير، الفاعل بمعنى المفعول، كالدافق بمعنى المدفوق.
ص: 22
أو يقرأ على بناء التفعيل أي: جعلتك قاطعة الناس عن الجهل، أو المعنى: لما فطمتها عن الجهل فهي تفطم الناس منه.
والوجهان الأخيران يشكل إجراؤهما في قوله: فطمتك عن الطمث، إلا بتكلف، بأن يجعل الطمث كناية عن الأخلاق والأفعال الذميمة.
أو يقال على الثالث: لما فطمتك عن الأدناس الروحانية والجسمانية، فأنت تفطم الناس عن الأدناس المعنوية(1). (انتهى كلامه رحمه الله).
وإضافة إلى ما بينه العلاّمة المجلسي في معنى هذا الحديث.
فنقول: أنّ لكلام الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام وجهين:
هو إن الله عز وجل فطمها عن الجهل بالعلم فهي عالمة قبل أن يخلق الله تعالى آدم، بل قبل خلق الملائكة.
وعندما أراد الله تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء عليهم السلام بالإيمان بالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وبرسالته وبالولاية له ولأهل بيته عليهم السلام، كانت فاطمة عليها الصلاة والسلام عالمة بالميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء.
فهي عالمة بذلك الميثاق وببنوده، وهي أحد الشهود عليهم وبإقرارهم بذلك الميثاق.
قال تعالى:
ص: 23
(وَ إِذْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قٰالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قٰالُوا أَقْرَرْنٰا قٰالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ )(1) .
فإن فاطمة عليها الصلاة والسلام عالمة عند الأنبياء عليهم السلام وإنهم أقروا بالعلم وإن الله فطمها عن الجهل بالعلم، وقد أشهدهم الله على ذلك وأخذ عليهم الميثاق بمعرفتها بأنها العالمة المفطومة به.
فهي: (العالمة) التي على معرفتها دارت القرون الأولى، وهي الأزمنة التي بعث فيها الأنبياء عليهم السلام، وأنزل من أخذ عليه الميثاق بمعرفتها، فكانت أحد الأسماء التي تعلمها آدم ثم عرضها على الملائكة فكانت هذه الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام هي الحجة على الملائكة والتي بها أقروا بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله، وبهذا العلم الذي حصل عليه آدم فاق به رتبة الملائكة لأنه أعلم منهم وعلّمهم.
عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أتدري أي شيء تفسير فاطمة ؟.
قلت: أخبرني يا سيدي، قال: فطمت من الشر(2).
ص: 24
وللوصول إلى معنى الحديث نورد: (الشر) لغةً ، فقد قيل أن: (الشُرّ) بالضم هو العيب(1).
وحكى ابن العربي: قد قبلت عطيتك ثم رددتها عليك من غير شُرّك ولا ضُرَك ثم فسره فقال: أي من غير ردّ عليك ولا عيب لك ولا نقصٍ ولا إزراءٍ .
وفي الصحاح: إنما قلته لغير عَيبك، ويقال: ما رددت هذا عليك من شُرّ به أي من عيب ولكني آثرتك به، وأنشد: عين الدليل البُرتِ من ذي شُرّهِ ، أي من ذي عيبه، أي من عيب الدليل، لأنه ليس يحسن أن يسير فيه حَيْرةً (2).
وعليه: يظهر معنى الحديث: أي إن فاطمة صلوات الله عليها سميت ب (فاطمة) لأنها فطمت من كل عيب ؟!
وليس هناك شيء أكثر عيباً من الذنب فهي بهذا تكون قد فطمت أي: انقطعت عن الإتيان بأي ذنب منذ أن خلقها الله عز وجل وهذا يتلازم من قوله تعالى:
(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(3) .
فالله تعالى طهرها وفطمها من كل عيب منذ أن خلقها.
وقيل: (الشَّر) بالفتح هو: (السوء)(4).
وعلى هذا المعنى: فإن فاطمة عليها السلام فطمها الله من كل سوء، فهي المنقطعة عن كل سوء.
ص: 25
عن عبد الله بن الحسن(1) بن الحسن بن علي بن أبي طالب قال أبو الحسن
ص: 26
عليه السلام وهو الإمام زين العابدين عليه السلام:
لم سميت فاطمة، فاطمة ؟!
قلت: فرقاً بينه وبين الأسماء، قال:
إن ذلك لمن الأسماء، ولكن الاسم الذي سميت به إنَّ الله تبارك وتعالى علم ما كان قبل كونه فعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتزوج في الأحياء وإنهم يطمعون في وراثة هذا الأمر من قبله فلما ولدت فاطمة سماها الله
ص: 27
تبارك وتعالى فاطمة لما أخرج منها وجعل في ولدها فقطعهم عمّا طمعوا فبهذا سميت فاطمة لأنها فطمت طمعهم، ومعنى فطمت قطعت(1).
وتعقيباً على هذا الحديث قال المجلسي رحمه الله:
قوله: فرقاً بينه وبين الأسماء لعله توهم أن هذا الاسم مما لم يسبقها إليه أحد فلذا سمّيت به لئلا يشاركها فيه امرأة ممن مضى، فأجاب عليه السلام: بأنه كان من الأسماء التي كانوا يسمّون بها قبل(2).
ويدل الحديث على أمور منها:
أولاً: قد تسمى بهذا الاسم الشريف قبل ولادة فاطمة عليها السلام تسع من جدات النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وأيضاً تسمى به من بني هاشم وهن: فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وفاطمة بنت أسد رضوان الله عليها وهي أم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
وهذا كله يدل على أن الاسم كان معروفاً عند العرب وفي قريش خاصة، بل إنه معروف لدى جميع الأنبياء عليهم السلام ابتداءً من آدم وانتهاءً بموسى الكليم عليه السلام وسنفرد مبحثاً خاصاً لهذا الموضوع نورد فيه منزلتها عند الأنبياء مع ما وجده علماء الآثار والمختصون في علم اللغات والديانات من ألواح لسفينة نوح عليه السلام كتب عليها أسماء أهل البيت عليهم السلام وهم الخمسة أصحاب الكساء: «محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي أمير المؤمنين وفاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة عليهم أفضل الصلاة والسلام»،
ص: 28
وقد وجدت في روسيا وعلى الفور شكلت لجنة من العلماء لدراستها.
وكذلك عثر في فلسطين على لوح لنبي الله سليمان عليه السلام كتب عليه أسماء أهل البيت عليهم السلام واستغاثة النبي سليمان وتوسله إلى الله بهم، وسنورده إن شاء الله مع ترجمته والمصادر التي نشرتْ هذا اللوح (السليماني) مع ترجمته من اللغة العبرية إلى اللغة الإنكليزية والعربية.
ثانياً: هذا الحديث يكشف عن حقيقة خاصة بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ إنه يرشد إلى أن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيطمع فيها أناس هم من ذوي أزواجه كما أشار الحديث الموضوع في إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من زوجته مارية القبطية، والحديث هو:
فقد روى ابن ماجه عن ابن عباس: (لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: إن له مرضعاً في الجنة، ولو عاش لكان صديقاً نبياً، ولو عاش لعتقت أخواله القبط وما استرق قبطي)(1).
فهذا الحديث يكشف عن أمور عدة.
1 - طمع القوم في خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلال أزواجه فهو يدل على اتباع إبراهيم وطاعته.
2 - صرف الأنظار عن فاطمة وبعلها وبنيها.
3 - جعل التفاضل في أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحداً فكل أولاده هم في المنزلة سواء؟!
ص: 29
هذا خلاف القرآن الذي جاء بتفضيل فاطمة وبعلها وبنيها ومودتهم واتباعهم، وهم أهل بيت النبي وذوو القربى.
4 - تدخل يد السياسة في صياغة مثل هذه الأحاديث ولاسيما ممن هم أعداء الإسلام الذين همهم الوحيد تغيير هذا الدين وطمس معالمه وتغيير سننه.
(وَ يَأْبَى اَللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ )(1) .
إذ لم يرد مثل هذا المضمون في ولدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «القاسم وعبد الله» عليهما السلام على الرغم من كونهما ولديه بينما ورد في إبراهيم ؟!
والسبب في ذلك هو إرادة الوضاع له من إعادة هذا الدين القيم إلى الديانة المسيحية باعتبار أن زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم إبراهيم رضي الله عنها من الأقباط، فلو قدر لإبراهيم أن يعيش لكان نبياً ولتجد أكثر أتباعه من القبط لأنهم هم أهل أمه ؟!
وهؤلاء لم يكتفوا بهذه المحاولة بل إنك تجد أحاديث عديدة صحيحة السند أو ضعيفة تجري كلها في مجرى واحد وهو:
إن هذا الدين سينتهي وستعود الديانة العيسوية في آخر الزمان وسينقلب المسلمون مسيحيين بدلالة الحديث:
«لا أخاف على أمة أنا أولها وعيسى آخرها»(2).
ص: 30
بينما حقيقة الأمر وصوابه كما ورد عن أهل البيت عليهم السلام:
«إن عيسى عليه السلام يصلي خلف الإمام المهدي صلوات الله عليه»(1).
وبه يتحقق قول الله تعالى وبشارته:
(هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ )(2) .
فبعترة المصطفى يظهر دين الله تعالى دين الحق على جميع الأديان.
أما الغاية والحكمة في ظهور عيسى مع الإمام المهدي ابن فاطمة الزهراء عليها السلام، وصلاته خلف الإمام مؤتماً به فهو لأمرين:
ألف: لدخول جميع من يؤمن بعيسى عليه السلام في هذا الدين القيم واتباعهم الشريعة الإسلامية المحمدية.
باء: هو أن نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام يدين بالإسلام ويتعبد بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأصل كما يعلن القرآن ذلك صريحاً جلياً:
(وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوٰارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قٰالُوا آمَنّٰا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنٰا مُسْلِمُونَ )(3) .
ص: 31
فمن البديهي أن يصلي عيسى عليه السلام خلف إمامه المهدي عجل الله فرجه وسهل مخرجه لأنه عليه الصلاة والسلام خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
5 - إن هذا الحديث كفى به دلالة على الوضع ؟ إذ لا نبي بعد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فحتى لو قدر لإبراهيم عليه السلام أن يعيش فلم ولن يكون نبياً لأن أباه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام أجمعين.
رابعاً: إنه يظهر لنا حقيقة أخرى في طمع القوم في خلافة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحقيقة تدل على أنَّه أمرٌ إلهي وتعيين رباني ونصّ نبوي لا كما يدعي أئمة الظلام بخلاف هذا.
لأن النبوة ليست ملكاً وزعامة وكرسياً يجلس فيه من يروق له ذلك، كما حدث في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد وجد بعض الأنصار المؤهلات في أنفسهم كما وجدها المهاجرون وبدا كلا الفريقين يظهر ما يمتلكه من مميزات وخصائص وجد فيها الأحقية في خلافة النبي والجلوس في مكانه ليدير أمر هذه المملكة التي أخذت توازي الإمبراطورية الفارسية في الشرق والإمبراطورية الرومانية في الغرب.
والدافع الوحيد هو حب السلطة والزعامة والرئاسة لدرجة أن الأمر اشتبه على عمر بن الخطاب فأخذ يسأل عن حقيقة جلوسه في هذا المنصب قائلاً:
ص: 32
(أخليفة أنا أم ملك)(1)؟!
وعندما وصلت النوبة إلى بني أمية وجلس عثمان بن عفان في كرسي الرئاسة كما يصورها أبو سفيان قائلاً لذويه وبنيه: (يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة)(2)؟!
ثم ذهب إلى قبر حمزة فرفسه برجله، مخاطباً أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يا أبا عمارة، إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف، صار في يد غلماننا، يتلعبون به)(3)؟!
وخاطب عثمان بن عفان الأموي بقوله: (يا عثمان إن الأمر، أمر عالمية، والملك ملك جاهلية، فاجعل أوتاد الأرض بني أمية)(4).
فحقيقة هذه الأطماع في نفوس القوم راسخة، بل كانوا يسعون في الوصول إلى الخلافة بمفهومها السلطوي بشتى الوسائل وسحق كل من يقف أو يحول دون تحقيق هذه الأطماع.
ص: 33
ومن بين الوسائل تلفيق الأحاديث ووضعها لكسب الصفة الشرعية لهذا الجلوس كما فعل معاوية بن أبي سفيان، فقد بذل الأموال على من يدخل هذا السوق العريض الذي يُعرض فيه شيئان وهما: «الدين والضمير» والثمن هو أكياس معاوية المليئة بالدراهم.
فكان الرواد لهذا (السوق) كثيرين وعلى رأسهم أبو هريرة الذي لم ينسَ معاوية هذه الوقفة المشرفة فعاد على ورثة أبي هريرة ببره وإحسانه وأكياسه.
لدرجة أن البعض منهم كان يعلن ذلك بشكله المفضوح الذي زار معاوية مع خمسة كالحتات بن يزيد (أبو منازل) أحد بني حوى بن سفيان بن مجاشع حينما قدم هو والاحنف بن قيس وجارية بن قدامة والجون بن قتادة الجشمي إلى معاوية بن أبي سفيان فأعطى كل رجل منهم مائة ألف وأعطى الحتات سبعين ألفاً، فلما كانوا في الطريق سأل بعضهم بعضاً فأخبروه، بجوائزهم فكان الحتات أخذ سبعين ألفاً فرجع إلى معاوية، فقال معاوية:
ما ردك يا أبا منازل ؟
قال: فضحتني في بني تميم، أما حسبي بصحيح ؟! أو لست مطاعا في عشيرتي ؟! فقال معاوية: بلى.
قال: فما بالك خسست بي دون القوم ؟ فقال معاوية: إني اشتريت في القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانيا - فقال: وأنا فاشترِ مني ديني!!! فأمر له بتمام جائزة القوم(1).
ص: 34
ومن بين هذه الوسائل:
هو حرق بيت الزهراء، واقتحامه، وانتهاك حرمته، وضرب فاطمة صلوات الله عليها وترويعها وترويع أطفالها وهم سبطا النبي وريحانتاه وسيدا شباب أهل الجنة(1)، فإن لله وإنا إليه راجعون ؟!
وكل هذا دافعه الطمع في الحكم والتسلط والرئاسة.
فإذن: سماها الله بفاطمة.
وذلك بجعل الإمامة في ولدها عليهم السلام.
والإمامة: هي الخلافة للنبوة بمفهومها التشريعي، أي إن الإمام الذي يلي خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المعين من الله عز وجل والمنصوص عليه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن النبوة هي إيصال أحكام الله وشرعه إلى الناس وتبيان الدين الإلهي الذي أنزل من الله إليهم بواسطة الوحي:
(نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ (193) عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ )(2) .
والإمام يجلس محل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس من حيث كونه نبياً فلا نبوة بعد المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام لا يوحى إليه ولا من حيث التسلط وإدارة الأمة كنظام ملكي.
إنما هو: وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة وبدونها أي إن علم الإمام حضوري وحصولي، فأما الحضوري: فهو التسديد والتأييد من الله عز
ص: 35
وجل أي إنه «محدث» بفتح الدال، لأن الله هو الذي اجتباه واختاره من بين خلقه لخلافة نبيه وتكميل دينه وشرعه كما أشارت آية الإكمال بعد بيعة الغدير(1)، وأما الحصولي فهو عند الإمام أقرب ما يكون إلى الحضوري كقول الإمام أمير المؤمنين:
«علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب».
وهذا لا يمكن أن يتحقّق بالمقاييس المادية والعلمانية لأنه يقوم على خرق القوانين الطبيعية ولأن الأمر متعلق بالنبوة وأسرارها.
ومنه أيضاً حديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
«أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتِ الباب».
وحديث:
«أنا مدينة العلم وعلي بابها».
فالخلافة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمفهوم القرآني هي: العلم بالحلال والحرام والمندوب والمكروه وجميع حدود الله عز وجل وأن يجري قوله وتقديره ضمن تلك الحدود ولا يتحقق هذا إلا بالتعيين الإلهي لأن الله عز وجل هو الأعلم الأصلح والأقدر والأكفى بحمل شريعته ثم مع علمه عز وجل يكون الاجتباء والاصطفاء لهذا الخليفة، أي «الإمام» وبهذا يكون أعدل الناس وأتقى الناس وأعبدهم لله عز وجل، وأعلمهم بالقرآن والسنة.
وهذه الحقيقة قد أدركها القوم بل كانوا يعلمون علم اليقين أنهم جلسوا في غير مجلسهم وأنهم انتزعوا الأمر من أهله، واغتصبوا هذا الحق الذي ليسوا له أهلاً.
ص: 36
إنّ من السنن المستحبة التي ترافق المولود بعد ولادته هي العقيقة.
(والعقيقة) هي: الشعر الذي يولد به الطفل لأنه يشق الجلد، فيقال لهذا الشعر (عقيقة) وجعل الزمخشري: الشعر أصلاً والشاة المذبوحة مشتقة منه.
وعقّ الرجل عن ابنه يعقّ : أي حلق عقيقته، أو ذبح عنه شاة(1)، وفي التهذيب: يوم أسبوعه فقيده بالسابع، واسم تلك الشاة العقيقة(2).
وفي الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
في العقيقة عن الغلام شاتان مثلاً، وعن الجارية شاة.
ص: 37
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى»(1).
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:
«عق عنه - أي المولود - وأحلق رأسه يوم السابع»(2).
والعقيقة شاة أو جزور تجتمع فيها شرائط الأضحية، وهي: السلامة من العيوب والسمن، والسن على الأفضل، ويجزي فيها مطلق الشاة(3).
قال الإمام الصادق عليه السلام:
«انما هي شاة لحم ليست بمنزلة الأضحية يجزي منها كل شيء وخيرها أسمنها»(4).
- وسنورد مزيداً من التفصيل في باب أولادها عليهم السلام -.
اما ما يخص البضعة النبوية عليها السلام، فقد عقت عنها السيدة خديجة عليها السلام بشاة(5) وإنها أطعمتها للمؤمنين عملا بالسنة وقصداً لحصول الأجر في ورود السرور عند الإطعام.
ص: 38
ص: 39
ص: 40
نتناول في هذا الفصل الأحداث التي مرت في حياة الصديقة الكبرى والبتول العظمى فاطمة الطاهرة من السنة الأولى لميلادها إلى السنة الثامنة حيث تبدأ مرحلة جديدة في حياتها المقدسة.
هذه المرحلة مليئة بالأحداث التي واكبت مسيرة بناء الإسلام بشكل عام وحياتها الشخصية والأسرية والقيادية بشكل خاص.
والسنين الأولى في حياة فاطمة عليها السلام وهي مرحلة الطفولة والصبا تختلف بظروفها ومجرياتها عن جميع الخلق البشري.
إذ ليس لأحد أبٌ مثل أبي الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم وليس لأحد أم مثل أمها «خديجة» الكبرى في شرفها وعلو شأنها، سلام الله عليها، وعندما يتهيّأ لإنسان مثل هذين الأبوين فمما لا شك فيه أن طفولته وحياته تكون مميزة بل فريدة.
ص: 41
إنّ المراد بالحجر لغةً هو: (الحِضْنُ )، فيقال: حَجْرُ المرأة وحِجْرُها حِضْنُها(1).
وهنا عندما نقول: حَجْرُ النبوة، أي إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي احتضنها ورباها ضمن أصول وقواعد ومناهج النبوة.
فأدّبها فأحسن تأديبها فكان خلقها خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه المولى قائلاً:
(وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ )(2) .
وخاطب هو صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين قائلاً:
«لقد أدبني ربي فأحسن تأديبي»(3).
ص: 42
فأدب فاطمة وخُلقها هو: أدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلقه. حتى قالت عائشة: (ما رأيت أحداً أفضل من فاطمة غير أبيها)(1).
والسبب في قولنا: فاطمة في حجر النبوة هو لبيان أثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إنشاء هذه النشأة والصناعة المحمدية لفاطمة عليها السلام.
كما هو الحال بالنسبة لإسماعيل عليه السلام فقد نسب دور أمه هاجر في حضانته وتنشئته إلى إسماعيل عليه السلام فسمي موضع قبرها بحجر إسماعيل، أي: الحضن الذي احتضن إسماعيل ولم يقل: (قبر هاجر).
وما ذاك إلا تعظيماً وإكراماً للنبوة، وان الحجر الذي يحتضن النبوة يسمى بها وينسب لها، فسمي بحجر إسماعيل.
وعليه: سمي الحجر الذي احتضن فاطمة عليها السلام هو: حجر النبوة أو: (الحجر المحمدي).
بعد هذه الإشارة في بيان الركنين الأساسين في نشأة كل إنسان وأقصد والديها فإننا نرحل في سفينة الحب النبوي إلى بيت خديجة أم المؤمنين عليها السلام لترسي بنا سفينتنا على سواحل أعتاب بيتها نلتمس الإذن في الدخول إلى رحاب البيت الذي كان سكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحطة سكونه وسكينته ومنبع الحنان والحب والمودة التي ملأت كل ذرة من كيان أم المؤمنين خديجة عليها
ص: 43
السلام. لتهبها لزوجها وتبذلها له فما ادخرت جهداً وما بخلت بعطية، وما شكت ألما، ولا تبرمت من حال أنزله بها كفار مكة نساءً ورجالاً.
فعندما يحيا الإنسان وتكون أيام طفولته في مثل هذه الأجواء المليئة بالحب والحنان والرحمة فمما لا شك فيه سيكون هذا الإنسان منبعاً لهذه الفضائل التي نمت عليها عروقه وتوغلت فيها جذوره.
ونحن وان كنا نعرض مثل هذه النقاط التي مع أهميتها الكبيرة لدى الباحثين وأصحاب الاختصاص في الحياة الأسرية والعلوم النفسية، إلا أننا لا نجعلها الأساس في تكوين شخصية فاطمة الزهراء عليها السلام.
إذ إن الملاك والضابطة في حياة الأولياء هو الاصطفاء الإلهي وهو مفاد قوله تعالى:
(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1) .
ومع هذا الاصطفاء يكون الاصطناع الرباني، لقوله تعالى:
(وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)(2) ، (فَاسْتَمِعْ لِمٰا يُوحىٰ )(3) .
فالصناعة ربانية، والاصطفاء إلهي ومن كان الله قد اصطفاه لنفسه فلا تؤثر فيه قوى الشر ولا يمسه رجس الكافرين، وقد أعطى القرآن دليلاً لمن كان يؤمن
ص: 44
بالله تعالى إن الظروف والعوامل التي تحيط بحياة الأنبياء والأولياء لا يمكن حملها على بقية حياة الناس وكيفية نشأتهم.
فها هو نبي الله موسى الكليم تلقيه أمه وهي خائفة وجلة عليه من القتل فترميه في البحر ليقوده جبرائيل عليه السلام إلى بيت عدو الله، ليأخذه ويربيه ويتولى تنشئته، ولم يكن قصر فرعون وطغيانه وكفره مؤثّراً في إيمان موسى عليه السلام.
أما سبب تأكيدنا على البيت الذي نشأتْ فيه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام فذلك من أجل معرفة العناية الإلهية الكبيرة، والاهتمام البالغ والتركيز على فاطمة عليها السلام.
لان الغاية والعلة التي خلقت لها فاطمة تستوجب هذا الاعتناء الرباني، وهذا الاهتمام الإلهي. ويكفيك من هذا دلالة على عناية الله بها بأنها (أم أبيها).
فالمصطفى والصانع لها الله عز وجل، والمربي والمعلم لها حبيبه.
ص: 45
أعادت فاطمة عليها السلام في السنين الأولى لطفولتها بسمة الأمومة لخديجة عليها السلام، تلك البسمة التي لا تمنحها الأم إلاّ لطفلها الذي يتأمل بعينين مفتوحتين تلك التقاطيع التي ترافق وجه أمه وهي مبتسمة له وكأنها تسمعه بأعذب الكلمات التي تعجز عنها لغات العالم.
فأي لغة يمكن ان تعبر عما ينطقه وجه الأم وهي تنظر لولدها وقد زينت وجهها هذه الابتسامة.
لغة لا يعلمها إلا قلب هذا الطفل ولا يصدرها الا قلب الأم.
وبخاصة عندما تتعامل أم كخديجة مع طفلها الجديد الذي انتظرته كثيراً بعد أن فقدت طفلين هما (القاسم وعبد الله عليهما السلام)، اللذين لم يعيشا طويلاً، بل انهما لم يكملا رضاعهما فقد اختار الله لهما دار الآخرة.
ثم تبقى خديجة عليها السلام تنتظر رحمة الله عز وجل أن يمنّ عليها بحمل
ص: 46
ومولود جديد ويطول بها المقام ويتأخر عليها الحمل، لحكمة أرادها الله عز وجل.
ومن هنا فان حملها بفاطمة وولادتها قد أعادت عليها تلك الابتسامة التي كانت تطلقها لأخوي فاطمة عليها السلام. فتتولى رضاعتها لتغذيها من روحها ودمها وحبها.
فكانت سنتا الرضاعة أياماً عاشتها فاطمة بالحب والرحمة والرأفة والحنان النبوي اللا متناهي ومع هذا كله كانت تعيش أجواء السلام والطمأنينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مُحَصَناً منيعاً بعمه أبي طالب الذي دأب يحنو عليه ويذب عنه كيد قريش ويدفع عنه طغاتها.
فكانت هذه السنتان من عمرها المبارك مميزة مليئة بالدفء والحنان والرحمة والحب والسكينة.
لكن سرعان ما يتغير الأمر في السنة الثالثة من عمرها الشريف وهي السنة الثامنة من البعثة (إذ يشتد الضغط على المسلمين ويبدأ طغاة قريش بالاعتداء على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يَصْلَب لهم وبعصمة الله منهم)(1).
والنبي مع هذا كله استمر يدعو الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا
ص: 47
يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصدّه عن ذلك صاد، يتبع الناس في انديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم، وموقف الحج، يدعو من لقيه من حرٍ وعبد، وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء)(1).
فلما رأى طغاة قريش أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماضٍ في تبليغ رسالة الله عز وجل عزموا على قتله والنيل منه.
وأول من عزم على ذلك أبو جهل - عليه لعنة الله - فقد أخذ يجاهر بقتل النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أمام قريش قائلاً لهم: يا معشر قريش إنّ محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسنّ له غداً بحجر، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم(2).
وهذا القول الذي أطلقه أبو جهل كان القصد من ورائه تحقيق الأهداف التالية:
1. تحفيز قريش على كسر طوق الحصانة التي فرضها أبو طالب عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
2. الحث على قيام أشخاص آخرين بمثل هذه المحاولات، وان الأمر ليس بهذا القدر من الصعوبة، وانه يمكن لهم القيام بمثل هذا العمل كما عزم على فعله
ص: 48
أبو جهل عليه لعنة الله.
3. إشعال نار الحرب بين بني هاشم وبين قبائل قريش، لأنّ بني عبد مناف يمكن أن يكون المقصود بهم أعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبناءهم ويمكن أن يكون المقصود هم أبناء أبي طالب لأن اسمه (عبد مناف).
وبالنتيجة الضرب على زر الأمان وإطلاق نار الثأر المتأصلة في النفس العربية، وعندها إما يتم القضاء على بني هاشم كافة وهم أهل الفضائل التي لا تروق لأبي جهل وأمثاله؛ وأما القضاء على بني عبد مناف أي أبو طالب وولده ويبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيداً لا ناصر له ولا معين غير الله عز وجل وهذا ما لا يفهمه المشركون. لأنهم يتعاملون مع المادة والظاهر. وعندها يسهل عليهم قتله، إن لم يكن هو المستهدف أولاً.
أما نتيجة هذه المحاولة من أبي جهل فقد كانت درساً له ولغيره؛ فقد رد الله كيده في نحره وسقط الحجر من يده وبهت الذي كفر بعد ان تمثل له جبرئيل بهيأة جمل عظيم الخلقة(1).
لكن هيهات:
(وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ طُغْيٰاناً كَبِيراً)(2) .
فقد اشتد العذاب على المسلمين أكثر فأكثر، ويتسع الأمر ليشمل كل من آمن بهذا الدين الجديد.
ص: 49
فقد روي عن سعيد بن جبير انه قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك ؟ قال: نعم والله ان كانوا ليضربون أحدهم ويجوعونه ويعطشونه حتى ما يقدر ان يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له، اللات والعزّى إلهك من دون الله ؟.
فيقول: نعم، حتى إن الجُعَل(1) ليمرّ بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول: نعم افتداءً منهم مما يبلغون من جُهده(2).
وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمرّ بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنة، فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلاّ الإسلام، فقضت شهيدة وهي أول شهيد في الإسلام(3).
والملفت هنا في هذه الحادثة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بكثير من المسلمين وهم يعذبون أشد العذاب لكن لم يسجل التاريخ ان النبي صلى الله
ص: 50
عليه وآله وسلم صبر أحداً بهذا الشكل وبشره بالجنة بل الذي يفهم من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم هو التعجيل لهم بالجنة.
وهذا يدل على صدق إيمانهم وثبات يقينهم فتلك سيرة الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه تفوح بالإيمان وصدق القول وإخلاص العمل حتى فارقت روحه الدنيا شهيداً محتسباً ممّا نزل به من القتل وهو في التسعين من عمره يقاتل بسيفه جنباً إلى جنب مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى قضى في صفين وقد أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه تقتله الفئة الباغية(1)، وهم معاوية بن أبي سفيان وحزبه وشيعته، فلما استشهد اضطرب جيش معاوية اضطراباً شديداً وكان يقول قبل استشهاده: والله لو قاتلتكم حتى أصل إلى شعاب مكة لعلمت أننا على حق وأنكم على باطل(2).
وهذا مما أوصى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمار قائلاً له:
«يا عمار لو رأيت الناس كلهم في واد وعلي بن أبي طالب في واد فاسلك الوادي الذي فيه علي بن أبي طالب - عليه السلام -»(3).
ص: 51
وهناك وصية أخرى للنبي تمسك بها هذا الصحابي الجليل وعض عليها بالنواجذ وهي:
«أوصي من آمن بالله وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب، من تولاه فقد تولاّني، ومن تولاني فقد تولى الله ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله عز وجل»(1).
فهذه السيرة الخالدة المشرقة تدلّ على علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحال هذا الصحابي وإيمانه وكيف كانت عاقبة أمره الذي ختمها بالشهادة.
وجميع هذه المآسي كانت فاطمة الزهراء تراها وتسمع النبي يحدث خديجة بها وتسمعه يتحدث مع علي بن أبي طالب في حال المسلمين وما ينزل بهم وعندها كانت تدرك ان الخطر يحف بأبيها من كل جانب فماذا عساها ان تفعل ؟! سيمر علينا إن شاء الله في أحداث مرحلة صباها وقبل هجرتها إلى المدينة المنورة.
ص: 52
مازلنا في رحاب الحديث عن طفولة فاطمة الزهراء عليها السلام ومرحلة صباها، فبعد ان اشتد الأمر بالمسلمين من قبل طغاة قريش وإنزالهم أشد أنواع الأذى بكل من وقعت يدهم عليه من المسلمين.
وبعد ان يئسوا من النيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتله لان الله منعه منهم بعمه أبي طالب، ودخول الكثير من بني هاشم الإسلام والتفافهم حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد عزمت قريش على إخراج بني هاشم من مكة إلى خارجها في الشعب المعروفة بشعب أبي طالب وإقامة الحصار عليهم.
وكانوا قد تعاهدوا وتكاتبوا على ذلك في صحيفة وضعوها في بيت الله الحرام
ص: 53
توكيداً على أنفسهم على الالتزام بها وكانت تنص على:
1. ألا يتزوجوا إليهم ولا يزوجوهم.
2. لا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم(1).
3. لا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم.
4. لا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة ولا هوادة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقتل(2).
فلما فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه وذلك في محرم سنة سبع من النبوة، وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب وكان مع قريش، وأقام بنو هاشم على ذلك حتى جهدوا من ضيق الحصار، وأكلوا ورق السمر، وأطفالهم يتضاغون من الجوع، حتى يسمع بكاؤهم من بعيد، وقريش تحول بينهم وبين التجار، فيزيدون عليهم في السلعة أضعافاً حتى لا يشتروها(3).
ومكثوا على هذه الحال ثلاث سنوات ليس من ينفق عليهم أو يتولى إطعامهم أو رعاية أطفالهم ونسائهم سوى خديجة أم المؤمنين عليها السلام فقد أنفقت كل ما تملك على المسلمين وهم محاصرون في شعب أبي طالب(4).
وكانت خديجة عليها السلام امرأة ذات مال وفير، ولها من العبيد والخدم
ص: 54
الكثير، وهي مع هذا امرأة تاجرة، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً(1).
وخديجة عليها السلام مع كل هذا المال والسلطان كانت امرأة حازمة ضابطة لبيبة شريفة حتى لقبت بسيدة قريش ولقبت أيضاً بالطاهرة لشدة عفافها وطهارتها(2).
وعندما يروي لنا التاريخ انها عليها السلام قد أنفقت كل ما تملك على المسلمين منذ بدء البعثة النبوية والى آخر لحظات حياتها المباركة، فالمقصود هو ان الذي انفق هذا المال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها وهبت كل ما تملك من مال وعبيد وخدم لرسول الله(3) صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هنا فاننا نجد ان هذه التجارة العظمى التي كانت تسير بها القوافل من مكة إلى الشام ومن مكة إلى اليمن قد توقف مسيرها فلم نجد أي مصدر من المصادر التاريخية الإسلامية وغيرها تناول حركة تجارة أم المؤمنين خديجة عليها السلام بعد زواجها من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
والسبب في ذلك يرجع إلى أمور:
ص: 55
أولاً: إنها وَهَبَتْ جميع ما تملك إلى النبي الأعظم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يعمل بهذا المال ولم يتجر به أو يستأجر أحداً لهذا والعلة في ذلك لكي لا يقال ان زواجه منها كان رغبةً في مالها وهذا من جانب.
وأما الجانب الآخر فهو لاعتزاله قومه وتوجهه صلى الله عليه وآله وسلم للعبادة فلذا قال: أول ما ابتدأ بي الوحي انه حبب إليّ العزلة(1). وهذا قبل النبوة.
ثانياً: لو عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتجارة بعد البعثة فان طغاة قريش سرعان ما كانت تشن حملات على هذه القوافل وتصادرها.
ثالثاً: إن جميع هذا المال أنفقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين وبخاصة عندما تم حصرهم في شعب أبي طالب رضي الله عنه.
ومن هنا نجد أن أم المؤمنين خديجة عليها السلام قد حمت المسلمين من الضياع وأنقذتهم من الهلاك من خلال مالها الذي وهبته لزوجها صلى الله عليه وآله وسلم.
وان أبا طالب رضي الله عنه قد وفر لهم ملجأ يلتجئون إليه وهو الحي الذي كان له، المعروف ب (شعب أبي طالب).
وعندما نأتي إلى داخل هذا الملجأ لنرى كيف يعمل شيخ الأبطح في الذود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإننا لا نملك إلاّ أن نقف وقفة إجلال وإكبار وإعظام لهذا الرجل البار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 56
إذ كان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد المكر به واغتياله، فإذا نوّم الناس أمر أحد بنيه، أو أخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي فرشهم فينام عليه(1).
ومن خلال هذا الموقف المتكرر لمدة ثلاث سنوات بلياليها البالغة «1080» ليلة نحن نسأل: هل هناك مسلم قدم أولاده قرابين يفدي بهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا العدد من المرات ؟ بل هل هناك من قدم ولده فداءً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو لمرة واحدة فيضعه في الموضع الذي يعرضه للقتل فيما لو أراد المشركون أو المنافقون اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كما كان يفعل أبو طالب رضي الله عنه.
فأي إيمان كان يملكه هذا الصدّيق وأي عقيدة راسخة كان يمتاز بها أبو طالب وأي حب لله ولرسوله كان قد فاق كل حب له في الحياة فكان أصدق صورة لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين»(2).
ص: 57
فها هو أبو طالب رضي الله عنه صورة ناطقة فعلاً وقولاً عن حبه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين.
وهذا الرصيد الكبير الضخم من الحب لله ولرسوله مكنه من تحمل الويلات التي أنزلها به قومه، ومكنه أيضاً من التحمل على ما نزل ببني هاشم وهم يتضورون من الجوع والعطش وقسوة الطبيعة التي تمتاز بها مكة من الحر الشديد في الصيف ولهيب الرياح الحاملة للرمال وبرد الشتاء.
ترى كيف صبر على جميع ذلك وهو يسمع بكاء الأطفال وصراخهم ودموع الناس وذبول شفاههم ؟!
كل هذا كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما رآه أبوطالب وعاشته خديجة عليها السلام مع ابنتها الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام فهي قد شهدت وعاشت كل هذه المعاناة التي عاشها بنو هاشم في شعب أبي طالب خلال ثلاث سنوات.
فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني قصي، ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه وبعث الله عز وجل على صحيفتهم الأرضة(1) فلحست كل
ص: 58
ما كان فيها من عهد وميثاق.
ويقال انها كانت معلقة في سقف البيت، ولم تترك اسماً لله عز وجل إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم واطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب:
لا والثواقب ما كذبني.
فانطلق يمشي بعصابة من بني عبدالمطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش فلما رأوهم عامدين لجماعتهم، أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فتكلم أبو طالب فقال:
قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فاتوا صحيفتكم التي تعاهدتم عليها فلعله ان يكون بيننا وبينكم صلح.
وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل ان يأتوا بها فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفوع إليهم فوضعوها بينهم وقالوا قد آن لكم ان تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجلٌ واحد جعلتموه خطراً لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم فقال أبو طالب:
إنما أتيتكم لأعطيكم أمراً لكم فيه نصف ان ابن أخي أخبرني ولم يكذبني: ان الله عز وجل بريءٌ من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم حوله فيها وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم،
ص: 59
فان كان الحديث الذي قال باطلاً دفعناه فقتلتم أو استحييتم.
قالوا: قد رضينا بالذي يقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب، قالوا: والله! ان كان هذا قط الا سحراً من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين رهطه، والقيام بما تعاهدوا عليه، فقال أولئك النفر من بني عبدالمطلب: ان أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون ؟ فانا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس الله ما كان فيها من اسم وما كان من بغي تركه، أفنحن السحرة أم أنتم ؟. فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم منهم: أبو البختري والمُطْعم بن عدّى، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، وزمعة بن الأسود، وهشام بن عمرو وكانت الصحيفة عنده وهو من بني عامر بن لؤي في رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن برآء مما في هذه الصحيفة، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.
وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمتدح النفر الذين تبرأوا منها(1) وبعد هذه الحادثة خرجوا من الشعب فكانت تنتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصائب تنهد لها الجبال ؟!
قال أبو طالب رضوان الله عليه:
ص: 60
ألا أبلغا عنّي على ذات بيننا *** لؤيّا وخصّا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبيّاً كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبةً *** ولا خير ممن خصه الله بالحبّ
وان الذي ألصقتمُ من كتابكم *** لكم كائن نحساً كراغية السّقب
أفيقوا أفيقوا قبل ان يحفر الثرى *** ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا *** أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حرباً عواناً وربما *** أمر على من ذاقه جلب الحرب
فلسنا ورب البيت نسلم أحمداً *** لعزاء من عض الزمان ولا كرب(1)
بعد هذه المحنة التي عاشها بنو هاشم، التي استمرت ثلاث سنوات كانت فيها الليالي والأيام تمضي بألم كبير، وحزن بالغ ألمّ بالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو يرى المسلمين من بني عشيرته وأرحامه وغيرهم ممن لم يؤمنوا وهم يتضورون من الجوع، ويسمع صراخ الأطفال التي لم تجد في صدور أمهاتها لبناً تتغذى عليه فقد جف لبن الأمهات المرجفات، وانهكهن الجوع والعطش.
وفي الواقع اني لا أجد وصفاً يفي بتلك المحنة وأجوائها سوى الوقوف عند قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت»(2).
ص: 61
فأي نبي من الأنبياء حاصره قومه هو وأرحامه وعشيرته رجالاً ونساءً وأطفالاً، سواء كانوا ممن آمنوا به أم ممن لم يؤمنوا فالجميع قد نزل بهم الظلم، وشملهم سوط الحصار الذي اتخذته قريش ضد بني هاشم جميعاً باستثناء أبي لهب لأنه أحد طغاة الكفر.
ثم هل انتهى ألم رسول الله بعد هذه المحنة ؟! أم هل توقف قومه عن إيذائه بأشد أنواع الأذى ؟!
والجواب: لا.
لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يثنِهِ عن عزمه في إبلاغ رسالة ربه ظلم المشركين، ولا أذى الكافرين، فكلما ازدادوا في ظلمهم ازداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبراً وهمةً .
أما آلامه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو بأبي وأمي مازال يزداد ألماً يوماً بعد يوم.
فها هي أول المصائب التي تحل بالبيت النبوي التي فقد فيها أحد أهم ركائزه، وانهد فيها احد ركنيه ولا أدري بأيهما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم مصاباً أبفقده لأبي طالب عليه السلام أم بفقده لأم ابنته فاطمة عليهما السلام ؟!
ص: 62
فأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد وجد على خديجة عليها السلام حتى خشي(1) عليه من الهلاك.
وأما فاطمة عليها السلام فقد عصفت بها أول المصائب، ويا لها من مصيبة عظيمة قد ألّمت بها وعصرت قلبها!
فقد فقدت فيها فاطمة صورة الأم، فلم ترَ عينها بعد اليوم هذا الوجه الذي ينهدر منه شلال الرحمة، ولم تسمع فاطمة بعد اليوم هذا الصوت الذي يشدو بالحنان والطمأنينة، ولم تجد فاطمة عليها السلام بعد اليوم حجراً تضع رأسها فيه لتغفو مطمئنة بعد أن تداعب شعرها أنامل أمها خديجة عليها السلام، فقد رحلت عنها وتركتها وهي في أحوج ما تكون إلى وجودها معها وهي لم تتجاوز بعد السنة الخامسة من عمرها، فكل ما عاشته فاطمة عليها السلام مع أمها هي هذه السنوات الخمس التي لم تجد فاطمة مثل عذوبتها إلى ان رحلت إلى ربها ملتحقةً بأمها وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
فكانت هذه أول المصائب التي حلت بفاطمة عليها السلام ولكثرة ما سترى فاطمة من المصائب فقد كانت بحق: (أمّاً للمصائب) التي لا تنتهي إلا بساحة المحشر وهي حاملة معها ثياب مصبوغة بالدم فتقول:
أي رب أحكم بيني وبين من ظلمني(2).
ص: 63
أما أم المؤمنين السيدة الصديقة الطاهرة خديجة عليها السلام فقد انتقلت إلى ربها عز وجل مطمئنة مسرورة برحمة ربها بعد أن أبلت بلاءً حسناً وضربت أعلى مثل للزوجة المؤمنة التي وقفت بكل ما آتاها الله من قوة وطاقة بجانب النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
فلم تبخل بشيء ولم تقصر في حق، صابرة محتسبة، ثابتة، صلبة أمام طغاة قريش وصناديد الشرك حتى أدت الأمانة وبرت بحق هذا الزوج صلى الله عليه وآله وسلم، لا لشيء إلاّ ابتغاء رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
سنين انقضت من الجهد والجهاد، والتقوى، والمودة، والرحمة.
سنين كانت خمساً وعشرين(1) عاشتها مع خير خلق الله وأشرف مَنْ نطق وصمت من خلقه.
سنين عاشها رسول الله مع هذه الزوجة البارة المؤمنة هنيئاً مطمئناً، مسروراً بقربها، مستأنساً بصدقها.
هكذا كانت خديجة الكبرى. فهي الكبرى بفضلها على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر نساء الأمة ما عدا ابنتها فاطمة الزهراء عليها السلام فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
ص: 64
فهذا سبب تسميتها بالكبرى، إذ لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخت أو زوجة غيرها تحمل هذا الاسم لتكون الصغرى، وتكون خديجة عليها السلام هي الكبرى.
فكانت كذلك لأنها كبيرة الفضل عظيمة الشأن عند الله وعند رسوله والمؤمنين. وحفاظاً على هذه المنزلة لم يتزوج عليها طوال هذه السنين الخمس والعشرين.
بينما نراه صلى الله عليه وآله وسلم خلال ثلاث عشرة سنة تزوّج العديد من النساء.
وكفى بهذا دليلاً على عظم مكانتها في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولطالما صرّح بهذه المنزلة في مواقف عديدة، مما دعا بعائشة، أن تعترض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة ما كان يذكر خديجة لدرجة انها أغضبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضباً شديداً.
والحال ان من أغضب رسول الله فقد أغضب الله عز وجل، فتقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار، فذكرها ذات يوم فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن - وفي رواية - لقد أبدلك الله خيراً منها(1)، قالت: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضب غضباً أسقطت في جلدي، وقلت في نفسي: (اللهم انك إن أذهبت غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت فلما رأى النبي ما لقيت قال:
ص: 65
«كيف قلت ؟! - وفي قول - «والله ما أبدلني الله خير اًمنها»(1)، لقد آمنت بي وكفر بي الناس وآوتني إذ رفضني الناس وصدقتني إذ كذبني - الناس - ورزقني منها الولد إذ حرمتموه مني.
قالت فغدا وراح علي بها شهراً»(2).
أي إنه صلى الله عليه وآله وسلم: قد هجرها شهراً بسبب ما قالته في انتقاص الصديقة الطاهرة أم الزهراء خديجة عليها السلام.
وفي رواية أخرى أنها قالت: «ما غرت على امرأة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما غرت على خديجة، مما كنت أسمع من ذكره لها، وما تزوجني إلا بعد وفاتها بثلاث سنين، ولقد أمره ربه ان يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب وانه كان يذبح الشاة ويهدي منها لصدائق خديجة»(3).
وقد علق ابن حجر على هذه الرواية بقوله: قولها «ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم»، فيه ثبوت الغيرة، وان عائشة انها كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن كانت تغار من خديجة أكثر، وقد بينت ذلك، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة(4).
ص: 66
وهكذا نرى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع ذكرى خديجة حتى وصل به الأمر أن يجهر بحبها عليها السلام، بعد ان سئل عن سبب كثرة ذكرها فقال:
«قد رُزقت حبها»(1).
ومما لا يخفى على ذوي القلوب النيرة ان معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «قد رُزقت حبها» هو دليل على ان هذا الحب من الله عز وجل وان الله اثبته في قلب حبيبه المصطفى.
وعندما يثبت الله عز وجل حب إنسان في قلب حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم وانه تعالى اختار له هذا الحب فهذا فيه الرفعة والشأن العظيم الذي حازته الصديقة الطاهرة خديجة عند الله عز وجل.
وبسبب هذا الحب الكبير الذي كان يحمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة عليها السلام، فانه قد دخل عليه من الحزن الشديد والأسى البالغ والوحشة الكبيرة بعد وفاتها ما لا نظير له ؟ حتى خشي عليه(2)!
ص: 67
وحتى قالت العرب وسادات قريش: «ما رأينا رجل حزن على امرأة مثل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وقال بعضهم: (يحق له أن يحزن عليها للخصال التي ركبت فيها من عقلها وعفتها وطهارتها وأدبها وحسن ودادها فقال:
فقال رجل منهم يقال له (أبو عزيزة) يرثي خديجة - عليها السلام - وينشده ويقول:
ذرفت دموعك يبن عبد مناف *** زين الرجال وسيد الأشراف
يا ابن الأكابر من ذوابة هاشم *** وابن المعد لرحلة الإيلاف
المطعمون الطير في أوكارها *** والقائلون هلم للأضياف
رزي النبي بفقده لخديجة *** حتى تتابع دمعه بوكاف
ما في الأنام محافظ لقرينه *** الا الأمين وصاحب الإنصاف
يبكي خديجة دهره زين النسا *** ء الطاهرات جميلة الأوصاف
قال: فبلغت إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأعجبه ذلك وبعث إليه ببردة ودراهم كرامة له على أبياته. وتحدّث أهل مكة بحديثه(1).
فهذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا القدر كان حزنه على خديجة عليها السلام، وظل دائم الذكر لها في مناسبة وفي غيرها.
وتجلس فاطمة عليها السلام يوماً تحدث أباها صلى الله عليه وآله وسلم وتسأله عن أمها خديجة أين هي ؟!
ص: 68
فيجيب قائلاً:
«انها في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب بين مريم وآسية».
قالت:
«من هذا القصب»؟.
قال:
لا بل من القصب المنظوم بالدرّ واللؤلؤ والياقوت(1).
وقد اقرأها الله السلام، وكذلك جبرائيل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.
ثم يُحدث صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته وأصحابه عن فضل هذه الزوجة البارة، والمرأة القانتة الراكعة الساجدة فيقول:
«خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد»(2).
ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «خير نسائها»، أي: خير نساء أهل الدنيا.
وكيف لا تكون كذلك بعد أن وقفت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل صدق وإخلاص ومنذ اللحظة الأولى فهي أول من آمن به على المشهور عند أهل القبلة، وانه صلى الله عليه وآله وسلم نُبّئ يوم الاثنين فصلت
ص: 69
آخر ذلك اليوم(1).
فكانت بذلك وكما أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أحد النساء اللواتي جعلن خير نساء العالمين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«خير نساء العالمين أربع، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة»(2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم معرفاً للعالم منزلتها في الجنة قائلاً:
«أفضل نساء أهل الجنة، خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(3).
وفي لفظ آخر:
«سيدة نساء أهل الجنة، مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(4).
فهكذا كانت أم المؤمنين خديجة عليها السلام وهكذا نالت من الخير الوفير، والمنزلة العظيمة والشأن الرفيع، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلّها كل هذا الإجلال ويكن لها كل هذا الحب.
فكان لها كما كانت له رحيماً، ودوداً، محباً مؤنساً، ومخففاً لألمها وهمومها، فيدخل عليها وهي في مرضها الذي توفيت فيه - يجلس عندها - فيقول:
ص: 70
«بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت ان الله قد زوّجني معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون.
قالت:
وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟!
قال:
نعم.
قالت:
بالرفاء والبنين(1).
وهذا الحوار يكشف لنا عن مدى الارتباط الوثيق بينهما، ويدل على الطاعة المطلقة التي تمتاز بها خديجة والحب الحقيقي.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «قد زوجني الله معك في الجنة...» أراد فيه أمرين:
1. تبشيرها بأنها زوجته صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة.
2. ملاطفتها ومزاحها وهي في وضع تحتاج فيه إلى الملاطفة لكي يخفف عليها هموم المرض وهذا فيه من الآثار الكبيرة على نفسية الزوجة وبخاصةٍ في حالات الضعف والمرض.
وأما قولها عليها السلام: «وقد فعل الله ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وآله
ص: 71
وسلم»؟!.
فانه كاشف عما يأتي:
1. أدبها البالغ في الحديث واحترامها اللامتناهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلى الرغم من عدم قبول فكرة وجود ضرة وزوجة أخرى في حياة كل امرأة إلاّ انها عليها السلام استفسرت عن جدية الأمر بمنتهى الأدب فلم تقل له باسمه الصريح إنما قالت: يا رسول الله.
2. أظهرت في هذا القول البليغ معنىً في منتهى الجمال كما يكشف في نفس الوقت عن ثقتها الكبيرة بحب رسول الله لها وانه صلى الله عليه وآله وسلم انما تزوج من مريم وكلثم وآسية تنفيذاً لأمر الله، إذ لم يكن الأمر من قبله صلى الله عليه وآله وسلم فهو بأبي وأمي لم يجد هناك بديلاً عن حبها حتى بعد وفاتها عليها السلام فقد أعرض عن الزواج لمدّة من الزمن.
إذن فزواجه صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة من مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى، وآسية بنت مزاحم إنما كان من الله عز وجل، ولذا قالت عليها السلام:
«وقد فعل الله ذلك يا رسول الله»؟!
قال:
«نعم».
فقالت:
«بالرفاء والبنين».
ص: 72
وهذا يدل على إيمانها الراسخ بالله عز وجل ويكشف عن صلابة يقينها؛ إذ إن قبولها بالأمر وتسليمها به لأنه من الله، ودعاءها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ب «الرفاء والبنين» غاية في الرضا والتسليم بقضاء الله عز وجل مع الحب البالغ لزوجها حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم لم يمد بها المرض كثيراً فقد قيل انها بقيت بعد وفاة أبي طالب ثلاثة أيام(1)، قيل بل أكثر من ذلك(2)، وقد اختلف ايهما كانت وفاته قبل الآخر.
وليس مهماً أيهما كانت وفاته قبل الآخر عليهما السلام، إذ المهم إنهما ماتا في عام واحد بعد خروجهما وبني هاشم من الشعب وانّ الفاصل بينهما أيام معدودة لا تقل عن ثلاثة أيام ولا تزيد عن أربعين يوماً.
ولشدة المصاب الذي نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد سمى هذا العام بعام الحزن(3).
وقد قيل إنّ قريشاً هي التي سمت هذا العام بعام الحزن، والمراد من ذلك تضييع ما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الألم الشديد لفراقهما، وهذا أولاً.
وثانياً: التقليل من مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن نسأل أولئك الذين نسبوا القول إلى قريش دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 73
أو كانت قريش بكفارها ومشركيها تسمي العام الذي توفي فيه عدوها والشوكة التي في أعينها بعام الحزن ؟ فعلى أي شيء حزنت، لموت أبي طالب أم على ضياع عشر سنوات من عمرها وهي تحاول مراراً الوصول إلى رسول الله وقتله ؟
وفي نفس الخصوص نجد ان أحد الكتاب يسمي العام الذي توفي فيه أبو طالب وخديجة عليهما السلام ب (عام المنحة) وليس (المحنة)! وان الذي سمى «عام الحزن» هم بعض العلماء(1).
ونحن نسأل أيضاً: من هؤلاء العلماء؟ فان كانوا من علماء السنة فهم لا يؤمنون بأن أبا طالب مات مسلماً فكيف يسمون عام وفاته عام الحزن ؟ وكيف يمكن رفع التعارض بين القولين ؟! كيف انه مات على غير الإسلام، وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزن عليه حزناً شديداً؟ وإذ كانوا علماء الشيعة: فهم لم يقولوا ذلك، وليس هذا رأيهم لأنهم يعتقدون انه عام حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاجتماع مصيبتين عليه في هذا العام.
فكان موت أبي طالب بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة عظمى فلذا هو الذي سماه بعام الحزن.
أضف إلى ذلك ان علماء الشيعة: تؤمن ان أبا طالب ليس فقط انه كان مؤمناً بالله وبرسوله بل انه من خواص سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أحد أولياء الله عز وجل لما بذله في حماية الإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وسنورد إن شاء الله في الفصل اللاحق منزلة أبي طالب عليه السلام وانه ثالث من أسلم بعد ولده علي عليه السلام وأم المؤمنين خديجة.
ص: 74
وجاء اليوم الذي لا مفر منه فقد حان وقت رحيل هذه الزوجة العظيمة إلى عالم الآخرة لتستقر هانئة مطمئنة في جوار ربها.
بينما هي في هذه الحالة أخذت توصي ابنتها الوحيدة وقرة عينها فاطمة بوصايا عديدة أول هذه الوصايا هو الاهتمام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبقَ للنبي من يقوم برعايته والاهتمام به، ولاسيما ان أبا طالب قد فارق الحياة مما جعلها تضطرب عليه كثيراً.
وأما الوصية الثانية فكانت على هيأة طلب وحاجة في نفسها كلما أرادت أن تحدث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان الحياء يقف حائلاً بينها وبين ما تريده من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلذا وجدت عليها السلام ان خير وسيلة لقضاء هذه الحاجة التي عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي ان تأتي إليه من خلال الباب الذي لا يرد أحدٌ وقف خلفه، هذا الباب هو قرة عينه وروحه وقلبه وبضعته فاطمة عليها السلام فأم المؤمنين خديجة تعلم ماذا تعني فاطمة لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالت لها: بنية فاطمة إذ اما قضيت نحبي فقولي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يلفني بالدثار الذي غطيته به عندما هبط عليه الوحي(1)، وفي قول إنها طلبت أن يلف بدنها بأحد أثواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 75
فلما توفيت قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتنفيذ وصاياها فغسلها وجهزها وقام يسير مع نعشها فلما وصلوا إلى الحجون وحفروا لها القبر قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزل في قبرها(1)، ودفنت بالحجون بعد أن صلى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل لم يصلِ لان الصلاة على الجنائز لم تسن بعد، فيما الأرجح أنه صلى عليها للرواية الواردة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام(2).
ودخل من الحزن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ليس له مثيل، حتى خشي عليه ولزم بيته وأقل الخروج(3)، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فكانت السنة العاشرة من البعثة هي السنة الذي توالت فيها مصيبتان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المصيبة الأولى وفاة خديجة والمصيبة الثانية وفاة أبي طالب(4) عليه السلام.
وكان اليوم العاشر(5) من رمضان هو يوم العزاء الذي تحيي ذكراه شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم في ذلك إنما يعزون رسول الله صلى الله عليه
ص: 76
وآله وسلم وعترته اعترافاً منهم بمعرفة قدر أم المؤمنين خديجة(1) فعن سلمان المحمدي قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده جماعة من أصحابه وأهل بيته، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
من عرف قدر خديجة فقد عرف قدري، ومن أهان قدرها فقد أهان قدري(2).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
من أراد هوان خديجة فقد أهان الله تعالى(3).
وفي رثائها يقول السيد عبد الله ابن السيد إبراهيم الميرغني:
وقد كتب في مناقب أم المؤمنين عليها السلام كتابه بعنوان «المقاصد الفخرى في بعض مناقب السيدة خديجة الكبرى(4) وقد كتبه في جمادى الثانية سنة 1179 ه في المدينة المنورة بمسكنه.
وقد افتتح كتابه هذا بهذه الأبيات متوسلاً بآل الكساء - عليهم السلام -:
بأحمد والبتول وصنو طه *** وبالحسنين أصحاب الكساء
توسل مستغيثٌاً مستجيراً *** وبالأحباب ثم أولي العباء
أما قصيدته فكانت في آخر الكتاب وسبقها بقوله:
ص: 77
وهذا آخر الكلام على المقاصد الفخرى في بعض مناقب السيدة خديجة الكبرى نفعنا الله بها في الدنيا والآخرة وقد ألحقتها أبياتاً متوسلاً بجيرانها عليها ومستغيثاً بها إليها وهي:
أيا عبر الحجون وخير وادٍ *** تقدس سرمداً أبد الدهور
حويتم للمكارم والمعالي *** وفزتم بالجنان وبالقصور
وحزتم محشد الشرف المعلى *** وفقتم بالاصايل والبكور
رقيتم خير مرقى بالمعلى *** إلى كبرى النساء وخير حور
فطوبى ثم طوبى ثم طوبى *** لكم يا أهل هاتيك الخدور
ولم لا والخديجة زوج طه *** حبيبته على مرّ العصور
هي السلطانة العظمى لديكم *** وهي مجد وهي بحر البحور
وهي السند العظيم لخير آل *** ومرجع آل مكة في الأمور
فيا عرب الحجون بكم إليها *** فانى بالتطاول في القصور
وإني في بحار من ذنوب *** بلاعد ولا حصر حصور
وها أنا في حماكم مستجير *** أراقب نجدة من ذي القبور
ومن كبرى الأنام وخير ملجا *** ومن هي في العلى صدر الصدور
ومن قد غارت الغرّاء منها *** وزادت في التغاير والغيور
ومن قد بشرت حقاً وصدقاً *** ببيت من لآل في القصور
ومن هي آمنت قبل البرايا *** وثبتت الرسول على الظهور
ومن هي أثمرت أقطاب كون *** وانجاجا وأبدالا بنور
واشرافاً وسادات كراماً *** غياثاً للأنام مدى الدهور
عليها من إلهي خير فيض *** يدوم مع الشمول بلا فتور
مع الآل الكرام وخير صحب *** عقيب خليلهم حب الشكور
ص: 78
بعد رحيل أم المؤمنين خديجة عليها السلام إلى الآخرة ولحوق أبي طالب عليه السلام بها بعد ثلاثة أيام، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصبح وحيداً غريباً لا ناصر له ولا معين سوى الله عز وجل فقد هُد ركناه اللذان كان يستند إليهما في تبليغ رسالة ربه عز وجل.
وفي هذه الظروف الجديدة، واشتداد الأمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وازدياد الخطر الذي يحيط به من كل جانب فإن البضعة النبوية فاطمة عليها السلام لم تجلس مكتوفة اليدين وهي ترى أعداء الله يسومون المسلمين أشد أنواع العذاب، وتسمع وترى آلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ينزل بهم.
وكانت فاطمة عليها السلام وهي في هذه العمر البالغ خمس سنوات تعيش حالة الشعور بالمسؤولية المترتبة عليها بعد رحيل أمها وعم أبيها، أبي طالب إزاء أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، هذا الشعور جعلها تبحث عن طريقة ما تمكنها من الدفاع عن النبوة وتحمي أباها بعد غياب أبي طالب عليه السلام.
ص: 79
والذي يبدو لي من خلال سياق الأحداث التي ذكرها التاريخ انها عليها السلام كانت تتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج تراقبه وهي عازمة على فدائه بنفسها فيما لو حاول أحد المشركين التعرض له.
وهي مع ذاك كانت تخرج إلى بيت الله الحرام تطوف بالبيت وتدعو الله أن يحفظ لها أباها صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه هي حقيقة حال فاطمة عليها السلام بعد رحيل أمها وأبي طالب عليهما السلام. ومما يدل على هذه الحقيقة هو ما يأتي:
أخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس، عن فاطمة - عليها السلام - قالت:
«اجتمع مشركو قريش في الحجر فقالوا إذا مرّ محمد عليهم ضربه كل واحد منا ضربةً فسمعتهم، فدخلت على أبيها فذكرت ذلك له.
فقال: يا بنية اسكني، ثم خرج فدخل عليهم المسجد فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا فأخذ قبضة من ترابٍ فرمى بها نحوهم. ثم قال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم إلا قتل يوم بدر كافراً»(1).
وفي رواية أخرى: أنها عليها السلام أقبلت تبكي، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت:
ص: 80
«هذا الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك فما منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك».
قال:
«يا بنيّة أريني وضوءا».
فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد؛ فلما رأوه قالوا ها هوذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه منهم رجل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب، فقال:
«شاهت الوجوه ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا»(1).
وهذه الحادثة تشير إلى النقاط التالية:
1. شدة تعلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفاطمة عليها السلام فهو - بأبي وأمي - لم يستطع أن يرى هذا الفزع والخوف الذي أدخله مشركو قريش على قلب البضعة النبوية عندما سمعتهم يريدون قتل أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
2. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا بنيّة اسكني» يريد أن يَهَدِّئُ من روعها ويسكن فؤادها الذي اضطرب لما سمعته من قريش، أي أراد حلول السكينة عليها.
ص: 81
3. خروجه صلى الله عليه وآله وسلم إليهم ودعاؤه عليهم كان لما تسببوه من أذى لفاطمة عليها السلام وليس لكونهم تآمروا على قتله لأن هذا ديدنهم منذ أن بعث نبيا صلى الله عليه وآله وسلم فكم من مرة ومرة أراد مشركو مكة القضاء عليه، وكم من مرة ومرة يسمعهم يتآمرون عليه، لكن كان يقابلهم بالصفح بل إنه يدعو لهم بالهداية كما اشتهر عنه بأبي وأمي وهو يقول:
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(1).
وفي لفظ آخر:
«أللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون»(2).
لكن عندما وصل الأمر إلى إيذاء فاطمة، وإدخال الفزع على قلبها فهذا ما لم يحتمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج ودعا عليهم.
4. أصل الخروج فيه غايتان، الأولى: لتسكين روع فاطمة عليها السلام من خلال هذا الخروج المسبوق بالوضوء.
والغاية الثانية: لكي لا يتجرأ هؤلاء الأوباش مرة أخرى من أن يسمعوا فاطمة كلاماً يؤذيها؟
ولا أدري ما هو حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يراها مكسورة الضلع محمرة العين من الضرب، منهوبة الإرث ؟!
فإنا لله وإنا إليه راجعون
ص: 82
بعد هذه الحادثة يزداد يقين فاطمة عليها السلام بخطورة الوضع الذي يعيشه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن هؤلاء الأوباش عازمون على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتراها بين الدعاء إلى الله جل جلاله بنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين متابعته بنفسها.
ويتجدد الأمر مرة أخرى ويقومون بإنزال الأذى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،؟ لكن هذه المرة كان الألم فيها كبيرا على فاطمة عليها السلام كما كان الأذى كبيرا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فبينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم فيهم أبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم - وهو عقبة بن أبي معيط - فجاء فنظر حتى إذا سجد النبي وضعه على ظهره بين كتفيه - فلم يرفع النبي رأسه -(1) وثبت ساجداً.
فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام - وهي جويرية - فأقبلت تسعى، وثبت النبي ساجدا حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم (تسبهم)؟(2).
ص: 83
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة قال:
«اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش».
فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال:
«اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد»(1).
قال عبد الله:
فو الله لقد رأيتهم صرعوا يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«واتبع أصحاب القليب لعنة»(2).
وكانوا قد ألقوا جميعا في بئر غير أمية بن خلف كان رجلا بادنا فتقطع قبل أن يبلغ به البئر(3).
وقبل الدخول في نقاط البحث فإن هذه الحادثة لهي أشدّ ما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشدتها لا تكمن فيما ألقي عليه من السلاة، بل لأن ذلك روّع فاطمة وآذاها أشد الأذى وهي تنظر إليه وقد صنع به القوم ذلك وهم يضحكون بشكل مفرط حتى مال بعضهم على بعض كما وصفتهم الرواية.
ص: 84
وهذا المنظر أشدّ ألماً في النفس فيما لو قيس بالألم الجسدي فطالما كانوا يتبعونه صلى الله عليه وآله وسلم ويرمونه بالحجارة، ولطالما كانت فاطمة ترى الحجارة تنهال منهم على أبيها حتى عند دخوله البيت، فمازال الموضع الذي كانت تسقط فيه حجارة المشركين وهم يرمون بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معروفا باسم «المختبئ»(1) وهو ملاصق لقبة الوحي وقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يختبئ من الحجارة التي يرميه بها المشركون.
وهذا اللفظ الأخير من الرواية لا يتناسب مع سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ إنه لم يكن يهرب من حجارة قريش ولم يظهر آلاما وهي تتساقط عليه وما شكا أو دعا عليهم وهم يصنعون به ذلك.
فكيف يمكن أن يختبِئ من حجارتهم كما يصفه الحافظ أبو الطيب الفاسي المكي(2) وهو نبيٌ يلاحظ فيه آثار النبوة من القدرة البالغة على تحمل الأذى والصبر الكبير عليها مع إظهار التسامح لهم وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم:
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(3).
وقريش كانت تعي بعمق أن هذه مظاهر النبوة كما قالوا لعلي بن أبي طالب
ص: 85
عليه السلام عندما نام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذوا يرمونه بالحجارة في الليل إلى الصباح لعله يقوم فيخرج لينهالوا عليه بسيوفهم فلما يئسوا منه عزموا على دخول البيت وعندما كشفوا عنه الملاءة، قالوا:
إنك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور، ولقد استنكرناه منك(1).
أي لا يظهر لهم ألمه لما ينزل له صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه فإن الذي يختبئ هو: (الحجارة) وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الأمر هو الأرجح للأسباب التالية:
1. إن اختباء الحجارة بعد أن تصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه دلالة وآية على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
2. إن ذلك يترك أثرا في نفس من تطاوعه نفسه أن يحمل حجرا فيرمي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينظر إلى ذلك الحجر وقد اختفى وعندها إما أن يدخل عليه الخوف فلا يعاود الكرة، وأما أن يكون ذلك أحد العلائم والظواهر التي تجعله يتأمل في هذا الأمر ليصل في النهاية إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3. وفي الغالب أن الحامل لهذه الحجارة أقصى ما يمكن حمله في يديه حجران فإذا رمى بها واختفت ترك الأمر وذهب فإما أن يذهب ليبحث عن حجارة، وإما
ص: 86
أن يكتفي بما في يديه، وفي النتيجة أن الله تعالى يدفع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذى ويرشد من كان في قلبه خيرٌ فيشرح قلبه للإسلام.
ومن هنا:
فإن أشد ما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو هذه الحادثة التي وضع فيها عقبة بن أبي معيط السلاة على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكما قلنا فإن السبب في ألم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ترويعهم فاطمة عليها السلام لما رأت ما صنعوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بأبي وأمي يسمعها تدعو عليهم(1) فكان دعاؤه لدعاء فاطمة عليها السلام وما كان دعاؤها إلا لشدة الألم الذي نزل بها وهي ترى السلاة على ظهر أبيها وهو ساجد لله عز وجل.
ص: 87
قلنا قبل قليل أن أشد ما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو حادثة رمي السلاة على كتفيه، لكن البعض أراد تغيير الحقائق، لأجل تسجيل موقف لأحد الشخصيات الإسلامية هذا من جانب، ومن جانب آخر للتعتيم على دور فاطمة عليها السلام في حماية أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ودفاعها عن النبوة.
فقد أخرج البخاري حديثا: عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو ابن العاص، قال: قلت: «حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عند الكعبة فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم»(1).
ص: 88
1. أما بالنسبة لسند الحديث فهو عند البخاري وغيره صحيح لانطباق الشروط التي وضعها البخاري في صحة الأحاديث التي أخرجها في كتابه الذي أسماه ب (الصحيح).
ونحن لا نأخذ بهذه الشروط والقيود التي وضعها البخاري والسبب في ذلك أننا نخضع للشروط والقيود التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فليس من المنطق والعقل ترك كلام خير خلق الله ونحن ندين بدينه ونسير بهديه ونتمسك بكلام البخاري ونقدمه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى هذا الأساس نأتي لدراسة السند وننظر في صورة هؤلاء الرواة الذين أخرج لهم البخاري في (صحيحه) وفق الشروط التي وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي القرآن والعترة.
فالراوي الذي روى هذه الحادثة التي عدّها هو (أشد ما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أيدي المشركين) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص.
وهذا الرجل قد سجل له التأريخ موقفا يكشف عن حقيقة إيمانه وصدقه، هذا الموقف هو اشتراكه في معركة صفين مع أبيه يقاتلان جنباً إلى جنب لنصرة معاوية بن أبي سفيان الذي جهز الجيوش وخرج لقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ولم يترك معاوية حتى دخل معه الكوفة(1).
وبهذا الموقف يكون قد حارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله:
ص: 89
«من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله»(1).
وهو بهذا الفعل يكون منافقا لبغضه علي بن أبي طالب عليه السلام لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»(2).
ولا يجتمع عند عاقل الحب والبغض في آن واحد فإما حب وإما بغض، وعليه فلا حجة لمنافق على مؤمن، ولا يجوز الأخذ بحديثه.
2. أما من حيث المتن فإنه يتعارض مع النبوة ودلائلها وخواصها وصفاتها.
والسبب في ذلك:
أنه يصور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحالة من الضعف بحيث لا يقدر على دفع هذا المشرك (عقبة بن أبي معيط) عن نفسه، وظل مسلما عنقه لهذا الكافر المشرك حتى انتظر من يأتي لنجدته فجاء أبو بكر فدفعه عنه! ونحن نسأل:
هل من الإنصاف قبل الإيمان وما يلزم به المؤمن بنبذ مثل هذه السخافات أن يصوّر خاتم الأنبياء بهذا القدر من الضعف وبهذه الصورة التي تجعله أشبه ما يكون بالعاجز عن دفع القتل عن نفسه وهو الذي أعطاه الله قوة أربعين
ص: 90
رجلا(1)، وهو الليث الذي لا يقف بوجهه شيء، وهو موضع غيث الناس وملاذهم، وهو الذي يلوذ به المسلمون إذا اشتبكت الأسنة، كما يصفه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قائلا:
كنا إذا اشتد بنا الوطيس لذنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2).
وهو مع هذا كله كان جبرائيل عليه السلام محاميا له دافعاً عنه ما يتآمر عليه المشركون، ولقد ذكرت مصادر السيرة والتاريخ أن أبا جهل عندما عزم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحمل حجرا وأراد ضرب النبي كان جبرائيل عليه السلام له بالمرصاد فتمثل له بهيأة جمل عظيم الخلقة، فلم يستطع أن يتقدم ويرمي الحجر من يده(3).
وفي مرة أخرى قال: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل ما يمنعك ؟ قال: قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب.
قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه(4).
فلماذا يا ترى يترك من هو أشقى القوم يخنق النبي صلى الله عليه وآله وسلم خنقا شديدا كما يصفه الراوي دون أن يمنعه جبرائيل، ويخلي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأن الأمر محصور فقط بأبي جهل يترصد له جبرائيل عليه السلام ؟!
ص: 91
ولعل السبب في ذلك هو أن عبد الله بن عمرو بن العاص قد حكى الحادثة الأولى في زمن ما ثم مضى على كلامه مدّة طويلة من الزمن فعاد يحدث بالحادثة مرة ثانية فلا يعلم هو نفسه أي الصورتين هي الأصدق! فالتبس عليه الأمر فحكاها بشكلين مختلفين!.
وأما الصورة الثانية لهذه الحادثة التي يرويها عبد الله بن عمرو بن العاص فكانت بهذا الشكل:
عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: «ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كانت تظهره من عدوانه ؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: ما رأينا مثل ما صرنا عليه من هذا الرجل قط: سفه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، وصبرنا منه على أمرٍ عظيم أو كما قالوا فبينما هم في ذلك طلع رسول الله فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمضى فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه، فمضى ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال:
«أتسمعون يا معشر قريش: اما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح»؟!.
فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجلٍ إلا وكأنما على رأسه طائر
ص: 92
واقع، حتى ان أشدهم فيه وصاة(1)، قبل ذلك ليرفؤه(2) أحسن ما يجد من القول حتى انه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً فما أنت بجهولٍ .
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال: بعضهم لبعض. ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينا هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
نعم أنا الذي أقول ذلك.
فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه وقام أبو بكر الصديق يبكي دونه ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، ثم انصرفوا عنه وإن ذلك لأكثر ما رأيت قريشاً بلغت منه قط(3).
وفي هذا الحديث:
انه صلى الله عليه وآله وسلم أوعدهم بالذبح وهو القتل في مثل تلك الحال ثم صدق الله تعالى قوله بعد ذلك بزمان فقطع دابرهم، وكفى المسلمين شرهم(4).
وفي رواية أخرى: (أن أبا بكر ألزمه من ورائه ثم قال: أتقتلون رجلاً أن يقول
ص: 93
ربي الله وقد جاءكم بالبيات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وان يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ان الله لا يهدي من هو مسرف كذاب»، الآية ؟!(1).
قوله: (لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر).
هذا اللفظ يراد به الاطراء على هذه المجموعة التي اجتمعت لإنزال الأذى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل فيها ميل للجاهلية وأمجادها.
ثم من أين لأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف، وعتبة بن شيبة، والوليد بن عتبة وأشباههم، بالشرف وهم أوباش قريش وفجارها، وهم أهل الخمر والزنا ومعقل الرذائل ؟! لكن السبب الذي جعل عبدالله بن عمرو بن العاص يصفهم ب «الشرف» لأنه كان معهم كما صرح به في الرواية، فلا يروق له ان يصفهم بغير هذه الصفة وهو أحد أفراد هذه المجموعة.
قوله: (غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ثم أعادوا الغمز بالقول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرتين فأجابهم صلى الله عليه وآله وسلم -:
«أتسمعون يا معشر قريش: أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح»(2)؟!.
ص: 94
فقبل الولوج في بحث هذا القول الذي أخرجه أحمد وغيره فإنا نقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، من عظيم قولٍ يُتهم به خير خلق الله وصاحب خير شريعة أخرجت للناس.
فأحمد بن حنبل ينقل وعبدالله بن عمرو بن العاص يروي قائلاً: (- ان النبي يقول لمعشر قريش -: لقد جئتكم بالذبح»؟!.
والقرآن يقول لهما ولغيرهما:
(لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ )(1) .
والعجب كل العجب أن يقول لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أتسمعون يا معشر قريش: أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح»؟!
وأبو بكر يقول لهم:
(أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) ؟!(2).
أينطق أبو بكر بالقرآن فيبين للناس ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والنبي يقول خلاف قول القرآن، فيقول: جئتكم بالذبح! فأرسل الله نبيه بالذبح والسلخ أم أرسله رحمة للعالمين ؟!(3).
ص: 95
أجاء النبي بالقرآن والهدى والنور أم جاء بالذبح ؟! وهو يقسم على ذلك ويعيده عليهم باليوم التالي ؟!. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله: «فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم».
هذا القول الذي يعترف فيه عبد الله بن عمرو بن العاص (أنه كان معهم).
شاهدٌ على جرمه واشتراكه معهم في إنزال الأذى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى قوله -: (وإن ذلك لأكثر ما رأيت قريشاً بلغت منه قط». فكان هذا الفعل منه ومن العصابة التي كان معهم أبلغ ما أصابت به قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا اعترافه هو سيد الأدلة على جرمه.
ولعل قائلاً يقول: إن الإسلام يجبُّ ما قبله.
قلنا: وإن يك هذا الأمر صحيحاً - أي - ان الإسلام يجبُّ ما قبله لكن أوردنا اعترافه الذي ينص على أنه معهم ليس لمعاقبته إنما أوردناه لكي نقول: إنه كاذب لم يكن معهم ولم يشهد هذه الحادثة لأنها لم تقع أصلاً إنما هي مما نسجه خيال أبيه عمرو ابن العاص المنافق المشهور بحربه لله ورسوله(1) لأجل تسجيل موقف لأبي بكر بأنه كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأجل كسب رضا معاوية
ص: 96
بن أبي سفيان الذي مال معه يدبر له أمر حربه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(1) عليه السلام. ولا حباً بأبي بكر فهؤلاء حبهم وولاؤهم للدينار والدرهم.
والدليل على أنه كاذب ولم يكن قد رأى هذه الحادثة هو ما يلي:
1 - ذكر البخاري في ترجمة (عبد الله بن عمرو بن العاص): انه مات وهو ابن اثنين وسبعين عاماً(2)، وذكر ابن حجر العسقلاني انه مات في سنة (سبع وسبعين)(3) للهجرة النبوية، وعليه: تكون ولادة (عبد الله بن عمرو بن العاص) سنة (خمس) من الهجرة النبوية ؟!
فمتى شهد حادثة اجتماع «أشراف»؟ قريش عند الحجر وهو يقول: «وأنا معهم» وهو ولد سنة خمس هجرية.
وإذا ذهبنا إلى قول البخاري في سنة وفاته وهي «تسع وستون»(4) للهجرة فان ولادته تكون سنة عشر من البعثة وبهذا يكون شهوده لهذه الحادثة من ضروب الخيال.
فقوله: (وأنا معهم) وقوله: (فغمزوه فعرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) يفيد بأنه كبير السن يميز بحيث عرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 97
فكيف لطفل عمره سنتان يشترك مع أشراف قريش فيتآمرون على انزال القتل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يلاحظ آثار التغيير في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.؟! ألم يخشَ (أشراف قريش) من وجود طفل معهم يسمع تآمرهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بان يذهب فيشي بهم.
فأي أشرافٍ هؤلاء الذين يجلسون طفلاً معهم وهم يدبرون أمراً عظيماً؟!
قول عبدالله بن مسعود: (فانطلق إنسان فأخبر فاطمة - عليها السلام - فجاءت وهي جويرية فطرحت عنه ثم أقبلت عليهم تسبّهم فلما قضى النبي صلاته رفع صوته...).
هذا القول فيه من البحث ما يأتي:
1. قوله: «فانطلق إنسان فأخبر فاطمة - عليها السلام -» لا يصح لأنه لم يصرح بهوية هذا الإنسان وقد توقف عنده ابن حجر فقال: لعلّه عبدالله بن مسعود»(1).
وهذا لا يمكن لأنه لو كان هو الذي ذهب يخبر فاطمة عليها السلام لقال: فذهبت وأخبرت فاطمة عليها السلام، لكن قوله كان واضحاً وصريحاً بأنه لم يذهب، إنما الذي ذهب إلى فاطمة شخص آخر، ثم أن يكون هناك شخص قد ذهب إلى فاطمة ليخبرها لا يصح أصلاً.
لأنه لا يعقل أن يظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساجداً والسلاة على
ص: 98
كتفيه والقوم يتمايلون من الضحك هذه المدة الطويلة من الزمن من ذهاب هذا الإنسان إلى بيت خديجة عليها السلام واخباره فاطمة ومجيئها والنبي على هذه الحالة.
ثم من يكون هذا الإنسان الذي أخذته الحمية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان كان مسلماً لعرفه ابن مسعود وان كان كافراً فهذا محال منه لأنه لا يقوم بمثل هذا الفعل كافر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عدوه.
وعليه: فان الصحيح في الحادثة هو: ان فاطمة عليها السلام كانت تتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من البيت تراقبه وتنظر إليه وهو يطوف بالبيت الحرام وهو يصلي فلما وقعت الحادثة جاءت إليه مسرعة ورفعت عنه السلاة التي وضعها أشقى القوم عقبة بن أبي معيط. فهذا أمر يتقبله العقل ويتناسب مع خوفها عليها السلام على أبيها، لاسيما قد سمعتهم في مرة سابقة انهم يريدون قتله صلى الله عليه وآله وسلم.
2. قوله: (ثم أقبلت عليهم تسبهم) لا يصح ومرفوض أصلاً؛ لأنه يخالف القرآن الذي أخبر بطهارتها من الرجس، وهو ما يتنافى أيضاً مع خلق فاطمة التي تخلقت بأخلاق أبيها وتأدبت بأدبه فضلاً عن ان المؤمن ليس بسباب.
والصحيح في الحادثة: «فجاءته فاطمة فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك» وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه والبيهقي في الدلائل وغيرهما(1).
ص: 99
وهو: عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، واسم أبي معيط: «أبان» واسم أبي عمرو بن أمية: «ذكوان».
وعليه يكون اسمه: عقبة بن أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس.
وكان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام بعد ان نافره هاشم جد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والمنافرة: المحاكمة في الحسب، ويقال: نافره فنفرّه ينفر بالضم غلبه فالمنفور المغلوب والنافر الغالب.
وسبب المنافرة هو انّ هاشماً جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج من ماله كل سنة للرفادة مالاً عظيماً، وكان أيسر قريش، وكانت قد انتقلت إليه الرفادة والسيادة في بيت الله، وكان يقف في أيام الحج فيقول: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته، وانه يأتيكم في موسكم هذا زوار الله تبارك ذكره يعظمون حرمة بيته وهم أضيافه وأحق الناس بالكرامة فأكرموا أضيافه زوار كعبته... الخ كلامه رحمه الله.
وكان أمية بن عبد شمس ذا مالٍ ، فتكلف ان يفعل كما فعل هاشم في إطعام قريش فعجز عن ذلك، فشمت به ناس من قريش وعابوه لتقصيره، فغضب ونافر هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق تُنْحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وهو جد عمرو بن الحمق الخزاعي - الصحابي الجليل وأحد رجال شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قتله جند معاوية وحملوا رأسه إلى الشام وهو أول رأس يحمل في الإسلام -(1).
ص: 100
وكنان منزل الكاهن الخزاعي في عُسفان(1) وكان مع أمية أبو همهمة بن عبد العزى الفهري وكانت ابنته عند أمية.
فقال الكاهن:
(والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر من منجدٍ وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر أول منها وآخر، وأبو همهمة بذاك خابر).
فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر وخرج أمية إلى الشام فأقام عشر سنين(2)، فوقع على أمة للخم يهودية من أهل صفورية، يقال لها: «ترنا» وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي فولدت له (ذكوان) فادعاه أمية - أي ان ذكوان هذا يكون ابن زنا من هذه اليهودية وهو جد «عقبة» ووالد «أبي معيط» - فاستلحقه أمية وكناه: «أبا عمرو» ثم قدم به مكة(3).
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعقبة يوم أمر بقتله عند الفراغ من بدر الكبرى، إذ قال عقبة: يا محمد، أتقتلني من بين أسارى قريش، صبراً، فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«حسن قدح ليس منها، إنما أنت يهودي من أهل صفورية»(4).
ص: 101
فقال عقبة: «يا محمد من للصبية ؟».
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«النار»(1).
والصبية هم:
«الوليد، وعمارة، وخالد، وهم أخوة عثمان بن عفان لأمِّه»(2). وهي أروى بنت كريز(3). كانت زوجة لعقبة بن أبي معيط «شيطان قريش وفاسقها»(4)، وقد أسلموا ثلاثتهم عام الفتح(5).
وباعتبار نظرية عدالة الصحابة التي أطلقها علماء الجماعة فان هؤلاء «الصحابة»! الذين سأل عنهم أبوهم قائلاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا محمد من للصبية»؟ فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: «النار».
فهم عند علماء السنة والجماعة «عدول» ويجب الأخذ بأحاديثهم دون النظر إلى سيرتهم لأنهم صحابة، والصحابي هو: كل من شاهد أو سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(6)، ومن كان بهذه الصفة فهو «صحابي» ومن كان كذلك فهو «عادل»!
والآن فلنأتِ إلى أحد هؤلاء «العدول» فنرَ عدالته.
ص: 102
كان يكنى «أبو وهب» ولا خلاف بين أهل العلم بتفسير القرآن أن قوله عز وجل:
(إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ...)(1) .
نزلت في الوليد بن عقبة، وسبب نزولها: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه مُصْدقاً إلى بني المصطلق، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، وأبوا من أداء الصدقة، وذلك أنهم خرجوا إليه فهابهم، ولم يعرف ما عندهم، فانصرف عنهم، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم منعوه الصدقة.
فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن يثبت فيهم. فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام ونزلت:
(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ...) .(2)
ووقع بينه وبين - الإمام أمير المؤمنين - علي بن أبي طالب عليه السلام كلام فقال الوليد: «لأنا أردّ للكتيبة، واضرب لهامة البطل المشيح منك».
فانزل الله تعالى:
(أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ )(3) .
ص: 103
وعندما تولى الخلافة عثمان بن عفان ولصلة القرابة بينه وبين الوليد بن عقبة بن معيط فهو أخوه من أمه أروى بنت كريز(1) فقد ولاه عثمان الكوفة، وعزل عنها سعد ابن أبي وقاص فلما قدم الوليد على سعد، قال له سعد: «ما أدري أكِسْتَ بعدنا أم حُمقنا بعدك».
- والمراد من قوله: هو: أعقلت وصرت عاقلاً بعدنا أم نحن أصبحنا حمقى بعدك فأجابه قائلاً: «لا تجزعنّ أبا إسحاق، فإنما هو الملك يتغدّاه قوم ويتعشاه آخرون».
فقال سعد: «أراكم والله ستجعلونها مُلكاً»(2)؟!
فلما استلم ولاية الكوفة وأصبح والياً للمسلمين خرج عليهم في يوم وهو سكران فصلى بهم صلاة الصبح أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال: «أزيدكم»؟!
فقال عبدالله بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم(3).
وخبر صلاته بهم وهو سكران، وقوله: أزيدكم - بعد أن صلى أربعاً(4) مشهور من رواية الثقات نقله أهل الحديث وأهل الاخبار وقد شهد عليه اثنان من أهل الكوفة عند عثمان بن عفان بأنه شرب الخمر وتقيأها وهو في المسجد. وكانا قد انتزعا خاتمه من يده وهو لا يعقل وخرجوا من فورهم إلى المدينة. قال الحطيأة الشاعر:
ص: 104
تكلم في الصلاة وزاد فيها *** علانية وجاهر بالنفاقِ
ومجّ الخمر في سنن الصلاة *** ونادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على ان تحمدوني *** فما لكم ومالي من خلاق(1)
ولما شهدوا عليه عند عثمان أبى أن يقيم عليه الحد لكونه أخاه فزجرهما ودفع في صدورهما وقال: تنحيا عني، فخرجا من عنده واتيا علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأخبراه بالقصة فأتى عثمان وهو يقول:
دفعت الشهود وأبطلت الحدود.
فقال له عثمان: فما ترى ؟. قال:
أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضره فان أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجة أقمت الحد.
فلما حضر الوليد دعاهما عثمان: فأقاما الشهادة عليه ولم يُدل بحجة فألقى عثمان السوط إلى علي فقال علي لابنه الحسن:
قم يا بني فأقم عليه ما أوجب الله عليه.
فقال - الحسن -:
يكفينه بعض من ترى.
فلما رأى - الإمام علي عليه السلام - إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحد عليه توقّياً لغضب عثمان لقِرابته منه أخذ علي السوط ودنا منه، فلما أقبل نحوه سبه الوليد!!
وقال: يا صاحب مكس(2)، فقال عقيل بن أبي طالب وكان ممن حضر:
ص: 105
انك لتتكلم يا ابن أبي معيط كأنك تدري من أنت، وأنت علج من أهل صفورية.
فأقبل الوليد يروغ من علي - عليه السلام - فاجتذبه - الإمام - علي فضرب به الأرض، وعلاه بالسوط، فقال عثمان: ليس لك ان تفعل به هذا؟!
قال - الإمام علي عليه السلام -:
بل وشراً من هذا إذا فسق ومنع حق الله تعالى ان يؤخذ منه(1).
فجلده أربعين سوطا(2).
وقد حاول البعض التستر على امتناع عثمان بن عفان من جلد أخيه وإقامة الحد عليه مما دعا بالإمام علي عليه السلام بجلد الوليد بن عقبة وإقامة الحد عليه بقولهم: «إن عثمان قال لعلي: أقم عليه الحد»(3)، وبهذا يكون عثمان هو الآمر والإمام علي هو المنفّذ فينتهي عندها الإشكال ويلتبس الأمر على القارئ كما بينه: «ابن عبد البر» بقوله: «أضاف الجلد - أي الراوي - إلى علي لأنه أمر به»(4)؟!
ونحن نسأل:
1. لماذا لم يباشر العمل عثمان بنفسه، وهو خليفة المسلمين وموقعه هذا يلزمه ان يباشر بنفسه إقامة الحدود.
ولماذا لم يعمل بسيرة صاحبه عمر بن الخطاب، وقد بايع أصحاب الشورى
ص: 106
عليها عندما اشترطوا عليه العمل بها كي يصبح خليفة، ألم يجلد عمر ولده عبد الرحمن وأقام عليه الحد بعد أن اعترف أنه شرب الخمر مع أبي سروعة بن الحارث وهما بمصر(1) لماذا لم يعمل عثمان بسيرة عمر بن الخطاب ؟!
2. ما الذي دعاه لزجر الشهود وطردهما وقد حملا معهما دليلاً على إدانة الوليد ابن عقبة ؟!
3. لم يسجل لنا التاريخ الإسلامي ولو من خلال رواية موضوعة ان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان يعمل عند عثمان بن عفان أو الذين سبقوه في جلد من استوجب الجلد؟!
أو أنه عليه السلام احتاج لرأي أحدٍ منهم أو من غيرهم ؟! أو انه أخذ باجتهادهم ؟!
بل ان كتب التاريخ والسيرة والحديث والفقه والتفسير تجمع على رجوع الخلفاء الثلاثة إليه في معضلات الأمور وبواطن الأحكام وظواهرها واحتياجهم إلى حكمه. لأنه أقضاهم جميعاً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2) بنص الحديث النبوي.
ص: 107
ولان أساس القضاء العدل وأساس العدل التقوى والعلم بالحلال والحرام فهو عليه السلام أعلمهم وأتقاهم وأعدلهم وأقضاهم.
ولأجل هذه الأسس رفض استلام الخلافة بعد عمر بن الخطاب عندما اشترطوا عليه أن يعمل بسيرة الشيخين من قبله(1) وفي هذا الرفض يسقط ما أحدثاه من أحكام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه مخالف للكتاب والسنة المحمدية المطهرة وناهيك من ذاك شاهداً قول عمر بن الخطاب في محدثات الأحكام: (نعم البدعة التي ابتدعتها)(2).
ومن هنا فان تعليل ابن عبد البر في نسب الجلد إلى الإمام علي عليه السلام لأنه مأمور من عثمان بن عفان لا يصمد أمام هذه الحقائق التأريخية.
وخلاف ما عُرف عن الإمام علي عليه السلام وما جاءت به سيرة عثمان بن عفان ؟
أما سبب امتناع الإمام الحسن عليه السلام عن جلد الفاسق، وقوله: (يكفينه بعض من ترى).
فهو في غاية الحكمة إذ لولا امتناعه عليه السلام لما تم التعرف على موقف جميع من حضر في مجلس عثمان وسمع شهادة الشهود وهم يشهدون على شرب الوليد بن عقبة ابن أبي معيط للخمر وتقيئها وهو في المسجد.
فلو امتثل لقول أبيه أمير المؤمنين عليه السلام لانتهى الأمر دون ان يسجل لنا التاريخ حقيقة ما وصل إليه المسلمون في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان: وهو
ص: 108
يكشف بوضوح عن حقيقة الخلافة والخليفة ولهذا السبب نجد ان الإمام علي أبي طالب عليه السلام «لما نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحد عليه»(1).
أخذ السوط ودنا منه وبيده سوط له طرفان(2) فجلده أربعين سوطاً.
ومن خلال هذا البحث نستخلص الآتي:
إن نظرية «عدالة الصحابة» نظرية باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، قد وضعتها يد السياسة لتمشية المصالح الشخصية ولضرب طوق على عقول كثير من المسلمين، بحيث تتقبل عدالة القاتل والمقتول، وان يؤخذ الدين من الظالم والمظلوم!!
إنّ كل من سوّلت له نفسه المساس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أهل بيته وانتهاك حرمتهم فهو ممن قد نبتت عروقه في الرجس ونمت أوصاله في الدنس فكان مع كل خلية في بدنه شيطان يؤزه ازا.
لان الجرأة على الله ورسوله وأهل بيته لا يمكن ان تحدث من أصحاب الفطرة السليمة، والتاريخ مليء بالشواهد والأدلة على حقيقة وأصل كل من تعرض لحرم الله عز وجل، ويكفي في ذلك دلالة على هذه الحقيقة حال عقبة بن أبي معيط المولود من سفاح ذكوان في صفورية من تلك المرأة اليهودية.
ص: 109
إنّ البضعة النبوية فاطمة الزهراء عليها السلام كانت في صباها تدافع عن النبوة وتحمي أباها وهي عازمة على أن تفديه بنفسها لو لزم الأمر كما رأينا في حادثة رمي السلاة على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم.
أشارت بعض المصادر إلى أن هذا الفعل قد تكرر وقوعه في حياة أبي طالب رضي الله عنه ولقد ضرب فيه أبو طالب أجلى صورة في الذود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعاقبة الفاعلين لهذا الجرم كما هو ظاهر، جلي في الحادثة.
فعن الإمام الصادق عليه السلام قال:
بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلا ناقة فملؤوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء الله، فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عم كيف ترى حسبي فيكم ؟
فقال له: وما ذاك يا ابن أخي ؟ فاخبره الخبر، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف وقال لحمزة: خذ السلا، ثم توجه إلى القوم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم معه فأتى قريش وهم حول الكعبة، فلما رأوه عرفوا الشرّ في وجهه.
ثم قال لحمزة: أمّر السلا على سبالهم، ففعل ذلك حتى أتى على أخرهم.
ثم التفت أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا(1).
ص: 110
وقد جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام رواية أخرى تدل على أن قريشاً كانت قد عمدت إلى مثل هذا الفعل أكثر من مرة في حياة أبي طالب رضي الله عنه وان الحادثة السابقة التي رويت عن الإمام الصادق عليه السلام تفيد بأنها الأولى وذلك من خلال ما بدا من عدم تعيين الفاعل ولعدم اجتماع بني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف كما حدث في هذه الحادثة التي جمع فيها أبو طالب رضي الله عنه جميع أرحامه وبني عمومته وخرج بهم لمعاقبة الفاعل والراضين به كي لا يتجرأ عليه أحد مستقبلاً وعليه فقد انتظروا هؤلاء ان يموت أبو طالب عليه السلام حتى يتمكنوا من الانتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الحادثة فهي كالتالي:
عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول:
مرّ رسول الله بنفر من قريش وقد نحروا جزوراً وكانوا يسمونها الفهيرة ويذبحونها على النصب فلم يسلم عليهم فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا: يمرّ بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه ؟.
فقال عبدالله بن الزبعرى السهمي: أنا أفعل.
فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره فانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى عمه أبا طالب.
فقال: يا عم من أنا؟
فقال: ولم يا ابن أخي ؟ فقص عليه القصة.
فقال: وأين تركتهم ؟. فقال: بالأبطح.
فنادى - أبو طالب - في قومه: يا آل عبدالمطلب! يا آل هاشم! يا آل عبد مناف!.
ص: 111
فأقبلوا إليه من كل مكان ملبين.
فقال: كم أنتم ؟ فقالوا: نحن أربعون.
قال: خذوا سلاحكم. فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر فلما رأوه أرادوا ان يتفرقوا.
فقال لهم: ورب هذه البنية لا يقومن منكم أحد إلاّ جللته بالسيف، ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات حتى قطعها ثلاثة أفهار.
ثم قال: يا محمد! سألتني من أنت ؟.
ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أنت النبي محمد *** قرم(1) أغرّ مسود
لمسوّ دين أكارم *** طابوا وطاب المولد
نعم الأرومة أصلها *** عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة(2) في الجفان *** وعيش مكة انكد
فجرت بذلك سنّة *** فيها الخبيرة(3) تشرد
ولنا السقاية للحجييى *** - ج بها يمات العنجد(4)
والمأذمان(5) وما حوت *** عرفاتها والمسجد
أنّى تضام ولم أمت *** وأنا الشجاع العربد(6)
ص: 112
وبطاح مكة لا يرى *** فيها نجيع(1) اسود
وبنوا أبيك كأنّهم *** أسد العرين توقّدوا
ولقد عهدتك صادقا *** في القول لا يتزيد
ما زلت تنطق بالصواب *** وأنت طفل امرد
ثم قال: يا محمد! أيهم الفاعل بك ؟ فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبد الله ابن الزبعرى السهمي الشاعر فدعاه أبو طالب فوجأ(2) أنفه حتى أدماه، ثم أمر بالفرث والدم فأمر على رؤوس الملأ كلهم.
ثم قال: يا ابن أخي أرضيت ؟.
ثم قال: سألتني من أنت ؟.
أنت محمد بن عبد الله ثم نسبه إلى آدم عليه السلام.
ثم قال: أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً، يا معشر قريش! من شاء منكم يتحرك فلْيفعل أنا الذي تعرفوني(3).
فهذه الحادثة قد دلت بشكل واضح على أنها حدثت مرة ثانية من قبل قريش ولذا كان أبو طالب رضي الله عنه قد جمع وأعد هذه الأعداد ورد هذا الرد الحازم لكي لا يتكرر الفعل مرة أخرى وهو على قيد الحياة كما أشار بقوله:
أنى تضام ولم أمت *** وأنا الشجاع العربد
ص: 113
ولذلك نجد ان التاريخ يحدثنا: ان القوم قد عمدوا إلى مثل هذا العمل مراراً بعد وفاة أبي طالب رضوان الله عليه واعتادوا عليه، وبخاصةٍ عندما يأتي لإقامة الصلاة عند بيت الله الحرام فكان يخرج ذلك على العود - أي إنهم اعتادوا على هذا الفعل - وهو يقول: «أي جوار هذا يا بني عبد مناف»، ثم يقيه بالطريق(1).
ومن هنا فان الحقيقة التي يجب التوقف عندها هي:
«ان أشد ما نزل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على يد قومه هو لما رأى فاطمة عليها السلام قد شهدت هذه الحادثة وأخذت تبكي وتدعو على القوم ولذا قام صلى الله عليه وآله وسلم ودعا عليهم ولم يدعُ على قريش إلا في هذا الوقت الذي حضرت فيه البضعة النبوية فاطمة عليها السلام.
هذه الحادثة كان أشقى القوم فيها هو عقبة بن أبي معيط اليهودي الأموي التحاقاً لا نسباً كما يذكر لنا التاريخ، وأما الحادثة السابقة فكان الشقي فيها هو عبدالله بن الزبعرى الذي كان لقي الرد المناسب من بطل قريش أبي طالب عليه السلام، أما عقبة ابن أبي معيط فكان رده دعاء فاطمة وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
فويل لمن سنّ ظلمها وآذاها.
ص: 114
ص: 115
ص: 116
قبل الحديث عن هجرة فاطمة صلوات الله عليها لابد من التوقف قليلا مع الأحداث التي سبقت الهجرة ولاسيما أننا قد تناولنا دورها عليها السلام في الذود عن النبوة بعد رحيل أمها خديجة وأبي طالب عليهما السلام.
والأحداث قبل الهجرة جرت متسارعة كأنها في استباق مع الزمن، فمن ناحية كان الظالمون يتسابقون للنيل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإجهاض دعوته، ومن ناحية أخرى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسعى لإيجاد وسيلة تمكّنه من الحفاظ على دعوته ونشرها، وفي نفس الوقت تخليص المسلمين من الاضطهاد والعذاب الذي ينزل بهم.
وخلال هذه السنوات الثلاث وهي المدّة الواقعة بين رحيل أبي طالب وخديجة عليهما السلام وبين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كانت الأحداث في هذه المدّة تجري أمام ناظر فاطمة عليها السلام لتكون شاهدة على ما جرى ولتحياها مع النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، تشاطره همومه وأحزانه، وتهون عليه ما يلقاه من قومه الذين لم يستجيبوا لدعوة الله عز وجل.
أما مسير الأحداث فلا نتعرض له بالتفصيل لكي لا نخرج عن موضوع
ص: 117
الكتاب ولكن لابد من الإشارة إلى أهم هذه الأحداث، ومن ثم التوقف عند بعض النقاط التي تكون بحاجة للبيان أو التحقيق. وقد رتبت هذه الأحداث حسب وقوعها الزمني.
لم تمضِ أيام كثيرة على وفاة ناصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمه أبي طالب حتى أُذِن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من مكة، أما صيغة الإذن فكان بالشكل التالي:
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:
«لما توفي أبو طالب رضي الله عنه نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أخرج من مكة فليس لك بها ناصر»(1).
وامتثالا لأمر الله تعالى خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة متوجها إلى الطائف مصطحبا معه علي بن أبي طالب عليه السلام وزيد بن حارثة(2)، وبقي فيها عشرة أيام يدعو أهلها إلى الإيمان بالله تعالى وبنبوته، لكن لم يجد أحدا قد استجاب إليه بل على العكس قابلوا هذه الدعوة بتسليط صبيانهم وسفهائهم عليه يرمونه بالحجارة من كل جانب حتى أدموا ساقيه، وعلي بن أبي طالب عليه السلام وزيد بن حارثة يقيانه من هذه الحجارة ما استطاعا حتى أصيب
ص: 118
أحدهما وشج رأسه، فعاد محزنا إلى مكة(1).
أما حزنه فلم يكن لما نزل به فهو بعين الله تعالى ولكن تلك هي رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمته، فحزنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لأنه لم يجد أحداً يؤمن بهذه الدعوة.
وفي المقابل فإن قريشاً كانت تستعد لرجوعه، وهو مستعد لها بثقته بالله وصدق يقينه، قائلا لأحد رفيقيه: «إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه»(2).
وسببها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا الله أن يسلط عليهم ما يشغلهم عنه كي يتمكن من النهوض بدعوته بشكل يمكنه في المنعة منهم، فسلط الله عليهم الجوع حتى أكلوا العلهز(3)، والقد(4)، وحتى أحرقوا العظام فأكلوها، وأكلوا الكلاب الميتة، والجيف، ونبشوا القبور، وأكلت المرأة طفلها، وحتى كان الرجل يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، فشغل ذلك الناس بأنفسهم ومشاكلهم(5).
ص: 119
ولم يطق أبو سفيان هذا الحال وقد بلغ بهم الضُر أقصى غاياته فقدم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (يا محمد أنشدك الله والرحم قد أكلنا العلهز - يعني الوبر والدم - فأنزل الله عز وجل:
(وَ لَقَدْ أَخَذْنٰاهُمْ بِالْعَذٰابِ فَمَا اِسْتَكٰانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مٰا يَتَضَرَّعُونَ )(1)(2) .
وهنا وقفة نتأمل فيها هذه الحادثة:
ربما يتوهم البعض أن الذي حدث لأهل مكة سببه دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كأي دعوة تصدر عن نبي من الأنبياء عليه السلام عندما كانوا يدعون على قومهم.
وفي الواقع: أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعُ على قومه دعوة غضب ليسلط الله عذابه عليهم، إلا مرة واحدة وهي دعوته على عقبة بن أبي معيط وأمثاله من قريش الذين اجترموا رمي السلاة على ظهره وهو ساجد يصلي فجاءت فاطمة عليها السلام فرأت ما هالها في هذا المنظر، ولأجل فاطمة وما نزل بها دعا ولم يعم بدعوته جميع القوم إنما عينهم بأسمائهم كما مر بيانه سابقا.
أما دعوته هنا صلى الله عليه وآله وسلم فهي لم تكن دعوة غضب بل دعوة لدفع الأذى فلو أنهم تمكنوا من النيل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل يبقيهم الله على وجه الأرض أم يجري بهم ما جرى بالأمم السابقة عندما انتهكت
ص: 120
حرمة الله وقتلت أنبياءه.
ولذا كان المراد في هذه الدعوة هو إشغالهم عنه حتى يتمكن من النهوض بهذا الدين.
وفيما امتازت به هذه السنة والسنتان اللتان بعدها قبل سنة الهجرة هو أن النبي كان يغتنم مجيء الحجاج إلى مكة فيقوم بعرض دينه على القبائل ومن بين هذه القبائل قبيلة بني عامر بن صعصعة، فقد حدثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدين الإسلام وعرضه عليهم ودعاهم إلى الإيمان به فقال له أحدهم وهو (بحيرة بن فراس): أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
الأمر لله، يضعه حيث يشاء.
فقال له - بحيرة بن فراس -: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه(1).
هذه الحادثة وما دار فيها من حوار تشير بشكل واضح للعقلاء إن: أمر خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتقال أمر الأمة وقيادتها بعده إنما هو من الله عز وجل يضعه حيث يشاء فيمن يشاء من عباده ويخص به أحد أوليائه لأنه هو
ص: 121
اللطيف الخبير بخلقه فلا شورى ها هنا ولا استحسان كما حدث لأصحاب موسى عندما نزلت بهم الصاعقة في الميقات والسبب واضح هو لانعدام القدرة في تحديد صلاحية المتولي لهذا العمل فلو كان الذي اختار هو الله عز وجل، فلا يمكن أن يهلك الذي اختاره الله عز وجل لأنه يعلم أين يضع رسالته فسبحان من هو اللطيف الخبير بعباده.
مرّ في أحداث السنة العاشرة أن أهل مكة سلط الله عليهم الجوع بدعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما دخلت السنة الحادية عشرة من البعثة جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، جئت بصلة الرحم وقومك قد هلكوا جوعا، فادع الله لهم.
فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكشف عنهم، وفي هذه الحادثة يشير قول الله تعالى إليها:
(إِنّٰا كٰاشِفُوا اَلْعَذٰابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عٰائِدُونَ )(1) .
ملاحظة حول الحدث:
مما لا يخفى على كل باحث منصف غار في بحور النصوص وخرج منها وفي حوزته شيء من الفضيلة يمكن له أن يضعه في خانة بني أمية، وإن ادعى أحد ذلك
ص: 122
فيكون إما أنه لم يقرأ كتاب الله عز وجل وإما أنه صاحب حاجة وصاحب الحاجة أعمى مع اختلاف الحاجات مادية أو نفسية أو مرضية؛
(فَزٰادَهُمُ اَللّٰهُ مَرَضاً) .
أما كتاب الله عز وجل فقد نطق بحقيقتهم في قوله تعالى:
(وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ )(1) .
والله لا يلعن أحدا وهو يأتي بالفضائل.
وأما ما يريده البعض فهو لا يغني ولا يسمن من جوع ولا يزيد الطالب إليه إلا ظلمة وضلالاً بعد أن وصفهم الله بهذه الصفة وبعد أن ملئت مصادر المسلمين وكتبهم بسوء سيرتهم وسرهم.
ومن هنا لم يكن أبو سفيان بذلك الرجل الذي يخشى على قومه ويخاف عليهم الهلاك بقدر ما يهمه تصريف بضائعه وتوقف تجارته فإذا هلك أهل مكة فإلى من يبيع وعلى من يتآمر ومن أين يجد من ينحني له ويحييه بتحية الأسياد الذين سادوا بالرق والاحتكار فهذا الذي دفع أبا سفيان للمجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا الخوف على الناس وبخاصة الفقراء منهم لأن الخوف على الناس والحمية على القوم من المروءة، والمروءة لا تجتمع مع السفاهة ؟! وقد وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها عندما انتهت معركة بدر.
أما قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقول أبي سفيان ودعائه لأهل مكة فذاك التزاما منه بأمور:
ص: 123
1 - لكي لا تكون لمشرك على الله حجة بأن أهل مكة والناطق عنهم يعلمون حقاً أنه نبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه مستجاب الدعوة، وأن الذي نزل بهم هو نتيجة لجرمهم وظلمهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن به.
2 - أن أبا سفيان جاء حاملاً معه حقّاً كان الله قد أمر بصيانته وهو «صلة الرحم» والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعو إلى شيء ثم لم يعمل به فتكون حجة عليه ولا حجة لكافر على نبي.
3 - التزاما بكتاب الله وبما جاء فيه ومنه قوله تعالى وقد أمر نبيه خاصة العمل بهذا القانون الذي يتصف ضمن مسؤوليات رجل الدولة وقائد الرعية قال عز وجل:
(وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ ...)(1) .
4 - دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها حكمة عظيمة، إذ هذا يعني أنهم قد أذعنوا للحق وتأدبوا ورجعوا عن غيهم كما يشير إلى ذلك القرآن؛ إذ إن أحد أسباب العقاب الذي ينزله الله بالظالمين هو كفهم عن الإثم لينجوا من الهلاك وينجو منهم المؤمنون، قال تعالى:
(ظَهَرَ اَلْفَسٰادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )(2) .
5 - دعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم لهم وكشف الضر عنهم دليل يضاف
ص: 124
إلى الأدلة في إثبات نبوته لكثير ممن لم يتيقن منهم بعد بأنه نبي حقا وإنه يدعوهم لما يحييهم وينجيهم.
6 - لم يكن أبو سفيان بأعلم من الله ورسوله بحال القوم وهل حقا أنهم هلكوا كما يدعي أبو سفيان ويبدي حرصه عليهم، كما أنه لم يكن بأرحم بهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي عاتبه الله تعالى على ما ينزله بنفسه من الألم والحسرة على قومه.
قال تعالى:
(فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ )(1) .
كما لم يكن أبو سفيان بأحرص من نبي الرحمة على العباد وهو الذي يمتدحه الله بشدة حرصه على قومه، قال تعالى:
(لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ )(2) .
فإذن ما جاء أبو سفيان إلا من أجل مصلحته الشخصية وخوفه على ماله من الضياع وكساد تجارته.
في موسم الحج للسنة الحادية عشرة، خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض الإسلام على من يلتقيه من الحجاج القادمين إلى مكة حيث كانت العرب
ص: 125
تأتي في ذي الحجة إلى مكة قبل ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتطوف ببيت الله عز وجل الذي بناه إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام.
ولذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر هذا الموسم ليبلغ عن دين الله ويعرض على الناس الدخول فيه، فكانت مشيئة الله تعالى قد جمعته مع نفر من أهل المدينة المنورة وكانوا ستة نفر وهم «اسعد بن زرارة، وجابر بن عبد الله بن رئاب، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وعقبة وقطبة ابنا عامر»، وذكر المؤرخون في هذه الأسماء، مع تقديم وتأخير فيها، وقيل إنهم ثمانية، كانوا جميعا من الخزرج، فلما عاد أولئك النفر إلى المدينة كانوا يحدثون قومهم لما جرى لهم من التوفيق في لقائهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجتماعهم به ودخولهم في دين الإسلام، واخذوا يعرضون عليهم الدخول إلى هذا الدين الجديد فاستجاب لهم البعض وتواعدوا أن يذهبوا في العام المقبل إلى مكة المكرمة لكي يلقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).
لم يسجل لنا التاريخ حدثا مميزا في هذه السنة غير «بيعة العقبة الأولى» وسميت ب «الأولى» لوجود بيعة أخرى تلتها في السنة القادمة فسميت «ببيعة العقبة الثانية» ومعنى العقبة هو موضع في مكة اجتمع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمن قدم إليه مسلما من أهل المدينة.
ص: 126
وكانوا اثني عشر نفراً، وهم مجموع الذين التقى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة، اثنان منهم أوسيان، والباقون من الخزرج، وعند اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بايعوه على:
«أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا بهتاناً يفترونه ما بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصوه في معروف، فإن وفوا فلهم الجنة، وإن غشوا من ذلك شيئا فأمرهم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر»(1).
ولما رجعوا إلى المدينة أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة(2).
كانت بيعة العقبة الثانية قد تمت على وفق ما كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أصحاب العقبة الأولى وهم الاثنا عشر نفراً من اتفاق ينص على حضورهم في العام المقبل، ولما قدموا من المدينة، خرج معهم سبعون رجلا من
ص: 127
الأنصار فيمن خرج من أهل الشرك من قومهم في أهل المدينة(1).
فلما قدموا مكة خرجوا على منى، فلما كان في أوساط أيام التشريق واعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة، فخرجوا في جوف الليل، يتسللون في رحالهم، ويخفون ذلك عن قومهم المشركين.
فلما اجتمعوا عند العقبة والتقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هناك في الدار التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نازلاً فيها، وهي دار عبد المطلب، وكان معه حمزة وعلي والعباس.
وبايعوه على أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم، وأهليهم وأولادهم، وإن يؤمروه وينصروه، وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقولوا في الله، ولا يخافوا لومة لائم، وتدين لهم العجم ويكونوا ملوكا(2).
وفي رواية أنهم بايعوه: «على السمع والطاعة في العسر واليسر، وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم»(3).
بعد ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أخرجوا إلي منكم أثني عشر نقيبا، يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا أثني
ص: 128
عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.. فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي، قالوا: نعم»(1).
وهذه النقابة التي منحها النبي لهم كانت إلى حين قدومه المدينة، وبعدها كان الأمر جميعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما ما رافق هذه الحادثة من أمور أخرى ككلام العباس بن عبد المطلب فقد أعرضنا عنه واكتفينا بما ذكرناه لكي لا يطول المقام بنا ونحن نريد بعون الله تعالى المضي في حياة بقية النبوة فاطمة عليها السلام وإنما أوردنا هذه الأحداث لأنها عاشتها وشهدت مجرياتها.
لقد مرت الأحداث متسارعة خلال هذه السنوات الثلاث التي أعقبت رحيل الصديقة الطاهرة خديجة الكبرى عليها السلام، وخلال هذه السنوات كبرت سيدة نساء العالمين فاطمة بضعة النبي الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.
فهي بين حنين الذكرى لأمها، وألم الفراق، وبين آهات الخوف على أبيها وقد أصبح وحيدا بعد أبي طالب وخديجة رضوان الله تعالى عليهما، لم تغفل ساعة عن مسؤولياتها اتجاه أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن فاطمة عليها السلام لم تزل بعد بحاجة لرعاية الأم، فهي في ربيعها الخامس وقد فجعت برحيل الأم، والبنت مهما كبرت تبقى تحن إلى أمها وتلتمس
ص: 129
حنانها، لأنها تسير في ركب الحياة وهي تحيطها العفة ويجللها الحياء وكم من أمور لا تباح إلا إلى الأم، وكم من أمور تحتاج فيها البنت إلى أمها، لاسيما ليلة الزفاف، وساعة المخاض، وغيرها.. وغيرها..
ومن هنا كنت أسأل نفسي: مَنْ يا ترى كان يرعى فاطمة عليها السلام خلال هذه السنوات العصيبة وهي المدّة الواقعة بين رحيل أمها خديجة وبين زواجها بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام ؟ وبين الحيرة في العثور على اجابة بين أسطر الكتب وبين التماسها بين ثنايا الدعاء، ألهمت من خلال التأمل في ذاك أن الذي كان يرافقها خلال هذه السنوات ويحيطها برعايته هي السيدة الجليلة «فاطمة بنت أسد» زوجة أبي طالب رضي الله عنها وأم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
لأن فاطمة بنت أسد رضي الله عنها كانت قد فجعت بوفاة زوجها، أبي طالب الذي توفي مع خديجة عليها السلام في نفس العام كما مر سابقا، وأن الله تعالى قد مد في عمرها حتى أكرمها بالهجرة إلى المدينة وفيها توفيت(1).
ومن هنا فإنها انتقلت إلى رعاية بنت النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كانت ترعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل وتقوم بخدمته وتربيته، فلذا بكاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين وفاتها وقال: هي أمي ونزل في قبرها(2)، وسنورد إن شاء الله مزيداً من فضلها لاحقا في باب: «بيت فاطمة».
ص: 130
إلا أن ثمة سؤالاً يطرح: أحقاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج من سودة بنت زمعة بعد مرور أيام قلائل على وفاة خديجة كما تذكر بعض المصادر أم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أعرض عن الزواج بعد خديجة عليها السلام ؟!
أقول:
لقد أوردت كثير من المصادر التاريخية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج بسودة بن زمعة بعد خديجة مباشرة وقد عقد على عائشة كذلك(1)!
أما زواجه صلى الله عليه وآله وسلم من سودة بنت زمعة بعد وفاة خديجة عليه السلام مباشرة فهو مرفوض أصلا ولا يستند إلى واقع للأسباب الآتية:
1 - قد اشتهر عند أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد وجد على رحيل أم المؤمنين خديجة (حتى خشي عليه)(2)، ومن كانت هذه حالته لا تسوغه نفسه إلى الزواج بامرأة ثانية وهو مثقل بالأحزان لفراق زوجته الحبيبة، ونحن نقرأ هنا وهناك في أخبار الرجال ومقدار إخلاصهم ووفائهم لأحبابهم والتزامهم بسيرة من يحبون وهم من غير دين الإسلام فيثنى عليهم لأنهم جاؤوا بما يليق بأهل الفضل، وهو من السجايا النفسية الطيبة التي يأنس بها العقلاء، فكيف بأشرف ما خلق الله عز وجل أن يسارع إلى الزواج وبعد أيام قلائل، أي
ص: 131
في نفس الشهر الذي فقد فيه أم أولاده فيذهب ليتزوج بامرأة ثانية فهذا ما لا يرضاه أبسط الناس معرفة بالوفاء فكيف بمن هو على خلق عظيم.
2 - ورد في الرواية أنه أعرض عن كل امرأة حتى قيل له: «ألا تتزوج» لأنهم خافوا عليه كثرة الحزن.
ودخلت عليه خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فقالت له: كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة ؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«أجل كانت أمَّ العيال وربة البيت»(1).
3 - إن من المعروف عند كل مسلم اطلع على سيرة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولو اطلاعاً قليلاً أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة وأبي طالب عليه السلام قد ثارت عليه قريش من كل جانب وأنزلوا به من الألم والأذى ما لم يتسنَّ لهم طيلة حياة أبي طالب رضي الله عنه حتى اشتهر منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب»(2).
فضلاً عن ما بيناه من خلال الأحداث التي شهدتها هذه السنوات الثلاث.
4 - عن عائشة من طريقين هما: عن معمر بن الزهري، عن عمرو، عنها،
ص: 132
والآخر: عن صالح بن رسم عن ابن أبي ملية، عن عائشة:
«أن عجوزا سوداء دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحياها وقال:
كيف أنت، وما حالكم ؟
فلما خرجت قالت عائشة: يا رسول الله، ألهذه السوداء تحيي وتضع ما أرى ؟ قال:
إنها كانت تغشانا في حياة خديجة وإن حسن العهد من الإيمان»(1).
فهل يا ترى أن الاصطبار على فراق الزوجة التي كان يحبها كل هذا الحب لم يكن عن حسن العهد؟! وإذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يرقّ قلبه ويأنس بمن يذكره بخديجة عليها السلام فهل يعقل أنه يتبع وفاتها بعرس جديد؟! فأي تعريض هذا بخلق النبي وسجاياه الكريمة ؟!
أما اعتراض عائشة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه رحب بامرأة لا ذنب لها إلا أنها عجوز سوداء؟! ففيه كفاية لمن يروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يفضلها على بقية أزواجه.
5 - أن الذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تزوج بعائشة سنة عشر من البعثة(2)، وأنه أولم عليها بهدايا الأنصار، وإن يومها كان كثير الأطباق
ص: 133
والجفان(1).
فإن عائشة قد كذبتهم وفضحت زيف مقولتهم كما يروي لنا عنها البخاري وغيره، أما وقت زواجها فإنها تقول: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياها».
قالت: «تزوجني بعدها بثلاث سنين...»(2).
فهذا قولها صريح وهي تذكر فيه متى تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومما لا اختلاف فيه عند أهل العلم أن النبي عقد على عائشة بمكة وبنى بها في المدينة بعد مضي ثمانية عشر شهرا من دخولها أي في السنة الثانية للهجرة النبوية على صاحبها وآله آلاف الصلاة والسلام، وأن خديجة عليها السلام توفيت سنة عشر من البعثة فهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عقد على عائشة بعد مضي ثلاث سنوات على وفاة خديجة عليه السلام أي قبل الهجرة بأيام ولعله بعد الهجرة بقليل.
6 - وأما ما جاء عن الزبير بن بكار: وأولم عليها - أي النبي أولم على عائشة - بهدايا الأنصار، طلبوا في ذلك إذنه فأذن لهم، فاتعدوا المسجد وغدوا عليه بالفتح، فيها التمر والجفنة، فيها الودك لحم أو غيره، وكان يومها كثير الأطباق والجفان ؟!
ص: 134
ونحن نأخذ بقوله أنه تزوجها بالمدينة وننكر عليه قوله في الوليمة، وإن يومها كان كثير الأطباق لأن السيدة عائشة تكذب هذا القول لأنها هي الأعلم بمراسيم عرسها، وفيه قالت: «ما نحرت جزور ولا ذبحت علي شاة وأنا ابنت تسع، حتى ارسل إلينا سعد ابن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(1).
وإن السبب الذي منع النبي عن اقامة الوليمة في عرس عائشة ولم يحتفل بهذا العرس ما هو إلا رعاية لمشاعر فاطمة عليها السلام التي ما زالت تتفجع بفقد أمها عليها السلام، وما منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اقامة الأفراح إلا حفاظا لذكرى أم الزهراء خديجة بنت خويلد عليها السلام فما زال القلب حزيناً والعين تدمع لفراقها.
7 - أخرج البخاري عن عروة: أن خديجة توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين فلبث صلى الله عليه وآله وسلم سنتين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين(2)، - ولبث هو عدم الزواج -.
ولهذه الأسباب لا يمكن أن يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الزواج بعد وفاة الصديقة الطاهرة أم المؤمنين خديجة عليها السلام مباشرة، أي في السنة التي توفيت فيها.
بقي أن نقول: إن هناك سبباً قوياً يحول دون إقدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الزواج بعد خديجة مباشرة، وهو: أن البضعة النبوية فاطمة الزهراء
ص: 135
عليها السلام كانت في السنة الخامسة من عمرها وهذه السن مع ما يلازمها من تعلق شديد بالأم، تمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتجاهل هذه المشاعر، وهذه العواطف، وهو نبي الرحمة، بل سنخ رحمة رب العالمين، فكيف يمكن أن يرضى بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلال هذه الروايات المغرضة أبا غير رحيم بابنته المفجوعة بوفاة أمها فيذهب بعد أيام ليتزوج ويأتي بامرأة جديدة تحل محل هذا المكان المقدس، مكان الأم.
فمن رضي بهذا، وصدّق به، فعليه أن يعيد النظر في صحة إيمانه، ويتوقف كثيرا في طريقة تفكيره.
ص: 136
بعد أن تمت بيعة الأنصار في العقبة الثانية، وكانوا قد بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القتال وعادوا إلى المدينة، عزم بعض المسلمين في مكة على الهجرة إلى المدينة، وذلك قبل خروج النبي إليها بأمر منه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلا لهم:
«إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها»(1).
فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر أن يأذن الله له بالخروج.
أما من بقي من المسلمين في مكة فقد لاقى من قريش أشد أنواع العذاب، وأبقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، كما بقي أيضا في مكة أبو بكر وهو ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما أدركت قريش أن المسلمين خرجوا إلى المدينة أيقنت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوف يلحق بهم، ولذا كانوا في حيرة من أمرهم لا يعلمون أي السبل تمكنهم عن الإحالة دون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لو تمكن من ذلك وسكن المدينة لتجمع من حوله المسلمون، ولعظم أمره ولم يتمكنوا
ص: 137
بعد ذلك من القضاء عليه.
ولذا: اجتمع أشرافهم في دار الندوة - وهي المكان الذي يجتمعون فيه للأمور المهمة - واتفقوا على أن يأخذوا من كل قبيلة رجلا قويا، ويعطى سيفا، ثم يجهزون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه ويتفرق دمه بين القبائل، وبذلك لا يتمكن بنو عبد مناف من الأخذ بثأره لأنهم لا قدرة لهم على قتال كل تلك القبائل ويرضون بالفدية.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون عليه.
فأنزل الله تعالى في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا عليه:
(وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ )(1) .
فأتى جبرائيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
«لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه».؟!.
فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام، فيثبوا عليه(2)، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب:
نم على فراشي وتسبّح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم.
ص: 138
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
قال: لما اجتمعوا له، وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا، كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال - ابن إسحاق -: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال:
إنا أقول ذلك، أنت أحدهم.
وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلا يرونه، فجعل يفشي ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس:
(يس (1) وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (3) عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ ) إلى قوله (... فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ ) .
حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنظرون ها هنا؟
قالوا: محمداً، قال: خيبكم الله! لقد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟
قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليّا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 139
فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه بردة، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عليه السلام عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا(1).
ولهذا الحديث وقفة نتناول فيها بعض ما جاء فيه من الأحداث ونسلط عليها الضوء لنرى ما حوته من مصداقية أو إخفاء لحقائق واقعية رافقت عملية الهجرة النبوية منذ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرا من مكة وإلى وصوله المدينة المنورة.
هذا السؤال استوقفني كثيرا وأنا أبحث بين أقوال الرواة وتناقل الحفاظ وهم يعرضون لنا أحداث هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فنجدهم يشيرون إلى ذكر بنتي أبي بكر «أسماء وعائشة» ويعطى لهما أدوارا مهمة في الجهاد والمشاركة وكتمان الأمر وإطعام الطعام، وغيرها من الأمور بينما لا نجد ولو مجرد ذكر لفاطمة! أو حتى مجرد التذكير بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بنت وهي الآن في السنة الثامنة من عمرها فما هو دورها في خضم هذه الأحداث وأين تركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج ؟! ولماذا لم تقم بأي دور كما قامت أسماء بنت أبي بكر؟
ص: 140
فهل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخفى عليها، أم أن الرواة جفوها لأن ذكرها لا يدر عليهم المال، أو لعله يغضب السلطة الحاكمة ؟!
وكيف يمكن أن يعقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بخروجه غير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي أراد منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينام في فراشه والشخص الثاني هو أبو بكر وآله!! أي: «عبد الله، وأسماء، وعائشة»؟ فهؤلاء فقط الذين علموا بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأين ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
ولكن مع هذا لا بأس، فنحن نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم في قولهم:
«ولم يعلم بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر»(1)؟! وذلك من خلال البحث الذي نورده في المسألة الثالثة.
أما بخصوص سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام فهي وإن لم يكن التاريخ قد أنصفها من خلال ما صاغته ألسنة الرواة ودونته ذاكرة الحفاظ، إلا أن العقل والوجدان الحي لا ينسجم مع فكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلع ابنته الحبيبة التي لها من المكان في كيان النبي المقدس ما عرفه الجميع ويتركها دون أن يودعها أو على الأقل يوصيها بالاهتمام بنفسها.
إن الدين وجميع الشرائع السماوية لتقول وتأمر بالغيرة على العرض فما بالكم بسيد الخلق، فلا والله ما خرجَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن
ص: 141
ودّع ابنته فاطمة عليها السلام في بيت آل أبي طالب وعند فاطمة بنت أسد تلك المرأة الجليلة التي أفنت عمرها في رعاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخيه علي بن أبي طالب ومن ثم سيدة النساء وبقية النبوة فاطمة عليها السلام.
لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أمن عليها وأوصى بها ومن ثم طمأنها كما طمأن علياً عليه السلام بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
وأخبرها أن الله حامي أبيها وواقيه شر الأعداء، وأن الله جامعها معه وأن الفراق لن يطول كثيرا، فلا النبي بقادر على فراق فاطمة عليها السلام ولا فاطمة تحتمل فراق أبيها فسرعان ما اجتمعا في الدنيا والآخرة.
إن مما يؤسف له أن ابن إسحاق أو من جاء بعده من روايته لم يكمل لنا بقية الرواية، ولم يطلع القارئ المسلم أو المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بموقف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عندما سمع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطلب منه أن ينام في فراشه، ويتسبح ببرده الحضرمي الأخضر، كي يتمكن هو صلى الله عليه وآله وسلم من النجاة.
وهذا يعني أن يكون الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو البديل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي ضربات السيوف المسلولة خلف الباب.
وفي هذه الحالة؛ وهذا الموقف، لابد أن يكون هناك رد من الإمام علي بن
ص: 142
أبي طالب عليه السلام، وإن يكون له موقف، مهما كانت طبيعته ايجابا أم رفضا، فالأمانة في النقل تقتضي أن يروي الراوي أو الحافظ ما جاءت به الأحداث من مواقف تكشف عن حقائق الناس، لا أن يعمل بمنهاج (القضم) فيقضم من الرواية ما لا ينسجم مع موالاته وحبه لبعض الرموز، أو كسب رضا الساسة وما تحمله منحهم وأكياسهم.
ولكي لا نعمل بهذا المنهاج الذي عمل به الكثيرون، ومن أجل أن يطلع المسلم على طبيعة الرد ويعرف نوعية الموقف الذي أبداه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، نورد ما جاءت به بقية المصادر الإسلامية التي تناولت بأمانة مجريات هذه الحادثة.
1 - ذكر مفتي مكة السيد زيني دحلان: (كان علي رضي الله عنه أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، ووقى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه امتثل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يقول له:
«لن يخلص إليك شيء».
فصدق عليه أنه بالامتثال باع نفسه)(1).
وفي هذه الفقرة إشارات منها:
1 - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يسجل التاريخ حقيقة هذه الشخصية للوجدان الإنساني؛ إذ يبدو بشكل واضح أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عرض عليه هذا العرض بدون ضمانات في السلامة أو النجاة، بل
ص: 143
إنه عرض طابعه وحقيقته (الموت)، وغايته الحصول على رضا الله عز وجل، وهنا تعرف حقائق الإيمان وتصرخ صفحات القلوب ملبية نداء التضحية بالنفس أو التمسك والتثبت بالحياة، وقد سجل التاريخ: أن علي بن أبي طالب عليه السلام قد قدّم رضا الله على النفس، فلتذهب إذا هذه النفس رخيصة إذا كانت هي الوسيلة في الحصول على رضا الله عز وجل، فكيف بها إذا كانت قد جمعت أيضا نجاة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها رضاه.
ثم يبدو من هذه الحادثة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن بان له موقف الإمام علي عليه السلام - وهو العارف بحقائق علي عليه السلام - ذكر لعلي الضمانات في السلامة قائلا:
«فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه».
وفي هذه النقطة تحديدا نقول: لو شكلت لجنة حية الضمائر وأرادت أن تمنح أوسمة فهل تجد في تاريخ النبوة شخصية آمنت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقتْ به وسلّمت نفسها للموت الحقيقي وهي لا تملك سوى صدقها بهذه الكلمات: «فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» ثم نامت هذه النفس مطمئنة لأنها مصدّقة بما سمعت!
فهل هذه اللجنة تجد من تمنحه وسام (الصدق) غير هذا النائم في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم أن هذه الأوسمة كانت وما تزال تمنح للبعض من أجل الوجاهة فتضاف في سجلات العوائل أو تعلق على الجدران، ويبقى في الاختيار عند ذوي العقول السليمة.
ص: 144
2 - روى ابن الأثير الجزري، والحاكم الحسكاني وغيرهما: (إن ليلة بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياته فاختار كلاهما الحياة وأحبها فأوصى الله إليها: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي: بخ بخ من مثلك يابن أبي طالب تباهي بك الملائكة)(1). فأنزل الله تعالى:
(وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ)(2) .
أقول: إذا كان الله عزّ وجل يتباهى بعلي بن أبي طالب عليه السلام في فدائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا لشيء إلا ابتغاء مرضاته سبحانه فكيف للمسلم أن لا يتباهى هو أيضا على الأمم الأخرى بعلي بن أبي طالب عليه السلام.
3 - أورد كثير من حفاظ المسلمين أن قول الله تعالى:
(وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ) .
نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام بعد أن نام بفراش النبي صلى الله
ص: 145
عليه وآله وسلم وهو عازم على فدائه بنفسه(1).
وفيه قال الحاكم النيسابوري عن علي بن الحسن: (أن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي بن أبي طالب)، وأقره الذهبي في التلخيص(2).
4 - وفي هذا التكريم كان يفتخر الإمام علي بن أبي طالب فأنشد قائلا:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا *** ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إلهٍ خاف أن يمكروا به *** فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمنا *** موقى وفي حفظ الإله وفي سترِ
وبت أراعيهم وما يتهمونني *** وقد وطنت نفسي على القتل والأسر(3)
وبالفعل فقد وطّن نفسه على القتل منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا نمت عروقه فمنذ ذلك الوقت كان أبو طالب إذا جن الليل يأخذ ولده علياً فيضعه في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويأخذ النبي فيضعه في فراش علي ليفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي عليه السلام إلا أن الفرق بين الحالتين كبير، ففي السابق كان احترازاً، لكن الآن نام عليٌ عليه السلام وهو مؤمن أن الموت يترصد به خلف الباب ولم يبالِ؟!
ص: 146
بعد أن أمضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث ليال في الغار خرج صلى الله عليه وآله وسلم متجها إلى المدينة المنورة، وقبل وصوله إليها نزل في قباء في بيت عمرو ابن عوف وفيها افترق عنه أبو بكر بعد أن حاول كثيرا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد منه التوجه إلى المدينة فكان عرضه يقابل بالرفض قائلا صلى الله عليه وآله وسلم له:
«ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي، وأخي، وابنتي عليا وفاطمة عليهما السلام»(1).
فلما أمسى فارقه أبو بكر ودخل المدينة، ونزل عند بعض الأنصار.
أما النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقد بقي في قباء ينتظر قدوم الأحبة وكان نزوله على أم كلثوم بن الهدم(2).
ثم كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه
ص: 147
السلام كتابا يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التلوم، وأرسل الكتاب مع أبي واقد الليثي.
فلما أتاه الكتاب تهيأ للخروج والهجرة، فاعلم من كان معه من ضعفاء المؤمنين، وأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي طوى.
وخرج عليه السلام بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وتبعهم أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو واقد، فجعل يسوق بالرواحل فاعنف بهم، فقال علي عليه السلام:
ارفق بالنسوة أبا واقد أنهن من الضعائف.
قال:
إني أخاف أن يدركنا الطلب.
فقال علي عليه السلام:
أربع عليك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: يا علي أما أنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه، ثم جعل يعني عليا يسوق بهن سوقا رفيقا وهو يرتجز ويقول:
وليس إلا الله فارفع ظنكا *** يكفيك رب الناس ما أهمكا
وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبع فوارس من قريش مستلئمين وثامنهم مولى الحارث بن أمية يدعى جناحا، فأقبل علي عليه السلام على أيمن وأبي واقد وقد تراءى القوم فقال لهما أنيخا الإبل واعقلاها وتقدم حتى أنزل
ص: 148
النسوة ودنا القوم فاستقبلهم علي عليه السلام منتضيا سيفه، فأقبلوا عليه.
فقالوا: ظننت أنك ناج بالنسوة ارجع لا أبا لك ؟. قال:
فإن لم أفعل ؟!.
قالوا: لترجعن راغما، أو لترجعن بأكثرك شعرا! وأهون بك من هالك ؟!.
ودنا الفوارس من المطايا ليثوروها!، فحال علي عليه السلام بينهم وبينها، فأهوى مولى الحارث بن أمية - جناح للإمام بسيفه فراغ علي عليه السلام - عن ضربته! وتختله علي عليه السلام فضربه على عاتقه فأسرع السيف مضيا فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه!، - أي: إن ضربة الإمام علي عليه السلام قسمته نصفين ووصل سيف الإمام علي عليه السلام إلى ظهر الفرس.
وشد الإمام علي عليه السلام عليهم بسيفه، وهو يقول:
خلو سبيل الجاهد المجاهد *** آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدع القوم عنه، وقالوا: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب
قال عليه السلام: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله بيثرب، فمن سرّه أن أفري لحمه وأهريق دمه فليتبعني، أو فليدن مني.
ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد، فقال لهما: اطلقا مطايا كما، ثم سار ظاهرا قاهرا حتى نزل فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ليلته تلك هو والفواطم أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفاطمة بنت الزبير يصلون لله ليلتهم ويذكرونه قياما
ص: 149
وقعودا وعلى جنوبهم فلن يزالوا كذلك حتى طلع الفجر، فصلى علي عليه السلام بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه، فجعل وهم يصنعون ذلك منزلا بعد منزل يعبدون الله عز وجل ويرغبون إليه كذلك حتى قدم المدينة وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم:
(اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً) .
إلى قوله تعالى:
(فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاٰ أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ )(1) .
الذكر علي عليه السلام، والأنثى فاطمة عليها السلام.
(بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هٰاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قٰاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ ثَوٰاباً مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوٰابِ ) .
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوم علي عليه السلام، قال: أدعوا لي عليا، قيل: يا رسول الله لا يقدر أن يمشي، فأتاه صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، فلما رآه اعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وكانتا تقطران دما(2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: (يا علي أنت أول هذه
ص: 150
الأمة إيمانا بالله ورسوله وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمنا قد امتحن - الله قلبه للإيمان، ولا يبغضك إلا منافق، أو كافر)(1).
وحتى هذه، أي: (تقطر قدما الإمام علي عليه السلام) لم يدعها عباد السلطان أن تمر دون أن يأتوا بمثلها لأبي بكر إن لم يزيدوا عليها، فقالوا:
روي عن أبي بكر أنه قال لعائشة: لو رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ صعدنا الغار، فأما قدما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتفطرتا، وأما قدماي فعادتا كأنهما صفوان ؟! فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعود الحفية ولا الرعية(2).
وقد صور البعض أن معنى قول عائشة هو تأكيد لما قاله أبي بكر، لكنه في الواقع هو تعريض واستنكار لما قاله أبو بكر، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهده أحد من أهل بيته أو من أزواجه أو كل من شاهده أنه يمشي حافيا.
وعليه: ما هو الداعي والسبب الذي جعله يمشي حافيا؟! فإذا قيل كي لا يترك أثرا، قلنا: فهل المشي حافيا لا يصنع الأثر، فالأمر واحد؟!
2 - إنّ مما يدل على أن عائشة خالفت قول أبي بكر واعترضت عليه فيما ادعى، هو: عدم ذكرها لأبي بكر نفي الحفية، أي إذا كان سبب ما جرى لقدمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عدم التعود على الحفية فما بال قدمي أبي
ص: 151
بكر؟ فإذا كان هو أيضا لم يتعود الحفية فلماذا لم تذكره عائشة، وإذا كان قد تعود الحفية فما بال قدميه قد تقطرتا؟! وقد تعود الحفية ؟!
3 - إن المسافة بين الغار ومكة لم تكن بالطويلة كي تترك أثرا على أقدام أبي بكر وهذا بعكس المسافة التي قطعها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من مكة إلى قباء مشيا على الأقدام وإن كان معه راحلة فكان هذا الفعل منه بقصد القربة على الله وحصول وافر الأجر عند الله تعالى(1)، وهو مما جاء في الحديث الشريف: (الأجر على قدر المشقة).
نحن نسأل وعند ذوي الألباب الإجابة. قبل أن ننهي هذه الرحلة وننتقل إلى أجواء أخرى في أحداث المدينة المنورة وظهور سمات كثيرة في حياة الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام، بفعل الأحداث التي رافقت مسيرتها مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته والتي سيكون لنا وقفات يطول البحث فيها حينا، ويقصر حيناً آخر حسبما تمليه علينا أهمية الحدث.
فإننا لابد أن نشير ها هنا إلى نقطتين في غاية الأهمية، وهما:
أولا: مقارنة بين خروج الإمام علي عليه السلام وبين خروج أبي بكر.
وهنا نوجز الكلام لأن الحال بيّنٌ جليٌّ فشتان بين الخروجين، لكن نورد أسئلة ولا نجيب بل نذكر؛
(فَإِنَّ اَلذِّكْرىٰ تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ )(2) .
ص: 152
1 - ماذا سيكون حال أبي بكر فيما لو تعرض لنفس الموقف الذي تعرض له الإمام علي عليه السلام، أي: ماذا كان يصنع لو كان هو الذي قد أخرج حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولحق به فوارس قريش كما حدث لعلي عليه السلام ؟! ونحن لا نجيب بل نسأل ولكن نذكر بما نصت عليه الآية من (الحزن)، وبما أخرجه البخاري في (كثرة التفات أبي بكر، عندما لحق بهم رجل واحد وهو: (سراقة، فضلاً عن قول حفاظ المسلمين: بشدة خوفه لدرجة البكاء)؟!
2 - إن الذي يؤتمن على العرض والشرف والعفة، والحرمة أعظم ممن يؤتمن على النفس فهي، أي النفس تقدم رخيصة في مقابل الحفاظ على العرض والشرف.
ومن هنا: فإن ائتمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً عليه السلام على عرضه وحرمه: المتمثلة بفاطمة البضعة النبوية وزوجته (سودة بنت زمعة) وابنة عمه: (فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب) وامرأة عمه أبي طالب رضي الله عنها وهي التي قال فيها: هي أمي، وابنة الزبير بن العوام ومولاته أم أيمن وولدها ونساء المؤمنين وضعافهم، كل هؤلاء وجميع هذه الحُرم عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيانتها إلى الإمام علي عليه السلام وبهذا يكون الإمام علي عليه السلام:
(صائن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه: فإن الذين كان ينظرون إلى المنزلة التي نالها أبو بكر برفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أثناء خروجه، كان الواجب والحق والانصاف والعقل يلزمهم بالنظر أولا إلى من صان عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه.
ص: 153
ذكر الرواة في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد أوكل إلى علي عليه السلام مهمة أخرى غير المبيت على فراشه، وهذه المهمة هي تأدية الودائع التي وضعتها قريش عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما من أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لعلمه بصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمانته، ولاشتهاره بالصادق الأمين.
ولذا كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ينادي ثلاثة أيام بالأبطح من كانت له عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وديعة فليأت تؤدى إليه أمانته(1).
وهنا أمور ينبغي الإشارة إليها:
1 - إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل من علي منزلة النفس أمام قريش فمن كان يعتقد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صادق، أمين) فهذا علي صادق أمين يؤدي الأمانات إلى أهلها؛ وهو كنفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - إنّ الإمام عليه السلام كان لا يرد مدعيا يدعي أن له شيئاً وضعه عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان المدعي كاذبا، وهذه مسألة في غاية من الأهمية، إذ بهذه الطريقة يحفظ الإمام علي عليه السلام حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقطع على الكافرين أسلوب الطعن في أمانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان عليه السلام يعطي هذا المدعي ولا يسأله البيّنة لأن في ذلك تثبيتاً
ص: 154
لاعتقاد الناس بأمانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3 - إن أهم ما يشغل الناس وعلى كافة مستوياتهم هو حفظ أموالهم، وصيانة حقوقهم، وإن إيكال هذا الأمر المهم إلى الإمام علي عليه السلام لينوب به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ حقوق الناس وإن كانوا أعداء لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رغم شدة إيذائهم له صلى الله عليه وآله وسلم، فإن جعل الإمام علي عليه السلام في هذا الموقع الذي هو فيه كالأصيل، بلحاظ كونه وكيلاً فإن ذلك إعلان صريح قولاً وفعلاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس بأن الذي يخلفني في أموركم وقضاء حوائجكم وصون حقوقكم هو علي بن أبي طالب عليهما السلام أي بمعنى: (من كانت له حاجة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فليأتِ عليا عليه السلام، ومن لم تكن له حاجة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فليذهب إلى غير علي عليه السلام).
4 - إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوكل إلى الإمام علي عليه السلام في قضية خروجه من مكة إلى المدينة ثلاث مهام لم تكن لأحد من المسلمين واحدة مثلها، فكيف بثلاثتها.
هي المهمة التي كلف بها الإمام علي عليه السلام، وهي: المبيت على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذه حفاظ وسلامة ونجاة لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي بهذه حفظ نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 155
هي تكليفه بتأدية الودائع إلى الناس فكل من كانت له أمانة استودعها عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الراد والمؤدي لهذه الأمانات إلى أهلها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وبهذه حفظ مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرمته.
فكانت تكليفه عليه السلام بحمل حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي الفواطم، وحرم المؤمنين وضعفاء المؤمنين وبهذه يكون الإمام علي عليه السلام قد حفظ وصان عرض النبوة.
وعليه:
فمن له هذه الثلاث: (حفظ نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (حفظ مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، (حفظ عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه فقط في حالة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرها من المواقف. فهذه الثلاث ؟! أم تلك التي قالها عمر بن الخطاب يوم السقيفة:
«ثاني اثنين» إذ هما في الغار صاحبه.
أفلهذه الثلاث أبُعد علي عليه السلام أم لتلك الثلاث قرب أبي بكر؟!
نحن نسأل... وعند ذوي الضمائر الحية الإجابة.
ص: 156
ص: 157
ص: 158
وفيها مسألتان:
سؤال ارتبطت بالإجابة عليه مسائل عديدة وحقائق كثيرة، رافقت مسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة حتى وفاته.
بل امتدت حتى بعد وفاته، وما جرى على الأمة الإسلامية من أحداث عصفت بجميع جوانبه وأدمت جذور تكوينه فما زالت تلك الجذور تنزف ؟ لا تتوقف حتى يأذن الله بخروج ابن فاطمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ليملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
ومرة أخرى نقول:
أين نزلت فاطمة بعد أن هاجرت إلى المدينة ملتحقةً بأبيها سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخرجها علي بن أبي طالب عليهما السلام مع أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها وابنة عمه فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب عليهم السلام، وجمع من نساء المؤمنين وكثير من ضعفاء المسلمين إلى المدينة.
ولكي تكون الإجابة على هذا التساؤل واضحة فلابد من الإحاطة بشكل
ص: 159
دقيق بحركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ودخوله المدينة، ونبدأ في بحثنا هذا ونحن نسير في رحاب عطر النبوة من المحطة التي سبقت المدينة.
بين رقة النسيم، وعطر ذرات التراب التي علقت بثياب القادمين من مكة مهاجرين إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبين دموع اللقاء وتنهدات الفراق تحتضن أرض قباء حبيباً بأحبته لم يحتمل كل منهما فراق الثاني وغيابه عن ناظريه.
فها هي قباء تلتقط ذراتها صورة اللقاء لتروي من خلالها ألسنة الرواة مجريات هذا الجمع وما سبقه من أحداث.
فعن أحمد بن محمد بن يحيى، عن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي حمزة(1) عن سعيد بن المسيب، قال - قلت - لعلي بن الحسين عليهما السلام:
ص: 160
جعلت فداك كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أقبل إلى المدينة فأين فارقه ؟ فقال:
إن أبا بكر لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قباء فنزل بهم ينتظر قدوم علي عليه السلام فقال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك، وهم يتريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تقم ها هنا تنتظر عليا، فما أظنه يقدم إليك إلى شهر.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلا، ما أسرعه، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عزّ وجل، وأحب أهل بيتي إليّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين.
قال:
فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وداخَلَه من ذلك حسد لعلي عليه السلام وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام وأول خلاف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1).
ولم يحتمل أبو بكر البقاء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أربع إلى خمس ساعات ؟ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد وصل قباء عند الزوال وصلى الظهر والعصر ركعتين، فلما أمسى جاءه أبو بكر يعرض عليه النزول إلى المدينة، ولما لم يجد كلامه مسموعا، ورأيه مقبولا ترك النبي ونزل غاضبا ولكن على من ؟!(2).
ص: 161
فانطلق حتى دخل المدينة(1)، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقباء حتى ينتظر عليا(2)، فبقي خمسة عشر يوما نازلا على كلثوم بن الهدم في بيت عمرو بن عون فأقام عندهم - وهم - يقولون له أتقيم عندنا فنتخذ لك مسجدا؟ فيقول:
لا، إني أنتظر علي بن أبي طالب وقد أمرته أن يلحقني ولست مستوطنا منزلا حتى يقدم عليّ ، وما أسرعه إن شاء الله(3).
فقدم علي عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت عمرو بن عون فنزل معه(4)، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قدم علي تحول من قباء إلى بني سالم بن عوف، وعلي عليه السلام معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس، فخط لهم مسجدا، ونصبت قبلته وصلى بهم فيه الجمعة ركعتين، وخطب خطبتين، ثم راح من يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها، وعلي عليه السلام معه لا يفارقه يمشي بمشيه، وليس يمرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم، فيقول لهم:
«خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة».
فانطلقت به ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضع لها زمامها حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى - وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ الذي يصلي عنده بالجنائز - فوقفت عنده، أي: الناقة، وبركت
ص: 162
ووضعت جرانها على الأرض، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقبل أبو أيوب مبادرا حتى احتمل رحله فأدخله منزله، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام معه حتى بنى له مسجده، وبنيت له مساكنه ومنزل علي عليه السلام فتحولا إلى منازلهما(1).
وابتنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد بناء المسجد لأصحابه خططا، فبنوا فيه منازلهم، وكل شرع منه بابا إلى المسجد، وخط لحمزة وشرع بابه إلى المسجد، وخط لعلي بن أبي طالب مثل ما خط لهم وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد فنزل عليه جبرائيل عليه السلام فقال:
«يا محمد إن الله عز وجل يأمرك أن تأمر كل من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلا لك ولعلي عليه السلام، ويحل لعلي فيه ما يحل لك ؟».
فغضب أصحابه وغضب حمزة، وقال: أنا عمه عليه السلام يأمر بسد بابي، ويترك باب ابن أخي وهو أصغر مني ؟ فجاءه صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
«يا عم لا تغضب من سد بابك وترك باب علي فوالله ما أنا أمرت بذلك ولكن الله عز وجل أمر بسد أبوابكم وترك باب علي».
فقال: يا رسول الله رضيت وسلمت لله عزّ وجل ولرسوله(2).
ص: 163
ومن هذه الرواية نستلخص النتائج التالية:
ألف: أن البضعة النبوية فاطمة عليها السلام قد نزلت مع أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزل أبي أيوب الأنصاري حتى تم الانتهاء من بناء المسجد النبوي وما تبعه من بناء لمنازل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يدل عليه أيضا: ما أخرجه البيهقي من حديث لأنس بن مالك يقول فيه:
(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث بنى منازله كانت فاطمة عنده)(1).
باء: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خط لبعض أصحابه خططا - أي قطع أراضٍ - بنوا فيها منازلهم، وكل شرع منه بابا إلى المسجد والذي يبدو من خلال سير الأحداث، وحديث سد الأبواب، أن هذه المنازل بنيت تباعا وبقيت أبوابهم شارعة في المسجد مدّة من الزمن.
جيم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سدّ أبواب منازل أصحابه الشارعة إلى المسجد وترك باب علي بن أبي طالب عليهما السلام وقد اعترضوا عليه فقال:
«إن ذلك من أمر الله عز وجل وأنه لم يفعله من نفسه إنما كان ينفذ أمرا إلهيا بسد أبوابهم وترك باب علي عليه السلام».
وعليه: كانت فاطمة عليها السلام مع أبيها صلى الله عليه وآله وسلم قبل بناء المسجد في دار أبي أيوب، ولكن أين نزلت فاطمة عليها السلام بعد بناء المسجد؟
ص: 164
قد مرّ سابقا في أثناء البحث في مجريات الأحداث بعد وفاة أم المؤمنين الصديقة الطاهرة سيدة قريش خديجة الكبرى عليها السلام، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج بعد وفاتها من السيدة سودة بنت زمعة وكان زواجه صلى الله عليه وآله وسلم منها قبيل الهجرة إلى المدينة المنورة، وقد خلفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وأمر الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام أن يأتي بها مع ابنته فاطمة عليها السلام كما مر بيانه.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا البحث هو:
هل يصح أن يجمع النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم زوجته سودة بنت زمعة وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، وأم كلثوم على الرواية التي تقول أنها خرجت مع الفواطم ولم تبقَ مع أختها زينب، فهل يصح جمعهن ثلاثتهن في حجرة واحدة من الناحية التربوية والنفسية ؟! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو معلِّم البشرية الأول وأساس منهاجها الحضاري والتربوي، وهو صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا يحمل إحساسا مرهفاً، وعاطفة غزيرة، يتدفق رحمة وحنانا، ويفوح رقة وجمالا، لا يرفع حق زوجة فوق حق بنت، ولا حق بنت مقابل حق زوجة، أساس العدل وسنخ الرحمة والإحسان؛ وما حبه لابنته وبضعته النبوية فاطمة عليها السلام وزوجها وولديها إلاّ من حبه عزّ وجل إياهم، لما خصهم به من شرعه، ولخلوصهم في عبوديته، وإقرارهم لوحدانيته، إقرار معرفة وعمل.
وعليه: كيف تتم الموازنة والمحافظة على الحقوق مع ما عليه الأنبياء عليهم
ص: 165
السلام من عدم المبيت في خلاء حال توفر الزوجة.
وجوابه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بعد الانتهاء من بناء المسجد ببناء حجرة خاصة له كانت ملاصقة لجدار المسجد الشرقي(1)، وأنزل فيها فاطمة عليها السلام ضمانا لراحتها وهي التي لم تزل فاقدة للأم.
وبنى حجرة ثانية لزوجته سودة بنت زمعة رضي الله عنها فكانتا حجرتين فقط(2)، وهو ما اشتهر بين أصحاب السير والتاريخ.
أما بقية الحجرات التي كانت لأزواجه فقد بناها النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحدة تلو الأخرى، أي: كلما دخل بامرأة بنى لها حجرة مستقلة، فكانت تسع حجرات، وهي التي أطلق عليها بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما حجرة فاطمة عليها السلام، فقد كانت حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخاصة به، وغرفته المستقلة، وهي أول ما بنى بعد الانتهاء من المسجد، وقد كانت مسكنا لفاطمة عليها السلام حتى تزوجت من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام، فانتقلت وتحولت منها إلى منزل حارثة بن النعمان وهي بجنب بيت سودة بنت زمعة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبجانب بيت عائشة الذي بناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد، أي: بعد أن بنى الحجرتين فكانت الأولى خاصة به وقد أنزل فيها فاطمة، وأنزل في الحجرة الثانية زوجته سودة بنت زمعة.
ص: 166
بعد أن استقر حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، وبعد أن أدركت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدرك النساء، خطبها أكابر قريش(1) ومن أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال.
وكان كلما ذكرها رجل من قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوجهه ؟! حتى كان يظن الرجل منهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساخط عليه، أو قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه وحي من السماء(2).
ص: 167
وعن ابن عباس أنه قال: كانت فاطمة تذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يذكرها أحد إلا صدّ عنه حتى يئسوا منها(1).
وهذا الأمر لم يقتصر على المهاجرين وإنما شمل الأنصار أيضا فهم كذلك قد تنافسوا للفوز بالبضعة النبوية عليها السلام، ولم يكن حالهم في الرد على طلبهم بأفضل من حال المهاجرين، حتى لقي رهط منهم - أي من الأنصار - الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا له: لو خطبتَ فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخليق أن يزوجها فقال:
«وكيف وقد خطبها أشراف قريش فلم يزوجها»(2).
وكان من ضمن الذين خطبها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر، وعمر ابن الخطاب، وقد ظهر من خلال الروايات أنهما تقدما أكثر من مرة لخطبتها فردهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(3) في كل مرة فكانت بالشكل التالي:
فقد أخرج ابن إسحاق والطبراني، وابن حبان، والهيثمي، والمناوي وغيرهم بسند عن أنس بن مالك أنه قال:
(جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقعد بين يديه، فقال: يا
ص: 168
رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وتقدمي على غيري، وإني وإني....
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«وما ذاك ؟».
قال: تزوجني فاطمة!
فأعرض عنه، - وفي رواية - فسكت عنه.
فرجع أبو بكر إلى عمر بن الخطاب، فقال له: قد هلكت وأهلكت!
قال عمر: وما ذاك ؟!
قال: خطبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعرض عني ؟!! قال: مكانك حتى آتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأطلب مثل الذي طلبت فأتى عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقعد بين يديه.
فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام، وإني.. وإني..!
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«وما ذاك ؟!».
قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه، فرجع إلى أبي بكر فقال له: إنه ينتظر أمر الله فيها)(1).
ص: 169
أخرج الهيثمي والبزار عن أنس بن مالك أنه قال:
(إن عمر بن الخطاب أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ما يمنعك أن تتزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال: لا يزوجني! قال: إذا لم يزوجك، فمن يزوج، وأنك من أكرم الناس عليه، وأقدمهم في الإسلام ؟ قال أنس بن مالك: فانطلق أبو بكر إلى بيت عائشة، فقال: يا عائشة إذا رأيت من رسول الله طيب نفس وإقبالا عليك فاذكري له أني ذكرت فاطمة، فلعل الله عزّ وجل أن يسيرها لي.
قال أنس: فجاء رسول الله فرأت منه طيب نفس وإقبالا، فقالت: يا رسول الله إن أبا بكر ذكر فاطمة، وأمرني أن أذكرها.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«حتى ينزل القضاء».
قال أنس: فرجع إليها أبو بكر فقالت: يا أبتاه وددت أني لم أذكر له الذي ذكرت!
ص: 170
فلقي أبو بكر عمر، فذكر أبو بكر لعمر ما أخبرته عائشة، فانطلق عمر إلى حفصة فقال: يا حفصة، إذا رأيت من رسول الله إقبالا - يعني عليك - فاذكريني له واذكري فاطمة، لعل الله أن يسيرها لي.
قال أنس: فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرأت طيب نفس ورأت منه إقبالا، فذكرت له فاطمة عليها السلام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«حتى ينزل القضاء».
فلقي عمر حفصة فقالت له: يا أبتاه وددت، إني لم أذكر له الذي ذكرت!
فانطلق عمر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: ما يمنعك من فاطمة ؟ فقال علي:
«أخشى أن لا يزوجني!».
قال: فإن لم يزوجك فمن يزوج وأنت أقرب خلق الله إليه ؟
فانطلق علي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن له مثل عائشة وحفصة، قال: فلقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
«إني أريد أن أتزوج فاطمة».
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«فافعل»(1).
إلى آخر الرواية وفيها خبر زواج علي عليه السلام.
ص: 171
قد ورد أمر تقدمهما لخطبة فاطمة عليها السلام في بعض المصادر مختصرا دون ذكر هذه المجريات، مع إعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهما أيضا مما يدل على أنهما قد عاودا خطبة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمرين رافقا إعراضه عنهما:
الأمر الأول: ما أخرجه الحاكم عن أبي بريدة قال:
(خطب أبو بكر وعمر فاطمة عليها السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إنها صغيرة».
فخطبها علي عليه السلام فزوجها)(1).
فهنا قد اعتذر صلى الله عليه وآله وسلم منهما بكونها (صغيرة) وسيمر بيانه مع سبب رفع هذا العذر عندما تقدم لخطبتها الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام.
الأمر الثاني: ما أخرجه ابن سعد:
(أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
«يا أبا بكر أنتظر بها القضاء».
فذكر ذلك أبو بكر لعمر، فقال عمر: ردك يا ابا بكر؟!
ص: 172
ثم أن أبا بكر قال لعمر: أخطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فخطبها، فقال له مثل ما قال لأبي بكر:
«أنتظر بها القضاء».
فجاء عمر إلى أبي بكر فأخبره، فقال له: ردك يا عمر!(1).
فهنا قد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمر آخر في سبب إعراضه عنهما، والذي يبدو من خلال سياق الرواية: أن ابا بكر كان موقناً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يزوج ابنته من عمر بن الخطاب.
لكن الذي دفعه إلى ترغيب عمر - وهو الراغب دون ترغيب - وحثه إلى خطبة فاطمة عليها السلام هو: كي يسمعه تلك الكلمة التي تلقاها منه عندما ذكر له أمر مثوله عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا ابنته.
من الأمور التي رافقت خطبة الصحابة لفاطمة عليها السلام وتقدمهم في ذلك على النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، هو تقدم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، خاطبين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الحادثة رافقها غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما قالاه، ولأنهما تعديا حدود الخطاب في حضرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بل تعدّيا في ذلك حرمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
ص: 173
فكان جوابه لهما: أن حصبهما بكف من الحجارة ؟ كي يعيدهما إلى رشدهما، وإنهما يخطبان بنت أشرف الأنبياء والمرسلين، وبضعته النبوية، لا بنت كسرى أو قيصر فيساومان معه على المال الذي يغريهما فيوافقان على تزويج بناتهما لمن يدفع أكثر.
فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم وبنته عليها السلام سيدة نساء العالمين، ومن كان بهذه المنزلة لا يخاطب بلغة المال، بل بلغة التقوى، والعبودية لله عزّ وجل.
فعن أنس بن مالك أنه قال: (ورد عبد الرحمن بن عوف الزهري، وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له عبد الرحمن: يا رسول الله تزوجني فاطمة ابنتك وقد بذلت لها من الصدّاق مائة ناقة سوداء زرق الأعين محملة كلها قباطي مصر وعشرة آلاف دينار، ولم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيسر من عبد الرحمن وعثمان.
وقال عثمان: أنا أبذل ذلك، وأنا أقدم من عبد الرحمن إسلاما؟!
فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مقالتهما فتناول كفا من الحصى فحصب به عبد الرحمن ؟ وقال له:
«إنك تهول علي بمالك!».
فتحول الحصى درا، فقومت درة من تلك الدرر فإذا هي تفي بكل ما يملكه عبد الرحمن(1).
ص: 174
وفي رواية: فغضب صلى الله عليه وآله وسلم مد يده إلى حصى فرفعها فسبحت في يده فجعلها في ذيله فصارت درا ومرجانا يعرض به جواب المهر)(1).
وعليه:
فإن هذه الحادثة تكشف عن ظهور معجزة من معاجز النبوة وأحد الأدلة عليها، وهي في نفس الوقت تظهر ما لفاطمة عليها السلام من مكانة خاصة عند الله ورسوله.
مسائل البحث في الأحاديث:
المسألة الأولى: لماذا أعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل خاطب، وصدّ عنهم ؟! حتى يئسوا منها(2)!
أنّ مما يستوقف الباحث في تقدم الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة فاطمة عليها السلام، هو إعراضه صلى الله عليه وآله وسلم عنهم بتلك الصورة التي أظهرتها الروايات.
فمرة يفصح عن سبب هذا الإعراض، وأخرى يسكت صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجيب ولو بكلمة واحدة.
كما حدث مع أبي بكر وعمر مما دعاهما للتقدم إليه صلى الله عليه وآله
ص: 175
وسلم أكثر من مرة، فكان الجواب في المحاولة الأولى السكوت.
وفي الثانية الاعتذار بعد أن جعلا بنتيهما وسيطا في الخطبة، وفي الثالثة: ينتظر بها أمر الله تعالى.
لكن بماذا كان يعتذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صحابته عن تزويجها عليها السلام ؟
وهو ما أخرجه الحاكم، والنسائي وغيرهما، عن بريدة:
(أن أبا بكر وعمر خطبا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فقال:
«إنها صغيرة»)(1).
وهذا يدل على أنها عليها السلام ولدت سنة خمس من البعثة النبوية ليكون عمرها عند الهجرة النبوية ثماني سنين(2)، وفي السنة الأولى للهجرة تسع سنين(3)، فالمرأة بهذا السن يصح أن يقال عنها:
ص: 176
إنها صغيرة.
فيعتذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تزويجها.
أما ما ذكره بعض الرواة: بأنها ولدت سنة خمس قبل البعثة! فغير صحيح ؟ لأنها تكون في سن التاسعة عشرة عند الهجرة النبوية، ومن كانت بهذا السن لا يصح أن يقول عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ب (أنها صغيرة).
وبه يتضح زيف الرواية وكذبها، وأنها ولدت بعد البعثة في السنة الخامسة كما تنص روايات أهل البيت عليهم السلام، وتدل الرواية أيضا على أنها خلقت من ثمار الجنة لأن النبي أسري به في السنة الثالثة من البعثة أي على خلاف ما يرويه أهل السنة والجماعة.
وهو ما أخرجه ابن سعد، والبلاذري، وابن شاهين وغيرهم:
أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهما:
«أنتظر بها القضاء»(1).
وهذا القول يحمل معنيين ظاهري وباطني.
ص: 177
هو أن أمر زواجها بيد الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر نزول الوحي ليخبره بالرجل الذي اختاره الله عزّ وجل لفاطمة زوجا.
أما المعنى الباطني ففيه مسألتان:
الأولى: في الانتظار
في (الانتظار) وهو - أي الانتظار -: شعور وجداني يشترك فيه العقل والقلب، ولا يأتي إلا لأمر قد سبق تحديده وبيانه لدى الإنسان فيكون في ترقب لوقوعه وتحققه.
وعليه:
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أخبر عن الله عزّ وجل بزواج البضعة النبوية، وأنه كان على علم بمن تتزوج، وأن هذا العلم حصل في الإسراء والمعراج - كما سيمر علينا - فلذا كان صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر أن يقدم إليه علي بن أبي طالب عليه السلام ليزوجه فاطمة عليها السلام.
الثانية: في القضاء
في (القضاء) وهنا يشير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن الله عزّ وجل قد قضى في سابق علمه، وما اقتضاه حكمه في أوليائه: أن يزوج فاطمة من علي عليهما السلام.
ص: 178
وأن هذا القضاء والحكم الإلهي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصد عن كل خاطب يتقدم لخطبتها حتى يئسوا منها.
وعليه ومن خلال هذا المعنى في المسألتين:
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر القضاء بالمباشرة وإتمام الزواج في الأرض وأمام المسلمين.
وبمعنى أوضح: أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر أن يهبط عليه جبرائيل عليه السلام ليخبره عن الإذن الإلهي في بدء الزواج وإتمامه في الأرض ليعلم الناس من خلال هذا الزواج مكانة علي وفاطمة عليهما السلام عند الله عزّ وجل، وليمضي حكمه في خلقه بخروج النسل الطاهر الطيب وليتم نوره عزّ وجل بآل محمد وعترته عليهم السلام الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فجعلهم ثقل القرآن، وأمان الأمة من الضلال، فأوجب حبهم وجعله علامة الإيمان، وحذّر من بغضهم وجعله علامة النفاق.
نستعيذ بالله من سخط الله وسخطهم ونسأله حبهم وشفاعتهم.
أن من الأمور التي أظهرتها الروايات فاستوقفتني هي: تَغَيُّر حال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمام كل من تقدم إليه خاطباً فاطمة عليها السلام!
حتى كان يظن الرجل منهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساخط
ص: 179
عليه، أو قد نزل فيه وحي من السماء(1)، فيتمنى أنه لم يتكلم! ولم يكن قد سمح لنفسه أن يتقدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر.
وهذه الحالة كان يراها الرجال والنساء، كما حدث لعائشة وحفصة، فبعد أن تكلمتا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبتين لأبويهما، فإن الصورة التي جاءتا بها إلى أبي بكر وعمر لا تكشف فقط عن رفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعراضه عنهما، بل تكشف أيضا عن الندم الشديد الذي أنتابهما بعد هذه المحادثة فكانت كل منهما، تقول لأبيها: (يا أبتاه وددت أني لم أذكر له الذي ذكرت)(2).
فهذه الكلمات تنقل لنا صورة واضحة عن حالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتألمه لدرجة كان يظن فيها المتكلم أنه قد أسخط النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، فاستحق نزول العذاب عليه من الله.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
لماذا يتغير حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند سماعه المتكلم يذكر فاطمة عليها السلام في الزواج ؟!
وجوابه: أن ذلك لأحد هذه الأسباب، أو لعلها جميعاً:
هو لخوفه صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة من أن يساء لها، أو أن تنتهك حرمتها فلا يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ولا يكرم بها،
ص: 180
أو أن تجد قريش من خلالها ما يشفي غليلها من رسول الله فتنزل بها أنواع الأذى، لأنها قلبه وروحه التي بين جنبيه.
ولذلك أن الذي أساء إليها عليها السلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عارفاً بحجم الألم الذي أنزله على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلم كيف يسدد رميته ؟!
وعرف في أيّ موضع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أصاب - كما سيمر علينا في مجريات الأحداث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن شاء الله.
أن الحديث في زواج فاطمة عليها السلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك جرحا خلفه موت رقية رضي الله عنها، ويجدد ألما أحدثه بسبب وفاتها في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها ومن خلال ما أخرجه أصحاب الصحاح قد ماتت بسبب الإساءة إليها وعدم رعايتها، فدعا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلن أمام الصحابة الذين حضروا دفنها عن سبب موتها وهو دامع العين محزون الفؤاد!
فقد أخرج البخاري والحاكم وغيرهما، واللفظ للبخاري:
(حدثني عبد الله المسندي(1)، حدثنا عفير حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس
ص: 181
قال: لما ماتت رقية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يدخل القبر رجل قارب أهله الليلة فلم يدخل عثمان القبر»)(1).
وفي رواية أخرى للبخاري، عن أنس: شهدنا ابنة لرسول الله والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان! فقال:
هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة ؟!
قال أبو طلحة: أنا.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«أنزل في قبرها».
فنزل في قبرها.
وقد قال البعض: إنها أم كلثوم وليست رقية ؟ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحضر دفنها فقد ماتت وهو في بدر(2).
وهذا القول لا يصل بصحته إلى ما أخرجه البخاري الذي نسب وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قبر رقية، وبيانه ما عليه حالها مع عثمان مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدرك دفنها عند عودته من بدر الكبرى، وهذا الحال نفسه يتكرر أيضا مع أم كلثوم فيبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة أخرى الحالة التي عليها عثمان مع أم كلثوم وأنه لا يفي بوعوده التي قطعها على نفسه أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما تقدم مرة أخرى خاطبا
ص: 182
لأم كلثوم لدرجة أنه لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي بسبب خسارته الكبيرة لفقده مصاهرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا زوجه النبي مرة أخرى من ربيبته أم كلثوم رضي الله عنها، وعلى مثل صداقها وعشرتها(1).
وعليه فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة فلم يدخل عثمان القبر؟».
هو بيان منه صلى الله عليه وآله وسلم لسوء المعاملة، وعدم الاهتمام الذي كانت تتلقاه رقية رضي الله عنها فيهجرها تعاني آلامها وهي مصابة بالحصبة(2)، بينما يذهب يقضي الليل مع جاريته، ويأتي إلى دفن رقية وهو على جنابته!!!
فيؤذي ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدمع عيناه! ولو كان الحال على ما يرضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان قد همس في أذن عثمان، ولم يظهر حاله أمام الصحابة الذين حضروا دفن رقية رضي الله عنها(3).
ومن هنا:
فإن كل رجل كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخطبة
ص: 183
فاطمة عليها السلام، فهو إنما يذكره بذاك الألم ويحرك عليه ذلك الجرح الذي سببه سوء معاملة رقية رضي الله عنها؟ فيتغير حاله حتى يظن الخاطب أنه أسخط النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه.
أن التغير الذي يلاحظه المتكلم على حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تعبير منه صلى الله عليه وآله وسلم عن المكانة الخاصة لفاطمة عليها السلام عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن المتقدم لها كان عليه أن يفهم أن الارتقاء للمقامات العظيمة عند الله عزّ وجل يحتاج إلى كفاءات تتناسب مع هذه المقامات، ولياقة متميزة وأهلية منفردة تمكنه من التقدم! بل عليه أن ينظر إلى هذا المقام السامي، من منظار القرب الإلهي، وأن يحمل رصيدا كبيرا في سجل التقوى لا في سجل المال والبنوك.
فالمتقدم لخطبة البضعة النبوية والصديقة الطاهرة وسيدة نساء العالمين وهو فاقد لتلك الكفاءات ومجرد من تلك المميزات! يكون تقدمه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضع التجاسر. وتعدّياً للحدود التي فرضها الله عز وجل على المسلمين في آداب الخطاب بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال عزّ وجل:
(لاٰ تَجْعَلُوا دُعٰاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوٰاذاً فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ )(1) .
ص: 184
ولذلك كان يتغير حاله صلى الله عليه وآله وسلم أمام المتكلم الخاطب كي يتهذب نفسيا وتربويا ويفهم أن الله عزّ وجل قد جعل حدودا في التعامل مع سيد الأنبياء عليهم السلام وأن الاقتران بسيدة نساء العالمين يلزم تحقق الكفاءة للخاطب.
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفء»(1).
إن تغير حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لعلمه صلى الله عليه وآله وسلم بعدم صدق الذين تقدموا لخطبة فاطمة عليها السلام، فهو يعلم أنهم لن يصدقوا في رعايتها والحفاظ عليها، وصون حرمتها.
ولذا فهم غير جديرين بأن يودعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضعته النبوية، ولا يستحقون أن يقلدهم قلبه وروحه التي بين جنبيه.
وقد صرّح النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لهم بتلك الحقيقة، وأعلن لهم عن أحد أسباب إعراضه عنهم وتزويجه علياً عليه السلام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
هي لك يا علي لست بدجال(2).
وقد حاول ابن سعد توجيه الحديث لغير معناه الواضح ودلالته البينة
ص: 185
ومقصوده الجلي، قائلا عن الراوي:
(خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«هي لك يا علي لست بدجال»).
يعني: لستُ بكذاب، وذلك أنه قد وعد عليا بها قبل أن يخطب إليه أبو بكر وعمر(1).
وهذا التعليل من ابن سعد الذي جاء بضم التاء أراد به نفي الكذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس الإمام علي عليه السلام بمعنى: نفي العلة عن الأشخاص الذين تقدموا لخطبة فاطمة عليها السلام، وهو تعليل خاطئ وتدليس وهذا أولاً.
ثانيا: قد ورد في كثير من الأحاديث: أن الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام كان آخر من تقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا؛ لأنهم يئسوا منها(2)، وفي أخرى أنه لم يذهب حتى عوتب من قبل جماعة من الأنصار(3)، وفي رواية أخرى أنه كان غير ملتفت أصلا إلى هذا الأمر(4)، وفي غير
ص: 186
هذه الروايات: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث إليه فزوجه(1).
- كما سيمر بيانه لاحقا - فمتى وعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفاطمة عليها السلام، وكما يقول ابن سعد: قبل أبي بكر وعمر.
ثالثا: لماذا لم يصرّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أمام كل خاطب، فيعتذر منه: بأنه وعد عليا بها ولا يريد أن يخلف بوعده! أليس هذا أهون بكثير على نفوس المتقدمين إليه صلى الله عليه وآله وسلم من إعراضه وصدّه عنهم حتى كان يظن الرجل منهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم ساخط عليه أو أن وحيا نزل فيه ؟!
فإذن:
وبحسب ما جاء به هذا الحديث: فما زوّج النبي فاطمة لعلي عليهما السلام إلا لانتفاء العلة المانعة عنه، وثبوتها في غيره.
ص: 187
قد مرّ علينا في الفصل السابق: (تزاحم الصحابة فيما بينهم) لأجل الفوز ببضعة النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن لم يحالف الحظ أحدا منهم بالوصول إلى ذلك المقام السامي، ولم تتوفر في أحدهم الكفاءة المطلوبة واللازمة لنيل هذا الفخر: بكونه زوجا لسيدة نساء العالمين.
ولأجل هذا التزاحم الذي كان بينهم ولإعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، فقد مدّت الأعناق وأحدقت الأبصار ب -: (علي بن أبي طالب عليه السلام)؟! لأنه الوحيد من بينهم الذي لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا فاطمة عليها السلام - هذا جانب -.
ص: 188
والجانب الآخر:
لاعتقاد قسم كثير منهم في أهلية الإمام علي عليه السلام لهذا المقام، بينما كان القسم الآخر يحاول رفع حالة الانكسار التي لحقته من رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وجبرها بفعل جديد سجل فيه سعيه في خطبة الإمام علي لفاطمة عليهما السلام.
ومن هنا:
نجد أنّ الروايات التي تناولت الحديث من زواج الزهراء عليها السلام قد أشارت إلى تحرك أكثر من شخصية للحديث مع علي بن أبي طالب عليه السلام في تقدمه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا فاطمة عليهما السلام، فكانت على النحو التالي:
إن مجيء أبي بكر وعمر للإمام علي عليه السلام بشأن خطبته لفاطمة عليها السلام قد تناولته مصادر المسلمين سواء التي تأخذ بالطرق المتصلة إلى صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو التي تأخذ بالطرق المتصلة إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا السبب أوردناهما أولا، على الرغم من أنهما كانا آخر من تحدث مع الإمام علي عليه السلام كما سيمر علينا.
ص: 189
فقد أخرج ابن حبان، والطبراني، والهيثمي، والمناوي، وابن المغازلي وغيرهم بسند عن أنس بن مالك، أن عمر قال لأبي بكر بعد أن ردهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(فانطلق بنا إلى علي حتى نأمره يطلب الذي طلبنا. قال علي عليه السلام:
«فأتياني وأنا أعالج فسيلا(1)».
فقال: ألا أتيت ابن عمك تخطب ابنته ؟ قال علي عليه السلام:
«فنبهاني لأمر فقمت أجر ردائي طرفا على عاتقي وطرفا على الأرض حتى أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم»(2).
وفي هذه الرواية: كان الذي يتحدث مع الإمام علي عليه السلام هو عمر بن الخطاب لكن أنس لم يفصح عنه هنا كما تدل عليه رواية الهيثمي قائلا:
(فانطلق عمر إلى علي بن أبي طالب فقال: ما يمنعك من فاطمة ؟ فقال:
«أخشى أن لا يزوجني!».
قال: فإن لم يزوجك فمن يزوج ؟ وأنت أقرب خلق الله إليه(3)، فانطلق علي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
ص: 190
فقد أخرج الشيخ الطوسي، وابن شهر آشوب، وغيرهما، عن جويبر بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:
«أتاني أبو بكر وعمر فقالا لو أتيت رسول الله فذكرت له فاطمة»(1).
عن بريدة قال: قال نفر من الأنصار لعلي بن أبي طالب عليه السلام:
(لو خطبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخليق أن يزوجكها، فقال عليه السلام:
«فكيف وقد خطبها أشراف قريش فلم يزوجها».
فدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليخطبها فسلم، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هيبة وجلالة فأفحم فلم يتكلم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما حاجتك يا ابن أبي طالب ؟».
فسكت، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«لعلك جئت تخطب فاطمة ؟».
فقال:
«نعم».
ص: 191
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«مرحبا وأهلا».
فخرج إلى الرهط من الأنصار ينتظرونه، فقالوا ما وراءك ؟ قال:
«لا أدري غير أنه قال: مرحبا وأهلا».
فقالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحداهما قد أعطاك الأهل والرحب(1).
فقالت لعلي عليه السلام:
(قد خطبت فاطمة عليها السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما يمنعك من رسول الله أن تأتيه فيزوجك ؟.
فقال:
«أو عندي شيء أتزوج به!».
فقالت:
«إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجكها»)؟(2).
ص: 192
وهو ما أخرجه عبد الرزاق الصنعاني بسنده عن ابن عباس أنه قال: (كانت فاطمة تذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يذكرها أحد إلا صدّ عنه، حتى يئسوا منها، فلقي سعد بن معاذ عليا، فقال:
إني والله ما أرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد بها غيرك.
فقال له علي عليه السلام:
«لما تر ذلك. فو الله ما أنا بواحد من الرجلين، ما أنا بصاحب دنيا يلتمس ما عندي، وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم ما لي صفراء ولا بيضاء، ولا أنا بالكافر الذي يترفق بها عن دينه - يعني يتألفه بها - إني لأول من أسلم».
فقال سعد: فإني أعزم عليك لتفرجنها عني، فإن في ذلك فرجاً!
فقال له علي عليه السلام:
«فأقول ماذا؟».
قال: تقول: جئتك خاطبا إلى الله تعالى وإلى رسوله فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فانطلق علي عليه السلام فعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي سفل حصير، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«كأن لك حاجة يا علي ؟».
قال عليه السلام:
«اجل».
ص: 193
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«هات ؟».
فقال عليه السلام:
«جئت خاطبا إلى الله ورسوله فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم».
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«مرحبا، كلمة ضعيفة».
ثم رجع إلى سعد بن معاذ، فقال له: ما فعلت ؟ قال عليه السلام:
«فعلت الذي أمرتني به، فلم يزد على أن رحب بي كلمة ضعيفة»..
فقال سعد:
لقد أنكحك ابنته والذي بعثه بالحق إنه لا يخلف الآن ولا يكذب عنده»)(1).
لقد أشارت بعض الروايات إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث خلف الإمام علي عليه السلام ليزوجه بفاطمة دون أن يكون هناك دور للصحابة.
ص: 194
فقد أخرج الشيخ الصدوق وفرات الكوفي والطبري(1) عن وهب عن جعفر بن محمد - الصادق - عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليهما السلام قال:
«أتاني رسول، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو سلمان المحمدي - فقال: أجب يا علي (رسول الله) وأسرع!.
قال علي عليه السلام:
فأسرعت المضي إليه فلما دخلت ونظرت إليه فما رأيته أشد فرحا من ذلك اليوم فأبصرني، فتهلل وتبسم حتى نظرت إلى بياض أسنانه ولها بريق، وقال: أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما همني فيك من أمر تزويجك»(2).
وفي رواية انفرد بها ابن شهر آشوب:
(إن سلمان المحمدي أتى إليه وقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!.
فلما دخل عليه قال:
«أبشر يا علي فإن الله قد زوجك بها في السماء قبل أن أزوجكها في الأرض ولقد أتاني ملك وقال أبشر يا محمد باجتماع الشمل، وطهارة النسل.
قلت: وما اسمك ؟ قال: نسطائيل عن موكلي قوائم العرش سألت الله هذه البشارة وجبرائيل على أثري»(3).
ص: 195
كيف جرت خطبة الإمام علي لفاطمة عليهما السلام ؟ هذا السؤال تتوقف الإجابة عليه بمعرفة التسلسل الحدثي للخطبة، إذ إن الروايات قد تداخلت في ذكرها للحدث كما مرّ علينا بحيث أنها عرضت الخطبة بين تحرك الصحابة وطلبهم من علي عليه السلام الذهاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين إرسال النبي إليه وتزويجه دون الإشارة إليهم.
ولوجود هذا التداخل فيما بين هذه الروايات قمنا بإرجاع الخطبة إلى تسلسلها الحدثي كي تبدو الصورة واضحة أمام القارئ الكريم، وتحمل خطوطاً بينة أمام الباحث الذي يريد إكمال ما لم نوفق إليه. فكانت خطبة علي لفاطمة عليهما السلام بهذا الشكل.
إن الإمام علياً عليه السلام كان قد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحدث إليه أحد من الصحابة ويطلب منه أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإنه عليه السلام كان حريصا أشد الحرص على الاقتران ببضعة المصطفى لدرجة أنه كان يخشى أن يزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغيره، ولذلك قام وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تشير الرواية التي أخرجها
ص: 196
الشيخ الصدوق عن أبيه بسنده إلى الإمام جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:
«لقد هممت بتزويج بنت محمد صلوات الله عليهما فاطمة حيناً ولم أتجرأ أن أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن ذلك اختلج في صدري ليلا ونهارا، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:
يا علي!
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: هل لك في التزويج ؟
قلت: الله ورسوله أعلم، وظننت أنه يريد أن يزوجني بعض نساء قريش! وإني لخائف على فوت فاطمة»(1).
والمسألة الملاحظة في هذه الفقرة من الرواية: أن الإمام علياً عليه السلام لم يحصل على ما جاء من أجله، بل إنه توقع عكس ذلك بقوله:
«فظننت أنه يريد أن يزوجني بعض نساء قريش».
فخرج وهو ظانّ ذلك.
أما غاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السؤال فكانت: من أجل معرفة رغبة الإمام علي عليه السلام في الزواج بشكل عام فإن كانت له هذه الرغبة زوجه من ابنته فاطمة عليها السلام.
ص: 197
فكان مجيء الأنصار إلى الإمام علي عليه السلام وكانوا قد جاؤوا إليه بعد خروجه من بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتحدثوا إليه قائلين: لو خطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخليق أن يزوجكما؟ وهنا: لم يرد الإمام علي عليه السلام أن يخبرهم أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتكلم معهم عما في نفسه امتثالا للحياء، ولأن الله ورسوله أعلم بما في نفسه.
فرد عليهم بقوله:
«فكيف وقد خطبها أشراف قريش فلم يزوجها».
فلما طلبوا منه الذهاب امتثل لطلبهم ؟!
لأن عدم الذهاب يفسح المجال أمام البعض في الحديث من وجود مانع يمنع عن الزواج.
فلذا ذهب عليه السلام لمنع تساؤل كهذا وثانيا: لعله يجد ما كان يسعي إليه هذه المرة.
(فلما دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتلكته هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجلالته ولم يستطع أن يتكلم! فبادره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال قائلا:
«ما حاجتك يا ابن أبي طالب ؟».
فسكت، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«لعلك جئت تخطب فاطمة ؟».
ص: 198
فقال:
«نعم».
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«مرحبا وأهلا».
فخرج على الرهط من الأنصار ينتظرونه، فقالوا ما وراءك ؟ قال:
«لا أدري غير أنه قال: مرحبا وأهلا».
فقالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحداهما فقد أعطاك الأهل والرحب)(1).
والملاحظ هنا:
أنه عليه السلام لم يحصل على الجواب القاطع، بل رأى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم الإعراض عنه فلذا قال:
«لا أدري غير أنه قال: مرحبا وأهلا».
فرد عليه الأنصار مطمئنين له نتيجة هذه المقابلة بقولهم: (يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحداهما فقد أعطاك الأهل والرحب)، والظاهر أن سعد بن معاذ كان من ضمنهم وقد تحدّث إليه منفردا.
بعد أن خرج الإمام علي عليه السلام بهذه النتيجة التي لم تورد على نفسه الاستقرار، بل جعلته يزداد شوقا وخوفا من تغير القضاء لغير صالحه، فكان بين
ص: 199
انتظار نزول رحمة الله التي تغمره بإتمام الأمر وتحققه، وبين الخوف بنزول الوحي فيأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتزويجها لغيره.
وبين تجاذب الشوق والخوف جاء إليه أبو بكر وعمر بن الخطاب، وهما آخر من تحدث معه بشأن الذهاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا فاطمة عليها السلام للأدلة التالية:
قد أوردنا ما أخرجه بعض الحفاظ في مصنفاتهم(1): إنهما، أي: أبو بكر وعمر، قد ذهبا مرات عديدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبين بضعته، ورده لهما في كل مرة، فهذه المحاولات حالت دون مجيئهما للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ لأنهما لم يقطعا الأمل بعد في الحصول على بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
بعد هذه المحاولات العديدة التي قوبلت بالرفض عدلا عن الذهاب مجددا؛ إذ وجدا أنه لا جدوى من تكرار المحاولة، ولاسيما أن الأنصار قد فهمت ذلك قبلهما وأيقنت به فلذا توجهوا إلى علي عليه السلام ليعرضوا عليه الذهاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا، فمن غير علي بن أبي طالب لفاطمة عليهما السلام.
ص: 200
بعد أن شاهد أبو بكر وعمر أن الأنصار قد ذهبت إلى علي عليه السلام وسجلوا بذلك مبادرتهم الطيبة في تزويج علي، فإنهما قاما وقدما على علي عليه السلام يحدثانه بالذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا ابنته.
أي: ذهابهما إلى علي عليه السلام يحقق لهما المنفعة في كلتا الحالتين انتفاعهما، سواء رفض النبي ذلك أم قبوله بعلي.
وذلك أن حالة رد النبي ذلك لعلي ورفضه له كما ردهما، انتفعا من ذلك بتجدد الأمل في الحصول على بضعة الهادي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لم يبقَ إلا علي عليه السلام لم يتقدم، وهو قد رده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحينها لا مانع من المحاولة.
وفي حالة قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي زوجاً لفاطمة انتفعا من تسجيل موقف بسعيهما إلى علي بشأن تقدمه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا إليه ابنته فاطمة عليها السلام.
والظاهر أن سبب التركيز على مجيئهما إلى الإمام علي عليه السلام عند أكثر الرواة كان لهذا السبب ولكن حقيقة الأمر تختلف كليا:
إذ إن تزويج فاطمة بعلي عليهما السلام لم يكن مرتبطا بحديث أبي بكر وعمر مع الإمام علي عليه السلام ولا بحديث أحد من الأنصار؟! إنما الأمر كان مرتبطا بنزول الوحي لتعين الوقت الذي أراده الله عزّ وجل لحكمة خاصة متعلقة
ص: 201
بنتائج هذا الزواج.
فقد ذهب الإمام علي عليه السلام بعد أن جاءه أبو بكر وعمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن هذه المرة امتازت بإفصاح الإمام عما في نفسه - قال عليه السلام:
«فأتيته - أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك ثم قال: ما جاء بك يا أبا الحسن ما حاجتك ؟
قال عليه السلام: فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام، ونصرتي له وجهادي.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدقت فأنت أفضل مما تذكر.
فقلت: يا رسول الله فاطمة تزوجنيها؟
فقال: يا علي قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك.
فدخل عليها، فقامت فأخذت رداءه ونزعت نعليه وأتته بالوضوء، فوضأته بيدها وغسلت رجليه ثم قعدت.
فقال لها: يا فاطمة ؟!
فقالت: لبيك حاجتك يا رسول الله.
قال: إن علي بن أبي طالب قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، وإني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه، وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئا فما ترين ؟!
فسكتت ولم تول وجهها، ولم ير فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كراهة.
ص: 202
فقام صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: الله أكبر سكوتها إقرارها(1).
فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد زوجها علي بن أبي طالب، فإن الله قد رضيها له ورضيه لها.
قال علي: فزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أتاني فأخذ بيدي فقال:
قم بسم الله، وقل على بركة الله وما شاء الله لا قوة إلا بالله توكلت على الله.
ثم جاءني حتى أقعدني عندها عليها السلام.
ثم قال: اللهم إنهما أحب خلقك علي فأحبهما وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظا وإني اعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم»(2).
دلالة الرواية:
فقد دلت هذه الرواية على: أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد فارق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجلس وهو حامل معه قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبول فاطمة عليها السلام من ناحية.
ومن ناحية أخرى هو منتظرٌ أن يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإعلان عن هذا الزواج ويباشر بإتمامه.
لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلن عن هذا الزواج مباشرة، والسبب في ذلك يعود إلى انتظاره صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الوحي حاملا إليه الإذن بالإعلان والإتمام لهذا الزواج.
ص: 203
بعد أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة رضاها بعلي زوجا، وهبوط جبرائيل عليها السلام حاملا رضا الله لرضاها كما هو واضح من خلال الرواية والتي دلت على خاصية من خواصها التي لم تحظَ بها امرأة من العالمين فبمجرد أن حصل الرضا منها هبط جبرائيل عليه السلام ليخبر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم برضا الله لهذا الاختيار لكل منهما عليهما السلام.
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر الإذن من الله عزّ وجل بالإعلان عن هذا الزواج فكان الإعلان عنه على مرحلتين:
فإن هذا الإعلان كان خاصا بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فهو أول من بشر بذلك فعن الإمام الصادق عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال:
«أتاني رسول، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أجب يا علي رسول الله وأسرع ؟!! قال: فأسرعت المضي إليه، فلما دخلت ونظرت إليه، فما رأيته أشد فرحا من ذلك اليوم، فأبصرني فتهلل وتبسم حتى نظرت إلى بياض أسنانه ولها بريق، وقال: أبشر يا علي فإن الله عزّ وجل قد كفاني ما همني فيك من أمر تزويجك»(1).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«يا أبا الحسن أبشر؟!.
ص: 204
قال علي عليه السلام:
قلت، نعم فداك أبي وأمي بشرني، فإنك لا تزل ميمون النقيبة، مبارك الطائر، رشيد الأمر، صلى الله عليك».
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أبشر يا علي فإن الله عزّ وجل قد زوجك بها في السماء قبل أن أزوجكها في الأرض ولقد أتاني ملك وقال أبشر يا محمد باجتماع الشمل وطهارة النسل.
قلت:
«وما اسمك ؟».
قال:
نسطائيل من موكلي قوائم العرش سألت الله عزّ وجل هذه البشارة وجبرائيل على أثري، يخبرك عن ربك عزّ وجل بكرامة الله تعالى(1)».
لم يقمْ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإعلان عن تزويج فاطمة علياً عليهما السلام حتى نزل عليه الوحي فأمره بالإعلان عنه وقد كشف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الحقيقة قائلا:
«إن الله عزّ وجل أمرني أن أزوجها من علي ولم يأذن لي في إفشائه إلى هذا الوقت، ولم أكن لأفشي ما أمر الله عزّ وجل به»(2).
فكان الإعلان العام عن هذا الزواج على النحو التالي:
ص: 205
فعن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام عن جابر قال:
(لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوج فاطمة عليا، قال له:
«أخرج يا أبا الحسن إلى المسجد فإني خارج في أثرك فمزوجك بحضرة الناس وذاكر من فضل ما تقر به عينك».
قال علي - عليه السلام -:
«فخرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا ممتلئ فرحا وسرورا فاستقبلني أبو بكر وعمر فقالا ما وراءك يا أبا الحسن ؟
فقلت: يزوجني رسول الله فاطمة، وأخبرني أن الله زوجنيها، وهذا رسول الله خارج في أثري ليذكر بحضرة الناس، ففرحا وسرا ودخلا معي المسجد فو الله ما توسطناه حتى لحق بنا رسول الله، وإن وجهه ليتهلل فرحا وسرورا».
أقول: لم يفرح أبو بكر وعمر بهذا الزواج - كما سيمر بيانه من خلال الروايات والأحداث، بل أظهرا فرحاً وأخفيا امتعاضاً ولقد كانا من أشد المعترضين على فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إلاّ أننا هنا نعود إلى حديث الإمام علي عليه السلام قائلاً:
«فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أين بلال ؟ قال: لبيك وسعديك، فقال: وأين المقداد؟ فلباه، فقال وأين سلمان ؟ فلباه، فلما مثلوا بين يديه قال: انطلقوا بأجمعكم إلى جنيات المدينة واجمعوا المهاجرين والأنصار والمسلمين.
فانطلقوا لأمره، فأقبل حتى جلس على أعلى درجة من منبره فلما حشد المسجد بأهله قام صلى الله عليه وآله وسلم حمد الله وأثنى عليه، وقال:
الحمد لله الذي رفع السماء فبناها وبسط الأرض ودحاها، وأثبتها بالجبال فأرساها
ص: 206
وتجلل عن تعبير لغات الناطقين وجعل الجنة ثواب المتقين، والنار عقاب الظالمين، وجعلني رحمة للمؤمنين، ونقمة على الكافرين.
عباد الله إنكم في دار أمل بين حياة وأجل، وصحة وعلل، دار زوال متقلبة الحال جعلت سببا للارتحال، فرحم الله أمرأً قصر عن أمله، وجد في عمله، وانفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوته، فقدمه ليوم فاقته، يوم تحشر فيه الأموات، وتخشع فيه الأصوات وتنكر الأولاد والأمهات، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، يوم يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره يوم تبطل الأنساب وتقطع الأسباب، ويشتد على المجرمين الحساب، ويدفعون إلى العذاب، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
أيها الناس! إنما الأنبياء حجج الله في أرضه والناطقون بكتابه العاملون بوحيه وإن الله تعالى أمرني أن أزوج كريمتي فاطمة بأخي وابن عمي، وأولى الناس بي علي بن أبي طالب، والله عزّ شأنه قد زوجه بها في السماء، وأشهد الملائكة، وأمرني أن أزوجه في الأرض وأشهدكم على ذلك، ثم جلس»(1).
وفي خبر أنه خطبهم بهذه الكلمات فقال:
الحمد لله المحمود بنعمته المعبود بقدرته المطاع بسلطانه المرهوب من عذابه وسطوته النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه،
ص: 207
وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لاحقا وأمرا مفترضا، أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام، وقال عز من قال:
(وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كٰانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(1) .
فأمر الله يجري على قضائه وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل ولكل أجل كتاب؛
(يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ )(2) .
ثم أن الله عز وجل أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضا بذلك علي ؟».
فقال علي:
«رضيت يا رسول الله»(3).
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«فنعم الأخ أنت ونعم الحنين أنت، ونعم الصاحب أنت، وكفاك برضا الله رضا».
فخرّ علي ساجدا شكرا لله تعالى وهو يقول:
(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ )(4) .
ص: 208
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«آمين»(1).
فلما رفع رأسه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«بارك الله عليكما وبارك فيكما وأسعد جدكما، وجمع بينكما وأخرج منكما الكثير الطيب(2)».
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«قم يا علي وأخطب لنفسك».
فقال علي عليه السلام:
«أخطب يا رسول الله وأنت حاضر؟!».
فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -:
«أخطب فهكذا أمرني جبرائيل أن آمرك تخطب لنفسك، ولولا أن الخطيب في الجنان داود لكنت أنت يا علي».
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«أيها الناس اسمعوا قول نبيكم إن الله بعث أربعة آلاف نبي، ولكل نبي وصي، فأنا خير الأنبياء، ووصيي خير الأوصياء».
ثم أمسك صلى الله عليه وآله وسلم. وابتدأ الإمام عليه السلام فقال:
«الحمد لله الذي ألهم بفواتح علمه الناطقين، وأنار بثواقب عظمته قلوب المتقين، وأوضح بدلائل أحكامه طرق السالكين، وأبهج بابن عمي المصطفى العالمين،
ص: 209
حتى علت دعوته دعوة الملحدين، واستظهرت كلمته على بواطن المبطلين، وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين، فبلّغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وأنار من الله آياته.
فالحمد لله الذي خلق العباد بقدرته، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد ورحم وكرم وشرف وعظم.
والحمد لله على نعمائه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة إخلاص ترضيه، وأصلي على نبيه محمد صلاة تزلفه وتحظيه.
وبعد: فإن النكاح مما أمر الله تعالى به، وأذن فيه، ومجلسنا هذا، مما قضاه الله تعالى ورضيه، وهذا محمد بن عبد الله، رسول الله، زوجني ابنته فاطمة على صداق أربعمائة درهم ودينار، وقد رضيت بذلك فاسألوه واشهدوا».
فقال المسلمون: زوجته يا رسول الله ؟ قال:
«نعم».
قال المسلمون: بارك الله لهما وعليهما وجمع شملهما»)(1).
ص: 210
هكذا كانت الأجواء التي رافقت إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تزويج فاطمة أجواء غمرتها الفرحة والسرور، وعلتها أصوات الدعوات لهما بالخير والبركة.
لكن برز من بين هذه الأصوات صوت معارض لفعل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جاعلا من مهر فاطمة وسيلة يمرر من خلالها اعتراضه!.
بينما كان البعض الآخر قد أعلن وبصراحة عما في نفسه، مجاهرا باعتراضه على هذا الزواج، عادّاً منع النبي له وإعراضه عنه، ثم تزويجه عليا، إنما هو تجاهل لمكانته الاجتماعية، ووجاهته وعزه العشائري! ولم يفصح لنا التاريخ عن
ص: 211
أصحاب هذه الاعتراضات، ويصرح لنا بأسمائهم إلا أن من الأمور البديهية في الحياة أن يكون المعارض هو من يشعر بخسارة ما كان يسعى من أجله وحينما نرجع إلى الروايات السابقة نجد أن أكثر الذين كانوا يحرصون على خطبة فاطمة هما أبو بكر وعمر ومن ثمّ فمن المرجّح أنهما كانا أكثر المعترضين لاسيما وإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يخصهم في حديثه حينما يبين للناس أن الله هو الذي زوّجهما.
ولذلك: نجد أن التاريخ إنما اكتفى بنقل تلك الأحاديث التي ردّ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء المعترضين والتي تدل على أن هذه الاعتراضات استمرت لمدّة! مما دعا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلن لهم ومرارا أن هذا الفعل ليس منه، ولكن من الله عز وجل، وأن الذي زوج فاطمة بعلي هو الرحمن، وليس هو صلى الله عليه وآله وسلم ولذا خاطبهم قائلا:
«والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله منعكم وزوجه»(1).
وقال لهم أيضا:
«إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي»(2).
وفي قول آخر:
ص: 212
«ما زوجت فاطمة إلا لما أمرني الله عز وجل بتزويجها»(1).
والذي يظهر من خلال الروايات، أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحدثهم عن تزويج فاطمة في أوقات مختلفة وفي مناسبات عديدة وبطرق متنوعة، والسبب في ذلك من أمرين:
كي يعلم الجميع مكانة فاطمة وعلي عليهما السلام عند الله عزّ وجل، وأن هذا الزواج الذي تم في السماء وبتلك المراسيم لم يكن لأحد من الخلق.
إن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان للحفاظ على جمع شمل المسلمين، ولحرصه صلى الله عليه وآله وسلم على نجاتهم؛ لأن الاعتراض عليه صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو اعتراض على الله عزّ وجل وأن الظان بأن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مسددة من الوحي لم يصح إيمانه بنبوته.
فكان بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم على النحو التالي:
عن جابر بن سمرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أيها الناس هذا علي بن أبي طالب، وأنتم تزعمون أني أنا زوجته ابنتي فاطمة ولقد
ص: 213
خطبها إلي أشراف قريش فلم أجب كل ذلك أتوقع الخبر من السماء حتى نادني جبرائيل ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان فقال: يا محمد العلي الأعلى يقرأ عليك السلام وقد جمع الروحانيين والكروبيين في واد يقال له الأفيح تحت شجرة طوبى، وزوج فاطمة عليا وأمرني فكنت الخاطب والله تعالى الوحي»(1).
والحديث يدل على جملة من الأمور، منها:
1 - إن الخطاب كان منه صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ولذا قال: أيها الناس؛ وهذا يدل على أن المعترضين كان يؤلبون الناس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما استدعاه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطبهم جميعاً.
2 - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد في هذا البيان إظهار زيف ادعاء المعترضين على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يردهم عن زواج فاطمة عليها السلام في حين أرجعهم إلى جادة الإيمان من خلال تذكيرهم بأنه لا ينطق عن الهوى إنما هو وحي يوحى وأن منعهم وردهم وتزويجها من علي كان بأمر الله تعالى لا كما يدّعي المعترضون الذين لا يرون أن الأمر مرتبط بالسماء ولذا واصلوا احتجاجاتهم وتأليب الناس على ذلك.
3 - أن نزول الأمر الإلهي من السماء كان كما أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الليلة الرابعة والعشرين من شهر رمضان وفي هذه الليلة، أي الرابعة والعشرون كان انعقاد النطفة النورانية لفاطمة عليها السلام كما مر بيانه في الفصل الأول من الكتاب.
ص: 214
مما يدل على أن لهذه الليلة علاقة مع فاطمة الزهراء عليها السلام - ولعلنا نوفق لمعرفة الحكمة في ذلك بعون الله -.
إلا أننا هنا يمكن أن نرى جانباً من هذا التوقيت وهو أن خطبتها كانت بعد مرور سبعة أيام على معركة بدر الكبرى التي وقعت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان، وكأن الأمر كان متناغما مع تحقق النصر الإلهي للمسلمين وتعزيز الإيمان بالغيب بعد نزول الملائكة في بدر.
عن جابر الأنصاري قال:
(لما زوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة من علي أتاه أناس من قريش فقالوا إنك زوجت عليا بمهر خسيس ؟! فقال لهم:
«ما أنا زوجت عليا ولكن الله تعالى زوجه»)(1).
في هذا الجانب يظهر النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين مكانة علي وفاطمة عند الله عزّ وجل، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أمره الله بتزويجها في مرحلة الإسراء في ثلاثة مواضع.
ص: 215
وهو ما أخرجه الشيخ الصدوق عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه عن جده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«ما أنا زوجت عليا ولكن الله عز وجل زوجه ليلة أسري بي عند سدرة المنتهى، فأوحى الله عزّ وجل إلى السدرة أن انثري - ما عليك - فنثرت الدر والجوهر على الحور العين فهنّ يتهادينه ويتفاخرن به ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1).
(ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى (8) فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ )(2) .
عن عبد الله بن عمار عن ابي بكر عن حمران، قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل في كتابه:
(ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى (8) فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ ) .
(قال: «أدنى الله عزّ وجل محمدا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن بينه وبينه إلا قفس من لؤلؤ فيه فراش يتلألأ من ذهب فأري صورة فقيل يا محمد أتعرف هذه الصورة ؟ فقال: نعم هذه صورة علي بن أبي طالب، فأوحى الله إلي أن أزوجه فاطمة وأتخذه وصيا(3)».
ص: 216
وفي رواية: وليا)(1).
عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه عن جده علي عليه السلام، في قوله عزّ وجل:
(إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ )(2) .
«قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما أسري به إلى ربه، قال: وقف بي جبرائيل عند شجرة عظيمة لم أرَ مثلها، على كل غصن منها ملك، وعلى كل ورقة منها ملك وعلى كل ثمرة منها ملك، وقد تجللها نور من نور الله عزّ وجل.
فقال جبرائيل: هذه سدرة المنتهى كان ينتهي الأنبياء قبلك إليها، ثم لا يجاوزونها، وأنت تجوزها إن شاء الله ليريك من آياته الكبرى، فاطمئن أيدك الله بالثبات حتى تستكمل كرامات ربك وتصير إلى جواره.
ثم صعد بي إلى تحت العرش، فدنا إلي رف أخضر فرفعني الرف بإذن الله إلى ربي فصرت عنده وانقطع عني أصوات الملائكة ودويهم وذهبت المخاوف والروعات، وهدأت نفسي واستبشرت وجعلت انتبه وأنقبض، ووقع علي السرور والاستبشار، وظننت أن جميع الخلق قد ماتوا ولم أر غيري أحدا من خلقه شركني ما شاء، ثم رد علي روحي، فأفقت وكان توفيقا من ربي أن غمضت عيني فكل بصري، فجعلت أبصر بقلبي كما أبصر بعيني، بل أبعد
ص: 217
وأبلغ، فذلك قوله تعالى:
(مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ (17) لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىٰ )(1) .
وإنما كنت أبصر من خيط الأبرة نورا بيني وبين ربي لا تطيقه الأبصار فناداني ربي فقال الله تبارك وتعالى: يا محمد؟
قلت: لبيك ربي وسيدي وإلهي لبيك.
قال: هل عرفت قدرك عندي وموضعك ومنزلتك لدي ؟
قلت: نعم سيدي.
قال: يا محمد هل عرفت موقعك مني وموضع ذريتك ؟
قلت: نعم يا سيدي.
- إلى أن يقول صلى الله عليه وآله وسلم -.
ثم قال: يا محمد؟.
قلت: لبيك ربي وسعديك سيدي وإلهي.
قال: أسألك عما أنا أعلم به منك، من خلفت في الأرض بعدك ؟
قلت: خير أهلها، أخي وابن عمي، وناصر دينك، والغاضب لمحارمك إذا استحلت وهتكت غضب النمر إذا أغضب، علي بن أبي طالب.
قال:
صدقت، يا محمد اصطفيتك بالنبوة وبعثتك بالرسالة، وامتحنت عليا بالشهادة على أمتك وجعلته حجة في الأرض معك وبعدك، وهو نور أوليائي، وولي من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، وزوجته فاطمة.
فإنه وصيك ووارثك ووزيرك، وغاسل عورتك، وناصر دينك، والمقتول على
ص: 218
سنتي وسنتك يقتله شقي هذه الأمة»(1).
«تزويج النور من النور».
عن علي بن جعفر، قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام يقول:
بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس إذ دخل عليه ملك له أربعة وعشرون وجها فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حبيبي جبرائيل لم أرَك في مثل هذه الصورة ؟
قال الملك: أنا لست بجبرائيل، أنا محمود بعثني الله عزّ وجل أن أزوج النور من النور. فقال: من، ممن ؟!
فقال: فاطمة من علي.
قال: فلما ولى الملك إذا بين كتفيه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي وصيه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: منذ كم كتب هذا بين كتفيك ؟!
فقال: من قبل أن يخلق الله عزّ وجل آدم باثنين وعشرين ألف عام»(2).
ص: 219
وفي رواية:
«بأربعة وعشرين ألف عام، وإن هذا الملك هو، صرصائيل»(1).
وفي أخرى:
«فزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة من علي بشهادة جبرائيل وميكائيل وصرصائيل(2).
والرواية تشير إلى بعض الأمور منها:
قد يكون سماع هذا الحديث لمن سار معنا في واحة الحديث عن بضعة المصطفى صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، غير مستغرب لاسيما وقد بينا في الجزء الأول بعض الأمور المتعلقة بالملائكة من قبيل مراتبهم ووظائفهم وصفاتهم وما إلى ذلك.
وهنا: يشير الحديث إلى أن الله تعالى قد جعل أحد هؤلاء الملائكة مكلفاً بتزويج فاطمة وعلي عليهما السلام للدلالة على أهمية هذا الزواج وما ينتج عنه من قوائم تعمل على ثبات الشريعة وحفظها من الضياع والتحريف، وذلك من خلال الأئمة أبناء علي وفاطمة عليهم السلام.
ص: 220
إنّ مما تحدّثت عنه الرواية الشريفة هو الصفة التي كان عليها الملك صرصائيل عليه السلام حينما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان بأربعة وعشرين وجهاً ومما لا شك فيه أن هذه الهيأة لها علاقة بزواج علي وفاطمة عليهما السلام! وقد أخبرت الرواية عن جانبٍ من هذه العلاقة.
وهي كالآتي:
ألف: استئناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصورة كاشف عن جمالها
قد لا يستطيع القارئ رسم صورة مقاربة ولو بشكل بسيط لرأس فيه أربعة وعشرون وجها، لأنه أمر خارج عن المألوف ومن ثم قد ينصرف الذهن إلى رسم صورة موحشة في حين أن الرواية تدل على استئناس النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصورة.
ولذا قال:
«حبيبي جبرائيل لم أرَك في مثل هذه الصورة».
وابتداؤه صلى الله عليه وآله وسلم باللفظ الدال على المحبة يكشف عن الارتياح والأنس بهذه الصورة.
باء: لا يمكن من الناحية العقلية أن تكون هذه الصورة إلا في أجمل ملامحها لاسيما وهي مكلفة بأمر يتعلق بالنور، أي إنها اكتسبت جمالها من جمال هذا
ص: 221
النور فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بنور علي ونور فاطمة عليهما السلام.
جيم: يمكن أن نتصور هذه الصورة ونتقرب من ملامحها في الحياة الدنيا أي جمالية تعدد الوجوه الأربعة والعشرين للملك صرصائيل عليه السلام كتعدد الزهور أو الورود في الشجرة فكلما تعدد الأوراد وجمعت مع بعضها لتشكل (باقة) كلما كان جمالها أكثر وقعاً في النفس وأسرّ للقلب.
وعليه:
ظهور الملك صرصائيل بهذا العدد من الوجوه هو أشبه ما يكون بتعدد الورود في باقة.
دال: علاقة هذا بزواج علي وفاطمة هي علاقة جمالية، أي إن هذه الصورة المحاكية لصورة الورد هي دالة على جمالية اجتماع النورين في السموات والأرض نور الوصاية ونور النبوة لتثمر نور الإمامة في أولاد علي وفاطمة عليهما السلام ابتداءً من الإمام الحسن وانتهاءً بالإمام المهدي ابن الإمام الحسن العسكري صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
إن من البداهة التي تلازم فعل الحكيم عزّ وجل أن يكون كل فعله منزهاً من العبث؛ ولذا فانحصار هذه الوجوه بهذا العدد ينم عن حكمة خاصة يمكن الوقوف عند ظاهرها من خلال الرواية نفسها.
إذ تخبر الرواية عن أن الله تبارك وتعالى قد كتب بين كتفي الملك صرصائيل (محمد رسول الله علي وصيه) قبل خلق آدم بأربعة وعشرين ألف عام.
ص: 222
بمعنى:
أنّ كل ألف عام يظهر لهذا الملك وجه كما يظهر الورد في تعاقب الليل والنهار في الشجرة الواحدة.
وعليه فتعدد الورود في الشجرة الواحدة كاشف عن الزمن وكاشف أيضا عن عمر شجرة الورد - والله العالم بحقائق الأمور -.
عن أم سلمة رضي الله عنها، وسلمان الفارسي رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب عليه السلام، كلهم قالوا، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«هبط عليّ جبرائيل، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا نبي الله، ثم أنه وضع في يدي حريرة بيضاء، من حرير الجنة وفيها سطران مكتوبان بالنور.
فقلت: حبيبي جبرائيل ما هذه الحريرة، وما هذه الخطوط.
فقال جبرائيل: يا محمد إن الله عزّ وجل أطلع إلى الأرض إطلاعة فاختارك من خلقه، فبعثك برسالته ثم اطلع إلى الأرض ثانية فاختار لك منها أخا ووزيرا، وصاحبا وختنا فزوجه ابنتك فاطمة. فقلت: حبيبي جبرائيل ومن هذا الرجل ؟
فقال لي: يا محمد أخوك في الدنيا والآخرة وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب.
وإن الله أوحى إلى الجنان أن تزخرفي فتزخرفت الجنان، وإلى شجرة طوبى أحملي الحلي والحلل، وتزينت الحور العين، وأمر الله الملائكة: أن تجمّع في السماء الرابعة عند البيت المعمور فهبط من كان فوقها إليها وصعد من كان تحتها إليها.
ص: 223
وأمر الله عزّ وجل رضوان فنصب منبر الكرامة على باب البيت المعمور وهو الذي خطب عليه آدم وعرض الأسماء على الملائكة، وهو منبر من نور، فأوحى الله إلى ملك من ملائكة حجبه يقال له (راحيل) أن يعلو ذلك المنبر وأن يحمده بمحامده، ويمجده بتمجيده، وأن يثني عليه بما أهله وليس في الملائكة أحسن منطقا ولا أحلى لغة من راحيل الملك فعلا المبنى، فقال: الحمد لله الأول قبل أولية الأولين، الباقي بعد فناء العالمين، ونحمده إذ جعلنا ملائكة روحانيين، وبربوبيته مذعنين، وله على ما أنعم علينا شاكرين، حجبنا من الذنوب، وسترنا من العيوب، أسكننا في السماوات وقربنا على الرادقات، وحجب عنا النهم للشهوات، وجعل نهمتنا وشهوتنا في تقديسه وتسبيحه، الباسط رحمته الواهب نعمته، جل عن إلحاد أهل الأرض من المشركين، وتعالى بعظمته عن إفك الملحدين، أنذرنا بأسه، وعرفنا سلطانه، توحد فعلاً في الملكوت الأعلى، واحتجب عن الأبصار، وأظلم نور عزته الأنوار، وكان من أسباغ نعمته واتمام قضيته، أن ركب الشهوات في بني آدم، وخصهم بالأمر اللازم، ينشر لهم الأولاد، وينشئ لهم البلاد فجعل الحياة سبيل ألفتهم، والموت غاية فرقتهم، وإلى الله المصير.
أختار الملك الجبار صفوة كرمه وعبد عظمته لأمته سيدة النساء بنت خير النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين، فوصل حبله بحبل رجل من أهله وصاحبه المصدّق دعوته المبادر إلى كلمته على الوصول بفاطمة البتول ابنة الرسول(1).
وروي أن جبرائيل روى عن الله تعالى عقيبها قوله عزّ وجل:
«الحمد ردائي، والعظمة كبريائي والخلق كلهم عبيدي وإمائي، زوجت فاطمة
ص: 224
أمتي من علي صفوتي اشهدوا ملائكتي(1)، فارتجت السماوات فرحا وسرورا(2).
قال جبرائيل: ثم أوحى الله أن أعقد عقدة النكاح، فإني قد زوجت أمتي فاطمة بنت حبيبي محمد، - ب -- عبدي علي بن أبي طالب(3).
وفي خبر عن أم أيمن: وعقد جبرائيل وميكائيل في السماء نكاح علي وفاطمة، فكان جبرائيل المتكلم عن علي وميكائيل الراد عني(4).
قال جبرائيل: فعقدت عقدة النكاح، واشهدت على ذلك الملائكة أجمعين، وكتبت شهادتهم في هذه الحريرة، وقد أمرني ربي عزّ وجل أن أعرضها عليك وأن أختمها بخاتم مسك وأن أدفعها إلى رضوان، وأن الله عزّ وجل لما أشهد الملائكة على تزويج علي من فاطمة أمر شجرة طوبى أن تنثر حملها من الحلي والحلل، فنثرت ما فيها فالتقطته الملائكة والحور العين، وأن الحور العين ليتهادينه ويفتخرن به إلى يوم القيامة.
يا محمد! إن الله عزّ وجل أمرني أن آمرك أن تزوج عليا في الأرض وتبشرهما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين طيبين خيرين فاضلين في الدنيا والآخرة»(5).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«أتاني جبرائيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها فناولنيها فأخذتهما وشممتهما فقلت ما سبب هذا السنبل والقرنفل ؟!
ص: 225
فقال: إن الله تبارك وتعالى أمر سكان الجنان من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها بمغارسها وأشجارها، وثمارها، وقصورها وأمر ريحها فهبت بأنواع العطر والطيب وأمر حور عينها بالقراءة فيها بسورة طه وطواسين ويس وحمعسق.
ثم نادى مناد من تحت العرش ألا أن اليوم، يوم وليمة علي بن أبي طالب عليه السلام ألا أني أشهدكم، أني قد زوجت فاطمة بنت محمد من علي بن أبي طالب رضى مني بعضهما لبعض. ثم بعث الله تبارك وتعالى سحابة بيضاء فقطرت عليهم من لؤلؤها وزبرجدها ويواقيتها، وقامت الملائكة فنثرت من سنبل الجنة وقرنفلها(1)، وكان هذا قبل خطبة الملك راحيل عليه السلام.
وكان الولي الله، والخطيب جبرائيل، والمنادي ميكائيل، والداعي اسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السموات والأرضين أجمعين، ثم أوحى الله إلى شجرة طوبى: أن أنثري الدرّ الأبيض والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، واللؤلؤ الرطب، فبادرت الحور العين يلتقطن ويهدين بعضهن إلى بعض، وهن يقُلْنَ : هذه تحفة خير النساء، فمن أخذ منه يومئذ شيئا أكثر مما أخذ صاحبه أو أحسن أفتخر به على صاحبه يوم القيامة(2).
والرواية تدل على بعض الأمور منها:
إن غاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان كيفية حصول زواج فاطمة وعلي عليهما السلام في السماء هي:
ص: 226
1 - كي يبين لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكانة علي وفاطمة عند الله عزّ وجل، فقد خصهما الله بخصائص لم ينلها أحد مما خلق حتى الحبيب المصطفى عزّ وجل، وقد أوضح ذلك بنفسه لهم قائلا:
«إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم إلا فاطمة فإن تزويجها أنزل من السماء»(1).
2 - أنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بذلك حفظ أمته من الفرقة والاختلاف، وأن يدفع عنهم الضلالة والانحراف؛ لأن من كان لهما هذا الشأن العظيم، وهذه المكانة الرفيعة، وهذه المحبة عند الله فلا يمكن أن يكونا في بعد عن الله تعالى وشريعته.
بل العقل والشرع يلزم بأن تحصيل ذلك لا يكون إلا باختيار الله لهما من بين عباده فجعلهم المؤمنين على شرعه الدالين عليه، والموصلين إلى رضاه عزّ وجل.
وعليه:
فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أراد من خلال هذه الأحاديث إظهار الحجة على من آمن به في اتباع الطريق المؤدية إلى الله تعالى، وأنّ علياً وفاطمة وابنيهما هم ذلك الطريق.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ) .
والله لا يحب عبدا عصاه وضلّ عن طريقه الذي ارتضاه.
ص: 227
قد ينافي ما مضى من البحوث أنها بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحيدة، ونضيف هنا دليلاً آخر إلى هذه الحقيقة.
فها هي فاطمة عليها السلام، قد عجز في الارتقاء لمقامها أبو بكر وعمر، وفشل في الوصول إليها أشراف قريش، ويئس من التقدم لخطبتها المهاجرون والأنصار، حتى يئسوا منها جميعا، وظنوا أن النبي غير مزوجها لأحد منهم، ومع حالة اليأس كانت النفوس متلهفة، والعيون شاخصة تترقب من سيكون لفاطمة زوجا.
فهذه اللهفة الكبيرة في نفوس القوم، والأمنية العظيمة في قلوبهم كلها تدل على أن فاطمة عليها السلام هي البنت الوحيدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي ليس له صلى الله عليه وآله وسلم غيرها.
فلو كان له بنت أخرى معها، لما كان هذا التنافس الكبير فيما بين الصحابة للزواج بفاطمة عليها السلام ؟
ولاسيما أن أم كلثوم وحسبما ينقله التاريخ كانت حاضرة مع فاطمة عليها السلام، وأنها قد خرجت معها مهاجرة! فلماذا لم يتقدم أحدٌ من الصحابة لخطبتها؟!
بل إن التاريخ يروي لنا أيضا: أنها ظلت بعد زواج فاطمة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يقارب السنتين، فلماذا لم يتقدم إليها أحد من الصحابة فيخطبها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينما يعظم الطلب ويشتد من
ص: 228
الصحابة للزواج بفاطمة ؟! وكلتاهما بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يروي التاريخ ؟ 1 إلاّ اللهم أنهم - أي - الصحابة قد علموا أنها بنت النبي الوحيدة، وأن أم كلثوم وزينب ورقية ربائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أجاد الشاعر الأصفهاني حيث قال:
أمّن بسيدة النساء قضى له *** ربي فأصبح أسعد الأختان
من بعد خطاب أتوه فردهم *** ردا يبين مضمر الأشجان
فأبان منعهما وقال صغيرة *** تزويجها في سنها لم يان
حتى إذا خطب الوصي أجابه *** من غير تورية ولا استيذان
فالله زوجه وأشهد في العلا *** أملاكه وجماعة السكان
والله قدر نسله من صلبه *** فلذا لأحمد لم يكن بنتان(1)
ص: 229
إن من الأحاديث النبوية الشريفة التي اختصت بفاطمة عليها السلام هو هذا الحديث الذي استوقفني كثيرا؟!
فرحت أبحث بين معاني مفرداته اللغوية تارة، وبين معانيه الروحية والحياتية تارة أخرى، فلكل حديث نبوي نبض يمد النفس بالحياة، فأخذت أسعى هنا وهناك لعلي أجد بين مغارس رياض أهل العرفان وغيرهم من أهل الإشارة وأهل التفسير ما يقرع أذني بنبض من تلك النبضات، فيمد نفسي بالحياة، ويخرجني من حيرتي التي أنا فيها، إذ كيف لي بمعرفة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي جعل النبي معرفته شرطاً لمعرفة فاطمة. ولذلك أعزفت عن المسير، فأنّى لي بذلك ؟!
ولذا: فقد اقتصرت في هذا المبحث على نتاج أهل اللغة وعلومها في بيان معنى الحديث النبوي من جهة، ومن جهة أخرى مستعينا باثني عشر حديثا قالها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام علي عليه السلام فلعل من ينظر إلى هذه الأحاديث يصل إلى أحدى مقاصد قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرائيل:
«لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمة كفؤ».
ص: 230
1 - أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله بسند عن الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه الكاظم عن آبائه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:
«قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمة، وقالوا: خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت عليا!
فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوجته، بل الله منعكم وزوجه!
فهبط علي جبرائيل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمة ابنتك كفؤ على وجه الأرض آدم فمن دونه»(1).
2 - أخرج الشيخ الطوسي عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
«لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على الأرض»(2).
3 - الصدوق أيضا عن الإمام علي عليه السلام قال:
«جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلبني فقال: أين أخي يا أم أيمن ؟
قالت: ومن أخوك ؟!
قال: علي.
قالت: يا رسول الله تزوجه ابنتك وهو أخوك ؟!
ص: 231
قال: نعم، أما والله يا أم أيمن لقد زوجتها كفؤاً شريفا وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين»(1).
4 - ذكر العلامة المجلسي رحمه الله: في بحاره قوله:
«عوتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر فاطمة فقال:
لو لم يخلق الله علي بن أبي طالب ما كان لفاطمة كفؤ».
وفي خبر:
«لولاك - أي: يا علي - لما كان لها كفؤ على وجه الأرض»(2).
أخرج الحافظ الديلمي عن أم سلمة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ»(3).
قد ورد الحديث الشريف على صاحبه وآله الصلاة والسلام بلفظين، وهما:
و (لولا) من الحروف المركبة، من (لو) ومعناه: امتناع الشيء لامتناع غيره.
ص: 232
و (لا) معناها النفي، فلما ركبوهما، وجعلتا شيئاً واحداً(1)، بطل معنياهما، ودلت «لولا»: على امتناع الشيء لوجود غيره(2)، نحو قولك: لولا زيدٌ لأحسنتُ إليك، والمعنى، أن الإحسان امتنع لحضور زيد فترفعه بالابتداء والخبر مضمر(3).
وقيل: إنها تدل على امتناع شيء لثبوت غيره(4)، وقد استعمل العرب (لولا) في الخبر وكثر بها الكلام حتى استجازوا أن يقولوا: (لولاك)، و (لولاي)(5) وهي من الحروف الشرطية التي تدل على امتناع الجواب لوجود الشرط(6).
وعليه يكون معنى الحديث الذي جاء بلفظ:
«لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على الأرض».
أي: امتناع وجود الكفؤ لفاطمة في غير علي، وبمعنى آخر: امتناع وجود الكفاءة في غير علي وثبوتها فيه.
ولما كانت (لولا) شرطية احتاجت إلى جواب، كجميع أدوات الشرط، وإن جوابها جائز أن يقترن باللام، كقوله تعالى:
(لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اَللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ )(7) .
ص: 233
إنّ دخول (لولا) على (أنّ ) التوكيدية - في الحديث الثاني الذي رواه الطوسي رحمه الله -، يكون المراد من قوله عليه السلام:
«لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة».
هو:
إنّ هذا الشرط مع زيادة التوكيد الذي تعطيه أنَّ ، هو: إشعار بأن علياً عليه السلام هو المختص بالكفؤ لها، لامتناع اختصاص ذلك في غيره، بل التأكيد بثبوت الكفؤ فيه، وعندما يكون المراد من قوله:
«ما كان لها كفؤ على الأرض».
هو نفي لوجود الكفؤ لها على الأرض، أي: يصبح وجود الكفؤ على الأرض لفاطمة أمراً مستحيلاً، ولهذه العلة خلق الله عزّ وجل لها عليا عليه السلام لثبوت الكفاءة وتحققها فيه.
ومما يدل عليه:
جيم: ورود الحديث بلفظ (لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ).
فقد مر سابقا: أن (لو) حرف يدل على انتفاء تام يلزم لثبوته ثبوت تاليه(1).
وبدخولها على (لم) الجازمة النافية(2)، يكون المراد هو: الانتفاء الجازم لوجود الكفؤ.
ص: 234
وأن امتناع خلق علي عليه السلام يلزم امتناع الكفؤ لفاطمة مطلقا، لسبوق لولا ب (ما النافية)، أي: لا يوجد لفاطمة كفؤ على وجه الأرض وفي كل الأزمنة التي تخلق فيها الرجال وتظهر حتى قيام الساعة، هذه الحالة كانت تتحقق عند عدم خلق الله عزّ وجل للإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام.
(الكفؤ) أو (الكفيءُ ) النظير، وكذلك الكُفْ ءُ ، والكفؤُ على فعلٍ ، وفعول؛ والمصدر: الكفاءةُ ، بالفتح والمدّ.
وتقول: لا كفاء له، بالكسر وهو في الأصل مصدر أي: لا نظير له.
والكفاء النظير المساوي، ومنه الكفاءة في النكاح وهو أن يكون الزوج مساويا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها، وبيتها، وغير ذلك(1).
وقيل: تساوي الزوجين في الإسلام والإيمان، وهو الأشهر عند فقهاء الإمامية، وقيل: يعدُّ مع ذلك يسار الزوج بالنفقة قوة وفعلا(2).
وفلان كفاء لك، أي: مطيق في المضادة والمناراة.
قال حسان بن ثابت:
وجبرائيل أمين الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء(3)
وعليه يكون المعنى:
ص: 235
لو لم يخلق الله علي بن أبي طالب لما كان لفاطمة نظير في دينها وإيمانها وحسبها ونسبها وجميع خواصها وفضائلها، ومن هذا المعنى العام تظهر للحديث أوجه متعددة تشير إلى المعنى الخاص.
قد مرّ في القسم الأول من الكتاب تبيين للنشأة الأولى في خلق نور فاطمة عليها السلام، ثم كيف أنها خلقت من ثمار الجنة فكانت حوراء إنسية فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن زوّج النور من النور، نور فاطمة من نور علي(1)، وبهذا يكون أحد أوجه الحديث:
«لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ».
المراد به: المقام النوراني لفاطمة فلولا مقام علي النوراني ما كان لمقامها كفؤ.
أي إن الله عز وجل قد ساوى بين فاطمة وبين علي بن أبي طالب عليهما السلام لقول الإمام الحسن العسكري عليه السلام:
«ما سوّى الله قط امرأة برجل إلا ما كان من تسوية الله فاطمة بعلي عليهما السلام، وإلحاقها وهي امرأة بأفضل رجال العالمين»(2).
ص: 236
وبذلك يكون المراد من كون الإمام علي بن أبي طالب كفؤاً لفاطمة عليها السلام، هو: أن الله قد ارتضاه لها، وارتضاها لعلي عليهما السلام.
وقد ورد في خبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه المرتضى لأن جبرائيل عليه السلام هبط إليه، فقال: يا محمد إن الله تعالى قد ارتضى عليا لفاطمة وارتضى فاطمة لعلي عليهما السلام»(1).
وقد جاء في أسمائها: (المرضية).
في هذا الجانب من المبحث نورد بعض الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيانه للناس عن شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
ونحن إذ نورد هذه المجموعة القليلة من الكم الهائل في حق الإمام علي نهدف في ذلك إلى بيان صورة واضحة من خلال هذه الأحاديث عن معنى أن يكون الإمام علي كفؤاً لفاطمة.
أي: فهم مقام الزهراء عند الله من خلال مقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام.
ص: 237
وقد جعلت هذه المجموعة القليلة من الأحاديث النبوية قسمين، قسم يختص بكتاب الله عزّ وجل وهي سبع آيات نزلت بالإمام علي عليه السلام خاصة، وسبعة أحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه.
(يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ )(1) .
نزلت هذه الآية بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في حجة الوداع وقد هبط عليه جبرائيل عليه السلام بعد مضي خمس ساعات من نهار يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة. فقال:
«يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك يا رسول الله بلّغ ما أنزل إليك من ربك في علي بن أبي طالب، والله يعصمك من الناس»(2).
فكانت هذه الآية قد نزلت في يوم الغدير وهو يوم تنصيب رسول الله لعلي بن أبي طالب عليه السلام خليفة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم(3).
ص: 238
(سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ (1) لِلْكٰافِرينَ لَيْسَ لَهُ دٰافِعٌ (2) مِنَ اَللّٰهِ ذِي اَلْمَعٰارِجِ ) (1) .
وسبب نزول الآية هي مجيء الحارث بن نعمان الفهري إلى رسول الله يسأله عن حديث الغدير أهو من الله أم من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقد أخرج الثعالبي والشبلنجي والحاكم الحسكاني وغيرهم عن سفيان بن عيينة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم السلام عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لما نصب رسول الله عليا يوم غدير خم وقال:
«من كنت مولاه فعلي مولاه».
طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم النعمان بن الحرث الفهري فقال:
أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترضَ حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا الشيء منك أو من عند الله ؟!
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله حتى قالها ثلاثا».
فولى النعمان بن الحارث وهو مغضب يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر وقع على هامته فخرج من دبره فقتله، فأنزل الله الآية)(2).
ص: 239
(وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ (10) أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ )(1) .
نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام(2).
(أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَلَهُمْ جَنّٰاتُ اَلْمَأْوىٰ نُزُلاً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (1(9) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوٰاهُمُ اَلنّٰارُ كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا أُعِيدُوا فِيهٰا وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (3) .
أخرج الكثير من المفسرين وحفاظ المسلمين كالطبري والزمخشري وابن كثير والسيوطي وغيرهم أن هذه الآيات نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وفي خصمه الفاسق الوليد بن عقبة، والنص الذي نقله المفسرون هو:
كان بين الوليد وبين علي عليه السلام كلام.
فقال الوليد: أنا أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا، وأرد منك للكتيبة.
ص: 241
فقال علي عليه السلام:
«أسكت فإنك فاسق».
وفي لفظ:
«أسكت إنما أنت فاسق».
وفي آخر:
«ليس كما تقول يا فاسق».
فأنزل الله فيهما:
(أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ ...) .
قال قتادة: لا والله ما استويا لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة(1).
ص: 242
(أَ جَعَلْتُمْ سِقٰايَةَ اَلْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جٰاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ لاٰ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ )(1) .
وسبب نزولها أن طلحة بن شيبة والعباس بن عبد المطلب كانا قد افتخرا على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، ولو أردت بت فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها. فقال علي عليه السلام:
«ما أدري ما تقولون، لقد صليت إلى هذه القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد».
فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية(2).
ص: 243
(إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ (55) وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْغٰالِبُونَ )(1) .
وقد أخرج حفاظ المسلمين بطرق عديدة: أنَّ سائلاً دخل المسجد النبوي وهم بين راكع وساجد فجاء فوقف بجانب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يصلي النافلة فسأله السائل فأشار عليه السلام إليه بإصبعه وكان فيها خاتمٌ وهو في حالة الركوع، ففهم السائل أنه يريد منه أن يأخذ الخاتم من إصبعه فأخذه وخرج فلقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له:
هل أعطاك أحد شيئا؟».
قال السائل: نعم. قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«من ؟».
قال: ذاك الرجل القائم. قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«على أية حال أعطاكه ؟».
قال: وهو راكع. قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«وذلك علي بن أبي طالب».
فكبر رسول الله عند ذلك وهو يقول:
(وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْغٰالِبُونَ )(2) .
ص: 244
وفي هذا القدر من الآيات كفاية لأهل الإنصاف في معرفة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، والأخذ بنهجه وأما من أراد المزيد فليتأمل قليلا بقول الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (ما نزل في أحد من كتاب الله عزّ وجل ما نزل في علي بن أبي طالب عليه السلام)(1).
ص: 245
وليتدبر كتاب الله تعالى ملياً وهو واضح أمام عينيه ما يقوله ابن عباس أيضا:
(ما أنزل الله يا أيها الذين آمنوا، إلا وعلي أمير ها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان من كتابه العزيز، وما ذكر عليا إلا بخير)(1).
وإنه: (نزل في علي ثلاث مائة آية من كتاب الله عزّ وجل)(2).
فبعد هذا هل يفهم معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ؟!».
وهل علم المسلمون من تكون فاطمة عليها السلام ؟
فإن علموا فلماذا يكسر ضلعها!!! ولماذا يجهض حملها ويقتل ولدها!!! ولماذا ينهب إرثها، وتحرق دارها!!! ولماذا... ولماذا....؟؟؟؟
ص: 246
ليس من السهل الإحاطة بكل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أردنا ذلك لكان ينبغي علينا تغيير منهاج الكتاب.
ولكن يكفي أن يعلم القارئ الكريم ما ورد عن أئمة الحديث في تقييمهم لما بذلوا أعمارهم بجمعه وروايته إلا وهو الحديث النبوي، أنهم قالوا في علي عليه السلام:
1 - (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب وهذه شهادة من إمام الحنابلة أحمد بن حنبل)(1).
2 - (لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان الصمام، ما جاء في علي عليه السلام).
هذا قول: القاضي إسماعيل، والنسائي صاحب السنن، وأبو علي
ص: 247
النيسابوري(1)، والتفتازاني(2).
ومن هنا: فإنا نكتفي فقط بذكر سبعة أحاديث صادرة من الحضرة النبوية المقدسة في الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
وأول هذه الأحاديث:
الحديث الأول: حديث الغدير
لم يرد حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغ هذا الحد من التواتر مثلما بلغه حديث الغدير، كما لم يروَ حديث بهذا الكم الهائل من الطرق مثلما بلغتها طرق حديث الغدير.
وقد تتبع هذا الحديث العلامة الأميني طيب ا لله ثراه في الكتاب والسنة والأدب فأخرجه في أحد عشر مجلدا، كما تتبعه أيضا التستري في إحقاق الحق.
ونحن نشير في هذا الموضوع إلى أحد الألفاظ التي رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الغدير، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«من كنت مولاه فعلي مولاه»(3).
ص: 248
أما بقية الألفاظ الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم فسوف نعرض لها إن شاء الله في باب: (فاطمة في حجة الوداع).
الحديث الثاني: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي كل من آمن به بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أوصي من آمن بي وصدقني، بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه، فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجل»(1).
ص: 249
الحديث الثالث: حديث المنزلة
قال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:
«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1).
الحديث الرابع
قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:
«والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق»(2).
الحديث الخامس: الإمام علي عليه السلام باب مدينة علم النبوة
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب»(3).
ص: 250
الحديث السادس: من آذى عليا فقد آذى رسول الله ومن آذى رسول الله فقد لعن في كتاب الله(1)
قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
«من آذى عليا فقد آذاني»(2).
ص: 251
الحديث السابع: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعين الخليفة من بعده منذ بدء الإعلان عن النبوة وينصب الإمام عليّاً لخلافة الأمة
عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) ثم يبين عليه السلام كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بجمع بني عبد المطلب وبني هاشم وغيرهم من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أنه صلى الله عليه وآله وسلم أطعمهم وخطبهم قائلا:
«يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، أني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني - ربي - أن أدعوكم، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون: أخي ووصيي وخليفتي فيكم. قال:
قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت: وإني لأحدثهم سنا: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبتي ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوه».
وبعد هذا العرض من الأحاديث نكون قد نقلنا صورة عن أحد الأوجه التي يحملها معنى قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
«لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ»(1).
ص: 252
امتاز مهر فاطمة عليها السلام بميزات عديدة جعلت منه مهرا انفردت به فاطمة عليها السلام دون نساء العالمين.
فما نالت امرأة مما خلق الله عزّ وجل من المهر مثلما نالت الزهراء عليها السلام، وما حظيت امرأة بزواجها من الخصائص بمثلما حظيت به بضعة الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكي نلم بتلك الميزات في مهر فاطمة عليها السلام، فقد فصلنا مهرها إلى قسمين، فلفاطمة مهران، مهر عند الله تعالى، ومهر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسنتعرض أولا لمهرها عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما جرت عليه السنة ثم نعرّج إلى مهرها عند الله عزّ وجل.
والسبب في ذلك - أي، الابتداء بمهرها عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم - هو لاعتراض بعض الصحابة على مهرها الذي زوجها عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 253
أجمعت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد زوج فاطمة من علي عليهما السلام وأمهرها الدرع الحطمية(1).
ولكن اختلف في مقدار ثمن الدرع أو بالأصح بكم باعها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
أما لماذا الدرع ؟
فالجواب هو: أن اختيار الدرع كان من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تدل الروايات عليه فقد روي عن الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام، في حديث زواج فاطمة، (إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل الإمام عليّاً عليه السلام عن الصداق، قائلا:
«فما تصدقها؟».
قال عليه السلام:
«أصدقها سيفي، وفرسي، ودرعي، وناضحي».
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
ص: 254
«أما ناضحك وسيفك وفرسك فلا غنى بك عنها، تقاتل المشركين، وأما درعك فشأنك بها».
فانطلق علي وباع درعه بأربع مائة درهم وثمانين درهما قطرية، فصبها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يسأله عن عددها، ولا هو أخبره عنها)(1).
وفي رواية: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل عنها - أي - الدرع، فقال:
«ما فعلت الدرع التي سلحتكها؟، فقلت: عندي والذي نفسي بيده إنها لحطمية ما ثمنها إلا أربعمائة درهم.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: قد زوجتكها فابعث بها فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»)(2).
وفي أخرى:
(أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبل على علي عليه السلام فقال:
«أنطلق الآن فبع درعك وائتني بثمنه حتى أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما.
قال علي:
فانطلقت فبعته بأربعمائة درهم سود هجرية»)(3).
ص: 255
هذه الدرع هي من غنائم معركة بدر الكبرى ولقد أعطاها النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام، وسلحه بها(1).
ولذا عندما جاء يخطب فاطمة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها قائلا:
«ما فعلت الدرع التي سلحتكها»؟.
فقلت: - أي الإمام علي يجيب على سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم -:
«عندي والذي نفسي بيده إنها لحطمية ما ثمنها إلا أربعمائة درهم»(2).
والملاحظ في سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو: الحس الجمالي الكاشف عن المحافظة على المشاعر الوجدانية وإنك يا علي لصادق فيما قلت بعدم امتلاكك من حطام الدنيا شيئا.
ولذلك كان سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن فعل الدرع لا عن فعل الإمام علي عليه السلام بها، والتاء في: (فعلت) عائدة إلى الدرع لا إلى علي عليه السلام.
أي: كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام: لا تهتم
ص: 256
لعدم امتلاكك المال والدرع ما عملها.
وبمعنى آخر:
كمن جاء يشكو حاله عند امرئ صاحب نجدة ومروءة فيجيب المضطر بقوله: ونحن ما عملنا، فيكون الجواب بصيغة سؤال يفيد بإغاثة الملهوف ويعطي حلا للمشكلة، أي: لا تهتم ونحن عندك.
هذا وجه للسؤال، والوجه الآخر هو:
إنّ الإمام عليه السلام كان يعدّ هذه الدرع التي سلحه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي ملكاً للنبي عليه السلام وليست له، إذ لم تستقل الملكية اللازمة لعلي بخروجها من ملكية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وذلك لأسباب عدة، منها:
1 - لوجود الولاية الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأموال والأنفس، ولذا يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المالك الأصلي والمسلم متصرف مجاز بهذا المال، وفي حال وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على المال ينفك من ذمة المصرف ويعود لملكية النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي ذلك نصوص قرآنية كثيرة منها: قوله تعالى:
(اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ )(1) .
ص: 257
وقوله عزّ وجل:
(وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاٰ مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً مُبِيناً)(1) .
2 - أنها قد تكون تحت عنوان الهدية وبذلك يكون ضمن العقود الجائزة، أي بقاء الملكية معلقة.
3 - أن هذه الدرع من عدة الجيش وأحد تجهيزاته، ومن ثم تعود ملكيتها للحاكم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يحق للمقاتل بيعها أو تلفها وإن حصل أمر كهذا فعليه العوض بالمثل.
ولذا قال عليه السلام مجيبا على سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«وهل عندك شيء تستحلها به».
فرد قائلا:
«لا والله يا رسول الله».
أي لا أملك شيئا. فيرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه:
«وما فعلت الدرع».
قال: «عندي...» أي إن هذه الدرع التي أعطيتكها، هي ملك لك وأنت حر التصرف بها. ولذا لم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: ما فعلتَ بالدرع، فيكون المراد فعل الإمام علي عليه السلام وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما فعلتْ الدرع».
ص: 258
قال ابن الأثير: الحطمية هي التي تحطم السيوف أي تكسرها، وقيل: هي العريضة الثقيلة، وقيل هي منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال لهم: حطمة بن محارب كانوا يعملون الدروع، وهذا أشبه الأقوال(1).
أما اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدرع خاصة دون السيف والناضح فهو لحكمة خاصة يمكن لنا فهم مفادها من خلال النقاط التالية:
1 - لأن من خلال هذا الزواج سيولد عترة رسول الله التي هي ثقل القرآن، أي: إنّ علياً وفاطمة والأئمة من ولدهما هم الدرع الواقية للإسلام والشريعة وبهم تحطم الشبهات والفتن.
ولاسيما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بين هذه الحقيقة في نصوص كثيرة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم
«في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الظالمين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون»(2).
2 - المعنى الآخر هو: كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يقول بلغة
ص: 259
الإيحاء لذوي الألباب: إنك يا علي لا تحتاج إلى درع في القتال، فأنت من يحطم الفرسان، ومن بأسك يتترس بالحديد الشجعان، فلا تغنيهم من سيفك دروعهم، ولا تقيهم من طعناتك متاريسهم.
3 - المعنى الآخر هو: أنك يا علي درع الإيمان، وأنت الحاطم لأنوف الشرك والنفاق.
ولهذا المعنى تشير فاطمة البضعة النبوية في خطبتها الاحتجاجية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلة:
«كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهيبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا»(1).
أشارت الروايات إلى أن ثمن الدرع تراوح بين (30) درهما إلى (500) درهم وهي على النحو التالي:
1 - روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:
«زوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة على درع حطمية يسوى ثلاثين درهما»(2).
ص: 260
2 - ما روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال:
«ما ثمنها إلا أربعمائة درهم»(1).
3 - عن سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في خبر:
«زوّج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليا على أربع مائة وثمانين درهما»(2).
4 - وفي رواية:
«أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوّج فاطمة على خمس مائة درهم»(3).
وهو الأصح، لكن يمكن الجمع بين تلك الروايات بوجوه كما قاله العلامة المجلسي:
الأول: أن يكون المراد كون الدرع جزءا للمهر.
الثاني: أن يكون المعنى أنه لو كان هذا اليوم لساوى ثلاثين درهما وإن كانت قيمته في ذلك الزمان أكثر.
الثالث: أن يقال: أنه كان يساوي ثلاثين درهما، لكن بيع بخمسمائة درهم.
الرابع: أن يكون بعض الأخبار محمولا على التقية(4).
وإضافة إلى ما ذكره العلامة المجلسي يمكن أن نجمع تلك الروايات بشكل أقرب للذهن؛ إذ إن الرواية التي ذكرت أن ثمن الدرع يساوي (30) درهما هي الأقوى والأشهر بينما الرواية التي تنص على أن مهر فاطمة خمس مائة درهم هي
ص: 261
الأصح وطريق التوافق بينهما هو كالتالي:
أولا: أن الإمام الصادق عليه السلام لم يقل كان مهر فاطمة ثلاثين درهما إنما قال:
«على درع حطمية».
وأن هذه الدرع تساوي ثلاثين درهما، ووجهة الحكمة في هذا الحديث أن الإمام الصادق عليه السلام لم يذكر بكم بيعت الدرع إنما أشار إلى كم تساوي، ولذلك تعدّ هذه الرواية الأقوى من غيرها لوردها في الكافي، والتهذيب، والوسائل، وهي في نفس الوقت لا تتعارض مع غيرها لأنها لم تنص على بكم بيعت الدرع.
ثانيا: أما الدليل على أن مهر فاطمة عليها السلام كان خمس مائة درهم فهو لما قام به الإمام محمد الجواد عليه السلام في جعل مهر أم الفضل بنت عبد الله المأمون - الخليفة العباسي - كمهر جدته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا وهو:
«خمس مائة درهم»(1).
وبهذا يكون ثمن الدرع الذي قبضه الإمام علي عليه السلام عند بيعها هو خمس مائة درهم، وإن كانت تساوي ثلاثين درهما.
لكن من الذي اشترى هذه الدرع ودفع خمس مائة درهم ثمنا لها في حين أنها لا تساوي أكثر من ثلاثين درهما؟!
ص: 262
لما طلب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن يذهب فيبيع الدرع خرج عليه السلام فنادى على درعه فبلغت أربعمائة درهم ودينارا فاشتراها دحية بن خليفة الكلبي، وكان حسن الوجه لم يكن مع رسول الله أحسن منه وجها.
فلما أخذ علي الثمن وتسلم دحية الدرع عطف دحية على علي وقال له: أسألك يا أبا الحسن أن تقبل مني هذه الدرع هدية ولا تخالفني فأخذها منه وحمل الثمن والدرع وجاء بهما إلى النبي فطرحها بين يديه وقال: يا رسول الله بعت الدرع بأربعمائة درهم ودينار، وقد اشتراها دحية وسألني أن أقبل الدرع هدية فما تأمرني أقبلها منه أم لا؟! فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال:
ليس هو دحية لكنه جبرائيل، والدراهم من عند الله لتكون شرفا وفخرا لابنتي فاطمة(1).
وكان الدينار يبلغ مائة درهمٍ وبذلك يكون المهر خمسمائة درهم هجرية.
قد جرت العادة في مناسبات الزواج، وإن اختلفت مكانا وزمانا وتقليدا، أن يكون المهر معبرا بشكل أو بآخر عن مكانة المرأة وأهميتها عند المتقدم لها، أو عند أهلها وقومها، بينما كان البعض الآخر يعدّه وسيلة للحصول على مبتغاه.
ومن هنا فقد اعترض أناس من قريش على مقدار مهر الزهراء عليها
ص: 263
السلام ؟ والسبب في ذلك: أنهم ظنّوا أن هذا الأمر خلاف العادة المتبعة في الزواج، أو كونها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينبغي أن يكون مهرها باهظا، أو لأنها فاطمة..، ومن مثل فاطمة عليها السلام ؟! أو لسبب آخر مرّ بيانه.
ولهذه الأسباب أو غيرها أتاه أناس من قريش فقالوا: إنك زوجت عليا بمهر خسيس! فقال لهم: ما أنا زوجت عليا، ولكن الله تعالى زوجه ليلة أسري بي عند سدرة المنتهى(1).
ولم يكن هذا الرد من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كافيا عند البعض فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معترضا، لكن بصورة أخرى تظهر الحب وتبطن البغض.
فقال: قد علمنا مهر فاطمة في الأرض فما مهرها في السماء؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك ؟!».
قيل: هذا مما يعنينا يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«كان مهرُها في السماء خمسَ الأرض فمن مشى عليها مبغضا لها ولولدها مشى عليها حرام إلى أن تقوم الساعة»(2).
والذي يبدو من خلال الرواية: أن السائل كان يلحن في القول، كما تشير الآية:
ص: 264
(... وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ ...)(1) .
ولذلك انتهره النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الشيء الآخر الذي تدل عليه الرواية: أنّ المتكلَم شخصٌ واحدٌ وليس جماعة، وأن هذا الشخص يرى في نفسه أنه شيءٌ مهم فلذا كان يتحدث بصيغة الجمع قائلا: (قد علمنا) و (هذا مما يعنينا) ولكن ردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة التصغير قائلا:
«سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك».
ومما تدل عليه الرواية أيضا: أن هذا السائل سيقوم بانتهاك حرمة فاطمة عليها السلام وأنه سيغضبها، ولذا ردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مذكرا ومنفرا من عاقبة من يتعرض لحرمة فاطمة فيغضبها فقال:
«فمن مشى عليها - أي الأرض - مغضبا لها - لفاطمة ولولدها - مشى عليها حراما إلى أن تقوم الساعة».
ومما يستوقف الباحث والقارئ: هو الفقرة الأخيرة من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي:
«مشى عليها حراما إلى أن تقوم الساعة ؟».
إذ لا يعقل أن المغضب لفاطمة يظل يمشي إلى قيام الساعة.
وعليه: فما أراده صلى الله عليه وآله وسلم منها؟! يمكن لنا معرفة ذلك من وجوه:
أولا: أن المبغض أو المغضب لفاطمة حكمه ماض إلى قيام الساعة، فيكون
ص: 265
مراده صلى الله عليه وآله وسلم (الحكم).
ثانيا: أن يكون مرادهُ صلى الله عليه وآله وسلم (الناس) فإن كلّ من أبغض أو أغضب فاطمة وولدها إلى قيام الساعة إذا مشى على الأرض فإنه يمشي عليها حراما، حتى ينفي الناس.
ثالثا: أن المقصود من ذلك هو (المضاعفة في الإثم) لمن أغضب فاطمة وولدها إلى قيام الساعة فيكون مراده من المشي المضاعفة والديمومة في الإثم.
رابعا: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بذلك: كل (ذرية فاطمة) إلى قيام الساعة فمن آذى أحد أولاد فاطمة عليهم السلام يكون قد آذاها، فيكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم ذرية فاطمة أي: أبناء الحسن والحسين عليهما السلام إلى قيام الساعة.
والظاهر من ذلك كله: أن مراده صلى الله عليه وآله وسلم: أن من كان مبغضا لفاطمة ولولدها الأئمة عليهم السلام يضاعف عليه الإثم إلى قيام الساعة ؟ ليكون عليه العذاب أضعافا مضاعفة في الآخرة، وأن حال المغضب لها ولولدها كذلك. لقوله تعالى:
(أُولٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ يُضٰاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذٰابُ مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ )(1) .
ولم يكتفِ النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من عترته ببيان ذلك فقط، وإنما قد كشفوا للمسلمين عن ما أعطاه الله عزّ وجل لفاطمة بزواجها
ص: 266
من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
ويبدو أن سبب ذلك هو كثرة الأسئلة عن مهرها في السماء، أو لوجود معارضين لم يكتفوا بذلك البيان بعد، أو هو بشرى للمؤمنين لتقرّ بذلك عيونهم.
فكان مهر فاطمة عليها السلام في السماء هو:
فقد أخرج الطوسي عن إسحاق بن عمار وأبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
«أن الله تبارك وتعالى أمهر فاطمة عليها السلام ربع الدنيا، فربعها لها»(1).
عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرائيل عليه السلام عن الله عزّ وجل:
«وجعلت - لفاطمة - في الأرض أربعة أنهار: الفرات، ونيل مصر، - ونهر - ونهروان، ونهر بلخ، فزوجها أنت يا محمد بخمس مائة درهم تكون سنّة لأمتك»(2).
أخرج الشيخ الطوسي رحمه الله: عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام:
«أن الله تبارك وتعالى أمهر فاطمة الجنة والنار، تدخل أعداءها النار، وتدخل
ص: 267
أولياءها الجنة، وهي الصّديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»(1).
عن أم أيمن رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة عليها السلام فجعلها في منزل علي عليه السلام»(2).
ذكر أبو الحسن البكري: (أن فاطمة عليها السلام لما سمعت أن أباها صلى الله عليه وآله وسلم زوّجَها من علي وجعل الدراهم لها مهرا، قالت:
«يا أبت إن بنات ساير الناس على هذا تزوجن، على الدراهم والدنانير فلو زوجت ابنتك على الدراهم والدنانير، فما الفرق بينك وبين ساير الناس، فاسأل من الله تعالى أن يجعل مهري شفاعة أمتك».
فنزل جبرائيل من ساعة وبيده حربة فيها مكتوب:
«جعل الله مهر فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى شفاعة أمته».
وأوصت فاطمة عليها السلام وقت خروجها من الدنيا بأن يجعل تلك الحربة في كفنها، وقالت:
«إذا حشرت يوم القيامة ارفع هذه الحربة وأشفع لعصاة أمة أبي»(3).
ص: 268
لم يكن لابنة النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم من الأثاث في تجهيز بيتها لتحل فيه عروسا لأمير المؤمنين علي عليه السلام ما اعتاد عليه الناس من اقتناء ما غلا ثمنه وبان ثراؤه حتى كأن الزواج أصبح عند البعض فرصة في تحسين حال البنت فلا يترك العريس حتى تنظف جيوبه وجيوب أهله وأحبائَه وهو يدور عليهم مقترضا منهم المال.
أو لاعتقاد البعض أن ذلك مما يحقق الراحة والسعادة للفتاة التي ستبحث عنهما طوال حياتها الزوجية.
فلا الراحة ستجدها في أدراج غرفة النوم، ولا السعادة تعثر عليها بين مثاقيل الذهب.
ولسبب بسيط، إذ إنها أخطأت الاختيار، ولم تضع ضمن مفاهيمها أن:
«من جاءكم ترضون دينه وخلقه فزوجوه».
ص: 269
فهو السبيل للوصول إلى حياة هادئة ومستقرة، تظلها الرحمة، ويحيطها الحنان.
ولذلك نجد أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يشترِ السعادة لفاطمة من السوق، ولم يوصِ لها بالراحة من المتاجر لتأتي حسب الطلب، إنما زوجها من رجل ارتضى الله دينه وخلقه، فكانا اسعد زوجين عرفتهما البشرية، إذ لم يتكافأ رجل مع امرأة بمثلما تكافأ علي وفاطمة عليهما السلام.
وهذا هو أساس نجاح الحياة الزوجية، أي: (التكافؤ).
ولذا قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا علي قد أوتيت ثلاثا لم يؤتها أحدٌ، حتى أنا، أوتيتَ صهرا مثلي ولم أوت أنا مثلي؛ وأوتيت صديقةً مثل ابنتي ولم أوت مثلها زوجة؛ وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما، ولكنكم مني وأنا منكم»(1).
(لما زوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا فاطمة عليهما السلام دخل عليها وهي تبكي فقال لها:
«ما يبكيك ؟ فو الله لو كان في أهل بيتي خير منه زوّجتك، وما أنا زوّجتك ولكن الله زوجك، وأصدق عنك الخمس ما دامت السموات والأرض».
أشارت الرواية إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال لعلي عليه السلام:
«قُم فبع الدرع».
ص: 270
قال علي عليه السلام:
«فقمت فبعته وأخذت الثمن، ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسكبت الدراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته».
ثم قبض قبضة ودعا بلالا فأعطاه فقال: ابتع لفاطمة طيبا.
ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدراهم بكلتا يديه فأعطاها أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت وأردفه بعمار بن ياسر وبعده من أصحابه.
فحضروا السوق فكانوا يعترضون الشيء مما يصلح، فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر، فإن استصلحه اشتروه.
- والسبب في ذلك هو أن أبا بكر كان يعمل سمساراً ولذا كانوا يعرضون عليه ما يشترون -.
فكان مما اشتروه:
1 - قميص(1) بسبعة دراهم.
2 - وخمار(2) بأربعة دراهم.
3 - قطيفة سوداء خيبرية(3).
4 - سرير مزمل بشريط.
5 - فراشان من خيش(4) مصر حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من جزّ الغنم.
ص: 271
6 - أربع مرافق من أدم الطائف، حشوها أذخر(1).
7 - ستر من صوف.
8 - حصير هجري.
9 - رحى لليد.
10 - مخضب من نحاس(2).
11 - سقاء من أدم.
12 - قعب للّبن(3).
13 - شن للماء(4).
14 - مطهرة مزفتة.
15 - جرة خضراء.
16 - كيزان خزف(5).
حتى إذا استكمل الشراء حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا معه الباقي، فلما عرض المتاع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل يقلّبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت»)(6).
ص: 272
وفي رواية: (فلما وضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما نظر إليه بكى وجرت دموعه، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:
«اللهم بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف»(1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قسم المهر إلى ثلاثة أثلاث، ثلث للطيب، وطلب من بلال أن يقوم بشرائه، وثلث للأثاث، وثلث للوليمة.
وفي تخصيصه صلى الله عليه وآله وسلم ثلثاً للطيب تأكيد على اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزينة المرأة وحثها على الاهتمام بمظهرها كي تنال إعجاب زوجها والفوز بحبه لها واهتمامه بها.
وبهذا تكون قد حققت الجو الملائم لبناء أسرة هادئة مطمئنة يحيا فيها الأبناء تحت رعاية أبوين يربطهما حب قوي.
قال الإمام علي عليه السلام:
(«ومكثت بعد ذلك شهرا لا أعاود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر فاطمة بشيء استحياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أني إذا خلوت برسول الله يقول لي: يا أبا الحسن ما أحسن زوجتك وأجملها، أبشر يا أبا الحسن فقد زوّجتك سيدة نساء العالمين».
قال علي عليه السلام:
ص: 273
«فلما كان بعد شهر دخل عليّ أخي عقيل بن أبي طالب فقال: يا أخي ما فرحت بشيء كفرحي بتزويجك فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يا أخي فما بالك لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخلها عليك فتقرّ عينا باجتماع شملكما».
قال علي:
«والله يا أخي إنني لأحب ذلك وما يمنعني من مسألته إلا الحياء منه».
فقال: أقسمت عليك إلا قمت معي.
«فقمنا نريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقينا في طريقنا أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرنا ذلك لها».
فقالت: لا تفعل، ودعنا نحن نكلمه فإن كلام النساء في هذا الأمر أحسن وأوقع بقلوب الرجال.
«ثم انثنت راجعة فدخلت إلى أم سلمة فأعلمتها بذلك، وأعلمت نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمعن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان في بيت عائشة، فأحدقن به وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء لقرت بذلك عينها. قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال:
«خديجة وأين مثل خديجة صدقتني حين كذبني الناس ووازرتني على دين الله وأعانتني عليه بمالها، إن الله عزّ وجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب (الزمرد) لا صخب فهي ولانصب»(1).
ص: 274
قالت أم سلمة، فقلنا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنك لم تذكر من خديجة أمرا إلا وكانت كذلك، غير أنها قد مضت إلى ربها، فهنأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في درجات جنته ورضوانه ورحمته.
يا رسول الله وهذا أخوك في الدنيا، ابن عمك في النسب علي بن أبي طالب يحب أن تدخل عليه زوجته فاطمة عليها السلام، وتجمع بها شمله.
فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -:
يا أم سلمة فما بال علي لا يسألني ذلك ؟
فقلت يمنعه الحياء منك يا رسول الله.
قالت أم أيمن: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«انطلقي إلى علي فأتيني به».
قالت: فخرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا علي ينتظرني ليسألني عن جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآني قال:
«ما وراك يا أم أيمن».
قلت: أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال عليه السلام:
«فدخلت عليه وقمن أزواجه فدخلن البيت وجلست بين يديه مطرقا نحو الأرض حياء منه. فقال: أتحبّ أن تدخل عليك زوجتك ؟
فقلت وأنا مطرق: فداك أبي وأمي.
فقال: نعم وكرامة يا أبا الحسن أدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليلة غد إن شاء الله. قال علي عليه السلام: فقمت فرحا مسرورا»)(1).
ص: 275
قبل أن تزف فاطمة إلى الإمام علي عليهما السلام كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد طلب من الإمام علي عليه السلام أن يهيّئ لفاطمة منزلا. فقال له:
«هيئ منزلا حتى تحول فاطمة إليه ؟».
فقال علي عليه السلام:
«يا رسول الله ما ها هنا منزل إلا منزل الحارثة بن النعمان».
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«والله لقد استحيينا من الحارثة بن النعمان، قد أخذنا عامة منازله».
فبلغ ذلك حارثة فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله: أنا ومالي لله ولرسوله، والله ما من شيء أحب إلي مما تأخذه، والذي تأخذه أحب علي مما تتركه، فجزاه رسول الله خيرا، فحولت فاطمة إلى علي في منزل حارثة(1).
ص: 276
وسنعود لهذا الحديث في باب: موقع بيت فاطمة بعون الله تعالى.
وكي نعطي مجريات الزفاف حقها قمنا بتقسيم المبحث إلى مسائل أربع.
قبل أن يخرج النبي الأكرم بضعته إلى بيت الزوجية في موكب الزفاف كان قد أعد لها في هذه المناسبة وليمة إطعام تليق بهذه الفرحة، حتى قالوا فيها ما لم يقلْه أحد في غيرها من الأعراس وشهدوا للناس بفرحتهم بعرس فاطمة.
تقول أسماء بنت عميس:
أولم علي على فاطمة، فما كان وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته(1).
ويقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه:
حضرنا عرس علي وفاطمة فما رأيت عرسا كان أطيب منه حشدنا البيت طيبا وأتينا بتمر وزبيب فأكلنا(2).
أنّ من الأمور التي امتازت بها وليمة عرس فاطمة عليها السلام مع شهادة الحاضرين هي:
1 - أنها ضمت هدايا الصحابة.
2 - ظهور أحد الأدلة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 277
3 - ظهور معجزة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه الأمور الثلاثة رافقت الوليمة من الإعداد إلى نهاية الإطعام، فكان إعدادها على الشكل الآتي:
ويتكون (الحيس): من التمر والأقط(1)، والسمن، وقد يجعل عوض الاقط الدقيق(2).
وكان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ عشرة دراهم وأعطاها إلى الإمام علي عليه السلام، وهذه الدراهم هي من ثمن الدرع، وقال له:
أشتر سمنا وتمرا وأقطا.
قال الإمام عليه السلام:
فاشتريت وأقبلت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحسر عن ذراعيه ودعا بسفرة من أدم وجعل يشدخ التمر والسمن ويخلطهما بالأقط، حتى اتخذه حيسا(3).
فكانت هذه حلوى العرس التي أعدها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بيده المقدسة.
ص: 278
وكان إعدادها بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا، فقد أمر بطحن البر - أي القمح - وخبزه، وأمر عليا بذبح البقر والغنم، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفصل ولم ير على يده أثر دم.
بعد أن فرغوا من الطبخ وتم إعداد الطعام المكون من الخبز واللحم والحلوى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام:
«أدع الناس».
قال علي عليه السلام:
«جئت إلى الناس فقلت: أجيبوا الوليمة، فأقبلوا».
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أدخل عشرة، فدخلوا وقدم إليهم الطعام والثريد، فأكلوا ثم أطعمهم السمن والتمر، فلا يزداد الطعام إلا بركة فلما أطعم الرجال عمد إلى ما فضل منه، فتفل فيها وبارك عليها، وبعث منها إلى نسائه وقال: قلن لهن: كلن وأطعمن من غشيكن(1).
وفي هذا الخصوص فإن ريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فقط يبارك في الطعام ويشفي المريض وإنما كان طعمه أحلى من العسل وكان يؤتي إليه بالماء المالح فيشرب منه ثم يمجه فيه فيكون أحلى من العسل(2).
وكان هذا الإطعام في اليوم الأول وقبل انتقال فاطمة عليها السلام إلى بيت علي عليه السلام، أي: قبل زفافها ببعض الوقت.
ص: 279
فكان هذا اليوم قد اشتمل على هدايا الصحابة فقد جاؤوا إلى الإمام علي عليه السلام ببعض الأصوع من البِر، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطحن ويخبز فلما فرغوا من الطبخ - أي: طبخ لحم الغنم الذي ذبحها علي عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينادى على رأس داره: أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك كقوله:
«وأذن في الناس بالحج»(1).
فأجابوا من النحلات والزروع، فبسط النطوع في المسجد وصدر الناس وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وسائر نساء المدينة، ورفعوا منها ما أرادوا ولم ينقص من الطعام شيء(2).
وفي اليوم الثالث أتى أبو أيوب بشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهاه جبرائيل عن ذبحها، فشق ذلك عليه فأمر صلى الله عليه وآله وسلم يزيد بن جارية الأنصاري فذبحها بعد يومين، أي: أن أبا أيوب جاء بالشاة في اليوم الأول فلما نهاه جبرائيل عن ذبحها لسبب سيمر علينا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذبحها بعد يومين من عرس فاطمة عليها السلام.
فلما طبخت أمر ألا يأكلوا إلا باسم الله، وأن لا يكسروا عظامه، ثم قال:
ص: 280
(إنّ أبا أيوب رجل فقير إلهي أنت خلقتها، وأنت أفنيتها، وإنك قادر على إعادته، فأحيها يا حي لا إله إلا أنت).
فأحياها الله وجعل فيها بركة لأبي أيوب، وشفاء المرضى في لبنها فسماها أهل المدينة المبعوثة وفيها قال عبد الرحمن بن عوف أبياتا منها:
ألم يبصروا شاة ابن زيد وحالها *** وفي أمرها للطالبين مزيد
وقد رابحت ثم استجر إهابها *** وفصلها فيما هناك يزيد
وانضج منها اللحم والعظم والكلى *** فهلهله بالنار وهو هريد
فأحيا له ذو العرش والله قادر *** فعادت بحال ما يشاء يعود(1)
بعد أن أتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إطعام الناس طلب من النساء تزيين فاطمة عليها السلام وقد ورد في كثير من الروايات التي أوردها العلامة المجلسي رحمه الله وهي تشير إلى وجود أم سلمة، وإنها قامت بتزيينها وإعدادها لهذه المناسبة. وهذا اشتباه كبير إذ لا وجود لأم سلمة في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه تزوج بها في السنة الرابعة من الهجرة، أي: بعد زواج فاطمة بسنتين(2)، فكيف تكون قد تكفلت بتزيينها في حجرتها(3)، وأن فاطمة زفت وحولت في هذه الليلة إلى حجرة أم سلمة(4).
ص: 281
بينما نجد من الغريب جدا في حديث زواج فاطمة عليها السلام هو عدم وجود أي ذكر لفاطمة بنت أسد أم الإمام علي عليهما السلام، وهي أم النبي المصطفى كما سماها صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف تغيب أو تغيّب عن هذه المناسبة فلا يسند لها أي دور فيها، وقد هاجرت مع فاطمة عليها السلام، وماتت في المدينة، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفنها في قميصه وقال:
«لم نلق بعد أبي طالب أبرّ بي منها».
وكانت تعين فاطمة في بيتها(1)، إلا أن يقال أن أم سلمة كانت من الحاضرات مع النساء ولكن ليست كزوجة للنبي، وإنه صلى الله عليه وآله وسلم قد طلب منها ذلك الطلب لمعرفتها بما تحتاج المرأة من زينة ليلة زفافها، ولكن هذا من باب الاحتمال والله العالم بحقيقة وجودها في عرس فاطمة عليها السلام، وأن الأقرب إلى الواقع هو قيام فاطمة بنت أسد بكل ما تحتاج إليه بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر نساءه - ولم يكن له حينها سوى سودة وعائشة - أن يزيّنها ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة.
فاستدعين من فاطمة طيبا فأتت بقارورة، فسئلت عنها، فقالت: كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول لي: يا فاطمة هاتي الوسادة فاطرحيها لعمّك فكان إذا نهض سقط من بين ثيابه شيء فيأمرني بجمعه.
ص: 282
فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال:
«هو عنبر يسقط من أجنحة جبرائيل».
وأتت بماء ورد فسألت أم سلمة عنه ؟
قالت: هذا عرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنت آخذه عند قيلولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندي(1).
فلما كان وقت زفافها، أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببغلته الشهباء، وشنن عليها قطيفة، وقال لفاطمة:
أركبي.
وأمر سلمان الفارسي المحمدي رضي الله عنه أن يقودها، والنبي يسوقها(2). قال ابن بابويه: وحولها حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعقيل وجعفر أبنا أبي طالب رضي الله عنهما وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم، ونساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدامها يرجزن فأنشأت أم سلمة:
سرْنَ بعون الله جاراتي *** واشكرنه في كل حالات
واذكرن ما أنعم ربّ العلى *** من كشف مكروه وآفات
فقد هدانا بعد كفر وقد *** أنعشنا ربّ السموات
وسرْن مع خير نساء الورى *** تفدى بعمّات وخالات
يا بنت من فضله ذو العلى *** بالوحي منه والرسالات
ص: 283
ثم قالت عائشة:
يا نسوة استرن بالمعاجر *** واذكرن ما يحسن في المحاضر
واذكرن ربّ الناس إذ يخصّنا *** بدينه مع كل عبد شاكر
والحمد لله على أفضاله *** والشكر لله العزيز القادر
سرن بها فالله أعطى ذكرها *** رخصها منه بطهر طاهر
ثم قالت حفصة:
فاطمة خير نساء البشر *** ومن لها وجه كوجه القمر
فضلك الله على كل الورى *** بفضل من خص بأي الزمر
زوّجك الله فتى فاضلا *** أعني عليا خير من في الحضر
فسرن جاراتي بها إنها *** كريمة بنت عظيم الخطر
ثم قالت معاذة بنت سعد بن معاذ:
أقول قولا فيه ما فيه *** وأذكر الخير وأبديه
محمد خير بني آدم *** ما فيه من كبر ولاتيه
بفضله عرّفنا رشدنا *** فالله بالخير يجازيه
ونحن مع بنت نبي الهدى *** ذي شرف قد مكّنت فيه
في ذروة شامخة أصلها *** فما أرى شيئا يدانيه
وكانت النسوة يرجّعن أول بيت من كل رجز، ثم يكبّرن ودخلنَ الدار(1).
ولكن من دون أن تحدثنا أحداهن عن ثوب زفاف فاطمة عليها السلام الذي لبسته هذه الليلة ؟!
ص: 284
اهتم الناس كثيرا في ثوب الزفاف لدرجة أن البعض شبهه بتاج الملوكية لا فرق بينه وبين ثوب الزفاف سوى الموضع الذي يوضع فوقه كل منهما.
والحق يقال: إن هناك تشابها بين تاج الملوكية وثوب الزفاف فذاك يحتفل به لتثبيت الملك وهذا يحتفل به لتثبيت العفة والطهارة.
وربما يوجد بينهما أكثر من موضع للتشابه، ولكن أن يسعى البعض لجعل التشابه بينهما في الثمن فهذا ما لا يرضي الله ورسوله والعقلاء.
وربما اهتم البعض الآخر بثوب الزفاف سواء رجل أو امرأة، كي تتمكن التي ترتديه من خطف أبصار الحاضرين.
أو لجعل هذه الليلة، ليلة لا تنسى، إذ لا تكون المرأة بهذا الجمال إلاّ في هذه الليلة، ولن تعود لهذا الجمال في غيرها من الليالي ؟! فللزمن ضريبته القاسية على الجمال الذي ينتزعها دون إشعار مسبق... ولذا حرص الرجل على هذه الليلة ربما أكثر من المرأة.
وعلى أية حال لا نستطيع أن نأتي بجميع وجهات النظر حول أهمية ثوب الزفاف.
فيكفي أن يقال عنه في الوقت الحاضر: ثوب ليلة العمر.
ولكن كيف كان ثوب زفاف فاطمة عليها السلام ؟ وكيف كانت ليلة زفافها؟
أما ثوب الزفاف وهو محل حديثنا فإنه يختلف عن جميع أثواب زفاف النساء
ص: 285
منذ أن خلق الله عزّ وجل حواء إلى آخر امرأة تلبس ثوب زفافها؟!
فما من امرأة كان ثوب زفافها الذي لبسته ليلة عرسها يكون هو نفسه كفنها فتخرج به من الدنيا؟!!
ربما يقول البعض: بل هناك من قتلت ليلة زفافها! ونقول: نعم، قد حصل الكثير! ولكن هل حصل أن امرأة ارتدت ليلة عرسها ثوبها الذي زفت به ليكون ما تستعين به كغيره طيلة حياتها الزوجية البالغة ثماني سنوات ثم تمضي مقتولة شهيدة وهي في الثامنة عشرة من العمر فيكون هذا الثوب هو كفنها فهذا لم ولن يحصل لغير فاطمة.
لكن كيف أصبح ثوب زفافها هو كفنها؟ لا نجيب عليه الآن! بل في موضعه عند الحديث عن ظلامتها وما جرى عليها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما ما هو ثوب زفافها؟
فيقول الأبشيهي: (جلباب من صوف اكتسته ليلة بنى بها علي وخرجت به من الدنيا)(1).
والجلباب عند أهل اللغة هو: (القميص)(2).
وقيل هو: (الإزار) يشتمل به فيجلل جميع الجسد، وكذلك إزار الليل وهو: الثوب السابغ الذي يشتمل به النائم الذي يغطي جسده كله(3).
وأما فقهاء اللغة فقالوا: ف (الجلباب) هو ثوب أوسع من الخمار دون الرداء
ص: 286
تغطي به المرأة رأسها وصدرها(1).
وقيل: (الجلباب) هو الخمار(2).
وقيل: جلباب المرأة: ملاءتها التي تشتمل بها، واحدها جلباب، وجمعه جلابيب(3).
وقيل: هو ثوب واسع دون الملحفة(4).
وقيل: هو الثوب الذي تغطي به ماعليك من الثياب، نحو الملحفة(5).
ومن خلال هذه المعاني يمكن الجمع بين هذه الأقوال وهي (القميص)، الإزار، الخمار، الملاءة، الملحفة بمعنى جامع يشير إلى أن الجلباب هو: ما تستر به المرأة رأسها وجسدها ويكون فوق الثياب، ليكون أول ما يقع عليه نظر المرء إذا نظر إلى المرأة.
وعليه: فإن الثوب الذي لبسته فاطمة ليلة زفافها هو (الجلباب)، وهو الذي حمل اسم (ثوب الزفاف) وبهذا الجلباب خرجت من الدنيا، أي كان كفنا لها؟!
ويفهم من ذلك أن الإمام عليّاً عليه السلام غسلها من فوق هذا الجلباب حالها في ذلك حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما غسله الإمام علي عليه السلام ولم يجرده من ثوبه.
ص: 287
من الأمور التي ترافق ليلة الزفاف لدى الناس هو (النثار)، والنثر: رميك الشيء بيدك متفرقا، والنثر: اسم للجوز والسكر، وما ينثر من الأشياء؛ والنثار الفعل، يقال: (أما شهدت نثار فلان، وما أهبت عن نثر فلان، أي ما نثر)(1).
و (النثارة) ما تناثر منه.
وقد اكتسب (النثار) ميزة خاصة من بين أمور ليلة الزفاف، إذ من خلاله يحاول أهل العروس إظهار مكانة (البنت) بين أهلها، وموضعها عند أبويها خاصة، ولذلك جادت بعض الأسر في نثارهم على بناتهم ليلة زفافهن قديما وحديثا.
ومن هذا المعنى: أي إظهار مكانة المرأة وموضعها عند أهلها، امتاز نثار فاطمة عليها السلام، بهذه الميزة، فكان نثارها شعيرة من الشعائر الإلهية التي رافقت حياتها.
فكان نثارها هو إظهار لمكانتها عند الله عزّ وجل، هذه المكانة والشأن الرفيع أظهره الله عزّ وجل للملأ الأعلى فهم عليهم السلام الأقدر على تعظيم هذه الشعيرة في حب فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولكن هذا الأمر لا يعني فقدان المحب لهم في الأرض أو عدم تألمه لما جرى عليهم، إذ التاريخ يفصح بلسان مبين عن أولئك المحبين، ومن بينهم كانت مولاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم أيمن رضي الله عنها.
ص: 288
قال الإمام علي عليه السلام:
«دخلت أم أيمن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي ملحفتها شيء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ما معك يا أم أيمن ؟!
فقالت: إن فلانة أملكوها فنثروا عليها فأخذت من نثارها، ثم بكت أم أيمن، وقالت: يا رسول الله فاطمة زوجتها ولم تنثر عليها شيئا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أم أيمن لم تكذبين! فإن الله تبارك وتعالى لما زوجت - زوّج - فاطمة عليا عليهما السلام أمر أشجار الجنة أن تنثر عليهم من حليها وحللها وياقوتها ودرّها وزمردها واستبرقها، فأخذوا منها ما لا يعلمون، ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة فجعلها في منزل علي»(1).
وفي رواية: عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
أوحى الله عزّ وجل إلى السدرة - أي سدرة المنتهى - أن انثري، فنثرت الدّر والجوهر على الحور العين فهن يتهادينه ويتفاخرن به، ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(2).
ص: 289
وفي خبر عن الإمام الرضا عليه السلام في فضل يوم الغدير:
«وأنهم - أي الملائكة - ليتها دون في ذلك اليوم نثار فاطمة»(1).
فهكذا كان نثار فاطمة عليها السلام، وهكذا كان تعظيمها في السماء، ولكن لم يكتفِ الأمر فقط بنشر الفرحة في السماء، وتبادل الهدايا، بل إن الفيض الأقدس وهم ملائكة الرحمن جاؤوا في هذه الليلة ليشاركوا سيد الكونين فرحته ببضعته النبوية، بل إنهم هبطوا ليتولوا مراسيم زفافها إلى ولي الله وحجته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
فكانت المراسيم الإلهية بهذه الصورة التي ما سمعتها البشرية من قبل! ولم تسمع بها من بعد تلك صورة التي نقلتها كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصورتها عيون الوحي، فكانت عناصر تكوينها ملائكة السماء، ورياحين الجنان، وأنوار الرحمان.
فما هي هذه الصورة ؟!
يقول جابر بن عبد الله الأنصاري: (فلما كانت الليلة التي زفت فيها فاطمة إلى علي عليهما السلام وبينما النبي ببعض الطريق إذ سمع صلى الله عليه وآله وسلم وجبة(2)! فإذا هو بجبرائيل في سبعين ألفاً، وميكائيل في سبعين ألفاً؟!
ص: 290
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما أهبطكم إلى الأرض ؟».
قالوا:
«جئنا نزف فاطمة إلى علي بن أبي طالب»(1).
فأمسك جبرائيل بلجام بغلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليها كانت فاطمة، وأمسك إسرافيل بالركاب، وأمسك ميكائيل بالشفر، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوي عليها الثياب(2).
فكبّر جبرائيل، وكبّر ميكائيل، وكبّر اسرافيل، وكبّرتْ الملائكة، وكبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوقع التكبير على العرائس من تلك الليلة(3).
فإذا سار المركب صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامها، وجبرائيل عن يمينها، وميكائيل عن يسارها، وسبعون ألف ألف ملك خلفها يسبحون الله ويقدسونه حتى طلع الفجر)(4).
ص: 291
كل صغيرة وكبيرة في حياة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام لها خصوصيتها الأوحدية، وميزتها التفردية.
فليلة عرس فاطمة عليها السلام بما قدمنا كانت أوحدية في تكوينها، فكل حدث فيها يتفرد عن غيره من أحداث ليالي الأعراس لجميع البشر، حتى وإن حصل التطابق في العناوين المرافقة لحدث الزواج، كالمهر، والوليمة، والزفاف، وغيرها.
ولأن ليلة زفاف فاطمة لعلي عليهما السلام فيها مفردات كثيرة، قد يحصل بعضها في غيرها من الأعراس، ألا أن المفردات الأخرى لا يمكن أن نراها، أو نقرأها إلا في ليلة زفاف فاطمة عليها السلام.
فأما المفردات التي قد تحدث في غيرها من الأعراس هي:
ص: 292
إن أول الدموع التي تناثرت كحبات لؤلؤ على وجه فاطمة عليها السلام كانت لفقدان الأم في هذه الليلة وخلو مكانها.
فليس مثل المرأة من يكون أحوج إلى الأم ليلة العرس، وإن كانت الأم مرهما لكل الجراحات لكن في الغالب احتياج الفتاة إلى أمها لا ينحصر بزمن معين ولا ينتهي بسبب واحد فما زالت المرأة بحاجة إلى الأم.
ربما لما يرد على المرأة من أمور خاصة بها كالنفاس ومن قبله الحمل، وربما لتعميق الإحساس في نفسها بعد أن تلمس ما يرافق مراحل الزواج من رعاية الزوج والحمل والإنجاب والرضاعة وغيرها فكل هذه العناوين كانت المرأة تسمعها من أمها أو أختها الكبيرة لكن أن تعيشها أو تحسها بتأثر، فذلك لا يتحقق إلا إن مرّت هي بهذه الأدوار.
وربما تحتاج الفتاة إلى الأم وقلنا في ليلة العرس بشكل خاص لغلبة الخجل عليها ولعدم قدرتها على الإفصاح لما يرافق ليلة العرس من مسؤولية يلزم عليها القيام بها وتحملها، فضلاً عن الإحساس بالخوف فكل هذه الأمور وغيرها تلمسها الفتاة بشكل مختلف عن الرجل.
ولهذا كان النبي الأكرم وهو سنخ رحمة الله عزّ وجل محملا بالهموم فمن مثل النبي المصطفى رحمة ورأفة وأحاسيس مرهفة فضلاً عن أنها فاطمة ولو يعلم الناس ما لفاطمة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من المكانة لرعوها مثل أحداق عيونهم، ولذا كان يعاني الأمرّين وهما ما تحسه فاطمة من ألم فقدان الأم،
ص: 293
ومن يحلّ محل خديجة هذه الليلة.
فكانت عيناه صلى الله عليه وآله وسلم تدمعان(1)، كما دمعت عينا فاطمة عليها السلام وكلاهما لذكرى خديجة عليها السلام.
التي كانت قد دمعت عيناها قبلهما، وحملت هم فاطمة هذه الليلة، ومن هذا الأمر نلمس ماذا تعني الأم، أن كانت بمثل حنان ورأفة أم المؤمنين خديجة عليها السلام التي لم تغفل عن احتياج فاطمة إليها وإلى وجودها بقربها في هذه الليلة، ليلة عرس ابنتها فاطمة.
تقول أسماء بنت عميس:
(حضرت وفاة خديجة عليها السلام فبكت، فقلت: أتبكين، وأنت سيدة نساء العالمين! وأنت زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم! مشيرة على لسانه بالجنة ؟!
فقالت:
«ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لابدّ لها من امرأة تفضي إليها بسرّها، وتستعين بها على حوائجها، وفاطمة حديثة عهد بصبى، وأخاف أن لا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ؟»؟
فقلت: يا سيدتي لك (علي) عهد الله إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر»(2).
ولقد أبرت أسماء قسمها فكانت عند فاطمة في هذه الليلة - كما سيمر لاحقاً -.
ص: 294
قد جرت العادة في الأعراس أن يخصص لليلة العرس طعام للعريسين، وتبعا لهذه العادة فقد اهتم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر، فقد دعا بصحفة فجعل فيها نصيباً - من الطعام الذي طبخ في الوليمة - وقال لعلي:
«هذا لك ولأهلك»(1).
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حرص على إطعام حبيبته ليلة عرسها.
وهذا الأمر وإن يكن مما تشهده ليالي الزفاف، لكن الذي لم يحصل إلاّ في ليلة زفاف فاطمة وعلي عليهما السلام هو: أن يأتيهما جبرائيل بهدية ليلة العرس.
فقد هبط عليه السلام في زمرة من الملائكة بهدية - وهي عبارة عن سلة وكانت مغلقة فلما استقر الحال بالعروسين في بيتهما - فتح النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم السلة فإذا فيها كعك وموز وزبيب فقال:
هذا هدية جبرائيل، ثم أقلب من يده سفرجلة فشقها نصفين وأعطى عليا نصفا وفاطمة نصفا، وقال:
هذه هدية من الجنة إليكما)(2).
وبذلك يكونان عليهما السلام قد أُطعما ليلة الزفاف من يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن ثمار الجنة التي نزل بها جبرائيل عليه السلام.
ص: 295
قد مرّ سابقا كيفية خروج موكب زفاف فاطمة عليها السلام وما رافقه من مراسيم إلهية حتى وصولها إلى بيت علي عليه السلام.
(فأدخلت فاطمة مع النساء أول الأمر، ثم نادى النبي بفاطمة عليها السلام فأتت وهي تجرّ أذيالها، وقد تصب عرقا حياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعثرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة، فلما وقفت بين يديه كشف الرداء عن وجهها حتى رآها علي عليه السلام(1)، ثم جاء بها فأدخلها على علي عليه السلام فأجلسها إلى جنبه على الحصير القطري، ثم قال:
«يا علي هذه بنتي فمن أكرمها فقد أكرمني ومن أهانها فقد أهانني»(2).
ثم أخذ بيد فاطمة فوضعها في يد علي، وقال:
«بارك الله لك في ابنة رسول الله، يا علي نعم الزوجة فاطمة، ويا فاطمة نعم البعل علي»(3).
ثم قال:
«يا فاطمة آتيني بماء».
فقامت إلى قعب في البيت فملأته ماء ثم أتته به فأخذ جرعة فتمضمض بها
ص: 296
ثم مجها في القعب ثم صب على رأسها ثم قال:
«أقبلي».
فلما أقبلت نضح منه على صدرها ثم قال:
«أدبري».
فأدبرت فنضح منه بين كتفيها، ثم قال:
«اللهم هذه ابنتي وأحب الخلق إلي(1)، اللهم إنها مني وأنا منها، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرها».
ثم دعا عليا فصنع به كما صنع بها ودعا له كما دعا لها(2)، ثم قال:
«اللهم هذا أخي وأحب الخلق إلي اللهم اجعله لك وليا وبك حفيا وبارك له في أهله، يا علي أدخل بأهلك بارك الله لك ورحمة الله وبركاته عليكم إنه حميد مجيد»(3).
وقال:
«مرحبا ببحرين يلتقيان، وبنجمين يقترنان».
ثم وثب صلى الله عليه وآله وسلم فتعلقت به وبكت، فقال لها:
«ما يبكيك ؟ فلقد زوجتك أعظمهم حلماً وأكثرهم علماً»(4).
ثم خرج إلى الباب يقول:
ص: 297
«طهركما وطهر نسلكما أنا سلم لمن سالمكما، وحرب لمن حاربكما، استودعكما الله، واستخلفه عليكما»(1).
وقال:
«اللهم بارك لهما، وبارك عليهما، واجعل لهما ذرية طيبة إنك سميع الدعاء»(2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«اللهم إنهما أحب خلقك إلي، فأحبهما وبارك في ذريتهما، واجعل عليهما حافظا وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم»)(3).
قال ابن عباس: فأخبرتني أسماء بنت عميس إنها رمقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزل يدعو لهما خاصة ولا يشركهما في دعائه أحدا حتى توارى في حجرته(4).
ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر النساء بالخروج فخرجن، وتخلفت أسماء بنت عميس كي تنفذ وصية خديجة بنت خويلد عليها السلام(5).
فلما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج رأى سوادا، فقال:
«على رسلك من أنت».
ص: 298
تقول أسماء: فقلت أنا أسماء بنت عميس(1).
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«ألم آمرك أن تخرجي ؟».
فقلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي وما قصدت خلافك(2)، ولكني أنا التي أحرس ابنتك، إن الفتاة ليلة يبنى بها لابد لها من امرأة تكون قريبة منها إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أفضت بذلك إليها(3).
وإني أعطيت خديجة عهدا وحدثته بما كان بينها وبين خديجة عندما حضرتها الوفاة فبكى صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:
«بالله لهذا وقفت ؟».
فقلت: نعم والله(4). قال:
«فإني أسأل الله أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم»(5).
وهكذا يهيئ الله عزّ وجل لفاطمة عليها السلام من يكون إلى جانبها ليلة عرسها، ولا تكون وحيدة وإن كان لا شيء يسد محل الأم.
ولكن ذلك أهون من أن تكون لحالها تدير طرفها فلا ترى من تفضي إليها بحاجتها هذه الليلة، وبذلك أيضا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اطمأن
ص: 299
أكثر على حبيبته وبضعته في حال احتياجها لأمر معين وفي نفس الوقت تكون خديجة عليها السلام قريرة العين وهي في روضتها الفردوسية تنظر إلى بنتها في هذه الليلة.
قد يستغرب القارئ الكريم من هذا العنوان وذلك أن الإمام الحسين عليه السلام هو الابن الثاني لسيدة النساء عليها السلام فما علاقة مصيبته وما يجري عليه في كربلاء في هذه الليلة حتى احترت أو أمضي في كتابة هذا الموضوع أم أتركه ؟ إلاّ أنني أيقنت أن الأمر أعد من قبل أن يخلق الله الخلق، وأنّ محمداً وعترته صلى الله عليه وآله وسلم إنما خلقهم الله عزّ وجل لشريعته، ومن أجلها يسيرون في حياتهم، كي تحيا شريعة الله وأن جميع أمورهم من زواج، وإنجاب، أو ما يجري عليهم من مرض، وقتال، وتشريد، وسلب، وتقطيع، لا فرق بين من كان صغيرا على صدر أمه أو كبيراً تخضب شيبته بالدماء، أو طفلة في ربيعها الثالث كرقية بنت الإمام الحسين عليهما السلام، أو شابة في عرسها، أو امرأة ناهزت الخمسين كل هذه الأدوار اختارها الله عزّ وجل حسبما تقتضي مصلحة شريعته عزّ وجل.
وإلا بأي حكمة نظرية أو حكمة عملية كما يسميها علماء الشيعة والفلاسفة والعرفاء أن يقام مجلس في ليلة الزفاف فينبأ العروسان بما يجري على ولدهما بهذا الشكل الذي وقع يوم عاشوراء، غير أن يكون الله عزّ وجل قد خلقهم لشريعته واصطفاهم لتبليغ وحيه، قرن طاعته بطاعتهم، وفرض على الخلائق مودتهم، وضمن لمن تمسك بهم النجاة في الدنيا والفوز في الآخرة.
ص: 300
ولذا انظر معي أيها القارئ الكريم إلى ما يحدّث به الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من إقامة مأتم ولده الحسين في ليلة زفاف فاطمة إليه.
كما يروي لنا ابن عقدة الكوفي (المتوفى 333 ه)، عن علي عليه السلام، أنه قال:
«فلما كان في آخر السحر أحسست برسول الله فذهبت لأنهض».
فقال:
«مكانك أتيتك في فراشك رحمك الله.
فأدخل رجليه معنا في الدثار ثم أخذ مدرعة كانت تحت رأس فاطمة فاستيقظت، فبكى وبكت وبكيت لبكائهما!!
فقال لي: ما يبكيك ؟!
فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله بكيت وبكت فاطمة، فبكيت لبكائكما. فقال: أتاني جبرائيل فبشرني بفرخين يكونان لك، ثم عزيت بأحدهما وعلمت أنه يقتل غريبا عطشانا.
فبكت فاطمة حتى علا بكاؤها، ثم قالت: يا أب لم يقتلوه وأنت جده وعلي أبوه وأنا أمه ؟!!
قال: يا بنية لطلبهم الملك، أما أنهم سيظهر عليهم سيف لا يغمد إلا على يد المهدي من ولدك، يا علي من أحبك وأحب ذريتك فقد أحبني ومن أحبني أحبه الله، ومن أبغضك وأبغض ذريتك فقد أبغضني ومن أبغضني أبغضه الله وأدخله النار»(1).
ص: 301
امتازت صبيحة عرس فاطمة عليها السلام بمسائل أربع:
قال علي عليه السلام:
«وكانت غداة قرة(1) قد أتى النبي في صبيحة يوم العرس وقال: السلام عليكم أدخل رحمكم الله، ففتحت أسماء الباب وكانا نائمين تحت كساء فقال على حالكما فأدخل رجليه بين أرجلهما فأخبر الله عن أورادهما.
(تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ )(2) .
فسأل عليا: كيف وجدت أهلك ؟!
ص: 302
قال: نعم العون على طاعة الله، وسأل فاطمة ؟! فقالت: خير بعل.
فقال: اللهم اجمع شملهما وألف بين قلوبهما واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك، ويأمرون بما يرضيك ثم أمر بخروج أسماء، وقال: جزاك الله خيرا.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم: قد جاء هما بعس فيه لبن فقال: لفاطمة: اشربي فداك أبوك.
وقال لعلي: اشرب فداك ابن عمك»(1).
من الكرامات التي خص الله بها علي بن أبي طالب عليه السلام هي هذه الكرامة التي رأتها فاطمة صبيحة يوم عرسها، فأخبرت أباها صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وقد أثرت هذه الكرامة في فاطمة فأفزعتها.
تقول فاطمة عليها السلام:
«سمعت الأرض تحدثه ويحدثها، فأصبحت وأنا فزعة فأخبرت والدي صلى الله عليه وآله وسلم فسجد سجدة طويلة، ثم رفع رأسه وقال: يا فاطمة أبشري بطيب النسل، فإنّ الله فضل بعلك على سائر خلقه، وأمر الأرض أن تحدثه بأخبارها وما
ص: 303
يجري على وجهها من شرق الأرض إلى غربها»(1).
وفي رواية، أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا فاطمة زوجتك سيدا في الدنيا، وأنه في الآخرة لمن الصالحين، يا فاطمة لما أراد الله تعالى أن أملكك بعلي أمر الله تعالى جبرائيل فقام في السماء الرابعة، فصف الملائكة صفوفا ثم خطب عليهم فزوجك من علي، ثم أمر الله سبحانه بشجر الجنان فحملت الحلي والحلل، ثم أمرها فنثرته على الملائكة فمن أخذ منهم يومئذ شيئا أكثر مما أخذ غيره افتخر به إلى يوم القيامة».
قالت أم سلمة رضي الله عنها:
لقد كانت فاطمة عليها السلام تفتخر على النساء؛ لأنها من خطب عليها جبرائيل عليه السلام(2).
إن مجيء بعض نساء قريش إلى زيارة فاطمة عليها السلام في صبيحة عرسها كان لأجل إسماعها بعض الكلمات التي تكشف في الدرجة الأولى عن الغيرة المفرطة التي انتابت بعضهن ولاسيما أن الدوافع كبيرة جدا لتأجج نيران هذه الخصلة في قلوب البعض.
وذلك يعود إلى الآتي:
ألف: إنّ ما حظيت به الزهراء عليها الصلاة والسلام من اهتمام إلهي
ص: 304
ونبوي فاق كل تصور لدى المسلمين جميعا نساءً ورجالاً، وهذا كما قلنا دافع قوي للغيرة.
باء: إنّ بعض هؤلاء النساء قد كان إخوانهن أو آباؤهن ممن تقدموا لخطبة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم الذين يرون في أنفسهم الأهلية من منظار الموقع الاجتماعي والمالي وبهما يستطيعون أن ينالوا ما يرغبون الحصول عليه.
لكن عندما جاءوا إلى رسول الله خاطبين وجدوا أن المنظار الذي كانوا ينظرون من خلاله الأشياء هو منظار زائف في مفهوم النبوة.
فهذا الصدّ والإعراض الذي لمسوه من حضرة النبوة صلى الله عليه وآله وسلم انعكس على بناتهم وأخواتهم فلذا جئن إلى فاطمة عليها السلام كي ينلنّ منها في شيء يعاب فلم يجدْنَ غير فقر علي عليه السلام ليعيّرْنَها به فقلن لها: (قد زوجك رسول الله من عالٍ لا مال له)(1).
بينما وجد غيرهنّ شيئاً آخر يقلنه لفاطمة عليها السلام والذي يبدو من لفظهن تعاسة حالهن وسوء محضرهن، وأنهن ممن لم يحظين بزوج فقلن عنه عليه السلام: (إنه رجل دحداد البطن طويل الذراعين خضم الكراديس، أنزع، عظيم العينين والسكنة، مشاش، ضاحك السن لا مال له)(2).
فلم تجبهن فاطمة عليها السلام وانتظرت أن تقص ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إن سألها عن حالها.
ص: 305
وفي رواية: (أنها بكت لما سمعت منهنّ ذلك)(1)، لأنهن قلن هذه الألفاظ والقلوب مريضة. ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردّ على هذه الأقوال سنعرض له بعون الله تعالى.
هذه الحادثة وإن كانت بعد ثلاثة أيام إلا أنها تعدّ في عرسهما، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشديد الحرص على رعايتها.
يقول الإمام علي عليه السلام:
«ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك ثلاثا لا يدخل علينا - أي بعد ليلة الزفاف وصبيحتها - فلما كان في صبيحة اليوم الرابع جاءنا ليدخل علينا، فذهبنا لنقوم، فقال: بحقي عليكما لا تفترقا حتى أدخل عليكما فرجعنا إلى حالنا ودخل صلى الله عليه وآله وسلم، وأدخل رجليه فيما بيننا وأخذت رجله اليمنى فضممتها إلى صدري، وأخذت فاطمة رجله اليسرى فضمتها إلى صدرها وجعلنا ندفئ رجليه من القر - أي البرد»(2).
ويبدو أن زواجهما عليهما السلام كان في فصل الشتاء، وتظهر الرواية خوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهما من البرد فلم يرضَ بترك فراشهما وأنه أدخل رجليه معهما لأنهما كانتا باردتين.
ص: 306
نعود للرواية، يقول الإمام علي عليه السلام:
«حتى إذا دفئتا - أي: رجلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: يا علي آتني بكوز من ماء؟
قال عليه السلام: فأتيته فتفل فيه ثلاثا وقرأ فيه آيات من كتاب الله تعالى، ثم قال: يا علي اشربه واترك فيه قليلا، ففعلت ذلك، فرش باقي الماء على رأسي وصدري، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أذهب الله عنك الرجس يا أبا الحسن وطهرك تطهيرا.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم آتني بماء جديد، فأتيته به ففعل كما فعل وسلمه إلى ابنته عليها السلام، وقال لها: أشربي وأتركي منه قليلا، ففعلت، فرشه على رأسها وصدرها وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أذهب الله عنك الرجس وطهرك تطهيرا، وأمرني بالخروج من البيت وخلا بابنته عليهما السلام.
أقول: وهنا يدور حوار بينهما تظهر بعضه - على الظاهر في الرواية - فاطمة عليها السلام لعلي وإلا لا يمكن معرفة ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها إلا من خلال ما قالته فاطمة لعلي أو لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أخبر عليا بما دار بينهما، ولذا نجد أن الإمام علياً عليه السلام قد نقل هذا الحوار فيما بعد، فيقول:
«قال: كيف أنت يا بنية، وكيف رأيت زوجك ؟
قالت: يا أب خير زوج، إلا أنه دخل علي نساء من قريش وقلن لي زوجك رسول الله من فقير لا مال له ؟!
فقال لها: يا بنية ما أبوك بفقير ولا بعلك بفقير، ولقد عرضت عليّ خزائن الأرض
ص: 307
من الذهب والفضة، فاخترت ما عند ربي عزّ وجل.
يا بنية: لو تعلمين ما عَلِمَ أبوك لسمجت الدنيا في عينيك(1).
والله يا بنية: ما ألوتك نصحا أن زوجتك أقدمهم سلما - وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما(2).
يا بنية: إن الله عزّ وجل اطلع إلى أهل الأرض اطلاعة فاختار من أهلها رجلين أحدهما أباك والآخر بعلك(3). يا بنية: نعم الزوج زوجك فلا تعصي له أمرا.
ثم صاح بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي! فقلت لبيك يا رسول الله.
قال: أدخل بيتك وألطف بزوجتك وأرفق بها فإن فاطمة بضعة مني يؤلمني ما يؤلمها ويسرني ما يسرها استودعكما الله واستخلفه عليكما.
قال علي عليه السلام: فو الله ما أغضبتها، ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عزّ وجل، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمرا، ولقد كنت انظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان»(4).
بعد أن سمع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مقالة نساء قريش لفاطمة عليها السلام فبين لها أنّ علياً عليه السلام ليس بفقير، ثم كشف لها عن
ص: 308
كرامته عند الله، وأطلعها على فضائله، فكان فيما قاله صلى الله عليه وآله وسلم لها:
«يا فاطمة(1) كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله مطيعين من قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك النور جزئين، جزء أنا وجزء علي»(2).
ثم إن قريشا تكلمت في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بلالاً فجمع الناس، وخرج إلى مسجده ورقى منبره يحدث الناس بما خصه الله تعالى من الكرامة وبما خصّ به علياً وفاطمة عليهما السلام.
فقال:
«يا معشر الناس إنه بلغني مقالتكم وإني محدثكم حديثا فعوه واحفظوه مني واسمعوه مني فإني مخبركم بما خصّ الله به أهل البيت، وبما خص به عليا من الفضل والكرامة، وفضله عليكم، فلا تخالفوه فتنقلبوا على أعقابكم.
(وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ )(3) .
معاشر الناس: إن الله قد اختارني من خلقه، فبعثني إليكم رسولا، واختار لي عليا خليفة ووصيا.
معاشر الناس: إني لما أسري بي إلى السماء وتخلف عني جميع من كان معي من ملائكة السماوات وجبرائيل والملائكة المقربين، ووصلت إلى حجب ربي
ص: 309
دخلت سبعين ألف حجاب بين كل حجاب إلى حجاب من حجب العزة والقدرة والبهاء والكرامة والكبرياء والعظمة والنور والظلمة والوقار حتى وصلت إلى حجاب الجلال فناجيت ربي تبارك وتعالى وقمت بين يديه وتقدم إلي عز ذكره بما أحبه وأمرني بما أراد لم اسأله لنفسي شيئا في علي إلا أعطاني ووعدني الشفاعة في شيعته وأوليائه ثم قال لي الجليل جل جلاله: يا محمد من تحب من خلقي قلت: أحب الذي تحبه أنت يا ربي.
فقال لي جل جلاله: فأحب عليا فإني أحبه وأحب من يحبه، فخررت لله ساجدا مسبحا شاكرا لربي تبارك وتعالى.
فقال لي: يا محمد! علي وليي وخيرتي بعدك من خلقي، اخترته لك أخا ووصيا، ووزيرا، وخليفة وناصرا لك على أعدائي.
يا محمد! إني أطلعت على قلوب عبادي فوجدت عليا انصح خلقي لك، وأطوعهم لك، فأتخذه أخا وخليفة، ووصيا وزوج ابنتك، فإني سأهب لهما غلامين طيبين طاهرين تقيين نقيين، فبي حلفت، وعلى نفسي حتمت أن لا يتولين عليا وزوجته وذريتهما أحد من خلقي، إلا رفعت لواءه إلى قائمة عرشي وجنتي، وبحبوحة كرامتي، وسقيته من حظيرة قدسي، ولا يعاديهم أحد ويعدل عن ولايتهم، يا محمد إلا وسلبته ودي وباعدته من قربي، وضاعفت عليهم عذابي ولعنتي.
يا محمد إنك رسولي إلى جميع خلقي، وإن عليا وليي وأمير المؤمنين، وعلى ذلك أخذت ميثاق ملائكتي وأنبيائي وجميع خلقي من قبل أن أخلق خلقا في سمائي وأرضي محبة مني لك يا محمد ولعلي ولولدكما ولمن أحبكم وكان من شيعتكما ولذلك خلقته من طينتكم.
فقلت: إلهي وسيدي فأجمع الأمة عليه فأبى عليّ وقال: يا محمد إنه المبتلى، والمبتلى
ص: 310
به وإني جعلتكم محنة لخلقي أمتحن بكم جميع عبادي وخلقي في سمائي وأرضي وما فيهن لأكمل الثواب لمن أطاعني فيكم وأحل عذابي ولعنتي على من خالفني فيكم وعصاني وبكم أميز الخبيث من الطيب.
يا محمد! وعزتي وجلالي لولاك لما خلقت آدم، ولولا علي لما خلقت الجنة لأني بكم أجزي العباد يوم المعاد بالثواب والعذاب، وبعلي وبالأئمة من ولده أنتقم من أعدائي في دار الدنيا ثم إلي المصير للعباد يوم المعاد، وأحكمكما في جنتي وناري فلا يدخل الجنة لكما عدو، ولا يدخل النار لكما ولي، وبذلك أقسمت على نفسي.
ثم انصرفت فجعلت لا أخرج من حجاب من حجب ربي ذي الجلال والإكرام إلا سمعت النداء من ورائي، يا محمد! قدم عليا، يا محمد! استخلف عليا، يا محمد! أوصِ إلى علي، يا محمد! آخِ عليا يا محمد أحب من يحب عليا، يا محمد استوصِ بعلي وشيعته خيرا.
فلما وصلت إلى الملائكة جعلوا يهنئوني في السموات ويقولون: هنيئا لك يا رسول الله بكرامة الله لك ولعلي.
معاشر الناس: علي أخي في الدنيا والآخرة، ووصيي وأميني على سري، وسر رب العالمين ووزيري وخليفتي عليكم في حياتي وبعد وفاتي لا يتقدمه أحد غيري، وخير من أخلف بعدي ولقد أعلمني ربي تبارك وتعالى: أنه سيد المسلمين، وإمام المتقين(1)، وأمير المؤمنين، ووارث النبيين، ووصي رسول رب العالمين، وقائد الغر
ص: 311
المحجلين(1)، من شيعته وأهل ولايته إلى جنات النعيم(2)، بأمر رب العالمين، يبعثه الله يوم القيامة مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون، بيده لواء الحمد يسير به أمامي وتحته آدم وجميع من ولد النبيين والشهداء والصالحين إلى جنات النعيم حتما من الله محتوما من رب العالمين، وعد وعدنيه ربي فيه، «ولن يخلف الله وعده» وإنا على ذلك من الشاهدين»(3).
ومما لا شك فيه أن هذا الخطاب النبوي الشريف قد أزاح الهموم عن قلب فاطمة عليها السلام التي كان سببها ما تلفظت به نساء قريش ولعل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أراد أن يقطع الكلام في تلك البيوت فلا يعاودْنَ المجيء مرة أخرى فيؤذين فاطمة عليها السلام فضلاً عن أن هذا الخطاب قد ألجم تلك الأفواه التي تنطق بالبغض لعلي وفاطمة عليهما السلام حينما سمعوا كل تلك الفضائل التي خص الله بها علياً عليه السلام على وجه الخصوص ومن ثم فالأساس في الاعتبار والوجاهة في مدرسة النبوة المحمّدية هو التقوى لا المال.
ص: 312
أشارت أغلب الروايات إلى أن فاطمة عليها السلام تزوجت في السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة بعد رجوع الإمام علي عليه السلام من بدر الكبرى.
وقد ذهبت بعض الروايات إلى غير هذا التاريخ فقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجها بعلي عليه السلام في السنة الأولى من الهجرة(1)، وقيل: في السنة الثالثة(2).
لكن المشهور هو: السنة الثانية للهجرة النبوية(3).
أما اليوم الذي تم فيه الزفاف فقيل:
1 - ليلة إحدى وعشرين من شهر محرم وكانت ليلة الخميس، وقد ورد في الأعمال المستحبة صيام هذا اليوم شكرا لله تعالى لما وفق من جمع حجته
ص: 313
وصفوته(1).
2 - في اليوم الأول من ذي الحجة، وروي أنه في اليوم السادس منه(2).
3 - في شوال لأيام خلت منه بعد وفاة رقية رضي الله عنها زوجة عثمان بن عفان بسبعة عشر يوماً، وذلك بعد رجوعه من بدر(3).
ألا أن أصح الأقوال هو: الثاني، أي: في اليوم الأول أو السادس من شهر ذي الحجة للسنة الثانية من الهجرة النبوية على صاحبها وآله آلاف الصلاة والسلام.
وذلك للأمور الآتية:
1 - قد ورد في أن الدرع الذي كان مهر فاطمة عليها السلام كان من مغانم بدر الكبرى والثابت عند المؤرخين أنها وقعت في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وعليه لا يصح أن يكون زواجها قبل بدر.
2 - أن معركة بدر كانت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان، فلو كان الزفاف قد وقع في شهر شوال أي بعد أيام من بدر فإن ذلك سيتعارض مع مدّة حمل فاطمة عليها السلام بالإمام الحسن عليه السلام.
3 - أن هذا القول يتناسب مع مدة حمل سيدة النساء بولدها الإمام الحسن عليه السلام، إذ إنه ولد في الخامس عشر من شهر رمضان ومن هذا التاريخ إلى تاريخ زواجها في شهر ذي الحجة يكون تسعة أشهر، وهي مدة الحمل الطبيعي.
ص: 314
أما بالنسبة إلى مقدار سنها حين الزواج فهو عشر سنوات، وتوفيت ولها من العمر ثمانية عشر سنة وخمسة وسبعون يوماً، وهو الثابت عند أئمة عترة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومن سار على نهجهم(1).
وقد أورد بعض حفاظ المسلمين في مصنفاتهم أقوالاً أخرى في مقدار سنّها حين الزواج وكلها لا تستند إلى شيء من الصحة.
إذ لا يمكن أن يكون هؤلاء الحفاظ الذين نقلوا عن الصحابة أعلم من سيديّ شباب أهل الجنة الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام بحال أمهما سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، كما لا يكون هؤلاء الحفاظ ومن نهل منهم بأعلم وأعرف من ذرية الإمام الحسين عليهم السلام بحال وأحوال جدتهم فاطمة عليها السلام.
أضف إلى ذلك أنهم لم يتّفقوا على قول واحد، بل إن الاختلاف لكبير في هذه الأقوال، فقد تدرجت.
1 - اثنتا عشرة سنة(2).
2 - أربع عشرة سنة(3).
ص: 315
3 - خمس عشرة سنة(1).
4 - ثماني عشرة سنة(2).
5 - تسع عشرة سنة(3).
6 - عشرون سنة(4).
وهذه الأقوال مع تعارضها لروايات أهل البيت عليهم السلام، فإنها تتعارض مع ما ورد في الصحاح عن تقدم الشيخين أبي بكر وعمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطبين إليه فاطمة، ورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهما بقوله:
«أنها صغيرة».
ولا يمكن أن يقال عن امرأة في العشرين بأنها (صغيرة)، وبخاصة في العرف السائد في ذلك الوقت، وأما في العصر الحاضر فمن كانت في العشرين يكون خيارها بيدها وتنفك عن ولاية الوالدين كما ينص عليه القانون المدني، إضافة إلى أن العرف أيضا لا يطلق على بنت العشرين بأنها (صغيرة) في جميع المجتمعات الإسلامية.
ص: 316
وقد حاول (السندي) رفع هذا التعارض وحل الإشكال فقال: (إنه لاحظ الصغر بالنظر إليها)(1)، فوقع في تعارض أكبر وفي إشكال أعظم! وهو زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عائشة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلاحظ كبر أبي بكر وعمر إلى فاطمة عليها السلام التي يقولون أنها في العشرين فتكون صغيرة بالنسبة لعمرهما، ولا يلاحظ الفارق بينه وبين عائشة وهي في السادسة من العمر كما يرون، فيهرب من هذا الإشكال فيقول: (قد يترك ذاك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة)(2)؟!
أي: قد يترك لحاظ العمر بين المرأة والرجل لما هو أعلى منه - من العمر -.
ولكن لم يفدنا السندي(3) بالأمر الذي هو أعلى من مسألة العمر كما في زواج عائشة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما هو هذا الأمر الذي جعل النبي لا يلاحظ أنه في الثانية والخمسين وهي في السادسة حين خطبها؟!!
ومن هنا:
فلا يصحح الباطل ويقوّم بباطل آخر.
ص: 317
فجعل فاطمة عليها السلام في العشرين حين الزواج أمر باطل لا يعالج بباطل آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزوجها من أبي بكر وعمر لكونها صغيرة بالنسبة لعمرهما.
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزوجها منهما ومن غيرهما كما مرّ بيانه لعدم تحقق الكفاءة فيهما ديناً وحسباً وشرفاً ورفعةً وكرامةً .
أما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلاحظ عمر عائشة فغير صحيح فما من شيء إلا وعند النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه وملاحظته وحسابه، وكيف لا وهو أكمل ما خلق الله عزّ وجل، ولكن السبب ؟ سنعرض له إن شاء الله تعالى.
هذه الرواية التي أخرجها ابن بابويه رحمه الله في كتابه (مولد فاطمة عليها السلام) ونقلها عنه العلامة المجلسي رحمه الله قد حوت على إشكالات كثيرة ؟!
وكنت آمل أن أحصل على الكتاب المذكور، لكن لم أوفق إليه، ولذلك لم أطلع عليها من مصدرها ولم أتمكن من معرفة سندها، ولكن حتى في حال صحة سندها - وهو بعيد - فإنها قد تضمنت إشكالات كثيرة وهي كالتالي:
1 - أشارت الرواية إلى وجود (جعفر بن أبي طالب) - الذي لقبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطيار - في ليلة زفاف فاطمة وهذا غير صحيح ؟ لأن جعفر
ص: 318
عليه السلام كان آنذاك في الحبشة ولم يهاجر الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة إلا في عام سبعة هجرية عندما فتح الله على المسلمين خيبر بسيف أخيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما أدري بأيهما أكثر أفرح بقدوم جعفر أم بفتح خيبر»(1).
2 - أشارت الرواية أيضا إلى أهل البيت! وأهل البيت المراد بهم قرآنا وسنة، هم:
«فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها».
إلاّ إذا كان مراده رحمه الله: (بني هاشم)، وبنو هاشم لا يطلق عليهم لفظ: أهل البيت ؟ لأن هذه المفردة منحصرة بالخمسة الذين جللهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكساء فنزلت فيهم آية التطهير.
3 - هذه الأشعار التي أوردها في الرواية، ونسبها إلى (أم سلمة، وحفصة، وهو غريب جدا؟ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج بهما في ذلك الوقت، أي عند زواج فاطمة، والرواية تشير إلى أنهما كانتا زوجتيه وبهذا السبب كان وجودهما في عرس فاطمة).
4 - الأبيات الأخيرة نسبت إلى: (معاذة أم سعد بن معاذ» وهو غير صحيح ؟ إذ إن (أم سعد بن معاذ» هي: (كبشة بنت رافع بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر، الأنصارية الخدرية، وقد عاشت حتى مات ولدها سعد)(2).
ص: 319
قد أشارت العديد من الروايات إلى وجود أسماء بنت عميس في عرس فاطمة عليها السلام وهو غير صحيح ؟ لأن أسماء هي زوجة جعفر بن أبي طالب عليه السلام وكانت معه في الحبشة ورجعت معه إلى المدينة كما ذكرنا آنفا، أي: بعد زواج فاطمة عليها السلام بخمس سنوات.
ولكن التي كانت في عرس فاطمة، هي: (أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية)(1).
ص: 320
ص: 321
ص: 322
قبل الحديث عن موقع بيت الزهراء عليها السلام جغرافيا، فلابد من الإشارة إلى أننا وبعون الله نتناول في هذا القسم حياة الزهراء داخل بيتها، وأدوارها فيه: كزوجة، وأم، وبنت وحيدة لأبيها، وكنة، وأخت لمن تربين معها فكن أخواتها لهذا السبب، ثم كيف كانت تؤدي التزامات بيتها من إعداد الطعام والتنظيف وغيرها.
ثم ما يرتبط بالبيت من حقوق: كحق الجار، وحق الضيف، وحق الخادم، أي: كيف كانت الزهراء عليها السلام تؤدي هذه الحقوق، أضف إلى ذلك زياراتها لتأدية حق صلة الرحم، ثم مع هذا كله كيف كانت الزهراء عليها السلام تقوم بحق الرعية فتجعل من بيتها مدرسة تستقطب النساء المسلمات لينهلن من العلوم الفاطمية في الفقه والتفسير والحديث وفي التربية والأخلاق، وغيرها من الأمور التي لها علاقة ببيت فاطمة عليها السلام.
ص: 323
فبيتها هو البيت المثالي الأول في الإسلام، إذ لم يجتمع في غيره بمثل ما اجتمع فيه.
ولهذا السبب فقد اقتصر الحديث هنا على فصلين فقط وهما: موقع بيت فاطمة عليها السلام، وباب بيتها لما لباب بيت فاطمة من خصائص متفردة سنعرض لها إن شاء الله.
أما حياتها داخل البيت وما رافقها من غزارة في المواضيع فقد أفردنا لها جزءاً مستقلا تناولنا فيه دراسة الحدث دراسة علمية وتحليلية تحت عنوان: بيت فاطمة وعلم الاجتماع العائلي.
كي يطلع القارئ الكريم ونحن معه على المناهج والأسس العلمية التي أخرجتها جامعة بيت فاطمة عليها السلام.
اختلفت الروايات على رغم كثرتها في تحديد بيت فاطمة عليها السلام جغرافيا، ونقصد به موضعه وحدوده داخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والسبب في اختلاف هذه الروايات من تحديدها لبيت فاطمة عليها السلام هو:
لهدم بيت الزهراء عليها السلام وبيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي سكن فيها أزواجه وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك بن مروان، فكان المنفذ لهذا الأمر عمر بن عبد العزيز، واليه على المدينة آنذاك، ولم ير أكثر باكيا وباكية من
ص: 324
ذلك اليوم(1).
وكان نفر من أبناء الصحابة ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع(2)، وهم ينظرون إلى بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيت بضعته تهدم، وعلى أثر هذه الحادثة خلطت البيوت والحجر بالمسجد وأدخلت فيه، وسنعرض للقارئ الكريم السبب الحقيقي من قيام الوليد بن عبد الملك بهدم بيت فاطمة عليها السلام وبيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما هو سبب هذا البكاء؟!
إلا أنه يمكن لنا تحديد بيت فاطمة ومعرفة موقعه في المسجد من خلال الأقوال التالية:
أولا: أخرج الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
«بيت علي وفاطمة عليهما السلام ما بين البيت الذي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الباب الذي يحاذي الزقاق إلى البقيع، قال عليه السلام: فلو دخلت من ذلك الباب والحائط مكانه أصاب منكبك الأيسر»(3).
وعنه عليه السلام أيضا قال:
«إذا دخلت من باب البقيع فبيت علي عليه السلام على يسارك قدر ممر عن الباب، وهو إلى جانب بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباباهما جميعا
ص: 325
مقرونان»(1).
ثانيا: أن بيت فاطمة كان في ما بين مربعة القبر - النبوي - واسطوانة التهجد(2).
ثالثا: كان خلف بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به البيت الذي تسكنه عائشة عن يسار المصلي إلى الكعبة وكان فيه خوخة إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان رسول الله إذا قام من الليل إلى المخرج اطلع منها يعلم خبرهم(3).
رابعا: قال ابن النجار: وبيت فاطمة اليوم حوله مقصورة وفيه محراب، وقال السيد السمهودي مبينا لهذا القول: المقصورة اليوم دائرة عليه وعلى حجرة عائشة من جهة الزور(4).
خامسا: قال ابن شبه عن سليمان بن سالم عن مسلم بن أبي مريم، قال: عرّس علي عليه السلام بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأسطوان التي خلف الأسطوان المواجهة الزور، وكانت داره في المرجعة التي في القبر(5).
ص: 326
إنّ الوقوف على معرفة غاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جعل بيت البضعة النبوية فاطمة في هذا الموضع من المسجد ولو ظاهريا يلزم معرفة ما لهذين الأسطوانتين من الفضل.
ويقال لها أيضا مقام جبرائيل عليه السلام وهي حائز الحجرة الشريفة عند منحرف صفحته الغربية إلى الشمال بينها وبين أسطوانة الوفود إنك إذا عددت الأسطوانة التي فيها مقام جبرائيل عليه السلام كانت هي الثالثة.
وإنما قيل لها: أسطوانة مربعة القبر؟ لأنها في ركن المربعة الغربية الشمالية التي بنيت عليها القبة الصغيرة، التي على الحجرة الشريفة المحيطة بالقبور المنيفة داخل الحائز المثلث، وكان عندها باب بيت فاطمة عليها السلام(1).
وعليه: فإن مقدم بيت فاطمة عليها السلام يكون عند أسطوان مربعة القبر النبوي المقدس، وهذا يشير إلى أمور:
1 - أن بيت فاطمة عليها السلام في الروضة المقدسة التي ورد فيها الحديث الشريف:
«بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة»(2).
ص: 327
2 - بل قد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام بسند صحيح أخرجه الشيخ الكليني رحمه الله ما يثبت أن بيت فاطمة عليها السلام في الروضة المقدسة التي هي من رياض الجنة، عندما سأله جميل بن دارج عن بيت علي هل هو منها؟!
فقال عليه السلام:
«نعم وأفضل»(1).
3 - أن مقام جبرائيل عليه السلام يحد بيت فاطمة من الجهة الأمامية، أي إنه في مقدمة البيت.
4 - أن السبب في تسمية هذا الموضع ب (مقام جبرائيل): هو نزوله عليه السلام في هذا المكان حاملا للوحي وعروجه منه.
قال المطري في بيان موضع هذه الأسطوانة: هي خلف بيت فاطمة عليها السلام والواقف إليها يكون باب جبرائيل على يساره، وحولها الدرابزين - أي: لاصقا بها يمينا وشمالا - وهو الشباك الدائر على الحجرة الشريفة وعلى بيت فاطمة عليها السلام، وقد كتب فيها بالرخام: هذا متهجّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2).
وقال ابن النجار: هذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة من جهة الشمال وفيها
ص: 328
محراب إذا توجه المصلي إليه كان يساره إلى باب عثمان المعروف اليوم بباب جبرائيل(1).
قال السمهودي: وقد جدد محرابها في هذه العمارة التي أدركناها أولا، وزيد في رخامه في المحراب الأول(2).
1 - أسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه، قال:
(كان رسول الله يخرج حصيرا كل ليلة إذا أنكفت الناس، فيطرحه وراء بيت علي ثم يصلي صلاة الليل.
فرآه رجل فصلى بصلاته، ثم آخر فصلى بصلاته، ثم آخر بصلاته، حتى كثروا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا بهم، فأمر بالحصير فطوي ثم دخل. فلما أصبح جاؤوه فقالوا: يا رسول الله، كنت تصلي الليل فنصلي بصلاتك ؟ فقال:
«إني خشيت أن تنزل عليكم صلاة الليل ثم لا تقوون عليها»)(3).
2 - وعن عيسى بن عبد الله، قال: حدثنا سعيد بن عبد الله بن فضيل، قال:
(مرّ بي محمد بن الحنفية وأنا أصلي إليها، فقال لي: أراك تلتزم هذه الأسطوانة،! هل جاءك فيها أثر؟ قلت: لا!
ص: 329
قال: فالزمها فإنها كانت مصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل)(1).
وعليه:
فإن بيت فاطمة عليها السلام محصور بين محل نزول جبرائيل عليه السلام في المقدمة، وبين محل تهجد سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم عند المؤخرة.
فما بالك ببيت أوله جبرائيل وأوسطه علي وفاطمة والحسن والحسين وآخره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 330
ليس هناك بيت في الإسلام احتل كل هذه المساحة الشرعية والروحية كبيت الزهراء فاطمة البتول عليها السلام.
بل: إنه بيت التشريع وبيت روح الإسلام، فكيف لا وهو بيت سيد الأنبياء والمرسلين، بيت في كل موضع تساقط فيه زغب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملائكة الرب الجليل.
وأي قول يكون أبلغ من بيت الزهراء عليها السلام وقد أنزل الله تعالى فيه آيات محكمات تتلى آناء الليل وأطراف النهار.
وكما قلنا ما بالك أيها القارئ الكريم ببيت أوله جبرائيل وأوسطه علي وفاطمة والحسن والحسين وآخره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن كي يأخذ هذا العنوان حقه فلابد أن نبيّن مكانة بيت فاطمة الشرعية والتشريعية والروحية.
ص: 331
إنّ لبيت فاطمة عليها السلام موقعاً في الشريعة قد وضع حدوده القرآن الكريم، ورسمه الوحي، وبينه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان أول هذه الحدود وأوضحها هي آية التطهير، قال تعالى:
(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) .
فهذا البيت وأهله، قد أعطاهم الباري عزّ وجل هذا المقام الشرعي، وهو الذي حصرهم بالطهر والتطهير من قبل أن يخلق آدم عليه السلام.
ويكفي في معرفة هذا المقام ما حددته (إنما) من حدود لبيت فاطمة عليها السلام في الشريعة تغني السائل عن البحث.
وقد أظهر القرآن الكريم علو بيت فاطمة ورفعته عند الله عزّ وجل وفي الشريعة بمحل لم ينلْه بيت من بيوت الله عزّ وجل غير بيت فاطمة، قال تعالى:
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ (36) رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ)(2) .
فقد أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريرة قال: (قرأ رسول الله هذه الآية:
ص: 332
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ ) .
فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«بيوت الأنبياء».
فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«نعم من أفضلها»)(1).
قد مرّ في المبحث الأول ما ورد عن الإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام:
«أن بيت فاطمة في الروضة، وأنه أفضل من الروضة».
وقد دلّ على هذه الحقيقة وأكدها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر:
«نعم من أفضلها».
فلما كان بيت علي وفاطمة عليهما السلام أفضل من بيوت الأنبياء عليهم السلام فمن البديهي أن يكون أفضل من الروضة التي هي ما بين المنبر والقبر الشريف.
ص: 333
ومن هنا: يسأل الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن الصلاة في بيت فاطمة أفضل أو في الروضة ؟ قال عليه السلام:
«في بيت فاطمة»(1).
ومما يدل عليه: اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موضع تهجده وتعبده في الليل خلف بيت فاطمة ولو علم رسول الله أن ما بين المنبر والقبر أفضل من بيت فاطمة عليها السلام لاتخذه موضعا لتهجده.
قبل أن نشير إلى موقع بيت فاطمة التشريعي فلابد أن نضع أمام عين القارئ الكريم:
أن على رأس هذا البيت وسنامه وقلبه وأساسه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي فاطمة عليها السلام.
وعليه: فلا غرابة أن قلنا: إن هذا البيت، هو البيت الأول الذي صدر منه التشريع الإسلامي، وإليه ينتهي علم الحلال والحرام، ومنه يتفجر العدل والإحسان والصدق والتقوى.
وإلى أهل هذا البيت يشد الرحال لأنهم أهل الذكر، ومن كانوا بنص القرآن
ص: 334
أهل الذكر فهم أهل التشريع.
ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن بيت فاطمة هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، حينما قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1).
وقد ورد هذا الحديث بألفاظ أخرى وطرق عديدة متواترة(2)، والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث قد ضمن عدم الضلال لمن أخذ بحجزتهم وطاعتهم إلى يوم القيامة. وقد أفصح عن أهل بيته من هم ؟
فأشار إلى (علي وفاطمة والحسن والحسين) وهو بيت فاطمة عليها السلام، قائلا:
ص: 335
«اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»(1).
وعليه: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليأمر بالتمسك بأهل بيته، أي: بيت فاطمة ما لم يكونوا مصدرا للتشريع بعد القرآن وما نفي الافتراق بين القرآن وأهل بيته إلا لتلازم الحكم الشرعي بينهما حتى يردا على سيد الأنبياء.
ص: 336
اتخذ النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم منهاجا خاصا كي يظهر للناس مكانة بيت فاطمة الروحية عنده صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما نقول: (عنده) أي في الشريعة، وبمعنى آخر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل من هذا المنهاج وسيلة تظهر للناس الموقع الروحي لبيت فاطمة في الشريعة الإسلامية.
والمنهاج الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو: ما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسفر إلا وكانت فاطمة وبيتها آخر من يفارق، وما قدم من سفر أو غزوة إلا وكان بيت فاطمة هو المحل الثاني الذي تطأه قدماه بعد أن يبتدئ بالمساجد(1).
ص: 337
فقد جاء في الأثر عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رجع من غزاة أو سفر، أتى المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم ثنى بفاطمة عليها السلام ثم يأتي أزواجه)(1).
وفي هذا المنهاج النبوي صلى الله عليه وآله وسلم أمور عدة:
1. المراد بالسفر: هو كل خروج للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خارج المدينة سواء كان ذلك لغزوة أو لغيره من الشؤون.
2. أن الرؤساء والقادة، وأصحاب المصالح المختلفة عندما يتركون أماكنهم ومراكزهم ومحل ارتباطاتهم فإنهم أول ما يبدؤون عند عودتهم بأهم المراكز والأشخاص الذين يتوقف عليهم قيامهم كدولة أو مؤسسة أو حتى كبيت، وإن آخر من يودعون هم أولئك الأشخاص، أو الفرد الذي ترتبط أهميته بأهمية القائد والقيادة.
ولذلك فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يظهر للناس جميعا من خلال هذا المنهاج: أن بيت علي وفاطمة عليهما السلام، هو النواة التي يدور من حولها الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المحل الذي يرتكز عليه قيام الأمة.
3. أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة يترك فراغا روحيا كبيرا، مما يجعل الأنظار تشخص إليه ترقب خروجه وتترقب قدومه وقد لفها الشوق والحنين إليه.
والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد استوظف هذه الحالة، أي تحرك
ص: 338
العاطفة والحس الوجداني فجعل هذه الأنظار تدون في أذهان أصحابها أن هذا البيت، بيت فاطمة هو الذي يحيي لكم أرواحكم، فحافظوا عليه، لأنه أهم ما يملك الإسلام بعد القرآن.
«فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1).
4. أن هذا المنهاج أيضا: هو منهاج تربوي لحفظ الروح العائلية، بين الأب والأبناء، فلذا كان آخر من يودع ابنته فاطمة وولديها وأول من يرى بعد رجوعه فاطمة عليها السلام ثم يثني بأزواجه.
5. جعل النبي بيت فاطمة من حيث المكانة الشرعية والروحية بعد بيت الله - أي المسجد - لأنه كان يبتدئ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين ثم يثني ببيت فاطمة عليها السلام، أي: لا يكون للمسجد والصلاة قدر عند الله تعالى بدون بيت فاطمة.
وخير بيان لهذه الحقيقة قول إمام المذهب الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حبكم *** فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنكم *** من لم يصلِ عليكم لا صلاة له(2)
فمن ضيع بيت فاطمة عليها السلام أضاع المسجد والصلاة لأن لكلِ شيءٍ روحاً، وروح المسجد والصلاة أهل البيت، وهم فاطمة عليها السلام وأبوها صلى الله عليه وآله وسلم وبعلها وبنوها عليهم السلام.
ص: 339
ومن المناهج التي اتبعها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو اسْتَئذانُهُ مِن فاطمة قبل الدخول عليها، وقد تناقلت كتب المسلمين من العامة والخاصة هذه السنة المحمدية.
فقد روي حفاظ المسلمين أنه صلى الله عليه وآله وسلم:
(جاء يريد بيت فاطمة ليعودها، وكانت تشتكي مرضا فاصطحب عمران بن حصين معه قائلا:
«يا عمران إن فاطمة مريضة، فهل لك أن تعودها؟».
قال: قلت فداك أبي وأمي، وأي شرف أشرف من هذا؟ قال:
«انطلق».
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانطلقت معه، حتى أتى الباب، فقال:
«السلام عليكم، أدخل ؟».
فقالت:
«وعليكم، أدخل»(1).
ثم لم يدخل النبي حتى استأذن أيضا لدخول عمران بن حصين، وللحديث تتمة نعرض له إن شاء الله.
ص: 340
الفصل الاول: مراسم ولادة فاطمة سلام الله عليها
المبحث الأول: رضاعتها عليها السلام 7
المبحث الثاني: تسميتها عليها السلام 13
توطئة 13
المسألة الأولى: ما هو السر في اختصاص بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسم (فاطمة) عليها السلام ؟ 18
أولاً: لأن الله فطمها ومن أحبها من النار 18
ثانياً: لإن الله فطمها وشيعتها من النار 20
ثالثاً: لأن الله فطمها وذريتها من النار 21
رابعاً: لأن الله تعالى فطمها بالعلم 22
الوجه الأول 23
والوجه الثاني 24
ص: 341
خامساً: لأنها فطمت من الشر 24
سادساً: لأنها فطمت الأحياء عن الطمع في وراثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإمامة فجعلها الله في ولدها 26
المبحث الثالث: عقيقتها عليها السلام 37
الفصل الثاني: طفولتها و صباها
المبحث الأول: فاطمة عليها السلام في حِجْرِ النبوة 42
المبحث الثاني: السنين الأولى لطفولتها عليها السلام 46
المبحث الثالث: فاطمة عليها السلام تعيش معاناة المسلمين في شعب أبي طالب 53
المسألة الأولى: وفاة أم المؤمنين خديجة عليها السلام وهي أول المصائب 61
المسألة الثانية: اللحظات الأخيرة تقضيها خديجة عليها السلام مع ابنتها فاطمة عليها السلام 75
المبحث الرابع: فاطمة عليها السلام تدافع عن النبوة 80
المسألة الأولى: فاطمة عليها السلام تدفع القتل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 81
المسألة الثانية: فاطمة عليها السلام تميط الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 84
مسائل البحث في الحادثة 85
ص: 342
المبحث الخامس: حقيقة موقف أبي بكر من الحادثة 89
المسألة الأولى: دراسة الحديث سندا ومتنا 90
المسألة الثانية: الحادثة تروى من نفس الراوي بشكلين مختلفين تماما؟! 93
المسألة الثالثة: دراسة الرواية وتحليلها 95
أولاً 95
ثانياً 96
ثالثاً 97
المسألة الرابعة: رمي السلاة 99
المسألة الخامسة: عقبة بن أبي معيط تحت المجهر 101
الوليد بن عقبة بن أبي معيط 104
أولاً: بطلان نظرية عدالة الصحابة 111
ثانياً: التعرض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دافعه الانبات في الدنس 111
ثالثاً: فداء فاطمة عليها السلام لأبيها 111
رابعاً: تكرر وقوع الحادثة في حياة أبي طالب عليه السلام على رواية 112
الفصل الثالث: هجرتها الى المدينة
المبحث الأول: أحداث سبقت الهجرة 119
المسألة الأولى: أحداث السنة العاشرة من البعثة 120
الحدث الأول: الخروج إلى الطائف 120
الحدث الثاني: المجاعة تضرب مكة 121
ص: 343
الحدث الثالث: اغتنام موسم الحجيج 123
المسألة الثانية: أحداث السنة الحادية عشرة من البعثة 124
الحدث الأول: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله لكشف الضر عن أهل مكة 124
الحدث الثاني: التقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفر من الخزرج 127
المسألة الثالثة: أحداث السنة الثانية عشرة من البعثة 128
الحدث الوحيد في هذه السنة هو: بيعة العقبة الأولى 128
المسألة الرابعة: أحداث السنة الثالثة عشرة من البعثة 129
الحدث الأول: بيعة العقبة الثانية 129
الحدث الثاني: زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سودة بنت زمعة وعائشة 131
المبحث الثاني: التهيؤ للهجرة 139
المسألة الأولى: أين فاطمة عليها السلام من هذه الأحداث ؟! 142
المسألة الثانية: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى 144
المبحث الثالث: هجرة أمير المؤمنين علي عليه السلام كما يذكرها الرواة وخروج الفواطم 149
المسألة الأولى: حوادث ينص عليها الوحي في محكم التنزيل 156
المسألة الثانية: تأدية ودائع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أم نص على خلافة علي عليه السلام ؟! 156
المهمة الأولى 157
المهمة الثانية 158
المهمة الثالثة 158
ص: 344
الفصل الرابع: تزويجها عليها السلام
توطئة 161
المسألة الأولى: أين نزلت فاطمة في المدينة ؟ 161
أولاً: قباء تجمع الأحبة 162
ثانيا: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبني مسجده 165
المسألة الثانية: أين نزلت فاطمة عليها السلام بعد بناء المسجد؟ 167
المبحث الأول: تنافس الصحابة لخطبتها عليها السلام وإعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم 169
أولا: تقدمهما - أبو بكر وعمر - للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بشكل مباشر 170
ثانيا: تقدمهما لخطبة فاطمة عليها السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوسط عائشة وحفصة 172
ثالثا: معاودة خطبتهما فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 174
رابعا: تقدم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخطبتها عليها السلام وغضب النبي من مقالتهما فحصبهما بالحجارة 175
المسألة الأولى: لماذا أعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل خاطب، وصدّ عنهم ؟! حتى يئسوا منها! 177
1 - إنها صغيرة 178
2 - أنتظر بها القضاء 179
المعنى الظاهري 180
ص: 345
المعنى الباطني 180
المسألة الثانية: لماذا كان يتغير حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند سماعه أمر خطبة فاطمة عليها السلام ؟! 181
السبب الأول 182
السبب الثاني 183
السبب الثالث 186
السبب الرابع 187
المبحث الثاني: تزويجها بالإمام علي عليه السلام 190
المسألة الأولى: دور الصحابة في خطبة الإمام علي لفاطمة عليهما السلام 190
أولا: مجيء أبي بكر وعمر للإمام علي عليه السلام وعرضهما عليه الذهاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطبا 191
ألف: ما جاء في ذلك من طرق الصحابة رضي الله عنهم 192
باء: ما جاء في ذلك من طرق أهل البيت عليهم السلام 193
ثانيا: مجيء نفر من الأنصار إلى الإمام علي عليه السلام 193
ثالثا: مجيء مولاة لعلي عليه السلام بشأن خطبته لفاطمة عليها السلام 194
رابعا: سعد بن معاذ يطلب من الإمام علي عليه السلام الذهاب لرسول الله خاطبا 195
المسألة الثانية: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث خلف علي عليه السلام فيزوجه 196
المسألة الثالثة: كيف جرت خطبة علي لفاطمة عليهما السلام ؟ أهي من طريق حديث الصحابة معه ؟ أم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليه ؟! 198
الحدث الأول: علي عليه السلام هو من بادر لخطبة فاطمة دون أن يتدخل أحد من الصحابة في ذلك 198
الحدث الثاني: مجيء مجموعة من الأنصار إلى الإمام علي عليه السلام بعد
ص: 346
خروجه من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 200
الحدث الثالث: مجيء أبي بكر وعمر للإمام علي عليه السلام بعد ذهاب الأنصار إليه 201
أولا: تكرر ذهاب أبي بكر وعمر لخطبة الزهراء عليها السلام 202
ثانيا: اقتناع أبي بكر وعمر بعدم جدوى تكرار خطبة فاطمة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 202
ثالثا: إن ذهاب أبي بكر وعمر إلى علي كان بعد ذهاب الأنصار إليه 203
رابعا: ولأنهما قد وجدا في ذلك التحرك 203
الحدث الرابع: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن للمسلمين عن تزويج فاطمة وعلي عليهما السلام 206
أولا: الإعلان الخاص للزواج 206
ثانيا: الإعلان العام لتزويج فاطمة وعلي عليهما السلام. 207
المبحث الثالث: النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجها من علي عليه السلام أم الله عزّ وجل ؟ 213
المسألة الأولى: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يرد على المعترضين عليه تزويجه فاطمة من علي عليه السلام 213
الأمر الأول: الإعلان عن مكانة فاطمة عند الله تعالى 215
الأمر الثاني: حفظ المسلمين ولاسيما المعترضين عليه من الهلاك 215
أولا: رده صلى الله عليه وآله وسلم على مَن اعترض على تزويجها من علي بن أبي طالب عليه السلام في المسجد 215
ثانيا: جوابه صلى الله عليه وآله وسلم لمن اعترض على تزويجها بمهر قليل 217
المسألة الثانية: بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمواضع التي تم فيها زواج فاطمة علياً في السماء 217
الموضوع الأول: عند سدرة المنتهى 218
الموضوع الثاني: عند وصوله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنو الذي أشارت
ص: 347
إليه الآية الكريمة 218
الموضوع الثالث: عند العرش 219
المسألة الثالثة: بيانه صلى الله عليه وآله وسلم لأحدى الخصائص التي خص الله تعالى بها علياً وفاطمة بهذا الزواج 221
1 - إن الله تعالى يكلف ملكاً من الملائكة في تزويج فاطمة وعلي 222
2 - هل هناك علاقة بين صورة الملك صرصائيل وهيأته التي رآه بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع زواج علي وفاطمة عليهما السلام 223
3 - الحكمة في هذا العدد من الوجوه الأربعة والعشرين 224
المسألة الرابعة: بيانه صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين عن كيفية تزويج فاطمة من علي عليهما السلام في السماء 225
أولا: ما هي غاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مجريات الزواج في السماء؟ 228
ثانيا: دليل آخر يضاف إلى كونها البنت الوحيدة عليها السلام 230
المبحث الرابع: لولا علي ما كان لفاطمة كفؤ 232
المسألة الأولى: الطرق التي روت هذا الحديث الشريف 233
ألف: ما جاء من خلال الطرق المتصلة بعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم 233
باء: ما جاء من خلال طرق الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم 234
المسألة الثانية: المبنى اللغوي للحديث 234
ألف: بلفظ (لولا) و (لولاك) 234
باء: ورود الحديث بلفظ: (لولا أن الله...) 236
المسألة الثانية: ما هو الكفؤ؟ 237
الوجه الأول: التكافؤ في المقام النوراني 238
الوجه الثاني: المساواة بينهما 238
ص: 348
الوجه الثالث: أن الله ارتضاهما كلا للآخر 239
المسألة الثالثة: من هو علي بن أبي طالب الذي جعله الله كفؤاً لفاطمة عليهما السلام ؟ 239
القسم الأول: بعض الآيات القرآنية التي نزلت في علي عليه السلام 240
الآية الأولى 240
الآية الثانية: آية العذاب 241
الآية الثالثة: المساءلة 242
الآية الرابعة: السابقون والمقربون 243
الآية الخامسة: أن علياً عليه السلام هو المؤمن وخصمه هو الفاسق 243
الآية السادسة: الإمام علي عليه السلام هو من أمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله 245
الآية السابعة: الإمام علي عليه السلام هو ولي الله عزّ وجل، وهو ولي المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 246
بعض ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام 249
المبحث الخامس: مهر فاطمة عليها السلام 255
المسألة الأولى: مهرها عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم 256
مسائل البحث في الروايات 258
أولا: كيف حصل الإمام علي عليه السلام على الدرع ؟! 258
ثانيا: لماذا سميت هذه الدرع بالحطمية ؟ وما هي الحكمة في اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في المهر؟! 261
ثالثا: ما هو ثمن الدرع الذي جعل مهرا لفاطمة عليها السلام ؟! 262
رابعا: جبرائيل عليه السلام يشتري الدرع ثم يهديها للإمام علي عليه السلام 265
المسألة الثانية: ما هو مهر فاطمة عند الله عزّ وجل ؟! 265
أولا: ربع الدنيا 269
ثانيا: جعلت لها في الأرض أربعة انهار 269
ص: 349
ثالثا: أنّ الله تعالى أمهر فاطمة بزواجها من علي عليهما السلام الجنة والنار 270
رابعا: إنّ الله عزّ وجل نحلها شجرة طوبى 270
خامسا: أن فاطمة طلبت أن يكون مهرها شفاعة المذنبين 270
المبحث السادس: جهاز عرس فاطمة عليها السلام 272
المسألة الأولى: ما هو جهاز فاطمة ؟ 273
المسألة الثانية: الإمام علي عليه السلام ينتظر الإذن بانتقال فاطمة عليها السلام إلى بيت الزوجية 276
المبحث السابع: زفاف فاطمة عليها السلام 279
المسألة الأولى: وليمة العرس 280
أولاً: كيف أعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوليمة ؟! 280
ألف: إعداد الحيس (حلوى العرس) 281
باء: إعداد القصعة، الخبز ثريدا مع اللحم 282
جيم: كيف تمت دعوة الناس إلى الوليمة التي استمرت لثلاثة أيام ؟! 282
ثانيا: اليوم الثاني للوليمة 283
ثالثا: اليوم الثالث للوليمة 283
المسألة الثانية: المراسيم النبوية في زفاف فاطمة المرضيّة عليها السلام 284
أولاً: إنّ عطر فاطمة ليلة الزفاف عنبر يسقط من أجنحة جبرائيل عليه السلام ممزوج بعرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم 286
المسألة الثالثة: ثوب زفاف فاطمة عليها السلام يختلف عن أثواب زفاف جميع النساء 288
المسألة الرابعة: نثار فاطمة في ليلة زفافها عليها السلام 291
المسألة الخامسة: المراسيم الإلهية لزفاف فاطمة عليها السلام 293
ص: 350
المبحث الثامن: دموع ليلة العرس 296
المسألة الأولى: ليلة الزفاف وفقدان الأم 297
المسألة الثانية: لابد للعروس من طعام ليلة العرس 299
المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحصن عليا وفاطمة ليلة الزفاف 300
المسألة الرابعة: في ليلة عرس فاطمة عليها السلام يقام مأتم للحسين عليه السلام 304
المبحث التاسع: فاطمة عليها السلام في صبيحة عرسها 306
المسألة الأولى: زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في صبيحة يوم عرسها 306
المسألة الثانية: فاطمة عليها السلام تخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كرامة رأتها لعلي عليه السلام 307
المسألة الثالثة: دخول نساء من قريش عليها في صبيحة عرسها 308
المسألة الرابعة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعود لزيارتها بعد ثلاثة أيام من ليلة الزفاف 310
المسألة الخامسة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرد على من تكلم في فقر علي عليه السلام 312
المبحث العاشر 317
أولا: تاريخ زواجها وكم كان لها من العمر 317
ثانيا: عمرها حين الزواج 319
بحوث هذا القسم 322
البحث الأول: رواية ابن بابويه رحمه الله في زفاف فاطمة عليها السلام 322
البحث الثاني: أسماء بنت عميس وأمر وجودها في عرس فاطمة عليها السلام 324
ص: 351
الفصل الخامس: موقع بيت فاطمة عليها السلام
المبحث الأول: موقع البيت الجغرافي 327
المسألة الأولى: تحديد بيت فاطمة جغرافياً 328
المسألة الثانية: لماذا جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت فاطمة بين أسطوانة التهجد ومربعة القبر الشريف ؟! 331
أولا: أسطوانة مربعة القبر 331
ثانيا: أسطوان التهجد 332
ثالثا: ما ورد في فضل أسطوانة التهجد 333
المبحث الثاني: موقع بيت فاطمة الشرعي والتشريعي والروحي 335
أولا: موقع بيت فاطمة في الشريعة 336
1. حدوده 336
2. علوه ورفعته 336
3. أن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في الروضة 337
ثانيا: موقع بيت فاطمة التشريعي 338
المبحث الثالث: الموقع الروحي لبيت فاطمة عليها السلام 341
ألف: أول ما يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت فاطمة وهو آخر ما يودع 341
باء: المنهاج النبوي الثاني: ما كان النبي ليدخل على فاطمة حتى يستأذن 344
المحتويات 345
ص: 352