مفاهيم القرآن المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 3

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-221-8

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الرابع

دراسة شاملة لأجر الرسالة المحمديظ ومعاجز النبي الأكرم صلی اللّه عليه وآله وسلم وكراماته وما أیير حولها من شبهات وشفاعته المقبولة

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

ص: 2

مفاهيم القرآن

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

أما بعد ،

فهذا هو الجزء الرابع من أجزاء موسوعتنا القرآنية « مفاهيم القرآن » نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، راجين منهم العفو عمّا وقع من التأخير في نشره ، وقد كان جاهزاً للطبع يوم طبع الجزء الثالث منها غير أنّه طلباً لوقوعه موقع القبول والرضا من القرّاء ، قد غيّرنا بعض مطالبه عند تقديمه للطبع في هذه الأيام ، ولنعم ما قال الكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد اللّه محمد بن حامد الأصفهاني ( المتوفّى عام 597 ه ) بدمشق : إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلاّ قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قدّم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جميع البشر.

المؤلف

ص: 5

ص: 6

كلمة قيمة تفضّل بها العلامة الحجّة المحقق والكاتب الإسلامي الكبير السيد مرتضى العسكري

كلمة قيمة

تفضّل بها العلامة الحجّة المحقق والكاتب الإسلامي الكبير

السيد مرتضى العسكري (1)

ننشرها مشفوعة بالشكر والتقدير

بسم اللّه الرحمن الرحيم

صاحب الفضيلة العالم الباحث الحجّة الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني متّعنا اللّه بطول بقائه.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

أمّا بعد ،

فقد تسلمت بيد الشكر هديتكم النفيسة وهي الجزء الأوّل والثاني والثالث من موسوعتكم المباركة « مفاهيم القرآن » وتمتعت زمناً طويلاً بمطالعتها كما تمتعت بمطالعة سائر مؤلّفاتكم ، خاصة مؤلّفاتكم في سيرة النبي والوصي ، وأريد أن أتحدّث عن اتجاهكم المحمود هذا ، وأُبدي تقديري لكم ، فقد وجدت في هذه الموسوعة القرآنية بحوثاً مقارنة أصيلة نافعة - شكر اللّه مساعيك ، وجزاك اللّه خيراً

ص: 7


1- الأستاذ العسكري علم من أعلام الأُمّة ، يدافع عن ساحة الإسلام والتشيّع بآثاره القيمة المبتكرة ، منها : « مائة وخمسون صحابي مختلق » ، « عبد اللّه بن سبأ في التاريخ » ، « معالم المدرستين » ، وغيرها.

على دأبك في بذل الجهد المتواصل ، في هذا السبيل في عصر عزّ فيه وجود الباحثين - وأخص بالذكر الجزء الثالث من تلك الموسوعة حيث وجدت فيه اختياراً موفقاً للمواضيع الهامة من حقول المعرفة القرآنية ، وأُسلوب البحث حول كل موضوع على حدة مثل : عالمية الإسلام ، وخاتمية النبي الأكرم ، وأُميته ، مع ذكر الشبهات المثارة حول تلك المواضيع ودفعها ، سواء من قبلكم أو بنقل كلمات المفسرين الإسلاميين حولها بأمانة تثير الإعجاب في عصرنا الحاضر.

نعم أنّي لا أتفق معكم في بعض ما اخترتموه في رسالة نوح وانّما أختار في ذلك رأي العلاّمة الطباطبائي قدس سره .

وفي الختام أقول : إنّ هذه الموسوعة قد طرحت على بساط البحث مواضيع هامة ينبغي أن تتناولها أقلام المفكرين الإسلاميين بالبحث والنقد وأن تُنتخب منها خلاصات تترجم إلى سائر اللغات الحية وتنشر على جماهير المسلمين لحاجتهم إلى هذه الأبواب من المعرفة.

أطال اللّه عمرك ، أيّها الأخ البحّاثة ، وأخذ بيدك في ما أنت بصدده من نشر فنون المعرفة القرآنية ، وتقبَّل منك عملك والسلام عليك من مرتضى العسكري.

مرتضى العسكري

19 / 3 / 1403 ه

ص: 8

رسالة قيمة بعثها إلينا الكاتب الكبير الأُستاذ الحجّة الشيخ سلمان الخاقاني صاحب التآليف القيمة الممتعة ، حيّاه اللّه وبيّاه

بسم اللّه الرحمن الرحيم

معرفتي بالأستاذ العلاّمة الحجّة الشيخ جعفر السبحاني لم تكن حدثاً جديداً ، فقد عرفته منذ أكثر من عشرين عاماً من خلال كتبه العلمية التي جاوزت العشرات في جميع نواحي الدين والعلم.

وفي عام 1395 ه حمل إلي البريد كتاباً من بعض أصدقائي الأعزّاء القاطنين بطهران يحمل اسم « مفاهيم القرآن » وهو من تأليف صديقنا الأستاذ السبحاني ، وقد تصفّحته فأعجبت به ، وزاد إعجابي بمؤلّفه ، وعرفت أنّه ذو مواهب عالية ، وزاد كل ذلك معرفتي به ، وحمدت اللّه على أن جعل في مجتمعنا من يخدم اللغة العربية والقرآن والحديث بقوّة واقتدار كما خدمها سلفنا الماضي.

وقد مرّت على هذه الأحاسيس سنوات وأنا في دار هجرتي قم يدخل عليَّ صديقنا السبحاني زائراً ومواسياً ومتلطفاً ويهدي إلي الجزء الآخر من تلك الموسوعة القرآنية ، وهو « معالم التوحيد في القرآن الكريم » وهي محاضرات كتبت بقلم أحد تلامذته النجباء الأوفياء.

ص: 9

وقد تناولت الكتاب بالبحث فوجدت فيه مواضيع مفيدة يحتاج إليها كل فرد مسلم ، يريد أن يعرف حقائق الدين المبين.

واستوقفني من تلك المواضيع موضوعه الأخير الحاكمية ، ولمن تكون.

أقول : استوقفني هذا الموضوع لأنّه من المواضيع الهامة التي نُشرت حوله رسائل وكتابات.

وليس قولي - استوقفني هذا الموضوع - أنّ غيره لا يستحق الوقوف ، لا ، ففي مواضيع الكتاب مباحث نافعة ومفيدة لكل من يريد الوقوف.

وإلى الأستاذ العلاّمة الشكر والامتنان في اخراج هذه التحف ، وأرجو لكتابه هذا ، بل ولجميع كتبه ، الرواج والانتشار وليتقبل هو قولي مخاطباً له :

لقد أحسنت يا جعفر *** فلتهنأ بإحسان

لما فصلت من آي *** لتوحيد وعرفان

وما بينت من شرح *** على آيات قرآن

فأنت الكاتب الفذ *** بإخلاص وإيمان

لقد سبحت تمجيداً *** بإسرار وإعلان

إلى من يهب العقل *** ويغني المملق العاني

ويهدي التائه الضال *** لذا لقبت « سبحاني »

ألا فاقبل أخا الفضل *** نشيد المخلص الجاني

ربيع المولود 1403 ه *** سلمان الخاقاني النجفي

ص: 10

خطاب تفضّل به العلاّمة الحجة الحكيم المتألّه الشيخ حسن الآملي ( دام ظله الوارف )

اشارة

ننشره مشفوعاً بالشكر والتقدير

بسم اللّه الرحمن الرحيم

( ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )

سماحة العلم الآية العلاّمة العبقري الشيخ جعفر السبحاني متعنا اللّه بطول بقائه.

بعد التحية والسلام :

سلام كمثل الروض باكره الصبا *** فصادف ريحاناً ونوراً مفتقاً

أنّه سبحانه كتب على نفسه وأخبر في كتابه بقوله : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) فهو سبحانه يقيّض في كل دور وكور أعلاماً يهتدى بهم ، ويستضاء بنور هداهم ، فقد عرَّفهم وليّ ذي الجلال ، زارع المعارف في مزارع القلوب في خطابه الفصل الملقى إلى كميل الكامل الباخع النخعي بقوله : « يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته ، حتى يودعها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم ».

وأنتم - بحمد اللّه سبحانه - ممن حذا حذو هؤلاء ، وتتلمذ في مدرستهم

ص: 11

وتعرّف على مناهجهم ، فلأجل ذلك أخرجتم إلى المجتمع الإسلامي تفسيركم الموضوعي لحبل اللّه : « القرآن الكريم » في حلقات عديدة ، وقد حالفني التوفيق لأقف على أجزاء منها تتناول موضوعات قرآنية هامة كأنّما هي نسمات أُنس هبّت من حظائر القدس ، وقد تجلّى فيها القرآن بمفاهيمة ومعالمه للّذي قد جاء في طلب القبس.

رزقنا اللّه وإيّاكم فهم الخطاب الإلهي وأسأله سبحانه غرة جدّكم ، وعزة جداكم ، والحمد لله الذي فضّل مداد العلماء على دماء الشهداء.

تحريراً في 24 / شعبان المعظم / 1403 ه

قم : حسن الآملي

ملحوظة :

هذا ما سمح المجال بنشره مما تفضّل به الأساتذة حول كتابنا « مفاهيم القرآن » وقد نشرناها مشفوعة بالشكر والتقدير ، وسوف نقوم بنشر بعض الرسائل والكتب الأُخرى التي وصلتنا من قادة الفكر وأرباب القلم في الجزء الآتي إن شاء اللّه تعالى.

المؤلف

ص: 12

مقدمة المؤلف

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الإيمان بالغيب في الكتاب العزيز

الإيمان بالغيب عنصر أساسي في جميع الشرائع السماوية ، والشرط الرئيسي في التديّن بالدين الإلهي على الإطلاق ، بحيث لو انتزع هذا العنصر من برامج الدين لأصبح الدين دستوراً عادياً يشبه الدساتير والآيديولوجيات المادية البشرية ، ونظاماً لا يمت إلى الدين الإلهي بصلة.

ولأجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يعد الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتصف بها المتقون إذ يقول سبحانه في الآية الثالثة من سورة البقرة : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (1).

والمراد من « الغيب » هو ما يقابل الشهادة ، ومن أجل مصاديقه : الروح والملائكة ، والجن والمعاجز ، والكرامات ، والوحي ، والبرزخ ، والقيامة ، وما يرجع إلى اللّه تعالى من ذاته وصفاته.

ولا يشك أحد في أنّ تجريد الدين من هذه الأمور ومن الاعتقاد بها يوجب أن يصبح الدين نظاماً مادياً ، ومبدأً بشرياً كسائر الأنظمة والمبادئ والبرامج البشرية الأرضية.

ص: 13


1- البقرة : 3.

وقد كان أصحاب الشرائع ، وأنصارها ، وفي مقدمتهم علماء الإسلام ، وكتابهم محتفظين بهذا الأصل ، معتصمين به أشد الاعتصام ، مؤكدين عليه في كتاباتهم غاية التأكيد باعتباره ميزة الشرائع الإلهية ، وقوامها ، والفارق الجوهري بينها وبين الأنظمة والآيديولوجيات الأرضية البشرية.

غير أنّ الحضارة المادية الحديثة التي اعتمدت على الحس والتجربة ، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية ، أدهشت بعض المفكرين المسلمين ، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب باعتباره عنصراً أساسياً في الدين ، وبين الحضارة المادية الحديثة التي لا تعتمد إلاّ على الحس والتجربة ، وربّما لم يتجرّأوا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية ، فلم يقدروا على الانحياز إلى أي واحد من الطرفين ، فلو صاروا إلهيين مطلقاً لوجب عليهم مقابلة الماديين المنكرين لعالم الغيب ، ولو انحازوا إلى جانب الماديين لانخرطوا في صفوف الملحدين ، ولذلك اختاروا طريقاً وسطاً ، وهو تأويل بعض ما ورد في مجال الغيب عامّة ، والمعاجز والكرامات خاصة ، وزعموا أنّهم يستريحون بهذا التأويل ، ويرضون كلتا الطائفتين.

وممن سلك هذا الطريق بعض السلوك الشيخ المصلح « محمد عبده » والسيد سير « أحمد خان » الهندي ، و « طنطاوي جوهري » ، وتلامذة هذه المدرسة.

ولكي لا يحمل القارئ كلامنا هذا على القسوة والتحامل على أحد نأتي فيما يلي بنماذج من كتابات أصحاب هذه المدرسة ، ونختارها ممّا كتبه السيد محمد رشيد رضا منشئ « المنار » تقريراً لدروس الأستاذ الامام الشيخ « محمد عبده » في التفسير ، ونكتفي - في هذا الاقتباس - على ما ضبطه حول سورة البقرة فقط ، ونحيل البحث المفصّل حول هذا التفسير المنشور في أحد عشر جزءاً إلى وقت آخر.

ص: 14

النموذج الأوّل

قوله سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

لا شك أنّ المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت ، والخطاب لليهود المعاصرين للنبي صلی اللّه علیه و آله باعتبار أحوال أسلافهم ، ولا يفهم أيُّ عربي صميم من لفظة : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) غير هذا إلاّ أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل ، أي أنّه بعدما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون ، بارك اللّه في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها (2).

ولم يكن هذا التفسير من الأستاذ إلاّ لأجل أنّ الاعتراف بالإحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسّي والتجربة ، فلأجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى ، وما أظن أنّ الأستاذ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية الكثيرة في القرآن الكريم.

النموذج الثاني

لقد كتب الأستاذ في تفسير قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا

ص: 15


1- البقرة : 55 - 56.
2- تفسير المنار : 1 / 322.

خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) (1). ما يلي :

إنّ السلف من المفسرين - إلاّ من شذّ - ذهب إلى أنّ معنى قوله : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين.

وحيث كان هذا المعنى يصطدم بالاتجاه المادي ولا تصدقه أنصار الحضارة المادية الذين ينكرون إمكان صيرورة الإنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة ، عمد الأستاذ إلى تأويل هذه الآية ، وتفسيرها على النحو والنهج الجامع بين الاتجاهين المادي والديني !!

فمع أنّه نقل عن الجمهور أنّ معنى الآية أنّ صورهم مسخت فأصبحوا قردة على الحقيقة والواقع ، نجده ينحاز إلى رأي مجاهد الذي قال : ما مسخت صورهم ، ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة ، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) . (2)

ثم قال : ومثل هذا قوله تعالى : ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) . (3) وقال : الخسوء هو الطرد والصغار ، والأمر للتكوين ، أي فكانوا بحسب سنّة اللّه في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس.

ثم أخذ في رد قول الجمهور ، وقال : ولو صح - ما ذكره الجمهور - لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة ، لأنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ اللّه لا يمسخ كلَّ عاص ، فيخرجه عن نوع الإنسان ، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه ، وإنّما العبرة الكبرى في العلم بأنّ من سنن اللّه تعالى في الذين خلوا من قبل : أنّ من يفسق عن أمر ربّه ويتنكب الصراط الذي شرّعه له ، ينزل عن مرتبة الإنسان ، ويلتحق

ص: 16


1- البقرة : 65 - 66.
2- الجمعة : 5.
3- المائدة : 60.

بعجماوات الحيوان ، وسنّة اللّه تعالى واحدة ، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية.

إلى أن قال : فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة (1).

ونحن لسنا - هنا - في صدد تفسير الآية وتوضيح مفادها ، غير أنّه - إيقافاً للقارئ الكريم على الحقيقة - نلفت نظره إلى أُمور تثبت ما نسبناه إلى هذه الجماعة من موقف خاص تجاه المعاجز والكرامات وما شاكلها ، وهذه الأمور هي :

أوّلاً : أنّ المشهود من تفسير صاحب المنار أنّه مقلّد قوي للسلف في أكثر الموارد والمجالات ، فلماذا عدل في هذا المضمار ، واختار القول الشاذ ، أعني : قول مجاهد ؟!

ثانياً : كيف رضيت نفسه أن يفسر الآية بمثل قوله سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ... ) مع أنّ المذكور في تلك الآية إنّما هو على سبيل المثل ، فإنّ لفظة « مثل » تنادي بأنّ حالهم - في عدم الفهم والانتفاع بالتوراة - كمثل الحمار الحامل للكتب والأسفار من دون فهم لما فيها ، لا أنّهم حمر بالهيئة والصورة والحقيقة ، وهذا بخلاف ظاهر الآية الحاضرة ، فإنّها بظاهرها حاكية عن أنّهم صاروا قردة حقيقيّين لا أنّهم صاروا مثلهم مثل القردة ؟!

ثالثاً : لماذا غفل الأستاذ عما ورد في تلك القصة في سورة الأعراف من قوله سبحانه : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوا عَن مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (2).

ص: 17


1- تفسير المنار : 1 / 343 - 345.
2- الأعراف : 165 - 166.

أفيمكن تفسير الآية - حينئذ - بغير ما اختاره جمهور المفسرين من صيرورتهم قردة حقيقيّين ، وأي عذاب بئيس أشدّ من صيرورة الإنسان بصورة القردة المطرودة !!

رابعاً : أنّ ما ردّ به نظرية الجمهور من أنّه لا يكون المسخ الصوري موعظة للعصاة ، لأنّهم يعلمون - بالمشاهدة - أنّ اللّه لا يمسخ كلّ عاص ... إلى آخر كلامه ، مردود بوجهين :

الأوّل : أنّه لو صح ذلك لوجب تأويل جميع ما ورد في القرآن الكريم من الإبادة والإهلاك بالخسف والإمطار بالحجارة ، والغرق ، والريح ، وغير ذلك مما وقع بالأمم السالفة عقاباً وعبرة للآخرين ، وذلك مثل قوله سبحانه : ( وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيماً ) (1) ، ومثل قوله سبحانه في شأن فرعون : ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَى ) (2).

إنّه سبحانه يصرح في الآية الأُولى والثانية بأنّه إنّما فعل ما فعل بقوم نوح وبفرعون ليكونوا عبرة للآخرين ، وتذكاراً.

على أنّ اللّه سبحانه يذكر نظير ذلك في سورة هود ، وذلك عندما يستعرض قصص من أرسل إليهم الأنبياء وأنّهم كذبوهم ، فأصابهم اللّه بشتّى ألوان العذاب والإهلاك ، وذلك مثل قوم نوح ، وقوم عاد ، وقوم ثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وقوم فرعون ، ثم يختم هذا الاستعراض المفصل بقوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ

ص: 18


1- الفرقان : 37.
2- النازعات : 24 - 26.

مَشْهُودٌ ) (1).

إنّه تعالى يصرح بأنّ كل ما نزل بالأمم السابقة من العذاب والإهلاك إنّما ذكر ليكون عبرة ، وآية للناس ، وعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه بأنّه كيف يكون عبرة وآية للناس مع أنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ اللّه لا يؤدب الأمة المحمدية بما أدّب به الأمم السالفة ؟!

الثاني : أنّ كون هذه القضايا وسيلة للعبرة والاعتبار لا يستلزم أن تتحقّق تلك العقوبات بعينها في حق العصاة والطغاة في الأمم اللاحقة ، بل يكفي - في ذلك - أن تدل على أنّ اللّه لهم بالمرصاد ، فهو لا يترك الظالم بلا عقاب ، ولا يفوته العصاة دون أخذ.

إنّ الأخذ والعقوبة يختلف حسب مشيئة اللّه وإرادته ، ولا يلزم أن تكون العقوبة متحدة النوع مع العقوبات السابقة حتماً.

وهذه هي الحقيقة التي تؤكدها الآيات ( 10 - 14 ) من سورة الفجر إذ يقول سبحانه : ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (2).

النموذج الثالث

لقد قصّ اللّه سبحانه في سورة البقرة قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها إذ قال : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) إلى أن قال : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ

ص: 19


1- هود : 102 - 103.
2- الفجر : 10 - 14.

يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).

ومجمل القصة هو أنّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه ، وأخفى قتله له ، فرغب اليهود في معرفة قاتله فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعضها ليحيا ، ويخبر عن قاتله.

ولقد بيّن اللّه لنا في هذه القصة لجاجة بني إسرائيل ورفضهم للطاعة ، وانحرافهم عن منهج اللّه ، ونتائج ذلك في نفوسهم ومجتمعاتهم حيث آل أمرهم في هذه الواقعة - إلى أن يضطروا إلى ذبح البقرة - وبعد ما ذبحوها أمرهم اللّه سبحانه أن يضربوه ببعضها ( أي يضربوا المقتول ببعض البقرة ) حتى يحيا ويخبر عن قاتله.

وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية ، وهو صريح قوله سبحانه : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى ) .

وأمّا الأُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فهو بعد أن نقل رأي الجمهور قال : قالوا : إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة ، وقال : قتلني أخي ، أو ابن أخي فلان. قال : والآية ليست نصّاً في مجمله فكيف بتفصيله.

ثم فسّر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله ، فالواجب أنّ تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي ، ويقولون : إنّ أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل ، ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل ، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل ، ويراد بذلك حقن الدماء.

ثم قال : وهذا الإحياء على حد قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ ) (2).

ص: 20


1- البقرة : 67 - 73.
2- البقرة : 179.

ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس (1).

وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ( كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى ) فهل كان في غسل الأيدي على البقرة المكسورة العنق ، ضرب المقتول ببعض البقرة ؟! هذا أوّلاً.

وأمّا ثانياً : كيف استند الأستاذ - في تفسير الآية الحاضرة - بما ورد في التوراة ، مع أنّ المشهود منه أنّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة ، ويصفها بالإسرائيليات والمسيحيات ، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرف.

وليس هذا التفسير - في حقيقته - إلاّ لأجل ما اتخذه الأستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات ، وخوارق العادة ، وغير ذلك مما يرجع إلى عالم الغيب.

النموذج الرابع

قال اللّه سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) (2).

ذهب الجمهور إلى أنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو من الجهاد ، فأرسل عليهم الموت ، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم

ص: 21


1- تفسير المنار : 1 / 345 - 350.
2- البقرة : 243.

فراراً منه ، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابهم ثم أحياهم ، لمصالح وغايات أُشير إليها في الآية.

هذا هو ما ذهب إليه الجمهور ، ولكن الأستاذ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل ، وانّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم ، فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، لهم كثرة وعزة حذر الموت ، فقال لهم اللّه : موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت ، والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي وتمكن الأعداء ، منهم ، وبقوا أمواتاً ثم أحياهم بإلقاء روح النهضة ، والدفاع عن الحق فيهم ، فقاموا بحقوق أنفسهم ، واستقلّوا في أمرهم (1).

ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ تفسير الأستاذ هذا نابع من موقفه المسبق حول خوارق العادة والكرامات والمعجزات وذلك :

أوّلاً : أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة « المثل » كما هو دأبه سبحانه في الأمثال القرآنية ، مثل قوله : ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ) (2). وقوله تعالى : ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) (3). وقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (4).

فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية ، تفسير بلا شاهد ، وتأويل بلا دليل.

ثانياً : لو كان المراد من الموت هو موت الخزي والجهل ، ومن الحياة روح النهضة والدفاع عن الحق ، فحيث إنّ المفروض أنّهم قاموا بحقوق أنفسهم

ص: 22


1- تفسير المنار : 2 / 458 - 459.
2- البقرة : 17.
3- يونس : 24.
4- الجمعة : 5.

واستقلوا بأمرهم ، وجب أن يمدحوا ، ويذكروا بخير ، مع أنّه سبحانه يقول في ذيل الآية ذاماً لهم : ( إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) .

والعجب أنّ الأستاذ ردَّ نظرية الجمهور بقوله سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلا المَوْتَةَ الأُولَى ) (1) قائلاً بأنّه لا معنى لحياتين في هذه الدنيا (2).

والجواب : أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين ، بل هي حياة واحدة ، أيضاً ، وإلاّ فماذا يقول في أصحاب الكهف الذين ضرب اللّه على أسماعهم ثلاثمائة سنة انقطعوا فيها عن هذه الحياة ثم رجعوا إليها ، والسبات على طائفة بمدة ثلاثمائة سنة ، لا تقصر عن الموت ، بل هو والموت سواسية.

ولو قال بأنّ ظاهر الآية انّ الناس لا يذوقون إلاّ موتة واحدة ، وعلى هذا التفسير فهؤلاء ذاقوا الموت مرتين.

فجوابه : أنّ مشيئته سبحانه هو أن لا يذوق الانسان إلاّ موتة واحدة ، إلاّ إذا كانت هناك مصالح توجب تعدد الموت ، مثل قوله سبحانه : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) . (3) وقوله : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) (4). وليست الآية راجعة إلى يوم البعث ، فإنّه يحشر فيه جميع الناس والأمم جمعاء لا فوج منهم.

النموذج الخامس :

قال اللّه سبحانه : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ

ص: 23


1- الدخان : 56.
2- تفسير المنار : 2 / 458 - 459.
3- غافر : 11.
4- النمل : 83.

يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَبِثْتَ مائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1).

ذهب الجمهور إلى أنّ الرجل المذكور في الآية كان من الصلحاء عالماً بمقام ربّه ، مراقباً لأمره ، بل كان شخصاً مكلَّماً كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ) فخرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته التي كان بها ، والدليل على ذلك خروجه مع حمار يركبه وحمله طعاماً وشراباً يتغذى بهما ، فلما صار إلى ما كان يقصده مرّ بالقرية التي ذكر اللّه أنّها كانت خاوية على عروشها ، ولم يكن قاصداً نفس القرية ، وإنّما مرّ بها مروراً ثم وقف معتبراً بما شاهده من القرية الخربة قائلاً كما يحكيه عنه سبحانه : ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) مستعظماً - بذلك - الإحياء بعد طول المكث في القبور ورجوعهم إلى حياتهم الأولى ، فأماته اللّه سبحانه ثم بعثه.

وقد كانت الإماتة والإحياء في وقتين مختلفين من النهار ، واستفسر عنه سبحانه بقوله : ( كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فردّ اللّه سبحانه عليه بقوله : ( بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) فرأى من نفسه أنّه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم ، فكان في ذلك جواب ما استعظمه من إمكان الإحياء بعد طول المكث.

ولكن الأستاذ فسر « الموت » في الآية بالسبات ، وهو أن يفقد الموجود الحي ، الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدّة من الزمان ، أياماً أو شهوراً ، أو سنين ، كما أنّه الظاهر من قصة أصحاب الكهف ، ورقودهم ثلاثمائة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة فالقصة تشبه القصة (2).

ص: 24


1- البقرة : 259.
2- تفسير المنار : 3 / 49 - 50.

وأنت تعرف أنّ تفسير الموت ب « السبات » ناشئ من موقف مسبق في هذا النوع من الموضوعات ، مع كونه خلاف ظاهر ( فَأَمَاتَهُ اللّهُ ) وهو ظاهر في الموت الحقيقي المتعارف دون السبات الذي ابتدعه الأستاذ ، وقياسه على أصحاب الكهف قياس مع الفارق ، حيث إنّه سبحانه يصرح هناك بالسبات بقوله : ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) (1).

ثم إنّه ارتكب مثل هذا التأويل في قوله سبحانه : ( وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ) ، فمن أراد الوقوف عليه فليرجع إلى تفسيره.

النموذج السادس :

وليس ما ذكر هو الخطأ الأخير الذي وقع فيه الأستاذ في تفسير سورة واحدة ، وهي سورة البقرة ، فقد ارتكب مثل هذا التأويل البارد أيضاً في تفسير قول اللّه سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2).

فقد ذهب الجمهور إلى أنّ إبراهيم طلب من ربّه أنْ يطلعه على كيفية إحياء الموتى ، فأمره اللّه تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعها أجزاء ويفرّقها على عدّة جبال هناك ثم يدعوها إليه فتجيئه ، وأنّه علیه السلام قد فعل ذلك.

ولكن الأستاذ اتخذ رأياً خاصّاً نقل عن أبي مسلم أيضاً ، وهو : أنّه ليس في الآية ما يدل على أنّ إبراهيم علیه السلام فعل ذلك ، وما كل أمر يقصد به الامتثال ، فإنّ

ص: 25


1- الكهف : 11.
2- البقرة : 260.

من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر لا سيما إذا أُريد زيادة البيان ، كما إذا سألك سائل كيف يصنع الخبز ؟ مثلاً فتقول : خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن خبزاً ، تريد هذه كيفيته ، ولا تعني تكليفه صنع الخبز بالفعل ، وفي القرآن كثير من الأمر الذي يراد به الخبر ، والكلام ها هنا مثل لإحياء الموتى.

ثم إنّه جاء بتفسير عجيب للآية ، إذ قال : معناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك ، وآنسها بك حتى تأنس ، وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشد الحيوانات استعداداً لذلك ، ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فانّها تسرع إليك ، لا يمنعها تفرّق أمكنتها ، وبعدها عن ذلك ، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم بكلمة التكوين « كونوا أحياء » فيكونوا أحياء ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة (1).

ثم إنّ الأستاذ اختار هذا المعنى قائلاً : إنّ تفسير أبي مسلم هو المختار !!

نحن لا نرد على هذا النظر بما في إمكاننا ، غير أنّا نكتفي في إبطال هذا التفسير بأنّه سبحانه قال في الآية : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ) ولم يقل : واحداً منها ، وعلى ما ذكره يجب أن يقول : واحداً.

فإذا كان هذا هو مسلك الأستاذ الذي كان يعيش في بيئة علمية دينية تؤمن بالسنن والصحاح والمسانيد ، وموقفه من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فكيف يكون يا تُرى موقف الجدد من الكتّاب الذي تأثروا بالحضارة الغربية المادية والأفكار الإلحادية الواردة من الشرق والغرب فصاروا إلى تأويل هذه المعاجز والخوارق على هذا النمط ، أسرع وأميل ؟!

ص: 26


1- المنار : 3 / 54 - 56.

إنّ هذا الأمر هو الذي دفع بنا إلى أن نجعل البحث في هذا الكتاب حول المعاجز والكرامات الواردة للنبي الأكرم في القرآن ، وأنْ نشبع الكلام فيه ، وأنْ نقوم في وجه المعاندين الذين جعلوا بعض الآيات القرآنية ذريعة إلى نفي أن يكون لنبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله معاجز غير القرآن ، آملين أن ينتفع به الجيل الحاضر كما انتفع بالأجزاء السابقة ، ويقوى به إيمانه ليكون ممن يشمله قوله : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) واللّه المستعان.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

15 شعبان المعظم من شهور عام 1405 ه

ص: 27

ص: 28

1

أجر الرسالة المحمدية في القرآن الكريم

اشارة

ص: 29

في هذا الفصل :

1. توضيح المراد من « المودة في القربى » حسب معاجم اللغة العربية ، وفهم السلف من الأمّة.

2. التوفيق بين مفاد الآية المثبتة للأجر للنبي صلی اللّه علیه و آله المطلوب من الأمّة ، والآيات النافية له بتاتاً.

3. كيف يعود هذا الأجر إلى الناس أنفسهم دون النبي صلی اللّه علیه و آله كما هو صريح قوله سبحانه : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) ؟

4. هل المستثنى في الآية هو المستثنى في قوله سبحانه : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) ؟

5. حال الأقوال الشاذة التي ربّما يذكرها المفسرون حول الآية.

6. نقل بعض ما رواه الفريقان من المأثورات حول الآية.

ص: 30

شعار الأنبياء في طريق دعوتهم هو ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ )

إنَّ أخلص الأعمال وأطهرها من شوائب المادية ما يكون الدافع إلى الإتيان بها وجه اللّه سبحانه وكسب مرضاته ، وامتثال أمره ، وإطاعة فرضه ، ولو أردنا أن نأتي بمثال ، أو نعرض نموذجاً ، فعمل الأنبياء ودعوتهم إلى إصلاح المجتمع خير مثال ونموذج له.

وقد اتفقت كلمة الأنبياء في هتافاتهم على أنَّهم يبلغون رسالات اللّه تطوعاً وطلباً لمرضاة اللّه ، ولا يسألون الناس أجراً ولا جزاء ، حتى صار ذلك شعاراً لهم.

وقد ورد هذا المضمون في قولهم الذي حكاه اللّه عنهم في قرآنه الكريم ، إذ قال :

( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ ) (1).

وقد أمر اللّه سبحانه نبيه الكريم أن يقول :

( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (2).

وقد أصبح هذا الشعار يعرف به النبي عن غيره ، ويميّز به المبعوث من جانبه سبحانه عن المبعوث من جانب نفسه ونفسانياته أو من جانب غيره.

ص: 31


1- انظر سورة الشعراء : الآيات : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
2- الفرقان : 57.

ويشهد على ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة داعياً الناس أن يتبعوا المرسلين ، لأنهم مبعوثون من جانبه سبحانه بشهادة أنّهم لا يسألون أجراً في دعوتهم ، قال سبحانه :

( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (1).

ثم إنَّ رفضهم الأجر في تبليغ أوامره سبحانه كان لأجل أمرين :

1. أنّ ما قام به الأنبياء من الخدمة للناس أعلى وأنبل من أن يقوّم بالدراهم والدنانير ، أو بالمناصب والمقامات الدنيوية ، فأي شيء يساوي إنقاذ الناس من الخضوع للحجر والمدر ، والأشكال والصور والخوض في قبائح الأعمال ، ورذائلها مما يحطم السعادة الإنسانية ويجلب للبشر الشقاء والانحطاط ؟

أم ترى بماذا يقوّم إنقاذ الأمم مما كانت عليه قبل بعث الأنبياء من الفتك والقتل ووأد البنين والبنات ، وشن الغارات ، وقطع الرحم وأكل الميتة والجيف ، وغير ذلك من الفظائع الشائعة في الأمم الجاهلة ، والمتفشية في الأقوام المنحطة.

وتوقفك على قيمة أعمالهم ، وخدماتهم التي قدموها إلى المجتمع الإنساني ملاحظة البيئات التي لم يبلغ إليها نور النبوة ودعوة الأنبياء ، فهم على وحشيتهم الأولى ، وجاهليتهم الجهلاء ، فما صعدوا مرقاة الكمال درجة واحدة.

فإذا كان العمل هذه قيمته ، وهذه نتيجته فلا يصح تقويمه بزخارف الدنيا ، وملاذ الحياة ، وخاصة إذا لاحظنا أنّ عمل الأنبياء في مجال الدعوة كان مقروناً بالتضحية ، وبذل النفوس والأموال ، وترك الأوطان ، وتحمّل الشدائد والمصائب والدفاع عن الرسالة بأفلاذ أكبادهم ، فهل يمكن أن تقدّر تلكم التضحيات الجسام بالدراهم والدنانير ، أو بالمناصب والمقامات ؟!

ص: 32


1- يس : 20 - 21.

2. انّ الدافع إلى قيامهم ودعوتهم كان هو امتثال أمره سبحانه وتعالى ، وما كان كذلك فاللّه سبحانه أولى بأن يرجى منه الأجر والجزاء لا غيره ، فهؤلاء الرسل كانوا يقومون بأفضل خدمة للبشرية امتثالاً لأمره سبحانه ، وتنفيذاً لإرادته من غير أن يتوقعوا من سواه أجراً ولا جزاءً.

ولأجل ذلك نجد شيخ الأنبياء نوحاً يهتف في قومه بقوله :

( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ) (1).

وبقوله :

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) . (2)

ونجد هوداً يهتف في قومه بقوله :

( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (3).

وهذا نبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله يأمره سبحانه بالإجهار بذلك الهتاف - عدم سؤاله أجراً - بجمل وتعابير مختلفة نأتي بالجميع :

أ. ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (4).

ص: 33


1- يونس : 72.
2- هود : 29.
3- هود : 51.
4- ص : 86 - 87.

ب. ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (1).

ج. ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِن مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) (2).

ويعود سبحانه ينبّه نبيّه بأنّه قد أعد له أجراً عارياً عن المنّة ويقول :

( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) (3).

فأجره سبحانه عار وخال عن كل منّة بخلاف الأجر المتوقع من الناس ، فإنّه مقرون بها.

هذا حال الآيات الواردة في أجر الرسالة ، وهي بكلمة واحدة تنفي الأجر الموضوع على عاتق الناس.

والمراد من الأجر المرفوض هو الأجر الدنيوي الذي يتنافس فيه الناس ويتخاصمون في تحصيله من المال والثروة والمناصب والمقامات.

ويدل على ذلك وضع المال مكان الأجر في كلام نوح ، حيث قال :

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ ) (4).

فالأجر المنفي والمرفوض بتاتاً هو ذلك الأجر الدنيوي بلا إشكال.

نعم يظهر من سورة الشورى أنّه سبحانه استثنى من الأجر المنفي أجراً واحداً وهو المودة في القربى حيث يقول : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (5).

كما أنّه سبحانه استثنى في سورة الفرقان من الأجر المرفوض أمراً ربّما يتوهم

ص: 34


1- الأنعام : 90.
2- الطور : 40 ، والقلم : 46.
3- القلم : 3.
4- هود : 29.
5- الشورى : 23.

تغايره مع ما سأله في سورة الشورى قال سبحانه :

( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (1).

ثم إنّه سبحانه قد أخبر في آية ثالثة بأنّ الأجر الوارد في هاتين الآيتين يرجع بالنتيجة إلى الناس أنفسهم لا إلى النبي نفسه ، كما قال سبحانه :

( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2).

ولأجل الإجابة على هذه الأسئلة ورفع الستار عن وجه الحقيقة في هذا المجال يقع البحث في مقامات هي :

الأوّل : ما المراد من المودّة في القربى التي جعلها اللّه سبحانه في ظاهر الآية أجراً للرسالة ؟

الثاني : كيف يمكن التأليف والتوفيق بين هذه الآية والآيات النافية للأجر بتاتاً ؟

الثالث : كيف يعود نفع هذا الأجر إلى الناس أنفسهم دون النبي صلی اللّه علیه و آله ؟

الرابع : هل المستثنى في قوله : ( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) هو المستثنى في قوله : ( إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) أو غيره ؟

الخامس : حال الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) .

السادس : سرد الروايات والمأثورات التي رواها الفريقان في تفسير الآية.

وإليك البحث في المقام الأوّل :

ص: 35


1- الفرقان : 57.
2- سبأ : 47.

المقام الأوّل: ما هو المراد من ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ؟

اشارة

قبل كل شيء نلفت نظر القارئ إلى أمرين :

الأوّل : أنّه لا مجال للشك في أنّ هذه الآية كانت واضحة المفهوم ، بيّنة المراد عند نزولها ، ولم تكن تشير إلاّ إلى معنى واحد.

الثاني : أنّه لا شك في أنّ السلف هم أفضل من يمكن الرجوع إليهم في تفسير مفاد الآية لقرب عهدهم بعصر الرسالة.

وعلى هذين الأمرين نبدأ بتفسير الآية ، ولنقدم عرض مفرداتها على معاجم اللغة ، وفي محاولتنا لعرضها على اللغة لا تمس الحاجة إلى البحث إلاّ عن كلمتين وهما : ( المَوَدَّةَ ) و ( القُرْبَى ) .

أمّا كلمة « المودَّة » : فقد اتفقت كتب اللغة والقواميس على أنّها لا تعني إلاّ شيئاً واحداً ، وهو : المحبة ، فإذا قيل فلان يودّ فلاناً معناه : أنّ فلاناً يحب فلاناً.

يقول ابن فارس في مادة ود : « الود » أي الحب ، وددته أي أحببته.

ثم قد تأتي كلمة الود بمعنى الحب مع التمني ، كما لو قيل وددت أنّ ذلك كان : إذا تمنيته.

ويقول الفيروزآبادي في قاموسه في باب ود : « الود » و « الوداد » تعني « الحب ».

ص: 36

هذا ولم يذكر صاحب القاموس أنّ الود قد يستعمل في الحب مع التمني.

وأمّا كلمة « القربى » : فكتب اللغة ومعاجمها متفقة على أنّها تعني القرابة والوشيجة الرحمية لا غير.

يقول ابن فارس في مادة « قرب » : القربى القرابة ، وفلان قريبي وذو قرابتي.

ويقول الفيروزآبادي في مادة « قربى » : والقربى ، القرابة وهو قريبي وذو قرابتي.

ويقول الزمخشري في الكشاف : « القربى » مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة ، والمراد أهل القربى (1).

وفي المنجد : « القربى » و « القربة » - بضم الراء - والقرابة ، القرابة في الرحم.

فاتضح من هذه النصوص أنّ المراد من القربى هو الرابطة النسبيّة بين شخصين ليس غير.

ويؤيد ذلك أنّ المتبادر من هذه الكلمة في الموارد التي استعملها القرآن ليس إلاّ ذلك المعنى الواحد الذي تصافقت عليه كتب اللغة ، ولم تعرف له بديلاً.

وإذا استعملت هذه الكلمة في غير ذلك المعنى أحياناً فلابد من اعتباره معنى شاذاً بعيداً عن الأفهام العرفية ، ولا يصح لنا الأخذ به مطلقاً.

نعم انّ كلمة « القربى » استعملت في القرآن بضميمة مضاف في مواضع ، وبدونها في مواضع أُخرى ، وقد وردت كلمة القربى في القرآن (15) مرة ، (2) ما عدا الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وإليك بعض الآيات التي وردت فيها كلمة « القربى » وهي تقصد القرابة الرحمية ليس غير :

ص: 37


1- الكشاف : 3 / 81.
2- لاحظ : سورة البقرة الآية : 83 و 177 ، النساء : 8 و 36 ، المائدة : 106 ، الأنعام : 152 ، الأنفال : 41 ، التوبة : 113 ، النحل : 90 ، الإسراء : 26 ، النور : 22 ، الروم : 38 ، فاطر : 18 ، الحشر : 7. وقد تكرّرت الكلمة في الآية 36 من سورة النساء مرتين.

( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى ) (1).

( وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى ) (2).

( وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ) . (3)

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) (4).

ماذا فهم الأوائل من ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ؟

قد تبين ممّا أوردناه من كلمات اللغويين مفاد مفردات الآية ، ويجب الآن أن نبيّن ما هو المقصود من هذا التركيب.

فنقول : إنّ جمهور العلماء والأدباء والمفسرين بمختلف طبقاتهم وفنونهم لم يفهموا من هذه الآية سوى لزوم ولاء أقرباء النبي وعترته. نعم في مقابل هذا المعنى محتملات أُخر يذكرها بعض المفسرين ، ولكنها ليست إلاّ أقوالاً شاذة لا يعبأ بها ، وسيوافيك بعض هذه المعاني الشاذة في الفصل الخامس من هذا البحث فنقول :

أمّا المحدثون : فقد نقل الفريقان من السنّة والشيعة عشرات الأحاديث الدالة على أنّ الآية نزلت في لزوم ولاء أهل البيت ، ومودَّة أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله ، وسوف يوافيك بعض نصوصهم في محله ، وأمّا من هم أهل بيته وأقرباؤه ؟ فسيوافيك البحث عنهم في المستقبل.

ص: 38


1- البقرة : 83.
2- البقرة : 177.
3- النساء : 36.
4- التوبة : 113.

وأمّا غيرهم فقد فهم الأدباء من الآية نفس ما أقرّته اللغة ورجالها ، وبما أنّهم من العرب الأقحاح ، وبحكم إحاطتهم باللغة العربية يكون فهمهم حجة في تفسير الآية.

ولأجل هذا نورد في ما يلي نماذج من الشعر الذي يؤكد على أنّ المودة في القربى إنّما تعني المحبة لأهل البيت النبوي ، ونذكر من الكثير ، القليل.

1. لقد صاغ الإمام الشافعي ما فهمه من هذه الآية في البيتين التاليين وأثبت بذلك حبّه لأهل البيت وولاءه لأقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله فقال :

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم

فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له (1)

2. وقد سبق الإمام الشافعي سفيان بن مصعب العبدي الكوفي ، وهو من تلاميذ الإمام جعفر الصادق علیه السلام فصاغ ما فهمه في إحدى قصائده ولعظمة شأنه وأهمية ما قاله من الشعر في هذا المضمار أوصى الإمام الصادق شيعته بتحفيظ شعره لأبنائهم (2) وهو يقول :

آل النبيّ محمد *** أهل الفضائل والمناقب

المرشدون من العمى *** والمنقذون من اللوازب

الصادقون الناطقون *** السابقون إلى الرغائب

فولاهمُ فرض من الر *** حمن في القرآن واجب (3)

ص: 39


1- لاحظ شرح المواهب للزرقاني : 7 / 8 ، والصواعق لابن حجر : 87 ، والاتحاف للشبراوي : 29 ، وإسعاف الراغبين للصبان : 119 ، ومشارق الأنوار للحمزاوي المالكي. راجع الغدير : 1 / 152.
2- روى الكشي عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « يا معشر الشيعة علّموا أولادكم شعر العبدي ، فإنّه على دين اللّه ». رجال الكشي : 343.
3- لاحظ الغدير : 2 / 275 ، ط النجف.

3. وممّن صاغ مفاد الآية في قالب شعره هو الشيخ شمس الدين ابن العربي على ما نقل ابن حجر عنه في صواعقه ص 101 ، ففي البيتين التاليين يكشف ابن العربي بصراحة عن أنّ المقصود من المودة في القربى ليس سوى محبة عترة الرسول حيث يقول :

رأيت ولائي آل طه فريضة *** على رغم أهل البعد يورثني القربى

فما طلب المبعوث أجراً على الهدى *** بتبليغه إلاّ ( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى )

4. نجد ابن الصباغ المالكي ينسب في كتابه « الفصول المهمة ص 13 » البيتين التاليين إلى شاعر :

هم العروة الوثقى لمعتصم بها *** مناقبهم جاءت بوحي وإنزال

مناقب في شورى وسورة هل أتى *** وفي سورة الأحزاب يعرفها التالي

ومن الواضح أنّ الشاعر يقصد بقوله « مناقب في شورى » مفاد الآية التي نبحث عنها ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) .

وكما يذكر أيضاً لقائل آخر قوله :

هم القوم من أصفاهم الود مخلصاً *** يمسك في أخراه بالسبب الأقوى

هم القوم فاقوا العالمين مناقبا *** محاسنها تجلى وآياتها تروى

موالاتهم فرض وحبهم هدى *** وطاعتهم ود وودهم التقوى

5. وينسب الشبلنجي في « نور الأبصار ص 13 » الآبيات التالية لأبي الحسن ابن جبير :

ص: 40

أحب النبي المصطفى وابن عمه *** علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا

همو أهل بيت أذهب الرجس عنهمو *** وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم *** وحبهمو سني الذخائر للأخرى

6. وقال النبهاني :

آل طه يا آل خير نبي *** جدكم خيرة وأنتم خيار

أذهب اللّه عنكم الرجس أه *** ل البيت قدماً وأنتم الأطهار

لم يسل جدكم على الدين أجراً *** غير ود القربى ونعم الاجار (1)

هذه نماذج ممّا قيل شعراً في مفاد الآية ، وهي تكشف بكل وضوح وجلاء عن أنّ الآية لم تقصد منذ أن نزلت إلاّ تكريس محبة ذوي القربى.

ولا شك أنّ الأشعار استوحت محتواها من اللغة وما فهمه المحدّثون ، والعلماء الأوائل.

فالأبيات الماضية أمّا كانت من إنشاء العلماء أنفسهم ، أو لقيت تأييدهم إلى درجة أنّهم نمَّقوا بها كتبهم في تفسير الآية ، وهذا إن دلَّ على شيء فانّما يدلُّ على أنّ الآية لا تحتمل إلاّ ما أسفرت عنه كتب الحديث والتفسير والتاريخ.

فهذه هي اللغة كما رأيناها ، وهؤلاء هم الأدباء وأبياتهم كما قرأناها كلّها تتفق على أنّ اللّه سبحانه لم يطلب أجراً لرسالة نبيه صلی اللّه علیه و آله إلاّ محبَّة ذوي القربى.

وأمّا أنّه كيف يصلح أن تكون المودة في القربى أجراً للنبي صلی اللّه علیه و آله ؟ فسوف نعود إليه عند البحث عن المقام الثاني ، فارتقب.

ص: 41


1- لاحظ : الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء : 229.

أسئلة وأجوبتها

ثم إنّ هاهنا أسئلة حول مفاد الآية طرحها بعض من لا إلمام له بتفسير كلام اللّه وتوضيح سنة نبيّه صلی اللّه علیه و آله ، ونحن نوردها هنا مع الإجابة عليها :

السؤال الأوّل :

لو أراد اللّه سبحانه من الآية مودّة القربى لقال : إلاّ مودّة أقربائه ، أو المودّة للقربى.

الجواب : انّ السائل توهم أنّ « القربى » جمع « القريب » أو « الأقرب » فقال لو أراد مودة أقربائه لقال كذا وكذا ، ولكنّه غفل عن أنّ القربى مصدر كزلفى وبشرى كما قال الزمخشري في كشّافه ، ولأجل ذلك لم يستعمل في القرآن إلاّ مع المضاف كقوله « ذي القربى » و « ذوي القربى » و « أُولي القربى » مشيراً إلى صاحب القرابة الرحمية ، وأمّا في مورد الآية فقد استعمل بلفظة « في القربى » بحذف المضاف من الأهل وغيره.

قال الزمخشري في كشافه : فإن قلت فهلا قيل إلاّ مودة القربى ، أو إلاّ المودة للقربى ، وما معنى قوله : ( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ، قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك : « لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد » تريد أحبهم وهم مكان حبي ، ومحله ، وليست « في » بصلة للمودة كاللام إذا قلت « إلاّ المودة للقربى » ، إنّما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك ، المال في الكيس ، وتقديره إلاّ المودة ثابتة في القربى ، ومتمكنة فيه « والقربى » مصدر بمعنى القرابة كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة والمراد « في أهل القربى » (1).

ص: 42


1- الكشاف : 3 / 81 ، ط مصر عام 1367.

قال النبهاني في الشرف المؤبد : القربى مصدر بمعنى القرابة وهو على تقدير مضاف أي ذوي القربى يعني الأقرباء قال : وعبر ب « في » ولم يعبر ب « اللام » ، لأنّ الظرفية أبلغ وآكد للمودة (1).

السؤال الثاني :

إنّ تفسير الآية بمودة أهل البيت وعترة النبي غفلة عن نقطة هامة ، وهي : أنّ الآية وردت في سورة الشورى وهي سورة مكية ولم يكن يومذاك الحسنان ، بل ربما لم تكن فاطمة أيضاً ، فكيف تفسّر الآية بعترة النبي ، وتخصص العترة بجماعة خاصة ، أعني : علياً وفاطمة والحسن والحسين ، مع أنّ أكثرهم لم يكونوا موجودين زمن نزول الآية ؟

وهذا السؤال يرجع إلى ابن تيمية في « منهاجه ص 250 » ، حيث قال : إنّ سورة الشورى مكية بلا ريب نزلت قبل أنْ يتزوج علي بفاطمة وقبل أنْ يولد له الحسن والحسين.

الجواب : انّ هناك طريقين لمعرفة الآيات المكية وتمييزها عن المدنية.

الطريق الأوّل : هو ملاحظة نفس مفاد الآية فهو الذي يكشف عن موضع نزول الآية أو السورة ، إذ الآيات التي تدور حول التوحيد والمعارف العقلية ، وانتقاد الوثنية ورفض الأوثان ، والدعوة إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وبيان ما جرى في القرون الغابرة على الأمم السالفة ، وما يشابه هذه الموضوعات هي مكية في الأغلب على أساس أنَّ القضايا الوحيدة التي كانت تطرح في المحيط المكي كانت تدور حول هذه المسائل وأمثالها ، فإنّ محيط مكة في فجر الدعوة الإسلامية ما كان يتحمل أكثر من طرح هذه القضايا.

ص: 43


1- الشرف المؤبد نقله عنه العلاّمة شرف الدين في الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء : 32.

أمّا الآيات التي تدور حول شؤون النظام الإسلامي والجهاد ومحاجة اليهود والنصارى والأحكام الشرعية والنظم الاجتماعية فهي مدنية غالباً.

ولقد تمكّن العلماء مؤخراً أن يحصلوا بمعونة هذا المعيار الدقيق ، على نتائج باهرة في مجال فهم النصوص القرآنية.

فإذا كان هذا هو الملاك في تشخيص مكية الآيات عن مدنيتها ، فهذا يقودنا - بيسر - إلى اعتبار كون الآية المبحوثة هنا مدنية لا مكية ، لأنّها تناسب ظروف المدينة ، ولا تناسب ظروف مكة ، إذ ليس من المعقول أن يتحدث النبي بمثل هذا الطلب في مكة حيث لم يكن قد آمن به بعد إلاّ نفر يسير لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع أو يزيد عن ذلك بقليل ، حيث كان يواجه أغلبية معادية ، مبالغة في عدائها ، متعنتة في خصومتها ، وأمّا النفر اليسير ، أعني : الجماعة القليلة المؤمنة ، فما كان يناسب طلب شيء منهم حتى المودَّة وهم على ذلك الضعف والمحنة الشديدة والتشرّد والمعاناة.

لندع الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله ولنأخذ أيَّ رجل بليغ آخر يعرف متى يتكلم وماذا يقول ، ترى هل من الصحيح أن يقول لجماعة لم تؤمن به بعد أو لجماعة قليلة مؤمنة كانوا يعذبون بألوان التعذيب : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) سواء أفسرت الآية بعترة الرسول وأهل بيته ، أو غيرها من المعاني التي أبدعها بعضهم في تفسير الآية ؟

أجل انّ مثل هذا الطلب إنّما يصح أن يوجهه إلى الذين صدّقوه وآمنوا به وقبلوا دعوته وكانوا قد وصلوا إلى بعض الأهداف والنجاحات واستقرّت أُمورهم وصفا لهم الجو والحال.

وخلاصة القول : إنّ سؤال الأجر من جانب النبي وهو في إبّان الدعوة ليس أمراً بليغاً حيث لم يستتب له الأمر بعد ، ولم يحصل هناك هدوء ولا سكون له ولمن

ص: 44

آمن به واتبعه ، وإنّما هو مناسب لظرف آخر مثل أواخر عهد الرسالة.

الطريق الثاني : لتمييز مكيّة الآيات عن مدنيتها هو الرجوع إلى النصوص الواردة في هذا المورد عن العلماء وكبار المفسرين ، فإذا كان هو الميزان لمعرفة الآيات المكية من المدنية فإنّنا نجد المفسرين - وبالأخص أُولئك الذين ألّفوا كتباً حول مواضع نزول الآيات والسور - يقولون : إنّ سورة الشورى مكيّة إلاّ أربع آيات أُولاها قوله تعالى : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) فهذا إبراهيم بن عمر البقاعي الذي ألّف كتاباً في هذا المضمار وأسماه « نظم الدرر وتناسق الآيات والسور » يقول في كتابه هذا : سورة الشورى مكية إلاّ الآيات 23 ، 24 ، 25 و 27 (1).

والواقع أنّه لم يكن البقاعي وحده هو القائل بمدنية هذه الآية ، وإنّما قال به عدّة من المفسرين منهم : نظام الدين النيسابوري ، صاحب التفسير الكبير يقول في ابتداء تفسيره لسورة الشورى : سورة الشورى مكية إلاّ أربع آيات ومنها آية المودّة في القربى نزلت في المدينة (2).

ويقول الخازن في تفسيره : سورة الشورى مكية ، ونقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات منها نزلت في المدينة أولاها : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ( ثم يضيف قائلاً ) : وليست هذه الآيات الأربع مدنية فحسب بل هناك آيات أُخرى نزلت بالمدينة أيضاً ، فقد ذهب فريق إلى أنّ الآيات من 39 إلى 44 أيضاً مدنية (3).

ص: 45


1- راجع تاريخ القرآن للزنجاني : 58. والبقاعي هذا هو برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الشافعي ، ولد عام 809 ه ، وتوفّي في دمشق عام 885 ه. قال في كشف الظنون : 2 / 605 : وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول.
2- تفسير النيسابوري : 3 / 312.
3- تفسير الخازن : 4 / 94.

ثم إنّ بإمكان القارئ أن يراجع المصاحف التي طبعت تحت إشراف لجان أزهرية ومحققين منهم ليجد فيها هذه العبارة فوق سورة الشورى : سورة الشورى مكية إلاّ الآيات 23 ، 24 ، 25 و 27 فمدنية.

وليعلم القارئ أنّ ترتيب الكتاب العزيز في الجمع ليس على حسب ترتيبه في النزول إجماعاً وباتفاق جميع العلماء ، ومن ثم كانت أغلب السور المكية لا تخلو من آيات مدنية ، وكذلك أكثر السور المدنية لا تخلو من آيات مكية ، بحكم أئمّة السلف والخلف من الفريقين ووصف السورة بكونها مكية أو مدنية تابع لأغلب آياتها لا جميعها (1).

ولكي يكون هذا الكلام مقروناً بالدليل ومدعماً بالبرهان نأتي بنماذج من هذا :

1. سورة العنكبوت مكية إلاّ من أوّلها عشر آيات فهي مدنية (2).

2. سورة الكهف مكية إلاّ من أوّلها سبع آيات فهي مدنية ، وقوله ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) الآية (3).

3. سورة هود مكية إلاّ قوله : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) وقوله : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ) (4).

4. سورة مريم مكية إلاّ آية السجدة وقوله : ( وَإِن مِنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) (5).

5. سورة الرعد فانّها مكية إلاّ قوله : ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وبعض آيها

ص: 46


1- الكلمة الغرّاء : 227.
2- راجع تفسير الطبري : 20 / 86 ، وتفسير القرطبي : 13 / 323 ، والسراج المنير : 3 / 16.
3- تفسير القرطبي : 10 / 346 ، والإتقان : 1 / 16.
4- تفسير القرطبي : 9 / 1 ، والسراج المنير : 2 / 40.
5- إتقان السيوطي : 1 / 16.

الآخر ، أو بالعكس (1).

6. سورة إبراهيم مكية إلاّ قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ ) الآيتين (2).

7. سورة الإسراء مكية إلاّ قوله : ( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ ) إلى قوله : ( وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) (3).

8. سورة الحج مكية إلاّ قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْفٍ ) (4).

9. سورة النمل مكية إلاّ قوله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) (5).

10. سورة القصص مكية إلاّ قوله : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ) (6).

11. سورة القمر مكية إلاّ قوله : ( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (7).

12. سورة يونس مكية إلاّ قوله : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) الآيتين (8).

وغيرها مما نص به أئمّة التفسير ، وما ذكرناه نماذج ممّا ذكروه.

فكما أنّ كون السورة مكيّة لا يستلزم كون جميع آياتها كذلك فكذلك كون السورة مدنية لا يستلزم كون جميعها كذلك ، كما يجده المتتبع في طيات التفاسير.

ص: 47


1- تفسير القرطبي : 9 / 278 ، ومفاتيح الغيب : 5 / 258.
2- تفسير القرطبي : 9 / 338 ، والسراج المنير : 2 / 159.
3- تفسير القرطبي : 10 / 203 ، وتفسير الرازي : 5 / 540 ، والسراج المنير : 2 / 261.
4- تفسير القرطبي : 12 / 1 ، وتفسير الرازي : 6 / 206 ، والسراج المنير : 2 / 511.
5- تفسير القرطبي : 5 / 65 ، والسراج المنير : 2 / 205.
6- تفسير القرطبي : 13 / 245 ، وتفسيرالرازي : 6 / 585.
7- السراج المنير : 4 / 136.
8- تفسير الرازي : 4 / 774 ، والإتقان : 1 / 15 ، والسراج المنير : 3 / 2.

كما أنّ بعض الآيات نزلت مرتين ، نصّ بذلك العلماء ، وعللوه بكونها عظة وتذكيراً ، أو لاقتضاء علل متعددة ذلك (1).

وإن شئت التفصيل فلاحظ أوائل السور من التفاسير تجد انّ المفسرين حيث يحكمون بأنّ السورة مكية أو مدنية يستثنون في أغلب السور آيات خاصة ، فلاحظ التفاسير في تفسير السور : المائدة ، الأعراف ، الرعد ، الإسراء ، الكهف ، مريم ، الحج ، الشعراء ، القصص ، الروم ، لقمان ، سبأ ، الزمر ، الزخرف ، الدخان ، الرحمن.

فإنّ نظرة فاحصة في هذه السور والتفاسير حولها توقف الإنسان على أنّ كون السور مكية أو مدنية بمعنى أنَّ أغلب آياتها لا جميعها كذلك.

* * *

ولو فرضنا كون الآية مكية لكنه لا يستلزم كون المودة مقصورة على الموجودين من أقربائه بل يكون حكماً إسلامياً شاملاً لمن يتولَّد بعد نزول الآية من أقربائه نظير قوله : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) فانّها شاملة لأولاد المخاطبين المتولدين بعد نزول الآية.

ثم إنّ تفسير النبيّ الآية بعلي وفاطمة وابنيهما يمكن أنْ يكون متأخراً عن نزول الآية لرفع الستار عن وجه الآية ، فيكون من الإخبارات النبوية بالمغيبات.

ثم إنّ فرض مودتهما على الأمّة قبل ولادتهما لأجل كرامتهما عليه وقرب

ص: 48


1- الإتقان : 1 / 60 ، تاريخ الخميس : 1 / 11 ومنها سورة الفاتحة ، ولأجل تكرار نزولها سميت المثاني. وقد أخذنا هذه النصوص في مورد تلك الآيات عن الغدير : 1 / 1. 234 شكر اللّه مساعيه.

منزلتهما منه ، كما بشر اللّه آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بالنبي الخاتم ، وعرّفهم جلالة قدره وعظم شأنه.

وعلى كل تقدير سواء أكان تفسير الآية بعلي وفاطمة وابنيهما مقارناً مع نزول الآية أم بعده ، فقد روى المحدّثون عن ابن عباس أنّه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ فقال : « علي وفاطمة وابناهما » (1).

وخلاصة القول : إنّ ما يعيّن مكيّة الآيات ومدنيتها هي الأحاديث الإسلامية ، فالأحاديث التي تقول بأنّ سورة الشورى مكية هي التي تقول بأنّ آية ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ ) بل بضع آيات وردت فيها ، نزلت في المدينة ، ومخالفة هذه الأحاديث ليس سوى نوع اجتهاد في مقابل النص بل النصوص.

وعلى تسليم كونها مكية برمتها لا يضير عدم وجود بعض أفرادها حين النزول في مكة إذ أنّ من الجائز أن يشرِّع مقنن قانوناً يحترم طائفة من الناس يوجد بعض أفرادها حين التشريع ، وهذا هو الاسلوب الذي يتبعه القرآن في كثير من تشريعاته حيث يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى ) (2). فلفظ الغنيمة يشمل كل ما تغلب عليه المسلمون في الأجيال كلها ، كما أنّ لفظ ( وَلِذِي القُرْبَى ) يشمل أقرباء النبي سواء أكانوا موجودين زمن نزول الآية أم لا.

ص: 49


1- الذخائر : 25 ، والكشاف : 2 / 339 ، مطالب السؤول : 8 ، مفاتيح الغيب : 7 / 665 ، مجمع الزوائد : 9 / 168 ، الفصول المهمة : 12 ، الكفاية للكنجي : 31 ، شرح المواهب : 7 / 3 و 21 ، والصواعق : 101 و 135 عند البحث في المقام السادس ، نور الأبصار : 112 ، الاسعاف : 105 وستوافيك نصوصهم.
2- الأنفال : 41.

والعجب تسمية ذلك في كلام بعضهم ( أي إدراج الآية المدنية في السورة المكية أو بالعكس ) تحريفاً باطلاً فإنّ هذا تصور باطل عن معنى التحريف الذي هو بمعنى الزيادة والنقيصة في القرآن وإلاّ يلزم أن نعتبر كلَّ المفسرين والمحدّثين من القائلين بالتحريف لأنَّهم كثيراً ما يعتبرون الآية مدنية في ضمن السورة المكية وبالعكس.

على أنّ التحقيق هو أنَّ القرآن جمع في عصر الرسول بهذا الشكل الحاضر فبأمره رتبت سوره ونظمت آياته ، ووضعت كل آية في موضعها ، فإذا كان ذلك بأمر الرسول فهل يصح أن نعتبره تحريفاً ؟

روى المفسرون عن ابن عباس والسدي : انّ قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (1) آخر آية نزلت من الفرقان على رسول اللّه وانّ جبرئيل قال له ضعها على رأس الثمانين والمائتين من البقرة ، وهذا القول كأنّما إجماعي ، وانّما الاختلاف في مدة حياة الرسول بعد نزولها. (2)

السؤال الثالث

إنّ المحبة حالة قلبية غير اختيارية فلا يمكن الأمر بها بأن تقع تحت دائرة الطلب ، لأنّه لو كانت هناك موجبات الود وجدت المحبة قهراً وإن لم يوص بها ، وإن لم تكن فلا توجد وان كانت هناك توصية بذلك.

الجواب : عزب عن المستشكل أنّه لو كانت المودة أمراً غير اختياري موجباً لعدم صحة الأمر بها ، لزم عدم صحة النهي عنها أيضاً فإنّ الموضوع غير

ص: 50


1- البقرة : 281.
2- الكشاف : 1 / 303 ، مجمع البيان : 1 / 394 ، الإتقان : 1 / 77.

الاختياري لا يقع تحت دائرة الطلب مطلقاً ، لا تحت دائرة الأمر ولا تحت دائرة النهي ، بينما نرى القرآن ينهى عن مودة الكفّار وأعداء اللّه ويقول وهو يصف المؤمنين : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1).

كما يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (2).

والآية الأولى وإن كانت تخبر في الظاهر عن أحوال المؤمنين إلاّ أنّ المقصود منها هو الحث على الاجتناب عن مودتهم ومحبتهم.

إذا كانت المودة - لأجل كونها أمراً خارجاً عن الاختيار - لا يتعلق بها الأمر لماذا نجد الرسول العظيم صلی اللّه علیه و آله يدفع المسلمين إلى التوادد والتحابب ممثلاً لذلك بمثل جميل ورائع حيث يقول :

« مثل المؤمنين في توادّهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » (3).

وهذا الحديث ونظائره كثيرة في الأحاديث الإسلامية ، وكلّها تعطي أنّ المودة موضوع قابل للطلب ، كما أنّ المحدثين عقدوا في موسوعاتهم الحديثية أبواباً من قبيل باب « الحب في اللّه » وباب « البغض في اللّه » وأدخلوا في هذه الأبواب مجموعات كبيرة من الأحاديث التي تبدو منها بجلاء الدعوة إلى التوادد والتحابب بين الأمّة الإسلامية ونبذ الكفار وعدم موالاتهم.

ص: 51


1- المجادلة : 22.
2- الممتحنة : 1.
3- مسند أحمد : 4 / 7 ، والتاج : 5 / 17 ، نقلاً عن صحيحي البخاري ومسلم.

ومن هنا يبدو أنّ البغض والحب ليسا كما يتوهم أمرين غير اختياريين وغير خاضعين للإرادة الانسانية ، بل هما حالتان اختياريتان تتحققان بالتدبر واعمال النظر في مقدماتهما.

يقول الإمام الصادق علیه السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في اللّه » (1). أي تحب المؤمن لإيمانه باللّه ، وتبغض الكافر لكفره باللّه.

ويقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في عهده إلى مالك الأشتر النخعي : « واشعر قلبك الرحمة والمحبة لهم واللطف بهم » (2).

ولو أُتيح لك أن تطّلع بالتفصيل على النصوص الواردة في مجال الحب والبغض ، لرأيت كيف أنّ الرسول والأئمّة علیهم السلام أوصوا بمحبة جماعة معينة ، ونهوا عن مودة آخرين ، فها هو الرسول يقول : « عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب علیه السلام » (3). والهدف النهائي من هذه الكلمة هو الدعوة إلى موالاة علي وعقد القلب على محبته.

ويقول الرسول صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « من سرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً من بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً وعلماً » (4).

وقال صلی اللّه علیه و آله في حق علي أيضاً : « ومن أحبني فليحبه ، ومن أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (5).

ص: 52


1- سفينة البحار : 1 / 12.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب برقم 53.
3- تاريخ بغداد : 4 / 410.
4- حلية الأولياء : 1 / 86.
5- مسند أحمد : 5 / 366 ، وصحيح مسلم كتاب الفتن : 119 ، وصحيح الترمذي كتاب المناقب : 20.

ولا شك أنّ هدف الرسول صلی اللّه علیه و آله ليس إلاّ دفع الناس إلى محبتهم وموالاتهم.

أضف إلى ذلك أنّ دعوة النبي إلى حب وموادّة جماعة خاصة ، يكون سبباً قوياً لغرس بذور المحبة لتلك الجماعة في قلوب الناس ، وسرعان ما تنمو تلك البذور وتتحول إلى حب عميق لتلك الجماعة ، فعندما يأخذ الرسول بيد علي ويقول : « من أحبني فليحبه » ، تكون تلك العبارة حافزاً لمشاعر القوم تجاه مكانة علي ، وسبباً لنمو بذور المحبة في أفئدتهم ، كيف لا ، وهذه الكلمات من رسول اللّه هي التي صنعت جماعة أحبت علياً وآله غاية الحب.

نعم لو أوصى بمحبة من لا يتوفر فيه ملاك المحبة ، إمّا لوجود نقاط ضعف في خلقه أو عمله لما نفعت التوصية ، على أنّ هناك قد يوجد من يتوفر فيه ملاكالمحبة دون أن يعلم أكثر الناس به ، فدعوة الناس إلى محبتهم وولائهم تكون سبباً إلى التفتيش في موجبات هذه الدعوة ، وفي نهاية المطاف يكون هذا الأمر سبباً إلى التفات الناس إلى سجاياهم وأخلاقهم التي تخلق المحبة في قلوب الناس.

وبذلك يتضح أنّ دفع الناس إلى التعرف على عظمة الشخص يحصل بأحد أمرين :

الأوّل : رفع الستر عن سجاياه الأخلاقية وملكاته الفاضلة ببيان فضائله ، وهو عمل يوجه الناس إلى القائد بصورة مباشرة.

الثاني : الأمر بحبه وموالاته ، ويكون سبباً لإقبال الناس عليه ، والتعرّف بالتدريج على مؤهلاته وصفاته وسجاياه.

وعلى هذا الأساس يعتبر الأمر بمودتهم منطلقاً للتعرف وأساساً للاتّباع.

ص: 53

السؤال الرابع

كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنّا نجد في صفوفهم من عادى اللّه ورسوله ، وانّه سبحانه نهى عن مودة من يعاديه أو يعادي رسوله ؟

الجواب : لا شك أنّ القرآن الكريم نهى عن موالاة الكفار سواء أكانوا من أقرباء الرسول أم لا ، قال سبحانه :

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) (1).

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (3).

فبملاحظة هذه الآيات والآيات التي نزلت في مكة وطلبت من المؤمنين أن يجانبوا آباءهم وأُمهاتهم المشركين ، يقضي العقل بأنّ الرسول إنّما طلب موالاة من يرتبط به بوشيجة القربى إذا كان موصوفاً بالإيمان والتقى ، وليس من المعقول ممن ينهى عن موالاة الكفار والمشركين ، أن يطلب موالاة أقربائه على الإطلاق حتى المشركين.

ص: 54


1- التوبة : 113.
2- التوبة : 23.
3- الممتحنة : 1.

وقصارى الكلام هو أن نخصّص إطلاق الآية بما دلَّ على المجانبة من الكفار والمشركين ، وإن كانوا من أُولي القربى.

وهذا الإشكال ضئيل غاية الضآلة ، فكأن صاحبه جهل أو تجاهل أنَّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، فالقرآن هو الذي يقول في حق ولد نوح : ( إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (1). فعندئذ لا يتبادر من الآية سوى محبة المؤمنين والمخلصين من أقرباء النبي دون الكفار والمشركين.

على أنّ الآية كما أسلفناه نزلت في المدينة ولم يكن يومذاك حول النبيِّ صلی اللّه علیه و آله غير ذوي القربى المؤمنين ، وقد أجاب دعوته كل من بقي من بني هاشم ممن لم يؤمن به قبل ، فإذا كان نزول الآية في عام الفتح وبعده فلم يكن في أرض المدينة ومكة من أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله كافر أو منافق.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره روزبهان (2) من أنّ ظاهر الآية شامل لجميع أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله ضعيف جداً ، وعلى فرض الصحة فالحديث الصحيح خصّصها بعدّة خاصّة كما ذكرنا صورة الحديث فيما مر.

وأظن أنّ هذا الإشكال لم يكن يحتاج إلى هذا التفصيل لظهور بطلانه.

ص: 55


1- هود : 46.
2- إحقاق الحق : 3 / 20.

المقام الثاني: التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر

إنّ الآيات القرآنية تشهد على أنّه كان شعار الأنبياء في طريق دعوتهم وتجاه أُممهم هو رفض الأجر ، وعدم طلبه من الأمّة وكلّهم يقولون : ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللّهِ ) (1).

فالقرآن يحدّثنا في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب بأنّ شعارهم الوحيد طوال فتراتهم الرسالية كان هو قولهم : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ ) (2).

كما يرد في سورتي هود ويونس (3) هذا المضمون عن نوح وهود أيضاً وإنّ من علائم النبوّة أنّ أصحابها لا يطلبون أجراً على رسالتهم.

ولأجل ذلك لما لاحظ المبعوث الثالث إعراض أهالي إنطاكية عن رسل المسيح ، التفت إلى أهاليها وقال : ( اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (4).

ص: 56


1- لاحظ الشعراء ، الآيات : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
2- الشعراء : 109.
3- يونس : 27 ، هود : 29 و 51.
4- يس : 21.

ومع ذلك كيف يصح أن يقال أنّ الرسول بدَّل هذا الشعار الذي ظل يتمسّك به كل الرسل على طول التاريخ ، وجعل مودة أقربائه أجراً على رسالته ، أضف إلى ذلك أنّ الرسول الأعظم نفسه يصرح بأمر من اللّه بأنّه لا يسأل أجراً ويقول : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (1).

الجواب : انّ الأجر في اللغة هو العوض الذي يتلقّاه المرء لقاء عمل يؤدّيه ، وهو بمفهومه يشمل كل الأجور الدنيوية والأخروية ، بيد أنّ المقصود بالأجر المنفي في هذه الآيات ، بقرينة توجيه الخطاب إلى البشر ، هو الأجر الدنيوي الذي كان بإمكان البشر تقديمه إلى الرسل ، ولا شكّ أنّ الرسول لم يطلب من أحد مثل هذه الأجور الدنيوية كما لم يطلب أيضاً إخوانه من الرسل ذلك من قبل.

ولفظ الأجر في الآية وإن كان يشمل الأجور الدنيوية كلَّها حتى التكريم والتبجيل لنفسه وقومه وأقربائه ، وعند ذاك تكون المودَّة داخلة في المستثنى منه قطعاً.

غير انّ المطلوب في الآية ليس نفس المودة والولاء لأقربائه بما هي هي حتى يعود أجراً دنيوياً مطلوباً ويصير طلبها من الأمة مصادماً للآيات الحاكية عن رفض الأنبياء للأجر بتاتاً بل المودَّة في القربى وسيلة لاتصال الأمّة بعترة النبي ، ويكون نفس ذلك الاتصال ذريعة لتكامل الأمّة في المراحل الفكرية والعملية ، فعندئذ تنتفع الأمّة الإسلامية بها قبل أن تنتفع به العترة ، فحينئذ لا تكون المودّة في القربى أجراً حقيقياً وان أُخرجت بصورة الأجر.

هذا هو مجمل الجواب ، وأمّا التفصيل فيبين في ضمن أمرين :

الأوّل : انّ الأجر وإن كان يطلق على الأجر الدنيوي والأخروي ، ولكن

ص: 57


1- الأنعام : 90.

المقصود من الأجر المنفي في هذه الآيات هو الأجر الدنيوي بقرينة توجيه الخطاب إلى الناس.

أضف إليه أنّه ليس من المعقول أن يطلب الرسول من الناس أجراً أُخروياً ، إذ ليس في وسع الناس أن يقدّموا مثل هذا الأجر إلى الرسول ، هذا وإنّ القرآن يحدّثنا بأنّ الرسول كان يعلن للناس بأنّه لا يريد من أحد أجراً ، وقد أمره سبحانه أن يقول :

( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (1).

وقوله سبحانه :

( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ) (2).

فمع مثل هذه التصريحات التي تمَّت في بدء الرسالة ، لا يمكن للنبي أن يطلب من الناس شيئاً يعتبره الناس أجراً على عمله ، كيف ؟ والنبي الأعظم كالأنبياء السابقين من نخبة المجتمع وصفوة البشرية ، والإخلاص منطلقهم الوحيد في عملهم ودعوتهم ، وكان شعارهم كل شيء لأجل اللّه.

قال شيخنا المفيد : إنّ أجر النبيّ هو الثواب الدائم ، وهو مستحق على اللّه في عدله وجوده وكرمه ، وليس المستحق على الأعمال ، يتعلق بالعباد لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً ، وما كان لله فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره (3).

الثاني : هل الاستثناء في الآية استثناء منقطع أو استثناء متصل ؟

فقد نقل روزبهان عن بعضهم أنَّ الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً « لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم » فلهذا أسعى

ص: 58


1- الأنعام : 90.
2- ص : 86.
3- شرح عقائد الصدوق : 68.

وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم (1).

وقال بعضهم : الاستثناء متصل والمعنى : لا أسألكم عليه أجراً من الأجور إلاّ مودّتكم في قرابتي ، وأيّد ذلك القول بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل ، وانّه لا يحمل على المنقطع إلاّ لتعذر المتصل ، ولأجل ذلك لا يحمل العلماء الاستثناء على المنقطع إلاّ عند تعذر المتصل ، حتى عدلوا للحمل على المتصل ، عن الظاهر في قوله : له عندي مائة درهم إلاّ ثوباً ، وله علي إبل إلاّ شاة ، وقالوا : معناه إلاّ قيمة ثوب أو قيمة شاة ، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير الاستثناء متصلاً.

وممّن ذهب إلى أنّ الاستثناء منقطع الشيخ المفيد ، فقال : إن قال قائل ما معنى قوله تعالى : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) أوليس هذا يفيد أن قد سألهم النبي مودة القربى أجراً على الأداء ؟ قيل له ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجة العقل والقرآن ، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنه استثناء منقطع ، ومعناه : قل لا أسألكم عليه أجراً لكني ألزمكم المودة في القربى ، وأسألكموها ، فيكون قوله لا أسألكم عليه أجراً كلاماً تاماً قد استوفى معناه ، ويكون قوله إلاّ المودّة في القربى كلاماً مبتدأً ، فائدته لكن المودّة للقربى سألتكموها ، وهذا كقوله : ( فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ ) (2) والمعنى فيه لكن إبليس وليس باستثناء من جملة وكقوله : ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالَمِينَ ) (3) معناه لكن ربّ العالمين ليس بعدو لي ، قال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس *** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

ص: 59


1- إحقاق الحق : 3 / 20. وسوف نرجع إلى نقد هذا الفكر الذي زعمه روزبهان تفسيراً للآية. وممن اختار كون الاستثناء منقطعاً الرازي في تفسيره : 7 / 1. وقال تم الكلام عند قول : ( عليه أجراً ) ثم قال : ( إلاّ المودة في القربى ) : أي لكن اذكركم قرابتي منكم. فلاحظ.
2- الحجر : 30 - 31.
3- الشعراء : 77.

وكأنّ المعنى في قوله : « وبلدة ليس بها أنيس » على تمام الكلام ، واستيفاء معناه ، وقوله : « إلاّ اليعافير » كلام مبتدأ معناه لكن اليعافير والعيس فيها ، وهذا بيّن لا يخفى فيه الكلام على أحد ، ممن عرف طرفاً من اللسان ، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من أن يحتاج معه إلى استشهاده (1).

والحق في المقام أن يقال : إنّ تقسيم الاستثناء إلى المتصل والمنقطع ليس على ما اشتهر ، من أنّ المستثنى المنقطع غير داخل في المستثنى منه لا موضوعاً ولا حكماً ، لا حقيقة ولا ادّعاء ، إذ لو لم يكن المستثنى داخلاً بنحو من الأنحاء في المستثنى منه كان استثناؤه عنه لغواً غير صالح لأن يذكر في كلام العقلاء ، فالمستثنى حتى المنقطع داخل في المستثنى منه دخولاً ادّعائياً لا حقيقياً ، إذ ليس الاستثناء إلاّ إخراج ما لولاه لدخل ، ومعلوم انّ الإخراج فرع الدخول بالضرورة غاية الأمر انّ المستثنى منه بمفهومه اللغوي شامل للمستثنى كما في قولنا جاءني القوم إلاّ زيد ، بخلاف الاستثناء المنقطع ، فالمستثنى منه وإن كان غير شامل للمستثنى بمفهومه اللغوي ، لكن المخاطب ربّما يتوهم شمول الحكم المذكور للمستثنى منه ، للمستثنى أيضاً ، فيعود المتكلم إلى استدراك ذلك الوهم بعدم شموله للمستثنى ، مثلاً إذا قلنا : جاء زيد إلاّ خادمه ، وجاء القوم إلاّ مراكبهم ، فالاستثناء لأجل دفع توهم ، وهو انّ مجيء زيد والقوم كان مع خادمه ومراكبهم ولولا هذا التوهم لما صح الاستثناء ، ولأجل ذلك قلنا بأنّ المستثنى في الاستثناء المنقطع داخل في المستثنى منه ادّعاء لا حقيقة ، ولولا توهم الدخول لا يصح الاستثناء ، فلا يصح أن يقال جاءني القوم إلاّ الغراب أو إلاّ الشجر ، إذ ليس مجيئ الغراب والشجر معرضاً للتوهم.

وبذلك يظهر أنّ مصحح الاستثناء هو دخول المستثنى في المستثنى منه

ص: 60


1- شرح عقائد الصدوق : 68.

بنحو من الأنحاء ، وعند ذلك لا فرق بين جعل الاستثناء متصلاً أو منقطعاً.

والظاهر أنّ مصحح الاستثناء في الآية هو دخول المودة تحت الأجر حقيقة إذ الخارج عن الآية بقرينة توجه الخطاب إلى الناس هو الأجر الأخروي الخارج أو طلباً للمودة لشخصه أو لقريبه.

ومع هذا الاعتراف ( أي دخول المودة تحت المستثنى منه وكون الاستثناء حقيقياً ) ليس طلب المودة للقربى أجراً حقيقياً عائداً نفعه إلى النبي صلی اللّه علیه و آله إذ لو كان المطلوب من الأمّة نفس المودّة وتكريم الأقربين وتبجيلهم لكان محلاً لأن يعد أجراً حقيقياً ، ومصادماً للآيات النافية لطلب الأجر عن الأنبياء.

وأمّا إذا كانت مودتهم طريقاً لتربية الأمّة وإسعادها وتكاملها كما سنشرحه عند البحث عن المقام الثالث ، فعند ذلك يعود طلب المودة كسائر التكاليف المطلوبة من الناس ، فهو قبل أن يكون مفيداً لصاحب الرسالة ، مفيد لنفس الأمّة ، ولأجل ذلك قلنا عند الأجابة على وجه الإجمال : بأنّ طلب المودّة ليس أجراً حقيقياً وان أخرجت بصورة الأجر.

وحاصل ما ذكرناه أمران :

الأوّل : انّ المودّة داخلة تحت الأجر بلا إشكال والاستثناء متصل جداً.

الثاني : انّ المودة ليست أجراً حقيقياً ، لأنّها ليست مطلوبة بالذات ، بل هي طريق وسبيل إلى نجاة الأمّة عن الهلاك والضلال ، بل هي وسيلة إلى هدف تربوي ، وهو اتّباع أقربائه في أقوالهم وأعمالهم.

وإن شئت قلت : إنّ المودّة الحقيقية لأقربائه لا تنفك عن اتّباعهم ، فيما يفعلون وفيما لا يفعلون ، وأمّا المودّة المنفكة عن الاقتفاء بهم فإنّما هي مودّة كاذبة أو خدعة يخدع الإنسان بها نفسه ، وهو يحب نفسه وميوله لا سيده ومولاه ، وإن

ص: 61

أطلق عليها المودة فبالعناية والمجاز ، بل طبيعة المودّة لشخص يوجب انصباغ صاحبها بصبغة من يحبه ، والتكيّف بكيفه ، والتخلف في مورد أو موارد لا يضر في هذا المجال لاختلاف مراتب الود.

وبعبارة ثالثة : تصبح المودّة لأهل بيت النبي الذين هم أحد الثقلين (1) وسفينة النجاة (2) وورثة علم الرسول وحملة أحكام الدين ، سبباً لإغناء الأمّة من الناحية الدينية عن الرجوع إلى غيرهم ، ووسيلة لإزالة كل احتياجاتها ، فعند ذلك يكون طلب المودة كمثل قول الطبيب المعالج لمريضه - بعدما يفحصه بدقة ، ويكتب له نسخة - : « لا أطلب منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة » ، فهو في الظاهر أجر مطلوب ربّما يوجب نشاط الطبيب وسروره القلبي إذا رأى أنّ مريضه قد استعاد صحته ولكنّه قبل أن يرجع نفعه إلى الطبيب يعود نفعه إلى المريض.

وبملاحظة هذه الأمور يتضح أنّ الهدف النهائي من طلب المودّة لأقربائه هو دفع الناس إلى الاقتداء بهم واتباعهم لهم في شؤون الدنيا والآخرة ، وهذا سبب لوعي الأمّة وتكاملها ، في المرحلتين : الفكرية والعملية.

إذا عرفت هذه الأمور وقفت على أنّه لا تناقض بين هذه الآية الناصّة على طلب المودة أجراً على الرسالة وبين الآيات المتضافرة الناصّة على أنّ الأنبياء لا يطلبون أي أجر من أُممهم.

ووجه عدم المنافاة واضح جداً ، لأنّ المودة - كما أسلفناه - وإن كانت مطلوبة بصورة الأجر إلاّ أنّ نتيجتها عائدة إلى ذات الأمّة لأنّها سبب رقيّها مدارج

ص: 62


1- قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » حديث رواه الفريقان.
2- قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » رواه جمع من المحدِّثين من العامة والخاصة.

الكمال ، وإسعادها وتكاملها في المراحل الفكرية والعملية ، وتعرّفها على أُصول دينها وفروعه ، واستغنائها عن أيِّ منهج لا ضمان لصحته ، فلا يعد طلب ذلك الأجر مضاداً للهتافات المتضافرة الصادرة عن الأنبياء طيلة أداء رسالاتهم.

ص: 63

المقام الثالث: كيف يعود نفع المودّة إلى الناس ؟

إنّ القرآن الكريم اعتبر مودة القربى أجراً على الرسالة في آية ، وفي آية أُخرى اعتبر الأجر المطلوب عائداً نفعه في نفس الأمر إلى الأمّة ، قال سبحانه : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (1) فكيف يعود نفعها على الأمّة ؟

الجواب : لا حاجة إلى إفاضة القول في المقام على وجه التفصيل إذ قد تبين الجواب عند البحث السابق الدائر حول الجمع بين هذه الآية والآيات النافية ، ومع ذلك نشير هنا إلى الجواب على وجه الإجمال وهو : انّ اللّه سبحانه عندما أمر نبيه بطلب المودّة من الناس لأقربائه ، أراد إيصال الناس إلى فائدة أُخرى ، وذلك لأنّ مودة أقربائه تنطوي على فائدتين مهمتين لنا :

الأولى : انّ العترة بحكم أنّهم قرناء القرآن (2) معصومون من الخطأ والاشتباه ، فعند ذلك بإمكانهم أن يلبُّوا حاجات الناس العلمية في أُصول الدين وفروعه ، وبما أنّهم كسفينة نوح لا يتصور لهم انحراف في أقوالهم وأعمالهم فمودتهم ، والارتباط بهم يوجب تعرف الأمّة على حقائق دينها على وجه الصحّة

ص: 64


1- سبأ : 47.
2- في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي » ، وقرين القرآن وعديله معصوم مثله وإلاّ لما صح جعله عديلاً وقريناً. فلاحظ.

واليقين ، بخلاف ما إذا رجعت إلى غيرهم فلا يحصل لهم إلاّ الشك والظن والتخمين.

الثانية : لما كانت العترة النبوية تمثل بحكم تربيتها المتعالية قمة الأخلاق والسجايا النبيلة ، كان الارتباط بهم طريقاً إلى الحصول على التكامل الروحي والمعنوي وسبباً للوقوف على الرضا الإلهي.

إذ عندما يكون ارتباط عامل برب عمله أو تلميذ بأُستاذه موجباً لتكامل العامل والتلميذ ، فالارتباط بعترة النبي سيكون بصورة أولى موجباً للحصول على تكامل أرقى ، كيف وهم بحكم الحديثين الماضيين مبرّأون من كل رذيلة أخلاقية ، وصفات ذميمة.

وقد وردت الإشارة إلى مثل هذا التأثير الذي يتركه الحب والود في نفس المحب من محبوبه في كلام الإمام الصادق علیه السلام حيث قال : « ما أحب اللّه من عصاه » ثم أنشد الإمام قائلاً :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** انّ المحب لمن يحب مطيع (1)

وبذلك يظهر أنّ ما ربّما يتفوّه به من لا قدم راسخ له في هذه الأبحاث ويقول : إنّ طلب المودة من جانب النبي لأقربائه أمر غير متين ، خال عن السداد والمتانة. لأنّ القائل تصور انّ المقصود هو المحبة القلبية ، أو ما يصاحبه من التظاهر باللسان ، ولكنك قد وقفت على أنّ المقصود من المودة هو الارتباط وبالنتيجة التعرّف على المعارف والأصول ، وفي مرحلة أُخرى الاتباع والاقتداء العملي ، فيصير طلب المودة نوعاً من طلب الاتّباع للرسول وكتابه سبحانه ، قال

ص: 65


1- سفينة البحار : 1 / 119 ، مادة حب.

سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (1).

ثم إنّ للمفسرين في تفسير قوله : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (2) وجهين :

الأوّل : انّه كناية عن نفي الأجر رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنّه لم يعطه شيئاً ، ولكنه يريد به البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن (3).

وقال الطبرسي : لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرض الدنيا فتتهموني ، فما طلبت منكم من أجر على أداء الرسالة وبيان الشريعة ، لكم وهذا كما يقول الرجل لمن لا يقبل نصحه : ما أعطيتني من أجر فخذه وما لي في هذا فقد وهبته لك ، يريد ليس لي فيه شيء (4).

الثاني : أن يريد بالأجر ما جاء في قوله تعالى : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (5) وفي قوله : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (6) لأنّ اتخاذ السبيل إلى اللّه نصيبهم وما فيه نفعهم ، وكذلك المودة في القربى (7).

ص: 66


1- آل عمران : 31.
2- سبأ : 47.
3- الكشاف : 2 / 566.
4- مجمع البيان : 4 / 396.
5- الفرقان : 57.
6- الشورى : 23.
7- الكشاف : 2 / 566.

المقام الرابع: المودّة في القربى نفس اتخاذ السبيل إلى اللّه

اشارة

لقد بانت الحقيقة من هذا البحث الضافي بأجلى مظاهرها ، غير أنّه يجب البحث عن نكتة أُخرى وهي : أنّه سبحانه جعل اتخاذ السبيل إلى اللّه أجراً لرسالة نبيه في الآية التالية ، قال سبحانه : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (1) وقبل الإجابة على السؤال ، وأنّ المستثنى في هذه الآية هو المستثنى في آية سورة الشورى ، نعمد إلى توضيح الآية.

إنّ الضمير في « عليه » يرجع إلى القرآن ، وقد وضع الفاعل وهو « من اتخذ إلى ربه سبيلا » موضع فعله ، وهو نفس اتخاذ السبيل ، فالأجر المستثنى هو عمل المسلمين ، وهو اتخاذ السبيل لا نفس المتخذ كما هو ظاهر الآية ، أعني قوله : ( مَنِ اتَّخَذَ ) والمراد إلاّ فعل ( مَنِ اتَّخَذَ ) والنكتة في العدول ، هو المبالغة في اتخاذ السبيل ، فكأنّ الشخص بوجوده الخارجي نفس اتخاذ السبيل - الذي هو معنى عرضي يحمله الإنسان - ولذلك نظائر في القرآن الكريم ، قال سبحانه : ( لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) (2). فإنّ الظاهر من الآية ، انّ البر هو نفس من آمن ، مع أنّه لا يمكن أن

ص: 67


1- الفرقان : 57.
2- البقرة : 177.

يكون هو براً ، ولكن لإظهار المبالغة في العمل بالبر ربما يخبر عن البر ب ( مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) وكأنّ المؤمن لأجل إيمانه بالأمرين صار نفس البر.

ثم إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو تلاوة القرآن والعمل بما فيه من الفرائض والمحرمات بقرينة قوله سبحانه : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (1).

وقد وردت هذه الآية أيضاً بنصها في سورة الإنسان في الآية 29.

وعلى ذلك يكون مفاد الآية : أنّي لا أطلب منكم أجراً سوى استجابة دعوتي واتباع الحق ، وهو نهاية استغنائه عن الأجور الدنيوية التافهة.

وقد علّق سبحانه اتخاذ السبيل على مشيئتهم للدلالة على حريتهم الكاملة فلا إكراه ولا إجبار في ذلك الاتخاذ من قبل أحد ، ولا وظيفة للنبي سوى التبشير والإنذار ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (2).

قال الزمخشري في الكشاف : وهذا نظير قول من قد سعى لك في تحصيل مال وقال : ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلاّ أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسمّاه باسمه ، فأفاد فائدتين :

إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله.

والثانية : إظهار الشفقة البالغة ... إلى أن قال : ومعنى اتخاذهم إلى اللّه سبيلاً ، تقرّبهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل اللّه (3).

ص: 68


1- المزمل : 19.
2- الكهف : 29.
3- الكشاف : 2 / 412.

وما ذكره من أنّ المراد من اتخاذ السبيل هو الإيمان والطاعة يرجع إلى ما ذكرنا من أنّه يطلب إجابة دعوته والاتّباع للحق ، وتلاوة القرآن والعمل بما فيه ، والكل يرجع إلى أمر واحد ، وهو أنّه لا يطلب سوى العمل بالشريعة والاتّباع للدين الحنيف ، ومن ذلك يظهر أنّ تفسير « اتخاذ السبيل » بالإنفاق في سبيل اللّه وإعطاء الصدقة تفسير بالمصداق وليس اتخاذ السبيل منحصراً فيه.

قال الطبرسي : ما أسألكم عليه : على القرآن وتبليغ الوحي من أجر تعطونيه إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربِّه سبيلاً بإنفاقه ماله في طاعة اللّه واتّباع مرضاته ، والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجراً ، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة اللّه سبحانه ، بل أرغب فيه وأحث عليه ، وفي هذا تأكيد للصدق ، لأنّه لو طلب على تبليغ الرسالة أجراً لقالوا إنّما يطلب أموالنا (1).

وجه الجمع بين الأجرين الظاهريين

هذا هو معنى إيجاب اتخاذ السبيل الوارد في الآية ، وهو لا يفترق عن إيجاب المودة في القربى لغرض الوصول إلى الشريعة والتعرّف على أحكامها والعمل بما فيها من الفرائض والتجنب عن المنهيات ، لأنّ مودّتهم الحقيقية كما عرّفناك لا تفترق عن الاتّباع لأقوالهم والاقتداء بأعمالهم وهو نفس الاتّباع للشريعة والعمل بما فيها من الأحكام ونفس استجابة دعوة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فعادت الآيتان متوافقتي المضمون ومتحدتي المعنى.

فالنبي صلی اللّه علیه و آله لم يطلب في كلتا الآيتين سوى العمل بالشريعة وإجابة دعوته ، وهو يحصل من طريق المودة في القربى كما يحصل من الإيمان بالنبي ومودّته ، ولا معنى للمودة الحقيقية إلاّ العمل بقول المحبوب والاقتداء به فيما يأمر وينهى ،

ص: 69


1- مجمع البيان : 4 / 175.

والمودّة الفارغة عن الاتّباع ليست سوى خدعة يخدع الإنسان بها نفسه هذا على القول بأنّ المراد من « اتخاذ السبيل » هو إجابة دعوة النبي صلی اللّه علیه و آله والعمل بما أتى به والتمسك بشريعته.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو نفس المودّة في القربى ، فإنّها إحدى الطرق إلى التعرّف على الشريعة ، والتمسّك بها ، كما أنّ القرآن أيضاً أحد هذه الطرق ، وقد وافاك أنّ المودة ليست إلاّ أمراً طريقياً لهذه الغاية المهمة وليست مطلوبة بما هي هي ولذاتها.

وتؤيد ذلك الصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين ، أعني : الكتاب والعترة ، في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وأهل بيتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي وانّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » (1).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « انّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » (2).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (3).

وعلى هذا فينطبق المستثنيان الواردان في الآيتين على معنى واحد ، ويكونان هادفين إلى معنى فارد ، وهو المودة في القربى ، غير أنّه جاء الأجر المطلوب في سورة الشورى على وجه الصراحة ، وفي سورة الفرقان على وجه الكناية.

ص: 70


1- راجع مصادر حديث الثقلين ، إلى ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، باسم « حديث الثقلين » القاهرة ، عام 1374 ه ؛ والمراجعات : 20 - 23.
2- مستدرك الحاكم : 3 / 151.
3- المصدر السابق : 149.

ويؤيد ذلك ما رواه الطبري في ذخائر العقبى عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال :

« أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدنيا ، فمن تمسّك بنا اتخذ إلى ربّه سبيلاً » (1).

وأخرج شيخ الإسلام الحمويني في « فرائد السمطين » عن الإمام الصادق علیه السلام قوله :

« نحن خيرة اللّه ، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى اللّه » (2).

وقد روي عن تفسير الثعلبي ، عن عبد اللّه بن عباس في تفسير قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) (3) انّه قال : « قولوا معاشر العباد ارشدنا إلى حب محمد وأهل بيته علیهم السلام » (4).

وفي بعض الأدعية المأثورة عن بعض أئمّة أهل البيت تلويح إلى ذلك الجمع والتفسير ، حيث جاء في دعاء الندبة قوله علیه السلام :

« ثم جعلت أجر محمد صلواتك عليه وآله مودتهم في كتابك فقلت : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) وقلت : ( مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) وقلت : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك » (5).

ص: 71


1- ذخائر العقبى : 16.
2- الغدير : 2 / 280 ، ط النجف.
3- الفاتحة : 6.
4- الغدير : 2 / 280 ، ط النجف.
5- راجع البحار : 102 / 104 ، نقلاً عن مصباح الزائر : 230 والمزار الكبير : 190.

المقام الخامس: مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة

قد عرفت في المقام الأوّل أنّ المفهوم من المودة في القربى هو موالاة أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولم يفهم صحابة النبي ولا جمهور المفسرين إلاّ هذا المعنى ، وقدّمنا لك أسماء الذين رووا هذا المعنى عن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله عند البحث عن الحديث الوارد حول الآية.

غير أنّ بعض المفسّرين أضاف إلى المعنى المختار محتملات أُخر ، يأباها الذوق السليم ، ولا يرتضيها العارف بأساليب الكلام البليغ ، ولأجل ذلك ليست تلك المحتملات إلاّ مجرد احتمالات فارغة ، ودونك بيانها :

الأوّل : لم يكن بطن من بطون قريش إلاّ وبين رسول اللّه وبينهم قربى ، فلمّا كذّبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت الآية ، والمعنى إلاّ أن تودوني في القربى أي في حق القربى ، ومن أجلها كما تقول : الحب في اللّه ، والبغض في اللّه بمعنى في حقه ومن أجله ، يعني انّكم قومي وأحق من أجابني ، وأطاعني ، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ، ولا تؤذوني ، ولا تهيجوا عليّ (1). وعلى ذلك يكون « في » للسببية ، ومفاد الآية إلاّ مودتي لسبب القرابة.

ص: 72


1- الكشاف : 3 / 82 ، ط مصر عام 1368 ه ، المفاتيح للرازي : 7 / 389 وعلى هذا التفسير يكون « القربى » بمعنى الرحم.

ولا يخفى على العارف البصير أنّ سؤال الأجر ممن يكذبونه ولا يؤمنون به ويبغضونه ودعوته ، ويرونه خطراً على كيانهم ، لا يصدر من عاقل ، فضلاً عن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، فإنّ الاستثناء سواء أكان متصلاً أم منفصلاً ، إمّا أجر حقيقي للنبي ، أو شبيه له ، وطلب الأجر بكلا المعنيين لا يصح إلاّ ممن أسدى إليه طالبه شيئاً من الخدمة المادية أو المعنوية ، فيصح عندئذ أن يطلب منه شيئاً تجاه ما قدّم له ، وأمّا طلبه ممن لا يؤمن به ولا يراه أسدى له خدمة ، فلا يصح في منطق العقل والعقلاء ، فطلب الأجر على فرض البغض والعداء لا يصح ، وعلى فرض الإيمان به فالمودّة حاصلة لا حاجة لطلبها.

الثاني : أتت الأنصار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمال جمعوه فقالوا : يا رسول اللّه قد هدانا اللّه بك وأنت ابن اختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت الآية ، وردّه (1).

وهذا المحتمل كسابقه من الضعف ، فانّ مودة الأنصار للنبي صلی اللّه علیه و آله كان أمراً حاصلاً فلم يكن النبي في حاجة إلى طلبها منهم ، كيف وهم الذين بذلوا دون النبي صلی اللّه علیه و آله النفس والنفيس ، وآووه ونصروه ، وفدوه بشبّانهم في طريق دعوته ، فإذا كانت الحالة هذه ، فلا وجه لطلب المودّة منهم.

على أنّ الوشيجة التي كانت تربطهم بالنبي صلی اللّه علیه و آله لم تكن قوية بل ضئيلة جداً ، إذ كانت العرب لا تعتني بالقرابة من ناحية النساء وكان منطقهم :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أولاد الرجال الأباعد

ومنهم من يقول :

ص: 73


1- الكشاف : 3 / 89 ؛ مفاتيح الغيب : 7 / 389. ومعنى الآية على هذا التفسير « إلاّ أن تودوني لأجل قرابتي منكم ».

وإنّما أُمّهات الناس أوعية *** مستودعات وللأنساب آباء

وإنّما أدخل الإسلام القرابة من جانب النساء وساوى بين البنات والبنين ، واعتنى بكل وشيجة حصلت بينهم سواء أكانت من جانب الرجال أم من جانب النساء ، وكان النبي صلی اللّه علیه و آله يرتبط بالأنصار من جانب النساء ، فإنّ هاشماً تزوج ببنت « عمرو الخزرجي » فولدت له عبد المطلب وهو جد النبي الأكرم ، وما كان عرب الجاهلية يقيمون وزناً للقرابة الناشئة من جانب البنت.

الثالث : انّ الخطاب لقريش ، والمقصود مودّة النبي إيّاهم ، والمعنى لا أطلب منكم أجراً ولا جزاء ولكن حبي لكم بسبب ما تربطني بكم من قرابة هو الذي دفعني إلى الاعتناء بكم وبهدايتكم.

وهذا المعنى اختاره روزبهان حيث قال : لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم ، فلهذا أسعى واجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم (1).

ولا يخفى أنّ لفظ الآية لا يحتمل ذاك المعنى ، ودلالتها عليه تحتاج إلى تقدير أُمور كثيرة ، وما حمله على تفسير الآية بما ذكر إلاّ مخالفته للعلاّمة الحلي في الاستدلال بالآية على عصمة من وجبت محبتهم ، ولو كان القائل مجرداً عن جميع الميول والأغراض لم يحمل الآية على هذا المعنى ، فإنّ الذي دفع النبي إلى الاهتمام بأمر قريش هو امتثال أمر اللّه حيث قال : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (2) ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) (3).

أضف إلى ذلك أنّ حرص النبي على إنقاذ المجتمع الإنساني من الضلالة لم يكن منحصراً بقريش بل هم وغيرهم في هذا الاهتمام سواسية ، وقال سبحانه

ص: 74


1- إحقاق الحق : 3 / 20.
2- الشعراء : 214.
3- الحجر : 94 - 95.

حاكياً عن اهتمام النبي بهداية المؤمنين : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (1).

على أنّ إرادة هذا المعنى تحوجنا إلى التصرّف في الآية بجعل « إلاّ » بمعنى « لكن » والقول بأنّ الخبر محذوف ، وتقدير الآية هكذا ، ولكن المودّة في القربى دفعتني إلى دعوتكم وهدايتكم. وهذا تكلّف واضح في تفسير الآية.

الرابع : أنّ المقصود مودّة كل واحد من المسلمين لأقربائه ، وهو عبارة أُخرى عن صلة الرحم التي دعا إليها الإسلام (2).

ولا يخفى أنّ هذا الاحتمال لا يساعده اللفظ ولا الذوق القرآني ، فإنّ عد مودّة الناس لأقربائهم أجراً للنبي صلی اللّه علیه و آله لا يستحسنه الذوق السليم ، فإنّ المودّة إمّا أجر حقيقي أو أجر غير حقيقي ( أي حكمي ) أخرج بصورة الأجر ، وعلى كلا التقديرين إنّما يصح الاستثناء إذا كان المستثنى عائداً إلى النبي إمّا حقيقة ، أو مجازاً ، ومودّة كل مسلم لأقربائه وإن كان أمراً مطلوباً بذاته في الشرع الأقدس ، لكنّه لا يصح أن يعد أجراً ، أو يخرج بصورة الأجر ، فإنّ الاستثناء كما أوقفناك على حقيقته هو إخراج ما لولاه لدخل ، والإخراج حقيقة أو حكماً فرع الدخول كذلك ، وقد قلنا إنّ المستثنى المنقطع ، منقطع حقيقة لا ظاهراً وحكماً ، وانّ المستثنى منه شامل للمستثنى المنقطع شمولاً حكمياً ولو في وهم المخاطب فإذا قال القائل : جاء القوم إلاّ مراكبهم ومواشيهم ، إنّما يصح هذا القول لإجل توهم شمول الحكم ( أعني المجيء ) لمراكبهم ومواشيهم ، أو خدّامهم ، فإنّ القبيلة إذا ارتحلت من مكان إلى مكان آخر فإنّما ترتحل مع مواشيها وما يتعلّق بها ، فالحكم بالمجيء على

ص: 75


1- يوسف : 103.
2- مفاتيح الغيب : 7 / 390 ذكره في توجيه طلب الأجر للرسالة حيث قال : لأنّ حصول المودة بين المسلمين واجب وقال تعالى : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) .

القوم كأنّه حكم على توابعهم ولوازمهم بالمجيء ، ولأجل ذلك لا يصح أنّ يقال : جاءني القوم إلاّ الشجر.

وعلى ذلك فالمصحح لاستثناء المودّة في القربى هو دخولها في المستثنى منه بنحو من أنحاء الدخول إمّا حقيقياً أو حكمياً ، وحينئذ فلو قلنا : إنّ أجر النبي صلی اللّه علیه و آله هو مودّة أقربائه بما هي هي ، وبما أنّها مطلوبة بذاتها ، لصح الاستثناء لدخولها في الأجر دخولاً حقيقياً ، ويصح أن يطلق عليه الأجر على نحو الحقيقة.

وإن قلنا : بأنّ أجر النبي هو مودة أقربائه بما أنّها ذريعة لتكامل الأمّة في مرحلتي الفكر والعمل ، لصح الاستثناء أيضاً ، لكونها داخلة في الأجر دخولاً حكمياً ، وعلى كلا التقديرين يصح أن يطلق عليه الأجر ، وبتبعه يصح الاستثناء والاستدراك.

وأمّا لو قلنا : بأنّ المراد هو مودة كل ذي رحم لرحمه كمودة المسلم الأفريقي لأخيه والآسيوية لأختها ، فذلك وإن كان أمراً مطلوباً لكن لا يشمله لفظ الأجر لا حقيقة ولا عناية حتى يصح الاستثناء والاستدراك. وعلى الجملة فالأجر الوارد في الآية إنّما يراد منه ما يرجع إلى الإنسان الطالب للأجر رجوعاً واقعياً أو ظاهرياً ، وهو لا يحصل إلاّ أنّ تفسر المودة ، بمودة أقرباء ذلك الرجل الطالب.

وأمّا إذا أُريد منه مودة كل بعيد لرحمه ، فذلك لا يعد أجراً حتى بصورة الظاهر ، ليصح الاستثناء ، وإن شئت قلت : إنّ الأجر هو المكافأة والإثابة على العمل ، ولا يطلق إلاّ على الشيء الذي تعود نتيجته إلى العامل بنحو من الأنحاء ، وعلى ذلك فالمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه ، أو مرتبطاً به بنحو من الارتباط لا أجنبياً عنه ، فعندئذٍ لو أُريد مودة نفسه وأقربائه ، لصح أن يستثنى من الأجر المنفي لدخوله في المستثنى منه ، وأمّا إذا أُريد مودة كل رجل لرحمه فلا يشمله لفظ الأجر حتى بنحو العناية والمجاز ، ليصح الاستثناء ، ولا يتوجه ذهن

ص: 76

السامع عند سماع كلمة الأجر إلى مثل ذاك الأمر حتى يصح الاستدراك ، بخلاف مودّة أهل بيته وعترته ، فإنّها ممّا يسعه اللفظ بعموم معناه.

على أنّه لم يعهد من القرآن حث الأفراد على موالاة ومودة أقربائهم بما هم أقرباؤهم ، وإنّما أمر بموالاة المؤمنين وموادّتهم ، نعم للقرآن اهتمام شديد بصلة الرحم ، ودفع عيلة ذوي القربى وحاجاتهم وهو غير موالاتهم القبلية.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه حينما يأمر بصلة الرحم جعل الغاية من هذا الأمر وجه اللّه وحده لا بعنوان الأجر للرسالة حيث قال :

( وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ( حب اللّه ) ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ ) (1).

وقال سبحانه : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (2). (3)

ثم إنّ جعل الآية كناية عن صلة الرحم وإسداء الخدمة إلى ذوي القربى لا يتحمله اللفظ ولا يقوم به ظاهر الآية.

الخامس : انّ المقصود أنّني لا أطلب منكم أجراً فإنّما هدفي هو إيجاد التآلف والتحابب وحسن المعاشرة بين أفراد البشر ، فكل ما أطلبه هو أن أزيل بهذا القرآن كل الضغائن والعداوات من بينكم ، وأحلّ محلها المودة بين قبائلكم.

ولا يخفى أنّه لو كان المراد هو توحيد الأمّة وجمع شملهم لكان ينبغي أن يعبّر عنه بأسدّ العبارات وأتقنها ، كأن يقول : لا أسألكم عليه أجراً إلاّ الاعتصام بحبل الوحدة وصيانة الاخوة الإسلامية ، وما يفيد هذا المعنى.

ص: 77


1- البقرة : 177.
2- الإنسان : 8.
3- الاستدلال مبني في كلتا الآيتين على رجوع الضمير في « حبه » إلى اللّه لا إلى المال أو الطعام.

على أنّه يستلزم أن يكون لفظ القربى - على هذا المعنى - حشواً ، بل كان اللازم أن يقول : إلاّ المودّة بينكم.

السادس : انّ المقصود هو لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلاّ أن تحبوا اللّه ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح (1).

وحاصل هذا الوجه : أنّ حبكم لله ورسوله يتجسّم في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، فيكون « في » للسببية. وكأنّه يدعو الناس إلى حب اللّه ورسوله بتجسيد هذا الحب في قالب الطاعة والعمل الصالح.

وهذا الوجه من أبعد الوجوه عن مراد الآية ، إذ هو مبني على تفسير القربى بالمقرِّب : أي ما يقرِّب العبد إلى اللّه سبحانه ، من الطاعة والعمل الصالح ، مع أنّ أهل اللغة والاستعمال قد اتفقوا على حصر معناها في الوشيجة الرحمية ، والرابطة النسبية ، وقد قدمنا لك نصوصاً في هذا المجال في المقام الأوّل.

السابع : لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلاّ التوادّ والتحابّ فيما يقرِّب إلى اللّه تعالى من العمل الصالح. روي هذا المعنى عن الحسن والجبائي ، وأبي مسلم.

وهذا الاحتمال مبهم لا يعلم مراد القائل منه إلاّ بطرح جميع محتملاته ، وإليك بيانها :

1. انّ المقصود أنّي لا أسألكم أجراً إلاّ أن تودّوا وتحبوا ما يقرِّبكم إلى اللّه سبحانه ، كالأعمال الصالحة.

وفيه : مضافاً إلى ما عرفت من عدم صحّة تفسير القربى بالمقرّب ، إنّه يكون الغرض الأقصى عندئذ هو إطاعة اللّه سبحانه والإتيان بما يقرب العبد منه ،

ص: 78


1- الكشاف : 3 / 82 ، مجمع البيان : 5 / 28.

وحينئذ يكون لفظ المودّة زائداً ومخلاًّ بالفصاحة ، وكان الأولى أن يقول : إطاعة اللّه سبحانه والعمل بما أمركم به ، والإتيان بما يقرّبكم.

وكأنّ القائل بهذا التفسير أعطى القيمة لنفس المودّة ، لا لنفس العمل ، مع أنّ المهم هو العمل لا مجرّد المودّة ، إذ كل تارك للواجبات ربّما يود العمل الصالح وإن لم يقم بالإتيان بها.

2. انّ المقصود من المودّة في القربى هو إظهار الحب والتودد إليه تعالى بالطاعة ، والمعنى إلاّ أن تتودّدوا إلى اللّه بالتقرّب إليه والإتيان بما يقرّبكم إليه (1).

وفيه : مضافاً إلى ما عرفت ما في تفسير القربى بالمقرِّب ، إنّه لم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد لله سبحانه ، وإن ورد العكس كما في قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (2) وقوله : ( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ ) (3).

ووجهه واضح ، فقد فسّر الراغب المودّة بقوله : إنّ مودّة اللّه لعباده مراعاته لهم. وفيها إشعار بمراعاة حال المودود وتعاهده وتفقده ، ولا يناسب ذلك من العبد بالنسبة إلى اللّه سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّه يرجع إلى الوجه السادس الذي نقلناه عن الكشاف.

3. لا أسألكم أجراً إلاّ أن تتواددوا بما يقرِّبكم إلى اللّه ، كأن يحسن بعضكم إلى بعض فيحصل التحابب والتوادد بما يقربكم إلى اللّه.

ولعل هذا الوجه أوفق لعبارة بعضهم حيث قال : لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً إلاّ التوادّ والتحابّ فيما يقربكم إلى اللّه من العمل الصالح.

ص: 79


1- ذكره الرازي وجهاً للآية راجع مفاتيح الغيب : 7 / 389.
2- هود : 90.
3- البروج : 14.

وفيه أنّ تفسير المودّة بالتوادد والتحابب غير صحيح ، فإنّ المودّة تطلق على المحبّة وإن كانت من طرف واحد ، والوارد في القرآن هو لفظ المودّة لا التواد ولا التوادد.

أضف إلى ذلك أنّ حمل القربى على المقرِّب إلى اللّه غير مأنوس في اللغة العربية ، وهو خلاف ما اتفق عليه اللغويون.

4. المراد لا أسألكم أجراً إلاّ التقرب إلى اللّه والتودّد إلى اللّه بالطاعة. ذكره الطبرسي في تفسيره ، وهو أبعد الوجوه عن مراد الآية ، إذ هو جعل الأجر أمرين : أحدهما : التقرّب ، والثاني : التودّد. مع أنّ ظاهر الآية أنّ الأجر المستثنى شيء واحد.

وخلاصة هذه الوجوه المذكورة في السادس والسابع هي ما نأتي بها - ثانية - تسهيلاً للقارئ الكريم :

1. الأجر هو حب اللّه ورسوله بالطاعة والعمل الصالح.

2. الأجر حب المقربات إلى اللّه سبحانه.

3. الأجر إظهار الحب إلى اللّه بالطاعة (1).

4. الأجر حب بعضكم بعضاً بالعمل الصالح ، كالإحسان.

5. الأجر أمران : التقرّب إلى اللّه ، والتودّد إليه بالطاعة.

وغير خاف على القارئ الكريم أنّ هذه الوجوه تشبه التفسير بالرأي ، ولا مبرر لها في اللغة ومنطق التفسير ، وهي برمتها غير ما كان المسلمون الأوائل يفهمونه من ظاهر الآية. قال الكميت الأسدي شاعر أهل البيت :

وجدنا لكم في آل حاميم آية *** تأولها منا تقي ومعرب

ص: 80


1- والفرق بينه وبين الوجه الأوّل انّ الأجر في الوجه الأوّل هو نفس الحب ، وفي هذا إظهاره.

المقام السادس: في سرد الأحاديث الواردة حول الآية

لقد بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها وبان الصبح لذي عينين ، ولم يبق شك لمشكك في أنّ الآية تهدف إلى طلب المودّة لأقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله .

وقد كان الأوّلون لا يرتضون للآية غير هذا المعنى ، وهم العرب الأقحاح ، الذين يعرفون معنى الآية بأذواقهم العربية.

ومن راجع كتب التفسير والحديث يرى أنّ الرأي العام عند علماء الإسلام وأساطين التفسير لم يكن سوى هذا المعنى ، ولذلك اختصروا في تفسير الآية بالمأثورات ، ولكن لا يسعنا نقل جميعها في هذه الصحائف ، كيف ؟ وقد نقل المحدث الخبير السيد هاشم البحراني سبعة عشر حديثاً من طرق السنّة ، واثنين وعشرين حديثاً من طرق الشيعة ، كلّها تنصُّ على الرأي المختار (1).

وقد جمع العلاّمة الأميني طرق الحديث ونصوصه وكلمات العلماء ، حول الآية في كتابه القيِّم « الغدير » الجزء الثاني والثالث (2).

وقد استقصى بعض الأجلّة في تعاليقه على إحقاق الحق (3) مصادر الحديث

ص: 81


1- غاية المرام : 307 - 310.
2- الغدير : 2 / 280 ، 3 / 151 - 153 طبعة النجف.
3- إحقاق الحق : 3 / 2 - 18.

من طرق أهل السنّة فتجاوزت خمسين مصدراً لأعلام الحديث ، شكر اللّه مساعي الجميع ، ولا يسعنا نقل ما وقفنا عليه برمته غير أنّنا نقتطف ما يلي :

الأحاديث الواردة في تفسير الآية على قسمين : قسم يصرّح بأنّ الآية وردت في حق علي وفاطمة وابنيهما ، وقسم يدلُّ على نزولها في أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله من دون تسمية لأسمائهم.

أمّا القسم الأوّل فإليك بيانه :

روى الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة ، عن جبير بن عامر قال : لما نزلت : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) قالوا : يا رسول اللّه من قرابتك من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : « علي وفاطمة وابناهما علیهم السلام ». قالها ثلاثاً (1).

روى الزمخشري في تفسيره حول الآية : روي أنّها لما نزلت قيل : يا رسول اللّه من قرابتك ؟ ومن هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : « علي وفاطمة وابناهما ». ونقله الإمام الرازي في تفسيره ج 27 ، ص 166.

وقد نقل ابن بطريق في العمدة عن تفسير الثعلبي نزول الآية في حقهم بالعبارة المتقدّمة.

وقد اقتفى أثرهم في هذا النقل الشيخ كمال الدين في مطالب السؤول ص 8 ، فصرح بنزول الآية فيهم بالعبارة الماضية ، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 25 ، والعلاّمة النسفي في تفسيره ص 95 بهامش تفسير الخازن ، والحمويني في كفاية الخصام ص 96 ، ونظام الدين النيسابوري في تفسيره المطبوع بهامش تفسير الطبري ج 25 ص 31 ، وأبو حيان في البحر المحيط ج 7 ص

ص: 82


1- مسند الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة : 218.

516 ، وابن كثير الدمشقي في تفسيره ج 4 ص 112 ، والهيثمي في مجمع الزوائد ج 5 ص 168 ، إلى غير ذلك من أعلام الحديث وحفاظه.

وكلّهم ينصُّ على نزول الآية في حقهم ، بأشخاصهم.

وأمّا القسم الثاني ، الذي يدلّ على نزول الآية في أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله على وجه عام ، فإليك بعضها :

روى محب الدين الطبري في الذخائر ص 25 ، وابن حجر في الصواعق ص 120 ، و 136 : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ اللّه جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي وإنّي سائلكم غداً عنهم ».

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9ص 14 ، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 166 ، والحافظ الكنجي في الكفاية ص 32 ، وابن حجر في الصواعق ص 101 و 136 : انّ الحسن بن علي خطب بعد شهادة أبيه بقوله : « أيّها الناس لقد فارقكم رجل ما سبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون - إلى أن قال - وإنّا من أهل البيت الذين افترض اللّه عزّ وجلّ مودّتهم وولايتهم ، فقال فيما أنزل على محمد صلی اللّه علیه و آله : ( قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرَاً إلاّ المَؤدَّةَ فِي القُرْبَى ) ».

وأخرج الطبري في تفسيره ج 25 ص 16 باسناده عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين - رضي اللّه عنهما - أسيراً فأُقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام ، فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة ، فقال له علي بن الحسين - رضي اللّه عنه - : « أقرأت القرآن؟ » قال : نعم. قال : « أقرأت آل حم » قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال : « ما قرأت : ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) » قال : وأنّكم لأنتم هم ؟ قال : « نعم ».

وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 7 ، وابن حجر في الصواعق ص 101 ، وص 136 ، والزرقاني في شرح المواهب.

ص: 83

وروى الطبري في تفسيره ج 12 ص 16 و 17 ، عن سعيد بن جبير ، وعمرو ابن شعيب ، أنّهما قالا : هي قربى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ورواه البخاري في صحيحه ج 6 ص 129 ، عن سعيد بن جبير : أنّها قربى آل محمد.

وقال الرازي : لا شك أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يحب فاطمة علیهاالسلام ، قال صلی اللّه علیه و آله : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر ، عن محمد صلی اللّه علیه و آله أنّه كان يحب علياً والحسن والحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمّة مثله لقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ، ولقوله سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

ثم قال : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمداً وآل محمد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمد واجب ، وقال الشافعي - رضي اللّه تعالى عنه - :

يا راكباً قف بالمحصب من منى *** واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي (1)

ولو أنّ القارئ الكريم أضاف إلى هذا الجم الغفير من الأحاديث التي اكتفينا بنقل النزر اليسير منها ، ما رواه أئمّة الحديث من الشيعة لوجد الحديث في

ص: 84


1- مفاتيح الغيب : 7 / 390 - 391.

أعلى درجة الاستفاضة والتواتر ، فلا يبقى لقائل شك في أنّ المراد من القربى أقرباء النبي ، ولا من المودّة إظهار الحب إليهم ، نعم قد يصعب على بعض من لا خبرة له بالحديث والتفسير قبول هذه القضية في حق آل طه وياسين.

وقد أشار النبهاني في خطبة كتابه إلى ذلك البعض وقال : ومن هذا القبيل ما وقع في عصرنا في القسطنطينية سنة سبع وتسعين ومائتين وألف هجرية من قوم جهّال غرقوا من أحوال البغضاء لآل محمد في أوحال ، فأخذوا يتأوّلون بجهلهم ما ورد من الآيات والأخبار في فضل أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي ومنبع الحكمة ، ويخرجونها عن ظواهرها بأفهامهم السقيمة ، وآرائهم الذميمة ، ومع ذلك فقد زعموا أنّهم لأهل البيت من أهل المحبة والوداد ، ولم يعلموا أنّهم هائمون من الخذلان في كل واد (1). والحق ينطق منصفاً وعنيداً.

ص: 85


1- الشرف المؤبد راجع الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء : 37.

ص: 86

2

معاجز النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكراماته

اشارة

ص: 87

في هذا الفصل :

1. دعوة الأنبياء والقيام بالمعاجز والكرامات.

2. قساوسة الغرب ومعاجز النبي الأكرم.

3. المحاسبة العقلية تفند مزاعم القساوسة.

4. القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن : انشقاق القمر ، معراجه ، ومباهلته مع نصارى نجران.

5. مطالبة النبي الإتيان بالمعجزة بعد الأخرى.

6. الكفّار يصفون معاجز النبي بالسحر.

7. النبي الأعظم وبيّناته.

8. إخبار النبي عن الغيب كالمسيح.

9. معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث.

10. امتياز الأحاديث الإسلامية - حول معاجز النبي - عن أحاديث اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم.

ص: 88

النبي الأكرم ومعاجزه وكراماته

اشارة

شهد التاريخ البشري أُناساً ادّعوا النبوة كذباً ودجلاً ، واتَّخذوا ميل الإنسان الفطري نحو قضايا الدين ذريعة للوصول إلى مآربهم ، وجعلوا سذاجة بعض الأمم والجماعات ، وسيلة لتغطية دجلهم وكذبهم.

لا شك أنّ تمييز الحق من الباطل والصادق من الكاذب ، وتشخيص النبي الحقيقي عن المتنبئ والمنتحل للنبوة كذباً ودجلاً ، يحتاج إلى ضوابط ودلائل ومعايير.

وقد كان هناك طرق ووسائل ظلت البشرية تتوسل بها لمعرفة الحقيقة واستجلاء الصواب ، وكان الإتيان بالمعجزة في طليعة تلكم الطرق ، حيث كانت إحدى الطرق التي تثبت بها صحة دعوى النبوة وإن لم تكن الطريق الوحيد.

والمعجزة هي : العمل الخارق للعادة ، الذي يعجز عن الإتيان به البشر حتى النوابغ والعباقرة.

وهناك تعاريف أُخر ربّما تكون أكمل من هذا التعريف ، ولسنا بصدد تحديدها على وجه الدقة ، والمهم هو أن نعرف أنّ المعجزة كان أوّل ما يطالب بها مَن يدّعي النبوة كوثيقة تثبت صدق مدّعاه ، وصحّة انتسابه إلى اللّه ، إذا قام بها ، دون تهرّب وتملّص ، فها هو القرآن يحدثنا أنّ صالحاً عندما حذر قومه من سخط اللّه ، وأخبرهم بأنّه رسوله إليهم ، طالبوه بالمعجزة قائلين : ( مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا

ص: 89

فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1).

وقد وردت آيات أُخرى بهذا المضمون في سور شتّى.

ولأجل ذلك كان الأنبياء لا يتأخرون عن تلبية هذا الطلب الطبيعي والمنطقي ، بل يبادرون إلى إظهار معاجز حسبما تقتضيه الظروف مبرهنين بذلك على صحّة دعواتهم وصدق أقوالهم ، بينما ينكص الكذابون ومنتحلو النبوة ، وتخيب مساعيهم.

وقد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم محمد صلی اللّه علیه و آله على ذلك ، حيث طالبوه بالمعاجز في بدء دعوته ، وكان الرسول العظيم يلبي طلبهم ، ويأتي بمعاجز عديدة يشهدها الناس ويرونها بأعينهم.

وبالرغم من كثرة هذه المعاجز - التي وقعت على يد رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في موارد كثيرة - أبى بعض من ناوأ الإسلام إلاّ إنكار هذه المعجزات ، وادّعاء أنّ نبي الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن فقط.

إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول الكريم طرحت من جانب الكتّاب المسيحيين ، تقليلاً من أهمية الدعوة المحمدية ، وحطاً من شأن الرسول ومكانته وعظمته ، فإذا بهم يزعمون أنّ معاجز النبي كانت تنحصر في القرآن دون سواه ، وانّه كلما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة ، أحالهم على القرآن ولم يظهر أيّة معجزة سواه.

فها هو « فندر » القسيس الألماني المعروف يقول في كتابه ميزان الحق ص 277 - وهو كتاب حول حياة الرسول - : إنّ من شروط النبوة أن يأتي مدّعيها بمعجزة لإثبات مدّعاه ، ولكن محمداً لم يأت بأيّة معجزة قط.

ص: 90


1- الشعراء : 154.

ثم استشهد بآيات في سورة العنكبوت والإسراء والأنعام وغيرها ، ممّا سنفرد لدراستها فصلاً خاصاً بعد هذا الفصل.

على أنّ « فندر » لم ينفرد بطرح هذه الشبهة ، بل طرحها قساوسة آخرون قبله وبعده.

وقد ذكر فخر الإسلام : أنّ المسيو « جورج دوروي » رسم في ص 157 من كتابه صورة خيالية عن النبي الأكرم بيده ورقة من القرآن الكريم ، وكتب تحت الصورة هكذا : كان محمد كلّما طالبه قومه بمعجزة ردّهم قائلاً : ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلاّ بإذن اللّه ، ولكن اللّه لم يمن عليّ بهذه النعمة ، أي نعمة إظهار المعاجز (1).

وبهذه الكيفية حاول المسيو « جورج دوروي » المسيحي أن ينفي معاجز النبي محمد صلی اللّه علیه و آله ، ولكن ما نقله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتألف من صحيح وسقيم.

أمّا الصحيح : فهو قوله في جواب قومه : إنّه ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلاّ بإذن اللّه. وذلك أمر يؤيده القرآن حيث يقول سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (2).

وأمّا السقيم : فهو ما ألحقه بكلام الرسول افتراءً عليه ، وهو قوله : ولكن اللّه لم يمنّ عليّ بهذه النعمة ولم يعطني أية معجزة.

فإنّ هذا الكلام المنقول عن لسان النبي تقوّل على رسول اللّه ، وقد دلّت شواهد كثيرة على أنّه أتى بمعاجز كثيرة لقومه يوم طلبوا منه ذلك ، ولم يكن شأنه إلاّ شأن سائر الأنبياء والرسل.

ص: 91


1- أنيس الأعلام : 5 / 351 لفخر الإسلام وهو قس مسيحي أسلم وكتب حول النصرانية ، وما فيها من تناقضات وخرافات ، كتابه القيم « أنيس الأعلام » وغيره من الكتب القيمة.
2- الرعد : 38.

ثم إنّ القسيس « أنار كلي » مؤلف كتاب « مشكاة الصدق » الذي طبع في لاهور سنة 1901م قد بسط الكلام في هذا الباب ، فهو - بعد أن طرح الشبهة في كتابه واستشهد بآيات من القرآن على مزعومه - قال : إنّ محمداً كلّما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة لاذ بالصمت ، أو تهرّب من ذلك الطلب ، مكتفياً بقوله : « إنّما أنا بشر مثلكم » و « إنّما إنا منذر » إلى غير ذلك من العبارات.

وسوف نقوم بتحليل هذه الآيات التي استند إليها « انار كلي » في مزعومه.

أجل هكذا سعى الكتّاب المسيحيون إلى إنكار معاجز الرسول ، ونفوا أن تكون له معجزة أُخرى سوى القرآن ، فهل هم على حق فيما يزعمون ؟ بكل تأكيد لا ، لأنّ المحاسبة العقلية - قبل أي دليل - تفنّد هذه المزعمة ، وتثبت نفس المحاسبة أنّ الرسول الأعظم كان صاحب معاجز أُخرى عدا القرآن الكريم ( معجزته الخالدة ) ، وإليك بيانها.

المحاسبة العقلية تفند مزعمة القساوسة :

إنّ الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله وصف نفسه بأنّه خاتم الأنبياء ، وأنّ رسالته خاتمة الرسالات ، وكتابه خاتم الكتب ، حسبما أوردنا أدلّته في الجزء الثالث من هذه السلسلة (1).

ثم أخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل والأنبياء ، حيث قال في شأن موسى علیه السلام : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) (2). وقال أيضاً : ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (3).

ص: 92


1- لاحظ مفاهيم القرآن : 3 / 118 - 180.
2- الإسراء : 101.
3- النمل : 12.

ثم إنّه عندما يتحدّث عن المسيح ودعوته ، يصفه بوحي من اللّه بقوله : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (1).

ثم إنّه صلی اللّه علیه و آله لم يخص هذين النبيين العظيمين بالإتيان بالمعاجز ، بل أثبتها لكثير من الأنبياء من قبله كما هو لائح لمن سبر أحوالهم في القرآن المجيد.

وعند ذلك ، كيف يكون للنبي الأعظم وهو يخبر بهذه المعاجز للأنبياء ويصف نفسه بأنّه خاتمهم وآخرهم ، وأفضلهم ، إذا طلبوا منه إظهار المعجزة ، أن ينكص ويتهرّب ، أو يلوذ بالصمت ، أليس في مثل هذا ما يوهن دعوته ، وينقض أقواله ؟

لو فرضنا أنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله لم يكن إلاّ نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أُمّتهم متستراً برداء النبوة ، لما كان يصح منه أن يخبر بمعاجز للأنبياء الماضيين ثم ينكص هو نفسه عن الإتيان بمثلها ، ومع ذلك يزعم أنّه خاتمهم وأكملهم ديناً ، فكيف وهو نبي صدقاً وحقاً ، قد بانت دلائل صدق دعوته ، بأوضح الدلائل وأتقن البراهين ؟

فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان ما زعمه القساوسة ، بل تثبت بكل قوّة أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد أظهر معاجز عديدة لقومه عندما طلبوا منه ذلك ، كيف ، والقرآن يصفه بما لا يصف به أحداً من أنبيائه ؟ وهو يقتضي عقلاً أن يكون له مثل ما أُوتي سائر الأنبياء ، وأن يكون قد أتى بها مبرهناً على صدق دعوته خصوصاً إذا توقفت هداية قومه على إظهار معاجزه.

ص: 93


1- آل عمران : 49.

ولهذا السبب كان منتحلو النبوة - كذباً - ينكرون معاجز الأنبياء ، أو يتأوّلونها تخلّصاً من الإحراج إذا طالبهم الناس بالمعجزة ، على العكس من سيرة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأقواله الذي أخبر بصراحة عن معاجز الأنبياء بالتفصيل ، كما أخبر أنّ دعوات الأنبياء ما كانت تنفك عن طلب المعاجز منهم ، فما من نبي راح ينذر قومه إلاّ وطالبوه بأن يظهر لهم معجزة يبرهن بها على صدق مدّعاه وصدق رسالته ، وقد أسلفنا بعض الآيات في هذا المورد. القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن

إنّ القرآن يخبر - بصراحة - عن وقوع معاجز غير القرآن على يدي الرسول الأمين ، وإليك الآيات القرآنية الواردة في هذا المورد :

1. انشقاق القمر

قال سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مِنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) (1).

أطبق المفسرون مثل الزمخشري في كشافه ، والطبرسي في مجمعه والرازي في مفاتيحه على ما يلي :

اجتمع المشركون إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إن فعلت تؤمنون ؟ » قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول اللّه ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر فلقتين ، ورسول اللّه ينادي : « يا فلان يا فلان اشهدوا ».

ص: 94


1- القمر : 1 - 4.

وقال ابن مسعود : انشق القمر على عهد رسول اللّه شقتين ، فقال لنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اشهدوا اشهدوا ».

ونقل عن ابن مسعود أنّه قال : والذي نفسي بيده لقد رأيت حرّاء بين فلقتي القمر.

وعن جبير بن مطعم : انشق القمر على عهد رسول اللّه حتى صار فلقتين على هذا الجبل ، وعلى هذا الجبل ، فقال ناس : سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلَّهم.

وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة ، منهم : عبد اللّه ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عمر ، وابن عباس ، وجبير ابن مطعم ، وعبد اللّه بن عمر ، وعليه جماعة المفسرين ، إلى أن قال : فلا يعتد بخلاف من خالف فيه ، لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك ، والطعن في ذلك بأنّه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول اللّه لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار ، قول باطل ، فيجوز أن يكون اللّه تعالى قد حجبه عن أكثرهم بغيم وما يجري مجراه ، ولأنّه قد وقع ذلك ليلاً ، فيجوز أن يكون الناس نياماً فلم يعلموا بذلك ، على أنّ الناس ليس كلّهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو من آية وعلامة ، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه ، وإنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر ، لأنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة (1).

وما ذكره من الاعتذار في عدم رؤية أكثر الناس انشقاق القمر مبني على ما كان يعتقده علماء الفلك في الأزمنة السابقة من كون الأرض مسطحة لا كروية بحيث إذا طلع البدر يطلع على الناس كلّهم ، وإذا غرب غرب عنهم جميعاً في

ص: 95


1- مجمع البيان : 5 / 186.

وقت واحد ، وهذا مرفوض لكروية الأرض.

وقال الرازي : المفسرون بأسرهم على أنّ المراد : انّ القمر انشق وحصل فيه الانشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الانشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة ، وقالوا : سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آية الانشقاق بعينها معجزة ، فسأل ربّه فشقه ، ومضى.

وقال بعض المفسرين المراد سينشق ، وهو بعيد ولا معنى له ، لأنّ من منع ذلك - وهو الفلسفي - يمنعه في الماضي والمستقبل ، ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل ، وإنّما ذهب إليه ذلك الذاهب لأنّ الانشقاق أمر هائل ، فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر ، نقول : النبي لما كان يتحدّى بالقرآن وكانوا يقولون : إنّا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه ، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أُخرى ، فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر ، وأمّا المؤرّخون فتركوه ، لأنّ التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم ، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنّه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له ، وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق ، فيجب اعتقاد وقوعه ، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام ، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات (1).

وقال الزمخشري : إنّ أنس بن مالك قال : إنّ الكفار سألوا رسول اللّه آية فانشق القمر مرتين ، قال ابن عباس : انفلق فلقتين : فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود : رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة انّه خطب بالمدائن وقال : ألا إنّ الساعة قد اقتربت ، وانّ القمر قد انشق على عهد نبيكم (2).

ص: 96


1- مفاتيح الغيب : 7 / 748.
2- الكشاف : 3 / 189.

هذه عبائر أشهر المفسرين الذين أسميناهم ، ومثلها غيرهم ، ونحن لا يهمنا البحث في تفاسير هذه المعجزة ، ولا الاعتراضات الطفولية التي تثار حولها ، إنّما يهمنا أن نبحث في دلالة الآيات المذكورة على وقوع هذه المعجزة العظمى على يد الرسول الكريم.

أمّا قوله سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) فمعناه أنّ الساعة - أي القيامة - قد قربت وقرب موعد وقوعها ، وإن كان الكفّار يتصورونه بعيداً ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في موضع آخر حيث قال : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً ) (1).

وأمّا قوله : ( وَانشَقَّ القَمَرُ ) يدل على وقوع انشقاق القمر ، لأنّه فعل ماض ولا وجه لحمله على المستقبل ، بأن يكون المراد سينشق القمر في المستقبل أي عند وقوع القيامة ، لأنّ إرادة المضي من لفظ انشق أولى ، للمناسبة بينها وبين الجملة السابقة : ( اقْتَرَبَتِ ) وحمل الثاني ( انشَقَّ ) على المستقبل نوع مجاز ، وإن كان بادّعاء كونه محقق الوقوع ، وأمّا وجه الربط بين الجملتين فهو ما أشار إليه أمين الإسلام الطبرسي في مجمعه من أنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.

وبهذا يكون القرآن قد أخبر في هذه الآية عن تحقق هذين الشرطين : ظهور نبي الإسلام ، وانشقاق القمر بيده ، وإنّهما من أشراط الساعة كما يقول في آية أُخرى : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) (2).

وعندئذ لا مجال لحمل الجملة ( انشَقَّ ) على المستقبل.

أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى : ( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ

ص: 97


1- المعارج : 6 - 7.
2- محمد : 18.

مُسْتَمِرٌّ ) أوضح شاهد على وقوع هذه المعجزة « انشقاق القمر » في عهد الرسول ، لأنّ المقصود من الآية في قوله ( وَإِن يَرَوْا آيَةً ) غير القرآن من المعاجز ، بدليل أنّه يقول : ( وَإِن يَرَوْا ) ولو كان المراد من الآية هي الآيات القرآنية لكان اللازم أن يقول : وان سمعوا آية ، أو تنزّلت عليهم آية ، وعلى هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي سبق ذكره في الآية السابقة.

ثم إنّ الدقة والإمعان في قوله تعالى : ( يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) يقودنا إلى الإذعان بأنّ ظرف هذا الحدث « انشقاق القمر » إنّما هو هذا العالم الدنيوي ، وقبل بعث الناس وحشرهم حتى يكون مجال للناس أن يتفوّهوا بغير الحق ، ويقولوا هذا سحر مستمر ، وأمّا الآخرة فليس هناك لأحد أن يتفوّه بغير الحق ، أو يصف الإعجاز بالسحر إذ يختم في ذلك اليوم على الأفواه ، وتتكلّم الأيدي والأرجل قال سبحانه : ( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (1).

بل لا يؤذن لهم حتى يعتذروا فضلاً عن أن يتكلموا بما سولت لهم أنفسهم من الكذب والدجل ، قال سبحانه : ( هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (2) بل هناك تنكشف الحقائق وتظهر البواطن ويقف الإنسان على الحقائق ببصر حديد قال سبحانه : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ) (3).

هكذا يدل هذا المقطع من الآية على أنّ ظرف الانشقاق كان في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولأجل ذلك اتخذ منه المشركون موقفاً متعنتاً مجادلاً ، وقال قائلهم :

ص: 98


1- يس : 65.
2- المرسلات : 36.
3- ق : 22.

سحركم ابن أبي كبشة ، حيث كان المشركون يدعون الرسول الأعظم بابن أبي كبشة وهو من أجداد النبي من ناحية أُمّه (1).

2. معراج النبي

إنّ إسراء النبي ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إحدى المعاجز العظيمة التي أثبتها اللّه سبحانه لنبيه ، وأخبر عنه القرآن حيث قال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (2).

وليست تلك الرحلة الطويلة التي تحقّقت في زمن قصير في ذلك الظرف الذي لم يكن تتوفر فيه ما يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة ، إلاّ معجزة من معاجزه.

إنّ القرآن الكريم لا يثبت هذا الإعجاز للرسول في هذا الموضع فحسب ، بل يذكره في موضع آخر أيضاً ، ويدافع عنه هناك بقوة بحيث لا يبقى معه شك ، بل يخبر أنّ رحلة النبي ومعراجه تجاوز عن المسجد الأقصى إلى « سدرة المنتهى ». قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ) (3).

ص: 99


1- الدر المنثور : 6 / 133. وقد جمع النقول الواردة عن الصحابة حول شق القمر ، فلاحظ.
2- الإسراء : 1.
3- النجم : 5 - 18.

ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل قضية المعراج ، بل يكفي الإذعان بوقوعها ورودها في هاتين السورتين ، مضافاً إلى الأحاديث المتواترة حول قضية المعراج ، وإن لم تكن الخصوصيات بالغة إلى هذا الحد من التواتر ، بل حولها أحاديث آحاد غير جامعة لشرائط الحجية ، وقد قسم الطبرسي في مجمعه الأحاديث الواردة حول المعراج ، إلى أربعة أقسام ، فلاحظ.

3. مباهلة النبي لأهل الكتاب

تعرض القرآن لقضية المباهلة ، في الآية التالية : قال سبحانه : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ) (1).

قال الزمخشري في تفسير الآية : لمّا دعاهم النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر ، فلمّا تخالوا قالوا للعاقد - وكان ذا رأيهم - : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلاّ ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول اللّه ، وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها. وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

فقالوا : يا أبا القاسم ! رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ، ونثبت على ديننا. قال : « فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما

ص: 100


1- آل عمران : 61.

عليهم » فأبوا ، قال : « فإنّي أُناجزكم » فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك ، قال : « والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل اللّه نجران وأهله ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

ثم قال الزمخشري : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، وأما ضم الأبناء والنساء ، فلأجل أنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده ، وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنّهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربّما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق (1).

إنّ معجزة النبي - وهي حلول العذاب على نصارى نجران - وإن لم تتحقّق بسبب انصراف النصارى عن المباهلة ، إلاّ أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة واستعداده لذلك من جانب ، وانسحاب نصارى نجران من الدخول مع الرسول في هذا التباهل من جانب آخر ، يكشفان عن أنّ حلول العذاب كان حتمياً لو تباهلوا ، فقد أدركوا الخطر وأحسّوا بخطورة الموقف ، فاستعدوا للمصالحة والتنازل.

ص: 101


1- الكشاف : 1 / 326 - 327 ( بتلخيص يسير ) ولاحظ مجمع البيان : 1 / 452 - 453.

مطالبة النبي بالمعاجز ، الواحدة بعد الأُخرى

إنّ القرآن يصرح بأنّ النبي كلّما أتى لقومه بمعجزة طالبوه بمعجزة أُخرى ، وأصرّوا على أن تكون معاجزه مثل ما أُوتي رسل اللّه من قبل ، وهذا يدل على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن فوقع مورد الاعتراض والإصرار.

قال سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) (1).

فلنقف على المراد من لفظ ( آيَةٌ ) الواردة في هذا المورد ، فليس المراد منها نفس القرآن ، ولا الآية القرآنية ، لأنّ لفظ الآية كما ترى جاءت بصورة النكرة ، وهي تكشف عن نوع خاص منها ، بينما إذا كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية ، كان ينبغي أن يكون الكلام على نحو آخر ، والآية نظير قوله سبحانه : ( وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ ) (2).

والمقصود منها : كل آية معجزة ، تثبت صلة الرسول باللّه سبحانه نظير قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) (3).

إنّ لفظ الآية يستعمل في القرآن في موارد :

1. العلامة المطلقة : فيقال هذا آية ذلك ، قال سبحانه : ( وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّهِ إِلا وَهُم مُشْرِكُونَ ) (4).

ص: 102


1- الأنعام : 124.
2- يونس : 97.
3- البقرة : 145.
4- يوسف : 105 - 106.

ومثله قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) (1).

وقد استعمل لفظ الآية في هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم ، ويقصد من الآية علامة الشيء ، إذا كانت دالة على وجوده سبحانه وصفاته ، أو ما إذا كانت مقارنة مع العبرة ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (2).

2. الآية القرآنية : مثل قوله سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) (3) وقوله سبحانه : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) (4).

3. المعجزة لا بمعنى انّ الآية بمعنى المعجزة ، بل بمعنى نفس العلامة ولكن مقرونة بهذا الوصف وكأنّ لفظة المعجزة مقدرة بعدها ، ومن هذا القبيل قوله سبحانه : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ) (5).

وعلى الجملة فليس للفظ ( الآيَةَ ) إلاّ معنى واحد ، وإنّما الاختلاف في المستعمل فيه ، فيكون الشيء آية للعبرة ، أو آية لقدرته وعلمه ، أو آية لكون الآتي بها مبعوثاً من جانبه سبحانه ، إلى غير ذلك ، فالتمييز بين الموارد إنّما هو بحسب القرائن الحافة بالكلام.

ص: 103


1- الإسراء : 12.
2- يونس : 92.
3- آل عمران : 58.
4- آل عمران : 113.
5- آل عمران : 49.

وعلى ذلك فالمراد من قوله سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) هو العلامة الدالة على أنّ الآتي بها مبعوث من جانبه سبحانه ، فتكون معجزة للناس وموجبة للتحدي.

ولو كان المراد الآية القرآنية لكان الأنسب بل المناسب أن يستعمل كلمة « النزول » بدل « المجيء » فيقال : وإذا نزلت عليهم آية ، مكان ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) .

على أنّ الدقة في مضمون الآية والقرائن الحافة بها تعطي أنّ المقصود من لفظة الآية هنا هو غير القرآن ، غاية ما في الباب أنّ المشركين كانوا يريدون أن تكون المعاجز التي يأتي بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل المعاجز التي أتى بها موسى علیه السلام مثلاً.

وأما علّة اختلاف الأنبياء في صنوف المعاجز ، فسيوافيك بيانها في الفصل القادم.

وصف معاجز النبي بالسحر

إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلّما رأوا من الرسول صلی اللّه علیه و آله معجزة قالوا : إنّها سحر ، وهذا أدلّ دليل على ظهور معاجز - عدا القرآن - على يد النبي الأمين صلی اللّه علیه و آله .

أمّا هذه الآيات فمنها قوله سبحانه : ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (1) وكلمة ( رَأَوْا ) وتنكير لفظ ( آيَةً ) شاهدان على أنّ المقصود من الآية هو غير القرآن من المعاجز ، وإلاّ كان المناسب أن يستعمل ألفاظ « النزول » أو « السماع » أو غير ذلك ، مكان « الرؤية » ، أو تبديل النكرة

ص: 104


1- الصافات : 14 - 15.

بالمعرفة ، نظير قوله سبحانه : ( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) .

ولأجل ذلك نرى المفسرين يستشهدون بهذه الآية وغيرها على إثبات معاجز للنبي صلی اللّه علیه و آله غير القرآن الكريم.

النبي الأعظم وبيّناته

تفيد الآية التالية أنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله جاء إلى الناس بالبينات ، وهي المعاجز ، بقرينة سائر الآيات الأخر التي استعملت فيها كلمة البينات في المعاجز ، قال سبحانه : ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

والبيّنات جمع البيّنة بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر ، وربّما يحتمل أنّ المراد منها هو القرآن ، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبل القرآن حول النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، ولكن ملاحظة الآيات الأخر التي استعملت فيها هذه الكلمة وأُريد منه المعاجز والأعمال الخارقة للعادة ، توجب القول بأنّ المراد : إمّا خصوص المعاجز ، أو الأعم منها ومن غيرها ، وقد ورد فيما يلي من الآيات لفظ « البيّنات » وأُريد منها المعاجز.

قال سبحانه : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ ) (2) ، ( ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ ) (3) ( إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) (4) ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) (5) إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات وأُريد منه الخوارق للعادة ، لاحظ المعجم المفهرس لفظة البينات.

ص: 105


1- آل عمران : 86.
2- البقرة : 87.
3- النساء : 153.
4- المائدة : 110.
5- المائدة : 32.

ولا نقول إنّ لفظ البيّنة بمعنى المعجزة ، بل هي كما عرّفناك هو الدليل المبين للحقيقة ، والمعاجز أحد مصاديقها.

إخبار النبي عن الغيب كالمسيح

يعد القرآن الإخبار عن المغيبات من معاجز السيد المسيح علیه السلام ويقول حاكياً عنه : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (1). وقد أخبر النبي محمد صلی اللّه علیه و آله عن طائفة من المغيبات بواسطة الوحي الذي يوحى إليه ، وجاءت عدة من هذه المغيبات في القرآن الكريم منها قوله مخبراً عن انتصار الروم بعد هزيمتهم ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (2). كما أخبر عن هزيمة قريش في بدر قال : ( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (3).

وقد جمعنا موارد إخبار النبي صلی اللّه علیه و آله عن المغيبات عن طريق الوحي في الجزء الثالث من هذه الموسوعة (4). فلاحظ.

معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث الإسلامية

ما ذكرناه بعض ما ورد من معاجز النبي الأكرم في القرآن ، غير أنّه ورد في الأحاديث والروايات الصحيحة ما ينص على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن أكثر من أن تحصى ، وقد جمعها وأحصاها علماء الحديث ودوّنوها في كتبهم ، ومؤلّفاتهم ، وأجمع كتاب أُلِّف في هذا الموضوع ما جمعه الشيخ العاملي ( المتوفّى

ص: 106


1- آل عمران : 49.
2- الروم : 1 - 3.
3- القمر : 45.
4- معالم النبوة في القرآن الكريم : 455 - 556 وأيضاً 503 - 509.

عام 1104 ه ) وأسماه « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » وقد نقل فيها معجزات النبي بمئات الأسناد ، استخرجها من كتب الشيعة والسنّة ، جزاه اللّه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

على أنّ أحاديث المسلمين حول معاجز نبي الإسلام تمتاز على روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين :

الأولى : قلة المسافة الزمنية بيننا وبين حوادث عهد النبي وكثرتها بيننا وبين حوادث عهود النبيين موسى وعيسى علیهماالسلام وغيرهما ، وهذا يوجب الاطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من غيرهم.

الثانية : تواتر الروايات الإسلامية حول معاجز النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وعدمه في الجانب الآخر ، خاصة إذا عرفنا أنّ الروايات التي ينقلها اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم تنتهي إلى أفراد قلائل.

وليعلم القارئ أنّا لسنا بصدد تصحيح كل ما نسب إلى النبي صلی اللّه علیه و آله من المعجزات وخوارق العادات سواء أصحّ سنده ، أم لا ، أطابق كتاب اللّه أم لا ، أوافق الأصول العقلية أم لا ، بل نحن بصدد نفي السلب الكلي الذي ادّعاه أعداء القرآن والسنّة.

هذا بعض ما يمكن التحدّث عنه هنا حول معاجز نبي الإسلام العظيم ، غير القرآن الكريم معجزته الخالدة.

ص: 107

ص: 108

3

تحقيق وتحليل لمفاد الآيات النافية للمعجزة

اشارة

ص: 109

في هذا الفصل

1. الطرق العلمية الثلاث لإثبات نبوّة مدّعي النبوة.

2. يجب على النبي أن يكون مزوداً بالمعاجز ، ولا يجب عليه القيام بكل ما يقترح الناس عليه.

3. انّما يصح القيام بالمعجزة المطلوبة إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المحال ، وكان بين الطالبين جماعة مستعدة للانضواء تحت راية النبي.

4. المعجزة نوع تصرف في الكون ولا تتحقق إلاّ بإقدار وإذن من اللّه سبحانه.

5. الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس ، فلو تعلّق طلب المقترحين بإبادتهم لما صح القيام به.

6. هناك معاجز لو طلبها الناس ولم يؤمنوا بالنبي بعد الإتيان بها لعمّهم العذاب.

7. عرض الآيات الثمانِ عشرة التي استدل بها القساوسة على عدم تجهز النبي بمعجزة سوى القرآن.

8. عدم قيام النبي بمقترحات الطالبين بالمعجزة لفقدان الشرائط اللازمة في القيام بمقترحات الطالبين ، وهي عشرة.

ص: 110

مفاد الآيات النافية للمعجزة

اشارة

لا شك أنّ المعجزة إحدى الطرق لإثبات دعوى النبي ، نعم الإعجاز أحد الطرق لا الطريق الوحيد ، وقد قرّر في الأبحاث الكلامية بأنّ هناك طريقين آخرين لإثبات دعوى النبوة :

الأوّل : تصريح النبي السابق بنبوة النبي اللاحق ، كما ورد التصريح في التوراة والإنجيل بنبوّة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، وحكاه سبحانه في القرآن الكريم بقوله : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (1).

وقوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (2).

والآيتان تشيران إلى تنصيص الكتب السابقة على نبوة النبي الخاتم ، فعلى من يريد الاهتداء فعليه أن يرجع إلى تلكم الكتب التي تحتوي على بيان صفات النبي وخصوصياته حتى يكون ذا بصيرة في الأمر ، فالآيتان تنبهان بهذا الطريق

ص: 111


1- الأعراف : 157.
2- الصف : 6.

الذي هو إحدى الطرق.

الثاني : ملاحظة القرائن والشواهد ، من حياة مدّعي النبوة وشريعته ومحتوى كتابه وأصحابه وأخلاقه وسوابقه وممارساته ، إلى غير ذلك من القرائن ، التي لو تضافرت لأفادت اليقين بصدق دعوى المدّعي للنبوّة وأنّه صادق في ادّعائه ، وهذا الطريق هو المتعارف في المحاكم القضائية لتمييز المحق من المبطل ، وهو الطريق الأتقن والأكثر اطمئناناً.

وقد سلكنا هذين الطريقين في إثبات نبوّة نبينا في أبحاثنا الكلامية.

وعلى ذلك فالإعجاز أحد الطرق ، لا الطريق الوحيد ، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة ، يجب إلفات نظر القارئ إلى النقاط التالية :

الأولى : هل يجب على النبي القيام بكل ما يقترحه الناس عليه من معاجز أو أنّه يجب أن يتمتع بالدلائل المثبتة لصدق دعواه وبالمعجزات الساطعة التي تفيد القطع لكل من يريد الحقيقة ويتحرّاها دون غرض أو مرض ، سواء أطابقت تلك المعاجز مقترحات من بعث إليهم أم خالفتها ؟

وبعبارة أُخرى : يجب أن تبلغ معجزات النبي حداً يوجب طمأنينة النفس واستيقانها برسالته لكل من يطلب الحقيقة ويتوخّاها ، ولا يجب على النبي حتماً أن يقوم بالإتيان بكل ما يطلب منه.

إنّ العقل لا يوجب أكثر من أن تكون دعوى النبوة مقترنة بالدلائل والشواهد التي تُثبت صلة النبي باللّه سبحانه ، وتكون كافية في إفادة الإذعان بصدقه ، وأمّا قيامه بكل ما يطلب منه ، فلا دليل على وجوبه لا من العقل ولا من الشرع.

ومن هنا يتبين أنّ اللازم على النبي هو القيام بإقناع الناس من حيث

ص: 112

المجموع ، وأمّا قيامه بإقناع كل فرد فرد على حدة وتنفيذ طلبات آحاد الناس فلا دليل عليه ، وتشهد على ذلك حياة الأنبياء ، فقد أعطى سبحانه لموسى الكليم تسع آيات بيّنات ، وللمسيح ما آتاه من المعجزات الواردة في قوله سبحانه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (1).

أقول : إنّ اللّه سبحانه قد أعطاهما تلكم المعاجز ، ولم يكلفهما بالقيام بإقناع كل فرد بالإتيان بكل ما يقترحه حسب ميوله وأغراضه.

نعم ، لابد أن تكون معجزة كل نبي مشابهة لأرقى فنون عصره وزمانه ، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره ، فإنّه أسرع للتصديق ، وأقوم للحجة ، فكان من الحكمة والصواب أن يخص موسى بالعصا ، واليد البيضاء ، لمّا شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون ، ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والإذعان به حين رأوا العصا تنقلب ثعباناً وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الأولى ، فرأى السَحَرَة ذلك ، وعلموا أنّه خارج عن حدود السحر ، وآمنوا بأنّه معجزة إلهية وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ، ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.

وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح ، وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب ، وكان للطب رواج باهر في سورية وفلسطين ، لأنّهما كانتا مستعمرتين لليونان ، وحيث بعث اللّه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئاً يشبه الطب ، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ليعلم أهل زمانه أنّ ذلك شيء خارج عن قدرة البشر وغير مرتبط

ص: 113


1- آل عمران : 49.

بمبادئ الطب وانّه ناشئ عما وراء الطبيعة.

وأمّا النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله فقد برعت العرب في عصره في البلاغة وامتازت بالفصاحة ، وبلغت الذروة في فنون الأدب حتى عقدوا النوادي وأقاموا الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة ، فلأجل ذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان وبلاغة القرآن ، ليعلم كل عربي أنّ هذا خارج عن طوق البشر ، ويعترف به كل من يتوخّى الحقيقة (1).

نعم ، هناك وجوه أُخر اقتضت جعل المعجزة الخالدة للنبي الخاتم هو القرآن ، وقد أوضحنا تلك الوجوه في أبحاثنا الكلامية.

نعم ، يجب أن تكون معجزة النبي مشابهة لأرقى فنون العصر ، فقط ، وأمّا لزوم قيامه بكل المقترحات والمطلوبات فلا ، لأنّ الأنبياء بعثوا لغرض التربية والتعليم ، وتجب عليهم مكافحة الجهل بالوسائل الصحيحة الكافية ، لا أن يأتوا بكل مطلوب لكل جاهل أو متجاهل حسب هوسهم.

كما يجب أن تكون دعوتهم مقترنة بالمعاجز حتى تحقّق صلتهم باللّه سبحانه ويتبين أنّ اللّه الحكيم هو الذي أعطاه تلك المقدرة ، ولو كانوا كاذبين لما جاز في منطق العقل والحكمة إقدارهم عليها ، لأنّ في إقدار الكاذب على المعاجز ، إغراء بالجهل وإشادة بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى ، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته سواء أطابقت مطلوب الناس أم لا.

وإذا رأينا أنّ نبياً من الأنبياء قد امتنع عن القيام ببعض المعاجز ، وبعبارة أصح : إذا لم يأذن اللّه له في الإتيان بها ، فإنّما هو لأجل أنّه سبحانه جهّزه بأوضح الدلائل وزوّده بأتقن المعاجز بحيث تكون كافية لكل من يتوخّى الحقيقة ويطلب

ص: 114


1- البيان : 48 - 49.

الواقع ، وليس عليه سبحانه أزيد من نصب الدلائل وإقامة البراهين ، فلو انّ القرآن يصف الأنبياء بقوله : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (1) ويصف نبيَّه بقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (2) ، فلا تهدف تلك الجملة إلاّ الإشارة إلى أنّ وظيفته الأساسية إنّما هي التبشير والإنذار المقترنين بالمعاجز الكافية ، وانّه لا يجب عليه أن يستجيب لطلب كل من اقترح عليه أمراً أو يطلب منه معجزة حسب هواه ، وليست هذه الأوصاف نافية لأصل المعاجز من رأسها.

الثانية : انّما يصح قيام النبي بالإتيان بالمعجزة المطلوبة منه إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل ، لأنّه خارج عن إطار القدرة ، فعند ذلك لو طلب من النبي رؤية اللّه سبحانه جهرة ، أو ولوج الجمل في سم الخياط ، فالسؤال ساقط من أساسه لاستحالة الموضوع.

الثالثة : إنّما يجب على النبي القيام بالإتيان بالمعاجز المطلوبة المقترحة عليه من قبل الناس ، إذا كانت بين الطالبين بها جماعة مستعدة للانضواء تحت لواء الحق بعد أن شاهدوا المعجزة ، وأمّا لو كانوا يطالبون بها ويقترحوها عناداً ولجاجاً ، ومع ذلك يصرون على كفرهم وإنكارهم حتى لو أُتي بمطلوبهم ، فلا يجب على النبي الإجابة لدعوتهم لأنّ الإتيان بالمعاجز في هذه الحالة يعد أمراً لغواً وعبثاً ، وذلك لأنّ الهدف من المعاجز أحد أمرين :

الأوّل : سوق الناس إلى اللّه سبحانه عن طريق الإيمان بنبوة النبي صلی اللّه علیه و آله ورسالته ، والمفروض أنّ تلك الغاية منتفية في المقام ، لأنّ الطالبين بالمعاجز يشكّلون جماعة متعنتة ومعاندة فلا يؤمنون وان أُتي بأضعاف ما يريدون ويطلبون.

ص: 115


1- البقرة : 213.
2- الرعد : 7.

وأمّا الكلام في أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله من أين يحصل له هذا العلم ويكشف أحوالهم ، فهو خارج عن هذا البحث.

الثاني : إتمام الحجة على الكافرين المعاندين المغرضين حتى لا يقولوا يوم القيامة ولا يحتجّوا على اللّه سبحانه بأنّه ما جاءهم من بشير ولا نذير ، والمفروض أنّ تلك الغاية قد حصلت بالإتيان بسائر المعجزات التي جاء بها النبي صلی اللّه علیه و آله من غير اقتراح لما عرفت من أنّه يجب تزويد النبي صلی اللّه علیه و آله وتجهيزه بالمعاجز سواءً طابقت مقترحات قومه أو لا.

إنّ القارئ الكريم سيلمس تلك الحقيقة عند استعراض الآيات التي رفض النبي فيها إجابة الطالبين بالمعاجز ، فإنّ أكثرها واردة في ذلك المجال ، وانّه لم يكن غرض الطالبين الاهتداء والانتفاع بها ، بل كانوا يطلبونها لأغراض أُخر ، إمّا تعجيزاً للنبي صلی اللّه علیه و آله بحسب أهوائهم أو تلاعباً بما سيصدر منه صلی اللّه علیه و آله .

الرابعة : انّ المعجزة نوع تصرف في العالم ، والنبي بماله من ولاية تكوينية مكتسبة منه سبحانه ، يقدر على التصرّف في الأكوان بأن يخلع صورة من المادة ويلبسها صورة أُخرى ، كما خلع موسى الكليم صورة العصا من مادتها وألبسها صورة الثعبان بإذن ربّه ، وكما بدّل المسيح الصورة الطينية إلى الصورة الطيرية ، كل ذلك بإذنه سبحانه ، وأمر منه ، وعند ذلك فليس لهم حرية مطلقة في الخلع واللبس والتنفيذ والتصرّف وإنّما يفعلون ذلك بإذن منه سبحانه ، قال اللّه تعالى : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

وبما أنّ هذه الآية تعد نفس النبي صلی اللّه علیه و آله آتياً بالمعجزة ، تدلّ على أنّ الآتي بها والمتصرّف في الأكوان هو النبي صلی اللّه علیه و آله بما له من روح قدسية يقدر معها على ذلك الأمر.

ص: 116


1- الرعد : 38.

ولكنها تقيد تنفيذ النبي وتصرفه بإذنه سبحانه ، فالأولياء وفي طليعتهم الأنبياء لا يشاءون إلاّ ما شاء اللّه ولا يخرجون عن إطار مشيئته سبحانه.

فلو رأينا أنّ النبي قد رفض بعض المقترحات ، فإنّما هو لأجل هذا السبب ، فلم يكن إذن من اللّه سبحانه بالقيام بتلك المعاجز المقترحة ، وعدم إذنه سبحانه لأجل كون عمل النبي صلی اللّه علیه و آله لغواً لا يترتب عليه أثر من هداية السائلين أو إتمام الحجة على المغرضين ، إذ المفروض أنّ السائلين ليسوا في مقام الاهتداء ، والحجة قد تمت على المغرضين من قبل ، ولأجل ذلك ليست هناك غاية صحيحة تبعث النبي إلى القيام بالمعاجز.

الخامسة : انّ الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم ، فلو كانت نتيجة الإعجاز إفناء الناس وإهلاكهم ، لما صحّ في منطق العقل القيام بتلك الدعوة ، فلو طلبوا من الرسل أن يخسف اللّه بهم الأرض أو يسقط عليهم السماء كسفاً أو يبيدهم العذاب من وجه الأرض ، فلا يصحّ القيام بذلك الطلب ، لأنّ في إجابته نقضاً للغرض وإفناءً للهدف ، وهم علیهم السلام قد بعثوا لهداية الناس لا لإبادتهم وإهلاكهم ، وسوف يلمس القارئ أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لو امتنع في بعض المواقف عن القيام ببعض المقترحات فقد كان لأجل ذلك الأصل الذي دلّ العقل على رصانته.

السادسة : قد دلّت الآيات الكريمة على أنّ هناك معاجز لو طلبها الناس من نبيهم وقام هو بمقترحهم ومع ذلك قد رفضوا الاعتناق بدينه والتصديق برسالته ، سيصيبهم العذاب الأليم ، قال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) (1).

ص: 117


1- الإسراء : 59.

والمراد من الآيات المقترحة هي المعاجز التي طلبها أقوام الأنبياء منهم ثم كذبوها فنزل العذاب عليهم بسبب تكذيبهم ، وسيوافيك بيان مفاد الآية في محلها وانّ أية معجزة يوجب تكذيبها نزول العذاب.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ اللّه سبحانه وعد النبي برفع العذاب الدنيوي عن هذه الأمّة ما دام هو فيها إكراماً لمقامه وتعظيماً لشأنه ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (1).

وعلى ضوء هذين الأمرين يتبيّن أنّ الامتناع عن القيام ببعض المعجزات المقترحة - التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب - إنّما هو لأجل هذا الوعد القطعي الذي قطعه اللّه على نفسه لنبيّه ، فكل معجزة يستلزم تكذيبها نزول العذاب فهي معجزة ممنوعة لأجل هذا الأمان الذي أعطاه اللّه سبحانه لأمّة نبيّه.

السابعة : انّ شرط القيام بالمعجزة المطلوبة هو أن لا تكون الإجابة لطلب القوم سبباً لتحقير المعاجز الأُخر وازدراءً لها ، إذ في القيام - في هذه الصورة - نوع تصديق لموقف الخصم ، وإغراء له في الضلالة ، ولأجل ذلك نرى النبي يجيب القوم عندما طلبوا منه معجزة غير القرآن بصورة التحقير لهذه المعجزة الخالدة الباقية على وجه الدهر بقوله : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) (2).

الثامنة : انّ الهدف من بعث الأنبياء وتزويدهم بالآيات والبينات هو إيجاد الأرضية المناسبة لإيمان قومهم وإذعانهم بما جاء به الرسل اختياراً ، فإنّ الإيمان - بل كل عمل حسن - إنّما يعد كمالاً إذا اختاره الإنسان وانساق إليه بصميم قلبه ، وأمّا إذا أُلجئ واضطر إليه بلا اختيار فلا يعد كمالاً له ولا يستحق ثواباً.

ص: 118


1- الأنفال : 33.
2- يونس : 20.

ولذلك نرى في مورد يتمنّى النبي ( أو يشعر كلامه بذلك التمنّي ) أن يأتي بآية ملجئة لهم إلى الإيمان وملزمة لهم على الاذعان أجابه سبحانه : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (1).

وسوف يوافيك شرح الآية وهدفها.

التاسعة : انّ القيام بالطلب إنّما يصح إذا لم يكن المطلوب على خلاف السنّة الإلهية الحكيمة الجارية في الكون ، وعلى ذلك فلو طلب القوم أن يأتي لهم النبي بجنة وينبوع حتى يريحهم من الكد والكدح فلا يستحق هذا الطلب الإجابة ، لأنّ سنته تعالى جرت على إرزاق الناس من طريق العمل والكسب ، وسيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن قوله : ( وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ) (2).

العاشرة : إنّما يصح القيام إذا كان بين المطلوب والمقترح والرسالة الإلهية رابطة منطقية حتى يستدل بالأوّل على الآخر ، وعلى ذلك فلو طلبوا من النبي أن يكون ذا ثروة طائلة فلا يصح للنبي الإجابة ، لأنّ ثروة الرجل ليست دليلاً على صحة منطقه ، وسيوافيك شرح ذلك عند البحث عن قوله سبحانه : ( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ) (3).

فلو أنّ النبي امتنع عن القيام ببعض المعاجز فإنّما هو لأجل هذا الأصل ، وأنت إذا لاحظت هذه الأمور تبيّن لك أنّ الآيات التي رفض فيها النبي القيام بمقترحات القوم ومطلوباتهم من المعاجز فإنّما هو لأجل فقدان إحدى هذه

ص: 119


1- الأنعام : 35.
2- الإسراء : 90.
3- الإسراء : 91.

الشرائط التي نعيد الإشارة إليها في ما يلي باختصار :

1. انّ الواجب هو اقتران دعوة النبي بالدلائل والمعاجز الكافية حتى تفيد الإذعان بصدق دعوته ، لا القيام بكل معجزة تقترح عليه من آحاد الأمّة.

2. لو اقتضت الحكمة الإلهية قيام النبي بمقترحات قومه ، فإنّما تصح عقلاً الإجابة لها إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل ، فعدم الإجابة للمقترح المستحيل لا يدل على أنّه لم يزود بالمعاجز.

3. انّما يجب على النبي القيام بالمعاجز إذا دلّت القرائن على أنّ الهدف من طلبها هو الانضواء تحت لواء الحق والاهتداء بها لا طلبها عناداً ولجاجاً وتلاعباً بشأن النبي ومعجزاته.

4. الإعجاز نوع تصرف في الأكوان يقوم به النبي بإذن منه سبحانه ، ولا يصدر الإذن منه في كل الأحايين والأوقات ، وإنّما يصدر فيما إذا كانت هناك مصلحة مقتضية للتصرف.

5. انّ الهدف من الإعجاز هو هداية الناس ، فلو تعلّق الطلب بإهلاكهم وإبادتهم لم تكن إجابته صحيحة في منطق العقل لكونها نافية للغرض.

6. انّ المعاجز التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب الأليم كما نزل على الأمم السابقة لا يصح للنبي القيام بها ، لأنّه سبحانه كتب على نفسه دفع العذاب عن الأمّة ما دام النبي فيهم ، وهذا الوعد القطعي الإلهي يمنع عن القيام بتلكم المقترحات.

7. انّ كل معجزة مطلوبة صارت سبباً لتحقير المعاجز الأخرى وازدراءً لها لا يجب على النبي في منطق العقل القيام بها ، لأنّ فيه نوع تصديق لموقفهم المتعنّت.

ص: 120

8. انّ الإيمان إنّما يعد كمالاً إذا دفع إليه الإنسان باختياره وإذا كانت الآية المطلوبة أو المتمنّاة سبباً لإيمانهم الإلجائي فلا يجب ، بل لا يحسن في منطق العقل القيام بها.

9. إنّما يصح للنبي أن يقوم بمقترح قومه إذا لم يتعلّق طلبهم بما يكون على خلاف السنّة الحكيمة الجارية في الكون والحياة.

10. إنّما يصح أيضاً القيام إذا كان بين المطلوب والرسالة رابطة منطقية بحيث يصح الاستدلال بأحدهما على الآخر ، فلو كانت الرابطة مفقودة فلا تصح في منطق العقل إجابة الاقتراح.

وأنت إذا استعرضت الآيات التي استدل بها الكتّاب المسيحيّون والمستشرقون على أنّه لم يكن للنبي الخاتم معجزة غير القرآن تقف وقوف مستشف للحقيقة على أنّ عدم قيامه بالمعجزات والآيات التي كانوا يطلبونها منه كان لأجل إحدى هذه العلل أو ما يضاهيها ، وإليك استعراض هذه الآيات واحدة بعد أُخرى حتى تتجلّى الحقيقة بأجلى مظاهرها.

استعراض الآيات التي استدل بها القساوسة

الآية الأولى
اشارة

قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (1).

ص: 121


1- البقرة : 118.

الظاهر أنّ القائلين هم مشركو العرب ، بقرينة قوله : ( الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) مشيراً إلى أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، واستقربه الطبرسي في مجمعه (1).

وهذه الآية تدلّ على أنّهم طلبوا من النبي أمرين :

أ. لولا يكلّمهم اللّه سبحانه.

ب. لماذا لا تأتي الآية إليهم أنفسهم ؟

وكلا السؤالين ساقطان في منطق العقل ، بملاحظة الشرائط المصححة لطلب الإعجاز التي مرّت.

أمّا السؤال الأوّل : فإن كان مرادهم هلا يكلّمنا اللّه معاينة ، فهو محال ، لأنّه يستلزم جسمانيته سبحانه.

وإن كان مرادهم تكليمهم مخبراً بأنّ مدّعي النبوة نبي ، ولكن لا بالمعاينة ، بل بإحدى الطرق المألوفة من إسماعهم ، فهو وإن كان أمراً ممكناً لكنه لا يفيدهم الإذعان ، إذ من الممكن اتهام ذلك الإسماع بالسحر كما قالوا ذلك في غير هذا المورد.

وأوضح في البطلان لو كان مرادهم لولا يكلمنا اللّه مثلما كلّم موسى وغيره من الأنبياء ، فإنّ هذا يستلزم نزول الوحي عليهم ، وهو يتوقف على توفر شرائط معينة ، وهي غير موجودة إلاّ في أفراد قلائل.

ولا يقل عنه في البطلان لو كان مرادهم سماع الوحي النازل على النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ السماع متوقف - كذلك - على توفر الشرائط غير الموجودة في المشركين. وعلى فرض الإسماع لا يفيدهم الإذعان لإمكان اتّهامه بالسحر أيضاً.

وهذه الوجوه الأربعة محتملات لقولهم ( لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللّهُ ) وهي كما ترى غير

ص: 122


1- ج 1 / 195.

مستحقة للإجابة بل جديرة بالاعراض.

أضف إلى ذلك أنّ المحتمل الثالث - وهو تكليم اللّه إياهم كتكليمه سائر الأنبياء - يستلزم لغوية بعث الأنبياء الذي جرت عليه سنّة اللّه من لدن نزول آدم إلى الأرض.

وقد نقل هذا السؤال في مورد آخر ، حيث حكاه سبحانه بقوله : ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (1). وكأنّ كل واحد من أفراد المشركين يتوقع أنّ تنزل عليه صحائف فيها تكاليفه ، وهي تؤيد أنّ مرادهم من تكليمه إيّاهم هو المحتمل الثالث. هذا كلّه حول السؤال الأوّل.

وأمّا السؤال الثاني : أعني قوله : ( أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) فهو يشير إلى أنّهم طلبوا من النبي صلی اللّه علیه و آله ظهور المعاجز على أيديهم ، وهذا السؤال سخيف جداً ، إذ ظهور المعاجز على أيديهم يتوقف على توفر شرائط غير موجودة في المشركين ولا في غيرهم إلاّ في أفراد قلائل ، أعني : الأنبياء والمرسلين.

ويحتمل أن يكون المراد : أن يأتي النبي بآية موافقة لطلبهم. ويشير إليه قوله في ذيل الآية ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) (2). حيث اقترح اليهود الآيات على موسى ، والنصارى على المسيح.

ولكن عدم إجابة النبي صلی اللّه علیه و آله لاقتراحهم ، لأنّه كان فيما أتى به من الحجج والمعاجز الباهرة كفاية لمن كان بصدد تحصيل اليقين ولمن ترك التعنّت والعناد.

وإلى هذا الجواب أشار سبحانه في ذيل الآية ( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (3).

ص: 123


1- المدثر : 52.
2- البقرة : 118.
3- البقرة : 118.

على أنّه من المحتمل أيضاً أن تكون الآيات المطلوبة من النبي صلی اللّه علیه و آله من الأمور المستحيلة ، ويقرب من ذلك قوله سبحانه في نفس الآية : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) ومن المعلوم أنّ اليهود طلبوا من موسى رؤية اللّه جهرة.

وقوله سبحانه : ( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) يشير إلى أنّ سؤالهم كان أشبه بسؤال من تقدّمهم في الكفر والقسوة والتعنت والعناد ، ولذلك قال سبحانه في موضع آخر : ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِن رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) (1).

والحاصل : أنّ ذيل الآية يشير إلى أنّ الواجب على اللّه في هداية الناس هو بعث الأنبياء وتزويدهم بالدلائل والمعاجز التي تثبت بوضوح صلتهم باللّه وصدق مقالتهم ، وأمّا إجراء المعاجز المطلوبة منهم على أيديهم فليس بواجب في منطق العقل إذ لمن يريد تحصيل اليقين كفاية فيما أتوا به من المعاجز.

الآية الثانية

قال سبحانه : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً ) (2).

إنّ الآية تدلّ على أنّ أهل الكتاب سألوا النبي أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وهذا السؤال يحتمل وجوهاً نأتي بجميعها ، وسوف يرى القارئ انّ الوجوه

ص: 124


1- الذاريات : 52 - 54.
2- النساء : 153.

المحتملة كلّها غير جامعة للشرائط المصححة لقيام النبي بإجابة طلبهم ، وإليك هذه الاحتمالات :

1. أن يعرج النبي إلى السماء ويرجع مع كتاب اليهم وقد سأل المشركون نظير ذلك حيث حكى اللّه سبحانه عنهم في سورة الإسراء إذ قال : ( أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) (1) وكيفية السؤال هذه ، تدلّ على أنّهم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة ، لأنّ في واحد من الأمرين ( العروج إلى السماء وحده ، أو نزول الكتاب إلى النبي مع عدم عروجه ) كفاية ، فطلب الأمرين معاً يكشف عن أنّهم لم يتخذوا لأنفسهم موقف المتحري للحقيقة ، بل كانوا يتبعون في سؤالهم هوسهم ، وهواهم.

2. أن ينزل النبي عليهم أنفسهم كتاباً من السماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الألواح حتى يروا نزول الكتاب من السماء بأُمّ أعينهم.

ولكن هذا الاحتمال أيضاً ينبئ عن أنّهم اتخذوا لأنفسهم موضع اللجاج والعناد كما ينبئ عن ذلك تشبيه هذا السؤال بسؤال بني إسرائيل من نبيهم موسى حيث قال : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) وعندئذ لا يجب في منطق العقل الإجابة على هذا السؤال ، لأنّ موقف السائل لو كان موقف المستشف للحقيقة لاكتفى بما زوّد به النبي من المعاجز ، ولما شبّه اللّه سبحانه سؤالهم بسؤال بني إسرائيل من نبيهم ، علم منه أنّهم لم يكونوا في موقف المتحرّي للحقيقة.

أضف إلى ذلك أنّه لو قام النبي بهذا الإعجاز كان من المحتمل جداً أن لا يؤمن به أهل الكتاب أيضاً ، وعندئذ يسقط القيام بالإعجاز لما قلنا أنّه إنّما يجب القيام بالمعاجز المقترحة إذا كان هناك مظنة إيمان السائل.

ص: 125


1- الإسراء : 93.

ويدل على ما ذكرنا من الاحتمال أنّه سبحانه يقول : ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (1).

وليس لقائل أن يقول : إنّ هذه الآية واردة في حق المشركين ولم يعلم وحدة تفكيرهم مع أهل الكتاب ، وذلك لأنّ المراد من أهل الكتاب في الآية هم اليهود القاطنون في المدينة وما حولها ، وهم كانوا أشد الناس عناداً ولجاجاً في حق النبي بدليل أنّ أكثر المشركين اعتنقوا الإسلام واختاروه دونهم إذ بقوا على شريعتهم ، ولم يؤمن إلاّ قليل منهم.

ثم إنّ في الإجابة على هذا الاقتراح ضرباً من الإهانة للقرآن والاستهانة به ، فإنّ طلب نزول الكتاب عليهم من السماء ، ينبئ عن أنّ القرآن النازل على قلب النبي لم يكن كافياً في إثبات نبوّته ، وتصديق رسالته وانّما يجب التصديق إذا رئي نزول القرآن بأُمّ الأعين.

على أنّ كيفية السؤال تنبئ عن الاعتقاد الفاسد ، وهو أنّ اللّه تعالى جسم واقع في السماء ، ولأجل ذلك اقترحوا على النبي أن ينزل اللّه سبحانه كتاباً من السماء يرون نزوله برأي العين.

ولنفترض قيام النبي صلی اللّه علیه و آله بإجابة هذا السؤال ، أو ليست تلك الإجابة توجب أن يطمع الآخرون في هذا الأمر ويطلبوا من النبي أن يفعل لهم ما فعل لغيرهم ، المرة بعد المرّة ، والكرّة بعد الأخرى ، مع كثرة القبائل وتعدّد البطون ، وعندئذ تصبح النبوّة العوبة بأيدي الجهّال ، ويصبح مثله كمثل المرتاضين والسحرة الذين غدوا أداة طيّعة لترفيه الناس.

هذه الوجوه ترد على هذا المحتمل من السؤال ، غير أنّ هاهنا إشكالاً آخر ، وهو أنّه لو قام النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا الوجه من السؤال وهو أن ينزل عليهم كتاباً من

ص: 126


1- الأنعام : 7.

السماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الألواح - إذ على هذا الوجه - لفاتت المصالح المترتبة على نزول القرآن تدريجياً ، فإن لنزول القرآن نجوماً عللاً وغايات أُشير إليها في الكتاب العزيز ، كما أُشير إلى اعتراض المشركين بأنّه لماذا لا ينزل عليه القرآن جملة واحدة ، قال سبحانه ، ( وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) (1). إذ في نزول القرآن نجوماً أسرار قد أُشير في الآية إلى واحد منها وهو تثبيت فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله ، فنزول القرآن مكتوباً مرّة واحدة يوجب فوات فوائد موجودة في النزول التدريجي ، وإليك بعض هذه الأسرار والفوائد :

أ. تثبيت فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يتحمل مسؤولية ضخمة جداً ، وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقات ، كان لا بد له من إمداد غيبي غير منقطع ، ونجدة إلهية متصلة ، ولهذا كان نزول الوحي تدريجياً موجباً لتسلية النبي وتقوية روحه وعزيمته ، وإلى هذا أشارت الآية : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) (2).

ب. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً ليسهل تعليمه للناس ، وإلقاؤه إليهم ، كيف لا ؟! والنبي طبيب يعالج النفوس ويداوي الأرواح ، وذلك يقتضي التدرّج في العلاج.

ص: 127


1- الفرقان : 32 - 33.
2- الفرقان : 32.

وإن شئت قلت : إنّ أفضل الطرق للتعليم والتربية هو أن يتعانق ويتصافق الفكر والعمل ويتزامن التعليم والتطبيق وأن يردف المربي ما يلقيه بالعمل ، وهذا لا يتحقق إلاّ بنزول القرآن تدريجياً وحسب الحوائج والأسئلة ، ويفوت ذلك في نزوله مكتوباً جملة واحدة.

ج. التدليل على صدق الرسالة

إنّ التدرّج في التنزيل أحد الأدلة الساطعة على صدق القرآن في انتسابه إلى اللّه ، وأنّه وحي سماوي لا تأليف بشري ، إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وظروف متفاوتة مع حفظ النمط الخاص به - رغم ما يواجه به الرسول صلی اللّه علیه و آله في حياته الرسالية من شدة ورخاء ، وهدوء واضطراب ، وسلم وحرب - خير دليل على أنّ هذا الكلام ليس إلاّ وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم محيط خالق عالم ، فيكون ذلك أظهر برهان لعظمة القرآن ، وأقوى دليل على إعجازه ، فهل في وسع النبي أو في وسع المنطق أن يرفض تلك المزايا ويصغي إلى مقترحات أهل الكتاب بإنزال الكتاب مكتوباً جملة واحدة على غرار التوراة والإنجيل ؟!

3. وربّما يفسر قولهم : ( حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) بأنّهم سألوا النبي أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتاباً يأمرهم اللّه تعالى فيه بتصديقه واتّباعه (1).

ونقله في الكشاف بقوله : ان ينزل كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنّك رسول اللّه (2).

ومن المعلوم انّ هذا السؤال يكشف عن تعنّتهم وعنادهم ، ولو قام به النبي ولبّى طلبهم ، لطمع الآخرون في ذلك وصارت النبوة إلعوبة بأيدي الناس.

ص: 128


1- مجمع البيان : 2 / 133.
2- الكشاف : 1 / 434.
الآية الثالثة

قال سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وهذه الآية ممّا تمسك بها الملاحدة على المسلمين ، فقالوا : تدلّ على أنّ اللّه تعالى لم ينزل على محمد آية ، إذ لو نزلها لذكرها عند سؤال المشركين إيّاها (2).

وقد صاغ رجال التبشير هذا الإشكال في قالب خاص ، وقالوا : إنّ الآية تدلّ على أنّه كلّما سئل محمد عن المعاجز أعرض عن السؤال وقال : إنّ اللّه قادر على الإنزال كما ورد في هذه الآية ، ومعلوم أنّ هذا الجواب لا يكفي السائل ، لأنّ قدرته سبحانه على الإتيان غير منكرة ، وانّما السؤال هو طلب خروج هذا الإمكان إلى مرحلة الفعلية ، فالجواب الوارد في الآية لا يدفع الاعتراض.

أقول : تحقيق مفاد الآية يتوقف على البحث حول أمرين :

الأوّل : لماذا لم يجب النبي دعوتهم ، ولم يقم بالإتيان بمطلوبهم ؟

الثاني : كيف يرتبط الجواب الوارد في الآية ، أعني قوله : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً ) بكلامهم أعني : ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) ؟

فنقول : أمّا الأمر الأوّل انّ الآيات المتقدمة على هذه الآية تدل بوضوح على أنّ الطالبين لم يكونوا بصدد الإيمان وطلب الحقيقة ، فلاحظ قوله سبحانه قبل هذه الآية إذ يقول : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ

ص: 129


1- الأنعام : 37.
2- مجمع البيان : 2 / 296.

يُرْجَعُونَ ) (1).

وهاتان الآيتان الواردتان قبل هذه الآية تكشفان عن أنّه ما كان يرجى إيمان المعترضين وإذعانهم ، ولأجل ذلك يخاطب سبحانه نبيه : بأنّك إن قدرت وتهيأ لك أن تتخذ طريقاً إلى جوف الأرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية ، فافعل ذلك لكنهم لا يؤمنون لك (2).

ثم يضيف سبحانه ويشبههم بالموتى ويقول : ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ) مريداً أنّ هؤلاء لا يصغون إليك فهم بمنزلة الموتى ، فكل إنسان عاقل ، آيس من أن يسمع الموتى ، كلامه فهؤلاء بمنزلتهم لا يستجيبون لك ، ومعنى الآية : انّما يستجيب المؤمن السامع للحق فأمّا الكافر فهو بمنزلة الميت ، فلا يجيب إلى أن يبعثه اللّه تعالى يوم القيامة ليلجئه إلى الإيمان.

أضف إلى ذلك أنّه يحتمل أن يكون مقترحهم أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون مقترحهم نزول الملك عليهم ، كما يحكي عنهم سبحانه في تلك السورة ويقول : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) (3).

إنّ نزول الملك يمكن أن يتم بإحدى صورتين :

1. نزول الملك بصورته الواقعية ، ومن المعلوم انّ رؤية الملك بهذا الشكل متوقفة على توفر شرائط في الناظر ، وهم كانوا فاقدين لها ، ومن الممكن جداً أن تستلزم تلك الرؤية القضاء عليهم بالموت كما قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) .

ص: 130


1- الأنعام : 35 - 36.
2- هذا جواب الجملة الشرطية الواردة في الآية ، حذف لمعلوميته.
3- الأنعام : 8 - 9.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ نفوس المتوغلين في عالم المادة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرف الملائكة ، فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلاّ انتقالاً منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراءها وهو الموت كما قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ المَلَائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (1). (2)

ولأجل ذلك قال في مورد الآية : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ) .

2. نزول الملك بصورة الإنسان ، وحينئذ لا يفيد ذلك إذعاناً بأنّ هذا ملك مجسد في صورة إنسان ، بل زعموا أنّه إنسان داع إلى اللّه أو مصدق لنبيّه ، شاهد على نبوته ، وإلى ذلك يشير سبحانه : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) .

الثاني : يحتمل أن يكون مقترحهم هو الذي حكى اللّه عنه في سورة الفرقان بقوله : ( لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُوراً ) (3) وحكاه عنهم أيضاً في سورة الزخرف حيث قال : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (4).

ومن المعلوم أنّ كون الرجل ذا ثروة طائلة لا يكون آية لصحة دعوته ، وإلاّ لكان كل ثري نبياً.

ص: 131


1- الفرقان : 22.
2- الميزان : 7 / 16.
3- الفرقان : 8.
4- الزخرف : 31.

وبهذه الملاحظات يذعن القارئ بأنّه لم يكن المقام مظنة القيام بطلب المدعو لما عرفت من الشرائط المصحّحة لإجابة النبي.

إلى هنا تبيّن أنّ عدم قيام النبي بالإجابة لمقترحهم لأجل ما عرفت في بعض المقدمات من أنّ شرط القيام بالطلب هو كون الطالب بصدد تحصيل الإيمان وكشف الحقيقة لا التعنت والعناد ، وهؤلاء بحكم هاتين الآيتين لم يتخذوا موقفاً سوى العناد واللجاج.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني : الذي ركن إليه المستشرقون وقالوا : بأنّ الجواب الوارد في الآية لا يرتبط بالسؤال ، لأنّ السؤال عن الوقوع ، والجواب بالإمكان.

فنقول : إنّ هذا الاعتراض ينشأ من عدم الاطلاع على عقائد العرب الجاهليين في باب التوحيد ، فإنّ طائفة من المشركين وإن كانوا يوحّدون اللّه تعالى في ذاته ويقولون : إنّه واحد ، كما يوحّدونه في الخالقية ويعتقدون بأنّه لا خالق سواه ، ولكن كانوا مشركين في مسألة التدبير والربوبية التي هي إحدى شعب التوحيد.

وحاصل عقيدتهم أنّ اللّه سبحانه ترك أمر التدبير إلى آلهة صغيرة فهم الذين يقومون بتدبير الكون وتصريف الأمور ، وانّه سبحانه تخلّى عن مسند القدرة وتدبير العالم بكافة شؤونه وفوّض الأمر إليهم ، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها زاعمين بأنّهم يدبرون العالم وينزلون المطر ، إلى غير ذلك من مظاهر التدبير.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر اعتقدوا بأنّ النبي إذا رفض عبودية هؤلاء الآلهة ورفض عبادتها ، فحينئذ لا يوجد - حسب اعتقادهم - من يجري الإعجاز على يده ، فإنّ اللّه سبحانه منعزل عن تدبير الكون ، وأمّا هولاء الآلهة فقد نفاهم محمد وصار مغضوباً عندهم ، فصارت نتيجة ذلك أنّ اللّه تعالى حسب انعزاله عن

ص: 132

التدبير غير قادر على إنزال الآية المعجزة ، فعند ذلك أجاب القرآن رداً على زعمهم : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ولذلك حقر السائلون إله محمد صلی اللّه علیه و آله بقولهم : ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) ولم يقولوا من ربّنا ، أو من اللّه ، فهذا الازدراء أكبر دليل على أنّهم كانوا يعتقدون أنّ الإله الذي يدعو إليه محمد صلی اللّه علیه و آله مسلوب القدرة عندهم ، فعندئذ صح أن يجاب بجملة : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ومن الممكن أن يكون المشركون متأثرين بعقيدة اليهود الذين قالوا : ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) (1) وانّه سبحانه غير قادر على تغيير الكون وخرق العادة ، ولأجل ذلك يجيب سبحانه أنّ اللّه قادر على أن ينزل آية.

ثم إنّ لصاحب المنار كلاماً في تفسير الآية يشير إلى بعض ما ذكرناه ، فلاحظ (2).

الآية الرابعة

قال سبحانه : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (3).

استدل بعض الكتاب المسيحيين بهذه الآية على أمرين :

الأوّل : انّه سبحانه يعاتب بهذه الآية نبيّه صلی اللّه علیه و آله مع أنّ مكانته عند المسلمين فوق العتاب.

ص: 133


1- المائدة : 64.
2- تفسير المنار : 8 / 387.
3- الأنعام : 35.

الثاني : أنّ الآية تشهد على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان حزيناً لعدم إعطائه أيّة معجزة له موجبة لإيمان قومه. وهذا يضاد ما عليه المسلمون من أنّه صلی اللّه علیه و آله كان صاحب معجزات وكرامات غير القرآن.

ولكنّ الاستنتاجين باطلان جداً ، وقد نبعا من عناد الكاتب للنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وبغضه له ، وليست في الآية أيّة دلالة عليهما.

أمّا الأمر الأوّل : فلأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يهتم بإيمان قومه وهدايتهم ، وتدلّ على ذلك آيات في الكتاب العزيز :

1. ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (1).

2. ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (2).

3. ( إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ ) (3).

وهذه الآيات تكشف عن حرص النبي على هداية قومه ، ولكن القوم كانوا في منأى عن قبول دعوته ، بسبب عنادهم ولجاجهم.

فالآية بصدد تهدئة خاطره صلی اللّه علیه و آله بأنّ إصراره على هدايتهم غير مجد لأنّهم موتى والموتى لا يسمعون شيئاً ، ولأجل ذلك قال سبحانه بعد هذه الآية : ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) (4). فانّهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم ولا سمع حتى يتأثروا بالدعوة الإلهية ويسمعوا نداء النبي لهم ،

ص: 134


1- التوبة : 128.
2- يوسف : 103.
3- النحل : 37.
4- الأنعام : 36.

فهذه الهياكل من الناس صنفان :

صنف منهم : أحياء يسمعون ، وهؤلاء يستجيبون لدعوة الهداة المخلصين.

وصنف منهم : أموات لا يسمعون وإن كانوا ظاهراً بصورة الأحياء. وهؤلاء لا يسمعون إلاّ أن يبعثهم اللّه ، فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه اللّه عنهم : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) . (1) وقال سبحانه : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) وقال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (3). والآية تدل على أنّ الكفّار والمشركين سيفهمهم اللّه الحق ويسمعهم دعوته في الآخرة كما أفهم المؤمنين وأسمعهم في الدنيا ، فالإنسان - مؤمناً كان أو كافراً - لا مناص له عن فهم الحق عاجلاً أو آجلاً (4).

فأي كلمة أو جملة تدلّ على عتاب النبي وزجره ، فإنّما هي تهدئة من اللّه سبحانه لنبيه صلی اللّه علیه و آله وانّه قام بوظيفته الرسالية أحسن قيام ، والتقصير إنّما هو من قومه المعاندين.

وأمّا الثاني : أي دلالة الآية على عدم إعطاء النبي صلی اللّه علیه و آله أيّة معجزة ، فهو غفلة عن معنى الآية ، لما عرفت من أنّ الآية تمثل مدى اهتمام النبي بهداية قومه وتبين مقدار حرصه على إسلامهم ، وتهالكه في إسعادهم ، وانّه قد بلغ في ذلك الحرص

ص: 135


1- السجدة : 12.
2- ق : 22.
3- النمل : 80 - 81.
4- الميزان : 7 / 66.

مبلغاً لو استطاع أن يستخرج لهم من بطون الأرض أو من فوق السماء آية لفعل وأتى بها حتى يؤمنوا ، وعلى ذلك فالآية التي يتمنّاها النبي هي الآية التي تكون ملجئة لهم إلى الإيمان وتجرّهم إلى الإذعان من غير اختيار ، فمعنى الآية أيّها النبي قد بلغت في اهتمامك بهداية الناس مبلغاً ان قدرت وتهيأ لك أن تتخذ نفقاً في الأرض أو مصعداً في السماء فتأتيهم بآية وحجة تلجئهم إلى الإيمان وتجمعهم على ترك الكفر « لفعلت » أو « فافعل ذلك » ولو شاء اللّه « لجمعهم على الهدى » بالإلجاء وأعطاك تلك المعجزة الملجئة إلى الإيمان ، ولكن لم يفعل ذلك لأنّه ينافي الغاية المتوخاة من التكليف ويسقط استحقاق الثواب.

وإن شئت قلت : إنّ الآية تهدف إلى أنّه لا ينبغي للنبي أن يكبر ويشق عليه إعراضهم فانّ الدار دار الاختبار ، والدعوة إلى الحق وقبولها جاريان مجرى الاختيار ، وانّ النبي لا يقدر على الحصول على الآية الملجئة إلى الإيمان ، لأنّه سبحانه لم يرد من الناس الايمان إلاّ عن اختيار منهم ، فلم يعط للنبي آية تجبر الناس على الإيمان والطاعة ، ولو شاء اللّه لآمن الناس - على طريق الإلجاء - جميعاً ، والتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين ولكن تلك المشيئة غير واقعة ، لأنّها على خلاف السنّة الحكيمة التي عليها أفعاله سبحانه.

وبذلك يتبين انّ الآية إنّما تنفي المعجزة الملجئة إلى الإيمان بقرينة قوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى ) لا المعجزة التي يكون الأفراد اتجاهها مختارين في الإيمان والكفر.

وبذلك يتبين مفاد كثير من الآيات الواردة حول الهداية والضلالة ، وربّما يتوهم منها الغافل الجبر في أمر الهداية ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (1).

ص: 136


1- السجدة : 13.

وهذه الآية نظير قوله سبحانه : ( فَالحَقُّ وَالحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (1).

وهذه الآيات ونظائرها تفيد أنّ مشيئته سبحانه لم تتعلّق بهداية الناس أجمعين ، ولو تعلّقت لآمن كلّهم ، ولكن المشيئة المنفية في أمر الهداية هي المشيئة التكوينية التي لا تنفك عن المراد ، وتوجب إيمان الناس من غير اختيار. غير أنّه لما كان هذا الإيمان والإذعان لا قيمة له في عالم المعرفة لم تتعلّق مشيئته تعالى بهذا النحو من الهداية الجبرية ، بل ترك الناس أحراراً قال سبحانه : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (2). وقال سبحانه : ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ) (3).

فقد خرجنا إلى هنا بهذه النتائج :

1. انّ المعجزة المنتفية هي المعجزة الملجئة لا المعجزة على الإطلاق.

2. انّ مشيئته التشريعية قد تعلّقت بهداية الناس جميعاً ، ولأجل ذلك بعث الأنبياء وجهّزهم بالدلائل والبراهين الكافية.

3. لم تتعلّق مشيئته التكوينية بهدايتهم ، لأنّ الإيمان عقيب هذه الإرادة إيمان قسري لا قيمة له.

نعم إنّ هاهنا سؤالاً صحيحاً ربّما يختلج في بعض الأذهان ، وهو أنّ الآيات الواردة حول اختيار الإنسان وإرادته تصرح بأنّ مشيئة الإنسان متوقفة على مشيئته سبحانه فليس لبشرٍ أن يختار أمراً أو يتبع سبباً خارجاً عن إطار إرادته سبحانه ومشيئته ، فالموجود الممكن بما أنّه ممكن ليس له أن يفعل أو يترك شيئاً خارجاً عن

ص: 137


1- ص : 84 - 85.
2- الإنسان : 29.
3- التكوير : 27 - 28.

إطار إرادته سبحانه ، وبذلك يصرّح سبحانه ويقول : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ ) (1) ويقول : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (2).

وعند ذلك يطرح هذا السؤال وهو : انّ اختيار من يختار الهداية على الضلال ، أو العكس ، تابع لمشيئته سبحانه فيعود الجبر والاضطرار ، فكيف الجواب ؟

غير انّ الإجابة على هذا السؤال واضحة لمن له إلمام بالآيات الواردة حول مشيئته سبحانه في القرآن الكريم ، فانّ تعلق مشيئته بهداية إنسان أو ضلالته ليس تعلقاً اعتباطياً ، بل مشيئته تكون في ضوء ما يميل إليه الإنسان في قرار نفسه فلو كان منيباً إلى ربّه وجاعلاً نفسه في معرض هدايته ومسير رحمته تتعلق مشيئته سبحانه بهدايته ، قال سبحانه : ( وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) ، أي من انعطف ورجع إليه سبحانه.

كما أنّ من أخلد نفسه إلى الأرض وامتنع من التخلص من آثار المادة فلا محالة تتعلق مشيئته بضلاله ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) (3).

وقال سبحانه : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) وقال : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الفَاسِقِينَ ) (5). وقال سبحانه : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) (6).

ص: 138


1- الإنسان : 30.
2- التكوير : 29.
3- الأعراف : 175.
4- الصف : 5.
5- البقرة : 26.
6- المائدة : 13.

كل هذه الآيات تصرّح بوضوح بأنَّ مشيئته المتعلّقة بهداية الناس أو ضلالتهم إنّما تكون في ضوء ما يميل إليه العبد ، ويحصل العشق به في قرارة نفسه ، ولا يهدي اللّه سبحانه إلاّ من تعرّض لرحمته واستعد لهدايته ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) (1).

الآية الخامسة
اشارة

قوله سبحانه : ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (2).

وقد استدل بعض المعاندين بالآية الرابعة من هذه الآيات على أنَّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله لم يكن مزوداً بأيّة معجزة قائلاً : بأنّه لو كان مزوّداً بها لما أجابهم القرآن بقوله : ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) بل يأمر نبيّه بالإتيان بها ويصرّح القرآن بها.

هذا اعتراض الكاتب ويعلم قيمته إذا قمنا بتفسير ما تهدف إليه هذه الآيات من المطالب فنقول :

ص: 139


1- العنكبوت : 69.
2- الأنعام : 106 - 111.

إنّه سبحانه قد أتى في مقام الرد على حلفهم بأنّهم ليؤمنن إذا جيئ بالآيات بأُمور خمسة ، وإليك شرحها :

1. ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) وهذه الجملة تهدف إلى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله ليس مفوضاً إليه أمر الإعجاز فيقوم به في أيّ وقت شاء ، بل هو يتبع إرادته سبحانه وإذنه ، وقد جاء مفاد الجملة في غير موضع من القرآن قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

ومعلوم أنّ إذنه سبحانه موقوف على توفر شرائط في خرق العادة والإتيان بالمعاجز أهمها وجود استعداد للهداية في المقترحين والطالبين. وسيوافيك فقدان هذا الشرط في المقام.

2. ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) وهذه الجملة تهدف إلى أنّه ما يدريكم أنّ الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وبما أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم فيتمنون مجيئ الآية ، فقال اللّه عزّ وجلّ رداً على تمنّيهم : بأنّهم ما يدريكم أنَّهم لا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أوَّل مرَّةٍ.

وما ذكره الكاتب من أنّ الإعجاز خرق للعادة والناس ينظرون إلى خارقها بنظر الإعجاز فيقتفون أثره عندما جاء فكيف يقول سبحانه : ( إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) جهل منه بتاريخ الأمم ، أو تجاهل به ، لقد كانت دعوة الأنبياء في كل العصور مزوّدة بالآيات والبيّنات ، ومع ذلك لم يؤمن بهم إلاّ قليل من الناس.

وهذا صالح نبي ثمود إذ دعا قومه إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام وأتى لهم بآية باهرة ، وقال لهم : ( وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ

ص: 140


1- الرعد : 38.

أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (1). (2) ومع ذلك لم تؤمن به جمهرة قومه.

وهذا موسى الكليم إذ دعا فرعون وملأه إلى عبادة اللّه سبحانه ، فلم يؤمن به إلاّ قليل من السحرة ، وبقي الباقون على كفرهم وعنادهم حتى أدركهم الغرق وهم كافرون.

وقد أتى السيد المسيح إلى بني إسرائيل بالبيّنات والآيات ، فلم يؤمن به إلاّ تلاميذه.

فعند ذلك يظهر بطلان قول الكاتب بأنّ خرق العادة لا ينفك عن إيمان من رآه وسمعه.

3. ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (3).

الآية تفيد بأنّه كان للمشركين مع النبي موقفان ، موقف في بدء الدعوة ، وموقف بعدها وبعد الاقتراح ، فالآية تخبر النبي بأنّ موقفهم بعد الاقتراح حتى ولو رأوا الآيات هو موقفهم الأوّل ، وإليه يشير قوله : ( كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

وأمّا المراد من قوله : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ) فهو بمنزلة التعليل لتساوي الموقفين ، فانّ اللّه تعالى قد قلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يدركون الحقيقة ولا يرون الحق ، وقد فعل ذلك سبحانه لهم لا خصومة معهم ، بل هذا التقليب نتيجة عملهم وأثر أفعالهم ومواقفهم كما سيوافيك شرحه فيما بعد.

ص: 141


1- هود : 64 - 65.
2- وقريب منه ما ورد في سورة الأعراف لاحظ الآيات : 75 - 78.
3- الأنعام : 110.

4. ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ) (1). وهذه الآية تخبر عن عنادهم وشدة لجاجهم حتى ولو رأوا أكبر الآيات وأعظمها.

5. ( إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (2). وهذه المشيئة مشيئة تكوينية لو تعلّقت بهداية الناس لم تنفك عن إيمانهم الاضطراري ولكنها لا تتعلّق أبداً ، وإن شئت مزيد توضيح فاقرأ ما يلي :

لقد مرّ في البحث عن الآية الرابعة أنّ مشيئته التشريعية تعلّقت بهداية وإيمان جميع الناس بلا استثناء ، وهذه الإرادة لا تستلزم جبراً ولا قسراً ، بل تترك الإنسان وما يختار. نعم لم تتعلق إرادته التكوينية بهداية الناس إلاّ من جعل نفسه في مسير رحمته ، وأناب إلى ربّه ، ولو تعلّقت إرادته التكوينية بهداية كل الناس هداية جبرية اضطرارية لم يكن لهذا الإيمان قيمة ولا وزن ، وإلى هذه الخصوصية أشار سبحانه في الآية الثانية من آيات مورد البحث بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا ) أي لو شاءَ أن يتركوا الشرك قهراً وإجباراً لاضطرّهم إلى ذلك ، إلاّ أنّه لم يلجئهم إليه بما ينافي أمر التكليف ليستحقوا الثواب والمدح.

إلى هنا تبين مفاد الآيات وأنّ المقترحين لم يكونوا مستعدين للإذعان والإيمان حتى ولو رأوا أكبر الآيات ، وعند ذلك يكون الشرط المصحح لخرق العادة غير موجود.

ويزيد توضيحاً لذلك ما رواه المفسرون في شأن نزول الآيات حيث قالوا : إنّ قريشاً قالت للنبي صلی اللّه علیه و آله : اجعل لنا الصفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل ؟! وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا باللّه

ص: 142


1- الأنعام : 111.
2- الأنعام : 111.

والملائكة قبيلاً (1).

والرواية على فرض صحتها تصرّح بأنّهم لم يكونوا بصدد فهم الحقيقة وكشف الواقع ، لأنّ كثيراً من طلباتهم كانت من الأمور المستحيلة عقلاً ، كالإتيان باللّه والملائكة قبيلاً ، مضافاً إلى أنّ جعل الصفا ذهباً لا يخرج عن صورتين :

الأولى : أن يجعله ذهباً ويبقيه كذلك لحظات ثم يعود بالجبل إلى حالته الأولى.

الثانية : أن يجعله ذهباً ويتركه في متناول أيدي الناس ليستفيدوا منه.

أمّا الأولى : فلا شك أنّهم ينسبون عمل النبي صلی اللّه علیه و آله إلى السحر والشعوذة ، كما نسبوه إلى ذلك في غير موضع.

وأمّا الثانية : فهي تخالف سنن الخلقة والقوانين الحاكمة على الكون ، فإنّ اللّه تعالى خلق ذلك العنصر في مكامن الأرض وبواطنها ، وجعل طريق الحصول عليه هو السعي والاستخراج.

أضف إلى ذلك أنّ قيام النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا الطلب يوجب أن تتوجه إليه طلبات كثيرة مماثلة ، وهذا يستلزم أن يترك النبي مهمته الرسالية ويشتغل بإجابة مقترحات الناس الناشئة من أهوائهم ، ومشتهياتهم.

حصيلة البحث

وحصيلة البحث من أوّله إلى هنا حتى يتبين سبب عدم قيام النبي بالمعاجز المقترحة هو أنّ القوم حسب ما يرشد شأن النزول وما يفيده قوله سبحانه في الآية الأخيرة : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ

ص: 143


1- مجمع البيان : 2 / 349 ، وراجع الدر المنثور.

قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (1) لم يكونوا يريدون كشف الحقيقة بل كانوا - لشدة عنادهم - يشكون في المشاهدات التي لا يشك فيها أحد ، فهم بلغوا في الشك والعناد بمنزلة يصفهم اللّه سبحانه بقوله : ( وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) (2).

فإذا بلغ القوم إلى هذه الدرجة من العناد ، فأيّة معجزة يمكن أن تجلب إيمانهم ؟! ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

والخطاب للمؤمنين و ( مَا ) في ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ ) للاستفهام ، أي وما يدريكم أنّ الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون ، يعني : أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون وأنتم لا تدرون بذلك ، ويقول في الآية التالية : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (3). فهذه الآية تفيد بأنّهم كما لم يؤمنوا قبل رؤية الآيات المقترحة ، فهكذا لن يؤمنوا أيضاً بعد رؤيتها.

فقد بلغ عنادهم ولجاجهم إلى مرتبة صار سبباً لقلب أفئدتهم وأبصارهم في إدراك الحقائق ، فهم بسبب اتباع الهوى والإعراض عن سليم العقل ، صارت عقولهم وأفئدتهم لا تدرك الحقيقة ، فهم كما وصفهم اللّه سبحانه في آيات كثيرة حيث يقول : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ) (4).

ص: 144


1- المائدة : 111.
2- الطور : 44 - 45.
3- الأنعام : 109.
4- النحل : 107 - 108.

ويصفهم أيضاً بقوله : ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (1).

ويقول أيضاً : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) (2).

نعم انّ قلب الأفئدة والأبصار والطبع عليها ليس أمراً اعتباطياً بل هو نتيجة ما ترتكبه الطغاة من الأعمال ، وقد صرح بذلك القرآن في غير واحدة من الآيات قال سبحانه : ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) . (3) وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) (4).

الآية السادسة

قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) (5).

وهذه الآية تفيد أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان مجهزاً بآية معجزة غير القرآن ، ولذلك يقول : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) بصورة التنكير ، ولو كان المراد هو الآية القرآنية لناسب تعريف الآية وتبديل ( جَاءَتْ ) ب « أنزلت ».

وقد استعملت الآية في القرآن في نفس المعجزة قال سبحانه : ( وَيَقُولُونَ

ص: 145


1- الأحقاف : 26.
2- محمد : 22 - 23.
3- غافر : 35.
4- المنافقون : 3.
5- الأنعام : 123 - 124.

لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) فإنّ المراد منها هو غير القرآن إذ لو كان المراد هو القرآن لما صح أن يقال : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) نافياً نزول القرآن ، إذ لا شك أنّ القرآن كان ينزل عليه آية بعد آية طوال سنين.

ثم إنّ القائل هم أكابر القوم بقرينة قوله : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) وكانوا يترقبون أن يوهبوا نفس ما وهب رسل اللّه من المقام والنبوة كما يفيده قوله سبحانه : ( حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) فأُجيبوا بقوله : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) وهو لا يصطفي للنبوة إلاّ من علم أنّه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم ولو لم يكن مطلوبهم ما ذكرناه لما صح هذا الجواب ، ولما ناسب هذا الرد ، وقد ذكر مطلوبهم هذا في بعض الآيات ، قال سبحانه - حاكياً عنهم ذلك الطلب - : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) وقد أُجيبوا هناك أيضاً بنفس ما أُجيبوا به هنا قال سبحانه : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (2).

ويؤيد ذلك ما ذكره المفسرون في شأن نزول الآية إذ قالوا : نزلت في الوليد بن المغيرة قال : واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر منك سناً ، وأكثر مالاً. وقيل : نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبي يوحى إليه ، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (3).

ص: 146


1- الزخرف : 31.
2- الزخرف : 32.
3- الكشاف : 1 / 526 ، مجمع البيان : 2 / 361.
الآية السابعة

قوله سبحانه : ( وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) (1).

وهذه الآية تشعر بأنّ القوم طلبوا من النبي آية معجزة غير القرآن ، ولكن النبي أجابهم مكان الإتيان بها بقوله : ( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) .

غير أنّ الآية على خلاف مقصود المستدل أدل ، فإنّ النبي لم يرد طلبتهم ، بل إنّما أمرهم بالصبر والانتظار ، وقد جاءت في الآية السادسة والأربعين من نفس السورة أنّه سبحانه وعد نبيّه بأنّه سوف يريه بعض ما يعدهم من المعجزات قال سبحانه : ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) .

وعلى ذلك فلم يرد النبي طلبهم إنّما أمرهم بالصبر ، ووجه ذلك : أنّهم إنّما طلبوا معجزة أُخرى غير القرآن تحقيراً لشأنه واستخفافاً به لعدم عدّه آية إلهية ، ولأجل ذلك أمر نبيَّه بأن يقول لهم : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ ) وإنّ الآيات المعجزة بيد اللّه سبحانه وليست بيدي ( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) .

وهذه الآية تفيد أنّ النبي كان ينتظر آية معجزة فاصلة بين الحق والباطل غير القرآن قاضية بينه وبين أُمّته ، وأنّه سبحانه وعده بأنّه ربّما يريه بعض ما يعده كما مرت الآية.

قال في الكشاف : أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات دقيقة

ص: 147


1- يونس : 20.

المسلك من بين المعجزات وجعلوا نزولها كلا نزول ، وكأنّه لم ينزل عليه آية قط ، حتى قالوا : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي (1).

فإذا كان الطلب سبباً لتحقير أكبر معجزة من معاجز النبي وازدراءً له لم يصح للنبي أن يقوم بطلبهم بالإعجاز ، لأنّ في تلك الإجابة في ظرف الطلب ضرباً من الموافقة على تحقيرهم للقرآن ، وقرينة المقال تدل على أنّ النبي كان آيساً من هدايتهم ، فلم يكن هناك أيُّ موجب في منطق العقل أن يقوم النبي بالإعجاز أو يمكّنه اللّه من القيام بمطلوبهم.

وقد جاء في القرآن تصريحات عن القوم بأنّهم كانوا يحقرون أمر القرآن قال سبحانه : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (2) وقال أيضاً : ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (3).

ومثل هذه العصابة التي تقابل القرآن الكريم بمثل هذا الموقف المتعنت الجاهل ، وتواجه تلك المعجزة الكبرى والآية الباهرة بمثل هذا التحقير والازدراء. لا تستحق جواباً أحسن من قوله سبحانه : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) .

ص: 148


1- الكشاف : 1 / 70.
2- يونس : 15.
3- يونس : 37 - 38.
الآية الثامنة

قوله سبحانه : ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (1).

المراد من الآية هو الآية القرآنية لا الآية المعجزة غير القرآن التي هي محور البحث ، والمقصود من الاجتباء هو الجمع ، وعلى ذلك فالآية خارجة عمّا نحن بصدده.

غير أنّ مفاد الآية هو الرد على كلامهم الجاري مجرى التهكّم والسخرية ، حيث إنّهم قالوا في حق النبي صلی اللّه علیه و آله - عندما كان الوحي يتأخر عليه لمصالح - : ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) أي لولا اجتبيت ما تسمّيه آية من هنا وهناك فأتيت بها ، فأجابهم القرآن بأن يقول النبي لهم : ( إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ترى ماذا يفعل النبي بقوم إذا أتاهم بآية قرآنية قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، وإذا أبطأ عليه الوحي لمصالح قالوا : ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) فكل ذلك يدل على أنّ موقف القوم لم يكن موقف الاهتداء وتحري الحقيقة.

الآية التاسعة

قوله سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُسْلِمُونَ ) (2).

ص: 149


1- الأعراف : 203.
2- هود : 12 - 14.

ربّما ينقدح في ذهن القارئ الكريم سؤالان حول الآية الأولى من هذه الآيات :

الأوّل : لماذا تنسب الآية إلى النبي صلی اللّه علیه و آله احتمال ترك بعض ما يوحى إليه ، أو ليس هذا مخالفاً لعصمته صلی اللّه علیه و آله ؟

الثاني : لماذا لم يجب النبي صلی اللّه علیه و آله سؤال قومه من إنزال الكنز ، والمجيئ بالملك ، بل أجابهم بأنّه ليس إلاّ نذير ، واللّه على كل شيء وكيل ؟

أمّا الجواب عن السؤال الأوّل - وإن كان خارجاً عن موضوع البحث - فحاصله : إنّ اللّه تعالى يخاطب في قرآنه نبيه بكلام يناسب مقتضى الطبيعة البشرية ويلقي إليه خطابه مع قطع النظر عن الخصوصيات الموجودة في المخاطب والمخاطب ( بالفتح ).

ويدل على ذلك أنّ اللّه سبحانه مع أنّه عالم بكل شيء ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ) (1) يستعمل لفظة « لعلَّ » الموضوعة للترجي الذي لا ينفك عن وجود الشك والترديد في المتكلم وليس ذلك إلاّ لأنّ الخصوصيات الموجودة في المتكلم ، أعني : علمه الواسع المحيط بكل شيء ، غير ملحوظة في المقام.

ومثله مخاطبة النبي ، فالنبي بما أنّه رسول معصوم لا يترك شيئاً من رسالته لا يخاطبه سبحانه في هذه الآية بل يخاطبه بما أنّه بشر ألقي إليه كلام ثقيل ورسالة شاقة ، وحيث إنّ طبيعة مثل هذه الرسالة الثقيلة تلازم احتمال أن يترك حاملها بعض ما وضع على عاتقه ، يعود المتكلم لأجل تقوية عزمه يخاطبه بقوله : ( ولعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) وليس الهدف الاخبار عن وقوع مثل هذا الخلل أو ذم مخاطبه وتوبيخه وإنّما يريد تقوية عزمه ، وشدَّ أزره.

ص: 150


1- سبأ : 3.

وإن شئت قلت : إنّ الرسالة الإلهية لما كانت ملازمة مع المتاعب والمشاق ، وكان في مثل هذا الموقف أرضية أن يترك المخاطب بعض ما أُمر به ، صح للمتكلم أن يخاطبه بتلك العبارة مستلهماً ذلك من طبيعة العمل وصعوبته ، وما يكتنفه من المتاعب.

وفي الحقيقة ليس الموجب لهذا الخطاب إلاّ ملاحظة طبيعة العمل ذاته ، لا المخاطب بما يتمتع به من الخصوصيات والمؤهلات.

وهذه القاعدة جارية في كل ما يخاطب به اللّه نبيه بما لا يناسبه وعصمته وعلو همته ، وهذا واضح لمن عرف القرآن وامتزج به روحه وعقله ، وإليك نموذجاً من ذلك.

أنا نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بلحن يلازم احتمال الشك والترديد في ذهن النبي بالنسبة إلى رسالته ويقول : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (1).

نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بجمل تشعر بوجود الشك والريب في نفس النبي بالنسبة إلى رسالته ، ولكن هذا الاحتمال سرعان ما يزول إذا علمنا أنّ الخطاب من هذا النوع يكون مع قطع النظر عن الخصوصيات الموجودة في المخاطب ( بالفتح ) من العلم القاطع بنبوته ورسالته ، والعصمة عن أيّ شك أو تكذيب.

أضف إلى ذلك أنّ الخطابات القرآنية تجري مجرى « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » الذي يجري عليه فصحاء العرب وبلغاؤهم ، بل هو أصل رصين في المسائل التربوية حيث إنّ المربي الحكيم إنّما يتحاشى توجيه النقد إلى الغرباء مباشرة بل

ص: 151


1- يونس : 94 - 95.

يوجه النقد إلى نفسه وولده وأقربائه حتى ينبه بذلك أذهان الغرباء بأنّه يجري على هذا النمط مع غيرهم أيضاً ، فإذا هو تعامل مع نفسه وولده وأقربائه بما جاء في كلامه فغيرهم أولى بذلك.

ويؤيد هذا الأمر ما في الآية الماضية أنّه سبحانه وجّه خطابه إلى غير النبي بمثل المضمون الوارد في الآية المتقدمة ، قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

فالهدف من خطاب النبي صلی اللّه علیه و آله بسؤال علماء الكتاب إنّما هو ترغيب غيره في سؤال علمائهم ، مشعراً بذلك بأنّ إحدى الطرق للتعرّف على صحة نبوة المدّعي هو تصريح النبي السابق على نبوّة النبي اللاحق باسمه ووصفه وعلائمه وسائر خصوصياته ، وقد جاءت خصوصيات النبي بما لا يدع للمراجع للعهدين أي شك وريب ، وكان علماء أهل الكتاب يعرفون تلك الخصوصيات ومواضعها فيهما ويعرفون النبي الخاتم كما يعرفون أبناءهم قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (2).

ونظير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (3).

فليست في هذه الخطابات أيّة دلالة على شك النبي وتردّده في رسالته ، وليست في أُختها أيّة دلالة على ذم النبي وتوبيخه ، وإنّما يعرف ذلك من عرف كيفية خطابات اللّه سبحانه في كلامه.

ص: 152


1- النحل : 43.
2- البقرة : 146.
3- الأنعام : 20.

هذا كله حول السؤال الأوّل وإليك الجواب عن السؤال الثاني.

إنّ الإجابة عن اقتراحهم بقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) لأجل أُمور نشير إليها :

أوّلاً : أنّ الظاهر من نفس الآيات أنَّ المقترحين لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة وتحرّي الواقع ، بل ما زالوا يعاندون النبي ويعادون دعوته ، إذ لو لم يكونوا بهذا الصدد لما عدلوا عن المعجزة الكبرى إلى طلب الكنز ، ومجيئ الملك معه ، وإلى هذا الجواب يشير سبحانه بقوله : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُسْلِمُونَ ) (1).

فأيّ معجزة أكبر من القرآن الكريم الذي كلّت عن فهمه الأذهان ، وعجز عن مباراته البلغاء.

ثانياً : أنّ القيام بمقترح القوم ( أعني : نزول الكنز ) يتصور على نوعين :

فأمّا أن يكون مطلوبهم نزول الكنز وبقاءه لحظة أو لحظات ، وهذا لا يكفيهم ولا يسكتهم بل سرعان ما يتهم القوم النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بقولهم : ( إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) (2) كما اتّهموه في غير هذا المورد ، وسيوافيك بيانه في المستقبل.

وإن كان مطلوبهم بقاء الكنز معه أبداً طيلة عمره ، وانتفاعه وانتفاع قومه من هذا الكنز وصيرورة النبي ذا ثروة طائلة فهذا نوع اعتراف بمنطقهم حيث قالوا : ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (3).

ص: 153


1- هود : 13 - 14.
2- الحجر : 15.
3- الزخرف : 31.

كما أنّ مجيئ الملك مع النبي صلی اللّه علیه و آله يتصور على صورتين :

إمّا بصورة الإنسان.

وإمّا بصورته الواقعية.

والصورة الأولى على فرض تحقّقها - لا تؤدي إلى إيمانهم وإذعانهم - بل سيتصورون الملك إنساناً عادياً مع النبي.

والصورة الثانية غير ممكنة لأنّ رؤية الملك تتوقف على شرائط غير موجودة فيهم. ولا يمكن للإنسان العادي رؤيته بشكله الواقعي.

أضف إليه أنّ نزول الملك مع النبي مع تكذيب القوم له يوجب نزول العذاب ، وقد جرت عليه سنة اللّه سبحانه في الأمم الماضية ، وسيوافيك التصريح به في الأبحاث الآتية.

ثالثاً : أنّ قوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ) غير ناف للإتيان بالإعجاز ، أو عدم مقدرته عليه ، وإنّما يشير إلى أنّ إعجاز النبي يتوقف على إذن منه سبحانه ، فلولا إذنه لما جاز للنبي صلی اللّه علیه و آله أن يقوم به. قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

ولذلك ختم كلامه في الآية المبحوث عنها بقوله : ( وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) .

الآية العاشرة ، والحادية عشرة

قال سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (2).

ص: 154


1- الرعد : 38.
2- الرعد : 7.

وقال سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) (1).

وطريق الاستدلال بهاتين الآيتين على أنّ النبي لم يكن مزوّداً بمعجزة غير القرآن هو ما تقدم في الآيات السابقة ، غير أنّ الآيتين تهدفان إلى حقيقة ناصعة قد أوضحناها عند البحث عن مسوغات الإتيان بالمعجزة وهي :

إنّ المقام لم يكن مقام الإتيان بالإعجاز حتى يقوم به النبي إذ للقيام به شرائط وهي غير موجودة.

أمّا أوّلاً : فلأنّ القوم قد بلغوا في العناد واللجاج مقاماً يصورهم اللّه سبحانه بقوله : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) (2).

فإذا بلغ عناد القوم إلى درجة لا يوجب قلع الجبال من أساسها إيماناً ولا يوجب إحياء الموتى وتكليمهم أو تقطيع الأرض قطعاً ، إذعاناً لهم ، فكيف يفيدهم غير هذه الأمور ؟

وثانياً : أنّ الآيتين تهدفان إلى ما تكرّر منّا في الأبحاث الماضية من أنّ أمر الإعجاز بيد اللّه سبحانه ، ولا يقدر النبي على شيء إلاّ بإذنه سبحانه ، كما قال تعالى في نفس السورة : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) فعلى ذلك فقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) يرشد إلى أنّ الوظيفة الأساسية للنبي هو الإنذار ، وأمّا الإتيان بالمعجزة فليس من شأنه القيام به في كل يوم وساعة وعند كل طلب واقتراح.

ونفي الإعجاز بهذا المعنى لا يستلزم نفي صدور المعجزة عن النبي صلی اللّه علیه و آله بتاتاً عند اجتماع الشرائط.

ص: 155


1- الرعد : 27.
2- الرعد : 31.
الآية الثانية عشرة

قال سبحانه : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِينَ ) (1).

وطريق الاستدلال مثل ما مر في الآيات السابقة ، غير أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما رامه المستدل.

أمّا أوّلاً : فلأنّ عدم قيام النبي صلی اللّه علیه و آله بالإعجاز والإتيان بمقترحات القوم لأجل أنّ القوم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة ، وتحرّي الواقع إذ يقول فيهم سبحانه في نفس تلك السورة : ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) (2) فإذا بلغ عناد القوم إلى هذه الدرجة حيث زعموا أنّ عروجه إلى السماء ليس إلاّ سَكَراً أو سحراً ، فما ظنّك بغيره ! فلو قام النبي بأيّ مقترح للقوم لقالوا فيه ما قالوه بل أعظم منها.

وثانياً : انّ القوم اقترحوا على النبي أن يأتيهم بالملائكة والإتيان بهم كما مر يتحقّق على صورتين :

الأولى : الإتيان بهم بصورة الإنسان وهو لا يؤدي إلى إيمانهم لأنّهم يتصورونه بشراً عادياً.

الثانية : الإتيان بهم في صورهم الواقعية وهم غير مؤهلين لرؤيتهم.

أضف إلى ذلك أنّه يستفاد من الآيات أنّه جرت سيرة اللّه سبحانه في الأمم الماضية على أنّ نزول الملائكة وتكذيبهم يوجب نزول العذاب ، ولأجل ذلك قال

ص: 156


1- الحجر : 6 - 8.
2- الحجر : 14 - 15.

سبحانه في نفس الآيات : ( مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِينَ ) (1). ويقول سبحانه : ( يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (2) وهذه الآية ، وإن كانت واردة في شأن يوم القيامة إلاّ أنّها تشير إلى أنّ رؤية الملائكة لا يعد أمراً مباركاً للمجرمين بل يكون سبباً لعذابهم.

ثالثاً : انّ القوم طلبوا من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يأتي إليهم مع الملائكة ، مع أنّه سبحانه قد بعث رسلاً قبله ولم يكونوا إلاّ بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، ولم يكن معهم ملك ، وإلى ذلك يشير سبحانه بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) (3).

على أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ مطلوب القوم كان نزول الملائكة عليهم كما يحكيه عنهم بقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ) (4).

وعلى ذلك فقد كان مطلوب القوم نزول الملائكة عليهم والاتصال بالمبدأ الأعلى ولا يمكن للنبي القيام بمطلوبهم.

الآية الثالثة عشرة

قال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا

ص: 157


1- الحجر : 8.
2- الفرقان : 22.
3- الفرقان : 20.
4- الفرقان : 21.

ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) (1).

استدل بعض الكتاب بهذه الآية بنفس ما تقدم في نظائرها.

والمراد بالآيات هو المقترحات الستة الواردة في تلك السورة في الآيات 90 إلى 93 ، وسوف يوافيك البحث عن تلكم الآيات المقترحة في البحث الآتي. وأمّا توضيح هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

فنقول : يمكن تفسيرها بوجهين :

أحدهما : ملاحظة نفس الآية بما فيها من الكلمات.

الثاني : دراستها بملاحظة الآيات الأخر التي وردت في هذا المضمار.

أمّا الأوّل : فالتدبّر في كلمة ( إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) يعطي أن الامتناع من نزول الآيات إنّما هو لأجل أنّ المقترحين كانوا يشابهون الأمم السابقة في الخلق والعناد ، فلهم ما لأوّليهم من الحكم حيث كانوا يقولون : ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) (2) وكانوا يقولون : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) (3).

وعلى ذلك فلا فائدة في إرسال تلك الآيات لأنّهم لا يؤمنون بها ، فيكون إنزالها عبثاً لا فائدة فيها ، كما أنّ من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات (4).

وقد عرفت في مفتتح البحث أنّ القيام بالإعجاز ليس أمراً اعتباطياً بل يتوقف على وجود شرائط في المقترح التي منها الاستعداد والتهيؤ للإيمان

ص: 158


1- الإسراء : 59.
2- المؤمنون : 24.
3- الزخرف : 23.
4- مجمع البيان : 3 / 423.

والتصديق ، وإذا كان القوم يشبه آخرهم أوّلهم في العناد واللجاج فلا جدوى في الإعجاز.

ويؤيد ذلك المعنى ما قاله سبحانه في ذيل الآية : ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) مشيراً بذلك إلى أنّ القوم إخوان من سبقهم من ثمود ، حيث رأوا آية مبصرة بيّنة فظلموا أنفسهم بالتكذيب بتلك البينة الواضحة.

وينبئ عن هذا المعنى ذيل الآية : ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) أيْ لا نرسل الآيات التي نظهرها على الأنبياء إلاّ عظة للناس وزجراً وتخويفاً لهم من مخالفة اللّه إن لم يؤمنوا ، غير أنّ هذا الشرط مفقود في هذه الزمرة فلا فائدة في القيام بالإعجاز.

وعلى ذلك فالمقاطع الثلاثة في الآية تشهد على أنّ الامتناع من القيام هو اليأس من حصول الإيمان وتأثير الإعجاز في قلوبهم ، وإليك هذه المقاطع الدالة على ما ذكرنا :

1. ( أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) : والتعبير عن الأمم الهالكة بالأوّلين يشير إلى كون الآخرين امتداداً لهم ولفكرتهم وطريقتهم ، وفي كل وادٍ أثر من ثعلبة.

2. ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) مشيراً إلى أنّ القوم يشبهون قوم ثمود في تكذيب الآيات والظلم بها وبأنفسهم.

3. ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) مشيراً إلى أنّ الهدف من القيام بالآيات عظة الناس وزجرهم ودفعهم إلى الإذعان والإيمان.

وأمّا الثاني : أعني تفسير الآية بملاحظة بعض الآيات الواردة في هذا المضمار فإنّ القرآن يحكي بأنّ القوم ربّما كانوا يطلبون العذاب من النبي ، قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ

ص: 159

أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1).

ولا ريب أنّ الهدف من نزول الآية هو دفع القوم إلى الإيمان لا أبادتهم وإهلاكهم ، فمثل هذه إلآية تضاد هدف الإعجاز وغايته ، فليس من البعيد أن يكون الامتناع من المجيئ ببعض الآيات هو لأجل أنّ مقترحهم كان إهلاكهم وإبادتهم ، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله : ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) أي عظة للناس وزجراً لا إهلاكاً وإبادة.

على أنّه يمكن أن يكون مقترحهم بعض الآيات التي يوجب تكذيبها نزول العذاب ، فإنّ القرآن يحكي لنا عن وجود تلك السنّة في بعض المعاجز ( لا كلّها ) قال سبحانه : ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) (2).

ولعله إلى هذا الجانب من هدف الآية يشير قوله : ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) حيث إنّ من المعلوم أنّ قوم ثمود عمَّهم العذاب لما قاموا بتكذيب الآية (3).

هذا هو مفاد الآية بملاحظة نفسها ، وبملاحظة أخواتها ، فمن أين يستدل بها الكاتب على أنّ النبي الأكرم كان غير مزود بمعجزة غير القرآن ؟!

الآية الرابعة عشرة

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ

ص: 160


1- الأنفال : 32.
2- الزمر : 25.
3- وقد روى صاحب البرهان في تفسيره عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال : « وكنّا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا أهلكناهم ، فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات ». ( البرهان : 2 / 224 ).

النَّاسِ إِلا كُفُوراً * وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) (1).

استدل الكاتب المسيحي بأنّ نبي الإسلام لما طولب بالمعجزة أظهر العجز قائلاً بأنّه ليس ( إِلا بَشَراً رَسُولاً ) .

هذا مبلغ معرفته بمعالم الآية وأهدافها ، وقد نسب إلى النبي هذا المضمون من دون أن يتدبّر في الآيات المقترحة وأنّها هل كانت جامعة للشرائط التي نوّهنا بها في مستهل البحث أو لا ؟ وأنّه هل كان صحيحاً في منطق العقل القيام بها أو لا ؟ ولا يظهر وجه الحقيقة إلاّ بدراسة كل واحدة من هذه الآيات. فنقول : إنّ مقترحات القوم كانت تدور بين أُمور هي :

1. تفجير ينبوع من الأرض لهم.

2. أن تكون للنبي جنة من نخيل وعنب وتجري الأنهار خلالها بتفجير منه.

3. أن يسقط السماء عليهم كسفاً.

4. أن يأتي باللّه والملائكة قبيلاً.

5. أن يكون للنبي بيت من زخرف.

6. أن يرقى في السماء ، ولا يكفي ذلك حتى ينزل كتاباً عليهم من السماء.

هذه هي مقترحات القوم ، وإليك دراسة كل واحد منها.

أمّا الأوّل : فلأنّ القيام بهذا الأمر يتنافى مع سنّة اللّه الحكيمة في الحياة

ص: 161


1- الإسراء : 89 - 93.

البشرية التي استقرّت على أن يصل الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم ومآربهم من طريق السعي والجد تكميلاً لنفوسهم وتربية لعزائمهم ، فإذا كان مطلوب القوم أن يفجر لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها حتى تتبدّل أراضيهم القاحلة إلى الأراضي الطيبة الصالحة للزرع والغرس ، فهو على خلاف تلك السنّة الحكيمة التي نلمسها في الحياة الإنسانية ، وعلى ذلك نزل الذكر الحكيم قال سبحانه : ( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى ) (1).

نعم ربما تقتضي بعض الأحوال والظروف أن يقوم النبي - لإبقاء حياة قومه - ببعض المعاجز التي بها تستديم حياتهم كما نرى ذلك في حياة بني إسرائيل ، فإنّ موسى استسقى لقومه لما شكوا إليه من الظمأ فأوحى اللّه تعالى إليه أن : ( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (2).

ولا يعد مثل ذلك نقضاً للسنّة العامة المذكورة فإنّ حياة بني إسرائيل في التيه كانت حياة خاصة حرجة غير مشابهة لحياة الأقوام الأخرى الذين يقدرون على معايشهم بيسر وسهولة وكسب وكدح ، ولأجل ذلك نرى أنّ رحمته سبحانه شملتهم بوجوه متعددة حكاها اللّه سبحانه في القرآن الكريم قال تعالى : ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (3).

فلأجل الشرائط الحرجة الاستثنائية التي كان يمر بها بنو إسرائيل ، خصّهم سبحانه بالنعم المذكورة في هذه الآيات ، وعندما تمكن بنو إسرائيل من تحصيل النعم بالكد والكدح ، وسوَّغت الظروف قيامهم برفع حوائجهم بأنفسهم تركهم

ص: 162


1- النجم : 39.
2- البقرة : 60.
3- البقرة : 57.

وشأنهم وطلب منهم القيام بذلك بأنفسهم بالكسب والتعاون ، قال سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) (1).

فقوله سبحانه : ( فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) يرشد إلى أنّ التنوّع الذي طلبوه من الكليم لن يحصل إلاّ بقيامهم بالدخول في مصر ، وتحصيلها منها بالأسباب الطبيعية ، لأنّ الذي يفرض على النبي أن يقوم - للإبقاء على حياة قومه - إنّما يتقدر بقدر الضرورة وهو الطعام الواحد ، وأمّا الزائد على ذلك فلا يحصل إلاّ عن طريق المجاري الطبيعية ، والأسباب المتعارفة.

ولا تقاس تلك الظروف بالأحوال الحاكمة على أرض مكة وسكانها حيث يحكي عنهم سبحانه : ( وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

وهذا البحث أسفر عن أنّ سؤالهم الوارد في المقطع الأوّل كان على وجه لا يصح للنبي القيام به لمخالفته للسنّة الإلهية الحكيمة في الكون والحياة البشرية.

أمّا الطلب الثاني : أعني : كون النبي مالكاً لجنة من نخيل وعنب ويفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، فليس هذا إلاّ تصوراً باطلاً في شأن النبي من أنّه يجب أن يكون رجلاً غنياً ذا ثروة طائلة ، وقد حكى عنهم سبحانه تلك المزعمة بقوله : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (3).

ص: 163


1- البقرة : 61.
2- القصص : 57.
3- الزخرف : 31.

فالإجابة على ذلك السؤال نوع اعتراف بتلك المزعمة ، على أنّه يجب أن يكون بين المطلوب والرسالة رابطة عقلية يستدل بالأوّل على الثاني ، وهذا الشرط غير موجود في ذلك السؤال ، إذ كون الرجل ذا ثروة لا يستدل به على صحة قوله وصدق نبوته ورسالته ، وإلاّ يجب أن يكون أصحاب الثروات أنبياء إذا ادّعوا النبوة والرسالة.

وأمّا الطلب الثالث : أعني قولهم : ( أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) فقولهم : ( كَمَا زَعَمْتَ ) يعنون به قوله تعالى : ( إِن نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ (1) ) غير أنّ القيام بهذا الاقتراح يضاد هدف الإعجاز ، فإنّ الغاية من خرق الطبيعة هي هداية الناس إلى الدين ، ولو كانت نتيجة الإعجاز أبادتهم وإهلاكهم لزم نقض الغرض.

وأمّا الطلب الرابع : أعني قولهم : ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) والمراد من قوله : ( قَبِيلاً ) أي كفيلاً بما تقول ، شاهداً بصحته ، والمعنى : أو تأتي باللّه قبيلاً وبالملائكة قبيلاً. ويمكن أن يكون المراد منه مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ، وهذه الآية بمنزلة قولهم حيث حكى عنهم سبحانه بقوله : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) (2). ومن المعلوم أنّ مقترحهم أمر محال ، فإنّ طلب رؤية اللّه المجرد عن المكان والزمان بهذه الأبصار المادية أمر غير ممكن ، وهو تعالى يصف نفسه بقوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (3). ومثله طلب رؤية الملائكة بأشكالهم الواقعية ، كما أوعزنا إليه غير مرة.

ص: 164


1- سبأ : 9.
2- الفرقان : 21.
3- الأنعام : 103.

وأمّا الطلب الخامس : أعني قولهم : ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ ) فيرد بما ردّ به سؤالهم الثاني.

وأمّا الطلب السادس : أعني قولهم : ( أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

فلحن السؤال يدل على عنادهم وتعنّتهم ، إذ لو كان هدفهم من الطلب هو الاستهداء فيكفي طلبهم الأوّل ، أعني : رقي النبي إلى السماء ولم تكن حاجة لقولهم ( وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وهذه التحليلات العقلية ترشدنا إلى أنّ عدم قيام النبي بهذه الطلبات والمقترحات إنّما هو لأجل فقدان مقتضى الإجابة ، أو لأجل وجود مانعها.

فلننظر بماذا أجابهم سبحانه ، نرى أنّه سبحانه ردّ على طلباتهم بأمره النبي أن يقول لهم : ( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) والدقة في هذه الجملة القصيرة ترشدنا إلى الأمور التالية :

قوله تعالى : ( سُبْحَانَ رَبِّي ) فهو يهدف إلى تنزيهه سبحانه عن الرؤية والمجيئ اللّذين طلبهما القوم حيث قالوا : ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ ) ، كما أنّه يرمي إلى أنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بالمحال الذاتي كما لا تتعلق بالأمر الممكن إذا كان على خلاف الحكمة ، حيث طلبوا منه إهلاكهم وإبادتهم مع أنّهم خلقوا للاهتداء والتكامل لا للإبادة والهلاك.

وأمّا قوله : ( بَشَراً رَسُولاً ) فيهدف لفظهما إلى أنّ القيام بهذه الطلبات يحتاج إلى قدرة قاهرة غير متناهية وهي خارجة عن إطار القدرة البشرية ، ولست أنا إلاّ بشراً وأمّا القيام بها بما أنّي رسول فيتوقف على إذنه سبحانه المنتفي هنا لما ذكرنا من العلل.

ص: 165

فقيام المسؤول بهذه الطلبات أمّا بلحاظ أنّه بشر ، أو بلحاظ أنّه رسول ، فإن كان باللحاظ الأوّل ، فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور ، وإن كان باللحاظ الثاني ، فهو موقوف على إذنه سبحانه.

قال العلاّمة الطباطبائي : أمره سبحانه أن يجيب عمّا اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم في ما لا يخفى على ذي نظر ، فإنّهم سألوه أُموراً عظاماً لا يقوى على أكثرها إلاّ القدرة الغيبية الإلهية ، أضف إلى ذلك أنّ فيها ما هو مستحيل بالذات ، كالإتيان باللّه والملائكة ، ولم يرضوا بهذا المقدار دون أن جعلوه هو المسؤول المتصدّي لذلك ، المجيب لما سألوه ، فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا ، بل قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر أو تسقط السماء أو تأتي باللّه أو ترقى و ... ، فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر ، فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة ؟! وإن أرادوا منه ذلك بما أنّه يدّعي الرسالة ، فالرسالة لا تقتضي إلاّ حمل ما حمّله اللّه من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه ، وإقداره على أن يخلق كل ما يريد ، ويوجد كل ما شاءُوا ، وهو صلی اللّه علیه و آله لا يدعي لنفسه ذلك ، فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح (1).

الآية الخامسة عشرة

قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِن رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ) (2).

والاستدلال بهذه الآية على مراد المستدل على غرار ما تقدم.

ص: 166


1- الميزان : 13 / 203.
2- طه : 133 - 134.

غير أنّ الاستدلال بها على مطلوبهم غير صحيح جداً ، فإنّ عدم القيام بما كانوا يقترحونه من الآية كان لأجل العلة التالية : أنّهم إنّما اقترحوا آية على النبوة - على عادتهم في التعنت - تحقيراً للمعجزة التي أعطاها لنبيه ، فلأجل ذلك نرى أنّ القرآن يجيبهم بقوله :

( أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ) أي أو لم تأتكم آية هي أُمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز ، وهو القرآن ، فهو برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته عند الموافقة ، لأنّه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها ، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة.

ويمكن أن تكون الجملة مشيرة إلى معنى آخر وهو : أنّه سبحانه يذكرهم بقوله : أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها ، فماذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أُولئك ؟

فعلى المعنى الأوّل فعلّة الامتناع من الإتيان بآية أُخرى هو أنّهم كانوا بصدد تحقير المعجزة الكبرى ، فإذا لم يبصروا بها فلا يبصرون بغيرها.

وعلى المعنى الثاني تشير الجملة إلى أنّ الآية لو أتتهم لكذبوها فيعمّهم العذاب ويشملهم البلاء ، وقد عهد سبحانه أن لا يعذبهم ونبيّه فيهم ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (1).

ثم أي فائدة لمعجزة توجب إبادة القوم وإهلاكهم ؟!

الآية السادسة عشرة

قوله سبحانه : ( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ

ص: 167


1- الأنفال : 33.

كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) (1).

نرى أنّ أعداء النبي صلی اللّه علیه و آله رموا قرآنه ومعجزته الكبرى بكونه أضغاث أحلام وتجاوزوا ذلك فاعتبروها فرية اختلقها ونسبها إلى اللّه سبحانه ، ثم استقر رأيهم على أنّه قول شاعر ، وهذا قول المتحيّر الذي بهره ما سمع فمرّة يقول : « حلم » وتارة يقول : « فرية » ، وأُخرى بأنّه : « شعر » ولا يجزم على أمر واحد من هذه الأمور ، فلأجل ذلك يعرض عن الجميع ويستدعي أن يأتي النبي صلی اللّه علیه و آله إليه بآية كما أتى الأوّلون من الأنبياء مثل الناقة والعصا.

ذلك مبلغهم من العلم والدرك ، والقرآن يصف نفسه بأنّه : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (2).

وعندئذ يجب أن نستمع إلى ما يجيبهم القرآن تجاه هذا الاقتراح ، فأجابهم بوجوه :

1. إنّ قوله ( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) مشيراً إلى أنّه لم يؤمن قبل هؤلاء الكفار من أهل قرية جاءتهم الآيات التي طلبوها أفهم يؤمنون عند مجيئها ، مصرحاً بحالهم وأنّ سبيلهم سبيل من تقدم من الأمم الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنّهم يؤمنون عندها ، فلمّا جاءتهم نكثوا وخالفوا ، فلو أعطينا لهؤلاء ، أيضاً ما يقترحون لكانوا أنكث من هؤلاء فهل في هذه الحال يصح أن يقوم النبي بالإعجاز والإجابة على الطلبات والاقتراحات ؟

2. انّ قوله : ( إلاّ أهلكناهم ) اشارة إلى أنّهم لو خالفوا ولم يؤمنوا بعد

ص: 168


1- الأنبياء : 5 - 8.
2- العنكبوت : 49.

المجيء بالآيات المقترحة ، لعمّهم الهلاك كما عمّ الأمم السابقة واستحقّوا عذاب الاستئصال ، فلأجل ذلك لم يأت بالآيات المقترحة.

3. انّ قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) إشارة إلى جواب ثالث ، وهو : أنّ الظاهر من قول المقترحين : ( فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) أنّهم آمنوا بنبوّة موسى وعيسى وصدقوهما ، فلأجل ذلك يطلبون من النبي نفس المعجزات التي جاء بها الرسولان السابقان ، فعند ذلك يدعوهم القرآن إلى أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعرّفوهم بالبشائر الواردة في حق النبي في الكتب المنزلة قبله ، فلو أنّهم بصدد الحقيقة فلماذا لم يطرقوا هذا الباب ؟ وهذا آية أنّهم قوم لجاج وعناد.

4. إنّ قوله : ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) يشير إلى عقيدة القوم فكأنّهم كانوا ينتظرون من النبي أن يكون ذا قدرة فوق البشرية فلا يأكل ولا يمشي في الأسواق ، ويفعل كل ما اقترحوا عليه ، مع أنّ الأنبياء في منطق القرآن والعقل فوق هذه المزعمة ، فهم لا يفعلون ، ولا يقدرون على شيء إلاّ بإذن اللّه قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1). ثم إنّ الآية تشتمل على حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته :

الأولى : نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية والنبوة.

الثانية : حلّها ، وهو انّ الفارق بين النبي وغيره هو الوحي الإلهي ، وهو كرامة من اللّه يخصص بها من يشاء من عباده.

ص: 169


1- الرعد : 38.

فالآية نظير قوله : ( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

وعلى ذلك كله فامتناع النبي عن القيام بمقترحات القوم ، ليس لأجل أنّه لم يؤت بمعجزة سوى القرآن ، بل إمّا لأجل اليأس من إيمانهم ، وإمّا لاستلزام الإنكار إبادتهم واستئصالهم ، وإمّا لأجل أنّ النبي ليس قادراً على كل ما يطلبونه منه إلاّ بإذن اللّه ، وإذنه سبحانه موقوف على توفر شرائط.

الآية السابعة عشرة

قال سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (2).

وهذه الآية قد تذرّع بها الخصم على أنّ النبي لم يكن مزوداً بمعجزة سوى القرآن وأنّه كل ما طولب بالمعجزة أجاب بأنّ « الآيات عند اللّه » غير أنّ الإمعان في الآيات التي سبقتها وتأخرت عنها يكشف القناع عن مقصد الآية ومرادها ، وإليك بيانها :

إنّ الناظر في الآيات المتقدمة على هذه الآية يجد أنّ القرآن يبرهن على كونه من اللّه سبحانه بأنّ النبي الآتي به أُمّي ما كان يتلو من قبله من كتاب وما كان يخط بيمينه شيئاً ، فهذا الكتاب العظيم الذي ينطوي على آفاق من العلوم والمعارف والحكم ، يستحيل أن يكون من نسج الإنسان وصنع البشر ، فلأجل ذلك

ص: 170


1- إبراهيم : 10 - 11.
2- العنكبوت : 50.

يصفه بقوله : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (1) فبعد ذلك ينقل اقتراحهم بقوله : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ ) تعريضاً بالكتاب على أنّه ليس بآية معجزة وهذه السخرية نظير قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (2). ففي هذه الحالة ، وهذا الموقف هل يصح للنبي أن يقوم بتلبية مقترحهم ليكون عمله نوعاً من الاعتراف بعقيدتهم وتكريساً لاستهزائهم ؟!

ثم إنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يجيبهم بقوله : ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) وهذا جواب عن زعمهم أنّ من يدّعي الرسالة يجب أن يكون متدرعاً بقوة غيبية يقدر بها على كل ما طولب به ، وحقيقة الجواب هي التصريح بأنّه لا يشارك في القدرة على المعاجز معه سبحانه فليس للنبي شيء إلاّ أن يشاء اللّه ، وقد تكرر هذا المضمون في القرآن الكريم غير مرة ، وعلى ذلك فليست الآية بصدد نفي الإعجاز عن النبي ، بل هي بصدد بيان حقائق غير منكرة في منطق العقل وهي : أنّ القادر المطلق هو اللّه سبحانه ، ولا يشاركه غيره والنبي لا يقوم بخرق العادة إلاّ بإذنه ، وأين ذلك ممّا يدّعيه الخصم ؟!

ويؤكد ذلك ذيل الآية : ( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

الآية الثامنة عشرة

قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) (3).

ص: 171


1- العنكبوت : 49.
2- الحجر : 6 - 7.
3- غافر : 78.

والاستدلال بهذه الآية على نفي المعجزة من غرائب الاستدلالات إذ ليس في الآية أيُّ إشعار بذلك فضلاً عن الدلالة والتصريح ، بل مفاد الآية ومرامها كمفاد الآية الثامنة والثلاثين من سورة الرعد ، أعني قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) .

وعلى ذلك فالآيتان تدلاّن على أنّ الإعجاز ليس في اختيار النبي حتى يقوم به كيف شاء ، أو كيف ما شاءوا ، بل يقتفي في ذلك إذن اللّه سبحانه ، وهو موقوف على توفر شرائط غير موجودة إلاّ في ظروف قليلة.

على أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الآية هي الآيات التي تنصر الحق ، وتقضي بين الرسول وأُمّته وتلك أعم من الإعجاز ، أعني : النصر في الحروب والظروف القاسية ، ويؤيد ذلك ذيل الآية ، أعني : قوله : ( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) أي إذا جاء أمر اللّه بالعذاب قضي بالحق فأُظهر الحق وأُزهق الباطل ، وخسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك وفي آخرتهم بالعذاب الدائم.

حصيلة البحث

وأنت أيها القارئ الكريم إذا أمعنت في هذه الآيات وما تشابهها في الهدف والمفاد تقف على أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما يرميه الخصم المعاند الذي يكن للإسلام ونبيه حقداً وعداوة ، ويمهد الطريق للغزو الفكري وزعزعة القلوب عما اعتقدت به.

فإنّ هذه الآيات تهدف إلى حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق القرآنية وهي أن للإتيان بالمعجزة قوانين وضوابط ، وانّه يتوقف على توفر شرائط أشرنا إليها في مستهل البحث الحاضر ، فلو فقدت واحدة من هذه لما صح للنبي القيام

ص: 172

بالإعجاز والإتيان بمقترحات القوم ، وليس في الآيات أي إشعار بأنّ النبي كان يظهر العجز عن القيام بالإعجاز والإتيان بالآية أو يحيل الأمر إلى اللّه سبحانه بمعنى أنّه لم يؤت له أيّة معجزة سوى القرآن.

كل ذلك دعايات وسفاسف ألصقها الكتّاب المسيحيون ، ومن يقتفي أثرهم في الأهداف والغايات بمفاد الآيات ومعانيها ، والآيات تنادي خلاف ما ادّعوا.

والعجب أنّ بعض الكتّاب قد استدل على مدّعاه ببعض الآيات التي لا تمس ما نحن فيه أصلاً مثل قوله سبحانه : ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (1).

فالآية تهدف إلى أنّ العلم بوقت قيام القيامة يختص به سبحانه ولم يطّلع عليه أحد سواه ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) (2) ومثل ذلك قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (3).

فالآية تهدف إلى أنّ النبي ليس بضنين على الوحي ، بأن يكتم بعضه ويبيّن بعضه ، فالمراد من الغيب هو الوحي ، فلا صلة للآية بالإعجاز ، كل ذلك يعرب عن أنّ الكاتب كان يخبط خبط عشواء فيأتي في مقام الاستدلال بشيء لا مساس له بالموضوع أبداً.

ص: 173


1- الملك : 25 - 26.
2- لقمان : 34.
3- التكوير : 23 - 25.

ص: 174

4

النبي الشفيع في القرآن الكريم

اشارة

ص: 175

في هذا الفصل

1. الشفاعة وكلمات علماء الإسلام ، وهي أربع وثلاثون كلمة.

2. الآيات الواردة حول الشفاعة ، وهي على سبعة أصناف :

أ. الآيات النافية للشفاعة.

ب. ما يفنّد عقيدة اليهود فيها.

ج. ما ينفي شمول الشفاعة للكفّار.

د. ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة.

ه. ما يعد الشفاعة حقاً مختصاً به سبحانه.

و. ما يثبت الشفاعة لغيره سبحانه في شرائط خاصة.

ز. ما يسمي أسماء من تقبل شفاعتهم.

3. الشفاعة المرفوضة والشفاعة المقبولة.

4. آيات أُخرى في الشفاعة.

5. حقيقة الشفاعة وأقسامها الثلاثة : التكوينية ، والقيادية ، والمصطلحة.

6. لماذا شرِّعت الشفاعة ، وما هي مبرراتها ؟

7. ما هو أثر الشفاعة ، أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟

8. إشكالات مثارة حول الشفاعة وهي عشرة.

9. الشفاعة في الأدب العربي.

10. الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

ص: 176

1

الشفاعة وعلماء الإسلام الشفاعة أصل من أُصول الإسلام

أجمع العلماء على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلين على ذلك بقوله سبحانه : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (1).

وبقوله سبحانه : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (2).

وفسّرت الآيتان بالشفاعة ، فالمقام المحمود هو مقام الشفاعة ، والذي أُعطي للنبي هو حق الشفاعة الذي يرضيه.

ولما كانت الإحاطة بمفاد الآيتين تتوقف على البحث عن : معنى الشفاعة وأدلّتها ، وحدودها ، والتعرّف على الشفعاء ، ناسب أن نبحث عن الشفاعة بالإسهاب - وإن كان الهدف الأسمى هو التعرّف على إحدى صفات النبي صلی اللّه علیه و آله وهو كونه شفيعاً يوم القيامة - فنقول :

اتفقت الأمّة الإسلامية على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب الكريم ، وصرّحت به السنّة النبوية والأحاديث عن العترة الطاهرة.

ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، وان اختلفوا في معناها وبعض

ص: 177


1- الضحى : 5.
2- الإسراء : 79.

خصوصياتها. فذهب الإمامية والأشاعرة إلى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وذهبت المعتزلة إلى خلاف ذلك قائلين : بأنّ شفاعة رسول اللّه للمطيعين ، دون العاصين ، وأنّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين (1).

وإلى ذلك يرجع أيضاً اختلافهم في معنى الشفاعة ، هل هي بمعنى طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب كما ذهبت إليه الوعيدية ؟ أو إسقاط عقاب الفساق من الأمّة كما ذهب إليه غيرهم (2) ؟ فانّ مآل النزاعين أمر واحد ، فتارة تطرح المسألة بلحاظ المشفوع له ، فيقال : هل هي للمطيعين أو الخاطئين ؟ وأُخرى بلحاظ نفس معنى الشفاعة ، هل هو طلب زيادة المنافع أو إسقاط العقاب ؟

وعلى كل تقدير ، فالشفاعة بإجمالها موضع اتفاق بين الأمّة الإسلامية ، ولا بأس أن نذكر بعض نصوص علماء الإسلام في هذا البحث حتى يكون القارئ على بصيرة من الأمر ، فنقول :

1. لقد أشار أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي المتوفّى عام 333 ه في تفسيره ، إلى الشفاعة المقبولة ، واستدل لها بآية : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (3) وقد أورد قبلها قوله سبحانه : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (4).

وقال ما حاصله : إنّ الآية الأولى وإن كانت تنفي الشفاعة ، ولكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام وهي التي تشير إليها هذه الآية (5).

ص: 178


1- أوائل المقالات : 14 - 15.
2- كشف المراد : 262.
3- الأنبياء : 28.
4- البقرة : 48.
5- تفسير الماتريدي المعروف بتأويلات أهل السنّة : 148.

2. قال تاج الإسلام أبو بكر الكلابادي ( المتوفّى عام 380 ه ) : أجمعوا على أنّ الإقرار بجملة ما ذكر اللّه سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي في الشفاعة واجب لقوله تعالى : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (1) ولقوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (2) وقوله : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (3).

وقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (4).

3. قال المفيد : اتفقت الإمامية على أنّ رسول اللّه يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وأنّ أمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته ، وأنّ أئمّة آل محمد يشفعون كذلك ، وينجي اللّه بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ، ووافقهم على شفاعة الرسول ، المرجئة ، سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعمت أنّ شفاعة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للمطيعين دون العاصين ، وانّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين (5).

وقال في موضع آخر : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته من الشيعة خاصة فيشفّعه اللّه عزّ وجلّ ، ويشفع أمير المؤمنين في عصاة شيعته فيشفّعه اللّه عزّ وجلّ ، وتشفع الأئمّة في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفّعهم اللّه ، ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفّعه اللّه ، وعلى هذا القول إجماع الإمامية - إلاّ من شذ منهم - وقد نطق به القرآن ، وتظاهرت به الأخبار قال اللّه تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم وعلى الفائت لهم ممّا حصل لأهل

ص: 179


1- الضحى : 5.
2- الإسراء : 79.
3- الأنبياء : 28.
4- التعرف لمذهب أهل التصوف : 54 - 55 ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.
5- أوائل المقالات : 15.

الإيمان : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (1) وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع علي علیه السلام فيشفّع ، وأنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه » (2).

4. وقال الشيخ الطوسي : حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع ، والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبي صلی اللّه علیه و آله فيشفّعه اللّه تعالى ويسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصلاة لما روي من قوله علیه السلام : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وإنّما قلنا لا تكون في زيادة المنافع ، لأنّها لو استعملت في ذلك ، لكان أحدنا شافعاً في النبي صلی اللّه علیه و آله إذا سأل اللّه أن يزيده في كرامته ، وذلك خلاف الإجماع ، فعلم بذلك أنّ الشفاعة مختصة بما قلناه ، والشفاعة ثبتت عندنا للنبي وكثير من أصحابه ولجميع الأئمّة المعصومين وكثير من المؤمنين الصالحين (3).

5. يقول القاضي عياض : مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها سمعاً ، بصريح الآيات ، وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنّة عليها ، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجوا بقوله تعالى : ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وأمثاله ، وهي في الكفّار ، وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات ، فباطل ، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم ، وإخراج من استوجب النار (4).

ص: 180


1- الشعراء : 100 - 101.
2- أوائل المقالات : 52 - 53.
3- التبيان : 1 / 213 - 214.
4- بحار الأنوار : 8 / 62 ، وشرح صحيح مسلم : 2 / 58.

6. قال الإمام أبو حفص النسفي : والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة (1).

7. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفية هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف (2).

8. قال الطبرسي في تفسيره : إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة ، وان اختلفوا في كيفيتها ، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين ، وقالت المعتزلة : هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين ، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين ، وينجي اللّه تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي اللّه عنهم - مرفوعاً إلى النبي - أنّه قال : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع علي علیه السلام فيشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون ، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (3).

وقال أيضاً : أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر ، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه ، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه ، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة ، فقالت المعتزلة ومن تابعهم : يشفع لأهل الجنّة ليزيد اللّه درجاتهم. وقال غيرهم من فرق

ص: 181


1- العقائد النسفية : 148.
2- العقائد النسفية : 148.
3- مجمع البيان : 1 / 103 - 104.

الأمّة : بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى اللّه دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته (1).

9. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (2) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت : نعم ، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة (3).

10. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها ، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة اللّه ، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم ، وليس في الآية دليل لمنكريها ، لأنّ قوله : ( يَوْماً ) في قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً ، ولا شك أنّ في القيامة مواطن ، يومها معدود بخمسين ألف سنة ، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة ، وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيد البشر ، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها ، منها قوله تعالى : ( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (4) مع قوله : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (5) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ، ووقتين متغايرين ، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له ، وكذلك

ص: 182


1- مجمع البيان : 2 / 83.
2- البقرة : 48.
3- الكشاف : 1 / 214 - 215. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة ، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين ، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.
4- المؤمنون : 101.
5- الصافات : 27.

الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، ورزقنا اللّه الشفاعة » (1).

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و ( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به ، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل (3).

وقال صاحب الانتصاف : أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة ، وهم جديرون أن يُحرموها ، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى ، وما أنكرها القدرية إلاّ لإيجابهم مجازاة اللّه للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية ، إيجاباً عقلياً - على زعمهم - فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة (4).

وعلى أي تقدير ، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلامية على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

11. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (5) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار ، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

ص: 183


1- الانتصاف بهامش الكشاف : 1 / 214 ، المطبوع عام 1367.
2- البقرة : 254.
3- الكشاف : 1 / 291.
4- الانتصاف بهامش الكشاف : 1 / 291.
5- البقرة : 48.

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار ، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم (1).

12. قال الفتّال النيسابوري - الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري - : لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة ، إلاّ أنّ أصحاب الوعيد - وهم المعتزلة - قالوا : مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها : إسقاط المضار والعقوبات (2).

13. يقول الرصاص - الذي هو من علماء القرن السادس الهجري - في كتابه « مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم » : إنّ شفاعة النبي صلی اللّه علیه و آله يوم القيامة ثابتة قاطعة (3).

14. قال الرازي في تفسير قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (4).

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمد صلی اللّه علیه و آله شفاعة في الآخرة ، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه ، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب ، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة ، واتفقوا على أنّها ليست للكفار (5).

ص: 184


1- أنوار التنزيل وأسرار التأويل : 1 / 152.
2- روضة الواعظين : 406.
3- مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.
4- البقرة : 123.
5- مفاتيح الغيب : 3 / 55 - 56.

15. قال المحقق الطوسي : والإجماع على الشفاعة ( أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ) وقيل لزيادة المنافع ، ويبطل منّا في حقه صلی اللّه علیه و آله (1).

يريد بقوله : « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي ، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب ، والتالي باطل ، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له ، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (2).

16. وقال العلاّمة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي : اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلی اللّه علیه و آله ويدل عليه قوله تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة ، واختلفوا فقالت الوعيدية : إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق (3).

ويقول أيضاً في كتابه « نهج المسترشدين » : يجوز العفو عن الفاسق ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله ثبت له الشفاعة ، وليست في زيادة المنافع ، وإلاّ لكنا شافعين فيه ، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة (4).

17. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي : للنبي في القيامة ثلاث شفاعات - إلى أن قال - وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار ، وهذه الشفاعة له صلی اللّه علیه و آله ولسائر النبيّين والصدّيقين ، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها

ص: 185


1- وقوله يبطل أي : لا يقع منّا في حق النبي.
2- شرح تجريد الاعتقاد : 262 - 263 ، طبعة صيدا.
3- شرح تجريد الاعتقاد : 262 - 263 ، طبعة صيدا.
4- نهج المسترشدين : 205.

ويشفع في من دخلها.

ثم قال : وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمد صلی اللّه علیه و آله (1).

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة ، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف ، وهو إسقاط العقوبة ، أهل ضلال وبدعة ، وقال : وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة (2).

18. وقال ابن كثير الدمشقي - في تفسير قوله سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (3) - : هذا من عظمته وجلاله ، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده ، إلاّ بإذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة عن الرسول صلی اللّه علیه و آله : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً ، فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع ، واشفع تشفّع ، قال : فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة » (4).

19. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد : اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها (5).

ص: 186


1- مجموعة الرسائل الكبرى : 1 / 403 - 404.
2- الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى : 1 / 481.
3- البقرة : 256.
4- تفسير ابن كثير : 1 / 309.
5- شرح التجريد للقوشجي : 501.

20. قال الفاضل المقداد : في شرحه منهج المسترشدين : وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه : الأوّل : الإجماع ، والثاني قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي (1).

21. قال المحقق الدواني : الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياء علیهم السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (2). (3)

22. قال الشعراني في المبحث السبعين : إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع ، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثم نقل عن جلال الدين السيوطي : انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات ، وله صلی اللّه علیه و آله يوم القيامة ثمان شفاعات ، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها (4).

23. قال العلاّمة المجلسي : أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين ، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة ، بل للأمم الأخرى ، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها ، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل ، قائلين : بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب ، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب ، وان كانت ذنوبهم من الكبائر ، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن اللّه لهم بذلك (5).

ص: 187


1- إرشاد الطالبين : 206.
2- طه : 109.
3- شرح العقائد العضدية : 2 / 270.
4- اليواقيت والجواهر : 2 / 170.
5- راجع بحار الأنوار : 8 / 29 - 63 ، وحق اليقين : 473.

24. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي : وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد ، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول : اللّهم شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين ، أو ملائكتك ، أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم. إلى أن قال : إنّ الشفاعة حق في الآخرة ، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته ، بل وغيره من الشفعاء ، إلاّ أنّ رجاءها من اللّه فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع اللّه فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة ، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها ، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلاّ من اللّه لا من الشفعاء (1).

25. وقال السيد شبّر : اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته ، بل في سائر الأمم الماضين ، بل ذلك من ضروريات الدين ، قال اللّه تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها ، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة : أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة : على أنّها لا تكون إلاّ في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع (2).

26. وقال الشيخ محمد عبده : ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص اللّه بها من يشاء يوم القيامة - عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » - ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه اللّه جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان

ص: 188


1- راجع الهدية السنية الرسالة الثانية : 42.
2- حق اليقين : 2 / 186.

التخاطب العرفي ، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه اللّه تعالى ، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا ، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين ، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه اللّه تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا (1).

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده - مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن - انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء اللّه مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه ، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة - كما هو دأبه في سائر المسائل - ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين ، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية ، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية ، ومع ذلك فالعلم عند اللّه سبحانه. اللّهم (2) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة ، التي هي دون شأن الأستاذ ، وهي :

1. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة ، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

2. الشفاعة لا تتحقق إلاّ بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع ، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغيّر علمه بما كان أراده ، أو حكم به ، كأن

ص: 189


1- تفسير المنار : 1 / 307.
2- نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة : 46 - 47 يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

كان قد أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

3. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات (1).

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال ، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها ، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

27. وقال السيد سابق : المقصود بالشفاعة سؤال اللّه الخير للناس في الآخرة ، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب ، ومنها الشفاعة الكبرى ، ولا تكون إلاّ لسيدنا محمد رسول اللّه فإنّه يسأل اللّه سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب اللّه له فيغبطه الأوّلون والآخرون ، ويظهر بذلك فضله على العالمين ، وهو المقام المحمود الذي وعد اللّه به في قوله سبحانه : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها ، وقد ذكر بعض شروط قبولها (2).

28. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي : إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين ، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع اللّه بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً ، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية 22 ، والمؤمن الآية 18 ، والزمر الآية 44 ، والمدثر الآية 48 ، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى : ( إِلا بِإِذْنِهِ ) ،

ص: 190


1- تفسير المنار : 1 / 307.
2- العقائد الإسلامية : 73. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ، ( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) ، ( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ، ( إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) ، ( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ، ( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ، ( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، كما في سورة البقرة الآية 256 ، ويونس الآية 6 ، ومريم الآية 90 ، وطه الآية 108 ، والأنبياء الآية 29 ، وسبأ الآية 22 ، والزخرف الآية 86 ، والنجم الآية 27. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا (1).

29. قال الدكتور سليمان دنيا : والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (2).

30. قال الحكيم المتألّه العلاّمة الطباطبائي : إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة باللّه عزّ اسمه ، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثم ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات (3).

31. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ : وقد أعطى اللّه الشفاعة لنبيه ولسائر

ص: 191


1- آلاء الرحمان : 1 / 62.
2- محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين : 2 / 628.
3- الميزان : 1 / 156.

الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين ، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال : ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) إلاّ أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده ، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء ، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة (2).

32. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي : يستفاد من القرآن الكريم أنّ اللّه تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلاّ أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال اللّه تعالى : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) - إلى أن قال - : والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة (3).

هذا نزر من كثير ، وغيض من فيض ، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام - من الفريقين - من هذه المسألة الهامة ، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد ، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية (4) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان ، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

33. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه : الشفاعة هي السؤال في

ص: 192


1- الزمر : 44.
2- التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية : 206 ، ط. مصر.
3- البيان : 1 / 342.
4- مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول : إنّه يجوز أن يقال : اللّهم شفّع رسول اللّه في حقي ، ولا يجوز أن يقال : اشفع يا رسول اللّه في حقي ، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

التجاوز عن الذنوب ، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من اللّه التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين ، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلاّ تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس ، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة ، فذكر الشفاعة ثم قال : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى : ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو اللّه وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه ، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية (1).

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء ، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة ، حيث قال : وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلاّ تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر ، غير أنّه ليس لنا إلاّ أن نطلبها من اللّه سبحانه حيث قال : فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو اللّه وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان ، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلاّ الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية ، وليس من

ص: 193


1- دائرة معارف القرن الرابع عشر : 5 / 402 ، مادة شفع.

الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

34. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها ، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة ، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة ، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده ، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال : - واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً ، فبذورها العلم ، ونباتها العمل ، وثمرها النجاة في الآخرة ، فالأنبياء علیهم السلام علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور ، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء ، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة ، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل اللّه وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة (1).

وقد نسب هذا المقال إلى محيي الدين بن العربي ، والإمام الغزالي ، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

ص: 194


1- الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 1 / 64 - 65 ، بتلخيص منا.

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته ، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية ، والثانية بالشفاعة العملية ، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة ، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة ، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف ، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث اللّه سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة ، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية ، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب ، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين ، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات ، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.

ص: 195

2

الشفاعة في القرآن الكريم

اشارة

قد وردت مادة الشفاعة - بصورها المتنوعة - ثلاثين مرّة في سور شتى ، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة ، والإثبات أُخرى ، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الأصل ، سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات.

غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد ، حتى يفسر بعضها ببعض ، ويكون البعض قرينة على الأخرى ، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة ، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد ، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الأبحاث القرآنية ، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد ، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية ، أو بنص نبويّ ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى ، وهذا النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً : « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً : « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض ، وانّما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضاً ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه » (1).

ص: 196


1- الدر المنثور : 2 / 6.

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض » (1).

ولأجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة ، ولذلك نقول : إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص ، فنقول :

الصنف الأوّل : الآيات النافية للشفاعة

لا نجد من هذا الصنف إلاّ آية واحدة تنفي الشفاعة في بادئ الأمر بقول مطلق ، وهي قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).

وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً ، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس (3).

إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الأخر.

ولأجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند اللّه سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (4) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة

ص: 197


1- نهج البلاغة شرح عبده : 2 / 32 الخطبة 149.
2- البقرة : 254.
3- لاحظ الفصل السابق : ص 193.
4- البقرة : 255.

بتاتاً وننسبها إلى القرآن ، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة ؟ كلا.

ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه : ( وَلا خُلَّةٌ ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة ، من غير فرق بين المؤمن والكافر ، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه : ( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) (1) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلاّ أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.

قال في الكشاف : تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات اللّه ، وتنقلب عداوة ومقتاً ، إلاّ خلّة المتصادقين في اللّه فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في اللّه تعالى والتباغض في اللّه (2).

وقال العلاّمة الطباطبائي : إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره ، فإذا كانت لغير وجه اللّه كان الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة : ( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (3).

وأمّا الأخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.

وفي الخبر النبوي : « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الاخوة إلاّ الاخوة في اللّه ، وذلك قوله : ( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) » (4).

ص: 198


1- الزخرف : 67.
2- الكشاف : 3 / 102.
3- الفرقان : 28 - 29.
4- الميزان : 18 / 120 - 121.

وعلى الجملة : إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لأجل ما جاء في قوله سبحانه : ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين ، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.

وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها ، فهكذا الشفاعة ، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال : ( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني : ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

هذا الصنف من الآيات - الذي ستوافيك نصوصه - يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية ، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار ، وهم أبناء اللّه وأحباؤه ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ ) (1).

كانوا يعتقدون بأنّ الأواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم ، حيث قالوا : ( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ) (2).

وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلاّ أياماً معدودة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية

ص: 199


1- المائدة : 18.
2- البقرة : 111.

بقوله : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً ) (1).

كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله : ( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى ) أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).

فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين ، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.

كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة ، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (3).

وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً ، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ، ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (4).

ولأجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.

ص: 200


1- البقرة : 80.
2- البقرة : 111 - 112.
3- البقرة : 47 - 48.
4- البقرة : 122 - 123.

قال الزمخشري في كشافه : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأيسوا (1).

وقال الطبرسي : قال المفسّرون حكم هذه الآية - يريد الآية الثامنة والأربعين - مختص باليهود ، لأنّهم قالوا نحن أولاد الأنبياء ، وآباؤنا يشفعون لنا فأَيْأَسهم اللّه عن ذلك ، فخرج الكلام مخرج العموم ، والمراد به الخصوص ، ويدل على ذلك ، أنّ الأمّة اجتمعت على أنّ للنبي صلی اللّه علیه و آله شفاعة مقبولة وان اختلفوا في كيفيتها (2).

وقال في المنار : إنّ ذلك اليوم ، يوم تنقطع فيه الأسباب ، وتبطل منفعة الأنساب ، وتتحول فيه سنة هذه الحياة من انطلاق الإنسان في اختياره ، يدفع عن نفسه بالعدل والفداء ويستعين على المدافعة بالشفاعة عند الأمراء ، وقد يوجد له فيها أنصار ينصرونه بالحق والباطل على سواء.

كان اليهود المخاطبون ببيان هذه الحقيقة كغيرهم من أُمم الجاهلية يقيسون أُمور الآخرة على أُمور الدنيا فيتوهمون أنّه يمكن تخلص المجرمين من العقاب بفداء يدفع بدلاً ، أو بشفاعة من بعض المقربين إلى الحاكم يغير بها رأيه ويفسخ إرادته (3).

وهذه الكلمات من أعلام التفسير تكشف القناع عن هدف الآية ومرماها وأنّها لا تهدف إلاّ إلى نفي الشفاعة المزعومة لدى اليهود من قدرة العاصي لبعث الشفيع إلى المشفوع عنده على كل تقدير وشرط ، مع أنّ الشفاعة الواردة في القرآن تنص على عكس ذلك في كلتا المرحلتين : مرحلة البعث ، ومرحلة الشرط ، فلا تتحقق إلاّ ببعث المشفوع عنده ، الشفيع إلى الشفاعة لا ببعث المشفوع له كما يظهر

ص: 201


1- الكشاف : 1 / 215.
2- مجمع البيان : 1 / 103.
3- تفسير المنار : 1 / 305 - 306.

حاله في الأبحاث الآتية ، وحتى أنّه سبحانه أيضاً لا يبعث على كل حال وتقدير ، وفي حق كل أحد ، بل له شرائط خاصة كما سيوافيك بيانها.

الصنف الثالث : ينفي شمول الشفاعة للكفار

هناك صنف من الآيات يصرّح بعدم وجود شفيع للكفار يوم القيامة ، أو أنّ شفاعة الشافعين لا تنفعهم ، وإليك هذه الآيات :

1. ( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالحَقِّ فَهَل لَنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (1).

وحاصل الآية : انّ الذين تركوا الإيمان والعمل يعترفون يوم القيامة بأنّ ما جاءت به الرسل كان حقاً ، ولكن يتمنون أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم في إزالة العقاب ، أو يردون إلى الدنيا فيعملون غير الذي كانوا يعملون من الشرك والمعصية ، ولكنهم قد أهلكوا أنفسهم بالعذاب وضل عنهم ما كانوا يصفون به الأصنام من أنّها آلهة وأنّها تشفع لهم ، وعلى ذلك فالآية واردة في حق الكفار وهم الذين لا يجدون شفعاء حتى يشفعوا لهم.

2. ( إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلا المُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (2).

وحاصل الآية : انّ أهل النار يوم القيامة يقولون - بحسرة - ويخاطبون جنود إبليس أو أصنامهم الذين كانوا سبباً في ضلالهم : ( إِذْ نُسَوِّيكُم ) باللّه وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم ، ثم يعترفون بأنّه ما أضلّهم إلاّ المجرمون ، ويظهرون

ص: 202


1- الأعراف : 53.
2- الشعراء : 98 - 101.

الحسرة بقولهم : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) يشفعون لنا ويسألون في أمرنا ( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) وذي قرابة يهمه أمرنا.

3. ( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (1).

وهذه الآيات ناظرة إلى نفي وجود الشفيع يوم القيامة للكفار الذين انقطعت علاقتهم عن اللّه لأجل الكفر به وبرسله وكتبه كما انقطعت علاقتهم الروحية عن الشفعاء الصالحين لأجل انهماكهم في الفسق والأعمال السيئة ، فانّه ما لم يكن بين الشفيع والمشفوع له ارتباط روحي لا يقدر أو لا يقوم الشفيع على انقاذه وتطهيره وتزكيته.

أضف إلى ذلك أنّ الشفاعة منوطة بإذنه سبحانه فكيف يصح لله سبحانه أن يأذن للشفيع بأن يشفع في حق من لا ارتباط بينه وبين اللّه أبداً ؟

ويمكن أن يكون المراد من شفاعة الشافعين في سورة المدثر هو شفاعة الأصنام والأوثان حيث كانوا يعتقدون بشفاعتها يوم القيامة.

كما يحتمل أن يكون المراد هو شفاعة الملائكة والنبيين.

وعلى كل تقدير : فهذا الصنف من الآيات ناف للشفاعة في مورد خاص وهو حالة الكفر ، وانفصام الأواصر بين اللّه والعبد.

الصنف الرابع : ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة

وهذا الصنف يرمي إلى نفي صلاحية الأصنام للشفاعة ، وذلك لأنّ عرب الجاهلية كانت تعبد الأصنام لأجل الاعتقاد بشفاعتها عند اللّه ، وإليك الآيات الواردة في هذا المجال :

ص: 203


1- المدثر : 46 - 48.

1. ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (1).

2. ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2).

3. ( وَلَمْ يَكُن لَهُم مِن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ) (3).

4. ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (4).

5. ( ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ ) . (5)

وهذه الآيات تنفي صلاحية المعبودات الباطلة للشفاعة ، وتبرهن على ذلك بقوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ ) (6) وبقوله : ( لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (7).

وعلى ذلك فبما أنّ عبدة الأصنام والأوثان كانوا يعتقدون بشفاعتهم ، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها ، جاءت الآيات تفنّد مزعمتهم بأنّهم مسلوبو القدرة والإرادة مسلوبو الخير والضر ، فلا يقدرون على دفع الضر وجلب النفع ولا يصلحون

ص: 204


1- الأنعام : 94.
2- يونس : 18.
3- الروم : 13.
4- الزمر : 43.
5- يس : 23.
6- يونس : 18.
7- الزمر : 43.

للشفاعة.

وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي حول هذا القسم من الآيات نأتي به :

كانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أنّ الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطّرد فيها قانون الأسباب ، ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي الطبيعي ، فيقدّمون إلى آلهتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم ، أو يستشفعون بها ، أو يفدون بشيء عن جريمة ، أو يستنصرون بنفس أو سلاح ، حتى انّهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم ، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم ، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها ، ومن الأبطال من يستنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية والأقاويل الكاذبة ، فقال عزّ من قائل : ( وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ ) (1) وقال : ( وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (2).

وقال : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (3).

وقال : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (4). إلى غير ذلك من الآيات التي يبين فيها أنّ ذلك

ص: 205


1- الانفطار : 19.
2- البقرة : 166.
3- الأنعام : 94.
4- يونس : 30.

الموطن خال من الأسباب الدنيوية ، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل على طريق الإجمال ، ثم فصّل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (1).

وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).

وقال : ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً ) (3).

وقال : ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) (4). وقال : ( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) (5).

وقال : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) . (6) وقال : ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (7).

وقال : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (8). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة (9).

ص: 206


1- البقرة : 48.
2- البقرة : 254.
3- الدخان : 41.
4- غافر : 33.
5- الصافات : 25 - 26.
6- يونس : 19.
7- غافر : 18.
8- الشعراء : 100 - 101.
9- الميزان : 1 / 156 - 157.

ثم قال : إنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه (1).

والحاصل : أنّ القرآن مع أنّه فند العقائد الجاهلية وعقائد الوثنيين في باب الشفاعة ، وأبطل كون النظام السائد في الآخرة عين النظام السائد في الدنيا ، لم ينكر الشفاعة من رأسها بل أثبتها لأوليائه في إطار خاص من الشرائط والضوابط ، وعلى ذلك فالآيات النافية ناظرة إلى تلك العقيدة السخيفة التي التزم بها الوثنيون وزعموا بموجبها وحدة النظامين وان تقديم القرابين والصدقات إلى الأصنام والخشوع والبكاء لديهم ، يصحّح قيامهم بالشفاعة وأنّهم قادرون على ذلك بتفويض منه سبحانه إليهم ، بحيث صاروا مستقلين في الفعل والترك.

والآيات المثبتة ناظرة إلى الشفاعة الصحيحة التي ليست لها حقيقة سوى جريان فيضه سبحانه ومغفرته من طريق أوليائه إلى عباده بإذنه ومشيئته تحت شرائط خاصة. وسيوافيك توضيح حقيقتها في الأبحاث القادمة.

الصنف الخامس : ما يعدّ الشفاعة حقّاً مختصاً به سبحانه

هناك آيات ترى أنّ الشفاعة مختصة باللّه سبحانه لا يشاركه فيها غيره ، وهي عبارة عن الآيات التالية :

1. ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (2).

2. ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن

ص: 207


1- المصدر نفسه : 159.
2- الأنعام : 51.

تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) (1).

3. ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (2).

4. ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3).

وكون الشفاعة مختصة باللّه سبحانه لا ينافي ثبوتها لغيره بإذنه سبحانه ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن القسم السادس من أصناف آيات الشفاعة.

غير أنّا نعطف نظر القارئ إلى نكتة في قوله سبحانه : ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (4).

وهذه الآية وإن كانت تدل على اختصاصها باللّه سبحانه ، غير أنّ الحصر هنا حصر إضافي لا حقيقي ، فهي تهدف إلى نفي ثبوت هذا الحق في حق الآلهة المزعومة كما تشير إليه الآية المتقدمة على تلك الآية حيث قال : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (5).

فأنت إذا لاحظت الآيتين جملة واحدة تقف على أنّ الهدف هو حصر حق الشفاعة باللّه سبحانه في مقابل الآلهة المزعومة التي كانت العرب تزعم أنّها تملك حق الشفاعة ، ولأجل ذلك ترد الآية عليهم بقوله سبحانه : ( أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) .

ص: 208


1- الأنعام : 70.
2- السجدة : 4.
3- الزمر : 44.
4- الزمر : 44.
5- الزمر : 43.

الصنف السادس : يثبت الشفاعة لغيره سبحانه تحت شرائط خاصة

إنّ هذا الصنف من الآيات يصرح بوجود شفيع غير اللّه سبحانه ، وأنّ شفاعته تقبل عند اللّه تعالى في إطار خاص وشرائط معينة في الشفيع والمشفوع له ، وهذه الآيات وان لم تتضمن أسماء الشفعاء ، أو أصناف المشفوع له غير أنّها تحدد كلا منهما بحدود واردة في الآيات ، وإليك هذا القسم من الآيات :

1. ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (1).

2. ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (2).

3. ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (3).

والضمير المتصل في قوله : ( لا يَمْلِكُونَ ) يرجع إلى الآلهة التي كانت تعبد ، وأُشير إليه في قوله سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ) (4).

4. ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (5).

5. ( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) (6).

6. ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (7) .

ص: 209


1- البقرة : 255.
2- يونس : 3.
3- مريم : 87.
4- مريم : 81 - 82.
5- طه : 109.
6- سبأ : 23.
7- الزخرف : 86.

والضمير المتصل في ( يَدْعُونَ ) يرجع إلى الآلهة الكاذبة كالأصنام والملائكة ، والمسيح بن مريم ، فهؤلاء لا يملكون الشفاعة إلاّ من شهد بالحق وهم يعلمون ، أي شهد بعبودية ربه ووحدانيته كالملائكة والمسيح ويستفاد من هذه الآيات أُمور تالية :

1. انّ هذه الآيات تصرّح بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون تحت شرائط خاصة وإن لم تصرح بأسمائهم وسائر خصوصياتهم.

2. انّ شفاعتهم مشروطة بإذنه سبحانه حيث يقول سبحانه : ( إِلا بِإِذْنِهِ ) .

3. يشترط في الشفيع أن يكون ممن يشهد بالحق ، أي يشهد باللّه سبحانه ووحدانيته وسائر صفاته.

4. أن لا يظهر الشفيع كلاماً يبعث غضب اللّه سبحانه بل يقول قولاً مرضياً عنده ، ويدل عليه قوله سبحانه : ( وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (1).

5. أن يعهد اللّه سبحانه له بالشفاعة كما يشير إليه قوله سبحانه : ( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) .

ثم إنّ هنا سؤالاً يطرح في المقام ونظائره ، وهو : كيف يصح الجمع بين هذا الصنف من الآيات التي تثبت الشفاعة لغيره سبحانه والصنف الخامس الذي يخصها باللّه سبحانه ؟ وهذا السؤال مطروح في مقامات كثيرة قد أجبنا عنها في كتاب « معالم التوحيد » ، وإليك خلاصة الجواب :

إنّ مقتضى التوحيد في الأفعال وأنّه لا مؤثر في عالم الكون إلاّ اللّه سبحانه ، أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه ، وانّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته ، والاعتراف بمثل العلل التابعة لا ينافي انحصار

ص: 210


1- قال الطبرسي : أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلاّ شفاعة من إذن اللّه له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء والصالحين والصدّيقين والشهداء. ( مجمع البيان : 4 / 31 ).

التأثير الاستقلالي في اللّه سبحانه ، ومن ليس له إلمام بالمعارف القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات ، إذ كيف يمكن أن تنحصر شؤون وأفعال ، كالشفاعة والمالكية والرازقية وتوفّي الأرواح ، والعلم بالغيب ، والإشفاء ، باللّه سبحانه كما عليه أكثر الآيات القرآنية ، بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه من عباده ، فكيف ينسجم هذا الانحصار مع هذه النسبة ؟ غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ هذه الأمور على وجه الاستقلال والأصالة قائمة باللّه سبحانه مختصة به ، في حين أنّ هذه الأمور تصدر من الغير على وجه التبعية وفي ظل القدرة الإلهية.

وقد اجتمعت النسبتان في قوله سبحانه : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (1) فهذه الآية بينما تنسب الرمي بصراحة إلى النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله تسلبه عنه وتنسبه إلى اللّه سبحانه ، وذلك لأنّ انتساب الفعل إلى اللّه - الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته - أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله ، ولكن شدّة الانتساب لا تسلب المسؤولية عن العبد ، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته :

لكن كما الوجود منسوب لنا *** والفعل فعل اللّه وهو فعلنا (2)

وعلى ذلك فإذا كانت الشفاعة عبارة عن جريان الفيض الإلهي - أعني : طهارة العباد عن الذنوب وتخلّصهم عن شوائب المعاصي - على عباده ، فهي فعل مختص باللّه سبحانه لا يقدر عليه أحد إلاّ بإقداره وإذنه ، وبذلك يصح نسبته إلى اللّه سبحانه بالأصالة وإلى غيره بالتبعية ، ولا منافاة بين النسبتين ، وهذا كالملكية فاللّه سبحانه مالك الملك والملكوت ، ملك السماوات والأرض بإيجاده وإبداعه ،

ص: 211


1- الأنفال : 17.
2- لاحظ معالم التوحيد : 361 - 365 ، وشرح المنظومة للمحقق السبزواري : 175.

ثم يملّكه العبد منه بإذنه ، ولا منافاة في ذلك لأنّ الملكية الثانية في طول الملكية الأولى ، ونظيرها كتابة أعمال العباد فالكاتب هو اللّه سبحانه حيث يقول سبحانه : ( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (1) وفي الوقت نفسه ينسبها إلى رسله وملائكته ويقول سبحانه : ( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (2).

فإذا كانت الملائكة والأنبياء والأولياء مأذونين في الشفاعة فلا مانع من أن تنسب إليهم الشفاعة كما تنسب إلى اللّه سبحانه ، غير أنّ أحدهما يملك هذا الحق بالأصالة والآخر يملكه بالتبعية.

ولأجل ذلك يقول العلاّمة الطبرسي في تفسير قوله تعالى : ( للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) : أي لا يشفع أحد إلاّ بإذنه ولا يملك أحد الشفاعة إلاّ بتمليكه (3).

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير تلك الآية : كل شفاعة مملوكة لله فإنّه المالك لكل شيء ، إلاّ أن يأذن لأحد في شيء منها فيملّكه إياها.

وإن شئت قلت : إنّ الشفيع بالحقيقة هو اللّه سبحانه وغيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه ، والشفاعة تنتهي إلى توسط بعض صفاته بينه وبين المشفوع كتوسط الرحمة بينه وبين عبده المذنب ، وتخليصه من العذاب (4).

وهناك بيان أبسط للعلاّمة الطباطبائي نأتي به حرفيّاً :

إنّ الآيات بينما تحكم باختصاص الشفاعة باللّه سبحانه - وقد ذكرت هذه الآيات في الصنف الخامس - وبينما يعمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان ، فهي تثبت الشفاعة بلا ريب ، غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه ، وهناك آيات تنفيها ،

ص: 212


1- النساء : 81.
2- الزخرف : 80.
3- مجمع البيان : 4 / 501.
4- الميزان : 17 / 270.

فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره وإثباته له تعالى بالاختصاص ، ولغيره بارتضائه ، قال تعالى : ( قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللّهُ ) (1).

وقال تعالى : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ) (2) وقال تعالى : ( عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُولٍ ) . (3) وكذلك الآيات الناطقة في التوفّ - ي والرزق ، والتأثير والحكم والملك ، وغير ذلك فإنّها شائعة في اسلوب القرآن ، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى ثم يثبته لنفسه ثم يثبته لغيره بإذنه ومشيئته ، فتفيد أنّ غيره تعالى من الموجودات لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها وانّما تملكها بتمليك اللّه إيّاها حتى أنّ القرآن يثبت نوعاً من المشيئة فيما حكم وفيما قضى عليها بقضاء حتم ، كقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (4).فقد علق الخلود بالمشيئة - وخاصة في خلود الجنة ، مع حكمه بأنّ العطاء غير مجذوذ - إشعاراً بأنّ قضاءه تعالى عليهم بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عزّ اسمه كما يدل عليه قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) . (5)

ومن هنا يظهر أنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة

ص: 213


1- النمل : 65.
2- الأنعام : 59.
3- الجن : 26 - 27.
4- هود : 106 - 108.
5- هود : 107.

فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بالاستقلال في الملك ، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة ، ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه ، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه (1).

بقيت هنا نكتتان :

1. انّ الظاهر من الاستثناء الوارد في الآيات المتقدّمة ، أعني قوله سبحانه : ( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) وقوله : ( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله : ( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) انّها بصدد بيان شرائط الشفعاء ، ويؤيد هذا القول قوله سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) غير أنّه ربّما يحتمل أن يكون المراد منه هو المشفوع له ، ويكون مآل الآيات إلى أنّ الشفاعة لا تجدي إلاّ في حق من اجتمعت فيه هذه الشروط.

2. انّ الشفيع المأذون ليس له أيّة استقلالية ولا أصالة في أمر الشفاعة ، بل هو مظهر لإجراء أمره سبحانه وإرادته ومشيئته ، ولأجل ذلك نرى أنّ القرآن ينفي وجود الشفيع المطاع بتاتاً ، حيث يقول : ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (2). وذلك لأنّ الشفيع ليس صاحب إرادة ومشيئة ، فهو مطيع لأمر اللّه مأذون من جانبه لا مطاع.

الصنف السابع : يذكر من تقبل شفاعته

ويتضمن هذا الصنف أسماء وخصوصيات من تقبل شفاعته يوم القيامة ، وإليك هذه الآيات :

1. ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ

ص: 214


1- الميزان : 1 / 158 - 159.
2- غافر : 18.

ارْتَضَى وَهُم مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (1).

وهذه الآيات تصرح بأنّ الملائكة الذين اتخذهم المشركون أولاداً لله سبحانه ، معصومون من كل ذنب ، لا يسبقون اللّه بالقول وهم بأمره يعملون ، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضاه اللّه سبحانه ، وهم مشفقون من خشيته.

2. ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (2).

وهذه الآية كالآية السابقة تفيد كون الملائكة ممن ترضى شفاعتهم بإذن اللّه سبحانه في حق من يشاء اللّه ويرضاه.

3. ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) (3).

وهذه الآية تعد حملة العرش ومن حوله ممن يستغفرون للذين آمنوا ، والآية مطلقة تشمل ظروف الدنيا والآخرة ، وهل طلب المغفرة إلاّ الشفاعة في حق المؤمنين ؟

هذه هي الأصناف السبعة من الآيات الواردة حول الشفاعة نفياً وإثباتاً ، والجميع ناظر إلى أمر واحد وهو أنّ الشفاعة حق خاص باللّه سبحانه وانّ الشفاعة بيده ابتداءً ونهاية ، وهو لا يأذن إلاّ لعدة خاصة من مقربي عباده ، ولا يأذن لهم أن يشفعوا لهم إلاّ في حق عدة معينة.

وعلى ذلك فتفترق الشفاعة الواردة في القرآن الكريم عما عليه اليهود حيث لم يجعلوا لها حداً في الشافع والمشفوع له ، بل القرآن وضع لها حدوداً وقيوداً في

ص: 215


1- الأنبياء : 26 - 28.
2- النجم : 26.
3- غافر : 7.

الشافع والمشفوع له.

كما تفترق عن رأي من رفضها وطردها ولم يثبتها لأحد من أوليائه.

ولأجل ذلك نفصل القول في الشفاعات المردودة والمقبولة حتى يتميّز الحق عن الباطل.

الشفاعات المرفوضة

1. الشفاعة التي كانت تعتقدها اليهود الذين رفضوا كل قيد وشرط في جانب الشافع والمشفوع له واعتقدوا أنّ الحياة الأخروية كالحياة الدنيوية حيث يمكن التخلص من عذاب اللّه سبحانه بالفداء. وقد ردّ القرآن في كثير من الآيات وقال : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (1).

وقد مضى هذا الأمر في الصنف الثاني من الأصناف السبعة المذكورة.

2. الشفاعة في حق من قطعوا علاقاتهم الإيمانية مع اللّه سبحانه فلم يؤمنوا به أو بوحدانيته أو بقيامته أو أفسدوا في الأرض ، وظلموا عباده أو غير ذلك مما يوجب قطع رابطة العبد مع اللّه سبحانه حتى صاروا أوضح مصداق لقوله سبحانه : ( نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (2) وقوله سبحانه : ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى ) (3) وقوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (4). إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حق المشركين والكافرين والظالمين والمفسدين ، وهؤلاء كما قطعوا علاقتهم الإيمانية مع اللّه

ص: 216


1- البقرة : 48.
2- الحشر : 19.
3- طه : 126.
4- الأعراف : 51.

سبحانه ، كذلك قطعوا علاقتهم الروحية مع الشافع فلم تبق بينهم وبين الشافعين أيّة مشابهة تصحح شفاعتهم لهم.

وقد ورد في الصنف الثالث من الأصناف السبعة المذكورة ما يوضح هذا الأمر.

3. الأصنام التي كانت العرب تعبدها كذباً وزوراً ، وقد نفى القرآن أن تكون هذه الأصنام قادرة على الدفاع عن أنفسها فضلاً عن الشفاعة في حق عبّادها. راجع لمعرفة ذلك الصنف الرابع من الأصناف المذكورة.

هذه هي الشفاعات المرفوضة في القرآن الكريم.

الشفاعات المقبولة

الشفاعات المقبولة عبارة عمّا نذكره :

1. الشفاعة التي هي حق مختص باللّه سبحانه ولا يمكن لمخلوق أن ينازعه في هذا الحق أو يشاركه فيه. لاحظ الصنّف الخامس من الأصناف السبعة.

2. شفاعة قسم خاص من عباد اللّه سبحانه الذين تقبل شفاعتهم عند اللّه تحت شرائط خاصة ذكرت في الآيات الواردة في الصنف السادس وإن لم تذكر أسماؤهم وخصوصياتهم.

3. شفاعة الملائكة وحملة العرش ومن حوله حيث يستغفرون للذين آمنوا ، فهؤلاء يقبل استغفارهم الذي هو قسم من الشفاعة. والفرق بين هذا وما تقدم هو أنّه قد ذكرت أسماء الشفعاء وخصوصياتهم في هذه الآيات دون ما تقدمها.

وبالإحاطة بهذه الأصناف السبعة تقدر على تمييز الشفاعة المرفوضة والمقبولة في لسان القرآن الكريم.

ص: 217

آيات أُخرى في الشفاعة

وهناك آيات أُخرى فسرت بالشفاعة وهذا الصنف وإن لم يكن في الصراحة في الموضوع كالآيات الماضية إلاّ أنّ الأحاديث فسرتها بالشفاعة وقد وردت هذه الأحاديث في المجاميع الحديثية وهذه الآيات عبارة عن ما نذكره :

1. ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (1).

قال في الكشاف : ومعنى المقام المحمود : المقام الذي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، وقيل : المراد : الشفاعة وهي نوع واحد مما يتناوله اللفظ. وعن ابن عباس : مقام يحمدك فيه الأوّلون والآخرون ، وتشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى ، وتشفع فتشفّع ، وليس أحد إلاّ تحت لوائك (2).

وقال الطبرسي : أجمع المفسرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة وهو المقام الذي يشفع فيه للناس وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفه ويجتمع تحته الأنبياء والملائكة فيكون أوّل شافع وأول مشفّع (3).

وقد روى السيوطي في الدر المنثور ( ج 4 ص 197 ) والسيد البحراني في تفسير البرهان ( ج 2 ص 438 - 440 ) أحاديث متضافرة حول الآية وكلّها تجمع على أنّ المراد من المقام المحمود هو مقام الشفاعة فلاحظها في تلك المراجع.

2. ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ إِنَّهُ

ص: 218


1- الإسراء : 79.
2- الكشاف : 2 / 243.
3- مجمع البيان : 3 / 435.

هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (1).

والاستدلال بالآية على الشفاعة يحتاج إلى الدقة في مفرداتها.

فقد ورد في الآية لفظة الإغناء والنصر ، والمراد من الأوّل هو أنّ يتكفل الغير أمر الإنسان بكامله ، كما أنّ المراد من النصر هو أن يتكفل بعض الأمور ويكون اكتماله بسبب الإنسان نفسه.

فقد نرى أنّ القرآن ينفي أن يقدر إنسان على إغناء إنسان آخر يوم القيامة بأن يرفع عن كاهله كل مسؤولياته ، ويكون هو المسؤول عن عمل غيره ، وهذا ما عبر عنه القرآن في الآيات الأخرى بقوله : ( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (2).

كما أنّ القرآن ينفي نصر إنسان لإنسان آخر يوم القيامة ، ولكنّه يستثني من الثاني حالة واحدة معبراً عنها بقوله : ( إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ ) (3) أي الذين رحمهم اللّه من المؤمنين.

ومن مصاديق هذا الاستثناء هو الشفاعة ، لأنّ الشفاعة لا تحصل إلاّ بأمر اللّه تعالى وإذنه ، فعندئذ يسقط عقاب المشفوع له لشفاعته (4).

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ الإغناء يكون فيما استقل المغني في عمله ، ولا يكون لمن يغني عنه صنع في ذلك ، والنصرة إنّما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة ، ويتم له ذلك بنصرة الناصر.

والوجه في انتفاء الإغناء والنصر يومئذ انّ الأسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة قال تعالى : ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (5) وقال :

ص: 219


1- الدخان : 41 - 42.
2- البقرة : 48.
3- الدخان : 42.
4- لاحظ مجمع البيان : 5 / 68.
5- البقرة : 166.

( فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) (1).

وقوله : ( إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ ) استثناء من ضمير ( لا هُمْ يُنصَرُونَ ) والآية من أدلة الشفاعة.

والشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة وهو الدين المرضي (2).

ولأجل ذلك قلنا انّ الشفاعة تحتاج إلى وجود رابطة ما بين العبد وربه والمشفوع له وشافعه وهي في جانب اللّه العلاقة الإيمانية ، وفي جانب المشفوع له الوشيجة الروحية.

3. ( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (3).

وفسرها المفسرون بالشفاعة ، قال الطبرسي : « وسيعطيك ربك في الآخرة من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة فيك وفي أُمتك ما ترضى به. وقال محمد ابن علي بن الحنفية مخاطباً أهل العراق : يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه عزّ وجلّ قوله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) الآية ، وانّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب اللّه : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) وهي واللّه الشفاعة ، ليعطينها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول ربي رضيت ».

وعن الصادق علیه السلام قال : « دخل رسول اللّه على فاطمة وعليها كساء من ثلة الإبل ، وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول اللّه لما أبصرها ، فقال : يا بنتاه ، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقد أنزل اللّه عليَّ ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) » (4).

ص: 220


1- يونس : 28.
2- الميزان : 18 / 157.
3- الضحى : 4 - 5.
4- مجمع البيان : 5 / 505.

وقال الرازي : المروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس انّ هذا هو الشفاعة في الآية والحمل عليها متعين ، ويدل عليه انّ مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنّه تعالى يقول : لا أودعك ولا أبغضك ، بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك ، وتطييباً لقلبك ، فهذا التفسير أوفق لمقدم الآية.

أضف إليه الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة الدالة على أنّ شفاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في العفو عن المذنبين ، وهذه الآية دلت على أنّه تعالى يفعل كل ما يرضاه فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة ، وعن جعفر الصادق علیه السلام انّه قال : « رضا جدي أن لا يدخل النار موحد » ، وعن الباقر علیه السلام : « أنّ أهل القرآن يقولون : أرجى آية قوله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) وأنّا أهل البيت نقول : أرجى آية قوله : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) واللّه إنّها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول : رضيت » (1).

ص: 221


1- مفاتيح الغيب : 8 / 422.

3

ما هي حقيقة الشفاعة ؟

اشارة

إنّ الوقوف على حقيقة الشفاعة يتوقف على بيان أقسامها ، وتفاسيرها فنقول : إنّ الشفاعة حسبما يستفاد من القرآن الكريم تطلق على معان أو على أقسام ، وبعض هذه المعاني أو الأقسام وإن كان خارجاً عن الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام والتفسير ، غير أنّ الوقوف على مفاد عامّة ما ورد في القرآن الكريم حول الشفاعة يتوقف على توضيح جميع هذه المعاني أو الأقسام ، فنقول : إنّ الشفاعة على معان أو على أقسام :

1. الشفاعة التكوينية.

2. الشفاعة القيادية.

3. الشفاعة المصطلحة.

وإليك شرح هذه الأقسام :

1. الشفاعة التكوينية

تشهد النظرة العلمية والفلسفية بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسبّبات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الكونية بعلّة وسبب ، وهذا أي كون العالم كعلّة خاصة من مجموعة العلل والمعاليل ، مما أثبتته الأُصول

ص: 222

الفلسفية واعترفت به الآيات القرآنية حسبما أوضحناه في الجزء الأوّل عند البحث عن التوحيد في الخالقية (1) ولا نعيدها هنا.

غير أنّ الظواهر الكونية بحكم أنّها ممكنة الوجود ، غير مستقلّة في ذاتها كما هي غير مستقلّة في علّيتها وتأثيرها ، بمعنى أنّها لا تؤثر إلاّ بإرادة اللّه وإذنه سبحانه ، ضرورة أنّها لو كانت مستقلّةً في التأثير يلزم أن تكون مستقلةً في الوجود لبداهة أنّ الاستقلال في العلية فرع الاستقلال في الوجود ، ولو سلمنا الاستقلال في التأثير فلا محالة قد سلّمنا قبله الاستقلال في الذات وهو يساوق كون الشيء واجباً غنياً عن العلّة ، وهو خلاف الفرض.

ولأجل ذلك اتّفقت الفلاسفة والمتكلمون إلاّ من شذّ من المعتزلة على أنّه لا مؤثّر مستقلّ في الوجود غيره سبحانه ، وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه ، ولأجل ذلك صار شعار القرآن في حق الإنسان ( وحتى غير الإنسان أيضاً ) : قوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ ) (2) وقوله سبحانه : ( وَاللّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ ) (3).

وقال سبحانه حاكياً عن موسى الكليم علیه السلام : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (4).

فعالَم الكون بما أنّه عالَم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً ولا كمالاً ، بل كلما يملك من وجود وكمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم

ص: 223


1- معالم التوحيد : 299 - 314.
2- فاطر : 15 - 17.
3- محمد : 38.
4- القصص : 24.

الإمكان موجود مفتقر في عامة شؤونه ، وتأثيره ، وعلّيته.

وإلى ما ذكرنا من توقف تأثير كل ظاهرة كونية ، على إذنه سبحانه يشير قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (1).

فإنّ الآية بعدما تصف اللّه سبحانه بأنّه خالق السماوات الأرض في ستة أيام وأنّه استوى بعد ذلك على العرش ، وأنّه يدبّر أمر الخلق ، تعلن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية والظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه ، وأنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير بل كل ما في الكون من العلل ، ذاته وتأثيره ، قائمان به سبحانه وبإذنه ، فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب والعلل المادية وغيرها ، الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها وإنّما سميت العلة شفيعاً لأجل أنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه فهي ( مشفوعة إلى إذنه سبحانه ) تؤثر وتعطي ما تعطي.

وعلى ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام ، وإنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية ، فإنّها تبحث في صدرها عن خلق السماوات والأرض وتحدّد مدّة الخلق والإيجاد بستة أيام ، ثم ترجع الآية وتنص على سعة قدرته على جميع ما خلق وإحاطته بهم ، وانّه بعد ما خلق السماوات والأرض ، استوفى على عرش القدرة وأخذ يدبّر العالم وعند ذلك ينطرح في ذهن القارئ أنّه إذا كان هو المدبّر والمؤثر فما حال سائر المدبرات والمؤثرات التي يلمسها البشر في حياته ؟

فللإجابة عن هذا السؤال أتى بقوله : ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ )

ص: 224


1- يونس : 3.

مصرّحاً بأنّ كل تأثير وتدبير في سبب من الأسباب فإنّما هو بإذنه ومشيئته ولولا إذنه ومشيئته لما قام السبب بالسببية ولا العلة بالعلية ، وهذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون والوجود من التأثّر والعلّية ، وتفسيرها بالشفاعة التكوينية وإنّ كل ظاهرة مؤثّرة كالشمس والقمر والنار والماء لا تؤثر إلاّ بالاستمداد من قدرته سبحانه والاعتماد على إذنه ومشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية والتدبير ، فلا خالق إلاّ هو ، كما لا مدبر إلا هو ، فما يتراءى في صفحة الوجود من الخلق والتدبير فليس على ظاهرهما وإنّما تقوم سائر العلل بالخلقة والدبير مستمداً من حوله وقوته ، فيرجع معنى الآية إلى أنّه لا مؤثّر في الكون إلاّ من بعد إذنه ، ولأجل ذلك تستنتج الآية وتخاطب البشر بأنّه إذا كان هو الخالق والمستولي على عرش القدرة والمدبر لجميع العالم ، وإذا كان تأثير كل ما سواه بإذنه ، فليعبد ذلك الرب سبحانه دون غيره ، إذ هو اللائق دون ما سواه بالعبادة ، فإنّ منشأ العبادة والخضوع هو الوقوف على الجمال والكمال المطلقين في المعبود بحيث يحمل ذلك الوقوف الإنسان العارف على العبادة والخضوع وليس ذلك الكمال موجوداً إلاّ فيه سبحانه ، لأنّه الخالق المستولي المدبّر المعطي لكل ما سواه : الوجود والتأثير ، قال : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

إذا وقفت على ما ذكرنا تقف على أنّه لا يناسب حملها على الشفاعة المصطلحة التي تدور حول التكاليف والتشريعات وعصيان العباد ومخالفتهم لها ، ثم توسيط الشفعاء لغفران ذنوبهم وحط سيئاتهم.

وإلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الطباطبائي بقوله : « إنّ ربكم معاشر الناس هو اللّه الذي خلق هذا العالم المشهود كله سماواته وأرضه في ستة أيام ، ثم استوى على عرش قدرته ، وقام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير وإرادة ، فشرع يدبر أمر العالم ، وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد ،

ص: 225

لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور - وهو الشفاعة - إلاّ من بعد إذنه ، تعالى ، فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه وغيره من الأسباب أسباب بتسبيبه وشفعاء من بعد إذنه ، وإذا كان كذلك كان اللّه تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموه أرباباً من دون اللّه وشفعاء عنده وهو المراد بقوله : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي لماذا لا تنتقلون انتقالاً فكرياً حتى تفهموا أنّ اللّه هو ربكم لا ربَّ غيره (1).

2. الشفاعة القيادية

اشارة

المراد من هذا الصنف هو قيام قيادة الأنبياء والأولياء والأئمّة والعلماء والكتب السماوية مقام الشفيع والشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعماله وآثار سيئاته.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا كانت نتيجة الشفاعة المصطلحة يوم القيامة هي تخليص العصاة من عواقب أعمالهم ، وآثار معاصيهم وأفعالهم ، فإنّ قيادة الأنبياء والأولياء والكتب السماوية والعلماء وأقلامهم تقوم بنفس هذا العمل.

غير أنّ الفرق بين الشفاعتين واضح فإنّ الشفاعة المصطلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له ، وهذه الشفاعة توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق.

وإن شئت قلت : إنّ الشفاعة الأولى تخلّص العبد بعد زلته وعثرته وبعد وقوعه في المهالك والمهاوي ، ولكن الشفاعة القيادية تمنع من وقوع العبد في المهالك وزلته إلى المهاوي ، فالأولى من قبيل الرفع ، والثانية من قبيل الدفع ، والفرق بينهما واضح ، فإنّ الرفع يمنع المقتضي عن التأثير بعد وجوده ، والدفع

ص: 226


1- الميزان : 10 / 6 - 7.

يمنع عن وجود المقتضي وتكوّنه.

وعلى ما ذكرنا من قيام قيادة الأنبياء والأئمّة مقام الشفيع والشفاعة في تخليص العبد من الوقوع في المهالك ، يظهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم ليس إطلاقاً مجازياً بل إطلاق حقيقي. وقد شهد بذلك القرآن والأخبار ، قال سبحانه : ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (1) والضمير المجرور في ( بِهِ ) يرجع إلى القرآن (2).

ولا شك أنّ ظرف شفاعة هذه الأمور إنّما هو الحياة الدنيوية ، فإنّ تعاليم الأنبياء وقيادتهم الحكيمة وهداية القرآن وغيره إنّما تتحقق في هذه الحياة الدنيوية ، وإن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأخروية ، فمن عمل بالقرآن وجعله أمامه في هذه الحياة قاده إلى الجنة في الحياة الأخروية ، ولأجل ذلك نرى أنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله يأمر الأمّة بالتمسك بالقرآن ويصفه بأنّه الشافع المشفّع ويقول : « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع ، وماحل مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبرهان » (3).

فإنّ قوله : ومن جعله أمامه ، تفسير لقوله : فإنّه شافع مشفّع.

والحاصل : أنّ الشفاعة القيادية شفاعة بالمعنى اللغوي ، فإنّ المكلفين بضم هداية القرآن وتوجيهات الأنبياء والأئمّة إلى إراداتهم وطلباتهم ، يفوزون بالسعادة ويصلون إلى أرقى المقامات في الحياة الأخروية ويتخلّصون من تبعات المعاصي ولوازمها.

ص: 227


1- الأنعام : 51.
2- مجمع البيان : 2 / 304.
3- الكافي : 2 / 238.

فالمكلف وحده لا يصل إلى هذه المقامات ، ولا يتخلص من تبعات المعاصي ، كما أنّ خطاب القرآن والأنبياء وحده من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم ويلبّي نداءهم لا يكون له أثر وإنّما يؤثر إذا انضمّ عمل المكلف إلى هدايتهم ، وهدايتهم إلى عمل المكلف فعندئذ تتحقق هذه الغاية.

وبهذا تبيّن أنّ هذه الشفاعة لغوية ، لا تمت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة ، وذلك لأنّ جميع هذه الأمور ، أعني اتّباع المكلف وقيادة الأنبياء وهداية القرآن ، غير متحققة إلاّ في الظروف الدنيوية وإن كانت تظهر النتيجة التامة في الحياة الأخروية ، والشفاعة المصطلحة عبارة عن تحقق الشفاعة في الحياة الأخروية وظهور نتائجها فيها ، وعندئذ يكون بين الشفاعتين بون بعيد.

والدليل على أنّ ظرف الشفاعة المصطلحة هو الحياة الأخروية : ما ورد في القرآن الكريم ، حيث عرف ظرفها اليوم الأخروي ، إذ قال سبحانه : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (1).

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (2) وقال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (3) وقال سبحانه : ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَحِمَ اللّهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَحِيمُ ) (4).

فأنت إذا لاحظت هذه الآيات وأمعنت النظر في كلمة ( يَوْمَ ) التي وردت في هذه الآيات مكررةً ، تقف على أنّ ظرف إعمال الشفاعة وتحققها وظهور نتائجها

ص: 228


1- البقرة : 48.
2- البقرة : 254.
3- طه : 109.
4- الدخان : 41 - 42.

جميعاً إنّما هو الحياة الأخروية ، أعني اليوم الموعود الذي وعده اللّه لجميع الناس.

وأمّا الشفاعة القيادية فنفس الشفاعة وتحقّقها وتكوّنها في الحياة الدنيا وإنّما تتحقّق نتائجها وتظهر آثارها في الحياة الأخروية فكيف يصح أن تفسّر إحدى الشفاعتين بالأخرى ؟!

والذي يكشف عن ذلك هو أنّ بعض الآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها إنّما وردت في نفي عقيدة اليهود القائلين بالشفاعة الباطلة ، فأراد القرآن بنصوصه إخراج أمر الشفاعة بصورة صحيحة لا تأباه الفطرة ، ولا تنخرم به الأصول العقلية ، فبما أنّ اليهود يعتقدون بأنّ انتسابهم إلى الأنبياء يوجب أن لا تمسّهم النار يوم القيامة إلاّ أياماً معدودة ، جاء القرآن يفنّد هذه المزعمة بنفي الشفاعة المطلقة المحررة من كل قيد وإثبات شفاعة محدودة ومقيّدة ، وعلى ذلك فالنفي والإثبات في آيات الشفاعة لا يردان على المورد الواحد إلاّ بجعل ظرف تلك الشفاعة هو يوم القيامة والحياة الأخروية.

وعلى ذلك لا ينبغي لمفسّرٍ إرجاع الآيات المربوطة بالشفاعة ، إلى الشفاعة القيادية ، التي لا ترتبط بعقيدة اليهود في أمر الشفاعة وليس لها ظرف إلاّ هذه الحياة الدنيوية.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن يعرّف الملائكة بأنّهم من الشفعاء ويقول سبحانه : ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (1) ومن المعلوم أنّ الشفاعة الممكنة من الملائكة في حق الإنسان إنّما هي الشفاعة المصطلحة ، لا القيادية فإنّ البشر العادي لا يقدر على الاستنارة والاستفادة من الملك ، ولا يمكن للملك أن يتكفل قيادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

ص: 229


1- النجم : 26.

وهذه الوجوه وغيرها تفنّد زعم من فسّر الشفاعة الواردة في القرآن الكريم بالشفاعة القيادية ، منهم الشيخ الطنطاوي في تفسيره ، فإنّه لما لم يتوفّق لحل مشاكل الشفاعة التي اخترعتها بعض العقول المنحرفة في أمر الولاية ، صار إلى تفسير آياتها بالشفاعة القيادية ، وأخذ يفسرها بتعاليم الأنبياء وهداية القرآن التي يصل بها الإنسان إلى الفوز والسعادة ، ويتخلّص بها من العذاب حيث قال :

إنّ شفاعة الأنبياء ليس من قبيل الهبات المالية ولا الوظائف الإدارية وإنّما هي نفحات علمية وأخلاق حكمية وآداب نبوية (1).

فَمَن فَقِهَ ما قالوه واتّبع ما رسموه واستثمر من بذور الشفاعة ما بذروه ، تمت له الشفاعة ودخل مع الجماعة وليس هذا القول بمخالف أهل السنّة ولا المعتزلة ، فإنّ خروج العاصي من النار بالشفاعة أو إبعاده عنها قبل الدخول وكذلك زيادة الحسنات في الأعمال للصالحين ، كل هذا جاء من شفاعته واتّباعه بل كل ثواب فإنّما هو بسبب ذلك وهكذا كل نجاة ، فإنّه صلی اللّه علیه و آله لو لم يأت لنا بالشريعة لكنّا أقرب إلى الحيوان فصرنا باتّباعه داخلين في شفاعته ، ولا يكون ذلك إلاّ باتّباعه ولا ننال إلاّ ما استعددنا له.

سؤال وجواب

ولقائل أن يقول : إنّ القول بمسألة تجسّم الأعمال بمعنى أنّ ما يفعله الإنسان من صالح الأعمال وما يرتكبه من جرائمها سيجسم في الحياة الأخروية بالوجود المناسب لظرف تلك الحياة ربّما يدفع تخصيص الشفاعة القيادية بالحياة الدنيوية ، ويوجب عموميتها لغير هذا الظرف أيضاً ، وذلك لأنّ التجسم لا يختص بنفس الأعمال بل يعم الروابط الموجودة بين الناس حتى رابطة التابعية والمتبوعية

ص: 230


1- تفسير الطنطاوي : 1 / 69 - 70.

ورابطة الإمامة والقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية ، فإنّ صريح الآيات هو أنّ كل أُناس يُدّعى بإمامتهم فالقيادة الموجودة في هذه الحياة يمتد وجودها إلى الحياة الأخروية ، فمن كان قائداً في هذا الظرف فهو قائد في الحياة الأخروية ، قال سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (1) فهذه الآية تكشف عن أنّ القيادة سيمتد وجودها وينجر من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى ، ويدل على ذلك بوضوح قوله سبحانه في حق فرعون : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ ) (2).

وهذه الآية تدل - بوضوح وصراحة - على امتداد وجود القيادة من هذه الحياة إلى الحياة الأخروية ، فالإمام الحق يقود أُمّته إلى الجنة ، والإمام الباطل يقدم قومه ويوردهم النار ، وعلى ذلك فكل إمام سواء كان حقّاً أو باطلاً شفيع يسوق المشفوع له إلى الغاية التي يتوخّاها ، ولا يختص ظرف تلك الشفاعة بالحياة الدنيوية.

ولكن الإجابة عن هذا السؤال واضحة ، فإنّ القول بأنّ حقيقة التجسّم امتداد لنفس العمل الدنيوي إلى الحياة الأخروية غفلة عن حقيقة التجسّم الذي كشف عنه القرآن في بعض آياته.

فإنّ التجسّم الذي يعترف به القرآن هو عبارة عن ظهور نفس العمل الدنيوي بالوجود المناسب للعالم الأخروي ، فالقيادة في الحياة الأخروية ليست امتداداً للقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية بل هو ظهور تلك القيادة بالوجود المناسب للعالم الأخروي ، والفرق بين الوجودين كالفرق بين الذهب ومعدنه ، فليس هناك ذهبان بل هناك ذهب واحد ، يظهر تارة بوجود معدني مع ما يرافقه

ص: 231


1- الإسراء : 71.
2- هود : 98.

من الشوائب والأغيار ، وأُخرى بوجوده المصفّى ، والذهب المصبوب المصفّى من تلك الزوائد والشوائب ، نفس الذهب في حالته الأوّلية.

ويدلّ على ما ذكرناه - من أنّ هنا شيئاً واحداً يظهر بوجودين - الآيات الواردة حول مسألة التجسم قال سبحانه : ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (1) وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) (2) وصريح الآيتين هو أنّ الحاضر هو نفس العمل ، كما أنّ المحضر نفس ما عملته النفس لا شيء آخر مغاير للوجود الدنيوي.

ويدل بوضوح على ذلك قوله سبحانه في حق مكتنزي الذهب والفضة : ( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3) فالمحمي الظاهر في شكل النار هو نفس ما اكتنز من الذهب والفضة كما هو صريح قوله : ( هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ) ، وقوله : ( فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) لا شيئاً آخر ، ولا امتداداً لذلك الوجود.

وعلى ذلك فالقيادة الأخروية والشفاعة التي تنتزع من تلك القيادة صورة أُخروية لنفس القيادة والشفاعة الدنيوية ، وحقيقة عينية لها ، فإنّ اللّه سبحانه يوجد تلك القيادة بالوجود المناسب لهذا الظرف ، وعلى ذلك فظرف الشفاعة القيادية وموضع تكونها هو الحياة الدنيوية ، وما يظهر من القيادة يوم القيامة هو ظهور تلك الرابطة لا شيء آخر ، وعلى ذلك فلا يناسب تفسير آيات الشفاعة أو بعضها بمسألة تجسّم العمل وتجسّم الروابط والقيادات الموجودة في الحياة الدنيوية للبشر ، فسوق فرعون قومه يوم القيامة إلى النار هو تجسم للقيادة التي اتخذها فرعون لنفسه

ص: 232


1- الكهف : 49.
2- آل عمران : 30.
3- التوبة : 35.

في هذه الدنيا وتبعتها أُمّته المسكينة ، فهذه القيادة الدنيوية تتمثل في الآخرة بالقيادة إلى النار.

3. الشفاعة المصطلحة

اشارة

وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلاّ أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده ، وليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه ، تصل إلى عباده في هذه الدنيا من طريق أنبيائه وكتبه ، فهكذا تصل مغفرته سبحانه وغفرانه إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.

وإن شئت قلت : إنّ إرادته الحكيمة جرت في صفحة الوجود أن يتحقق كل شيء من طريق الأسباب الخاصة ، والعلل المعينة فكما أنّ رحمته التي وسعت كل شيء تصل إلى عباده في الحياة الدنيوية ، عن طرق خاصة وعلل طبيعية يلمسها كل من فتح عينه على الكون ، فكذلك رحمته المعنوية ومغفرته الوسيعة تصل في الحياة الأخروية إلى عباده عن طريق علل وأسباب خاصة ومن تلك الأسباب ، أولياؤه وصفوة خلقه ، ودعاؤهم وطلباتهم.

وما ذلك إلاّ لأنّ اللّه سبحانه قد جعل لكل شيء سبباً وقضى أن لا يصدر المسبب إلاّ بتوسط أسبابه ، فدار الوجود وصفحة الكون مدار الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ، وقد جرت عليه مشيئته وإرادته.

أضف إلى ذلك أنّ وصول فيضه عن طريق أوليائه إلى عباده ، تكريم للأولياء ، وإظهار لمقامهم ونوع مثوبة لهم بالنسبة إلى طاعتهم وتضحياتهم ، في طريق الحق ، وإبلاغ رسالاته وأوامره.

ولا بعد في أنّ يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خيرة

ص: 233

عباده فإنّ اللّه سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً ، ونص بذلك في بعض آياته فنرى أنّ أبناء يعقوب لما عادوا خاضعين ، رجعوا إلى أبيهم وقالوا له : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) (1) فأجابهم يعقوب بقوله : ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (2).

وليس يعقوب وحيداً في هذا الباب بل النبي الأكرم أحد من يستجاب دعاؤه في حق العصاة قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (3).

وهذه الآيات ونظائرها مما لم نذكرها مثل قوله : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (4) تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء ، وقد تصل بلا توسيط واسطة ، كما يفصح عنه سبحانه بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) (5) ، وقوله : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (6) إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.

وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق وبخاصة دعاء الصالحين من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول ، ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس ، فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا

ص: 234


1- يوسف : 97.
2- يوسف : 98.
3- النساء : 64.
4- التوبة : 103.
5- التحريم : 8.
6- هود : 90.

وحواسنا بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا ، يقول سبحانه : ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (1).

فما المراد من ( المُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) ؟ أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية ، أو المراد هو الأعم منها ؟ فقد روي عن أمير المؤمنين تفسيرها بالملائكة الأقوياء ، الذين عهد اللّه إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه ، فكما أنّ هذه المدبرات يجب الإيمان بها وان لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها ، فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة ، ودفع العذاب وان لم تعلم كيفية تأثيره.

ويشير إلى ذلك ما روي عن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله حيث سئل عن الأحراز التي يتداولها سواد الناس يقصدون بها الاستشفاء ، وهل أنّها تستطيع أن تغير القدر أو لا ؟ فأجاب صلی اللّه علیه و آله : « هي من قدر اللّه » (2). فأخبر بهذا عن أنّ الدعاء أيضاً جزء من القدر الإلهي ، فكما قدر أن يشفى المريض بسبب الداوء كذلك قدر أن يشفى بالدعاء.

ثم إنّ العلاّمة الطباطبائي رضوان اللّه عليه قد أوضح كيفية تأثير الشفاعة في جلب الغفران ودفع العذاب بقوله : « إنّ الشفيع إنّما يحكّم بعض العوامل المربوطة بالمورد ، المؤثرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده ( أي اللّه سبحانه ) على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ( إلى أن قال : ) ومن هنا يظهر أنّ الشفاعة من مصاديق المسببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأوّل ومسبّبه.

ص: 235


1- النازعات : 1 - 5.
2- التاج الجامع للأصول : 3 / 178 - 179. وروى الصدوق عن الإمام الصادق علیه السلام عندما سئل عن الرقى : أتدفع من القدر شيئاً ؟ فقال : « هي من القدر ». راجع توحيد الصدوق : 389.

وإن شئت قلت : إنّ الشفيع يستفيد من صفات اللّه العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك في إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، فكما أنّ الشفاعة التكوينية ( التي مر ذكرها وشرحها في القسم الأوّل من الشفاعة ) ليست إلاّ توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها كما يفصح عنه قوله سبحانه : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (1) فكذلك الشفاعة المصطلحة فإنّ الآيات تثبت الشفاعة لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء ، فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة ، ولله الملك وهو القائل عز من قائل : ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (2). (3)

وبذلك ظهر أنّ الشفاعة المصطلحة قسم من الشفاعة التكوينية ، بمعنى تأثير دعاء النبي ومسألته في جلب الغفران بتوسيط صفاته العليا في هذا الأمر.

أضف إلى ذلك : انّ تأثير الشفاعة في جلب الغفران ونزول الفيض ، لا يحتاج إلى هذا التحليل أساساً ، فإنّ اللّه سبحانه هو مالك يوم الدين وله الملك وله الأمر ، فكما أنّ له إحباط عمل الكفار والمنافقين إذ يقول سبحانه : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً ) (4) وقال سبحانه : ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (5) فكذلك له أن يغفر من ذنوب عباده ما شاء ولمن شاء وبما شاء إذ يقول : ( إِنَّ اللّهَ

ص: 236


1- يونس : 3.
2- الفرقان : 70.
3- الميزان : 1 / 161 - 163 بتلخيص.
4- الفرقان : 23.
5- محمد : 10.

لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (1) ، والآية واردة في غير مورد الإيمان والتوبة فإنّ الإيمان والتوبة ، يغفر بهما الشرك أيضاً.

فكما أنّ له تكثير القليل من العمل قال سبحانه : ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ ) (2) وقال سبحانه : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) (3) كذلك له أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (4).

وهذه الآية تصرح بأنّ ثواب العمل يصل إلى ذرية الإنسان أيضاً وإن لم تفعل هي بنفسها.

ولا يتوهم من هذه الآيات أنّ المغفرة والعقاب لا يخضعان لقانون بل اللّه يفعل ما يفعل بملاكات ومصالح مقتضية خفية علينا ، ولتكن من ذلك شفاعة أوليائه وتوسط صفوة عباده في هذا المورد. مبررات الشفاعة

إنّ هناك مبررات لجعل الشفاعة من أسباب المغفرة ورفع العذاب نذكر بعضها :

1. ابتلاء الناس بالذنب والتقصير

ربما يقال إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو عمله الصالح كما

ص: 237


1- النساء : 48 و 116.
2- القصص : 54.
3- الأنعام : 160.
4- الطور : 21.

هو صريح الآيات ، فلماذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة ، وسبباً لرفع العذاب أو ليس اللّه يقول : ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى ) (1) وقال سبحانه : ( فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ ) (2) وقال سبحانه : ( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ) (3) وعلى ذلك فلماذا أُدخلت الشفاعة في سلسلة العلل لجلب المغفرة ؟

ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة فإنّ الفوز بالسعادة وإن كان يعتمد على العمل أشد الاعتماد غير أنّ صريح الآيات الأخر هو انّ العمل بنفسه ما لم تنضم إليه رحمته الواسعة لا ينقذ الإنسان من تبعات تقصيره ، قال سبحانه : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ) (4) وقال سبحانه : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ ) (5). (6)

ص: 238


1- الكهف : 88.
2- القصص : 67.
3- القصص : 80.
4- النحل : 61.
5- فاطر : 45.
6- الآيتان بحكم السياق تعنيان الكفار والعصاة ، فلا تعمّان المعصومين من الناس ، فإنّ الآية المتقدمة على تلك الآية في سورة النحل تعني الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وتقول : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل : 60 ). كما أن الآية المتقدمة على الواردة في سورة فاطر تعني المستكبرين فتقول: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: (43) ثم يقول: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا..) . وعلى ذلك فالمنصرف من لفظة (الناس) في الآيتين هو الكفار والمستكبرون.

وقد روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « أيّها الناس انّه ليس بين اللّه وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلاّ العمل ألا لا يدّعين مدع ولا يتمنين متمن ، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت » (1).

ولأجل ذلك نرى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنّه ليغان على قلبي ، وإنّي لاستغفر اللّه كل يوم مائة مرة » (2).

ويدل هذا الحديث على أنّ كل من كثر قربه منه سبحانه يستفيد من مغفرته وفيضه العام أكثر من غيره.

2. سعة رحمته لكل شيء

إنّ التدّبر في الآيات القرآنية يعطي انّ رحمة اللّه سبحانه واسعة تسع كل الناس ، إلاّ من بلغ إلى حد لا يقبل التطهر ، ولا الغفران ، قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش الذين يستغفرون للذين تابوا واتبعوا سبيله : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (3).

نرى أنّ حملة العرش يدلّلون طلب غفرانه سبحانه للتائبين والتابعين لسبيله بكون رحمته واسعة وسعت كل شيء.

كما نرى أنّه سبحانه يأمر نبيه أن يواجه الناس كلهم حتى المكذبين لرسالته

ص: 239


1- الشرح الحديدي لنهج البلاغة : 2 / 863.
2- صحيح مسلم : 8 / 72 ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه ، ط محمد علي صبيح. وللعلماء في معنى الحديث توجيهات ذكرها القاضي في الشفاء في الفصل الأوّل من الباب الأوّل من القسم الثالث.
3- غافر : 7.

بقوله : ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (1).

ونرى في آية ثالثة يعد الذين يجتنبون الكبائر بالرحمة والمغفرة ويقول : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ) (2). وهذه الآيات توضح مفاد ما ورد في الأدعية الإسلامية من قوله علیه السلام : « يا من سبقت رحمته غضبه ».

كيف ونحن نرى أنّ اللّه سبحانه يعد القانط من رحمة اللّه والآيس من روحه كافراً وضالاً ويقول : ( وَلا تَيْأَسُوا مِن رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ ) (3) ويقول أيضاً : ( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ ) (4) ويقول سبحانه : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (5).

فإذا عرفنا القرآن بأنّ اللّه سبحانه ذو رحمة واسعة تفيض على كل شيء ، فعند ذلك لا مانع من أن تفيض رحمته وغفرانه عن طريق أنبيائه ورسله وأوليائه فيقبل أدعيتهم ، وطلباتهم في حق عباده بدافع انّه سبحانه ذو رحمة واسعة ، كما لا مانع أن يعتقد العصاة في شرائط خاصة بغفرانه سبحانه من طرق كثيرة لأجل أنّه عد القانط ضالاً والآيس كافراً.

وعلى الجملة فكما يجب على المربي الديني أن يذكّر عباد اللّه بعقوبته وعذابه وما أعدّ للعصاة والكفار من سلاسل ونيران ، يجب عليه أيضاً أن يذكّرهم برحمته الواسعة ومغفرته العامة التي تشمل كل شيء إلاّ من بلغ من الخبث والرداءة درجة

ص: 240


1- الأنعام : 147.
2- النجم : 32.
3- يوسف : 87.
4- الحجر : 56.
5- الزمر : 53.

لا يقبل معها التطهير كما قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (1).

3. الأصل هو السلامة

دلت التجارب والبراهين العقلية على أنّ الأصل الأوّلي في الخليقة هو السلامة وانّ المرض والانحراف أمران يعرضان على المزاج ويزولان بالمداواة والمعالجة ، وليس هذا الأصل مختصاً بالسلامة من حيث العيوب الجسمانية بل الأصل هو الطهارة من الأقذار والأدران المعنوية فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية السليمة من الشرك والعصيان التي أشار إليها القرآن بقوله : ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (2). وقال النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « كل مولود يولد على الفطرة ، ثم أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه » (3).

وعلى ذلك فلا غرو في أن تزول آثار العصيان عن الإنسان بالعلاج والمداواة الخاصة في مواقف شتى حتى تظهر الخليقة الأولى التي فطر عليها.

فقد جعل اللّه سبحانه المواقف التي يمر بها الإنسان بعد موته في البرزخ ويوم القيامة ، وسائل لتطهير الإنسان وتصفيته من آثار الذنوب وتبعاتها ، ولا غرو في أن يكون الشفعاء المرضيون عند اللّه ، أطباء يعالجون أُولئك المرضى ، بتصرفاتهم ونفوسهم القوية حتى يزيلوا عنهم غبار المعصية ، ودرن الذنب حتى تعود الجوهرة الإنسانية نقية صافية ناصعة فيستحق الإنسان نعيم الآخرة ودخول الجنّة إلاّ من بلغ إلى حد لا يقبل العلاج والتداوي ، لأجل أنّ ذاته قد انقلبت إلى ما يضاد

ص: 241


1- النساء : 48.
2- الروم : 30.
3- التاج الجامع للأصول : 4 / 180 ، تفسير البرهان : 3 / 261 ، الحديث 5.

الجوهرة الإنسانية النقية التي لا تقبل أيّة مداواة أو علاج ، كما لو اتخذ لربه شريكاً فاستحق الخلود في النار.

فليس التوقّف في البرزخ ولا في المراحل المتنوعة في يوم القيامة ولا الدخول في النار مدة محدودة ولا شفاعة الأنبياء والأولياء في حقهم ، إلاّ تصرفاً تكوينياً في حقهم حتى تعود الجوهرة الأوّلية إلى حالتها الطبيعة الأولى وتصفو من كل شائبة تعلّقت بها نتيجة العصيان والتمرد.

4. الآثار البنّاءة والتربوية للشفاعة

إنّ تشريع الشفاعة ، والاعتراف بها في النظام الإسلامي إنّما هو لأجل غايات تربوية تترتب على ذلك التشريع والاعتقاد به ، وذلك لأنّ الاعتقاد بالشفاعة المقيدة بشروط معقولة سيوافيك بيانها ، من شأنه بعث الأمل في نفوس العصاة وأفئدة المذنبين ، يدفعهم إلى العودة عن سلوكهم الإجرامي ، وإعادة النظر في منهج حياتهم الشرير ، ويمسكهم عن الاستمرار والتمادي في ماهم عليه من التمرد والعصيان ، وذلك لأنّهم إذا رأوا أنّ الرجوع عن منتصف الطريق الباطل إلى طريق الصواب والحق ، سينقذهم من ما يترتب على أفعالهم السيئة التي ارتكبوها مدة من عمرهم ، اغتنموا الفرصة بتغيير وضعهم وتعديل سلوكهم إلى ما فيه رضا ربهم.

وهذا الاعتقاد - بالرغم مما اعترض عليه من جانب البعض بأنّه يوجب الجرأة ويحيي روح التمرد في العصاة والمجرمين - يتسبب في إصلاح سلوك المجرم ويقظته وإنابته ، والتخلّي عن ما يرتكبه من آثام ويقترفه من ذنوب.

وتظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة التي اتفقت عليها الأمّة ونص بها الكتاب والحديث ، فإنّه لو كان باب التوبة موصداً في وجه العصاة

ص: 242

والمذنبين ، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرة واحدة أو مرّات سيخلده في عذاب اللّه ، ولا مناص له منه ، فلا شك انّ هذا الاعتقاد يوجب التمادي في اقتراف السيئات وارتكاب الذنوب ، لأنّه يعتقد بأنّه لو غير وضعه وسلوكه في مستقبل أمره ، لا يقع ذلك مؤثراً في مصيره وخلوده في عذاب اللّه ، فلا وجه لأن يترك المعاصي ، ويغادر اللذة المحرمة ، ويتحمّل عناء العبادة والطاعة ، بل يستمر على وضعه السابق حتى يوافيه أجله.

وهذا بخلاف ما إذا وجد الجو مشرقاً والطريق مفتوحاً ، والنوافذ مشرعة واعتقد بأنّه سبحانه سيقبل توبته إذا كانت نصوحاً ، وإنّ رجوعه هذا سيغير مصيره في الآخرة ، وينقذه من تبعات أعماله ، وأليم العذاب عليها فعند ذلك سيترك العصيان ، ويرجع إلى الطاعة ، ويستغفر لذنوبه ، ويطلب الإغضاء عن سيئاته.

فهذا الاعتقاد له الأثر البناء في تهذيب الناس والشباب خاصة ، وكم وكم من شباب اقترفوا السيئات ، وأمضوا الليالي في اللذة المحرمة ، ثم عادوا إلى خلاف ما كانوا عليه في ظل التوبة والاعتقاد بأنّها تجدي المذنبين ، وبأنّ أبواب الرحمة والفلاح مفتوحة بعد لم تغلق ، فعادوا يسهرون الليالي في العبادة ، ويحيونها بالطاعة.

وليس هذا إلاّ أثر ذلك الاعتقاد ، وذاك التشريع.

ومثل ذلك ، الاعتقاد بالشفاعة المحدودة ، فانّه إذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء اللّه سبحانه قد يشفعون في حقه في شرائط خاصة إذا لم يهتك الستر ، ولم يبلغ إلى حد لا تنفع معه شفاعة الشافعين ، فعند ذلك سوف يعيد النظر في مسيره ويحاول تطبيق نفسه على شرائط الشفاعة حتى يستحقها ، ولا يحرمها.

نعم الاعتقاد بالشفاعة المطلقة ، المحررة من كل قيد ، من جانب الشفيع والمشفوع له ، هو الذي يوجب التجرّي والتمادي في العصيان ، وهذه الشفاعة

ص: 243

مرفوضة في منطق العقل والقرآن ، وكأنّ المعترض قد خلط بين الشفاعة المحدودة والشفاعة المطلقة من كل قيد ، ولم يميز بينهما وبين آثارهما.

فالشفاعة الموجبة للتجري ومواصلة العناد والتمرّد ، هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء والأولياء سيشفعون في حقّه يوم القيامة على كل حال وفي جميع الشرائط وإن فعل ما فعل ، وارتكب ما ارتكب ، وعند ذلك سيستمر في عمله الإجرامي إلى آخر حياته رجاء تلك الشفاعة التي لا تخضع لضابطة وقانون ، ولا تتقيد بقيد أو شرط.

وأمّا الشفاعة التي نطق بها الكتاب وأقرّت بها الأحاديث واعترف بها العقل ، فهي الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له والشافع ، ومجمل تلك الشرائط هو أن لا يقطع جميع علاقاته العبودية مع اللّه ، ووشائجه الروحية مع الشافعين ولا يصل تمرده إلى حد القطيعة ، ونسف الجسور.

فالاعتقاد بهذا النوع من الشفاعة مثل الاعتقاد بتأثير التوبة في الغفران ماهية وأثراً.

إنّ في التشريعات الجنائية العالمية السائدة في المجتمعات البشرية قانوناً يسمّى « قانون العفو عن السجناء الدائمين » يسمح للمسؤولين بأن يعفوا عن السجناء أو يقلّلوا من مدة عقوباتهم إذا هم غيّروا سلوكهم ، وأظهروا الندامة والتوبة ، وهذا القانون ليس من شأنه أن يبعث على الجرأة والعناد ، بل من شأنه أن يدفع السجين إلى أن يصلح نفسه ، ويعدل سلوكه ، ويحقّق في نفسه شرائط استحقاق العفو والتخفيف على أمل أن ينطبق عليه ذلك القانون ويشمله العفو ، وبهذا يكون هذا القانون المنطقي موجباً للإصلاح لا الإصرار ، وداعياً إلى الأوبة لا الاستمرار.

ص: 244

5. الأمر بيده سبحانه أوّلاً وآخراً

ما ذكرناه من الوجوه هي مبررات الشفاعة والجهات التعليلية لجعلها في صميم العقائد الإسلامية ، ومع ذلك كلّه فالأمر إليه سبحانه إن شاء إذن في الشفاعة وان لم يشأ لم يأذن ، فهو القائل سبحانه : ( مَا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

وصفوة القول : وانّ الشفيع انّما يشفع بإذنه وفي إطار مشيئته ، وتحت الشروط التي يرتضيها ، إذ هو الذي يبعث الشفيع على أن يشفع في حق المشفوع له ، وعند ذلك فلا تستلزم شفاعة الشافعين خروج الأمر عن يده ، وتحديد سلطته تعالى ، وملكه ، وسيوافيك بعض القول في ذلك عند التعرض للإشكالات المتوهمة حول الشفاعة.

ص: 245


1- فاطر : 2.

4

ما هو أثر الشفاعة أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟

اشارة

قد وقفت على آيات الشفاعة وأهدافها ، وأقسامها ، وانّ الشفاعة من الأصول الأساسية في العقيدة الإسلامية ، غير انّه بقي هنا بحث وهو الوقوف على أثر الشفاعة ، وانّ نتيجتها هي حط ذنوب المذنبين وإسقاط العقاب والمضار عنهم والعفو عن العصاة ، أو هي ازدياد الثواب ورفع الدرجات ، وقد ذهب إلى الأوّل جمهور المسلمين ، وإلى الثاني فرقة المعتزلة وقد وقفت عند نقل الأقوال ، على عقائدهم غير انّ الواجب هنا هو تعيين الموقف الصحيح من هذا الأمر.

إنّ الأسلوب الصحيح لتفسير القرآن الكريم له هو تجريد المفسّر نفسه عن كل رأي سابق ، ووقف النظر على مدلول الآية والاهتداء إلى مرماها باستنطاقها واستنطاق أخواتها التي يمكن أن تقع قرينة لفهم المراد منها ، وأمّا تفسير الآيات على ضوء الآراء المسبقة ، وتطبيقها على تلك الأفكار وجعلها دليلاً على صحتها ، فهو نفس التفسير بالرأي الذي حذّر عنه النبي صلی اللّه علیه و آله في الحديث المتواتر عنه : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار » (1).

وإن شئت قلت : يجب على المفسّر أن يتخذ نفس القرآن هادياً لمقصوده

ص: 246


1- حديث متفق عليه ، رواه الفريقان.

سبحانه لا أن تكون الآراء المتخذة سلفاً ، سبباً لتطبيق القرآن عليها ، فإنّ هذا هو الآفة الكبيرة التي أصابت فرقاً من المسلمين ، ودفعتهم إلى اتخاذ مواقف شاذة.

إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة - مع الأسف - لم تتخلص عن هذه الآفة عند بعض هذه الفرق فإنّ الآيات الواردة حول الشفاعة ليست ناظرة إلى ما ذهبت إليه المعتزلة من أنّ نتيجتها هو رفع الدرجة وزيادة الثواب فقط ، ولا أقل ، لا تنحصر مداليلها بهذا بل هي ذات مدلول وسيع يعم كلا الأمرين من حط الذنوب والعقاب ورفع الدرجة وزيادة للثواب.

لم تكن مسألة الشفاعة فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين أُمم العالم من قبل وخاصة بين الوثنيين واليهود ، نعم انّ الإسلام قد طرحها مهذبة من الخرافات ومما نسج حولها من الأوهام ، وقررها على أُسلوب يوافق أُصول العدل والعقل وصحّحها تحت شرائط في الشافع والمشفوع له التي تجر العصاة إلى الطهارة من الذنوب ، وكف اليد عن الآثام والمعاصي ، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك الستر ، حسبما أوضحناه في الفصل الماضي.

وغير خفي على من وقف على آراء اليهود والوثنيين في أمر الشفاعة انّ الشفاعة الدارجة بينهم خصوصاً اليهود كانت مبنية على رجائهم لشفاعة أنبيائهم وآبائهم ، في حط ذنوبهم ، وغفران آثامهم ، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ، ويرتكبون الذنوب تعويلاً على ذلك الرجاء.

وفي هذا الموقف يقول سبحانه رداً على تلك العقيدة الباعثة إلى الجرأة : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (1) ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المحررة من كل قيد : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (2).

ص: 247


1- البقرة : 255.
2- الأنبياء : 28.

وحاصل الآيتين : انّ أصل الشفاعة التي تدّعيها اليهود ويلوذ إليها الوثنيون حق ثابت في الشريعة السماوية ، غير انّ لها شروطاً أهمها إذنه سبحانه للشافع ورضاؤه للمشفوع له.

وعلى ذلك فكيف يصح لنا تخصيص الآيات بقسم خاص من الشفاعة وهي شفاعة الأولياء لرفع الدرجة ، وزيادة الثواب ؟

وأوضح دليل على عمومية الشفاعة للقسم الثالث من الأقسام الماضية ما أصفق على نقله المحدّثون من قوله صلی اللّه علیه و آله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (1).

ومع هذه القرائن والأحاديث الكثيرة التي ستمر عليك في فصلها الخاص لا يصح تخصيص الآيات بالمورد الذي ذهبت إليه المعتزلة.

دافع المعتزلة إلى اتخاذ الرأي الخاص

إنّ الدافع الوحيد للمعتزلة كلّهم أو أكثرهم إلى تخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة هو الموقف الذي اتّخذوه في حق العصاة ومقترفي الذنوب في أبحاثهم الكلامية ، فانّهم قالوا بخلود أهل العصيان في النار ، وهذه العقيدة منسوبة إلى جميعهم أو أكثرهم ، ومن الواضح أنّ من يتخذ مثل هذا الموقف لا يصح له أن يعمّم آيات الشفاعة إلى العصاة ، وذلك لأنّ التخليد في النار لا يجتمع مع التخلّص عنها بالشفاعة.

وإليك ما نقل عن المعتزلة في هذا الصعيد : قال المفيد : اتفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللّه تعالى ، والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة ، ووافقهم على هذا القول

ص: 248


1- ستوافيك مصادر الحديث في البحث الروائي.

كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب ، وأصحاب الحديث قاطبة ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.

واتفقت الإمامية على أنّ من عذب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأُخرج من النار إلى الجنة ، فينعم فيها على الدوام ، ووافقهم على ذلك من عددناهم ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا انّه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب (1).

نعم نسب العلاّمة الحلي في « كشف المراد » تلك العقيدة إلى بعض المعتزلة لا إلى جميعهم (2) وكذلك نظام الدين القوشجي في شرحه على التجريد (3).

وقد خالفهم أئمّة المسلمين وعلماؤهم في هذا الموقف وقالوا بجواز العفو عن العصاة عقلاً وسمعاً.

أمّا العقل ، فلأنّ العقاب حق لله تعالى فيجوز تركه.

وأمّا سمعاً ، فللآيات الدالة على العفو فيما دون الشرك قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (4) والآية واردة في حق غير التائب ، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً ، وقال سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) (5) أي تشملهم المغفرة مع كونهم ظالمين.

وقال سبحانه : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن

ص: 249


1- أوائل المقالات : 14.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 261 ، طبعة صيدا.
3- شرح التجريد للقوشجي : 501.
4- النساء : 48.
5- الرعد : 6.

رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) (1) إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة على العفو في حق العصاة.

ومع ذلك لا مانع من شمول أدلّة الشفاعة لهم ، وأوضح دليل على العفو بدون التوبة قوله سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (2) فانّ عطف قوله : ( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) على قوله : ( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ) بواو العطف ، يدل على التغاير بين الجملتين ، وانّ هذا العفو لا يرتبط بالتوبة وإلاّ كان اللازم عطفه بالفاء.

وقال سبحانه : ( وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (3) ، فانّ الآية واردة في غير حق التائب ، وإلاّ فإنّ اللّه سبحانه يغفر ذنوب التائب جميعاً لا كثيرها مع أنّه سبحانه يقول : ( وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) .

فتلخص من ذلك انّه لا مانع من القول بجواز العفو في حق العصاة كما لا مانع من شمول آيات الشفاعة لهم.

نعم يجب إلفات النظر إلى نكتة وهي انّ بعض الذنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانية باللّه سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحية مع النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله فصاحب هذه المعصية لا تشمله الشفاعة ، فيجب عليه ورود النار حتى يتطهر بالعذاب ، وتصفو روحه من آثار العصيان ويصير لائقاً لشفاعة الشافعين.

إلى هنا تم الكلام حول آيات الشفاعة وأصنافها وحقيقتها وأثرها في المطيع والعاصي. وبقي الكلام حول بعض الإشكالات التي آثارها بعضهم ، فيجب علينا التعرض لها على وجه الإجمال والإجابة عنها بما يقتضي المقام.

ص: 250


1- الزمر : 53.
2- الشورى : 25.
3- الشورى : 30.

5

إشكالات مثارة حول الشفاعة

اشارة

هاهنا إشكالات مثارة حول الشفاعة ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الإسلامية على الشفاعة الرائجة في الحياة البشرية المادية والتي تسمّى بالوساطة ، ولو كان المستشكلون يعرفون حقيقة الشفاعة التي نص بها القرآن والحديث ، لما تفوّهوا بتلك الإشكالات التي لا تليق بالبحث والنقد في الكتب العلمية.

غير انّ انتشار هذه الإشكالات بين الشباب دعانا إلى عقد هذا البحث وإفراده عمّا سبق ، وإليك الإشكالات واحداً بعد واحد ، والإجابة عنها على نحو الإجمال :

الإشكال الأوّل

لا شك أنّ الشفاعة لا تشمل جميع أنواع الجرائم والمعاصي ، وعامة أنواع العصاة والمجرمين ، إذ عندئذ يصير القانون لغواً ، ويعود التكليف بلا أثر ، وانّما الشفاعة في بعض أنواع الجرم ، وفي حق بعض المجرمين دون بعض ، وعندئذ يطرح هذا السؤال :

إنّ حقيقة كل جرم هي التجاوز على الحدود ، وكل مجرم يعتدي على حدود

ص: 251

اللّه ، فما معنى أن يقع بعض أقسام الجرم والمجرمين في إطار الشفاعة دون البعض مع اشتراك الجميع في هدم الحدود ، والتجاوز والعدوان ؟

الجواب

إنّ ما زعمه المستشكل من استلزام الشفاعة الترجيح بلا مرجح ، والتفريق في القانون إنّما يتم إذا كان جميع ألوان الجرم وأنواع المجرمين في درجة واحدة في الآثار والتبعات والكشف عن النفسيات ، وأمّا إذا كان للجرم مراتب أو كان المجرمون على درجات في النفسيات والروحيات فلا تستلزم الشفاعة ما ذكره المستشكل ، فلا يستوي من أحرق منديل أحد عدواناً ، ومن أحرق مصنعاً كبيراً تعيش به مئات من العمال ، فكلا العملين تجاوز وعدوان ولكن شتان بين الأوّل والثاني.

ولأجل ذلك تكون العقوبات والتبعات متفاوتة حسب تفاوت مراتب الجرم وحسب كشف العمل عن روحية المجرم ونفسيته.

فهناك شاب لا يملك نفسه عن النظر إلى المرأة الأجنبية نظراً ممزوجاً بالسوء ، وهناك آخر يعتدي بالعنف عليها ، فكلا العملين عدوان على القانون وتجاوز على الحدود وتجاهل للحرمة ولكن تختلف مراتبهما. وعلى ذلك فإذا كان المجرمون مختلفين ومتفاوتين في مراتب الجرم فلا تعد الشفاعة في حق من كان أخف جرماً دون الآخر تفريقاً في القانون.

كما أنّ هناك فرقاً بين مجرم قد حافظ على روابطه الإيمانية مع اللّه ، وعلى علاقاته الروحية مع الشفيع بحيث لا يعد المجرم إنساناً أجنبياً عن كلا المقامين ، ومجرم قد قطع كل علاقاته الإيمانية والروحية بحيث صار إنساناً أجنبياً عن الشافع والمشفوع عنده ، فتشريع الشفاعة في حق الأوّل وقبولها في شأنه دون الثاني

ص: 252

لا يعد تفريقاً في القانون ، وعملاً مخالفاً للتسوية فيه.

والذي يوضح ذلك انّه سبحانه قد فرق بين الذنوب وأخبر بأنّ بعضها لا يغفر أبداً إلاّ مع التوبة ، وإنّ بعضها يغتفر بدونها أيضاً ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ) (1).

فهل يسوغ لنا أن نعترض على عدم التسوية بين المشرك وغيره في غفران ذنوب الثاني دون الأوّل ؟ كلا. فانّ المشرك قد قطع جميع علاقاته مع اللّه سبحانه دون غير المشرك.

وعلى الجملة فهذا الإشكال مبني على الغض عمّا ورد في الكتاب والسنّة من تقسيم الجرائم إلى الكبائر والصغائر ، وما ورد من أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب غفران الصغائر ، قال سبحانه : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلاً كَرِيماً ) (2).

وربما يقرر هذا الإشكال بوجه آخر فيقال : إنّه جرت مشيئة اللّه الحكيمة على إجراء القوانين والسنن على نمط واحد قال سبحانه : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) (3) ، وعلى ذلك فقبول الشفاعة في حق بعض المجرمين نوع تغيير في السنن الحكمية الثابتة.

وأنت خبير إنّ هذا الإشكال هو نفس ما تقدم جوهراً ، وان كان يختلف عنه شكلاً ، فإنّ الأساس في التقرير الأوّل انّ الشفاعة تفرقة في القانون ، والأساس في هذا البيان هو انّ الشفاعة تبديل وتحويل لسنن اللّه التي لا يتطرق إليها التبدّل

ص: 253


1- النساء : 48.
2- النساء : 31.
3- فاطر : 43.

والتحوّل.

والإجابة عن هذا التقرير واضحة جداً ، فكما انّ العقاب سنّة إلهية ، فكذلك المغفرة والعفو عن الجرم والمجرم في شرائط خاصة سنّة من السنن الإلهية ، فلا يعد الاعتراف بأحدهما نقضاً لسنته. والقائل جعل العقاب هو الأصل وتخيل انّ العفو والمغفرة نوع تغيير في سننه.

وان شئت قلت : إنّ قوله سبحانه : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) (1) لا يهدف إلى أنّه ليس له إلاّ شأن واحد وعمل فارد لا يتجاوز عنه ( وهو عقاب المجرم في كل الأحايين ) بل هو سبحانه ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (2) ، وقال سبحانه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (3).

كيف وانّ لله سبحانه أسماء وصفات ، ولكل واحد منها تجل وظهور في عالم الكون ، فهو بما انّه المحيي والمميت ، فله تجل في الكون بالإحياء والإماتة وبما انّه القاهر والمنتقم والرؤوف والرحيم ، فله أيضاً تجلّيات في الكون ، ولا يعد كل تجلّ ناقضاً للآخر أو تحويلاً لسنته سبحانه ، وما هذا إلاّ لأن الكل سنن لا أنّ هناك سنة واحدة وهو الإحياء حتى تكون الإماتة ناقضة لها.

وهناك قصة قد رواها الأصمعي لا تخلو من صلة بالمقام ، قال الأصمعي : كنت في البادية وأقرأ القرآن عن ظهر القلب ، وكانت هناك امرأة من أهلها ، فقرأت قوله سبحانه هكذا : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللّهِ ) (4) - واللّه غفور رحيم - فاعترضت وقالت بأنّه سبحانه لو كان

ص: 254


1- فاطر : 43.
2- الرحمن : 29.
3- الرعد : 39.
4- المائدة : 38.

غفوراً ورحيماً لما أمر بقطع أيديهما ؟! قال الأصمعي : ففتحت القرآن فرأيت انّ في قراءتي لحناً والصحيح ( عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ووقفت بأنّ الأمر بقطع الأيدي لا يصح أن يقع مظهراً لرحمته وغفرانه ، بل هو مظهر لعزّه وحكمته.

هذه المرأة الربيبة في البادية تشير بكلامها إلى ما أدركه الفلاسفة في ضوء البراهين من أنّ لله سبحانه أسماء وصفات ، ولكلٍّ منها تجلّ خاص ، فكما أنّه يتجلّى في كل مجال من التكوين باسم خاص ، فهكذا عالم التشريع يتجلّى في كل حكم بما يناسبه من الاسم ، فالمناسب لقطع يد السارق هو التجلّي باسم العزة والحكمة لا الغفران والرحمة ، لأنّ كل تجلّ يتناسب مع اسم خاص.

والعجب انّ القائل استدل على ما يهدف إليه من الإشكال من عدم تطرق التحول والتبدل في سنن اللّه بقوله سبحانه : ( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ ) (1) مع أنّ الآية تهدف إلى أمر آخر ، ويفسره قوله سبحانه : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (2).

وكلتا الآيتين تهدفان إلى أنّ طريقه سبحانه صراط مستقيم لا تجد فيه عوجاً ولا أمتا ، وهذا بخلاف ما يدعو إليه الشيطان فإنّ فيه كل الاعوجاج.

الإشكال الثاني

إنّ تشريع الشفاعة يجر إلى التمادي في العصيان والتعدّي والاستمرار في العدوان ، وانّ المجرم حسب اعتقاده بالشفاعة سيستمر على عدوانه رجاء غفران

ص: 255


1- الحج : 41 - 42.
2- الأنعام : 153.

ذنوبه بالشفاعة (1).

الجواب

إنّ هذا الإشكال ينبع من قياس الشفاعة التي وردت في الكتاب والسنّة ، بالشفاعة الرائجة في أوساط الناس ، ولو كان المستشكل واقفاً على الفرق الجوهري بينهما لما عدّ الشفاعة عاملاً للجرأة ، وذريعة للعصيان ، وذلك لأنّه مردود نقضاً وحلاً ، أمّا الأوّل فمن وجوه :

1. لو كان تشريع الشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة عاملاً للجرأة أيضاً مع أنّه سبحانه وعد بها في قوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (2).

لاحظ قوله سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ) (3) فإنّ لفظ ( عَلَى ظُلْمِهِمْ ) جملة حالية تبين شمول المغفرة للناس في حال كونهم معتدين ومجرمين ، فلو كان الوعد بالشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة في هذه الآيات عاملاً لها أيضاً.

2. انّه سبحانه قد وعد بأنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب التكفير عن بعض السيئات ، قال سبحانه : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ

ص: 256


1- وفي كلام الكاتب فريد وجدي إشارة إلى هذا الإشكال لاحظ : 5 / 402 ، مادة شفع من دائرة معارفه. وقال الطنطاوي : إنّ الشفاعة بالمعنى الذي يفهمه العامة تقود الأمّة إلى الانتكاس على أُمّ الرأس، ويبقى الدين من أسباب التأخر لا الرقي. لاحظ : 1 / 69 من تفسيره ، وما ذكره ليس إلاّ خلطاً بين الشفاعة السائدة في المجتمع المادي في الدنيا عند الرؤساء والمتنفذين فيهم ، والشفاعة التي جاء بها القرآن الكريم ، وستوافيك الفروق الموجودة بين الشفاعتين.
2- (2 النساء : 48 و 116.
3- الرعد : 6.

سَيِّئَاتِكُمْ ) (1) فهل يجد المستشكل في نفسه انّ هذا التشريع يوجب جرأة العباد على ارتكاب بعض السيئات رجاء غفرانها بالاجتناب عن الكبائر ؟

3. لو كان تشريع الشفاعة مستلزماً لما تخيّله القائل لكان تشريع التوبة من عوامل الجرأة والأسباب التي تجر العباد إلى العصيان والعدوان ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً ) (2).

هذا وذاك يكشفان عن أنّ المستشكل لم يقف على مغزى الشفاعة وما تهدف إليه الآيات والروايات وإلاّ لما عد الشفاعة الباعثة للأمل في النفوس ، موجباً للجرأة وسبباً للتمادي في العصيان ، وقد أشرنا - فيما سبق - إلى بعض الآثار التربوية البنّاءة الموجودة في الشفاعة.

هذا كله نقضاً وأمّا حلاً فالإشكال يتغذى من الشفاعة المتصورة في بعض الأذهان ، وهو انّ للإنسان أن يفعل ما يريد تعويلاً على الشفاعة واغتراراً بها.

وأمّا الشفاعة المحدودة الشاملة لبعض العباد التي لم تنقطع علاقاتهم باللّه سبحانه ، وبأوليائه فلا تبعث على الجرأة ، بل تبعث أملاً في نفس العاصي ويدفعه إلى أن يرجع عن التمادي في المعصية ، ويصلح حاله فيما يأتي من الزمان ، كما أوضحناه فيما سبق ، فلا نعيد ، ولكن نأتي هنا ببيان آخر ، وهو انّ الشفاعة الموعود بها لو كانت أمراً منجزاً ، مطلقاً ، واضحاً من حيث الجرم ، والمجرم متعيناً من حيث الوقت ونوع العقوبة ، لكان لما تخيله المستشكل وجه ، ولكن الشفاعة الموعود بها لأجل عمد تنجزها ، واشتراطها بشروط وإبهامها من حيث الجرم والمجرم ، وعدم تعيّنها من حيث الوقت ونوع العقوبة ، فلا يستلزم ذلك ، وإليك توضيح ذلك :

إنّ الشفاعة التي نطق بها القرآن ووعد بها ليست أمراً منجزاً ومطلقاً من كل

ص: 257


1- النساء : 31.
2- التحريم : 8.

قيد وشرط ، فإنّ الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه وكون المشفوع له مرضياً عنده ، قال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (2) ، وليس من الممكن أن يتيقن المجرم بأنّه ممن يشمله إذنه سبحانه وارتضاؤه. إذ ليس في وسع أحد أن يدّعي أنّه من العباد الذين تشملهم المغفرة الإلهية يوم القيامة بالإذن في الشفاعة في حقهم وكونه من العباد المرضيين كيف وقد قال سبحانه : ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلا القَوْمُ الخَاسِرُونَ ) (3).

هذا من وجه ، ومن وجه آخر : انّ الشفاعة مبهمة من حيث الجرم والمجرم ، إذ لم يرد أي توضيح في موردها وانّها تشمل أي جرم من الأعمال الإجرامية وأي مجرم من أنواع المجرمين فهي مبهمة من تلك الناحية ، وهذا الإبهام يصد العاصي عن أن يعتمد على الشفاعة المحتملة في حقه ، بل ربّما تدعوه إلى التحفظ عن اقتراف بعض المعاصي لئلاّ يحرم من الشفاعة.

هذا وكما انّ الشفاعة مبهمة من تلك الناحية فهي أيضاً مبهمة من ناحية الوقت وأنواع العقوبات ، فإنّ الآيات ناطقة بأنّ يوماً من أيام القيامة يمتد امتداد ألف سنة أو أكثر ، قال سبحانه : ( وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (4) وقال سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (5) ، وعلى ذلك فللعصاة والطغاة بل العباد كلهم مواقف مختلفة يوم القيامة ، وهي مواقف رهيبة ومخيفة ذات أوضاع تهز القلوب ، ومن المعلوم انّه لم يعين وقت الشفاعة ، وانّه في أي وقت تتحقق في حق المجرم أفبعد

ص: 258


1- البقرة : 255.
2- الأنبياء : 28.
3- الأعراف : 99.
4- الحج : 47.
5- المعارج : 4.

هذه الإبهامات الثلاثة يبقى مجال لأن يعول المجرم على الشفاعة أو يتمادى في المعصية ؟!

إنّ غاية ما في الشفاعة أنّها بصيص من الرجاء ونافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح اللّه ، ورحمته ، وأن لا يغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه فيتمادوا في العصيان.

الإشكال الثالث

الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره - حكم به أم لا - فلا تتحقق الشفاعة إلاّ بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع ، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن كان أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به ، وأمّا الحاكم المستبد الظالم فإنّه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنّه ظالم وانّ العدل في خلافه ، ولكنّه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة ، وكل من النوعين محال على اللّه تعالى ، لأنّ إرادته تعالى على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير (1).

وحاصل الإشكال : انّ قبول الشفاعة يستلزم أحد أُمور ثلاثة :

1. أمّا أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل جائراً عالماً بذلك.

2. أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل جائراً غير عالم به.

3. أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل عادلاً لكنه يعدل عن هذا الحكم على خلاف المصلحة ونزولاً عند رغبة الشفيع.

ص: 259


1- تفسير المنار : 1 / 307.

أمّا الأوّل ، فيستلزم أن يكون الحاكم جائراً غير عادل.

أمّا الثاني ، فهو يستلزم أن يكون الحاكم جاهلاً بحقيقة حكمه.

أمّا الثالث ، فيستلزم أن يكون الحاكم ناقضاً للحكم المبني على العدل لأجل شفاعة الشفيع ، والكل ممتنع في حقه سبحانه.

الجواب

لو أنّ الأستاذ قد أمعن في حقيقة الشفاعة التي نطق بها القرآن الكريم وفسرتها الأحاديث الإسلامية ، لما جعل أمر قبول الشفاعة مردّداً بين أحد أُمور ثلاثة ممتنعة في حقه سبحانه ، فإنّ الشفاعة لا ترتبط بأحد هذه الأمور ، بل هي من واد آخر نشير إليه بتقديم مقدمة وهي :

إنّ الحكم يتبع موضوعه ، فكل موضوع له حكم خاص فمادام الموضوع باقياً على وضعه الأوّل لا ينفك عنه الحكم ، فإذا تبدّل إلى موضوع آخر يتبدّل حكمه إلى حكم آخر ، أو يصير ذا حكم جديد غير ما حكم به على الموضوع الأوّل ، مثلاً المائع ما دام كونه خمراً فهو رجس يجب الاجتناب عنه ، فإذا تبدّل إلى الخل يتبدّل حكمه ، أثر تبدّل موضوعه ، فيكون محكوماً بالطهارة ، ولا يعد الحكم الثاني ناقضاً للحكم الأوّل ، ولا يوجب اختلاف الحكم اختلافاً وتبدّلاً في علم الحاكم بل للحاكم من أوّل الأمر علمان ، وحكمان ، كل مرتبط بموضوعه ، فقد كان الحاكم عالماً وحاكماً بأنّ الخمر نجس حرام ، وانّ الخل طاهر حلال ، وما حصل من التغيير فإنّما هو تغيير في المعلوم والموضوع لا في العلم.

ونظير ذلك العاصي والتائب فإنّ العصيان حالة نفسية في الإنسان ، فله حكمه الخاص من العقاب لأجل طغيانه وعدوانه ، كما أنّ التوبة حالة نفسانية مغايرة للحالة الأولى فلها حكمها الخاص ، فالإنسان العاصي محكوم بحكم كما

ص: 260

أنّ الإنسان التائب محكوم بحكم آخر ، والاختلاف في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع ، والتبدّل في ناحية المعلوم دون العلم وإلاّ فالحاكم العادل قد علم وحكم من الأزل بحكمين مختلفين على موضوعين متفاوتين ، قال عز من قائل : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) فقد حكم على الإنسان المشرك بالقتل وعلى الإنسان الذي تاب من شركه بالتخلية لسبيله وإطلاق سراحه وعدم التعرض له ، ولا يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل.

والمثال لا ينحصر بما ذكرناه بل هناك مئات الأمثلة وآلاف الشواهد من هذا القبيل ، ولا يعد أي عاقل ، الحكم الثاني ، ناقضاً للحكم الأوّل.

ولنأت بمثال ثالث تتميماً للوضوح : لا شك انّ لله سبحانه أوامر جدية ، وأُخرى امتحانية ولكل غايته وهدفه الخاص ، والهدف في الأوامر الجدية هو إحراز المكلف ما يترتب على الموضوع من المصالح كإقامة الصلاة لأجل كونها ناهيةً عن الفحشاء والمنكر ، لقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) (2) وأمّا الأوامر الامتحانية فليس الهدف منها إلاّ جعل العبد في بوتقة الامتحان حتى يتفتح كل ما يملك من الكمال بصورة القوة والاستعداد ويدخل إلى مرحلة الفعلية ، التي هي الكمال لما هو أمر بالقوة ، وهذا كجعل تراب الحديد حديداً خالصاً من خلال التذويب في المصانع الخاصة فتكون المصائب والمتاعب التي يمر بها العبد في طريق امتثاله للأوامر الامتحانية بمثابة الحرارة المتوجهة إلى التراب المعدني في إبراز كمالاته ، وإخراج جوهره.

ص: 261


1- التوبة : 5.
2- العنكبوت : 45.

فإبراهيم الخليل كان يملك كمالاً بالقوة وهو ترك ما سوى اللّه في طريق أمره سبحانه ، ولكن هذا الكمال كان مكنوناً في ذاته ، مركوزاً في وجوده فأراد اللّه سبحانه إظهار ذلك الكمال وإبرازه من مكمن وجوده إلى ساحة الفعلية والتحقّق ، فأمره سبحانه بذبح الولد وهو قد أخذ بيد ولده وصار به إلى المذبح ، فأراد ذبحه امتثالاً لأمره سبحانه ، فأظهر بذلك أنّه يؤثر طاعته سبحانه على كل ما يملك من العواطف القلبية لولده العزيز ، فعند ذاك تفتح ذاك الكمال وصار إلى مرحلة الظهور ، وتحققت الغاية من أمره تعالى ، وجاء أمره سبحانه مخاطباً إيّاه ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (1).

فهناك حكمان على موضوعين مختلفين فالخليل المالك للكمال بالقوة مخاطب بذبح الولد ، والخليل الواصل إلى هذه الذروة من الكمال ، مخاطب بحكم آخر ، وهو التفدية عنه بذبح عظيم ، ولا يعد كل ناقضاً للآخر بل الاختلاف في الحكم أثر الاختلاف في الموضوع.

وعلى هذا الأساس تبيّن انّ اختلاف الحكم بالشفاعة في مورد العاصي من قبيل اختلاف الحكم حسب اختلاف الموضوع.

وتوضيح ذلك : انّ العاصي بما هو عاص وبما انّه مجرّد عن انضمام الشفاعة إليه ، محكوم بالعقاب ، ولكنّه بانضمام الشفاعة إليه ، محكوم بحكم آخر ، واختلاف الحكمين أثر اختلاف الموضوعين بالإطلاق والتقييد.

وإن شئت قلت : إنّ العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه ، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،

ص: 262


1- الصافات : 105 - 107.

محكوم بالحكم الأوّل ، ولكنه منضماً إلى هذه الضمائم الثلاث محكوم بالمغفرة ، فإذا أردت أن تمثل لتبيين حقيقة الشفاعة فعليك انّ تقول : إنّ نسبة الحكم الثاني إلى الحكم الأوّل ليس كنسبة الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بالنسبة إلى حكم المحكمة الابتدائية الذي يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل ، بل هو من قبيل الحكم الصادر في حق المجرم إذا جلب رضا المشتكي بالنسبة إلى الحكم الصادر في حقه قبل جلب رضاه ، فالاختلاف والتفاوت في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع.

وعلى ذلك فلابد أن يقال انّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه وتغييراً في إرادته ، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً للجور ، بل الحكمان صادران عن مصدر العدل على وفقه.

الإشكال الرابع

ما أشار إليه الشيخ محمد عبده أيضاً حسب ما نقله عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا : ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة ، ولكن ورد الحديث بإثباتها (1).

هذا ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر فنقول : لقد نفيت الشفاعة في بعض الآيات على وجه الإطلاق قال سبحانه : ( أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (2) كما نفى في بعض الآيات نفع شفاعة الشافعين كقوله ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (3) ، وقد علّقت في بعض الآيات على إذنه سبحانه وارتضائه قال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا

ص: 263


1- تفسير المنار : 7 / 270.
2- البقرة : 254.
3- المدثر : 48.

بِإِذْنِهِ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (2) غير انّ الاستثناء لا يدل على وقوع المستثنى إذ له نظائر في القرآن الكريم. قال سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلا مَا شَاءَ اللّهُ ) (3) إذ من المحقق انّ النبي لا ينسى القرآن ، ولم ينسه. ومثله قوله سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (4).

ومن المعلوم انّ الاستثناء الوارد في الآية الأخيرة غير محقّق أبداً فانّهم مخلدون فيها. نعم يدل الاستثناء على الإمكان ، أي إمكان اخراجهم من الجنة ، معلناً بأنّ دخولهم الجنة لا يلازم نفي القدرة الإلهية على إمكان إخراجهم منها ، وانّه ليس الأمر خارجاً عن قدرته ، فله أن يخرجهم منها كما له أن يبقيهم فيها ، فلا مانع من أن تكون الآيات الواردة في الشفاعة ، خصوصاً ما اشتمل منها على الاستثناء من هذا القبيل ، معلناً بإمكان الشفاعة لا وقوعها.

الجواب

قد أشبعنا البحث حول الآيات الواردة في الشفاعة فيما مضى ، وبيّنا أصنافها ، وقلنا إنّ الآيات النافية للشفاعة من الأساس ، راجعة إلى أيّ قسم منها ، فلأجل ذلك لا نعيد الكلام فيها. وإنّما المهم توضيح ما ورد من الاستثناء في الآيات المتقدمة فنقول :

إنّ البحث عن إمكان الشفاعة وامتناعها يشبه الأبحاث الفلسفية الدارجة فيها ولا يناسب حمل الآيات عليها ، والتقول بأنّ الآيات ناظرة إلى إمكانها لا

ص: 264


1- البقرة : 255.
2- الأنبياء : 28.
3- الأعلى : 6 - 7.
4- هود : 108.

وقوعها أشبه شيء بالأبحاث الجدلية.

إنّ البحث عن الإمكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية البحتة ، والكلامية الخالصة كما في البحث عن إمكان تعدّد الواجب وامتناعه وما شابه تلك المسألة ، فنرى أنّه سبحانه يبحث عن الإمكان والوقوع في قوله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (1) وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (2).

وأمّا المسائل التربوية أو الاجتماعية التي تدور مدار التربية والتوعية الاجتماعية والفردية ، فالبحث عن الإمكان والوقوع فيها ساقط وغير مناسب للأهداف القرآنية ولا يتوجه النظر إلاّ إلى قسم واحد ، وهو وقوع ما وعد به سبحانه في كتابه من الاستثناء كما في نظائره : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (3) وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ) (4) وما شابه هاتين الآيتين.

وعلى ذلك فلا يتبادر من تلك الآيات إلاّ وقوع الإذن والارتضاء من اللّه سبحانه والحمل على الإمكان فيما ورد في قوله : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلا مَا شَاءَ اللّهُ ) لأجل قرينة خاصة وهي الدلائل المتضافرة على عصمة النبي ، وهذه القرينة تصدّنا عن حمل الآية على وقوع الاستثناء وتحقّقه.

ومثل تلك القرينة موجودة في الآية الأخرى الدالة على خلود المؤمنين في الجنة ، أعني قوله : ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فإنّ الحمل على

ص: 265


1- الأنبياء : 22.
2- المؤمنون : 91.
3- آل عمران : 145.
4- يونس : 100.

الإمكان أي إمكان عدم الخلود ، لأجل قرينة قطعية دلت على تحقّق الخلود ، لأهل النعيم في الآخرة ، وهذا العلم يصدّنا عن حمل الاستثناء على وقوعه.

هذا كلّه مع غض النظر عمّا في نفس الآيات من القرائن الدالة على وقوع الاستثناء ، وإليك تلك القرائن :

الأولى : قال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (1) فإنّ التعبير عن رضاه بالفعل الماضي يدل على تحقّق ذلك الرضا ، في حق المشفوع له ، ورضاه سبحانه لا ينفك عن إذنه للشفعاء ، لأنّ إعلان الرضا بالنسبة إلى المشفوع له بلا صدور إذن منه سبحانه للشفيع يعد أمراً لغواً ، وحمل قوله : ( إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) على وجود الرضا منه سبحانه دون إبلاغه للشفعاء أشبه شيء بالهزل.

الثانية : انّه سبحانه يخبر بخبر قطعي عن شفاعة من شهد بالحق ممن كانوا تسبغ عليهم صفة الإلوهية كالمسيح والملائكة ، قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (2) والاستثناء يدل على تملك من شهد بالحق لأمر الشفاعة بإذن منه سبحانه وتملّكه هذا يكشف عن تحقّق المراتب المتقدمة عليه من إذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.

اللّهم إلاّ أن يدّعي المعترض في ذلك الاستثناء ما ادّعاه في الآيات المشتملة على الإذن والارتضاء في آيات الشفاعة ويحمل مالكية من شهد بالحق للشفاعة على الإمكان دون الوقوع ، وهو كما ترى.

ونظير الآية السابقة قوله سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (3) والاستثناء ظاهر في تملّك من اتخذ عند الرحمن عهداً أمر

ص: 266


1- الأنبياء : 28.
2- الزخرف : 86.
3- مريم : 87.

الشفاعة ، وتمليكه سبحانه إيّاها لهم لا ينفك عن إذنه وارتضائه.

وإن شئت قلت : إنّ تمليك الشفاعة من جانب اللّه لفريق خاص دال بالملازمة العرفية على أنّ هذا التمليك لأجل الاستفادة منه وتنفيذه في مواضع خاصة وحمله على مجرد التمليك من دون أن يقترن بالإذن أبداً تفسير للآية بغير الوجه المعقول ، إذ أيّة فائدة لهذا التمليك الذي لا يتلوه الإذن أبداً ، فإنّ هذا أشبه شيء بتمليك الشيء للإنسان والمنع عن الاستفادة منه بوجه من الوجوه.

وما ربما يقال من أنّه سبحانه علّق الشفاعة في بعض الآيات على أمر محال ، وهو اتخاذ العهد عند الرحمن ، قال سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (1) مع أنّ بعض الآيات دالة على أنّه لم يتخذ أحد عند اللّه عهداً قال سبحانه : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً ) (2) ، وقال : ( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) (3).

ولكن الاعتراض هذا ساقط جداً ، لأنّ سياق تلك الآيات كاشف عن أنّ الهدف هو نفي اتخاذ العهد في حق جماعة خاصة.

أمّا الآية الأولى فلأنّها وردت لنفي دعوى اليهود الوارد في قولهم : ( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ ) .

وأمّا الآية الثانية ، فلأنّها واردة أيضاً في مورد خاص ، وهو الذي يحكي عنه سبحانه بقوله : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ) فردّ عليه سبحانه بقوله : ( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) .

ص: 267


1- مريم : 87.
2- البقرة : 80.
3- مريم : 78.

ومع هذا السياق البارز في الآيتين هل يصح أن يقال انّه لا عهد بين اللّه سبحانه وبين أحد من عباده مطلقاً مع أنّه يصرّح بوجود مثل هذا العهد إذ يقول : ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (2) إلى غير ذلك من الآيات.

الإشكال الخامس

ما ورد في إثبات الشفاعة من الآيات المتشابهات ، وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم ، وانّها مزية يختص اللّه بها من يشاء يوم القيامة ، عبر عنها بهذا المعنى « الشفاعة » ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه اللّه جل جلاله عن المعنى المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي (3).

الجواب

إنّ القرآن كتاب سماوي أُنزل لغرض التعليم والتربية ، والهداية والتزكية ، وقد نبّه على ذلك سبحانه في آيات كثيرة لا مجال لإيرادها هنا ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ) (4) فلو جعلنا الآيات الواردة حول الشفاعة التي تقارب ثلاثين آية من المتشابهات يلزم أن تعد أكثر الآيات الواردة في الكتاب العزيز من الآيات المتشابهة ولازم ذلك جعل الكتاب العزيز غير مفهوم للناس الذين أُنزل ذلك الكتاب لهدايتهم وتربيتهم.

ص: 268


1- البقرة : 125.
2- طه : 115.
3- تفسير المنار : 1 / 307 - 308.
4- القمر : 17.

وكون الآية محتاجة إلى التفسير لا يكون دليلاً على كونها من الآيات المتشابهة ، فإنّ كثيراً من الآيات لابتعادنا عن عصر نزولها تحتاج إلى التفسير ، وكم من آية وآيات كتبت حولها رسالة أو رسائل ، ومع ذلك لم تعد واحدة منها من الآيات المتشابهة.

إنّ المراد من الآيات المتشابهة ما أحاط بها الإبهام حول المراد منها فاشتبه المقصود الواقعي بغيره وهذا الميزان لا ينطبق إلاّ على قليل من الآيات.

ثم إنّ كون الآية من الآيات المتشابهة لا يستلزم ترك البحث فيها وعدم الاستفادة منها ، بل الآيات المتشابهة تفسر بالآيات المحكمة بحكم أنّها أُمّ الكتاب وأصل للمتشابهات قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (1) فإنّ قوله سبحانه في شأن الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب يعرب عن كونها هي الأصل وإنّ المتشابهة هي الفرع ، ورد المتشابه إلى المحكم كرد الفرع إلى الأصل.

وقد عرفت في صدر البحث مجموع الآيات الواردة حول الشفاعة وانّه ليست هناك آية أحاط بها الإبهام وامتنعت على الفهم ، وعلى فرض وجودها لم توجد آية لا يمكن رفع إبهامها بأُختها ، أو بالأحاديث الواردة حولها (2).

ص: 269


1- آل عمران : 7.
2- ما ذكره « من أنّ مذهب السلف في المتشابهات يقضي بالتفويض والتسليم » مبني على ما اختاره في تفسير الآيات المتشابهة من أنّها عبارة عن المفاهيم الواردة في القرآن ، التي لا يمكن أن يقف على حقيقتها إلاّ اللّه سبحانه كحقيقة ذاته وصفاته وأفعاله من الجنّة ونعيمها والجحيم ونارها إلى غير ذلك. غير ان تفسير الآيات المتشابهة بهذا المعنى مردود أساساً، وقد أوضحنا الكلام في حقيقة الآيات المتشابهة في محلها وقلنا: إنّها ليست إلا عبارة عن الآيات التي يشتبه فيها المراد بغير المراد والحق بالباطل ويزاح الستر عن وجه الحق، بالآيات المحكمة، ولأجل ذلك يصف القرآن الكريم، الآيات المحكمة بأنها «أم الكتاب» وأسسه.

وأغلب الظن انّ الباعث على وصف هذه الآيات الواضحة الدلالة والمراد بكونها من المتشابه هو تأثر الأستاذ صاحب المنار وتلميذه بالموجة الوهابية ، فهو الأمر الذي دفعهما إلى حمل هذه الآيات محمل المتشابه ، والإعراض عن الأخذ بمدلولاتها الظاهرة الصريحة.

ولعل جعل صاحب المنار آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ورميها بهذا الوصف لأجل الإشكال الذي سوف نذكره ، وهو تخيل انّ الشفاعة التي جاء بها القرآن نوع من الوساطة المتعارفة في الحياة المادية بين الناس ، وسنطرح هذا الإشكال ودفعه من الأساس.

الإشكال السادس

ربّما يتخيل بأنّ الشفاعة نوع من الوساطة المتعارفة بين الناس ، ويجب تنزيه المقام الإلهي من هذا النوع من الوساطة ، وتوضيحه : انّ الخارج على القانون في الحياة الاجتماعية إذا حكم عليه بضرب من العقوبة المالية أو البدنية يبعث من له مكانة عند الحاكم حتى يقوم بالوساطة عنده ويبعثه على العفو والإغماض عن معاقبته ، فتصبح النتيجة أن يجري القانون على من يفقد مثل هذه الوساطة ولا يجري على من يجدها ، وهذا من الظلم الفظيع السائد في الأنظمة البشرية ، ويجب تنزيه الشريعة الإسلامية المقدسة عن قبول هذا النوع من الوساطة.

الجواب

إنّ الأساس لهذا الإشكال هو قياس الشفاعة الواردة في الكتاب العزيز على الشفاعة الدارجة في الحياة الاجتماعية للبشر.

ولو كان معنى الشفاعة هذا فقد رفضه القرآن أشد الرفض ، إذ هذا النوع

ص: 270

من الشفاعة كان من معتقدات عرب الجاهلية حيث كانوا يعبدون الأصنام لهذه الغاية ، قال سبحانه واصفاً حالهم : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (1) فالعربي الجاهلي كان يتخيل انّ مكانة الآلهة الباطلة تكون سبباً لصرف إرادته سبحانه عن معاقبة المجرمين والعصاة ، أو تكون سبباً لجلب عنايته بهم ، فردّ اللّه سبحانه على تلك المزعمة بقوله : ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2).

وقال في آية أُخرى واصفاً حالهم أيضاً : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (3) ثم رد عليهم بقوله : ( إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (4).

وعلى ذلك فالشفاعة بهذا المعنى وهو غلبة إرادة الشفيع على إرادة المشفوع عنده ، بصرف إرادته عن عقوبتهم أو جلب إرادته لرفع منزلتهم مرفوضة في منطق القرآن ، فانّه سبحانه هو الحق المطلق لا يؤثر فيه شيء ولا يتأثر عن شيء ولا يجعل القانون لعبة الشفيع حتى يجري في حق بعض دون بعض ، وانّما الشفاعة التي دعا إليها القرآن شيء آخر ، وهو إيصال الفيض الإلهي ، أعني : المغفرة والعفو الى عباده المستحقين عن طريق أوليائه وأصفيائه ، وذلك لأنّ مشيئته الحكيمة جرت على إيجاد المسبّبات عن طريق أسبابها ، وإحداث الأشياء عن طرقها ، فكما أنّ لكل ظاهرة مادية سبباً مادياً توجد بهذا السبب وتصل إلى الناس عن هذا الطريق ، فهكذا الفيوض الإلهية تصل إلى عباد اللّه عن الطرق الخاصة المعينة ، وهذا كهداية

ص: 271


1- يونس : 18.
2- يونس : 18.
3- الزمر : 3.
4- الزمر : 3.

الناس عن طريق الأنبياء والرسل ، فالهادي هو اللّه سبحانه لكن عن طريق أنبيائه ورسله ، وقضت مشيئته الحكيمة بهذا ، قال سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (1) ترى أنّه سبحانه يجري فعله أي الحكم بالحق عن طريق بعث النبيين كيف والقرآن المجيد يصدق هذا النظام السائد في الأمور المعنوية والمادية قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (2).

فإنّ المراد من الوسيلة ما يتوسل به إلى الشيء والآية تدعو إلى الإتيان بالقربات والقيام بالوظائف التي يتوسل بها الإنسان إلى مرضاته ورضوانه.

وإذا كانت هذه الآية تدعو إلى ابتغاء الوسيلة بشكل عام من دون أن تعيّن شخص الوسيلة ، فقد قامت الآيات الأخر بتعيين الوسائل التي تتحصّل معها مغفرته ورضوانه ، ويكتسب بها عفوه وغفرانه ، قال سبحانه : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (3) ترى أنّه سبحانه يأمر نبيه بأن يصلّي عليهم حتى تنزل عليهم السكينة التي هي فعله سبحانه ولطفه ، فالسكينة تصل إليهم عن طريق سببه وهو دعاء النبي ، وقال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّابًا رَحِيماً ) (4) ترى أنّ الآية تدعو المجرمين والعصاة إلى ابتغاء الوسيلة للوصول إلى غفرانه وهو دعاء النبي واستغفاره في حقهم ، وليست هذه سنّة مخصوصة بالأمّة الإسلامية ، بل جرت عليها مشيئته في الأمم السابقة حيث نرى أنّ أبناء يعقوب عندما شعروا بالإثم

ص: 272


1- البقرة : 213.
2- المائدة : 35.
3- التوبة : 103.
4- النساء : 14.

راحوا يطلبون من أبيهم استغفاره في حقّهم فلمّا سمع هو دعوتهم ، وعدهم بالانجاز قال سبحانه : ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1).

وهذه الآيات ونظائرها ترشد الباحث على أنّ للأمور المعنوية وتحقّقها نظاماً على غرار النظام السائد في الأمور المادية. ولأجل ذلك لا يصح للقارئ الكريم أن يتعجب من وصول فيضه ومغفرته سبحانه يوم القيامة إلى عباده المستحقين لها عن طريق الشفعاء ، وأوليائه المخلصين.

أضف إلى ذلك أنّ في استجابة دعوة الأولياء ( الذين لا يدعون ولا يطلبون شيئاً مخالفاً للعدالة الإلهية ، ومشيئته الحكيمة ) نوع تكريم وتبجيل لهم ولمقامهم ، ونوع إشادة بهم ، وإظهار لفضلهم.

نعم هؤلاء الكرام البررة لا يطلبون فيضه وغفرانه إلاّ لمن استحقها ، وهو من لم يقطع صلته الإيمانية باللّه وعلاقته الروحية مع أوليائه ، وشفعائه. وإذا أردت أن تقف على الفرق الكبير والواضح بين الشفاعتين ( الشفاعة السائدة في الجماعات المادية والشفاعة القرآنية ) فاستمع لما نتلوه عليك من الفروق الموجودة في الشفاعتين :

الفروق الموجودة في الشفاعتين

أوّلاً : أنّ زمام الشفاعة التي نطق بها القرآن بيد اللّه سبحانه ، فهو الذي يبعث الشفيع - لما فيه من الكمال والمعنوية - حتى يشفع في حق المجرم الذي له صلاحية المغفرة ، فتصبح النتيجة أنّ رحمته الواسعة ومغفرته العميمة تصل من طريق الشفيع إلى عباده ، فعلى ذلك فالأمور كلها بيده ، وناشئة منه ، وراجعة إليه ،

ص: 273


1- يوسف : 97 - 98.

وهذا على خلاف النظام السائد في الوساطات المادية المتعارفة إذ المجرم فيها هو الذي يبعث الشفيع ليشفع عند الحاكم بحيث لولاه لما تقدم الشفيع بالشفاعة والوساطة عند الحاكم ، فالأمر هنا يبدأ من المجرم ويصل إلى الشفيع وينتهي إلى الحاكم على عكس النظام السائد في الشفاعة الأخروية.

فلو انّ القرآن يحث المسلمين على الحضور عند النبي ومطالبته بأن يستغفر لهم فليس ذلك إلاّ بأمر منه سبحانه وحث منه على هذا الطلب ، فلولا أمره وحثّه سبحانه لما قمنا بذلك ، ولو أنّا قمنا به لما كان له أثر بلا أمر منه سبحانه. وعلى ذلك فلا يصح لقائل أن يستدل بالآية على أنّ الشفاعة القرآنية على غرار الشفاعة الدنيوية حيث إنّ المجرم يطلب من النبي ، وينتهي الأمر إلى اللّه سبحانه ، فإنّ القائل ذهل عن أنّ كل هذه الأمور تتحقق بأمره وإذنه ، وإرشاده وطلبه بحيث لولاه لما كان هناك بعث ، وعلى فرض البعث لما كانت أيّة فائدة.

ثانياً : أنّ الشفيع في الشفاعة الصحيحة يتأثر بالمقام الربوبي ويخضع له حيث يأمره المولى الحكيم بالشفاعة والدعاء في حق المجرمين المستحقين له ولكن الأمر في الشفاعة الدنيوية على العكس إذ الحاكم يتأثر ، هناك بشفاعة الشفيع كما انّه نفسه يتأثر من تقدم الشفيع إليه وتكلّمه معه.

ثالثاً : أنّ ماهية الشفاعة الدنيوية وواقعيتها ليست إلاّ نوع تفرقة في تطبيق القانون حيث إنّ نفوذ الشفيع ومكانته عند الحاكم ، يوجبان مغلوبية إرادته وغالبية إرادة الشفيع ، فتصبح النتيجة أن يجري القانون في حق الضعيف الذي لا يجد شفيعاً دون القوي الذي يجد شفيعاً ، وهذا بخلاف الشفاعة الصحيحة فإنّها لا تحمل إرادة الشفيع على مشيئة اللّه ولا تخضع سنته الحكيمة لإرادة أحد وطلبه ، ولا يوجب التفرقة في التطبيق بل غاية الشفاعة هو جريان مغفرته وفيضه عن طريق أوليائه إلى عباده ، فلو حرم البعض من الشفاعة ، فليس ذلك لأجل نفاد

ص: 274

رحمته ، بل لأجل عدم لياقته لها ، فلو أنّ اللّه سبحانه يقول في حق المشرك : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ) (1) فليس ذلك إلاّ لأنّ قلب المشرك كالوعاء المسدود لا يتسرب إليه شيء حتى لو غمس في سبعة أبحر لما تسرب إليه الماء ، أو هو كالأرض المالحة التي لا ينبت فيها شيء ولو أنّ القرآن يصر على أنّ الشفاعة لا تتحقق إلاّ بإذنه سبحانه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، فليس ذلك إلاّ لأجل أنّ المرضي هو اللائق دون غيره ، فلو حرم المشرك من شفاعة الأنبياء أو حرم بعض العصاة منها فليس ذلك إلاّ لعدم لياقتهم لهذا الفيض.

الإشكال السابع

إنّ المراد من الشفاعة هو الشفاعة القيادية وانّ الأنبياء والأولياء يوصلون عباد اللّه إلى الفوز والسعادة عن طريق الوحي وتبليغ الرسالة ، فإطلاق الشفاعة على هذا الأمر لأجل أنّ انضمامهم إلى الوحي الإلهي يمهد الطريق إلى السعادة والنجاة. وهذا الإشكال مما أثاره المفسر المعاصر الشيخ الطنطاوي في تفسيره وقام بتفسير الشفاعة بذلك ، وإليك نص كلامه : « وفي الحديث يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ، فهذا يفيد أنّ الشفاعة تابعة للاقتداء ، فالأنبياء علّموا العلماء ، والعلماء علّموا الناس ، وأفضل الناس بعد الأنبياء ، العلماء ، فالشهداء ، فمن لم يعمل بما أنزل اللّه وتجافى عن الحق فقد عطل ما وهب له من بذر الشفاعة ولم يسقه ولم يربه ولم ينمه بالعمل ، فيحرم ثمرته مع أنّه ساوى جميع المسلمين في حصول البذر عنده وخالفهم في قعوده عن استثماره » (2).

ص: 275


1- النساء : 48 و 116.
2- الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 1 / 65 ، وقد مضى بعض عباراته عند نقل كلمات العلماء.

الجواب

نحن في غنى عن الإجابة على هذا الإشكال لما رددنا على هذا في الأبحاث السابقة حيث قد أشبعنا الكلام عند البحث عن التفسيرات الثلاثة للشفاعة ، ونظير هذا الإشكال ما ربما تفسر الشفاعة بالعمل بالواجبات والتجنب عن المحرمات فتفسر آيات الشفاعة بهذه الشفاعة العملية.

ونزيد بياناً هنا على ضعف هذا الإشكال انّه لو كان المراد هو المغفرة في ضوء الطاعة العملية فلماذا وعد اللّه سبحانه في الآية التالية بأنّه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك ؟ قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (1) فلو كان المراد هو المغفرة في ضوء الإيمان والعمل لما صح استثناء الشرك في الآية الكريمة ، لأنّ الشرك يغفر في هذا الإطار أيضاً ، وبذلك يعلم أنّ لله سبحانه مغفرة ورحمة خارجة عن إطار العمل وانّ رحمته الواسعة كما تصل إليهم من طريق العمل بالأحكام ، تصل إليهم عن طريق آخر وهو كون العبد قابلاً للمغفرة والرحمة حافظاً لعلاقاته مع اللّه ومع الشفعاء وان كان قاصراً في العمل.

الإشكال الثامن

إنّ الاعتقاد بشفاعة الشفعاء يستلزم أن يكون الشفيع أشد رأفة بالعباد من اللّه سبحانه ، لأنّ المفروض أنّه لولا دعاء الشفيع وشفاعته لا ترفع العقوبة من المجرم والعاصي.

وإن شئت قرر هذا الإشكال بوجه آخر : انّ الاعتقاد بوصول مغفرته سبحانه

ص: 276


1- النساء : 48.

عن طريق الشفعاء يستلزم محدودية فيضه ورحمته بحيث يكون دعاء الشفيع وسيلة لتوسعتها وانبساطها.

الجواب

إنّ الإشكال بكلا التقريرين ساقط من الأساس ، فإنّ الإشكال مبني على تفسير الشفاعة بالواسطة المتعارفة في الحياة البشرية ، وأمّا على ما ذكرنا من معنى الشفاعة في القرآن من أنّه عبارة عن وصول رحمته وغفرانه إلى عباده من طريق أوليائه فلا وجه له لما قررنا من الفوارق الثلاثة بين الشفاعة القرآنية والشفاعة بمعنى الوساطة العرفية ، وقلنا : إنّ واقع الشفاعة القرآنية هو انّه سبحانه يبعث الشفيع على الدعاء والشفاعة وهو الذي يأذن له ويرتضي من يشاء من عباده وليس للشفيع هنا أيّ دخالة ، أفبعد ذلك يصح للقائل أن يقول إنّ معنى الشفاعة هو كون الشفيع أشد رأفة بالعباد من اللّه سبحانه ؟!

وأمّا التقرير الثاني فهو غفلة عمّا جرت عليه مشيئته سبحانه ، فإنّه جرت السنة الإلهية على إيصال المسببات عن طريق أسبابها ، فقد جعل لكل شيء سبباً من دون أن يقوم هو سبحانه بنفسه مكان الأسباب والعلل ، ولو صح ما زعمه المستشكل لزم أن يكون الاعتقاد بتأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها تحديداً لقدرته ورحمته إذ لولا هذه الأسباب ، لما وصلت فيوضاته المادية إلى الإنسان.

الإشكال التاسع

انّ الاعتقاد بالشفاعة وتأثير دعاء الشفيع وطلبه في رفع العقوبة ، أو في ارتفاع الدرجة ، يتناقض مع الأصل الذي أسّسه القرآن الكريم حيث جعل مصير كل أحد قيد عمله ورهن سعيه ، قال سبحانه : ( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا

ص: 277

سَعَى ) (1) ، وقال سبحانه : ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) (2) وقال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) (3) ، فهذه الآيات تجعل الجزاء قيد العمل والسعي وانّه هو نتيجة ذلك ، فكيف يجتمع هذا مع الشفاعة التي ليست لها واقعية كواقعية السعي والعمل بل هو موجب لفوز الإنسان ونجاته بسبب دعاء الغير ووجاهته ومكانته من دون سعي صادر من المشفوع له.

الجواب

إنّ الجواب على هذا الإشكال يكون بوجهين :

الأوّل : بالنقض ، فإنّ القرآن يصرّح بأنّ دعاء الغير سبب لمغفرة الذنوب ، قال سبحانه في حق حملة العرش : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (4) وقال سبحانه : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ) (5) فلو كان ما ذكره المستشكل صحيحاً فكيف يكون دعاء حملة العرش موجباً للمغفرة ؟! ومثله الآية الثانية فبملاحظة هاتين الآيتين وما ورد من الحث والتأكيد على دعاء المؤمن في الفرائض والنوافل ، وفي الجلوات والخلوات ، يتضح أنّ لآيات السعي مفاداً غير ما استنبطه المستدل منها ، وسوف يوافيك هذا المعنى في الجواب التالي.

ص: 278


1- النجم : 39.
2- يونس : 52.
3- آل عمران : 30.
4- غافر : 7.
5- الحشر : 10.

الثاني : بالحل ، فإنّ الشفاعة في الحقيقة فرع للسعي الذي قام به المشفوع له وتعد من آثاره وتوابعه إذ لولا عمله وسعيه وجده واجتهاده في الإيمان باللّه سبحانه وإقامة الفرائض والاجتناب عن المحرمات في الجملة ، لما نالته شفاعة الأولياء ، فالسعي الذي قام به طيلة حياته على وجه حفظ به علاقاته مع اللّه سبحانه ومع أوليائه ، هو المصحح للشفاعة والموجب لمغفرته بدعاء الشفيع.

ولأجل ذلك حثّت الأحاديث على تحديد شفاعة الأولياء وانّه لا تنال عدة من العصاة ، كتارك الصلاة وعاق الوالدين وغير ذلك.

الإشكال العاشر

إنّ طلب الشفاعة من الأولياء والأنبياء شرك باللّه سبحانه ، أو أمر محرم.

الجواب

قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة وحدودها وشرائطها وبقي هنا بحث ، وهو انّه هل يجوز طلب الشفاعة من الشفعاء الحقيقيين أو لا ؟ ذهب ابن تيمية وخريج مدرسته محمد بن عبد الوهاب إلى أنّه لا يجوز طلبها من غيره سبحانه ، لأنّ طلبها من غيره عبادة له ، أو لا أقل من أنّه أمر محرم ، واختار جمهرة المسلمين جوازه من غير فرق بين أن يكون الشفيع حياً أو ميتاً.

وهذا الإشكال وان لم يكن مربوطاً بأصل الشفاعة لكنه يمت إليها بنحو من الارتباط ، فأردنا أن نبحث عنه في عداد الإشكالات فنقول : اتفق المسلمون على أصل الشفاعة وانّ هناك عباداً مخلصين وأصفياء كراماً يشفعون يوم القيامة بل يشفعون في هذه الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ، إلاّ من شذ وندر ممن فسر الشفاعة بغير معناها الصحيح ، إلاّ انّ الكلام في أنّه هل

ص: 279

يجوز طلب الشفاعة من المأذون له من الأنبياء والأولياء بعد الاتفاق على تحريم ذلك الطلب من غير المأذون ، أو لا يجوز ؟

قال ابن تيمية ومن لف لفه من أنّه لا يجوز للمؤمن إلاّ أن يقول : اللّهم شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة ، أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم ، فلا يقال : يا رسول اللّه أو يا ولي اللّه أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه ، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك (1).

ولأجل هذا يجب الغور في هذه المسألة حتى يتضح الحق لمبتغيه بأجلى مظاهره.

ما يدل على جواز طلب الشفاعة

يمكن الاستدلال على جواز هذا الطلب بوجوه كثيرة نشير إلى بعضها :

الأوّل : انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي والولي في حق المذنب ، وإذا كانت هذه حقيقته في جميع المواقف أو في بعضها فلا مانع من طلبها من الصالحين ، لأنّ غاية هذا الطلب هو طلب الدعاء ، فلو قال القائل : « يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه » يكون معناه : ادع لنا عند ربك ، فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم ؟

ولست أراك تشك في أنّ طلب الدعاء هو نفس الاستشفاع ، وانّ حقيقة الشفاعة هي الدعاء ، ولأجل ذلك نرى انّ العلاّمة نظام الدين النيسابوري ، صاحب التفسير الكبير ينقل في تفسير قوله سبحانه : ( مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً

ص: 280


1- الهدية السنية : 42.

يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) (1) عن مقاتل قوله : الشفاعة إلى اللّه انّما هي دعوة المسلم (2).

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (3) انّ هذه الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين ، والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تذكر إلاّ في إسقاط العقاب ، أمّا طلب النفع الزائد فانّه لا يسمّى استغفاراً ، وقال : قوله تعالى : ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الإيمان ، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة (4).

وهذه الجمل تفيد أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين والتائبين من أقسام الشفاعة ، وفسر قوله : ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ) بالشفاعة وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن ، شفاعة في حقه ، وطلبه منه طلب الشفاعة منه ، ويوضح ذلك ويؤيده ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي : « ما من ميت يصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلاّ شفّعوا فيه » (5).

وفسّر الشارح قوله صلی اللّه علیه و آله : « يشفعون له » بقوله : أي يدعون له ، كما فسر قوله صلی اللّه علیه و آله : « إلاّ شفّعوا فيه » بقوله : أي قبلت شفاعتهم.

ص: 281


1- النساء : 85.
2- تفسير النيسابوري : 1 والمطبوع في إيران غير مرقم.
3- غافر : 7.
4- مفاتيح الغيب : 7 / 285 - 286 ، طبعة مصر في ثمانية أجزاء.
5- صحيح مسلم : 3 / 53 ، طبعة مصر ، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.

وروي أيضاً عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلاّ شفّعهم اللّه فيه » (1) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

وعلى ذلك فلا وجه لمنع الاستشفاع من الصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء ، ولو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين ، وتصفيتهم في البرزخ ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجه إليه إلاّ الأوحدي من الناس ، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلاّ المعنى الرائج.

الثاني : انّ الأحاديث الإسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب ، ووجوده في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقد روى الترمذي في صحيحه عن أنس قوله : سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال : « أنا فاعل » ، قال : قلت : يا رسول اللّه فأين أطلبك ؟ فقال : « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط » (2).

فإنّ السائل يطلب بصفاء ذهنه ، وسلامة فطرته من النبي الأعظم ، الشفاعة من دون أن يخطر بباله أنّ في هذا الطلب نوع عبادة للنبي صلی اللّه علیه و آله كما زعمه الوهابيون.

وهذا سواد بن قارب ، أحد أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله يقول مخاطباً إياه :

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (3)

وروى أصحاب السير والتاريخ ، انّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنه سيولد في أرض مكة نبي الإسلام الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، ولمّا خاف أن لا يدركه ، كتب رسالة وسلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبي صلی اللّه علیه و آله حينما يبعث ، وممّا جاء في تلك

ص: 282


1- نفس المصدر.
2- صحيح الترمذي : 4 / 621 ، كتاب صفة القيامة ، الباب 9.
3- نقله « زيني دحلان » عن الطبراني في الكبير كما في التوصل إلى حقيقة التوسل : 298.

الرسالة قوله : « وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني » (1). ولما وصلت الرسالة إلى يد النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « مرحباً بتبّع الأخ الصالح » فإنّ توصيف طالب الشفاعة من النبي صلی اللّه علیه و آله بالأخ الصالح ، أوضح دليل على أنّه أمر لا يصادم أُصول التوحيد.

وروي أنّ أعرابياً قال للنبي صلی اللّه علیه و آله : جهدت الأنفس ، وجاع العيال ، وهلك المال ، فادع اللّه لنا ، فإنّا نستشفع باللّه عليك ، وبك على اللّه ، فسبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال : « ويحك أنّ اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه ، شأن اللّه أعظم من ذلك » (2). وأنت إذا تدبرت في الرواية ترى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أقرّه على شيء وأنكر عليه شيئاً آخر ، أقرّه على قوله : إنّا نستشفع بك على اللّه ، وأنكر عليه : نستشفع باللّه عليك ، لأنّ الشافع يسأل المشفوع إليه ، والعبد يسأل ربه ، ويستشفع إليه ، والرب تعالى لا يسأل العبد ، ولا يستشفع به.

وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لما غسّل النبي صلی اللّه علیه و آله وكفّنه ، كشف عن وجهه وقال : « بأبي أنت وأُمي طبت حياً وطبت ميتاً ... اذكرنا عند ربك » (3).

وروي أنّه لما توفي النبي صلی اللّه علیه و آله أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه ، ثم أكبّ عليه فقبّله ، وقال : بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً ، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك (4).

وهذا استشفاع من النبي صلی اللّه علیه و آله في دار الدنيا بعد موته.

ص: 283


1- مناقب ابن شهر آشوب : 1 / 12 ، السيرة الحلبية : 2 / 88.
2- كشف الارتياب : 264 ، نقلاً عن زيارة القبور : 100.
3- مجالس المفيد : 103 ، المجلس الثاني عشر.
4- كشف الارتياب : 265 نقلاً عن خلاصة الكلام.

ونقل عن شرح المواهب للزرقاني انّ الداعي إذا قال : اللّهم إنّي استشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك ، استجيب له (1).

وقد روى الجمهور في أدب الزائر إنّه إذا جاء لزيارة النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : جئناك لقضاء حقّك ، والاستشفاع بك ، فليس لنا يا رسول اللّه شفيع غيرك ، فاستغفر لنا واشفع لنا (2).

كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبي صلی اللّه علیه و آله كان أمراً جائزاً ورائجاً ، وذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه ، ولا فرق بينها وبينه إلاّ في اللفظ ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء والاستشفاع على طلب الدعاء حتى أنّ صحيح البخاري عقد بابين بهذين العنوانين :

إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الشفاعة والاستشفاع على الدعاء وطلبه من الإمام في العام المجدب من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.

وعلى الجملة انّ طلب الشفاعة من النبي صلی اللّه علیه و آله داخل فيما ورد من الآيات التالية :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيمًا ) (3).

( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (4).

ص: 284


1- نفس المصدر.
2- الغدير : 5 / 124 - 127 ، وقد نقله عن جمع لا يستهان بعدتهم.
3- النساء : 64.
4- يوسف : 97 - 98.

وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (1).

فكلّما يدل على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.

وقد عقد الكاتب محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية والمدافع القوي عن الوهابية باباً تحت عنوان : « توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بدعاء أخيه المؤمن له ». واستدل بالقرآن والسنّة الصحيحة ، فإذا كان ذلك جائزاً فلم لا يجوز طلب الشفاعة من النبي وآله بعد كون الجميع مصداقاً لطلب الدعاء.

وليعلم أنّ البحث هنا مركّز على طلب الشفاعة من الأخيار ، وأمّا التوسل بذواتهم أو بمقامهم أو غير ذلك فخارج عن موضوع بحثنا ، وقد أفردنا لجواز تلك التوسلات رسالة مفردة أشبعنا الكلام فيها قرآناً وحديثاً ، وقد طبعت وانتشرت.

وإذا وقفت على ذلك فهلمّ معي إلى ما لفّقه القوم وزعموه دلائل قاطعة على حرمة طلب الشفاعة من الأولياء ، ونحن ننقلها واحداً بعد واحد على سبيل الإجمال ، وقد أتينا ببعض الكلام في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة (2).

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة

استدل القائلون بحرمة طلب الشفاعة بوجوه :

1. انّ طلب الشفاعة من الشفعاء عبادة لهم وهي موجبة للشرك ، أي الشرك في العبادة ، فإنّك إذا قلت يا محمد اشفع لنا عند اللّه ، فقد عبدته بدعائك ،

ص: 285


1- المنافقون : 5.
2- راجع معالم التوحيد : 491 - 501.

والدعاء مخ العبادة ، فيجب عليك أن تقول : اللّهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد صلی اللّه علیه و آله .

والجواب عن هذا الاستدلال واضح كل الوضوح بعد الوقوف على ما أوردناه في الجزء الأوّل من هذه الحلقات ، حيث قلنا : إنّ حقيقة العبادة ليست مطلق الدعاء ، ولا مطلق الخضوع ، ولا مطلق طلب الحاجة ، بل هو عبارة عن الدعاء أو الخضوع أمام من يعتقد بإلوهيته وربوبيته وانّه الفاعل المختار والمتصرف بلا منازع في الأمور التي ترجع إلى اللّه سبحانه.

وإن شئت قلت : العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المسؤول وربوبيته واستقلاله في ذاته أو في فعله.

وبعبارة ثالثة : العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وعاجله وآجله.

إلى غير ذلك من التعابير التي توضح لنا مفهوم العبادة وحقيقتها.

فمن الغريب أن نفسر العبادة بمطلق الخضوع أو الخضوع النهائي وإن كان غير صادر عن الاعتقاد بإلوهية المدعو وربوبيته وإلاّ يلزم أن يكون خضوع الملائكة أمام آدم ، وخضوع الإنسان أمام والديه من الشرك الواضح.

وما ورد في الحديث من أنّ الدعاء مخ العبادة ، فليس المراد منه مطلق الدعاء ، بل المراد دعاء اللّه مخ العبادة ، وما ورد في الروايات من أنّه : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه ، وان كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه (1). فليس المراد من العبادة هنا : العبادة المصطلحة ، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

ص: 286


1- الكافي : 6 / 434 ، الحديث 4 ، وعيون أخبار الرضا : 1 / 303 ، الحديث 63 ، الوسائل : 18 الباب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9 و 13.

وعلى ذلك فطلب الشفاعة إنّما يعد عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بإلوهيته وربوبيته وانّه مالك لمقام الشفاعة. أو مفوض إليه ، يتصرف فيها كيف يشاء ، وأما إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبد من عباد اللّه الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة ، وارتضائه للمشفوع له ، فلا يعد عبادة للمدعو ، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين ، فلا تعد عبادة بل طلباً محضاً غاية الأمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء أمراً صحيحاً عقلاً ، وإلاّ فيكون أمراً لغواً فلو تردّى الإنسان وسقط في قعر البئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجدته وإنقاذه ، يعد الطلب أمراً صحيحاً ولو طلبه من الأحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا غير مقترن بشيء من الإلوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر ، ولا الأحجار المنضودة حوله.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه حثّ على ابتغاء الوسيلة وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (1) ومن المعلوم انّ المراد من الوسيلة ليست الأسباب الدنيوية الموصلة للإنسان إلى غاياته المادية ، إذ ليس هذا أمراً خفياً على الإنسان حتى يحثّه عليه القرآن كما أنّه ليس من الأمور التي يكسل عنها الإنسان حتى يحض عليه ، بل المراد : التوسل بالأسباب الموصلة إلى الأمور المعنوية ومن المعلوم إنّ أحد الأسباب هو التوسل بدعاء الأخ المؤمن ، والولي الصالح ، وعلى ذلك فيرجع طلب الشفاعة إلى طلب الدعاء ، الذي اتفق المسلمون قاطبة على جوازه.

وإن شئت قلت إنّه سبحانه يقول : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (2).

ص: 287


1- المائدة : 35.
2- الزخرف : 86.

ومن الواضح إنّ جملة ( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) تدل على أنّ الطائفة الموحدة لله تملك الشفاعة بإذنه سبحانه ، وعندئذ فلماذا لا يصح طلبها ممن يملك الشفاعة بإذنه ؟ غاية الأمر إنّ الطالب لو كان في عداد من ارتضاه سبحانه نفعه الاستشفاع وإلاّ فلا ، ومن العجب قول محمد بن عبد الوهاب : « إنّ اللّه أعطى النبي الشفاعة ونهاك عن هذا وقال : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) وأيضاً الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت : اللّه أعطاهم الشفاعة ، وأطلبها منهم ، رجعت [ عندئذ ] إلى عبادة الصالحين ، التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه » (1) إذ هذه الكلمة من العجائب فإنّه إذا أعطاه اللّه سبحانه الشفاعة فكيف يمنع طلبها منه ؟! وهذا بمنزلة من ملّك أحداً شيئاً ليستفيد منه الآخرون ولكن منع الآخرين عن طلبه منه ، فهذا لو كان صحيحاً عقلاً فهو غير متعارف عرفاً.

أضف إليه انّه في أي آية وأي حديث منع طلب الشفاعة عنهم. وتصور انّ طلبها عبادة قد عرفت الإجابة عنها ، وانّ العبادة عبارة عن الطلب اللفظي أو الخضوع العملي عمن يعتقد بنحو من الأنحاء بإلوهيته وربوبيته ، وذلك الاعتقاد لا ينفك عن الاعتقاد في استقلال المطلوب منه ذاتاً وفعلاً ، وكونه متصرفاً في الأمور الإلهية تصرفاً بلا منازع ، وليس هذا الاعتقاد موجوداً في الاستشفاعات المتعارفة بين المسلمين.

2. انّ طلب الشفاعة يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة وقد حكى القرآن ذلك العمل منهم ، قال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (2) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

ص: 288


1- كشف الشبهات : 6 / 9.
2- يونس : 18.

والجواب عن هذا بيّن أيضاً ، فانّك إذا أمعنت النظر في مفاد الآية لا تجد فيها أيّة دلالة على أنّ شركهم كان لأجل الاستشفاع بالأصنام وكان هذا هو المحقق لشركهم وجعلهم في عداد المشركين ، وإليك توضيح ذلك فنقول :

إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين : ( العبادة ) ويدل عليه ( وَيَعْبُدُونَ ... ) و ( طلب الشفاعة ) ويدل عليه : ( وَيَقُولُونَ ... ) وكان علة اتصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني ، ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة ، لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى ، أعني قوله : ( وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا ) بعد قوله : ( وَيَعْبُدُونَ ... ) إذ لا فائدة لهذا التكرار ، وتوهم انّ الجملة الثانية توضيح للأولى خلاف الظاهر ، فإنّ عطف الجملة الثانية على الأولى يدل على المغايرة بينهما إذ لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

نعم ثبت بأدلّة أُخرى ( لا من الآية ) بأنّ طلب الاستشفاع بالأصنام يعد عبادة لهم وذلك لما قلنا من أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهيتها وربوبيتها واستقلالها في الأفعال (1).

3. طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام ، فإنّ ذلك دعاء لغير اللّه وهو حرام قال سبحانه : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (2) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها عن اللّه سبحانه خاصة ، ويوضح ذلك قوله سبحانه : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (3) ، فقد عبر عن

ص: 289


1- وان أردت المزيد من التوضيح ، فلاحظ الجزء الأوّل من هذه الحلقات : معالم التوحيد في القرآن : 493 - 501.
2- الجن : 18.
3- غافر : 60.

العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها ، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى ، وقد مر قوله صلی اللّه علیه و آله : « الدعاء مخ العبادة ».

والجواب بوجوه : أوّلاً : أنّ المراد من الدعاء في قوله تعالى : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) ليس مطلق دعوة الغير بل الدعوة الخاصة المحدودة المرادفة للعبادة ، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ ) .

وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد بكون المدعو ذا اختيار تام في التصرف في الكون وفي شأن من شؤونه سبحانه.

فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة يعد عبادة للمشفوع إليه. وإلاّ فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونها عبادة.

وثانياً : أنّ المنهي عنه هو دعوة الغير بجعله في رتبته سبحانه كما يفصح عنه قوله : ( مَعَ اللّهِ ) وعلى ذلك فالمنهي هو دعوة الغير ، وجعله مع اللّه ، لا ما إذا دعا الغير معتقداً بأنّه عبد من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً إلاّ بما يملكه من اللّه سبحانه ويتفضّل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته ، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى اللّه سبحانه ، وبذلك يظهر أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الأصنام كان شركاً في العبادة ، فلأجل انّ المدعو عند الداعي كان إلهاً أو رباً مستقلاً في شأن من شؤون وجوده أو فعله قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) (1) وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ

ص: 290


1- الأعراف : 197.

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (1). ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله : ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) وقوله : ( عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) مذكّر بأنّ عقيدتهم في حق هؤلاء عقيدة كاذبة وباطلة ، فإنّ الأصنام لا تستطيع نصر أحد ، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا من جانب النقيض من تلك العقيدة ، وكانوا يعتقدون بتملّك الأصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.

وثالثاً : أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة في ذيلهما لا يدل على ما يرتئيه المستدل ، فإنّ المراد من الدعاء فيهما قسم خاص منه ، وهو الدعاء المقترن باعتقاد الإلوهية في المدعو والربوبية في المطلوب منه كما عرفت.

4. الشفاعة حق مختص باللّه سبحانه لا يملكه غيره وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح ، قال سبحانه : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (2).

والجواب : انّ المراد من قوله سبحانه : ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) ليس انّه سبحانه هو الشفيع دون غيره ، إذ من الواضح انّه سبحانه لا يشفع عند غيره ، بل المراد انّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وانّه لا يشفع أحد في حق أحد إلاّ بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال ولغيره بالاكتساب والإجازة ، قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (3) فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه. وعلى ذلك

ص: 291


1- الأعراف : 194.
2- الزمر : 43 - 44.
3- الزخرف : 86.

فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة ، وأُجيزوا في أمرها في حق من ارتضاهم لها.

هذا وكما أنّ الشفاعة التشريعية مختصة باللّه سبحانه وانّه المالك لها بالأصالة وانّما يملكها الغير بإذن منه ، هكذا الشفاعة في عالم التكوين وعالم العلل والمعاليل والأسباب والمسببات ، قال سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (1) والمراد من الشفيع في الآية هو الشفيع في عالم التكوين بقرينة انّ البحث يدور حول خلق السماوات والأرض ثم الاستواء على العرش ويعود معنى الآية إلى أنّ الأسباب والمسببات الخارجية إذا كان بعضها شفيعاً لبعض في تتميم الأثر ( كالسحاب والمطر والشمس والقمر وغيرها شفعاء للنبات ) فموجد الأسباب وأجزائها هو الشفيع بالحقيقة التي يتم نقصها ويقيم صلبها فانّه سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره (2).

وإن شئت قلت : إنّ الآية بصدد نقد عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام والأوثان تملك الشفاعة ، فأراد سبحانه أن يوقظ شعورهم بأنّ مالكية الأصنام لها فرع كونها ذا عقل وشعور حتى يمكن أن تستفيد من هذا الحق في شأن الشفعاء ، وتلك الآلهة لا تعقل ولا تشعر شيئاً ، كما يدل عليه قوله سبحانه : ( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) .

5. طلب الشفاعة من الميت أمر باطل ، ولعل هذا آخر سهم في كنانتهم فجعلوا طلب الشفاعة من أوليائه الصالحين أمراً لغواً ، لأنّهم أموات غير أحياء لا يسمعون ولا يعقلون.

ص: 292


1- السجدة : 4.
2- الميزان : 16 / 258.

والاستدلال باطل من وجوه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ البراهين الفلسفية قد أثبتت تجرد النفس الإنسانية وبقاءها بعد مفارقة الروح البدن ، وقد أثبت الفلاسفة ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه الصفحات ، وقد جئنا ببعضها في ما حرّرناه حول الروح في رسالة خاصة ، ولعلّنا نقوم ببيانها عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

وثانياً : أنّ الآيات صريحة في أنّ المقتولين في سبيل اللّه أحياء يرزقون قال سبحانه : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) وهل يجد الوهابي مبرراً لتأويل الآية مع هذه الصراحة التي لا تتصور فوقها صراحة حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربّهم وما يحل بهم من الأفراح وما يقدمون عليه من الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم ، وما يتفوّهون به في حقهم بقولهم كما يحكيه سبحانه : ( أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل اللّه تعالى ، فهل يكون هذا الطلب لغواً ؟!

وثالثاً : أنّ القرآن يعد النبي شهيداً على الأمم جمعاء ، ويقول سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ) (2) فالآية تصرّح بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم ، فإذا كان النبي صلی اللّه علیه و آله شاهداً على الأمم جمعاء أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون

ص: 293


1- آل عمران : 169 - 170.
2- النساء : 41.

الحياة ، أو بدون الاطّلاع على ما تجري بينهم من الأمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان ؟!

ولا يصح لك أن تفسر شهادة النبي بشهادته على معاصريه ومن زامنوه ، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشراً ونذيراً ، وهل يتصوّر أحد أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصره النبي ؟! كلا لا ، فإذن لا وجه لتخصيص كونه شاهداً بالأمّة المعاصرة للنبي.

فعند ذلك يكون طلب الشفاعة من النبي الأكرم الذي هو حي بنص القرآن أمراً صحيحاً معقولاً ، وأنت إذا لاحظت الآيات القرآنية تقف على أنّها تصرح بامتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته ، يقول سبحانه في حق الكافرين : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (1). فهذه الآية تصرح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ ، وانّ هذا وعاء للإنسان يعذّب فيها من يعذّب وينعّم فيها من ينعّم ، أما التنعّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حق الشهداء ، وأمّا العقوبة فيقول سبحانه : ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ) (2).

وهناك آيات أُخر تدل على امتداد الحياة إلى ما بعد الموت نرجئ نقلها إلى مكانها الخاص بل هناك آيات تدل بصراحة على ارتباطهم بنا ، وارتباط بعضنا من ذوي النفوس القوية بهم.

وأمّا الأحاديث الواردة في هذا المورد فحدث عنها ولا حرج ، وقد روى المحدّثون قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ رد اللّه روحي حتى أرد عليه

ص: 294


1- المؤمنون : 99 - 100.
2- غافر : 46.

السلام » (1). كما نقلوا قوله : « إنّ لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام » (2).

وفي الختام نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة ، ويقول : ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ ) ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) و ( سَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ ) (3).

كما يأمرنا بالتسليم على نبيه والصلوات عليه ويقول بصريح القول : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4) ، فلو كان الأنبياء والأولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات ، فأي فائدة في التسليم عليهم ، وفي أمر المؤمنين بالصلوات والسلام على النبي صلی اللّه علیه و آله ؟ والمسلمون أجمع يسلمون على النبي في صلواتهم بلفظ الخطاب ، ويقولون : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، وحمل ذلك على الشعار الأجوف والتحية الجوفاء ، أمر لا يجترئ عليه من له إلمام بالقرآن والحديث.

6. انّ القرآن يصرح بوضوح انّ الموتى لا يسمعون ولا يبصرون قال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (5) فالآية تعرّف المشركين بأنّهم أموات ويشبههم بها ، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقف على وجود وجه الشبه في المشبه به بوجه أقوى وليس وجه الشبه إلاّ أنّهم لا يسمعون ، فعند ذلك تصبح النتيجة : انّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام ويدل

ص: 295


1- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى : 4 / 1349 ، نقله عن أئمّة الحديث مثل أبي داود والبيهقي قال : وقد صدر به البيهقي باب زيارة قبر النبي.
2- المصدر السابق : 1350 نقلاً عن النسائي وغيره.
3- الصافات : 79 ، 109 ، 120 ، 130 ، 181.
4- الأحزاب : 56.
5- النمل : 80.

على ذلك أيضاً قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي القُبُورِ ) (1) ، والاستدلال بالآيتين على نسق واحد.

والجواب أوّلاً : أنّ الآية تنفي السماع والإفهام عن الأموات المدفونين في القبور ، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون ، وهذا غير القول بأنّ الأرواح المفارقة عن هذه الأبدان غير قابلة للإفهام ولا للإسماع والآيتان دالتان على عدم إمكان إسماع الأموات والمدفونين في القبور ، ولا تدلان على عدم إمكان تفهيم الأرواح المفارقة عن الأبدان ، العائشة في البرزخ عند ربهم كما دلت عليه الآيات السابقة.

ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر النبي بقوله : يا محمد اشفع لنا عند اللّه ، لا يشير إلى جسده المطهر ، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها ، إلى غير ذلك من الصفات التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء.

والشاهد على ذلك انّا نرى : انّ المسلمين مع وقوفهم على هذه الآيات وتلاوتهم لها كانوا يتوجهون إلى النبي صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته حيث روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان ، في حاجة له ، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له ابن حنيف : ائت الميضاة ، فتوضأ ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين ، ثم قل : اللّهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، فانطلق الرجل فصنع ما قال ، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتى أخذ بيده ، فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك ؟ فذكر حاجته وقضى له ، ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها ، ثم إنّ الرجل خرج من

ص: 296


1- فاطر : 22.

عنده ، فلقي ابن حنيف ، فقال له : جزاك اللّه خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلّمته فيّ ، فقال ابن حنيف : واللّه ما كلّمته ، ولكن شهدت رسول اللّه ، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : « إن شئت دعوت أو تصبر » ، فقال : يا رسول اللّه ، انّه ليس لي قائد وقد شق علي ، فقال له النبي : « ائت الميضاة ، فتوضأ ، ثم صل ركعتين ، ثم ادع بهذه الدعوات » ، قال ابن حنيف : فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل ، كأنّه لم يكن به ضر (1).

وثانياً : أنّ الاستدلال بالآيتين على ما يرتئيه المستدل غفلة عمّا تهدف إليه الآيتان ، فإنّ الآيتين في مقام بيان أمر آخر ، وهو انّ المراد من الإسماع هنا هو الهداية ، وهي تتصور على قسمين : هداية مستقلة ، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه ، والآيتان بصدد بيان انّ النبي غير قادر على القسم الأوّل من الهدايتين ، بل هي من خصائصه سبحانه وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى ، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول : ( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ ) (2).

والمستدل أخذ بالجملة الوسطى ، أعني قوله : ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) وغفل أو تغافل عن الجملتين الحافّتين بها ، فإنّك إذا لاحظت قوله : ( إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ) تقف على أنّ المراد من قوله : ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) هو نفي الإسماع أو الهداية المستقلة من دون مشيئته سبحانه ، فكأنّه يقول : لست أيّها النبي بقادر على الهداية بل الهادي هو اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك

ص: 297


1- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى : 4 / 1373 ، ورواه البيهقي من طريقين.
2- فاطر : 19 - 23.

يعود فيصف النبي في الجملة الأخيرة بأنّه « ليس إلاّ نذير » لا المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.

والحاصل : انّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم ، شيء ، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والإسماع مستقلاً ومعتمداً على إرادة نفسه ، شيء آخر ، والآية بصدد الأمر الثاني لا الأوّل ، والذي يفيد المستدل هو الأوّل ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (1) وقال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (2) وقال سبحانه : ( وَاللّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (3) فهذه الآيات قرينة على أنّ الغاية التي تهدف إليها تلك الآية هو سلب استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم وان كان يقدر على ذلك بإذنه ، بقرينة قوله سبحانه : ( إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (4) ، وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (5) بل يصفه سبحانه بقوله : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (6) وبذلك تحصل انّ استدلال المستدل غفلة عن هدف الآية.

وإن شئت قلت : إنّ الظاهر من الآيات انّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (7) ، وقال تعالى : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ

ص: 298


1- البقرة : 272.
2- القصص : 56.
3- الأحزاب : 4.
4- النمل : 81 ، والروم : 53.
5- السجدة : 24.
6- الشورى : 52.
7- القصص : 56.

وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (1) وقال سبحانه : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) (2) وقال سبحانه : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (3) ، كل هذه الآيات تشهد على إصرار النبي وعلاقته بهداية أُمّته ، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات الناظرة إلى ما يطلبه النبي في أمر الأمّة ، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الأمر على وجه الاستقلال ، وعلى نحو الإطلاق ، سواء أشاء اللّه أم لم يشأ ، بل انّما تنفذ إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والأحياء ، بإسماع الموتى وهداية الأحياء.

وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل ، فإنّ المقصود من قوله : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (4) هو انّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي ، أو ميت الأحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاً ، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم ، ولأجل ذلك يقول : ( وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (5).

وقد وقفت في هذا الفصل الذي أفردناه عن الفصول السابقة على الإشكالات التي نسجتها الأوهام حول الشفاعة وعرفت ضآلتها بوجه واضح ، وفي ختام هذا الفصل نعطف نظر القارئ الكريم إلى نكتة ، وهي انّ الشفاعة وما يرجع إليها من الأبحاث من الأمور المسلّمة بين المسلمين ، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في أثر الشفاعة ، وإنّه هل هو رفع العقاب أو ترفيع الدرجة كما أنّه لو كان

ص: 299


1- يوسف : 103.
2- آل عمران : 128.
3- الشعراء : 3.
4- النمل : 80.
5- النمل : 81.

هناك خلاف آخر فإنّما هو في الإشكال العاشر ، فإنّ الوهابيين يمنعون طلب الشفاعة ممن أُعطي الشفاعة ، والناظر في أبحاثهم وكلماتهم وتحليلاتهم يقف على أنّهم أعداء الإنسان الكامل ، ولأجل ذلك يصرفون هممهم للحط من شخصيته ، ومكانته ، ويتصورون أنّ التوحيد لا يتم إلاّ بتنقيصهم ، وكأنّ التوحيد لا يتم إلاّ بحط مكانتهم أو شخصيتهم ومنازلهم المعنوية.

بقي هنا بحثان يتم بهما بحث الشفاعة :

الأوّل : الشفاعة في الأدب العربي.

الثاني : الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

ص: 300

6

الشفاعة في الأدب العربي

لم يكن شعر السلف الصالح مجرد ألفاظ مسبوكة في بوتقة النظم ، أو كلمات منضّدة على أسلاك القريض فحسب ، بل كان شعرهم حافلاً بالأبحاث الراقية من المعارف المستقاة من الكتاب والسنّة وشاملاً لدروس عالية من الفلسفة والعبر والموعظة الحسنة والأخلاق (1).

كما أنّ الشعر يؤرّخ الأحداث أصدق تاريخ ، ويخلد الوقائع أبعد تخليد ، ألست عندما تسمع أحداً ينشد قول الأنصار عند طلوع النبي في هجرته إلى المدينة :

طلع البدر علينا *** من ثنيّات الوداع

تتذكر قدوم الرسول وهجرته من دار موطنه إلى دار هجرته ، وتلك الحفاوة الجماهيرية البالغة ، وذلك الاحتفال العظيم بشكل لا يمكن أن تصوره الكلمات المبعثرة المنثورة.

على أنّ الشعر الذي يدور حول المعارف الموجودة في الكتاب والسنّة خير مرآة للمراد من الآيات والأحاديث الواردة في هذا المضمار ، فإنّ العرب كانوا بفطرتهم السليمة يفهمون ما هو المقصود من الآية والحديث ، ثم يصوغونه في

ص: 301


1- اقتباس من ما ذكره العلاّمة المحقق الأميني في غديره : 2 / 3.

شعرهم من دون أن يتأثروا في فهمه بالآراء المسبقة أو الأفكار المفروضة عليهم ، مثلاً اتفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم قام في يوم الغدير وألقى خطابه في ذلك المحتشد ، وقال في حق علي علیه السلام :

« من كنت مولاه فهذا علي مولاه » ولكن المتأخرين عن زمن الرسالة اختلفوا فيما يقصده النبي من تلك الجملة في هذا المحتشد العام ، ولكن إذا رجعنا إلى ما صاغه حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة حول هذا الموضوع وكان حاضراً في ذلك المشهد ، يتجلّى مفاد الحديث بأجلى مظاهره ، ويصير شعره مرآة اللغة ، وقرينة على المراد فإنّه قام - بعد ما ألقى النبي خطابه التاريخي - وألقى شعراً ارتجالياً في محضره وقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم واسمع بالنبيِّ مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا *** ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فإنّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

ولأجل ذلك أفردنا فصلاً لذكر الآبيات الواردة حول الشفاعة التي نظمت في العهود السابقة ، وبالتدبّر فيها يرتفع كثير من الإبهامات التي نسجتها أوهام المتأخرين حولها ، ويُعلم أنّ الشفاعة كانت أمراً مسلماً عند السلف الصالح ، وكان طلبها من أصحابها أمراً جائزاً رائجاً ، ولا نأتي في هذا الفصل إلاّ بقليل من كثير ، فإنّ الإشباع وبسط الكلام لا تتحملهما هذه الرسالة.

ص: 302

1. ونبدأ بما أنشأه عبد اللّه بن رواحة في محضر النبي ارتجالاً وقال :

انّي تفرست فيك الخير أعرفه *** واللّه يعلم ان ما خانني البصرُ

أنت النبي ومن يحرم شفاعَته *** يوم الحساب فقد أزْرَى به القدرُ

فثبَّتَ اللّه ما آتاك من حسن *** تثبيتَ مُوسى ونَصْراً كالذي نصروا (1)

2. قالت صفية بنت عبد المطلب في قصيدتها التي رثت بها النبي صلی اللّه علیه و آله :

ألا يا رسول اللّه أنت رجاؤنا *** وكنت بنا برّاً ولم تك جافياً

والمقصود من قولها : أنت رجاؤنا كون النبي صلی اللّه علیه و آله مرجو الشفاعة.

3. قال الشاعر المفلق أبو هاشم إسماعيل بن محمد الحميري الملقب بالسيد المتوفّى عام 173 ه.

إنّي امرؤٌ حميريٌّ حين تنسبني *** جدي رعين وأخوالي ذوو يزن

ثم الولاء الذي أرجو النجاة به *** يوم القيامة للهادي أبي حسن (2)

وقال :

على آل الرسول وأقربيه *** سلام كلّما سجع الحمام

أليسوا في السماء وهم نجوم *** وهم أعلام عز لا يرام

( إلى أن قال ) :

أُولئك في الجنان بهم مساغي *** وجيرتي الخوامس والسلام (3)

ص: 303


1- الاستيعاب : 3 / 900.
2- ذكره المرزباني في معجم الشعراء كما في الغدير : 2 / 210.
3- ذكره العلاّمة الأربلي في كشف الغمة كما في الغدير : 2 / 228.

وقال :

ان تسأليني بقومي تسألي رجلا *** في ذروة العز من أحياء ذي يمن

حولي بها ذو كلاع في منازلها *** وذو رعين وهمدان وذو يزن

إلى أن قال :

ثم الولاء الذي أرجو النجاة به *** من كبّة النار للهادي أبي حسن (1)

وقال :

يا أهل كوفان إنّي وامقٌ لكمُ *** مذ كنت طفلاً إلى السبعين والكبرِ

أهواكم وأُواليكم وأمد حكم *** حتماً عليّ كمحتوم من القدرِ

لحبِّكم لوصيِّ المصطفى وكفى *** بالمصطفى وبه من سائر البشرِ

هو الإمام الذي نرجو النجاة به *** من حر نار على الأعداء مستعرِ

عسى الإله ينجّيني برحمته *** ومدحي الغرر الزاكين من سقرِ (2)

4. وقال أبو محمد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي من شعراء أهل البيت الطاهرين المتقربين إليهم بولائه وشعره المقبولين عندهم لصدق نيته ، وانقطاعه إليهم :

يا سادتي يا بني علي *** يا آل طه وآل صادِ

أنتم نجوم الهدى اللواتي *** يهدي بها اللّه كلّ هادِ

إلى أن يقول :

ص: 304


1- الأغاني : 7 / 250 ، كما في الغدير : 2 / 236.
2- الأغاني : 7 / 277 ، كما في الغدير : 2 / 247.

وما تزؤدتُ غير حبّي *** إيّاكم وهو خير زادِ

وذاك ذخري الذي عليه *** في عرصة الحشر اعتمادي (1)

ومن شعره أيضاً :

وان ضامنا دهرٌ فعذنا بعزِّكم *** فيبعد عنّا الضيمَ لمّا بكم عُذنا

وإن عارضتنا خفيةٌ من ذنوبنا *** براةٌ لنا منها شفاعتكم أمنا (2)

5. وقال أبو جعفر دعبل بن علي بن رزين الخزاعي في تائيته المعروفة :

مدارسُ آياتٍ خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصاتِ

لآل رسول اللّه بالخيف من منى *** وبالركن والتعريف والجمرات

إلى أن قال :

فيا وارثي علم النبي وآله *** عليكم سلامٌ دائم النفحات

لقد آمنت نفسي بكم في حياتها *** وأنّي لأرجو الأمن بعد مماتي (3)

6. قال الشاعر بقراط بن أشوط الوامق النصراني :

يا حبَّذا دوحة في الخلد نابتة *** ما في الجنان لها شبه من الشجر

المصطفى أصلها والفرع فاطمة *** ثم اللقاح علي سيد البشر

والهاشميان سبطاها لها ثمر *** والشيعة الورق الملتف بالثمر

هذا مقال رسول اللّه جاء به *** أهل الروايات في العالي من الخبر

إنّي بحبهم أرجو النجاة غداً *** والفوز مع زمرة من أحسن الزمر (4)

ص: 305


1- الغدير : 2 / 285.
2- الغدير : 2 / 292.
3- الغدير : 2 / 322.
4- الغدير : 3 / 10.

7. قال الشاعر أبو الحسن علي بن عباس بن جريح البغدادي الشهير بابن الرومي في عينيته :

تتجافى جنوبهم *** عن وطيء المضاجع

إلى أن قال :

أعف عنا ذنوبنا *** للوجوه الخواشع

أعف عنا ذنوبنا *** للعيون الدوامع

أنت إن لم تكن لنا *** شافع غير شافع (1)

8. وقال الشاعر أبو القاسم أحمد بن محمد الشهير بالصنوبري في قصيدته :

وشافع الملك الراجي شفاعته

إذ جاءه ملك في خلق ثعبان (2)

9. قال الشاعر أبو القاسم علي بن إسحاق البغدادي الشهير بالزاهي :

أبا حسن جعلتك لي ملاذاً *** ألوذ به ويشملني الزَّماما

فكن لي شافعاً في يوم حشري *** وتجعل دار قدسك لي مقاماً (3)

10. قال الأمير أبو فراس الحارث بن أبي علا الحمداني في قصيدته :

لست أرجو النجاة من كل ما *** أخشاه إلاّ بأحمد وعلي

وببنت الرسول فاطمة الطهر *** وسبطيه والإمام علي

إلى أن قال :

ص: 306


1- الغدير : 3 / 4.
2- الغدير : 3 / 324.
3- الغدير : 3 / 346.

بهمُ ارتجي بلوغ الأماني *** يوم عرضي على الإله العلي (1)

وله أيضاً :

شافعي أحمد النبي ومولاي علي *** والبنت والسبطان (2)

11. قال الشاعر الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد :

بمحمد ووصيه وابنيهما *** وبعابد وبباقرين وكاظم

ثم الرضا ومحمد ثم ابنه *** والعسكري المتّقي والقائم

أرجو النجاة من المواقف كلها *** حتى أصير إلى نعيم دائم (3)

وقال في مقطوعة أُخرى :

شفيع إسماعيل في الآخرة *** محمد والعترة الطاهرة (4)

12. وقال الشاعر أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد الشهير بابن الحجاج البغدادي المتوفّى عام 391 ه :

يا صاحب القبة البيضاء في النجف *** من زار قبرك واستشفى لديك شُفي

إلى أن قال :

انّي أتيتك يا مولاي من بلدي *** مستمسكاً من حبال الحق بالطرف

راج بأنّك يا مولاي تشفع لي *** وتسقني من رحيق شافي اللّهف (5)

ص: 307


1- الغدير : 3 / 364 - 365.
2- الغدير : 3 / 364 - 365.
3- الغدير : 4 / 60.
4- مناقب آل أبي طالب : 2 / 165.
5- الغدير : 4 / 78.

13. وقال الشاعر أبو النجيب شداد بن إبراهيم بن حسن الملقب بالطاهر الجزري المتوفّى عام 401 ه :

حسبي عليّان ان ناب الزمان وإن *** جاء المعاد بما في القول والعمل

فلي عليُّ بن عبد اللّه منتجعُ *** ولي عليُّ أمير المؤمنين ولي (1)

14. وقال الشاعر أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي البغدادي المتوفّى عام 428 ه :

يزوّر عن حسناء زورة خائف *** تعرُّض طيف آخر الليل طائف

إلى أن قال :

هواكم هو الدنيا واعلم انّه *** يبيض يوم الحشر سود الصحائف (2)

15. وقال الشاعر أبو الغارات الملك الصالح المستشهد عام 556 ه :

محمد خاتم الرسل الذي سبقت *** به بشارة قس وابن ذي يزن

إلى أن قال :

ظل الإله ومفتاح النجاة وينبو *** ع الحياة وغيث العارض الهتن

فاجعله ذخرك في الدارين معتصماً *** به وبالمرتضى الهادي أبي الحسن (3)

16. قال الشيخ عبد اللّه الشبراوي الشافعي ( المتوفّى عام 1172 ه ) في قصيدته التي أنشأها في حق الحسين علیه السلام التي مطلعها :

ص: 308


1- الغدير : 4 / 158.
2- الغدير : 4 / 216.
3- الغدير : 4 / 311.

آل طه ومن يقل آل طه *** مستجيراً بجاهكم لا يُردُّ

حبّكم مذهبي وعقد يقيني *** ليس لي مذهبٌ سواه وعقدُ

منكم أستمدُّ بل كل من في الك *** ون من فيض فضلكم يستمد

وله قصيدة أُخرى مطلعها :

يا نديمي قم بي إلى الصهباءِ *** واسقنيها في الروضة الغنّاءِ

ويقول في آخرها :

يا ابن بنت الرسول إنّي محبٌّ *** فتعطّف واجعل قبولي جزائي

يا كرام الأنام يا آل طه *** حبّكم مذهبي وعقد ولائي

ليس لي ملجأ سواكم وذخرٌ *** أرتجيه في شدّتي ورخائي (1)

17. قال الجزري الشافعي ( المتوفّى عام 204 ه ) في طبقات القرّاء ج 2 ص 97 والدعاء عند قبره ( أي قبر الشافعي ) مستجاب ، ولمّا زرته قلت :

زرت الإمام الشافعي *** لأنّ ذلك نافعي

لأنال منه شفاعة *** أكرم به من شافع (2)

18. قال صفي الدين الحلي ( 677 - 752 ه ) في قصيدة في حق النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله مطلعها :

خمدت لفضل ولادك النيران *** وانشق من فرح بك الإيوان

ص: 309


1- الغدير : 5 / 165 - 166 نقلاً عن كتابه الإتحاف بحب الأشراف : 25.
2- الغدير : 5 / 175.

إلى أن قال في آخره :

فاشفع لعبد شأنه عصيانه *** انّ العبيد يشينه العصيان

فلك الشفاعة في محبكم إذا *** نصب الصراط وعلق الميزان

فلقد تعرض للإجازة طامعاً *** في أن يكون جزاؤه الغفران (1)

19. قال الشيخ مغامس بن داغر الحلي من شعراء القرن التاسع في قصيدة مطلعها :

حيا الإله كتيبة مرتادها *** يطوى له سهل الفلا ووهادها

إلى أن قال :

فتشفَّعوا لكبائر أسلفتها *** قلقت لها نفسي وقل رقادها

جرماً لو أنّ الراسيات حملنه *** دكت وذاب صخورها وصلادها

هيهات تمنع من شفاعة جدكم *** نفس وحب أبي تراب زادها

صلى الإله عليكم ما أرعدت *** سحب واسبل ممطراً أرعادها (2)

وله في قصيدة يمدح بها النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ويقول في آخرها :

فهل أنال مفازاً في شفاعتكم *** ممّا احتقبت له في سائر الحقب

فيا مغامس أحبس في مدائحكم *** تلك القوافي وأجر اللّه فاحتسب (3)

20. قال الشيخ الحافظ البرسي رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي من شعراء القرن التاسع في مسمطه في حق أهل البيت ( صلوات اللّه عليهم ) :

ص: 310


1- الغدير : 6 / 38 نقلاً عن ديوانه : 47.
2- الغدير : 7 / 25 - 26.
3- المصدر نفسه : 32.

أنتم رجائي وحبكم أملي *** عليه يوم المعاد متكلي

فكيف يخشى حر السعير ولي *** وشافعاه محمد وعلي

أو يعتريه من شرها شرر (1)

هذه الروائع الشعرية التي تضمنت الولاء الصادق لآل البيت علیهم السلام وطلب الشفاعة منهم ومن جدهم صلی اللّه علیه و آله مما وقفنا عليه في مجلدات الكتاب القيم « الغدير » ونقلناها غالباً حسب القرون والأعصار ، غير انّ هناك نظائر لها تتضمن إظهار الولاء الصادق لأصحابه أو طلب الشفاعة منهم بصريح القول ، مما وقفنا عليه في بعض الكتب نذكرها :

21. قال الخطيب ابن الفرار المطيري في قصيدته :

بدين المصطفى أرجو نجاتي *** وحب المرتضى من يوم شين

بفاطمة البتول أتاك رشداً *** وبالحسن الزكي وبالحسين

بزين العابدين وصلت حبلي *** علي بن الحسين ومن كذين (2)

22. وقال أبو الرضا الحسيني في قصيدة مطلعها :

يا رب مالي شفيع يوم منقلبي *** إلاّ الذين إليهم ينتهي نسبي

المصطفى وهو جدي ثم فاطمة *** أُمّي وشيخي علي الخير وهو أبي (3)

23. وقال كشاجم :

ص: 311


1- المصدر نفسه : 7 / 49.
2- مناقب آل أبي طالب : 1 / 318 ، وكذين بمعنى من كهاذين.
3- المصدر نفسه : 1 / 322.

نبيي شفيعي والبتول وحيدر *** وسبطاه والسجاد والباقر المجد

بجعفر بموسى بالرضا بمحمد *** نجل الرضا والعسكريين والمهدي (1)

24. قال أبو الواثق العنبري في مقطوعته :

شفيعي إليك اليوم يا خالق الورى *** رسولك خير الخلق والمرتضى علي (2)

25. قال زيد المرزكي في مقطوعته :

منهم رسول اللّه أكرم من وطأ *** الحصى وأجل من أصف

إلى أن يقول :

وشفاعة السجاد يشملني *** وبها من الآثام أكتنف (3)

26. وقال ابن مكي في مقطوعته :

ومحمد يوم القيامة شافع *** للمؤمنين وكل عبد مقلت (4)

27. ويقول الشريف الرضي في مقطوعته :

يا بني أحمد أناديكم اليوم *** وأنتم غداً لردِّ جوابي

ألف باب أُعطيتم ثم أفضى *** كل باب منها إلى ألف باب

لكم الأمر كله وإليكم ولديكم *** يؤول فصل الخطاب (5)

ص: 312


1- المصدر نفسه : 1 / 326.
2- المصدر نفسه : 1 / 330.
3- المصدر نفسه : 1 / 331.
4- المصدر نفسه : 1 / 331.
5- المصدر نفسه : 2 / 37.

28. وقال أبو نؤاس في قصيدة مطلعها :

يا رب ان عظمت ذنوبي كثرة *** فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم

إلى أن يقول :

ثم الشفاعة من نبيك أحمد *** ثم الحماية من علي أعلم (1)

29. قال الشيخ شعيب الحريفيش في قصيدة مطلعها :

من زار قبر محمد *** نال الشفاعة في غد

إلى أن يقول :

وهو المشفع في الورى *** من هول يوم الموعد (2)

30. قال العلامة السيد محسن الأمين العاملي في أُرجوزته التي طبعت آخر كتاب كشف الارتياب :

وكذلكم طلب الحوائج عندها *** من ربنا أرجى لنيل المقصد (3)

هذا بعض ما عثرنا عليها في المجامع الأدبية والتاريخية مما يتضمن الاعتراف بأصل الشفاعة وطلبها من أصحابها كما يتضمن إظهار الولاء لأصحابه ، إلى غير ذلك مما يجده فيها المتدبر ، وكلّها تعرب عن أنّ الاعتقاد بالشفاعة وطلبها وإظهار الولاء للنبي وآله كان أمراً راسخاً في أذهان المسلمين من أوائلهم إلى أواخرهم وما كانوا يرونه أمراً مخالفاً للتوحيد ، ولسائر السنن الإسلامية.

ص: 313


1- المصدر نفسه : 2 / 165.
2- الروض الفائق : 2 / 138.
3- العقود الدرية في رد الشبهات الوهابية المطبوع في ذيل كشف الارتياب : 15.

ونود في خاتمة هذا الفصل أن نذكر بفضل الأخ العلاّمة الشيخ محمد رضا الأميني ابن العلاّمة الحجة الشيخ عبد الحسين الأميني قدس اللّه سره حيث تكرم علينا بجمع كثير من هذه الشواهد الشعرية من غدير والده وسائر المصادر ، فشكراً له ثم شكراً.

ص: 314

7

الشفاعة في الأحاديث الإسلامية

اشارة

لقد اهتم الحديث بأمر الشفاعة وحدودها وشرائطها وأسبابها وموانعها اهتماماً بالغاً لا يوجد له مثيل إلاّ في موضوعات خاصة تتمتع بالأهمية القصوى وأنت إذا لاحظت الصحاح والمسانيد والسنن وسائر الكتب الحديثية لوقفت على جمهرة كبرى من الأحاديث حول الشفاعة بحيث تدفع الإنسان إلى الإذعان بأنّها من الأصول المسلمة في الشريعة الإسلامية ، ولأجل هذا التضافر نرى أنفسنا في غنى عن المناقشة في الأسناد.

نعم لو كانت هناك رواية اختصت بنكتة خاصة غير موجودة في الروايات الأخر ، فإثبات النكتة الخاصة يحتاج إلى ثبوت صحة سندها كما هو المعلوم في علم الحديث.

ولما كانت الأحاديث حول الشفاعة وفروعها كثيرة جداً ، ومبثوثة في الكتب جمعناها في هذه الصحائف تحت عناوين خاصة ، ولسنا ندّعي انّنا قد أحطنا بكل الأحاديث في هذا المجال وانّما ندّعي أنّا قد جئنا بقسم كبير من الأحاديث (1).

ص: 315


1- لقد جمع العلامة المجلسي أحاديث الشفاعة الواردة من طرق أئمّة أهل البيت في موسوعته « بحار الأنوار » : 8 / 29 - 63 ، كما انّه أورد بعضها في الأجزاء التالية من موسوعته : بحار الأنوار : 100 / 116 ، 162 ، 170 ، 265 ، 303 ، 307 ، 331 ، 340 ، 345 ، 349 ، 351 ، 376 ، 379 ؛ ولاحظ ج 101 / 8 ، 211 ، 212 ، 213 ، 293 ، 297 ، 298 ، 299 ، 372 ، 374 ؛ و ج 102 / 31 ، 32 ، 33 ، 35 ، 36 ، 44 ، 47 ، 71 ، 171 ، 181 ، 183 ؛ إلى غير ذلك من الموارد.

أحاديث الشفاعة عند أهل السنة

أحاديث الشفاعة عند أهل السنة (1) 1. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لكلّ نبي دعوة مستجابة ، فتعجّل كل نبي دعوته ، وانّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي ، وهي نائلة من مات منهم لا يشرك باللّه شيئاً » (2).

2. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أُعطيت خمساً ... وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمّتي ، فهي لمن لا يشرك باللّه شيئاً » (3).

3. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي نائلة ان شاء اللّه من مات ولا يشرك باللّه شيئاً » (4).

4. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تفسير قوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) « هو المقام الذي أشفع لأمّتي فيه » (5).

ص: 316


1- وقد عقد العلاّمة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي ( المتوفّى 975 ه ) باباً خاصاً للشفاعة نقل فيه طائفة من الأخبار ، فلاحظ كنز العمال : 4 / 638 - 640. كما عقد الشيخ منصور علي ناصف في كتابه التاج الجامع للأصول، أبواباً للشفاعة لاحظ التاج: 348/5 - 360 . وقد جاء فيها بأحاديث طوال قد أخذنا موضع الحاجة منها، غير ان ملاحظة مجموع الأحاديث لا تخلو من فائدة. وعقد النسائي في سننه أبواباً أربعة خاصة للشفاعة لاحظ : 622/3 ط دار إحياء التراث الإسلامي.
2- سنن ابن ماجة : 2 / 1440. وبهذا المضمون راجع مسند أحمد : 1 / 2. وموطأ مالك : 1 / 166 ، وسنن الترمذي : 5 / 238 ، وسنن الدارمي : 2 / 328 ، وصحيح مسلم : 1 / 130 ، وصحيح البخاري : 8 / 83 و 9 / 170.
3- مسند أحمد : 1 / 301 و 4 / 416 و 5 / 148. وبهذا المضمون سنن النسائي : 1 / 3. وسنن الدارمي : 1 / 323 ، و 2 / 224 ، وصحيح البخاري : 1 / 92 و 119.
4- مسند أحمد : 2 / 426.
5- مسند أحمد : 2 / 528 ، 444 ، 478 ، وسنن الترمذي : 3 / 365.

5. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا أول شافع وأوّل مشفّع » (1).

6. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ اللّه مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه » (2).

7. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أُمّتي » (3).

8. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « رأيت ما تلقى أُمّتي بعدي ( أي من الذنوب ) فسألت اللّه أن يوليني شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل » (4).

9. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلاّ اللّه خالصاً من قلبه أو نفسه » (5).

10. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا أوّل شافع في الجنة » (6).

11. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « شفاعتي لكل مسلم » (7).

12. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر » (8).

ص: 317


1- سنن الترمذي : 5 / 448 ، وسنن الدارمي : 1 / 26 و 27.
2- مسند أحمد : 2 / 307 و 518.
3- سنن ابن ماجة : 2 / 1441. وبهذا المضمون مسند أحمد : 3 / 3. وسنن أبي داود : 2 / 537 ، وسنن الترمذي : 4 / 45.
4- مسند أحمد : 6 / 428.
5- صحيح البخاري : 1 / 36.
6- صحيح مسلم : 1 / 130 ، وسنن الدارمي : 1 / 27.
7- سنن ابن ماجة : 2 / 1444.
8- سنن الترمذي : 5 / 247 ، وسنن ابن ماجة : 2 / 1443.

13. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا سيد ولد آدم وأوّل شافع وأوّل مشفّع ولا فخر » (1).

14. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة » (2).

15. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليخرجن قوم من أُمّتي من النار بشفاعتي يسمون الجهنّميّين » (3).

16. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « خيّرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أُمّتي الجنة ، فاخترت الشفاعة لأنّها أعم وأكفى ، أترونها للمتقين ، لا ، ولكنّها للمذنبين الخطّائين المتلوّثين » (4).

17. وحكى أبو ذر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (5) فلما أصبح قلت : يا رسول اللّه ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ، قال : « إنّي سألت ربي عزّ وجلّ الشفاعة لأمّتي فأعطانيها ، فهي نائلة إن شاء اللّه لمن لا يشرك باللّه عزّ وجلّ شيئاً » (6).

18. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار : بقيت شفاعتي » (7).

ص: 318


1- سنن ابن ماجة : 2 / 1440. وبهذا المضمون صحيح مسلم : 7 / 1. ومسند أحمد : 2 / 540.
2- مسند أحمد : 5 / 347.
3- سنن الترمذي : 4 / 114 ، وسنن ابن ماجة : 2 / 1443. وبهذا المضمون مسند أحمد : 4 / 3. وسنن أبي داود : 2 / 537.
4- سنن ابن ماجة : 2 / 1441.
5- المائدة : 118.
6- مسند أحمد : 5 / 149.
7- صحيح البخاري : 9 / 160. وبهذا المضمون مسند أحمد : 3 / 94.

19. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه يخرج قوماً من النار بالشفاعة » (1).

20. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » (2).

21. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فإذا فرغ اللّه عزّ وجلّ من القضاء بين خلقه وأخرج من النار من يريد أن يخرج ، أمر اللّه الملائكة والرسل أن تشفع فيعرفون بعلاماتهم : انّ النار تأكل كل شيء من ابن آدم إلاّ موضع السجود » (3).

22. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ... فيؤذن للملائكة والنبيّين والشهداء أن يشفعون فيشفعون ويخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان » (4).

23. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا ميز أهل الجنّة وأهل النار ، فدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار قامت الرسل وشفعوا » (5).

24. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع الأنبياء في كل من يشهد أن لا إله إلاّ اللّه مخلصاً ، فيخرجونهم منها » (6).

25. ذكرت الشفاعة عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « إنّ الناس يعرضون على جسر جهنم ... وبجنبتيه الملائكة يقولون : اللّهم سلم سلم ... » (7).

26. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « أمّا أهل النار الذين هم أهلها فلا

ص: 319


1- صحيح مسلم : 1 / 122. وبهذا المضمون صحيح البخاري : 8 / 143.
2- سنن ابن ماجة : 2 / 1443.
3- سنن النسائي : 2 / 181.
4- مسند أحمد : 5 / 43 بتخليص منّا.
5- مسند أحمد : 3 / 325.
6- مسند أحمد : 3 / 12.
7- مسند أحمد : 3 / 26.

يموتون فيها ولا يحييون ولكن ناس أصابتهم نار بذنوبهم أو بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أُذن في الشفاعة فيخرجون ضبائر ضبائر » (1).

27. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « ... فيشفعون حتى يخرج من قال لا إله إلاّ اللّه ممّن في قلبه ميزان شعيرة » (2).

28. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يشفع الشهيد في سبعين إنساناً من أهل بيته » (3).

29. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من تعلم القرآن ( من قرأ القرآن ) فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله اللّه به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار » (4).

30. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « إذا بلغ الرجل التسعين غفر اللّه ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمّي أسير اللّه في الأرض ، وشفّع في أهله » (5).

31. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أُمتي أكثر من بني تميم » (6).

32. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أُمّتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر » (7).

ص: 320


1- مسند أحمد : 3 / 79. وبهذا المضمون سنن ابن ماجة : 2 / 1. وسنن الدارمي : 2 / 332 ، ومسند أحمد : 3 / 5.
2- مسند أحمد : 3 / 345.
3- سنن أبي داود : 2 / 15. وبهذا المضمون : مسند أحمد : 4 / 3. وسنن الترمذي : 3 / 106.
4- سنن الترمذي : 4 / 245 ، وسنن ابن ماجة : 1 / 78 ، ومسند أحمد : 1 / 148 و 149.
5- مسند أحمد : 2 / 89 ، وبهذا المضمون ما في 3 / 218.
6- سنن الدارمي : 2 / 328 ، وسنن الترمذي : 4 / 46 ، وسنن ابن ماجة : 2 / 1444 ، ومسند أحمد : 3 / 470 ، و 5 / 366.
7- مسند أحمد : 4 / 212.

33. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين أو مثل أحد الحيين ربيعة ومضر » (1).

34. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ الرجل من أُمّتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنّة ، وإنّ الرجل ليشفع للقبيلة ، وإنّ الرجل ليشفع للعصبة ، وإنّ الرجل ليشفع للثلاثة ، وللرجلين ، وللرجل » (2).

35. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يصف الناس ( أهل الجنة ) صفوفاً ، فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استقيت فسقيتك شربة ؟ قال : فيشفع له ، ويمر الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهوراً ، فيشفع له » (3).

36. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « لا يصبر على لاوائها ( أي المدينة ) وشدّتها إلاّ كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة » (4).

37. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لخادمه : « ما حاجتك ؟ » قال : حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة ، قال : « ومن دلّك على هذا » ؟ قال : ربي ، قال : « أما فأعنّي بكثرة السجود » (5).

38. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من صلّى على محمد وقال : اللّهم انزله المقعد المقرّب عندك يوم القيامة ، وجبت له شفاعتي » (6).

39. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من قال حين يسمع النداء : « اللّهمّ رب هذه

ص: 321


1- مسند أحمد : 5 / 257.
2- مسند أحمد : 3 / 20 و 63 ، وسن الترمذي : 4 / 46.
3- سنن ابن ماجة : 2 / 1215.
4- موطأ مالك : 2 / 201 ، ومسند أحمد : 2 / 119 و 133 ومواضع أُخر من هذا الكتاب.
5- مسند أحمد : 3 / 500 ، وبهذا المضمون ما في 4 / 59.
6- مسند أحمد : 4 / 108.

الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته » حلّت له شفاعتي يوم القيامة » (1).

40. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. ثم صلّوا عليّ فانّه من صلى عليّ صلاة صلى اللّه عليه عشراً ، ثم سلوا اللّه عزّ وجلّ لي الوسيلة ، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة » (2).

41. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي » (3).

42. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة » (4).

43. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :« تعلّموا القرآن فإنّه شافع لأصحابه يوم القيامة » (5).

44. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي ( تبارك الذي بيده الملك ) » (6).

ص: 322


1- صحيح البخاري : 1 / 159 ، وبهذا المضمون ما في مسند أحمد : 3 / 354 ، وسنن ابن ماجة : 1 / 239 ، وسنن الترمذي : 1 / 136 ، وسنن النسائي : 2 / 22 ، وسنن أبي داود : 1 / 126.
2- سنن أبي داود : 1 / 124 ، وصحيح مسلم : 2 / 4 ، وسنن الترمذي : 5 / 246 و 247 ، وسنن النسائي : 2 / 22 ، ومسند أحمد : 2 / 168.
3- مسند أحمد : 1 / 72. ولا يتوهم أنّ هذا الحديث تكريس للقومية المبغوضة في الإسلام ، لأنّ من المعلوم أنّ المراد العرب المسلمين فيكون بمنزلة « من غش مسلماً فليس بمسلم » لأنّ المسلم يوم ذاك كان منحصراً في العرب.
4- مسند أحمد : 6 / 448 ، وصحيح مسلم : 8 / 24.
5- مسند أحمد : 5 / 251 ، وباختصار يسير في : 5 / 249.
6- مسند أحمد : 2 / 199 و 321 ، وسنن الترمذي : 4 / 238.

45. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي ربي منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، قال فيشفّعان » (1).

46. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ أقربكم مني غداً وأوجبكم عليَّ شفاعة : أصدقكم لساناً ، وأدّاكم لأمانتكم ، وأحسنكم خلقاً ، وأقربكم من الناس » (2).

47. روى أنس بن مالك عن أبيه قال : سألت النبي صلی اللّه علیه و آله أن يشفع لي يوم القيامة فقال « أنا فاعل » قال : قلت : يا رسول اللّه : فأين أطلبك ؟ قال : « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط » ، قال : قلت : فإن لم ألقك على الصراط ، قال : « فاطلبني عند الميزان ». قلت : فإن لم ألقك عند الميزان ، قال : « فاطلبني عند الحوض فإنّي لا أُخطئ هذه الثلاث المواطن » (3).

48. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : « أنا سيد الناس يوم القيامة ... ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفّع ، فارفع رأسي فأقول : يا ربي أُمّتي يا ربي أُمّتي يا ربي أُمّتي ، فيقول : يا محمد ادخل من أُمّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة » (4).

49. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا أوّل الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً » (5).

ص: 323


1- مسند أحمد : 2 / 174.
2- تيسير المطالب في أمالي الإمام علي بن أبي طالب تأليف السيد يحيى بن الحسين من أحفاد الإمام زيد ( المتوفّى عام 424 ه ) : 442 - 443.
3- سنن الترمذي : 4 / 621 ، الحديث 2433 ، الباب 9 من كتاب صفة القيامة.
4- سنن الترمذي : 4 / 622 ، الحديث 2434 ، الباب 10 من كتاب صفة القيامة.
5- صحيح مسلم : 1 / 130.

50. أخرج ابن مردويه عن طلق بن حبيب قال : كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد اللّه فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر اللّه فيها خلود أهل النار ، فقال : يا طلق أتراك أقرأ لكتاب اللّه وأعلم بسنّة رسول اللّه منّي ؟ إنّ الذين قرأت هم أهلها هم المشركون ، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا ثم أُخرجوا منها ، ثم أهوى بيديه إلى أُذنيه فقال : صمّتا إن لم أكن سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يخرجون من النار بعد ما دخلوا » ، ونحن نقرأ كما قرأت.

وعن ابن أبي حاتم عن يزيد الفقير قال : جلست إلى جابر بن عبد اللّه وهو يحدّث ، فحدّث انّ ناساً يخرجون من النار ، قال : وأنا يومئذ أنكر ذلك فغضبت وقلت : ما أعجب من الناس ، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون انّ اللّه يخرج ناساً من النار واللّه يقول : ( يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ) (1) فانتهرني أصحابه وكان أحلمهم ، فقال : دعوا الرجل إنّما ذلك للكفار ، فقرأ : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ ) (2) حتى بلغ ( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) (3) أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قد جمعته ، قال : أليس اللّه يقول : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (4) فهو ذلك المقام ، فإنّ اللّه تعالى يحتبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء لا يكلّمهم ، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم قال : فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به » (5).

هذه خمسون حديثاً رواها أهل السنّة عن النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، ولو أضفنا إليها الصور المختلفة لكل حديث لتجاوز عدد الأحاديث المائة حديث ، ولكن

ص: 324


1- المائدة : 37.
2- المائدة : 36.
3- المائدة : 37.
4- الإسراء : 79.
5- تفسير ابن كثير : 2 / 54 ، كما في حياة الصحابة للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي : 3 / 471 - 472.

اكتفينا بهذا المقدار وأشرنا إلى المواضع التي نقلت فيها صورها المختلفة والناظر فيها يذعن بأنّ الاعتقاد بالشفاعة كان أمراً مسلماً بين جماهير المسلمين كما يذعن بأنّها لم تكن عندهم مطلقة عن كل قيد ، بل لها شرائط خصوصاً في جانب المشفوع له ، وانّ هناك شفعاء ، وسنشير في خاتمة المطاف إلى فذلكة الروايات وعضادتها في المواضع المختلفة.

هلم معي نقرأ ما روته الإمامية في هذا الباب من الأحاديث الكثيرة عن النبي الأكرم والأئمّة المعصومين ، ولأجل الحفاظ على سهولة الإرجاع إليها نحافظ على التسلسل المذكور في الأحاديث السابقة. أحاديث الشفاعة عند الشيعة الإمامية

51. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي لأشفع يوم القيامة وأُشفّع ، ويشفع علي فيشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون » (1).

52. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أُعطيت خمساً ... أُعطيت الشفاعة » (2).

53. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه أعطاني مسألة فادّخرت مسألتي لشفاعة المؤمنين من أُمّتي يوم القيامة ففعل ذلك » (3).

54. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أُمّتي من سيدخل اللّه الجنة بشفاعته أكثر من مضر » (4).

55. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (5).

ص: 325


1- مناقب ابن شهر آشوب : 2 / 15 ، وبهذا المضمون في مجمع البيان : 1 / 104.
2- من لا يحضره الفقيه : 1 / 155.
3- أمالي الشيخ الطوسي : 36.
4- مجمع البيان : 10 / 392.
5- من لا يحضره الفقيه : 3 / 376.

56. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الشفعاء خمسة : القرآن ، والرحم ، والأمانة ، ونبيكم ، وأهل بيت نبيكم » (1).

57. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة : أي ربي عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا ، فشفّعني فيه ، فيقول : اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منها » (2).

58. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (3).

59. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه » (4).

60. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أيّما امرأة صلّت في اليوم والليلة خمس صلوات ، وصامت شهر رمضان ، وحجت بيت اللّه الحرام ، وزكّت مالها ، وأطاعت زوجها ، ووالت علياً بعدي ، دخلت الجنة بشفاعة بنتي فاطمة » (5). أحاديث الشفاعة عن الإمام علي علیه السلام

61. قال علي علیه السلام : « لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة » (6).

62. قال علي علیه السلام : « ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ وجلّ فيشفّعون : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء » (7).

ص: 326


1- مناقب ابن شهر آشوب : 2 / 14.
2- مجمع البيان : 10 / 392.
3- مجمع البيان : 1 / 104. ويقول الطبرسي : إنّ هذا الحديث مما قبلته الأمّة الإسلامية.
4- مجمع البيان : 1 / 104.
5- أمالي الصدوق : 291.
6- خصال الصدوق : 624.
7- خصال الصدوق : 156.

63. قال علي علیه السلام لولده محمد بن الحنفية : « إقبل من متنصل عذره ، فتنالك الشفاعة » (1).

64. قال علي علیه السلام : « اعلموا أنّ القرآن شافع ومشفع وقائل ومصدق ، وانّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه » (2).

65. قال علي علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا قمت المقام المحمود تشفعت في أصحاب الكبائر من أُمّتي فيشفّعني اللّه فيهم ، واللّه لا تشفّعت فيمن آذى ذريتي » (3).

66. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ للجنة ثمانية أبواب باب يدخل منه النبيون والصديقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا فلم أزل واقفاً على الصراط أدعو وأقول : رب سلّم شيعتي ومحبي وأنصاري ومن تولاّني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بطنان العرش قد أُجيبت دعوتك وشفّعت في شيعتك ، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاّني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا اله إلا اللّه ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت » (4).

67. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « سمعت النبي يقول : إذا حشر الناس يوم القيامة ناداني مناد : يا رسول اللّه إنّ اللّه جل اسمه قد أمكنك من مجازاة محبيك ومحبي أهل بيتك الموالين لهم فيك والمعادين لهم فيك ، فكافهم بما شئت ، فأقول :

ص: 327


1- من لا يحضره الفقيه : 4 / 279.
2- نهج البلاغة : الخطبة 171.
3- أمالي الصدوق : 177.
4- بحار الأنوار : 8 / 39 نقلاً عن أمالي الصدوق : 39.

يا رب الجنة فأُبوّؤهم منها حيث شئت ، فذلك المقام المحمود الذي وعدت به » (1).

68. عن علي بن أبي طالب علیه السلام قال : « قالت فاطمة علیهاالسلام لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أبتاه أين ألقاك يوم الموقف الأعظم ويوم الأهوال ويوم الفزع الأكبر ؟ قال : يا فاطمة عند باب الجنة ومعي لواء الحمد وأنا الشفيع لأمّتي إلى ربي. قالت : يا أبتاه فإن لم ألقك هناك ، قال : القيني على الحوض وأنا أسقي أُمّتي ، قالت : يا أبتاه إن لم ألقك هناك ، قال : القيني على الصراط وأنا قائم أقول رب سلم أُمّتي ، قالت : فإن لم ألقك هناك ، قال : القيني وأنا عند الميزان ، أقول : ربي سلم أُمّتي ، قالت : فإن لم ألقك هناك قال : القيني على شفير جهنم أمنع شررها ولهبها عن أُمّتي فاستبشرت فاطمة بذلك ، صلى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبينها » (2).

أحاديث الشفاعة عن سائر أئمّة أهل البيت علیهم السلام

69. قال الحسن علیه السلام : « إنّ النبي قال في جواب نفر من اليهود سألوه عن مسائل ، وأمّا شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم » (3).

70. عن الحسين علیه السلام وهو ينقل كلام جده معه في منامه قائلاً : « حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرملاً بدمائك مذبوحاً بأرض كربلا على أيدي عصابة من أُمّتي وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة » (4).

ص: 328


1- بحار الأنوار : 8 / 39 - 40 ، نقلاً عن أمالي الصدوق : 187.
2- بحار الأنوار : 8 / 35 ، نقلاً عن أمالي الصدوق : 166.
3- خصال الصدوق : 355.
4- مكاتيب الأئمّة : 2 / 41.

71. قال علي بن الحسين علیه السلام في الدعاء الثاني من صحيفته : « عرّفه في أهله الطاهرين ، وأُمّته المؤمنين من حسن الشفاعة ، أجل ما وعدته » (1).

72. قال علي بن الحسين علیه السلام : « اللّهم صلِّ على محمد وآل محمد وشرّف بنيانه وعظّم برهانه ، وثقّل ميزانه ، وتقبل شفاعته » (2).

73. قال علي بن الحسين علیه السلام : « فإنّي لم آتك ثقة مني بعمل صالح قدّمته ، ولا شفاعة مخلوق رجوته إلاّ شفاعة محمد وأهل بيته عليه وعليهم سلامك » (3).

74. قال علي بن الحسين علیه السلام : « إلهي ليس لي وسيلة إليك إلاّ عواطف رأفتك ولا ذريعة إليك إلاّ عوارف رحمتك ، وشفاعة نبيك نبي الأمّة » (4).

75. قال علي بن الحسين علیه السلام : « صل على محمد وآله واجعل توسّلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً إنّك أنت أرحم الراحمين » (5).

76. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « إنّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شفاعة في أُمّته » (6).

77. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « من تبع جنازة مسلم أُعطي يوم القيامة أربع شفاعات » (7).

78. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « يشفع الرجل في القبيلة ، ويشفع

ص: 329


1- الصحيفة السجادية : الدعاء الثاني.
2- الصحيفة السجادية : الدعاء الثاني والأربعون.
3- الصحيفة السجادية : الدعاء الثامن والأربعون.
4- ملحقات الصحيفة : 250.
5- ملحقات الصحيفة : 229.
6- المحاسن للبرقي : 184.
7- التهذيب : 1 / 455.

الرجل لأهل البيت ، ويشفع الرجل للرجلين على قدر عمله ، فذلك المقام المحمود » (1).

79. قال محمد بن علي الباقر علیه السلام : « انّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنساناً ، فعند ذلك يقول أهل النار فمالنا من شافعين ، ولا صديق حميم » (2).

80. سئل محمد بن علي الباقر علیه السلام عن أرجى آية في كتاب اللّه فقال الإمام علیه السلام للسائل ( بشر بن شريح البصري ) : « ما يقول فيها قومك ؟ » قال : قلت يقولون : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللّهِ ) قال : لكنّا أهل البيت لا نقول بذلك قال السائل : قلت : فأيّ شيء تقولون فيها ؟ قال : نقول : « ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) الشفاعة ، واللّه الشفاعة ، واللّه الشفاعة » (3).

81. دخل مولى لامرأة علي بن الحسين علیه السلام على أبي جعفر ( الباقر ) علیه السلام يقال له أبو أيمن فقال : يغرون الناس فيقولون شفاعة محمد ، قال : فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه ، ثم قال : « ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عف بطنك وفرجك ، أما واللّه لو قد رأيت أفزاع يوم القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد ، ويلك وهل يشفع إلاّ لمن قد وجبت له النار » (4).

82. عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « لفاطمة وقفة على باب جهنم ، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل مؤمن أو كافر ،

ص: 330


1- مناقب محمد بن شهر آشوب : 2 / 14.
2- الكافي : 8 / 101 ، وبهذا المضمون في تفسير فرات الكوفي : 108.
3- تفسير فرات الكوفي : 18.
4- المحاسن للبرقي : 1 / 183.

فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار ، فتقرأ بين عينيه محباً فتقول : إلهي وسيدي سميتني فاطمة وفطمت بي من تولاّني وتولّى ذريتي من النار ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد ، فيقول اللّه عزّ وجل : صدقت يا فاطمة أنّي سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاّك وأحب ذريتك وتولاّهم من النار ، ووعدي الحق ، وأنا لا أُخلف الميعاد ، وإنّما أُمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه ، فاشفّعك ليتبيّن لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك منّي ومكانتك عندي ، فمن قرأت بين عينيه مؤمناً فجذبت بيده وأدخلته الجنة » (1).

83. قال جعفر بن محمد علیه السلام : « واللّه لنشفعن لشيعتنا ، واللّه لنشفعن لشيعتنا ، واللّه لنشفعن لشيعتنا ، حتى يقول الناس فما لنا من شافعين ولا صديق حميم » (2).

84. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « لكل مؤمن خمس ساعات يوم القيامة يشفع فيها » (3).

85. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « شفاعتنا لأهل الكبائر من شيعتنا وأمّا التائبون فإنّ اللّه عزّ وجل يقول : ( مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) (4).

86. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا : المعراج ، والمساءلة في القبر ، والشفاعة » (5).

87. قال معاوية بن عمار لجعفر بن محمد الصادق علیه السلام : ( مَن ذَا الَّذِي

ص: 331


1- بحار الأنوار : 8 / 51 ، نقلاً عن علل الشرائع : 178.
2- مناقب ابن شهر آشوب : 2 / 14.
3- صفات الشيعة للشيخ الصدوق : 181 الحديث 37.
4- من لا يحضره الفقيه : 3 / 376.
5- أمالي الصدوق : 177.

يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) ؟ قال : « نحن أُولئك الشافعون » (1).

88. سئل جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : عن المؤمن هل يشفع في أهله ؟ قال : « نعم المؤمن يشفع فيشفّع » (2).

89. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إذا كان يوم القيامة نشفع في المذنب من شيعتنا ، وأمّا المحسنون فقد نجّاهم اللّه » (3).

90. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « نمجّد ربنا ونصلّي على نبينا ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا » (4).

91. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إنّ المؤمن ليشفع لحميمه ، إلاّ أن يكون ناصباً ولو أنّ ناصباً شفع له كل نبي مرسل وملك مقرّب ما شفعوا » (5).

92. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إنّ الجار ليشفع لجاره والحميم لحميمه ، ولو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين شفعوا في ناصب ما شفّعوا » (6).

93. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتى يبقى خادمه فيقول فيرفع سبابتيه يا رب خويدمي كان يقيني الحر والبرد فيشفّع فيه » (7).

ص: 332


1- تفسير العياشي : 1 / 136. وبهذا المضمون في المحاسن للبرقي : 183.
2- المحاسن للبرقي : 184.
3- فضائل الشيعة : 109 ، الحديث 45.
4- المحاسن : 183 ، وبهذا المضمون في البحار : 8 / 41 عن الإمام الكاظم.
5- ثواب الأعمال : 251.
6- المحاسن للبرقي : 184.
7- بحار الأنوار : 8 / 56 و 61 ، نقلاً عن الاختصاص للمفيد وتفسير العياشي بتفاوت يسير.

94. كتب جعفر بن محمد الصادق علیه السلام إلى أصحابه : « واعلموا انّه ليس يغني عنهم من اللّه أحد من خلقه شيئاً لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند اللّه فليطلب إلى اللّه أن يرضى عنه » (1).

95. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « إذا كان يوم القيامة بعث اللّه العالم والعابد ، فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ وجلّ قيل للعابد انطلق إلى الجنة ، وقيل للعالم : قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم » (2).

96. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام في تفسير قوله سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) لا يشفع ولا يشفع لهم ولا يشفعون إلاّ من أذن له بولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده فهو العهد عند اللّه (3).

97. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : « يا معشر الشيعة فلا تعودون وتتكلون على شفاعتنا ، فواللّه لا ينال شفاعتنا إذا ركب هذا ( الزنا ) حتى يصيبه ألم العذاب ويرى هول جهنم » (4).

98 : سئل جعفر بن محمد الصادق علیه السلام عن المؤمنين هل له شفاعة ، قال : « نعم » ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد ؟ قال : « نعم إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً ، وما من أحد إلاّ يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ » (5).

99. قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام أو محمد بن علي الباقر علیه السلام

ص: 333


1- الكافي : 8 / 11.
2- بحار الأنوار : 8 / 56 ، نقلاً عن عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق.
3- تفسير علي بن إبراهيم القمي : 417 ونقل عن الإمام الباقر أيضاً كما في البحار : 8 / 27.
4- الكافي : 5 / 469 ، ومن لا يحضره الفقيه : 4 / 28.
5- تفسير العياشي : 2 / 314 ، والمحاسن : 1 / 184 ، ومع زيادات في بحار الأنوار : 8 / 48.

في تفسير قوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قال : « هي الشفاعة » (1).

100. عن سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن شفاعة النبي صلی اللّه علیه و آله يوم القيامة قال : « يلجم الناس يوم القيامة العرق فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا عند ربه ، فيأتون آدم فيقولون : اشفع لنا عند ربك ، فيقول : إنّ لي ذنباً وخطيئة فعليكم بنوح ، فيأتون نوحاً ، فيردّهم إلى من يليه ، ويردّهم كل نبي إلى من يليه ، حتى ينتهون إلى عيسى فيقول : عليكم بمحمد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وعلى جميع الأنبياء - فيعرضون أنفسهم عليه ويسألونه ، فيقول : انطلقوا ، فينطلق بهم إلى باب الجنة ويستقبل باب الرحمان ، ويخرّ ساجداً فيمكث ما شاء اللّه فيقول عزّ وجلّ ارفع رأسك واشفع تشفّع ، وسل تعط وذلك قوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) » (2).

101. عن عيص بن القاسم عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « انّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعله للعاملين عليها فنحن أولى به ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا بني عبد المطلب انّ الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكنّي وعدت الشفاعة - ثم قال : واللّه أشهد أنّه قد وعدها - فما ظنّكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة الباب أتروني مؤثراً عليكم غيركم ، ثم قال : إنّ الجن والإنس يجلسون يوم القيامة في صعيد واحد ، فإذا طال بهم الموقف طلبوا الشفاعة فيقولون : إلى من ؟ فيأتون نوحاً فيسألونه الشفاعة فقال : هيهات قد رفعت حاجتي ، فيقولون : إلى من ؟ فيقال : إلى

ص: 334


1- تفسير العياشي : 2 / 314.
2- بحار الأنوار : 8 / 35 - 36 ح 7 ، نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم : 387. الذنب الذي ورد في الحديث بمعنی ما يتبع الإنسان لا بمعنی المعصية ، وعلی كل حال فحسنات الأبرار سيئات المقربين.

إبراهيم ... » (1).

102. عن سماعة عن أبي إبراهيم في قول اللّه تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قال : « يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاماً ويؤمر الشمس فيركب على رؤوس العباد ويلجمهم العرق ، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً ، فيأتون آدم فيتشفعون منه فيدلّهم على نوح ، ويدلّهم نوح على إبراهيم ، ويدلّهم إبراهيم على موسى ، ويدلّهم موسى على عيسى ، ويدلّهم عيسى ، فيقول : عليكم بمحمد خاتم البشر ، فيقول : محمد أنا لها ، فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له : من هذا - واللّه أعلم - : فيقول محمد ! فيقال : افتحوا له ، فإذا فتح الباب استقبل ربه فيخر ساجداً ، فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلّم وسل تعط واشفع تشفع ، فيرفع رأسه فيستقبل ربه ، فيخر ساجداً ، فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنّه ليشفع من قد أحرق بالناس ، فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد صلی اللّه علیه و آله وهو قول اللّه تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) » (2).

103. قال موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « لمّا احتضر أبي ( جعفر بن محمد ) علیه السلام قال لي : يا بني إنّه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة » (3).

104. قال موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا تستخفوا بفقراء شيعة علي ، فإنّ الرجل منهم ليشفع بعدد ربيعة ومضر » (4).

ص: 335


1- بحار الأنوار : 8 / 47 - 48 ح 48 ، وذيل الحديث موافق لما تقدمه ، ولأجل ذلك تركناه.
2- بحار الأنوار : 8 / 48 - 49 ح 51 ، نقلاً عن تفسير العياشي. والمراد من « استقبل ربه » استقبل رضوانه أو باب رحمته أو ما يناسب ذلك ، كما ورد في الحديث المروي عن الإمام الصادق.
3- الكافي : 3 / 270 ح15 و 6 / 401 ح 7 ، والتهذيب : 9 / 107 ، وبهذا المضمون في من لا يحضره الفقيه : 1 / 133 ، ونقله الشيخ في التهذيب : 9 / 106 عن الإمام الصادق.
4- بحار الأنوار : 8 / 59 ، وبهذا المضمون في أمالي الطوسي : 63 ، وبشارة المصطفى : 55.

105. قال موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « شيعتنا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحجون البيت الحرام ويصومون شهر رمضان ويوالون أهل البيت ويتبرّأون من أعدائهم ، وانّ أحدهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، فيشفّعه اللّه فيهم ، لكرامته على اللّه عزّ وجلّ » (1).

106. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام : ناقلاً عن علي علیه السلام : « من كذّب بشفاعة رسول اللّه لم تنله » (2).

107. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام : « مذنبو أهل التوحيد لا يخلّدون في النار ويخرجون منها ، والشفاعة جائزة لهم » (3).

108. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام ناقلاً عن آبائه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة : المكرم لذريتي ، والقاضي لهم حوائجهم ، والساعي في أُمورهم عندما اضطروا إليه ، والمحب لهم بقلبه ولسانه » (4).

109. قال علي بن موسى الرضا علیه السلام ناقلاً عن آبائه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله شفاعتي ، ثم قال علیه السلام : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل » ، قال الحسين بن خالد : فقلت للرضا علیه السلام : يا بن رسول اللّه فما معنى قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) قال : « لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى اللّه دينه » (5).

110. قال علي بن محمد الهادي علیه السلام كما في الزيارة الجامعة : « ولكم المودة

ص: 336


1- صفات الشيعة : 45 ، الحديث الخامس.
2- عيون أخبار الرضا : 2 / 66.
3- عيون أخبار الرضا : 2 / 125.
4- عيون أخبار الرضا : 2 / 24 ، وباختصار يسير في بشارة المصطفى : 140.
5- أمالي الصدوق : 5.

الواجبة ، والدرجات الرفيعة ، والمقام المحمود ، والمقام المعلوم عند اللّه عزّ وجلّ والجاه العظيم ، والشأن الكبير ، والشفاعة المقبولة » (1).

111. قال الحسن بن علي العسكري علیه السلام ناقلاً عن أمير المؤمنين علیه السلام في ضمن حديث : « لا يزال المؤمن يشفع حتى يشفع في جيرانه وخلطائه ومعارفه » (2).

112. قال الحجة بن الحسن علیه السلام في الصلوات المنقولة عنه : « اللّهم صلِّ على سيد المرسلين وخاتم النبيّين وحجة رب العالمين ، المرتجى للشفاعة » (3).

هذه هي الأحاديث الواردة عن طرق الشيعة الإمامية ، وأنت إذا أضفتها إلى ما رواه أصحاب الصحاح والمسانيد يتجلّى لك موضوع الشفاعة في الشريعة الإسلامية من القطعية كما يتجلّى لك معناها إلى غير ذلك من الخصوصيات التي مر بيان الخلاف فيها.

ثم بقيت في المقام روايات مبعثرة في الكتب والصحاح والمسانيد ، يستلزم جمعها إفراد رسالة في المقام ، ولأجل ذلك اكتفينا بما ذكرناه.

ص: 337


1- من لا يحضره الفقيه : 2 / 616.
2- بحار الأنوار : 8 / 44.
3- مصباح المتهجد : 284.

بحث وتمحيص حول الروايات الواردة في الشفاعة

قد بسطنا الكلام في ضوء الروايات التي نقلناها من الصحاح والمسانيد لأهل السنّة والمجاميع الحديثية للشيعة الإمامية ، والواجب هنا هو الوقوف على مضمون هذه الروايات على وجه الاختصار وإليك ما تدل عليه تلك المأثورات :

1. يستفاد من الروايات المختلفة انّ الشفاعة من ضروريات التشيع وانّ أئمّة أهل البيت يجاهرون بذلك ، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث الماضية 86 ، 106 ، 109.

2. انّ الدقة فيما مر من الروايات المتواترة تقضي ببطلان ما ذهب إليه المعتزلة في معنى الشفاعة ، وانّ الحق في الشفاعة هو ما عليه جمهور المسلمين من انّه عبارة عن غفران الذنوب الكبيرة ببركة شفاعة الشفيع ودعائه ، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث الماضية : 1 ، 7 ، 15 ، 16 ، 55 ، 58 ، 65 ، 66 ، 85 ، 109 وغيرها من الروايات.

3. انّ الشفاعة كما تحفظ من دخول النار توجب خروج المذنب من النار بعد الدخول فيها ، فلاحظ الأرقام التالية : 26 ، 50 ، 57 ، 107 وغيرها.

4. انّ شفاعة الشافعين مشروطة بوجود مؤهلات في المشفوع لهم ، وقد جاءت شروطها في الروايات ، منها : أن لا يكون مشركاً ، ومنها : أن يكون مسلماً ،

ص: 338

ومنها : أن يكون مؤمناً ، ومنها : أن يكون محباً لأهل البيت لا ناصباً لهم العداء ، ومنها : أن لا يكون مستخفاً بالصلاة ، غير أنّ من كان مؤدياً للأمانة ، حسن الخلق وقريباً من الناس يشفع له قبل كل أحد ، فلاحظ في ذلك كله الأرقام التالية : 2 ، 3 ، 6 ، 9 ، 11 ، 17 ، 24 ، 91 ، 92 ، 103.

5. انّ القرآن وان أجمل مسألة الشفيع ولم يصرّح في ذلك إلاّ في مورد أو موردين غير انّ الأحاديث أعطت صورة مفصلة عن الشفعاء ، وإليك أسماءهم مع الإشارة إلى الأحاديث الدالة عليها.

ألف. الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية من الأحاديث الماضية : 4 ، 5 ، 7 ، 8 ، 10 ، 14 ، 56 ، 69 ، 73 ، 74 ، 76 ، 100 ، 101.

ب. الملائكة من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية : 18 ، 21 ، 22.

ج. الأنبياء من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية : 20 ، 21 ، 22.

د. أهل البيت من الشفعاء ، فلاحظ الأرقام التالية : 51 ، 56.

ه. علي من الشفعاء ، فلاحظ الرقم التالي : 61.

و. فاطمة من الشفعاء ، فلاحظ : 60 ، 82.

ز. العلماء من الشفعاء ، فلاحظ : 20 ، 62 ، 95.

ح. الشهداء من الشفعاء ، فلاحظ : 20 ، 22 ، 28 ، 62.

ط. القرآن من الشفعاء ، فلاحظ : 43 ، 44 ، 56 ، 64.

ي. متعلم القرآن والعامل به من الشفعاء ، فلاحظ : 29.

ك. شيعة أهل البيت من الشفعاء ، فلاحظ : 61 ، 104.

ل. المؤمن من الشفعاء ، فلاحظ : 77 ، 78 ، 88 ، 91 ، 93 ، 105 ، 111. ولو أُريد من المؤمن المعنى الأخص يرجع مفاد هذا القسم إلى القسم المتقدم.

ص: 339

م. من بلغ التسعين يشفع ، فلاحظ : 30.

ن. من كان حافظاً للرحم مؤدياً للأمانة يشفع ، فلاحظ : 56.

ما ذكرناه عصارة هذه الروايات والوقوف على الجزئيات يتوقف على ملاحظتها واحدة بعد واحدة.

هذا تمام الكلام في بحث الشفاعة حسب الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً ، وقد عرفت حقيقة المقال كما وقفت على الأشواك التي نبتت حولها ممن لا حظ لهم من معارف الكتاب والسنّة.

وكان الأولى إرداف البحث عن الشفاعة بالبحث عن الاحباط والتكفير ولكن نرجئ البحث عنهما إلى فترة أُخرى لعدم صلتهما بالنبوة الخاصة التي تدور عليها رحى أبحاثنا في هذا الجزء وما تقدم.

ص: 340

النبي والرسول في القرآن الكريم

اشارة

ص: 341

في هذا الفصل :

1. الرسول من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ والنبي من أُوحي إليه سواء أُمر بالتبليغ أو لم يؤمر. ونقد هذا الفرق.

2. الرسول هو الذي أُنزل معه كتاب ، والنبي هو الذي ينبئ عن اللّه وإن لم يكن معه كتاب. ونقد هذا الفرق.

3. الرسول من جاء بشرع جديد ، والنبي أعم منه ومن جاء لتقرير شرع سابق. ونقد هذا الفرق.

4. الرسول من يعاين الملك ويكلّمه مشافهة أو يلقى في روعه ، والنبي من يتلقّى الوحي بغير هذا الطريق. ونقد هذا الفرق.

5. النبي من يوحى إليه في المنام ، والرسول من يشاهد الملك ويكلمه رسول ربه. ونقد هذا الفرق.

6. النبي والرسول مبعوثان إلى الناس والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة. ونقد هذا الفرق.

7. الفرق المختار في المقام وبيان أدلّته.

8. ما يترتب على هذا الفرق من النتائج.

9. منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة.

10. بحث وتنقيب حول الروايات المروية في هذا المجال والقضاء بينها.

11. المحدَّث في السنّة.

ص: 342

ما هو الفرق بين الرسول والنبي ؟

اشارة

لقد وصف اللّه تعالى في كتابه الكريم أُناساً بالرسالة والنبوة والإمامة ، ومدح الذين صدقوهم واقتفوا آثارهم ، وذم العصابة الذين كانوا يكذبونهم ويخالفونهم ، وأوعدهم بالعذاب الشديد ، فيجب - والحالة هذه - أن نتعرف عليهم بصفاتهم التي يتميزون بها عن غيرهم ، وقد اضطربت كلمات المفسرين وأصحاب المعاجم في تحديد تلكم المفاهيم القرآنية ، وجاءوا ، بفروق لا يوافق الكثير منها الذكر الحكيم إذ لم يستعينوا في استيضاح المراد بالرجوع إلى نفس القرآن ، ونحن نذكر تلكم الفروق ثم نردفها بما أوصلنا إليه التدبر في الآيات ، وما ننقله عنهم مذكور في كتب القوم تفسيراً ولغة.

لقد أصفق القوم إلاّ من شذ (1) على نفي الترادف بين النبي والرسول ، استناداً إلى ظهور كثير من الآيات ، وإليك منها ما يدل على مغايرتهما :

1. ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (2).

2. ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (3).

ص: 343


1- فروق اللغة ، للجزائري : 107.
2- الأعراف : 157.
3- الحج : 52.

3. ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1).

4. ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (2).

وهكذا ترى أنّه سبحانه يذكر النبي بعد الرسول ، وهو آية اختلافهما في المفاد وتوهم انّه من قبيل عطف المرادف على مثله خلاف الظاهر ، لا سيما في قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... ) الآية.

ودونك الفروق المذكورة في كتب القوم (3).

الفرق الأوّل

الرسول أخص من النبي ، فهو من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ ، والنبي من أُوحي إليه ، سواء أُمر بتبليغه أو لم يؤمر ، وهذا هو المشهور بينهم ، نقله واختاره لفيف من المفسرين (4).

ولعل القائلين به ، استندوا إلى الوجه التالي :

« النبي » صفة مشبهة على زنة اللازم - بمعنى ذي النبأ والمطلع عليه - وكون الإنسان صاحب نبأ وخبر ، لا يلازم كونه مأموراً بإبلاغه وإعلانه ، فيصير عند ذلك أعم من أن يكون مأموراً بتبليغه.

ص: 344


1- مريم : 51.
2- مريم : 54.
3- هذه الفروق كلها تشير إلى أمر واحد ، وهو جعل الرسول أخصّ من النبي بوجوه مختلفة ، غير انّه طبعاً للوضوح بحثنا عن كل واحد مستقلاً.
4- التبيان : 7 / 331 ، مجمع البيان : 7 / 91 ، تفسير الجلالين في تفسير الآية 52 من سورة الحج ، تفسير المنار : 9 / 225 ، وغيرها.

نعم لو قلنا بأنّ « فعيل » بمعنى « فاعل » والنبي بمعنى المنبئ عن الغيب والمبلغ للخبر الخطير ، فربما يكون مشعراً بكونه مأموراً بإعلانه ولكن الأشعار غير الدلالة ، إذ لا ملازمة بين الإنباء عن الغيب وبين كونه مبعوثاً إلى هداية الناس وإنّهم ملزمون بإطاعته والانقياد إليه فيما يأمر وينهى.

أمّا « الرسول » فهو عبارة عن من تحمل رسالة من إبلاغ كلام أو تنفيذ عمل من جانب مرسله.

قال الراغب : « الرسول » يقال تارة للقول المتحمل ، كقول الشاعر : « ألا أبلغ أبا حفص رسولا » وتارة لمتحمل القول والرسالة (1) وعند ذاك فاللفظ بما له من المعنى ، يدل على أنّ الرسول من بعث إلى الغير لتنفيذ رسالة كلف بحملها من قبل مرسله.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه به هذا القول ولكن يمكن مناقشته بوجوه :

1. ان أراد أنّ النبي لغة كذلك وانّه لا يلازم كونه مأموراً بالتبليغ فله وجه وإن أراد أنّ المراد من « النبي » أو « النبيين » في القرآن أعم فهو غير ظاهر لأنّه سبحانه وصف النبيين عامة بكونهم مبشرين ومنذرين وقال : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ ) (2).

وظاهر الآية يعطي أنّ كل نبي كان مبشراً ومنذراً ، فهل التبليغ إلاّ التبشير والإنذار ، سواء كان التبشير بشريعته أو بشريعة من سبقه من الأنبياء.

نعم انّ في الآية احتمالاً آخر تسقط معه المناقشة ، وهو انّ المراد من النبيين فيها القسم الخاص منهم لا جميعهم ، بقرينة قوله سبحانه : ( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ

ص: 345


1- المفردات : 195.
2- البقرة : 213.

الكِتَابَ ) إذ من المعلوم انّه لم يكن لكل نبي كتاب ، فالكتب السماوية محدودة معدودة ، لا تتجاوز مائة وأربعة كتب (1) وعلى هذا فالآية تدل على أنّ كل نبي أُنزل عليه كتاب ، يكون مبعوثاً ومأموراً بالتبشير والإنذار لا أنّ كل من كان نبياً وإن لم يكن معه كتاب كان مأموراً بالتبليغ والتبشير والإنذار.

فإن قلت : لو كان المراد من النبيين خصوص من أُنزل معه الكتاب يلزم استعمال العام وإرادة الأفراد النادرة ، لأنّ المعروف انّ عدد الأنبياء 124000 نبي ، والذين أُنزل معهم الكتاب عن 104 أنبياء ، وعندئذ تكون نسبة من أُنزل معه الكتاب إلى مجموع النبيين نسبة الواحد على 1192 ، ومن المعلوم انّ استعمال العام وإرادة الأفراد النادرة مستهجن.

قلت : إنّ الاستهجان إنّما يلزم إذا كان المخصص منفصلاً وأمّا إذا كان متصلاً فلا ، فلو قلنا أكرم العلماء العدول وكان نسبة العادل منهم إلى الفاسق نسبة الواحد إلى المائة لما أضر ذلك بالاستعمال ولما عد مستهجناً ، والمقام من هذا الباب.

2. انّ القرآن ينص على أنّ حياة الأنبياء لم تكن خالية من عدوٍ من الإنس والجن ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً ) (2) ، وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ) (3).

وعلى هذا فكل نبي جاء ذكره في القرآن كان مأموراً بمكافحة الفساد وتطهير المجتمع البشري من كل عمل إجرامي ، فلو لم يكن كل نبي مأموراً

ص: 346


1- سيوافيك ما يدل على ذلك.
2- الأنعام : 112.
3- الفرقان : 31.

بالإرشاد والهداية ، ومكافحة الشر والفساد ، لم يكن للحكم بثبوت عدو لكل نبي على نحو الاستغراق الكلي وجه.

وتوهم أنّ للعداوة عللاً وأسباباً غير الدعوة إلى الحق ، إذ أنّ كثيراً من الناس يبغضون من ليس على شاكلتهم وإن لم يكن بينه وبينهم أيّة صلة ، والعصابة الضالة الجاهلية أعداء للصلحاء من الناس ، ولو فرض الصالح حيادياً تجاه فكرتهم العادية وعقيدتهم ، غير متعرض لشيء من أعمالهم وأفعالهم بذم أو تنديد.

مدفوع بأنّ الناس كانوا يبغضون الأنبياء من جهة رسالاتهم ومناهجهم لا من جهة أنّهم ليسوا على شاكلتهم ، والمناظرات التي دارت بينهم أوضح شاهد على ذلك.

3. لو كان الرسول أخص من النبي ، لكان أشرف وأمثل منه ، وذلك يناسب تقديم لفظ النبي على الرسول عند اجتماعهما في كلام واحد ، لأنّ ذكر الخاص بعد العام أوقع وأنسب ، والتدرج من الداني إلى العالي أو منه إلى الأعلى ، أحسن وأبلغ ، مع أنّ الوارد في القرآن هو العكس ، قال تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) ، وقال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (2).

وأمّا قوله سبحانه : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) (3) فالتدرج فيه من العالي إلى الداني لأجل رعاية فواصل الآيات حيث يقول سبحانه قبله : ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

ومما يثير العجب ، تفسير النبي في الآيتين بمعنى الرفيع شأناً والأعلى منزلة ،

ص: 347


1- مريم : 51.
2- مريم : 54.
3- الصافات : 112.

إذ فيه انّه مشتق من النبأ ، لا من النبوة ، وعلى فرض صحته فالحمل عليه ضعيف جداً ، لكونه منقولاً إلى المعنى المصطلح ولم يستعمل هذا اللفظ وما اشتق منه ، وهي النبوة ، في القرآن ولا في الأحاديث الشريفة ، إلاّ في ما استعملت فيه تلك اللفظة في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ ) (1).

مضافاً إلى أنّ هذا لا يصح في قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (2) ، إذ لا يصح تفسير النبي فيه إلاّ بالمعنى المصطلح ، ثم إنّ صاحب المنار (3) لما اختار هذا الفرق وجه تقديم الرسول على النبي في قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) بكونه أهم وأشرف ولكن لو صح ما ذكره فرضاً في قوله سبحانه : ( كَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) (4) ، أي رسولاً عظيم الشأن لا يصح في قوله : ( وَلا نَبِيٍّ ) .

4. انّ ما ذكر من الوجه لا يصح في قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) فإذا كان الرسول هو النبي المبعوث إلى الناس يكون المقصود من عديله أعني النبي ، غير المبعوث منهم فقط ، فإنّ المبعوث منهم إلى الناس داخل في الرسول ، وإذا كان المقصود من « النبي » في الآية غير المبعوث إلى الناس لا يستقيم معنى الآية ، وينافيه قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ) لظهوره في أنّ الصنفين مرسلان من اللّه.

ص: 348


1- آل عمران : 79.
2- الحج : 52.
3- المنار : 9 / 225.
4- قال العلاّمة الطباطبائي في ميزانه : والآيتان في مقام المدح والتعظيم ولا يناسب هذا المقام ، التدرج من الخاص إلى العام ( الميزان : 2 / 145 ).

الفرق الثاني

الرسول هو الذي أنزل معه كتاب ، والنبي أعم ، فهو الذي ينبئ عن اللّه وإن لم يكن معه كتاب ، قال الزمخشري : قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي ، وعن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه سئل عن الأنبياء فقال : « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، قيل : فكم الرسول منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً » (1).

والفرق بينهما انّ الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة ، الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وانّما أُمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله (2).

وقال في تفسير قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى ... ) (3) الرسول الذي معه الكتاب من الأنبياء ، والنبي من ينبئ عن اللّه عز وجل وان لم يكن معه كتاب كيوشع (4).

وهذا الوجه لا دليل عليه سوى ما عرفته من تفسير الرسول بكونه ذا رسالة ، واستلزامها كون المبعوث ذا كتاب ، فينتج كون الرسول من أُنزل معه الكتاب ، وهو ضعيف جداً ، فإنّ تخصيص الرسالة بالكتاب ، مع إمكان تحملها بغيره لا وجه له.

والاستدلال عليه بقوله سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

ص: 349


1- رواه الصدوق أيضاً في معاني الأخبار : 95 ، والخصال : 2 / 104.
2- الكشاف : 2 / 165 ، و 352 ، تفسير النيسابوري : 2 / 513 ، ونقله الرازي في : 23 / 49 ، والبيضاوي : 4 / 57 ، والمجلسي في بحاره : 11 / 32.
3- مريم : 51.
4- الكشاف : 2 / 282.

الكِتَابَ وَالمِيزَانَ ... ) (1) بتصور أنّ ظاهر الآية هو إنّ كل رسول بعث من قبل اللّه سبحانه ، قد أُنزل معه كتاب ، غير تام.

أما أوّلاً : فلأنّ الآية لا تدل على أنّ لكل نبي كتاباً على وجه العموم الاستغراقي ، وإنّما تنظر الآية إلى سلسلة الأنبياء بنظرة واحدة ، ويكفي في صدق قوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ ) نزول الكتاب على طائفة خاصة منهم لا على كل واحد منهم ، وذلك نظير قوله سبحانه في حق بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُم مُلُوكاً وَآتَاكُم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ ) (2) مع أنّه سبحانه جعل البعض النادر منهم ملكاً ، لا كل واحد.

وثانياً : أنّ من المحتمل أنّ المراد من ( الكِتَابَ ) هو الكتب التشريعية الخمسة التي هي أساس دعوة جميع الأنبياء والمراد من إنزال الكتب ، هو إنزال هذه الكتب سواء نزلت على نفس الرسول ، أو لرسول قبله وأمر المتأخر بترويجه وتطبيق العمل عليه.

وثالثاً : لو صح الاستدلال بهذه الآية على أنّ لكل رسول كتاباً ، فليصح الاستدلال بقوله : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ ) (3) على أنّ لكل نبي كتاباً وهو واضح البطلان. والجواب في كلتا الآيتين واحد.

ورابعاً : أنّه منقوض من جانب الرسول ، فهذا هو القرآن ، وصف أُناساً بالرسالة مع أنّه لم يكن مع واحد منهم كتاب ، قال سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ

ص: 350


1- الحديد : 25.
2- المائدة : 20.
3- البقرة : 213.

إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) وقال عز من قائل : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (2) وقال سبحانه : ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (3).

فهذه العصابة من الرسل لم يكونوا أصحاب كتب سماوية ولم يذكر أحد من الباحثين القدامى والمتأخرين كتاباً لهم ، وما عزا إليهم أحد من أصحاب الملل وكتاب السير والتاريخ ، كتاباً وما جاء لكتبهم ذكر في الأحاديث الشريفة ، وفي مثل هذا المورد ، يصح أن يستدل بعدم الوجدان على عدم الوجود.

وقال سبحانه : ( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (4) فقد بعث اللّه هوداً إلى عاد ، وصالحاً إلى ثمود ، وشعيباً إلى مدين ، الذين عدتهم الآية من الرسل ولم يثبت لواحد منهم كتاب. نعم نص القرآن على صحف إبراهيم وقال : ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (5) كما نصت الروايات على كتاب نوح (6).

وبذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ... ) (7) فالآية

ص: 351


1- مريم : 54.
2- الشعراء : 176 - 178.
3- الشعراء : 161 - 162.
4- التوبة : 70.
5- الأعلى : 19.
6- أخرج الصدوق في عيونه : 234 عن أبي الحسن الرضا علیه السلام : ... انّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل » ، راجع البحار : 11 / 34.
7- آل عمران : 81.

أمّا تنظر إلى الأنبياء بنظرة واحدة وتصف الجميع بقوله : ( لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ ) أو المراد هو الكتب التشريعية السماوية التي تعد أساس دعوة الأنبياء ويحتمل أن يكون المراد من ( النَّبِيِّينَ ) خصوص أصحاب الشرائع فلاحظ.

وخامساً : أنّ هذا القول لا يتلاءم مع ما رواه الفريقان في عدد المرسلين والكتب ، فعن أبي ذر انّه قال : قلت يا رسول اللّه كم النبييون ؟ قال : « مائة ألف ، وأربعة وعشرون ألف نبي » ، قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال : « ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً ... » إلى أن قال : قلت : يا رسول اللّه ! كم أنزل اللّه من كتاب ؟ قال : « مائة كتاب وأربعة كتب ، وأنزل اللّه تعالى على شيث ، خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، وأنزل التوراة والأنجيل والزبور والفرقان » (1).

ولم يذكر فيه كتاب نوح ... ولعلّه لم يكن في مقام الحصر والعد. روى صاحب الاختصاص تلك الرواية بسنده عن الصادق علیه السلام بصورة أُخرى تختلف عن ما تقدم في عدد الأنبياء قال : « يا رسول اللّه ! كم بعث اللّه من نبي ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : ثلاثمائة ألف وعشرين ألف نبي ، قال : يا رسول اللّه ! كم المرسلون ؟ فقال : ثلاثمائة وبضعة عشر ، قال : يا رسول اللّه كم أنزل اللّه من كتاب ؟ فقال : مائة كتاب وأربعة وعشرين كتاباً ، أنزل على إدريس خمسين صحيفة ، وهو « اُخنوخ » وهو أول من خط بالقلم ، وأنزل على نوح (2) وأنزل على إبراهيم عشراً ، وأنزل التوراة على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى ، والقرآن على محمد صلی اللّه علیه و آله » (3).

نعم روى في الاختصاص أيضاً عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم

ص: 352


1- معاني الأخبار : 59 ، الخصال : 2 / 104. ولاحظ العقائد النسفية للتفتازاني : 169.
2- كذا في النسخ.
3- بحار الأنوار : 11 / 60.

وآخرهم محمد صلی اللّه علیه و آله وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي ، الرسل منهم ثلاثمائة ... إلى أن قال : والكتب التي أُنزلت على الأنبياء مائة كتاب وأربعة كتب ، منها على آدم خمسون صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثون ، وعلى إبراهيم عشرون ، وعلى موسى التوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى محمد صلی اللّه علیه و آله الفرقان (1).

فالرواية على ما نرى ، مع أنّها متفاوتة في حصر عدد الأنبياء والكتب ومن نزلت إليهم هذه الصحف ، إلاّ أنّها تنص على قلة الكتب عن الرسل ، وانّ الرسل كانوا أكثر من الكتب المنزلة بأضعاف ، فكيف يمكن القول بأنّ الرسول من أُنزل عليه كتاب ؟! *

الفرق الثالث

اشارة

الفرق الثالث (2)

الرسول من جاء بشرع جديد ، والنبي يشمل هذا ومن جاء لتقرير شرع سابق (3).

قال الرازي : قيل انّ من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شريعة من قبله ، فهو الرسول ، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال ، فهو النبي ، غير الرسول.

قال البيضاوي في تفسير قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) الرسول من بعثه اللّه بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي من يعمه ومن بعث لتقرير شرع سابق.

ص: 353


1- بحار الأنوار : 11 / 42 ، الكشاف : 2 / 352.
2- وهذا الفرق كسابقيه داخل تحت عنوان واحد ، وهو كون الرسول أخص من النبي.
3- تفسير المراغي : 17 / 127.

ولكن باب المناقشة في هذا القول واسع ، فإنّ الظاهر من القرآن ونصوص الأحاديث ، انّ عدد الشرائع لا يتجاوز الخمسة ، وبينما تعداد الرسل قد تجاوزها بكثير ، فكيف يجوز لنا أن نفسر الرسول بأنّه المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام أو هو من بعثه اللّه بشريعة مجددة.

قال سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (1) فإنّ الآية في مقام الامتنان على الأمة الإسلامية ، من أنّ شريعتها جامعة لكل ما اشتملت عليه الشرائع السابقة النازلة على السلف من الأنبياء ، فلو كان هناك أصحاب شرائع غير ما ذكر في الآية لكان اللازم ذكره ليكون الامتنان آكد ، فظاهر الآية انّ الشريعة مختصة بالمذكورين في الآية : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله .

ولكن يمكن القول إنّ قوله سبحانه : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) تفسير لما ( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ ... ) ومعناه هو الأخذ بالدين بأجمعه والتدين بأحكامه وتشريعاته كافة وعدم الاختلاف فيه بأخذ طائفة ببعض الدين ، وطائفة أُخرى ببعضه الآخر ، كما فعلته الأمم السابقة ، فهذا ما أوصى به سبحانه كل من ذكر اسمه في الآية.

وعلى ذلك فلا تدل الآية على أنّ شريعة الإسلام جامعة للشرائع السابقة وتسقط دلالتها على كون أصحاب الشرائع خمسة ، زعماً بأنّها في مقام الامتنان لما عرفت من أنّها ليست إلاّ بصدد الحث على الأخذ بالدين بمجموعه ، وان هذا هو حكم اللّه سبحانه في جميع الأجيال والأزمنة ، لا بصدد الامتنان على الأمّة الإسلامية بأنّ دينهم جامع لما شرع للأمم السابقة ، حتى يستدل بالاكتفاء بذكر

ص: 354


1- الشورى : 13.

الأربعة والسكوت عن غيرهم ، على عدمها ، نعم لا تخلو الآية من إشعار بانحصارها في الخمسة ، كما لا يخفى.

نعم يؤيد انحصار الشرائع في الخمسة المذكورة ما أُثر عن أبي الحسن الرضا علیه السلام انّه قال : « إنّما سمّي أُولو العزم ، أُولي العزم ، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك إنّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل ، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده ، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى وبعده ، كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه ، إلى أيام عيسى ، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده ، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله ، فهؤلاء الخمسة أُولو العزم ، وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد صلی اللّه علیه و آله لا تُنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادّعى بعده نبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب ، فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه » (1).

وفي الرواية جهات من البحث يجب تنقيحها في محل آخر ، وملخصها :

1. انّ تفسير « أُولي العزم » بما ذكر فيها ، لا يلائم ظاهر الكتاب ، أعني قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (2) إذ الظاهر أنّ المقصود من العزم فيه هو الثبات على العهد المأخوذ منهم ، بقوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً ) (3) ، وقد أمر سبحانه نبيه الأعظم بالصبر والثبات اقتداء بمن سبق من أُولي العزم من الرسل ، حيث قال سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ

ص: 355


1- بحار الأنوار : 11 / 35 ، عيون الأخبار : 234.
2- الأحقاف : 35.
3- الأحزاب : 7.

الرُّسُلِ ) (1).

وبما أنّ آدم علیه السلام لم يعهد منه العزم في بعض المواقف ، ونسى العهد المأخوذ منه ، لم يعد من أُولي العزم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (2).

2. انّ موسى علیه السلام وان دعا فرعون وكل قبطي إلى توحيده سبحانه ، غير انّ ما جاء به من الشريعة والأحكام كانت مختصة ببني إسرائيل فقط ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) (3) ولكن المستفاد من الرواية خلافه ، وان شريعته كانت عامة لهم ولغيرهم.

3. انّ المراد من العزائم ما يقابل الرخص ، والمراد منها هو الواجبات والمحرمات ، فإذا كان الملاك لكونهم من أُولي العزم هو كونهم أصحاب فرائض وذوي واجبات ومحرمات أُوحيت إليهم ، فلماذا لم يكن غيرهم كصالح وهود وشعيب ممن أتوا بواجبات ومحرّمات ، منهم أيضاً مع كونهم مثلهم.

وروى صاحب المحاسن عن سماعة قال : قلت لأبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : قول اللّه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) فقال : « نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله » قلت : كيف صاروا أُولي العزم ؟ قال : « لأنّ نوحاً بعث بكتاب وشريعة ، فكل من جاء بعد نوح ، أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء إبراهيم بالصحف ، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به ، فكل نبي جاء بعد إبراهيم ، جاء بشريعته ومنهاجه وبالصحف ، حتى جاء موسى بالتوراة وبعزيمة

ص: 356


1- الأحقاف : 35.
2- طه : 115.
3- المائدة : 44.

ترك الصحف ، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء المسيح بالإنجيل ، وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه ، حتى جاء محمد صلی اللّه علیه و آله بالقرآن وشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أُولو العزم من الرسل » (1).

وعلى ذلك جرى شيخنا الصدوق في « الاعتقادات » وقال :

« إنّ سادة الأنبياء خمسة ، الذين دارت عليهم الرحى ، وهم أصحاب الشرائع وهم أُولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله » (2).

ركام من الأوهام والأكاذيب

قد عرفت هذه الفروق المذكورة في كتب التفسير والمعاجم واتضح لك أنّه لا يوافقها الذكر الحكيم ، والذي يحصل من الجميع أنّ الرسول أخص من النبي وهم أعم منه ، ولكن هناك من الضالين من حرّف الكلم عن مواضعه (3) فصوّر

ص: 357


1- المحاسن : 269 ، بحار الأنوار : 11 / 56. لو كان الملاك بعدهم من أولي العزم، هو ترك كل واحد كتاب من قبله بعزيمة، يلزم أن لا يكون نوح منهم إذ لم يكن شريعة ولا كتاب قبله، حتى يتركها بعزيمة. أضف إلى ذلك أن المسيح لم يترك شريعة موسى، بل بين لبني إسرائيل بعض الذي اختلفوا فيه (الزخرف: 63) وأحلّ لهم بعض الذي حرم عليهم (آل عمران : 50) وليس ذلك تركاً للشريعة ورفضاً لها، كما هو ظاهر الرواية، ولأجل هذه الجهات تحتاج هذه الرواية وما تقدم عليها، إلى البحث والإمعان أكثر من هذا، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثالث من هذه السلسلة. لاحظ : 107-115.
2- اعتقادات الصدوق : 92.
3- ثاني الفروق وثالثها.

المعنى بصورة شوهاء ، وشتان بين كاتب يكتب بدافع الإيمان والعقيدة طلباً للحقيقة ، وكاتب مستأجر لا هدف له إلاّ دعم ما نوى واضمر ، وتحكيم ما أُستوجر عليه ، وذلك يفرض عليه اختلاق الأوهام ونحت الأكاذيب التي يتحير عندها العقل والفكر.

نعم حرّف هؤلاء (1) ما أُثر عن القوم في المقام فقالوا : النبي هو الذي ينبئ عن اللّه وليس معه كتاب ، والرسول هو الذي بُعث إلى الناس وأُنزل معه كتاب ، أو أنّ النبي هو الذي يقرّر الشريعة السابقة فقط ، والرسول هو الذي يأتي بشريعة مستقلة (2) ، وعلى هذا تصير النسبة بين المفهومين ، هي التباين ، يفختص النبي بمن ليس له كتاب أو من يقرر شريعة من قبله.

ومن الواضح أنّ هذا القول باطل تماماً ، فهذا هو الذكر الحكيم قد خاطب نبي الإسلام المبعوث بأفصح الكتب وأحكمها وقد تضمن شريعة مستقلة عن غيرها من الشرائع ، بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) فهل يمكن لهؤلاء الكتّاب المستأجرين أن ينكروا نزول الكتاب إليه أو مجيئه بشريعة مستقلة. فدونك نص ما خاطبه سبحانه بلفظ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) :

ص: 358


1- البهائية الضالة.
2- الفرائد : 135 ، نعم نقل هذا الفرق الجزائري في فروقه : 106 قولاً ولا يعبأ بهذا النقل تجاه تلكم التصاريح المضادة له ، وأضعف منه ، ما نقله في تفسير الجلالين في تفسير قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) من أنّ الرسول هو من أُمر بالتبليغ ، ولا يخفى شذوذ هذا القول ، كسابقه ، ومضادتهما مع تصاريح أئمّة الأدب والتفسير. ومما يثير العجب ما ذكره الطنطاوي بقوله : الرسول هو الذي معه كتاب، والنبي ينبئ عن اللّه وليس معه كتاب، فمثال الأول موسى، والثاني يوشع، فيوشع نبي لا رسول وانما ينبئ قومه وموسى ينبئ قومه بكتاب معه أرسل به من اللّه ... الجواهر: 40/10 ، إذ فيه مع ضعف القول في نفسه أنّ ليوشع كتاباً معروفاً طبع مع كتب العهدين.

1. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... ) (1).

2. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ ... ) (2).

3. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... ) (3).

وهكذا ... فعلم مما أوردناه من الآيات أنّ النبوة غير مقيدة بتقرير الشريعة ولا النبي منحصر في كونه غير ذي كتاب.

والغاية من هذا التحريف للقائل هو نفي دلالة قوله سبحانه : ( وَلَكِن رَسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (4) على ختم الرسالة والنبوة معاً ، مدعياً أنّه إنّما ختمت الثانية ، دون الأولى وإنّ كونه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين ، لا يلازم كونه خاتم الرسل.

وقد عرفت أنّ كلا الفريقين لا يعاضدهما القرآن ، فكيف وقد حرفا وخصص النبي بمن يقرر الشريعة ، أو لا يأتي بكتاب ، إذ أنّه باطل بنص الكتاب العزيز ، فقد استعمل النبي في أصحاب الشرائع والكتب وبذلك يظهر سقوط ما نقله الطبرسي عن الجاحظ ، انّه قال : إنّ النبي يحفظ شريعة غيره والرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام (5).

الفرق الرابع

الفرق الرابع (6)

إنّ العلوم والحقائق التي تفاض على الإنسان بواسطة الملك بحيث يعاينه

ص: 359


1- الأحزاب : 28.
2- الأحزاب : 59.
3- الأحزاب : 45.
4- الأحزاب : 40.
5- مجمع البيان : 7 / 91.
6- وهذا الفرق يخصص الرسالة بمعاينة الملك وأخذ الوحي منه مشافهة. وأمّا النبي فهو مقيد بأخذ الوحي بلا توسيط ملك ، بل بإحدى الطرق المألوفة من الرؤية في المنام وغيره كما سيصرح ، فبينهما تباين في النسبة.

ويشاهده ويكلّمه مشافهة أو يلقى في روعه تسمّى رسالة ، والإنسان الحامل لها رسولاً وباعتبار إنّ مثل هذا الإنسان يتلقّى رسالة اللّه بواسطة رسل السماء ، حيث أدّوا إليه رسالة ربهم ، يسمّى رسولاً ، أي ذا رسالة.

وأمّا ما يفاض من العلوم بغير هذا الطريق فيسمّى نبوة ، والإنسان العالم عن هذا الطريق نبياً ، سواء كان بالإلهام مثل ما أوحى اللّه إلى نبينا ليلة المعراج وما أوحي إلى موسى في طور سيناء ، أو بسماع صوت بلا رؤية شخص أو غير ذلك.

وعلى ذلك فالنبوة والرسالة مرتبتان للنفس في أخذ المعارف والحقائق من العلوم العلوية ، إحداهما مشروطة بحضور الملك ومعاينته ومشافهته للرسول ، والأخرى مقيدة بأخذها من دون توسيط ملك بل بطرق أُخرى.

وهذا الوجه هو مختار بعض الأجلّة (1) ولم أجد هذا الفرق برمته في كلام من تقدم عليه ، وما أُثر من النقول في المقام يوافقه في بعض ما ذكره لا كله ، بل بعضها يشير إلى خامس الفروق الذي سيوافيك بيانه ، وحاصله تخصيص النبوة بالرؤية في المنام.

ودونك بعض كلماتهم :

1. انّ الرسول هو الذي يرى الملك ويسمع منه ، والنبي يرى في المنام ولا يعاين (2).

وهذه العبارة توافق المذكور في ناحية الرسول فقط ، لا في جانب النبي ولا صراحة لها في ما ادّعاه القائل من التعميم في النبي ، أعني : من يأخذ الوحي بغير توسيط ملك سواء أكان بالرؤية في المنام أم بغيرها ، بل هي تحتمل هذا الوجه من

ص: 360


1- العلاّمة الشيخ محمد باقر الملكي دام ظله.
2- الميزان : 15 / 222.

التعميم في جانب النبي ، وما يأتي في خامس الوجوه من تخصيص النبوة بالرؤية في المنام.

2. « النبي » هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين (1).

وهذا كما ترى يوافق الفرق المذكور في جانب النبي ويخالفه في ناحية الرسول ، إذ لا يخص الرسول بمن يتحمل الرسالة بواسطة الملك بل يعمم إلى محتملها بسبب الإيحاء في المنام.

3. « الرسول » من يأتيه الملك بالوحي عياناً ويشافهه ، و « النبي » يقال لمن يوحى إليه في المنام (2).

وهذا يوافق الفرق المذكور في جانب الرسول ويخالفه في ناحية النبي حيث يخصصه بالرؤية في المنام وهو جعل النبي أعم منها ، وإن كان قيده بعدم توسيط الملك.

4. « الرسول » الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي ، والنبي الذي يوحى إليه في منامه ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً (3).

ولولا إنّه قد رتب على كلامه ما رتب ، لكان ظاهره في بدء الأمر موافقاً لما تقدمه غير انّه لما جعل النسبة بينهما أعم وأخص مطلقاً ، وفرض أنّ النبي أعم من الرسول ، فقد خالف الكلام المذكور قبله في جانب النبي وإن كان يوافقه من جانب آخر.

ص: 361


1- مجمع البحرين : مادة « النبأ ».
2- فروق اللغة : 106.
3- مجمع البيان : 7 / 91.

وكيف كان فقد استدل على كون النبوة والرسالة مرتبتين مختلفتين ، وإنّ الرسول خصوص من ينزل عليه الملك ، بقوله سبحانه :

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ (1) لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) (2).

ومحصل مضمون الآيتين : انّ الذي يمنع الناس عن أن يؤمنوا برسالتك أنّهم يحيلون رسالة البشر من جانب اللّه ( حيث قالوا : ( أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً ) ) وقد أخطأوا في ذلك ، فإنّ مقتضى الطبيعة الإنسانية والأرضية وعناية اللّه بهداية عباده ، أن ينزل إلى بعضهم من أبناء جلدتهم ملكاً ، من السماء رسولاً لإرشادهم ، حتى أنّ الملائكة ، لو كانوا كالإنسان من حيث العيش على سطح هذه الأرض ، لنزّل اللّه إلى بعضهم ملكاً من السماء رسولاً حاملاً لوحيه ، وهذا يعطي أنّ الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين اللّه ثم هو يبلغه إلى الناس بأمر اللّه (3).

قال في الكشاف في تفسير قوله : ( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) يعلمهم الخير ويهديهم الرشاد ، فأمّا الإنس فما هم بهذه المثابة إنّما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة ، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم (4).

إلى غير ذلك من الكلمات حول الآية ، وهي تفيد أنّ رسالة أي فرد من البشر أو الملائكة القاطنين في الأرض إلى أمثالهم ، لا تستقيم إلاّ بنزول ملك من السماء يحمل رسالة اللّه إلى فرد مختار في الأرض يتحملها إلى أعداله وأمثاله.

ص: 362


1- أي يمشون على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويتعلّموا ما يلزمهم علمه.
2- الإسراء : 94 - 95.
3- الميزان : 13 / 221.
4- الكشاف : 2 / 246.

ويشعر بذلك ما قاله موسى علیه السلام عندما خاطبه سبحانه بقوله : ( أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ) (1) أي أرسل إليه جبرئيل واجعله رسولاً مثلي واشدد عضدي به وقد أُجيبت دعوته حيث جعل سبحانه أخاه رسولاً مثله بقرينة قوله سبحانه : ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (2) وقوله سبحانه : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ ) (3) ، وهذا الوجه يؤيده بعض الأحاديث المروية بطرق صحيحة سوف نشير إليها ونترجم رجال أسنادها حسب اقتضاء المقام.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه هذا القول ، غير انّ في دلالة الآيتين على كون حقيقة الرسالة متقومة بنزول الملك على الرسول خفاء واضح.

فلأنّها سيقت لرد مزاعم بعض المشركين من امتناع أن يكون البشر رسولاً مبعوثاً من اللّه إلى الناس ، وانّه لابد أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً ، بأنّ التماثل بين المرسل والمرسل إليهم أوفق في الغرض الذي لأجله بُعث الرسول ، لأنّ بين المتماثلين من التجاذب والتلاحم ما ليس في غيره ، ولأجل ذلك جرت حكمة اللّه على جعل الرسل بشراً ولو استقرت الملائكة في الأرض لجعل رسلهم من جنسهم أيضاً ملائكة ، وليست الآية بصدد تحديد مفهوم الرسالة وإنّها متقومة بنزول الملك إلى الرسول.

أضف إلى ذلك أنّ دلالة قوله : ( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) على ما يرتئيه القائل مبنية على أن يكون الملك النازل من السماء ، رسولاً إلى الرسول

ص: 363


1- الشعراء : 12 - 13.
2- طه : 47.
3- الشعراء : 16.

المختار منهم لا رسولاً إليهم جميعاً ، وعند ذاك يصح ما يراه القائل من كون رسالة الرسول حتى رسالة الملك بين الملائكة ، تتوقف على نزول ملك من السماء إليه ، ينبئه بأخبار السماء ، مع أنّ ظاهر الآية خلافه وانّ الملك النازل هو بنفسه نبي الملائكة ورسولهم لا أنّه ينزل هذا الملك على ملك آخر ليكون هو الآخر رسولاً.

وأمّا الآية الثانية فلها إشعار بهذا القول ، ولا يبلغ حد الدلالة ، لأنّ طلب موسى من اللّه سبحانه أن يرسل جبرئيل إلى أخيه ليخلع عليه الرسالة ، لا يدل على تحديد مفهوم الرسالة بنزول الملك فقط بل هو أحد طرقها لا طريقها المنحصر.

الفرق الخامس

النبي من يوحى إليه في المنام (1) فيطلع على بعض الملاحم والمغيبات ، ولكن الرسول يشاهد الملك ويعاينه ويكلّمه ويراه.

والموافقة مع هذا القول مشكلة.

فإن أُريد أنّ النبي عبارة عمن يوحى إليه في المنام ، وان حيثية النبوة قائمة بالإيحاء إلى النبي بالمنام فقط ، كما انّ الرسالة متقومة بمعاينة الملك ومشاهدته ، فيرده أنّ النبي صفة مشبهة بمعنى المطلع على الغيب على زنة اللازم أو المخبر عن الغيب ( إذا كان بمعنى الفاعل كما هو ظاهر بعض المعاجم ) من أي طريق اتفق ، سواء أكان بالإيحاء إليه في النوم ، أو بإلقاء في قلبه وروعه ، أو بسماع الكلام من جبل أو شجرة أو بمعاينة الملك ومخاطبته ، فلا دليل على اختصاصه بالاطلاع على الغيب بالإيحاء إليه في المنام.

ص: 364


1- أوعز إليه في مجمع البحرين في مادة « النبأ » ، ونقله قولاً في مجمع البيان : 7 / 91 ، والرازي في مفاتيحه : 6 / 344 ، واختاره صاحب الميزان في مواضع من كتابه : راجع 1 / 280 ، و 13 / 221 - 222 ، و 14 / 429 - 430 ، وما نقلناه من الكلمات في ذيل الفرق الرابع الماضي ربما يمكن أن يشير بعضها إلى هذا الوجه.

وقد خاطب اللّه سبحانه نبيه الكريم في كتابه المجيد بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) في مواضع كثيرة ، أو أطلق عليه النبي ، فهل ترى من نفسك أن تقول : إنّ ذلك الإطلاق إنّما هو بملاك الإيحاء إليه في المنام ، مع أنّ الإيحاء إليه إنّما كان بنزول الملك - دائماً أو غالباً - كما هو ظهور قوله سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) (1).

نعم اتفق الإيحاء إليه في المنام قليلاً ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ) (2) وقوله سبحانه : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَاناً كَبِيراً ) (3).

على أنّه يمكن أن يقال : إنّ تلك الرؤيا وما تقدم عليها وإن كان اطلاعاً منه على الغيب ولكنه لم يكون وحياً مصطلحاً ، وليس مطلق الكشف ومجرد الشهود والرؤيا الصادقة ، وحياً مصطلحاً.

وإن أراد أنّ النبي مطلق من يصل إليه الخبر من جانب اللّه ويطلع على الغيب بواحد من الطرق التي ألمحنا إليها ، وإليها يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (4) وانّ الإيحاء في المنام أحد هذه الطرق ، فهو حق في جانب النبي وتعاضده اللغة وموارد الاستعمال ، فالنبي مطلق المطّلع على الغيب

ص: 365


1- الشعراء : 193 - 194.
2- الفتح : 27.
3- الإسراء : 60.
4- الشورى : 51.

أو المخبر عنه سواء أكان اطلاعه عليه بالإيحاء إليه في المنام أو غيره.

وأمّا تخصيصه الرسول بمعاينة الملك ، فقد استدل عليه ببعض الآيات وأيّدته بعض الروايات الآتية وقد تقدم بيانه.

وقد تمسكت الطائفة الضالة « البهائية » بهذا القول وادّعت بأنّ النبي هو خصوص من يوحى إليه في الرؤيا فقط ، وانّ المختوم إنّما هو النبوة بهذا المعنى ، لا الرسالة بمعنى مشاهدة الملك ومعاينته قبلاً ، فختم النبوة لا يلازم ختم الرسالة.

وقد وافاك إنّ هذا قول مجرد عن البرهنة ، وفارغ عن أي شاهد ، بل هو عبارة عن منصب معنوي يستدعي الاطلاع على الغيب بإحدى الطرق التي ألمحنا إليها ، فختم هذا الباب وسده يستلزم ختم الرسالة لما سنوضح من أنّ النبوة أساس الرسالة وإنّ ختم النبوة يلازم ختم الرسالة ، فانتظر.

الفرق السادس

اشارة

إنّ النبي والرسول كليهما مبعوثان إلى الناس ، غير أنّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند اللّه ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (1) وقوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (2) وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية اللّه ، من هداية الناس إلى سعادتهم ، هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى : ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (3) ، وعلى هذا يصير الرسول أخص من النبي كما هو صريح

ص: 366


1- يونس : 47.
2- الإسراء : 15.
3- النساء : 165.

قول القائل : « والرسول هو الرسول الحامل لرسالة خاصة » (1).

وهذا الفرق لا يخلو من خفاء أيضاً فإنّ جعل الرسول من له رسالة خاصة تستتبع مخالفة العذاب لم يدل عليه دليل وما استدل به من قوله سبحانه : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) لا يدل على أنّ ما رآه داخل في حقيقة الرسالة ، وإنّها محددة به ، والدليل على ذلك إنّه لو قال مكانه : « حتى نبعث نبياً » لكان صحيحاً أيضاً ، لتمامية الحجة ، ببعث النبي والرسول كليهما ، كما في قوله سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (2) فلولا إتمام الحجة ببعث النبي لما صح توصيفهم بعد البعث ، بكونهم مبشرين ومنذرين.

وعلى أي حال فقد اضطرب رأيه في إبداء الفرق بين اللفظين فاختار في المقام ما نقلناه عنه ، وقال في موضع آخر انّ النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحى به إليه ، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلّمه (3).

وقد دفعه إلى اختيار ثاني النظرين وروده في الروايات ويظهر منه في موضع ثالث (4) ما هو المختار عندنا ، وسوف يوافيك بيانه.

ص: 367


1- الميزان : 2 / 145 و 3 / 216 حيث قال : إنّ النبوة هي منصب البعث والتبليغ ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس ، أمّا بالبقاء والنعمة أو بالهلاك ، وسيوافيك امكان إرجاع كلامه هذا إلى ما هو المعتمد عندنا ، أعني : سابع الوجوه ، مع تصريحه به في : 16 / 345 من ميزانه.
2- البقرة : 213.
3- الميزان : 13 / 221 و 14 / 429.
4- الميزان : 1 / 274 حيث قال : النبوة معناها تحمل النبأ من جانب اللّه والرسالة معناها تحمل التبليغ والمطاعية والإطاعة ، ونظيره ما أفاده في 16 / 345 فقد عدّ التبليغ من شؤون الرسالة ، مع أنّه عدّه في الجزء الثالث ص 216 من شؤون النبوة ، والعصمة لله سبحانه ولمن اصطفاه من عباده.
ما هو المختار عندنا ؟

وقبل الدخول في البحث نقدم أُموراً ، تلقي الضوء على الحقيقة وتكشف الشك عن محيا الواقع.

الأوّل : النبأ في العرف العربي (1) الخبر الخطير الذي يستدعي الاهتمام به بالنظر إلى غاياته وآثاره فهو أخص من مطلق الخبر ، وبه يسمّى النبي نبياً ، لأنّه منبئ بما هو خطير من إنذار أو تبشير ، والتنبّؤ إخبار بالغيب ، لأنّه أظهر أفراد الخبر الخطير وأعظم مصاديق لنبأ العظيم (2).

النبي في اللغة مأخوذ من مادة « النبأ » بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن ، والأوّل أظهر ، وأكثر العرب لا تهمزه ، بل نقل أنّه لم يهمزه إلاّ أهل مكة ، وقد أنكر النبي على رجل قال له : « يا نبيء اللّه » (3) حيث روي أنّ رجلاً قال له : يا نبيء اللّه ، فقال : « لا تنبر (4) اسمي ، إنّما أنا نبي اللّه ».

النبي « فعيل » بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ : الخبر ، لأنّه ينبئ عن اللّه ، أي يخبر عنه ، ويجوز فيه تحقيق الهمزة وتخفيفها ، يقال : نَبَأ ونَبَّأ وأنبأ ، قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلاّ ويقول : تنبّأ مسيلمة بالهمزة غير انّهم تركوا الهمزة في النبي ، كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلاّ أهل مكة فإنّهم يهمزون هذه الأحرف الثلاثة ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك كله (5).

قال الجوهري : يقال نبأت على القوم إذا طلعت عليهم ، ونبأت من أرض

ص: 368


1- ننقل في المقام نصوص أهل اللغة والعلم في تفسير النبي والرسول.
2- المعجزة الخالدة : 71.
3- المنار : 9 / 225 ، ورواه الصدوق في معاني الأخبار : 113.
4- أي لا تهمز اسمي ، النبر همز الحروف.
5- النهاية لابن الأثير : 5 / 3 ، مادة « نبأ ».

إلى أرض ، إذا خرجت من هذه إلى هذه ، وهذا المعنى أراده الأعرابي بقوله « يا نبيء اللّه » لأنّه خرج من مكة إلى المدينة فأنكر عليه الهمزة ، لأنّه ليس من لغة قريش ، وقيل إنّ النبي مشتق من النبأة وهي الشيء المرتفع (1).

حكى الصدوق في معانيه عن أبي بشر اللغوي أنّه سمع منه في مدينة « السلام » أنّ « النبوّة » مأخوذة من « النبوة » وهو ما ارتفع من الأرض ، فمعنى النبوّة : الرفعة ، ومعنى النبي : الرفيع (2).

قال ابن فارس : إنّ النبي من النبوة وهو الارتفاع كأنّه مفضل على سائر الناس برفع منزلته ، ويقولون : النبي ، الطريق « النبأ » الخبر ، والمعنى المخبر ومن يهمز النبي فلأنّه أنبأ عن اللّه سبحانه (3).

وقال في المعجم الوسيط (4) النبوة سفارة بين اللّه عز وجل وبين ذوي العقول لإزاحة عللها ، النبي المخبر عن اللّه وتبدل الهمزة وتدغم فيقال : النبي.

هذه نصوص أئمّة اللغة والتفسير ، ولو أردنا الاستيعاب لخرجنا عما هو المقصود وكلها تهدف إلى أنّ لفظ ( النبي ) لو كان مشتقاً من « نبو » ( الناقص الواوي ) بمعنى ارتفع ، فهو بمعنى المرتفع منزلة ، وإن كان من النبأ بالهمزة ، فهو المخبر عن اللّه وعلى أي تقدير ، فلا ترى في كلام واحد من أصحاب المعاجم دخول أحد هذه الفروق المذكورة في صلب معناه وجوهره حسب الوضع الأوّلي ، فلو دل على شيء منها فإنّما هو لعلّة أُخرى كما نشير إليه في آخر البحث.

وأمّا الرسول فقد قال الراغب في مفرداته : « أصل الرسل هو الانبعاث على

ص: 369


1- راجع الصحاح مادة « النبأ ».
2- معاني الأخبار : 39.
3- المقاييس : مادة « النبأ ».
4- أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

التؤدة ( التأنّي ) يقال ناقة مرسلة ، سهلة المسير ، وإبل مراسيل منبعثة انبعاثاً سهلاً ، ومنه « الرسول » المنبعث ، وتصور منه تارة الرفق فقيل على رسلك ، إذا أمرته بالرفق ، وتارة الانبعاث ، فاشتق منه الرسول.

وقال العسكري في فروقه : أرسلت زيداً إلى عمرو ، ويقتضي أنّك حملته رسالة إليه أو خبراً أو ما أشبه ذلك ... إلى أن قال : والنبوة يغلب عليها الإضافة إلى النبي فيقال نبوة النبي ، لأنّه يستحق منها الصفة التي هي على طريقة الفاعل والرسالة تضاف إلى اللّه لأنّه المرسل بها ، ولهذا قال برسالتي ولم يقل بنبوتي ، والرسالة جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤدّيها إلى غيره ، والنبوة تكليف القيام بالرسالة فيجوز إبلاغ الرسالات ، ولا يجوز إبلاغ النبوات (1).

وكلا النصين من الراغب والعسكري ، يهدفان إلى أمر واحد ، وهو أنّ الرسالة نحو سفارة من الغير ، لتنفيذ ما تحمله الشخص من جانب مرسله ، وانّ ما نقل من الفروق من أعلام التفسير وغيره خارج عن جوهرها وصلب معناها ، فإن دلّ عليها فإنّما هو لأمر آخر ، كما سيوافيك بيانه.

الثاني : المفهوم من التدبر في الآيات وما في كلمات أعلام اللغة : انّ النبي هو الإنسان الموحى إليه من اللّه بإحدى الطرق المعروفة ، وأمّا الرسول فهو الإنسان (2) ( أو الأعم ) القائم بالسفارة من جانب شخص سواء أكان هو اللّه أو غيره (3) بإبلاغ قول أو تنفيذ عمل.

وإن شئت قلت : إنّ النبوة منصب معنوي وارتقاء للنفس الإنسانية ،

ص: 370


1- الفروق اللغوية : 222 ، الباب الرابع والعشرون.
2- وما أشبه حال اللفظين : النبي والرسول بلفظي « المجتهد » و « المبلغ ».
3- سيوافيك بيان انّه لا يشترط في صدق الرسول كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه ، بل يعم ما لو كان مبعوثاً من شخص عادي ، فانتظر.

تستدعي إمكان الاطّلاع على الغيب بإحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسَل ( بالفتح ) من جانب المرسِل ( بالكسر ) لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج ، أو ابلاغه إلى المرسل إليهم.

وإن شئت قلت : النبوة تحمّل الأنباء والأخبار عن اللّه ، والرسالة تحمّل التبشير والإنذار والتبليغ من جانب أي شخص كان سواء أكان هو اللّه أم غيره (1).

وتصديق ذلك يتوقف على إمعان النظر فيما نقلناه عن الأعلام في تفسير مادتي النبوة والرسالة اللتين اشتق منهما لفظا النبي والرسول.

توضيح ذلك : أنّ النبي باعتبار اشتقاقه من النبأ بمعنى الخبر (2) كما عليه جمهور اللغويين عبارة عمّن قام به المبدأ وهو « النبأ » فلا مناص في حالة إطلاق النبي على شخص ، عن اتصافه بمبدئه وقيامه به بنحو من أنحاء القيام فهو - بما أنّه واجد لهذا المبدأ أي الاطلاع على النبأ أو الأنباء عنه - نبي.

ففي أي مورد أُطلقت كلمة النبي في كلامه سبحانه أو جاءت في السنّة واللغة فلا يراد منها إلاّ من خصص بهذه المكانة ، أي مكانة تحمل النبأ وشرف الاتصال باللّه والعلم بما عنده والإيحاء إليه بإحدى الطرق المذكورة في القرآن الكريم ، أعني : سورة الشورى الآية 51.

ولأجل ذلك نراه سبحانه يقرن لفظ الوحي بلفظ النبيين ويقول : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) (3).

ص: 371


1- مثل قوله : ( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) ( يوسف : 50 ).
2- نعم لا كل خبر أو كل نبأ ، بل النبأ من اللّه ولو كان في اللغة موضوعاً للمعنى المطلق ، لكن المصطلح استقر على استعماله في النبأ من اللّه.
3- النساء : 163.

وأمّا قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (1) فانتخاب الرسول دون النبي هو المناسب للوحي إنّما هو لأجل قوله ( أَرْسَلْنَا ) الذي يناسب الرسول كما سيوافيك بيانه ، والآية تهدف إلى أنّ الرسالات كلها كانت قائمة على أساس التوحيد ونفي عبادة غيره تعالى.

والمراد من الرسول في قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) (2) هو أمين الوحي (3) ، يعني أنّ الرسول ( الروح الأمين ) يوحي إلى ذلك البشر الذي أراد اللّه أن يكلّمه ، بإذنه سبحانه فالرسول في الآية موح لا موحى إليه كما لا يخفى.

وإلى ذلك يشير العلاّمة اللغوي العسكري حيث يقول في فروقه : « والإنباء عن الشيء قد يكون من غير تحمل النبأ ... » فيريد أنّ النبوة متقومة بتحمل الخبر ولا يشترط في صدقها كون النبي مأموراً بإبلاغه إلى الغير (4) بخلاف الرسالة فإنّها متقومة بتلك الحيثية.

وأمّا الرسالة : فحقيقتها عبارة عن القيام ، بإنفاذ عمل أو إبلاغ كلام من جانب الغير سواء أكان هو اللّه سبحانه أم غيره (5) وتحمّل التبشير والإنذار كما نقلناه عن الراغب والعسكري.

ويدل على ذلك أنّ اللّه سبحانه إذا أراد من نبيه تبليغ كلام عنه أو تحقيق عمل في الخارج يخاطبه كثيراً بقوله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) لا بلفظ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ )

ص: 372


1- الأنبياء : 25.
2- الشورى : 51.
3- وإلاّ لكان الأنسب مع قوله : ( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) لفظ « النبي » لا « الرسول » كما لا يخفى.
4- نعم دلّت ظواهر الآيات على أنّ كل نبي كان مبعوثاً إلى الناس كما مضى.
5- سيوافيك دليل عمومية الرسالة من جانب المرسل ( بالكسر ) كما سيوافيك دليل عموميتها من جانب نفس المرسل ( بالفتح ).

كقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (1) وقوله سبحانه : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (2) وهذا صريح في أنّ منصب الرسالة هو منصب التبليغ وتنفيذ أمر المرسل لا منصب نزول الوحي والإنباء عن اللّه مباشرة.

وأوضح منه ، أنّه سبحانه إذا أراد أن يحدّد وظيفة سفرائه ويبيّن لهم أنّهم بعثوا للتبليغ والإبلاغ لا الإكراه والإلزام ، يقول : ( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (3) ، وقوله سبحانه : ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (4) سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ ) (5) وقوله سبحانه : ( إِلا بَلاغاً مِنَ اللّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) (6).

والنتيجة : إنّه إذا تعلّق غرضه سبحانه بالبلاغ بأشكاله المختلفة ، يقرنه بالرسالة دون النبوة ويقول سبحانه : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ ) (7) ، ويقول سبحانه : ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ) (8) ويقول أيضاً : ( إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) (9) ، إلى غير ذلك من الآيات.

ص: 373


1- المائدة : 67.
2- مريم : 19.
3- النحل : 35.
4- العنكبوت : 18.
5- التغابن : 12.
6- الجن : 23.
7- الأحزاب : 39.
8- الأعراف : 62.
9- الأحقاف : 23.

ولذلك ترى المسيح علیه السلام لما ادّعى السفارة من اللّه وانّه جاء من عند اللّه لبيان أحكامه ورسالاته خاطب قومه بقوله : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) (1) ولم يقل « إني نبي اللّه ».

من كل ذلك يمكننا أن نستنتج أنّ الرسالة سفارة من المرسل لبيان ما تحمّله ( أي فرد كان ) ونشره بين الناس ، وانّ الحيثية المقومة للرسالة ، أمر يستدعي التبليغ والتنفيذ ، وأمّا النبوة فإنّما هي منصب يستدعي الاتصال باللّه سبحانه والعلم بما عنده من معارف وأحكام ، ولا صلة بين الحيثيتين ، سوى انّ النبوة أساس الرسالة (2) فلا تستقيم رسالة الإنسان من اللّه إلاّ بارتقائه إلى مقام النبوة واتصاله بالمبدأ الأعلى ، فكانت الرسالة من آثار النبوة.

ولكن هذا الأمر لا يجعل اللفظين مترادفين ومشيرين إلى معنى واحد بل كل منهما موضوع لمعنى خاص لا يختلط أحدهما بالآخر.

الثالث : انّ النبي لم يستعمل في القرآن والحديث إلاّ في الإنسان الموحى إليه من اللّه وبما انّ الجهة المقومة للنبوة عبارة عن كونه مطّلعاً على الغيب أو منبئاً عنه ، فإنّه يصير النبي عندئذ عبارة عن الإنسان الموحى إليه من جانب اللّه ، المطلع على الغيب ، أو المنبئ عنه ، فاعتبر فيه قيدان :

1. كونه إنساناً.

2. كونه موحى إليه من جانب اللّه سبحانه ومتحمّلاً النبأ منه عزّ وجل.

وأمّا الرسول فلمّا كانت الجهة المقوّمة لرسالته ، تحمل إنفاذ عمل أو بيان قول من جانب المرسل في إطار التبشير والإنذار أو ما يشبهه فلا يلزم أن يكون إنساناً بل يمكن أن يكون ملكاً أو جنّاً كما لا يلزم أن يكون مبعوثاً من جانب اللّه

ص: 374


1- الصف : 6.
2- المراد : الرسالة من جانب اللّه فلا ينافي ما سيوافيك من التوسع في الرسالة.

سبحانه بل أعم منه ، ومن هنا تجد القرآن يتوسع في استعمال كلمة « الرسول » من ناحيتين :

الأولى : التوسع من ناحية المرسل - بالفتح - حيث أطلقه على الملك المكلّف من قبله تعالى ، بإنفاذ عمل كقوله سبحانه : ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ) (1) وقوله سبحانه : ( اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (3) ، وهذا بخلاف النبي فإنّه لا يطلق إلاّ على البشر.

الثانية : التوسع من جانب المرسل - بالكسر - فلا يخصه بالمرسل من ناحيته سبحانه بل يطلقه على مطلق المبعوث من جانب الغير كقوله سبحانه : ( وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) (4) ولا نفهم من ( الرَّسُولُ ) في الآية إلاّ نفس المعنى الذي نفهمه من قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (5) وهذا التوسع (6) في لفظ الرسول في ناحيتي المرسل ( بالكسر ) والمرسل من خصائص الرسالة ولا يوجد شيء منه في النبي ، فلا يطلقه القرآن إلاّ على البشر - دون الملك - وعلى الذي يوحى إليه من ناحيته سبحانه دون غيره.

ص: 375


1- هود : 81.
2- الحج : 75.
3- الأنعام : 61.
4- يوسف : 50.
5- المائدة : 67.
6- بل يجري نظير هذا التوسع في لفظ المرسل ، لقوله سبحانه : ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُرْسَلُونَ ) ( يس : 14 ) ، فقد اتفقت كلمة أكثر المفسرين على أنّ المراد منه في الآية الفرقة المبعوثة من جانب المسيح إلى ابلاغ دينه وقوله سبحانه : ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ) ( النمل : 35 ).
نتائج البحث
اشارة

يستنتج ممّا ذكرناه أُمور :

الأوّل
اشارة

إنّ النبوة متقومة بالاتصال باللّه والإنباء عنه ونزول الوحي إلى من يسند إليه منصبها بإحدى الطرق ، وأمّا الرسالة فهي متقوّمة بتحمّل الرسول إبلاغ كلام من المرسل إلى المرسل إليه ، مثل قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (1) أو تنفيذ أمر في الخارج كما في قوله سبحانه : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (2).

وعلى هذا فكل ما ذكروه في الفروق بين النبي والرسول سواء أصحت أم لا ممّا لا يدل عليه اللفظان بما لهما من المعنى اللغوي ولا هي داخلة في صلب معناهما ولا يدلاّن عليها بإحدى الدلالات الثلاث (3).

فالنبي هو الإنسان المتصل باللّه سبحانه بسبب الإيحاء إليه ، بطرقه المعهودة (4) والرسول الشخص المرسل من جانب المرسل أي فرد كان لتبليغ أمر أو إنفاذ عمل ، فليس في مفهوم الرسول المصطلح ، انّه يوحى إليه ، وانّه منبئ عن اللّه.

وإن شئت قلت : النبي : للإنسان المنبئ عن اللّه سبحانه ، أو المطّلع على

ص: 376


1- المائدة : 67.
2- مريم : 19.
3- دلالة اللفظ على تمام معناه ، دلالة مطابقية ، وعلى جزئه تضمنية ، وعلى لازم معناه التزامية.
4- وهذا هو المفهوم من مرادفه في اللغة الفارسية « پيامبر » أو « پيغمبر ».

الخبر منه سبحانه ، غير مقيد بشيء من هذه الفروق ، كما أنّ الرسول هو الشخص المرسل من جانب أي شخص كان لتنفيذ أمر ، وإبلاغ رسالة ، غير محددة بشيء منها ، ولأجل ذلك فإن انفرد لفظ النبي بالذكر ، ولم يجمع مع لفظ الرسول لا يتبادر منه إلى الذهن إلاّ المنبئ عن اللّه والمطّلع على الغيب فقط.

ومثله لفظ الرسول ، إذا لم ينضم إليه لفظ النبي ، فلا يتبادر منه إلى أذهاننا إلاّ القائم بإبلاغ رسالة أو تنفيذ أمر فقط ، من دون أن يتوجه الذهن إلى أحد هذه الفروق كما لا يتوجه إلى كونه مرسلاً من جانب اللّه ، وعلى هذا فاللفظان مختلفان معنى وأمّا النسبة ، فحيث إنّ القرآن يتوسع في استعمال الرسول ، فيطلقه على الإنسان والملك ، بخلاف النبي فلا يستعمله إلاّ في الإنسان ، بل يتوسع في استعمال الرسول من جانب المرسل ( بالكسر ) فيطلقه على المبعوث لا من جانبه سبحانه ، مثل قوله سبحانه : ( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) (1) بخلاف النبي فيختص بالإنسان الموحى إليه من ناحيته سبحانه ، فتكون النسبة هي الأعم والأخص مطلقاً ، فليس كل رسول نبياً ، لما عرفت من التوسع ، وأمّا كون كل نبي رسولاً فلو قلنا بأنّ كل نبي مبعوث إلى تنفيذ رسالة ما يصح ما ذكر من النسبة : فكل نبي رسول ، وليس كل رسول نبياً لما عرفت من التوسع في الجانبين.

وأمّا إذا سلمنا كون بعض النبيّين غير مبعوث إلى تنفيذ رسالة ، فتنقلب النسبة إلى العموم والخصوص من وجه ، فبعض النبيّين ليس برسول ، كما أنّ بعض الرسل كالمبعوث من جانب غيره سبحانه ليس بنبي ، وقد يجتمعان كما في نبينا وغيره من أُولو العزم وغيرهم.

ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرت ذلك على كلمات تصرح ببعض ما ذكرناه :

ص: 377


1- يوسف : 50.

1. النبوة تحمّل النبأ من جانب اللّه والرسالة معناها تحمل التبليغ (1).

2. للرسول شرف الوساطة بين اللّه تعالى وعباده ، وللنبي شرف العلم باللّه وبما عنده (2).

3. الرسول هو الذي يحمل رسالة من اللّه إلى الناس ، والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه (3).

4. الأقرب انّه لا فرق بينهما من حيث إنّ كلاً منهما ينبئه اللّه بما يريد ، فإذا أنبأه وأمره بالتبليغ أُطلقت عليه كلمة النبي ، لأنّ اللّه تعالى أنبأه ، وكلمة الرسول لأنّه تعالى أمره بالتبليغ (4).

5. الرسول والنبي واحد ، والاختلاف إنما هو بالنظر والاعتبار من حيث إنّه يحمل رسالة اللّه ، يقال له رسول ، ومن حيث إنّه ينبئ بها الذين أُرسل إليهم يقال نبي (5).

والحاصل : انّ ما ذكر من الفروق سواء أصح أم لا فكلّه في مرتبة متأخرة عن حقيقة الرسالة والنبوة غير مأخوذ في صلب معناهما وإنّما يصار إليها لقرائن أُخر.

ويظهر ممّا ذكرناه ضعف ما نقلناه عن بعض الأجلّة : « انّ ما كان من العلوم والحقائق يفاض على الإنسان بواسطة الملك بحيث يشاهده ويكلّمه مشافهة

ص: 378


1- الميزان : 1 / 284.
2- الميزان : 2 / 145.
3- المصدر نفسه : 16 / 345 ، المراد تحديد الرسول المصطلح ، وإلاّ فليس في معناه كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه وبذلك يظهر حال أكثر الكلمات.
4- الكاشف : 5 / 340.
5- المصدر نفسه : 7 / 91.

ويقرأ عليه كلام ربّه أو يلقي في روعه يسمّى رسالة ، والإنسان الحامل رسولاً ، وأمّا ما يفاض إليه بغير الطريق المذكور يسمى نبوة والإنسان العالم بهذا الطريق نبياً ».

فانّه ينقض عليه : بأنّ كل ما ذكره ، وإن كان مؤيداً ببعض المأثورات لكنّه خارج عن حقيقة معنى النبوة والرسالة حسب الوضع اللغوي ، ولم يثبت انّ للقرآن اصطلاحاً خاصاً أو حقيقة شرعية في إطلاق اللفظين واستعمالهما ، والظاهر أنّ القرآن جرى في إطلاقه واستعماله مجرى المألوف بين أهل اللسان ، ولم يجئ في المقام باصطلاح خاص.

وعلى ذلك فكل ما ذكروه من الفروق ، من أنّ الرسول هو من نزل عليه كتاب أو أتى بشريعة جديدة ، أو خصوص من كان مأموراً بالتبليغ من اللّه ، أو من يتلقى الوحي عن رسل السماء والملائكة ، وانّ النبي على خلافه ، فلا يشترط فيه نزول الكتاب أو مجيئه بشريعة جديدة ، أو كونه مأموراً بالتبليغ من اللّه أو غير ذلك ، كلّها على فرض صحتها ، خارجة عن صلب معناهما ، إذ لا يدل اللفظان على واحد منها أصلاً.

وبذلك يظهر أنّ الرسول وان كان يجب إطاعته فيما يأمر وينهي ، لقوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) أو أنّه وإن كان يتم الحجة على عباده سبحانه ، بحيث تستتبع مخالفته هلاكاً وعذاباً ، لقوله سبحانه : ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (2) غير انّ ذلك لا يستلزم دخول لزوم الإطاعة وإتمام الحجة في صلب معنى الرسول ، فإنّ وزان قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) وزان قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ

ص: 379


1- النساء : 64.
2- النساء : 165.

بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) ، بل كلاهما من لوازم الرسالة الإلهية التي تحملها الرسل ، فإنّ الهدف الأسمى من إرسال الرسل ، قطع العذر على الناس ، وإتمام الحجة عليهم ، وعند ذاك يجب على الناس إطاعتهم فيما يأمرون وينهون من جانبه سبحانه.

ولعل إلى ذلك يشير سيدنا الأستاذ بقوله : « إنّ النبي والرسول كلاهما مرسلان إلى الناس ، غير انّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند اللّه ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة ، كما يشعر به أمثال قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (2) وقوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3).

وعلى هذا فالنبي هو الذي يبيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية اللّه من هداية الناس إلى سعادتهم ، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى : ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (4) ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظهما بحسب المفهوم ، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من أنّ للرسول شرف الوساطة بين اللّه تعالى وبين عباده ، وللنبي صلی اللّه علیه و آله شرف العلم باللّه وبما عنده » (5).

ص: 380


1- الرعد : 38.
2- يونس : 47.
3- الإسراء : 15.
4- النساء : 164.
5- الميزان : 2 / 143 وقد عرضنا آراءه المختلفة في ما سبق.
نعم بقي هنا سؤال

وهو انّه إذا سلمنا انّ النبي والرسول لا يقصد منهما أزيد مما يفيده لفظهما بحسب المفهوم ولا فرق بينهما إلاّ في المعنى الجوهري الذي يدلاّن عليه ، وانّ ما ذكر من الفروق كلها خارج عن صلب المعنى وما وضع له اللفظ ، فكيف نفسر قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) وقوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (2) ؟

الجواب

إنّ مفاد هذه الآيات على ما حقّقناه واضح ، أمّا فيما إذا وقعا وصفين لشخص واحد مثل قوله سبحانه : ( وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (3) وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) (4) فالمراد الدلالة على أنّه واجد لكلا المنصبين ، ومتصف بكلتا الحيثيتين إذ للفرد الموحى إليه ، المبعوث من اللّه سبحانه لإبلاغ أحكامه ، شؤون ومناصب أو صفات وحالات ، فبما انّه يوحى إليه وله اتصال بالمبدأ الأعلى ومطلع على الغيب أو منبئ عنه فهو نبي ، وبما أنّه يتحمل رسالة من اللّه تعالى ويتم حجته على العباد ، ويجب عليه إرشاد الناس وإنذارهم ، فهو رسول ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (5).

ص: 381


1- مريم : 54.
2- الحج : 52.
3- مريم : 54.
4- الأعراف : 157.
5- النساء : 165.

وأمّا إذا استعملا على وجه يشيران إلى طائفة مثل قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (1) فإنّ الظاهر انّ كل واحد من اللفظين يشير إلى طائفة وجماعة واحدة ولا يدل على تعدد الطائفتين مصداقاً ، وانّ الموصوف بالنبوة غير الموصوف بالرسالة حسب الوجود ، بل يمكن أن يكون اللفظان بما لهما من المعنى حاكيين عن جماعة واحدة لهم شأن النبوة والرسالة ، فيصير هدف الآية : انّا ما أرسلنا أحداً من هذه العصابة إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أُمنيته ، غير انّه طلباً لجلية الحال وتوخياً في استيعاب كل واحد منهم بلا استثناء ، وانّ الحكم يعم رسولهم ونبيّهم عطف أحدهما على الآخر ، طلباً لشمول الحكم لهم جميعاً ، وانّ بلوغهم مرتبة النبوة والرسالة ، ما منعهم عن هذه الهواجس.

وان أبيت إلاّ عن ظهور الآية في تعدّد الطائفتين وجوداً ومصداقاً وانّ هنا مجموعتين : أنبياء ورسلاً ويفترق بعضها عن بعضها فعندئذ نقول : قصارى ما يمكن أن يقال انّ كل واحد من اللفظين إذا انفرد بالذكر ، لا يدل إلاّ على المعنى الذي أشرنا إليه ، من دون دلالة على أحد من هذه الفروق ، ومن دون أن نلتزم بالتفرقة بينهما بواحد من هذه الفروق ، مثلاً إذا قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (2) فلا يقصد من لفظ النبي ، إلاّ كونه المطّلع على الغيب والمنبئ عنه من دون أن يشير إلى واحد من هذه الفروق.

وإذا قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) لا يقصد منه إلاّ صاحب الرسالة والمبعوث إلى الناس لإبلاغ كلام ، أو تنفيذ عمل من دون أن يدل على كونه ذا كتاب ، أو شريعة جديدة ، أو معايناً للملك ، وآخذاً منه

ص: 382


1- الحج : 52.
2- الأحزاب : 45.

الوحي ، فإنّ واحداً من هذه المعاني لا يخطر ببال أي عربي عند سماع هذين اللفظين.

نعم إذا اجتمعا في الذكر ، وأشارا إلى طائفتين مثل قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) ، فالاعتراف بظهور الآية فيما ادّعاه القائل من دلالة اللفظين على أنّ هنا طائفتين ، مختلفتين ، لكل منهما صفة وخاصية ، يدفعنا إلى إبداء الفرق بينهما بأحد من الوجوه المذكورة في كلمات القوم مضافاً إلى ما يفيده لفظهما فيكون وزان النبي والرسول وزان الظرف والجار والمجرور والفقير والمسكين ، « إذا افترقا اجتمعا ، وإذا اجتمعا افترقا » وقد عرفت حال الوجوه السالفة ، وأقربها إلى الاعتبار هو الوجه الرابع المؤيد ببعض الروايات.

الثاني : منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة

انّ منصب النبوّة أسمى من مقام الرسالة ، والنبي بما هو نبي ، أشرف من الرسول بما هو رسول ، لما عرفت انّ الحيثية المقومة للنبوة ، هي الاتصال باللّه واستعداد النفس لوعي ما ينزل به الوحي من المبدأ الأعلى ، والحيثية المقومة للرسالة هي تحمل تنفيذ عمل أو ابلاغ قول من المرسل ، وأين شرف الاتصال باللّه والمبدأ الأعلى من شرف تحقيق عمل في الخارج أو إبلاغ كلام عن شخص إلى الغير ؟

وقد عرفت أنّ النبي لم يستعمل في القرآن إلاّ في الإنسان الموحى إليه ، المبعوث من ناحيته سبحانه إلى الناس ، وأمّا الرسول فقد توسع فيه القرآن ولا يختص بالإنسان الموحى إليه من اللّه ، بل يستعمل في الأعم.

وبذلك يمكن أن يقال : إنّ النبي في مصطلح القرآن أفضل من مطلق الرسول ، فإنّ في توصيف الشخص بكونه نبياً يدل على كونه قد احتل مكانة مرموقة ، وليس كذلك عند وصفه بكونه رسولاً ، إذ يحتمل أن يكون نبياً مرسلاً من

ص: 383

جانب اللّه أو من جانب نبيه ، أو شخص ثالث ولا يتأتى مثل هذا الاحتمال في النبي وبذلك يعلم سر إطراء عدة من الأنبياء بالرسالة أوّلاً وبالنبوة ثانياً ، قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (1) ويقول سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (2) وقال عز اسمه : ( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ) (3) ، وقال عزّ من قائل : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (4).

ترى أنّه سبحانه عندما أراد إطراء نبي من الأنبياء وتوصيفه بما فيه من الصفات ، يصفه أوّلاً بكونه رسولاً ثم يردفه بكونه نبياً ، وما ذاك إلاّ لما أوضحناه من سمو مقام النبي وكرامته على مطلق الرسول وأحقيته منه عند الإطلاق ، فلو كان الأمر على ما اشتهر بين الناس من أحقية الرسول وأفضليته ، لما صحّ له سبحانه أن يترقى من الوصف العالي إلى ما هو أنزل منه ، خصوصاً إذا كان في مقام الإطراء والمدح ، كما هو الحال في الآيات كلّها غير الرابعة.

الثالث : النبوة أساس رسالة الإنسان من اللّه

النبوة أساس رسالة الإنسان من اللّه سبحانه ، إذ رسالة الإنسان من جانب اللّه سبحانه لإبلاغ أمره أو زجره لا تتحقّق إلاّ باتصاف الرسول بالنبوة وارتقاء نفس النبي إلى حد يقدر معه على وعي الوحي ، ويصبح به جديراً بنزول كلام الرب عليه ، إذ الرسول الذي أمرنا اللّه بوجوب اتباعه واقتفائه ، وحرمة التخلف

ص: 384


1- الأعراف : 157.
2- مريم : 54.
3- مريم : 51.
4- الحج : 52.

عن أمره ونهيه ، كما هو صريح قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) هو المبعوث من جانب اللّه ، المبلّغ عنه أحكامه ودساتيره ، المؤدي عنه سبحانه كل ما يقوله ، من صغير وجليل ، ولا يصير الإنسان مؤدياً عنه سبحانه إلاّ إذا استمسك بباب الوحي واعتصم به واستند إليه في قوله ونقله وإبلاغه واتصف بالتنبّؤ به (2).

الرابع

قد تبين في الأمر المتقدم ، انّ القسم الخاص من الرسول (3) أعني : الإنسان المبعوث من جانب اللّه سبحانه ، هو نفس النبي مصدقاً وانّ النسبة بينهما من حيث المصداق هي التساوي ، وعلى ذلك فلا فرق بين أن تقول : « محمد رسول اللّه وخاتم النبيين » أو تقول : « وخاتم الرسل » للتلازم بين الأمرين ، من حيث المصداق ، فلو فرض أنّه أوصد باب النبوة وختم نزول الوحي إلى أي إنسان ( كما تشير إليه مادة النبأ والنبوة ) فعند ذاك يختتم باب الرسالة الإلهية أيضاً بلا ريب وتردّد ، لأنّها تحقيق ما تحمّله النبي من جانب اللّه عن طريق الوحي ، فإذا انقطع الوحي ، والاتصال بالمبدأ الأعلى والاطلاع على ما عنده سبحانه ، فعند ذاك ، فقد أحد أركان الرسالة ، أو ركنها الركين ، أي التبليغ من جانب اللّه مستنداً إلى الوحي

ص: 385


1- النساء : 64.
2- ويدل على ذلك ما استفاض نقله عن الصادقين علیهماالسلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبياً وانّ اللّه تعالى اتّخذه نبياً قبل أن يتّخذه رسولاً ، وانّ اللّه اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، وانّ اللّه تعالى اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً ». ( الكافي : باب طبقات الأنبياء والرسل : 94 ).
3- قد عرفت أنّ الرسول في القرآن هو صاحب الرسالة سواء تحملها من اللّه ، أو من جانب نبيّه أو من جانب شخص عادي ، ولأجل ذلك خصصنا الكلام بالقسم الخاص.

فتصير الرسالة عندئذ منتفية بانتفاء موضوعها.

فإذا كان محمد صلی اللّه علیه و آله خاتماً للنبيّين ، أي مختوماً به الوحي والاتصال فهو خاتم الرسل والمرسلين (1) طبعاً ، لأنّ رسالة الإنسان من جانب اللّه سبحانه ، عبارة عنبيان وإبلاغ ما أخذه منه عن طريق الوحي ، فلا تستقيم رسالة أي إنسان منجانبه سبحانه ، إذا انقطع الوحي والاتصال به تعالى ، ولا يقدر أن يتقول أي ابن أُنثى بالرسالة من ناحيته عز وجل ، إذا كانت النبوة موصدة باعترافه.

وبذلك يعلم أنّ كلا اللفظين ( « خاتم النبيين » و « خاتم الرسل ) » وإن كانا مفيدين لمعنى واحد ، إلاّ أنّ اختيار الأوّل على الثاني لأجل أنّ النبوة أساس للرسالة من جانب اللّه ، حيث إنّه يجب أن يعتمد الرسول في إبلاغه وإنذاره وإرشاده ، على الوحي والاتصال باللّه سبحانه ، ولا يفيده إلاّ لفظ النبي دون غيره ، فإذا أصحر المتكلم بإنهاء الوحي وانقطاعه من السماء إلى الأرض إلى يوم القيامة وقال « إنّه خاتم النبيين » أي انّه آخر من يوحى إليه ، وانّه لن يوحى من بعده إلى أحد يلزم منه ختم باب الرسالة الخاصة بطريق أولى ، ويكون من باب إفادة المقصد ببيّنة وبرهان ، كما لا يخفى (2) وأمّا ختم الرسالات الأُخر ، كرسالة الملك من اللّه سبحانه فلا صلة له بالبحث ، سواء أكان بابها مفتوحاً أو موصداً ، وأمّا الرسالة من جانب النبي والرسول ، فلا نبي بعده ، حتى يكون لهذا النبي ، رسول وأمّا الرسالة من

ص: 386


1- المراد ، القسم الخاص من الرسالة ، لا الرسالة من جانب النبي ولا من جانب الشخص العادي.
2- قال العلاّمة الطباطبائي - دام ظلّه - بعد ما اختار في معنى الرسالة والنبوة ما أوضحنا ، وأقمنا برهانه - ما هذا لفظه : ولازم ذلك أن ترتفع الرسالة بارتفاع النبوة ، فإنّ الرسالة من أنباء الغيب فإذا انقطعت الأنباء ، انقطعت الرسالة. الميزان : 16 / 346.

ناحية فرد عادي ، فهو خارج عن المقصود.

هذا ما أوصلنا إليه التدبر في آيات الذكر الحكيم وكلمات الفطاحل الأعلام ، ونردف المقام بالبحث عن الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 387

بحث وتنقيب

اشارة

قد اضطربت الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، حول تفسير الرسول والنبي ، اضطراباً يعسر إرجاعها إلى أمر واحد إلاّ بإمعان وتدبّر عميق ، وتلك المأثورات على أقسام ننقلها تحت أقسام ، حتى تسهل الإشارة إليها :

الأوّل : ما يسوق منصبي النبوة والرسالة إلى أربع درجات ولا يفرّق بينهما قيد شعرة :

أخرج الكليني عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي يحيى الواسطي (1) ، عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور عنه قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات (2) فنبي منبئ في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبييرى في المنام ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد ، وعليه امام ، مثل ما كان إبراهيم على لوط (3) ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت

ص: 388


1- قال الغضائري : حديثه يعرف تارة وينكر أُخرى ، ويجوز أن يخرج شاهداً ، وقد استثنى ابن الوليد وابن نوح وابن بابويه من روايات « محمد بن أحمد بن يحيى » ما رواه عن « أبي يحيى الواسطي » وقرّره الشيخ في فهرسته والنجاشي في رجاله. راجع قاموس الرجال : 5 / 43.
2- ويحتمل أن يكون المراد ، انقسام مجموع الصنفين إلى أربعة ، لا كل واحد ، وعندئذ يخرج الحديث عن الدلالة على هذا القسم.
3- الظاهر من التمثيل ب « لوط » من جهة انّ عليه إماماً ، لا من جهة انّه لا يعاينه حتى ينافي قوله سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) ( هود : 77 ) ولا من جهة انّه لم يبعث إلى أحد حتى ينافي قوله تعالى : ( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ المُرْسَلِينَ ) ( الصافات : 133 ).

ويعاين الملك ، وقد أُرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا ، كيونس ، قال اللّه تعالى : ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (1) ( قال : يزيدون ثلاثين ألفاً ) وعليه إمام ، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين ( الملك ) في اليقظة وهو إمام مثل أُولي العزم (2) ، وقد كان إبراهيم نبياً وليس بإمام حتى قال اللّه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً » (3).

والرواية مع قطع النظر عمّا تحتاج إليه من توجيه ، كما أشرنا إليه في التعليقة ، تخالف ما استظهرناه من الآيات من كون كل نبي مبعوثاً إلى الناس ، وانّه ليس لنا نبي لا يعدو نفسه ، كما هو نص الرواية ، إلاّ على بعض الوجوه ، كما هو الحال في بدء الوحي وقبل الأمر بالإنذار ، ولكنّه يؤيد ما أوضحناه من كونه النسبة بين الرسول (4) والنبي هي المساواة حسب المصداق.

وأمّا ما أخرجه الكليني بسند موثق عن ابن أبي يعفور ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أُولو العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله ». (5) فليس من أحاديث هذا الباب ، بل غايته انّ هناك نبياً ومرسلاً ، وأمّا تساوي النبوة والرسالة ، والنبي والرسول فلا يستفاد منه أصلاً.

ص: 389


1- الصافّات : 147.
2- قد حدّد أولو العزم بقيود أربعة : من رؤية في المنام ، وسماع صوت الملك ، ومشاهدته ، وهو إمام.
3- الكافي : 1 / 174 ، 175 ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة.
4- المراد الرسالة من اللّه فلا تغفل.
5- الكافي : 1 / 84 ، باب طبقات الأنبياء والرسل.

الثاني : ما يخصص النبوة بتجلّي اللّه لنبيه في اليقظة ، ولا يطلقها على غيره من مراتب الوحي (1).

روى الصدوق عن زرارة قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام جعلت فداك : الغشية التي تصيب رسول اللّه إذا أُنزل عليه الوحي ؟ فقال : « ذلك إذا لم يكن بينه وبين اللّه أحد ، ذاك إذا تجلّى اللّه له » ، قال : ثم قال : « تلك النبوة يا زرارة » وأقبل يتخشع (2).

ويمكن توجيهه بحملها على الدرجة الكاملة من النبوة ، وإن كانت النبوة غير منحصرة في هذا القسم ، كما ينبئ عنه قوله علیه السلام تلك النبوة ، فلا ينافي ما أوضحناه.

وأمّا حديث الغشية ، فقد أوضحه الإمام في رواية أُخرى بقوله : « إنّ جبريل إذا أتى النبي لم يدخل عليه حتى يستأذنه ، فإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد ، وإنّما ذلك عند مخاطبة اللّه عزّ وجلّ إياه بغير ترجمان وواسطة » (3).

الثالث : ما يظهر منه اختصاص النبوة بالإيحاء في المنام ، والرسالة بمعاينة الملك (4).

ص: 390


1- وقد نقله قولاً في مجمع البحرين مادة « نبأ ».
2- التوحيد : 115 ، طبعة مكتبة الصدوق.
3- راجع البحار : 18 / 102.
4- الظاهر انّ المراد من الملك في هاتيك الروايات هو جبرئيل ، ولو كان مطلق من كلّمه الملك أو رآه رسولاً ، يلزم أن تكون سارة زوجة إبراهيم ومريم بنت عمران رسولتين ، بل كل من كلّمه الملكان ببابل ، رسولاً ، وعند ذلك يمكن أن يقال : إنّ المراد من الملك فيها هو جبرئيل وله بين الملائكة شأن عظيم وهو رسول كريم ، ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين. وقد جعل المجلسي في «مرآة العقول»: 134/1 هذا المعنی أحد الاحتمالات.

أخرج الكليني عن أحمد بن محمد (1) ومحمد بن يحيى (2) عن محمد بن الحسين (3) ، عن علي بن حسان (4) عن ابن فضال (5) عن علي بن يعقوب الهاشمي (6) ، عن مروان بن مسلم (7) عن بريد (8) عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه علیهماالسلام في قوله عزّ وجل : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) قلت : جعلت فداك : ليست هذه قراءتنا ، فما الرسول والنبي والمحدّث ؟ قال : « الرسول الذي يظهر له الملك فيكلّمه ، والنبي هو الذي يرى في منامه وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد ، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة » قلت : أصلحك اللّه كيف يعلم إنّ الذي رأى في النوم حق وانّه الملك ؟ قال : « يوفق لذلك حتى يعرفه ، لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء » (9).

الرابع : ما يظهر منه انّ للنبي شأنين ( الإيحاء إليه في المنام وسماع صوت

ص: 391


1- ولعلّه العاصمي كما احتمله المجلسي في مرآته ، وليس المراد أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، لأنّ الكليني لا يروي عنه إلاّ بواسطة.
2- العطار القمي.
3- محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، وهو ثقة جليل.
4- علي بن حسان الواسطي ، لا الهاشمي ، لأنّه لا يروي إلاّ عن العمش وهو ثقة جليل.
5- أي الحسن بن الفضال ، لا ابناه : علي بن الحسن ، وأحمد بن الحسن ، وهو إمامي ثقة ، وكان فطحياً ولكنه استبصر.
6- لم يعنون في كتب الرجال ، والظاهر من متن الحديث انّه كان إمامياً ، ولو كان مطعوناً ، لذكر في كتب الرجال.
7- ثقة جليل.
8- العجلي ثقة جليل عديل زرارة ومحمد بن مسلم ، فالخبر وإن لم يكن صحيحاً اصطلاحاً إلاّ أنّه حجة ومعتبر.
9- الكافي : 1 / 85 ، باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث.

الملك بلا معاينة ، وللرسول شؤون ثلاثة وهي هذان الأمران مضافاً إلى معاينة الملك ) :

1. أخرج الكليني عن عدة (1) من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد (2) عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (3) عن ثعلبة بن ميمون (4) عن زرارة ، (5) قال : سألت أبا جعفر عن قول اللّه عز وجل : ( وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) ما الرسول وما النبي ؟ قال : « النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك » ، قلت : الإمام ما منزلته ؟ قال : « يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين » ، ثم تلا هذه الآية : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) (6) ( ولا محدث ).

2. أخرج الكليني عن محمد بن يحيى ، (7) عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن الأحول ، (8) قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرسول والنبي والمحدّث ؟ قال : « الرسول هو الذي يأتيه جبرئيل قبلا ، فيراه ويكلّمه

ص: 392


1- العدة التي يروي الكليني بواسطتهم عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عبارة عن : محمد بن يحيى العطار ، داود بن كورة ، أحمد بن إدريس ، علي بن إبراهيم ، وعلي بن موسى الكمنداني ، صرّح بذلك النجاشي في ترجمة أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، والعلاّمة الحلي في خاتمة خلاصته ، نعم عدّ صاحب الوسائل « محمد بن موسى » مكان « علي بن موسى الكمنداني » وهو من هفوات قلمه الشريف قدس اللّه سره.
2- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، من أجلاّء أصحابنا القميين ، ثقة ، فقيه.
3- البزنطي من أصحاب الرضا والجواد علیهماالسلام ، ثقة جليل.
4- أحد فقهاء الطائفة الأجلاّء.
5- أمره في الفقاهة والجلالة غني عن البيان ، فالرواية صحيحة ، رجالها كلّهم ثقات.
6- الحج : 52.
7- محمد بن يحيى العطار ، ثقة جليل.
8- مؤمن الطاق ، محمد بن علي بن النعمان ، ثقة جليل ، فالحديث صحيح ، رجاله كلهم ثقات.

فهذا الرسول » (1).

وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم علیه السلام ونحو ما كان رأى رسول اللّه من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند اللّه بالرسالة ، وكان محمد صلی اللّه علیه و آله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند اللّه يجيئه جبرئيل ويكلّمه بها قبلاً ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه ، من غير أن يكون يرى في اليقظة وأمّا المحدث فهو الذي يحدث ، فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه (2).

أقول : أثبت الحديث في صدره للنبي أمراً واحداً وهو انّه يرى في منامه ، لكنه استدركه في ذيله وأثبت له أمرين ، وهو انّه يرى في منامه ويسمع صوت الملك ولا يراه في اليقظة ، ولعل تعريف النبي بالرؤية في المنام ، للإيعاز إلى أقل ما تتحقق به النبوة ، مثل ما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يرى من أسباب النبوة قبل الوحي.

أضف إليه انّ ما أثبته ذاك الحديث للإمام من سماع صوت الملك بلا معاينة ولا رؤية في المنام ، أثبته الحديث السابق للإمام.

ثم إنّ رفع الاختلاف بين القسمين ( الثالث والرابع ) سهل ، فإنّ القسم الثالث وان أثبت للنبي شأناً واحداً وأثبت ذاك شأنين إلاّ إنّ الرابع يقدّم على الثالث ، لأنّه تعرض لأمر لم يتعرّض له الآخر ، والمثبت مقدم على الساكت ولا

ص: 393


1- لما كانت الوظيفة المحولة على الرسول أشد وأشق من النبي غير الرسول ، وبما انّه في إبلاغ رسالاته مضطر إلى ملابسة الناس وأحوالهم من جميع المشارب والأذواق والعقليات المختلفة ، وهو معرض لصنوف ثقيلة من الأذى والسخرية والجدال والمشاحنة ، اقتضى ذلك ، اختصاص الرسول بالمعاينة ، إذ هو عند ذاك في حاجة إلى تقوية روحه وتثبيت جناحه وتشجيعه على التحمل والصبر ومعاينة الملك ، وربما تزود العاين بكل هذه الأسلحة الروحية لمواجهة هذه المواقف الصعبة ، ولأجله قال علیه السلام : الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلمه.
2- الكافي : 1 / 176 ، باب الفرق بين النبي والرسول والمحدّث.

يعدان متعارضين ، أضف إلى ذلك إنّ كثيراً منها ليست في مقام التحديد ، بل في مقام انّ النبوة تتحقق بالرؤية في المنام ، أو برؤية الملك في اليقظة بلا تكلم معه ، فما يثبت للنبي شأنين ، لا صراحة فيه ، في اجتماعهما معاً ، كما يستفاد ذلك أيضاً ، من رواية « المعروفي » الآتية.

الخامس : ما يظهر منه انّ النبي يعاين الملك ولا يسمع كلامه حين المعاينة بخلاف الرسول فإنّه يعاينه حين التكلم :

أخرج الكليني عن علي بن إبراهيم (1) عن أبيه (2) عن إسماعيل بن مرار (3) ، قال كتب المعروفي إلى الرضا علیه السلام جعلت فداك : أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام ؟ قال : « إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه ، وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ، والنبي ربّما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع ، والإمام الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص » (4).

وظاهره انّ النبي يعاين الملك وان لم يسمع كلامه ، وهذا مخالف لما أوردناه في القسمين الماضيين ( الثالث والرابع ) خصوصاً الأخير ، فإنّ صريحه انّ النبي لا يعاين الملك. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ المنفي عنه فيهما معاينته مع سماع كلامه ، والثابت له في هذا القسم هو المعاينة مع عدم سماع كلامه ، ولم يظهر من القسمين سلبهما عن النبي.

ص: 394


1- ثقة جليل.
2- إمامي ممدوح.
3- يروي عن يونس بن عبد الرحمان ، قال ابن الوليد : كل ما روي عن يونس صحيح ، غير ما انفرد به العبيدي ، وهذه الجملة من خرّيت الفن توثيق له على وجه العام ، فالحديث وان لم يكن صحيحاً لكنه معتبر.
4- الكافي : 1 / 176 ، باب الفرق بين النبي والرسول.

إلى هنا تم ما أورده الكليني في هذا الباب ، واتضح عدم الفرق الجوهري بين الروايات التي نقلناها في القسم الثالث والرابع والخامس وان مآل الجميع واحد.

السادس : ما يظهر منه انّ عدد المرسلين لا يعدو عن ثلاثمائة وثلاثة عشر والنبيين أكثر من المرسلين بكثير :

روى الفريقان عن أبي ذر ، انّه سأل النبي صلی اللّه علیه و آله قال : قلت يا رسول اللّه كم النبيّون ؟ قال : « مائة وأربعة وعشرون ألف نبي » ، قلت : كم المرسلون ؟ قال : « ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً » (1).

القضاء بين هذه المأثورات

هذه المأثورات عن أهل البيت بين صحاح وحسان ولا منتدح للباحث عن التعرض لها وتوضيح مضامينها ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل والثاني فلا يخالف ما احتملناه من أنّ الرسول (2) والنبي متساويان في الصدق وإن لم يكونا مترادفين ، فإنّ القسم الأوّل يسوق النبيين والمرسلين معاً إلى أربع طبقات من دون أن يفرّق بينهما قدر شعرة ، وأمّا على القول بكون النبي أعم - كما هو الحال في النبي الأعظم في بدء الوحي - فلا بد من توجيه الرواية على وجه لا يخالفه ، كما قلنا ، من أنّ كلاً من اللفظين يشير إلى جهة خاصة هي مدلولهما الوضعي على ما أوضحناه.

ص: 395


1- بحار الأنوار : 11 / 32 من الطبعة الحديثة.
2- المراد من الرسول : الرسول من جانب اللّه سبحانه ، لا مطلق الرسول ، وقد عرفت أنّ القرآن يتوسع في إطلاق الرسول إلاّ أنّ البحث في هذه الروايات إنّما هو عن الرسول الخاص الدائر في الألسن ، لا مطلق الرسول.

وأمّا القسم الثاني فهو وان كان يخص النبوة بتجلّي الرب له ، إلاّ أنّ ذلك من باب إطلاق الكلي على الفرد الكامل ، كما في قوله سبحانه : ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) .

وأمّا القسم السادس فلم يثبت عندنا بسند صحيح يؤخذ به.

بقي القسم الثالث والرابع والخامس : وقد أرجعناها إلى أمر واحد وهو « انّ النبي من يوحى إليه في المنام ، وربما يسمع بلا معاينة ، وربّما عاين بلا تكلم ، وأمّا الرسول فهو حائز لعامة المراتب ، يوحى إليه في المنام ويسمع الصوت بلا معانية ، وربّما يراه ويسمع صوته ، فالرسول هو النبي الذي استكملت نفسه حتى استعد لمشاهدة رسول ربه (1).

فيجب عند ذلك ملاحظة هذا القسم من الروايات :

فنقول : إنّ تلك المأثورات الواردة في الأقسام الثلاثة تهدف إلى أمر واحد ، وهو انّ النبي أعم من الرسول ، ولا يشترط فيه إلاّ أقل مراتب الاتصال باللّه ، بخلاف الرسول ، فهو النبي الذي وصل إلى مكانة مرموقة يقدر معها على معاينة الملك ووعي الوحي عنه. ويترتب على ذلك أُمور :

1. النبي أعم من الرسول ، وهو أخص منه.

2. الرسول أشرف من النبي.

3. ختم النبوة يستدعي ختم الرسالة ، فانّ الاختلاف بين المنصبين حسب تنصيص الروايات من قبيل اختلاف درجات حقيقة واحدة ، فلا ينال بالدرجة الكاملة ، إلاّ إذا نيل بالناقصة منها ، كما هو الحال في الدرجات العلمية ، كشهادة الدكتوراه والليسانس.

فلو أوصد باب الكلية بوجوه المتخرجين من الثانوية ، فلا يعقل أن يكون

ص: 396


1- كما هو ظاهر الحديث الأوّل من القسم الرابع.

قسم الدكتوراه مفتوحاً عليهم ، فإنّ الطالب إنّما يتم دراسة الكلية وما بعدها واحداً بعد واحد.

وهذا الأمر الثالث مما أصفقنا عليه سواء أقلنا بما في الروايات ، أم قلنا بما استظهرناه من الآيات من كون الرسول أعم من النبي ، والرسول المصطلح يساوق النبي صدقاً ، وان لم يكونا مترادفين.

وأمّا الأمر الأوّل فتمكن الموافقة معه ، فالنبي يمكن أن يكون أعم من الرسول ، أمّا لأنّ النبي ربّما لا يكون رسولاً في بعض الأحوال ، كما هو الحال في بدء الوحي ، وأمّا لما ذكر في هذه الروايات من أنّ الرسول يسمع كلامه مع معاينته في حال التكلم ، بخلاف النبي.

وأمّا الأمر الثاني فالتصافق معه مشكل ، إذ لو كان الرسول أشرف من النبي فلماذا أخّر النبي وقدم الرسول في كثير من الآيات مع كونها في مقام الإطراء ، فهل يصح التدرج من الكامل إلى الناقص ؟ وقد قدمنا الآيات فلاحظ ، ومنه يظهر الإشكال في أخصية الرسول على الوجه المذكور في الروايات ، فإنّ لازمه التدرّج من الكامل إلى الناقص.

المحدَّث في السنّة

قد وقفت على الفرق بين الرسول والنبي كما وقفت على المراد منهما في الكتاب والسنّة ، وبقي هنا بحث وهو : ما هو معنى المحدَّث ؟ فنقول :

اتفق أهل الحديث على أنّ في الأمّة الإسلامية أُناساً تكلّمهم الملائكة بلا نبوة ولا رؤية صورة ، أو يلهمون ويلقى في روعهم شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة ، من المبدأ الأعلى أو ينكت لهم في قلوبهم من حقائق تخفى على غيرهم أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه.

ص: 397

وقد ورد هذا المعنى في الكتب الحديثية من الفريقين.

روى البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج 2 ص 194 ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر ». وعند القوم أحاديث في هذا الصدد وفي ما ذكرناه كفاية.

وأخرج الكليني عن الأحول قال : سألت أبا جعفر عن الرسول والنبي والمحدَّث ؟ فقال : « ... وأمّا المحدَّث فهو الذي يحدَّث ولا يعاين ولا يرى في منامه ».

وفي حديث آخر عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه علیه السلام : قالا : « المحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة » (1).

وقد روي عن ابن عباس انّه كان يقرأ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) - ولا محدَّث - (2).

وليس المراد هو سقوط تلك اللفظة من الذكر الحكيم ، فإنّ ابن عباس أجل من أن ينسب إليه التحريف ، وعلى كل تقدير فالقول بوجود المحدَّث بين الأمّة الإسلامية مما أطبقت عليه الروايات.

ص: 398


1- الكافي : 1 / 176 - 177.
2- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 6 / 99.

فهرس المواضيع

مقدمة الكتاب ... 5

كلمة العلامة الحجّة المحقق السيد مرتضى العسكري ... 7

رسالة العلامة الحجّة الشيخ سلمان الخاقاني ... 9

خطاب العلامة الحجة الحكيم المتأله الشيخ حسن الآملي ... 11

مقدمة المؤلف : الإيمان بالغيب في الكتاب العزيز ... 13

أثر الحضارة المادية الحديثة على أفكار بعض المفكرين المسلمين ... 14

مناقشة آراء صاحب المنار في تفسير آيات من سورة البقرة ... 15

أجر الرسالة المحمدية في القرآن الكريم

شعار الأنبياء في طريق دعوتهم هو ( ما أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ ) وفيه مقامات ... 31

المقام الأوّل : ما هو المراد من ( المَؤدَّةَ فِي القُربى ) ؟ ... 36

ص: 399

ماذا فهم الأوائل من ( المَؤدَّةَ فِي القُربَى ) ؟ ... 38

أسئلة وأجوبتها ... 42

السؤال الأوّل : لو أراد اللّه من الآية مودة القربى لقال : إلا مودة أقربائه ، أو المودة للقربى ؟ 42

السؤال الثاني : إن تفسير الآية بمودة أهل البيت غفلة لأن الآية وردت في سورة مكية ... ؟ 43

السؤال الثالث : إن المحبة حالة قلبية غير اختيارية ؟ ... 50

السؤال الرابع : كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنا نجد في صفوفهم من عادى اللّه ورسوله ؟ 54

المقام الثاني : التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر ... 56

المقام الثالث : كيف يعود نفع المودّة إلى الناس ؟ ... 64

المقام الرابع : المودّة في القربى نفس اتخاذ السبيل إلى اللّه ... 67

وجه الجمع بين الأجرين الظاهريين ... 69

المقام الخامس : مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة ... 72

المقام السادس : في سرد الأحاديث الواردة حول الآية ... 81

معاجز النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكراماته

النبي الأكرم ومعاجزه وكراماته ... 89

ص: 400

المحاسبة العقلية تفند مزعمة القساوسة ... 92

القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن ... 94

1. انشقاق القمر ... 94

2. معراج النبي ... 99

3. مباهلة النبي لأهل الكتاب ... 101

مطالبة النبي بالمعاجز ، الواحدة بعد الأُخرى ... 102

وصف معاجز النبي بالسحر ... 104

النبي الأعظم وبيّناته ... 105

إخبار النبي عن الغيب كالمسيح ... 106

معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث الإسلامية ... 106

تحقيق وتحليل لمفاد الآيات النافية للمعجزة

مفاد الآيات النافية للمعجزة ... 111

الطرق العلمية الثلاث لإثبات نبوّة مدّعيها ... 111

يجب القيام بمقترحات الناس إذا توفرت فيها الشروط العشرة التالية : ... 112

1. يجب أن تكون دعوتهم مزودة بالمعجزة لا بما يختاره الناس ... 112

2. إمكانية الأمر المطلوب ... 115

3. استعداد الطالبين للاهتداء ... 115

ص: 401

4. إذنه سبحانه للإتيان بها ... 116

5. أن لا يؤدي الإعجاز إلى إفناء الناس ... 117

6. أن لا يؤدي إنكار المعجزة إلى نزول العذاب ... 117

7. أن لا يكون موجباً لتحقير المعاجز الأُخرى ... 118

8. أن لا يكون المطلوب معجزة ملجئة إلى الإيمان ... 118

9. أن لا يكون على خلاف السنة الحكيمة في الكون ... 119

10. أن تكون هناك رابطة منطقية بين ثبوت النبوّة والمعجزة المقترحة ... 119

استعراض الآيات التي استدل بها القساوسة على عدم تزويد النبي بمعجزة غير القرآن 121

ما هو السبب في نزول القرآن نجوماً ؟ ... 127

أ. تثبيت فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله ... 127

ب. تسهيل عملية التعليم ... 127

ج. التدليل على صدق الرسالة ... 128

حصيلة البحث حول تلك الآيات ... 172

النبي الشفيع في القرآن الكريم

الشفاعة وعلماء الإسلام ... 177

الشفاعة أصل من أُصول الإسلام ... 177

ص: 402

الشفاعة في القرآن الكريم ، وهي على سبعة أصناف ... 196

الصنف الأوّل : الآيات النافية للشفاعة ... 197

الصنف الثاني : ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة ... 199

الصنف الثالث : ينفي شمول الشفاعة للكفّار ... 202

الصنف الرابع : ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة ... 203

الصنف الخامس : ما يعدّ الشفاعة حقّاً مختصاً به سبحانه ... 207

الصنف السادس : يثبت الشفاعة لغيره سبحانه تحت شرائط خاصة ... 209

الصنف السابع : ما يسمّي من تقبل شفاعته ... 214

الشفاعات المرفوضة ... 216

الشفاعات المقبولة ... 217

آيات أُخرى في الشفاعة ... 218

ما هي حقيقة الشفاعة ؟ ... 222

الشفاعة التكوينية ... 222

الشفاعة القيادية ... 226

سؤال وجواب ... 230

الشفاعة المصطلحة ... 233

مبررات الشفاعة ... 237

ص: 403

1. ابتلاء الناس بالذنب والتقصير ... 237

2. سعة رحمته لكل شيء ... 239

3. الأصل هو السلامة ... 241

4. الآثار البنّاءة والتربوية للشفاعة ... 242

5. الأمر بيده سبحانه أوّلاً وآخراً ... 245

ما هو أثر الشفاعة ، أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟ ... 246

دافع المعتزلة إلى اتخاذ الرأي الخاص ... 248

إشكالات مثارة حول الشفاعة والإجابة عنها ... 251

الإشكال الأوّل : الشفاعة تجعل القانون لغواً وبلا أثر ... 251

الإشكال الثاني : تشريع الشفاعة يجر إلى التمادي في العصيان ... 255

الإشكال الثالث : الحاكم العادي لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه وهو مستحيل على اللّه 259

الإشكال الرابع : ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة ... 263

الإشكال الخامس : آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ... 268

الإشكال السادس : الشفاعة لون من الوساطة المتعارفة بين الناس ويجب تنزيه اللّه عنها 270

الفروق الموجودة في الشفاعتين ... 273

ص: 404

الإشكال السابع : المراد من الآيات الشفاعة القيادية لا الشفاعة المصطلحة ... 275

الإشكال الثامن : هل الشفيع هو أشد رأفة بالعباد من اللّه ؟ ... 276

الإشكال التاسع : كل إنسان قيد عمله ورهن سعيه وهذا لا يجتمع مع الشفاعة ... 277

الإشكال العاشر : طلب الشفاعة من أولياء شرك باللّه ... 279

ما يدل على جواز طلب الشفاعة ... 280

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة ... 285

الشفاعة في الأدب العربي ... 301

الشفاعة في الأحاديث الإسلامية ... 315

أحاديث الشفاعة عند أهل السنّة ... 316

أحاديث الشفاعة عند الشيعة الإمامية ... 325

أحاديث الشفاعة عن الإمام علي علیه السلام ... 326

أحاديث الشفاعة عن سائر أئمّة أهل البيت علیهم السلام ... 328

بحث وتمحيص حول الروايات الواردة في الشفاعة ... 338

النبي والرسول في القرآن الكريم

ما هو الرسول والنبي ؟ ... 343

ص: 405

ما هو الفرق بين الرسول والنبي ؟ ... 344

1. الرسول من أُمر بالتبليغ والنبي من أُوحي إليه سواء أُمر بالتبليغ أو لا ؟ ... 344

2. الرسول من أُنزل معه كتاب والنبي هو الذي ينبئ عن اللّه وإن لم يكن معه كتاب 349

3. الرسول من جاء بشرع جديد والنبي أعم ... 353

ركام من الأوهام والأكاذيب ... 357

4. الرسول من يعاين الملك والنبي من يتلقّى عن غير هذا الطريق ... 359

5. النبي من يوحى إليه في المنام والرسول من شاهد الملك وكلّمه ... 364

6. النبي والرسول مبعوثان إلى الناس والرسول هو المرسل برسالة خاصة ... 366

ما هو المختار عندنا ؟ ... 368

نتائج البحث ... 376

الأوّل : النبوّة متقوّمة بالاتصال باللّه والإنباء عنه والرسالة تحمل مفهوماً أوسع ... 376

سؤال والجواب ... 381

الثاني : إنّ منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة ... 383

ص: 406

الثالث : النبوّة أساس رسالة الإنسان من اللّه ... 384

الرابع : انّ النسبة بين الرسول والنبي من حيث المصداق هو التساوي ... 385

بحث وتنقيب حول الروايات الواردة في المقام ... 388

القضاء بين هذه المأثورات ... 395

المحدَّث في السنّة ... 397

ص: 407

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.