اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله عليها
اسم المؤلف: السيد نبيل الحسني
التنضيد: محمد رزاق السعدي
الإخراج الفني: احمد محسن المؤذن
التدقيق اللغوي: أ. خالد جواد العلواني
المتابعة الطباعية والتوزيع: إحسان خضير عباس
إصدار شعبة الدراسات الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2799:2012
الرقم الدولي ISBN: 9789933489458
الحسني، نبيل، 1965 - م.
هذه فاطمة صلوات الله وسلامه عليها: وهي قلبي وروحي التي بين جنبي (النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم): دراسة وتحليل نبيل الحسني. ط 1 - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، 1434 ق. = 2013 م.
8 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 100).
المصادر.
1. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. السيرة. 2. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - فضائل. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - في القرآن. 4. واقعة إحراق باب دار فاطمة الزهراء (س)، 11 ق. 5. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. إيذاء وتعقيب. 6. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - الشهادة. 7. الشيعة - أحاديث.
تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر
ص: 1
اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و هی قلبي و روحي التي بین جنبي
کاتب:نبیل حسنی
المنتج: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة. شعبة الدراسات و البحوث الإسلامیة
عدد المجلدات :8 ج
لسان: العربي
الناشر:العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة - کربلای معلی عراق
سنة النشر: 1434 هجری قمری|2013 میلادی
قانون الكونجرس:/ح5ھ4 27/2 BP
ص: 2
ص: 3
حقوق النشر محفوظة
للعتبة الحسينية المقدسة
الطبعة الأولى
1434 ه -- 2013 م
العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة
قسم الشؤون الفكرية والثقافية - هاتف: 326499
Web: www.imamhussain-lib.com
E-mail: info@imamhussain-lib.com
ص: 4
إلى: أول مولود في بيت النبوة...
وثاني الائمة... وسبط الأمة.
إلى: بكر الزهراء البتول...
وشبيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إلى قرة عين المرتضى عليه السلام....
إلى: سيدي ومولاي وإمامي
الحسن المجتبى ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
أهدي هذا الكتاب قربة الى الله تعالى.
خادمكم وولدكم نبيل
ص: 5
ص: 6
حينما يكون الحديث عن الشخصية الرسالية، أي التي ارتبطت بالسماء، فإن هذا الحديث سيكون له خصوصية كخصوصية السماء والأمر الإلهي.
من هنا:
لابد أن يكون هذا الحديث متعدد الجوانب وواسعاً، فضلاً عن الدقة في بيان جزئيات هذه الرسالية، وذلك لما ارتبطت به هذه الشخصية من غرض سماوي (إلهي) في تحقيق الإصلاح لبني الإنسان وإتمام الحجة التي لازمت حركة الرسالات والنبوّات منذ أن قدر الله تعالى أن يجعل خليفته على هذه الأرض.
ولذا:
نجد أن القرآن الكريم يستعرض لنا تلك الخصوصية في الحديث عن تلكم الشخصيات التي ارتبطت أسماؤها بل وتكوينها بالأمر الإلهي المقدّس، فيبدأ في
ص: 7
بيان تكوينها، وولادتها، ونشأتها، وصباها، وشبابها، وشيخوختها، وموتها، وبعثها، ونشورها، وحسابها، ومثواها في الجنة؛ فضلاً عن دورها الرسالي والتبليغي.
ففي تكوينها الرحمي (الجنيني): نجد القرآن الكريم يظهر جانباً مفصلاً عن تلك المرحلة التي سبقت ولادة هذه الشخصية الرسالية كنبي الله عيسى عليه السلام وأمه مريم عليها السلام فيبين لنا حال مريم عليها السلام وما بلغت إليه من القرب والطاعة لله تعالى لتنال الكرامة منه سبحانه في الاختيار لهذه الرسالية، فمريم عليها السلام قد أعدت لتكون صاحبة الرحم الطاهر الذي خلق فيه روح الله وكلمته.
قال تعالى:
وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهٰا مَكٰاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجٰاباً فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا قٰالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا قٰالَتْ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا قٰالَ كَذٰلِكِ قٰالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ رَحْمَةً مِنّٰا وَ كٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا(1) .
فهذه الآيات المباركة تظهر لنا بوضوح المرحلة الجنينية لتلك الشخصية الرسالية، وإن الحكمة في إيراد ذلك الحديث يتعلق بكونها رسالية؛ ومن قبل ذلك كان القرآن قد أظهر في بيانه لتلك الشأنية الرسالية ما كان يختص بشخص مريم
ص: 8
عليها السلام إذ أظهر لنا القرآن تلك الخصوصية في بيانه المتعدد الجوانب عمن ارتبط تكوينهم بالرسالات فها هي امرأة عمران يحدثنا القرآن عنها كيف قد نذرت ما في بطنها محرراً لله عزّ وجل كي تكون هذه الأم قد هُيّئت لتلد رحماً طاهراً مطهراً ممثلاً في شخص مريم لينشأ بين أحشائها المخصوص بالنبوة والمجتبى لرسالة الإنجيل.
قال الله تبارك وتعالى:
إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (1) .
بمعنى: أن العناية الإلهية سبقت خروج نبي الله عيسى عليه السلام في جدته لأمه امرأة عمران فهذه المرأة حينما ارتبط وجودها بالنبوة والرسالة والحكم الشرعي هيّأها الله وأعدها من قبل أن يرى نبي الله عيسى الحياة الدنيا.
قال تعالى:
إِذْ قٰالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرٰانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مٰا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثىٰ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثىٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ (2) .
وهذا العرض القرآني إنما جاء لكي يعطي صورة واضحة المعالم عن تلك الشخصيات الرسالية، وهذا أولا.
ص: 9
كي لا يبدو مستغرباً ذلك الحديث حينما يتناول فاطمة بضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أو أمها خديجة عليها السلام فمثلما شملت العناية الإلهية والسبق في اللطف الرحماني امرأة عمران بكينونة النبوة في عيسى عليه السلام كذاك الحال كان في أم المؤمنين خديجة عليها السلام بكينونة الإمامة التي خصت بها أم الأئمة فاطمة عليها السلام.
لكي نتبع ذلك النهج القرآني في معرض بيانه لحياة تلك الشخصيات الرسالية؛ بمعنى: يعلمنا القرآن أن الحديث عن الشخصية الرسالية يلزم المتحدث بالسعة والمتابعة والبيان، وأن الحديث يلزم أيضا صاحبه بالرجوع إلى المراحل الأولى لبدء ظهور هذا الدور الرسالي أو ذاك.
وعليه:
كان لابد أن نرجع إلى تلك الحيثيات القرآنية في حديثنا عن سيدة نساء العالمين ونتبع تلك المنهجية القرآنية في الحديث عن الشخصية الرسالية مما تطلب جهداً مضاعفاً خلال سيرنا في هذا العمل الذي بلغ بضع سنين منذ ان اذن الله برحمته ان نشرع في هذا العمل حينما كنت في دمشق الشام سنة 1999 ميلادية.
فمن أروقة مكتبة الأسد الوطنية كانت الانطلاقة ثم الى لبنان ثم العودة الى دمشق ثم الرجوع الى العراق عام 2003 م والعودة الى دمشق حيث كان كثير من المعلومات منابعها ومصادرها في مكتبة الأسد لاسيما بعض المخطوطات والمصادر
ص: 10
التخصصية في العلوم الاجتماعية والنفسية وقد كنت حينها قد انهيت ثلاثة أجزاء من الكتاب لاسيما وان الجزء الثالث كان خاصاً بالبحث والدراسة لدورها عليها السلام كزوجة وأم فبين الزوجة الرسالية والأم الرسالية بحوث متعددة في العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية كما سيمر بيانه.
ثم العودة الى العراق وعيش معاناة نقص الخدمات والأمن؛ مما أثر سلباً على سير البحث والدراسة في هذا العمل وضياع أيام كثيرة مما دفعنا الى تأجيل العمل في هذا الكتاب والانتقال الى أبحاث أخرى بما توفر لدينا من مصادر ومنابع للمعلومات فوفقنا الله تعالى ومن خلال أروقة مكتبة الروضة الحسينية المطهرة الى الانتهاء من سبعة عشر بحثاً طبع منها خمسة عشر بحثاً فلله الحمد وله المنة والفضل. على ما وفقنا إليه.
ثم لم نزل برحمته الواسعة وسابق لطفه وعنايته ان منّ علينا فعدنا لهذا البحث الجزء الرابع ليغدقنا الله بكرمه ويعيننا على إنهائه فكان بثمانية مجلدات، متبعين في ذلك منهج القرآن الكريم في بيانه لحياة الشخصية الرسالية.
ولتكون أولى محطاتنا هي خلق نورها وشأنيته، وسماته، ودوره الرسالي، ثم خلق روحها، وطينتها، وخلقها من ثمار الجنة، وما رافق انتقال النور الفاطمي الى الصلب المحمدي، ليرسو بنا الحديث في محطة المرحلة الجنينية لسيدة نساء العالمين حينما كانت خديجة عليها السلام في مرحلة الحمل والولادة، ليكون الحديث ضمن مباحث عديدة.
ثم انتقلنا في بحثنا لدراسة مرحلة طفولة فاطمة عليها السلام، وصباها، وما
ص: 11
شهدته من بزوغ فجر الإسلام في مكة وظهور دعوة النبوة والتوحيد، ودورها ضمن هذه المرحلة الجهادية في الدفاع عن النبوة، حتى حط بها الرحال مهاجرة الى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في خروج علي بن أبي طالب عليه السلام بالفواطم.
ثم لتبدأ مرحلة جديدة من عمر الشخصية الرسالية لسيدة نساء العالمين في دار الهجرة ومستقر النبوة ليتم معها مشروع إلهي آخر يسير بموازاة النبوة المحمدية، وهي مرحلة إنشاء الأسرة الإلهية من خلال نزول الأمر الإلهي بتزويجها من علي بن أبي طالب عليهما السلام، فكان زواج النور من النور، وظهور البيت الأسري الأنموذج في الإسلام ليشهد العاقل منظومة حياتية متكاملة في العلاقة الأسرية، ابتداءً من التوافق الزواجي، والتكافؤ الثنائي، مقنناً بذاك أطر الواجبات والحقوق بين الرجل والمرأة في بيت الزوجية غير باخسين جهود الدراسات المعاصرة في علم اجتماع الأسرة في فهم العلاقة الزوجية وبنائها بين الرجل والمرأة من النواحي النفسية والاجتماعية والسلوكية والتربوية علّنا بذاك نكون قد وفقنا في هذا الجزء وهو الثالث من أجزاء الكتاب في بيان تلك الأسس الحياتية التي قامت عليها الاسرة الإلهية والأنموذج في الإسلام لجميع القراء الذين تعددت ثقافاتهم واهتماماتهم العلمية.
ليلي ذلك بحوث مكثفة في مرحلة الطفولة في بيت فاطمة وظهور دورها كأم، وكيفية تنشئتها لأولادها ضمن أسس الرسالة المحمدية، والتعاليم القرآنية؛ فضلاً عن تأسيسها لقواعد تربوية في بناء شخصية الطفل وتكوينه الخلقي، والمعرفي، والحركي.
ص: 12
ثم انتقلنا في دراستنا لحياة فاطمة صلوات الله عليها الى جانب آخر من هذه الشخصية الرسالية وقد تعلق بمنزلتها عند الله تعالى، وبيان تلك الخصوصية في التلازم بين رضاها ورضا الله، وغضبها وغضب الله تعالى، وآثار ذلك في بناء الهوية الإسلامية والعقيدة الإيمانية.
ثم انتقلنا الى منزلتها في القرآن فكان ضمن محورين:
المحور الأول دار حول الآيات العامة التي ضمت تحت مقاصدها واختصاصها بآل البيت عليهم السلام جميعاً كآية التطهير، وآية المودة، وآية المباهلة وغيرها.
والمحور الثاني دار حول الآيات الكريمة التي اختصت بشخص فاطمة عليها السلام كآية القربى، وليلة القدر، وغيرها مكتفين في ذلك بإيراد الروايات الشريفة التي تنص على هذا الاختصاص وسبب النزول.
ثم عرجنا إلى منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليظهر لنا ان علاقتها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ارتكزت على مجموعة من المعطيات المتعددة كالإيمانية، والتقوائية، والولائية، والأبوية.
ليكون ذلك مدخلاً الى مباحث الجزء الخامس كمنزلتها عند الملائكة والأنبياء عليهم السلام، والكتب السماوية، وفي الآخرة ابتداءً من خروجها من القبر الى ساحة المحشر، ومجريات يوم القيامة الى منزلتها في الجنة؛ ثم انتقلنا في محطات البحث الى بعض شؤون فاطمة عليها السلام ككراماتها، ومعاجزها، والوقوف عند بعض خواصها كالرحى، والمغزل، وبقلتها، وما تحب من الطعام.
ص: 13
اما ما تضمنه الجزء السادس من الدراسة فكان حول عبادتها، وصلاتها، وتسبيحها، وعلمها، وفقهها، وبعض نظرياتها، والوقوف عند بيانها لحركة التاريخ وسننه ضمن مباحث متعددة حاولنا قدر المستطاع الاحاطة بهذه المعطيات في الفكر الفاطمي؛ وكم تمنيت أن أوفق إلى المزيد من هذه القراءة والبحث عن تلك المعطيات والنظم والمرتكزات في بناء الحياة وتقويم السلوك وقيام المجتمع وإصلاحه الذي فاض بها الفكر الفاطمي وإني لقاصرٌ عن بلوغ العلا حتى أيقنت ان هذا حد رزقي من اللطف الإلهي وهو القائل عز وجل:
(إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ).
فله الحمد على ما أنعم وله الشكر بما ألهم، والثناء بما قدم. ومازلت ألتمس من فضله أن يفتح علي أبواب رحمته فأوفق للمزيد في المستقبل انه لا يخيب رجاء راجيه.
اما ما كان من التوفيق في الجزء السابع فهو البحث والدراسة لما أحاط بفاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، من المصائب، والرزايا، والمحن، ابتداءً من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهاءً بوفاتها؛ وما بين الرزيتين يهدّ الجبال.
وقد واجهت فيه مجموعة من الصعوبات تمثلت في الوقوف عند جزئيات مصيبة الباب ومجرياتها لاسيما وان سياسة التعتيم، والتكتيم، والامحاء، التي مارستها السلطة التي جلست في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ بيعة السقيفة وإلى يومنا هذا كانت كفيلة في ضياع كثير من تفاصيل هذه الحادثة في
ص: 14
مصادر أبناء السنة مما استلزم الرجوع الى مصادر مذهب العترة النبوية وما روي عنهم في بيان مجريات الحادثة اما عموميات الحادثة فلم تخلُ منها كتب أبناء السنة وفيها كفاية لبيان وقوع جريمة الباب وقتل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولنا في ذلك أسوة بكتاب الله تعالى الذي اعتمد بيان العموميات كقوله تعالى:
(وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّقُوهُ ) .
أما كيفية الإقامة، وأجزاء الفريضة، ومقدماتها، وأركانها، وشرائطها، فكان من خلال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أهل بيته عليهم السلام.
وكذا كانت حادثة باب فاطمة، وجريمة قتلها، وولدها المحسن الذي أجهضته بفعل عصرها بين الباب والحائط عند اقتحام عمر بن الخطاب وعصابته من (المسلمين) بعد تهديده بالإحراق فجمع الحطب وأحرق به البيت كما وردت بذلك بعض النصوص الصريحة الصحيحة كما سيجدها القارئ خلال هذا الفصل.
كما سيجد القارئ مجريات الحرب المفتوحة على ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى كافة الأصعدة، كالاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، والعقائدية فضلاً عن الجسدية حتى لحقت بربها شهيدة.
وهو ما اختتمنا به الجزء السابع لننتقل بعد ذلك في الجزء الثامن وهو الأخير إلى بيان مراسيم تجهيزها للانتقال الى روضتها الفردوسية، وموضع قبرها، وزيارتها، والصلاة عليها، والاستغاثة بها، وآثار حبها وبغضها، فضلاً عن بيان عاقبة الذين ظلموها، لنختتم كتابنا بعلاقتها بزائر الحسين عليه السلام،
ص: 15
وخصوصية ارتباطها بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف نسباً، ورسالة، وهدفاً إلهياً في بسط العدل والقصاص ممن ظلمها، وظلم أباها وبعلها وبنيها وشيعتها.
(وَ مٰا تَوْفِيقِي إِلاّٰ بِاللّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) ، (وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ) .
فصل يا رب على بضعة نبيك، وحبيبة رسولك، وقلبه، وروحه التي بين جنبيه، وحليلة وليك، وحجتك على خلقك، أول المؤمنين برسولك، وأسبق المصدقين به، وخاصته من أهل بيته، ووصيه، وخليفته من بعده؛ وصل يا رب على أم أوليائك، وحججك على خلقك حين خلقت نورها من نور عظمتك، وجلالك، وحين فجرته من نور حبيبك وخيرتك من خلقك فأشرقت الأرض بنور ربها؛ وصل عليها حين أودعتها في ثمار الجنة، ونقلتها الى نور نبيك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فأنبتها في أرض الطهر، ومعدن العفة خديجة فأولدتها بإذنك كريمة، ميمونة، مطهرة، مقرة بالتوحيد لك، وبالنبوة لرسولك صلى الله عليه وآله وسلم، وبالإمامة لوليك.
وصل عليها يا رب يوم أرجعتها إليك راضية، مرضية، صابرة محتسبة، وصل عليها كلما صليت على أبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وصلِّ عليها يوم تبعثها حية؛ وصل عليها حين تدخلها الجنة، وتلحقها بأبيها وحبيبك محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
السيد نبيل بن السيد قدوري بن السيد حسن بن السيد علوان
بن السيد جاسم بن السيد حسين الحسني
من أروقة مكتبة الروضة الحسينية المقدسة بكربلاء لسنة 1434 ه -- 2013 م
ص: 16
ص: 17
ص: 18
لعل الحديث عن النور مجهول لدى البعض من المسلمين أو غيرهم من الناس باختلاف معتقداتهم المستوحاة من دياناتهم السماوية والأرضية(1).
والسبب في ذلك يعود إلى أن الكثير من الكتاب والباحثين لم يخوضوا فيه، أو يتحدثوا عنه عندما يبدؤون بحديثهم أو كتاباتهم عن الشخصيات التي اندمج تكوينها ونشأتها وحياتها وسيرها بالله عزّ وجلّ ؛ ونقصد بذلك الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام.
ولأن الحديث عن النور هو الخوض في غمار المبهمات التي أخفيت ماهيتها وعللها، فقد تجنبها الكثير من الملتمسين للمعرفة مع مالها من الأهمية البالغة، فأمر النور كأمر الروح الذي أشارت إليه الآية الكريمة:
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً(2) .
لكن الذي يبدو من خلال بعض الأحاديث أن النور الذي خلق منه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم غير روحه الطاهرة، فيكون عندها أن النور
ص: 19
والروح هما من أمر الله عزّ وجلّ الذي لا يعلمهما إلا الله جلت قدرته. وعندما نأتي إلى القرآن لنستلهم منه بعض الحقائق عن النور نجد أن الله سبحانه وتعالى حينما ضرب للناس مثلاً عن نوره ترى هذا المثل قد احتار فيه العقلاء وتوقف عنده العرفاء، ولم يعلموا منه غير الذي أبداه لهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام. وأما غير هذا فهو هواء في شبك؛ لأن من ادعى المعرفة بكتاب الله تعالى بغير تنصيب إلهي كان ادعاؤه جهلاً، وقوله زيفاً؛ قال عزّ وجلّ :
اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ نُورٌ عَلىٰ نُورٍ يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (1) .
ومن هنا: فإن الحديث عن نور فاطمة عليها السلام لا يمكن لنا تبين معانيه، أو الوقوف عند مراسيه لما ذكر سابقاً. لكن هذا لا يمنعنا من ركوب سفينة العترة المحمدية عليهم السلام لنبحر بها إلى ذلك العالم اللامتناهي من المعاني التي يسبح فيها الذهن ويدور في فضائها الفكر، وهو يتنقل بين محطاتها المتعددة، فيقف محتاراً في جمالها، ومتأملاً في إبداعها، ومذهولاً في جلالها.
هكذا كانت رحلة العقل في سفينة العترة النبوية عليهم السلام وهي تتنقل بين محطات عالم نور فاطمة عليها السلام، فبين محطتنا الأولى وهي بدء خلق نورها عليها السلام إلى (ما كان يصنع هذا النور) محطتنا الأخيرة كان سيرنا بعون الله وفضله، مشتملاً على جملة من المباحث والمسائل، وهي كالآتي:
ص: 20
قبل خوض غمار البحث في نور فاطمة عليها الصلاة والسلام فلابد من التوقف أولاً عند الأحاديث التي تتحدث عن بدء خلق النور بشكل عام لنفهم من خلالها كينونة هذا النور الفاطمي حسبما تفصح عنه هذه الأحاديث الشريفة ويعيننا عليه فهمنا لها وفوق كل ذي علم عليم.
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ دخل العباس بن عبد المطلب، فسلم فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحّب به فقال: يا رسول الله بما فضل الله علينا أهل البيت، علي بن أبي طالب والمعادن واحدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«إذن أخبرك يا عم، إن الله خلقني وخلق عليا ولا سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا لوح ولا قلم.
ص: 21
فلما أراد الله عزّ وجلّ بدو خلقنا تكلم بكلمة فكانت نوراً، ثم تكلم كلمة ثانية فكانت روحاً؛ فمزج في ما بينهما واعتدلا فخلقني وعلياً منهما، ثم فتق من نوري نور العرش وأنا أجل من العرش؛ ثم فتق من نور علي نور السماوات، فعلي أجل من السماوات؛ ثم فتق من نور الحسن نور الشمس؛ ومن نور الحسين نور القمر؛ فهما أجل من الشمس والقمر وكانت الملائكة تسبح لله تعالى وتقول في تسبيحها: سبوح قدوس من أنوار ما أكرمها على الله تعالى.
فلما أراد الله تعالى أن يبلو الملائكة أرسل عليهم سحاباً من ظلمة وكانت الملائكة لا تنظر أولها من آخرها ولا آخرها من أولها، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا منذ خلقتنا ما رأينا مثل ما نحن فيه فنسألك بحق هذه الأنوار إلا ما كشفت عنا فقال الله عزّ وجلّ : وعزتي وجلالي لأفعلنّ (فخلق نور فاطمة الزهراء عليها السلام كالقنديل وعلقه في قرط العرش فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع) من أجل ذلك سميت فاطمة (الزهراء)»(1).
وفي حديث آخر، عن أنس بن مالك، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأيام صلاة الفجر، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم فقلت له يا رسول الله، إن رأيت أن تفسر لنا قوله تعالى:
فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ وَ اَلصّٰالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً(2) .
ص: 22
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«أما النبيون فأنا، وأما الصديقون فأخي علي وأما الشهداء فعمي حمزة، وأما الصالحون فابنتي فاطمة وأولادها الحسن والحسين».
قال: وكان العباس حاضراً فوثب وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ألسنا أنا وأنت وعلي وفاطمة والحسن والحسين من نبعة واحدة ؟، قال:
«وما ذاك يا عم»؟
قال: لأنك تعرف بعلي وفاطمة والحسن والحسين دوننا.
قال: فتبسم النبي وقال:
«أما قولك يا عم: ألسنا من نبعة واحدة فصدقت، ولكن يا عم إن الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم عليه السلام حين لا سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار».
فقال العباس: وكيف كان بدء خلقكم يا رسول الله ؟، فقال:
«يا عم لما أراد الله أن يخلقنا تكلم بكلمة خلق منها نوراً، ثم تكلم بكلمة أخرى فخلق منها روحاً، ثم مزج النور بالروح، فخلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فكنا نسبحه حين لا تسبيح ونقدسه حين لا تقديس.
فلما أراد الله تعالى أن ينشئ الصنعة فتق نوري فخلق منه العرش، فالعرش من نوري، ونوري من نور الله، ونوري أفضل من العرش، ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور أخي علي، ونور أخي علي من نور الله،
ص: 23
وعلي أفضل من الملائكة؛ ثم فتق نور ابنتي فاطمة فخلق منه السماوات والأرض، فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة، ونور ابنتي فاطمة من نور الله تعالى، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض؛ ثم فتق نور ولدي الحسن، فخلق منه الشمس والقمر، فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن ونور ولدي الحسن من نور الله، والحسن أفضل من الشمس والقمر؛ ثم فتق نور ولدي الحسين، فخلق منه الجنة والحور العين، فالجنة وحور العين من نور ولدي الحسين، ونور ولدي الحسين من نور الله، فولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين.
ثم أمر الله الظلمات أن تمر بسحائب الظلم فأظلمت السماوات على الملائكة فضجت الملائكة بالتقديس والتسبيح وقالت:
إلهنا وسيدنا منذ خلقتنا وعرفتنا هذه الأشباح لم نرَ بأساً فبحق هذه الأشباح إلا ما كشفت عنا هذه الظلمة فأخرج الله من نور ابنتي فاطمة قناديل فعلقها في بطنان العرش فأزهرت السماوات والأرض ثم أشرقت بنورها فلأجل ذلك سميت (الزهراء) فقالت الملائكة: ألهنا وسيدنا لمن هذا النور الزاهر الذي قد أشرقت به السماوات والأرض ؟
فأوحى الله إليها:
(هذا نور اخترعته من نور جلالي، لأمتي فاطمة ابنت حبيبي وزوجة وليي وأخي نبيي وأبو حججي على عبادي في بلادي، أشهدكم ملائكتي أني قد جعلت ثواب تسبيحكم وتقديسكم لهذه المرأة وشيعتها ومحبيها إلى يوم القيامة).
قال: فلما سمع العباس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وثب وقبل بين عيني علي - عليه السلام - وقال: والله يا علي أنت الحجة البالغة لمن
ص: 24
آمن بالله واليوم الآخر»(1).
1 - يبدو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حدث بهذا الحديث أكثر من مرة وأن العباس بن عبد المطلب كان ينتهز الفرصة فيسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل أهل بيت النبوة، فمرة كان هو المبتدأ بالسؤال كما مرَّ في الحديث السابق؛ ومرة كان حاضراً فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحدث عن فضل أهل البيت عليهم السلام، فيسأل العباس عن سبب هذا التفضيل فيعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم له وللحاضرين ابتداء فضلهم على سائر ما خلق الله، منذ البدء في الخلق والنشأة.
ولذا نجد أن الحديث تناول هذه الألفاظ، ففي بدء الخلق، قال صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الله أن يخلقنا تكلم بكلمة، وفي النشأة قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«فلما أراد الله أن ينشئ الصنعة فتق نوري».
2 - يستفاد من سياق الحديث الأول والثاني أن الله سبحانه وتعالى خلق نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنوار أهل بيته من نور واحد وروح واحدة.
ثم فتق أنوارهم من ذلك النور الذي هو من نور الله عزّ وجلّ فكانت هذه الأنوار الخمسة هي الأصل في رجوع الأشياء التي خلقها الله إليهم أي من نورهم.
ص: 25
3 - أما السبب في اختلاف نسبة الأشياء إلى أنوارهم كأن يكون خلق نور السماوات والأرض من نور علي في الحديث الأول، ونسبة خلق السموات والأرض إلى نور فاطمة في الحديث الثاني هو ليس اختلافاً بين الحديثين بل يدل على أن جميع الأشياء خلقت من نورهم الذي هو نور واحد، فضلاً عن أن الحديث الأول قد خصص النسبة في خلق نور السماوات إلى نور علي عليه السلام؛ أي: إن نورها من نور علي أما أصل خلق السموات والأرض فكان من نور فاطمة وهذا يكشف عن أن التكامل في خلق السموات والأرض كان من نورهما عليهما السلام.
4 - إن الفرق بين دلالة لفظ (الخلق) و (النشأة) في الحديث: هو أن الله تعالى ابتدأ بهذه الأنوار لتكون هي المادة الأساسية لخلق الأشياء بمعنى: أن هذه الأنوار تدخل تحت دلالة لفظ (الخلق) وأن الأشياء التي خلقها الله من هذه الأنوار تدخل تحت لفظ النشأة.
ومن هنا: نجد دلالة الآية الكريمة في قوله تعالى:
وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولىٰ فَلَوْ لاٰ تَذَكَّرُونَ (1) .
هو أن الإنسان نشأ من نطفة ثم علقة ثم مضغة وهكذا فكانت النطفة دالة على النشأة ولولاها لخلق الإنسان بالكينونة، بمعنى: كلما أراد الله أن يخلق إنساناً ويخرجه إلى الوجود قال له كن فيكون، في حين اقتضت مشيئة الله تعالى أن يكون هناك مادة أولية وأنه أجرى في حكمه وقدرته وسننه لتمر بعدة مراحل حتى تخرج
ص: 26
بشكلها الذي اختاره الله تعالى.
وعليه: كانت هذه الأنوار هي المادة الأساسية وهي التي نالت بلطف الله الكينونية؛ لأنها أساس نشأة الأشياء ولذا قال علي أمير المؤمنين عليه السلام:
«فإنا صنايع ربنا، والناس بعد صنايع لنا»(1).
فكان خلقهم لله وكان خلق الأشياء ونشأتها يعود إليهم ومثاله كمن ينشأ في بيت أو قوم فإنه ينسب إليهم ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم لعمه العباس:
«فلما أراد الله أن ينشأ الصنعة فتق نوري».
روي عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمت وقلت: يا رسول الله أرني الحق انظر إليه بياناً؟ فقال:
«يا ابن مسعود لُج المخدع فانظر ماذا ترى»؟
قال: فدخلت فإذا بعلي بن أبي طالب - عليه السلام - راكعاً وساجداً وهو يخشع في ركوعه وسجوده ويقول:
«اللهم بحق نبيك محمد إلا ما غفرت للمذنبين من شيعتي».
فخرجت لأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فوجدته راكعاً وساجداً وهو يخشع في ركوعه وسجوده ويقول:
«اللهم بحق علي وليك إلا ما غفرت للمذنبين من أمتي».
ص: 27
فأخذني الهول فأوجز صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته وقال:
«يا ابن مسعود أكفراً بعد إيمان»!؟
فقلت: لا وعيشك يا رسول الله، غير إني نظرت إلى علي وهو يسأل الله تعالى بجاهك، ونظرت إليك وأنت تسأل الله تعالى بجاهه، فلا أعلم أيكما أوجه عند الله تعالى من الآخر!؟ فقال:
«يا ابن مسعود إن الله تعالى خلقني وخلق علياً والحسن والحسين من نور قدسه، فلما أراد أن ينشئ خلقه فتق نوري وخلق منه السماوات والأرض، وأنا والله أجل من السماوات والأرض، وفتق نور علي وخلق منه العرش والكرسي، وعلي والله أجل من العرش والكرسي، وفتق نور الحسن وخلق منه حور العين والملائكة، والحسن والله أجل من الحور العين والملائكة، وفتق نور الحسين وخلق منه اللوح والقلم، والحسين والله أجل من اللوح والقلم.
فعند ذلك أظلمت المشارق والمغارب، فضجت الملائكة ونادت: إلهنا وسيدنا بحق الأشباح التي خلقتها إلا ما فرجت عنا هذه الظلمة.
فعند ذلك (تكلم الله بكلمة أخرى فخلق منها روحاً، فأحتمل النور الروح، فخلق منه الزهراء فاطمة فأقامها أمام العرش فأزهرت المشارق والمغارب، فلأجل ذلك سميت الزهراء).
يا ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة يقول الله عزّ وجلّ لي ولعلي أدخلا الجنة من أحببتما والقيا في النار من أبغضتما، والدليل على ذلك قوله تعالى:
أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ(1).
ص: 28
فقلت: يا رسول الله من الكفّار العنيد؟ قال:
الكفار من كفر بنبوتي والعنيد من عاند علي بن أبي طالب(1).
لعل قائلاً يقول: إن كلمة (ألقيا) المراد بها الملائكة فهي التي تلقي الكفار بأمر الله عزّ وجلّ في جهنم.
فنقول: وإن كان هذا القول صحيحاً إذ الملائكة هي التي تقوم بهذا العمل يوم القيامة لكن الأمر يتم بمراحل وهو أشبه ما يكون في عصرنا الحاضر بدائرة أو مؤسسة يتم العمل فيها على وفق النظم التشريعية والتنفيذية، فالأمر يصدر من الجهة العليا التي تشرع هذه القوانين والذي ينفذ العمل جهات خاضعة ومرتبطة بهذه الهيئة التشريعية.
فبناء الجسور أو تهيئة الطرقات وغيرها قد تم إنشاؤها بواسطة أيدٍ عاملة تلقت الأمر من جهاتها المسؤولة عنها صعوداً إلى أعلى سلطة تشريعية.
والحديث يجري على هذا المعنى نفسه: فالأمر الإلهي هو عبارة عن قانون قد وضع لتحديد نتائج أعمال العباد وما تؤول إليه مصائرهم، فمن كان مستوفياً لما جاء به هذا القانون من شروط كانت نتيجته إيجابية ومصيره إلى الجنة، ومن كان مخالفاً لهذا القانون فإن مصيره إلى جهنم والعياذ بالله.
ص: 29
والقانون قد نطق به القرآن في أكثر من موضع، وبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من مكان، فكان كل من القرآن والنبي قد أعلنا مراراً هذا القانون ونبها الناس إليه.
أما القرآن فقوله تعالى:
من يطع الرسول فقد أطاع الله(1).
وقوله: و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما(2).
وقوله: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم(3).
وقوله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم(4).
وغيرها من الآيات الكريمة التي ربطت طاعة الله بطاعة الرسول بل إن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي طاعة الله عزّ وجلّ ، وهذا الرسول الأعظم الذي أمر الله بطاعته واتباعه قد أعلن للمسلمين الشق الثاني من القانون الذي وضع لتحديد مصير العباد وقبول أعمالهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«عليٌ ، طاعتهُ طاعتي ومعصيتهُ معصيتي»(5).
ص: 30
وقد صرح القرآن الكريم بمصير المنافق وأين يكون مثواه فقال عزّ وجلّ :
إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّٰارِ(1) .
وجعلهم سبحانه، أي المنافق والكافر في الإثم سواء فقال تعالى:
إِنَّ اَللّٰهَ جٰامِعُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً(2) .
ومن هنا فإن كلمة (ألقيا) قد أريد بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى اقتران طاعته بطاعة الله وهو الشخص الأول، وأما الشخص الثاني الذي عنته الآية فهو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، بحكم قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«وطاعته طاعتي».
وهما اللذان يتلقيان الأمر الإلهي فيأمران الملائكة بسوق كل كافر وكل معاند ليلقياهم في جهنم.
وجود الألف في فعل الأمر دليل على أن الأمر موجه إلى اثنين والمخاطب هما اثنان ولو كان الخطاب موجهاً إلى الملائكة لكان الفعل يحمل واو الجماعة فيكون: ألقوا في جهنم.
ص: 31
إيراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدليل من القرآن على ما قاله لابن مسعود سببه الحال التي كان عليها عبد الله بن مسعود وقد صرح هو بذلك قائلاً: (فأخذني الهلع) فأدركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأوجز في صلاته، وهذا الفعل من مصاديق الآية التي أشارت إلى كون النبي بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (1) .
إن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تشريع ولا يحتاج إلى دليل.
وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (2) .
لكنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء لعبد الله بن مسعود بدليل ليسكن قلبه، وتستقر نفسه، ويثبت إيمانه فلا يهلك وقد أشار إلى ذلك بقوله:
«يابن مسعود أكفر بعد إيمان»؟!
أي: إن من لم يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديثه فكيف يؤمن بالقرآن.
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار في هذا الحديث إلى الترابط والتلازم
ص: 32
فيما بينه وبين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام منذ بدء خلقهما وإلى يوم القيامة، فلا يمكن أن يصح إيمان امرئ وهو يرى فرقاً بين عصمة النبي والوصي، وأما من لا يؤمن بالوصي من الأصل فقد ضل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته واتبع شريعة غيره.
إن عملية إيصال حقيقة فضل محمد وأهل بيته عليهم السلام لعبد الله بن مسعود نقلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب دقيق أدمج فيه اشتراك العقل مع القلب، ليثبْتَ في قلبه ما سيسمعه منه ويعي بقوة ما سيرى منه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا من أسرار حكمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخفي لطائفه في إيصال المعلومة إلى ذهن السائل. ليثبّت إيمانه، وإلا كان من الممكن أن يجيبه صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يطلب منه الدخول إلى داخل الدار فيرى علياً عليه السلام واقفاً يصلي ويدعو الله بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يغفر لشيعته، ثم يخرج فيرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقفاً يصلي وهو يدعو الله بجاه علي عليه السلام أن يغفر لأمته، فيحرك بهذا العمل خلجات نفس عبد الله بن مسعود ويثير الدهشة في قلبه.
إذن: تدل هذه الأحاديث على أن بدء خلق النور كان حينما (تكلم الله بكلمة خلق منها نوراً، ثم تكلّم بكلمة أخرى فخلق منها روحا ثم مزج النور بالروح) فخلق منها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعلياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام.
ص: 33
ص: 34
نعرض في هذا المبحث الأحاديث التي أخبرت عن الزمن الذي خلق الله فيه نور الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، وحيث إن الحساب الزمني لم يوضع بما تتضمنه كلمة: (متى) باعتباراتها الابتدائية إذ لا مصداقية لها بسبب خلوها من الحس الزمني لانعدام الآنية والكيفية في الله عز وجل.
وبانعدام مدلولها الاستفهامي في البدء اللازم لمعرفة لحظة خلق الزمن ليتم الاعتماد عليها، وبما أن هذه اللحظة متقدمة على الخلق وهي مما لم يظهره الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فقد أصبحت (متى) بمدلولها الزمني مرتبطة بالكينونية التي لا يستقيم معناها إلا بنفي الزمن عنها وهو ما دل عليه حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عندما سأله السائل مستفهماً متى كان الله!؟ فقال صلوات الله عليه:
«ومتى لم يكن».
ومن هنا: فإنّ كلمة:
«متى» التي تصدّرت عنوان هذا المبحث إنما تشير إلى اللحظة الابتدائية التي تم الاعتماد عليها في وضع العدد الدال على الزمن الذي
ص: 35
خلق الله تعالى فيه نور فاطمة الزهراء عليها السلام.
وحيث إن هذه اللحظة الابتدائية هي لحظة خلق آدم عليه السلام أو هي لحظة خلق الخلق، فإن من هذه اللحظة أو تلك كان ل - (متى) مدلولها الزمني ومن هنا أصبح لها مصداقية في المدلول على وجود الزمن، وهو ما دلت عليه ألفاظ الأحاديث الشريفة وهي كالآتي:
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَشْعَرِيُّ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْفَضْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام فَأَجْرَيْتُ اخْتِلاَفَ الشِّيعَةِ فَقَالَ :
«يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا وَفَوَّضَ أُمُورَهَا إِلَيْهِمْ فَهُمْ يُحِلُّونَ مَا يَشَاءُونَ وَيُحَرِّمُونَ مَا يَشَاءُونَ وَلَنْ يَشَاءُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الدِّيَانَةُ الَّتِي مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مَحَقَ وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ خُذْهَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ»(1).
عن علي بن الحسين بن رباط، عن أبيه، عن المفضل قال، قال الصادق عليه السلام:
ص: 36
«أن الله تبارك وتعالى خلق أربعة عشر نوراً قبل خلق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا.
فقيل له: يابن رسول الله ومن الأربعة عشر؟، فقال:
محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين، آخرهم القائم الذي يقوم غيبته فيقتل الدجال ويطهّر الأرض من كل جور وظلم»(1).
عن جابر بن عبد الله، عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام قال:
«إن الله تعالى خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم عليه السلام بأربعة عشر ألف عام فهي أرواحنا.
فقيل له: يابن رسول الله عدّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نوراً؟ فقال:
محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين.
ثم عدّهم بأسمائهم، ثم قال:
نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن المثاني التي أعطاها الله نبينا، ونحن شجرة النبوة ومنبت الرحمة، ومعدن الحكمة، ومصابيح العلم، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وموضع سرّ الله ووديعة الله جل اسمه في عباده، وحرم الله الأكبر، وعهده المسؤول، فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده(2)، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من
ص: 37
جهلنا، ونحن الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا، ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه.
إن الله تعالى خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه على عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة عليهم بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزان علمه، وتراجمة وحيه، وأعلام دينه، والعروة الوثقى، والدليل الواضح لمن اهتدى، وبنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، ونزل الغيث من السماء، ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عُبد الله، ولولانا ما عرف الله؛ وأيم الله لولا وصية سبقت، وعهد أخذ علينا، لقلت قولاً يعجب منه - أو يذهل منه - الأولون والآخرون»(1).
ما رواه الشيخ في أماليه بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
«كان ذات يوم جالسا في الرحبة و الناس حوله مجتمعون فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنك بالمكان الذي أنزلك الله وأبوك يعذب في النار فقال له: فض الله فاك والذي بعث محمدا بالحق نبيا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم أبي يعذب بالنار وابنه قسيم النار.
ثم قال: والذي بعث محمدا بالحق إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلق إلا خمسة أنوار نور محمد ونوري ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ومن ولده من
ص: 38
الأئمة لأن نوره من نورنا الذي خلقه الله عز و جل من قبل خلق آدم بألفي عام»(1).
روى الديلمي في مسنده: عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله معلقاً، يسبح الله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام؛ فلما خلق الله آدم ركب ذلك النور في صلبه، فلم نزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب فجزء أنا وجزء علي»(2).
إنّ ما أخرجه الديلمي في بيان تاريخ خلق نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام - مع خلوه من بيان لتاريخ خلق نور فاطمة عليها السلام - إلاّ أنه يعطي المعنى نفسه الذي يتضمنه هذا المبحث من بيان لمنزلة أهل البيت عليهم السلام منذ بدء خلق الخلق.
كما أن هذا الحديث يقدم صورة أخرى من حقيقة ارتباط نور النبي صلى الله
ص: 39
عليه وآله وسلم بنور الإمام علي عليه السلام، بل ذهب الحديث جنباً إلى جنب مع الأحاديث السابقة لبيان أن نورهما في الأصل هو نور واحد وظل هذا النور يسير في أصلاب الأنبياء وأرحام النساء عليهم السلام ابتداءً من آدم إلى إبراهيم وإسماعيل ثم انتقل منه إلى عبد المطلب فهنا تجزأ النور إلى جزأين جزء عند عبد الله عليه السلام والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجزء عند أبي طالب عليه السلام والد الإمام علي صلوات الله عليه ليخرج هذا النور من صلب عبد الله فيكون في الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وليخرج هذا النور من صلب أبي طالب ليكون في علي أمير المؤمنين عليه السلام.
وهذه الحقيقة لا يمكن لمؤمن عارف بالكتاب والسنة أن ينكرها أو يتجاهلها، وقد نطق بها القرآن الكريم قبل السنة المشرفة على صاحبها وآله آلاف الصلاة والسلام، فقال عزّ وجلّ في محكم تنزيله:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ (1) .
فقد نصت هذه الآية المباركة على أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا النبوة بقوله تعالى: وَ أَنْفُسَنٰا وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بهذه الكلمة هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام(2).
ص: 40
وحتى وإن لم يصرح بها البعض الآخر من المفسرين أو المحدثين، إما تغافلاً وأما ميلاً إلى معتقد أو حيداً عن الحق، فإن الصفة التي خرج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأفراد الذين أخرجهم معه من بين أفراد عشيرته وأقربائه ونسائه(1)، لا تحتاج إلى معرفة خاصة في التفسير أو دراية بالرواية لأنها كالصبح لمن كان له عينان.
أما وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً(2) .
وأما من كان متغافلاً فلن يغير من الحق شيئاً،
وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ (3) .
وأما من كان متحايداً فلن يضر الله شيئاً،
وَ يَأْبَى اَللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ (4) .
1. إن الوقت الذي خلق الله فيه نور فاطمة عليها السلام هو قبل خلق الخلق ب -
«أربعة عشر ألف عام» بمعنى: إن مرحلة الحساب الزمني ابتدأت عند خلق الله تعالى للخلق، فهذه اللحظة هي نقطة الانطلاق في تدوين الحقبة والمرحلة الزمنية لمراحل تكوين الخلائق وتثبيتها.
ص: 41
2. إن الظاهر في الأحاديث الشريفة أن المراحل الزمنية التي تتابعت في خلق الخلق كانت كل (14) ألف عام فالحديث الأول الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام قد أشار إلى إحدى هذه الحقب الزمنية بين خلق الله تعالى لهذه الأنوار وبين خلقه للخلائق، بينما أشار حديث الإمام الباقر عليه السلام إلى الحقبة الزمنية الثانية وهي بين خلق آدم وخلق الخلق فكانت (14) ألف عام، بدليل أن خلق الملائكة والسموات والأرض مقدم على خلق آدم عليه السلام كما هو واضح في قوله تعالى:
وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قٰالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمٰاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قٰالَ إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (1) .
فسياق الآية المباركة يدل بوضوح على تقديم خلق الملائكة على آدم.
أما لماذا أشار كل حديث إلى إحدى هذه الحقب الزمنية ؟ فيعود إلى مخاطبة الأئمة عليهم السلام، الناس على قدر عقولهم، قال علي عليه الصلاة والسلام:
«كلموا الناس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذبوا الله ورسوله»(2).
فقد لا يحتمل السائل معرفة أمور وحقائق عن خلق الخلق والنشأة.
3. قد ورد في الحديث الأول لفظ (ألف دهر) أي أن الإمام محمداً الجواد عليه السلام قد أشار إلى أن الحقبة الزمنية بين خلق الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة عليهم الصلاة والسلام وبين خلقه سبحانه وتعالى للخلائق ألف دهر.
ص: 42
في حين أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى أن الحقبة الزمنية بين خلقه سبحانه لأنوار محمد وأهل بيته أصحاب الكساء وبين خلقه للخلائق كانت (14) ألف عام بمعنى: أن الدهر الواحد كان مقداره (14) عاماً.
4. إنّ هذه الأنوار هي أرواح العترة النبوية الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين لقول الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام:
«فهي أرواحنا».
5. قد ورد في الأحاديث تكرر ذكر العدد (14) ويظهر من ذلك أن لهذا العدد منزلة عند الله تعالى، فقد جعله الرقم الذي تكتمل فيه الدورة الزمنية في تعاقب مراحل النشأة والتكوين؛ وهو العدد الذي تم فيه اكتمال المعصومين عليهم السلام لهذه الأمة فلم يجعلهم الله تعالى ثلاثة عشر ولا خمسة عشر.
6. قد دلّ الحديثان على تعاقب حقبتين زمنيتين قبل خلق نور الزهراء عليها السلام وهما ما بين خلق آدم عليه السلام وخلق الخلق وهي (14) ألف عام وهي الحقبة الأولى؛ والحقبة الثانية هي من خلق الخلق إلى خلق أنوار العترة الطاهرة عليها السلام والبالغة (14) ألف عام وهذا يدل على أن الحقبة الزمنية بين خلق نور الزهراء عليها السلام وخلق آدم (28) ألف عام.
إلا أن هذين الحديثين قد كشف كل منهما لإحدى هاتين الحقبتين.
7. ورد في الحديث الرابع عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بيان حقيقة إيمان أبي طالب عليه السلام مع ما تم ترويجه في المجتمع من ثقافة التجري على حرمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحد الذي وصل فيه الناس إلى
ص: 43
التجاهر بمحاربة رسول الله وإيذائه حينما يعلن ذلك في وجه أمير المؤمنين في تكفير أبي طالب عليه السلام مما دعا الإمام إلى توبيخ السائل وزجره مع بيان حقيقة هذه الادعاءات والغرض منها وهو محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإن الفاعل في ذلك هو معاوية وأسلافه وأشياعهم.
ولذا: نجد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد كشف للناس حقيقة منزلة أبيه عليه السلام عند الله تعالى وأنه ممن اصطفاهم الله لحفظ شرعه وحماية رسوله وسيد خلقه، فكان بيانه عليه السلام يدل على سابق لطف الله به منذ خلق أنوار محمد وعترته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولو كان القائل - ومن كان بمحضره - يستوعب المزيد لسمع من البيان لمنزلة أبي طالب وفضله عليه السلام، حتى إننا نرى أن الإمام قد اقتصر على ذكر الألفين من السنين وهي جزء من الأربعة عشر ألف لكي لا يكذّب السامعون قول الإمام عليه السلام آنذاك.
ص: 44
سنتناول في هذا المبحث الأحاديث التي ورد فيها الأصل الذي خلق الله منه نور فاطمة عليها السلام. وبما أن الأحاديث فيها أكثر من مضمون فقد أخذنا موضع الشاهد وتركنا بقية الحديث لما يناسب العناوين الأخرى في هذا المبحث وهي كالآتي:
فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«خلقها الله عزّ وجلّ من نوره قبل أن يخلق آدم»(1).
عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال، قلت له: لم سميت فاطمة الزهراء، زهراء؟ فقال:
«لأن الله عزّ وجلّ خلقها من نور عظمته..»(2).
ص: 45
عن أبي أيوب الأنصاري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لما خلق الله عزّ وجلّ الجنة خلقها من نور العرش، ثم أخذ من ذلك النور فقذفه، فأصابني ثلث النور، وأصاب فاطمة ثلث النور، وأصاب علياً وأهل بيته ثلث النور، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى إلى ولاية آل محمد، ومن لم يصبه من ذلك النور ضل عن ولاية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1).
عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أنه قال:
«ثم اقتبس من نور محمد فاطمة ابنته كما اقتبس نوره من المصابيح»(2).
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«يا سلمان خلقني الله من صفوة نوره ودعاني فأطعت، وخلق من نوري علياً فدعاه فأطاعه، وخلق من نوري ونور علي فاطمة فدعاها فأطاعته»(3).
ص: 46
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
«أن الله عزّ وجلّ خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين من نور واحد»(1).
إن المستفاد من هذه الروايات أن البضعة النبوية فاطمة الطاهرة عليها السلام قد خلقت من أنوار عدة أي بمعنى أن نورها خلقه الله عزّ وجلّ من الأنوار التي أشارت إليها الروايات وهذا لا يعني أن هناك اختلافاً في الروايات بل الذي عنته هذه الأحاديث أن نور فاطمة عليها السلام قد خلقه الله من هذه الأنوار لما فيه من حكمة ربانية يمكن استظهارها من هذه الأحاديث الشريفة نفسها وهي كما يأتي:
1 - نلاحظ أولاً أن هناك تدرجاً في مراحل خلق هذا النور وهي:
ألف/ مرحلة خلقه من نور الله تعالى.
باء/ مرحلة خلقه من نور عظمة الله جل شأنه.
جيم/ مرحلة خلقه من نور عرش الله عزّ وجلّ .
دال/ مرحلة خلقه من نور المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
هاء/ مرحلة خلقه من نور الوصي علي عليه السلام.
وهو أشبه ما يكون بمراحل تكوين الجنين في رحم أمه فانه يحتاج إلى أربعين أسبوعاً حتى يتمكن من الظهور بهذا الشكل الذي قدّره الله تعالى؛ وقد أشار
ص: 47
القرآن الكريم إلى هذه المراحل التكوينية في قوله تعالى:
ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ (1) .
وهذه السنة التكوينية نجدها أيضاً في خلقه تعالى للسماوات الأرض فقد جعل مراحل تكوينها في ستة أيام كي يأخذ الزمن استحقاقه في الخلق.
وإلا ف - إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2) .
ولهذه السنة فقد استلزم ظهور نورها أن يمر بهذه المراحل التي أشارت إليها الأحاديث الشريفة.
2 - دلت الأحاديث على حملها عليها السلام لخصائص الأنوار التي خلقت منها، بمعنى أن الله تعالى قد خلق من أنوار العترة النبوية عليهم السلام، الجنة والسماوات والملائكة والشمس والقمر وغيرها مما يدل على أن نور فاطمة عليها السلام قد حمل من خصائص تلك الأنوار التي خلق منها، أي انه حمل من خصائص نور الله ونور عظمته ونور العرش ونور الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ونور الوصي عليه السلام.
3. سنخية نور فاطمة عليها السلام بمعنى أن نورها سنخ من هذه الأنوار التي خلق منها، أي انها: بضعة من نور الله ونور عظمته ونور عرشه ونور حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ونور وصي حبيبه علي عليه السلام.
ص: 48
4. حصول نورها على الأثر الأعظم بمعنى إن الله تعالى قد جعل لنور فاطمة عليها السلام من الأثر ما لم يبلغه نور آخر فهو أشبه ما يكون بمصباحٍ جمعت فيه فتائل عدة وقد أوقدت في وقت واحد فكم يكون أثر نور هذا المصباح.
ولذا: نجد أن الأحاديث قد دلت على بلوغها عليها السلام مقامات سامية لم يبلغها أحد؛ لأنها أبضاع متعددة من تلك الأنوار التي خلقت منها، فلنورها من البهاء والجلالة والسناء والشرف والقوة والعلم ما لهذه الأنوار المقدسة مجتمعة.
ص: 49
إن من الأسئلة التي ترد على الذهن، هو أين كانت أنوار محمد وعترته صلوات الله عليهم أجمعين قبل أن يخلق الله تعالى السموات والأرض ؟ بمعنى آخر: بعد أن دلت الأحاديث السابقة إلى بدو خلق هذه الدنيا ومراحل الخلق والنشأة فلابد أنها كانت في محل خاص، فأين هذا المحل ؟
في البدء لا يمكن لنا الوقوف على هذه الإجابة من دون الرجوع إلى النبي الأعظم وعترته فهم أمناء الله على شرعه ومحال علمه وحكمته ومظهر أسمائه الحسنى.
ولذا: تفيد بعض الأحاديث - كما سيمر في حديث الأشباح - بأن هذه الأنوار كانت حول العرش؛ أما ما يخص البضعة النبوية فقد جاء البيان واضح الدلالة، مخصصاً في تعيين المكان الذي كان فيه نور فاطمة؛ أو حسبما نص عليه
ص: 50
لفظ الحديث: (كانت فاطمة) أي: ليس نورها بل هي، كما سيمر بيانه.
وعليه:
يكشف لنا الحديث الشريف - الآتي الذكر - خصوصية خاصة في منزلة فاطمة عليها السلام، فضلاً عن إتباع النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم منهاجاً خاصاً في تعريف الناس بفاطمة على وجه الخصوص لأسباب عديدة من بينها أن ذلك الفعل النبوي كان يراد منه حفظ مقامها وعدم التعرض لحرمتها وانتهاك حدود الله في ذلك.
أما ما بيّنه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من كون وجودها عليها السلام في عالم الأنوار والأرواح فكان كالآتي:
روى الشيخ الصدوق رضي الله تعالى عنه بسنده (عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن سدير الصيرفي، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«خلق نور فاطمة عليها السلام قبل أن تخلق الأرض والسماء».
فقال بعض الناس: يا نبي الله فليست هي إنسية ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«فاطمة حوراء إنسية».
قال: يا نبي الله وكيف هي حوراء إنسية ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم، إذ كانت الأرواح، فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت على آدم».
ص: 51
قيل: يا نبي الله، وأين كانت فاطمة ؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«كانت في حقة تحت ساق العرش».
قالوا: يا نبي الله، فما كان طعامها؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«التسبيح والتهليل والتحميد، فلما خلق الله عز وجل آدم وأخرجني من صلبه، أحب الله عز وجل أن يخرجها من صلبي، جعلها تفاحة في الجنة، وأتاني بها جبرئيل عليه السلام فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد؛ قلت: وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرئيل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، قلت: منه السلام وإليه يعود السلام، قال: يا محمد، إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة، فأخذتها وضممتها إلى صدري، قال: يا محمد يقول الله جل جلاله كلها؛ ففلقتها فرأيت نورا ساطعا ففزعت منه، فقال: يا محمد ما لك لا تأكل ؟ كلها ولا تخف، فإن ذلك النور المنصورة في السماء، وهي في الأرض فاطمة.
قلت: حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء المنصورة، وفي الأرض فاطمة ؟
قال: سميت في الأرض فاطمة لأنها فطمت شيعتها من النار وفطم أعداؤها من حبها، وهي في السماء المنصورة وذلك قول الله عز وجل:
وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللّٰهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ (1).
يعني نصر فاطمة لمحبيها»)(2).
ويشتمل الحديث على مسائل عدة، وهي كالآتي:
ص: 52
إن من الملاحظ في الحديث النبوي الشريف، هو ابتداء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث عن بيان منزلة فاطمة عليها السلام وتحديداً عن نورها من دون مقدمات أو مناسبة دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذا البيان أو لعل ذلك من دون مناسبة أو مقدمة كي يشد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أذهان الناس إليه ويحرك عقولهم في التفكير بهذا الخطاب أو الحديث المفاجئ.
والظاهر في أجواء الرواية أن هذا هو القصد في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الناس انهالوا عليه بالأسئلة.
كما هو واضح من خلال قول الإمام الصادق عليه السلام فقال بعض الناس.
والملاحظ أيضاً أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحدث لهم عن نور فاطمة عليها السلام في حين انصرف ذهن السامعين على نفس فاطمة عليها السلام وليس إلى مقصد النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا قال السائلون: يا نبي الله فليست هي إنسية ؟
والعلة في انصراف ذهن السائلين إلى نفس فاطمة دون نورها هو للأسباب الآتية:
1 - لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى الزمن الذي خلق
ص: 53
فيه نور فاطمة وهو قبل خلق السموات والأرض، وهذا يتعارض مع مبدأ خلق آدم عليه السلام وإسكانه الأرض وأن فاطمة بالأسباب المادية هي من ذرية آدم فكيف تكون مخلوقة قبل السموات والأرض مع كونها إنسية أي من جنس الإنسان كما أنها ليست من الملائكة الذي تقدم خلقهم على خلق الإنسان.
2 - لعل الناس لم يعهدوا من قبل أنهم قد سمعوا من النبي الأكرم أحاديث عن عالم الأنوار والأرواح أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد حدث بذلك إلا أن هؤلاء الجالسين لم يشهدوا هذه الأحاديث فكانت غريبة عليهم.
3 - لعدم تمكّنهم من الفصل بين كون محمد وعترته أنواراً في بدو خلقهم وبين كونهم إنسيين يمشون ويأكلون ويولدون ويتولدون ومن ثم لا يمكن الجمع بين الجنسين جنس النور وجنس الإنس في هيئة واحدة.
وهو ما دل عليه تكرار السؤال على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أجاب على السؤال الأول بقوله:
«فاطمة حوراء إنسية».
أي إنها عليها السلام قد جمعت جنسين في هيئة واحدة، وهي هذه الهيئة التي ترونها وتسمعون صوتها وتحدثونها فهي حوراء، أي من الحور العين، من عالم الجنة والنور، وفي الوقت نفسه من عالم الأرض من بني الإنسان.
لكن هذا الجواب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث في الأذهان طاقة أكبر على التفكير والسؤال فقالوا له:
وكيف هي حوراء إنسية ؟
ص: 54
أي: لا يمكن استيعاب المسألة لاسيما وهم لم يسمعوا من قبل بمثل هذا الحديث ولم تصل الى مسامعهم من قبل هذه الحقائق حتى مع ما علموه من أخبار عن مريم عليها السلام، إذ لم تكن بتلك المنزلة والخصوصية الخاصة.
فكان البيان النبوي الكاشف عن حقيقة فاطمة عليها السلام جاء في رده صلى الله عليه وآله وسلم على سؤالهم قائلاً:
«خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح، فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت على آدم».
حينما علم الناس أن فاطمة عليها السلام قد خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح، لزم عليهم الآن أن يعلموا أين كانت قبل خلق آدم عليه السلام ؟ إذ إن هذا الوجود يقتضي أن ينال محلاً.
ولذا: اتبعوا جواب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على سؤالهم من كيفية أن تكون فاطمة حوراء إنسية بسؤال جديد فقالوا: يا نبي الله، وأين كانت فاطمة ؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«كانت في حقة تحت ساق العرش».
ويمكن لنا الوقوف عند دلالة الحديث من خلال أمرين، الأمر الأول: الدلالة اللغوية، والثاني: الدلالة الوجدانية.
فالحقة: هي الوعاء، ومنه حُقَّة نقود، وهو وعاء مغلق مثقوب تحفظ فيه
ص: 55
النقود(1) والحقوة هي الأزرار(2).
أي بمعنى: إنها عليها الصلاة والسلام، كانت في وعاءٍ تحت ساق عرش الله عزّ وجلّ .
والحديث فيه بيان لمنزلتها الكبيرة عند الله تعالى، بل إنه يشير إلى الاعتناء الخاص بفاطمة عليها السلام.
لأن الناس باختلاف ثقافاتهم وإدراكاتهم ومعتقداتهم إذا أراد الفرد منهم أن يتعامل مع الأشياء الثمينة والمهمة فإنه يضعها في مكان خاص ويحيطها بوسائل عدة ليحفظها، وتراه يحرص عليها أشد الحرص ولا يبديها إلاّ لأخلص خلصائه علماً أن الغاية في فعل ذلك قد تختلف بحسب نوع هذا الشيء الثمين وأهميته، ومن خلال هذه الأهمية يتحدد نوع الوسيلة والأسلوب المتبع في التعامل مع هذه الأشياء؛ فمنهم من يفعل ذلك حباً لهذا الشيء، ومنهم من يفعل ذلك خوفاً من أمر ما، ومنهم من يكون الباعث في فعله الاستعانة؛ إلى غيرها من العلل والغايات في سلوك هذا الأسلوب.
إلا أن الجامع المشترك في جميع هذه الغايات والعلل هو: أهمية هذا الشيء وثمنه ونفاسته، وكلما كبرت هذه المعاني كبر حجم الاعتناء بهذا الشيء الثمين.
ومن هذا المعنى: فإن وجود فاطمة عليها السلام في حقة تحت ساق العرش هو: غاية كبرى في الاهتمام والعناية.
ص: 56
وهي عند الله تعالى بمحل لا يعلمه إلا هو سبحانه، لأنه صاحب العرش وهو أعلم بما تكون فاطمة عليها السلام التي جعلها في وعاء تحت ساق العرش، جلت قدرته، وعز شأنه فسبحان من،
لاٰ يُسْئَلُ عَمّٰا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (1) .
ما زال الناس لم يفرقوا بين نور فاطمة عليها السلام وبين نفس فاطمة الإنسية التي بين ظهرانيهم حتى مع ذلك البيان الذي قدمه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك: نجدهم يسألون النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عن طعام فاطمة عليها السلام حينما كانت في حقة تحت ساق العرش على الرغم من أن منطلق حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عن نور فاطمة عليها السلام.
إلا أن السؤال - كما قيل: رب ضارة نافعة - كان نافعاً جداً؛ إذ جاء الجواب النبوي ببيان جديد يكشف عن حقيقة أخرى من حقائق شأن فاطمة ومنزلتها عند الله تعالى.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم رداً على سؤالهم عن طعام فاطمة عليها السلام، إنه:
«التسبيح، والتهليل، والتحميد».
ص: 57
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الموضع، هو: ما هي الحكمة في جعل طعام نور فاطمة عليها السلام التسبيح والتهليل والتحميد، والحاجة إلى الطعام من لوازم البدن ؟
وأقول:
أولا: لم يزل الناس - كما أسلفت - لم يفرقوا بين نور فاطمة عليها السلام ونفسها الإنسية فذهبوا بهذه العلة إلى السؤال عن طعام فاطمة بلحاظ أنها إنسية، ومن لوازم وجودها الطعام، في حين كان جواب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعيد الأذهان إلى جادة التفكير الصحيح فيقوم لهم المنهج التفكيري فيجيبهم بأن طعامها التسبيح والتهليل والتحميد وإن هذا الطعام يختلف عن طعام الإنس، لأن الإنسان يحتاج إلى ما تنبته الأرض وإلى اللحوم والماء ليتناسب ذلك مع طبيعة بدن الإنسان ومادته.
أما التسبيح والتهليل والتحميد فهو من لوازم عالم الأمر، عالم الجنة، والنور والسماء، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحدثهم عن نور فاطمة وليس عن إنسية فاطمة.
ولكن يبقى السؤال قائما لماذا استخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفس الرؤية التي تبادرت في ذهن الناس فبين لهم أنها كانت تطعم، وطعامها من نوع خاص يتلاءم مع ذلك العالم ؟
بمعنى آخر: كان بالإمكان أن يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سؤالهم بأنها لم تكن بحاجة إلى طعام لأنها من النور والحاجة إلى الطعام من لوازم
ص: 58
الحياة لأنه يدل على النمو والزيادة.
ثانيا: وهناك سؤال آخر، وهو: أن هذا التسبيح والتهليل والتحميد لا يرقى بها إلى التفاضل بلحاظ محدودية المنزلة والشأنية التي عليها في عالم النور والأرواح، قبل خلق آدم.
وحيث إنها لا تحتاج إلى النمو والزيادة لكونها نوراً فهي بذاك لا تحتاج إلى طعام.
بمعنى آخر: يحتاج عباد الله تعالى إلى التعبد وذكر الله لغرض الارتقاء وزيادة الأجر والثواب والتفاضل - عند ذلك - في المنازل الأخروية أما قبل ذلك، أي قبل خلق آدم عليه السلام فهذا التسبيح والتهليل لا يزيد في شأنية فاطمة بحيث ترتقي إلى مقام أسمى مما هي فيه فقد جعل الله سبحانه الإمام علياً عليه السلام أفضل منها وجعل رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم سيد خلقه وأفضل أنبيائه ورسله.
وعليه: ما هي الحاجة إلى ذلك التسبيح والتهليل ؟ ولماذا جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الطعام ؟
وأقول:
أولاً: إنّ التفاضل في العبادة من لوازم عالم الدنيا عالم التكليف أما قبل ذلك فقد كان من لوازم العبودية المحضة لله كتعبد الملائكة فهم لا يتفاضلون بعبادتهم لأنهم جبلوا على ذلك وخلقوا لهذا العمل، وعليه كان ذكرهم لله في مقام العبودية المحضة المنزهة من الشهوات الدنيوية والابتلائية.
ص: 59
ثانيا: إن حال فاطمة هنا يختلف؛ إذ إن تسبيحها وتهليلها وتحميدها لله عز وجل كان بمنزلة القيمومية وليس النمو؛ بمعنى آخر: إنّ هذا النور يكون قائماً ومتوهجاً ومضيئاً ومشرقاً من خلال التسبيح لله تعالى وتهليله وتحميده جلت قدرته.
أي إن قوامه كان بهذه الأذكار كما أن قوام المصباح يكون بالزيت، فالمصباح يحتاج إلى الزيت لا لكي ينمو ويزداد حجمه وإنما يحتاج إليه لقيموميته.
ولذلك نجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أجاب السائلين بالرؤية الذهنية نفسها التي نطقها سؤالهم إليه، فقالوا: (يا نبي الله فما كان طعامها)، وهو في الوقت نفسه كشف لهم عن حقيقة خلقها وفضلها ومنزلتها عند الله تعالى.
أما بقية دلالات الحديث فسنعرض لها إن شاء الله تعالى حسب ما يناسبها من عناوين الكتاب كخلقها من ثمار الجنة، أو معاني أسمائها، أو منزلتها في القرآن وغير ذلك.
ص: 60
قد مرَّ علينا في السابق أن الله تعالى قد خلق من نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنوار العترة الطاهرة كل خير، وهم كانوا فاتحة الوجود وبهم تكون خاتمته.
وفي هذا الفصل نقوم بذكر الأحاديث التي أفصحت عن الخيرات التي خلقها الله تعالى من نور فاطمة الزهراء عليها السلام.
في حديث طويل نأخذ منه موضع الشاهد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ثم - إن الله - فتق نور ابنتي فاطمة فخلق منه السماوات والأرض، فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة، ونور ابنتي فاطمة من نور الله، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض»(1).
ص: 61
عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
«إن الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة - عليهم السلام - من نورٍ، فعصر ذلك النور عصرة فخرج منه شيعتنا فسبحنا فسبحوا، وقدسنا فقدسوا، وهللنا فهللوا ومجّدنا فمجّدوا ووحّدنا فوحّدوا»(1).
يظهر الحديث مجموعة من الدلالات وهي كالآتي:
1 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن الله خلقني وخلق علياً» هو إشارة إلى أن الله تعالى أول ما ابتدأ في الخلق خلق نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم عندما سأله جابر بن عبد الله عن أول شيء خلقه الله عزّ وجلّ فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم:
«أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر»(2).
وإن هذا النور المحمدي فيه تلازم مع النور الذي خلق الله منه علياً عليه السلام.
ص: 62
ولذلك نجده صلى الله عليه وآله وسلم أعاد كلمة
«الخلق» في علي عليه السلام ولم يقل:
«خلقني وعلياً».
2 - هو تأكيد منه صلى الله عليه وآله وسلم على اشتراكهم جميعاً بالنور الذي خلق الله منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي بمعنى: أن الله تعالى خلق حبيبه المصطفى من نورٍ، ثم خلق علياً وفاطمة والحسن والحسين من ذلك النور نفسه وهو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من نور».
ولذلك نجد أن الحديث وردت فيه كلمة (الخلق) مرتين.
3 - إنّ هذا الحديث يدل على بيان منزلة شيعة(1) أهل البيت عليهم السلام على سائر الأمة بل على أتباع الأنبياء عليهم السلام لاختصاصهم بالأشرف والأفضل على ما خلق الله عزّوجلّ وهو حبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عدل القرآن وثاني الثقلين(2).
ص: 63
4 - إنّ شيعة أهل البيت عليهم السلام مخلوقون من نورهم عليهم السلام وبهذه العلة كانوا تبعاً لهم وشيعة.
5 - قد يستوقف القارئ لفظ (فعصر ذلك النور) فيرى عدم تناسب دلالة العصر مع ماهية النور؛ إذ إن العصر يدل على اختصاص الفعل بالمادة الصلبة أو المواد التي لها كثافة كعصر العنب أو التمر أو المعادن لتصغير حجمها وصناعة الآلات وغير ذلك.
أما أن يكون العصر في النور فهذا يصعب فهمه ودلالته ؟
وأقول: مما لا يخفى على القارئ الكريم أن النور وإن لم تكن له كثافة كما لغيره من المواد إلا أنه يتكون من جزيئات وذرات وهذه الذرة تتكون من نواة ونيوترونات وإنه بالإمكان عصر هذه الجزيئات ودمجها أو فكها حسب ما هو مقرر عند الكيميائيين وبطرق مختلفة؛ وعليه: تصبح إمكانية العصر للنور واقعة ومنتجة لنور آخر يكون تبعاً لذلك النور؛ وهذا فضلاً عن استخدام الموشور البلوري لتحليل الضوء الأبيض إلى الألوان الأساسية وغير ذلك.
ص: 64
عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
«إن الله عزّ وجلّ خلقها من نور عظمته فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها وغشيت أبصار الملائكة وخرّت لله ساجدين وقالوا: إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري وأسكنته في سمائي خلقته من عظمتي أخرجه من صلب نبي من أنبيائي أفضله على جميع الأنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري يهدون إلى حقي وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي»(1).
مسائل البحث في الحديث:
ص: 65
إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يعرف الملائكة بفاطمة عليها السلام، فإن هذه المعرفة تستلزم الظهور أي: ظهور فاطمة عليها السلام، كما هو الحال عندما نريد أن نتعرف على الشمس فلا بد للشمس أن تظهر وظهورها هو إشراقها وإضاءة نورها الذي يضيء الأرض.
ومع أن معنى أشرقت: أطلعت كما تشير مصادر اللغة(1)، إلاّ أن هذا المعنى لا يفي بالغرض، بدليل: أننا لا نقول لظهور القمر وطلوعه بالشروق، أو عند طلوع كوكب الزهرة بنوره المزرّق، انه أشرق بالشروق.
ومن هنا: فإن معنى (أشرقت) يفيد بظهور النور الذي له إضاءة كبيرة تطغى على ذرات الظلام فتحولها إلى ذرات مضيئة، وهي أي: (أشرقت) تفيد أيضاً بالسعة النورانية لحد الشمولية في الحيز المشرق فيه هذا النور، فتصبح الإضاءة شاملة لكل ذرات الفضاء المنبثق فيه هذا النور.
ومن هذا المعنى: فإن المراد من قول الإمام الصادق عليه السلام:
«فلما أشرقت - فاطمة - أضاءت السماوات والأرض بنورها» أي: إنها لما طلعت وبدت وظهرت فاطمة عليها السلام أضاء نورها السماوات والأرض، وهو يدل على الإحاطة من كل الجهات، أي: انعدام تحقق الظلمة.
ومن هذا المعنى نستدل على أن نور فاطمة عليها السلام في حال إشراقه أي ظهوره أحاط بالسماوات والأرض من جميع الجهات فلم تبقَ أجزاء مظلمة في
ص: 66
السماوات بل إن كل ذرة في السماوات والكون أحاط بها هذا النور الفاطمي.
وهذه السعة وهذه الإحاطة هي من خواص الكرسي وهو قوله تعالى:
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ (1) .
وجميع هذا المعنى لا يمكن أن يتحقق ويثبت في القلب إلا من حيث كونها من نور الله عزّ وجلّ :
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ نُورٌ عَلىٰ نُورٍ يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (2) .
وقد جاء في معنى هذه الآية المباركة وبيان تأويلها الذي ورد عن الإمام الحسن الزكي العسكري عليه السلام:
أن
«المشكاة» هي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها(3).
ولنا عودة لها في باب أسماء فاطمة الزهراء عليها السلام إلا أننا نقول:
إنّ معنى لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ هو انعدام الظلمة، لأن المشرق هو جهة ظهور
ص: 67
الشمس وإضاءة نورها، والمغرب هو ذهاب الشمس وغياب نورها، ولهذا السبب أطلقت التسمية على جهة المشرق والمغرب، ولكن لو حدث أن شمساً أخرى ظهرت من المغرب وأن هاتين الشمسين تظهران في وقت واحد فإن الأرض لا يصبح فيها مشرق ولا مغرب أي: لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ .
ومن هنا: فإن فاطمة لما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها، وبمعنى آخر: أن نور فاطمة أضاءَ السماوات والأرض وأحاط بهما من كل الجهات، هذه الإحاطة أسقطت وألغت معنى الشروق والغروب لعدم وجود الظلمة.
إنّ الحديث يظهر مزية أخرى لهذا النور الفاطمي ألا وهي: شدة الإضاءة التي عبر عنها قوله عليه السلام:
«فغشيت أبصار الملائكة».
ومثاله كمن وقف في منتصف النهار في فصل الصيف ينظر إلى قرص الشمس، أو كمن أبصر في مصباح عظيم التوهج فإن العين بكلا الحالين تصاب ب - (الغشاوة)، أي كمن وضع غشاء أو غطاء على العين فلا يبصر شيئاً إلا أن الغطاء لا ينزل ألماً واضطراباً في العين لأن العين في وضع الغطاء تكون قد حفظت عصب الرؤيا من التأثر وهو عكس النظر إلى قرص الشمس فإن عدسة العين تنحصر وتضيق إلى درجة كبيرة لحفظ شبكيتها من التأثر بهذا الضوء فلذلك جاءت كلمة: غشاوة ولم يقل غطاء وهو قوله تعالى:
ص: 68
فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ (1) .
وهو يفيد عدم الرؤيا بسبب إصابة عصب العين وعجزه عن النظر، بينما يفيد قوله تعالى:
فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ(2) .
هو سلامة العين ونفوذ بصرها وقوة التقاطها للصور فهي كقوة الحديد وصلابته. إذ إنّ العين لها محيط محدود لا يمكن تجاوز حدوده بينما عين النبي صلى الله عليه وآله وسلم محيط درجة النظر فيها دائرية أي إنه ينظر من الأمام واليمين والخلف والشمال والأعلى والأسفل في وقت واحد.
أي إن النظرة الواحدة منه صلى الله عليه وآله وسلم تكون في جميع الجهات وفي أبعد المسافات فإنه يرى سدرة المنتهى ويرى الأرض السابعة - وسيأتي بيانه بشكل أوضح لاحقاً إن شاء الله تعالى -.
ومن هنا فإن سبب سجود الملائكة لله عزّ وجلّ عندما غشي نور فاطمة أبصارهم ما هو إلا اعتراف بعظمة الله الذي خلق هذا النور وخصه بهذه الخصائص.
قبل أن نبين وجه التفضيل في نور فاطمة صلوات الله عليها على جميع
ص: 69
الأنبياء عليهم السلام، لا بد من التفريق أولاً بين النبي والرسول سلام الله عليهم أجمعين.
ففي الرواية التي رواها الصفار في البصائر عن زرارة قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام من الرسول، من النبي، من المحدث ؟ فقال:
«الرسول: يأتيه جبرائيل فيكلمه قبلا فيراه كما يرى الرجل صاحبه الذي يكلمه، فهذا الرسول، والنبي: الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذا أتاه جبرائيل هكذا النبي.
ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبياً يأتيه جبرائيل قبلا فيكلمه ويراه في النوم، والنبي الذي يسمع كلام الملك حتى يعاينه فيحدثه»)(1).
فهذا هو الفرق بين النبي والرسول.
والحديث نص على تفضيل النور الفاطمي على الأنبياء خاصة دون الرسل؛ ووجه التفضيل في هذا النور هو لاختصاص النور الفاطمي بأنوار الإمامة واحتوائها فهي أم الأئمة وأم الأنوار وحقة النور التي كانت تحت ساق العرش.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى أن مقام الإمامة كان مما تتمناه الأنبياء وتتوق في الوصول إليه، ونيل فضل الله فيه، وهي، أي الإمامة موضع ابتلاء الله وعهده الأكبر قال تعالى:
ص: 70
وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ (1) .
فقد دلت الآية على ابتلاء إبراهيم الخليل عليه السلام بها ولشدة فرحه بها سأل الله تعالى أن يجعلها في ذريته فكانت في رسول الله الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذريته وعترته من خلال بضعته النورانية الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء صلوات الله عليها أي في أولادها الأئمة وهم: (الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجة بن الحسن المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً) صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ص: 71
كل شيء خلقه الله تعالى وجعل فيه الروح فقد أراد منه سبحانه العمل، لأن بالعمل يسعى الكل لإثبات كيانه، ثم هو بيان للمصلح من المفسد وتعريف للتقي من الفاجر.
ولولا العمل لما ظهرت حقيقة الأشياء العاملة، فمن خلال العمل ظهرت حقيقة إبليس، ومن خلال العمل أيضاً أخرج آدم من الجنة.
وللعمل خُلقَ الإنسان، وخصص الله للعمل أكثر من موضع يوم القيامة، فالميزان والصراط والحوض وغيرها إنما أعدت للعمل، وعلى أية حال فإن الحديث عن هذا الجانب له تفرعات كثيرة نأتي إليها إن شاء الله في منزلة فاطمة عليها السلام في السنة.
لكن أردت أن أذكر في هذا المبحث أو أعرض بين يدي القارئ الكريم العمل الذي كان يقوم به نور البضعة النبوية فاطمة الزهراء عليها السلام.
فعن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل أنه قال:
ص: 72
«... ثم خلق الله السماوات والأرض وخلق الملائكة، فمكثت الملائكة مائة عام لا تعرف تسبيحاً ولا تقديساً ولا تمجيداً فسبحنا وسبحت شيعتنا فسبحت الملائكة لتسبيحنا، وقدسنا فقدست شيعتنا فقدست الملائكة لتقديسنا، ومجّدنا فمجدت شيعتنا فمجدت الملائكة لتمجيدنا، ووحدنا فوحدت شيعتنا، فوحدت الملائكة لتوحيدنا، وكانت الملائكة لا تعرف تسبيحا ولا تقديسا من قبل فنحن الموحدون حيث لا موحد غيرنا»(1).
1 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«فسبحنا» المراد به نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته الطاهرون عليهم السلام وهذا يدل على أن نور فاطمة عليها السلام كان يسبح ويهلل ويمجد ويقدس ويوحد الله عزّ وجلّ وكان يعلم الملائكة ذلك كله.
يشير قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«فمكثت الملائكة مائة عام لا تعرف تسبيحاً ولا تقديساً، فسبحنا فسبحت شيعتنا، فسبحت الملائكة».
المراد به: أن الإذن من الله عزّ وجلّ في تعليم الملائكة التسبيح والتهليل إنما
ص: 73
كان بعد مرور مائة عام على خلقها.
أما الطريقة في التعليم فهي من خلال كشف الحجاب عن السمع فقد أسمعها الله تعالى تسبيح رسوله وأهل بيته عليهم السلام وشيعتهم فعندها سبحت الملائكة.
لا يتوهم أن معنى (فسبحنا) هو ابتداء تسبيحهم عليهم السلام مع ابتداء الملائكة أي إنهم عليهم السلام كانوا أيضاً ماكثين دون تسبيح فهذا وهم ؟ لأن الروايات الكثيرة تخبر عن أنهم عليهم السلام كانوا منذ أن خلقهم الله أنواراً معلقة تسبح الله وتهلله ومما يدل عليه أيضاً، قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عزّ وجلّ يسبح الله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق الله آدم بألف عام، فلما خلق الله آدم ركب ذلك النور في صلبه فلم يزل في شيء واحد، حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ففيّ النبوة، وفي علي الخلافة»(1).
ص: 74
إنّ الإجابة على هذا السؤال ربما بدت واضحة لدى القارئ الكريم من خلال ما مرّ عليه في الفصول السابقة، لكن أحببت أن أورد هذا الحديث إتماماً للفائدة وحصول الأجر والثواب.
فقد أورد الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى في أماليه حديثاً طويلاً تضمن مسائل كثيرة يسألها رجل من أهل الكتاب للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نورد هذا السؤال وجوابه الذي يعرفنا بنور فاطمة عليها السلام.
قال اليهودي: (فأخبرنا عن خمسة أشياء مكتوبات في التوراة أمر الله بني إسرائيل أن يقتدوا بموسى فيها من بعده، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
فأنشدتك الله إن أنا أخبرتك تقرّ لي، قال اليهودي نعم يا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.
قال: فقال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أول ما مكتوب في التوراة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي بالعبرانية
«طاب».
ص: 75
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية:
يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ (1) ، يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ (2) .
وفي السطر الثاني: أسم وصيي علي بن أبي طالب، والثالث والرابع: سبطي الحسن والحسين، وفي السطر الخامس أمهما فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام، وفي التوراة أسم وصيي (إليا)، وأسم السبطين (شبر وشبير)، وهما نورا فاطمة عليها السلام)(3).
مسائل البحث في الحديث:
قول السائل: أمر الله بني إسرائيل أن يقتدوا بموسى فيها من بعده هذا السؤال يتكون من شطرين: الشطر الأول: أن يقتدوا بموسى فيها، والشطر الثاني: (من بعده)؛ فالشطر الأول المراد منه: أن الله كان قد أمر موسى الكليم أن يؤمن هو بها أولاً في حياته، ويؤمن أن هؤلاء هم خير خلق الله، وأكرمهم عنده، ولأجلهم خلق الله الأفلاك، فمن أراد القرب من الله والتوجه إليه فلا بد له من اتخاذ الوسيلة التي أمر الله عباده بها فقال عزّ وجلّ :
ص: 76
وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ (1) .
وإنّ هذه الوسيلة ابتغاها الأنبياء عليهم السلام من قبل موسى، فقد ابتغاها آدم عليه السلام فدعا الله بها، وتوجه إليه بهم، سائلاً ربه عزّ وجلّ ، أن يتوب عليه بحقهم، وقد حكى أبو الليث السمرقندي، وغيره: أن آدم عليه السلام قال عند معصيته: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي، وتقبل توبتي، فقال له عزّ وجلّ : من أين عرفت محمداً؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك(2).
وروى الآجري بلفظ آخر: فقال آدم: لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت مكتوباً على العرش فإذا فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحدٌ أعظم قدراً عندك فجعلت اسمه مع اسمك(3).
فمنذ تلك اللحظات الأولى التي رأى فيها آدم العرش، ودخوله الجنة أدرك أن صاحب هذا الاسم هو أعظم الخلق قدراً وأكرمهم منزلاً عند الله، ومن خلال هذه المعرفة أوحى إليه الله أن يدعوه بالكلمات.
فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ (4) .
وأول هذه الكلمات هي: (محمد) وثانيها (علي) وثالثها (فاطمة) ورابعها
ص: 77
(الحسن) وخامسها (الحسين)(1).
فَتٰابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ (2) .
وعلى هذا النهج سارت الأنبياء عليهم السلام وهو الميثاق الذي أخذ الله عليهم بأن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً فينصرونه ويدعون قومهم إلى الإسلام ويبشرونهم به، وهو قوله تعالى:
وَ إِذْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قٰالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قٰالُوا أَقْرَرْنٰا قٰالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ (3) .
وما من نبي إلا وقد أعلن إسلامه وكان دينه الذي يدين الله به هو الإسلام وما من نبي إلاّ وقد دعا أتباعه وقومه الذين آمنوا به إلى دين الإسلام وعرفهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبأهل بيته الطاهرين عليهم السلام؛ لأن من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجب عليه إتباعه وطاعته والتمسك بكتابه الذي
ص: 78
أنزل الله عليه وهو القرآن الكريم وبأوصيائه وخلفائه الأئمة الاثني عشر.
فها هو القرآن الكريم يفصح عن نهج الأنبياء عليهم السلام وسيرتهم ابتداء من أولهم بعثاً وهو آدم عليه السلام وكيف كان حاله وتوسله إلى الله بهم عليهم السلام ثم نوح عليه السلام قائلاً للذين تولوا عنه وأعرضوا عنه:
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمٰا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (1) .
ثم إبراهيم الخليل عليه السلام وحقيقة الدين الذي اعتنقه فقال عزّ وجلّ :
مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاٰ نَصْرٰانِيًّا وَ لٰكِنْ كٰانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (2) .
وهو النهج نفسه الذي دعا إليه ولده إسماعيل فكانت دعوتهما إلى الله أن يجعلهما مسلمين:
رَبَّنٰا وَ اِجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنٰا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنٰا مَنٰاسِكَنٰا وَ تُبْ عَلَيْنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ (3) .
ولعظم الأمر وأهميته البالغة فقد جعله إبراهيم ومن بعده يعقوب عليهما السلام خير ما يوصيان به أبناءهم:
وَ وَصّٰى بِهٰا إِبْرٰاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يٰا بَنِيَّ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ لَكُمُ اَلدِّينَ فَلاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ
ص: 79
وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1) .
وهل غير الإسلام دين اصطفاه الله لأنبيائه وأبنائهم حتى إن بعضهم أخذ يسأل الأبناء عن حقيقة دينهم الذي يعبدون به الله فيكون جوابهم إقراراً وتقريراً منهم وإمضاء لما يقولون:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدٰاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قٰالَ لِبَنِيهِ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قٰالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَكَ وَ إِلٰهَ آبٰائِكَ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِلٰهاً وٰاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (2) .
أما يوسف عليه السلام فقد ظل يدعو الله أن يتوفاه على هذا الدين ويلحقه بالصالحين فقال:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ فٰاطِرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ (3) .
حتى إذا بعث موسى الكليم عليه السلام وأخذ يدعو قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد فإنه لم يدعُهم إلاّ إلى الدين القيم الذي دان الأنبياء له ولم يؤمن به إلا طائفة قليلة، أو هي ذرية من قومه كما وصفهم القرآن:
فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعٰالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ (4) .
ص: 80
وعلى الرغم من تلك المخاوف ومن قلتهم إلا أنه عليه السلام ذكرهم بأمر مهم فلا اعتبار لفرعون وقوته، فهو الأساس في قوة هذه الطائفة القليلة:
وَ قٰالَ مُوسىٰ يٰا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (1) .
وتلك حقيقة أدركها صنفان من بني إسرائيل، صنف آمن ودعا الله أن يمنَّ عليه بحسن العاقبة وأن يختم لهم أعمارهم وهم مسلمون لله وهؤلاء السحرة:
وَ مٰا تَنْقِمُ مِنّٰا إِلاّٰ أَنْ آمَنّٰا بِآيٰاتِ رَبِّنٰا لَمّٰا جٰاءَتْنٰا رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ تَوَفَّنٰا مُسْلِمِينَ (2) .
وصنف لم يؤمن حتى أدركه العذاب فآمن بحقيقة الدين الذي آمنت به بنو إسرائيل لعله ينجو من الهلاك. لكن هيهات فلم ينفعه إقراره وإعلانه عن إيمانه بهذا الدين.
وكأن القدر ساقه إلى هذا المصير لكي يسجل له هذا الاعتراف الذي كشف من خلاله عن حقيقة الدين الذي عليه بنو إسرائيل. فقال عزّ وجلّ :
وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قٰالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (3) .
ثم جاء نبي الله عيسى عليه السلام مكملاً لخطى الأنبياء السابقين في دعوتهم
ص: 81
إلى الإسلام ومبيناً لقومه ما بينه الأنبياء لقومهم وما كانوا يدعونهم إليه وهو الإسلام، فلم يؤمن بدين عيسى عليه السلام إلا طائفة قليلة:
فَلَمّٰا أَحَسَّ عِيسىٰ مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ قٰالَ مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اَللّٰهِ قٰالَ اَلْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اَللّٰهِ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّٰا مُسْلِمُونَ (1) .
ومن خلال هذا العرض الذي قدمه القرآن الكريم نجد أن الأنبياء جميعهم عليهم السلام كانت تدين بدين الإسلام وهو الدين الذي اختاره الله لهم، بل هو الدين الذي من أجله بعثهم إلى خلقه ليعرفوهم بدينه الذي ارتضاه وبنبيه الذي اصطفاه على العالمين واجتباه من بينهم فكان حقاً عليهم (عليهم السلام) أن يأمروا قومهم باتباع دين الإسلام والإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبأهل بيته الطاهرين المطهرين من الرجس.
وعليه: فإن المراد من قول السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (عن الكلمات التي أمر الله بني إسرائيل أن يقتدوا بموسى فيها)! كانت هذه الكلمات هي: (محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين) وهي الكلمات التي كان موسى عليه السلام يؤمن بها.
أما الشطر الثاني من قول السائل: (من بعده) فالمراد من هذا القول هو: أن يؤمنوا بهذه الكلمات من بعد موسى عليه السلام وعندما يدركون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أي بمعنى أن الله أمرهم إذا أدركوا زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا ببعثته أن يؤمنوا به ويدينوا بدينه وهو الإسلام؛ لأنه
ص: 82
الدين الذي كان يؤمن به نبي الله موسى عليه السلام فلزم على الذين آمنوا بموسى أن يقتدوا به عليه السلام.
قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«وفي التوراة، اسم وصيي (إليا)، واسم السبطين (شبر وشبير) وهما نور فاطمة عليها السلام».
هذه الفقرة من الحديث أشارت إلى مجموعة من الدلالات، وهي كالآتي:
1 - أن حقيقة أهل البيت عليهم السلام قد دونها الله عزّ وجلّ في الكتب السماوية جميعاً، وأن حقيقة الوصي ثابتة كحقيقة القرآن الكريم والإنجيل والتوراة.
ولكن نكران البعض لها لا يعني انتفاءها، فحال الناكر لها كمن أصيب بالعمى منذ الولادة فهو لم ير الشمس ولذا ينكرها، وإن كان يتعرق من حرها، ويتألم من لذعة شعاعها.
وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً(1) .
2 - قد ورد في الصحاح والمسانيد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند تسمية الإمامين الحسن والحسين أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسماهما بأسماء أبناء هارون شبر وشبير، دالاً صلى الله عليه وآله وسلم بذلك على أن المراد من تسميتهما بهذين الإسمين هو وجودهما أي: (الحسن والحسين)
ص: 83
عليهما السلام في التوراة.
بدلالة: وجود هذا الترتيب في الأسطر التي حوت اسم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والصديقة فاطمة، واسميهما عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
3 - أن السؤال الذي تصدر عنوان هذا الفصل: (ما هو نور فاطمة) أجاب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
«وهما نور فاطمة» أي: الحسن والحسين عليهما السلام.
ص: 84
قد يبدو العنوان غريباً للوهلة الأولى لدى القارئ الكريم ولذا فقد احتاج إلى مزيد من البيان والتوضيح للأمور التالية:
1 - إن هذه الكلمة (الأشباح) هي نفسها بحاجة إلى بيان.
2 - إن حديث الأشباح هو من خصائص العترة الطاهرة عليهم الصلاة والسلام قبل خلق آدم عليه السلام، وأن الملائكة كانت تسأل الله بهذه الأشباح عندما تتوجه إليه بحاجة، أما آدم عليه السلام فقد تعرف عليها قبل أن يدخل الجنة أي منذ أن سرت فيه نفخة الروح.
3 - لاهتمام بعض المسلمين بهذا الحديث ومحاولتهم نسبه إلى غير أهله لكي يضيفوا بذلك منقبة مصطنعة إلى أحد الشخصيات التي صحبت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم - كما سيمر بيانه -.
4 - لارتباطه بنور فاطمة عليها السلام ولبيانه أحدى مراحل تنقل النور من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
ص: 85
5 - إن الأحاديث الصادرة عن العترة النبوية عليهم السلام في بيان هذه الحقيقة الخاصة بشرافة خلق أنوارهم، ومراحل تنقلها استلزمت - في بعض الأحيان - الإسهاب منا لغرض بيان عظيم شأنهم وفخامة أمرهم عند الله عزّ وجلّ ؛ وذلك من خلال بيان ما نزل به الوحي من الذكر الحكيم، وما حملته السنة النبوية من أحاديث تخص هذه الحقيقة.
ولذا فقد قمنا ببحث فقرات الأحاديث مستدلين في بيان الحقائق بكتاب الله عزّ وجلّ والحديث النبوي الشريف، كي تبدو الصورة واضحة المعالم لدى القارئ الكريم، والله ولي التوفيق.
عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه، عطس، فألهمه الله (الحمد لله رب العالمين)(1) فقال له ربه: يرحمك ربك؛ فلما اسجد له الملائكة تداخله العجب، فقال: يا رب خلقت خلقاً أحب إليك مني ؟ فلم يجب، ثم قال في الثانية فلم يجب، ثم قال الثالثة فلم يجب، ثم قال الله عزّ وجلّ : نعم، ولولاهم ما خلقتك، فقال يا رب فأرنيهم ؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ملائكة الحجب: أن ارفعوا الحجب، فلما رفعت، فإذا آدم بخمسة أشباح قدّام
ص: 86
العرش، فقال: يا رب من هؤلاء؟ فقال: يا آدم هذا محمد نبييّ : وهذا علي أمير المؤمنين ابن عم نبييّ ووصيه، وهذه فاطمة بنت نبيّي، وهذان الحسن والحسين ابنا علي ولدا نبييّ ثم قال يا آدم هم ولدك، ففرح بذلك، فلما اقترف الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين لما غفرت لي؛ فغفر الله له بهذا(1)، فهذا الذي قال الله عزّ وجلّ :
فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ (2) .
فلما هبط إلى الأرض صاغ خاتماً نقش عليه: (محمد رسول الله وعلي أمير المؤمنين)(3)، ويكنى آدم بأبي محمد(4).
قال الإمام الحسين بن علي - أمير المؤمنين - عليهما السلام:
إن الله تعالى لما خلق آدم وسواه وعلمه أسماء كل شيء وعرضهم على الملائكة
ص: 87
جعل محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين أشباحاً خمسة في ظهر آدم، وكانت أنوارهم تضيء في الآفاق من السماوات والحجب والجنان والكرسي والعرش فأمر الله الملائكة بالسجدة لآدم تعظيماً له إنه قد فضله بأن جعله وعاء لتلك الأشباح التي قد عم نورها الآفاق فسجدوا إلا إبليس أبى أن يتواضع لجلال عظمة الله وأن يتواضع لأنوارنا أهل البيت وقد تواضعت لها الملائكة كلها فاستكبر وترفع فكان بإبائه ذلك وتكبره من الكافرين(1).
قال الإمام زين العابدين ابن الإمام الحسين صلوات الله عليهما حدثني أبي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«يا عباد الله إن آدم لما رأى النور ساطعاً من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبين الأشباح فقال: يا رب ما هذه الأنوار؟.
قال الله عزّ وجلّ : أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح.
فقال آدم: يا رب لو بينتها لي، فقال الله تعالى: انظر يا آدم إلى ذروة العرش فنظر آدم عليه السلام ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور أشباحنا كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا.
فقال: ما هذه الأشباح يا رب ؟ فقال: يا آدم هذه الأشباح أفضل خلائقي وبرياتي، هذا
ص: 88
محمد وأنا الحميد المحمود، وهذا علي وأنا العلي العظيم، شققت له اسماً من اسمي، وهذه فاطمة، وأنا فاطر السماوات والأرضين، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عما يصيبهم ويشينهم، فشققت لها أسماً من اسمي.
هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريتي بهم آخذ وبهم أعاقب وبهم أثيب فتوسل إلي بهم يا آدم وإذا دهتك داهية فاجعلهم إلي شفعاء ك فإني آليت على نفسي قسماً حقاً لا أخيب بهم أملاً ولا أرد بهم سائلاً؛ فلذلك حين زلت الخطيئة دعا الله عزّ وجلّ بهم فتاب عليه وغفر له(1).
روى ابن شاذان بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ليلة أسري بي إلى الجليل جل جلاله أوحي إلي:
آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ .
فقلت والمؤمنون، فقال: صدقت يا محمد، من خلفت في أمتك ؟.
قلت: خيرها، قال: علي بن أبي طالب ؟ قلت: نعم يا رب قال يا محمد إني اطّلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسماً من أسمائي فلا اذكر في موضع إلاّ ذكرت معي فأنا المحمود وأنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم اطّلعت الثانية فاخترت منها علياً وشققت له اسماً من أسمائي فأنا الأعلى وهو علي، يا محمد إني خلقتك وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من سنخ نور من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات وأهل الأرضين فمن
ص: 89
قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين، يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثم أتاني جاحداً لولايتكم ما غفرت له حتى - يؤمن - بولايتكم.
يا محمد تحب أن تراهم ؟ قلت نعم يا رب فقال: لي: التفت عن يمين العرش، فالتفت فإذا أنا بعلي وفاطمة والحسن والحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن ابن علي، والمهدي في ضحضاح من نور قيام يصلون، وفي وسطهم المهدي يضيء كأنه كوكب دري.
فقال: يا محمد هؤلاء الحجج، والقائم من عترتك؛ وعزتي وجلالي هذه الحجة الواجبة لأوليائي وهو المنتقم من أعدائي، بهم يمسك الله السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنه»(1).
من البديهي أن العرش كل جزء فيه هو برتبة الشرافة، إلا أن المراد بهذه العبارة هو الجهة، إذ إن اليمين أشرف من الشمال، والأعلى أشرف من الأسفل.
وهذه سنة جعلها الله عزّ وجلّ في كثير من المواضع والأشياء التي شرفها وكرمها وفضلها كبيت الله الحرام - الكعبة المشرفة - فإن فيها من المواضع ما كان برتبة الأشرف فموضع الحجر هو أشرف، والركن اليماني أشرف من بقية الأركان، ويمين المؤمن أشرف من شماله والجنة في اليمين والنار في الشمال وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة:
ص: 90
فَأَصْحٰابُ اَلْمَيْمَنَةِ مٰا أَصْحٰابُ اَلْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحٰابُ اَلْمَشْئَمَةِ مٰا أَصْحٰابُ اَلْمَشْئَمَةِ (1) .
وأعلى عليين، وغيرها من المواضع التي تدل على شرافة البقعة مع وجود شرافة الكل، فشرافة الجزء من شرافة الكل.
ومن هنا: فإن البقعة التي أشار إليها الحديث بالأشرف هي قمة العرش.
بل إن المراد هو: أشرف موضع من قمة العرش، وهي ذروته كما دل عليه الحديث فذروة كل شيء: أعلاه، وذروة السنام والرأس أشرفهما(2).
وعليه: فقد كانت هذه الأشباح في سنام العرش ورأسه، أي: ذروته، ثم نقلها الله عزّ وجل إلى صلب آدم لما خلقه بيده ونفخ فيه من روحه.
قد كشف هذا الحديث الشريف على قائله صلاة الرحمن وعلى آله القادة إلى الجنان: إن العلة من سجود الملائكة لآدم عليه السلام هي: لكونه كان وعاء لهذه الأنوار فإن السجود كان في الحقيقة لهذه الأنوار، وفي هذا يقول ابن معصوم في بديعته(3):
وآدم إذ بدا عنوان زلته *** به توسل عند الله في القدمِ
ثم أردف هذا البيت من البديع بشرح بيّن فيه العنوان قائلاً:
ص: 91
العنوان في هذا البيت هو الإشارة إلى ما ذكره الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في تفسيره لقوله تعالى:
فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ .
قال:
لما زلت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربه وقال: يا ربّ تب علي واقبل معذرتي وأعدني إلى مرتبتي، وارفع إليك درجتي، فلقد تبين بعض الخطيئة وذلها بأعضائي، وسائر بدني قال الله تعالى: يا آدم أما تذكر أمري إياك بأن تدعوني بمحمد وآله الطيبين الطاهرين عند شدائدك ودواهيك وفي النوازل التي تبهظك ؟
قال آدم: يا رب بلى.
قال الله عزّ وجلّ : فبهم، وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم خصوصاً فادعني، أجبك إلى ملتمسك، وأزدك فوق مرادك.
فقال آدم: يا رب وإلهي قد بلغ عندك من محلهم إنك بالتوسل إليهم وبهم تقبل توبتي، وتغفر خطيئتي ؟ وأنا الذي أسجدت له ملائكتك وأبحته جنتك، وزوجته حواء أمتك، وأخدمته كرائم ملائكتك.
قال الله: يا آدم إنما أمرت الملائكة بتعظيمك في السجود إذ كنت وعاء لهذه الأنوار ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها، وأن أفطنك لدواعي عدوك إبليس حتى تحترز منها، لكنت قد جعلت ذلك، ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقاً لعلمي، فالآن فبهم فادعني لأجيبك.
فعند ذلك قال آدم: اللهم بجاه محمد وآله الطيبين، بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن
ص: 92
والحسين، والطيبين من آلهم، لما تفضلت بقبول توبتي، وغفران زلتي، وإعادتي من كرامتك إلى مرتبتي. فقال الله عزّ وجلّ : قد قبلت توبتك، وأقبلت برضواني عليك، وصرفت آلائي ونعمائي إليك وأعدتك إلى مرتبتك من كرامتي، ووفرت نصيبك من رحماتي. فذلك قوله عزّ وجلّ :
فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ (1) .
إن من الحقائق التي يكشفها حديث الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام والتي تعلقت بخلق أنوار محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته هي حقيقة عدم تمكن نبي الله آدم عليه السلام من رؤية أشباح محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، حينما نقلها الله تعالى من ذروة العرش إلى صلب آدم عليه السلام فسطع نورها من صلبه فرآها آدم عليه السلام فقال: يا رب ما هذه الأنوار؟
وسؤاله هنا:
كان لسبب واحد وهو اعتقاده بأنه الخليفة وأنه المفضل على الملائكة والمختار من بين خلق الله تعالى لهذه المهمة، ومن ثم يعد وجود هذه الأنوار حالة تبعث على التساؤل كما تساءلت الملائكة من قبل عن العلة في خلق مخلوق جديد يناط إليه هذا العمل، وهم قد امتازوا بخصائص عدة كشفها سؤالهم لربهم قائلين له جلت قدرته:
ص: 93
أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمٰاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ (1) .
أي: لدينا من المؤهلات ما تمكننا من القدرة على تحمل هذه المسؤولية.
ولذلك:
حينما رأى آدم هذه الأنوار بدا له أن هناك خلقاً لهم عند الله تعالى من المكانة السامية ما ليس لأحد غيرهم أن ينالها ويرقى إليها لاسيما وإنه لم يتمكّن من رؤية الأشباح وإنما رأى أنوار هذه الأشباح.
بمعنى: أن هذه الحالة التي ظهرت أمامه من عدم تمكن رؤيته للأشباح هي بحد ذاتها تعد رتبة عالية تستلزم منه أن يكون حائزاً على خصائص معينة كي يتمكن من رؤيتها ومثال ذلك كمن أراد أن ينظر إلى عين الشمس بدون وسيلة تحفظ له عينه فإنه لن يتمكن من النظر إلى عين الشمس سوى للحظات محدودة، وذلك بسبب شدة إضاءتها وقوة وهجها.
وكذا آدم عليه السلام ليس له من القدرة من النظر إلى وهج هذه الأشباح النورانية على الرغم من أنّ لديه إمكانيات خاصة تتمثل بأنه النبي والخليفة.
ولذلك: كي يتعرف آدم عليه السلام على هذه الأنوار فلابد من وسيلة يتمكن من خلالها من النظر إلى مصدر هذه الأنوار، فكان الجواب من الباري عزّ وجل على سؤاله، أن قال له: (أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح).
ص: 94
وهذه الإجابة: تكشف لآدم عليه السلام حقائق لم يكن يعلمها قبل رؤيته لهذه الأنوار، وهي:
1 - أنها أنوار أشباح، أي الذي رآه هو أنوار هذه الأشباح وليس عين الأشباح.
2 - أن هذه الأشباح كانت في أشرف بقاع العرش.
3 - أن الله تعالى نقلها من ذلك المكان إلى ظهر آدم عليه السلام.
4 - أن العلة في سجود الملائكة إليه كانت لهذه الأشباح وليس لشخص آدم عليه السلام.
5 - أن من العناوين التي اختارها الله له بكونه خليفة أن جعله الله عزّ وجل وعاءً لتلك الأشباح النورانية.
بعد أن تبين لنبي الله آدم عليه السلام هذه الحقائق عن هذه الأنوار التي رآها، أحب أن يتبينها، فهو إلى الآن لم يتمكن من تشخيص هذه الأنوار لشدة نورها.
فقال عليه السلام:
يا ربّ لو بيّنتها لي ؟!
وبيان هذه الأنوار مع عدم وجود الوسيلة متعذر لدى آدم عليه السلام ولو كان قادراً لما سأل ربه عن بيانها، ولذلك كانت الوسيلة هو أن ينظر آدم عليه السلام إلى ذروة العرش كما نصّ عليه الحديث الشريف.
فقال الله تعالى: (أنظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم عليه السلام ووقع
ص: 95
نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور أشباحنا كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا).
وهنا: تنكشف لنا حقيقة أخرى، إذ إن آدم عليه السلام حينما أراد أن ينظر إلى أشباح محمد وأهل بيته عليهم السلام نظر إلى ذروة العرش، بمعنى: أن آدم يتمكن من النظر إلى ذروة العرش لكنه لم يتمكن من النظر إلى تلك الأشباح وهذا يكشف - وكما مر سابقا - أن العرش مخلوق من هذه الأنوار ومن ثم فهو من الصنعة وليس من الأصل الذي خلق الله منه كل شيء أي نور النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أولا.
وثانيا: لوجود التجانس بين العرش وهذه الأشباح بعلة خلق العرش منها ومثاله تجانس الثلج مع الماء فالأصل هو الماء والصنعة هي الثلج.
ولذلك: انطبعت في العرش صور أشباح محمد وعترته أهل بيته كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى الأشباح، أي تحققت الواسطة.
ولكن مع وجود هذه الواسطة إلا أن آدم عليه السلام لم يتمكن من تشخيص هذه الأشباح، ولذا نراه قال لربه عزّ وجل:
(ما هذه الأشباح يا رب ؟) وسؤاله بصيغة: (ما هذه ؟) يكشف عن عدم قدرته على التشخيص ولو قال: (من هؤلاء) لكشف سؤاله عن رتبة أعلى من التشخيص، ولكن حتى في هذه الصيغة فإن ذلك ليدل على عدم تمكنه من التبيان والتشخيص لهذه الأشباح إلا أنّ هذه الصيغة أعلى رتبة من المعرفة من قوله (ما هذا).
ص: 96
والفرق بين الصيغتين أو اللفظين قد أشار إليه العلامة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى:
رَبِّي هٰذٰا أَكْبَرُ(1) .
أن قال: (إذ رأيت شبح إنسان لا تدري أرجل هو أم امرأة تسأل وتقول: من هذا؟ تريد الشخص لأنك لا تعلم منه أزيد من أنه شخص إنسان، فيقال: امرأة فلان أو هو فلان، وإذا رأيت شبحاً لا تدري إنسان هو أو حيوان أو جماد تقول: ما هذا؟ تريد الشبح، أو المشار إليه، إذ لا علم لك من حاله إلا أنه شيء جسماني أيا ما كان، فيقال لك هذا زيد أو هذه امرأة فلان، أو هو شاخص كذا.
ففي جميع ذلك تراعي - وأنت جاهل بالأمر - من شأن أولي العقل وغيره، والذكورية والأنوثية مقدار مالك به علم؛ وأما المجيب العالم بحقيقة الحال فعليه أن يراعي الحقيقة)(2).
ومن هنا: كان سؤال نبي الله آدم عليه السلام: (ما هذه الأشباح يا رب ؟) كاشفاً عن رؤيته للأشباح من دون القدرة على تشخيصها هل هي لرجال أو لنساء، أو لجمادات، فقد تبين له الشاخص ولم يتبين شبح الشخص، ولذلك: سأل عن الأشباح وليس عن أشخاصها.
فكان الجواب من رب العزة سبحانه أنه قال:
(يا آدم هذه الأشباح أفضل خلائقي وبرياتي، هذا محمد وأنا الحميد المحمود،
ص: 97
وهذا علي وأنا العلي العظيم، شققت له اسماً من أسمائي، وهذه فاطمة، وأنا فاطر السموات والأرضين، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عما يصيبهم ويشينهم، فشققت لها اسما من اسمي.
هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريتي، بهم آخذ، وبهم أعاقب، وبهم أثيب، فتوسل إلي بهم يا آدم وإذا دهتك داهية فاجعلهم إلي شفعاءك فإني آليت على نفسي قسماً حقا لا أخيب بهم أملاً ولا أرد بهم سائلاً.
فلذلك حين زلت الخطيئة دعا الله عزّ وجل بهم فتاب عليه وغفر له)(1).
مسائل البحث في الأحاديث على مضامين عديدة نحاول الوقوف عندها من خلال المسائل الآتية:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عزّوجلّ :
«يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسماً من أسمائي فلا اُذكر في موضع إلا ذُكِرت معي فأنا المحمود وأنت محمد، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً وشققت له اسماً من أسمائي فأنا الأعلى وهو عليّ ».
حملت هذه الفقرة مسائل عديدة تتضمن معاني كثيرة نذكر منها ما ألهمنا الله به ووفقنا إليه.
ص: 98
إن الله سبحانه وتعالى قد خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته قبل أن يخلق السماوات والأرض، بل قبل أن يخلق الخلق كما مرَّ في الأحاديث السابقة، إلا أن معنى قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإسراء:
«إني اطلعت إلى الأرض فاخترتك منها».
فيه من المعاني التالية:
1 - إن الله تبارك وتعالى قد جعل الأرض موضعاً اختاره لوجود جنس من أجناس خلقه ألا وهو الإنسان، فأنزله إليها، وجعل عيشه ومماته فيها ونشوره منها.
وهي موضع الابتلاء في بيان الصالح من المفسد ومعرفة المؤمن من الكافر فإذن لابد من وجود الإنسان على هذه الأرض ليخوض معركة الطاعة والمعصية كي يعلم الخلق أجمعون أن أطوعهم لله هو الحبيب المصطفى محمد وأهل بيته فاطمة وزوجها وبنوها الحسن والحسين والأئمة التسعة من ذرية الحسين عليهم السلام.
2 - إن الغاية في خلق الأرض هي إيجاد الخليفة.
وبمعنى أدق: (إن الله جعل الخليفة قبل الخليقة) فاختار الأرض مقراً لخليفته.
قال عز من قائل:
إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً (1) .
ص: 99
هذا الجعل سبقه من الله عزّ وجلّ : إطلاعة فكانت عبارة عن العلم المسبق بخلقه، ومعرفته بحقائق قلوبهم، وعاقبة أمرهم، إلا أنه مع العلم بذاك فقد فحصهم وقلبهم بهذه الإطلاعة، فكان أشرف أهل الأرض وأفضلهم وأكملهم وأرتبهم وأحبهم وأعبدهم لله عزّ وجلّ هو حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فاختاره منهم، واجتباه من بينهم، واصطفاه عليهم، وهو عبده الأول الذي وصل في عبوديته لله إلى الرتبة الأولى التي لم يصل إليها أحد من الخلق، فكان عبده ورسوله الذي من أجله خلق الله الخليقة.
فقال له عزّ وجلّ :
«يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك»(1).
ثم يليه من حيث الرتبة في العبودية أخوه وابن عمه وخليفته ووصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فكان صاحب الإطلاع الثاني لله عز جل فاختاره من بين خلقه ليحل بعد نبيه المصطفى في العبودية لله جل شأنه.
والعبودية لله تعالى لا تتحقق إلا بالمعرفة، فأعرف الخلق بالخالق هو حبيبه المصطفى ورسوله الأكرم أبو القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم يليه بعد
ص: 100
ذلك الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً الإمام علي عليه السلام:
«يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا»(1).
ومن المعرفة كان الحب، ولأجله اتخذه الله حبيباً له، ومن أجل هذا الحب قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم خيبر:
«إني لأعطي الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله»(2).
ففي الحديث السابق دارت المعرفة في ثلاثة، وفي هذا الحديث دار الحب بين ثلاثة.
ثم يلي مقام الحب، مقام الخوف وأصله المعرفة أيضاً فكان النبي الأعظم أخوف خلقه وهو القائل:
«أنا أخوف خلق الله لله»(3).
حتى عاتبه الرحمن فقال عزّ وجلّ :
طه مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ (4) .
ص: 101
ثم يليه في هذا المقام: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو القائل بأبي وأمي:
«لو أعطيت الأقاليم السبع بما فيها على أن أعصي الله في نملة أجلبها حبة شعير لما فعلت»(1).
ولاحظ أيها العارف المؤمن لم يقل عليه السلام أسلبها بل قال أجلبها والجلب لم يحقق المعصية حتى في حال حدوثه لأن الفعل كاشف عن النية فلو حدث وجلبها لم يكن في نيته المعصية وعنوان الجلب يختلف عن عنوان السلب وهو الفعل المسبوق بنية المعصية.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخوه الإمام علي عليه السلام هما أعرف الخلق بالله وأعرفهم لديه، وأحبهم لله، وأحبهم عنده، وأخوفهم منه، وأقربهم إليه، فسبحان من اصطفاهم واجتباهم واصطنعهم وفضلهم وأكرمهم وطهرهم من الرجس تطهيرا.
ومن هنا: اشتق الله لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم اسماً من أسمائه الحسنى فهو (المحمود) وحبيبه (محمد) صلى الله عليه وآله وسلم.
ولأن الحمد من أهم مصاديق العبودية للخالق، فإن الله عزّ وجلّ قد أشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الذكر.
لأنه صلى الله عليه وآله وسلم (أحمد) الخلق للخالق، فكان اسمه في الأرض (محمداً) وفي السماء (أحمد).
ص: 102
وقوله:
«فلا أذكر في موضع إلا ذُكرت معي».
فإن أحب المواضع إلى الله عزّ وجلّ هي السجود، والذكر في هذا الموضع عند أهم الفرائض وهي الصلاة التي:
«إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها»(1).
وهي أفضل القرابين فكانت؛
«قربان كل تقي»(2).
فإن الذكر الذي يقوله المصلي في سجوده هو (سبحان ربي الأعلى وبحمده) والمراد منها:
هو أننا نسبح لله ونحمده ب - (حمده) الذي حمده به أول الحامدين وأصدقهم وأخلصهم حبيبه (محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، ولأجله اقترن ذكر الله بذكر النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في أحب الفرائض وعند أحب المواضع وهو السجود.
ص: 103
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ رحمة الله عزّ وجلّ ، وكان بعثه رحمة للعالمين ولأن الرحمة تقتضي الإنذار للخلق من عاقبة الآثام والمعاصي وتحذيرهم من الوقوع فيها فإن الله تعالى جعل لحبيبه المصطفى مقام الإنذار كي يتم مصداق الرحمة الإلهية لجميع ما خلق ولاسيما بني آدم.
ولذا كان خطابه عزّ وجلّ في محكم كتابه للذين كفروا كاشفاً عن هذه الحقيقة الربانية، فقال عزّ وجلّ :
وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ(1) .
فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو (المنذر) و (علي) عليه السلام هو الهادي لكل قوم آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم مما خلق الله تعالى من الخلق وهو القائل عز شأنه:
وَ يَخْلُقُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (2) .
فهذا الخلق وهذه العوالم التي بُعث إليها النبي الأعظم فكان رحمة للعالمين، كل هذه العوالم كان النبي منذراً لها وكان علي عليه السلام لكل قوم منهم آمنوا هادياً إلى الله تعالى.
وبهذا المعنى يمتاز أئمة الهدى من أئمة الضلال التي تضل الناس عن الصراط المستقيم؛ ولأجله يقول المصلون:
ص: 104
اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرٰاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (1) .
وهم محمد وآله عليهم السلام.
ومن هذا المعنى ورد في المأثور في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه: وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره فقال:
(أنا المنذر).
ثم أومأ إلى منكب علي عليه السلام، وقال:
«وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي»(2).
وله شاهد آخر يسير جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم، وهو قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يحدث فاطمة عليها السلام:
ص: 105
«يا فاطمة أما ترضين أن الله عزّ وجلّ ، اطلع على أهل الأرض، فاختار رجلين أحدهما أبوك، والآخر بعلك»(1).
قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عزّوجلّ :
«يا محمد من خلفت في أمتك ؟ قلت: خيرها، قال: علي بن أبي طالب ؟ قلت: نعم يا رب.
هذه الفقرة من الحديث - وعلى صغرها - إلا أنها تكشف عن أصلين من أصول الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانهما، أي هذين الأصليين يكمل أحدهما الآخر فهما متلازمان معاً.
إن خلافة الأنبياء عليهم السلام لها مفهومان، مفهوم ظاهري، ومفهوم باطني، أما المفهوم الظاهري: فهو أن يحل الخليفة محل النبي التشريعي ولا نقصد به أن يحل مقام النبوة إنما المراد من المحل التشريعي: أن تكون له صلاحية إصدار
ص: 106
الحكم الشرعي، فمن كان جاهلاً بالحكم الشرعي لا يحق له أن يخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولأن العلم بالحكم الشرعي حضوري لا حصولي من حيث إن مقام النبوة إنما كان من قبل الله عزّ وجلّ فلا يتوج صاحب هذا المقام إلاّ بأمر الله عزّ وجلّ فقد اقتضت هذه الحيثية واستلزمت أن يكون مقام الخلافة هو أيضاً منصوصاً على صاحبه من الله عزّ وجلّ على لسان نبيه، ليكون علمه بالحاكم الشرعي حضورياً لا حصولياً.
وبذلك يكون الخليفة منصوصاً عليه من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا هو الأصل الأول.
أما إذا أُريد بالخلافة: هو من يخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الملك.
فالأنبياء عليهم السلام ليسوا ملوكاً وما كانوا سلاطين يلبسون التيجان ويحملون الصولجان، لكن يبدو أن الكثيرين قد اعتقدوا هذا وجعلوا نهجهم في ذلك مستوحىً من هذا المعتقد، وهو ماصرح به أبو سفيان للعباس بن عبد المطلب في عام الفتح عندما أخذ ينظر إلى جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال للعباس: (لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً)(1) فقال العباس فقلت له: (ويلك إنها النبوة)، والمبدأ نفسه يتكرر عندما تولى عثمان بن عفان مقام الخلافة فقال أبو سفيان: (تلقّفوها يا بني أمية تلقف الكرة).
ص: 107
وهو الأمر نفسه الذي دعا بعمر بن خطاب أن يسأل صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخلف أبا بكر قائلاً: (أخليفة أنا أم ملك)(1)؟
وفي هذا المفهوم الظاهري وقع الحكام الذين خلفوا الأمة بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المفهوم الباطني، فهو أن الله لا يُخلي الأرض من حجة،
(ولو لا الحجة لساخت الأرض بأهلها)(2).
ومن هنا فإن عروج النبي إلى السماء في رحلة الإسراء يعني خلو الأرض من الحجة وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الخلو يعرض الأرض ومن عليها إلى الدمار والهلاك المحتوم.
ومن عجيب حكمة الله عزّ وجلّ هو أن يصف الحديث الشريف أن هذا الهلاك بعملية (الانصهار) وانكسار جميع ذرّات الأرض بمن عليها وهو ما جاء في كلمة: (ساخت).
وعليه: فإن عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء يوجب وجود خليفة له في الأرض لأنها تحفظ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصيّ عليه السلام.
وهذا الأمر يستلزم كينونة الوصي وتعيينه، منذ كينونة النبي وبعثه، بل إن
ص: 108
الأمر أبعد من ذلك إذ إن تعيين النبي منذ الخلق استلزم تعيين الوصي وهو ما جاء بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله معلقاً يسبح الله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق - الخلق - بأربعة آلاف عام فلما خلق الله آدم ركب ذلك النور في صلبه فلم نزل شيئاً واحداً حتى افترقنا في صلب عبد المطلب فجزء أنا وجزء علي»(1).
ولذلك نجد أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أعلن الوصي والخليفة من بعده وهو الإمام علي بن أبي طالب منذ البعثة وتحديداً عند نزول قوله تعالى:
وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (2) .
وهو الحديث المشهور المعروف بحديث الدار فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«هذا أخي ووصييّ وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا»(3).
وإنما ذلك لأجل أن تحفظ الأمة بل تحفظ الأرض ومن عليها.
تلك هي:
سُنَّةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً(4) .
ص: 109
لقد دلّ الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى في الإسراء والمعراج: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
«يا محمد من خلفت في أمتك ؟ قلت: خيرها، قال: علي بن أبي طالب ؟ قلت نعم يا ربّ ».
عن إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن خير أهل الأرض. وذكر الباري عزّ وجلّ : (لاسم علي بن أبي طالب عليه السلام) هو شهادة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي:
وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (1) .
وهذه الحقيقة أقرها القرآن وصرحت وأفصحت عنها السنة المطهرة على صاحبها وآله صلوات الرحمن وسلامه.
أما القرآن الكريم فنصوصه في هذا الأمر كثيرة، نأخذ قبساً منها.
قال تعالى في محكم كتابه:
إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ (2) .
قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا علي هم أنت وشيعتك»(3).
ص: 110
أما شاهده من السنة المطهرة قوله: صلى الله عليه وآله وسلم:
«علي خير البشر، من أبى فقد كفر»(1).
وهذا يدل على الأصل الثاني في تحقق وجود الخليفة، وهو الخيرية، بمعنى: لابد أن يكون الخليفة هو خير أهل الأرض كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو خير أهل الأرض وكذا حال كل نبي أو رسول في زمانه، فهم حين يبعثون يكونون خير أهل الأرض ولأن الخيرية لا يمكن إحرازها من الناس حتى لو اجتمع جميع عقلاء الأرض وأهل الحل والعقد وذلك لجهالتهم بالباطن وحقيقة السرائر، ومن ثم سيفشلون في اختيارهم هذا لأنه مبنيٌّ على الظاهر أو على الظنون فعليه تصبح الخيرية أمراً محال الحصول والإحراز.
ولذا: وجب أن يكون تحديد الخيرية مناطاً بمن يعلم السر وأخفى، وبمن يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وهو:
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ .
فكان علمه عز وجل بخيرية أنبيائه من بين أهل الأرض جاء كذلك علمه
ص: 111
سبحانه بخيرية خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين أهل الأرض وبذلك تتحقق الخلافة الشرعية للأمة والتي بها يكون كمال الإيمان وبها يتحقق صلاح العباد والبلاد.
قال صلى الله عليه وآله وسلم، عن الله عزّ وجلّ :
«يا محمد إني خلقتك وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من سنخ نور من نوري».
قد مرَّ عليك أيها القارئ الكريم من خلال الأحاديث السابقة أن الله عزّ وجلّ قد خلق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرين من نوره عزّ وجلّ إلا أن الشيء الجديد هنا هو:
كلمة: (من سنخ نور من نوري) وفي رواية (من شبح نور من نوري)(1)؛ إلاّ أن الأولى والأصح هو من سنخ نور من نوري.
لأن الشبح هو: كل ما بدا شخصه من الناس وغيرهم من الخلق، وما يرى من بعيد أو خلف ساتر أو ثوب رقيق من غير تمييز للونه(2)، أو هو: (ظل النور) كما جاء عن الإمام الباقر عليه السلام وهو يحدث جابراً فقال له عليه السلام:
ص: 112
«يا جابر إن الله أول ما خلق، خلق محمداً وعترته الهداة فكانوا أشباح نور بين يدي الله، قلت وما الأشباح ؟ قال: ظل النور أبدان نورانية بلا أرواح»(1).
وعليه: فإن خلقهم من شبح نور من نوره، يكون بمعنى خلقهم عليهم السلام من ظل النور لا من أصل النور، وهذا منافٍ لما ورد في الأخبار، كما أنه يتعارض مع ما أعطاهم الله من فضله وخصهم برحمته بأنهم حقائق نورانية مخلوقة من نور الله عزّ وجلّ ، وليسوا من صورة النور أو ظله.
ولأن ذلك يقتضي ارتفاع منزلة الملائكة على النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم لأن الملائكة خلقوا من النور.
علماً أن محمداً وعترته (أهل بيته) عليهم السلام هم أشرف وأطهر وأفضل وأعلى ما خلق الله عزّ وجلّ .
والعرش والكرسي والملائكة والسماوات والأرض والجنة وما فيها واللوح والقلم وكل ما خلق الله، بل وكل خير هو مخلوق من أنوارهم عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ولذا: فإن الصحيح في الرواية هو:
«من سنخ نور من نوري» أي من أصل نور من نوري، وهذا يتفق ويتناسب مع الأحاديث السابقة لأن سنخ كل شيء أصله، وسنخ الكلمة: أصل بنائها والسنخ والأصل واحد فلما اختلف اللفظان أضاف أحدهما إلى الآخر(2).
ص: 113
وهو قوله عز شأنه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
«عرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرضين فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين».
إنّ عرض ولاية أهل البيت عليهم السلام على أهل السماوات وأهل الأرضين قد شهد بها القرآن الكريم في مواضع عدة نشير إليها بالآتي:
إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً(1) .
فالأمانة التي عرضها الله عزّ وجلّ هي: ولاية أهل البيت عليهم السلام(2)، وكان العرض عليهن تخيراً لا إلزاماً، ولو ألزمن لم يمتنعن من حملها، فالسماوات
ص: 114
والأرض كلها خاضعة لله عزّ وجلّ مطيعة ساجدة له كما قال تعالى: للسماوات والأرض:
اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ (1) .
وقال في الحجارة:
وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ (2) .
وقوله عزّ وجلّ :
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبٰالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذٰابُ (3) .
والمراد بالسماوات والأرض هو أهل السماوات والأرض من الملائكة في السماء والجن في الأرض، كقوله تعالى:
وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّٰا فِيهٰا(4) .
أي اسأل أهل القرية.
أما: (فأبين منها) أي من الأمانة لعظم جرمها وقوة أركانها وسعة أرجائها وثقل محلها و (أشفقن منها) خوفاً وخشيةً من الله في التفريط بها وعدم صونها وحفظها، فيستحققن بذلك العذاب.
ص: 115
فإذا قيل ما الفرق بين إبائهنّ وإباء إبليس في قوله تعالى:
إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسّٰاجِدِينَ (1) .
فجوابه: إن إباء إبليس كان استكباراً وخروجاً عن الطاعة لأن السجود كان فرضاً على الملائكة بينما الأمر هنا يختلف تماماً فإن العرض كان تخييراً لا إلزاماً والإباء هنا كان سببه الإشفاق والخشية من حمل الولاية.
إلا أنّ المفسرين قد اختلفوا في معنى (الأمانة):
فمنهم من قال: إنها الطاعة والفرائض بثوابها وعقابها(2)، وقيل هي الصلاة والصيام وغسل الجنابة(3)، ومنهم من قال إنها جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس واستندوا في قولهم إلى:
«إن الله لم يخص بقوله: [عرضنا الأمانة] بعض معاني الأمانات»(4).
وذهب بعضهم في معنى الأمانة إلى: (إن آدم لما حضرته الوفاة سأل الله من يستخلف بعده ويقلده من الأمانة ما يقلده، فأمره أن يعرض ذلك على الأرض
ص: 116
والجبال فكلها أباه، ثم أمره أن يعرضه على ولده فقبله بالشرط ولم يتهيب من ما تهيبته السماء والأرض والجبال)(1).
ونقول:
إن جميع هذه الأقوال مردودة لعدم صحتها، وقد صرّح القرآن الكريم بزيف هذه الأقوال وبطلان هذه الآراء في الآية التي تلت آية الأمانة مباشرةً .
فقال عزّ وجلّ :
لِيُعَذِّبَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكٰاتِ وَ يَتُوبَ اَللّٰهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً(2) .
فإن (اللام) التي تصدّرت الفعل (يعذب) هي (لام) التعليل، والمصدر المؤول (أن يعذب) في محل جر باللام متعلق ب - (حملها) أو (عرضنا).
أي بمعنى: إن العلة من عرض الأمانة وحملها هو لكي يعذب الله المنافقين والمنافقات؛ وقد علم المسلمون أن المنافقين والمنافقات كانوا يصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويأتون بالفرائض - كما يعرض لنا القرآن الكريم في مواضع عدة من أحوالهم وصفاتهم - إلا أنهم لم يؤدّوا أهم الفرائض التي أوجبها الله تعالى وهو: حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته.
وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم:
ص: 117
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده، ولا يحبني حتى يحب أهل بيتي لحبي»(1).
والقرآن يشهد بكفرهم ومعاداتهم للنبي وأهل بيته، رغم صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجهم، قال عزّ وجلّ :
إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2) .
ثم تتوالى الآيات لتبين فسادهم وجرمهم وخطرهم على الإسلام، فقال عزّوجلّ مخاطباً النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ (3) .
والقرآن الكريم يبين هنا أن غاية المنافقين هو الصد عن سبيل الله أي: منع المسلمين من سبيل الله، بالتضليل مرة، وبالقهر من خلال السلطان مرة، وبإثارة الشبهات مرة أخرى؛ وإلاّ لم يرد في التاريخ الإسلامي، ولا في السيّر، ولا في الأدب، أن مسلماً كان يصد المسلمين ويمنعهم من أداء الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو الحج، وينكرها عليهم والسبب في ذلك وبكل بساطة، هو أن من يقوم
ص: 118
بذلك حكمه عند فقهاء المسلمين الارتداد وعاقبته القتل وظهر كفره للصغير والكبير.
لكن الذين كانوا يصدون عن ولاية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام كان الحكام وأشياعهم يطبطبون لهم على ظهورهم ويشكرون لهم سعيهم ويجزلون لهم العطاء، لأنهم كانوا أداة لهم، ولم يحكم أحد عليهم بالكفر لأنهم بالغل والبغض والعداوة لله ورسوله قد ملأوا قلوبهم.
وإلا كيف يمكن تصديق من يدعي حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم يعمد إلى قتل ولده وسلبهم وسبيهم كأنهم من الترك أو العجم، فإذا ذهب آل الرسول قتلاً وتشريداً عمدوا إلى شيعتهم ومحبيهم فأنزلوا فيهم ما كان ينزل فرعون بقومه، وإذا أرادوا أن يرحموهم قالوا: (رافضة) لأنهم رفضوا النفاق وأهله وتمسكوا بصراط الله المستقيم وحبله المتين واتبعوا وصية النبي الأمين في التمسك بالثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة: (علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين صلوات الله عليهم أجمعين).
ومن هنا كان (ظلوماً) لولاية أهل البيت عليهم السلام، (جهولاً) لحقها، غير جاهل بها، لأن الجهل ضد العلم بل هم علموا حق الولاية لكنهم ظلموا أهلها.
وفيها جاء عرض ولاية أهل البيت عليهم السلام على الأنبياء عليهم السلام، وإنهم أرسلوا على ولاية محمد وعترته أهل بيته عليهم السلام(1).
ص: 119
وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنٰا أَ جَعَلْنٰا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (1) .
فهذه الآية تدل على أن الأنبياء عليهم السلام قد أرسلوا إلى الناس ليدعوهم إلى أمر التوحيد وهو ظاهر الآية.
لكن الذي دلت عليه الآية هو: أن الله يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الأنبياء عن أمر معين هذا الأمر يتعلق بعبادتهم، وعبادة الأنبياء عليهم السلام هي تبليغ شرع الله عزّ وجلّ ، وإلاّ لا يصح أصلاً التوهم بأنهم يسألون عن التوحيد لأنهم أول من نطق بالتوحيد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأجل التوحيد خصهم الله بالنبوة واصطفاهم للرسالة.
ولذا: فهم يسألون عن التبليغ إلى الإسلام والولاية لمحمد وعترته أهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ (1) .
والنعيم هو ولاية أهل البيت عليهم السلام الذي يسأل عنه العباد يوم القيامة(2)، لينالوا النعم بصونها وحفظها ورعايتها النعيم في الآخرة.
ما زلنا في رحاب الحديث الذي رواه ابن شاذان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أوحاه الله عزّ وجلّ إليه في ليلة الإسراء والمعراج، وقد تضمن الحديث العديد من خصائص العترة الطاهرة وفضائلهم وقد تناولنا هذه الفضائل بنحو يكاد يكون موسعاً من أجل أن يطّلع القارئ على هذه الفضائل والخصائص بشكل علمي يستند إلى القرآن والسنّة المطهرة.
ليصل من خلالها القارئ الكريم إلى قناعة تامة مستمدة من أصولها الحقيقية في معرفة فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها عليهم السلام، لاسيما ونحن لم نبدأ بعد
ص: 121
بتناول البحث في بعض جوانب حياة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.
ولذلك: فإن من الحقائق التي نطقت بها السنة المحمدية والمتعلقة بقبول عمل المسلم عند الله تعالى هي إقران هذا القبول بموالاة محمد وعترته أهل بيته والاعتقاد بولايتهم.
بمعنى آخر: فإن كل عمل يقوم به المسلم لا يوجد عليه طابع الولاية لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يصل إلى صاحبه ويعاد إليه لخلوه من الشرط الأساس الذي وضعه الله تبارك وتعالى في قبول الأعمال وأما جحودها فإنه يدخل النار.
وهذا ممن أوحاه الله تعالى إلى نبيه ليلة الإسراء والمعراج، وهو قوله تعالى:
«وأما من قبلها - أي الولاية - كان من المؤمنين ومن جحدها كان من الكافرين».
«يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى يصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتكم ما غفرت له حتى يقر بولايتكم».
والأحاديث النبوية في هذا كثيرة جداً نشير إلى بعضها كي لا يخرج الموضوع عن قصده.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
ص: 122
«والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار»(1).
«معرفة محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب»(2).
«فلو أن رجلاً صف قدميه بين الركن والمقام فصلى وصام وهو مبغض لآل محمد دخل النار»(3).
وهذه الأحاديث الشريفة وغيرها كلها تنبع من معين واحد وتنصب في حوض واحد وتحقق أمراً واحداً لا ثاني له وهو الطاعة والاتباع والحب والموالاة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعترته أهل بيته.
ص: 123
لم تقتصر المدرسة الإمامية على حديث الأشباح رواية وكتابة، وإنما تعدى هذا الحديث إلى المدرسة السنية كذلك. فقد أوردت بعض مصادر أبناء العامة حديث الأشباح بصيغة أخرى أرادوا بها تحريف الحقيقة ونسب هذه المنقبة إلى غير أهلها. لينالوا حظاً من الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب.
والصيغة التي صيغ بها الحديث هي: (عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
«أخبرني جبرائيل أن الله تعالى لما خلق آدم وأدخل الروح في جسده أمرني أن آخذ تفاحة من الجنة فاعصرها في حلقه فعصرتها في فمه فخلقك الله من النقطة الأولى أنت يا محمد ومن الثانية أبا بكر ومن الثالثة عمر، ومن الرابعة عثمان، ومن الخامسة علي فقال آدم: كم هؤلاء الذين كرمتهم ؟ فقال الله تعالى: هؤلاء خمسة أشباح من ذريتك، وقال: هؤلاء أكرم عندي من جميع خلقي، قال: فلما عصى آدم ربه قال: ربَّ برحمة ألائك الأشباح الذين فضلتهم إلا تبت علي فتاب الله عليه»)(1).
وهذا الحديث ذكره المحب الطبري ونقله عنه ابن حجر، وبعد أن أورده قال: (عهدته عليه)(2).
ونحن نسأل ابن حجر عن الدافع الذي جعله يرمي بعهدة الحديث في وزر الطبري.
ص: 124
إلاّ اللهم إنه يعلم جيداً أنه موضوع ومنكر سنداً ومتناً فنقله مع قبحه لأنه ينسجم مع عقيدته السلفية.
والرواية التي تصرخ بالوضع، قد قال بكذبها كل من خاتمة الحفاظ السيوطي والعجلوني(1).
ومع هذا فقد أورد العلامة الشيخ الأميني (أعلى الله مقامه) أدلة كثيرة، وشواهد محكمة على بطلان الرواية وكذبها فأشفى بما أورده صدور المؤمنين(2).
ونضيف لما أورده العلامة الأميني دليلاً آخر لننال بذلك الأجر والثواب ونشارك القارئ الكريم بالأجر أيضاً. جاء في الرواية:
«أمرني أن آخذ تفاحة من الجنة فأعصرها في حلقه فعصرتها في فمه - إلى قوله - فقال آدم من هؤلاء الذين أكرمتهم فقال الله تعالى: هؤلاء خمسة أشباح من ذريتك».
من المعروف في اللغة أن الإحساس بالأشباح هو من خاصية حاسة البصر، أي الرؤية بواسطة العين، ولا تعرف الأشباح من حاسة الذوق، وعن طريق الفم على شكل قطرات؛ إذ قالت العرب في التصريف: أسماءُ الأشباح وهو ما أدركته الرؤية والحس، والشَّبِّحُ : ما بدا لك شخصهُ من الناس وغيرهم من الخلق، والجمع أشباح(3).
ص: 125
فهذا ما عليه العقلاء، أما أن تعرف الأشباح عن طريق الفم فهذا خاص فقط بواضع الحديث.
ومع بطلان الحديث سنداً ومتناً إلا أنّ الذي يستفاد منه أنه يدل على أن حديث الأشباح الخمسة كان معروفاً عند الرواة وأنه منقبة من مناقب العترة النبوية صلوات الله عليهم، فأراد البعض ممن أعماه التعصب أو سعى في إرضاء المخلوق بسخط الخالق أو هو ممن كان همه الوحيد الدينار والدرهم، أن ينال أحد هذه الخصال فنسج هذا الحديث بخيوط أوهن من خيوط العنكبوت.
وبعد هذا العرض فإن حديث الأشباح هو منقبة من مناقب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
وهو أحد خصائصهم المخصوصة بهم دون غيرهم، فأي مخلوق يداني منزلتهم، وأي شريف يصل إلى رتبة شرفهم، وقد طأطأ كل شريف لشرفهم، وتواضع كل عزيز لعزهم، وقد اصطفاهم الله لنفسه، واجتباهم لعبادته، واختارهم لطاعته، فكانوا أهلاً لذلك.
ومن هنا: فإن الله جلت قدرته خصهم بما لم يخص به أحداً من العالمين، وإن هذه العناية الربانية والاهتمامات الإلهية كانت لهم، وبهم، ومعهم، وفيهم، منذ بدء خلقهم، فكان نور حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الخلق، ومبدأ الخير الذي جعله الله عزّ وجلّ فيه ومنه، فكان هذا النور من نور الله عزّ وجلّ .
ص: 126
ثم خلق من نوره سبحانه أيضاً نور علي أمير المؤمنين، وهو نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم - كما مر في الأحاديث -، ثم نور البضعة النبوية فاطمة الزهراء عليها السلام ثم نور الحسن، ونور الحسين عليهما السلام سبطي نبي الرحمة، وريحانتيه من الدنيا.
ثم حجب جلت قدرته هذه الأنوار بحجب الغيب التي استأثر بها لنفسه فكانوا بقرب قريب من ربهم وسيدهم ومولاهم وإلههم بمراتب ودرجات، فأقربهم وأدناهم إلى الله عزّ وجلّ عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ (1) .
ثم إن الله عزّ وجل خلق الملائكة بعد خلقه لهذه الأنوار بأربعة عشر ألف عام.
فكانت هذه الأنوار الإلهية محجوبة عن الملائكة أجمعين، فلما أراد الله عزّ وجلّ أن يظهرهم لملائكته وتراهم جميع عوالم الملائكة من الكروبيين والمقربين والروح وغيرهم أنزلهم تبارك اسمه من عوالم الغيب والحجب إلى عالم الشهادة الأخروية الخاصة بملائكة العزيز القهار جلت قدرته، فأظهرهم لملائكته بهيئة أشباح نور، أي أجسام نورانية بلا أرواح تطوف بعرش الله عزّ شأنه، وكانت الملائكة تنظر إليهم وتسبح الله وتقول: (سبوح قدوس من أنوار ما أكرمها على الله) دون أن تعرف ما هي هذه الأشباح، وفيما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«ولما أراد الله تبارك وتعالى ابتلاء الملائكة وتعريفهم بهذه الأشباح أرسل عليهم سحاباً من ظلمة، وكانت الملائكة لا تنظر أولها من آخرها، وأظلمت
ص: 127
السماوات على الملائكة، فضجت الملائكة بالتسبيح والتقديس لله عزّ وجلّ وقالت: إلهنا منذ خلقتنا وعرفتنا هذه الأشباح - أي جعلتنا ننظر إليها - لم نرَّ بأساً، فبحق هذه الأشباح إلا ما كشفت عنا هذه الظلمة.
فأخرج الله من نور فاطمة قناديل فعلقها في بطنان العرش فأزهرت السماوات والأرض ثم أشرقت بنورها، فلأجل ذلك سميت فاطمة عليها السلام: (بالزهراء)، فقالت الملائكة لمن هذا النور الزاهر الذي قد أشرقت به السماوات والأرض ؟
فأوحى الله إليها هذا نور اخترعته من نور جلالي لأمتي فاطمة ابنة حبيبي وزوجة وليّي وأخي نبييّ وأبو حججي على عبادي، أشهدكم ملائكتي إني قد جعلت ثواب تسبيحكم وتقديسكم لهذه المرأة وشيعتها ومحبيها إلى يوم القيامة»(1).
ولعل البعض يتصور ثقل هذا المعنى: (بجعل ثواب تسبيح الملائكة لفاطمة وشيعتها ومحبيها إلى يوم القيامة)!؟
ونقول:
1 - إن الله عزّ وجلّ يرزق من يشاء ويهب لمن يشاء بغير حساب.
2 - إن فاطمة عليها الصلاة والسلام هي أعظم عند الله من الملائكة ومن كان عند الله أعظم فعمله الذي يصعد إلى الله أعظم من عمل الملائكة، فعمل فاطمة عليها السلام أفضل عند الله من عمل الملائكة.
3 - إن الله تبارك وتعالى لغني عن تسبيح ملائكته وجميع خلقه، فضلا عن
ص: 128
ذلك إنه تعالى جعل ثواب التسبيح ولم يجعل التسبيح وفي هذا القبيل جاءت الأحاديث النبوية كثيرة في حصول ثواب الأعمال.
4 - لأن نور فاطمة أنجى الملائكة من الهلاك ومن الظلام الذي حل بالسماوات والأرض.
5 - إنّ ذكر الأرض هنا جاء إشارة إلى عموم الكون وهو في الوقت نفسه يشير إلى وجود الملائكة في كل ذرة من السماوات والأرض فما خلق الله خلقاً أعظم كثرة من الملائكة، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام روحي فداه إنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما من شيء خلقه الله أكثر من الملائكة، وإنه ليهبط في كل يوم وفي كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به، ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون أمير المؤمنين فيسلمون عليه، ثم يأتون الحسين فيقيمون عنده، فإذا كان السحر وضع لهم معراج إلى السماء، ثم لا يعودون أبداً»)(1).
فكان جزاء نور فاطمة الذي أنار السماوات والأرض وبدد ظلامها وأزاح يحمومها، أن جعل ثواب تسبيح الملائكة لها.
أما دخول شيعتها ومحبيها في هذه الهبة الإلهية والمنحة الربانية فهو إكراماً لفاطمة عليها السلام، ومن أحب عمل قوم حُشر معهم، ومن أجل عين ألف عين تكرمُ .
فهذا نور فاطمة.. وهذا شبح نورها.. وهذا توسل الملائكة إلى الله بها..
ص: 129
ص: 130
ص: 131
ص: 132
من الواضح لدى الجميع أن موضوع الروح هو موضوع قد أحيط بغموض تام بل قد أحيط بحواجز لا يمكن تخطيها أو تجاوزها.
عن محمد بن سنان، عن المفضل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
«إنَّ الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة بعدهم صلوات الله عليهم، فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم»(1).
ص: 133
أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ : (عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ عَنْ مُرَازِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ :
«قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا مُحَمَّدُ إِنِّي خَلَقْتُكَ وَعَلِيّاً نُوراً يَعْنِي رُوحاً بِلا بَدَنٍ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَ سَمَاوَاتِي وَأَرْضِي وَعَرْشِي وَبَحْرِي فَلَمْ تَزَلْ تُهَلِّلُنِي وَتُمَجِّدُنِي ثُمَّ جَمَعْتُ رُوحَيْكُمَا فَجَعَلْتُهُمَا وَاحِدَةً فَكَانَتْ تُمَجِّدُنِي وَتُقَدِّسُنِي وَتُهَلِّلُنِي ثُمَّ قَسَمْتُهَا ثِنْتَيْنِ وَقَسَمْتُ الثِّنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَصَارَتْ أَرْبَعَةً مُحَمَّدٌ وَاحِدٌ وَعَلِيٌّ وَاحِدٌ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ثِنْتَانِ ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ فَاطِمَةَ مِنْ نُورٍ ابْتَدَأَهَا رُوحاً بِلا بَدَنٍ ثُمَّ مَسَحَنَا بِيَمِينِهِ فَأَفْضَى نُورَهُ فِينَا»)(1).
والسبب بسيط جداً وهو عجز الإنسان عن تخطي أول الحواجز الموضوعة حول الروح بكل ما أوتي من قوة، وما أوتي إلا قليلا كما أعلنت الآية، مصرحة بضعف قدرة الإنسان ومعلنة حقيقة رصيده العلمي المعبَّر عنه بأنه (قليل)(2).
وهذا الضعف، وهذه القلة في العلم لم ولن تمكن الإنسان من التقدم ولو خطوة واحدة في الوصول إلى معرفة الروح التي هي جزء من الأمر الإلهي، لأن الآية تشير إلى (من) البعضية، أي: إنّ هذه الروح التي تتحدى عقل الإنسان هي بعض أو جزء من أمر الله عزّ وجلّ ، فكيف بأمره جلت قدرته ؟!
ص: 134
1 - تنص الأحاديث على أن أنوار أهل البيت عليهم السلام التي كانت بهيئة الأشباح وهي في الوقت نفسه أرواحهم لقول الباقر والصادق عليهما السلام:
(وقول الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عزّ وجل:
«إني خلقتك وعلياً نوراً يعني روحاً»).
2 - في حديث خلق الأرواح يقول الإمام الصادق عليه السلام (فغشيها نورهم) و (عرضها على السموات والأرض) وقد مر سابقاً أن الله تعالى عرض هذه الأنوار على السموات والأرض مما يدل على أن أرواحهم هي أنوارهم.
3 - بقيت مسألة وهي قول الباقر عليه السلام في تعريف الأشباح: أبدان نورانية بلا أرواح.
وجوابه:
ألف. إن هذه الأنوار كانت على هيئة أبدان من النور بمعنى أن الله تعالى جعلها بهذه الهيئة، هيئة الأبدان باعتبار أن النور يمكن أن يأخذ أشكالاً محدودة في ذهن السامع تتطابق هذه الأشكال مع ما يراه في الحياة الدنيا، أي لم تكن من صور الخيال الذهني، بل لها واقع محسوس بحاسة البصر ومن ثمّ إمّا أن يأخذ النور شكلاً كرويا فينتشر في جميع الجهات حينما ينبعث مثلاً من المصابيح أو الشمعة وإمّا أن يأخذ شكلاً مستقيما على هيئة العمد حينما ينبعث من مصابيح السيارات أو ما يعرف ب - (الكاشف) أو (لايت) (Light) ، ومن ثمّ لا يهتدي السامع إلى معرفة
ص: 135
الحديث الشريف حينما يتحدث عن أنوارهم.
وعليه: كان الإمام الباقر عليه السلام قد بيّن لجابر الهيئة التي كانت عليها هذه الأنوار.
في الوقت نفسه دلت الأحاديث التي نصت على ذكر الأشباح الدلالة نفسها، أي بيان الهيئة التي كان عليها هذا النور.
باء. حينما اتخذت هذه الأنوار هيئة الأبدان انصرف ذهن السامع إلى دلالة لفظ البدن المتصور في الحياة الدنيا أي بدن الإنسان ومن ثم حينما تكون هذه الأنوار بتلك الهيئة لزم أن يكون لها روح تختلف عن البدن بمعنى: أن تأخذ الدلالة الذهنية نفسها لما يراه الإنسان في الحياة الدنيا من وجود اختلاف بين جنس البدن وجنس الروح.
ولأن هذه الأبدان النورانية والأشباح هي من جنس الأرواح نفسها بل هي عينها كما نصت الأحاديث كان جواب الإمام الباقر عليه السلام لجابر يشير إلى هذا المعنى: أي لا ينصرف ذهنك يا جابر إلى أن هذه الأبدان النورانية لها أرواح مغايرة عن جنسها بل هي نفسها أرواح اتخذت هيئة البدن.
وعليه: يمكن أن تصل إلى أن معنى الأشباح هي أبدان من الروح وأن هذه الروح هي النور.
فقد جاء في الحديث: (إن الله عرض أرواحهم عليهم الصلاة والسلام على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم) والهاء في (غشيها) يعود إلى
ص: 136
السماوات والأرض والجبال. والعلة في ذلك هو مد السماوات والأرض والجبال بالحياة! إذ لا يخفى أنَّ الأصل في حياة كل شيء هي الروح، والأجسام الخالية من الروح، أجسام ميتة، أو هي بمنزلة الجماد لكن ليست من الجمادات؛ إذ إنَّ المراد من الجماد هو عدم الحركة ظاهراً وليس خلوه من الحياة كما يشير القرآن الكريم إلى وجود الحياة في الحجارة.
وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجٰارَةِ لَمٰا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهٰارُ(1) .
والماء هو مادة الحياة لقوله تعالى:
وَ جَعَلْنٰا مِنَ اَلْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ (2) .
ولذلك: فإن المراد من عرض أرواحهم هو بث الحياة في الجبال والسماوات والأرض.
فهم نواة الحياة في الموجودات أو كما تسمى بالممكنات. قال تعالى:
وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (3) .
وقوله سبحانه وتعالى:
وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ خٰاشِعَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ اَلَّذِي أَحْيٰاهٰا لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ(4) .
ص: 137
وعليه: فإن أرواحهم جعلها الله تبارك وتعالى الأصل في بث الحياة في السماوات والأرض والجبال:
«والعرض» هو أشبه ما يكون بالنفخ فيها. أو كالماء الذي يعرض على الأرض ليسقيها ويحييها بالزرع.
إنّ عرض أرواح فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها عليهم السلام على السماوات والأرض والجبال كان من أجل فتقها بالتسبيح.
فأهل السماوات من الملائكة وأهل الأرض من الجن والإنس والبهائم والدواب والنبات والطير والحشرات وما خلق الله سبحانه في البحار من مخلوقات لا تعد ولا تحصى وكل ذي روح من كبار المخلوقات إلى صغارها كالبكتريا والفيروسات والجينات وما هو أصغر من ذلك وما لم يعلم.
وَ يَخْلُقُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (1) .
فجميعها يسبح لله عزّ وجلّ وإن كثيراً منها جعلت آجالها مرهونة بدوام التسبيح فما إن ينقطع تسبيحها يحضر أجلها، قال الله تعالى:
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبٰالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذٰابُ وَ مَنْ يُهِنِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ (2) .
فجميع ما خلق الله، جعله الله ينطق بالتسبيح وقد أخذه من محمد وعترته
ص: 138
عليهم السلام الطاهرة فهم الذين علموا الخلق الحمد، لأنهم أحمد الخلق للخالق.
فعرض أرواحهم أجمعين كان لتعليم السماوات والأرض والجبال ومن فيهن وكل ما خلق الله التسبيح.
ولقد مرّ في الأحاديث السابقة أن الملائكة لبثت سنين عديدة وهي لا تعلم. التسبيح والتقديس حتى جاء الإذن من الله عزّ وجلّ لها بأخذ التسبيح والتهليل والتحميد والتقديس من محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتعلمه منهم.
قال تعالى:
وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ مِنّٰا فَضْلاً يٰا جِبٰالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ(1) ، إِنّٰا سَخَّرْنَا اَلْجِبٰالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرٰاقِ (2) .
فإذا كان هذا هو حال نبي الله داود عليه السلام فكيف يكون حال سيد الأنبياء والمرسلين وهو أشرف ما خلق الله عزّ وجلّ .
هذه الحقيقة جاءت من خلال قوله عليه السلام: (فغشيها النور) فإن المراد من (غشي) السماوات والأرض والجبال ب -
«نورهم» عليهم الصلاة والسلام هو: مد القوة في السماوات والأرض والجبال، والنور هو كناية عن الطاقة المحركة لما في السماوات والأرض والجبال.
ص: 139
أما السماوات فالمراد منه: المجرات النجمية بما تحتويه من مجموعات كوكبية، فالنجوم والسُدم، والبُلسارات، والنجوم المزدوجة، والنجوم النابضة، والعناقيد النجمية، والقوى الجاذبية وغيرها من التسميات الفلكية والظواهر الكونية فالأصل في حركتها وأخذ الطاقة في هذه الحركة جعله الله عزّ وجلّ من نور فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها صلوات الله عليهم من خلال غشيها بنور العترة عليهم السلام.
وأما الأرض: فكان الأصل في حركتها وجريانها ودورانها، هو النور المحمدي.
وأما الجبال فما كان فيها من قوى مكنونة ومخزونة في معادنها كل مصدره النور وهو الأصل في حركة الجبال، قال تعالى:
وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ (1) .
قد مر سابقاً أن الله عزّ وجلّ خلق نور فاطمة عليها الصلاة والسلام من نور جلالته عزّ شأنه، والحديث يشير في قوله:
«فغشيها نورهم»، أي السماوات والأرض والجبال، وهذا يعني أن كل شيء خلقه الله عزّ وجلّ تجد فيه قبساً من نور فاطمة وروحها؛ لأنها خُلقت من نور جلاله تعالى. وبهذا النور يظهر مصداق اسمه تعالى (الجليل).
ص: 140
تناولنا في المسألة الأولى بيان حقيقة سنخية أنوار محمد وأهل بيته عليهم السلام مع أرواحهم، بمعنى أن الله تعالى حينما خلق أنوارهم كانت هي أرواحهم عليهم السلام بدلالة الحديث الثاني الذي أخرجه الشيخ الكليني رضي الله عنه عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
«قال الله تبارك وتعالى يا محمد إني خلقتك وعلياً نوراً يعني روحاً بلا بدن».
وغيرها من الأحاديث التي مرت الإشارة إليها في المسألة الأولى من المبحث.
إلا أن الحقيقة الجديدة التي يظهرها الحديث الشريف هي:
1 - إن هذه الأرواح كانت بلا أبدان والحكمة في ذلك هي أن الله تعالى شاء أن تكون الأرواح من لواحق الأبدان وخواصها، ومن ثم حينما يكون هناك خلق للروح لزم أن يكون هناك بدن تحل فيه، هكذا يفهم من ظاهر الرواية الشريفة.
2 - ولأن هذه الأرواح هي من النور فلذا لا لزومية لوجود الأبدان وذلك لسببين:
ألف: لأنها، أي الأبدان، من مقتضيات الحياة الدنيا، وأن هذه الأرواح هي في السماء وفي عالم الأمر.
باء: أو لاختلافها في أهل البيت عليهم السلام؛ إذ إن الله تعالى جعل أرواحهم هي أنوارهم.
3 - إن الله سبحانه وتعالى اختص روح فاطمة عليها الصلاة والسلام في
ص: 141
خلقها بخاصية منفردة وهي أنه عزّ شأنه خلقها من نور مستقل من ذلك النور الأول الذي خلق الله منه أرواح محمد وعلي والحسن والحسين عليهم السلام.
والذي أفهمه من الحديث أن العلة في هذا التغاير هو لوجود سر الحياة فيه أي الشفع والوتر، والذكر والأنثى.
بمعنى آخر:
إن المخلوقات الأنثوية التي جعلها الله تعالى في الحياة الدنيا تحتاج إلى روح ونور، وطاقة تختلف عما تحتاج المخلوقات الذكورية، أي إن عنصرَيْ الحياة وهما الذكورية والأنثوية وقطبَي الدورة الحياتية على الأرض تقتضي المغايرة.
فكل شيء قائم في الحياة الدنيا على هذين العنصرين ولولاهما لما كانت هناك دورات حياتية على الأرض في كل ما احتوته من كائنات حية.
حتى إننا نلمس ذلك التجلي للنور الذي خلق الله تعالى منه فاطمة عليها السلام في السماء وعلى المخلوقات من خلال اسم الزهراء عليها السلام.
أي ظهور اللون الزهري الذي يرمز به عادة للأنوثة للدلالة على وجود قطبي الحياة على الأرض وفي السموات حتى اتصافها بالأنثوية عاد إلى نور فاطمة الزهراء عليها السلام، فهذه السموات ولا يقال هذا السموات وهكذا.
وإلا فهم في الحقيقة - وكما مرّ سابقاً - قد خلقهم الله تعالى من نوره ولا اختلاف في نوره سبحانه ولا تنافر وإنما كانوا مظاهر لتجلي بعض صفات الله تعالى في الخلق حتى ورد في الأحاديث الشريفة، عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:
ص: 142
«نحن الأسماء الحسنى الذي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا»(1).
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال:
«نحن الاسم المخزون المكنون، نحن الأسماء الحسنى التي إذا سئل الله تعالى بها أجاب، نحن الأسماء المكتوبة على العرش ولأجلنا خلق الله عز وجل السماء، والأرض والعرش والكرسي والجنة والنار، ومنا تعلمت الملائكة التسبيح والتقديس..»(2).
إذن: الحكمة في تفرد خلق روح فاطمة عليها السلام من نور آخر غير الذي خلق الله تعالى منه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعلياً عليه السلام هو لخلق قطبي الحياة وعنصري الوجود وهو الذي يرمز لها بالشفع والوتر.
والوتر أشرف عند الله تعالى من الشفع كتشريف محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جميع خلقه وكتشريف لفظ الجلالة على بقية الأسماء الحسنى وكل أسمائه عزّ شأنه شريفة.
إنّ مما اختزنه الحديث الثاني الذي أوردناه في المبحث هو إظهار الإمام الصادق عليه السلام حقيقة أخرى تتعلق بشأنية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أهل بيته عليهم السلام عند الله وبيان سمو هذه الشأنية والمقامية لديه عزّ اسمه وجلت قدرته.
ص: 143
فكانت هذه الحقيقة هي بيان مراحل خلق أنوارهم عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام مع بيان للحكمة في هذه المراحل من الخلق والنشأة لأنوارهم أي أرواحهم كما نص عليه الحديث الشريف، وهي كالآتي:
يشير الحديث الشريف بوضوح تام إلى أن أول ما خلق الله تعالى كان روح محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم نور علي بن أبي طالب عليه السلام وإن روحيهما لم تزل تهلل الله وتمجده ما شاء الله من الزمن.
والحكمة في هذا البدء هو لأن الله تعالى جعل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعلياً عليه السلام فاتحة الخير والرحمة، فالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو المنذر لجميع الأمم التي خلقها الله تعالى بلحاظ مقام السيّدية التي لديه على الأنبياء عليهم السلام الذين هم نذرٌ لقومهم، وإن علياً عليه السلام كان الهادي لهذه الأمم من خلال مقام الوصاية التي لازمت مقام النبوة منذ الخلق الأول لهما إلى ظهورهما أشباحاً في ظهر آدم إلى نزولهما في عالم الدنيا فكان المصطفى نبيا ورسولا وكان علي وصيا للنبي وخليفة وهما يدعوان إلى طاعة الله وتوحيده من خلال مقام النبوة ومقام الإمامة والولاية قال تعالى في محكم كتابه الكريم:
إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ(1) .
ص: 144
وقد روى الشيخ الصدوق في أماليه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه (قال:
«ما نزلت من القرآن آية إلا وقد علمت أين نزلت، وفيمن نزلت، وفي أي شيء نزلت، وفي أي سهل نزلت، أو في جبل نزلت».
قيل: فما نزل فيك ؟ فقال:
«لولا أنكم سألتموني ما أخبرتكم، نزلت فيّ هذه الآية:
إنما أنت منذر و لكل قوم هاد.
فرسول الله المنذر وأنا الهادي إلى ما جاء به»)(1).
وقد مرّ سابقا من خلال المباحث أنّ الأنبياء عليهم السلام كلهم كانوا مسلمين وأنه صلى الله عليه وآله وسلم الشاهد عليهم، قال تعالى:
فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً(2) .
فكانت هذه هي المرحلة الأولى من خلق نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه علي عليه السلام.
يشير الحديث الشريف أيضا إلى المرحلة الثانية من مراحل خلق أنوار محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أهل بيته عليهم السلام وهي خاصة أيضاً، أي
ص: 145
هذه المرحلة بنور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونور وصيه فيقول الإمام الصادق عليه السلام عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى:
«ثم جمعت روحيكما فجعلتها واحدة».
وهذه المرحلة من الخلق قد نص عليها القرآن الكريم في آية المباهلة في قوله تعالى:
فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ (1) .
فكان علي عليه السلام نفس النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أي إن روحيهما واحدة لكن مقاماتهما مختلفة فالمصطفى في مقام النبوة والرسالة وبه ختم الله هذا المقام وكان علي عليه السلام في مقام الوصاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. تقول سيدة النساء فاطمة عليها السلام في بيان مقام أبيها:
«اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بما يلي الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه»(2).
أما الحكمة في هذا الجمع - كما يبدو لي - فهو في أمور منها:
من البديهي أن كل هذه الشأنية والتكريم إنما هو رعاية لشرع الله تعالى وإن
ص: 146
شأنية محمد ووصيه إنما جاءت من نفس شأنية شريعة الله تعالى ومقامها ولذا قال عزّ وجل:
وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فٰازَ فَوْزاً عَظِيماً(1) .
وقال سبحانه وتعالى:
وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللّٰهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰائِزُونَ (2) .
ومن ثمّ كان وجودهما هو عين وجود شريعة الله تعالى في خلقه وهذا يلزم أن يكون هناك جمع لروحيهما، وذلك لأن مقام الوصي في بيان شريعة الله تعالى هو نفس مقام بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشريعة الله تعالى، ولذا فطاعتهما واحدة وهي طاعة الله ومعصيتهما واحدة وهي معصية الله وبها تكون مخالفة شريعة الله تعالى.
ومن هنا يظهر خطر ادعاء الحكام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمقام الخلافة القرآنية بدون تعيين واختيار من الله سبحانه ومنها ظهرت الفتن وتمخضت البدع، وانتهكت حدود الله تعالى.
أول مظهر من مظاهر الحكمة في جمع الله تعالى لروح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي عليه السلام هو وحدة التلقي لنزول الفيض، بمعنى: أن نزول الحكم الشرعي على قلب النبي والوصي مصدره واحد إلا أن الاختلاف يكمن في
ص: 147
أن ما يتلقاه النبي يكون وحياً وأن الوصي لا يوحى إليه وإنما يأتيه هذا الفيض من قلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه روحهما واحدة ومما يدل عليه، قول أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام:
«ولقد كنت أتبعه إتباع الفيصل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت يا رسول الله، ما هذه الرنّة، فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، أنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك لوزير، وأنك لعلى خير»(1).
يمضي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام في بيانه لحقائق خلق محمد وعترته أهل بيته عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام فيبين لنا المرحلة الثالثة من مراحل خلق أنوارهم، يعني أرواحهم، فبعد أن جمع الله تعالى روح النبي والوصي فجعلهما واحدة فكانت تمجد الله وتقدسه وتهلله.
ثم تكون المرحلة الجديدة: وهي تقسيم هذه الروح إلى ثنتين ولم يشِر الحديث إلى الحقبة الزمنية بعد هذا التقسيم بمعنى انتقالها إلى مرحلة جديدة وهي تقسيم الثنتين
ص: 148
إلى ثنتين أخريين فصارت هذه الروح أربعة، محمد واحد، وعلي واحد، والحسن والحسين اثنان.
وهذا يدل على أن الله تعالى جمع في الحسن والحسين روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي، والحكمة في هذا الجمع فضلاً عما تقدم من اختصاصهما بمقام الوصاية فهم أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ظهور هذا الجمع أي عودة هذه الروح إلى ما كانت عليه في بدو خلقها في الوصي الأخير للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف فبه يظهر الله شريعته على الدين كله قال تعالى:
هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ (1) .
فبالقائم عجل الله تعالى فرجه الشريف من آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يظهر الله الإسلام على جميع الشرائع حتى يسود الأرض ويكون الدين الوحيد.
ص: 149
في هذا المبحث نورد بعض ما وفقنا الله إليه في ذكر أحاديث تُخبر عن أصل الطينة الطاهرة المباركة التي خلقت منها الصديقة الكبرى أم الأئمة فاطمة صلوات الله عليها.
إلا أنني لم أوفق إلى حديث مستقل بطينة البضعة النبوية، فقد جاءت الروايات الشريفة تتحدث عن النبي وعترته عليهم السلام بشكل عام، على عكس ما كان في باب نور فاطمة صلوات الله عليها، فقد جاءت الأحاديث تتحدث عن نورها بشكل خاص، والعلة في ذلك هي لوجود خصائص كثيرة في النور الإلهي الفاطمي؛ منها ما كشف عنه، ومنها ما لم يكشف بعد، ولم يظهره أحد من العترة المحمدية، لأنه من الأسرار الإلهية التي حجب عنها الخلق فلا سبيل إلى معرفتها أو الإحاطة بها.
أما الغرض من ذكر أحاديث الطينة التي خلقت منها فاطمة عليها السلام، فهي من أجل معرفة بعض الحقائق عن البضعة النبوية صلوات الله عليها.
ص: 150
لأن بالمعرفة يتحقق القرب، ومن القرب يتحقق الحب، ومن الحب يتحقق الفوز برضى الله ورضى رسوله ورضى فاطمة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، فطوبى لمن حاز رضى فاطمة عليها السلام، والويل لمن ائتزر بغضب فاطمة عليها السلام.
إن هذه الأحاديث الشريفة تكشف عن حقيقة أبدان العترة الطاهرة، فهي ليست كأبدان الآدميين، وهي حقيقة لم تختص بالمدرسة الإمامية وإنما تناولها أئمة مدرسة السنة والجماعة في كتبهم في حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني لست كهيئتكم»(1).
وإن الاختلاف بين هيئة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أي بدنه الشريف وبين أبداننا يعود إلى الطينة التي خلق منها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة فهي غير الطينة التي خلق منها بنو آدم، فطينة النبي وعترته عليهم السلام كانت من السماء وطينة جميع الناس من الأرض.
ص: 151
وشتان بين عالم السماء الذي يسمى بعالم الأمر وبين عالم الخلق وهو الأرض، فكل عالم له خصائصه وأحواله التي تختلف كلياً عن العالم الآخر.
فعالم الأمر لا كثافة لمادته التي تتكون منها الأشياء؛ وفي نشوئها لا تحتاج إلى مدة زمنية؛ لأنها تظهر بأمر الله عزّ وجلّ ، أمّا عالم الخلق والجسمانيات فالأشياء فيه لا تتكون إلاّ من مادة ولا تستغني عن الزمن، والإنسان جمع الله فيه عالم الأمر وعالم الخلق، فالروح من عالم الأمر والجسد من عالم الخلق فالروح لا تتدرج في النمو إنما الذي ينمو هو البدن وهو الذي يتدرج.
وعالم الروح طاهر نوراني وعالم البدن مركب ظلماني، والروح باقية، والبدن فانٍ والمتوفى الذي حضر أجله لا تموت فيه الروح إنما في الحقيقة الذي يموت هو البدن لخروج الروح منه. وهذا يعني أن الأشياء التي مصدرها عالم الأمر كالروح فهي باقية حيّة وتبعث الحياة في الأجسام التي خلقت من عالم الخلق وما الحياة في عالم الخلق إلاّ لحلول جزء من عالم الأمر فيها وهي الأرواح فإذا تركت الروح الجسد عاد الجسد إلى عالمه الذي خلق منه وأخذ حالته وصفته وطبعه الذي جعله الله فيه؛ ومن طباع عالم الخلق الفناء والاضمحلال والزوال.
ومن هنا: نجد أن نبي الله الخضر عليه السلام كان إذا جلس على جذع يابس اخضر وإذا مشى على الأرض الميتة اخضرت، ولهذا سمي (بالخضر)، والسر في ذلك وعلته، إنه عليه السلام شرب من ماء الحياة، وماء الحياة هو ماء من عالم الأمر الذي تكون الأشياء فيه باقية حية وتبعث الحياة في الأجسام الميتة بإذن الله تعالى، وهي حقيقة نص عليها القرآن في قوله تعالى:
ص: 152
وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِفَتٰاهُ لاٰ أَبْرَحُ حَتّٰى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمّٰا بَلَغٰا مَجْمَعَ بَيْنِهِمٰا نَسِيٰا حُوتَهُمٰا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً فَلَمّٰا جٰاوَزٰا قٰالَ لِفَتٰاهُ آتِنٰا غَدٰاءَنٰا لَقَدْ لَقِينٰا مِنْ سَفَرِنٰا هٰذٰا نَصَباً قٰالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنٰا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مٰا أَنْسٰانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ عَجَباً(1) .
وسبب تعجب وصي موسى عليه السلام هو عودة الحياة للسمكة المجففة اليابسة حينما لامست ماء الحياة فأخذت تجري فيها.
وهكذا هي الأجسام التي خلقت من عالم الملك فإنها إذا اتصلت بشيء من عالم الأمر عالم السماء ظهرت فيها الحياة بإذن الله، وإذا فارقتها ماتت وفنيت؛ لأنها تخضع لقانون وحالة من حالات عالم الخلق.
فحقيقة الموت هو إرجاع كل جزء إلى عالمه فالروح تعود إلى عالمها الذي خلقت منه وهو عالم الأمر بعد مراحل تمر بها وهي القبر ثم البرزخ ثم المحشر ثم الحساب ثم إما إلى النار - والعياذ بالله - وإما إلى الجنة حيث تنقاد هذه الروح إلى قوانين ذلك العالم وطبيعته ومنها البقاء والخلود، أما الجسد فيعود إلى عالمه فتنحل مادته وتنصهر خلاياه وهو آخر أمره.
أما قبل هذه المرحلة فإن الأجسام بعد تحلل مادتها تعاد مرّة أخرى كما ينصهر الذهب، ويعاد شكله من صورة إلى أخرى فقد تعود بعض ذرات هذه الثمرة إلى ذلك البدن الإنساني أو الحيواني، بعد أن يمزج الجميع في التربة، أما عند
ص: 153
يوم البعث فإن الأجساد تعود إلى نواتها فتتجمع الذرات حول نواة الأجسام وتعاد إلى هيئاتها وصورها التي خلقها الله تعالى شأنه.
ويتعارف الناس بصورهم وهيئاتهم التي خلقوا عليها باستثناء العلل التي كانت في هذه الأبدان في الحياة الدنيا؛ إذ يتخلص البدن من جميع عيوبه وعلله في يوم البعث من القبور، يوم النشر والحشر.
ومن هنا:
فإن بدن النبي الأعظم والإمام علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين صلوات الله عليهم أجمعين تختلف عن أبدان الخلق أجمعين؛ لأن الطينة المقدسة التي خلقوا منها هي من عالم الأمر والسماء، من عالم النور، فهي بذلك طاهرة لطيفة لا كثافة فيها مع أن الأبصار تدركها والحواس تحسها.
بمعنى آخر:
أن الله تبارك وتعالى جمع في بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم المثلية البشرية كما نص عليها قوله تعالى:
قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (1) .
فهو يأكل مما يأكله البشر ويتزوج كما يتزوجون وله ولد كما لهم وإنه ولد من أبوين وغيرها من المظاهر والأفعال البشرية التي تنزهه عن الغلو وتجعله في مصاف البشرية الآدمية.
ص: 154
إلا أن هذه المثلية التي نص عليها القرآن قد جمع الله معها آثار النور والروح والطينة التي خلق منها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والتي أشارت الأحاديث الشريفة إلى مواضعها من السماء.
فكان للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من الخصائص النبوية التي تفرد بها عن أنبياء الله مع ما له من المثلية البشرية التي جاء بها القرآن الكريم، وهذه الخصائص النبوية هي كالآتي:
1 - لا يقع على بدن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ولا على ثيابه الذباب والبعوض(1).
2 - لا يشم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم رائحة كريهة(2).
3 - لا يصيبه حر ولا برد(3).
4 - إن النبي الأكرم يكون طاهر الحدثين، يعني طاهر البول والغائط(4).
5 - إن دمه صلى الله عليه وآله وسلم طاهر(5).
6 - إن جسد النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا تأكله الأرض فهو لا يبلى(6).
ص: 155
7 - لا يرى ما يخرج منه عند الاختلاء فالأرض تبتلع ما يخرج منه(1).
8 - لا تصيبه الجنابة من الاحتلام فالشيطان لا يقربه، ولذا فهو لم يحتلم قط(2).
9 - ليس للنبي الأكرم ظل، أي إذا وقف في الشمس أو في أي ضوء فلا يرى له ظل(3).
10 - إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمع في منامه كما يسمع في انتباهه(4).
11 - لا ينتقض وضوؤه بالنوم(5).
12 - إن العود اليابس يخضر في يديه صلى الله عليه وآله وسلم(6).
13 - ولد مختونا مقطوع السرة(7).
14 - خرج يوم ولدته آمنة ولم يكن به قذر(8).
ص: 156
15 - كان صلى الله عليه وآله وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء(1).
16 - غوص قدميه في الصخر إذا مشى(2).
17 - إنه حي في قبره ويصلي(3).
18 - إن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه، وقد تناقلت هذه الحقيقة صحاح أهل السنة والجماعة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني لأراكم من وراء ظهري»(4).
وغيرها من الخصائص النبوية التي تفرد بها صلى الله عليه وآله وسلم وهي خلاف ما عليه البشر وتتقاطع مع المثلية معهم.
إذن:
تنص الآية المباركة (قل إنما أنا بشر مثلكم) على أن هذه المثلية البشرية مقيدة بقيود، هذه القيود حددت من اطلاق المثلية التي نصت عليها الآية وقد تمثلت بتلك الخصائص التي ليس لبشر أن حظي بها سوى عترته أهل بيته الذين خلقهم الله تعالى من نوره ونور حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأن طينتهم واحدة كما نصت عليها الأحاديث الشريفة.
ص: 157
وعليه:
فإن بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبدن فاطمة، وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب والحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين من طينة واحدة، ولذا كان بيت فاطمة وعلي عليهما السلام في مسجد رسول الله يحل لهما فيه ما يحل لرسول الله.
عن عبيد الله بن يحيى، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن جده الحسن بن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن في الفردوس لعيناً أحلى من الشهد وألين من الزبدة، وأبرد من الثلج، وأطيب من المسك، فيها طينة خلقنا الله عزّ وجلّ منها وخلق شيعتنا منها، فمن لم يكن من تلك الطينة فليس منّا ولا من شيعتنا، وهي الميثاق الذي أخذ الله عزّ وجلّ عليه ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام»(1).
1 - محمد بن عيسى بن أبي الحجاج قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام:
ص: 158
«يا أبا الحجاج إن الله خلق محمداً وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من طينة عليين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينة دون ذلك، وخلق قلوبهم من طينة عليين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد»(1).
2 - قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام:
«خلقنا من عليين، وخلق أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من عليين وخلق أجسامهم من دون ذلك، فمن أجل القرابة التي بيننا وبينهم قلوبهم تحن إلينا»(2).
قال العلامة المجلسي رحمهُ الله: الحنين: شوق وتوقان النفس، نقول منه الله حنّ إليه يحن حنيناً فهو حان.
3 - عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
«إنّ الله خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم ممن دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية:
كلا إن كتاب الأبرار لفى عليين(3)»(4).
4 - عن جابر بن عبد الله الجعفي قال: (كنت مع محمد بن علي عليهما السلام، فقال عليه السلام:
ص: 159
«يا جابر خلقنا نحن ومحبينا من طينة واحدة بيضاء نقية من أعلى عليين فخلقنا نحن من أعلاها وخلق محبونا من دونها فإذا كان يوم القيامة التفّت العليا بالسفلى وإذا كان يوم القيامة ضربنا بأيدينا إلى حجزة نبينا وضرب أشياعنا بأيديهم إلى حجزتنا، فأين ترى يصيّر الله نبيه وذريته، وأين ترى يصيّر ذريته محبيهم».
فضرب جابر يده على يده فقال: دخلناها ورب الكعبة، ثلاثاً)(1).
5 - عن الصادق عليه السلام قال:
«إنّ الله عزّ وجل خلقنا من عليين، وخلق محبينا من دون ما خلقنا منه، وخلق عدونا من سجين وخلق محبيهم مما خلقهم منه فلذلك يهوي كل إلى كل»(2).
6 - عن فصيل بن الزبير عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
«أما علمت أن رسول الله قال: إنّا أهل بيت خلقنا من عليين وخلق قلوبنا من الذي خلقنا منه وخلق شيعتنا من أسفل من ذلك وخلق قلوب شيعتنا منه، وإن عدونا خلقوا من سجين وخلق قلوبهم من الذي خلقوا منه، وخلق شيعتهم من أسفل من ذلك وخلق قلوب شيعتهم مما خلقوا منه فهل يستطيع أحد من أهل عليين أن يكون من أهل سجين، وهل يستطيع أهل سجين أن يكونوا من أهل عليين»(3).
ص: 160
1 - ابن عيسى عن ابن محبوب عن بشر بن أبي عقبة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قال:
«إن الله خلق محمداً من طينة من جوهرة تحت العرش، وإنه كان لطينته نضح فجبل طينة أمير المؤمنين من نضح طينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لطينة أمير المؤمنين عليه السلام نضح فجبل طينتنا من نضح طينة أمير المؤمنين عليه السلام وكان لطينتنا نضح فجبل طينة شيعتنا من نضح طينتنا، فقلوبهم تحن إلينا وقلوبنا تعطف عليهم، تعطّف الوالد على الولد، ونحن خير لهم، وهم خير لنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير لنا، ونحن له خير»(1).
2 - عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
«إنّ الله عزّ وجل خلق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعترته من طينة العرش، فلا ينقص منهم واحد، ولا يزيد منهم واحد»(2).
3 - عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول:
«خلقنا الله من نور عظمته ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فأسكن ذلك النور فيه فكنا خلقاً نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيباً وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا، وأبدانهم من طينة مخزونة
ص: 161
مكنونة أسفل من ذلك الطينة ولم يجعل الله لأحد في مثل ذلك الذي خلقهم منه نصيباً إلا الأنبياء والمرسلين، فلذلك صرنا نحن وهم الناس، وصار سائر الناس همجاً في النار وإلى النار»(1).
عن وهب بن منبه، وابن عباس إنهما قالا: لما أراد الله أن يخلق محمداً قال لملائكته: إني أريد أن أخلق خلقاً أفضله وأشرفه على الخلائق أجمعين، وأجعله سيد الأولين والآخرين وأشفعه فيهم يوم الدين، فلولاه ما زخرفت الجنان، ولا سعرت النيران، فاعرفوا محله وأكرموه لكرامتي، وعظموه لعظمتي فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا وما اعتراض العبيد على مولاهم سمعنا وأطعنا، فعند ذلك أمر الله تعالى جبرائيل وملائكة الصفيح الأعلى وحملة العرش فقبضوا تربة رسول الله من موضع ضريحه وقضى أن يخلقه من التراب ويميته في التراب ويحشره على التراب فقبضوا من تربة نفسه الطاهرة قبضة طاهرة لم يمشِ عليها قدم مشت إلى المعاصي فعرج بها الأمين جبرائيل فغسلها في عين السلسبيل حتى نقيت كالدرة البيضاء فكانت تغمس في كل يوم في نهر من أنهار الجنة، وتعرض على الملائكة فتشرق أنوارها فتستقبلها الملائكة بالتحية والإكرام، وكان يطوف بها جبرائيل في صفوف الملائكة فإذا نظروا إليها قالوا: إلهنا إن أمرتنا بالسجود سجدنا، فقد اعترفت الملائكة بفضله وشرفه قبل خلق آدم عليه السلام(2).
ص: 162
عن علي بن عطية الزيات يرفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال، (قال علي بن أبي طالب عليه السلام:
«إنّ لله نهراً دون عرشه، ودون النهر الذي دون عرشه نور من نوره وإن في حافتي النهر روحين مخلوقين، روح القدس وروح من أمره، وأن لله عشر طينات، خمس من نفح الجنة وخمسة من الأرض، وفسر الجنان وفسر الأرض، ثم قال: ما من نبي ولا من ملك من بعد جبله إلا نفخ فيه من الروحين وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إحدى الطينتين».
قلت لأبي الحسن عليه السلام: ما الجبل ؟،
قال:
«الخلق غيرنا أهل البيت، فإن الله خلقنا من العشر الطينات جميعاً، ونفخ فينا من الروحين جميعا فأطيبهما طيباً».
وروى غيره، عن أبي الصامت قال: طين الجنان جنة عدن وجنة المأوى وجنة النعيم والفردوس والخلد وطين الأرض مكة والمدينة والكوفة وبيت المقدس والحائر).
وهذه الأحاديث تضمنت مسائل عديدة وهي كالآتي:
ص: 163
قد تبين لنا من خلال هذه الروايات أن الطينة التي خلقت منها البضعة الطاهرة سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء البتول صلوات الله عليها هي نفس الطينة التي خلق الله منها حبيبه الأكرم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهي نفسها التي خلق منها الإمام علي بن أبي طالب والحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين سواء كانت هذه الطينة التي خلقوا منها من جنة الفردوس، أو عليين، أو من العرش، أو من ضريح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومما يدل عليه أيضاً:
1 - عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام:
ألا أبشرك يا علي قال: بلى بأبي وأمي يا رسول الله، قال: أنا وأنت وفاطمة والحسن والحسين خلقنا من طينة واحدة وفضلت منها فضلة فجعل منها شيعتنا ومحبينا، فإذا كان يوم القيامة دعي الناس بأسماء أمهاتهم ما خلا نحن وشيعتنا ومحبينا فإنهم يدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم(1).
2 - روى ابن قولويه رضي الله عنه عن الإمام الصادق عليه السلام في زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال:
«.... أشهد أنكم كلمة التقوى، وباب الهدى، والعروة الوثقى، والحجة البالغة على من فيها ومن تحت الثرى، وأشهد أن أرواحكم وطينتكم من طينة
ص: 164
واحدة، طابت وطهرت من نور الله، ومن نور رحمته»(1).
3 - روى رحمه الله عن زيد الشحام، قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيهما أفضل الحسن أو الحسين ؟، قال:
«إن فضل أولنا يلحق فضل آخرنا، وفضل آخرنا يلحق فضل أولنا، فكل له فضل».
قال: قلت له: جعلت فداك وسع عليّ في الجواب، فإني والله ما أسألك إلا مرتاداً(2)؟ فقال:
«نحن من شجرة برأنا الله من طينة واحدة، فضلنا من الله، وعلمنا من عند الله، ونحن أمناء الله على خلقه، والدعاة إلى دينه، والحجاب فيما بينه وبين خلقه، أزيدك يا زيد؟».
قلت: نعم، فقال:
«خلقنا واحد، وعلمنا واحد، وفضلنا واحد، وكلنا واحد عند الله عزّ وجل».
فقلت: أخبرني بعددكم ؟، فقال:
«نحن اثنا عشر هكذا حول عرش ربنا جل وعزّ في مبتدأ خلقنا، أولنا محمد، وأوسطنا محمد، وآخرنا محمد»)(3).
إن تعدد الأمكنة التي أخذت منها الطينة المسعودة في خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعترته يدل بحسب الظاهر على وجهين:
ص: 165
هو تشريف لهذه الأمكنة لكون النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أشرف ما خلق الله عزّ وجلّ .
هو أن تعدد الأمكنة يفيد بأن الله تبارك وتعالى قد أخذ من جميع هذه الأمكنة وجمعها مع بعضها ثم جعلت طينة واحدة خلق منها النبي وأهل بيته عليهم السلام كي تجتمع خصائص هذه الأمكنة في موضع واحد وهو طينة بدن النبي وعترته.
ولذلك جاءت الروايات تشير إلى أكثر من موضع في عالم الأمر، أي: السماء، وهي العرش، والفردوس، والعليين.
فقد مرّ في الأحاديث السابقة أن أصل الطينة التي خلق منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته هي من عالم الأمر، بينما نجد أن القرآن ينص على أن خلق الإنسان كان من عالم الملك أي الأرض لقوله تعالى:
مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ (1) .
وفي الحقيقة أنه لا يوجد تعارض بين الآية والأحاديث؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من عالم الأمر وليس من عالم الخلق لقوله صلى الله عليه
ص: 166
وآله وسلم:
«بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»(1).
وهذا الحديث يدل على أن طينة ضريح قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي من عالم الأمر أصلاً، أما كيفية حصول ذلك يمكن معرفته من أمرين:
وهو ما جاء في الحديث الرابع الذي أوردناه في أحاديث الطينة المسعودة المباركة المشرفة، وقد جاء فيه: إن الله عزّ وجلّ أمر جبرائيل وملائكة الصفيح الأعلى بأخذ قبضة من ضريح قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفعها إلى السماء ثم غمسها في عين السلسبيل حتى نقيت - وتنقيتها هي خلوصها من الكثافة والعوارض الظلمانية وتحولها إلى طبيعة عالم الأمر لتكون بذلك شفافة لطيفة نورانية فكانت كالدرة البيضاء لخلوها من الكثافات الترابية فكانت تشرق أنوارها للملائكة لتكون مزاراً وموضعاً يعرج إليه جبرائيل والملائكة أجمعون يطوفون من حولها كطواف الحجيج حول الكعبة المشرفة التي حوت حجراً أسود وأنى للحجر الأسود أن يضاهي شرافة الطينة الدرّية النورانية التي خلق الله منها بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
وما استقبال الملائكة لها بالتحية والإكرام والرغبة بالسجود إلاَّ تعظيمٌ لله بتكريمها وتشريفها بحلول روح الشريعة الإلهية والنواميس الربانية فيها.
ص: 167
أو قد يكون نزول هذه الطينة المشرفة إلى الأرض ووضعها في ضريح قبر خاتم الأنبياء والمرسلين كان قبل خلق بدنه المقدس فيكون بذلك توافق بين الآية الكريمة التي أخبرت عن أصل خلق الإنسان، وبين أحاديث الطينة التي دلت على أنها من السماء؛ وذلك من خلال حمل الآية على قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة».
ربما قد لاح في فضاء ذهن القارئ سؤال مفاده: ما هي العلاقة بين الطينة التي يخلق منها الإنسان وموضع قبره ؟ أو بمعنى آخر هل هناك ترابط بين الطينة التي يخلق منها الإنسان وبين القبر الذي سوف يدفن فيه ؟
والجواب: لقد ورد في بعض النصوص التي تخبر عن خلق طينة الإنسان، أنها تكون من تراب قبره، وهو ما جاءت به الآية على نحو الخصوص في مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ أي من طينة القبر وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ .
وعليه فإن قبر فاطمة صلوات الله عليها وقبور الأئمة المعصومين الطاهرين كلها روضة من رياض الجنة، وذلك أن بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبدان عترته من طينة واحدة، وأنها أخذت من عالم السماء فلا بد أن تعاد إلى موضع تتوفر فيه طبيعة العالم الذي أخذت منه هذه الطينة وخواصه مما يلزم أن يكون قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور عترته الطاهرة روضة من رياض الجنة.
ص: 168
وقد روى الشيخ الكليني رضي الله تعالى عنه عن أمير المؤمنين عليه السلام في باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم أنه قال:
«... وإن لله عشر طينات، خمسة من الجنة وخمسة من الأرض».
ولقد روى عنه أبي الصامت أن هذه الطينات هي:
«طين الجنان: جنة عدن وجنة المأوى، وجنة النعيم، والفردوس، والخلد؛ وطين الأرض: مكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والحائر»(1).
وبهذا يكون مصداقاً قوله تعالى:
مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ (2) .
ص: 169
وفيه مسائل:
الشيعة من حيث المعنى اللغوي هو المشايعة، أي المتابعة وشيعة الرجل اتباعه ومريدوه وأنصاره، والأشياع هم الفرق والجماعات التي ترجع إلى إمام معين أو قائد أو حاكم أو خليفة، ويستفاد من ذلك أصحاب الآراء وأتباعهم فكل من تبنى رأياً واعتقده فهو مشايع له(1).
وأما من حيث المعنى القرآني فقد أعطى القرآن صورتين للتشيع صورة تتناغم مع المعنى اللغوي من حيث مفهوم المتابعة والمناصرة لتظهر مصاديقها في النموذجين، الأول هو في الأنبياء عليهم السلام وتتابع بعضها لبعض في المنهج الرسالي فقال عز وجل في اتباع إبراهيم ومشايعته شريعة نوح.
ص: 170
وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ (1) .
والأنموذج الثاني في مناصرة الأنبياء عليهم السلام ومؤازرتهم شيعتهم هو قوله عزّ وجل في من آمن بموسى وناصره بالتشيع:
فَاسْتَغٰاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسىٰ فَقَضىٰ عَلَيْهِ (2) .
وهنا إشارة إلى أن هذه النصرة متلازمة بين الأنبياء وشيعتهم، أي إنها متبادلة وهي سنة قرآنية قال عزّ وجل:
إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ (3) .
ولذا من يشايع النبي الأعظم ويناصره يحصل بالمقابل على نصرة النبي الأعظم ومشايعته له كما بين القرآن في قضية موسى الكليم عليه السلام، وكذلك بالنسبة للعداء فهو متبادل.
والصورة الثانية التي يظهرها القرآن لمفهوم التشيع هو: الأشياع أي الفرق الذين يسلكون غير سبيل المرسلين كما في قوله تعالى:
وَ كٰانُوا شِيَعاً(4) .
وأما من حيث المعنى النبوي فقد وضع النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً ومقياساً لمن أسلم هذا القانون متمثلاً بحب علي عليه السلام وبغضه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
ص: 171
«يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».
وعند الرجوع إلى المعنى اللغوي والقرآني وحملهما على المعنى النبوي للتشيع نستنتج أن الذين لزموا أمير المؤمنين علياً عليه السلام وتابعوا نهجه وناصروه هم شيعته وهم المؤمنون بعلة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يحبّك إلا مؤمن».
وإن الذين تركوه وانصرفوا إلى غيره وتابعوا غير نهجه وناصروا غيره هم المنافقون بدلالة قوله:
«لا يبغضك إلا منافق».
إنّ من الحقائق التي يعرضها القرآن هي سريان سنّة التفاضل التي أجراها الله تعالى في خلقه ابتداءً من الأنبياء والمرسلين فقال عزّ وجل:
تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ (1) .
كذلك نجد أن هذه السنّة الربانية في درجات الإيمان والحب والبغض؛ فبعض المسلمين يحبون الإمام علياً عليه السلام لكنهم لا يتبعون نهجه بل قد يفضلون غيره عليه ويجدون سنة غيره أفضل من سنته ولذلك انحازوا إليها واتبعوها؛ في حين انهم نسوا أو تناسوا أن الحب حسب المفهوم القرآني هو المتابعة ولا يكفي أن يكون الحب مجرد لقلقة لسان فهذا مخالف للنواميس الطبيعية، قال تعالى في خطابه للذين وقعوا في غفلة التفريق بين الحب اللفظي والحب القلبي:
ص: 172
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ (1) .
والآية الكريمة واضحة الدلالة في التلازم بين حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبين هذا الحب الواحد الذي لا يمكن تجزئته أو التفريق فيما بينه وبين المتابعة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؛ بمعنى تحقق مصداق حب الله يكون بأتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان نتيجة هذا الحب هو حب الله لمن تبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما أن يدعي المسلم أنه يحب الله وهو يخالف رسول الله فذاك هو الخسران المبين الذي تحدث عنه القرآن الكريم بقوله:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمٰالاً اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(2) .
وهذا هو حال كثير من المسلمين الذين وقعوا فريسة للتضليل الإعلامي والفكري منذ حادثة السقيفة التي اتفق فيها الحاضرون على مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته التي أوصى بها الأمة في التمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته، وهذا يكفي لمن أراد النجاة يوم القيامة وان يعلم أين يضع قدمه من هذه الأحداث.
بل يكفي بالعاقل أن ينأى بنفسه عن كثيرٍ مما قيل وقال ويعود فقط إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي:
«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».
ص: 173
ويأخذ بعين الاعتبار معنى الحب الذي أظهره القرآن ومعنى المشايعة التي بينتها اللغة والقرآن.
إذن:
يتفاوت الناس في معتقداتهم وفي مستوى إيمانهم كما يتفاوتون في مستوى حبهم للأشياء فمنهم من يتفانى في حب من أحب حتى يكاد يكون صورة حية لمن أحب في هديه وسمته؛ ومنهم من يكون وبالاً على من أحب كالولد السيّئ الخلق الذي يكون شيناً لوالديه.
ومن الناس من يتفانى في بغضه لكثير من الأشياء فيتراوح شعوره لها بين الابتعاد والهجر والنفور والكره والحقد والبغض والنصب والعياذ بالله، وهم الذين توعدهم الله بمكان وعذاب خاصّين من جهنم قال تعالى:
عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ (1) .
وأول درجات النفاق خلو القلب من أدنى درجات الحب الباعثة إلى الاتباع وإن أول درجة من الاتباع هي أول درجات الحب.
ولذا نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن صور كثيرة عن بعض المسلمين الذين يحضرون الصلاة ويخرجون للجهاد لكن كيف كان اتباعهم وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ بل بعضهم يتربص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعضهم يفرح حينما يصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسوء.
قال عزّ وجل:
ص: 174
لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ(1) .
وقال سبحانه وتعالى:
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنٰا أَمْرَنٰا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (2) .
وجاء في القرآن أيضا:
وَ إِذٰا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قٰالُوا آمَنّٰا وَ إِذٰا خَلَوْا إِلىٰ شَيٰاطِينِهِمْ قٰالُوا إِنّٰا مَعَكُمْ إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ (3) .
قال عزّ وجل:
هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ (4) .
وغيرها من الآيات الكريمة.
ولذا: يتفاضل المسلمون في درجات إيمانهم وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتمسك بهديه كما يتفاوتون في نفاقهم؛ لأن القرآن الكريم يعطي صورة لأولئك المنافقين وطريقة قيامهم لشعائر الإسلام فهم يصلون لكن بأي صلاة قال تعالى:
وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَى اَلصَّلاٰةِ قٰامُوا كُسٰالىٰ (5) .
ص: 175
لكن مع صلاتهم هذه فهم في الآخرة بهذا المستوي الذي نصّ عليه قوله تعالى:
إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّٰارِ(1) .
وقال عزّ وجل:
إِنَّ اَللّٰهَ جٰامِعُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً(2) .
فالملاك والسبيل المنجي في الدنيا والآخرة هو حب محمد وعترته أهل بيته واتباعهم؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر بوشك أن يأتي رسول ربي فأجيبه، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به».
فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:
«وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»(3).
ص: 176
إنّ شيعة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين قد خصهم الله بفضله وتفضل عليهم بكرمه، فكرّمهم على كثير من عباده وخلقه.
ومن بين هذه الفضائل والخصائص أنه عزّ وجل خلقهم من فاضل طينة العترة الطاهرة صلوات الله عليهم، وسواء كانت هذه الطينة المقدسة قد أخذت من الفردوس أو من عليين أو من تحت العرش أو من موضع قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو إنها جمعت من جميع هذه المواضع فالنتيجة الحاصلة هي واحدة فهم يتبعون طينة العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين.
ولكن أخلقت أبدان الشيعة من فاضل طينتهم عليهم السلام أم أرواحهم أم قلوبهم ؟
ثم ما لهذا الأمر من الخصائص الخاصة ؟ وما معنى الفاضل من الطينة والمشيئة الإلهية تقتضي انحصار الطينة على عدد أهل البيت وهم المعصومون الأربعة عشر صلوات الله عليهم، كما جاء في الرواية:
«فلا ينقص منهم واحد ولا يزيد فيهم واحد»(1).
فما هذا الفاضل من الطينة ؟
وأقول:
1 - أما الموضع الذي أشارت إليه الأحاديث في خلق الشيعة من طينة أهل البيت عليهم السلام، فهو: (قلوبهم وأرواحهم)، أي بمعنى: إن قلب كل مؤمن
ص: 177
حمل وسام التشيع وبلغ مقام شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن قلبه خلق من الطينة التي خلق الله منها أبدان محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم:
«إن الله خلق محمداً وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من طينة عليين وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من دون عليين، وخلق قلوبهم من طينة عليين فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1).
بينما أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى أن أرواح شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلقت من طينة أبدانهم عليهم السلام، قال عليه السلام:
«خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من عليين وخلق أجسادهم من دون ذلك»(2).
فإذن: قلوب شيعة أهل البيت عليهم السلام وأرواحهم قد خلقت من طينة أبدانهم وهذه الطينة منشأها وأصلها من عليين.
2 - أما لماذا خص القلب والروح بهذه الطينة المقدسة ؟ فهو لما يلي:
ألف: إن ما ينزل من البلاء على العترة الطاهرة عليهم السلام ينزل بشيعتهم وما يحل من الرخاء بهم عليهم السلام يحل بشيعتهم، ويظهر هذا جلياً من خلال
ص: 178
جواب الإمام الباقر عليه السلام لرجل قال له: والله إني لأحبكم أهل البيت، فقال عليه السلام:
فاتخذ للبلاء جلباباً، فو الله إنه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدأ البلاء ثم بكم، وبنا يبدأ الرخاء ثم بكم(1).
باء: إن ما يصيبهم من أفراح وأحزان يصيب شيعتهم وهو ما أشار إليه قول الإمام الصادق عليه السلام:
«شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا ويحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا»(2).
جيم: إن قلوب شيعتهم تحن إليهم وهو من الحنين وشوق النفس وتوقانها إليهم صلوات الله عليهم وهو قوله عليه السلام:
«قلوبهم تحن إلينا»(3).
ثم يبين - بأبي وأمي - هذا الترابط وهذا التبادل في المحبة قائلاً:
«قلوبنا تعطف عليهم تعطّف الوالد على الولد، ونحن خير لهم، وهم خير لنا، ورسول الله لنا خير ونحن له خير»(4).
ص: 179
إن المراد من قوله صلوات الله عليه: (من فاضل طينتا) هو القرابة النورانية لا البضعية، بمعنى: أن معنى (من) هو للجنس، أي من جنس هذه الطينة المحمدية وهو كقرابة الشعاع من النور فهذه الصلة وهذه النسبة حقَّقَتْ القرابة بينهم وبين شيعتهم وأصله من الطينة المقدسة التي خلقت منها أبدانهم عليهم السلام، ومن فاضلها خلق الله قلوب شيعتهم وأرواحهم(1)، وقد أطلق صلوات الله عليه على هذا الترابط ب -
«القرابة بيننا وبينهم»(2).
ومن هنا جاء قول خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم:
«سلمان منا أهل البيت»(3).
أي من طينة أبداننا ومما يدل عليه أيضاً ما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في بيان المراد من هذا الحديث:
ص: 180
فعن المفضل بن عيسى الهاشمي أنه قال:
دخلت على أبي عبد الله عليه السلام أنا وأبي عيسى فقال له: أمن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«سلمان منا أهل البيت»؟
قال:
نعم.
قال: أي من ولد عبد المطلب، فقال:
«منّا أهل البيت»؟
فقال عليه السلام له:
«أي من ولد أبي طالب».
فقال:
«منّا أهل البيت».
فقال له - عيسى -: إني لا أعرفه، فقال عليه السلام:
فاعرفه يا عيسى فإنه منّا أهل البيت.
ثم أومأ بيده إلى صدره ثم قال:
ليس حيث تذهب، إن الله خلق طينتنا من علّيين، وخلق شيعتنا من دون ذلك فهم منا، وخلق طينة عدونا من سجين وخلق طينة شيعتهم من دون ذلك وهم منهم، وسلمان خير من لقمان(1).
ص: 181
إنّ الفاضل من الطينة التي جاءت به الأخبار والتي تحدثت عن تخصيص الأمكنة وتعيينه كعليين وغيرها لا تعرف ماهيتها؛ لأنها من الأمور الغيبية المحجوبة عن البشر إلا ما أخبر به خير البشر صلى الله عليه وآله وسلم.
ولأن ما جاء به الوحي عن الجنان والنيران لا يمكن إدراكه ووصفه؛ لأنه خاضع تحت نطاق: (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قبل بشر)(1) ولذا كيف يمكن أن يتعرف قلب البشر على هذا العالم المحجوب عن قلوبهم حتى ولو من لمح الخاطر. وعليه: فلا يمكن التعرف على ماهية الطينة التي خلقت منها أبدانهم المقدسة وإن ما حملته هذه الأحاديث من مسميات عالم الملك والجسمانيات - وما أكثر هذه المسميات التي حملت نفس المفردة ونفس اللفظ - كالنار والأنهار فهي لا تعطي نفس الماهية التي لها في عالم الأمر، أي الجنة والنار وعالم السماء.
فإذن لا يمكن معرفة المراد من كلمة
«الطينة» إلاّ بقدر ما أفصح عنها أهلها عليهم السلام. وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ما يشير إلى أن المراد من: (فاضل طينتنا) هو الشعاع من النور. فيفهم منه أن أحد معاني هذه (الطينة) المقدسة هي (النور). وأن الفاضل من النور هو الشعاع.
وعليه: وبعد هذا العرض فإن طينة حقة الأنوار الإلهية(2)، وصاحبة الخدر
ص: 182
والبضعة المحمدية، وبضعة الطهر والعصمة النبوية(1)، وشجنة الخلق العظيم(2)، وقلب عالم الإمكان(3)، وقطب علة التكوين، وروح شريعة رب العالمين(4)، وأم الحسن والحسين. الطاهرة المطهرة، الصدّيقة الصابرة، أرض أنوار الإمامة، وأم الأئمة والنبوة والزعامة(5).
فاطمة الزهراء البتول عليها الصلاة والسلام: قد كانت من عالم الأمر والنور والسماء من طينة جنة الفردوس، وعليين، والعرش، وقبر النبي الأكرم
ص: 183
صلى الله عليه وآله وسلم، وأن بدنها من هذه الطينة المقدسة الطاهرة، وهي لأجل ذلك:
«ليست كنساء الآدميين ولا تعتل كما يعتلون»(1).
فلا يرى لها انقطاع عن العبادة كما تنقطع النساء لعلة انقطاع طهرهن، فهي طاهرة، مطهرة، طهور، منذ أن خلقها الله عزّ وجلّ ، وأنشأها وبرأها وأخرجها إلى الحياة الدنيا من صلب نور النبوة، وابنتها في أرض الطهر والطهارة أم المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام.
وهي في روضتها البرزخية الفردوسية، العلينية، السلسبيلية، الدّرية، النورية، المحمديّة، تسمع الكلام وترد السلام وتنظر في أعمال أمة أبيها.
وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ (2) .
وتشفع لشيعتها ومحبيها، غياث المستغيثين ومدركة الملهوفين بإذن رب العالمين، وبابه الذي يؤتى منه، وطريقه الموصلة إليه؛ فصلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.
ص: 184
ص: 185
ص: 186
وتشتمل على مسألتين:
نتناول في هذا الباب، الأحاديث الواردة في خلق فاطمة من ثمار الجنة ولكون أن هذا العنوان قد انفردت به الزهراء عليها السلام دون غيرها من الخلق، فقد تضمن هذا الباب فصولاً ومباحث كثيرة.
ولذا فقد اقتضى البحث أن يسبقه توطئة تشتمل على مبحثين.
والسبب للأمور التالية:
هو اعتماد البعض ممن كتب في سير النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على الرواية التي تقول:
«إن فاطمة عليها السلام قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات»(1).
الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء والمعراج النبوي الشريف، بين وقوعها في السنة الثالثة من البعثة، وهو ما عليه أئمة أهل البيت النبوي عليهم السلام، وبين وقوعها في السنة الثالثة عشرة من البعثة وهو ما عليه بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إعراض بعض هؤلاء الكتاب عن الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام فلم يأخذوا بما ورد عنهم في هذا المجال أو في غيره، دون تقديم سبب منطقي لهذا الإعراض في حين أن الشرع المقدس والعقل يوجبان الأخذ بأقوالهم.
وهذه الأمور مجتمعة أو منفردة جعلت البعض كابن الجوزي وغيره، يتحامل على الرواية وراويها وكأنه جاء بما لا يغتفر!
ص: 188
والحال إنه كان يكفي أن توصف هذه الرواية، على فرض عدم صحتها بما يناسبها من مصطلحات علم الحديث، من حيث السند، وكان يكفي من المعترضين الإشارة إلى وجود تعارض بينها وبين ما يعتقده ابن الجوزي السلفي في وقت الإسراء والمعراج! وبهذا يتحقق القصد في بيان واقع الرواية عند من يعتقد بأن الإسراء وقع سنة ثلاث عشرة من البعثة.
فهذه هي وظيفة الباحث حينما يريد أن يظهر عدم صحة هذه الرواية أو ذاك الحدث.
أما أن يكون التعليق يحمل كلمات التوهين والتنقيص بالرواية، ووصف الراوي بالغباء والخزي، لأنه خالف عقيدة ابن الجوزي أو غيره، فهذا يكشف عن الافتقار إلى النزاهة العلمية، ويكشف أيضاً عن سريرة القائل، وميوله النفسية.
إن مسألة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة هي حقيقة نصت عليها السنة المحمدّية على صاحبها وآله الصلاة والسلام.
ولو كان هؤلاء الذين اعترضوا على هذه الحقيقة قد تدبروا سنة النبي المصطفى بقلبٍ حر من قيود الأهواء، لوجدوا الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بينت هذه الحقيقة، في مواضع كثيرة وقبل أن نشير إلى بعض هذه المواضع، فلا بد من الالتفات إلى ما أخرجه الكثير من الحفاظ لرواياتٍ عديدة في مولد فاطمة الزهراء عليها السلام.
ص: 189
فمنهم من روى أنها ولدت على رأس البعثة(1).
ومنهم من قال: سنة إحدى وأربعين(2).
ومنهم من ذهب إلى السنة الثامنة من البعثة(3).
وكثيرٌ منهم قد قال: إنها ولدت في السنة الخامسة من البعثة(4).
وهذه الأقوال وإن كانت لا تنسجم مع ما اعتقده بعضهم من أن الإسراء والمعراج كان في السنة الثانية عشرة من البعثة، إلا أنّ هذا لا ينافي كونها عليها السلام قد خلقت من ثمار الجنة كما أن الاعتقاد بهذا القول لا يصلح أن يكون دليلاً على دحض حقيقة خلق فاطمة من ثمار الجنة، بعد أن نصت عليها السنة النبوية المطهرة بنصوص صحيحة، نذكر منها نصين فقط على سبيل الاستدلال لا الحصر.
أولاً: ما أخرجه البخاري ومسلم، وابن حبان، وابن خزيمة وغيرهم، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال:
ص: 190
«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين»(1).
وعليه:
فهل يا ترى أنّ الله تبارك وتعالى كان يطعم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة أم من غير ثمارها!؟ أم كان يسقيه من غير مائها وأنهارها؟!
فإن قيل: إن الله عزّ وجل كان يطعمه من غير ثمار الجنة، فهو يؤدي إلى جعل مريم بنت عمران أفضل من سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وبه يأثم قائله، ويكفر إذا كان قصده التقليل من شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن قيل: كان يطعمه عزّ وجلّ من ثمار الجنة، ويسقيه من مائها، فما وجه اعتراض المعترضين وامتعاض قلوب المنافقين من أن أصل النطفة الزكية، الطيبة، التي خلقت منها البضعة النبوية فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، كانت من ثمار الجنة التي أطعمها الله لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً: قد جاء في كثير من الروايات: أن جبرائيل عليه السلام كان يهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة ويطعمه من طعامها، فمما جاءت به صحاح المسلمين من هذه الأحاديث، نزول الطائر المشوي من الجنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتناوله مع علي بن أبي طالب(2) عليه السلام، وهذا
ص: 191
الحديث يغني الباحث عن التقصي خلف حقيقة إطعام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة وأن فاطمة الزهراء عليها السلام خلقت من هذه الثمار.
أما جميع المسألة فهي من أيسر ما يمكن أن يعطيه الله لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فما قدر الجنة مقابل علو مقام سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وهل تنال الجنة بدون حب المصطفى وعترته والتمسك بهم ؟!
وهل يدرك المسلم الجنة وعلي قسيم النار والجنة، ومن ثمّ ما قيمة ثمار الجنة حينما يتناولها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا؟!
وقبل الدخول إلى مباحث هذا الفصل والمسائل التي رافقته، فلا بد من الإشارة إلى ما يلي:
ونتحدث فيه عن تناول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثمار الجنة في رحلة الإسراء والمعراج ودخوله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة وأكله من ثمارها.
وفيه نشير إلى أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد أكل من ثمار الجنة وهو في الأرض، حينما كان ينزلها إليه جبرائيل عليه السلام بأمر من الله تبارك وتعالى.
ص: 192
إن جميع هذه الثمار سواء كان تناولها في السماء أو في الأرض كان الحامل والمقدم لها هو جبرائيل عليه السلام، وهذا له من الأسرار العجيبة والألطاف الإلهية المحكمة التي خص الله بها فاطمة عليها السلام وسنشير إليه في حينه إن شاء الله تعالى.
قد أشارت الأحاديث في هذا الفصل: إلى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأكثر من نوع من أنواع الثمار وهي: (التفاح - السفرجل - الرطب - العنب - شجرة طوبى) ولم يختر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرها، وهذا يدل على أمرين:
أي: إنّ الله عزّ وجلّ قد اختار هذه الثمار لنبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها من أحب الثمار إليه صلى الله عليه وآله وسلم وأقربها إلى نفسه المقدسة.
وقد ورد في الحديث عن الإمام علي الرضا صلوات الله عليه فيما يخص حب النبي لبعض هذه الثمار، أنّه قال:
«إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب السفرجل حباً شديداً»(1).
ص: 193
إن الحكمة في تعدد هذه الثمار وتحديداً هذه الأصناف التي ذكرتها الروايات كان لوجود خصائص ومميزات لكل نوع من هذه الأنواع التي ذكرت وتأثيرها في تكوين الجنين بايولوجياً بشكل عام وروحياً بشكل خاص؛ وقد أشارت الأحاديث الشريفة إلى وجود علاقة بين الجنين وهذه الثمار وتحديداً: (السفرجل والرطب)، وتأثيرها في ذكاء الطفل وجمال خلقته وخلقه(1) كما سيمر بيانه.
ص: 194
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
«كان رسول الله يكثر تقبيل فاطمة عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها آلاف التحية والسلام، فانكرت ذلك عائشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرائيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته فحول الله ذلك ماءً في ظهري، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها»(1).
مسائل البحث في الحديث:
يكشف الحديث الشريف عن حالة خاصة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تتسم بالمنهجية لتغير الحياة الأسرية في الإسلام وذلك من خلال العلاقة
ص: 195
الوالدية المفعمة بالمحبة والرقة اتجاه البنات خاصة دون الذكور.
وهو الأمر الجديد الذي لم يعهده العرب منذ سنين عديدة، وهم الذين لديهم تأصلت ثقافة الوأد والتهميش والإقصاء لدور المرأة في الحياة، فكيف اليوم يرون كل هذا الحب الذي يقدمه رسول الله لهذه البنت ؟!
فضلاً عن ذلك فقد كشف الحديث أيضاً عن خصوصية خاصة بسيدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام وهي خلقها من ثمار شجرة طوبى وفوح عطر هذه الثمار منها، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها».
وهذا يدل على أن هذه الرائحة مقيدة بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى:
إن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشمْمنَ هذه الرائحة، ولذا لم يرو عنهنّ ما يدل على هذا المعنى كوجود رائحة مميزة في بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تختلف عن كل ما عرفته النساء من العطور آنذاك.
وعليه: فهذا الشذى الفردوسي مقيّد بشخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأنه هو الذي أطعم من هذه الثمار فعرف عطرها في شخص فاطمة صلوات الله عليها.
أما شجرة طوبى فقد وردت روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام تبيّن صفة هذه الشجرة وهي كالآتي:
ص: 196
1. عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:
«طوبى هي شجرة تخرج من جنة عدن غرسها ربنا بيده»(1).
2. روى القرطبي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر - عليه السلام -: (سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله تعالى:
طُوبىٰ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (2) .
قال:
«شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة».
ثم سأل عنها مرة أخرى فقال:
«شجرة أصلها في دار علي وفروعها في الجنة».
فقيل له يا رسول الله! سئلت عنها فقلت: أصلها في داري وفروعها في الجنة، ثم سئلت عنها فقلت: أصلها في دار علي وفروعها في الجنة ؟، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«إنّ داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد»)(3).
3. وعن ثابت، عن ابن سيرين، في قوله:
طُوبىٰ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ .
ص: 197
قال:
طوبى شجرة أصلها في حجرة علي عليه السلام، وليس في الجنة حجرة إلا فيها غصن من أغصانها(1).
4. وعن معاوية بن حمزة، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة»(2).
5. عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:
لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛
طُوبىٰ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ .
قام المقداد بن الأسود الكندي إلى رسول الله فقال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
«يا رسول الله وما طوبى»؟.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا مقداد شجرة في الجنة لو يسير الراكب الجواد لسار في ظلها مائة عام قبل أن يقطعها، وورقها وبسرها برود خضر، وزهرها رياض صفر، وأفناؤها سندس واستبرق، وثمرها حلل خضر، وصمغها زنجبيل وعسل وبطحاؤها ياقوت وزمرد أخضر، وترابها مسك وعنبر وكافور أصفر وحشيشها
ص: 198
زعفران يتأجج من غير وقود يتفجر من أصلها السلسبيل والرحيق والمعين وظلها مجلس من مجالس شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(1).
6. روى الشيخ الكليني عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:
«إنّ لأهل الدين علامات يعرفون بها: صدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلة المراقبة للنساء - أو قال: قلة المواتاة للنساء - وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعة الخلق، واتباع العلم، وما يقرب إلى الله عزّ وجل (طُوبىٰ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ )
وطوبى شجرة في الجنة، أصلها في دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس من مؤمن إلا وفي داره غصن منها لا تخطر على قلبه شهوة شيء إلا أتاه به ذلك الغصن، ولو أن راكباً مجداً سار في ظلها مائة عام ما خرج منها، ولو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتى يسقط هرما، إلا ففي هذا فارغبوا، إن المؤمن نفسه منه في شغل والناس منه في راحة، وإذا جنّ عليه الليل افترش وجهه وسجد لله عزّ وجل بمكارم بدنه، يناجي الذي خلقه في فكاك رقبته، ألا فهكذا كونوا»(2).
ص: 199
روى القمي في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:
«لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعان تفق ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة وربما أمسكوا فقلت لهم ما لكم ربما بنيتم وربما أمسكتم ؟ فقالوا حتى تجيئنا النفقة فقلت: وما نفقتكم ؟ فقالوا قول المؤمن في الدنيا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإذا قال بنينا وإذا أمسك أمسكنا وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري بي إلى سبع سماواته أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فأجلسني على درنوك من درانيك الجنة فناولني سفرجلة فانفلقت نصفين فخرجت من بينهما حوراء فقامت بين يدي فقالت عليك السلام يا محمد السلام عليك يا أحمد السلام عليك يا رسول الله فقلت وعليك السلام من أنت ؟ فقالت: أنا الراضية المرضية خلقني الجبار من ثلاثة أنواع أسفلي من المسك ووسطي من العنبر وأعلاي من الكافور وعجنت بماء الحيوان ثم قال جل ذكره لي كوني فكنت لأخيك ووصيك علي بن أبي طالب(1).
ص: 200
عن الزهري عن سعيد بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أتاني جبرائيل عليه الصلاة والسلام بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أُسريَ بي فعلقت خديجة بفاطمة، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة»(1).
مسائل البحث في الحديث:
إن من السنن الكونية التي سنّها الله عزّ وجلّ في هذا الكون هي سنّة (التأثر)، وهي أن يتأثر الإنسان والأشياء بما يخالطها من الأشياء الأخرى، فكلما كان المؤثر أقوى والمتأثر أضعف كلما كان التأثير كبيراً.
ومن خلال هذه القاعدة والسنة الكونية التي يشير لها الحديث أن فاطمة صلوات الله عليها قد تأثرت برائحة الجنة لدرجة النفوذ في البدن بل أصبحت عليها السلام من سنخ هذه العطور لكونها خلقت منها. وإن هذه الرائحة تفوح من موضع الرقبة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«شممت رقبة فاطمة صلوات الله عليها».
وهو أشبه ما يكون بمن جلس في محل لبيع العطور فترة من الزمن ثم يقوم
ص: 201
ويخرج فكلما مرَّ بموضع شُمَ منه رائحة العطر وإذا كانت هذه الرائحة قد أثرت في هذا الإنسان في ثوبه وجسمه فإنه يقوم بنقل هذه العطور إلى المحل والموضع الذي يجلس فيه واليد التي سوف تتصل بيده ومن هذا المعنى: فإن أم الأنوار الإلهية والبضعة المحمدّية سيدة المخدرات وتاج العفة والحياء قد حملت من عطور الجنة وروحها وريحانها ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأنه هو الذي شم رائحة الجنة.
أما الوجه الثاني لهذا المعنى الذي جاء به الحديث الشريف فهو: دلالة المنتج؛ إذ جرت العادة ومنذ القدم أن تحمل الأشياء القادمة من مكان تصنيعها وإنتاجها أو موطنها الأصلي علامة تدل عليها، ودلالة تشير إلى اسم المنتج أو المكان الذي صُنّعت فيه، وعلى وفق هذه العلامة تترفع قيمة الشيء الحامل لها لاعتبارات خاصة ولضوابط وضعها ذوو الاختصاص، حتى باتت جميع الأشياء التي من حولنا خاضعة لهذه السُنّة الاعتبارية ولم يعد الأمر محصوراً في الأشياء المصنعة بل حتى التي لا دخل ليد الإنسان فيها.
كالتي تحمل اعتبارات المكان والموضع الذي تعود إليه، فهذا ماء زمزمي، وهذا فراتي، وهذا تمر مدني، وذلك عقيق يماني، وهذه سجدة كربلائية على صاحبها الصلاة والسلام وهكذا.
ومن هذا المعنى: فإن الدلائل التي حملتها البضعة النبوية فاطمة صلوات الله عليها كانت كالتالي: عطور فردوسية، روح علينية، ورياحين عدنية، وحياة سلسبيلية، وأنوار إلاهية، وغيرها مما لا حصر لها، وجميعها علائم تدل على مكان خلقها وتشير وترشد إلى موطنها الأصلي.
ص: 202
إن لهذه الثمرة علاقة خاصة مع الأنبياء سلام الله عليهم؛ إذ قال الصادق عليه السلام:
«ما بعث الله نبياً إلا وفي يده سفرجلة أو بيده سفرجلة»(1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«وما بعث الله نبياً إلا أطعمه من سفرجل الجنة فيزيد فيه قوة أربعين رجلاً»(2).
وهذا هو أحد أسرار هذه الثمرة فقد ورد في ذكر خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أن له قوة أربعين رجلاً فلا يضعفه جوع أو جماع(3).
ولعله هو أحد الأسباب التي أطعم فيها السفرجل فتحول ماءً في صلبه صلى الله عليه وآله وسلم لتلد خديجة سلام الله عليها الحوراء الإنسية صلوات الله عليها ليكون أولادها الأئمة عليهم السلام يحملون من القوة ما يحمله الأنبياء عليهم السلام.
ولعل عطر هذه الثمرة المميزة جعلها الله مخصوصة بالأنبياء عليهم السلام، قال الإمام علي الرضا صلوات الله عليه:
ص: 203
«ما بعث الله نبياً إلا أوجد منه ريح السفرجل»(1) - وأن -
«رائحة الأنبياء رائحة السفرجل»(2).
أضف إلى ذلك أن لهذه الثمرة آثاراً عديدة منها:
(روحية، ونفسية، وجسدية، وخلقية وعقلية) وغيرها مما قد جاءت به الأبحاث في المجالات الطبية والمعالجة بالأغذية الطبيعية، أو ما يسمى بالطب البديل.
فقد ورد في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«عليكم بالسفرجل، فإنه يجلو القلب ويذهب بطخاء الصدر»(3).
وقال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
«السفرجل قوة القلب وحياة الفؤاد ويشجع الجبان»(4).
ص: 204
فمنها أنه يفيد في الخلاص من الحزن، جاء بيان ذلك في الحديث الوارد عن باقر العلم الإمام محمد بن علي صلوات الله عليه وعلى آبائه الأئمة الهداة المهديين، أنه قال:
«السفرجل يذهب بهم الحزين»(1).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«كلوا السفرجل وتهادوه بينكم، فإنه يجلو بالبصر ويثبت المودة في القلب»(2).
وقال أيضاً:
«من أكل السفرجل ثلاثة أيام على الريق صفا ذهنه وامتلأ جوفه حكماً وعلماً ورقى من كيد إبليس وجنوده»(1).
ومنها قول الإمام الرضا عليه السلام:
«عليكم بالسفرجل، فإنه يزيد بالعقل».
إنه يؤثر بشكل كبير في جمال الطفل في أثناء الحمل ويستحب أكله من الرجل والمرأة. قال الإمام الصادق صلوات الله عليه وقد نظر إلى غلام جميل:
«ينبغي أن يكون أبو هذا أكل سفرجلاً ليلة الجماع»(2).
وبهذا الحديث يضاف سبب آخر إلى الأسباب التي كانت وراء تقديم جبرائيل عليه السلام سفرجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهو مستحب للمرأة أيضاً، فقد ورد ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أطعموا حبالاكم فإنه يحسّن أولادكم»، وفي الرواية:
«يحسن أخلاق أولادكم».
وهذا أثر خلقي وخُلقي في آن واحد. ثم إن للسفرجل أثراً في جمال الإنسان رجلاً كان أو امرأة ويزيد في حسن الوجه. قال الإمام الرضا سلام الله عليه:
ص: 206
«من أكل السفرجل على الريق طاب ماؤه وحسن وجهه»(1).
وغيرها من الأحاديث الشريفة.
أما ما جاء في الأبحاث الطبية والعلاجية فإنه يستخدم في العلاجات التالية:
(تجاعيد الوجه، لمعان الشعر، نبات شعر الأجفان، والدمعة، والجمرة، السل، الآفات الصدريّة، المغص، الإسهال والاضطراب الهضمي، حصى المثانة، نحول الأطفال ووهنهم، الحمل، تقوية الدماغ، تقوية المعدة)(2).
ويحتوي السفرجل على المعادن والفيتامينات التالية:
وهو غني بالفيتامين (A) و (B).
ويحتوي أيضاً:
وهذه الخصائص التي جعلها الله تعالى في السفرجل تكشف عن الحكمة في اختيار جبرائيل عليه السلام لها وإطعامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 207
عن الهروي(1)، قال: قلت للرضا عليه السلام: (يابن رسول الله أخبرني عن الجنة والنّار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال:
ص: 208
«نعم، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء».
قال: فقلت له: إن قوماً يقولون: إنهما مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السلام:
«ما أولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذّبنا وليس من ولايتنا على شيء، وخلّد في نار جهنم، قال الله عزّوجلّ :
هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون يطوفون بينها و بين حميم آن(1).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(2).
مباحث الحديث:
هذا القول هو من معتقدات إحدى الفرق الإسلامية والتي تعرف ب - (الهشاميّة) وهم أصحاب هشام بن محمد الفوطي، الذي ذهب إلى (أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن، إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعاً خاليتان ممن ينتفع
ص: 209
ويتضرر بهما)(1).
وبقيت هذه المسألة منه اعتقاداً للمعتزلة إلا أنهم شكوا في وجودهما اليوم ولم يقولوا بتكفير من قال أنهما مخلوقتان(2).
وبالغ هشام الفوطي في القدر ومبالغته فيه كانت أشد وأكثر من مبالغة أصحابه، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وأن ورد بهما التنزيل منها قوله:
(إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤلفون باختيارهم)!؟
وقد ورد في التنزيل:
مٰا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ (3) .
ومنها قوله:
«إن الله لا يحبّب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم»!؟
وقد قال تعالى:
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ (4) .
أما حكم هذه الفرقة عند الشيعة والسنة فقد اختلف فيه فيما بينهم، فقد حكم عليهم الشيعة بحكم واحد وهو ما صدر من الإمام الرضا عليه السلام بالبراءة منهم لتكذيبهم القرآن والرسول وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم وهذا
ص: 210
الحكم ظاهرٌ جلي في كلام الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله وسلامه عليه وهو أحد أئمة العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين وبه يكون حكم الشيعة من المسلمين، وهذا الحكم لا يشمل التعرض للهشامية لدمائهم وأموالهم وأعراضهم.
أما حكم أهل السنة، وهم (أهل العامة والجماعة) من المسلمين فإنهم يقولون في الفوطي وأتباعه: (إن دماءهم وأموالهم حلال للمسلمين، وفيه الخمس، وليس على قاتل الواحد منهم تود، ولا دية، ولا كفارة، بل لعائلته عند الله القربى والزلفى)(1).
وشتان بين ثقافة القتل، وثقافة الحياة المبتنية على عدم الإكراه في الدين كما نص عليها القرآن والعترة المحمّدية.
التمر ثمرة شجر النخيل ويسمى بسراً حين يكون غضاً طرياً، ويدعى بلحاً ما دام أخضر، ورطباً حين ينضج ويلين، وتمراً حين ييبس. وللنخلة تاريخ طويل فلم يقتصر الأمر على شعب من الشعوب، فقد اهتم بها الفراعنة في مصر ونقشوها على جدران معابدهم وكذلك بالنسبة إلى الأقباط فقد وجدت كتابات في الأديرة القبطية تدل على اهتمام القساوسة والرهبان وعامة الأقباط بها ولم يقتصر الأمر على الفراعنة والأقباط بل تعدّاها إلى اليونان والرومان والفينيقيين.
وتحتلّ شجرة النخل مكانة مقدسة عند البابليين والسومريين والفينيقيين ومعظم الشعوب السامية. إنها شجرة الحياة التي ولدت منها عشتار، وتعني كلمة
ص: 211
(Palmyra) التي تطلق على مدينة تدمر وذلك من كلمة « Palm » بمعنى النخلة، كما تعني كلمة (فينقس) باليونانية النخلة.
وللنخلة مكانة عند العرب في جاهليتهم، وعند المسلمين، فقد عرف الإسلام قيمة هذه الشجرة المباركة وأثرها في صحة الإنسان فجاء ذكرها في القرآن الكريم في عشرين آية، أما الأحاديث النبوية فكثيرة.
ولقد كان رسول الله يأكلها ويشيد بها وبفوائدها وينصح بأكلها(1).
وللتمر آثار كثيرة في مختلف الجوانب التي ترتبط بالإنسان ولم يقتصر فقط على الجانب الصحي للبدن بل له أثر في النفس والروح والخلق، وقد كشفت الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة عن الآثار المختلفة، نذكر بعضاً منها:
«من تصبح بعشر تمرات عجوة لم يضرهُ ذلك اليوم سحر ولا سم»(1).
4. وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«نزل علي جبرائيل بالبرني من الجنة»(2).
5. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أطعموا المرأة - في شهرها التي تلد فيه - التمر، فإن ولدها يكون حليماً تقياً»(3).
6. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم يصف البرني، قال:
«فيه تسع خصال: يقوي الظهر، ويخبل الشيطان، ويجري الطعام، ويطيب النكهة، ويزيد في السمع والبصر، ويقرب من الله عزّ وجلّ ، ويباعد من الشيطان، ويزيد من المباضعة، ويذهب بالداء»(4).
أما آثاره الطبية والعلاجية فكثيرة جداً فهو يفيد في علاج الأمراض التالية: (غشاوة العين، تساقط الرموش والحواجب، لضعف الأعصاب السمعية والبصرية، للاضطراب النفسي والقلق، للتخفيف من العصبية عن الأطفال،
ص: 213
لمعالجة ضعف السمع وإزالة الوشة، لمعالجة الكلى وإنزال الحصاة، المساعدة على تقوية النشاط الفكري، تقوية النشاط العضلي، لقتل الديدان في الأمعاء، وهو من مثبطات السرطان، لمعالجة السعال والتهاب القصبات الصدرية، لإزالة الأوجاع المزمنة في الصدر، لمعالجة التهاب الأمعاء)(1)، وغيرها من الآثار العلاجية التي توصل إليها الطب الحديث، والسبب يعود إلى ما تحتويه هذه التمرة من المواد المعدنية والفيتامينات التي نعرض لها إن شاء الله في الحديث القادم.
عن حذيفة اليماني قال: دخلت عائشة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقبل فاطمة عليها السلام، فقالت:
«يا رسول الله أتقبلها وهي ذات بعل ؟ فقال لها: - وساق حديث المعراج إلى أن قال -:
ثم أخذ جبرائيل عليه السلام بيدي فأدخلني الجنة وأنا مسرور فإذا أنا بشجرة من نور مكللة بالنّور، في أصلها ملكان يطويان الحلي والحلل إلى يوم القيامة، ثم تقدمت أمامي فإذا أنا بتفاح لم أرَ تفاحاً هو أعظم منه، فأخذت واحدة ففلقتها فخرجت عليّ منها حوراء كأن أشفارها مقاديم أجنحة النسور، فقلت: لمن أنت ؟ فبكت وقالت: لابنك المقتول ظلماً الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم تقدمت أمامي فإذا أنا برطب ألين من الزبد، وأحلى من العسل فأخذت رطبة فأكلتها وأنا أشتهيها فتحولت الرطبة نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية فإذا اشتقت إلى رائحة الجنة
ص: 214
شممت رائحة ابنتي فاطمة عليها السلام»(1).
مسائل البحث في الحديث:
قد يلحظ القارئ الكريم من خلال ما أوردناه من أحاديث، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد طرحت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص تقبيله لابنته فاطمة عليها السلام أكثر من صيغة للسؤال فمرة جاء السؤال بلفظ: (إنك تكثر من تقبيل فاطمة)(2)، ومرة أخرى تنكر ما تراه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا الحديث جاءت بصيغة جديدة للسؤال وبلفظ جديد لا يليق أن يطرح بحضرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو أشبه ما يكون بالاتهام! وهذه الحالة التي أدت إلى طرح السؤال بهذا اللفظ ربما تكون واحدة من هذه الاحتمالات:
1 - إما أن تكون هذه الصيغة سببها الجهل، لأنها في التاسعة من العمر.
2 - وإما أنها لم ترَ أحداً من المسلمين يقبل ابنته المتزوجة.
3 - وإما أن تكون هذه الحالة سببها الغيرة وهو ما اشتهرت به.
4 - وإما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جاء بخلاف العرف السائد من أنهم لا يقبلون بناتهم بعد الزواج.
ص: 215
5 - وإما أنها لم تحظَ بقبلة واحدة من أبيها أبي بكر ولو لمرة واحدة بعد زواجها.
وأيّا يكن السبب من وراء هذا السؤال الذي طرحته عائشة بهذا اللفظ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجبها بما يوافق هذا اللفظ كأن يقول لها: نعم يمكن للأب أن يقبل ابنته وهي ذات بعل؛ لكنه صلى الله عليه وآله وسلم أجابها على هذا السؤال بجواب يحمل منهجين تربويين في آن واحد.
أي إظهاره لمنزلة فاطمة عليها السلام وإنها: (حوراء إنسية) وهي ليست كغيرها من النساء، وهذا خارج عن دائرة سؤالها المرتكز على استهجانها لتقبيل الأب لابنته بعد زواجها أي خلق معطيات جديدة لثقافة الشأنية التي خص الله بها فاطمة عليها السلام.
إنّ من أهم العوامل التي تقوّم السلوك الإنساني هو الإيمان بالغيب واليوم الآخر، ولقد سعى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى تثبيت هذا الحس الإيماني في نفوس المؤمنين؛ لاسيما، إنّ الحديث يشير إلى تركيز النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على تثقيف الأسرة وبالأخص الزوجة؛ لأنها منوط بها تربية الأولاد وتعليمهم العقائد الدينية والفضائل النفسية.
ولذا نجده صلى الله عليه وآله وسلم قد ابتدأ مع عائشة ليزرع في نفسها الحس الإيماني بالغيب كي تنتقل من هذه الأجواء المادية إلى أجواء البيت النبوي وان لا تنسى أنها زوجة سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم وأن تتعامل ضمن
ص: 216
هذه الحيثية التي طالما كان القرآن الكريم يذكر بها نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحثهن على الالتزام بها، وانهن من موقع يفرض عليهن كثيراً من الالتزامات والضوابط السلوكية، قال تعالى:
يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلاٰ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً(1) .
والخطاب القرآني واضح الدلالة في لوازم هذه المقامية التي لهن في المجتمع، والتي اشترطها القرآن في عدة شروط فقال:
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ .
وفي موضع آخر يظهر القرآن الكريم عدم قدرة بعضهن على الالتزام بتلك الشروط من جهة، ومن جهة أخرى محاولة البعض منهن الجمع بين حيثيات سكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين حيثيات المجتمع المادي والدنيوي فقال تعالى:
يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا فَتَعٰالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلاً وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً(2) .
ومن هنا: تظهر الحكمة في سرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحديث المعراج لعائشة حينما قالت له:
«أتقبلها وهي ذات بعل»؟! أي: أراد صلى الله عليه وآله وسلم منها ان تثقف ما يفرضه عليها موقع الزوجية من سيد الخلق وإلاّ
ص: 217
كان يمكن أن يجيبها صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة واحدة: وهي نعم، يمكن للأب أن يقبل ابنته وهي ذات بعل.
والحكمة الثانية التي يظهرها الحديث أنّ السؤال لم يكن عرضياً وان لحن السؤال لا يليق بحضرته المقدسة مما دفعه إلى ذكر حديث المعراج كاملاً ونقلها من هذه الأجواء والنظرة المادية إلى الأجواء الإيمانية والنظرة الأخروية وانه وبضعته لا يقاس بهم أحد من الناس أجمعين.
قد مرّ سابقاً في بيان صفة شجرة طوبى ما يشير إلى أنها (تنبت الحلي والحلل)(1)، ولقد تكررت هذه الإشارة أيضا في هذا الحديث دون ذكر اسم شجرة طوبى وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«فإذا أنا بشجرة نور مكللة بالنور في أصلها ملكان يطويان الملل والحلل إلى يوم القيامة».
ولعل هذه الصفة هي صفة شجرة طوبى وأن من صفاتها أيضاً أنها تحمل أكثر من صنف من أصناف الفاكهة فقد تقدم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فإذا به يرى التفاح، ثم يتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيرى أمامه الرطب، والملفت في الحديث هو عدم ذكره للفظ الشجرة بمعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أشار إلى هذين الصنفين من الفاكهة في أثناء رؤيته لهذه الشجرة التي من النور ومكللة بالنور وهذا يدل على أن الأصل في خلق فاطمة عليها
ص: 218
السلام هي شجرة طوبى وأن هذه الشجرة تحمل أصنافاً مختلفة من الفاكهة في آن واحد (فتبارك الله أحسن الخالقين) وله الحمد بما اصطفى لخير المرسلين، والصلاة والسلام عليه وعلى آله الطاهرين.
إن من الحقائق التي يظهرها الحديث الشريف هو اقتران الدمعة بسيد الشهداء وريحانة سيد الأنبياء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام.
وإن لهذه الملازمة كانت ولم تزل منذ أن خلق الله أنوار محمد وأهل بيته وإلى ما شاء الله تعالى.
بل: الظاهر في الحديث أن أهل الجنة إذا نظروا إلى سيد الشهداء ستفيض أعينهم من الدمع لوجود الملازمة بينهما أي بين الدمع والإمام الحسين عليه السلام.
ولعل قائلاً يقول: إن الدمع سببه الحزن ومحركه الألم وأن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وأقول: فهل كان بكاء المؤمن حينما يسمع ذكر آيات الله فتفيض عينه من الدمع باعثه الحزن ومحركه الألم، أو لتجانس القلب مع ذكر الله تعالى. قال سبحانه:
وَ إِذٰا سَمِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّٰا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنٰا آمَنّٰا فَاكْتُبْنٰا مَعَ اَلشّٰاهِدِينَ (1) .
فضلاً عن أنها من الملازمة الإيمانية كما دل عليه الحديث الشريف الوارد عن الإمام الحسين عليه السلام، فقال:
ص: 219
«أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا استعبر»(1).
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقبل فاطمة، فقالت له: أتحبها يا رسول الله ؟ فقال:
أما والله لو علمت حبي لها لازددت لها حبّاً، إنه لما عرج بي إلى السماء الرابعة أذن جبرائيل وأقام ميكائيل، ثم قيل لي: أدن يا محمد، فقلت أتقدم وأنت بمحضري يا جبرائيل ؟ قال: نعم إن الله عزّوجلّ فضل أنبياءه والمرسلين على ملائكته المقربين، وفضلك أنت خاصة، فدنوت فصليت بأهل السماء الرابعة، ثم التفت عن يميني فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام في روضة من رياض الجنة وقد اكتنفها جماعة من الملائكة، ثم إني صرت إلى السماء الخامسة، ومنها إلى السادسة فنوديت: يا محمد نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك عليّ ، فلما صرت إلى الحجب أخذ جبرائيل عليه السلام بيدي فأدخلني الجنة فإذا أنا بشجرة من نور في أصلها ملكان يطويان الحلل والحلي، فقلت: حبيبي جبرائيل لمن هذه الشجرة ؟ فقال: هذه لأخيك علي بن أبي طالب عليه السلام، وهذان الملكان يطويان له الحلي والحلل إلى يوم القيامة، ثم تقدمت أمامي فإذا أنا برطب ألين من الزبد، وأطيب من المسك وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها فتحولت الرطبة نطفة في صلبي فلما أن هبطت إلى الأرض واقعتُ خديجة فحملت بفاطمة عليها السلام ففاطمة حوراء إنسية فإذا اشتقت إلى الجنة شممت رائحة فاطمة عليها السلام(1).
ص: 221
مسائل البحث في الحديث:
من الأمور التي تستوقف الإنسان وهو ينظر في سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو حبه لفاطمة عليها السلام وما من كاتب كتب عن هذه السيرة إلا وقد بدا متعجباً لهذه العلاقة ومستفهماً عن تلك الروابط القوية التي تربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببضعته الطاهرة.
وهنا في هذا الحديث يلفت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انتباه عائشة إلى مقدار حبه لفاطمة، لدرجة أنه صلى الله عليه وآله وسلم يعطي مرتبة لهذا الحب يتعسر على عائشة معرفتها، فلذلك هو يقسم بالله عزّ وجلّ لزوجته بقوله:
«أما والله لو علمت حبي لها لازددت حباً».
و
«لو» هنا تفيد انتفاء العلم فيما مضى وكونه مستلزماً ثبوته لثبوت الزيادة وهو معنى قول ابن مالك في
«لو»:
(لو) حرف شرط يقتضي امتناع ما *** يلي وكون تِلوِ تلْوٍ لازماً(1)
أي إنه لو ثبتت الزيادة في حبها لفاطمة عليها السلام لثبت العلم، ولعدم الإمكان في حصول العلم لدى عائشة بشكل يكاد يكون قطعياً، ولعلمه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فلقد جاء ب - (لو) مع القسم.
أي: استحالة أن تعلم عائشة بمقدار حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ص: 222
لفاطمة عليها الصلاة والسلام، وهذا يدل على عدم حب عائشة لفاطمة عليها السلام بأكثر مما هي عليه.
إن حادثة المؤاخاة بين النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من الخصائص التي برزت في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام؛ بل هي فضيلة لم يحظَ بها أحد غيره وانعدام الحظوة لسببين:
1 - لمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العالمين وهو يلزم وجود الأهلية والكفاءة لبلوغ مقام الأخوة له صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - لوجود الكفاءة والأهلية في علي بن أبي طالب عليه السلام فهو الكفء الوحيد له في أخوته، ولانعدامها في غيره من العالمين، فليس هناك كالنبي أخٌ لعلي وليس هناك كعلي أخٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولقد آخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمام علياً عليه السلام مرتين(1) وقد جاءت الحادثة مسجلة
ص: 223
ومدونة في صحاح المسلمين بنصوص ثابتة وبطرق صحيحة عن كل من ابن عباس، وابن عمر، وزيد بن أرقم، وزيد بن أوفى، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، ومخدوج بن يزيد، وعمر بن الخطاب، والبراء بن عازب، وعلي بن أبي طالب عليه السلام وغيرهم.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:
«أنت أخي في الدنيا والآخرة»(1).
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد نصبه أخاً له منذ بداية الدعوة إلى التوحيد في حديث الدار المشهور وقد أخذ برقبة علي:
«إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(2).
فهل سمعوا له وأطاعوا؟ سيمر علينا جوابه في مظلومية فاطمة عليها السلام.
ص: 224
عن ابن عمارة عن أبيه عن جابر، عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام عن جابر ابن عبد الله الأنصاري قال: (قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك ؟ فقال:
«إن جبرائيل عليه السلام أتاني بتفاحة من الجنة فأكلتها فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا أشم منها رائحة الجنة»)(1).
ورد في الحديث لفظ (أحد بناتك) وقلنا في الفصول السابقة إن المراد بكلمة (بناتك) الربائب؛(2) لأن العرب اعتادت أن تطلق على الربيبة اسم البنت فكان
ص: 225
هذا هو لسانهم الذي بعث عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:
وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1) .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أعطيت تفاحة ليلة المعراج فأكلتها فصارت ماءً في ظهري فلما رجعت واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا هي: حورية إنسية سماوية أرضية»(2).
مسائل البحث في الحديثين:
قد اشتهر هذا الاسم وهذه الصفة لفاطمة عليها السلام بشكل كبير، لاسيما عند محبيها وشيعتها، وقد انفردت به صلوات الله عليها دون غيرها من نساء العالمين حتى السيدة مريم عليها السلام التي نص القرآن على اصطفائها وطهارتها.
حيث قال تعالى:
وَ إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ (3) .
ص: 226
فإنه لم تحظَ بهذه الصفات (الحوراء الإنسية).
أما سبب تسميتها ووصفها بالحوراء الإنسية السماوية الأرضية للأسباب التالية:
جاء هذا في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما تحدث عن خلق نور فاطمة عليها السلام فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
خلق الله نور فاطمة عليها السلام قبل أن يخلق الأرض والسماء.
فقال بعض الناس: يا نبيّ الله فليست هي إنسية ؟
فقال:
فاطمة حوراء إنسية.
قالوا: يا نبيّ الله وكيف هي حوراء إنسية ؟ قال:
خلقها الله عزّ وجلّ من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح فلما خلق الله عزّ وجلّ آدم عرضت على آدم)(1).
جاء ذلك أيضاً من خلال أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبخاصة تلك الرواية التي تخبر عن نوع هذه الثمرة التي خلقت منها فاطمة عليها السلام
ص: 227
وهي (الرطب)(1).
وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«فإذا أنا برطب ألين من الزبد وأطيب رائحة من المسك وأحلى من العسل فأخذت رطبة فأكلتها فتحولت الرطبة نطفة في صلبي فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة ففاطمة حوراء إنسية فإذا اشتقت إلى الجنة شممت رائحة فاطمة»(2).
أما لماذا جاءت هذه التسمية أي (الحوراء الإنسية) في هذه الرواية التي تحدثت عن خلق فاطمة من ثمار الجنة ؟
ألف: فربما لخصوصية خاصة في هذه الثمرة التي أطعمها الله لمريم عند ولادة نبي الله عيسى عليه السلام.
باء: أو ربما لما حوته هذه الثمرة من كم هائل من المعادن والفيتامينات التي اكتشفها الطب الحديث؛ فقد حوت على المعادن التالية:
(الفسفور، الحديد، الكالسيوم، ويحتوي التمر على الحامض الأميني (اللارجنين) ويحتوي على الفيتامينات التالية: (A) ، (C) ، (K) ، (B1) ، (B2) ، (PP) ، ويحتوي على حامض الفوليك: Foligue Acid ، ويحتوي على البيوتين « Bietine »).
ص: 228
وتبلغ أهمية الحامض الأنيمي (اللارجنين) للإنسان لكونه يدخل بنسبة مرتفعة في البروتينات المكونة لنواة الخلية أو البروتمينات والهسنونات والأسرمان والأسبرميدين حيث يوجدان في النطفة الآدمية(1).
ومن هنا تظهر أهمية التمر، ومن هنا نحصل على أحد المعاني التي لأجلها أطعم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمرة.
إن من الأسباب التي كانت وراء تسمية فاطمة عليها السلام بالحوراء الإنسية وتفردها بذلك عن النساء وهو ما سنتناوله بمزيد من البيان في باب أسمائها، إلا أننا نقول قد ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام شواهد تدل على اختصاصها بهذه الميزة الخاصة ومنها قوله تعالى:
إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(2) .
فالتطهير يستلزم عدم انقطاع الطهر، كما إنها عليها السلام شوهدت تصلي بعد ولادة أبنائها عند دخول وقت الصلاة ولم يكن بينها وبينا الصلاة إلا ساعات قلائل(3).
وهذا يعني انها لم يكن لها نفاس وكانت لا ترى ما ترى النساء في كل شهر، أي إنها طاهرة من الحيض(4).
ص: 229
عن عائشة قالت: يا رسول الله مالك إذا قبّلت فاطمة جعلت لسانك في فيها فكأنك تريد أن تلعقها عسلاًَ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إنه لما أسري بي أدخلني جبرائيل الجنة فناولني تفاحة فأكلتها فصارت نطفة في ظهري فلما نزلت من السماء واقعت خديجة ففاطمة من تلك النطفة فكلما اشتقت إلى تلك التفاحة قبلتها»(1).
مسائل البحث في الحديث:
هذه الرواية قد عدّها ابن الجوزي، والذهبي من الموضوعات(2)، والسبب في ذلك هو لاعتقاد ابن الجوزي والذهبي بأن فاطمة ولدت قبل الإسراء، وحيث إن عقيدة المصنف لا يعتد بها كدليل على صحة الرواية أو عدمها فإن هذه الرواية ليست من الموضوعات - كما سيمر لاحقاً -.
ص: 230
أن السؤال الذي طرحته عائشة زوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، هو في حقيقته يحمل تفسيراً لما كانت تراه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يقبل ابنته وقلبه وروحه التي بين جنبيه فاطمة عليها السلام وقد أعطت في وصفها ذلك صورة جمالية في فعل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فالذي يفهم من كلامها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بهذا الفعل لكي يسقي فاطمة العسل: وهو بنص تعبيرها: (فكأنك تريد أن تلعقها عسلاً)، بينما نرى أن جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطى صورة مخالفة للصورة والتفسير الذي أبدته عائشة ؟!
وبمعنى أوضح: إن عائشة وصفت طعم ريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه العسل، فعندما يضع لسانه في فم ابنته البضعة النبوية فهو يلعقها ويسقيها من هذا العسل الذي هو ريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دلّت الأخبار على أن ريق النبي كان أحلى من العسل، فمنها:
1 - إنّ ريقه يعذب الماء المالح(1).
2 - إنّ الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام عندما ولد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل لسانه في فم الحسن عليه السلام(2)، وفي رواية إنه صنع هذا الصنيع مع الإمام الحسين عليه السلام خاصة فأخذ الحسين
ص: 231
عليه السلام يمص لسانه صلى الله عليه وآله وسلم حتى شبع ونام، وبعدها لم يكن ليأخذ لبن مرضعة حتى يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيلقمه لسانه، وظل هكذا لعدة شهور حتى نما عظمه ولحمه وعصبه من ريق النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم(1).
فإذن هي تصف طعم ريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو في حقيقته أحلى من العسل، وأي عسل في الحياة الدنيا يستطيع ان يحول طعم الماء المالح إلى ماء عذب من دون أن يلاحظ فيه أثر للملح.
نعم يمكن أن يجعله مقبولاً لدى من يشربه، لكن أن يزيل أثر الملح من الماء، فهذا أمر مخالف لقوانين الطبيعة التي سنها الله تعالى، حتى لو جمع عسل الدنيا، فإنه لا يزيل ذرات الملح من الماء؛ لكن ريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغير الماء طعماً وتكويناً من ماءٍ أجاج إلى ماءٍ عذب فرات لذة للشاربين، إذ لا تتحقق اللذة إلا بالتغيير والتبديل لمكونات هذا الماء.
أما جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أتى ليعطي صورة تختلف عن الصورة التي أبدتها عائشة، فهو صلى الله عليه وآله وسلم يضع لسانه في فم البضعة النبوية فاطمة عليها السلام ليروي شوقه إلى الجنة، ويعيد إلى روحه الطاهرة المقدسة عذوبة ثمارها، لأن ابنته الطاهرة المطهرة خلقت من تلك الثمار.
ص: 232
عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام فقالت له عائشة: (بأبي أنت وأمي إني أراك تكثر تقبيل فاطمة) فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن جبرائيل ليلة أسري بي أدخلني الجنة وأطعمني من جميع ثمارها فصار ذلك ماء في صلبي فحملت مني خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من ريح تلك الثمار التي أكلتها»(1).
مسائل البحث في الحديث:
هذا الحديث جاء ليعطي صورة أخرى لعلة تقبيل النبي صلى الله عليه وآله
ص: 233
وسلم ابنته فاطمة عليها السلام، وهو يقرب المعنى أكثر لما مرَّ في الحديث السابق. إلا أن الصورة الجديدة هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرح لعائشة بأن رائحة فاطمة عليها السلام هي رائحة ثمار الجنة.
فكيف يمكن أن تكون صفة هذه العطور؟ الله ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي أكل من جميع هذه الثمار، وهو الوحيد الذي شم عطرها.
إن الأمر الآخر الذي يظهر من خلال هذا الحديث إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الشوق إلى الجنة وكثرة الشوق دفعته إلى كثرة التقبيل لابنته الحوراء الإنسية الزهراء عليها السلام، وهو ما أثار اهتمام عائشة قائلة له صلى الله عليه وآله وسلم: (إني أراك تكثر تقبيل فاطمة).
ص: 234
عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل فاطمة، فقلت يا رسول الله إني أراك تفعل شيئاً ما كنت أراك تفعله من قبل ؟ فقال:
«يا حميراء إنه لما اسري بي إلى السماء أُدخلت الجنة فوقفت على شجرة من شجر الجنة لم أر في الجنة شجرة هي أحسن منها ولا أبيض منها ورقة ولا أطيب منها ثمرة فتناولت ثمرة من ثمراتها فأكلتها، فصارت نطفة في صلبي، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت ريح فاطمة، يا حميراء إن فاطمة ليست كنساء الآدميين ولا تعتل كما يعتلون»(1).
ص: 235
مسائل البحث في الحديث:
قد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، وقال: (هذا حديث موضوع لا يشك المبتدئ في العلم في وضعه، فكيف بالمتبحر، ولقد كان الذي وضعه أجهل الجهال بالنقل والتاريخ فإن فاطمة ولدت قبل النبوة بخمس سنين... الخ)(1).
والذي يظهر من خلال حديث ابن الجوزي أن الدليل الذي استدل به على وضع الرواية هو اعتماده على رواية ابن إسحاق التي يذكر فيها أن فاطمة ولدت قبل البعثة بخمس سنوات وعليه فإن ولادة فاطمة تكون قبل الإسراء والمعراج بسنين عديدة!؟
وأقول: لا أدري ما الذي جعل ابن الجوزي يتمسك بهذه الرواية التي أخرجها ابن إسحاق في سيرته(2)، وترك العديد من الروايات التي تنص على أن فاطمة عليها السلام ولدت بعد البعثة فمنهم من قال: (إنها ولدت رأس البعثة)(3)، ومنهم من قال: (إنها ولدت سنة إحدى وأربعين) وهو ما اعتمده ابن عبد البر وسار على أثره الكثير من الحفاظ(4)، أضافة إلى ما جاء أيضاً عن الكثير من
ص: 236
العلماء: (إنها ولدت سنة اثنتين وأربعين)(1).
فلماذا قد ترك ابن الجوزي جميع هذه الروايات واعتمد على رواية ابن إسحاق.
فهل ابن عبد البر أيضاً من الجهال عندما خالف رواية ابن إسحاق أو إن ابن الجوزي هو الوحيد المتبحر بالنقل والتاريخ الإسلامي أو إنه ثقيل على قلبه أن يرى أو يسمع فضيلة لفاطمة عليها السلام.
ومع هذا كله فإن الروايات الصحيحة الواردة عن أهل البيت النبوي عليهم الصلاة والسلام تنص على أن ولادة فاطمة عليها السلام كانت سنة خمس من البعثة النبوية على صاحبها وأهل بيته صلوات الرحمن وسلامه.
فهل يا ترى إن ابن الجوزي وغيره هم أعرف وأدرى بميلاد فاطمة عليها السلام من أولادها وأبنائها عليهم السلام ؟!
هذه الفقرة من الحديث تتضمن إشارات عديدة ومعانيَ جمة نشير إلى بعضها وهي كالآتي:
هنا يشير صلى الله عليه وآله وسلم إلى حقيقة تتعلق بالجانب التكويني لفاطمة عليها السلام فهي من حيث النشأة التكوينية تختلف عن نساء الآدميين؛ إذ إن أهل البيت عليهم السلام يختلفون حتى من جهة التكوين الفايسلوجي فأبدانهم
ص: 237
كأبدان الآدميين ظاهراً لكنها ليست لها كثافة كما للآدميين فأجسامهم في ظاهرها آدمية لكن في حقيقتها نورانية.
ولقد جاءت السُنة النبوية بأحاديث كثيرة صحيحة تنص على اختلاف بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بني البشر من حيث التكوين والطبيعة الفايسلوجية.
وأما (المثلية) التي جاء بها القرآن الكريم(1) فهي المثلية من حيث الظواهر البشرية كالأكل والشرب والجماع والمرض والصحة والموت والبعث والنشور وحتى هذه الأمور التي هي من جهة (المثلية) فقد اختلف فيها صلى الله عليه وآله وسلم عن البشر، كقدرته على الجوع مع إتيانه لتسع نساء في الليلة الواحدة، وقد صرح لأصحابه عن اختلافه عنهم عندما منعهم من الوصال في رمضان وقد أدركهم الضعف فقالوا له إنك تواصل النساء؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين»(2).
أضف إلى ذلك أن المراد من (المثلية) هو نفي الربوبية عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما صرح به الوصي في آخر الآية بقوله تعالى:
أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً(3) .
ص: 238
ولعل قائلاً يقول: وإن صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خوارق العادات لكونه نبياً فما بال فاطمة يُنسب لها ذلك أيضاً!؟
قلنا: دليله من أمرين:
الأمر الأول: قد تواترت الأحاديث في الصحاح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني»(1).
أي: (جزء مني)(2) فما يجري عليها من الحوادث النازلة بها والرعاية لها.
وإذا قيل: إن المراد من البضعة هي كونها ابنته، وكل مولود هو بضعة من أبويه.
قلنا: لم يرد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ذلك لأحد من ولده حتى في حال فقدهم وحزنه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم؛ بل لم يرد هذا القول عن أحد من الصحابة، أي لم يقل أحد منهم لولده: انك بضعة مني وماذا إلا لعلمهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما قصد بقوله: (بضعة مني) أراد به الجانب الشرعي والتكليفي وهو الأمر الذي ألزمه بأعناقهم.
ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة على فاطمة عليها السلام كالصلاة على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم(3)، وأن من سبها فقد كفر وأن
ص: 239
حكمه كمن سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).
أي إن فاطمة عليها السلام لا تعتل في كل شهر بسبب الحيض فهي عليها السلام البتول الطاهرة من كل رجس كما أنّه ليس لها نفاس(2)، وهذه بطبيعة الحال من الظواهر التي تلازم المرأة؛ لأنها خاضعة لقانون فايسلوجي في البدن أما فاطمة عليها السلام فهي تختلف عن نساء الآدميين كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 240
ص: 241
ص: 242
تناولنا بحمد الله وتوفيقه في الفصل السابق الأحاديث التي تخبر عن خلق فاطمة من ثمار الجنة، وفي هذا الفصل سنتناول نفس المعنى لكن مع وجود الاختلاف بين هذا الفصل وذاك وهو أننا سنعرض هنا الأحاديث التي تخبر عن نزول جبرائيل عليه السلام بثمار من الجنة بينما كان الحديث في الفصل السابق يخص تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في رحلة السماء رحلة الإسراء والمعراج.
ومن هنا فإن جميع هذه الأحاديث التي في البابين تنص على مسألة واحدة هي: (إن النطفة النورانية الزكية التي خلقت منها البضعة النبوية والصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت من عالم الأمر وعالم النور من خلال ثمار الجنة).
أما كيف يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وتلك السابقة ولاسيما إن فاطمة
ص: 243
الزهراء سلام الله عليها قد ولدت بعد المعراج بسنتين، أي إن هذه الثمار بقيت سنتين في بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومفاد الأحاديث يخبر عن انتقال هذا النور إلى خديجة عليها السلام بعد هذه الرحلة السماوية وهو محل إشكال ؟!
والجواب على ذلك من وجهين:
فهذه الثمار لا يمكن قياسها بثمار عالم الدنيا، وقد بينا في السابق أن هذه الثمار تحمل من المعاني الدنيوية المسميات لغرض بيان دلالة اللفظ الذي يطلق على هذه الثمرة أو تلك، ولكي يتناسب ذلك مع العقل البشري ولا تمجه أذهانهم، فالناس ليسوا بمستوى واحد من الإدراك والاستيعاب للحقائق.
وعليه فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد أن يبين للناس منزلة فاطمة صلوات الله عليها ومقاماتها صاغ الأمر بشكله الذي يستوعبه السامع أما بواطن الكلمات وألطاف معانيها فهي لذوي القلوب النيرة والآذان الواعية.
ومن هنا فإن معنى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة في الإسراء والمعراج كان لغاية واحدة، هذه الغاية هي انتقال النور الإلهي إلى صلب النبوة، وإن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتم انتقال هذا النور على مرحلتين، المرحلة الأولى: تتم في الإسراء والمعراج وفي مكان خاص من السماء وهي السماء السادسة التي جعل الله فيها الجنة وأن يكون المرشد والطاعم والدليل هو روح القدس، وأمين الوحي جبرائيل عليه السلام، وإن يكون هذا النور من ضمن هيأة خاصة وعناصر محددة من اللون والطعم والرائحة، فكل لون من الألوان له أسراره الخاصة به
ص: 244
ومدلولاته الكونية، فلذا ترى تعدد الثمار من: (رطبٍ ، وتفاحٍ ، وسفرجل)، مع ثمرة شجرة طوبى التي لم تصرح الرواية عن طبيعتها ولم تذكر صفاتها.
كل ذلك لأسرار خاصة بنور فاطمة صلوات الله عليها، فهذه هي الغاية التي من أجلها تناول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار؛ في الجنة، وليست الغاية هي تذويق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الثمار إذ ما أسهل ذلك عليه وهو الذي يبيت عند ربه كل ليلة وله مُطعم يطعمه وساقٍ يسقيه(1)! فهذه هي المرحلة الأولى من انتقال النور من عالم الأمر، أي: عالم السماء، إلى عالم الشهادة، أي: الأرض.
ثم تكون المرحلة الثانية من انتقال النور الإلهي وجمعه في الأرض من خلال نزول جبرائيل عليه السلام حاملاً هذه الثمار فيضاف إليها (العنب) وهو ما لم تشرِ إليه الأحاديث التي تحدثت عن تناول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في الجنة، أي: إن الثمار التي تناولها النبي في الأرض قد اقتصرت على صنفين وهما العنب والرطب وهو لحكمة خاصة سيمر بيانها.
وعليه: فيمكن أن يكون هذا النور الإلهي الذي خلقت منه البضعة النبوية فاطمة الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام قد انتقل إلى صلب النبوة مفرقاً على هيأة شعبتين، الأولى كانت في الجنة والثانية كانت في الدنيا لتجمع هاتين الشعبتين في صلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض وينقل إلى رحم الطاهرة خديجة بنت خويلد عليها السلام.
ص: 245
إذ إنّ من خواص بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظ ما يرد إليه من الأنوار الإلهية والفيوضات الرحمانية لتناسب طبيعة بدنه المقدس مع هذه الأنوار بإذن الله عزّ وجلّ .
فضلاً عن أن من المعاجز النبوية التي فاقت معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام هي معجزة احتفاظ بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لنار السم الذي احتوته كتف الشاة المشوية لمدة عام حتى ظهر أثره عليه وتوفي شهيداً بسببه وهو ما دل عليه قول الإمام الحسن السبط الشهيد عليه الصلاة والسلام:
«ما منا إلا مسموم أومقتول»(1).
وعليه فإن بقاء ماء هذه الثمار في بدنه المقدس وفي صلبه النوراني النبوي أولى من بقاء نار السم الذي أطعم.
أما العلة في بقاء السم دون ظهور أي إشارة فذلك لكونه أفضل الأنبياء والمرسلين وهذا التفضيل يقتضي الشدة في الابتلاء، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(2).
ص: 246
وأن يأتي بجميع معاجز الأنبياء عليهم السلام وبشكل أكبر وأقوى من معاجزهم ومنها معجزة إبراهيم الخليل، وهي دخوله النار التي ألقي فيها فكانت معجزة النبي المصطفى أكبر من ذلك؛ إذ بقاء النار في جوف الإنسان وفي داخل بدنه لمدة عام كامل أكبر وأعظم بكثير من معجزة دخول النار للحظات والخروج منها سالماً بإذن الله تعالى.
وقد بيّن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هذه الحكمة في ابتلاء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأظهر طرفاً من العلة في تفضيله عليهم حينما أجاب على مسائل بعض اليهود، فكان مما سألوه: (فإن إبراهيم عليه السلام قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر فجعل الله عزّ وجل عليه النار برداً وسلاماً فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك ؟ قال عليه السلام:
«لقد كان كذلك، ومحمد لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصير الله السم في جوفه برداً وسلاما إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقى كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره»(1).
إذن كان الوجه الثاني: هو احتفاظه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا النور أو بماء هذه الثمار في صلبه لمدة عامين أو أكثر بأمر الله تعالى، حتى حان الإذن الإلهي في انتقال هذه النطفة إلى الطاهرة خديجة عليها السلام.
وفيما يأتي نذكر هذه الأحاديث ونشير إلى معانيها التي وفقنا الله لبيانها والإشارة إليها بشفاعة البضعة المحمدية صلوات الله عليها.
ص: 247
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه (كان جالساً بالأبطح ومعه عمّار بن ياسر، ومنذر بن الضحضاح، وعلي بن أبي طالب عليه السلام، وغيرهم، إذ هبط عليه جبرائيل عليه السلام في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه:
«يا محمد العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لها محبّاً وبها وامقاً».
قال: فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتّى إذا كان في آخر أيامه ذلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها:
ص: 248
«يا خديجة لا تظني إنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربّي عزّوجلّ أمرني بذلك لتنفيذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا فإن الله عزّوجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مراراً، فإذا جنّك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك، فإنّي في منزل فاطمة بن أسد».
فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مراراً لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
هذه المقطوعة اقتطعناها من حديث طويل سنورد بقية ما جاء فيه في المبحثين القادمين مع ما يناسبها من أحاديث أخرى.
مسائل البحث في الحديث:
يظهر الحديث الشريف أن الله عزّ وجلّ يأمر نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيئة والاستعداد لتلقي أمر معين وعبر هذه الترتيبات وهذا التأهب تظهر أهمية هذا الأمر وعظم منزلته عند الله تبارك وتعالى، وهو ما سيوفقنا الله لبيانه من خلال هذه المسائل.
هو منهج من مناهج القرآن الكريم وطريقة من طرق الأنبياء والمرسلين، وأسلوب تعبدي من أساليب الأولياء والصالحين بالتقرب إلى الله رب العالمين، وهو
ص: 249
من الرياضات الروحية التي اعتمدت عليها مدارس العرفان لاسيما إذا توج بالتفكر والتأمل.
والقرآن الكريم يعرض هذا المنهج التعبدي التقربي في مواضع عدة ليبين آثاره على من انتهجه وسلكه، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ في أصحاب الكهف:
وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّٰهَ فَأْوُوا إِلَى اَلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً(1) .
فهذه الآية الكريمة ترشد العارف إلى خصيصتين من خواص الاعتزال وهي أنه يمنح المنتهج له آثار رحمة الله فيكون مستحقاً لهذه الرحمة فينشرها الله عليه.
وثانياً: إن الله عزّ وجلّ يهيئ للمتقرب إليه بهذه العبادة سبل النجاة وطرق الخلاص من المهلكات، كما كان واضحاً من حال هذه النخبة المؤمنة التي انتهجت هذا النهج التعبدي، لأن أهم ما في هذا النهج أنه من معين الإخلاص لله رب العالمين، فيروي القلب بمائه الصافي وينعش الروح بعذبه الفراتي.
ومن هنا تجده مرافقاً لأولياء الله عزّ وجلّ ، لأن الإخلاص غايتهم الموصولة إلى رياض القدس الإلهية وموجباً لنزول الفيوضات الربانية، كما كان حال العذراء مريم عليها السلام ونهجها التجردي الاعتزالي التعبدي إلى الله عزّ وجلّ فكانت لا ترى أحداً ولا يراها أحد إلا نبي الله زكريا عليه السلام فلم تأخذها العاطفة إلى أهلها والشوق إلى خاصتها وذويها؛ لأن الإخلاص لله غايتها.
قال تعالى:
ص: 250
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجٰاباً فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا(1) .
فكانت بهذا النهج قد حازت على الاصطفاء والطهر من الله عزّ وجلّ ، وأصبحت موضعاً لامتداد النبوة، فمن خلالها لحق عيسى بإبراهيم عليهما السلام.
ثم ينقل القرآن الكريم صورة أخرى لهذا النهج التعبدي، ورائداً آخر من رواد هذا الصرح الولائي لله عزّ وجلّ لنلمس جانباً آخر من جوانب رحمة الله، وأثراً خاصّاً من آثار عناية الله ولوناً جديداً من ألوان المنّ الإلهي والفضل المولوي والعطاء الرباني على عبده ونبيه وخليله إبراهيم عليه السلام.
فنبي الله إبراهيم أيضاً قد سلك هذا المسلك وتقرب إلى الله عزّ وجلّ بهذا النوع من العبادة متقرباً بالإخلاص عبده إلى الله تعالى، فكان ذلك سبباً لنزول الرحمة الإلهية واختصاصه بالأفضال الربانية، وموجباً للعناية الإلهية بعد طول عناء وجهد واجتهاد.
قال تعالى:
فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا نَبِيًّا(2) .
فكان (اعتزال) إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه وما يعبدون من دون الله سبباً في نزول الرحمة الإلهية فوهب له عزّ شأنه الذريّة وخص هذه الذرية بالنبوة.
ص: 251
ومن هنا:
يظهر لنا بعض أوجه الحكمة في اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام متعبداً بهذا النهج، وكان مع اعتزاله صائماً في النهار وقائماً في الليل يتقرب إلى الله بأحب العبادات إليه وأوصلها إلى قربه ليلمس آثار رحمة الله العظمى ويتلقى الهبة الربانية والتحفة الإلهية وليعطى ما لم يعطِه الله لأحدٍ من العالمين، فهذه كوثر الأخيار، وحقة الأنوار، وأمة الملك الجبار، وأم الأئمة الأطهار صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.
إن علم الأعداد والحروف من بين أهم علوم أرباب الأسرار وأهل العرفان، والمتصوفة، وكان له رواج كبير لدى العلماء السابقين، أما المتأخرون فما يزال هناك من يأنس بهذا العلم لاسيما المهتمين منهم بالأمور العرفانية، وقد وردت معانٍ كثيرة لخواص هذا العدد في أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام(1).
ونحن لا نريد أن ندخل في هذا العلم وأبوابه الواسعة وأسراره الخفية إلا أننا نقول فيما يخص الأعداد، ولاسيما فيما نحن بصدده وهو العدد (أربعون) - الذي جاءت به الرواية من خلال ما ذكره جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدد له المدة في الاعتزال - نقول: إن لهذا العدد سره الدفين الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم وهم محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، فهم العارفون بخصائصه الغيبية.
ص: 252
إلاّ أننا يمكن أن نصل إلى قناعة في أهمية هذا العدد وآثاره الغيبية عبر: (القرآن والعترة المحمدية)، فهذه الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن العترة المحمدية تعرض لنا بعض الحقائق المرتبطة بالأنبياء وعلاقتها بهذا العدد.
قال تعالى:
وَ إِذْ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ (1) .
فالقرآن يعرض لنا في هذه الآية المدة التي غاب فيها موسى عليه السلام عن قومه وبعد انتهاء هذه المدة، أي الأربعون يوماً فإن القوم انقلبوا على أعقابهم واتخذوا عبادة العجل.
ثم يبين القرآن الكريم في نفس المجال فيطلق على هذا العدد ب - (الميقات) فيقول عزّ وجلّ :
وَ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ ثَلاٰثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنٰاهٰا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقٰاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (2) .
فالآية هنا تشير إلى سر خفي في هذا العدد الذي به يتم الميقات الإلهي.
والقرآن لا يقتصر في أسرار هذا العدد على الأنبياء عليهم السلام بل ينقل لنا صورة عن العقاب الإلهي للظالمين فيقول تعالى:
قٰالَ فَإِنَّهٰا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَلاٰ تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ (3) .
ص: 253
وهم قوم نبي الله موسى الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة فتاهوا أربعين سنة في البيداء.
ثم ينتقل القرآن الكريم إلى مجال آخر فيشير إلى تكرر هذا العدد في موضع جديد، وهو كمال العقل والأشد، قال تعالى:
حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ (1) .
ومن هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هبط عليه جبرائيل عليه السلام في الأربعين من عمره الشريف فبعثه الله رحمة للعالمين.
أما ما جاء في الأحاديث الواردة عن العترة الطاهرة فكثيرة في هذا المجال، نذكر ما تيسر منها تيمناً.
فقد ورد ذكر هذا العدد في حفظ الأحاديث النبوية على ناطقها وآله آلاف الصلاة والسلام، وأثر هذا الحفظ المقيد بالأربعين حديثاً على الإنسان في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في دينه يريد وجه الله عزّوجلّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً»(2).
وقد ورد أيضاً ذكر هذا العدد وبيان آثاره فيمن أخلص لله عزّ وجلّ مدّة من الزمن بتمامه، فعن أبي جعفر الباقر عليه الصلاة والسلام أنه قال:
«ما أخلص عبد الإيمان لله أربعين يوماً أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً
ص: 254
إلا زهّدَه الله في الدنيا وبصَّره داءها ودواءها وأثبتت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه»(1).
وجاء ذكره فيمن أراد التوجه إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء وطلب الاستجابة في قضاء الحوائج أن يقدم الاستغفار لأربعين مؤمناً ويدعو لهم حتى يضمن لنفسه الاستجابة وقضاء الحاجة.
فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:
«من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ثم دعا لنفسه استجيب له»(2).
ومنه جاء الاستحباب في تقديم أربعين مؤمناً يعدّهم بأسمائهم ويستغفر لهم في صلاة الوتر من نافلة الليل قبل أن يستغفر لنفسه.
ومن الأسرار الخفية في قضاء الحوائج هو أنّ اجتماع أربعين رجلاً في مجلس واحد يدعون الله عزّ وجلّ في أمرٍ ما ليقضي الله لهم هذا الأمر ويستجيب لهم، وهو ما جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق روحي فداه، قال عليه السلام:
«ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا فدعوا الله عزّ وجلّ في أمر إلا استجاب لهم»(3).
ومنها استحباب رش قبر الميت لمدة أربعين يوماً في كل يوم مرة، وقد أمر
ص: 255
الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليهما صاحب أحد المقابر بأن يرش قبر يونس بن يعقوب فقال: أمرني أن أرش قبره أربعين شهراً، أو أربعين يوماً، في كل يوم مرة(1).
ومنها أن مراحل تكوين الجنين من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام، أربعين يوماً لكل مرحلة، فيكون الجنين عند ذلك في شهره السادس وهو قوله تعالى:
ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ (2) .
وغيرها من الأحاديث في المجالات المختلفة فإن جميعها تدل على أسرار هذا العدد وشرافته من بين الأعداد عند الله عزّ وجلّ .
وعليه نلمس العناية الإلهية في اعتزال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هذه المدة من الزمن؛ لكي يتهيأ ويستعد لاستقبال الهبة الربانية والتحفة الإلهية وهو في نفس الوقت يكشف عن عظم الأمر الذي ينزل به جبرائيل عليه السلام وكبر شأنه عند الله تعالى؛ لأنه استلزم اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً متعبداً فيها صائماً قائما مصلياً متصدقاً متقرباً إلى الله عزّ وجلّ .
ص: 256
لا بد من الحديث عن الملائكة قبل الدخول في معنى نزول الملك جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى، حتى نصل إلى نتيجة البحث وندرك معنى الأمر، ونفهم عظم المسألة التي استعد لها أشرف خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فأما معنى تسميتهم بالملائكة: فهو إما مشتقة من الألوكة بمعنى (الرسالة)، أو مشتقة من الملك بمعنى (العبودية) المحضة الخالصة.
والملائكة المدبرات والمقدرات، وملائكة الجنة والنار، والملائكة الذين هم حملة التدبير والتقدير والتسخير وغيرها، سميت ملكا لظهور مبدأ الاشتقاق فيه، لأنهم رسل الله في إيصال ما يتحملونه من جهات الفيض ورؤوس المشيئة إلى محالها ومواقعها كما نصّ عليهم بأنهم رسل الله في قوله تعالى:
إِنّٰا رُسُلُ (1) .
وهم المتمحضون في العبودية والمخلصون في الطاعة:
لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ (2) بحال من الأحوال وطور من الأطوار، كما نص عليهم بقوله:
وَ جَعَلُوا اَلْمَلاٰئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ إِنٰاثاً(3) .
وقوله تعالى:
ص: 257
بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (1) .
وقوله تعالى:
لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ (2) .
فلما ظهر فيهم مبدأ الاشتقاق وتحققت المناسبة المطلوبة بين اللفظ والمعنى أطلق عليهم لفظ الملائكة، وإلا فهم صنف آخر ونوع آخر غير جنس الجن والإنس وغيرهم، وإنما سموا (ملائكة) لهذه العلة التي هي ظهور مبدأ الاشتقاق، فعلى هذا كل شيء فيه هذا المعنى يصح إطلاق لفظ الملائكة عليهم(3).
وهي - أي الملائكة - (ذوات نورانية قد اضمحلت فيهم جهة الميولات النفسانية والشهوات الإنسانية والجنسية، فغلبت عليهم جهة النور، بحيث اضمحلت فيهم الظلمة بالرمة فلا أثر لها بالكلية)(4) وهذا القول مأخوذ من أقوال العترة المحمدية صلوات الله وسلامه عليهم.
فقد وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
«صور عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد، تحلى بها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله»(5).
وفيما يخص الملائكة من أحاديث فهي كثيرة جداً في مدرسة ثقل القرآن
ص: 258
وعترة الهادي إلى طريق الرحمن، أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم إلا أننا أوردنا هذا المقدار؛ لكي لا يطول بنا الوقوف عند هذا البحث وهو ليس قصدنا وغايتنا بقدر ما نريد أن نمهد لمعنى نزول جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى ونضيف إلى ذلك أنهم ملائكة عليهم السلام لهم مراتب ثابتة فلا يستطيع أحدهم الصعود إلى مرتبة أعلى من خلال طاعته وهو ما جاء في قول مولانا وسيدنا الإمام الصادق سلام الله عليه في الملائكة:
«إنهم ناقصون لا يحتملون الزيادة»(1).
وهي بمعنى أوضح:
أن الملك ناقص لا يحتمل الكمال؛ لأنه صورة عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد؛ لأن الملك مطبوع على الطاعة ومقطوع عليها، مثلاً ميكائيل عليه السلام لما خلقه الله تعالى، له مقام ومرتبة ولكنه لا يزيد ولا ينمو بطاعته وخدمته لله تعالى إلى مقام أرفع وأعلى من الآن.
وإنما هو كالسراج إذا أشعلته في أول الليل وأتيت إليه في آخر الليل لا تجده أنور وأشد ضوءاً عن أول الليل، فإنه نور لا يوجد في مقابلته ظلمة.
وأما الإنسان فإنه تتساوى عنده باختياره نسبة الطاعة إلى المعصية، فإنه مركب من قوى رحمانية عقلية ومن قوى حيوانية، فهو متردد بين الكمال والنقصان، فبطاعته ينمو ويزداد ويترقى إلى مقام القرب الإلهي كسلمان المحمدي رضوان الله عليه فإنه انقطع إلى الله وإلى عبادته مع وجود النقيض في النفس(2)،
ص: 259
وهو أول الصحابة المنتجبين وأسبق الشيعة إلى ولاية آل الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.
لذلك تجدهم عليهم السلام في مراتب مختلفة فمنهم (العالون) وهم: (اسرافيل، وجبرائيل، وميكائيل وعزرائيل) عليهم السلام، ومنهم الكروبيون وهم:
الذين
«جعلهم الله خلف العرش، ولو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم».
وهو قول مولانا الإمام الصادق عليه السلام في وصفهم(1).
والقرآن الكريم يذكر أنواع الملائكة في قوله تعالى:
وَ اَلنّٰازِعٰاتِ غَرْقاً وَ اَلنّٰاشِطٰاتِ نَشْطاً وَ اَلسّٰابِحٰاتِ سَبْحاً فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً(2) .
وقوله تعالى:
فَالْعٰاصِفٰاتِ عَصْفاً وَ اَلنّٰاشِرٰاتِ نَشْراً فَالْفٰارِقٰاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيٰاتِ ذِكْراً(3) .
وقوله:
وَ اَلْمُرْسَلاٰتِ عُرْفاً فَالْعٰاصِفٰاتِ عَصْفاً وَ اَلنّٰاشِرٰاتِ نَشْراً فَالْفٰارِقٰاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيٰاتِ ذِكْراً(4) .
ولكونهم ذوات نورانية، وقوى روحانية وجسمانية، ذوات شعور وإدراك
ص: 260
واختيار، لكنها لضعف تركيبها وعدم كمال انعقادها وغلبة نوريتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور مختلفة، ما عدا الصور القبيحة والخبيثة(1).
وقد كان جبرائيل عليه السلام يظهر بصورة (دحية الكلبي) وهو أحد صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر بصورته مرات عديدة للمسلمين بشكل جماعي وهم ذاهبون لغزوة خيبر(2)، وبشكل منفرد كما ظهر لأم سلمة رضي الله عنها(3).
بينما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورة رجل جميل الصورة عذب الصوت، كما ظهر لمريم بهيأة بشرية:
فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا(4) .
أي: جميل الصورة والصوت.
أما صورته الأصلية فلم يظهر فيها إلا في ثلاثة مواضع:
تجلى فيه جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية في غار حراء يوم المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب لسنة أربعين من عمره المبارك، وفي هذا اليوم،
ص: 261
وفي هذا الموضع، ولهذا الأمر شأن ومنزلة وخطرٌ عظيمٌ عند الله عزّ وجلّ ، ولذا تراه تجلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته الأصلية.
فقد تجلى فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته العظمى التي خلقه الله عليها ليلة الإسراء والمعراج.
وهو مفاد قوله تعالى:
وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ (1) .
وهذه الصورة التي عليها جبرائيل عليه السلام كانت آية من آيات الله الكبرى، ولقوله تعالى:
مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىٰ (2) .
هو عند نزول أمر الله تعالى لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتزال عن خديجة عليها السلام والناس لمدة أربعين يوماً، وفي هذا دليل على عظمة مهمّته وجلالة الأمر الذي جاء به، وهو انعقاد نطفة أم الأئمة الأطهار وزوجة ولي الله حيدرة الكرار صلى الله عليهم أجمعين(3).
ص: 262
إن التعبد بصيام أربعين يوم وقيام لياليها، واعتزال الخلق، وهجران الزوجة، وتشديد الشوق والميل الطبيعي بين السيدة خديجة والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك يكون له الأثر الخاص في انعقاد النطفة الزكية، خصوصاً إذا ألحق به ارتياض سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم رياضة تكسر الشهوات وتكدر اللذات حتى حصل الاستعداد لقبول الهدية السماوية والعطية الربانية، لئلا يقع القصور والفتور بعد الرياضة النفسانية في عملية إيداع تلك الوديعة الإلهية.
إن بعثه صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر رضوان الله عليه إلى خديجة ليطمئنها عليه وينقل لها كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مقامها ومنزلتها عند الله وإنه ليباهي ملائكته بها كل ذلك دلائل على عظم منزلتها عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو دليل على حب النبي الكبير للسيدة الجليلة خديجة سلام الله عليها.
ص: 263
تناولنا في الفصل الأول: اعتزال النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً صائماً قائماً مصلياً متصدقاً متقرباً إلى الله عزّ وجلّ .
ونورد هنا ما كان من مجريات للأحداث التي رافقت هذا الأمر الإلهي لسيد الأنبياء وأكرم ما خلق الله عزّ وجلّ حبيبه المصطفى وعبده المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم.
قال سيدنا ومولانا روحي له الفدى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
«فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام هو يأمرك بأن تتأهب لتحيته وتحفته.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل وما تحفة ربّ العالمين ؟ وما تحيته ؟، قال: لا علم لي، قال: فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس، أو قال: إستبرق، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد يأمرك ربّك أن تجعل
ص: 264
الليلة إفطارك على هذا الطعام.
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام:
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يريد الإفطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي على باب المنزل وقال: يا بن أبي طالب، إنه طعام محرم إلا عليّ .
قال علي عليه السلام:
فجلست على الباب وخلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطعام وكشف الطبق، فإذا عُثق من رطب وعنقود من عنب فأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه شبعاً، وشرب من الماء رياً، ومد يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرائيل وغسل يده ميكائيل وتمندل له اسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي فأقبل جبرائيل وقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتى تأتي خديجة فتواقعها، فإن الله عزّ وجلّ آل على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة، فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزل خديجة»(1).
مسائل البحث في الحديث:
نزول الملائكة المقربين الثلاثة وهم العالون، خصوصاً اسرافيل، حيث لم ينزل قط سوى هذه المرة مصحوباً بالتشريفات الخاصة من السندس والإبريق
ص: 265
والمنديل والماء والطبق من الجنة مع ما قاموا به عليهم السلام من تقسيم في الخدمة في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك (التشريف) السماوي فكان الذي أفاض الماء جبرائيل عليه السلام والذي غسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميكائيل، والحال كان يكفي بصب الماء على اليدين فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسلهما لكن أن يقوم ميكائيل عليه السلام بغسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاية قصوى في التشرف بخدمته، كذلك الحال بالنسبة لاسرافيل عليه السلام فإنه يمكن للنبي أن يأخذ المنديل من اسرافيل عليه السلام فيمسح يديه بذلك المنديل لكن أن يقوم اسرافيل ويمندل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمسحهما فهو تشريف لاسرافيل عليه السلام وإكرام لفاطمة صلوات الله عليها، حيث أنزلت تلك العطايا والهدايا يحملها عظماء سكان الملأ الأعلى.
وكيف لا وهي صاحبة النور الأوحد الذي خلقه الله من نور عظمته فأشرقت به السماوات والأرضون، وقد غشي أبصار الملائكة فخروا لله ساجدين وبحمده قائلين وبثنائه مسبحين.
اختيار الرطب والعنب فطوراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن دون حكمة إلهية بل إن ذلك من ألطاف حكمة الله عزّ شأنه وهو العزيز الحكيم، فما من شيء إلا وله عند الله سر خفي، لكن لا يظهره لحكمةٍ أجراها وسنة أمضاها في خلقه عز شأنه.
ص: 266
وعليه: فان للرطب والعنب خصوصية خاصة مع فاطمة صلوات الله عليها، كما أن لهما خصوصية غذائية لم تكن قد وجدت في غيرهما.
أما علاقتهما بالزهراء صلوات الله عليها فمن خلال بعض الأمور:
قد مرّ في باب نور فاطمة صلوات الله عليها إن الله تبارك وتعالى قد ابتلى الملائكة بظلمة شديدة لم تتمكن الملائكة فيها أن ترى أولها من آخرها ولا آخرها من أولها مما دعاها إلى التضرع إلى الله عزّ وجلّ بالأشباح النورانية الخمسة التي تطوف بالعرش أن يكشف عنها هذه الظلمة فاستجاب لها وكان خلاصها من هذه الظلمة أن أخرج من نور فاطمة قناديل، وفي رواية قنديل، فعلقها بالعرش فأشرقت السماوات والأرض بنور هذه القناديل.
وعندما أراد الله عزّ وجلّ أن ينقل هذا النور إلى صلب النبوة والرسالة المحمدية كان الانتقال على مرحلتين، المرحلة الأولى: كانت في عالم السماء وتحديداً في السماء السادسة على هيأة ثمار تناولها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المرحلة الثانية من انتقال النور الفاطمي إلى الصلب المحمدي فكان في الأرض تجسماً على هيأة عثق من الرطب وعنقود من العنب، وهنا يظهر اللطف الإلهي بانتقال هذه الأنوار التي حوتها القناديل إلى حبات الرطب وحبات العنب، فحملت كل حبة من الرطب والعنب نوراً من تلك القناديل.
ومن هذه الأنوار الفاطمية اكتسبت حبات الرطب وحبات العنب اللون الأسود والأحمر والأصفر والأخضر بتدرجاتها التكوينية في الحياة الدنيا، ولذلك
ص: 267
نجد أن هذه الألوان مشتركة في الرطب والعنب مع أن اللون الغالب في الرطب هو الأصفر وهو الوقت الذي يتحول فيه النور الفاطمي عند الزوال إلى الصفرة - كما سيمر بيانه -، كما أن اللون الغالب لأكثر أنواع العنب الأصفر المخضر.
أما بالنسبة للرطب فقد مر بيانه في المبحث الثالث من فصل (خلقها من ثمار الجنة)، وبقي أن نذكر آثار العنب وخواصه الغذائية والعلاجية في الطب قديماً وحديثاً مما أكسبه تاريخاً قديماً، فقد عرفته الشعوب واهتمت به كثيراً وقامت بنسج الأساطير حوله، وأكثرت من ذكر الحكايات التي تدور حوله ولاسيما شجرته، وهي شجرة مقدسة عند البرتغاليين والأمريكيين الأصليين.
ومما زاد في اهتمام الناس بهذه الثمرة هو وجودها في الكتب السماوية الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن الكريم.
فقد ورد ذكره في القرآن في إحدى عشرة آية، وهي:
1. قال تعالى:
أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ(1) .
2. قال تعالى:
ص: 268
وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ نَبٰاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنٰا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرٰاكِباً وَ مِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِهٰا قِنْوٰانٌ دٰانِيَةٌ وَ جَنّٰاتٍ مِنْ أَعْنٰابٍ (1) .
3. وقوله تعالى:
وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجٰاوِرٰاتٌ وَ جَنّٰاتٌ مِنْ أَعْنٰابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوٰانٌ (2) .
4. وقوله تعالى:
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنٰابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) .
5. وقوله تعالى:
وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنٰابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) .
6. وقوله تعالى:
وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنٰا لِأَحَدِهِمٰا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنٰابٍ وَ حَفَفْنٰاهُمٰا بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنٰا بَيْنَهُمٰا زَرْعاً(5) .
ص: 269
7. وقوله تعالى:
فَأَنْشَأْنٰا لَكُمْ بِهِ جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ لَكُمْ فِيهٰا فَوٰاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ (1) .
8. وقوله تعالى:
وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ وَ فَجَّرْنٰا فِيهٰا مِنَ اَلْعُيُونِ (2) .
9. وقوله تعالى:
حَدٰائِقَ وَ أَعْنٰاباً(3) .
10. وقوله تعالى:
وَ عِنَباً وَ قَضْباً(4) .
11. وقوله تعالى:
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهٰارَ خِلاٰلَهٰا تَفْجِيراً(5) .
ومما لا يخفى على البصير أن عدد أبناء فاطمة من الأئمة المعصومين هو أحد عشر إماماً أولهم الحسن المجتبى وآخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ومما يلاحظ في الآيات التي مرت أن العنب كان يلازم الرطب مما يدل على
ص: 270
أهميتهما الغذائية، وهو الأمر الذي توصلت إليه البحوث الطبية فقد أظهرت هذه الأبحاث أن العنب يتمتع بقيمة غذائية عالية جداً ولحد الآن لم تتوصل الأبحاث إلى معرفة جميع فوائد هذه الثمرة لكن يمكن أن نلخص ذلك عبر قول بعض العلماء الذين وازنوا بينه وبين الحليب، بل ذهب بعضهم إلى أن العنب يفوق قيمة الحليب، ولعل أهم ما توصل إليه العلماء هو أن العنب أهم الفواكه على الإطلاق فائدة ومردوداً(1).
أما الزبيب وهو مجفف ثمار العنب فالجدول الذي يبين القيمة الغذائية لكل (100 غ) هو:
ص: 272
وهذه الآثار الغذائية التي جعلها الله تعالى في العنب تكشف عن تكريم الله لها لاقترانها بخلق فاطمة عليها السلام.
قد جاء في الحديث:
قول جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«الصلاة محرمة عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة».
أما الجواب على هذا السؤال فهو عند الفقهاء: (الجواز) فقد جاء في الشريعة السمحاء موارد عديدة يستثنى فيها من المبادرة إلى إقامة الصلاة في أول وقتها.
الأول: الظهر والعصر إذا أراد الإتيان بنافلتهما، وكذا الفجر إذا لم يقدم نافلتها قبل دخول الوقت، ما لم يتضيق وقت فضيلة الفريضة.
الثاني: مطلق الحاضرة لمن عليه قضاء يومه أول ليلته، فإن عليه المبادرة بالفائتة ما لم تتضيق الحاضرة حتى لو كان قد نوى الحاضرة فعليه أن يعدل إلى الفائتة، هذا إذا تذكر قبل فوات محلها، وذلك للنصوص(1)، التي لأجلها قيل بالمضايقة في قضاء يومه وليلته إلا في فريضة الفجر فلا يتقدم عليها فائتة لحديث أبي بصير وحديث ابن مسكان، كلاهما عن الإمام الصادق عليه السلام(2).
ص: 273
الثالث: المتيمم مع احتمال زوال العُذر أو رجائه، أو لمن عليه البحث عن الماء غلوة سهم أو سهمين كما هو مبين في أحكام التيمم عند الفقهاء.
الرابع: لدفع الأخبثين للحاقن بهما، لقول الصادق عليه السلام:
«لا صلاة لحاقن ولا لحاقنة»(1).
وقوله:
«لا تصلّ وأنت تجد شيئاً من الأخبثين»(2).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يصلي أحدكم وبه أحد العنصرين، يعني: البول والغائط»(3).
أي حتى يزيلهما ويتطهر من جديد ويصلّي.
الخامس: ليدرك فضيلة الجماعة، والمسجد، وحضور القلب، ولدرك كلّ فضيلة وكمال، ما لم يفض إلى الإفراط في التأخير.
السادس: المستحاضة الكبرى، لها أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر بغسل واحد، وتؤخر المغرب لتجمعها مع العشاء كذلك.
السابع: المغرب والعشاء لمن أفاض من عرفات إلى المشعر، فله أن يؤخرهما ولو إلى ثلث الليل فيجمع بينها، وهذه من السنة المؤكدة ففي صحيح محمد بن
ص: 274
مسلم عن أحدهما: لا تصلي المغرب حتى تأتي جمعاً(1) وإن ذهب ثلث الليل(2) ونحوه موثقة سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام(3).
الثامن: صلاة المغرب لمن ينتظره قوم صوّم يخشى أن يحبسهم عن إفطارهم، أو هو تشتاق نفسه إلى الإفطار وتنازعه. كما في صحيح الحلبي وحديث الفضيل وزرارة(4).
التاسع: من أتى بأربع ركعات من صلاة الليل أو أكثر، فدخل الفجر، فله أن يتم وتره مخففة ثم يصلي الفجر، ما لم يسفر الصبح أو تغور النجوم(5)، ونافلة الفجر أفضل من الوتر.
العاشر: صلاة المغرب للمسافر حتى يغيب الشفق، أو إلى ربع الليل، أو إلى ثلثه، بل مطلق الصلاة لمطلق المسافر المستعجل(6)، بل ولمطلق الاعتذار والاضطرار(7).
فجميع هذه الموارد قد وردت في الشريعة المحمدية عن طريق العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.
ص: 275
وقد ورد في التاريخ والسيرة العطرة لسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد أمر المسلمين بتأخير الصلاة في غزوة خيبر.
إضافة إلى ما ذكر فإن إدخال السرور على قلب مؤمن من السنن المستحبة المؤكدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أفضل الأعمال بعد الفرائض إدخال السرور على قلب المؤمن»(1).
ومن المؤكد أن رؤية الوجه النوراني المشرق باللطف الرحماني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المسرات على قلب المؤمن ولاسيما زوجته الحبيبة خديجة الكبرى، وقد طال بها الانتظار لرؤياه وحدا بها الشوق لملقاه وآلمها الحنين لعذوبة صوته وحلاوة منطقه. ومما لا شك فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ به الشوق والحنين إلى حبيبته وأم ولده سلام الله عليها، فما تأخير الصلاة عن أدائها في أول أوقاتها مع جميع هذه العلل الراجحة والحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا من باب العناية الإلهية بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
عن فرات بن إبراهيم الكوفي عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«معاشر الناس تدرون لما خلقت فاطمة ؟.
قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
ص: 276
خلقت فاطمة حوراء إنسية لا إنسية.
وقال:
خلقت من عرق جبرائيل ومن زغبه ؟
قالوا: يا رسول الله استشكل علينا، تقول:
حوراء إنسية لا إنسية.
ثم تقول:
من عرق جبرائيل وزغبه ؟
قال:
إذا أُنبئكم: أهدى إليّ ربي تفاحة من الجنة أتاني بها جبرائيل عليه السلام: فضمها إلى صدره، فعرق جبرائيل عليه السلام وعرقت التفاحة، فصار عرقهما شيئاً واحداً، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. قلت: وعليك السلام يا جبرائيل، فقال: إن الله أهدى إليك تفاحة من الجنة، فأخذتها وقبلتها ووضعتها على عيني وضممتها إلى صدري، ثم قال: يا محمد كلها.
قلت يا حبيبي يا جبرائيل هدية ربي تؤكل ؟ قال: نعم قد أُمرت بأكلها، فأفلقتها فرأيت منها نوراً ساطعاً ففزعت من ذلك النور، قال: كُل فإن ذلك نور المنصورة فاطمة.
قلت: يا جبرائيل ومن المنصورة ؟ قال: جارية تخرج من صلبك، واسمها في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة.... إلى آخر الحديث»(1).
ص: 277
قال العلامة المجلسي رحمه الله: الزغب: الشعيرات الصغرى على ريش الفرخ وكونها من زغب جبرائيل، أما لكون التفاحة فيها عرق وعلقت من بينهما، أو لأنه التصق بها بعض ذلك الزغب فأكله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
مسائل البحث في الحديث:
ذكرنا في السابق أن معنى كون فاطمة عليها السلام «حوراء إنسية» كان لسببين:
السبب الأول: (هو أنها خلقت من نور الله عزّ وجلّ قبل خلق آدم عليه السلام) كما مر في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والسبب الثاني: هو (أنها خلقت من ثمار الجنة).
وفي هذا الحديث يبين النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم سبباً آخر لمعنى أنها (حوراء إنسية)، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم يضيف إلى هذا السبب الآخر لفظاً تفجرت منه معانٍ عديدة وحقائق كثيرة وإشارات إلى أسرار خفية، لعل الله يمنّ علينا بمعرفتها ويوفقنا لفهمها والإحاطة بها.
وهذا السبب الآخر لكونها حوراء إنسية، هو خلقها من زغب جبرائيل عليه السلام وعرقه الذي جمع مع ثمرة الجنة وقد ظهر هذا السبب في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا إنسية).
فلما استشكل الأمر على صحابته بيّن لهم معنى أنها: (حوراء إنسية لا إنسية)، لكن هذا البيان صاغه صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ تسمعها الأذن الحسية وتدركها
ص: 278
الأذن الواعية بأبعد معانيها وخواص مضامينها فحمل كل عاقل شرح الله قلبه للإيمان من هذا المعين العذب ما يقدر على حمله، وكلما وقف الظمآن على هذا المعين روى منه قلبه وأخذ به الشوق إلى الاغتراف منه غرفات لأجل نقلها إلى العطاشى من أحبابهم وإخوانهم، فكان إنفاقهم من وحي الحصول على الأجر والثواب فأنفقوا (كلاً على سعته).
ومن هنا فقد تناول أهل العرفان هذه الألفاظ وبينوا معانيها وأشاروا إلى لطائفها وخصائصها بأجمل المعاني وأوضح الإشارات وكأنهم قدموا هذا الماء الذي اغترفوه من معين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكؤوس منمقة ومناديل معطّرة لينالوا الحظ الأوفر في خدمة إخوانهم من المؤمنين وشيعة آل محمد الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
فمنهم من قال في بيان معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«خلقت من عرق جبرائيل وزغبه».
هو: (إن الجنة دار الحيوان ودار الله ومحل الرضوان، وكل ما فيها من أشجار وأثمار وأنهار وغيرها منسوب إلى الله، وجميع سكانها هم أهل الله وخيرته من خلقه وزبدة عبيده، كما أن الثمرة خلاصة الشجرة وعصارتها، وجبرائيل خير أهل الملكوت وعصارتهم، وعرق كل شيء أصفى منه وكأنه عصارة ذلك الشيء وجوهره)(1).
وفي الحديث إشارة إلى ان فاطمة عليها السلام خلقت من خلاصة دار الله
ص: 279
وعصارة دار الحيوان، حيث أفيضت عليها الحياة الأبدية التي لا ممات فيها ولا فناء، بل هي حياة خالدة سرمدية، وقد ذكرت كتب الأخبار حديث وفاتها حينما ألقى الحسنان عليهما السلام بنفسيهما على بدنها فمدت باعها وأخرجت يداها من الكفن واحتضنتهما.
والخلاصة: أن هذا النحو من التكوين خاص بوجودها المقدس وليس لأحد هذا الشرف منذ أن سكن آدم وحواء في هذه الدار.
وخير لنا أن نبسط البيان فنقول: لم يرَ أحد جبرائيل بالعين الظاهرة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواه، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يراه بعينه النبوية لتجانسهما وتناسخهما، وعدم مغايرتهما في صفاء الجسمانية ومقتضى النورانية، ولأنهما من مبدأ واحد ومشتقان من مادة واحدة، ولا خلاف في اتصال نورهما وارتباط وجودهما.
وكذلك كان نور فاطمة الزهراء عليها السلام، الذي تجسد في صورة التفاحة من الجنة متحداً مع الذات النبوية المقدسة، وكان الحامل والمحمول والآكل والمأكول في غاية التلاؤم والتناسب.
وجبرائيل الأمين عليه السلام هو خلاصة سكان الملكوت الأعلى، وجسمه اللطيف غير الأجسام الترابية والظلمانية، وهو رشحة من رشحات الذات المقدسة، غير أنه كان إذا توجه إلى هذا العالم - الدنيوي - لبس كسوة تناسب هذا العالم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراه بهذه الكسوة فإذا أبلغ الوحي ورجع إلى مقره الأصلي خلع عنه تلك الكسوة وعاد إلى ما كان عليه.
ص: 280
والآن نسأل: من أين كان عرق جبرائيل ؟، أكان من بدنه الأصلي أم من بدنه المستعار؟
من المعلوم أن التعرق من لوازم هذا العالم وهذا البدن العنصري، فلا يبعد أن يقال: إن عرق جبرائيل كان من بدنه الملكي مع بقاء كون بدنه غير الأبدان العنصرية الظلمانيّة.
وإن قيل: إن عرقه كان من بدنه الأصلي، فقد يقال: إن ذلك البدن لا يعرق، وكل عاقل يعلم إن إدراك حقيقة جبرائيل لا تسعها عقولنا، فكيف نتصور عرقه وكذلك القول في زغبه وجناحه، حيث إن عالم البدن الأصلي لجبرائيل لا زغب فيه ولا جناح.
ومن هنا يعلم أن نور فاطمة في صورة تفاحة الجنة حقيقة، وإنما تصوّرت بهذه الصورة لتناسب مذاق روح العالمين - أي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - وتكون مادة لتلك النطفة الزكية.
والتعرق من مقتضيات الحركة والحرارة، والمحرك هنا المحبة، حيث ضمّها جبرائيل كما تضم الروح العزيزة، وألصق تلك العطية السماوية والهدية العلية بصدره حتى امتزج بها عرقه وزغبه اللطيف، وناولها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضعها على عينه وضمها إلى صدره إعظاماً لهدية الله ومحبّة لكرامة الله، ثم استأذن جبرائيل وتناولها.
ولا يقدر أحد قط أن يتصور حالة النشاط والسرور والانبساط التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل في تلك اللحظة.
ص: 281
أما جبرائيل فلأنه كان حاملاً ذلك النور الموقور المسرور، وأنه ردَّ الوديعة الإلهية وأوصل الأمانة، ويشهد لبالغ سروره شدّة التزامه وضمّه إياها إلى صدره وهو تعبير عن شدة الحب.
وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقد سرَّ لهذا العطاء والكوثر الكثير، لما امتن به الله عليه وأراه ثمرة شجرة وجوده وحاصل عمره واسترد الوديعة المنيفة حيث تناولها من يد الحقّ ، فعاد النور إلى النور ورجعت تلك اللطيفة الإلهية إلى مقرها الأصلي، وصار صلب النبي الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم مقرّاً لذلك النور المطهر.
وأما زغب جبرائيل فكأنه تعويذ وحرز لحفظ روح قدّوة آل الخليل صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد نظيره في البصائر والبحار من تعويذ فاطمة عليها السلام الحسن والحسين عليهما السلام بزغب جبرائيل حيث جمعته وشدّته بساعديهما(1). وأيضاً عن الصادق عليه السلام:
أنه كان يجمع بيده المباركة من حجرته الشريفة ما يتناثر فيه من زغب الملائكة(2).
ص: 282
وأما إذا قلنا: إن زغب جبرائيل كان من جسده الأصلي، فلا يسعنا إلاّ أن نقول: إنها الإفاضات والبركات الخاصة.
وعليه: فالمراد من زغبه وعرقه الألطاف الخاصة والأفضال المختصة التي كان يفيضها مفيض الخير والجود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجليل بواسطة جبرائيل عليه السلام.
وبعبارة أخرى: إن قسماً من أقسام النور وجود جبرائيل عليه السلام ألحق - حينئذٍ - بأمر الملك العلاّم بتلك النطفة الزكية، فأشرق فيها وصار جزءاً متماً ومكملاً لها في هذا العالم العنصري، وعبّر عن ذلك بالزغب والعرق لضيق عالم الملك والشهود عن استيعاب جزيئات الملكوت الأعلى، ولعل الصفرة التي تعتري وجه فاطمة الطاهرة وقت الظهر إشارة إلى صفة زغب جبرائيل عليه السلام، ولعله بقي هذا اللون وهو برزخ بين البياض والحمرة في وجهها الوضاء من إفاضات نور جبرائيل عليه السلام.
وأما إذا ذهبنا إلى أن العرق والزغب كانا من ذاك البدن اللطيف الحسي المستعار لجبرائيل كما ورد في الأخبار، فلا يعدو ذلك أن يكون خصيصة من خصائص فاطمة عليها السلام حيث امتزجت صورتها الحسية وقالبها الملكي - أي تفاحة الجنة - بذاك العرق والزغب، وليس في رجال الأبرار ولا نساء العالمين الأطهار من فاز بحمل هذا الفخر والمنزلة، وليس من النطف الزكية للأنبياء والأولياء نطفة واحدة كان جبرائيل عليه السلام وسيطاً في إقرارها في مستقرها، وهذا دليل على حرمتها وشرفها الذاتي، وهو إكرام وإعظام لسيد الأنام
ص: 283
عليه وآله الصلاة والسلام(1).
وأضيف إلى هذا البيان المستبان من الفيوضات الرحمانية لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على شيعتهم ومحبيهم، بهذا الوجه الآخر لمعنى أنها عليها الصلاة والسلام: (خلقت من عرق جبرائيل وزغبه) وهو:
أن جبرائيل عليه السلام هو الناقل للوحي وهو الوسيط في انتقال الفيوضات الإلهية إلى النفس المحمدية المقدسة، وأن محل استلام وتلقي الفيض الإلهي والوحي الرباني هو قلب جبرائيل عليه السلام فيحمله، أي الفيض الإلهي والوحي الرباني ويهبط به لينزله على قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فمن قلب جبرائيل عليه السلام إلى قلب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مفاد قوله تعالى:
نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (2) .
ومن هنا فإن حمل جبرائيل عليه السلام للتفاحة وتقبيلها ووضعها على عينه وضمها إلى صدره وهو موطن القلب، وموضع الوحي، وبيت الفيض الإلهي، وتعرقه ثم تعرق التفاحة فيكون عرقهما شيئاً واحداً، فهو عبارة عن مزج للمادة التي خلق منها جبرائيل مع المادة التي خلقت منها التفاحة وتجانسهما معاً، فيكون لهذا الاختلاط وهذا التجانس اشتراك في بدن فاطمة صلوات الله عليها، أي بمعنى: أن البدن الذي حوى النور الإلهي الفاطمي تكوّن من نفس المادة التي خلق
ص: 284
منها بدن جبرائيل عليه السلام، لتجانس المادة في كلا البدنين.
وبمعنى أوضح لذوي القلوب النيرة، أن النور الفاطمي متصل بمحل نزول الفيض الإلهي للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أي القلب ولأجله قال بأبي وأمي:
«فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي»(1).
فما ينزل به جبرائيل عليه السلام من الفيض الرباني على قلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يستقبله النور الإلهي الذي خلقت منه أم الأنوار الإلهية المرضية.
فإذا قيل:
ان ذلك يدعو إلى إشراك نور فاطمة عليها السلام بالنبوة؛ لان نورها هو محل استقبال الفيض الإلهي أي قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلنا: إذا صح ذلك فهو ينطبق على جبرائيل عليه السلام؛ لأنه هو الأصل في نزول هذا الفيض على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأصبح بذلك شريكا - والعياذ بالله -.
في حين أنه عليه السلام الأمين على هذا الوحي وقد خلقه الله بكيفية خاصة لأداء هذا التكليف ولنفس الغرض خلقت فاطمة عليها السلام بكيفية خاصة نوهت إليها الأحاديث النبوية التي مر ذكرها لغرض أداء التكليف الإلهي الذي خلقت لأجله قلب النبوة وروحها.
ص: 285
وهو مفاد قوله: (فاطمة شجنة مني)(1).
وعليه كانت (حجة الله على الحجج الإلهية)، لأنها محل نزول الفيض الرباني على الحجج المعصومين لسنخية محل نورها مع محل الوحي أي امتزاج عرق بدن جبرائيل مع عرق التفاحة التي هي محل نور فاطمة عليها السلام.
وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى علي عبده وأخي رسوله ووصيه وخليفته من بعده وعلى فاطمة أمته وابنت رسوله وزوجة وليه وعلى ولديها إمامي الرحمة وسبطي النبوة وعلى أولادها الأئمة التسعة من ولد الحسين صلوات الله عليهم أجمعين.
ص: 286
نكمل إن شاء الله تعالى في هذا المبحث رحلة النور والفيض الأقدس لكوثر الخير وحوض اليمن ونسمة الطهر فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، ومراحل تنقل هذا النور الإلهي من تحت ساق العرش وإشراقه في قناديل معلقة وانتقاله إلى الجنة فأودعه الرحمن في ثمارها ليستلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن مرحلتين، كانت الأولى في الجنة، وكانت الثانية من يد جبرائيل عليه السلام لتقر الوديعة الإلهية في قرار النبوة وصلب الرسالة وعمود الوحي وروح الشريعة، ثم ينتقل هذا النور الإلهي المودع في النطفة الزكية الفاطمية في أرض الطاهرة خديجة الكبرى سيدة النساء بعد فاطمة المحمدية.
فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهٰا نَبٰاتاً حَسَناً(1) .
لتنمو في تلك الأرض الطاهرة المطهرة المعدة لاستقبال النور الإلهي فتنال
ص: 287
بذلك ما لم تنلْهُ امرأة من العالمين، فأي رحمٍ حوى مثل فاطمة المطهرة ؟! وأي بطن نما فيه مثل البضعة الزاهرة ؟!
ولقد ذكرنا في المبحثين السابقين حديث خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة التي نزل بها جبرائيل عليه السلام بعد أن اعتزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة أربعين يوماً، وفي هذا المبحث نكمل ما بقي من هذا الحديث لاختصاصه بعنوان هذا المبحث. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
«قالت خديجة رضوان الله تعالى عليها: وكنت قد الفت الوحدة - بسبب اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها هذه المدة - فكان إذا جنني الليل غطيت رأسي، واسجفت ستري، وغلقت بابي، وصليت وردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمشبهة، إذ جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قالت خديجة عليها السلام: فنادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.
قالت عليها السلام: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتحت الباب ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنّه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي
ص: 288
صلى الله عليه وآله وسلم حتى حسست بثقل فاطمة في بطني»(1).
مسائل البحث في الحديث الأول:
هنا في هذا الحديث تظهر لنا أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها إحدى الصور المشرقة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية، فهو المعلم الأول في الحياة المدنية المتحضرة.
وهذه الصورة كانت تحكي عن جانب من الجوانب العديدة في الحياة الأسرية، يمتاز بالأهمية الكبيرة والتأثير النفسي في الأسرة وهو أحد المناهج التي تنمو بواسطتها الأسرة ولتنتج أبناء صلحاء نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم.
ولذلك كيف يكون الأسلوب الذي يقوم به الزوج عند دخوله البيت ؟
هنا في هذه اللحظات القليلة والدقائق المعدودة ينظر الجميع ببالغ الأهمية لما يقوم به الأب من أفعال وينصتون إلى ما يخرج من فمه من كلمات، فإذا كانت مظاهر التعب والضجر واضحة على الأب انعكس ذلك على الزوجة والأولاد ولاسيما لو كانت في الأسرة بنيات فهن الأسرع تأثراً بهذا المنظر والأكثر شعوراً لما يظهر على الوالد.
ومن هنا: فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدخل إلى البيت بهذا الشكل الذي نقلته هنا زوجته الحبيبة البارة المخلصة الوفية بهذه الكلمات: (وكان إذا
ص: 289
دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه).
وهنا يظهر بشكل واضح هذا المنهاج التربوي الأسري الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالأب الذي يبدأ حياته الأسرية بالوضوء والصلاة فإنه يضفي على زوجته وأولاده الطمأنينة والسكينة والرحمة، وهو في نفس الوقت يعلمهم أهمية الصلاة وإنها المفتاح الذي يجب عليهم أن يفتتحوا به خطوات حياتهم، فيتمسكوا بها ويستعينوا بها ويكونوا مصادقاً لقوله:
وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِنَّهٰا لَكَبِيرَةٌ إِلاّٰ عَلَى اَلْخٰاشِعِينَ (1) )(2).
ثم تمضي أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها لتبين لنا صورة أخرى من الصور التعليمية في جميع جوانب الحياة الدنيوية والأخروية.
وهنا تنقلنا السيدة خديجة عليها السلام في رحاب العلاقة الزوجية لتشير إلى أهم الأسس التي يعتمد عليها قيام البيت، وهي صمام الأمان في الحياة الأسرية، فكم من أسرة تهدمت، وكم من علاقة زوجية فشلت، وكم من أطفال ضيعت، وكانت هي الضحية، بل هي التي تدفع ثمن الأسلوب الفاشل الذي يعتمده الأب في العلاقات الزوجية كحالات منفردة متعددة.
ص: 290
وعندما نقول الأب لأسباب كثيرة منها القيمومية التي لديه والقدرة في التحكم في شؤون الحياة الأسرية وغيرها.
ومن هنا فإن السيدة خديجة سلام الله عليها تصف لنا هذه العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الرقيقة والمنطق العذب والرقة والعاطفة والحب الكبير لهذا الزوج مع الحفاظ على العفة المحاطة بهذه الكلمات، والحشمة التي تفوح من هذه الألفاظ، قالت سلام الله عليها:
«فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير إنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها».
فهذه الكلمات على قلتها قد كشفت إحدى السنن النبوية في آداب المعاشرة الزوجية وتظهر بشكل كبير الأجواء العاطفية التي ينبغي لكل زوج أن يتعلمها ويستسن بها؛ لأن هذا التعامل يجمع الشفافية في الأسلوب، والجمال في المبادرة لاستجلاب وتحريك عاطفة المرأة واستدرار حبها.
ومن هنا فهذا المنهاج التربوي من أهم المناهج التي تدوم بها الحياة الأسرية وتستمر بواسطتها العلاقة الزوجية.
وقد اعتمد طب النفس الأسري في كثير من البحوث والدراسات على هذا المنهاج ووضعه كمنهاج يعتمد عليه قيام الرابط الأسري وهو أحد الأسس التي يقوم عليها دوام العلاقة الزوجية، وكم نحن اليوم بحاجة إلى مراجعة تلك السنن النبوية ومعرفة الآداب المحمدية في مختلف ضروب الحياة ولاسيما في الجانب الأسري كأزواج وآباء وإخوان وأبناء.
ص: 291
إن إحساس السيدة الطاهرة والصديقة الجليلة أم الزهراء صلوات الله عليها بثقل فاطمة عليها السلام، هو خلاف العادة البشرية، وعملية الإحساس بثقل الجنين يتحدد عند الأم بعد الشهر الرابع للحمل.
أمّا بالنسبة للسيدة خديجة عليها السلام فإن إحساسها بثقل فاطمة عليها السلام عائد إلى النطفة الزكية الحاملة للنور الفاطمي وهو كإحساس السيدة مريم عليها السلام بعد أن تمثل لها روح القدس عليه السلام بشراً سويا، فإحساسها بثقل فاطمة إنما هو من نور فاطمة وكونها من عصارة دار الآخرة وخلاصة نعيمها الممزوج بعرق روح القدس وزغبه وهو حامل الوحي والفيض الإلهي.
عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لما أن مات ولدي من خديجة، أوحى الله إلي أن أمسك عن خديجة وكنت لها عاشقاً، فسألت الله أن يجمع بيني وبينها، فآتاني جبرائيل في شهر رمضان ليلة الجمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة فقال لي: يا محمد كل هذا وواقع خديجة الليلة، ففعلت فحملت بفاطمة، فما لثمت فاطمة إلاّ وجدت ريح ذلك الرطب وهو في عترتها إلى يوم القيامة»(1).
ص: 292
مسائل البحث في الحديث الثاني:
في هذا الحديث تعيين لليلة انعقاد النطفة الزكية لفاطمة صلوات الله عليها وهي ليلة الجمعة من شهر رمضان الواقعة في الليلة الرابعة والعشرين منه، وهذا التوقيت الدقيق لانتقال النور الفاطمي إلى رحم خديجة عليها السلام في غاية الاهتمام الرباني والعناية الإلهية، إذ لا يخفى أن العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل لياليه وإن كل ليلة من هذه الليالي يطلب العباد فيها التوفيق لليلة القدر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«اطلبوها في العشر الأواخر»(1).
إضافة إلى فضل ليلة الجمعة على الليالي فسبحان من قدّر لها هذا التقدير وهيأ لها هذا الوقت المحفوف بالبركات ونزول الفيوضات الرحمانية.
وعليه:
فإن ولادتها الميمونة السعيدة تكون في شهر جمادى الآخرة وهو ما اشتهر في ميلادها ومطابقٌ لما نصت عليه الروايات الواردة عن العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.
ص: 293
هذا الحديث يحمل دليلاً ينص على أن حقيقة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم ثلاثة فقط، ولدان وهما القاسم وعبد الله وقد ولدا وماتا في الإسلام وفيها قال: العاص بن وائل السهمي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوه فإنه مات ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه:
إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ(1) .
وبنت واحدة هي فاطمة صلوات الله عليها والحديث واضح وضوح الشمس أن الله منَّ على نبيه الأعظم بفاطمة بعدهما، فكانت كوثر ذريته وأولاده وهو قوله تعالى:
إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ(2) .
ولنا وقفة مع هذه السورة إن شاء الله تعالى(3).
ص: 294
ص: 295
ص: 296
أصبح من البديهي ونحن نسير بمنهج القرآن الكريم في حديثه عن الشخصية الرسالية أن يكون لمرحلة الإعداد الرحمي (الجنينية) لبضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خصوصياتها وسماتها المتفردة.
فمثلما كانت المرحلة الجنينية لنبي الله عيسى عليه السلام تحظى بسماتها الخاصة كشاهد على تلك المنهجية القرآنية والتدبير الإلهي فإن هذه المرحلة من حياة فاطمة عليها السلام لها سماتها الخاصة؛ إلا أن الفارق بين السعة في بيان المرحلة الرحمية لعيسى عليه السلام وبين بقية الشواهد الجنينية لنبي الله إسحاق عليه السلام اقتصرت على بيان كبر سن إبراهيم وزوجه سارة وكذا حال نبي الله يحيى عليه السلام وكبر سن زكريا عليهم السلام.
ففي مرحلة حمل إسحاق قال سبحانه:
وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ قٰالَتْ
ص: 297
يٰا وَيْلَتىٰ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هٰذٰا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(1) .
وحينما يكون الأمر منوطا بالله تعالى كما أخبرت الملائكة:
أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ ؟!!
فإن حال زكريا وولده يحيى عليهما السلام يكون خاضعاً أيضاً لأمر الله تعالى:
يٰا زَكَرِيّٰا إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ اِسْمُهُ يَحْيىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قٰالَ رَبِّ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا(2) .
كما أن حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحال أم المؤمنين خديجة عليها السلام وحال سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام منوطاً بأمر الله سبحانه وتعالى أيضاً.
ولذا:
فقد كانت فاطمة عليها السلام في تلك المرحلة الرحمية الجنينية تحظى بخصوصيات خاصة وسمات فريدة تتناسب مع حجم الشأنية التي لها عند الله تعالى والمرتكزة على دورها الرسالي فضلاً عن الإمامة كما دلت عليها أحاديث العترة النبوية عليهم السلام وهي كالآتي:
ص: 298
روى الشيخ الصدوق بسنده عن (حماد بن عيسى(1)، عن زرعة بن محمد،
ص: 299
عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: كيف كان ولادة فاطمة عليها السلام ؟ فقال:
«نعم، إن خديجة عليها السلام لما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هجرتها نسوة مكة، فكن لا يدخلن عليها، ولا يسلّمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذراً عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما حملت بفاطمة كانت - فاطمة - عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها وكانت - خديجة - تكتم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة عليها السلام فقال لها:
يا خديجة من تحدّثين ؟
قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني.
قال: يا خديجة هذا جبرائيل يبشرني أنها أُنثى، وإنها النّسلة الطاهرة الميمونة وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه.
فلم تزل خديجة عليها السلام على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا، ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمدا يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له، فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئا.
فاغتمت خديجة عليها السلام لذلك، فبينا هي كذلك، إذ دخل عليها أربع
ص: 300
نسوة سمر طوال، كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثوم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة، فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.
ودخل عشر من الحور العين كل واحدة منهن معها طست من الجنة، وإبريق من الجنة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضا من اللبن وأطيب ريحا من المسك والعنبر، فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانية، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها السلام بالشهادتين، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء، وأن بعلي سيد الأوصياء، وولدي سادة الأسباط، ثم سلمت عليهن، وسمت كل واحدة منهن باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشر أهل السماء بعضهم بعضا بولادة فاطمة عليها السلام، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك، وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة، وألقمتها ثديها، فدر عليها، فكانت فاطمة عليها السلام تنمي في اليوم كما ينمي الصبي في الشهر، وتنمي في الشهر كما ينمي الصبي في السنة»)(1).
ص: 301
روى ابن جرير الطبري (الإمامي) بسنده إلى المفضل بن عمر (حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني، قال: حدثني أبو القاسم موسى بن محمد بن موسى الأشعري القمي، ابن أخت سعد بن عبد الله، قال: حدثني الحسن بن محمد بن أبي إسماعيل، المعروف بابن أبي الشورى، قال: حدثني عبد الله بن علي بن أشيم، قال: حدثني يعقوب بن زيد الأنباري، عن همام بن عيسى بن زرعة بن عبد الله، عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام كيف كان ولادة فاطمة ؟ قال - عليه السلام -:
«نعم إن خديجة رضي الله عنها لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هجرتها نسوة مكة، فكن لا يدخلن إليها، ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل إليها، فاستوحشت خديجة من ذلك.
فلما حملت بفاطمة وكانت خديجة تغتم وتحزن إذا خرج رسول الله كانت فاطمة تحدثها من بطنها، وتصبرها، وكان حزن خديجة من حذرها على رسول الله، وكانت خديجة تكتم ذلك عن رسول الله، فدخل يوما فسمع فاطمة تحدث خديجة، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا خديجة من يحدثك.
قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني.
فقال: يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني بأنها أنثى، وأنها النسمة الطاهرة الميمونة، وأن الله تعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة في الأمة، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.
فلم تزل خديجة على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم ليلين منها ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها، بأنك أغضبتنا ولم تقبلي
ص: 302
قولنا وتزوجت محمدا يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له فلسنا نجيئك ولا نلي من أمرك، فاغتمت خديجة لذلك فبينا هي في ذلك إذ دخل إليها أربع نسوة كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك.
أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه صفورا بنت شعيب، بعثنا الله إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء فجلست واحدة عن يمينها، والثانية عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت خديجة فاطمة طاهرة مطهرة.
فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض، ولا في غربها موضع إلا أشرق فيه النور فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، ودخلت عشر من الحور العين مع كل واحدة طست من الجنة، وإبريق فيه من ماء الكوثر فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، وغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوتين أشد بياضا من اللبن، وأطيب رائحة من المسك، والعنبر فلفتها بواحدة وقنعتها بالأخرى، ثم استنطقتها، فنطقت بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن أباها محمدا سيد الأنبياء، وأن بعلها عليا سيد الأوصياء، وأن ولديها سيدا الأسباط. ثم سلمت عليهن، وسمت كل واحدة باسمها، وضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشر أهل الجنة بعضهم بعضا بولادتها، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك اليوم، وبذلك لقبت الزهراء.
ثم قالت خذيها يا خديجة طاهرة، مطهرة، زكية، ميمونة، بورك فيها، وفي نسلها؛ فتناولتها خديجة فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها وشربت وكانت تنمو في كل يوم كما ينمو الصبي في الشهر، وفي كل شهر كما ينمو الصبي في السنة»)(1).
ص: 303
إن من السنن التي سنها الله عز وجل في هذا الكون أن جعل آيات وعلامات ومعاجز ترافق سيرة رسله وأنبيائه وأوليائه، وكلما عظمت منزلة الرسول أو النبي أو الولي وعلا شأنه ودنا قربه وأكرم محله كلما كانت هذه الآيات والدلائل والمعاجز التي ترافقه أعظم وأكبر وأدل وآثر وابلغ تأثيراً في العقل البشري، قال عز وجل:
تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ (1) .
ولذلك نجد أن انشقاق القمر هو أعظم من فلق البحر، وأن القرآن أكبر وأدل وأبلغ من التوراة والإنجيل والزبور، وأن مما خص به خاتم النبيين بفاطمة كونها أم الأئمة الهداة الميامين وأن مما خص به الأئمة أنهم: (محدثون) وقد سأل زرارة بن أعين الإمام الباقر عليه السلام: (من الرسول ؟ ومن النبي ؟ ومن المحدّث ؟ قال عليه السلام:
«الرسول: يأتيه جبرائيل فيكلمه قبلاً فيراه كما يرى الرجل صاحبه الذي يكلمه، فهذا الرسول، والنبي: الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذا أتاه جبرائيل، هكذا النبي. ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، وكان رسول الله رسولاً نبياً، يأتيه جبرائيل قبلاً فيكلمه ويراه ويأتيه في النوم، والنبي الذي يسمع كلام الملك حتى يعاينه فيحدثه، أما المحدّث فهو الذي يسمع ولا يعاين ولا يؤتى في المنام»(2).
ص: 304
وهذا الأمر هو من خواص عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالأئمة عليهم السلام كلهم (محدّثون)، جاء ذلك عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد سمعه سليم بن قيس، يقول:
«إني وأوصيائي من ولدي مهديون كلنا محدّثون.
فقلت: يا أمير المؤمنين من هم ؟ قال:
الحسن والحسين ثم ابني علي بن الحسين عليهم الصلاة والسلام.
قال: وعلي يومئذ رضيع، ثم ثمانية من بعده واحداً بعد واحد، هم الذين أقسم الله بهم فقال:
وَ وٰالِدٍ وَ مٰا وَلَدَ(1).
أما الوالد فرسول الله وأما ما ولد يعني هؤلاء الأوصياء(2).
أمّا بخصوص فاطمة عليها السلام فإنها كانت محدَّثة وهو أحد أسمائها فهي تُحدّثها الملائكة وهو غير الوحي ولا يسمى بهذه التسمية وهو ما عليه أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.
قال الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدّوق رضي الله تعالى عنهما: (أصل الوحي هو الكلام الخفي، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره، والتخصيص له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل صلى الله عليهم خاصة دون سواهم على عرف
ص: 305
الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى:
وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ (1).
فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناماً وكلاماً سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، وقال تعالى:
وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ (2).
يريد به الإلهام الخفي إذ كان خالصاً لمن أفرده دون ما سواه، فكان علمه حاصلاً للنحل بغير كلام جهر به المتكلم فأسمعه غيره.
وساق رحمه الله الكلام إلى أن قال: وقد يُري الله في منامه خلقاً كثيراً ما يصح تأويله ويثبت حقه - أي إن كثيراً من الخلق الله يرُيها في منامها الصحيح من الرؤيا التي تثبت حقه - لكنه - أي هذا الذي يرى في منامه - لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي ولا يقال في هذا الوقت لمن أطلعه الله على علم شيء: إنه يوحى إليه، وعندنا - أي أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام، الإمامية الإثنا عشرية - أنّ الله يسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كلاماً يلقيه إليهم، أي الأوصياء في علم ما يكون لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين.
على أنه لا وحي لأحد بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه: إنه الوحي إلى أحد، ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحياناً ويحظره أحياناً، ويمنع السماع بشيء حيناً ويطلقها حيناً فأما المعاني فإنها لا تتغير
ص: 306
عن حقائقها على ما قدّمناه)(1).
فإذن: اعتقادنا في عترة الهادي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، أن الله يُسمع الأئمة عليهم السلام كلاماً إليهم بواسطة الملائكة عليهم السلام وهو لا يسمى وحياً لأنه لا يوحى لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:
«إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأما النبوة فلا»(2).
وقال المجلسي رحمه الله في بيان الحديث: (أي إنما يجب عليكم أن تقوموا عندنا وتعكفوا على أبوابنا والكون معنا - أي الكينونة معهم - لاستعلام الحلال والحرام لا أن تقولوا بنبوتنا، وإنما لكم أن تقفوا علينا في إثبات علم الحلال والحرام وإنّا نواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ذلك لكم ولا تتجاوزوا بنا إلى إثبات النبوة)(3).
ومن هنا فإن تسمية فاطمة عليها السلام ب - (المحدّثة) هو لسماعها حديث الملائكة وهي تحدثها، وحالها كحال مريم بنت عمران عليها السلام قال الله تعالى:
وَ إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ يٰا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّٰاكِعِينَ (4) .
وقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام هذا المعنى فقال:
ص: 307
«إنما سميت فاطمة محدَّثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين»(1).
وفي حديث آخر: عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن سعد بن جبير، عن ابن عباس في حديث طويل في: (فضائل علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في فاطمة عليها السلام وما يصيبها من الظلم بعده:
«ثمّ ترى ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى بالملائكة، فتناديها مرجعة بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض...»(2).
ولم يقتصر الأمر على مريم فقط، فقد حدثت الملائكة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وهو قوله تعالى:
ص: 308
وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ (1) .
وفي الأحياء إنه (قرأ ابن عباس وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث، سليم قال: سمعت محمد بن أبي بكر قرأ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث، قلت: وهل تحدث الملائكة إلا الأنبياء؟ قال: مريم ولم تكن نبية وكانت محدَّثة وأم موسى ولم تكن نبية، وكانت محدَّثة وسارة وقد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبية، وفاطمة كانت محدَّثة ولم تكن نبية)(2).
إذن: ففاطمة عليها السلام: (محدَّثة) بفتح الحاء والدال وتشديدها، وهي: (محَدِّثة) بفتح الحاء وكسر الدال، أي هي التي كانت تحدث أمها خديجة عليها السلام وهي في بطنها كما جاء في الحديث.
وهذا الأمر هو أحد معاجزها عليها السلام، وحالها كحال عيسى عليه السلام وحديثه مع أمه بعد الولادة قبل أن يكلم أحداً من قومه وهو قوله تعالى:
فَنٰادٰاهٰا مِنْ تَحْتِهٰا أَلاّٰ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(3) .
ولعل البعض لا يستسيغ حقيقة كون فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها وهي جنين في بطنها، فضلاً عن نطقها أثناء الولادة، ومن ثم لا وجه للتشابه بينها وبين عيسى عليه السلام الذي نطق في المهد صبيا، ونقول:
ص: 309
ولعل قائلاً يقول: إن تكلّم عيسى في المهد كان من مصاديق نبوته عليه السلام ودعوته لأمه إلى التصديق به ؟! فما بال فاطمة عليها السلام ؟!
قلنا: إن مريم كانت تؤمن به نبياً قبل ميلاده وهو قوله تعالى:
إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ وَ يُكَلِّمُ اَلنّٰاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ (1) .
أما كون ذلك من مصاديق نبوته ؟!، فقد انطق الله عز وجل طفلاً في مهده ولم يكن من النبيين كما في قصة نبي الله يوسف عليه السلام في قوله تعالى:
وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ أَهْلِهٰا(2) .
فالشاهد كان طفلاً في المهد بل إن الناطقين في المهد أربعة هم: شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب)(3).
أما اعتراض الفخر الرازي على هذا القول، وذهابه إلى أن الشاهد ليوسف عليه السلام أنه كان ابن عم للمرأة وكان رجلاً حكيماً واتّفق في ذلك الوقت أنه
ص: 310
كان مع الملك يريد أن يدخل عليه فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا إنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب... الخ) وإن هذا القول أولى من القول الأول لوجوه منها: (إنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز)(1).
قلنا: وإن كان هذا الكلام صحيحاً أعني: (لا يجوز العدول عن الحجة القاطعة عند حصولها وحضورها إلى الدلالة الظنية) إلا أن هذه الحجة لا يمكن عدّها قاطعة لمجرد نطق الصبي قائلاً: (إنها كاذبة وهو صادق لأن الاكتفاء بهذا اللفظ لا يحقق حجية القطع، فما أهون أن يتهم يوسف عليه السلام بالسحر، فنقول عند المرأة إنه سحر الطفل فانطقه بسحره، فلا حجة أصلاً لنجاته ولا برهان لصدقه، كما اتهم فرعون موسى.
ومن هنا تظهر حكمة الله عز وجل في إعطاء الدليل العقلي لزوج المرأة بحيث لا يقبل الشك بالتحقق من جهة قدّ القميص، وإن هذا الدليل صادر من فم الطفل في المهد فهذا أعمق في الدلالة وأبلغ في الحجة وأمضى في القطع، لأن الأمر متعلق بعفة يوسف عليه السلام وإخلاصه وهو أعظم شيء يمتلكه الإنسان وبخاصة الدعاة إلى الله عز وجل ولأن الأنبياء عليهم السلام أقصى ما اتهموا به السحر والجنون لكن لم يتهموا بعفتهم فهم أعف الخلق ومن هنا يظهر خطر المسألة
ص: 311
وعظمها، فكان نطق الصبي والدليل الذي أعطاه قد حقق حجية القطع عند الملك بعفة يوسف عليه السلام.
فإن قيل: إن هذا الكلام يرد فيه إشكال وهو: أن يوسف عليه السلام في هذه الحادثة لم يبعث نبياً بعد، والمعاجز تحصل بعد بعث الأنبياء عليهم السلام ؟!
قلنا: إن الإشكال مرفوع بأمرين:
1 - إن من لطيف حكمة الله عز وجل أن جعل دلائل كثيرة ترافق الأنبياء عليهم السلام قبل بعثهم ليسهل على الناس التصديق بهم والاهتداء إليهم وإتباعهم، كتظليل الغمامة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى الشام(1)، والاستسقاء به وغيرها من الآيات الربانية.
وكموسى عليه السلام وسقيه بنات شعيب عليه السلام، وقد شاهد الناس قوته الخارقة أو إلقائه في البحر وعودته إلى أمه لترضعه، ونطق الصبي في المهد ليوسف وغيرها من الدلائل والظواهر التي ترافق سيرة الأنبياء والرسل قبل بعثهم.
2 - قد نص القرآن الكريم على أن المتكلم هو صبي في المهد وليس رجلاً حكيماً ابن عم لها.
وهو قوله تعالى:
ثُمَّ بَدٰا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا رَأَوُا اَلْآيٰاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّٰى حِينٍ (2) .
فلا يقال لكلام رجل حكيم بأنه آية من آيات الله عز وجل، وإنما يقال ذلك:
ص: 312
عندما يحصل أمر خارق للعادة ومخالف لقوانين الطبيعة، أو هو مما يعجز عنه البشر، ففي هذه الأمور وعند حدوثها يقال لها: آية من آيات الله عز وجل، كما هو الحال في نطق الصبي وهو في المهد.
ومن هنا فإن ما ورد في الحديث من أن: (فاطمة كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها فتصبرها وتؤنسها).
هو: آية من آيات الله عز وجل التي يظهرها لأوليائه، ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي من أولياء الله عز وجل، ومما لا شك فيه أن فاطمة أكرم عند الله من ابن ماشطة بنت فرعون أو الشاهد الذي شهد ليوسف عليه السلام وهو في المهد، وهي بضعة أشرف خلق الله وسيدة نساء العالمين التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها.
ومن كانت بهذه المنزلة فما أهون على الله تعالى أن ينطقها وهي في بطن خديجة عليها السلام، أو أن تحدثها الملائكة كما كانت تحدث مريم بنت عمران عليها السلام، أو أم موسى.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا خديجة هذا جبرائيل يبشرني أنها أنثى، وإنها النسلة الطاهرة الميمونة، وإن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه».
هذه الكلمات كانت من قبل جبرائيل عليه السلام وهي مما بشر به النبي
ص: 313
صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءت هذه الكلمات لتبين صفات هذه المولودة وتظهر خصائصها.
يعرض لنا القرآن الكريم البشارة على أنها نهج خاص بالأنبياء السابقين لمن يأتي من بعدهم ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالدعوة إلى نبيّ من الأنبياء، أو يكون النبي المبشر به هو من نسل نبي أيضاً، وهذه البشارات إنما بدأت من إبراهيم الخليل كما يعرضها القرآن الكريم، وهذا بحد ذاته يكشف عن الألطاف الإلهية التي خصت إبراهيم عليه السلام حينما ابتدأت به، وما ذاك إلا للإعلان عن البشارة الكبرى والرحمة العظمى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرآنه وعترته الثقلين اللذين أوصى بهما هذه الأمة المرحومة به صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هنا فإن البشرى بدأت ببيت إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:
وَ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ (1) .
هذه البشرى كانت بامتداد النبوة من إبراهيم وجعلها في نسله وصولاً إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن أن هذه البشارة كانت تحمل معها أيضاً صفات هذا الغلام. قال تعالى:
قٰالُوا لاٰ تَوْجَلْ إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ قٰالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلىٰ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قٰالُوا بَشَّرْنٰاكَ بِالْحَقِّ فَلاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْقٰانِطِينَ (2) .
ص: 314
وفي آية أخرى أضيفت صفة أخرى إلى هذا الغلام غير العلم وهي أنه، (حليم):
فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ (1) .
فيكون هذا الغلام يحمل العلم والحلم، ثم ينتقل القرآن ليعطي صورة أخرى عن هذه البشرى ووصولها إلى أم هذا الغلام، وهي زوجة إبراهيم وسماعها للبشرى كان للأسباب التالية:
1 - رعاية لحق الأمومة، فالأم هي بحاجة أيضاً إلى سماع البشرى بحصول الحمل.
2 - سماعها حديث الملائكة مع إبراهيم عليه السلام يكشف عن منزلتها عند الله عز وجل وإن هذه المنزلة محفوظة ولأجلها كشف لها عن السمع فسمعت حوارهم وحديثهم، ثم هي تعلم أنهم رسل الله عز وجل لأنها لاحظت عليهم كما لاحظ زوجها إبراهيم إن أيديهم لا تصل إلى الطعام، فلهذه المنزلة بُشرت.
3 - لإخلاصها لزوجها وقيامها على خدمته والعناية به ورعايته، على الرغم من كبر سنها، فهي أيضاً قد مستها الشيخوخة.
ومن اللطائف الإلهية أن الملائكة اكتفت بذكر البشارة بمجيء الغلام فقط دون أن تذكر لها صفاته، واللطف الإلهي في ذلك يكشف عن حبها الكبير في أن ترى طفلاً ينمو في أحشائها ويربى في حجرها، أي إنها كانت بعطش كبير لسد حاجة الأمومة التي شعرت للحظات أنها قد فقدتها وإلى الأبد، لكن رحمة الله
ص: 315
تعالى أدركتها فبشرتها بامتداد هذا النسل، وإن الله سيجعل من ولدها هذا نبياً وهو يعقوب عليه السلام، ثم تبيّن الملائكة: إن ذلك كله من رحمة الله وبركاته على أهل البيت.
قال تعالى:
وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ قٰالَتْ يٰا وَيْلَتىٰ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هٰذٰا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(1) .
ثم يستمر القرآن بالبشرى فبشر إبراهيم عليه السلام بولد آخر وهو من الأنبياء أيضاً:
وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ (2) .
ثم تنتقل البشرى من إبراهيم عليه السلام إلى زكريا:
يٰا زَكَرِيّٰا إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ اِسْمُهُ يَحْيىٰ (3) .
وهذا النبي يحمل صفات عدة بشر بها زكريا عليه السلام ومن بين هذه الصفات أنه مصدق بالنبي الذي يعاصره وهو عيسى عليه السلام:
أَنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً(4) .
ص: 316
فكانت أولى هذه الصفات: «التصديق بكلمة من الله» وهكذا إلى مريم عليها السلام وتبشيرها بعيسى:
إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ (1) .
وعيسى يبشر بخاتمة البشارات وأصل إطلالتها، والعلة في تنقلها، فيقول عز وجل في كتابه الكريم عن تبشير عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ(2) .
بشرى المسيح أتتْ عنوان دعوته *** وقبله كل هادٍ صادق القدمِ (3)
حتى إذا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن البشرى كانت في أمرين.
الأمر الأول: هو القرآن الكريم:
طس تِلْكَ آيٰاتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتٰابٍ مُبِينٍ هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (4) .
وقوله تعالى:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (5) .
ص: 317
والأمر الثاني: هو عترته صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الذين قال الله فيهم:
إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(1) .
ثم أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة عظمهما وخطرهما وإنهما نجاة للمسلمين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي وقد نبأني اللطيف الخبير إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(2).
وعدم افتراق أهل البيت عن القرآن حجة قاطعة في عصمتهم التي هي عدل عصمة القرآن.
ومن هنا: يظهر معنى بشارة جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بفاطمة عليها السلام؛ ومن هنا ندرك معنى صفاتها التي أعلنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين خديجة عليها السلام، وهو نفس النهج الذي جاء به القرآن الكريم في ذكر البشارة بولادة الأنبياء عليهم السلام وبيان صفاتهم.
ونحن لا نقول إن فاطمة عليها السلام من الأنبياء، إلا أنها البضعة النبوية التي جعل الله نسل النبي المصطفى منها، وجعل من نسلها أئمة هداة مهديين خلفاء
ص: 318
لله في أرضه، وحججاً له على عباده، بعد انقضاء وحيه.
ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم بعض صفاتها وهي:
«النّسمة، الطاهرة، الميمونة».
فهذه صفات ثلاث ذكرها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكل صفة لها معنىً خاص بها، فأما معنى: (النّسمة)، فهي الروح أو النفس(1)، فإذا أريد بها (الروح) فإن فيها معاني جمّة، ودلائل عظيمة، منها: الحياة، فإن كل شيء لا روح فيه فلا حياة له أو فيه، وهو إما جماد وإما موات ؟
كما أن للحياة معنى آخر هنا: وهي حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفها الأصل في نمو ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن معانيها أيضاً: حياة الشريعة فمن فاطمة عليها السلام كان ظهور الأئمة عليهم السلام، لأنها أمهم جميعاً عليهم الصلاة والسلام الذين أحيا الله بهم الدين.
وأما إذا أريد به: (النفس)
ففاطمة عليها الصلاة والسلام هي: (النفس المطمئنة)(2)، ويمكن الاستدلال على ذلك بأمور:
ص: 319
1 - قد ورد في الحديث في ذكر أسمائها عليها السلام أنها (الراضية، المرضية)(1).
2 - الاطمئنان أصله الإيمان ومقره القلب، حتى إنه ارتبط به ارتباطاً وثيقاً، قال تعالى:
اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّٰهِ (2) .
فقدم الإيمان على الاطمئنان لأنه الأصل، ولولاه لم يحدث الاطمئنان.
وبالإيمان يثبت القلب أي يكون مستقراً فلا تؤثر فيه الكروب النازلة أو الحوادث المكرهة قال تعالى:
إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ (3) .
ومن هنا فإن من كان الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(4)، كانت كل ذرة في ذاتها وكيانها تنطق إيماناً وتشع اطمئناناً.
ص: 320
وعليه: فإنها عليها السلام كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (النّسمة أي: (النفس المطمئنة).
أما: (الطاهرة) فهو مأخوذ من أمرين:
1 - من القرآن، وهو قوله تعالى:
إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(1) .
وقد اجتمعت الأمة على أنها نزلت في النبي وفاطمة وزوجها وابنيها عليهم السلام أجمعين.
2 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إنّ فاطمة ليست كنساء الآدميين ولا تعتل كما يعتلون».
وقد مرّ بيانه، أي: إنها لا ترى ما تراه النساء، فهي في طهرٍ دائم.
أما (الميمونة)
فأصله: (اليُمْنُ ) وهو (البَرَكَةُ )(2)، محرَّكة: النَّماءُ والزيادةُ ، والسَّعادةُ (3).
ومن هذا المعنى فإنها عليها السلام أصل (النماء) في ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت ذريته أكثر ذراري الناس عدداً.
وهي صلوات الله عليها أصل (الزيادة) في كل خيرٍ يُنزله الله تعالى على عباده المؤمنين وله فروع كثيرة منها (الشفاعة) فلها شفاعة بعد شفاعة النبي صلى الله
ص: 321
عليه وآله وسلم، وهذه زيادة في الخير.
وأما (السعادة) فحبّها وتوليها يوجب السعادة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
وله معنى آخر: فإنها كلما دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورآها وسمع صوتها تكون قد أدخلت عليه السعادة والبهجة والسرور، لطالما كان يُخبر عن سعادته البالغة برؤياها وزوجها وولديها، وطالما كانت تتقاطر حبات دموعه البلورية على خدّيه لما يحل بها وببيتها من المصائب فيبكي الجميع لبكائه فيبقى بين ألم ما أخبره به جبرائيل عليه السلام وبين همّ البوح لهم بذلك(1)؟!
ص: 322
وبعد أن حملت الصديقة الطاهرة، أم المؤمنين خديجة الكبرى سلام الله عليها للنطفة الزكية النورانية المحمّدية ونمت فاطمة سلام الله عليها في أحشاء خديجة تسعة أشهر إلاّ أربعة أيام باعتبار أن ليلة انعقاد النطفة النبوية كانت ليلة الرابع والعشرين من رمضان المبارك، وها هو اليوم العشرون من جمادى الآخرة وفيه بدت آلام المخاض على أم المؤمنين خديجة عليها السلام.
ومع هذه الآلام كانت آلام أخرى ترافقت مع بعضها ليشق على أم المؤمنين خديجة عليها السلام، الحال الذي أصبحت عليه، هذا الحال يُظهره لنا الإمام الصادق عليه السلام فيقول:
«- ولما - حانت ولادتها فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمت خديجة عليها السلام لذلك، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من نساء بني هاشم ففزعت منهنَّ لما رأتهنَّ فقالت إحداهنَّ : لا تحزني يا خديجة
ص: 323
فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك!
أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء. فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة.
فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النّور حتى دخل بيوتات مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.
ودخل عشر من الحور العين كلّ واحدة منهنَّ معها طشت من الجنة وإبريق من الجنّة وفي الإبريق ماء من الكوثر فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر وأخرجت خرقتين بيضاويتين أشد بياضاًَ من اللّبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانية.
ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها السلام بالشهادتين وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن أبي رسول الله، وأن بعلي سيّد الأوصياء وولدي سادة الأسباط.
ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن باسمها وأقبلن يضحكن إليها وتباشرت الحور العين وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة عليها السلام، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك.
وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة بورك فيها وفي نسلها فتناولتها فرحة مستبشرة والقمتها ثديها فدّر عليها فكانت فاطمة عليها السلام تنمي في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر وتنمي في الشهر كما ينمو الصبي في السنة»(1).
ص: 324
نقاط البحث في الحديث:
إنّ من الأسئلة التي تتبادر في البحث هي:
لماذا ذكر الإمام الصادق عليه السلام الرفقة لآسية مع خديجة في الجنة ولم يذكرها لبقية النساء وهنَّ جميعاً في الجنة ؟! والإجابة على هذا السؤال من وجوه:
الوجه الأول هو أن آسية بنت مزاحم كانت قد سألت الله أن يبني لها بيتاً في الجنة:
إِذْ قٰالَتْ رَبِّ اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (1) .
وإن خديجة بنت خويلد سلام الله عليها كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(2).
أي: إن كلا منهما قد خصت ببيت في الجنة وهما في دار الحياة الدنيا.
الوجه الثاني: والظاهر أن البيت الذي سألت الله عنه آسية هو بجوار بيت خديجة، ولعله يحمل من المواصفات التي تحدّث عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان لبيت خديجة عليها السلام. بهذا تكون رفيقة وجارة لخديجة في الجنة.
ص: 325
إنّ لدخول النساء الأربع التي جاء ذكرهنَّ وتعريفهنَّ في الحديث الشريف للإمام الصادق عليه السلام بصفة وهيأة نساء بني هاشم له عدة أوجه.
منها:
1 - لأفضلية وشرافة بني هاشم على سائر قبائل العرب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم»(1).
2 - من الطبيعي أن امتناع نساء قريش عن المجيء إلى خديجة عليها السلام، ترك في نفسها الحزن والشعور بالوحشة، ودخول نساء على غير الهيأة المألوفة لنساء قريش ولاسيما بني هاشم يزيد في فزعها عند رؤيتها لهنّ مما يؤدي إلى التسبب في زيادة آلامها وهي في وضع لا يسمح أن تضطرب فيه نفسيتها.
بل بحاجة إلى السكينة والطمأنينة لتسهل عليها الولادة، فدخولهنَّ عليها بهيأة نساء بني هاشم كان خوفاً عليها وعلى مولودها النبوي الفاطمي صلوات الله عليها.
ص: 326
3 - من المفروض أن يستجيب الأقرباء إلى تلبية نداء المحتاج للمعونة من أقربائهم وخديجة هي أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ إنها تتصل معه بالجد الرابع وهو قصي بن كلاب فبنو هاشم هم أولى برعاية خديجة عليها السلام وهي في حالة كهذه من المخاض.
4 - لوجود صفات جمالية في نساء بني هاشم كالطول مثلاً كما ذكره الحديث الشريف بقوله عليه السلام:
«إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال».
والظاهر أن أهل الجنة يتصفون بجميع الصفات الجمالية ومنها الطول.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: هو إشارة إلى دخول الإسلام إلى جميع بيوت مكة وهذا معنى عام ولكونها عليها السلام شجرة النبوة وشجنتها.
الوجه الثاني: وهو الأقرب إلى القصد، فإن نورها الذي ملأ الشرق والغرب وأشرق في جميع مواضع الدنيا هو ولدها الإمام المهدي عجل الله فرجه،
«الذي يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً»(1).
ص: 327
وهذا الامتلاء لا يتحقق معناه إلا بوصول العدل الإسلامي المحمدي العلوي الفاطمي إلى كل ذرة في الأرض، كما هو حال نور فاطمة عليها السلام الذي أشرق في كل موضع من الشرق والغرب.
هذا الأمر من خواص المعصومين عليهم السلام، وهو أحد الدلائل التي تدل على اختصاصهم بالعصمة الإلهية، والاصطفاء الرباني.
إذ إن المعصوم يبيّن بعد ذكره الشهادتين، المهمة المكلف بها، والدور الذي اختاره الله له، والأمر الموكل إليه، وشاهده من الكتاب الحكيم عن ولادة نبيّ الله عيسى:
قٰالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّٰهِ آتٰانِيَ اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا(1) .
ولقد جاء هنا ذكر العبودية لله عز وجل مقدما على ذكر النبوة التي اجتبي لها من خلال العبودية والإخلاص في التوحيد فلذا قدم العبودية على النبوة.
بعد ذلك بيَّن عليه السلام الأمر الإلهي الذي كلف به:
وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا(2) .
ولذلك:
فإن الزهراء فاطمة عليها السلام بعد أن ذكرت الشهادتين، ذكرت الولاية
ص: 328
لعلي بن أبي طالب، وبأنه سيد الأوصياء، وأن ولديها سادة الأسباط، ومن هذا الكلام تُظهر عليها السلام الجعل الإلهي لها فقد جعلها الله تعالى: (زوجة سيد الأوصياء) و (أم سادة الأسباط).
ثم قامت عليها السلام بالسلام على جميع مَنْ حضرْنَ للتشرّف بولادتها، وتسميتهن بأسمائهنَّ لأنها عليها الصلاة والسلام سيدتهنَّ ، فهي: (سيدة نساء العالمين)(1) والحور من نساء العالمين.
إن ظهور هذا النور بهذا اللون الزهراويّ هو أحد تجليات النور الفاطمي، وقد تجلى هذا النور من قبل للملائكة بعد أن ابتليت بالظلمة فخرت الملائكة لله سجداً، وتجلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض بعد أن فلق التفاحة المودع فيها النور الفاطمي ففزع منه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ولادتها تجلى لأهل السماء بهذا اللون الزهراني الذي أزهرت به السماوات والأرض منذ أن خلقه الله عز وجل ولأجله سميت ب - (الزهراء).
وللنور الفاطمي تجليات أخرى ظهرت لصاحب مقام الولاية الإلهية والوصاية النبوية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ص: 329
روى الصدوق رضي الله تعالى عنه في ثواب الأعمال عن البرقي، رفعه قال: بشّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفاطمة عليها السلام فنظر في وجوه أصحابه فرأى الكراهة فيهم، فقال:
«ما لكم! ريحانة أشمها ورزقها على الله عزّ وجل»(1).
تشير الرواية إلى جملة من الأمور، منها:
أولاً: تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفاطمة عليها السلام لم يكن إلا من خلال أهل بيته، فقد يكون الشخص المبشر هو فاطمة بنت أسد عليها السلام أو أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخادمته أو لعله يكون عمه أبو طالب.
والبشارة بولادة فاطمة لا تكون إلا من خلال أسباب، منها:
ألف: إن الشخص الذي بشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له من المعرفة بما تحمل فاطمة من شأنية وجاه عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولقد مر علينا سابقاً تبشير جبرائيل عليه السلام رسول الله بها؛ وإن البشارة بها متعلقة بحفظ شريعة الله في أرضه وظهور دينه على الدين كله، وذلك بابن فاطمة ومهدي آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ص: 330
باء: أو أن بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بولادة فاطمة عليها السلام إنما كان لتأخر الحمل على خديجة عليها السلام، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد فقد ولدين قبل ولادة فاطمة عليها السلام وهما (القاسم وعبد الله)، ومن ثمّ أصبح البيت النبوي خالياً من طفل جديد.
جيم: أو أن سبب البشارة هو تحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسبقا بما في رحم خديجة عليها السلام وأنها أنثى - كما مرّ بيانه - وأن لها شأناً خاصاَ وإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر بفارغ الصبر هذه الولادة واستقبال أم الأئمة وبضعته النبوية؛ فكان الشخص المبشر عارفاً بحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتظاره لهذا الخبر.
ثانياً: ظهور الكراهة في وجوه الصحابة إنما كان لما عليه العرب من المجتمع المكي وغيره من المجتمعات العربية من كراهة ولادة البنت، فضلاً عن وأدها، ولقد دل القرآن الكريم على هذه الحالة الاجتماعية النفسية لمجتمع الجزيرة؛ قال تعالى:
وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمٰا ضَرَبَ لِلرَّحْمٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (1) .
فهذه الكراهة التي ظهرت في وجوه الصحابة إنما هي حالة طبيعية لما كانت عليه نفوس العرب، ولذا نجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عالج الأمر ضمن وضع منهاج تربوي في المجتمع الإسلامي، فقال لهم.
«ريحانة، أشمها ورزقها على الله».
ص: 331
بمعنى: أن الفتاة في البيت هي ريحانة تدخل على أبيها الراحة والسكينة فلماذا تراه يعرض عنها وهي تحقق ما لم يستطع الصبي تحقيقه، والرجل مثلما يحتاج إلى من يعينه في كسب المعيشة ودفع الضرر ودرء السوء عنه وعن حرمه وماله كذا هو بحاجة إلى الأنس والسكينة والهدوء والراحة، وهو مرهون بوجود المرأة وهذه أحد الأسباب لوجود الكراهة في وجوه الصحابة.
وهناك سبب آخر: وهو أن هذه الكراهة كانت لما خص الله به هذه المولودة من كونها (النسمة، الطاهرة، الميمونة) وإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يحتمل أن يكون قد حدّث بهذه الصفات وما لهذه البضعة النبوية من شأنية ومن ثم لا يروق للبعض منهم اختصاص فاطمة بهذه الصفات لاسيما وإن القاعدة في اكتساب سمة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو رؤيته والسماع منه، وهو عنوان واسع يدخل ضمنه المؤمن والمنافق(1).
وعليه:
فمثلما هناك من بشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بولادة فاطمة والبشارة من الناحية النفسية لا تكون إلا لمن يجد سرورا في نفس صاحب الشأن إن لم يكن هو الآخر مسروراً بحمل هذه البشارة؛ كذلك هناك من يجد في نفسه سوءاً لما خص به النبي الأكرم من نعمة عظيمة وهي فاطمة عليها السلام، ولذا ظهرت الكراهة في وجهه، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول الحدث إلى ناحيته الأسرية والدنيوية لا الأخروية ولا ما خص الله به هذه المولودة وذلك بسبب رؤيته الكراهة في وجوه عدد من الصحابة.
ص: 332
حينما يكون شكر النعم شريان العبادة كما دل عليه قوله تعالى:
اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً(1) .
فإن سيد الأنبياء والمرسلين عليهم السلام هو الأولى بهذه العبادة وبشكر الله على ما وهب له وأعطى من نعم عظيمة وعطايا جزيلة فكان شكره لربه على اختصاصه بفاطمة الفردوسية وأم الأئمة النجباء أن جعل الصلاة هي الوسيلة لشكر رب العزة جل جلاله في كل يوم وإلى يوم القيامة حيث ما كان هناك لله مسلم على هذه الأرض وذلك من خلال العمل الآتي الذي يكشفه الإمام الصادق عليه السلام.
فقد روى الصدوق، وابن شهر آشوب، والحر العاملي رحمهم الله، عن أبي محمد العلوي الدينوري باسناده رفع الحديث إلى الصادق عليه السلام، قال، (قلت له: لم صارت المغرب ثلاث ركعات وأربعا بعدها ليس فيها تقصير في حضر ولا سفر؟
فقال عليه السلام:
«إنّ الله عزّ وجل أنزل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لكل صلاة ركعتين في الحضر فأضاف إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكل صلاة ركعتين في الحضر وقصر فيها في السفر إلا المغرب والغداة، فلما صلى المغرب بلغه مولد فاطمة عليها السلام فأضاف إليها ركعة شكراً لله عزّ وجل، فلما أن
ص: 333
ولد الحسن عليه السلام أضاف إليها ركعتين شكراً لله عزّ وجل، فلما أن ولد الحسين عليه السلام أضاف إليها ركعتين شكراً لله عزّ وجل، فقال: للذكر مثل حظ الأنثيين فتركها على حالها في الحضر والسفر»)(1).
ويدل الحديث على أمور، منها:
أولاً: إن الحكمة في جعل صلاة المغرب ثلاث ركعات كي تكون هذه الركعة شكراً لله تعالى على ولادة فاطمة عليها السلام ولأن المسلم بحكم دين الإسلام ملزم بعمل رسول الله وواجب عليه أداء هذا العمل فهو يكون شاكراً لله تعالى في صلاته على ولادة فاطمة عليها السلام.
ثانياً: يدل الحديث الشريف على أن الوقت الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام كان إما بعد صلاة المغرب فجعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي ثلاث ركعات؛ وأما أنه كان في أثناء الصلاة وبشر بذلك لغرض إفراحه وإدخال السرور عليه فجعلها ثلاث ركعات في الوقت نفسه، فمضى فعله فريضة على الأمة.
لم يزل أئمة أهل البيت عليهم السلام يرشدون الناس إلى معرفة حق العترة النبوية على الأمة المسلمة، ويدلونهم على الأعمال التي يتضح فيها حب العترة وموالاتها.
والتسمية بأسماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم
ص: 334
السلام إنما هي واحدة من الأعمال الكاشفة عن حب المسلم لرسول الله وأهل بيته عليهم السلام؛ فلولا هذا الحب لما كان هناك محرك أو دافع لهذه التسمية.
ولو نظرنا إلى سيرة أهل البيت عليهم السلام لوجدنا أن هذا المنهاج التربوي والولائي هو قائم عند أهل البيت عليهم السلام، فالأئمة الاثنا عشر عليهم السلام ثلاثة منهم باسم (محمد) وأربعة منهم باسم (علي).
بل لو جئنا إلى الإمام السبط وسيد شباب أهل الجنة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام لوجدنا أن جميع أبنائه قد سماهم بعلي عليه السلام، فعلي زين العابدين عليه السلام هو المنصوص عليه بالإمامة، وعلي الشهيد في كربلاء الملقب بالأكبر، وعلي الأصغر واسمه عبد الله الرضيع عليهم السلام جميعا؛ وهذا كله يدل على حب الإمام الحسين عليه السلام لصاحب هذا الاسم فضلاً عن إظهار الموالاة.
وعليه: دأب أتباع الأئمة الاثني عشر على إظهار حبهم وموالاتهم لأهل البيت والتسمي بأسمائهم عليهم السلام، لاسيما أصحاب الكساء الذين جللهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكساء اليماني ونزل فيهم قوله تعالى:
إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(1) .
والتسمية ب - (فاطمة عليها السلام) لها من الخصوصية الخاصة التي يدل عليها حديث الإمام الصادق عليه السلام الآتي:
روى الشيخ الكليني رحمه الله عن علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن السكوني، قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، وأنا مغموم مكروب، فقال لي:
ص: 335
«يا سكوني مما غمك ؟».
قلت: ولدت لي ابنة. فقال عليه السلام:
«يا سكوني على الأرض ثقلها، وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك، وتأكل من غير رزقك، فسرى والله عني».
فقال لي:
«ما سميتها؟».
قلت: فاطمة. قال عليه السلام:
«آه آه».
ثم وضع يده على جبهته، فقال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حق الولد على والده إذا كان ذكراً، أن يستفره(1) أمه، ويستحسن اسمه، ويعلمه كتاب الله، ويطهره، ويعلمه السباحة.
وإذا كانت أنثى أن يستفره أمها، ويستحسن اسمها، ويعلمها سورة النور، ولا يعلمها سورة يوسف، ولا ينزلها الغرق؛ ويجعل سراحها إلى بيت زوجها.
أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها، ولا تلعنها، ولا تضربها»)(2).
والحديث فضلاً عما قدمنا له فهو يدل على بعض الأمور منها:
أولاً: بيان حقوق الأبناء على الآباء، وأن حقوق الصبي محفوظة كما هي حقوق الفتاة محفوظة، بمعنى: أن الإسلام وتحديداً على مذهب أهل البيت عليهم
ص: 336
السلام لا يبخس المرأة حقها الأسري؛ وبل حقها في الحياة، إذ يتدرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الأب في هذه الحقوق منذ ولادة الأنثى وحتى زواجها، مع التركيز على ما يناسب وضعها الأنثوي من حيث صونها وتأديبها وحفظ حيائها الذي هو أعز ما تملكه المرأة فبه دوام عفتها.
ثانياً: ولأن التسمية ب - (فاطمة) له من الخصوصية عند أهل البيت عليهم السلام؛ وذلك إكراماً لمن سميت باسمها وهي بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيدة نساء العالمين فلزم توقيرها واحترامها، فإن على الأب تنشئة هذه الفتاة على ما كانت عليه سيدة نساء العالمين حينما تترعرع في كنف أبيها وهي تلقى منها هذا الاهتمام والخصوصية إكراماً لمن سميت باسمها.
بمعنى آخر: تنشأ الفتاة على العزة والكرامة وحب العترة والسعي في معرفة سيرة البتول عليها السلام والتأسي بها في الحياة وبذلك يضمن الأب خلق نموذج فعال في إصلاح المجتمع من خلال إخراج امرأة صالحة ستقوم بتنشئة جيل يعتمد الإصلاح والعمل الصالح كأداة في حياته مع الناس.
ثالثاً: ذكره عليه السلام لهذه الآهات عند سماعه لاسم فاطمة عليها السلام إنما يكشف عن الألم البالغ الذي خلفه مصاب الزهراء عليها السلام وإسقاط جنينها وحرق دارها وغيرها مما جرى عليها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان سماع الإمام الصادق عليه السلام لاسم جدته فاطمة الزهراء عليها السلام صورة حية لما جرى عليها من المصائب وهكذا ينبغي بالمؤمنين حينما يمر عليهم ذكر بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المظلومة الشهيدة.
ص: 337
في الحديث عن تاريخ ولادة فاطمة صلوات الله عليها، يظهر للمتتبع لهذا الحدث الاختلافات الكثيرة عند جميع علماء المسلمين في تحديد السنة، والشهر، واليوم، الذي ولدت فيه البضعة النبوية الطاهرة.
وهذا الأمر ليس بالغريب على المتتبع لكتب المسلمين وقراءة المصادر التي تعنى بسيرة الشخصيات الإسلامية، فضلاً على ذلك الاختلاف:
في يوم المولد النبوي، ويوم فاجعة الإنسانية بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
فكيف يكون حال الاختلاف في بقية المسائل، التي من بينها مولد البضعة النبوية فاطمة الزهراء عليها السلام.
إلا أن الأمر الذي يجب الأخذ به، والاعتماد عليه في معرفة التاريخ الصحيح لمولد فاطمة عليها السلام يكون بالرجوع إلى المصدر الموثوق الذي لا يقبل الريب.
ص: 338
إذ إنّ معرفة الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام بتاريخ مولد أمهما فاطمة صلوات الله عليها أصح وأصدق من قول فلان من عامة الناس وهم يجهلون ميلاد أنفسهم فكيف لهم بمعرفة ميلاد أمهاتهم بل أنى لهم بمعرفة مولد فاطمة صلوات الله عليها؟!
ومن هنا فإن العقل يلزمنا بالاعتماد على أحاديث الإمامين الشهيدين سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين في مولد فاطمة عليها السلام.
أضف إلى ذلك أن الشريعة المحمّدية كانت قبل العقل والمنطق قد ألزمتنا وأوجبت علينا التمسك بهم والرجوع إليهم في جميع الأمور، قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي وقد نبأني اللطيف الخبير إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).
وعليه فإنّا من أجل أن لا نقع في الهاوية ونضل عن طريق الله وصراطه المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم، فإنّا قد تمسكنا بالثقلين (القرآن وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) كما تمسك بهم كل عاقل شرح الله صدره للإسلام فما
ص: 339
العقل: (إلا ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان)(1).
وإلا أي عاقل يرضى لنفسه الهلاك والوقوع في نار جهنم وهو بحكم كونه عاقلاً لا يمكن له أن يترك وصية نبيه الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ويتبع سبلاً أخرى لا تزيد السائر إلا ضلالاً ولا تضيف إلى حيرته إلا عذاباً ولا تلحقه إلا ندماً وخسراناً ويومئذٍ:
وَ يَقُولُ اَلْكٰافِرُ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرٰاباً(2) .
لترك أبي تراب(3) صلوات الله عليه.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله في إتباع ما أوصى به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هذا المنطلق فإنا نذهب إلى أهل البيت صلوات الله عليهم ونورد ما قالوه عن ولادة فاطمة سلام الله عليها، فأهل البيت أدرى بالذي فيه ويكفي القارئ الكريم دلالة على ما نقول ما حملته هذه الحادثة من معنى جميل.
فقد روي: أن عبد الله ابن الإمام الحسن بن فاطمة عليها السلام قد دخل
ص: 340
على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي النّسابة، فسألهما عن سن فاطمة عليها السلام فاختلفا، فقال عبد الله بن الحسن: سلني عن أمّي فأنا أعلم بها، وسل الكلبي عن أمه فهو أعلم بها(1).
وهذا ما جاء عنهم عليهم السلام:
أخرج ثقة الإسلام الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
«ولدت فاطمة بعد مبعث الرسول بخمس سنين، وبعد الإسراء بثلاث سنين»(2).
أما شهر ولادتها عليها السلام فقد وقع الخلاف فيه بين شهر رمضان، رجب، ربيع الأول، جمادى الآخرة، ولكن الأغلب والأشهر بين الفريقين أنّه في العشرين من جمادى الآخرة(3).
وأما الطائفة الإمامية ولاسيما قدماؤهم فقد اتفقوا على شهر ولادتها بلا
ص: 341
خلاف وهو جمادى الثانية، كصاحب الكافي والدلائل والحدائق والمناقب والمصباح وغيرهم من المتأخرين حيث أجمعوا على هذا اليوم، وعليه عمل العلماء والمعاصرون في هذا الزمان(1).
واختاره أيضاً المرحوم الشيخ الحر العاملي صاحب الوسائل، كما ذكره في منظومته:
قد وُلِدَت فاطمة الزهراء *** البضعة الزكية الحوراء
بِمكة الغراء يومَ الجمعة *** في ملك يزدجر مبدي الشمعة
وذاك قبل رجب بعشر *** وقيل قبله بنصفِ شهر
لخمسة من مبعث النبي *** المصطفى المكرم الزكي
وقد روى مخالف ما قبله *** بخمسةٍ ومن رواه أبله
والمراد العشرون من جمادى الآخرة، لأنها قبل رجب بعشرة أيام، عيّن رحمه الله سنة الولادة بخمس سنين بعد البعثة ووصف المخالف لهذا القول بالأبله(2).
فقد ذهب علماء الإمامية رضوان الله عليهم إلى أنه الجمعة(3)، وذهب غيرهم من العامة إلى أنه يوم الثلاثاء.
ص: 342
والأصح هو يوم الجمعة لأن أهل البيت عليهم السلام أعلم بمولد البضعة المحمدية والشجنة النبوية من غيرهم، كما أن الله عز وجل قد كرم الجمعة على الأيام، وكرم شهر رمضان على الشهور ومن الأولى أن تلد الكريمة النبوية والهبة الربانية في يوم الجمعة.
فهذه أقوال أهل البيت عليهم السلام وبها تأخذ الطائفة الشيعية من المسلمين.
وهذا القول عليه أكثر أهل العامة(1) والسبب في ذلك يعود لاعتمادهم على رواية واحدة رواها ابن إسحاق رحمه الله والاكتفاء بها دون غيرها وهذا يرجع إلى مجموعة من الأسباب، وهي:
إن هذه الرواية تجعل فاطمة عليها السلام امرأة كبيرة السن في وقت زواجها، إذ الواضعون لهذه الرواية أرادوا بذلك أن يكون سن فاطمة عليها السلام عند الزواج عشرين سنة، والمرأة عندما تصل إلى هذه السن في ذلك الوقت ولا تتزوج تكون امرأة غير مرغوب بها للزواج وقد صرّح البعض منهم بحقيقة ما حملته هذه الرواية من أغراض دنيئة، ناسياً أو متناسياً أن من قصد فاطمة بمنقصة يريد
ص: 343
استهانتها فقد كفر، وهذا الحكم اعتمده القاضي عياض وصرح به في الشفا كما أعلنه أيضاً العلامة السهيلي(1) وغيرهم من علماء المسلمين.
إذ إن الفتاة في مجتمع مكة كانت تتزوج في سن مبكرة، فما أن تصل إلى سن السابعة والثامنة فإن الخُطّاب يدقون باب أهلها في التسع فإنها تكون قد انتقلت إلى دار زوجها وهذا في الإسلام أما قبله فإن الفتاة كانت تتزوج قبل التاسعة.
فبقاء المرأة إلى هذا العمر دون أن تتزوج يعيب المرأة ويؤلم أهلها لأن ابنتهم فاتها الخاطبون وتركها الرجال بينما يكون أترابها قد أنجبن العديد من الأولاد.
ونحن نسأل هؤلاء المنافقين الظالمين المؤذين لله ورسوله ألم يكن هناك بين صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رجل يحمل في داخله الرغبة في مصاهرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والتقرب إليه، أو إحرازه للسبب الذي لا ينقطع بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزواج من ابنته ؟!
أم أنّه ليس فيهم رجل يملك الحس الإنساني فيتقدم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخطب منه ابنته التي بقيت جليسة الدار دون زواج ولو من باب رفع الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينال بذلك الأجر والثواب ؟! أم لا رغبة عندهم في الحصول على الأجر والثواب وكسب رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! أم أنهم لم يعلموا أن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بنتاً اسمها فاطمة!؟ فهم في معزل عنه صلى الله عليه وآله وسلم أم أنهم فقدوا رجولتهم فلم يتمكن أحدهم من الزواج ؟!
ص: 344
أم بغضاً للنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فلم تطعهم أنفسهم من التقرب إليه ومصاهرته ؟!
ألم يسأل أحد نفسه هذه الأسئلة وغيرها عندما يعلم أن فاطمة البضعة النبوية ظلت كل هذه السنين في دار أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمر يرفضه ويعيبه المجتمع المكي والمدني ؟!
أليس هذا تعريضاً وتجريحاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبابنته الطاهرة سيدة نساء العالمين وتعريض بصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث هجروا نبيهم ولم يتقربوا من مصاهرته حتى جاءها ابن عمها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فتزوجها؟!
وعليه:
فإن هذا هو السبب الأول الذي جعل الكثير من الكتّاب الذين لهم ميول أموية يعتمدون على هذه الرواية القائلة بأن فاطمة ولدت سنة خمس قبل المبعث.
هو تعريض بالروايات الصادرة عن حضرة النبوة وعترة الرسالة التي تخبر عن تفضيل فاطمة عليها السلام على جميع البشر لاختصاصها وتكريمها بأن الله عز وجل أودعها في ثمار الجنة، وأن النطفة النورانية الزكية التي خلقت منها كانت من هذه الثمار التي تناولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما بيناه في الأبواب السابقة، إذ كونها ولدت قبل المبعث يعارض هذه الروايات ومن ثم يدفع المسلم إلى عدم الأخذ بها أي تجريد فاطمة صلى الله
ص: 345
عليه وآله وسلم من هذه المنقبة الفريدة التي لم يحظ بها أحد من العالمين، ودافعه إما غرض في نفس الراوي أو مرض في قلبه؛
فَزٰادَهُمُ اَللّٰهُ مَرَضاً(1) .
هو جعل ذلك منقبة لعائشة بحيث إنها تزوجت في سن التاسعة وخطبت في السادسة ولطالما كانت تفتخر بذلك وتعلنه مراراً لتظهر رغبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها ومسارعته لخطبتها، بينما أراد الواضعون لهذه الرواية جعل البضعة النبوية فاطمة الزهراء قد بلغت العشرين من عمرها ولم تتزوج وهذه المقارنة لا تخفى على الباحث المتتبع لأحداث الإسلام منذ الهجرة النبوية إلى يومنا هذا.
أي إنها عليها السلام ولدت سنة أربعين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا القول قد ذهب إليه بعض علماء العامة فمنهم من صرح به علناً ومنهم من قال: إنها ولدت الحسن ولها من العمر خمس عشرة سنة، أي إن ولادتها كانت سنة أربعين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2).
ص: 346
وهو قول: ابن عبد البر، والمزّي، والنويري، والمقدسي، وابن الأثير، والحاكم، والبيهقي، والسيوطي، وابن حيان، واليعقوبي، والقسطلاني وابن منظور، ومغلطاي، وغيرهم(1).
وقد ذهب إلى هذا القول النويري وغيره(2).
فهذه أقوال أهل العامة من المسلمين في تعيين سنة ولادة فاطمة عليها السلام وقد بدتْ الخلافات ظاهرة فيها.
وعليه:
فإنّا نأخذ بالقول الأخير لأنه يوافق مذهب أهل البيت عليهم السلام، فهم موضع الرسالة، ومهبط الوحي، ومحل التنزيل، والباقي هواء في شبك، سوى ما كان منها يشير إلى ولادتها بعد البعثة بسنة أو بسنتين؛ لأنه يتقارب مع كونها خلقت من ثمار الجنة، ولكونها تتفق مع طبيعة المجتمع المكي في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعيب تأخر البنت عن الزواج بعد العاشرة من عمرها ولاسيما إذا كانت تحمل صفات وخصائص كان يركز عليها أهل مكة ويتنافسون في الاستباق إليها وهي ابنت نبيهم المصطفى مع ما لها من مزايا لم تحظ بها امرأة من العالمين.
ص: 348
قبل الدخول بمجريات هذا المبحث وما يناسبه من المسائل فإننا نتوجه إلى جميع المسلمين بإحياء يوم العشرين من جمادى الثانية وهو يوم مولد فاطمة سلام الله عليها، والاحتفال به وإظهار السرور بما يناسب عظم هذا اليوم ومنزلته عند الله ورسوله وأهل بيته.
وهذه الدعوة لا تقتصر على المسلمين حسب، بل هي دعوة لجميع الأديان وأصحاب الفكر ورعاة الإنسانية ؟! لأن فاطمة الزهراء عليها السلام قبس من ذلك السراج الوهاج الذي أضاء بنوره الحياة الإنسانية.
فمن واقع الإخلاص لكل من يسعى جاهداً في بناء الحياة الإنسانية أن يوقر عظماءها ويُذكر أهلها بهؤلاء العظماء الذين كانوا أحد أركان الرقي والترقي الإنساني.
ص: 349
وكلنا يعلم اليوم ونحن في الألفية الثالثة أن رعاة الفكر وأعضاء الهيئات الإنسانية التي تهتم بالكيان الإنساني قد اتخذت منهاجاً لتكريم هؤلاء العظماء فقامت بتكريم (الأم تريزا) ومنحها جائزة نوبل للسلام في منطلق ردود الأفعال في خدمة الإنسانية من دون النظر إلى معتقدها ومذهبها، لأن الملاك هو من بنى وأسهم ووضع حجر الأساس في بناء حياة الإنسان فمن الأولى أن يُعظم فاطمة الزهراء سلام الله عليها جميع رجال الفكر الإنساني فما قدمته فاطمة من جهود جبارة في بناء ورقي حياة الإنسان وأخرجت للحياة قادة وعظماء ومفكرين وأئمة فجعلها الله عز وجل المدرسة التي يتخرج منها هؤلاء العظماء ولاسيما ولدها الإمام المهدي صلوات الله عليه الذي ينتظره كل إنسان على وجه الأرض مهما كان معتقده فكل دين وكل مذهب يؤمن بوجود (المصلح) أو (المنقذ) الذي يأتي في يوم معين ليغير العالم ويخلصه من الظلم والفساد حتى الفلاسفة وعلى اختلاف مناهجهم ومشاربهم وآرائهم الفلسفية والمنطقية فإنهم يحلمون بالوصول إلى (المدينة الفاضلة(1) التي تقوم على أساس وجود العدل والحق والحرية وهذا كله لا يتحقق إلا بالإمام المهدي روحي فداه لأن قوى الشر لا يمكن أن يتم القضاء عليها وإنهاؤها من النفس البشرية بدون قوى الخير المحض الذي يكون من الله واختصاصه وإيداعه رجلاً من خلقه يكون من سلالة نبي ولأهمية الأمر وثقله فلا يمكن أن يتعدى ذرية خاتم الأنبياء وسيدهم فأعد لهذا الأمر فاطمة الزهراء عليها السلام التي بشرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً:
ص: 350
«ابشري يا فاطمة فإن المهدي من ولدك»(1).
ومن هنا ينبغي من جميع الأحرار وعشاق الحق ودعاة الحرية أن يتخذوا من يوم مولد فاطمة عليها السلام رمزاً ومناسبةً للتذكير بجميع القيم الإنسانية، كأن يكون يوم العشرين من جمادى الآخرة يوماً يطلق عليه:
«يوم عيد الفضيلة» التي العالم اليوم بحاجة إليها بعد أن عاث دعاة الشر وأئمة الضلال في الحياة الفساد حتى افقدوها طعم الإنسانية.
أما شيعتها ومحبوها فقد اتخذوا هذا اليوم، يوم سرورهم وابتهاجهم يتبادلون الهدايا ويطعمون الفقراء والمحتاجين ويفرقون الحلوى على الأطفال ويزينون الدور ويعقدون المجالس فتنشد الشعراء بما تجيش به قرائحهم بفضل فاطمة ومنزلتها لينالوا القرب من رسول الله ويفوزوا برضا الله.
فما من عمل أحب إلى الله من إدخال السرور على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذريته فجزاهم الله خيراً.
أما ما يرتبط بهذا المبحث من مسائل فإنا نعرض لها كالآتي:
قبل الدخول بمشروعية الاحتفال بعيد المولد الفاطمي فإننا نذهب أولاً لننظر في مشروعية الاحتفال بعيد المولد النبوي فما جاز هنا يجوز أن يكون هناك مع وجود المرجحات الأكثر في الاحتفال بعيد المولد الفاطمي التي سنشير إليها إن شاء
ص: 351
الله تعالى.
أما لماذا اتخذ هذا الحدث حيزاً في المناقشة والبحث حول جواز الإتيان به أو عدم ذلك، حتى لوحظ أن بعض البلاد الإسلامية لم تولِ هذه المناسبة اهتماما يتناسب مع حجم هذا اليوم ؟ ومرجع ذلك يعود إلى أمرين:
الأمر الأول: المستوى الثقافي العام للفرد المسلم كان له مدخلية كبيرة في التعامل مع هذه المناسبة، وذلك بسبب بعض التداخلات الفكرية والثقافية القادمة من بيئات إما غير إسلامية، وإما إسلامية متطرفة.
الأمر الثاني: وضع الاحتفال بيوم المولد النبوي بين حكم الممدوح والمذموم أو ما يسمى ب - (البدعة الحسنة) و (البدعة المذمومة) من قبل جهات خاضعة لآلية خاصة بها في فهم النصوص الشرعية لاسيما أولئك القائلين بذم الاحتفال واثم المحتفل بالمولد النبوي.
فانعكس ذلك على ثقافة المسلم فأهمل هذا اليوم حتى أصبح لديه قناعة بأنه مأثوم إذ احتفل بيوم مولد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بل ويدعو إلى محاربة هذا الاحتفال فضلا عن كيل التهم للمحتفلين وكأنه الوحيد الذي على بصيرة من أمره.
وجدت أن أعود إلى أصل المدعى والعنوان الذي دارت من حوله هذه التجاذبات، أي ما أسماه كلا الفريقين المختلفين بين كونه بدعة حسنة أم مذمومة.
بمعنى: أن الفريقين ينطلقان من عنوان واحد وهو كون الاحتفال بيوم المولد النبوي (بدعة) لكن أهي: حسنة أم مذمومة ؟ وهذا بحد ذاته، - أي: وصف العمل
ص: 352
بأنه بدعة - مخالف لما عليه مذهب أهل البيت عليهم السلام، فقد تواترت الأحاديث الشريفة عنهم بالحث على إحياء شعائر الله تعالى وإظهار مظاهر التولي لأولياء الله والبراءة من أعدائه.
إلا أننا هنا لابد أن نقف أولاً عند منطلق الفريقين، في حكمهم على المولد النبوي، وأعني: (البدعة) كي نفهم أن وصف عمل الاحتفال بالبدعة صائب أم خاطئ.
ألف: قال الخليل الفراهيدي: البدع: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلف ولا ذكر ولا معرفة.
وقال أيضا: البدع: الشيء الذي يكون أولاً في كل أمر كما قال الله تعالى:
مٰا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ (1) .
أي: لست بأول مرسل.
والبدعة: اسم ما ابتدع من الدين وغيره، والبدعة ما استحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأهواء والأعمال(2).
باء: قال ابن فارس: البدع له أصلان: ابتداء الشيء وضعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال، والمقصود في المقام هو المعنى الأول(3).
ص: 353
قال الراغب الاصبهاني: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء، والبدعة في المذهب، إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها بصاحب الشريعة وأمثالها المتقدمة وأصولها المتقنة(1).
البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة(2).
البدعة: أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة(3).
وقال أيضا:
المحدثات جمع محدث، والمراد بها أي في حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في أصل الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة(4).
ص: 354
البدعة لغة: ما كان مخترعا، وشرعا ما أحدث على خلاف أمر الشرع ودليله الخاص والعام(1).
إنّ المراد ب - (البدعة) هو أن يجعل في الدين ما ليس منه(2).
وهذه الأقوال تنص على أن البدعة هي أن يسند الأمر إلى الشرع وهو ليس من الشرع، وبمعنى آخر كل أمر ليس له أصل في الشريعة، وهذا المعنى يحتاج إلى مفهوم خاص بالشريعة، إذ متى ما نحدد مفهوم الشريعة استطعنا أن نشخص أن هذا الأمر بدعة أم لا.
وبما أن أبناء الجماعة، أي أهل السنة يجعلون الصحابة أحد مصادر التشريع وأن قولهم وفعلهم حجة عليهم بكونهم عدولاً، فلذا: أصبحوا في تخبط في تحديد مفهوم البدعة ومصداقها مما جعلهم يصنفون البدعة إلى صنفين، وبتسميتين، وهما: البدعة الحسنة والبدعة المذمومة، وهذه بعض أقوال علمائهم.
المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو اجماعاً، فهذه البدعة الضلالة.
ص: 355
والثانية: مما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه لواحد من هذا فهي محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر في قيام رمضان نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى(1).
أقول:
يمكن ملاحظة اصطدام المعنى الحقيقي للبدعة عند الشافعي مع معنى الشريعة مما دعاه إلى جعلها، - أي البدعة - إلى بدعة حسن وبدعة مذمومة مع علمه أن مفهومها ومصداقها لا يستقيم في كونها حسنة أو مذمومة؛ لأنها لا أصل لها في دين الله تعالى، وهي دخيلة عليه، غريبة عنه، ما أنزل الله بها من سلطان.
إلا أن توقفه في فعل عمر بن الخطاب في صلاة التراويح وتصريحه بنفسه بأنها بدعة ابتدعها، دفعه - أي الشافعي - إلى تقسيمها هذا التقسيم وما هو بمغير من حقيقة البدعة شيئاً يعتد به يوم القيامة، فالبدعة بدعة، كما أن الكذبة، كذبة في الشريعة سواء كانت كذبة بيضاء أو سوداء.
وعليه:
وقوع علماء أهل السنة والجماعة في عدم الوقوف على مصداق البدعة ومفهومها ومعناها مع مصداق الشريعة ومفهومها ومعناها دفعهم إلى جعلها حسنة ومذمومة؛ ومن ثم هم مختلفون في كل أمر جديد فضلاً عن التفات السلفية إلى هذا التقاطع في المعنيين، معنى المدعى ومعنى الشريعة مما جعلوهم يحرمون كل أمر جديد لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ثم عهد
ص: 356
الصحابة والتابعين وهو ما يعبر عنه بالقرون الثلاثة مما زاد الأمر سوءاً.
والسبب في ذلك هو محاربة كل ما لم يكن في تلك الأزمنة مما يتمخض عن إرجاع البشرية إلى قبل ألف ومائة سنة ومن ثم أصبح المسلم لا يستطيع أن يحيا هذه الحياة وهو على مشارف الألفية الثالثة التي لم يكن فيها شيء على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة سوى بعض المسميات التي اختلفت في مدلولاتها حتى احتاجت الألفاظ إلى قرائن تدل على معانيها ومقاصدها.
وفي هذه المشكلة يقول التفتازاني:
(ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قبحه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام:
«إياكم ومحدثات الأمور».
ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه، عصمنا الله من اتباع الهوى وثبتنا على اقتضاء الهدى بالنبي وآله)(1).
(البدعة: بدعتان، بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم)(2).
البدعة: بدعتان، بدعة هوى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر
ص: 357
الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه، وحث عليه الإسلام أو رسوله فهو في حيز المدح.
البدعة في الدين، كل ما لم يأتِ في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر: بنعمت البدعة هذه، ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به(1).
إذن: تكمن المشكلة في اصطدام علماء أهل السنة والجماعة بفعل الصحابة الذي لم يكن موافقاً للقرآن والسنة كفعل عمر بن الخطاب الصريح في مخالفته لشريعة الإسلام حينما جمع الصلاة المستحبة تحت إمام واحد في ليالي رمضان وهو ما لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الصحابة وقفوا خلفه يصلون ويقتدون به في نوافله ترك الصلاة كي لا تكون سنة.
بمعنى أن عمر بن الخطاب عمل على ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما ترك صلاته في المسجد، فيأتي عمر بن الخطاب فيجمع الناس على إمام واحد وهم في صلاة النافلة ثم ليصرح بأنها بدعة أحدثها بنفسه.
ص: 358
ولذلك: لم يجد أولئك من سبيل إلاّ من خلال تقسيم البدعة إلى مذمومة وممدوحة وذلك كي يبرّروا ما فعله عمر بن الخطاب من مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما ابتدع بدعته تلك.
إلا أنهم حينما يأتون إلى فعل الاحتفال بالمولد النبوي يحكمون وبدون تردد على أنه بدعة مع علمهم أن البدعة هي إدخال أمر في الدين وهو ليس منه كما فعل عمر بن الخطاب أما الاحتفال بمولد منقذ البشرية وسيد الأنبياء والمرسلين والحث على حبه واتباعه والاتّعاظ بسيرته والاقتداء بسننه في تلك المجالس مع غيرها من المرجحات والمندوبات كل ذلك هو في نظر القوم بدعة!!!
ولكن تلك الآراء المتطرفة لم تكن بمكمّمة لأفواه كثير من العلماء في الحث على إقامة هذه المجالس وإحيائها وهذه جملة من أقوالهم.
عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وآله وسلم بعمل الولائم البديعة المشتملة على أمور البهجة الرفيعة ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليه من بركاته كل فضل عميم(1).
ص: 359
من خواصه - أي الاحتفال بالمولد - أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة لنيل البغية والمرام(1).
لو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان وإدعام أهل الإيمان(2).
بل في الدر المنتظم، وقد عمل المحبون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فرحا بمولده الولائم(3).
إذا انفق المنفق تلك الليلة وجمع جمعا أطعمهم ما يجوز إطعامه وأسمعهم ما يجوز سماعه ودفع للمسمع المشوق للآخرة ملبوساً، كل ذلك سرورا في مولده صلى الله عليه وآله وسلم، فجميع ذلك جائز ويثاب فاعله إذا أحسن القصد(4).
مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبجل مكرم، قدس يوم ولادته وشرف وعظم، وكان وجوده صلى الله عليه وآله وسلم مبدأ سبب النجاة لمن اتبعه
ص: 360
وتقليل حظ جهنم لمن أعد لها لفرحه بولادته صلى الله عليه وآله وسلم وتمت بركاته على من اهتدى به، فشابه هذا اليوم يوم الجمعة من حيث أن يوم الجمعة لا تسعر فيه جهنم، هكذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم فمن المناسب إظهار السرور وإنفاق الميسور، وإجابة من دعاه رب الوليمة للحضور(1).
هذا الفعل لم يقع في الصدر الأول من السلف الصالح، وهي بدعة حسنة إذا قصد فاعلها جمع الصالحين والصلاة على النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، وإطعام الطعام للفقراء والمساكين(2).
ومن أحسن ما ابتدع في زماننا هذا ما كان يفعل بمدينة أربل، جبرها الله تعالى، كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين صلى الله عليه وآله وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين(3).
وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا(4)، أحد
ص: 361
الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيرهم رحمهم الله تعالى.
هذه بدعة لا بأس بها، ولا تكره البدع إلا إذا راغمت السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره، ويثاب الإنسان بحسب قصده في إظهار السرور والفرح بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).
أن أول من أقام الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الملك أبو سعيد كوكبوري الأربلي، وقد بذل الكثير من الأموال في الإعداد لهذا الاحتفال وبما يليق بصاحب هذه المناسبة صلى الله عليه وآله وسلم، وبعده جرت العادة في البلاد.
وذكر ابن خلكان: أن الحافظ أبا الخطاب ابن دحية حينما وصل إلى أربل ورأى اهتمام مظفر الدين به، أي بالمولد النبوي، قام فكتب كتابا في الم 0 ولد الشريف أسماه التنوير في مولد السراج المنير(2)، فلما وصل إلى الملك أبي سعيد أهداه ألف دينار على كتابه(3).
ص: 362
(إن ما شاع في الأمصار والاعصار، وظهور الشمس في رابعة النهار عمل مولد النبي والاحتفال بقرابته والتنافس على اقتباس هاتيك الأنوار وهو وإن لم يكن عليه عمل السلف لكنه بدعة مستحبة أطبق عليها جل الخلف، وقواعد الشرع بأنها من محاسن الأفعال ولا عبرة بمنكر زلَّ قلمه وطغى بخرايف الأقوال - ثم أضاف -: ويجب عدم اختلاط الرجال بالنساء والتصفيق والنظر إلى وجوه الأحداث والأجانب أو جعله وسيلة للجمع بين العاشق ومعشوقه والتوصل به إلى ضرب المعازف وغيرها(1)، (انتهى كلامه).
(إنه من البدعة الحسنة المتفق على ندبها)(2).
وقد مدحه - يعني عمل المولد - الحافظ ابن دحية، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ أبوالفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، وردوا على الفاكهاني في أنه بدعة مذمومة - وهذا قول الفاكهاني في احتفال المسلمين بمولد سيد الأنبياء والمرسلين - وكل بدعة ضلالة. انتهى قوله إنا لله وإنا إليه راجعون(3).
ص: 363
وقد سُئل أبو زرعة وهو ابن الحافظ العراقي، عن فعل المولد أمستحب أم مكروه ؟! وهل ورد فيه شيء؟ أو نقل فعله عمن يقتدى به ؟ فأجاب بقوله: الوليمة وإطعام الطعام مستحب في كل وقت فكيف إذا انضمّ إلى ذلك السرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف، يعني ربيع الأول ؟! ولا نعلم ذلك عن السلف ولا يلزم كونه بدعة كونه مكروهاً فكم من بدعة مستحبة بل واجبة إذا لم ينضمّ إلى ذلك مفسدة والله أعلم.
إنه ينبغي أن يتحرى اليوم بعينه فإن كان ولد ليلاً فليكن شكر النعمة بوجوده صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً، أو نهاراً فكذلك وليكن الشكر بما يناسب الليل من قيام وإطعام أو النهار من صيام ولا بد أن يكون ذلك اليوم من عدد أيام ذلك الشهر بعينه حتى يطابق أصلاً استنباط مشروعيته بالقياس وذلك لأمور عديدة:
الأول: إن أبا لهب الذي نزل القرآن بذمه في سورة المسد بفرحة ليلة مولده صلى الله عليه وآله وسلم بأن يمتص من إبهام يده ماءً بإعتاقه ثوبية الأسلمية حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين بشرته بولادته صلى الله عليه وآله وسلم، فما ظنك بالمؤمن الموحد إذا سر بمولده صلى الله عليه وآله وسلم وبذل ما بذل من المال من محبته صلى الله عليه وآله وسلم إنما جزاؤه من الله الكريم أي يدخله بفضله جنات النعيم.
الثاني: إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدهم الأكبر، فأهل
ص: 364
الإسلام أولى بذلك وأحق وأجدر ما لهم من الحظ الأوفر فلو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشياطين وسرور أهل الإيمان لكان كافياً في كونه...؟
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن ليلة المولد أفضل من ليلة القدر لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: إنها ليلة ظهوره بذاته وليلة القدر بعض ما أوتي.
الوجه الثاني: إنه أفضل من الملائكة وإنما شرفت ليلة القدر بنزول الملائكة.
الوجه الثالث: إن الفضل في ليلة القدر إنه خاص بهذه الأمة وليلة المولد عام لساير الخلق وأمان ورحمة للعالمين(1).
إنّ إظهار السرور والاحتفال بيوم مولد خير خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم، حكمه الاستحباب المؤكد، وتركه مذموم لورود النصوص الصريحة في القرآن والسنة النبوية.
1 - قال تعالى:
ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اَللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ (2) .
وإظهار الفرح وإبداء السرور لمولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة
ص: 365
الموائد وإطعام المسلمين والإنفاق على المحتاجين منهم تبركاً بهذا اليوم إنما هو تعظيم لشعائر الله عز وجل.
2 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»(1).
وإظهار الفرح والمسرات في يوم مولده الشريف أحد مظاهر التعبير عن حبه صلى الله عليه وآله وسلم.
3 - قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل الله مع أنبيائه وأصفيائه»(2).
ومما لا شك فيه أن إقامة مجالس الابتهاج والفرح بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد المناهج التربوية التي تترك أثراً كبيراً في نفوس الأطفال وهي إحدى الوسائل التي يتم من خلالها تعريف الأطفال بسيرة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وهذه المعرفة تعمق إيمانهم وتشد عقيدتهم وتمسكهم بالإسلام وبنبيه وأهل بيته عندما يعلم أولئك الأطفال أن النبي الأكرم قد أوصى بحبهم وباتباعهم والتمسك بهم بعد القرآن فيكونون متسلحين بالثقلين القرآن وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما يدخل السرور على قلب أهل البيت سلام الله عليهم
ص: 366
وهم ينظرون إلى هؤلاء الأطفال قد ملأت قلوبهم الفرحة؛ لأنهم يحتفلون بمولد نبيهم وهم سوف ينتظرون هذا اليوم بفارغ الصبر لأنهم ينالون فيه الهدايا والحلوى والفاكهة.
4 - قال الإمام جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليهما:
«رحم الله شيعتنا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(1).
فقد اعتاد شيعة أهل البيت سلام الله عليهم أن تكون أيام فرحهم هي أيام فرح آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأيام حزنهم هي أيام حزن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فما يوم المولد النبوي الشريف إلا واحد من أيام فرحهم العظيمة وكذا يوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وولايته العامة على المؤمنين وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم:
«من كنت مولاه فهذا علي مولاه»(2).
إن هناك من المرجحات ما تجعل الاحتفال بمولد البضعة النبوية يفضل على غيره من المواليد.
ص: 367
والوجه في ذلك: هو أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً يدخل السرور على قلب المسلمين بينما الاحتفال بمولد فاطمة الزهراء صلوات الله عليها يدخل السرور على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإدخال السرور على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم أرجح من إدخال السرور على قلوب المسلمين مع أن الاحتفال بالمولد الفاطمي يدخل السرور على قلوب المؤمنين أيضاً وهذا أولاً.
ثانياً: إن الاحتفال بعيد المولد الفاطمي فيه إيذاء للمنافقين وأحد الوسائل لمحاربتهم التي نص القرآن عليها، لأن المنافق لا يجرؤ على نكران حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أن ينكر فضيلة من فضائله؛ لأن في ذلك كشفاً لنفاقه، بينما بالنسبة لفاطمة عليها السلام فما أهون الأمر عليه في نكران فضلها وتفضيل غيرها عليها ولا يبالي أن يجهر بذلك كابن حزم الذي عدّ أزواج النبي أفضل من الصحابة وأفضل من فاطمة عليها السلام.
فضلاً عن بتر الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما يحذفون منها الآل تعبيراً عن بغضهم حبهم لأهل البيت ؟ فكيف يمكن أن يحتفل مثل هؤلاء بمولد الزهراء صلوات الله عليها. أو لا يظهرون تكفير من يفعل ذلك.
ص: 368
الإهداء 5
مقدمة الكتاب 7
خصوصية الحديث عن الشخصية الرسالية 7
وثانيا 10
ثالثاً 10
المبحث الأول: بدو خلقِ النور 21
المسألة الأولى: سؤال العباس بن عبد المطلب عن العلة في تفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام على الناس 21
الحديث الأول 21
ص: 369
الحديث الثاني 22
دلالة الحديثين 25
المسألة الثانية: سؤال عبد الله بن مسعود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في علة تفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام على سائر الناس 27
دلالة الحديث 29
أولا: المراد بقوله تعالى: (ألقيا) الملائكة أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام ؟ 29
ثانيا: دلالة وجود حرف الألف في (فالقيا) 31
ثالثا: العلة في إيراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليلاً من القرآن لعبد الله بن مسعود 32
رابعا: هل يحتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إيراد دليل من القرآن 32
خامسا: التلازم فيما بين النبي والوصي منذ خلقهما وإلى قيام القيامة 32
سادسا: منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإبلاغ عن فضائل علي عليه السلام 33
المبحث الثاني: متى خلق الله نورها؟ 35
الحديث الأول 36
الحديث الثاني 36
الحديث الثالث 37
الحديث الرابع 38
الحديث الخامس 39
المسألة الأولى: ارتباط نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنور الوصي عليه السلام 39
المسألة الثانية: مراحل تكوين الخلائق 41
المبحث الثالث: من أي نور خلقها الله عزّ وجلّ؟ 45
الحديث الأول: إن الله تعالى خلق نور فاطمة عليها السلام من نوره 45
الحديث الثاني: إن الله تعالى خلق نور فاطمة عليها السلام من نور عظمته 45
ص: 370
الحديث الثالث: إن الله تعالى خلقها من نور عرشه 46
الحديث الرابع: إن الله تعالى خلقها من نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم 46
الحديث الخامس: إن الله تعالى خلقها من نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونور الوصي عليه السلام 46
الحديث السادس: إن الله تعالى خلقها وخلق النبي وعلياً والحسن والحسين من نور واحد 47
المبحث الرابع: أين كان نور فاطمة عليها السلام ؟ 50
المسألة الأولى: انصراف ذهن السائل إلى أن المقصودة بالذكر هي فاطمة الإنسية وليس نورها 53
المسألة الثانية: أين كان نور فاطمة عليها السلام قبل خلق آدم ؟ 55
المسألة الثالثة: ما هي الحكمة في جعل طعام نور فاطمة التسبيح والتهليل، والحاجة إلى الطعام من لوازم البدن ؟ 57
المبحث الخامس: ماذا خلق الله من نور فاطمة عليها السلام ؟ 61
الحديث الأول: إن الله خلق من نورها السماوات والأرض 61
الحديث الثاني: إن الله خلق من نورها شيعتها 62
دلالة الحديث 62
المبحث السادس: إشراق فاطمة عليها السلام وضياء نورها 65
المسألة الأولى: الإشراق الفاطمي 66
المسألة الثانية: نور فاطمة عليها السلام يغشي أبصار الملائكة عليهم السلام 68
المسألة الثالثة: العلة في تفضيل نور فاطمة عليها السلام على نور جميع الأنبياء عليهم السلام 69
ص: 371
المبحث السابع: ماذا كان يعمل نورها؟ 72
دلالات الحديث 73
أولا: ما هو المراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فسبحنا»؟ 73
ثانيا: ما هو المراد من مكوث الملائكة مائة عام وهي لا تعرف تسبيحاً ولا تقديساً؟ 73
ثالثا: لا يتوهم بأنهم عليهم السلام كانوا ماكثين أيضاً عن التسبيح 74
المبحث الثامن: ما هو نور فاطمة عليها السلام ؟ 75
المسألة الأولى: إنّ الأنبياء عليهم السلام أمروا بحب محمد وآله الطاهرين 76
المسألة الثانية: ورود أسماء محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام في التوراة 83
المبحث التاسع: أنها أحد الأشباح الخمسة عليهم السلام 85
الحديث الأول 86
الحديث الثاني 87
الحديث الثالث 88
الحديث الرابع 89
المسألة الأولى: ما هو المراد بأشرف بقاع العرش الذي ورد في الحديث الثالث ؟ 90
المسألة الثانية: ما هي علة سجود الملائكة لآدم عليه السلام ؟ 91
المسألة الثالثة: لماذا لم يتمكن آدم عليه السلام من رؤية الأشباح فرأى نورها، ولماذا قال ما هذه، ولم يقل من هذه ؟ 93
المسألة الرابعة: اطلاع الله تعالى إلى الخلق واختيار حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم 98
أولا: معنى الاطلاع والاختيار الإلهي الأول 99
ثانياً: معنى الإطلاع والاختيار الإلهي الثاني 100
ثالثاً: اقتران ذكر الله مع ذكر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم 103
ص: 372
المسألة الخامسة: احتياج الأرض إلى خليفة 106
أولاً: مفهوما الخلافة الظاهري والباطني 106
ثانياً: الخيرية أصل في الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم 110
المسألة السادسة: ما هو الفرق بين سنخ النور وشبح النور؟ 112
المسألة السابعة: عرض ولاية أهل البيت عليهم السلام على السماوات والأرض 114
الشاهد الأول: «آية الأمانة» 114
الشاهد الثاني: آية الإرسال 119
الشاهد الثالث: آية المساءلة 120
الشاهد الرابع: آية النعيم 121
المسألة الثامنة: (لا يقبل العمل إلا بالولاية لآل محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم) 121
الحديث الأول 122
الحديث الثاني 123
الحديث الثالث 123
المسألة التاسعة: حديث الأشباح وتحريف المبطلين 124
المسألة العاشرة: شبح نور فاطمة وأثره في الملائكة 126 \\
المبحث الأول: خلق روح فاطمة عليها السلام 133
الحديث الأول 133
ص: 373
الحديث الثاني 134
المسألة الأولى: إنّ أرواح محمد وعترته صلى الله عليه وآله وسلم هي أنوارهم 135
المسألة الثانية: بث الحياة في السماوات والأرض والجبال 136
المسألة الثالثة: فتق السماوات والأرض والجبال بالتسبيح 138
المسألة الرابعة: مد السماوات والأرض والجبال بالطاقة 139
المسألة الخامسة: ظهور مصداق اسم الله تعالى (الجليل) في السموات والأرض 140
المسألة السادسة: إنّ الله تعالى خلق فاطمة عليها السلام من نور ابتدأها روحاً بلا بدن 141
المسألة السابعة: مراحل خلق أنوار محمد وعترته والحكمة في تعدد هذه المراحل 143
أولاً: الابتداء بخلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام فكانت روحاهما أول ما خلقه تعالى 144
ثانيا: الحكمة في جمع روحي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام في المرحلة الثانية من خلق أنوارهم فكانت روحاً واحدة 145
ألف: إن شأنية النبي والوصي من شأنية شريعة الله تعالى 146
باء: إن جمع روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي كان لوحدة التلقي 147
ثالثا: إنّ الله تعالى خلق روح الحسن والحسين من روح النبي والوصي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين 148
المبحث الثاني: خَلق طينة فاطمة عليها السلام 150
المسألة الأولى: حقيقة أبدان العترة النبوية عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام وهل هذه الحقيقة تتعارض مع المثلية التي نص عليها القرآن 151
المسألة الثانية: أحاديث الطينة التي خلق منها محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم 158
أولا: (إنها من جنة الفردوس) 158
ثانيا: (إن هذه الطينة من عليين) 158
ص: 374
ثالثا: (إنها من طينة تحت العرش) 161
رابعا: (إنها من طينة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) 162
خامسا: أن هذه الطينة مأخوذة من الجنة والأرض 163
المسألة الثالثة: (إن محمداً وعترته خلقوا من طينة واحدة) 164
المسألة الرابعة: ما هي الحكمة في تعدد الأمكنة التي أخذت منها الطينة المسعودة لخلق أبدان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعترته 165
الوجه الأول: للتشريف 166
الوجه الثاني: لكي تجتمع خصائص هذه الأمكنة 166
المسألة الخامسة: (لا تعارض بين آية وبين أحاديث الطينة) 166
الأمر الأول: رفع طينة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء 167
الأمر الثاني: أن تكون الطينة قد أنزلت من السماء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم 168
المسألة السادسة: العلاقة بين الطينة وموضع القبر 168
المبحث الثالث: (شيعة محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلقوا من فاضل طينتهم) 170
المسألة الأولى: من هم الشيعة ؟ 170
المسألة الثانية: التفاضل في درجات الإيمان والتفاوت في درجات النفاق 172
المسألة الثالثة: من أين خلقت قلوب الشيعة ؟ 177
المسألة الرابعة: في بيان مقام «من» أهي بعضية أم جنسية ؟ وخصوصية ذلك 180
المسألة الخامسة: في بيان معنى (الفاضل من الطينة المحمدية) 182
ص: 375
توطئة 187
المسألة الأولى: تفاعل الكتاب مع حدث خلق فاطمة من ثمار الجنة 187
الأمر الأول: الاعتماد على رواية واحدة 188
الأمر الثاني: الاختلاف في وقت الإسراء 188
الأمر الثالث: الإعراض عن روايات أهل البيت عليهم السلام لا يدل على صحة المُعْرِض عنها 188
المسألة الثانية: السنة النبوية والعقل يؤكدان حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة 189
أولا: إن الأحاديث في هذا الفصل تنقسم إلى قسمين 192
القسم الأول: تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمار الجنة في الإسراء والمعراج 192
القسم الثاني: تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمار الجنة في الأرض 192
ثانيا: دور جبرائيل عليه السلام في إطعام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثار ذلك في خلق فاطمة عليها السلام 193
ثالثا: دلالة تحديد هذه الثمار 193
الأمر الأول: لأنها أحب إلى نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم 193
الأمر الثاني: تأثير خصائص هذه الثمار على الجنين 194
المبحث الأول: إنها خلقت من شجرة طوبى 195
المسألة الأولى: دلالة كثرة تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة عليها السلام 195
المسألة الثانية: ما هي شجرة طوبى ؟ 196
المبحث الثاني: إنها خلقت من سفرجل الجنة 200
الحديث الأول 200
الحديث الثاني 201
المسألة الأولى: مبحث عقائدي (رائحة الجنة) 201
ص: 376
المسألة الثانية: آثار السفرجل في الروح والنفس والجسد 203
أولا: علاقته مع الأنبياء عليهم السلام 203
ثانيا: آثارها الروحية 204
ثالثا: آثاره في المجالات النفسية 205
رابعا: آثاره في العقل 205
خامسا: آثاره الخَلقية 206
سادساً: دخول السفرجل في الأبحاث الطبية 207
المبحث الثالث: خلقها من رطب الجنة 208
الحديث الأول 208
المسألة الأولى: (القول في أن الجنة والنار مقدّرتان) 209
المسألة الثانية: آثار التمر في المجال النفسي والخلقي للإنسان 211
أولاً: آثاره الروحية والنفسية 212
ثانياً: آثاره الطبية والعلاجية 213
الحديث الثاني 214
المسألة الأولى: علة سؤال عائشة 215
المنهج الأول خلق معطيات جديدة لثقافة الشأنية 216
المنهج الثاني: التثقيف على منهج الإيمان بالآخرة 216
المسألة الثانية: شجرة طوبى تحمل أصنافاً متعددة من الفاكهة وأنها الأصل في
ص: 377
خلق فاطمة عليها السلام 218
المسألة الثالثة: بكاء الحور العين على الإمام الحسين عليه السلام قبل خلقه 219
الحديث الثالث 220
المسألة الأولى: التأكيد على حب فاطمة عليها السلام 222
المسألة الثانية: (هذه لأخيك علي بن أبي طالب عليه السلام) 223
المبحث الرابع: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة 225
الحديث الأول 225
الحديث الثاني 226
المسألة الأولى: (الحوراء الإنسية) 226
1. لأنها عليها السلام خلقت من نور الله عزّ وجلّ 227
2. لأنها عليها السلام خلقت من ثمار الجنة 227
3. لأنها عليها السلام لا ترى ما ترى النساء عند انقطاع الطهر 229
الحديث الثالث 230
المسألة الأولى: (فكأنك تريد أن تلعقها عسلاً) 230
أولا: ما هو السبب الذي جعل ابن الجوزي والذهبي يعدان هذه الرواية من (الموضوعات)؟ 230
ثانيا: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي صورة مخالفة لما صورته عائشة في فعل تقبيله لابنته فاطمة وتفسيراً جديداً 231
المبحث الخامس: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة 233
أولا: (فأصبت من ريح تلك الثمار) 233
ثانيا: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة 234
المبحث السادس: إنها عليها السلام خلقت من ثمرة شجرة من أشجار الجنة 235
ص: 378
المسألة الأولى: اعتراض ابن الجوزي على هذا الحديث 236
المسألة الثانية: (إن فاطمة ليست كنساء الآدميين ولا تعتل كما يعتلون) 237
أولاً: ما معنى: إن فاطمة ليست كنساء الآدميين ؟ 237
ثانيا: ما معنى: إنّ فاطمة عليها السلام لا تعتل كما يعتلون ؟ 240
الوجه الأول: لا يصح قياس ثمار الجنة بثمار الدنيا 244
الوجه الثاني: خصوصية بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم 246
المبحث الأول: الله تعالى يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيؤ لنزول أمر مهم 248
الحديث الأول في نزول الثمار من الجنة لإطعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 248
المسألة الأولى: لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟ 249
أولا: الاعتزال 249
ثانيا: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين 252
المسألة الثانية: جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى 257
ثانيا: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل بصورته العظمى 261
الموضع الأول: في غار حراء، يوم المبعث 261
الموضع الثاني: عند سدرة المنتهى 262
الموضع الثالث: في ليلة انعقاد النطفة الزكية لخلق فاطمة عليها السلام 262
ص: 379
ثالثا: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين 263
رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لزوجه خديجة عليها السلام 263
المبحث الثاني: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة 264
المسألة الأولى: اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة 265
المسألة الثانية: (هل لإفطار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرطب والعنب علاقة بفاطمة عليها السلام)؟! 266
الأمر الأول: لتزويد هذه الحبات العنبية من نور القناديل 267
الأمر الثاني: لما يحمل العنب من آثار متعددة في مجالات مختلفة نص عليها القرآن والسنة 268
ألف: وروده في القرآن وعلاقته بفاطمة 268
باء: التلازم بين ذكر العنب والرطب في القرآن الكريم 270
جيم: آثاره الغذائية 271
المسألة الثالثة: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟! 273
الحديث الثاني: في نزول الثمار من الجنة لإطعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 276
المسألة الأولى: (خلقها عليها السلام من عرق جبرائيل وزغبه) 278
المبحث الثالث: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة 287
المسألة الأولى: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم) 289
المسألة الثانية: (المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية) 290
المسألة الثالثة: «الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام» 292
الحديث الثاني 292
المسألة الأولى: (تعيين ليلة انعقاد النطفة الزكية النبوية لخلق فاطمة عليها السلام) 293
المسألة الثانية: (القاسم وعبد الله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام) 294
ص: 380
المبحث الأول: فاطمة عليها السلام في الأرحام المطهرة 297
أولا: رواية الشيخ الصدوق رحمه الله (المتوفى 381 ه -) 299
ثانيا: رواية الطبري رحمه الله (المتوفى 310 ه -) 302
المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها 304
أولاً: إنّ المدار في المعجزة هو التصديق بكون صاحبها ممن يرتبط بالأمر الإلهي 310
ثانياً: اعتراض الفخر الرازي أن الشاهد الذي شهد ليوسف عليه السلام لم يكن طفلاً في المهد! اعتراض يدفعه القرآن 310
المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى 313
أولاً: البشارة نهج خاص في حياة الأنبياء ويعرضه القرآن الكريم في تبشير الأنبياء السابقة 314
ثانيا: معنى أنها: النسمة، الطاهرة، الميمونة 319
المبحث الثاني: 323
المسألة الأولى: العلة في تخصيص الرفقة لآسية مع خديجة عليها السلام في الجنة 325
المسألة الثانية: هل دخول النساء على خديجة عليها السلام بسمة نساء بني هاشم له علاقة بفاطمة عليها السلام ؟! 326
المسألة الثالثة: ما المقصود من دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة ولم يبق
ص: 381
في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور؟! 327
المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين 328
المسألة الخامسة: ظهور النور الزاهر عند ولادة فاطمة عليها السلام للملائكة 329
المسألة السادسة: تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بولادة فاطمة عليها السلام 330
المسألة السابعة: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يضيف ركعة إلى صلاة المغرب شكراً لله على ولادة فاطمة عليها السلام 333
المسألة الثامنة: خصوصية تسمية البنت ب - (فاطمة عليها السلام) 334
المبحث الثالث: تاريخ ولادة فاطمة عليها السلام 338
المسألة الأولى: أقوال أهل البيت عليهم السلام في تاريخ مولد فاطمة عليها السلام 341
أولاً: تعيين سنة ولادتها عليها السلام 341
ثانياً: تعيين شهر ولادتها عليها السلام 341
ثالثاً: تعيين يوم ولادتها عليها السلام 342
المسألة الثانية: أقوال أهل العامة من المسلمين 343
أولاً: إنها عليها السلام ولدت قبل المبعث بخمس سنوات 343
السبب الأول 343
والسبب الثاني 345
والسبب الثالث 346
ثانياً: إنها عليها السلام ولدت سنة البعثة النبوية 346
ثالثاً: إنها ولدت سنة إحدى وأربعين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم 347
رابعاً: إنها عليها السلام ولدت سنة اثنتين وأربعين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم 347
خامساً: إنها ولدت سنة ثلاث بعد البعثة 347
ص: 382
سادساً: إنها ولدت سنة خمس بعد البعثة 347
المبحث الرابع: الاحتفال بعيد المولد الفاطمي 349
المسألة الأولى: البحث في مشروعية الاحتفال 351
أولاً: البدعة في اللغة 353
ثانيا: البدعة كما يراها أهل السنة 354
ألف: القول المطلق في البدعة 354
1. قول ابن رجب الحنبلي في البدعة 354
2. قول ابن حجر العسقلاني في البدعة 354
3. قول ابن حجر الهيثمي 355
4. قول التفتازاني 355
باء: القول المقيد في البدعة 355
1. قول إمام المذهب الشافعي في البدعة 355
2. وقال الشافعي أيضا في البدعة 357
3. قول ابن الأثير في البدعة 357
4. قول ابن حزم الأندلسي في البدعة 358
المسألة الثانية: أقوال علماء أهل السنة في الحث على الاحتفال بالمولد النبوي 359
1. قال الحافظ أبو الخير السخاوي في فتاواه 359
2. قال الحافظ أبو الخير بن الجزري - شيخ القراء - البغدادي الحنبلي 360
3. قال ابن الجوزي 360
4. قال العلامة ابن ظفر 360
5. قال الشيخ نصير الدين المبارك الشهير بابن الطباخ في فتوى بخطه 360
6. قال الشيخ جمال الدين بن عبد الرحمن بن عبد الملك الشهير بالمخلص الكتابي 360
7. قال الشيخ ظهير الدين جعفر التزمنتي 361
8. قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) 361
9. قال الشيخ صدر الدين موهوب بن عمر الجزري الشافعي 362
10. أول من احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم 362
11. وقال العلامة المغربي الأزهري 363
ص: 383
12. قال الهيثمي عندما تناول الحديث عن المولد 363
13. قول الحافظ ابن دحية 363
14. قول الحافظ العراقي (أبو زرعة) 364
15. قال الحافظ بن حجر العسقلاني الشافعي 364
المسألة الثالثة: ما عليه أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام في الاحتفال بيوم المولد النبوي 365
المسألة الرابعة: المرجحات في الاحتفال بعيد المولد الفاطمي على غيره من المواليد 367
المحتويات 369
ص: 384