مفاهيم القرآن المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 4

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 543

نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الثالث

يبحث عن عالمية الرسالة المحمدية وخاتميتها وأمية النبي الأكرم صلی اللّه عليه وآله وسلم، واطلاعه علی الغيب بإذن اللّه سبحانه، وحياته في القرآن

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

لقد وافتنا رسائل من الشخصيات البارزة المتبحّرة بعلوم القرآن وتفسيره تشجّعنا على مواصلة العمل ونحن نتقدم إليهم بالشكر وننشر كلماتهم فيما يأتي من الأجزاء مشفوعاً بالتقدير والإكبار.

كلمة قيّمة للمفكّر الإسلامي الكبير والمفسّر القدير العلاّمة السيّد محمد حسين الطباطبائي قدس سره مؤلّف الكتاب القيّم « الميزان في تفسير القرآن ».

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين.

أمّا بعد ، فإنّ الكتاب الذي بين يديك سلسلة بحوث قيّمة في القرآن الكريم وتفسيره على أساس « الوحدات الموضوعية » فيه. ويلاحظ الباحث فيها أنّها تعتمد ، قبل كل شيء على الاستفادة من نفس مفاهيم القرآن الكريم في عرض المواضيع كما يلاحظ الروح الموضوعية الهادفة والاُسلوب الفخم ، والتتبع الدقيق ، والإسهاب في البحث ، والاستيفاء الكامل لكلّ جوانب الموضوع. فأسأل اللّه أن يوفّق مؤلّفنا الموفّق لتنقيح سائر المواضيع في الأجزاء الآتية ، انّه سميع بصير.

محمد حسين الطباطبائي

عام 1393 ه

قم - إيران

ص: 3

اكبار وتقدير لهذه الموسوعة القرآنية من المحقق المتتبع العلامة الكبير الشيخ محمد تقي التستري دام ظله ، صاحب كتاب « قاموس الرجال ».

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حضرة العلاّمة فخر الأيام الشيخ جعفر السبحاني دامت بركاته.

وصلني كتابكم الميمون ففتح علينا أبواب البهجة والسرور ، كما وصلني مؤلّفكم القيّم « مفاهيم القرآن » وقد طالعته من أوّله إلى آخره والحق أنّكم بحثتم فيه عن موضوعات كثيرة وعالجتم فيه المسائل الإسلامية معالجة جديدة ، بعيدة عمّا حولها من آراء وأفكار مهجورة فجزاكم اللّه عن الإسلام والدين والعلم خير الجزاء.

والعجب أنّكم رغم نشأتكم فى إيران أخذتم بناصية اللغة العربية كأديب مصري أو بغدادي ، فأتيتم بتعابير عصرية رائجة ، أدام اللّه في تأييدكم وزاد في تسديدكم.

الشيح محمد تقي التستري

ص: 4

التفاتة كريمة وكتاب مبارك من الاُستاذ الفذ سماحة العلاّمة الحجة الشيخ محمد الكرمي دام ظله الوارف نقتطف منه ما يلي :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هزتني طرّة عنوانه لأنّه مبتكر في بابه

كم بت أتململ ساعات طوالاً من الليل ، وآناء كثيرة من أطراف النهار أجول بفكري في غضون الحياة لعلّي أطّلع من بعض منافذها على بصيص أجعله مناراً للخروج من حيرتي لأنّي أعرف للفضيلة مفهوماً ولا أراه بين الناس ، وللدين أهمية عظمى ولا أجدها ظاهرةً بينهم .. نعم قد تقع العين أحياناً على فاضل متزن وكاتب متقن وكتاب متشخّص فيلوح في الآفاق كما تلوح النجمة اللامعة في شاشة الظلام الأدكن ويحصل منها بصيص للدرب يهوّن على سالكه المسير فلا يكون كخابط في ليلة ظلماء.

وفي مثل هذا الوقت المتلوي والظرف الحرج يتحفني صديق لي حميم وهو الاُستاذ جعفر السبحاني بالجزء الأوّل من تفسيره الموضوعي للقرآن الكريم « فهزّتني طرّة عنوانه لأنّه مبتكر في بابه » فانّ كل من كتب في التفسير كتب على طبق تسلسل السور من الفاتحة إلى المعوذة بالترتيب الموجود للمصحف الشريف ، أمّا صديقنا الفاضل فقد حاول خطة اُخرى هي بنظري آصل من الخطط الدارجة وهي إلمامه بجميع ما في

ص: 5

القرآن من أهداف وموضوعات تحدّث القرآن الكريم عنها وإشخاص كل هدف في باب خاص والإفاضة عنه بالآيات التي رمت إليه في أيّة سورة كانت.

... لقد أتحفني صديقي السبحاني بالجزء الأوّل من تفسيره الموضوعي فقرأت مقدّمته لأستجلي من مجملها تفاصيل ما دوّن أو يريد تدوينه ، فوقفت على مجمل مفعم بالمطالب الدقيقة وفتحت الكتاب عفواً فوقعت عيني على عنوان أُمّية النبي في القرآن وسرحتها قصداً لترتع في هذه الجنائن الناظرة والحدائق الغنّاء فكان والحق يقال محقّقاً لمادة المطلب مفتشاً على كلّ مظنة توفي بها على ما يوخّى من بحثه وبعد ذلك مطبقاً لما علّق بنظره مبرهناً عليه طارداً للشبه والإشكالات التي توجّه إليه.

فالسبحاني وإن كان كتب في أبواب شتى وطرق مواضيع عديدة وساعدته الظروف فنشر ما كتب إلاّ أنّه في كتابه هذا إذا وفّق لإتمامه على اُسلوب فأنجز منه يكون قد جاء ببيت قصيده وأسعفه الحظ بمقصوده ولا استكثر عليه ذلك.

لقد أتحفني صديقي الفاضل السبحاني كما ذكرت بالجزء الأوّل من موسوعته فرأيت لزاماً علىّ أن أقدم لجزئه الثاني الجاهز للطبع وأعرب عن الحق الذي تضمّنه كتابه لا عن تذوقي وحده. فجدير بالناشئة المؤمنة أن تطالع هذا الكتاب وتشبع بعض نهمتها منه وجدير بالأُستاذ المؤلّف أن يتابع خطوه في إتمام هذه الموسوعة التي تتقاضى منه جداً وجهداً وزمناً وإذا ماطل هذه الصعوبات وانتصر عليها يكون قد فاز برضى من ربّه وهذه هي الجائزة الموقّرة ... والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته.

محمد الكرمي

21 / ج 1 / 1394 ه

ص: 6

عواطف خالصة يجود بها علينا أخ في اللّه كريم وعلم من أعلام الفكر والدين فضيلة الشيخ حسن طراد العاملي نزيل النجف الأشرف.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

فضيلة العلاّمة الجليل المجاهد الكبير سماحة الشيخ جعفر السبحاني المحترم دام حفظه وتأييده.

تحية حب وإخلاص وتقدير وإجلال.

وبعد : فقد وصلتني هديتك الثمينة التي تفضّلت بها « مفاهيم القرآن ». وقد كان لهذه الهدية الفكرية مدلول رائع ومحتوى مزدوج سام ، فهي تعبّر من جهة فكرية عن فكر عميق ونظر دقيق وسعة اطّلاع وفصاحة بيان وسداد منطق كما تعبّر من جهة روحية عن سموّ خلق ودماثة طبع ورحابة صدر وسماحة نفس ، ولهذا وذلك كان لهذه التحفة السنية بما عبّرت عنه ودلّت عليه أبلغ الأثر في نفسي حيث جعلت لك عندي منزلة سامية ومكانة مرموقة تستوجب التقدير والإجلال ، كما بعثت وكوّنت لك في قلبي حبّاً عميقاً وإخلاصاً وثيقاً يجذبني إليك بسلك الوفاء والولاء وقد كان من نتائج هذا التقدير وذلك الحب مقطوعة شعرية نظّمتها بوحي من إعجابي بفضلك وتقديري

ص: 7

لشخصك وإخلاصي لك وهي :

سر للأمام مؤيّداً بعزيمة *** كالطود لا تثنى ولا تتقهقر

وانشر من الدين الحنيف معارفاً *** غراء تسطع بالرشاد وتزهر

وأكشف دياجير الضلال بساطع *** من نور فكرك بالهدى يتموّر

فالليل لايجلوه إلاّ كوكب *** بشعاعه ظل الدجى يتبخّر

والغي لا يمحوه إلاّ كاتب *** بفنون دستور السما متبحّر

نشر الحقائق في العقول فأشرقت *** وعياً وأضحت بالهدى تتنوّر

ليظل دستور العقيدة مشرقاً *** تزهو بروعة ما حواه الأعصر

وختاماً أشكر هديتك القيّمة وأُقدر أخلاقك السامية وجهادك المثمر البنّاء والسلام عليك وعلى سائر الأعلام المجاهدين في حوزة قم المقدسة.

حسن طراد العاملي نزيل النجف الأشرف

7 / ربيع الآخر / 1394 ه

ص: 8

مقدّمة الطبعة الثالثة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحديث عن التفسير الموضوعي ذو شجون وهو يقابل التفسير الترتيبي الذي يتخذ المفسّر ، القرآن موضوعاً لتفسيره مبتدئاً من سورة الحمد ومنتهياً إلى سورة الناس وربّما لا يرافقه التوفيق لتفسير جميع السور فيكتفي بتفسير البعض.

وأمّا التفسير الموضوعي فيجعل المفسّر الموضوعات الواردة في الكتاب العزيز محوراً للدراسة ويجمع شتيت آياته من السور المختلفة فينظر إلى الكل بنظرة ثاقبة ويخرج بنتيجة واحدة يجعل البعض قرينة للبعض الآخر.

وكان المألوف بين المفسّرين هو النمط الثاني وإن كان النمط الأوّل غير مغفول عنه في بعض صوره ، كالبحث عن الآيات الواردة حول الأحكام الفقهية من الطهارة إلى الديات ، والآيات الواردة حول المثل والأخلاق.

وأوّل من فتح هذا الباب على وجه موجز في غير واحد من المواضيع هو العلاّمة المجلسي قدس سره حيث أصدر في موسوعته عن هذا اللون من التفسير في جميع الأبواب في مجالي العقيدة والشريعة والحوادث الكونية غير أنّه لايخرج في تفسيرها عن إطار ما في التفاسير المعروفة كمجمع البيان للطبرسي وأنوار التنزيل للبيضاوي وغيرهما. وممّا يدعو إلى إكبار عمله أنّه قام بجمع آيات الموضوعات الواردة في القرآن الكريم مع عدم توفّر المعاجم الموجودة في عصرنا هذا ، فإنّها بلا شك خير معين لمن يريد الخوض في هذا المجال.

ص: 9

وقد قمت بحمد اللّه بهذا العبء الفادح حسب المستطاع فجعلت العقيدة هي المحور الأوّل للتفسير مقدماً لها على الأحكام والأخلاق وما يرجع إلى الكون والطبيعة وخلق الإنسان.

والجزء الأوّل يحتوي على مباحث في التوحيد وأقسامه ، والشرك وألوانه ولمّا انتهينا في هذا الجزء إلى التوحيد في الحكومة وأنّه لا حاكم في المجتمع البشري سوى اللّه سبحانه وانّ حكومة غيره لابدّ أن تكون مستمدة من حكومته سبحانه وتعالى. خصّصنا الجزء الثاني من هذا الموسوعة في الحكومة الإسلامية ، وما ورد حولها من الآيات في مواضيع مختلفة.

وكان الأنسب للبحث في الجزء الثالث هو دراسة أسمائه وصفاته ، ثمّ البحث عن النبوّة العامّة إلى أن ننتهي إلى معالم النبوّة الخاصة ولكن كانت الحاجة في المجتمع الإسلامي ماسّة للبحث عن النبوّة الخاصة ركّزنا البحث على مواضيع ترجع إليها واستغرقت تلك البحوث الجزء الثالث والرابع والخامس نعم درسنا صفاته سبحانه في الجزء السادس دراسة معمّقة تليق بها ودرسنا حياة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله في القرآن في الجزء السابع.

وما ذكرنا فهرس موجز لهذه الأجزاء السبعة وأرجو منه سبحانه أن يوفّقني لدراسة المواضيع الباقية من العقائد والمعارف. إنّه قريب مجيب.

وها نحن نعيد طبع الجزء الثالث في حلّة قشيبة وقد مضى على الطبع الأوّل قرابة عشرين سنة وما زال الطلب يصل إلينا ويشجعنا على مداومة العمل. واستيعاب المواضيع الباقية في المعارف الواردة في القرآن الكريم ونرجو اللّه تعالى أن يوفقنا لإكمال هذه الموسوعة التي تهدف إلى التعرّف على الاُصول والعقائد عن طريق الوحي والتنزيل.

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

3 شهر رمضان المبارك عام 1413

ص: 10

مقدمة الطبعة الثانية

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القرآن كتاب القرون والأجيال

القرآن معجزة خالدة

لمّا كانت رسالة النبي الكريم محمد صلی اللّه علیه و آله أبدية خالدة إلى يوم القيامة ، لأنّها خاتمة الرسالات ، ونبوّته خاتمة النبوّات .. وكانت النبوّة والرسالة الخالدة بحاجة إلى المعجزة الخالدة لاقناع الأجيال المتلاحقة ، امتازت معجزة الرسول الكريم محمد صلی اللّه علیه و آله عن معاجز غيره من الرسل الكرام بكونها خالدة خلود النبوّة المحمدية ، باقية بقاء الرسالة الإسلامية ، التي هي خاتمة الرسالات والحلقة الأخيرة المتكاملة في سلسلة الشرائع الإلهية.

وهذا أمر يؤيّده العقل ، ويؤكده البرهان. فالأنبياء والرسل السابقون ، رغم أنّهم كانوا أصحاب معاجز كثيرة وعديدة ، لكن تلك المعاجز كانت مؤقتة ، لأنّ رسالتهم كانت منحصرة على عصورهم وأجيالهم أو تمتد إلى عصور بعدهم بقليل ولذلك كانت معاجزهم باقية في الأذهان بقدر طول مدة نبوّتهم ورسالتهم فكانت تختفي بانتهاء مدة

ص: 11

نبوّاتهم علیهم السلام ولم يبق منها إلاّ أخبار وقصص في بطون الكتب ، وطيات التاريخ المدوّن.

أمّا الرسالة التي كلّف بإبلاغها الرسول الخاتم صلی اللّه علیه و آله فإذ لم تكن محدودة بزمن دون آخر ، ولا مقصورة على جيل دون آخر ، فهي الرسالة الخالدة وهي الدعوى الموجهة إلى جميع الأجيال البشرية إلى يوم القيامة ، كان من الضروري والبديهي أن تقترن بمعجزة خالدة ، تشهد على صدق صاحب الدعوة وحامل تلك الرسالة ، في جميع القرون والأعصار ، ولتكون ( حجة ) على جميع الأجيال المخاطبة بها ، والمدعوّة إليها ، لأنّ المعجزة وثيقة إثبات لا يمكن تصديق رسالة ونبوّة بدونها.

وكانت هذه المعجزة الخالدة التي زوّد اللّه تعالى بها خاتم الأنبياء محمداً صلی اللّه علیه و آله هي ( القرآن الكريم ) الذي بقى على مرّ العصور والأزمنة يشهد - بقوّة ووضوح - على صدق النبوّة المحمدية وعلى صلته صلی اللّه علیه و آله باللّه سبحانه وتعالى.

والجدير بالذكر أنّ إعجاز القرآن الكريم لا يقتصر على جهة دون جهة ، بل هو معجزة بمجموعه وفي جهات شتى نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر :

أوجه الإعجاز القرآني

انّ القرآن الكريم معجزة مستمرة وخالدة :

أوّلا / من حيث فصاحته وبلاغته التي أخرست البلغاء والفصحاء ، لا في عصر نزوله خاصة ، بل في جميع الأزمنة والدهور ، وأعجزتهم عن معارضته ، وتحدّتهم في معاقلهم ، وعقر دورهم.

ثانياً / من حيث احتوائه على أفضل القوانين والنظم ، وأرقى التشريعات في جميع المجالات الحيوية ، وإتيانه بما عجز عن الإتيان به أرقى الحضارات البشرية حتى يومنا هذا.

ثالثاً / من حيث إخباره بالاُمور المستقبلية واحتوائه على الاُمور الغيبية ، إذ أخبر

ص: 12

عن وقائع وحوادث مستقبلية تحقّقت بعده حرفاً بحرف.

رابعاً / من حيث سلامته عن التناقض والاختلاف في النظم والاُسلوب ، وفي المعنى والمضمون رغم تدرّجه في النزول على النبي صلی اللّه علیه و آله وتنزّله في ظروف مختلفة متباينة كيفاً وحالاً ، وخلال ثلاث وعشرين سنة محفوفة بالمشاكل الجسيمة ، والتطورات العنيفة.

خامساً / من حيث تناوله الدقيق للوقائع التاريخية الماضية ، حيث قصّها على نحو خال عن شائبة الأساطير والخرافات ، وهو أمر يمكن معرفته بمقارنة القرآن الكريم مع التوراة والإنجيل.

سادساً / من حيث اشتماله على إشارات رائعة عميقة إلى حقائق كثيرة من العلوم الطبيعية التي توصّل إليها العلم الحديث - في هذا العصر - بفضل الجهود الطويلة المضنية ، وبواسطة المختبرات ، والوسائل العلمية والتجارب والاختبارات العديدة.

سابعاً / من حيث قوّة احتجاجه على خصومه ومعارضيه ، وما جاء به من حجج لم يسبق لها نظير في علم المناظرة والاحتجاج وكانت - ولا تزال - أنجح الحجج في إفحام الخصوم وإسكات المجادلين ، والمشكّكين ، بل وهدايتهم في أغلب الأحيان.

ثامناً / من جهة ما جاء به في مجال الأخلاق والتربية الأخلاقية للفرد والمجتمع حيث استقصى الأخلاق الفاضلة وحثّ على التزيّن بها بما توجبه الحكمة من البعث والترغيب ، وأحصى الأخلاق الرذيلة وزجر عن التلوّث بها بما توجبه الحكمة ، ويقتضيه الاصلاح من التخويف والتنفير وسلك في ذلك كلّه طريقة فريدة لها أبلغ الأثر حتى في أشد القلوب قساوة.

تاسعاً / من حيث روحانيته البالغة التي تنفذ إلى الأعماق ، وتأخذ بمجامع القلوب ، وتستميل المشاعر ، فإذا بآياته روح تحيا بها نفوس الخلق ، ونور يضيء الوجود الإنساني كما تضيء الشمس الآفاق ، فتنشط الأحياء ، وتتحرك الطبيعة.

ص: 13

عاشراً / من حيث تناوله لأدق المعارف العقلية ، والقضايا الاعتقادية الرفيعة التي لا تصل إليها أفكار البشر ، ولا تبلغها علومهم ، ممّا يتعلّق باللّه سبحانه وصفاته وأسمائه وأفعاله ، وما أخبر به من عوالم غيبية في الملأ الأعلى ، والنشأة الاُخرى.

إلى غير ذلك من الجهات والوجوه التي يقصر البيان عن الإحاطة بها ، وإحصائها في هذا المختصر.

غير أنّ الجهة الأخيرة من هذه الجهات وهي التي كان يتوجب تناولها بالدراسة الوافية والتحليل الشامل ، وخاصة في عصرنا الحاضر ، قد اُهملت في مؤلّفات المفسّرين غالباً فهم لم يدرسوها بجامعية تليق بالموضوع وتناسب أهميته ، وتعطي حقه من العناية والبحث.

ولعلّ عذرهم في ذلك هو أنّ تفسيرهم للكتاب العزيز كان على وجه التفسير التدريجي للقرآن ، أي التفسير سورة فسورة ، وآية فآية ، ولم يتبادر إلى أذهانهم إنّ هناك نوعاً آخر من التفسير هو التفسير الموضوعي الذي يفسّر الكتاب العزيز حسب المفاهيم والموضوعات ، وهو النمط الذي أشرنا إليه في مقدمة الجزء الأوّل من هذه السلسلة القرآنية.

* * *

لزوم الاهتمام بالمعارف الإلهية

وإنّما ينبغي إعطاء المزيد من الاهتمام بالمعارف الإلهية التي ترتبط باللّه سبحانه ، وأسمائه وصفاته وأفعاله وغير ذلك ممّا تناوله القرآن بالدقة المشهودة ، لأنّ تناول القرآن لهذه المعارف بهذا الشكل يدلّ - بوضوح لا يقبل الجدل - على أنّ النبيّ الاُمّي صلی اللّه علیه و آله لم يأخذ هذه المعارف إلاّ من مستقى ( الوحي ) ، إذ من المستحيل لابن الجزيرة الخالية من أيّة حضارة وثقافة أن يأتي - في كتابه - بما أبهر عقول الفلاسفة والمفكّرين ، في القديم والحديث ، وذلك من لدن نفسه وصنع فكره ، أو يكون قد تلقّاها في مدرسة ، أو اقتبسها من معلّم في أرض لم يعرف أهلها إلاّ الأوهام ، ولم يؤمنوا إلاّ بالخرافة ، فلا ثقافة

ص: 14

ولا مثقّفين ، اللّهمّ إلاّ بضعة أشخاص (1) لم ينالوا من الثقافة إلاّ صبابات هي إلى الجهل أقرب منها إلى العلم والمعرفة.

إنّ القرآن جاء بأُصول وأفكار في مجال المعارف العقلية العليا لم يقف عليها حتى النوابغ من الفلاسفة ، في الشرق والغرب ، إلاّ عن طريق ذلك الكتاب الإلهي وهدايته.

إنّ من الظلم الفضيع إهمال دراسة هذه المعارف العليا بحجة أنّها مسائل غيبية يجب الاعتقاد بها إجمالاً ، وترك دراستها ومناقشتها وتحليلها.

والعجب أنّه روي عن الإمام مالك أنّه جاء إليه رجل فقال : يا أبا عبد اللّه ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) كيف استوى ؟

فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء. ثم قال :

« الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلاّ مبتدعاً ».

فأمر به أن يخرج (2).

ونحن نعتقد أنّه كان على الإمام أن يجيب على سؤال السائل ويهديه إلى مراده سبحانه من هذه الآية بدل رميه بالابتداع وإخراجه من المجلس.

كما أنّ من الظلم أيضاً ما يرتكبه بعض كتّابنا المسلمين المعاصرين ، حيث أخذ يفسّر هذه المعارف العقلية الإلهية بالأُمور المحسوسة ويحاول تطبيقها على الشؤون المادية فصار فعله بذلك من أوضح مصاديق ( تفسير القرآن بالرأي ) الذي تواترت الأحاديث

ص: 15


1- لقد نقل البلاذري في كتابه « فتوح البلدان » أنّ الذين كانوا يعرفون الكتابة في مكة - آنذاك - لا يتجاوزون سبعة عشر شخصاً ، وفي المدينة أحد عشر شخصاً ، وإليك نصّ ما قاله في هذا المجال : «دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلهم يكتب ثم عدهم وذكر أسماءهم وقال: «كان الكتاب بالعربية في الأوس والخزرج قليلين ... فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون، ثم ذكر أسماء هم راجع ص 456 - 459 باب في أمر الخط، فتوح البلدان.
2- مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية ، ج 1 ، ص 443.

الشريفة من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله على نهيه.

من أجل هذا ، ولكي نسلم من التخبّط والعشوائية في معرفة هذه المعارف والقضايا الاعتقادية يتعيّن علينا أن ندرسها بعناية بالغة على نمط ( التفسير الموضوعي ) من دون فرق بين موضوع وآخر ، حتى نقف - من هذا السبيل - على واحدة من أهم جهات الإعجاز القرآني ، ونكون من المتعمّقين في القرآن ومعارفه. وما روي عن الإمام علي بن الحسين السجاد علیه السلام إذ قال ، لمّا سئل عن التوحيد :

« إنّ اللّه - عزّ وجلّ - علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللّه تعالى : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ذلك فقد هلك ». (1)

أقول : إنّ ما روي عنه علیه السلام لا يعني أنّ الإمام أراد حصر الآيات الباحثة عن المعارف والقضايا الاعتقادية في هذه الآيات ، بل لمّا كان ما جاء في هذه الآيات في القمّة من تلك المعارف ، أشار إليها الإمام خاصة دون إرادة الحصر.

ولأجل هذا جعلنا وجهة البحث في تفسيرنا منذ أن شرعنا في هذا النمط صوب : ( المعارف الاعتقادية ) على ضوء القرآن ، مبتدئين بالتوحيد وماضين في هذا السبيل إلى ما شاء اللّه ...

* * *

تقديم مباحث النبوّة على الصفات

ولمّا انتهى البحث عن ( التوحيد ) وأقسامه في الجزء الأوّل من كتابنا الذي انتشر باسم « معالم التوحيد في القرآن الكريم » ، وفرغنا من عرض أهم أصل من اُصول الدين الإسلامي ، وانجرّ البحث عن توحيد حاكميته سبحانه إلى توضيح صيغة الحكومة الإسلامية وخصصنا لبيانها جزءاً مستقلاً وانتشر باسم : « معالم الحكومة الإسلامية » كان البحث الضروري والمهم بعد ذلك الفصل هو البحث عن معالم النبوّة مطلقاً ، ونبوّة

ص: 16


1- الكافي ، ج 1 ، باب النسبة ، الحديث 3.

نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله خاصّة واستعراض ما جاء حولهما من المسائل والمباحث التي يجب الاعتقاد بها حسب نصوص القرآن الكريم وآياته.

نعم كان اللازم بعد البحث عن وجوده سبحانه وتوحيده هو البحث عن سائر صفاته الجمالية من علمه وقدرته وحياته إلى غير ذلك من الصفات الثبوتية ، أو البحث عن صفاته الجلالية من كونه ليس بجسم ، ولا عرض ، إلى غير ذلك من الصفات السلبية (1).

نعم كان اللازم تقديم البحث عن صفاته على بحث النبوّة ، غير أنّه لما كان أهم صفاته هو التوحيد وقد أشبعنا الكلام فيه ضمن فصول ، قدّمنا بحث النبوّة.

وإنّما اخترنا مبحث النبوّة ، بعد استيفاء البحث في توحيد اللّه سبحانه ، لأنّه الأصل الثاني لتحقّق الإسلام ، حيث كان الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله يقبل إسلام من يعترف بالشهادتين : الشهادة بتوحيد اللّه سبحانه ، والشهادة برسالة نبيّه صلی اللّه علیه و آله .

نعم سنقوم ، بعد استيفاء البحث عن النبوّة ، بالبحث عن ( المعاد في يوم القيامة ) لأنّ أي مسلك ودين لا يمكن أن يصطبغ بصبغة الدين الالهي بدون الاعتقاد ب ( المعاد ).

وتدل على انحصار المهم من الاعتقاد في هذه الاُمور والاُصول الثلاثة روايات وأحاديث منها ما عن علي بن أبي طالب عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال :

« لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي محمد رسول اللّه بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر » (2).

كما روي أنّ رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول اللّه بجارية له سوداء فقال : « يا رسول اللّه علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه ؟ فقال لها رسول اللّه :

ص: 17


1- خصصنا الجزء السادس بالبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه كما خصصنا الجزء السابع لبيان دعوة النبىّ الأكرم وحياته في القرآن.
2- أخرجه الترمذي راجع جامع الاُصول ، 1 ، ص 145.

أتشهدين أن لا اله إلاّ اللّه ؟

قالت : نعم.

قال : أتشهدين أنّ محمداً رسول اللّه ؟

قالت : نعم.

قال : أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟

قالت : نعم.

قال رسول اللّه : اعتقها » (1).

مباحث النبوّة

إنّ البحث عن ( النبوّة ) يقع في موردين :

1. النبوّة العامّة.

2. النبوّة الخاصّة.

والمراد من البحث في ( النبوّة العامّة ) هو دراسة ظاهرة « النبوّة » ، ذلك الفيض الإلهي الجاري من جانب اللّه سبحانه إلى البشر بواسطة الأنبياء والرسل من آدم علیه السلام إلى خاتم النبيين صلی اللّه علیه و آله .

وفي مجال النبوّة العامّة لابدّ من البحث في الاُمور التالية التي يتكفل مجموعها شرح هذه الحقيقة الكبرى ، وبيانها :

الأوّل : لزوم بعث الأنبياء إلى البشر.

الثاني : الشرائط العامّة اللازمة في النبي كالعصمة والخلو عن النقص والعيب.

الثالث : كيفية أخذ الأنبياء الأحكام عن اللّه سبحانه ، وما هو الوحي.

الرابع : ما يعرف به النبي الحقيقي ويمتاز عن مدّعي النبوّة كذباً ، ومنتحلها

ص: 18


1- أخرجه صاحب الموطأ راجع ، ج 1 ، ص 145.

زوراً ، ويبحث فيه عمّا يسمّى بدلائل النبوّة التي منها « المعاجز ».

تلك هي عناوين الأبحاث في « النبوّة العامّة » التي تعرّض لها القرآن الكريم في مواضع كثيرة من سوره وآياته.

وإنما يجب البحث عن الموضوع الأوّل ( أعني : لزوم إرسال الرسل وبعث الأنبياء ) دفعاً للمزاعم الواهية المنقولة عن البراهمة والبوذيين الذين أنكروا ضرورة إرسال الرسل بوجوه ذكرها علماء الكلام في مؤلّفاتهم الاعتقادية (1).

وأمّا البحث عن الموضوع الثاني فلأجل توضيح أنّ النبوة لا تعطى إلاّ لمن تتوفّر فيه صفات خاصّة ، ومؤهّلات معيّنة وهو بحث يتطلبه مبحث النبوّة العامّة لمعرفة أهمية مسألة النبوّة ، وأنّه هذا المنصب العظيم لم يعهد إلاّ لمن تتوفّر فيه صفات معيّنة.

ويتناول العنوان الثالث بالبحث لمعرفة أنّ أهميّة النبوّة وامتيازها عن أيّة ظاهرة فكرية بشرية إنّما هي بالوحي ، الذي هو كيفية اتصال الأنبياء باللّه سبحانه ، وهو الأمر الذي يدحض الزعم الباطل القائل بأنّ الأنبياء مجرد نوابغ وأنّ ما يأتي به الأنبياء نظريات بشرية نابعة من صميم أفكارهم.

ويتناول الموضوع الرابع بالدراسة لأنّ معرفة النبىّ الصادق عن المتنبئ الكاذب متوقف على ما يتحقق على يد النبي من معاجز تثبت تأييد اللّه سبحانه له وإن كانت هناك طرق اُخرى لتمييز النبي الحقيقي عن المتنبئ أيضاً وسيوافيك بيانها في محلها.

وهذه العناوين وإن كان البحث عنها مهماً وضرورياً لمعرفة حقيقة النبوّة بصورة عامة لكنّنا نقدم الحديث عن معالم النبوّة الخاصّة - أعني نبوّة الرسول الأعظم محمد صلی اللّه علیه و آله - نظراً لشدة الحاجة إلى ذلك فعلاً ، وسنردف البحث هذا ، بدراسة الفصول ، والمسائل المتعلّقة بالنبوّة العامّة التي ذكرناها عمّا قريب.

ص: 19


1- ذكر بعضها المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد وشرحه تلميذه العلاّمة الحلي في كشف المراد راجع ذلك الكتاب ، ص 275 ، طبعة صيدا.

نعم كان الأولى في البحث عن النبوّة الخاصّة تقديم البحث عن دلائل نبوّة سيدنا محمد صلی اللّه علیه و آله .

غير أنّه لما كتبت في هذا الموضوع مؤلّفات ، ورسائل ، وكان البحث عن إعجاز القرآن بوجوهها العشرة الماضية أحسن دليل على صحة رسالته صلی اللّه علیه و آله وقد استوفى علماؤنا البحث عن ذلك قديماً وحديثاً وجدنا قرّاءنا في غنى عن تكراره.

ولأجل ذلك طرحنا بحوثاً اُخرى ترجع إلى صفات رسالته ونبوّته أو إلى حالاته الخاصة الواردة في الكتاب العزيز ، والتي لم تبحث إلى الآن بصورة مشبعة ومنقّحة.

فلأجل ذلك نبحث في هذا الجزء عن الاُمور التالية :

1. رسالته صلی اللّه علیه و آله عالمية وليست إقليمية ولا قومية وأنّه مبعوث إلى البشر كافة.

2. إنّ رسالته خاتمة الرسالات ونبوّته خاتمة النبوّات ، وكتابه خاتم الكتب.

وهذان البحثان يرجعان إلى البحث عن أوصاف رسالته ، من عموميتها وخصوصيتها.

3. أنّه صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب.

4. أنّه صلی اللّه علیه و آله كان مطّلعاً على الغيب بإذنه سبحانه.

وهذا البحثان يرجعان إلى أوصافه الواردة في القرآن الكريم.

5. بيان أسمائه وصفاته صلی اللّه علیه و آله الواردة في القرآن الكريم.

نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لتوضيح هذه المعالم التي نوّه بها سبحانه وذكرها في كتابه العزيز ، وأن يوفّق قرّاءنا للاستفادة من هذه البحوث القرآنية انّه خير معين.

قم المشرفة

10 ربيع الثاني من شهور عام 1402

ص: 20

مقدمة الطبعة الأُولى

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

منهج متكامل في عالم التفسير

اشارة

الإسلام دين اللّه الأبدي الخالد وشريعته الدائمة الباقية مع مرّ العصور والأزمان ، ولابد لهذه الشريعة الباقية من سند قوي يسندها ، ودليل واضح يدل على أنّها حق لا يتسرّب إليه أي شك أو شبهة ، فكان ذلك السند والدليل هو القرآن الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو المعجزة الخالدة التي ستبقى سنداً حياً للشريعة الإسلامية إلى يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين.

لقد كانت المعاجز التي ظهرت على أيدي موسى بن عمران والمسيح بن مريم علیهماالسلام ، معاجز تخص عصرهما ، فلم يشاهد منها شيء في العصور المتأخّرة عنهما ، ذلك لأنّ شريعتيهما كانتا خاصّة بفترة زمنية معيّنة محدودة بحدود مؤقتة ، فكانت معاجزهما كافية لتلك الفترة التي تسري فيها شريعتهما.

أمّا نبوّة نبي الإسلام محمد صلی اللّه علیه و آله التي هي آخر النبوّات ، وشريعته التي هي خاتمة الشرائع ، فلابد لها من معجزة تناسبها ، وتواكب سيرها الزمني لتكون النبراس الذي

ص: 21

يضيء الطريق للجيل المعاصر للرسول والأجيال التي ستأتي بعده إلى ماشاء اللّه تعالى. يمحو صدأ الشكوك عن أذهان كافة البشر ، ويدلّهم دلالة واضحة إلى طريق الحق اللاحب والصراط المستقيم.

القرآن وآفاقه اللامتناهية

لم يمض من نزول القرآن نصف قرن ، إلاّ وقد وضع علماء الإسلام علوماً جمة لفهمه وكشف أسراره ومعانيه ، ولو أمعنا النظر لرأينا أنّ كثيراً من العلوم ، وضعت أوّلياتها لاستيضاح مداليل آيات القرآن وما يمكن أن يستخرج من جملها وعباراتها وذلك كالنحو ، والصرف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان ، والبديع ، والقراءة ، والتجويد ، وقصص القرآن ، وشأن نزول الآيات.

مع هذه الجهود الجبارة المبذولة من قبل أعلام العلماء طيلة القرون الأربعة عشر الماضية ، ومئات المؤلفات الكبيرة والصغيرة المدوّنة في سبيل الكشف عن الأسرار الكامنة في الآيات القرآنية.

مع كل هذه المساعي ، لم يصلوا إلى أعماق ما في القرآن من عجائب الأسرار وغرائب الحكم الكامنة فيه.

يسير الانسان حثيثاً في استجلاء معارف القرآن الفكرية وقوانينه الاجتماعية والأخلاقية وسائر تعاليمه العالية. ولكنه لم يزل ، يجد الجديد فيه عندما يتعمق في البحث ، ويرى ما قد غفل عنه الأقدمون ولم يصلوا إليه. كأنه أمام بحر مواج بالحقائق العلمية لا يدرك غوره ، ولا يتوصل إلى أعماقه ، ولا يمكن معرفة ما فيه من الأسرار والعجائب.

كأنّ القرآن الكريم ، هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة ، الواسع الأطراف ، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره ، إلاّ معرفة أنّه لا يزال الانسان في الخطوات الاُولى من التوصل إلى مكامنه الخفية في أغواره. فإنّ كتاب اللّه تعالى كذلك ،

ص: 22

لا يتوصل إلى كل ما فيه من الحقائق والاسرار ، لأنّه منزل من عند اللّه الذي لا تتصور له نهاية ، ولا يمكن تحديده بحدود وأبعاد ، فيجب أن تكون في كتابه لمعة من لمعاته ، ويثبت بنفسه أنّه من عنده ، ويتوفر فيه ما يدل على أنّه كتاب سماوي ليس من صنع البشر ، وهو خالد إلى ما شاء اللّه تعالى.

أنّ نبي الإسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله هو أوّل من لفت الأنظار إلى تلكم المزيّة وأنّ هذه المزيّة من أهم خصائصه ، حيث يقول في وصفه له : « له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة » (1).

وبعد النبي يأتي دور أول تلميذ لمدرسته وهو الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ليصف القرآن بقوله : « أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقده ، وبحراً لا يدرك قعره ... - إلى أن قال - : وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغضيها الواردون » (2).

وسأل رجل علي بن موسى الرضا علیه السلام فقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة ؟ فقال : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة » (3). نرى أن الرضا علیه السلام لا يشير في هذا الحديث إلى موضوع خلود القرآن فقط ، بل يشير أيضاً إلى سر خلوده وبقائه غضاً جديداً لا يتطرق إليه البلى والذبول.

ويجب أن نذكّر القارئ بأنّ النبي وأئمّة أهل البيت علیهم السلام لم يكونوا وحدهم هم الذين لفتوا الأنظار إلى موضوع آفاقه اللامتناهية ، بل عظماء العرب والعارفون منهم

ص: 23


1- الكافي ، كتاب القرآن ، ج 2 ، ص 599.
2- شرح نهج البلاغه لعبده ، ج 2 ، ص 202.
3- البرهان في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 28.

أدركوا هذه الحقيقة في أيام الإسلام الاُولى ، واعترفوا بعجزهم عن الوصول إلى أغوراه ، والتوصل إلى ما فيه من الأسرار والحكم.

هذا الوليد بن المغيرة حكيم العرب وريحانتهم وخطيبهم المنطيق يجلس إلى النبي ليستمع ما كان يتلوه من آيات « سورة غافر » ، وبعد هنيئة ذهب إلى قومه « بني مخزوم » ليقول لهم مصارحاً : ( واللّه لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن ، وأنّ له لحلاوة ، وأنّ عليه لطلاوة ، وأن أعلاه لمثمر ، وأنّ أسفله لمغدق ، وأنّه ليعلوا وما يعلى ) (1).

يمكن اعتبار قول الوليد هذا ، أول تقريظ بشري صدر من انسان واع أدرك بفطرته وذوقه السليم أنّ القرآن ( أعلاه لمثمر ، وأسفله لمغدق ، وأنّه يعلو وما يعلى ).

التفسير في مختلف الاتجاهات

في القرن الثالث الهجري - عندما قطعت العلوم الإسلامية أشواطاً بعيدة ، ووصلت إلى مراحل عالية من النضج والرقي - حدث في علم التفسير تطوّر ملموس ، فإنّه قبل هذه الفترة كان التفسير منحصراً بنقل أحاديث مروية عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو آراء بعض الصحابة والتابعين وأحياناً بعض أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام ، أمّا في هذا القرآن وما بعده فقد أدخل كل ذي اختصاص المباحث العائدة إلى موضوع اختصاصه ، في التفسير ، بل ربّما لا يكتب بعضهم إلاّ ما يدخل في إطار العلم الذي أصبح له اليد الطولى فيه.

فأعلام الأدب العربي خصصوا كتبهم التي تتناول القرآن بمباحث الاعراب واللغة والاشتقاق ، كما صنع الزجاج والواحدي مؤلّف كتاب « البسيط » وأبو حيّان مؤلّف كتاب « البحر والنهر ».

وشيوخ البلاغة اهتموا بصورة خاصّة بما يتعلّق بفصاحة القرآن وأسراره البلاغية

ص: 24


1- مجمع البيان ، ج 10 ، ص 387.

التي كانت العرب تدركها بفطرتها السليمة ، وذوقها المرهف ، وحاول هؤلاء الشيوخ إثبات إعجاز القرآن من هذه الزاوية التي تعود إلى اللفظ والتركيب. ومن باب المثال نذكر منهم الزمخشري وكتابه « الكشاف ».

والفلاسفة والمتكلّمون والمتصوفة أطالوا الكلام في الآيات التي توافق اتجاههم الفكري ولم يهتموا اهتماماً كبيراً بالجوانب الاُخرى من المباحث التفسيرية ، بل نرى في كثير من كتاباتهم أنّهم أوّلوا بعض الآيات تأويلات بعيدة لا يحتملها الذوق الخالي عن المسبقات الذهنية الفلسفية والكلامية والصوفية ، وذلك كما صنع الفخر الرازي في كتابه « مفاتيح الغيب » ومحيي الدين ابن العربي في التفسير المنسوب إليه ، وعبد الرزاق الكاشاني في كتابه « تأويل الآيات » وقبلهم اخوان الصفا في رسائلهم المشهورة.

والفقهاء توفروا في تفاسيرهم على آيات الأحكام فأشبعوها بحثاً ودراسة ، ومرّوا على بقية الآيات مروراً سريعاً كما صنع القرطبي في تفسيره ، بل خص جماعة من الفقهاء كتبهم بتفسير آيات الأحكام فقط ولم يتناولوا بقية الآيات أصلا كالجصاص والفاضل المقداد والمقدس الأردبيلي والشيخ أحمد الجزائري.

وجماعة آخرون خدموا القرآن بجمع قصصه وما يتعلّق بأسباب نزول الآيات والقراءات واختلاف القرّاء والقواعد التجويدية ، كالواحدي في كتابه « أسباب النزول » والداني في كتابه « التيسير » والجزري في « المقدمة الجزرية » والسجاوندي في كتابه « الوقوف » وغيرهم.

وقد خطا فريق من المفسّرين خطوات أوسع ، فحاولوا التوفّر على كل هذه الأبحاث ودرجها بصورة مختصرة في تفاسيرهم ، ومن هؤلاء الشيخ الطوسي في « التبيان » والطبرسي في « مجمع البيان » والنيسابوري في « غرائب القرآن » والآلوسي في « روح البيان ».

المنهج الصحيح في التفسير

اشارة

المفسّر الحقيقي هو الذي يتجرّد عن ميوله الخاصّة ، وعقائده الشخصية تجرّداً

ص: 25

كاملاً ويعرض آراءه على الآيات القرآنية لا الآيات على ما يعتقده.

والطريق المفيد لتفسير القرآن ، أن لا يروم المفسّر ، تفسير كتاب اللّه سبحانه وقلبه ممتلئ بآراء وأفكار تخصّه ، ولا يتقدم إليه باحثاً عمّا قد يؤيد آراءه وأفكاره بل أن يتقدم إليه ليكتشف مقاصده ومراميه ، فإنّ العقيدة التي يمتلئ بها الشخص تملك عليه كل تفكيره ، ولا تترك له سبيلا إلى المقاصد التي يستهدفها الكتاب.

إنّ أحسن المناهج المتّبعة في التفسير ، عرض بعض الآيات على بعضها والاستمداد من الأحاديث الإسلامية الصحيحة لاستخراج المعاني والمفاهيم القرآنية استخراجاً صحيحاً. فيجب لاتّباع الطريقة المستقيمة في التفسير مراعاة الشرطين التاليين :

1. تفسير القرآن بالقرآن :

إنّ القرآن الكريم يؤكد بأنّه تبيان لكل شيء حيث يقول : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ( النحل : 89 ) ، فالقرآن حيث يكون موضّحاً لكل شيء كما هو مصرّح في هذه الآية ، فهو موضّح لنفسه أيضاً ، إذ لا معنى لأن يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه فلابد أن يوضح أيضاً ما يبدو أنّه غامض في نفسه ، ومعنى هذا ، أنّه يمكن استيضاح بعض الآيات لفهم المراد من البعض الآخر.

القرآن كلّه « هدى » و « بيّنة » و « فرقان » و « نور » كما في قوله تعالي ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ( البقرة : 185 ) وقوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء : 174 ).

والكتاب الذي يحتوي على هذه المزايا لا محيص من الاعتراف بأنّه يرفع عن نفسه ما يظن فيه من الالتباس والغموض ، ذلك لأنّه لا يمكن أن يكون كتاباً فارقاً بين الحق والباطل ، ونوراً هادياً للبشرية ، وبرهاناً مرشداً إلى ما فيه الصواب ثم يكون في جملة من آياته تعقيد يتيه الانسان في فهمه والتوصل إلى مفاهيمه. وعليه يجب الرجوع إلى الآيات نفسها لفهم ما اُشكل من الآيات الاُخرى التي تشبهها.

ص: 26

قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً ».

وقال منعاً لحشر الآراء والنظريات الشخصية في التفسير وحملها على الآيات حملاً : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار » (1).

انّ تفسير القرآن الكريم بعضه ببعض ، وعرض الآيات على ما يشبهها في المنطوق أو الهدف ، هو الطريقة المأثورة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام فإنّ الدقة في الأحاديث التفسيرية المروية عن الأئمة تثبت بوضوح ما نقول ، وتدل على أنّ هذا المنهج كان المنهج المحبّب إليهم في إيضاح النصوص القرآنية لتلامذة مدرستهم.

إنّ الاحاديث التفسيرية المروية عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام تدلّ دلالة واضحة على أنّهم استعانوا بنفس الآيات وعرض بعضها على بعض ، في تفسيرها وبيان معانيها وإيضاح مداليلها ومفاهيمها ولم يتصدوا في وقت من الأوقات لحمل آرائهم الشخصية على الآيات الكريمة حملاً ، بل استنتجوا من مقارنة الجمل والكلمات والألفاظ الموجودة في بعض الآيات استيضاح آيات اُخرى مشابهة لها في المنطوق أو المفهوم.

يقول علي علیه السلام في كلام له يصف فيه القرآن : « كتاب اللّه تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في اللّه ولا يخالف بمصاحبه عن اللّه » (2).

ولا بأس أن نقدم هنا نموذجاً من تفسير القرآن بعضه ببعض ليرى القارئ الكريم كيف يمكن رفع الالتباس عن الآيات بهذه الطريقة :

يقول تعالى في سورة الشعراء - 173 في قوم لوط : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ المُنذَرِينَ ) أنّ هذه الآية واضحة كل الوضوح من جهة المفهوم ولكن فيها غموض من جهة المصداق ، فإنّ الانسان يتحيّر من المعنى المراد من المطر السوء ، إلاّ أنّ الآية

ص: 27


1- حديث متفق عليه بين الفريقين.
2- نهج البلاغه ، ج 2 ، ص 22 ، الخطبة 129.

74 من سورة الحجر ، تبيّن هذا المعنى عندما تقول : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) .

إنّ اتّباع هذه الطريقة يكشف كثيراً من الحقائق الخفية ويلقي أضواء على ما اُبهم من الآيات ، شريطة أن يجعل الإنسان الصبر على البحث ، والدقة الكاملة والتأنّي في إصدار الحكم ، رائداً له.

2. على ضوء الأحاديث الإسلامية الصحيحة :

إنّ بعض الآيات تصرح بأنّ النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله هو المبيّن للقرآن والمعلّم لآياته ، فيقول تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : 44 ) ويقول : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) ( الجمعة : 2 ).

من هاتين الآيتين نعرف أنّ ما اُبهم من القرآن لمصالح لا نعلمها نحن ، يجب الرجوع للكشف عن غوامضها إلى النبي وأهل بيته الذين هم عدل القرآن بشهادة حديث الثقلين المتفق على روايته عن الرسول صلی اللّه علیه و آله .

ولابد هنا أن نلفت الأنظار إلى أهمية معرفة الأحاديث الصحيحة ، والتمييز بينها وبين الأحاديث غير الصحيحة ، وأنّه لا يمكن الاعتماد على ما نقل عن الصحابة والتابعين في التفسير بصورة مرسلة غير مسندة ، بل يجب التثبت فيها والتأكد من أنّها واجدة لشرائط الحجية التي هي مذكورة في محالها من مباحث علوم الحديث ، وإلاّ فلا يحسن الاستناد إليها في كشف ما اُبهم من القرآن ، بسبب بعد العهد من عصر الوحي أو كون الآيات نزلت مجملة كذلك لمصالح خاصة ليس هنا محل تفصيلها (1).

ولقد أثرت عن أهل البيت علیهم السلام في هذا المجال أحاديث لوحظ في أكثرها جانب التربية والتعليم والمحاولة لتقريب استفادة المعاني والنكات إلى الأذهان ، ( من

ص: 28


1- مثل الآيات التي ذكرت فيها الصلاة والصوم والزكاة والحج و ...

دون حشر رأي خاص فيها وحمله على الذي يستعرضه ) بتدبّر ودقة ، وهذا موضوع يتضح جلياً لمن أمعن النظر في تلك الأحاديث التفسيرية. وهذه الأحاديث لها قيمتها الخاصة وإن لم يصح إسناد بعضها ، لمجانبتها عن التفسير التعبدي ومحاولتها التعليم وإرشاد القارئ إلى كيفية استفادة المعاني من الآية نفسها من دون إستناد إلى شيء آخر.

تأثير الحضارة الغربية في المنهج التفسيري

لقد أثّرت ترجمة الفلسفة اليونانية وعلومها إلى العربية في فهم معاني الآيات والمفاهيم القرآنية تأثيراً بعيد المدى ، فقد ادخلت في التفسير جملة من المسائل الفلسفية والطبيعية التي لا تمت إليه بصلة ، وحملت عليه حملاً لا يمكن تقبّلها لو تجردنا عن الاتجاه الفلسفي اليوناني الوافد.

انّ بعض المفسّرين أوّلوا كثيراً من الآيات حسب المفاهيم الفلسفية الوافدة من المشائيين والاشراقيين وعلى ضوء القواعد البطليموسية في الهيئة القديمة وعلم الفلك ، وللتوفيق بين هذه الآراء والآيات القرآنية والأحاديث التفسيرية ، تشبّثوا بنظريات بعيدة كل البعد عن السياق والمفهوم القرآني ، وكانت محاولتهم فاشلة ، بعد تبدّل النظريات العلمية والمكتشفات التجريبية.

وقد واجه القرآن هذه المشكلة أيضاً بل أعمق منها بكثير عندما وسّعت اُوربا الخطوات إلى المدنية الحاضرة وكانت لها آراء حديثة في النظريات الفلكية والطبيعية والرياضية وغيرها وسخّرت بمكتشفاتها العلمية الجديدة البحار والوديان ، وراحت لتسيطر على ما في أجواء السماء.

وانتقل كثير من هذه النظريات الحديثة إلى الشرق ممزوجاً بشيء من سوء الظن بالنسبة إلى المسائل الدينية والاُصول المذهبية ، ذلك لأنّ اُوربا اتخذت التجربة والحس قاعدة أساسية لعلومها ، وأهملت إهمالاً كليّاً كل ما يتعلّق بما وراء الطبيعة وربّما عملت على إنكارها وإبادتها وإبعادها عن المجادلات العلمية.

ص: 29

انّ وفود هذا النوع من الفكر المزيج بسوء الظن بالمسائل الغيبية والمعارف الإلهية ، دعا البعض إلى الابتعاد عن الدين ، والالحاد فيه ، كما دعا البعض الآخر إلى تأويل الآيات بما يوافق الاتجاه الفكري المعاصر ، وآل بهم الأمر إلى أن يأوّلوا الآيات المصرّحه بمعاجز الأنبياء ، والروح ، والجن ، والبرزخ ، بتأويل يوافق الاُسس المادية والطبيعية (1).

كما أنّ تقدم العلوم الطبيعية في مجالات مختلفة ، دفع بعض الباحثين إلى أن يفرطوا في تأويل الآيات حسب الاُسس الطبيعية والنواميس الكونية ، كأنّ القرآن كتاب في الكيمياء والفيزياء وليس له أهداف اُخرى.

وفي مطاوي بعض الكتب التفسيرية المؤلّفة في هذا القرن ، نرى الاتّجاه العلمي والفكري الغربي بوضوح ، في عرض المسائل القرآنية وتحليلها ، وهي تحاول بكل ما تملك من القوى أن توفق بين المفاهيم القرآنية الاجتماعية والأخلاقية ، وبين النظريات الغربية ، كأنّها كتبت للتوفيق بين المدرسة الإلهية والمدرسة الاُوروبية المعاصرة.

أنّ هذا الفريق من الباحثين جلبتهم العقيدة الدينية بالقرآن الكريم وتقديسه والإذعان به ، وانجرفوا من جهة اُخرى فى تيار المدنية الغربية المبنية على أساس إنكار المقدسات والمعنويات أو إرضاء لميولهم الخاصة نحو هذه المدنية ، عملوا جادين في تأويل الآيات بالطريقة التي ذكرناها.

نزول القرآن نجوماً

لا شك أنّ الآيات القرآنية نزلت تدريجياً ، على قلب الرسول صلی اللّه علیه و آله طيلة ثلاث وعشرين سنة ، ولا نريد في هذا المجال ، الحديث عن علة نزول القرآن هكذا ، لأنّه

ص: 30


1- هذه الظاهرة المادية تبرز بوضوح في تفسير السيد أحمد خان الهندي والطنطاوي وفي « المنار » وتلامذة مدرسته قليلاً.

تحدث هو عن هذا في بعض الآيات (1).

وإنّما الذي يهمّنا الحديث عنه هنا هو : أنّ القرآن لم يكن كتاباً من صنع البشر يتكوّن من أبواب وفصول ويبحث في كل موضوع عن نقطة خاصة ، وإنّما هو كتاب سماوي أنزله اللّه تعالى لإرشاد البشر إلى المبدأ والمعاد والتكامل الروحي والجسمي ، ولا يحتاج مثل هذا الكتاب إلى التنظيم والالتزامات المتبعة في المؤلّفات الاُخرى ولأجل ذلك فله خصائص لا توجد في غيره ونشير إلى بعضها فيما يلي :

1. تنتقل الآيات من موضوع إلى موضوع آخر لمناسبات تستدعي الانتقال إذ ربّما تذكر عدة مواضيع في سورة واحدة ، هدفها الوعظ ، والإرشاد ، وإيقاظ الضمير ، والعطف نحو العقل والحكمة ، فجاءت تلكم المواضيع واحدة بعد اُخرى ، يجمعها ذلك الهدف الخاص ، ولكن يسبق إلى أذهان بعض أنّه لا ربط وثيق بينها ، إلاّ أنّه يجد عند الدقة والتدبّر ، نوعاً خاصاً من الارتباط الذي يسلك عقودها في سلك واحد ووجود هذا القسم من الآيات الكثيرة ، من الوفرة بحيث يغنينا عن التمثيل لها هنا.

2. أهمية توجيه الفكر الإنساني ، وفطرته نحو الهدى والحق من جانب وإيقاظ الضمائر الميتة الكامنة في نفوس مريضة من جانب آخر ، تستدعي تكرار بعض الموضوعات في مناسبات شتى ، والعود إليها بمختلف الأساليب البيانية ، وهذا في تكرار الخطابات من الأهمية بمكان وهو من المحسنات التي لابد منها في الكلام الموجه إلى الناس بشكل عام.

مثلاً أنّنا نرى القرآن الكريم يكرّر في مناسبات شتى موضوع الاعتبار من حياة الاُمم السالفة والملوك والجبابرة والطغاة الماضين كما أنّه يذكر موضوع : ( سِيرُوا فِي الأَرْضِ ) في أكثر من مناسبة واحدة ، وفلسفة هذا التكرار والعود إلى الموضوع مرّة بعد اُخرى هي ما ذكرناه.

ص: 31


1- ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان - 32 ).

3. ربّما يتحدث القرآن الكريم في سورة عن جانب خاص من جوانب قصة أو موضوع متعدد الجوانب ، واسع الأطراف لتعلّق ذاك الجانب الخاص فقط بما يقصده من الكلام دون سائر جزئياتها وتفاصيلها ، ثم يعود في سورة اُخرى إلى تلك القصة أو ذلك الموضوع ليذكرها بتفاصيلها وجزئياتها. وأكثر ما نشاهد هذا في قصص الاُمم الماضية للاعتبار بها ، وهذه طريقة ضرورية لكتاب اُنزل لهداية الناس وانتشالهم من الضلال.

4. يتبع القرآن طريقة التدرّج ، في بيان مفاهيمه العقلية ومعارفه التربوية فيستدل مثلاً على مفهوم من مفاهيمه في بعض السور باستدلال ، ثم يعود إلى استدلال آخر لنفس المفهوم في سورة اُخرى. وبهذا توزع الأدلّة في عدة أمكنة وتذكر حسب المناسبات التي تقتضي ذلك.

مثلاً أنّ موضوع المعاد والرجوع إلى حياة جديدة من المسائل الإسلامية والقرآنية المهمة التي ركّز على إثباتها القرآن ، فاستدل له بأدلّة ستة (1) ولكنّها موزّعة ، لكل واحدة

ص: 32


1- انّ الفكرة تتضح أبعادها ، وتنكشف جوانبها ، إذا تعددت الاستدلالات عليها من طرق شتى ، والمثال على ذلك حديث البعث والمعاد في القرآن الكريم ، فقد استدل القرآن على إمكان وقوعه بطرق ستة ، ونحن نذكرها في المقام على وجه الاجمال ونكتفي في بيان كل طريق ، بآية واحدة ، مع كثرتها في كل باب : 1- الاستدلال بعموم قدرته على كل شيء كما في قوله سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (الأحقاف - 33) . 2- قياس الاعادة على الابتداء كما في قوله سبحانه: (مَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) الأنبياء - 104). 3- الاستدلال على امكان احياء الموتى، باحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات كما في قوله سبحانه: ﴿وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الروم - (19). 4- قياس قدرة الاعادة على قدرة اخراج النار من الشجر الأخضر كما في قوله سبحانه: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يس: 79 - 80) وسيوافيك في بحث المعاد أنّ للآية معنى آخر ألطف بكثير مما ذكره المفسرون، ورائدنا فيه التدبر في ذيل الآية، وما كشفه العلم الحديث في حقيقة الحرارة الكامنة في الأشجار وحقيقة انطلاقها منها عند الاحتراق. 5- الاستدلال بالوقوع على الامكان فإنّ أدل دليل على امكان الشيء وقوعه ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني اسرائيل (البقرة 67-73) ، وحديث عزير (البقرة - 259). 6 - الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنين فإن النوم أخو الموت ولا سيما الطويل منه كما أنّ القيام منه يشبه تجدد الحياة وتطورها.

منها في مكانها نكتة خاصة.

* * *

هذه الخصائص القرآنية التي استعرضنا بعضها ، تدفعنا إلى أن نشبّه القرآن الكريم بحديقة غنّاء مليئة بالأزهار الملوّنة ، والورود المنوّعة ، وقد وزعت توزيعاً طبيعياً جميلاً تأخذ بالأبصار ، فهي بالرغم من أنّها موزّعة إلاّ أنّ فيها طرافة وظرافة ، لأنّ كل واحد منها وضع في مكانه اللائق به.

الجمود فى التفسير

انّ استعراض كتب التفسير وملاحظتها بشيء من الإمعان ، يوصلنا إلى حقيقة غير خافية ، وهي : أنّ علماء الإسلام مع شدّة اهتمامهم بالتفسير وفهم الآيات والكشف عن معانيها ، لم تتطور مؤلّفاتهم التفسيرية بالقدر الذي يجب أن تتطور طيلة القرون الأربع عشر الماضية.

فمع غض النظر عن طائفة من التفاسير المهمة المعاصرة ، نرى أنّ التفسير لم يتم ولم يتكامل عند السنّة والشيعة منذ تفسير « الطبري » إلى « المنار » وتفسير « التبيان » إلى « الميزان ».

ومن العوامل التي سبّبت الجمود المذكور ، أنّ التفاسير سارت على وتيرة واحدة في تفسير القرآن سورة فسورة ، ففسّروها من البدء إلى الختم أو فسّروا بعضها على

ص: 33

الترتيب المذكور ، ولم يهتمّوا في كتابة التفسير بالتفسير الموضوعي (1) الذي يقتضي نزول الآيات نجوماً وتوزع الآيات الراجعة إلى أكثر الموضوعات في أمكنة وسور القرآن.

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم

وما ذكرنا حول نزول القرآن التدريجي وألمعنا إلى ما فيه من الخصائص يقتضي أن يفسر القرآن أيضاً حسب الموضوع إلى جانب تفسيره على ترتيب السور ، فتجمع آيات كل موضوع في مكان وتفسر مجموعتها لئلاّ تتشتت الجوانب المختلفة.

مثلاً المفسر الذي يحاول التعمّق في الحديث عن السماء والأرض على ضوء القرآن الكريم ، أو يريد أن يبحث بحثاً مستوفى عن المعاد ، أو يستعرض قصص بني إسرائيل ، أو يحكم في أفعال الإنسان من جهة الجبر والاختيار ، أو يكشف عن المعارف الإسلامية المتعلّقة بأفعال اللّه تعالى من قبيل الإرادة والهداية والضلال والقضاء والقدر ... لابد أن يتبع الطريقة الموضوعية التي ذكرناها ليتمكن من جمع أطراف الموضوع جمعاً كاملاً شاملاً.

من جملة الأسباب التي دعت إلى ظهور عقائد مختلفة بين المسلمين ، وتشبّث كل صاحب عقيدة بطائفة من الآيات ، أنّهم وجهوا اهتمامهم إلى آيات خاصة لتركيز معتقداتهم ، وأهملوا الآيات التي تكشف لهم آفاقاً اُخرى ، وتوضح لهم النقاط التي زلّوا فيها ، ولو أنّهم كانوا يلاحظون في كل مسألة من المسائل العقائدية الآيات بمجموعها لدرأوا عن أنفسهم الوقوع في هذه المهاوي السحيقة.

ومن باب المثال نذكر بهذا الصدد أصحاب مذهب الجبر في أفعال الانسان أو مذهب التفويض فيها فإنّهم ابتلوا بما ذكرناه وخبطوا خبط عشواء في فهم المقاصد الإلهية وتفسيرها.

ص: 34


1- نريد من « التفسير الموضوعي » تفسير القرآن على حسب الموضوعات التي وردت فيه وبحث القرآن في مواضع مختلفة مقابل تفسيره على حسب السور والآيات.

أجل يمكن القول بأنّ العلاّمة المجلسي هو أوّل من استعمل إجمالاً هذه الطريقة ( التفسير حسب الموضوع ) ، فإنّه في كتابه « بحار الأنوار » جمع الآيات المربوطة بكل موضوع في أوّل الأبواب ، وفسّرها تفسيراً سريعاً بلا استنتاج منه. وهذه الخطوة القصيرة خطوة جليلة في عالم التفسير نأسف على أنّ المفسرين بعده لم يسيروا على ضوئها ، ولا يمكن تفسير القرآن بالقرآن ، والاستفادة الكاملة منه وتلقّي مفاهيمه العالية الصحيحة إلاّ بالمنهج المذكور.

أوّليات الطريقة الموضوعية في التفسير

لا شك أنّ الطريقة الموضوعية فى التفسير التي نتحدث عنها في هذا المجال طريقة ، لم ينهجها علماء التفسير حتى الآن ، كما قلناه وعليه نعتقد أنّ فيها كثيراً من الصعوبات التي تعترض سيرها ، فإنّ تنظيم الآيات وتقسيمها حسب الموضوعات أمر لا يتم بعمل فردي ، بل لابد من لجنة تتولّى هذا العمل ، ويجب أن يكون أعضاء اللجنة اُناساً علماء لهم الخبرة الطويلة ، والاختصاص في الفروع العلمية المختلفة. وممارسة طويلة في الآيات القرآنية وفهم معانيها واستنباط مقاصدها ودرك مفاهيمها العالية.

ونقترح أن تتبع هذه اللجنة الإرشادات التالية :

1. تقرأ الآيات واحدة واحدة بدقة وإمعان لافرازها موضوعياً ، ثم يهيّأ فهرس دقيق للموضوعات الواردة في القرآن والمبحوث عنها في آياتها ليعلم بصورة مؤكدة عدد ما جاء فيها من المباحث المختلفة ، وما ورد في كل واحد منها ، من الآيات.

2. تهيّأ بطاقات خاصة بكل موضوع ، لتكتب فيها آياته. والأحسن في هذا أن تصور هذه البطاقات في عدة نسخ ، لتوضع في متناول أيدي الباحثين والمحقّقين ليقرأوها ثم يبدوا ملاحظاتهم وانتقاداتهم ، وبعد المداولة في شأنها من قبل العلماء ، تطبع بصورة نشرات حسب الحروف الهجائية وتوزّع في إطار واسع ليطّلع عليها المعنيون في

ص: 35

الأقطار.

3. وبعد أن تنتهي اللجنة من فهرسة الآيات كما ذكرناه ، يدعى كبار الشخصيات الإسلامية العلمية ليتولّى كل واحد منهم ، موضوعاً حسب اختصاصه ، فتقدم اللجنة لهم الموضوعات التي تم فهرستها ، ليختار هو الموضوع الذي جمعت آياته في البطاقات الخاصة به ، ويكتب حولها ما يرى من البحوث والدراسات.

والنتيجة الحاصلة من هذه الجهود المشتركة المبذولة من قبل كبار علماء الإسلام أنّه تكتب للقرآن الكريم دائرة معارف كبيرة ملؤها التحقيق والبحث العلمي لتبرز ما فيه من الحقائق التي لا زالت خفية حتى الآن.

انّ هذا العمل الجبار ( بالاضافة إلى ما يحتاج من ميزانية ضخمة ) رهن لجنة مركزية تكون حلقة وصل بين علماء الإسلام القاطنين في أقطار نائية بعيدة الأطراف فإنّه لا يتم عمل كبير كهذا العمل إلاّ باللجنة المركزية ، فهي التي تنتخب الأعضاء الذين يقومون بفهرسة الآيات ، وهي التي تصوّر البطاقات وتعرضها على الباحثين والناقدين وبعد التنسيق الدقيق تنشرها في نشرات متسلسلة ، وهي التي تتصل بالشخصيات العلمية لكتابة التفسير كما ذكرناه.

انّ هذا الاقتراح ربّما يكون كبيراً وغير قابل التنفيذ في رأي البعض ، إلاّ أنّه بسيط عند ذوي الهمم العالية والعاملين في حقول العلم والثقافة ، فقد قامت جمعيات دينية قبل هذا بأعمال مشابهة ، لكتبهم المنسوبة إلى السماء ، وكان جهدهم من الطرافة بحيث أظهر كتبهم المحرّفة بحلل زاهية تأخذ بالأبصار وتثير إعجاب القارئين لها.

ونحن نأمل أن يتصدى مراجع الدين وكبار العلماء لتحقيق هذه الاُمنية ، فيتداولوا بينهم الأمر لإزالة العوائق عن الطريق وتيسير المقدّمات الأوّلية وتعيين نقطة الانطلاق لهذا المشروع الديني العلمي.

ص: 36

منهجنا في هذا الكتاب

بعد أن أمضى مؤلف هذا الكتاب خمس عشرة (1) سنة في دراسة القرآن الكريم دراسة مستوعبة وكتابة تفاسير لبعض السور ، أجمع عزمه على كتابة نماذج من التفسير الموضوعي المقترح ، ليعبّد الطريق للمحققين الذين يحلو لهم السير في هذا السبيل ومن الطبيعي أنّ مثل هذا العمل الإسلامي الكبير خارج عن نطاق شخص واحد ، ويحتاج إلى ذوي الاختصاص من العلماء كما ذكر سابقاً ، ولكن بدأ به من زاوية ، كان المؤلف قد أشبعها بحثاً ودراسة وهيّأ موادها من ذي قبل.

انّه فكّر في نفسه ، ربّما لا يتحقق هذا الأمل الجديد ، أو لا يسعفه الأجل في أن يرى انجازه كما يتصوره ويود إنجازه ، فعزم على أن يخطو خطوة نحوه ورائده « الميسور لا يسقط بالمعسور » وعند ما يهيّئ اللّه تعالى جماعة من محققي الإسلام لهذا المشروع ، يمكنهم اعتبار هذا الكتاب جزءاً من دائرة معارف القرآن بعد سد ما يرون فيه من النقص الذي هو من لوازم عمل الفرد.

لقد اخترنا من بين الموضوعات الكثيرة التى ترجع إلى النبىّ الأكرم هذه المواضيع :

1. الإسلام شريعة عالمية لا إقليمية.

2. الخاتمية في الذكر الحكيم وأنّ الرسول الأعظم هو خاتم الأنبياء.

3. النبي الاُمّي في القرآن المجيد.

4. علم الغيب في الكتاب العزيز.

5. أسماء النبي وصفاته في القرآن العزيز.

ص: 37


1- بدأ المؤلف بالبحث عن خصوص هذا النمط من التفسير منذ عام 1388 ه بعد ما صرف شطراً من عمره في تفسيره على النمط الآخر أعني تفسير القرآن على حسب السور.

ولما خرج هذا الجزء إلى البياض ، عرضته على الاُستاذ العلاّمة ، المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي مؤلف الكتاب القيّم « الميزان في تفسير القرآن » وغيره من الآثار الخالدة ، فقدّره واستحسنه وشجعني على مواصلة العمل ، وتفضل بكلمة (1) سجلتها في صدر الكتاب لتبقى ذكرى خالدة من عواطفه الكريمة المبذولة لأحد تلامذة مدرسته وللاُستاذ - روحي فداه - منّي تحية عبقة وتمنيات خالصة.

وفي الختام لو ترتب ثواب على عملي الضئيل فإنّما أهديه :

إلى من أنا مدين له في كل شيء حتى في هذه الدراسات التي بين يديك.

إلى أوّل من فتح قلبي على أشعة نور القرآن وأرشد عقلي إلى الاهتداء بهداه.

إلى سيدي الوالد آية اللّه الشيخ محمد حسين السبحاني (2) تغمده اللّه برحمته واللّه ولي التوفيق ...

قم - إيران

جعفر السبحاني

20 جمادى الآخر 1393 ه

ص: 38


1- وقد أتتنا كتب ورسائل من الشخصيات العلمية بعد انتشار هذا الجزء لأوّل مرة نشرنا بعضها في مقدّمة الجزء الثاني وقد وافاك بعضها في أول هذا الجزء من هذه الطبعة.
2- لبّى دعوة ربّه ضحوة يوم الحادي عشر من شهر شوال عام 1392 ه ، سعيداً نقي الصحيفة ودفن في مقبرة العلماء بقم بعد أن شيّع جنازته الزكية حشد من العلماء وشيوخ الحوزه العلمية وقد حك على صخرة قبره هذان البيتان : انّ الذي صنع الجميل مخلّد *** لا سيما في العلم والعرفان فإذا انقضت أيام مدة عمره *** فجميل صنع المرء عمر ثان تجد ترجمته الضافية في مقدمة كتابه « نخبة الأزهار » بقلم العلاّمة الحجة السيد أحمد الأشكوري دام ظله ، رحم اللّه الماضين من علمائنا العاملين ووفقنا للاهتداء بهداهم والسير على ضوء تعاليمهم. واللّه خير موفق ومعين.

الفصل الأوّل: عالمية الإسلام على ضوء القرآن الكريم

اشارة

الحديث عن دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله متعددة الجوانب ، واسع الأبعاد ، بعيد الأغوار ، وبالرغم من سعة مجالات القول ، وجوانب البحث فيها ، فانّنا نحاول بهذه النظرة الثاقبة الفاحصة ، أن نتحدث عن ناحية خاصة لدعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأنّها دعوة عالمية لا إقليمية ، وهي من أبرز الخطوط التي يستهدفها القرآن بشأن دعوته ورسالته.

نحن في رحاب القرآن الكريم ، نسمع نداءه العالمي ، وإن فصلتنا عنه حقب بعيدة من الزمان ، ونعي صراحته ومجاهرته : بأنّ الإسلام عقيدة لا ينفرد بها شعب أو مجتمع بعينه ، ولا يختص ببلد ، أو بلاد معينة ، بل هو دين ذو قوانين تسري على الأفراد على اختلافهم : في العنصر ، والوطن ، واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الانسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية ، أو اقليمية.

فهذا تاريخ دعوته ، وسيرته في نشر دينه ، نتطلّع إليه بشوق ولهفة ، حيث يبدد الدياجير من أمام أبصارنا ، وبصيرتنا ، ويقرّب لنا الواقع دونما تكلّف ، أو اصطناع.

ص: 39

كانت دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله في بدء أمرها تدور بين أهله وعشيرته ، ممتثلاً لما أمره اللّه سبحانه بذلك ، بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء - 214 ) ، والسر في ذلك أنّ النفوذ في الآل والعشيرة ألزم وأسهل من الأجانب والأباعد.

مضى رسول اللّه في دعوته السرية ثلاث سنين ، وهو ينذر طيلة تلك المدة قومه وعشيرته ، ويؤمي إلى عموم دعوته تارة ، ويجاهر بذلك اُخرى ، ويستنتج أنّ دعوته وشريعته عالمية ، سوف تعم العالم كله ، ولا تحبس بإطار خاص.

قال صلی اللّه علیه و آله في خطاب ألقاه في داره ، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله ومن كانت له به صلة :

« واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أنّي رسول اللّه إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة (1) واللّه لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وأنّها الجنّة أبداً ، والنار أبداً » (2).

ثم إنّه كان ينتهز الفرص ، التي تسنح له للاجهار بدعوته ، إلى أن أمره تعالى بأن يصدع بما اُمر به ، وأن ينادي الناس عامّة باتباع دينه وشريعته ، امتثالاً لما أمره سبحانه به ، بقوله :

( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) ( الحجر - 94 ).

فصعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الصفا وهو يهتف ويقول : واصباحاه ! فاجتمع الناس حوله ، فقال : إن أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ، فإنّي لا اُغني عنكم من اللّه شيئاً ، انّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ، إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو ، فانطلق يريد أهله فخشى أن

ص: 40


1- أليس هذا تصريحاً بعمومية رسالته في بدء دعوته.
2- الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 41.

يسبقوه إلى أهله ، فجعل يقول : يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم (1).

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية ، وهو صلی اللّه علیه و آله يخطو خطوات قصيرة ، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس ، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه ، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته ، وتفاقمت جرائم قريش نحوه ، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه ، بإنهاء حياته وإطفاء نوره ، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة ، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً ، ويسلّموا له سيفاً صارماً ، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد ، حتى يموت ، فيستريحوا منه ، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً ، ولا يقدر بنو هاشم ، على حربهم.

ولكنّ اللّه ردّ كيدهم ، وصدّهم عن ذلك ، وخيّب حيلتهم ، وأخبر الرسول صلی اللّه علیه و آله عن المكيدة الداهمة ، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها ، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج ، وبايعوه ، ووعدوه بالنصر ، والمؤازرة والحراسة.

والرسول صلی اللّه علیه و آله وإن غادر مكة ، وترك قومه ، إلاّ أنّ قومه لم يتركوه ، بل أجّجوا نار الشحناء عليه ، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية ، وحملات طاحنة ، وبذلت قريش آخر ما في وسعها ، ورمت كل ما في كنانتها ، وبالغت في تقويض الإسلام ، وهدم بنائه ، إلى أن دخل العام السادس ، من الهجرة ، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات ، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية ، انقلب الى فتح مبين للإسلام ، فانتهز الرسول صلی اللّه علیه و آله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة ، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم ، وكسرى فارس ، وعظيم القبط ، وملك الحبشة ، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام ، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

ص: 41


1- السيرة الحلبية ، ج 1 ، ص 321 المقصود : هوجمتم من قبل العدو.

بل إلى رؤساء العرب ، وشيوخ القبائل ، والاساقفة ، والمرازبة ، والعمال ، يدعوهم إلى دين الإسلام ، الذي هو دين السلام ، ورسالته من اللّه وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته ، عالمية لا تحدد بحد ، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين ، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

1. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس : سلام على من اتبع الهدى ... أدعوك بدعاية اللّه فإنّي أنا رسول اللّه إلى الناس كافة ، لاُنذر من كان حيّاً ، ويحق القول على الكافرين ، أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس » (1).

2. وكتب صلی اللّه علیه و آله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك اللّه أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين » (2).

وما ذكرناه نماذج من رسائله ، وكتاباته الابلاغية ، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول اللّه إلى العرب والعجم ، وإلى الناس كلهم ، من غير فرق بين اللون والجنس ، والعنصر والوطن ، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة ، ووجود الانسان ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله يكافح كل مبدأ يضاد دينه ، وكل رساله تغاير رسالته ، وقد جرى الرسول صلی اللّه علیه و آله عليه طيلة حياته الرسالية ، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد : « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق ، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

ص: 42


1- تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 295 ، تاريخ اليعقوبي ، ج 2 ، ص 61 وغيرهما.
2- السيره الحلبية ، ج 2 ، ص 275 ، مسند أحمد ، ج 1 ، ص 263 وغيرهما.

فقد قال اللّه تعالى في سورة ص 87 - 88 : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس 69 - 70 : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان 1 : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ : 28.

وقال سبحانه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف 158.

وقال سبحانه : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران : 85.

وقال سبحانه : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء : 125.

وقال سبحانه : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة : 29 - 33 (1).

ص: 43


1- الدعوة إلى الإسلام ، ص 34.

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء ، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط ، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم ، فنبهتهم من رقدتهم ، وانهضتهم من كبوتهم ، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته ، وخاضع لرسالته ، ومؤمن بما أتاه ، إلى معظّم لرسله ، ومجيز لهم ، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة ، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات ، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه - حين أمره برمي الكتاب - : أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر ، وقال لأبي سفيان : إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي ، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب ، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس : يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد ، يدعونا إلى اللّه وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلاّ اللّه وأنّ أحمد رسول اللّه.

وقال المقوقس : إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده ساحراً ضالاّ ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول اللّه كتاباً ، أظهر فيه إسلامه ، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه ، فأبى فأمر بقتله ، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني *** سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول اللّه : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير ، وأساقفة نجران ، ولبّاه عمّال كسرى باليمن ، واقيال

ص: 44

حضرموت ، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام ، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة ، كتابه المعروف ، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبي صلی اللّه علیه و آله عندما بلغه موته (1).

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى - ومن لف لفه - وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان ، فأبى أن يكون تابعاً للعرب ، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى ، فمزّق كتاب الرسول ، وأرسل إلى باذان ، عامله باليمن ، وكتب إليه : « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به » (2).

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها ، أتينا بها بصورة مصغّرة ، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص ، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة ، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته ، وأثنائها ... ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته ، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص ، أو اُمّة معيّنة ، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق ، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

ص: 45


1- راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».
2- الكامل ، ج 2 ، ص 81 ، السيرة الحلبية ، ج 3 ، ص 278 ، إلى غير ذلك.

الأوّل : انّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية ، وأنّه رسول اللّه إلى الناس جميعاً ، وأنّ اللّه أرسله رحمة للعالمين ، وأنّه بشير ونذير للناس كافة ، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه ، من غير فرق بين شخص وشخص ، أو عنصر وآخر ، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

1. ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف - 158 ).

2. ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ - 28 ).

3. ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) ( النساء / 79 ).

4. ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء - 107 ).

5. ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان - 1 ).

6. ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ... ) ( الأنعام - 19 ).

- أي كل من بلغه القرآن ، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض -.

7. ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف - 9 ).

8. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ... ) ( النساء - 170 ).

9. ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم - 1 ).

10. ( هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران - 138 ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها ، صريحة في أنّ هتاف النبي صلی اللّه علیه و آله لا يختص باُمّة دون اُمّة ، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني : انّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء ، وهذا دليل

ص: 46

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة ، ودونك نماذج من هذا القسم.

1. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة - 21 ).

2. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة - 168 ) إلى غير ذلك ...

فترى أنّه يخاطب الناس ، ويقول : يا أيّها الناس ... تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم ، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً ، ورسالته طائفية ، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة (1).

الثالث : انّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه ، من غير تقييد بلون ، أو عنصر ، أو شعب أرض خاصة ، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها ، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد ، ودونك نماذج من هذا القسم :

1. ( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران - 97 ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه ، عرباً كانوا ، أم غير عرب ،

ص: 47


1- لاحظ الفصل الثاني - في هذا الكتاب - ص 113.

فلم يقل : لله على الاُمّة العربية - مثلاً - حج بيته.

2. ( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج - 25 ).

3. ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان - 6 ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة (1).

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع : يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص ، بل تعم كل من تظلّه السماء ، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

1. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء : 174 ).

2. ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ... ) ( البقرة - 185 ).

3. ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر : 27 ).

4. ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم - 1 ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم ، لا للعرب خاصة ، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة : 3 ) وما المراد من ال : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) - أي من المؤمنين - ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

ص: 48


1- راجع المكاسب ، ص 38 ، للشيخ الأعظم الأنصاري.

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟ (1) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث ، وتهدف إلى أمر واحد : وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية ، غير محدودة بحد ، فلا يحدها قطر ، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد ، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر - كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر - (2).

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام ، وبفكرته الكلية ، عن الكون والحياة والإنسان ، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه : أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق ، في مختلف الأبواب والفصول ، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع ، ولا تأخذ غيره دعامة ، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلاّ لنفس الأمر.

وإن شئت فقل : إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده ، إلاّ على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده ، في عامة أقطار الأرض جميعاً ، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد ، فلا وجه

ص: 49


1- مجمع البيان ، ج 5 ، ص 284.
2- هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب ، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته ، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول ، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه ، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

لاختصاصه بإقليم دون إقليم ، أو بشعب دون شعب. (1)

ولا يجد الباحث - مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة - في ما جاء به نبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله ، على سعة نطاقه ، وبحثه في شتى الجهات ، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي ، أو صبغة طائفية ، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة ، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية ، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى ، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص ، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات ، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية ، أو ظروف محلية ، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها ، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وصار النافع منها ضاراً ، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل ، ونضعها على طاولة الحساب ، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع : فقبل كل شيء ، لاحظ كتاب اللّه العزيز ، ومعجزة الإسلام الخالدة ، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً ، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف ، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته ، وساد العداء والتنازع بين الناس ، وكان نظام الغاب وحده ، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم ، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته ، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية ، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه ، فهل نرى آية من آياته الباهرة ، أو قانوناً من قوانينه ، أو حكمة من حكمه ومعارفه ، أو سننه من سنة ، أو فريضة من فرائضه تنفع في

ص: 50


1- سوف نرجع إليه في ختام البحث ، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة ، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة ، أو فريته الشانئة ؟ : « الإسلام دين طائفي ، أو مبدأ إصلاح إقليمي ، لا يصلح لعامة المجتمعات ، ولا يصلح لعامة القارات ، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته ، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية ، والكنوز العلمية ، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله ، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها ، أو شبهها.

فلو أراد ذلك ، فتلك فرية بيّنة ، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص ، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك ، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية ، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه ، وتخضع لشيء دون الخالق ، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك ، ومصائد الضلال ، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم ، أو حيوان لا يدفع عن نفسه ، أو انسان محتاج مثله ، أو غيرها من الأرباب الكاذبة ، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد ، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره ، وبعبارة صحيحة : إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب ، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها ، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر ، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

ص: 51

وغيرها ، قوانين إقليمية ، لا تصلح إلاّ لظروف خاصة ، ولا تفيد إلاّ في شبه الجزيرة العربية ، ولا يسعد بها إلاّ انسانها ، دون اناس المناطق الاُخرى ، إلاّ أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج ، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض ، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا ، والإصلاح بين الناس ، وأداء الأمانة ، وحسن السلوك معهم ، والتعاون والاحسان ، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام ، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله ، أو تأسّست بعده ، فأمر بالصدق وأداء الأمانة ، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس ، والعفو والغفران والقرى والضيافة ، والتواضع ، والشكر والتوكل ، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به ، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال ، والبهتان والغضب ، والاثرة ، والحسد ، والغش والبغي والخمر والميسر ، والجبن والغيبة والكذب ، والاستكبار والرياء ، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و ... .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة ، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب ، ودفع مفاسدها ، وقصرها على مافيه من الخير للبشر ، وايثار السلم على الحرب ، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات ، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة ، وأحلّ البيع وحرّم الربا ، ونهى عن الغش والتطفيف ، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة ، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها ، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

ص: 52

1. ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل - 90 ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح ، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

2. هلاّ كان منه قوله سبحانه ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء - 58 ).

وقد ندد اللّه باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين ، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم ، وقال : ( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران - 75 ).

وليس هذا إلاّ لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً ، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير ، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى ، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر ، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

3. أو ليس منه قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران - 104 ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه ، فليس معنى هذا ، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع ، محصور في هذا النطاق ، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية ، والشخصية والاجتماعية من صدق ، وعدل ، وبر ، وأمانة ، وصلة رحم ، ولين جانب ، ووفاء عهد ، ووعد ، ورحمة للضعيف ، ومساعدة للمحتاج ، ونصرة للمظلوم ، وصبر ، ودعوة إلى الخير ، وتواص بالحق ، وعدم اللجاج فيه ، والانفاق لله ، والدعوة إلى اللّه بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، والتعاون على البر والتقوى ، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

ص: 53

كذب ، وظلم ، وبغي ، واثم ، وقتل نفس ، وارتكاب فاحشة ، وانتهاك عرض وافك وزور ، وعربدة سكر ، وإسراف وتبذير ، وخيانة ونكث غدر ، وخديعة ، وقطع رحم ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وجبن ، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب ، وفظاظة خلق ، ورياء ومكابرة وانتقام باغ ، وتناقض بين القول والعمل وغرور ، وصد عن الحق ، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم » (1) ، « والمعجم المفهرس » (2) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء (3) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة ، وفي حقب من الزمان والمكان ، فلو كانت مختصة بإقليم خاص ، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر ، لا إلى الرقي والحضارة (4). الدعوة إلى الفطرة ، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد ، فدعا إلى التوحيد المطلق ، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة ، ونشر العلم والحضارة

ص: 54


1- تأليف المسيو جول لابوم ، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية ، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها ، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة ، حسب ما فهم منها ، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها ، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها ، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول ، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.
2- تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.
3- اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.
4- نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة ، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة ، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها ، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم ، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة ، تأكلها حثالات الأرض.

وقضى على الرذائل والمنكرات ، والشهوات الجامحة ، والتقاليد البالية ، والخرافات الكاذبة ، والرهبانية المبتدعة ، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد ، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله ، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع ، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع ، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم ، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء اللّه عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين ، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول : « انّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة ، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية ، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلاّ بالتقوى ، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات - 13 ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية ، والزمالة البشرية ، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية ، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان ، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها ، أعني : وحدة الاُمّة ، وحدة الجنس البشري ، وحدة الدين ، وحدة التشريع ، وحدة الاخوة الروحية ، وحدة الجنسية الدولية ، وحدة القضاء ، بل وحدة اللغة

ص: 55

الدينية (1).

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة ، الذروة من المجد والعظمة ، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية ، القاضية على كل نعرة طائفية ، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص ، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

1. قال صلی اللّه علیه و آله : « أيّها الناس أنّ اللّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها ألا بآبائها أنّكم من آدم وآدم من طين ، ألا أنّ خير عباد اللّه ، عبد إتقاه » (2).

2. « ألا أنّ العربية ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه » (3).

3. « انّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا ، مثل أسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى » (4).

4. « إنّما الناس رجلان : مؤمن تقي ، كريم على اللّه; وفاجر شقي ، هيّن على اللّه » (5).

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة ، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد ، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها ، لم يفكر فيها محمد نفسه ، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

ص: 56


1- كل ذلك دليل على عالمية تشريعه ، وسعة نطاق رسالته ، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات ، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.
2- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.
3- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.
4- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.
5- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 2. سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

كان تفكيره تفكيراً غامضاً ، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلاّ لها ، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلاّ للعرب دون غيرهم ، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة ، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة ، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه ، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلاّ لتلك البلاد ، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلاّ للعرب دون غيرهم ، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد ، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم ، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام ، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته ، ألقت بمالها بين يديه ، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها ، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث ، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلاّ من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه ، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة ، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد ، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه ، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

ص: 57

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا ، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد ، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله فكّر في أن يدعو خلق اللّه المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش - اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية - فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلاّ أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلاّ لبلاد العرب ، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه ، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق ، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك ، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة ، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء ، إذ يقول اللّه تعالى لرسوله في غير آية : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل - 89 ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمد صلی اللّه علیه و آله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة ، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم ، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس ، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة ، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء ، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل ، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات » (1).

ص: 58


1- تاريخ الإسلام السياسي - الطبعة الخامسة - ج 1 ، ص 167 - 170 ، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

نظرة في الآيات المشعرة بعدم العمومية

اشارة

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية ، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته ، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم ، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها. 1. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

1. ( وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص - 46 ).

2. ( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة - 3 ).

3. ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس - 6 ).

4. ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم - 97 ).

ص: 59

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبي صلی اللّه علیه و آله بقوم خاص ، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

انّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً : لا تخرج من حد الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً : انّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار ، ففي سورة يس التي ورد فيها : ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه : ( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس - 70 ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً : ( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا ) ( الكهف - 4 ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا : اتّخذ اللّه ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ اللّه اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا : بأنّ اللّه اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء - 45 ).

ص: 60

بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول : ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس - 2 ). 2. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :

انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :

( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران : 113 - 114 ).

فلو كانت رسالة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين ؟

الجواب :

انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

وقال : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

وقال في حق اليهود :

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ... ) ( آل عمران : الآيات110 ، 111 ، 112 ).

أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم ، تمشّياً مع الحقيقة ، ووفاء للحق. وقال :

( لَيْسُوا سَوَاءً ... ) .

ص: 61

أي ليس الجميع - من أهل الكتاب - على وتيرة واحدة ، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه ، ويثبت على أمر اللّه ، ويتلوا آيات اللّه فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.

وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية 110 بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ) .

وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.

إجابة اُخرى :

غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا : لما أسلم عبد اللّه بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلاّ شرارنا فأنزل اللّه : ( لَيْسُوا سَوَاءً ... - إلى قوله - مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.

وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم (1).

غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم

ص: 62


1- مجمع البيان ج 4 ص 488 ، راجع الدر المنثور ج 2 ص 64 و 65.

بأنّهم يتلون آيات اللّه آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

3. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :

وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :

( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( الأنعام - 92 ).

وقال سبحانه :

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى - 7 ).

فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.

وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّي اطلق عليها في هذه الآية.

وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.

الجواب :

غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً ، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي (1) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود ، كما وافاك بيانها.

ص: 63


1- بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته ، حيث أنّه سبحانه قال : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب ، وإنّه منزّل من ربّهم : مصدّق لما تقدمه من الكتب ، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته ، وأن ّ اللّه سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام - 19 ).

وصريح هذه الآية أنّه صلی اللّه علیه و آله أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه ، عربياً كان أو أعجمياً ، شرقياً كان أم غربياً ، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة ؟!

فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق ، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.

ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين ، لكنّه حسب أنّ اللّه تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء - 82 ).

نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته ، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلاّ تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.

والحق أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل ، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين ، فالمسيح كان رسول اللّه ، إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل (1) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول

ص: 64


1- نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع ، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل ، لما ثبت من بعثه علیه السلام رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني اسرائيل بصلة ، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

إليهم وإلى غيرهم وقال : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... ) ( الصف - 6 ).

فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول اللّه إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.

وقد ضارعه نبي الإسلام ، فهو مع كونه رسول اللّه إلى الناس جميعاً ، ومع أنّه أمره اللّه أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها (1) أمره اللّه سبحانه أن يقول : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام - 92 ، الشورى - 7 ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها ، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.

وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ ، فقال صلی اللّه علیه و آله حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه : « انّي رسول اللّه إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».

وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث (2).

هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله ، من اُولي العزم من الرسل ، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال ، مراعين في ذلك شرائط البلاغة ، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة ، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص ، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.

وإن شئت قلت : انّه صلی اللّه علیه و آله بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال : « انّي رسول

ص: 65


1- الأنعام - 119.
2- أنظر ص 135 من كتابنا هذا.

اللّه إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.

ويشير إلى ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : « بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلي وحدي » (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام :

« انّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى علیهم السلام : التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال : ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس » (2).

ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة ، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص ، فعند ذلك يصح لك أن تقول : بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول : بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا ...

على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته ، مكية ، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين ، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته ، فضلاً عن الاجهار بعالميتها ، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر ، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة ، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض

ص: 66


1- الطبقات الكبرى ج 1 ص 192.
2- الكافي ج 2 ص 17 وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».

الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكة صالحاً. كما في قوله سبحانه : ( وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ( القلم - 52 ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله : ( لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام - 19 ) والسورة مكية ، وإن شئت قلت : انّ الظروف في مكة كانت مختلفة متلوّنة ، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد ، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته ، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها ، والمسلمون من جانب - اضطهاد قريش لهم - كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.

وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً ، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم ... واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة ، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة ، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) فيعلم من ذلك أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.

جواب آخر عن الشبهة :

جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء ، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر (1) مبني على أمرين :

ص: 67


1- ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج 3 ، ص 334 ، و ج 5 ، ص 22 والمفردات للراغب مادة « اُم ».

الأوّل : انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ما يعم المدن الواسعة ، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( يوسف - 82 ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها ، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة ، ذات أبواب متفرّقة ، لقوله سبحانه : ( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ) ( يوسف - 67 ).

الثاني : قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ اللّه سبحانه دحى الأرض يوم دحاها ، من تحت مكة ، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء ، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء ، ثم برز سائر اجزائها ، عن تحت الماء تدريجاً ، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد ، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.

قال : إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة ، فيصير المراد من « أُمّ القرى » ، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من ( وَمَنْ حَوْلَهَا ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد اللّه بن عباس ، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله : « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها » (1) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.

وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :

أمّا أوّلاً : فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكة ، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه ، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص - 59 ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات اللّه عليهم. وهذه سنّة اللّه تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً ، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكة ومن حولها.

ص: 68


1- مجمع البيان ج 5 ص 22.

وهذا إمام اللغة ابن فارس ، يقول في مقاييسه : « أُمّ القرى ، مكة ، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

قال ابن فندق في تاريخه : إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل ، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له ، أُمّ القرى ، ثم أتى بأمثلة وقال : فصنعاء أُمّ القرى في اليمن ، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق ، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا ... (1).

فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده ، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص ، بل هو والعرف في ذلك سواسية ، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل : ( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة ، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلاّ ما يراد في نظائرها ، فإذا قيل : هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها ، فلا يراد إلاّ نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها ، حكماً وسياسة واقتصاداً ، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية ، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً ، وهكذا إذا قيل : بعث نبي الإسلام لينذر مكة ومن حولها ، لا يراد منه إلاّ أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً ، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة ، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها ، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه ، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود ، لو لم يكن مستهجناً.

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره ، صحيح ، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل ، ودون اثباته خرط القتاد ، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى ، على مكة ، من غير أن يكون لهم علم

ص: 69


1- تاريخ بيهق ج ص 22 بتعريب منّا.

ولا عهد بهذه المعارف ، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن ، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج ، والحق في الجواب ما أوضحناه.

4. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه

جرت سنّة اللّه على بعث رسله بلسان قومهم ، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.

أمّا إذا كان مبعوثاً إلى اُمّة أوسع من قومه ، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة ، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل ، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه ، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.

على أنّ إيمان قومه به ، وخضوعهم له ، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه ، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه ، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.

على أنّ في إرسال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومه صلی اللّه علیه و آله كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.

فلو أنزل اللّه سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه : ( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء : 198 - 199 ) فلأجل ذلك بعثه اللّه سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.

ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين ، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية ، فضلاً عن المبادئ العامّة.

ص: 70

وإلى ذلك تهدف الآية التالية : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم - 4 ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة ، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً ، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلاّ بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم ، أعني الاهتداء فهو بيد اللّه سبحانه ، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.

وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم ، حتى يلزم منهم اختصاص دعوته صلی اللّه علیه و آله بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه ، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم ، كما هو أساس الشبهة ، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل ، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج ، والوفود إلى زيارة بيته ، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به ، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته ، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية

نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها : « أنّ كلّ رسول من اللّه يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم » ، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية ، وقال : إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا ، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان ، يلزم منه كونه غير مبعوث من اللّه سبحانه أصلاً.

وعلى الجملة : تنتج عالمية رسالته ، وسعة نطاق دينه ، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.

ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية ، إذ ليس مفادها ما تصوّره من

ص: 71

أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه ، بل مفاده : أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه ، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه (1) أو إلى قومه فقط.

نعم تنعكس الآية إلى قولنا : من لا يوافق لسانه ، لسان قومه ليس رسولاً من اللّه سبحانه ، وهو صحيح ، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.

وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً ، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان ، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون ، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه ، وأرسله إليهم ، ثم أنجاه وأهله إلاّ امرأته (2).

ص: 72


1- هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم ، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة ، راجع الميزان ج 12 ص 13 وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.
2- الميزان ج 12 ص 13.

هل كانت نبوّة نوح والكليم والمسيح عالمية ؟

اشارة

قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله رسالة عالمية ، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.

غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة ، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم ، أو المناطق التي ظهروا فيها ؟

ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة ، فيقع الكلام في مقامات :

الأوّل : في عمومية نبوّة نوح وعدمها.

الثاني : في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.

الثالث : في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.

ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليل علیه السلام أيضاً.

وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة ، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود ، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.

ص: 73

على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلاّ فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.

فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟

يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) ( نوح - 1 ) ، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه (1).

وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية ، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس ، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه ، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.

فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه ، قال سبحانه : ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ( هود : 36 - 37 ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم ، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح ، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.

تحقيق وتنقيب :

انّ العلاّمة الطباطبائي ( رضوان اللّه عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح

ص: 74


1- لاحظ الآيات 25 - 48 من سورة هود ، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

علیه السلام في الجزء العاشر من تفسيره القيم « الميزان » فقال :

المعروف عند الشيعة عموم رسالته علیه السلام وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه : ( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( نوح - 26 ) ، وقوله تعالى : ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) ( هود - 43 ) وقوله : ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( الصافات - 77 ).

وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة : أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله اللّه إلى أهل الأرض ، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي : « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».

وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه ، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون : ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) ( يونس - 78 ).

فمعنى الآية الاُولى : لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً ، وكذا المراد بالثانية : « لا عاصم اليوم لقومي من أمر اللّه » وكذا المراد بالثالثة : « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.

ثم انّه - قدّس اللّه سرّه - أفاد أنّه لم يستوفوا حق الكلام في هذا البحث ... ثم اختار هو عمومية نبوّته ورسالته بتقديم مقدمة حاصلها :

أنّ الواجب في عناية اللّه أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه ، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري ، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق ، ومنهج الكمال والسعادة ، وهو طريق الوحي ، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به ، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا

ص: 75

مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.

وإن شئت قلت : الواجب في عناية اللّه تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم ، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة ، وقد أخبر اللّه سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى - 13 ) ، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية ، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح ، ولو لم تكن عامة للبشر ، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر ، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.

وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين (1).

ملاحظات في كلام العلاّمة الطباطبائي

وفيما ذكره قدس سره ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :

أمّا أوّلاً : فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية اللّه تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني ، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه ، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح ، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها ، فإنّه من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي ، فإنّه من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها ، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة ، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن

ص: 76


1- الميزان ج 10 ص 271 - 272.

تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشئ لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.

وثانياً : فإنّ ما استفاده رحمه اللّه من الآية ب « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.

وأمّا ثالثاً : انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن ، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال : ( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر - 78 ) وقال سبحانه : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء - 164 ).

وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة ، والعصمة لله سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.

ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال : تبين الجواب عن السؤال : هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.

ثم أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (1).

وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.

ص: 77


1- الميزان ج 10 ص 272 - 273.

وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه ، واللّه سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟

إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل : في عموم دعوته إلى التوحيد.

الثاني : في عموم شريعته وشمول أحكامه.

ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم ، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.

كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم (1) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته ، دون العكس (2) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين ، فنقول :

المقام الأوّل : في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.

الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم ، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة - 92 ).

وقوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ ) ( الصف - 5 ).

ص: 78


1- وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.
2- لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.

وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه ، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم ، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى : ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) ( الأعراف - 85 ).

وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء 176 - 177 ).

ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته ، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين

يمكن أن يقال : بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد ، كانت تعم بني اسرائيل والقبطيين.

وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه : ( حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف - 105 ).

وقوله سبحانه : ( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف - 134 ).

وقوله سبحانه : ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ... فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ) ( طه : 43 و 44 - 47 ).

وقوله سبحانه : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا

ص: 79

بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء : 16 - 17 ).

وقوله سبحانه حكاية عن فرعون : ( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ( الشعراء - 27 ).

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزخرف - 46 ).

وقوله سبحانه : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ) ( المزمل 15 - 16 ).

وقوله سبحانه : ( وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) ( الذاريات - 38 ).

وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة اللّه والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني اسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لا يخلفه هو ولا ذاك ، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر ، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون (1).

هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من اللّه بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان باللّه سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد اللّه واستضعافهم ، ويؤيده أنّه لمّا أدركه الغرق قال فرعون : ( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( يونس - 90 ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله : ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس - 91 ).

ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته - حتى بهذا المعنى للقبطيين ، شيء.

أمّا أوّلاً : فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني اسرائيل فقط ليخلصهم

ص: 80


1- راجع سورة طه الآيات 42 - 70.

وينجيهم من فرعون وأعوانه ، غير أنّ انجائهم من أيديهم لمّا كان متوقفاً على اثبات نبوّته وأنّه مأمور من جانب اللّه سبحانه ، أخذ يحاور فرعون ويرضيه بانجاء بني اسرائيل ، ولو كان إنجاؤهم غير موقوف على هذه المحاورات لما تحمّل هذه المشاق ويؤيده أنّه سبحانه بعدما قال :

( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( القصص - 4 ) عقبها بقوله : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص - 5 ).

وظاهره يفيد أنّ الغاية من بعث موسى إلى فرعون هو اطلاق سراح المستضعفين من بني اسرائيل في الأرض.

وإن شئت قلت : أنّ محاورته مع فرعون وقيامه ضده وضد ملائه وعرض بيّناته واحتجاجاته عليهم ، كانت مقدمة لانقاذ بني إسرائيل وإرجاعهم إلى الأرض المقدسة ولو كان المطلوب حاصلاً بلا مشاجرة ونزاع معهم لما نهض بين يديه محتجاً بآياته وبيّناته ؟

وثانياً : انّه كلّما حاور مع فرعون واحتج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين عقب كلامه بقوله : فارسل معي بني اسرائيل حيث قال سبحانه : ( قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف - 105 ) وقال سبحانه : ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) ( طه - 47 ).

والظاهر من الآيتين أنّ الهدف الأقصى من بعث موسى هو انقاذ بني اسرائيل غير أنّه لما كان متوقّفاً على المحاورة مع فرعون واثبات أنّه رسول من اللّه سبحانه كلمه بأنّي رسول ربّك ويقرب ذلك أنّه سبحانه لما آخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات وأوقع عليهم الرجز جعلوا جزاء موسى - إذا استجيبت دعوته - أنّهم يؤمنون به ويرسلون معه بني اسرائيل كما حكى اللّه سبحانه عنهم : ( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ

ص: 81

بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف - 134 ).

وعلى ذلك فالمراد من إيمانهم بموسى ، إيمانهم بأنّه مبعوث من اللّه سبحانه لهداية بني اسرائيل وانقاذهم من العذاب ، لا إيمانهم بأنّه نبي بعث إلى القبطيين وبني اسرائيل جميعاً كما هو المدّعى.

ولقائل أن يقول : إنّه إذا لم يكن مبعوثاً إلى فرعون وملائه فلماذا أمر اللّه سبحانه موسى وأخاه هارون بقوله : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) ( طه - 44 ) وقوله : ( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) ( النازعات : 17 - 19 ).

وتمكن الاجابة عنه بأنّ الذهاب إليه وتذكيره وتحذيره لأجل أن يعلم فرعون بأنّ موسى مبعوث من جانبه سبحانه لإنقاذ قومه حتى يرسل معه بني اسرائيل ، كما يفيده ذيل الآيات : ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) ، لاحظ سورة طه الآيات 43 - 47 ، خصوصاً بالنظر إلى ما فرع على قوله : ( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) ، قوله : ( فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .

ويؤيد ذلك أيضاً أنّه لمّا لم ينجح النبي موسى في انقاذ قومه من سلطان فرعون وعساكره ، أراد سبحانه أن ينجيهم بأسباب غير عادية كما قال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) ( طه - 77 ).

وقوله : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ) ( الأعراف - 138 ).

وقوله سبحانه : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ) ( يونس - 90 ).

وقوله سبحانه : ( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ

ص: 82

جُندٌ مُّغْرَقُونَ ) ( الدخان23 - 24 ).

وذلك يدلّ على أنّ الغاية من الرسالة هو انقاذ بني اسرائيل فقط لا ارشاد فرعون وملائه.

ثالثاً : انّ قوله سبحانه : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ (1) رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) ( يونس 74 - 75 ).

يفيد أنّ رسالة الأنبياء الذين تتراوح دعوتهم بين نوح وموسى بشهادة قوله : ( بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ ( أي نوح ) رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ ) كانت مختصة بقومهم حتى إبراهيم كما أنّ دعوة موسى كانت مختصة بقومه لا تعدوهم إلى فرعون أيضاً وملائه وعلى ذلك تصير دعوة كلّ من نوح وإبراهيم وموسى غير عالمية لا تتعدى دعوة موسى بني اسرائيل أو القبطيين.

موقف دعوة الكليم من غير القبطيين

الظاهر أنّه لم تكن دعوته شاملة لغيرهم لو فرضنا شمولها لهم ويشعر بذلك أنّهم لما نجّاهم سبحانه من فرعون وجاوز بهم البحر فرأوا في ذلك الجانب ، من ضفة البحر قوماً يعكفون على أصنام فطلب منه قومه أن يجعل لهم الهاً كما لهم آلهة فرد عليهم موسى بأنّكم قوم تجهلون (2) ولم يتعرض موسى لعبدة الأصنام (3) لا بالنقد والرد ولا بالمنع ولم يكن خضوعهم للأصنام أقل ضرراً من عبادة قوم فرعون له وإنّما تعرض لعمل فرعون دون عمل هذه الجماعة لأجل أنّ انقاذ بني اسرائيل من مخالب فرعون وقومه كان متوقفاً على المحاورة معه والاحتجاج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين ، دون المقام ، فانّ العاكفين

ص: 83


1- والضمير في قوله « من بعده » يرجع إلى نوح.
2- راجع الآية 138 من سورة الأعراف.
3- بحكم سكوت القرآن عن ذلك وإن كان السكوت لا يكون دليلاً على عدم التعرض لكنه مشعر بذلك.

على الأصنام في ضفة البحر لم يكونوا مزاحمين لموسى وقومه ولذلك تركهم وشأنهم ، ولم ينكر عليهم بحكم سكوت القرآن وعدم اظهار أي ردة فعل بالنسبة إليهم. وهذا يؤيد ما استظهرناه من عدم عمومية دعوته للقبطيين أيضاً.

نعم ما نذكره من السكوت اشعار بالمدّعى لا أنّه دليل قطعي.

ويؤيد خصوصية الدعوة أنّه لم يعهد منه بعد انجاء قومه من فرعون ، أنّه دعا أقواماً آخرين ، بل لما عبر موسى بهم البحر وهلك فرعون ، أمرهم اللّه بدخول الأرض المقدسة ، فلمّا نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول فيها كما حكى اللّه سبحانه عن موسى قائلاً : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) ( المائدة : 21 - 22 ).

فأوحى اللّه إليه أنّهم يتيهون في الأرض أربعين سنة فبقوا في التيه أربعين سنة وكان ينزل عليهم المن والسلوى ومات النقباء غير يوشع بن نون ومات أكثرهم ونشأ ذراريهم وتوفّي موسى وهارون في التيه ، توفّي هارون قبل موسى بسنة وقد فتحها يوشع بعد موت موسى ، وقيل فتحها موسى وكان يوشع في مقدمته (1).

ولم يرد في القرآن شيء يستشم منه أنّه دعا الاُمم الاُخرى طول حياته في التيه ، بل كان يعاشر قومه فقط ويرشدهم حسب استعدادهم وامكاناتهم.

أضف إلى ذلك فقدان الامكانيات وضعف المواصلات في تلكم الأيام ، فتشريع نبوّة عامة تشمل العالم أجمع مع فقدان الامكانيات اللازمة وقلّة الترابط بين الاُمم أمر غير مفيد.

مضافاً إلى أنّ تشريع النبوّة على صعيد عالمي فرع التهيّؤ في روح المجتمع الانساني لقبولها ، فانّ الناس كانوا عصابات وأقواماً متنافرة يتعصّب كل منهم تجاه الآخر

ص: 84


1- مجمع البيان ج 2 ص 179.

ولا ينزل واحد منهم على حكم الآخر ولا لنبي من قوم آخر ، فالطريق الأصلح لهذا هو بعث الأنبياء في داخل الاُمم كما قال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل - 36 ) (1).

أضف إلى ذلك أنّ الاُمم اليهودية يخصون نبوّة موسى بأنفسهم ولذا لا ترى منهم التبليغ والتبشير في مجتمعات العالم (2).

ومع هذه الوجوه كيف يمكن القول بعمومية دعوته وعالميتها في عصره إلى أن يبعث اللّه نبياً مثله.

وترشدك إلى ما ذكرناه ، قصة موسى مع من آتاه اللّه الرحمة وعلّمه من لدنه علماً وقال سبحانه : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) ( الكهف 65 - 66 ) (3).

ووصفه بما ورد في الآية من الأوصاف يدل على كونه ولياً من أوليائه بل نبياً مثله - ومع ذلك - كيف تكون نبوّة موسى عالمية مع عدم شمول نبوّتها لمصاحبه ولا لاُمّته إذا فرضنا للمصاحب اُمّة وليس من البعيد أن يكون ذلك المصاحب العائش في زمن موسى مثل لوط المعاصر لإبراهيم وكلّ مبعوث إلى اُمّة دون اُمّة ، وتعاصر النبيين يكشف عن ضيق نطاق نبوّتهم وعدم شمول احدى النبوّتين ، بما تشمله الاُخرى.

قال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ

ص: 85


1- نعم ذابت هذه التعصّبات القومية في المجتمع الانساني إلى حد استعد مزاج الانسانية لبعث نبي عالمي وكمل استعدادهم لقبول النداء العالمي ولأجل ذلك لم يمض ربع قرن إلاّ وقد ضرب الإسلام بجرانه في شرق الأرض وغربها.
2- وإن كان قول اليهود وفعلهم ليسا بحجة فإنّهم خصّوا اللّه سبحانه بأنّه اله شعبهم فما ظنّك بهم في رسالة موسى علیه السلام .
3- واحتمال أنّه كان من اُمّة موسى ولكن اللّه جعل عنده علماً خاصاً لم يؤته موسى فصار موسى مأموراً بالتعلّم منه ، رجم بالغيب وموجب لزيادة الفرع على الأصل واعلمية بعض الاُمّة من نبيّها مع أنّ سياق الآيات لا يناسب ذلك الاحتمال.

الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) ( العنكبوت 31 - 32 ).

المقام الثاني في عموم شريعته:

المقام الثاني في عموم شريعته (1) :

هل كانت الشريعة التي أتى بها موسى في الألواح التي يصفها اللّه سبحانه بقوله : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ( الأعراف - 145 ).

مختصة بقومه أم تعم غيرهم ؟ ظاهر بعض الآيات ، يفيد كون كتابه حجة على الناس كلهم حيث وصفه بكونه ، هدى ونوراً للناس وقال : ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِّلنَّاسِ ) ( الأنعام - 91 ).

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) ( الأنبياء - 48 ).

فإذن هو ضياء وذكر للمتقين سواء أكانوا من بني إسرائيل أم غيرهم وقوله سبحانه : ( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الاحقاف - 30 ).

فإنّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) ( الجن 1 - 2 ).

فإنّ وصف الجن للقرآن بأنّه نزل من بعد كتاب موسى مع كون القرآن ومن جاء به مبعوثين إلى الانس والجن ، يشعر بكون كتاب موسى مثله أيضاً نزلا إلى كلّ من الفريقين ، فكيف تجتمع خصوصية رسالته مع كون كتابه دليلاً وحجة على الكلّ ؟

ص: 86


1- البحث عن عموم شريعته ، فرع ثبوت سعة دعوته في مسألة عبادة اللّه وخلع عبادة الأوثان وقد عرفت عدم ثبوتها ، فالبحث عن عموم شريعته مبني على ثبوت عموم دعوته في جانب الاُصول.

ويمكن الاجابة عن الاستدلال بهذه الآيات أوّلاً : بأنّ كون الكتاب نوراً وهدى للناس ، لا يفيد تعميم شريعة موسى وأحكامه لغير بني اسرائيل ، إذ من الممكن أن يستفيد الغير مما ورد في ذلك الكتاب من عظات وحكم وإن لم يكن تابعاً لأحكام ذلك الكتاب. فنحن المسلمون ، نستفيد في هذا اليوم مما في التوراة والانجيل من المواعظ ولسنا تابعين لشريعة من انزلا إليه.

فبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) ( الأنبياء - 48 ).

وثانياً : انّ الظاهر من بعض الآيات اختصاص كتاب موسى بقومه مثل قوله تعالى : ( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الإسراء - 2 ) وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ( غافر - 53 ).

فلو كان كتابه حجة على الناس كلّهم لورثه الناس كلّهم دون بني اسرائيل وحدهم (1).

وقوله : ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) ( المائدة - 32 ).

وقد كتبه سبحانه عليهم في التوراة.

وقوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) ( الجاثية - 16 ).

وإن أردت أن تتوسع في البحث فلاحظ الآيات التالية فانّها تخص بني إسرائيل

ص: 87


1- نعم يمكن أن يقال : انّ تخصيص بني اسرائيل بأنّهم الوارثون لكتاب موسى لأجل أنّ بني اسرائيل وأنبياءهم ، هم القائمون بأمر الكتاب وحفظه دون سائر الناس ، فلأجل ذلك خصهم بالميراث ، وإن كانت الشريعة عامة. وهذا نظير قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (فاطر – 32) فورت الكتاب العباد المصطفون وإن كانت الشريعة عامة، على أنه يحتمل أن يكون المراد بالكتاب، هو الوعد الذي وعده اللّه لإبراهيم وموسى بأن يدخلهم الأرض التي كتبها اللّه لهم.

بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب ، فإنّ كونهم ممّن اُوتوا الكتاب وإن كان لا يعارض كون غيرهم كذلك ، إلاّ أنّ تكرار توصيفهم بأنّهم ، هم الذين اُوتوا الكتاب يوجب ظهورها في نفيه عن غيرهم (1) مثل : قوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) ( البقرة - 121 ).

وقوله سبحانه : ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) ( البقرة - 144 ).

وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ) ( الأنعام - 20 ).

وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ) ( القصص - 52 ).

وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ ) ( الأنعام - 114 ).

وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) ( الرعد - 36 ).

وقوله سبحانه : ( فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) ( العنكبوت - 47 ).

وقوله سبحانه حكاية عن المشركين بأنّه نزل الكتاب على الطائفتين المسيحية واليهودية ولم ينزل علينا : ( أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) ( الأنعام 156 - 157 ).

فبهذه الآيات وما تقدمها يمكن تفسير ما تقدمها من الآيات المفيدة المشعرة بكون التوراة نازلة إلى الناس كلّهم بحمل ما دلّ على سعة التشريع ، على الاستغراق

ص: 88


1- اللّهمّ إلاّ أن يحمل التأكيد بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب على كون الكتاب نزل على بني اسرائيل وليس معناه أنّه لا يجوز لغيرهم العمل به.

العرفي ، دون العقلي ، فيراد من قوله سبحانه : نوراً وهدى للناس ، أو ضياء وذكراً للمتقين ، الكتلة المتماسكة من بني اسرائيل.

نعم ، يمكن أن يقال بعكس ذلك ، فيقال : انّ تخصيص بني اسرائيل بالذكر لأجل أنّ التوراة كانت هدى لبني إسرائيل قبل أن تكون لغيرهم بشهادة بعث موسى فيهم وتولّده ونشوئه بينهم ولأجل ذلك خص اللّه ذلك القوم بالذكر وقال : ( وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الإسراء - 2 ).

ولمّا مات وترك بينهم ذلك الكتاب الكريم ، كانت تلك الطائفة أولى بميراث نبيّهم ولأجل ذلك قال : ( وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ( غافر - 53 ).

ولكن يؤيد الحمل الأول ، أعني كون الاستغراق عرفياً لا عقلياً ، قوله سبحانه : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ ) ( المائدة - 45 ) وقد كتب اللّه لهم هذا الحكم في التوراة وتقييد الكتابة بلفظ ( عليهم ) يؤيد كون الكتاب نازلاً لهدايتهم خاصة.

ويؤيد الحمل الثاني قوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) ( المائدة - 44 ).

فظاهر الآية أنّ التوراة كانت محكمة بعد موسى عبر القرون يحكم بها النبيون فالآية تفيد سعة نطاق كتابه وشريعته.

ومع ذلك كلّه فالامعان في الآية لا يفيد إلاّ كون الكتاب حجة لبني اسرائيل ومحكماً عليهم والأنبياء الذين كانوا يحكمون به كانوا من بني اسرائيل لا من غيرهم ولقد بعثوا لهدايتهم وذلك لأنّ اللّه يقول : ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( لا لغيرهم ) الذي هو المطلوب.

هذا ما بلغ إليه فهمنا القاصر من التدبّر في آيات الذكر الحكيم ولما كانت في المقام أسئلة حول المختار عقدنا لها الفصل التالي.

ص: 89

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

ربّما يستدل على كون دعوة نوح والخليل والكليم والمسيح عالمية بقوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى - 13 ) ويستند في كيفية الاستدلال إلى ما أفاده العلاّمة الطباطبائي حيث قال :

يستفاد من الآية اُمور :

أحدها : انّ السياق بما أنّه يفيد الامتنان وخاصة بالنظر إلى ذيل الآية ، والآية التالية يعطي أنّ الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية ولا ينافيه قوله تعالى : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة - 48 ) لأنّ كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي جامعيتها.

الثاني : انّ الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي إنّما هي شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحق الجامعية المذكورة.

ولازم ذلك أوّلاً : انّ لا شريعة قبل نوح علیه السلام بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الانساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية ، وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ ) ( البقرة - 213 ).

وثانياً : انّ الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم وبعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى وهكذا.

ص: 90

الثالث : انّ الأنبياء أصحاب الشرائع واُولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورين في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء ويدل على تقدمهم أيضاً قوله : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب - 7 ) (1).

الجواب :

انّ ما ذكره ( رضوان اللّه عليه ) وإن كان صحيحاً لكنّه لا يدل على عمومية نبوّة هؤلاء الأربعة ومنشأ الاشتباه ( في الاستدلال بالآية وأضرابها على عمومية الدعوة ) هو الخلط بين عمومية دعوتهم وتداول شريعتهم بعدهم ، فقد جرت سنّة اللّه على بعث أنبياء غير صاحبي شريعة في المناطق التي بعث فيها نفس أصحاب الشرائع وهؤلاء المبعوثون كانوا يحملون النبوّة والوحي ، ويتشرّفون بالبيّنات والمعجزات من دون أن تكون لهم شريعة مستقلة ، بل كانوا تابعين لإحدى الشرائع الأربع المتقدمة أو المتعاصرة وناشرين لها ، وكانت نبوّتهم مختصة بقومهم ومنطقتهم غير أنّ ظهور كل واحد منهم من منطقة من المناطق ، كان دليلاً على انتهاء نبوّة النبي صاحب الشريعة عند بعث النبي اللاحق ، بل كان دليلاً على عدم سعتها من بدء الأمر ، كما إذا كان النبي المروّج معاصراً للنبي صاحب الشريعة مثل لوط بالنسبة لإبراهيم علیه السلام .

وهذا ، هو القرآن يحكي عن أنبياء مروّجين معاصرين لصاحب الشريعة أو تالين له ، آخذين بشريعته.

فقد بعث اللّه هوداً إلى عاد بشريعة مثل شريعة نوح التي كانت بسيطة غاية البساطة ، كما بعث صالحاً إلى ثمود ، بمثل ما بعث به هوداً.

وقد بعث اللّه لوطاً إلى قومه ، دون أن تكون له شريعة بل كان يتبع شريعة إبراهيم وكانا يعيشان في عصر واحد ، كما بعث شعيباً إلى أصحاب مدين والايكة ، فأهلك

ص: 91


1- الميزان ج 18 ص 28.

مدين بصيحة جبرئيل ، والايكة بعذاب يوم الظلة ولم تكن له شريعة مستقلة ، بل كان يتّبع شريعة الخليل ويروّجها وينشرها.

وقد بعث اللّه يونس إلى مائة ألف أو يزيدون وكان يعمل بشريعة موسى ، وهكذا حكم سائر الأنبياء المبعوثين في الآونة بعد الآونة ، في ثنايا أزمنة أصحاب الشرائع.

فهؤلاء الأنبياء المروّجون لم يكونوا من علماء الاُمّة حتى يكونوا مشمولين لدعوة أصحاب الشرائع ، بل كانوا ذوي دعوة وارشاد ، ووحي واعجاز ، خارجين عن دعوة من تقدمهم ، داعين إلى أنفسهم ونبوّتهم وإن كانوا آخذين بشريعته وكانت الاُمّة التي بعث هؤلاء إليهم مكلّفة بتلبية نداء هذا النبي الجديد ، والاقتداء بهداه والاتباع لقوله وفعله وهذا دليل على انقطاع نبوّة النبي السالف ورسالته أو عدم سعته من أوّل الأمر كما إذا كانا متعاصرين مثل لوط وإبراهيم.

نعم ، لم تكن هذه الجماعة كنفس أصحاب الشرائع أيضاً ، أنبياء عالميين بعثوا لهداية من في الشرق والغرب ، بل كانوا أنبياء محليين (1) مبعوثين إلى أقوامهم ومناطقهم المستعدة للبعث كنفس أصحاب الشرائع.

فثبت بذلك أنّ نبوّة مثل موسى كانت محدودة بأمرين :

الأوّل : انّ نبوّته كانت اقليمية لا عالمية.

الثاني : انّ نبوّته كانت منقطعة ، ببعث نبي بعده ، وإن لم يكن صاحب شريعة ، بل مروّجاً وتابعاً لشريعته ، وبقاء الشريعة ، غير عمومية النبوّة.

نعم ، النبوّة بمعنى الصفات الحاصلة للنبي مثل علمه ، لا ترتفع بموته ، لبقاء روحه المقدسة ونفسه الكريمة ، والنبوّة بهذا المعنى لا ترتفع إلى الأبد ، بل المراد ما تستتبعه هذه الصفات من كونه قائداً رسمياً من جانب اللّه سبحانه ، يجب على الناس الانتماء والانتساب إليه ، بحيث يعد الانسان من تابعيه واقعاً ، وهذا المعنى أمر قابل

ص: 92


1- سيوافيك توضيحه عند الاجابة عن السؤال الثاني.

للارتفاع بعد ظهور النبي اللاحق وإن كانت الشريعة باقية.

على أنّ الظاهر من بعض الآيات ، تخصيص كلّ نبي لاحق وإن كان تابعاً لشريعة من قبله ، بشيء من الحكم ، لم يكن موجوداً في شريعة من قبله ، فلم يكن وزانهم وزان العلماء بحيث لا يزيدون ولا ينقصون ، بل كان لهم بعض الخصائص من الأحكام والتعاليم ، كما يفيده قوله سبحانه :

( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران - 84 ).

فظهور الآية في استقلالهم بالنبوّة واختصاص كلّ واحد بشيء من الوحي ، ممّا لا ينكر ؟

نعم كون شريعة نوح محدودة ببعث إبراهيم أو كون شريعة الأخير محدودة ببعث موسى علیهم السلام لا ينافي كون الاُمّة المحمدية مأمورة باتباع ملّة إبراهيم لا لأجل بقاء نبوّته أو شريعته بل لأجل وحدة الشريعتين في الجوهر والاُصول التي أهمّها التوحيد ورفض الأوثان والأصنام ، قال سبحانه : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران - 68 ).

وقوله : ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 95 ).

إلى غير ذلك ممّا ورد من الأمر بالاتباع لملّة إبراهيم ، وهذا لا يدل على بقاء الشريعة ، بل لما كان إبراهيم ، هو البطل الوحيد في كسر شوكة الأصنام وتحطيم انوف المشركين وعبدة الأوثان وقد بعث النبي الأعظم محمد صلی اللّه علیه و آله بنفس ما بعث به إبراهيم ، أمر سبحانه بالاتباع لملّته وطريقته قال : ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) ( الحج - 78 ).

ولأجل هذه الملاحظة ، يقول يوسف لصاحبيه في السجن : ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ( يوسف - 38 ).

ص: 93

وما هذا إلاّ بقاء جوهر الدين في الشرائع السماوية كلّها فالاُمّة المسلمة كانت خليلية إلى أن صارت موسوية ، فعيسوية فمحمدية على المعنى الذي عرفته.

السؤال الثاني :

لو كانت نبوّة موسى والمسيح اقليمية فماذا يعني الحديث التالي ، وإلى ماذا يشير :

« إنّما سمّي اُولوا العزم ، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كل نبي كان بعد نوح ، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه ، إلى زمن إبراهيم الخليل وكلّ نبي كان في أيام إبراهيم الخليل وبعده ، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى علیهاالسلام وكلّ نبي كان في زمن موسى وبعده ، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن عيسى علیهاالسلام وكلّ نبي كان في أيام عيسى وبعده ، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله ، فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد صلی اللّه علیه و آله لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده » (1).

الجواب المستفاد من الحديث أمران :

الأوّل : الحديث يدلّ بصراحة على وجود أنبياء في زمن هؤلاء الأربعة وهذا أقوى شاهد على عدم كون نبوّتهم عالمية ، إذ لا وجه لبعث نبيين إلى اُمّة واحدة ولم يثبت الاشتراك في النبوّة إلاّ في موسى لقوله سبحانه : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ( طه - 32 ).

وقوله سبحانه : ( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) ( القصص - 34 ).

الثاني : إنّ الأنبياء المبعوثين في زمنهم أو بعدهم ، كانوا متمسكين بشرائع هؤلاء الأربعة وكانت شريعتهم متداولة بينهم.

والثابت تداول شريعتهم في المناطق التي بعث فيها هؤلاء ولعلّ تداول شريعتهم بين الاُمم السالفة ، من دون تبديل ، صار سبباً لتوهّم كون نبوّتهم عالمية لا اقليمية. ولكنّه لم يثبت تداول شريعتهم بين اُمم الأرض جميعاً وإنّما القدر المتيقّن تداولها في

ص: 94


1- بحار الأنوار ج 15 ص 145 ، ورواه الكافي في باب الشرائع ج 2 ص 17 بأدنى اختلاف.

الشرق الأوسط وما ضاهاه لا أقطار الأرض جميعاً ، نعم دلّت الآيات القرآنية على أنّه لم تخل أرض معمورة من نبي أو نذير قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) ( فاطر - 24 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل - 36 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) ( الرعد - 7 ).

وهذه الآيات وما يشابهها تدل على شمول فيض النبوّة لأقطار الأرض واُممها وأنّه لم تخل اُمّة من تلك النعمة الإلهية ويؤيد ذلك ما عن أمير المؤمنين : اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته (1).

وعند ذلك يتوجّه السؤال التالي :

السؤال الثالث :

لو كانت نبوّة هؤلاء الأربعة اقليمية وشريعتهم متداولة في الشرق الأوسط ، فمن الذي بعثه اللّه إلى هؤلاء الاُمم المبعثرة في أقطار الأرض وأرجائها ومن هم حجج اللّه وبيّناته بين ظهرانيهم ؟

الجواب : انّ القرآن لم يقصص قصص الأنبياء عامة ولم يأت بأسمائهم جميعاً والمذكور منهم لا يتجاوز عن ستة وعشرين نفراً ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر - 78 ).

وقال سبحانه : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء - 164 ).

ص: 95


1- نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 147.

ولم تحصل لنا الإحاطة بكل من بعثه اللّه إلى الاُمم ، وقيّضهم لهداية الناس.

وقد روى الفريقان عن النبي أنّ عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً وقد جاء في التواريخ والأدعية قسم كبير من أسماء الأنبياء لا نعرف عن أحوالهم إلاّ شيئاً يسيراً فلعلّه كانت هناك جماعة كبيرة وعظيمة من الأنبياء مبعوثين إلى هداية الناس ودعوتهم إلى اللّه من دون أن نسمع لهم ذكراً أو نعرف لهم حالاً وقد سأل السائل صادق الاُمّة وإمامها وقال : فاخبرني عن المجوس أفبعث اللّه إليهم نبياً فانّي أجد لهم كتباً محكمة ومواعظ بليغة وأمثالاً شافية يقرّون بالثواب والعقاب ولهم شرائع يعملون بها ؟

قال علیهاالسلام : ما من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير وقد بعث إليهم نبياً بكتاب من عند اللّه فأنكروه ومجدوا كتابه (1).

فلو كانت نبوّة المجوس بعد موسى وقبل المسيح لما أمكن أن تكون نبوّة موسى عالمية.

ص: 96


1- الاحتجاج ج 2 ص 91.

هل كانت نبوّة المسيح عالمية ؟

اشارة

بعد أن أسفر وجه الحقيقة من ثنايا البحث وظهر أنّ الحق هو أنّ نبوّة موسى كانت لقوم خاص ، وإن كانت شريعته متداولة بين المبعوثين من بعده من الذين بعثوا في الأقوام التي بعث فيها نفس الكليم فلنشرع في تحقيق حال نبوّة المسيح سعة وضيقاً فنقول :

ظاهر بعض الآيات يفيد أنّ رسالته كانت لقوم خاص أيضاً وأنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصة قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( الصف - 6 ).

وقال سبحانه : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) ( الزخرف - 57 ) ( إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الزخرف - 59 ) ( وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ ) ( الزخرف - 63 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ ) ( المائدة - 44 ) ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( المائدة - 46 ).

ص: 97

فانّ تقفية النبيين الذين كانت نبوّتهم لقوم خاص قطعاً بعيسى بن مريم وكونه مصدقاً للتوارة المختصة ببني اسرائيل تشعر بكون نبوّته مثلهم أيضاً ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة - 72 ).

وقال سبحانه : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) ( آل عمران - 49 ).

وقال سبحانه : ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) ( المائدة - 70 ) ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة - 72 ).

ولا يخفى على القارئ ما فيها من الدلالة على كونه مبعوثاً إلى بني إسرائيل حيث جعل محور الكلام في الآيتين ، المرسلين إلى بني إسرائيل وقال : ( وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً ) ثم حكم بكفر من قال بأنّ اللّه هو المسيح بن مريم مشعراً بذلك بأنّ المسيح كان من المبعوثين إليهم وهم الذين ألبسوه لباس الالوهية وجعلوه إلهاً.

أضف إلى ذلك أنّ المسيح جعل محور الخطاب قوم بني إسرائيل وقال : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة - 72 ).

نعم ظاهر بعض الآيات يفيد عمومية نبوّته ودعوته كما في قوله تعالى : ( وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ) ( آل عمران - 3 - 4 ) ويعالج الاختلاف بما عالجنا به ما ورد في حق الكليم والتوراة ، بأنّ الاستغراق في قوله : ( لِلنَّاسِ ) عرفي لا عقلي ويراد من قومه : الكثيرون.

وقال العلاّمة في شرح التجريد : ذهب قوم من النصارى إلى أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله مبعوث إلى العرب خاصة (1).

ص: 98


1- كشف المراد ص 283 ط قم.

فهذا إقرار منهم على عدم عمومية رسالة المسيح.

وقال الطبرسي (1) في تفسير قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم ... ) .

أي اذكر إذ قال عيسى بن مريم لقومه الذين بعث إليهم.

وقال العلاّمة في تهذيبه عند البحث عن تعبّد النبي ، قبل بعثته بدينه لا بدين من قبله من الرسل : الأقرب انّه علیه السلام قبل النبوّة لم يكن متعبّداً بشرع أحد وإلاّ لاشتهر ولافتخر به أربابها ونمنع عموم دعوة من سبقه علیه السلام (2).

وقد عدّ العلامة ذلك من خصائص بعثته إلى الناس كافة (3).

وها هنا سؤال : وهو أنّه إن كانت نبوّة المسيح مختصة ببني إسرائيل فلماذا جعل النبي نصارى العرب من أهل الذمة مثل يهود العرب وعامل النصارى واليهود معاملة واحدة مع أنّه ثبت أنّ الكليم كان مبعوثاً إلى خصوص بني اسرائيل ؟ والاجابة عن هذا السؤال سهلة : لأنّ من المحتمل جداً أنّ الرسول كان مأموراً بالحكم على كل متمسّك بالكتاب السماوي احتراماً للعنوان ، لا لكون الكتاب نازلاً فيه كما هو الحال في اتباع المجوس ، فعامل الرسول مع المتمسّكين بدين « زرادشت » معاملة المتمسّك بدين المجوس مع أنّ أهل الكتاب هو الثاني دون الأوّل.

ويؤيد كون رسالة المسيح علیه السلام لقوم خاص اُمور :

1. إنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية ، كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

قال الزرقاني : إنّ العرب من عهد إبراهيم كانوا على دينه ولم يكفر أحد منهم إلى

ص: 99


1- مجمع البيان ج 5 ص 279 طبع صيدا.
2- تهذيب الاُصول إلى علم الاُصول ص 56 الطبع الحجري.
3- التذكرة ج 2 اوائل كتاب النكاح والمطبوع منها غير مرقم.

أن جاء عمرو بن لحي فهو أوّل من عبد الأصنام وغيّر دين إبراهيم وكان قريباً من كنانة جد النبي (1).

2. يظهر مما أنشأه عبد المطلب في قصة أصحاب الفيل أنّه وقومه كانوا متحرّزين من النصارى على وجه الاطلاق حيث أنّه بعد ما رجع من عند « قائد الجيش » « إبرهة » آيساً من إنصرافه عن هدم الكعبة ، أخذ بحلقة الباب قائلاً :

لا يغلبنّ صليبهم ومحا

لهم عدواً محالك (2)

3. ما رواه الحافظ البخاري : عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي ... واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة » (3) وفي بعض ألفاظ الحديث : « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى كل أحمر وأسود ».

وقال الشيخ منصور علي ناصف في كتابه القيّم « التاج الجامع للاُصول » روي عن جابر عن النبي قال : « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من قبل ، نصرت بالرعب مسيرت شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ، رواه الخمسة إلاّ أبا داود (4).

4. روى الكليني عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : انّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والإنس (5).

فقد ظهر من هذا البحث الحديثي ، أنّه لم تكن نبوّة الكليم والمسيح فضلاً عمّن كان قبلهم من إبراهيم ونوح تعم العالم كلّه ، بل كانت دعوتهم اقليمية أو لقوم خاص

ص: 100


1- سيرة ابن هشام ج 1 ص 79.
2- بحار الأنوار ج 15 ص 145 نقلاً عن مناقب آل أبي طالب.
3- صحيح البخاري في مختلف كتبه ، التيمم الباب الأوّل ، الغسل الباب 36 الصلاة الباب 54.
4- يعنى رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة راجع ج 1 ص 30.
5- الكافي ج 2 باب الشرائع ص 17 طبعة دار الكتب الإسلامية.

ليس غير وأمّا الدعوة العالمية فتختص بالنبي الخاتم كما أوضحناه (1).

فان قلت : إنّ آدم قد بعث إلى الناس كافة كما أنّ نوحاً كان مبعوثاً إلى أهل الأرض كافة بعد الطوفان لأنّه لم يبق معه إلاّ من آمن به ، وعليه فينتقض الحصر في الحديث المتفق عليه بين الفريقين.

قلت : الحديث منصرف عن بدء الخلقة وعن النبي الذي لم يكن على أديم الأرض إلاّ نفسه وولده ، أمّا نوح فقد تضافرت الآيات أنّه كان مبعوثاً إلى قومه كقوله سبحانه : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) ( نوح - 1 ).

وأمّا صيرورة رسالته عالمية بعد الطوفان ، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس ، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ القدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً ، بل كان خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه ويؤيد ذلك أنّه إذا كان مبعوثاً إلى قومه خاصة لم يكن وجه لتعذيب غيرهم وإهلاكهم بتكذيب قومه إذا لم تصلهم دعوته كما هو الظاهر (2).

هيهنا سؤال :

إذا كانت نبوّة كلّ واحد من هؤلاء الأربعة اقليمية أو مختصة بقوم خاص ، فما معنى « اُولوا العزم من الرسل » الذي وصف اللّه به عدة من الرسل ؟ فإنّ المشهور أنّ المقصود منهم من كانت رسالته عالمية موجهة إلى الناس كافة.

ولأجل الاجابة على هذا السؤال عقدنا البحث التالي.

ص: 101


1- راجع صفحات 37 - 56 من هذا الكتاب.
2- وقد وقفت على حقيقة الحال عند البحث عن حقيقة نبوّة نوح علیه السلام .

ما المراد باُولي العزم من الرسل

اشارة

لقد وصف اللّه بعض رسله أو كلهم بكونهم (1) اُولي العزم من الرسل حيث قال : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) ( الاحقاف - 35 ).

فأمر نبيّه بالصبر والوقوف في وجه العدو كوقوفهم في وجه معانديهم ومخالفيهم وعندئذ يجب أن نتعرف على ما هو المراد من توصيفهم به وقبل كل شيء نأتي بنصوص أهل اللغة في معنى العزم :

1. يظهر من ابن فارس في مقاييسه أنّ لهذا اللفظ معنى واحداً وهو القطع ضد الوصل وإليه يرجع معناه الآخر وهو العزم وكأنّه يقطع التحيّر والشك قال : « عزم » له أصل واحد صحيح يدل على الصريمة والقطع يقال : عزمت أعزم عزماً - إلى أن قال - قال الخليل : العزم ما عقد عليه القلب من أمر أنت فاعله أي متيقّنه ويقال : ما لفلان عزيمة أي ما يعزم عليه كأنّه لا يمكنه أن يصرم الأمر بل يختلط فيه ويتردد ومن قولهم : عزمت على الجنى وذلك أن تقرأ عليه من عزائم القرآن وهي الآيات التي يرجى قطع الآفة عن المؤوف واعتزم السائر إذا سلك القصد قاطعاً له والرجل يعتزم الطريق : يمضي

ص: 102


1- الترديد مبني على كون لفظة « من » تبعيضية أو بيانية وإن كان الظاهر هو الأوّل.

فيه لا ينثني.

واُولوا العزم من الرسل الذين قطعوا العلائق (1) بينهم وبين من لم يؤمن من الذين بعثوا إليهم كنوح علیه السلام إذ قال : ( لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) وكمحمّد صلی اللّه علیه و آله إذ تبرّأ من الكافر وبرّأه اللّه تعالى منهم وأمره بقتالهم في براءة من اللّه ورسوله (2).

2. وفسّره الراغب بالقصد وعقد القلب ، من غير إشارة إلى أصله الذي اخذ منه هذا المعنى وقال : العزم والعزيمة عقد القلب على امضاء الأمر قال : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ، ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ) ، ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) ، ( إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ، ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) أي محافظة على ما اُمر به وعزيمة على القيام ، والعزيمة تعويذ كأنّه تصوّر أنّك قد عقدت بها من الشيطان أن يمضي ارادته فيك وجمعها العزائم.

3. وفسّره الفيروز آبادي بقوله : عزم على الأمر أراد فعله وقطع عليه ، أو جدّ في الأمر - إلى أن قال - : واُولوا العزم من الرسل الذين عزموا على أمر اللّه فيما عهد إليهم ، ونقل عن الزمخشري : اُولوا الجد والثبات والصبر.

والمحصّل من هذه النقول أنّ المعنى الأصيل لهذا اللفظ هو القطع ضد الوصل ، ثم يستعمل لأجل المناسبة في عقد القلب والثبات والصبر.

أمّا القرآن فالظاهر أنّه لم يستعمل فيه إلاّ بمعنى عقد القلب مثل قوله :

( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ) ( محمد - 21 ).

( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( آل عمران - 159 ).

( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) ( البقرة - 227 ).

( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ) ( البقرة - 235 ).

ص: 103


1- هذا التفسير لم يعهد من المفسرين.
2- المقاييس ج 4 ص 308.

( وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( آل عمران - 186 ).

أي أنّ الصبر والتقى من الاُمور التي بان رشدها ويجب أن يعزم وينعقد القلب عليها وعقد القلب عليها يستلزم الصبر ويتوقف على الثبات في معارك الحياة ، فالصبر لازم العزم.

ومثله قوله سبحانه : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( لقمان - 17 ).

وقوله سبحانه : ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( الشورى - 43 ).

والتدبر في الآيتين الأخيرتين يعطي أن العزم ليس مرادفاً للصبر والثبات وإن فسّره به الزمخشري في كشافه حيث قال في تفسيره : « اُولوا العزم أي اُولوا الجد والثبات والصبر » (1).

وذلك لأنّ اسم الإشارة في آية سورة لقمان امّا راجع إلى خصوص الصبر كما هو مقتضى الأقربية أو إلى كل ما أوصى به لقمان من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصابه وعلى أي تقدير لا يصح أن يفسّر العزم بالصبر والثبات إذ يصير معنى الآية حينئذ : أنّ الصبر وحده أو هو مع غيره من عزم الاُمور.

وبذلك يظهر الحال في آية سورة الشورى فلاحظ.

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ( طه - 115 ).

والمقصود لم نجد له عزماً حافظاً على عهده الذي عاهدناه.

نعم العزم على الشيء والمحافظة على عقد القلب في طول الحياة لا ينفك عن الثبات والجد والوقوف في وجه المشاكل.

هذا معنى العزم في القرآن وبذلك يظهر معنى العزم في الآية التي نحن بصدد

ص: 104


1- الكشاف ج 3 ص 126.

رفع الستر عن وجهها أعني قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) . فانّه بمعنى أصحاب العزائم والقصود المؤكدة التي لا تنفصم أصلاً وتدعو إلى العمل والسعي في سبيل اللّه سبحانه. من هم اُولي العزم من الرسل ؟

يجد القارئ الكريم حول الآية وجوهاً ومعاني حملت على الآية والآية لا تحتملها ودونك تلك الوجوه :

الوجه الأوّل :

1. هم الذين بعثوا إلى شرق الأرض وغربها جنّها وانّسها (1).

هذا المعنى أحد الوجوه التي تفسّر بها الآية وعلى هذا يجب عدّ رسالة كلّ من قام الاجماع على كونه من الرسل اُولي العزم أو عدّ منهم في الأخبار الصحاح رسالة عالمية لا اقليمية وبما أنّ موسى والمسيح قامت الضرورة على كونهم من اُولي العزم يجب أن يكون رسالتهم عالمية حسب هذا القول.

وقد عرفت ضعف هذا القول في البحث الماضي وأنّ الآيات تفيد كون رسالة الكليم والمسيح مختصة بقومهما وبالمناطق التي بعثا فيها فضلاً عن كون رسالة نوح والخليل علیهماالسلام عالمية.

وعلى ذلك فهذا الاحتمال في تفسير الآية لا يمكن الركون إليه فلنبحث عن المحتملات الاُخر حول الموضوع.

الوجه الثاني :

أن يراد من اُولي العزم كل الرسل ولم يبعث اللّه رسولاً إلاّ كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال وعقل وعلى هذا فلفظة « من » في قوله : ( مِنَ الرُّسُلِ ) تبيين لا تبعيض كما يقال :

ص: 105


1- حق اليقين لشبر ص 111 ناقلاً عن كامل الزيارت.

كسيته من الخز ، وكأنّه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ، ووصفهم بالعزم لأجل صبرهم وثباتهم (1).

ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب - 7 ).

فإنّ اضافة الميثاق إلى النبيين دليل على أنّ الميثاق المأخوذ منهم بوصف كونهم من النبيين غير الميثاق المأخود منهم بوصف كونهم من بني آدم الذي يشير إلى ذلك الميثاق قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) ( الأعراف - 172 ).

فالآية الاُولى تدل على أخذ الميثاق من النبيين عامة وأخذ الميثاق وإن كان لا يدل على العزم الراسخ لكن سكوت القرآن عن نقضهم لهذا الميثاق وبما هم أنبياء معصومون من كل عصيان ، يشعر أو يدل على قيامهم بالميثاق الغليظ الذي يتوقف على العزم الراسخ والإرادة القوية التي تستتبع الصبر والثبات.

وأمّا تخصيص الخمسة بالذكر فهو لعظمة شأنهم ورفعة مكانهم لكونهم أصحاب الشرائع والكتب لا لانحصار ذاك الوصف فيهم ، كما يمكن أن يتوهم فقد خصّ اللّه سبحانه هؤلاء الخمسة بالذكر في مورد آخر وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى - 13 ).

وقد أشار سبحانه إلى أخذ الميثاق من الأنبياء جميعاً في قوله :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا ) ( آل عمران - 81 ) (2).

ص: 106


1- مجمع البيان ج 5 ص 94.
2- وقد بسّط الطبرسي الكلام في تفسير الآية فراجع ج 1 ص 468.

وهذه الآية تحتمل معنيين :

الأوّل : أنّه سبحانه أخذ الميثاق من النبيين ولم يذكر متعلّق الميثاق عندئذ وقوله : ( لَمَا آتَيْتُكُم ) ليس متعلّقاً لأخذ الميثاق منهم ، لكون اللام مفتوحة توطئة للقسم وقوله لتؤمنن جواب له ، وعند ذلك يحتمل أن يكون الميثاق المأخوذ منهم هو وحدة الكلمة في الدين وعدم الاختلاف فيه وإليه تؤمى آية سورة الشورى أعني قوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا ) ( الشورى - 13 ).

الثاني : انّه سبحانه أخذ الميثاق من الاُمم على أنبيائهم على تصديقهم والاقتداء بهم وعلى ذلك تخرج عمّا نحن بصدد البحث عنه والمعنى الأوّل أظهر.

الوجه الثالث :

أن يكون « من » للتبعيض ويراد من « اُولوا العزم » بعض الأنبياء ، قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى إذ قال له قومه : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) وداود يبكي على زلته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنّها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقال اللّه تعالى في آدم : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ، وفي يونس : ( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) (1).

وهذا القول أقرب الأقوال لولا أنّ فيه مسحة إسرائيلية حيث عد إسحاق ذبيحاً مع أنّ الذبيح هو إسماعيل ولكنّه لا يضر بأصل المعنى ويؤيده كما اُشير إليه نفي العزم عن آدم بعد ما عهد إليه ونسي ما عهد ، والنسيان كناية عن الترك اُطلق السبب واُريد المسبّب لأنّ الشيء إذا نسي ترك ، والمراد من العهد هو النهي عن أكل الشجرة بمثل قوله : ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) ( الأعراف - 19 ).

ص: 107


1- مجمع البيان ج 5 ص 194 - واحتمله الفخر راجع ج 7 ص 468.

وعلى ذلك فالعزم أمّا بمعنى القصد الجازم كما هو الحق أو الصبر والثبات ويؤيده ما رواه القمي في تفسير الآية حيث قال : وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، ومعنى اُولوا العزم : أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار باللّه وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والأذى (1).

ولا يرد على هذه الرواية ما أوردناه على السابقة ، نعم انحصاره في الخمسة المذكورة في الرواية يحتاج إلى دليل قاطع.

ومع ذلك فهذا القول أقرب الأقوال لكن بتصرف فيه وهو أنّ جعل « اُولوا العزم » من الرسل حيث قال : اُولوا العزم من الرسل يدل على أنّ عزمهم القوي كان في تبليغ رسالتهم ونشرها بين الناس ، لا مجرد إبتلائهم بالشدائد والبلايا ولو في غير طريق نشر الدين ، فابتلاء يعقوب ويوسف وأيوب وغيرهم لا يجعلهم داخلاً في « اُولوا العزم من الرسل » بما هم رسل ذووا رسالة من اللّه سبحانه إلى عباده.

ويؤيده أنّ الآية بصدد تحريض النبي على تحمل المشاق في طريق دعوته ورسالته ، والقرآن يصف نوحاً وإبراهيم وموسى بكونهم ذوي عزائم قوية في سبيل الدعوة وتبليغ الدين ولعلّ ههنا من يصفه القرآن بهذا الوصف أو هو كذلك وإن لم يصفه القرآن ولكنّا غير واقفين عليه.

الوجه الرابع :

من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه وهم خمسة اوّلهم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلی اللّه علیه و آله روي عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه علیهماالسلام قال : وهم سادة النبيين وعليهم دارت رحى المرسلين(2).

ص: 108


1- تفسير القمي ج 2 ص 300.
2- مجمع البيان ج 5 ص 194.

غير أنّه لم يثبت نسخ كلّ شريعة لاحقة لما تقدمها.

فذا هو عيسى بن مريم يبيّن الغاية من بعثته بقوله : ( قَدْ جِئْتُكُم بِالحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ( الزخرف - 63 ).

فإنّ معنى ذلك أنّ المسيح جاء مبيّناً لا ناسخاً لما تقدمه من الشرائع.

الوجه الخامس :

هم الذين اُمروا بالجهاد والقتال وجاهدوا في الدين. نقل عن السدي والكلبي (1).

وهذا لوجه ينطبق مع بعض المعاني المتقدمة خصوصاً الثالث.

الوجه السادس :

إنّ العزم بمعنى الوجوب والحتم واُولوا العزم من الرسل هم الذين شرعوا التشريع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها وخصهم القائل بأربعة أعني نوحاً وهوداً وإبراهيم ومحمداً صلی اللّه علیه و آله (2).

وهذا المعنى مبني على كون العزم بمعنى الحكم والشريعة مقابل الرخصة وهو الذي يؤيده بعض الروايات المروية عن أهل البيت علیهم السلام وقد روي في العيون عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : « إنّما سمّي اُولوا العزم اُولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كلّ نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل » (3).

الوجه السابع :

المقصود هم الرسل الثمانية المذكورون في قوله سبحانه : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا

ص: 109


1- مجمع البيان ج 5 ص 194.
2- العيون ج 12 الباب 32 ص 80 ونور الثقلين ج 5 ص 22.
3- مجمع البيان ج 5 ص 194.

إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ( الأنعام : 83 - 84 ).

والدليل على ذلك قوله سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) ( الأنعام - 90 ).

وهذا المعنى من أبعد الأقوال عن الحق لأنّه سبحانه لم يخص الاهتداء بالثمانية إلاّ وقد أشار إلى آبائهم بقوله : ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الأنعام - 87 ).

ثم قال سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) .

فيجب أن يكون الكل اُولي العزم.

وهناك أقوال اُخر يرجع إلى الاختلاف في عددهم بين كونه تسعة أو سبعة أو ستة أو خمسة أو أربعة وقد ضربنا عن ذكرها صفحاً.

وعرفت أنّ الحق هو الوجه الثالث بالتصرف الذي عرفته فيه وأوضحنا أنّ هذه اللفظة ليس علماً لعدة معيّنة بل هي وصف يشير إلى الجماعة الذين صبروا في طريق رسالاتهم وتبليغ دين اللّه سبحانه ، وقد عرفت أنّ القرآن يصف ثلاثة من الرسل بهذا العنوان وهم عبارة عن نوح والخليل والكليم ولعلّ هناك من صبر في هذا الطريق ، وعرفه القرآن ولم نقف عليه ، عصمك اللّه وإيّانا من الزلل في القول والعمل وجعلنا من أصحاب العزائم القوية في نشر الحق.

شبهة واهية في المقام :

ذهب بعض المعترضين من لا إلمام له بحقيقة التعاليم الإسلامية ولا معرفة له باُصول الدين المحمدي وفروعه إلى انكار عالمية الإسلام ، تمسّكاً بالأمر التالي وهو :

انّ الإسلام جاء بضرائب على الابل والبقر والغنم بمقادير دقيقة في غاية الدقة لأنّ الجزيرة العربية كانت يوم ذاك تكثر فيها الجمال والمواشي دون غيرها من البلاد

ص: 110

والقارات وذلك آية كونه ديناً اقليمياً لا عالمياً ، بل آية على أنّ تخطيطاته الاقتصادية ، وقوانينه في الضرائب وغيرها تناسب عصر الجمال والمواشي ، لا عصر الصاروخ والطائرة ، والمعامل الكبرى ، والمصانع الضخمة ، والأعمال التجارية الهائلة.

قلت : هذه شبهة يتمسّك بها تارة على نفي كون الإسلام ديناً عالمياً ، واُخرى على نفي كونه ديناً أبدياً وخاتماً لرسالات السماء بحجّة أنّ ما جاء به الإسلام من تشريع في مجال الضرائب ناقص لا يفي بالحاجات المتجددة في العصور المتطورة والحضارات المتقدمة ، والنفقات المتزايدة.

وقد أجبنا عن هذه الشبهة مفصّلاً في الجزء الثاني من هذه الموسوعة عند البحث عن ( المنابع المالية للحكومة الإسلامية ) فلاحظ تجد فيها ما يقطع جذور الشبهة من أساسها.

ص: 111

ص: 112

الفصل الثاني: الخاتمية في الذكر الحكيم

اشارة

اتفقت الاُمّة الإسلامية عن بكرة أبيها على أنّ نبيّهم محمداً خاتم النبيين ، وأنّ دينه خاتم الأديان ، وكتابه خاتم الكتب والصحف ، فهو صلی اللّه علیه و آله آخر السفراء الالهيين ، أوصد به باب الرسالة والنبوّة ، وختمت به رسالة السماء إلى الأرض.

لقد اتفق المسلمون كافة على أنّ دين نبيّهم ، دين اللّه الأبدي ، وكتابه ، كتاب اللّه الخالد ، ودستوره الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد أنهى اللّه إليه كلّ تشريع وأودع فيه اُصول كلّ رقي ، وأناط به كلّ سعادة ورخاء ، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.

توضيحه : أنّ الشريعة الحقة الالهية التي أنزلها اللّه إلى أوّل سفرائه لا تفترق جوهراً عمّا أنزله على آخرهم ، بل كانت الشريعة السماوية في بدء أمرها كنواة قابلة للنمو والنشوء ، فأخذت تنمو وتستكمل عبر القرون والأجيال ، حسب تطور الزمان وتكامل

ص: 113

الاُمم ، وتسرب الحصافة إلى عقولهم ، وتسلل الحضارة إلى حياتهم.

ويفصح عمّا ذكرنا قوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ... ) ( الشورى - 13 ) فقد وصّى نبيّنا محمداً بما وصّى به نوحاً ، من توحيده سبحانه وتنزيهه عن الشرك ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والتنديد بالجرائم الخلقية ، والقضاء على أسبابها ، إلى غير ذلك ممّا تجده في صحف الأوّلين والآخرين.

وتتجلى تلك الحقيقة الناصعة ، أي وحدة الشرائع السماوية ، جوهراً من مختلف الآيات في شتى المواضع ، قال سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ( آل عمران - 19 ) وظاهر الآية يعطي أنّ الدين عند اللّه - لم يزل ولن يزال - هو الإسلام في طول القرون والأجيال ، ويعاضدها قوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آل عمران - 85 ).

وقد نبّه سبحانه في مورد آخر على خطأ اليهود والنصارى في رمي - بطل التوحيد - إبراهيم باليهودية والنصرانية ، وقال : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 67 ).

نعم المراد من الإسلام في الآيتين هو التسليم لله والامتثال لأوامره ونواهيه لا المعنى العلمي منه ، الذي يقابل اليهودية والنصرانية.

وقد سئل علي علیه السلام عن حقيقة الإسلام ، فقال : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين » (1) ففسّر الإسلام بالتسليم له سبحانه ، وحقيقة التسليم هنا هو إرجاع الأمر والنهي إليه سبحانه ، فالواجب ما أمر به والحرام ما نهى عنه ، لا ما أمر به الأحبار والرهبان ، أو نهوا عنه ، ولا يتحقق التسليم إلاّ برفض تحكيم الرجال في الشريعة ، ورد آراء الناس والأحبار والرهبان في الحلال والحرام.

فحقيقة الشرائع السماوية في جميع الأدوار والأجيال كانت أمراً واحداً وهو

ص: 114


1- نهج البلاغة : المختار من الحكم 125.

التسليم لله في فرائضه وعزائمه وحده.

ولأجل ذلك كتب الرسول إلى قيصر عندما دعاه إلى الإسلام ، قوله سبحانه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (1).

وقد أمر سبحانه في آية اُخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعاً إلى اتباع ملّة إبراهيم ، قال سبحانه : ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 95 ).

وصرّح سبحانه بأنّ كلّ نبي جاء عقب نبي آخر ، كان يصرّح بأنّه مصدّق بوجود ذلك النبي المتقدم عليه وكتابه ودينه ، فالمسيح مصدّق لما بين يديه من التوراة ومحمّد صلی اللّه علیه و آله مصدّق لما بين يديه من الكتب وكتابه مهيمن عليه ، كما قال سبحانه : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ، ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة : 46 ، 48 ).

وهذه النصوص كلّها تعبّر عن وحدة اُصول الشرائع وجذورها ولبابها.

وعلى هذه فرسالة السماء إلى الأرض ، رسالة واحدة في الحقيقة مقولة بالتشكيك ، متكاملة عبر القرون ، جاءت بها الرسل طوال الأجيال ، وكلّهم يحملون إلى المجتمع البشري رسالة واحدة لتصعد بهم إلى مدارج الكمال ، وتهديهم إلى معالم الهداية ومكارم الأخلاق.

نعم كان البشر في أوّليات حياتهم يعيشون في غاية البساطة والسذاجة ، فما كانت لهم دولة تسوسهم ، ولا مجتمع يخدمهم ولا ذرائع تربطهم ، وكانت أواصر الوحدة ووشائج الارتباط بينهم ضعيفة جداً ، فلأجل ذاك القصور في العقل ، وقلة التقدم ، وضعف الرقي ، كانت تعاليم أنبيائهم ، والأحكام المشروعة لهم ، طفيفة في غاية البساطة ، فلما أخذت الانسانية بالتقدم والرقي ، وكثرت المسائل يوماً فيوماً ، اتسع نطاق الشريعة

ص: 115


1- السيرة الحلبية ج 2 ص 275 ، مسند أحمد ج 1 ص 262.

واكتملت الأحكام تلو هذه الأحوال والتطورات.

فهذه الشرائع ( مع اختلافها في بعض الفروع والأحكام نظراً إلى الأحوال الاُممية والشؤون الجغرافية ) لا تختلف في اُصولها ولبابها ، بل كلها تهدف إلى أمر واحد ، وتسوق المجتمع إلى هدف مفرد ، والاختلاف إنّما هو في الشريعة والمنهاج لا في المقاصد والغايات كما قال سبحانه : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ) ( المائدة - 48 ) (1).

وقال سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الجاثية - 18 ).

وخلاصة القول : إنّ السنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللانجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ولكن الدين هو الاُصول والعقائد والأحكام التي تساير الفطرة الإنسانية ولا تخالفها ، واحد.

وهاتان الآيتان لا تهدفان إلى اختلاف الشرائع في جميع موادها ، ومواردها اختلافاً كلّياً بحيث يكون من النسبة بينها نسبة التباين ، كيف وهو سبحانه يأمر نبيّه بالاقتداء بهدى أنبيائه السالفين ويقول : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) ( الأنعام - 90 ).

وتخصيص الاقتداء بالتبعية لسننهم وسيرتهم في دعوة أقوامهم إلى الدين والصبر على أذاهم كما في قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف - 35 ) تخصيص بلا وجه.

فالقول باختلاف الشرائع وتباينها في جميع الموارد لا يرتضيه القرآن والقول باتحاد الشرائع باطل بالضرورة قال سبحانه : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا

ص: 116


1- أي جعلنا لكل من موسى وعيسى ومحمد صلی اللّه علیه و آله أو لكل من اُمم التوراة والانجيل والقرآن شريعة وطريقاً خاصاً إلى ما هو الهدف الأقصى من بعث الرسل ومنهاجاً واضحاً ، والاختلاف بين الكتب والشرائع جزئي لا كلي ، والنسخ في بعض الأحكام لا في جميعها.

يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ ) ( الحج - 67 ).

والقول الوسط هو الأوسط ، والشريعة الكاملة السمحة الصالحة لكلّ زمان وكلّ مكان هي الشريعة التي جاء بها الإسلام ونبيّه الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

ثم إنّه سبحانه يصرح بحكمة اختلاف الشرائع وتعددها بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) ( المائدة - 48 ).

فإنّ الشريعة الواحدة إنّما تصلح لاُمّة مخلوقة على استعداد واحد ، وحالة واحدة كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين كالطير والنمل والنحل ، وأمّا النوع الممتاز كالانسان الذي يرتقي في اطوار الحياة بالتدريج وعلى سنّة الارتقاء فلا تصلح له شريعة واحدة في كل طور من أطوار حياته ، فشدة أحكام الانجيل في الزهد وترك الدنيا والخضوع لكل حاكم وكل معتد لا يمكن أن يؤخذ به في هذا العصر ، ومثله ما في التوراة من أحكام شديدة كما لا يخفى.

نعم جاءت الرسل تترى ، وتواصلت حلقات النبوّة في الأدوار الماضية إلى أن بعث اللّه آخر سفرائه ، فأتم به نعمته وأكمل به دينه ، فأصبح المجتمع البشري في ظل دينه الكامل وكتابه الجامع ، غنياً عن تواصل الرسالة وتعاقب النبوّة ، وأصبح البشر غير محتاجين إلى ارسال أي رسول بعده ، إذ جاء الرسول بأكمل الشرائع وأتقنها وأجمعها للحقوق وبكل ما يحتاج إليه البشر في أدوار حياتهم وأنواع تطوّراتهم وفي الوقت نفسه فيها مرونة تتمشى مع جميع الأزمنة والأجيال ، من دون أن تمس جوهر الرسالة الأصلي بتحوير وتحريف.

ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية.

النصوص القرآنية الدالّة على ختم النبوّة :

اشارة

لقد نص القرآن الكريم على ذلك تنصيصاً لا يقبل الشك والترديد ، ولا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية ، وذلك في مواضع :

ص: 117

النص الأوّل : قوله سبحانه :

( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الأحزاب - 40 ).

توضيحه : تبنّى رسول اللّه زيداً قبل عصر الرسالة ، وكان العرب ينزّلون الادعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج والميراث ، فأراد اللّه سبحانه أن ينسخ تلك السنّة الجاهلية ، فأمر رسوله أن يتزوّج زينب زوجة زيد بعد مفارقته لها ، فلمّا تزوّجها رسول اللّه ، أوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين والمتوغلين في النزعات الجاهلية ، والمنساقين وراءها ، فرد اللّه سبحانه مزاعمهم وطعنهم بقوله : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) من الذين لم يلدهم ومنهم زيد ولكنّه ( رَسُولَ اللّهِ ) وهو لا يترك ما أمره اللّه به ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وآخرهم ختمت به النبوّة فلا نبي بعده ولا شريعة سوى شريعته ، فنبوّته أبدية وشريعته باقية إلى يوم الدين.

الخاتم وما يراد منه :

الخاتم ( سواء كان بفتح التاء كما عليه « عاصم » أم بكسرها ، كما عليه الباقون وعلى الفتح سواء أقلنا أنّه فعل كضارب بمعنى ختمهم ، أم اسم بمعنى آخرهم ، أو بمعنى ما يختم به أي المختوم به باب النبوّة ، كما يختم بالطابع ) لا يفهم منه في المقام إلاّ معنى واحد وهو أنّه قد ختم به باب النبوّة وأوصد بوجوده ودينه وكتابه باب الرسالة فلا نبي بعده أصلاً.

وقد أصفقت على هذا كتب اللغة والتفسير والتاريخ طيلة أربعة عشر قرناً ولم يختلف فيه اثنان ، ولم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه ، فهذه معاجم اللغة وكتب التفسير المؤلفة في العهود الإسلامية السابقة ، بيد أساطين اللغة وفطاحلها وأئمّة التفسير وأبطاله ، ضع يدك على أي واحد منها ، تجدها متضافرة على ما قلناه وسوف ننقل بعض نصوصهم.

ص: 118

والأولى أن نرجع قبل كل شيء إلى نفس القرآن وموارد استعمال هذه المادة فيه ، حتى نستعين بالقرآن الكريم نفسه ، في رفع الابهام :

1. ( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ) ( المطففين - 25 ) أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه ، تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك ، أو مختوم بابه بشي مثل الشمع وغيره ، وذلك آية خلوصه.

2. ( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ) ( المطففين - 26 ) مقطعه رائحة مسك إذا شرب.

3. ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) ( الشوري - 24 ).

4. ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ ) ( يس - 65 ) أي طبع على أفواههم فتوصّد أفواههم وتتكلم أيديهم.

5. ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) ( الجاثية - 23 ).

6. ( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) ( البقرة - 7 ).

7. ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ) ( الأنعام - 46 ).

فإذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم اللّه أنّه لا يؤمن ، يطبع اللّه على قلبه كما يطبع على الشيء بالشمع والطين فيصير قلبه كالمختوم عليه ، لا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء ، فلا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر.

فالختم على الشيء ، بمعنى الطبع عليه كناية عن ختم أمره ، فالختم على القلب يلازم انتهاء أمره وامتلاءه بالكفر والالحاد فلم يبق فيه موضع لنور الحق وكلماته ، كما أنّ ختم الورقة وطبعها بالطابع علامة أنّ الكاتب بلغ ما أراد من كتابته فيها ، وانتهى غرضه

ص: 119

ومقصده.

والختم على النبوّة عبارة عن أنّه أوصد باب النبوّة وطبع على بابها ، فهو مقفل إلى يوم القيامة ، لا يفتح في وجه أحد.

وعلى أي تقدير فالناظر في هذه الآيات لا يتلقّى من تلك المادة إلاّ معنى واحداً وهو الانتهاء ، أو ما يلازمه من الطبع على الشيء.

وقد أوضحه إمام اللغة ابن فارس في معجمه وقال : « الختم » له أصل واحد وهو البلوغ آخر الشيء ، يقال ختمت العمل ، وختم القارئ السورة ، فأمّا الختم وهو الطبع على الشيء ، فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلاّ بعد بلوغ آخره في الإحراز ، والخاتم مشتق من الختم ، لأنّه به يختم ، ويقال : الخاتم بالكسر ، والخاتام والخيتام.

والنبي صلی اللّه علیه و آله خاتم الأنبياء لأنّه آخرهم ، وختام كل مشروب ، آخره ، قال اللّه تعالى : ( خِتَامُهُ مِسْكٌ ) ، أي أنّ آخر ما يجدونه عند شربهم إياه رائحة المسك.

وقال أبو البقاء العكبري : الخاتم بفتح التاء على معنى المصدر ، أو هو فعل مثل قاتل بمعنى ختمهم ، وقال الآخرون : اسم بمعنى آخرهم ، وقيل : هو بمعنى المختوم به النبيون ، كما يختم بالطابع ويقرأ بكسرها ، بمعنى آخرهم (1).

وقال الجوهري في صحاحه : ختمه ويختمه ختماً وختاماً ، طبع على قلبه : جعله لا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء ، وختم الشيء : بلغ آخره ، والختام ككتاب : الطين يختم به على الشيء ، والخاتم ما يوضع على الطينة ، وحلي للاصبع ...

قال الفيروز آبادي في قاموسه : ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختم ، شدّد للمبالغة ، وختم اللّه له بخير منه ، وختمت القرآن : بلغت آخره ، واختتمت الشيء : نقيض افتتحته ، وإلخاتم بكسر التاء وفتحها ، والخيتام والخاتام : كلّها بمعنى واحد ،

ص: 120


1- التبيان في اعراب القرآن ج 2 ص 100.

والجمع الخواتيم ، وتختمت : إذا ألبسته ، وخاتمة الشيء : آخره.

ومحمد صلی اللّه علیه و آله خاتم الأنبياء.

والختام ، الطين الذي يختم به ، وقوله تعالى : ( خِتَامُهُ مِسْكٌ ) أي آخره ، لأنّ آخر ما يجدونه رائحة المسك.

قال ابن منظور في لسان العرب : ختام القوم ، أقصاهم ، ختام القوم وخاتمهم آخرهم ، محمد صلی اللّه علیه و آله خاتم الأنبياء ، والخاتم من أسماء النبي صلی اللّه علیه و آله ففي التنزيل : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، أي آخرهم ، وقد قرأوا « خاتم » بالفتح ، ومن أسمائه « العاقب » أيضاً ومعناه آخر الأنبياء.

قال أبو محمد الدميري في منظومته :

والخاتم الفاعل قل بالكسر *** وما به يختم ، فتحاً يجري (1)

وقال البيضاوي : وخاتم النبيين آخرهم الذي ختمهم ، أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح.

وفي تفسير الجلالين : وفي قراءة بفتح التاء ، كآلة الختم ، أي به ختموا.

وقال الراغب في مفرداته : يطلق الختم على البلوغ إلى آخر الشيء ، نحو ختمت القرآن ، أي انتهيت إلى آخره ، وخاتم النبيين ، لانّه ختم النبوّة أي تممها بمجيئه.

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة والنصوص الدالة على تظافر اللغة والتفسير على معنى واحد ، ولباب هذه النصوص : أنّ لمادة هذه الكلمة معنى واحداً وهو الانتهاء والوصول إلى آخره ، وأمّا الخاتم المشتق منها فعلى الكسر بمعنى الآخر ، وعلى الفتح أمّا فعل كضارب ، أو اسم بمعنى ما به يختم.

وأمّا اطلاقه على الحلية التي تزيّن بها الاصبع ، فلأجل أنّ الدارج في عهد الرسالة طبع الكتاب بالخاتم ، فكانت خواتيمهم طوابعهم ، لا أنّه وضع لها ابتداء.

ص: 121


1- التيسير في علوم التفسير ص 90.

ويدل على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته : انّ رسول اللّه أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام ، وكتب إليهم كتاباً ، فقيل يا رسول اللّه أنّ الملوك لا يقرؤن كتاباً إلاّ مختوماً ، فاتخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يومئذ خاتماً من فضة - فصّه منه - نقشه ثلاثة أسطر : محمد رسول اللّه ، وختم به الكتب (1).

قال ابن خلدون في مقدمته عند البحث عن شارات الملوك : أمّا الخاتم فهو من الخطط السلطانيةوالوظائف الملوكية ، والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده ، وقد ثبت في الصحيحين ، أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أراد أن يكتب إلى قيصر ، فقيل له : إنّ العجم لا يقبلون الكتاب ، إلاّ أن يكون مختوماً ، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه : محمد رسول اللّه.

قال البخاري : جعل ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به وقال : لا ينقش أحد مثله ، قال : وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ، ثم سقط من يد عثمان في بئر اريس ...

وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه :

وذلك أنّ الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الاصبع ومنه تختم : إذا لبسه ، ومنه ختمت الأمر : إذا بلغته ، وختمت القرآن ، ومنه خاتم النبيين ، وخاتم الأمر ، ويطلق على السد الذي يسد به الأواني والدنان ، ويقال : ختام ، وقد غلط من فسّر هذا بالنهاية والتمام ، قال : آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك ، وليس المعنى عليه وإنّما هو من الختام الذي هو السداد ، لأنّ الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار ، يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأنّ سدادها من المسك وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين المعهودين في الدنيا ..

وأنّ الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في دواة من الطين أو المداد ، ووضع على صفح القرطاس بقى أكثر الكلمات في ذلك الصفح ، وكذلك إذا طبع به على جسم ليّن كالشمع فإنّه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه ... إلى أن قال :

ص: 122


1- الطبقات الكبرى ج 1 ص 258.

ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأنّ الكتاب إنّما يتم العمل به بهذه العلامات ، وهو من دونها ملغى ليس بتمام ، ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة ، أي علامته ... إلى آخر ما أفاده.

كل ما ذكره ذلك الفيلسوف الخبير بأسرار التاريخ ، شواهد على ما ذكرنا فراجع بقية كلامه (1). تشكيكان حول دلالة الآية على كون نبي الإسلام خاتماً :

البهائية حزب سياسي ، لها طابع المذهب ، قد اختلقها الميرزا حسين علي النوري المتوفّى عام 1309 ه ق في عكا ، ويليهم في العقيدة والغاية « القاديانية » ومؤسسها « غلام أحمد القادياني » ينسب إلى إحدى قرى البنجاب ( قاديان ) ، كان في الرعيل الأوّل من فضلاء البنجاب وعلمائهم ، لكنّه ادّعى عام 1892 أنّه المجدد للقرن الرابع عشر الهجري ، وفق الحديث النبوي : « سيأتي على رأس كل مائة سنة رجل يجدد لها دينها » ، قال : أنا المبعوث لهذا القرن ، فاتبعوني لعلّكم تفلحون ، فأطاعته عدة من الخواص والعوام زرافات ووحداناً ، ولما أحس بروح التبعية فيهم ، ادّعى أنّه المهدي والمسيح الموعود ، ثم ادّعى لنفسه النبوّة وأنّه نبي كمثل أنبياء بني اسرائيل الذين كانوا معه ، وأنّه نبي الاُمّة الإسلامية بغير مصحف ، وعند ذلك هجم الناس عليه ليقتلوه ، لولا تدخل الحكومة الانكليزية ، وبقي على ما ادّعى إلى أن اخترمته المنية عام 1908 ولم يستخلف أحداً ، فحدث بينهم خلاف عظيم ، فمالت فئة من أتباعه إلى ابنه « بشير الدين أحمد » وتبعت فئة قليلة منهم « الأمير محمد علي » الذي شد أزر غلام أحمد من ابتداء الأمر ، وقرروا أن يجعلوا لهم جميعة اُخرى ، ويجتنبوا اتباع ابن غلام أحمد ، وجعلوا مركزهم في « لاهور » عاصمة البنجاب ، واشتهروا باسم الأحمدية اللاهورية ، ومحمد علي هو مترجم

ص: 123


1- مقدمة ابن خلدون ج 1 ص 220.

القرآن بالانكليزية.

وبين الطائفتين اختلاف في الاُصول والفروع ، فالأحمدية منهم مؤمنة بأنّ النبي خاتم الأنبياء ولا يؤمنون بنبوّة غلام أحمد ولا يكفّرون المسلمين مهما كانت عقائدهم ، وهو واتباعه يصلّون خلف كل مسلم ، بشرط أن لا يكفّرهم ، وأمّا القاديانية منهم ، فهم يعتقدون أنّ غلام أحمد كان نبياً بلا كتاب سماوي ، كأنبياء بني اسرائيل ، ويؤوّلون آية : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) تأويلاً يتوافق على زعم الطائفة المضلة - على ما سيأتي.

نعم تشترك الفئتان في الاعتقاد بحرمة الجهاد ، لأنّ مسيحهما قد بعث وجاء لنشر السلام العام والمحبة ، ولزوم الخضوع والطاعة لمن تسلّط ، والكد والكدح في اكتساب الأموال والنقود ، وأنّ الوحي مستمر إلى الأبد ، إلى غير ذلك من المخازي لتضليل بسطاء الاُمّة عن الإسلام ، وعند التحقيق يظهر أنّ الاستعمار خلق « البابية والقاديانية » لإيجاد التشكيك بين عوام الشيعة والسنّة ، وكلا الاخوين « حية بطن واد » (1).

ولما أرادت الفرقة الضالّة المضلّة البهائية أن تعرّف زعيمها وقائدها ، رسولاً من اللّه إلى الناس ، كسائر المرسلين ، من موسى والمسيح ومحمد صلی اللّه علیه و آله حاولت لتدعيم مدعاها أن تشكك في دلالة الآية على ما اتفق عليه المسلمون منذ نزولها إلى الآن ، وقد جاءت في ذلك بتشكيكين لا يقصران عن شبه السوفسطائية في بداهة الاُمور ودونك بيانهما مع دحضهما بأوضح الوجوه :

التشكيك الأوّل :

خلاصة هذا الوجه ترجع إلى التصرف في معنى « الخاتم » كما أنّ التشكيك الثاني

ص: 124


1- وقد تحدثت مجلة العرفان عن الأحمدية والقاديانية في عدة من أعدادها ، فراجع المجلد الثامن عشر في مقال تحت عنوان : « الإسلام في الهند » والمجلد التاسع عشر ص 94 والعشرين ص 233 و 352 و 489 وفيها مقالات بأقلام جماعة من الباحثين تشرح لنا هوية هذه الفئة.

يرجع إلى التصرف في معنى « النبيين ».

بيانه أنّ قوله سبحانه : ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) لا يدل على انتهاء النبوّة بوجوده صلی اللّه علیه و آله لاحتمال كون المراد من « الخاتم » الحلية التي تزين بها الاصبع وعندئذ يصير الهدف من اطلاق « الخاتم » عليه صلی اللّه علیه و آله واستعارته له هو تشبيه نبي الإسلام بالخاتم في الزينة وأنّه صلی اللّه علیه و آله بلغ من الكمال مبلغاً حتى صار زينة الأنبياء ، فهو بين تلك العصابة كالخاتم في يد لابسه.

وهنا احتمال آخر تسقط معه أيضاً دلالة الآية على ما يرتأيه المسلمون من اختتام النبوّة به صلی اللّه علیه و آله وهو جواز أن يكون المراد من خاتم النبيين أنّه مصدق للنبيين وما اُنزل إليهم من الصحف والكتب ، كما قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة - 48 ) وقد تقدمت تصاريح التاريخ على أنّ الدارج في عصر الرسالة هو طبع الكتاب وتصديق ما فيه بالخاتم ، فيصير اطلاق الخاتم عليه صلی اللّه علیه و آله واستعارته له ، لأجل أنّه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين ومصدقهم كالخاتم الذي هو مصدق لمضامين الكتب والصحف ، فأين الدلالة على انسداد باب النبوّة (1).

الجواب :

انّ هذا التشكيك بمعزل عن التحقيق ، بل لا يستحق أن يطلق عليه اسم التشكيك والشبهة ، ولا يعرج عليه أي عربي أصيل ، وأي عارف باللغة العربية ، بل أي شخص له أدنى إلمام بها ولا يتردد في مخيلة أي ابن انثى ، إذا كان ذا فكر سليم وذوق مستقيم ، ولا يجود احتماله في كلمات القدامى والمتأخّرين.

إذ لم تعهد استعارة الخاتم في مصطلح العرف للشخص ، لغاية الزينة والتصديق على وجه المجاز ، أو استعماله فيهما على وجه الحقيقة منذ عصر الرسالة إلى يومنا هذا.

وقد عرفت المعنى الحقيقي لتلك الكلمة ، ولم تكن الزينة أو التصديق أحد

ص: 125


1- الخاتمية ص 23.

معانيه ، وأمّا استعماله فيهما مجازاً ، فيتوقف على حصول أمرين :

الأوّل : أن يكون الاستعمال متعارفاً ودارجاً بين أهل اللسان ، أو يكون ممّا يستحسنه الطبع والذوق ، وكلاهما منتفيان (1).

الثاني : وجود قرينة مقالية أو حالية صارفة عن المعنى الحقيقي ، وإلا فيحمل على المعنى الموضوع له ، وهي أيضاً منتفية.

ولما كانت هذه الشبهة أشبه شيء بحديث خرافة ، وشبه السوفسطائية لم يلتفت إليه أحد من مناوئي الإسلام ، حتى مؤسس الفرقة الضالّة وزعيمها الأكبر ، بل فسّر هو نفسه في بعض كتبه (2) ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) على خلاف ما ذكر في الشبهة ، وقال : « والصلاة والسلام على سيد العالم ، ومربي الاُمم ، الذي به انتهت الرسالة والنبوّة وعلى آله وأصحابه دائماً سرمداً ... ».

وصرّح بذلك في « ايقانه » (3) وفسره بالختم والانتهاء ، نعم أتى بعد ذلك بتأويلات باردة يشمئز منها الطبع ، وإنّما اوّل ما اوّل ليمهد الطريق لدعوى نبوّته وسفارته من اللّه سبحانه.

هلم معي نسأل مبدع الشبهة عن أنّه لماذا خص سبحانه « الخاتم » بالاستعارة ، مع أنّ التاج والاكليل ، أولى وأبلغ في بيان المقصود ( الزينة ) ؟

هلم نسأله عن أنّه لو صح ما أراد ( من أنّ المراد أنّه صلی اللّه علیه و آله مصدق النبيين ) ولن يصح ، ولو صحت الأحلام ، فلماذا عدل سبحانه عن أوضح التعابير وأفصحها ، ولم يقل « مصدق النبيين » كما عبّر به في غير واحد من السور (4) عندما أراد توصيف النبي بكونه

ص: 126


1- ولأجل ذلك لا تجد في الآداب العربية ولا الفارسية ولا غيرها من اللغات استعارة الخاتم للزينة والتصديق.
2- اشراقات ص 292.
3- ايقان ص 136.
4- سورة البقرة : 41 و 91 و 97 - آل عمران : 3 وغيرهما.

مصدقاً لمن تقدم عليه وأتى في المقام بتعبير غير مألوف ولا مأنوس.

نحن نسأله : انّ تصديق من مضى من النبيين ، ليس صفة خاصة له صلی اللّه علیه و آله فانّ المسيح كان أيضاً مصدقاً للماضين منهم ، وما معهم من الكتب والصحف ، كما حكى عنه سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف - 6 ) ، وعند ذاك فلماذا عرّفه سبحانه بوصف مشترك بين الأنبياء جميعاً.

ماذا يجينا المبدع إذا سألناه ، وقلنا له : إنّ تشبيه الرسول الأعظم بالخاتم في التصديق وليد الأحلام الباطلة ، وشتان بينه صلی اللّه علیه و آله وبين الخاتم ، حتى في نفس وجه الشبه الذي اختلقه المبدع ، فانّ الخاتم ليس هو نفسه مصدقاً ، وإنّما هو آلة التصديق وما يصدق به ، وإنّما المصدق انّما هو كاتب الصحيفة ، وهذا بخلاف النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّه هو المصدق نفسه.

لا أدري ماذا يجيب المشكك عن هذه الأسئلة ؟

نعم اختلقت هذا التشكيك بعض الأقلام المستأجرة ، لتأييد أقاويل تلك الفئة وتسويل أباطيلهم ، والكاتب أعرف ببطلانها ، وقد عرفته الاُمّة ، وعرفت نواياه ، وما تخلّق به من روحيات ونفسيات.

التشكيك الثاني :

إنّ منصب النبوّة غير الرسالة ، وما هو المختوم إنّما هو الأوّل دون الثاني فباب النبوّة وإن كان مختوماً بنص الآية ، لكن باب الرسالة مفتوح على مصراعيه في وجه الاُمّة ، ولم يوصد ولن يوصد أبداً.

واجلاء الحق في هذا المقام يتوقف على الوقوف على ما هو المقصود من النبي والرسول في الكتاب العزيز ، وقد عقدنا لبيان الفرق بين النبي والرسول فصلاً خاصاً (1)

ص: 127


1- سيوافيك هذا الفصل في الجزء الرابع من هذه الموسوعة.

وأوضحنا فيه حال هذا التشكيك وجعلناه في مدحرة البطلان وأقمنا الدليل على أنّ ختم النبوّة يلازم ختم الرسالة.

وخلاصة ما قلناه هناك : إنّ النبي حسب ما يظهر من آيات الذكر الحكيم وكلمات اعلام اللغة ، هو الانسان الموحى إليه من اللّه باحدى الطرق المعروفة ، وأمّا الرسول فهو الانسان (1) القائم بالسفارة من اللّه بابلاغ قول أو تنفيذ عمل وإن شئت قلت : النبوّة منصب معنوي يستدعي الاتصال بالغيب باحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسل ( بالفتح ) من جانبه سبحانه لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج أو ابلاغه إلى المرسل إليهم.

وبعبارة ثالثة : النبوّة تحمل الأنباء من اللّه والرسالة تنفيذ ما تحمله من الانباء بالتبشير والانذار والتبليغ وإلتنفيذ.

ولأجل ذلك يقترن لفظ الوحي بلفظ « النبيين » ويقول سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) ( النساء - 163 ).

ولو اقترن لفظ الوحي بالرسول في آية اُخرى ، فلمناسبة اُخرى اقتضت العدول فيه كما أنّه يقترن في القرآن إلزام الانسان بتبليغ كلام عنه سبحانه أو تنفيذ عمل في الخارج بلفظ « الرسول » ويقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ( المائدة - 67 ).

وقال سبحانه : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ) ( مريم - 19 ).

وعلى ذلك فالنبي أمّا صيغة لازم بمعنى صاحب النبأ ومتحمله ، أو صيغة متعد بمعنى المخبر عنه سبحانه ، والرسول هو الموظّف لتحقيق ما تحمله النبي من جانب اللّه سبحانه عن طريق الوحي.

فلو فرض أنّه أوصد باب النبوّة وختم نزول الوحي إلى أي انسان كما يصرح به

ص: 128


1- المقصود هو الرسول المصطلح فلا ينافي اطلاقه على الملك والشخص العادي في القرآن الكريم.

لفظ « خاتم النبيين » فعند ذاك يختم باب الرسالة الالهية أيضاً بلا ريب ، لأنّ الرسالة لا تهدف سوى تنفيذ ما يتحمله النبي من جانب اللّه عن طريق الوحي فإذا انقطع الوحي والاتصال بالمبدأ الاولى والاطلاع على ماعنده ، لا يبقى موضوع للرسالة أبداً ، فإذا كان محمد صلی اللّه علیه و آله خاتماً للنبيين أي مختوماً به الوحي والاتصال فهو خاتم الرسل والمرسلين طبعاً ، لأنّ رسالة الانسان من جانب اللّه سبحانه ، عبارة عن بيان أو تنفيذ ما أخذه عن طريق الوحي ، فلا تستقيم رسالة أي انسان من جانبه سبحانه إذا انقطع الوحي والاتصال به تعالى ولا يقدر أن يقول أي ابن اُنثى بالرسالة من ناحيته سبحانه إذا كانت النبوّة موصدة باعترافه.

هذا خلاصة ما قلناه هناك وسيوافيك تفصيله بدلائله وشواهده من الكتاب والسنّة وكلمات اعلام اللغة.

التنصيص الثاني على الخاتمية :

التنصيص الثاني (1) على الخاتمية :

هلم معي نقرأ النصوص الباقية الدالة على كون نبيّنا خاتم الرسل ، وانّ رسالته خاتمة الرسالات حتى يتضح الحق بأجلى مظاهره ، فمن النصوص قوله سبحانه :

ص: 129


1- الهدف الأسمى من الاستدلال بهذه الآية وما تليها ، هو نفي قسم خاص من أقسام النبوّة ، أي النبوّة التشريعية الناسخة ، فهذه الآية وأمثالها تكذّب كل من ادّعى لنفسه منصب النبوّة التشريعية ، وادّعى أنّه نبي كموسى وعيسى ومحمد ، وانّ له كتاباً وشريعة ناسخة لما قبلها من الكتب والشرائع ، إذ لا يعقل أن يكون لمجتمع واحد كتابان مختلفا الأهداف والأغراض ، أو نذيران متعددا الغايات. فلا يصح أن يكون الفرقان والقرآن نذيراً لهم، وفي الوقت نفسه يكون كتاب آخر، يخالفه في المضمون نذيراً لهم أيضاً، وقس على ذلك سائر ما يرد عليك من الآيات. نعم هذه الآية ونظائرها لا تفي بنفي النبوة التبليغية المحضة، أو التشريعية غير الناسخة، بأن تكون النسبة بين الشريعتين نسبة الأقل إلى الأكثر، أو المجمل إلى المفصل، والدليل الوحيد في القرآن، على انسداد أبواب النبوّاة على اطلاقها، هي الآية المتقدمة، وما سيوافيك من الأحاديث المتواترة، الدالة على اغلاق باب النبوة على وجه الأمة بعامة أنواعها واقسامها فلاحظ.

( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان - 1 ).

وصريح النص أنّ الغاية من تنزيل الفرقان على عبده ( رسولنا ) كون القرآن نذيراً للعالمين ، أي الخلائق كلها من بدء نزوله إلى يوم يبعثون.

قال « الراغب » في مفرداته : العالم اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأعراض وهو في الأصل اسم لما يعلم به ، كالطابع والخاتم ، لما يطبع به وما يختم به ، وجعل بناءه على هذه الصفة ، لكونه كالآلة والعالم آلة ، في الدلالة لصانعه ، وأمّا جمعه فلأن كل نوع من هذه قد يسمى عالماً ، فيقال عالم الانسان وعالم الماء ، وعالم النار ، وأمّا جمعه على السلامة فلكون الناس من جملتهم والانسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب عليه حكمه ، وقيل إنّما جمع هذا الجمع لأنّه عنى به أصناف الخلائق من الملائكة والجن والناس دون غيرها وروي هذا عن ابن عباس وقال جعفر بن محمد عنى به الناس ، وجعل كل واحد عالماً (1).

وقال : العالم عالمان : الكبير وهو الفلك بما فيه والصغير لأنّه مخلوق على هيئة العالم (2).

قال الزمخشري : العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض ، وجمع ليشمل كل جنس مما سمّي به ، وأمّا جمعه بالواو والنون مع كونه اسماً غير صفة وإنّما يجمع بها صفات العقلاء ، أو ما في حكمها من الأعلام ، فلأجل معنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم (3).

ص: 130


1- هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، ويشهد له ما نقله سبحانه ، عن قوم لوط في خطابهم له ، عند نزول ضيوفه : ( قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللّهَ وَلا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ( الحجر : 68 - 70 ) أي قالوا في جوابه : أوليس كنا قد نهيناك عن أن تستضيف أحداً من الناس ، ولا معنى لأن ينهوه عن الأجرام السماوية ، أو الجن والملائكة. ونظيره قوله سبحانه - حكاية عن لوط في الرد علی قومه: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) (الشعراء - 165) فالمراد من العالمين فيه هو الناس بلا ريب.
2- المفردات للراغب ص 349.
3- الكشاف ج 1 ص 6.

وعلى أي تقدير سواء أكان المراد من العالمين في الآيات الآخر جميع المخلوقات التي يحويها الفلك من الجواهر والأعراض ، أم كان المراد الإنس والجن ، فالمراد منه في الآية بقرينة كونه « نذيراً » خصوص الانسان أو مطلق من يعقل ، فالآية صريحة في أنّ انذاره لا يختص بناس دون ناس ، أو بزمان دون زمان ، فهو على اطلاقه يعطي كونه نذيراً للاُمّة البشرية بلا قيد ولا حد.

ولقائل أن يعترض ويقول : ربّما يطلق « العالمون » ويراد منه الجم الغفير من الناس كما في قوله سبحانه في تفضيل بني اسرائيل : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة - 47 ) ويقال رأيت عالماً من الناس يراد به الكثرة وعند ذاك لا تكون الآية صريحة فيما نرتئيه.

والجواب : انّ المتبادر من العالمين في مصطلح العرف والقرآن هو المعنى العام وهو عبارة أمّا عن الخلائق عامة كما عليه قوله سبحانه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ) ( الشعراء 23 - 24 ).

وغيره من الآيات الكثيرة التي استعملت فيها كلمة « العالمين » في الخلق كلّه ، أو نوع ما يعقل من الملائكة والإنس والجن وعليه قوله تعالى : ( وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة - 251 ).

وقوله سبحانه : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 108 ) ، أو خصوص الإنس وعليه قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 96 ).

وقوله سبحانه : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) ( الشعراء - 165 ).

وقوله سبحانه : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف - 80 ، وقريب منها ما في العنكبوت - 28 ).

وعلى ما ذكرنا فلا يسوغ أن يحمل هذ اللفظ على غير هذه المعاني ، إلاّ بقرينة صارفة عن ظاهره وهي غير موجودة في المقام.

ص: 131

وأمّا قوله سبحانه : ( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) فليس ظاهراً فيما فسره صاحب الكشاف ، من الجم الغفير ، ولأجل ذلك فسّره حبر الاُمّة بأهل عالمي زمانهم كلهم ، لا بالجم الغفير ، كما فسّر به قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 42 ).

وعلى أي حال سواء أفسّرناه بالجم الغفير أم خصصناه بأهل عالمي زمانهم فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهره ، حيث دل القرآن على أنّ الاُمّة الإسلامية أفضل الاُمم ، لقوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران - 110 ).

ونظير تلك الآية ما دل على اصطفاء مريم على نساء العالمين ، كما قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 42 ) فالمراد منه هو نساء عالمي أهل زمانها ، لما اُثر عن النبي وآله من عدم فضلها على ابنته فاطمة علیهاالسلام .

أخرج ابن سعد ، عن مسروق ، عن عائشة في حديث : انّ النبي صلی اللّه علیه و آله أسر إلى فاطمة عند مرضه وقال : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الاُمّة ، أو نساء العالمين (1).

ورواه أبو نعيم الاصفهاني أيضاً بهذه العبارة (2).

وأخرج مسلم والترمذي والبخاري في صحاحهم عن عائشة ، قالت : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة في اُخريات أيامه : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الاُمّة (3).

روى الحديث بألفاظه المختلفة العلاّمة المجلسي في بحاره ، فراجع (4).

ولولا هذه المأثورات عمّن نزل عليه القرآن لكان الواجب الأخذ بظاهرها والحكم

ص: 132


1- الطبقات الكبرى ج 8 ص 27 ، حلية الأولياء ج 2 ص 40.
2- الطبقات الكبرى ج 8 ص 27 ، حلية الأولياء ج 2 ص 40.
3- التاج الجامع للاُصول ج 3 ص 314.
4- بحار الأنوار ج 43 ص 36.

بتفضيلها ( مريم ) على نساء العالمين جميعاً.

على أنّه يمكن الأخذ باطلاق قوله سبحانه : ( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) والقول بتفضيلهم على الناس كلّهم بتقريب أنّ ملاك فضلهم على غيرهم ، تخصيصهم بأشياء من بين الاُمم إذ انزل عليهم المنّ والسلوى ، وبعث فيهم رسلاً ، وأنزل عليهم الكتب ونجّاهم من فرعون وملائه إلى غير ذلك مما خص به تلك الاُمّة من بين الناس ولا يلزم منه تفضيل واحد منهم على غيرهم (1).

وعلى أي تقدير فالمتبع هو ظاهر الآية ما لم يدل دليل على خلافه ، وليست في المقام قرينة تصرف قوله سبحانه : ( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) عن ظاهره وصريحه.

النص الثالث من القرآن على الخاتمية :

ومن النصوص قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصّلت 41 - 42 ).

والمقصود من « الذكر » هو القرآن ، لقوله سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران - 58 ).

وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل - 44 ).

والضمير في « لا يأتيه » يرجع إلى « الذكر » ومفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من أي جهة من الجهات ، فلا يأتيه البطل بأي صورة متصورة ، ودونك صوره :

1. لا يأتيه الباطل : لا ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء.

ص: 133


1- مجمع البيان ج 1 ص 102.

2. لا يأتيه الباطل : لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه بأن يجعله سدى ، فهو حق ثابت لا يبدل ولا يغير ولا يترك.

3. لا يأتيه الباطل : لا يتطرق في اخباره عمّا مضى ولا في اخباره عمّا يجيء ، الباطل ، فكلّها تطابق الواقع.

وعلى أي تقدير فمحصل الآية بحكم الاطلاق المستفاد من قوله سبحانه : « لا يأتيه » أنّ القرآن حق لا يدخله الباطل إلى يوم القيامة.

ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر - 9 ) أي نحفظه عن تطرق أي بطلان إليه إلى يوم البعث ، كما هو أيضاً مقتضى اطلاقه.

والحق المطلق الذي لا يدانيه الباطل أبداً ، والمحفوظ عن تسلل البطلان إليه إلى يوم القيامة كما هو ظاهر الآيتين ، يمتنع أن يكون حجّة محدودة ، بل يكون متبعاً لا إلى غاية خاصة وأمد محدود ، لأنّ خاصية الحق المطلق والمصون عن تطرق البطلان مطلقاً هو كونه حجة لا إلى حد خاص واللّه سبحانه عهد : ( لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الانفال - 8 ).

فإذا كان القرآن حقاً مطلقاً مصوناً عن تسلل البطلان إليه ، ومتبعاً للناس إلى يوم القيامة ، يجب عند ذلك ، دوام رسالته وثبات نبوّته وخاتمية شريعته.

وإن شئت قلت : إنّ الشريعة الجديدة إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقة المحقة التي لا يقارنها ولا يدانيها الباطل أو غيرها ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى الثانية ، وعلى الثاني فامّا أن تكون الثانية حقّة كالاُولى ، فيلزم كون المتناقضين حقاً ، أو يكون الاُولى حقّة دون الاُخرى ، فهذا هو المطلوب.

والرسول صلی اللّه علیه و آله لم يزل يبيّن شريعته ، بالكتاب الحق الذي لا يدانيه الباطل وبسنّته المحكمة التي لا تصدر عنه إلاّ بإيحاء منه سبحانه ، كما قال : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) ( النجم : 3 - 5 ) وعلى أي تقدير فالآية

ص: 134

صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن ، وشريعة غير الإسلام فتدل بالملازمة على عدم النبوّة التشريعية بعد نبوّته صلی اللّه علیه و آله .

النص الرابع من القرآن على خاتمية الرسول صلی اللّه علیه و آله :

ومن النصوص قوله تعالى : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام - 19 ) وفسره أمين الإسلام الطبرسي بقوله : أي لا خوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، ولذا قال النبي صلی اللّه علیه و آله : من بلغه أنّي أدعو إلى أن لا إله إلاّ اللّه فقد بلغه ، أي بلغته الحجة وقامت عليه ، حتى قيل من بلغه القرآن ، فكإنّما رأى محمداً صلی اللّه علیه و آله وسمع منه وحيث ما يأتي القرآن ، فهو داع ونذير (1).

قوله سبحانه : ( وَمَن بَلَغَ ) معطوف على الضمير المنصوب في قوله : ( لأُنذِرَكُم ) لا على الفاعل المستتر.

وقد وافاك توضيح مفاد الآية والتوفيق بينها وبين قوله سبحانه : ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) عند البحث عن كون رسالة الرسول عالمية (2).

النص الخامس على الخاتمية :

ومن النصوص قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( سبأ - 28 ).

المتبادر من الآية ، كون ( كَافَّةً ) حالاً من الناس قدمت على ذيها ، وتقدير الآية : « وما أرسلناك إلاّ للناس كافة بشيراً ونذيراً ».

ويحتمل كونها حالاً من الضمير المنصوب في « أرسلناك » ومفاد الآية : وما أرسلناك إلاّ أن تكفّهم وتردعهم. ولكنّه ضعيف جداً ، إذ لا حاجة عندئذ إلى لفظ

ص: 135


1- مجمع البيان ج 3 ص 282.
2- راجع ص 63 - 70 من كتابنا هذا.

« كافة » بعد تذييل الجملة بقوله : ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) إذ لا معنى للكف والردع إلاّ تخويفهم عن عذابه وعقابه حتى يرتدعوا بالتأمل فيما أوعد اللّه في كتابه العزيز ولسان نبيّه صلی اللّه علیه و آله على مقترفي الجرائم ، وليس ذلك إلاّ نفس الانذار الوارد في الآية :

أضف إليه أنّه لم يستعمل لفظ « كافّة » في القرآن إلاّ بمعنى عامة كقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ( البقرة - 208 ).

وقوله عز وجل : ( وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) ( التوبة - 36 ).

وقوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ) ( التوبة - 122 ).

وكل ذلك يؤيد كون ( كَافَّةً ) بمعنى عامة حالا من الناس ، والآية مع كونها دليلاً على كون رسالته عالمية ، دليل على كونه مبعوثاً إلى كافة الناس إلى يوم يبعثون (1).

النص السادس على الخاتمية :

ثم إنّه سبحانه جعل نبيّه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين ، وكتابه خاتم الكتب ، وجعله مهيمناً على جميع الكتب النازلة من قبل.

قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) ( المائدة - 48 ).

والمهيمن هو الرقيب الشهيد وقد فسّر باُمور اُخرى يقرب بعضها من بعض فهو

ص: 136


1- ويؤيد ذلك ما رواه ابن سعد في « طبقاته الكبرى » عن خالد بن معدان قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي فإليّ وحدي. ونقل عن أبي هريرة، أنّ النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم قال: أرسلت إلی الناس كافة، وبي ختم النبييون (الطبقات الكبری ج1 ص 192) وكل ذلك دليل علی أنّ الصحابة لم يفهموا من الآيظ إلا ما استظهرناه.

مراقب أمين يشهد على الكتب النازلة قبله بالصحة في مورد ، والبا لتحريف في مورد آخر. ولو أراد أهل الكتب الوصول إلى الحق الواضح لرجعوا إلى ذلك الكتاب ، لأنّهم لم يؤتوا علم كتابهم كلّه ، بل : ( أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ ) ( آل عمران - 23 ) وأنّهم : ( ... نَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) (1) ، وكانوا : ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) (2).

وفسره العلاّمة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

هيمنة الشيء على الشيء كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه ومراقبته وأنواع التصرف فيه ، وهذا حال القرآن الذي وصفه اللّه تعالى بأنّه تبيان كلّ شيء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية ، يحفظ منها الاُصول الثابتة غير المتغيرة ، وينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليه التغير والتبدل ممّا يناسب حال الانسان بحسب سلوكه صراط التكامل بمرور الزمان ، قال تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ( الإسراء - 9 ).

وقال : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة - 106 ).

فهذه الجملة أعني قوله : ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) متممة لقوله : ( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) تتميم ايضاح ، إذ لولاها لأمكن أن يتوهّم من تصديق القرآن للتوراة والانجيل أنّه يصدق ما فيهما من الشرائع والأحكام ، تصديق إبقاء من غير تغيير وتبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبيّن أنّ تصديقه لهما تصديق إنّهما شرائع حقّة من عند اللّه ، وانّ لله أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ والتكميل كما يشير إليه قوله سبحانه في ذيل الآية : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) (3).

اشارات قرآنية إلى الخاتمية :

ثم إنّ في الكتاب الحكيم آيات تشير إلى خاتمية الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وخاتمية كتابه

ص: 137


1- لاحظ الآية 13 من المائدة.
2- لاحظ الآية 13 من المائدة.
3- الميزان ج 5 ص 378 - 379.

ويقف على تلك الإشارات كل من أمعن النظر في مضامينها ونذكر في المقام بعض الآيات :

1. ( أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( الأنعام 114 - 115 ).

ودلالة قوله سبحانه : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) على إيصاد باب الوحي وانقطاعه إلى يوم القيامة وتمامية الشرائع النازلة من اللّه سبحانه طوال قرون إلى سفرائه ، واضحة بعد الوقوف على معنى الكلمة في القرآن.

إن « الكلمة » في القرآن قد استعملت في معان أو في مصاديق مختلفة بمعنى واحد جامع واسع ، حتى استعملت في العين الخارجي.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ( آل عمران - 45 ) كما استعملت في القضاء والوعد القطعي قال سبحانه : ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ( هود - 119 ) إلى غير ذلك.

لكن المراد منها في الآية هو الدعوة الإسلامية أو القرآن الكريم ، وما فيه من شرائع وأحكام ، والشاهد عليه الآية المتقدمة حيث قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ ) فالمراد من قوله : ( أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ ) هو القرآن النازل على العالمين ، ثم يقول : بأنّ الذين آتيناهم الكتاب من قبل كاليهود والنصارى إذا تخلصوا عن الهوى ، يعلمون أنّ القرآن وحي إلهي كالتوراة والأنجيل وأنّه منزل من اللّه سبحانه بالحق ، فلا يصح لأي منصف أن يتردد في كونه نازلاً منه إلى هداية الناس.

ثم يقول في الآية التالية : ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) بظهور الدعوى المحمدية ، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب وصارت مستقرة في محلها بعد ما كانت تسير دهراً

ص: 138

طويلاً في مدارج التدرج بنبوّة بعد نبوّة وشريعة بعد شريعة (1).

وهذه الكلمة الالهية أعني الدعوة الالهية المستوحاة في القرآن الكريم صدق لا يشوبه كذب وما فيه من الأحكام من الأمر والنهي ، عدل لا يخالطه ظلم ولأجل تلك التمامية لا تتبدل كلماته وأحكامه من بعد (2).

وأمّا ما احتمله صاحب المنار من أنّ المراد من الكلمة ما وعد اللّه به نبيّه من نصره وخذلان مستهزئيه مستشهداً بقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافات : 171 - 173 ) وما في معناه من الآيات ، فممّا لا يلائم سياق الآيات ولا يناسب قوله : ( صِدْقًا وَعَدْلاً ) ولا قوله : ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) إلاّ بالتكلّف الذي ارتكبه صاحب المنار (3).

* * *

هذا حال الخاتمية في الذكر الحكيم وقد عرفت أنّه ناطق بايصاد باب النبوّة والرسالة ، وخاتميتهما ، وقد وردت في المقام أحاديث متواترة عن النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله وآله الطاهرين فلأجل ايقاف القارئ على تلكم الكلم الرية عقدنا الفصل التالي :

ص: 139


1- الميزان ج 7 ص 328 ، مجمع البيان ج 2 ص 354.
2- وقد استعملت الكلمات في القرآن الكريم في الشرائع الالهية قال سبحانه واصفاً مريم : ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) ( التحريم - 12 ).
3- المنار ج 8 ص 12.

الخاتمية في الأحاديث الإسلامية

اشارة

لقد حصحص الحق بما أوردناه من النصوص القرآنية وانكشف الشك عن محيا اليقين ، فلم تبق لمجادل شبهة ، في أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين والمرسلين ودينه خاتم الأديان وكتابه خاتم الكتب وقد وردت عن النبي والأئمّة من بعده نصوص في المقام تؤكد المطلب فلا بأس بالتعرض لها ، وتوضيح بعضها ، إذ لم نجدها مجتمعة في باب أو كتاب.

تنصيص الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله على الخاتمية

1. خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المدينة إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال له علي علیه السلام : أخرج معك ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : لا ، فبكى علي ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبي بعدي ، أو ليس بعدي نبي ، أو لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي » (1).

وهذا الحديث صحيح متفق عليه بين الاُمّة ، لم يشك أحد في صحة سنده ولا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في ثبوته.

ص: 140


1- سمّي حديث المنزلة ، لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله نزّل فيه نفسه منزلة موسى ، ونزّل علياً مكان هارون.

وحسبك أنّه أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة تبوك (1) ومسلم في صحيحه في باب فضائل علي علیه السلام (2) وابن ماجة في سننه في باب فضائل أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله (3) والحاكم في مستدركه في مناقب علي علیه السلام (4) وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة (5).

قال « ابن عبد البر » في استيعابه : هذا من أثبت الآثار وأصحها ، رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص ، قال طرق حديث سعد كثيرة جداً ، ذكرها ابن خيثمة وغيره ورواه ابن عباس وأبو سعيد الخدري واُمّ سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد اللّه ، وجماعة يطول ذكرهم (6). ورواه من أعلام الطائفة ، صدوق الاُمّة في أماليه ومعانيه (7) وشيخ الطائفة في أماليه (8) والعلاّمة الكراجكي في كنزه (9) وقطب الدين الراوندي في خرائجه (10) وابن شهر آشوب في مناقبه (11) ، وقال : وصنف أحمد بن محمد بن سعيد كتاباً في طرقه قد تلقّته الاُمّة بالقبول اجماعاً ، والكاتب الاربلي في كشف الغمة (12) ، وقد جمع العلامة المجلسي طرق الحديث من الفريقين في جامعه (13).

وفيما ذكرنا من المصادر غنى وكفاية ، لا حاجة إلى الاستقصاء ، فإن كل من

ص: 141


1- صحيح البخاري ، الجزء الثالث ص 58.
2- صحيح مسلم ، الجزء الثاني ص 323 - 324.
3- سنن ابن ماجة ، الجزء الأوّل ص 28.
4- مستدرك الحاكم ، الجزء الثالث ص 109 وفي مواضع اُخر.
5- مسند ابن حنبل ، الجزء الأوّل ص 331 والجزء الثاني ص 369 و 437 ، والمغازلي في مناقبه ص 237 - 238 والخوارزمي في مناقبه ص 76.
6- راجع الاستيعاب في ترجمة علي علیه السلام .
7- أمالي الصدوق ص 29 ، ومعاني الأخبار ص 74 وقد بسط الكلام في دلالة الحديث.
8- أخرجه في أماليه في مواضع مختلفة ، راجع ص 28 و 31 و 159 و 164 و 193 و 218 و 331.
9- كنز الفوائد ص 282.
10- الخرائج والجرائح ص 75.
11- مناقب ابن شهر آشوب ج 1 ص 522.
12- كشف الغمة ص 44.
13- بحار الأنوار ج 37 ، الباب 53 ص 254 - 289.

تعرض لغزوة تبوك ، أو عقد باباً لفضائل مولانا أمير المؤمنين علیه السلام أثبته في كتابه.

ووضوح دلالة الرواية أغنانا عن البحث حولها.

2. عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبل كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (1).

صورة اُخرى للرواية :

عن جابر عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلاّ موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع هذه اللبنة ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء (2).

3. انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لي خمسة أسماء ، أنا محمد وأحمد ، أنا الماحي يمحو اللّه بي الكفر ، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي (3).

4. قال عرباض بن سارية : سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : إنّي عبد اللّه وخاتم النبيين وانّ آدم لمنجدل في طينة وساُخبركم من ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي.

وفي صورة اُخرى قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : إنّي عبد اللّه وخاتم النبيين. فذكر مثله وزاد في أنّ اُمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رأت حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور الشام (4).

5. وفي حديث الشفاعة : فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى اشفع لنا إلى ربّك

ص: 142


1- صحيح البخاري 4 / 226 ، مسند أحمد 2 / 398 و 412 وراجع الدر المنثور 5 / 204.
2- التاج 3 / 22 عن البخاري ومسلم والترمذي.
3- الطبقات الكبرى 1 / 65 - مسند أحمد 4 / 81 و 84 - صحيح مسلم 8 / 89.
4- الطبقات الكبرى 1 / 96 - مسند أحمد 4 / 127 و 128 - ينابيع المودة ص 10 الميزان 19 / 295 مع اختلاف يسير.

فليقض بيننا ، فيقول : إنّي لست هناكم ائتوا محمداً صلی اللّه علیه و آله فانّه خاتم النبيين (1).

6. وجاء في حديث الشفاعة : قال صلی اللّه علیه و آله : فيأتوني فيقولون : يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء غفر اللّه لك ذنبك ما تقدم منه وما تأخر فاشفع لنا ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه (2).

7. عن أبي هريرة أنّه قال : قال صلی اللّه علیه و آله : اُرسلت إلى الناس كافة وبي ختم النبيون (3).

8. في حديث : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي خاتم ألف نبي وأكثر (4).

9. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي ، قال : فشق ذلك على الناس ، فقال : لكن المبشّرات ، فقالوا : يا رسول اللّه وما المبشّرات ؟ قال : رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوّة (5).

10. عن جابر بن عبد اللّه : أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : أنا قائد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ، وأنا أوّل شافع ومشفع ولا فخر (6).

11. عن قتادة أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : كنت أوّل الناس في الخلق وآخرهم في البعث (7).

12. عن النبي صلی اللّه علیه و آله : يا علي أخصمك بالنبوّة فلا نبوّة بعدي وتخصم الناس بسبع ولا يجاحدك فيه أحد من قريش : أنت أوّلهم إيماناً باللّه ... (8).

13. استأذن العباس بن عبد المطلب النبي صلی اللّه علیه و آله في الهجرة ، فقال له : يا عم أقم

ص: 143


1- مسند أحمد 3 / 248 وراجع صحيح البخاري 6 / 106.
2- صحيح البخاري 6 / 106 - مسند أحمد 2 / 436.
3- الطبقات الكبرى ج 1 ص 128 مسند أحمد ج 2 ص 412.
4- مسند أحمد 3 / 79.
5- سنن الترمذي 3 / 364.
6- سنن الدارمي 1 / 27 ، المطبوع بدمشق عام 1349.
7- الطبقات الكبرى 1 / 96 - ينابيع المودة ص 17 وفيه : أوّل الأنبياء في الخلق.
8- حلية الأولياء 1 / 66.

مكانك الذي أنت به فإنّ اللّه تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة ثم هاجر إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وشهد معه فتح مكة وانقطعت الهجرة ... (1).

14. انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّما أخاف على اُمّتى الأئمّة المضلّين فإذا وضع السيف في اُمّتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى تلتحق قبائل من اُمّتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من اُمّتي الأوثان ، وأنّه يكون في اُمّتي ثلاثون كذّابون كلّهم يزعم أنّه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من اُمّتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك (2).

15. وعنه صلی اللّه علیه و آله : فضّلت بست : اُعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، واُحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، واُرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون (3).

16. عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : في اُمّتي كذّابون دجّالون سبعة وعشرون منهم أربعة نسوة وانّي خاتم النبيين لا نبي بعدي (4).

17. سأل جابر النبي صلی اللّه علیه و آله عن أوّل شيء خلقه اللّه قال : هو نور نبيّك يا جابر خلقه اللّه ثم خلق فيه كل خير وخلق بعده كل شيء ... ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين ومبعوثاً إلى كافة الناس أجمعين ورحمة للعالمين (5).

18. عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ... وجعل اسمي في القرآن محمداً فأنا محمود في جميع القيامة في فصل القضاء لا يشفع أحد غيري. وسمّاني في القيامة حاشراً يحشر الناس على قدمي. وسمّاني الموقف اوقف الناس بين يدي اللّه جل جلاله. وسمّاني العاقب أنا عقب النبيين ليس بعدي رسول وجعلني رسول الرحمة (6).

ص: 144


1- اُسد الغابة 3 / 110.
2- جامع الاُصول 10 / 410.
3- جامع الصغير 2 / 126.
4- الدر المنثور 5 / 204.
5- ينابيع المودة ص 14 - 15.
6- علل الشرائع 1 / 122 - الخصال 2 / 425 - معاني الأخبار 51 - بحار الأنوار 16 / 63.

19. عن أبي جعفر علیه السلام قال في حديث : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : أيها الناس أنّه لا نبي بعدي ولا سنّة بعد سنّتي فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ومن تبعه فانّه في النار. أيها الناس احيوا القصاص واحيوا الحق لصاحب الحق ولا تفرّقوا واسلموا وسلّموا كتب اللّه : ( لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (1).

قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا سنّة بعد سنّتي » يبطل كل شريعة سوى شريعته إلى يوم القيامة.

ورواه الكاتب الأربلي في كتابه بصورة اُخرى. قال : قال صلی اللّه علیه و آله في مرض موته والمسلمون مجتمعون حوله : « أيها الناس انّه لا نبي بعدي ، ولا سنّة بعد سنّتي ، فمن ادّعى ذلك فدعواه وباغيه في النار. أيها الناس احيوا القصاص واحيوا الحق لصاحب الحق ولا تفرقوا واسلموا وسلّموا كتب اللّه : ( لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) » (2).

20. عن أبي اُمامة عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : أيها الناس انّه لا نبي بعدي ولا اُمّة بعدكم ألاّ فأعبدوا ربّكم ... (3).

21. عن علي علیهاالسلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا خاتم النبيين وعلي خاتم الوصيين (4).

22. عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه خطب في أوسط أيام التشريق فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا وبلدكم هذا إلى يوم تلقونه ألاّ فليبلغ شاهدكم غائبكم لا نبي بعدي ولا اُمّة بعدكم ثم رفع يديه حتى أنّه ليرى بياض ابطيه ثم قال : اللّهمّ اشهد انّي قد بلّغت (5).

ص: 145


1- الفقيه 4 / 163 - وسائل الشيعة 18 / 555.
2- كشف الغمة ج 1 ص 21 - البحار ج 22 ص 531.
3- الخصال 1 / 322 - وسائل الشيعة 1 / 15.
4- عيون أخبار الرضا 2 / 47.
5- الخصال 2 / 487 وفي طبعة اُخرى ص 84.

23. عن أبي اُمامة قال : كنّا ذات يوم عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جلوساً فجاءنا علي بن أبي طالب علیه السلام واتفق من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قيام فلمّا رأى علياً جلس فقال يا ابن أبي طالب : أتعلم لم جلست ؟ قال : اللّهمّ لا ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ختمت أنا النبيين وختمت أنت الوصيين ... (1).

24. عن أبي جعفر محمد بن علي علیهماالسلام أنّه قال حج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المدينة - وساق قصة غدير خم وخطبة النبي فيها - وقال : بي واللّه بشّر الأوّلون من النبيين والمرسلين وأنا خاتم النبيين والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السموات والأرضين فمن شك في هذا فهو كافر كفر الجاهلية الاُولى ومن شك في قولي هذا فقد شك في الكل ، والشاك في ذلك فهو في النار (2).

25. عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث : انّ اللّه تعالى أوحى إليّ أن اتخذ علياً أخاً كما أنّ موسى اتخذ هارون أخاً واتخذ ولده ولداً فقط طهرتهم كما طهرت ولد هارون إلاّ أنّي ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك فهم الأئمّة الهادية ... (3).

26. عن علي بن هلال عن أبيه قال : دخلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في الحالة التي قبض فيها فإذا فاطمة عند رأسه فبكت حتى ارتفع صوتها فرفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليها رأسه وقال : ... نحن أهل بيت قد أعطانا اللّه عزّ وجلّ سبع خصال لم يعط أحداً قبلنا ولا يعطي أحداً بعدنا أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على اللّه عزّ وجلّ ... (4).

27. عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : أنا الأوّل والآخر (5).

قال الأربلي في كشف الغمة في ذيل هذا الحديث : لأنّه أوّل في النبوّة وآخر في البعثة.

28. عن أنس في حديث طويل : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : أنا خاتم الأنبياء

ص: 146


1- تفسير الفرات ص 87 - أمالي الطوسي ص 305 مع تفاوت يسير.
2- الاحتجاج ص 37 - مستدرك الوسائل 3 / 247.
3- الاحتجاج : 68.
4- كشف الغمة 3 / 369.
5- كشف الغمة 1 / 17.

وأنت يا علي خاتم الأولياء (1).

29. روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أدعية أيام شهر رمضان : اللّهمّ اجعلني فيه محباً لأوليائك ومعادياً لأعدائك مستنّاً بسنّة خاتم أنبيائك يا عاصم قلوب النبيين (2).

30. عن علي بن إبراهيم بن هاشم في حديث : انّ اليهود أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا يا محمد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه ... واخبركم عالم منكم جاء كم من الشام فقال : تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبي يبعث في هذه الهجرة مخرجه مكة ومهاجره هاهنا وهو آخر الأنبياء وأفضلهم يركب الحمار ... (3).

31. عن أبي ذر الغفاري رضی اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا خاتم الأنبياء وأنت يا علي خاتم الأوصياء ... (4).

32. روى السيد ابن طاووس في اقباله متن الصحيفة التي ورثها الخلف عن السلف من الأنبياء وفيها : ... أكمل بمحمد صلی اللّه علیه و آله وبما أرسله به من بلاغ وحكمة ديني واختم به أنبيائي ورسلي فعلى محمد واُمّته تقوم الساعة (5).

33. عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال : قال جدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة ألا وقد بيّنهما اللّه عزّ وجلّ في الكتاب وبيّنتهما لكم في سنّتي وسيرتي » (6).

34. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي

ص: 147


1- نور الثقلين 4 / 284.
2- زاد المعاد ص 174 دعاء اليوم الخامس والعشرين.
3- اثبات الهداة ج 1 ص 374 وراجع ج 1 ص 387.
4- احقاق الحق ج 4 ص 120.
5- اقبال السيد ابن طاووس ص 734 طبعة تبريز وص 509 طبعة طهران.
6- كنز الفوائد ص 164 وسائل الشيعة ج 18 ص 124.

خلفه نبي ، وأنّه لا نبي بعدي وسيكون بعدي خلفاء (1).

تنصيص الإمام أمير المؤمنين علیه السلام على الخاتمية

هذا أمير المؤمنين باب علم النبي صلی اللّه علیه و آله وموضع سره فقد نص في غير واحد من خطبه على كون الرسول الأكرم خاتماً لمن سبق وكتابه خاتماً للتشريع ودونك نصوصه الناصعة ونصوص أولاده الطاهرين :

35. قال علي علیه السلام : إلى أن بعث اللّه محمداً صلی اللّه علیه و آله لانجاز عدّته وإتمام نبوّته مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورة سماته كريماً ميلاده ... (2).

36. وعنه علیه السلام : اجعل شريف صلواتك ونامي بركاتك على محمد صلی اللّه علیه و آله عبدك ورسولك الخاتم لما سبق والفاتح لما انغلق المعلن الحق بالحق ... (3).

قوله : « الفاتح لما انغلق » يريد لما كانت أبواب القلوب قد انغلقت بأقفال الضلال عن طوارق الهداية ، فافتتحها بآيات نبوّته ، فأعلن الحق ، وأظهره بالحجة والبرهان.

وأمّا ما رواه الشيخ والسيد في زيارة مولانا أمير المؤمنين : « السلام على رسول اللّه ، أمين اللّه على وحيه ، وعزائم أمره ، الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل والمهيمن على ذلك كلّه ورحمة اللّه وبركاته » فالمراد منه : الفاتح لما استقبل من أبواب الهداية والبركات المعنوية ، فهو صلی اللّه علیه و آله وإن ختم ما سبق من أبواب الهداية ، فلا يمكن الاهتداء بتوراة موسى ولا بانجيل المسيح ، إلاّ أنّه فتح أمام البشر أبواباً للهداية بقرآنه ، وسنّته وعمله وتقريره وأوصيائه.

37. وعنه علیه السلام : أيها الناس خذوها من خاتم النبيين صلی اللّه علیه و آله انّه يموت من

ص: 148


1- أخرجه البخاري ومسلم راجع جامع الاُصول ج 4 ص 40.
2- نهج البلاغة الخطبة الاُولى.
3- نهج البلاغة الخطبة 69.

مات منّا وليس بميت ... (1).

38. وعنه علیه السلام : اختار آدم علیه السلام خيرة من خلقه ... فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة به على عباده ولم تخلهم بعد أن قبضه ممّا يؤكد عليهم حجّة ربوبيته ويصل بينهم وبين معرفته بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحملي ودائع رسالاته قرناً فقرناً حتى تمّت بنبينا محمد صلی اللّه علیه و آله حجّته وبلغ المقطع عذره ونذره ... (2).

39. وعنه علیه السلام : أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن فقفى به الرسل وختم به الوحي ... (3).

40. وعنه علیه السلام : أمين وحيه وخاتم رسله وبشير رحمته ونذير نقمته ... (4).

41. وعنه علیه السلام : ثم إنّ هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه واصطنعه على عينه واصفاه خيرة خلقه وأقام دعائمه على محبّته أذل الأديان بعزته ، ووضع الملل برفعه وأهان أعدائه بكرامته ، وخذل محاديه بنصره وهدم أركان الضلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتاق الحياض لمواتحه.

ثم جعله لا إنفصام لعروته ، ولا فك لحلقته ، ولا إنهدام لأساسه ، ولا زوال لدعائمه ، ولا انقلاع لشجرته ، ولا انقطاع لمدته ، ولا عفاء لشرائعه ، ولا جذ لفروعه ، ولا ضنك لطرقه ، ولا وعوثة لسهولته ، ولا سواد لوضحه ، ولا عوج لإنتصابه ، ولا عصل في عوده ، ولا وعث لفجه ، ولا انطفاء لمصابيحه ، ولا مرارة لحلاوته.

وقال علیه السلام وهو يصف القرآن :

ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقده ، وبحراً لا يدرك قعره ، ومنهاجاً لا يضل نهجه ، وشعاعاً لا يظلم ضوءه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ،

ص: 149


1- نهج البلاغة الخطبة 83.
2- نهج البلاغة الخطبة 87.
3- نهج البلاغة الخطبة 129.
4- نهج البلاغة الخطبة 168.

وتبياناً لا تهدم أركانه ، وشفاءاً لا تخشى أسقامه ، وعزّاً لا تهزم أنصاره وحقّاً لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون (1).

42. ومن كلام له علیه السلام وهو يلي غسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتجهيزه :

بأبي أنت واُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء خصصت حتى صرت مسلياً عمّن سواك ، وعمت حتى صار الناس فيك سواء ... (2).

43. وقال علیه السلام في خطبة الوسيلة : فقال وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصت بهم المحافل : أيها الناس إنّ علياً منّي كهارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ... (3).

44. ومن خطبة له علیه السلام : الحمد اللّه علا فاستعلى ودنا فتعالى وارتفع فوق كل منظر وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وحجّة اللّه على العالمين ... (4).

45. وقال علیه السلام ذات يوم على منبر الكوفة : أنا سيد الوصيين ... أنا وارث علم الأوّلين وحجة اللّه على العالمين بعد الأنبياء ومحمد بن عبد اللّه خاتم النبيين ... (5).

46. وفي بعض دعائه علیه السلام : وربّ الملائكة أجمعين وربّ محمد صلی اللّه علیه و آله خاتم

ص: 150


1- نهج البلاغة الخطبة 193.
2- نهج البلاغة الخطبة 230 ومجالس المفيد ص 527 والبحار ج 22 ص 527.
3- الكافي 8 / 26.
4- الكافي 8 / 67 - نهج السعادة الخطبة 1 / 188.
5- غاية المرام ص 47. أمالي الصدوق ص 17.

النبيين والمرسلين وربّ الخلق أجمعين (1).

47. وعنه علیه السلام في بعض خطبه : أيها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة لمن لا تعذرون بجهالته فإنّ العلم الذي هبط به آدم علیه السلام وجميع ما فضّلت به النبييون إلى محمد خاتم النبيين في عترة محمد صلی اللّه علیه و آله ... (2).

48. وفي بعض احتجاجاته : أمّا رسول اللّه فخاتم النبيين ليس بعده نبي ولا رسول وختم برسول اللّه الأنبياء إلى يوم القيامة (3).

49. وقال علیه السلام في بعض خطبه : وأشهد أن ّمحمداً رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين وحجّة اللّه على العالمين (4).

50. عن الأصبغ بن نباته قال : إنّ أمير المؤمنين علیه السلام خطب ذات يوم فحمد اللّه وإثنى عليه وصلّى على النبي صلی اللّه علیه و آله ثم قال : أيها الناس اسمعوا مقالتي ... ومنّا خاتم النبيين وفينا قادة الإسلام واُمناء الكتاب ... (5).

51. وعنه علیه السلام : ختم محمد ألف نبي وانّي ختمت ألف وصي وانّي كلّفت ما لم يكلّفوا (6).

52. عن جابر بن عبد اللّه في حديث : فخرّ علي علیه السلام ساجداً ثم قال : الحمد لله الذي أنعم عليّ بالإسلام وعلّمني القرآن وحبّبني إلى خير البرية وخاتم النبيين وسيد المرسلين إحساناً منه وفضلاً منه عليّ ... (7).

53. وعنه علیه السلام في حديث : فخررت ساجداً لله تعالى وحمدته على ما أنعم به

ص: 151


1- الصحيفة العلوية دعاء اليوم السادس والعشرين.
2- كشف اليقين ص 24 - تفسير القمي ص 343 - غاية المرام ص 358 - نهج السعادة الخطب 3 / 18 نقلاً عن غيبة النعماني وارشاد المفيد ومسترشد الطبري.
3- كتاب سليم بن قيس ص 97 - الاحتجاج 1 / 220 الطبع الحديث.
4- الوافي ج 14 ص 11.
5- كشف الغمة 1 / 506.
6- نور الثقلين 4 / 284.
7- غاية المرام ص 127.

عليّ من الإسلام والقرآن وحبّبني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين (1).

تنصيص فاطمة الزهراء علیهاالسلام على الخاتمية :

54. عن أسماء بنت عميس قالت حدثتني فاطمة علیهاالسلام لما حملت بالحسن وولدته جاء النبي صلی اللّه علیه و آله ... ثم هبط جبرئيل فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي بعدك سم ابنك هذا باسم ابن هارون ... (2).

55. عن فاطمة الزهراء علیهاالسلام في بعض دعواتها : اللّهمّ صلّي على محمد وآل محمد صلاة يشهد بها الأوّلون مع الأبرار وسيد المتقين وخاتم النبيين وقائد الخير ومفتاح الرحمة (3).

تنصيص السبط المجتبى علیه السلام على الخاتمية :

56. عن الحسن علیه السلام في بعض خطبه : أنا ابن نبي اللّه ... أنا ابن خاتم النبيين وسيد المرسلين (4).

57. عن سليم بن قيس قال : قام الحسن بن علي بن أبي طالب علیه السلام على المنبر حين اجتمع مع معاوية وأصحابه فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس انّ معاوية زعم انّي رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي أهلاً وكذب معاوية ... وقد ترك الاُمّة علياً علیه السلام وقد سمعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعلي علیه السلام : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوّة فلا نبي بعدي ... (5).

58. عن الحسن بن علي بن أبي طالب علیه السلام قال : جاء نفر إلى رسول

ص: 152


1- غاية المرام ص 552.
2- عيون أخبار الرضا 2 / 25.
3- مقباس المصابيح ص 113.
4- مقتل الخوارزمي 1 / 126.
5- مكاتيب الأئمة 2 / 24.

اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمد إنّك الذي تزعم أنّك رسول اللّه وأنّك الذي يوحى إليك كما أوحى اللّه إلى موسى بن عمران فسكت النبي ساعة ثم قال : نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول ربّ العالمين ... (1).

تنصيص الإمام سيد الشهداء علیه السلام على الخاتمية

59. في حديث الأعمش عن الحسين بن علي علیهماالسلام قال : فأخبرني يا رسول اللّه هل يكون بعدك نبي ؟ فقال لا أنا خاتم النبيين لكن يكون بعدي أئمّة قوّامون بالقسط بعدد نقباء بني اسرائيل ... (2).

60. وفي دعائه ليوم عرفة : الحمد لله حمداً يعادل حمد ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين وصلّى اللّه على خيرته محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين المخلصين.

وقوله : وربّ محمد خاتم النبيين وآله المنتجبين ومنزل التوراة والانجيل والزبور والقرآن الكريم (3).

61. وقال أيضاً في ذلك الدعاء : اللّهمّ صلّ على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين (4). 62. وفي بعض أشعاره :

أبي علي وجدي خاتم الرسل

والمرتضون لدين اللّه من قبلي (5)

تنصيص الإمام زين العابدين علیه السلام على الخاتمية

63. قال في بعض دعواته : فختم بنا على من ذرع وجعلنا شهداء على من

ص: 153


1- البرهان 2 / 41.
2- المناقب للمازندراني 2 / 300 - اثبات الهداة 2 / 544.
3- الاقبال ص 342 - 343.
4- الاقبال ص 343.
5- كشف الغمة 2 / 213 - بحار الأنوار 78 / 125 وفي طبع الكمباني 18 / 150.

جهد (1).

64. وقال : اللّهمّ صلّ على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين واعذنا وأهالينا واخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات ممّا استعذنا منه (2).

65. وقال : اللّهمّ صلّ على محمد خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين (3).

66. وقال : اللّهمّ لك الحمد أن خلقت فسوّيت وقدرت وقضيت وأمت وأحييت ... فصلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين (4).

67. وقال : واجمع بيني وبين المصطفى وآله خيرتك من خلقك وخاتم النبيين محمد ... (5).

تنصيص الإمام أبي جعفر الباقر علیه السلام على الخاتمية

68. عن أبي جعفر علیه السلام في حديث : لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء (6).

69. وعنه علیه السلام في حديث آخر : ثم إنّ اللّه عزّ وجلّ أرسل عيسى بن مريم إلى بني اسرائيل خاصة فكانت نبوّته ببيت المقدس وكان من بعده الحواريون اثنى عشر فلم يزل الإيمان يستسر في بقية أهله منذ رفع اللّه عيسى وأرسل اللّه تبارك وتعالى محمداً إلى الجن والانس عامة وكان خاتم الأنبياء وكان من بعده الاثنا عشر أوصياء (7).

70. وعنه علیه السلام في دعاء أيام شهر رمضان : اللّهمّ ربّ الفجر وليال عشر ... وربّ خاتم النبيين صلواتك عليه ... (8).

ص: 154


1- الصحيفة السجادية الدعاء 12.
2- الصحيفة السجادية الدعاء 17.
3- ملحقات الصحيفة السجادية دعاء يوم الثلاثاء.
4- ملحقات الصحيفة السجادية دعاء يوم الأربعاء.
5- مصباح المتهجد ص 408 دعاء أبي حمزة الثمالي.
6- الكافي 1 / 177 - الوافي ج 2 ص 19.
7- اكمال الدين ص 127.
8- الاقبال ص 91.

71. وعنه في زيارة الحسين في عاشوراء : السلام عليك يا مولاي يا أبا عبد اللّه يا ابن خاتم النبيين ويا بن سيد الوصيين ويا بن سيدة نساء العالمين (1).

تنصيص الإمام الصادق علیه السلام على الخاتمية

72. عن الصادق في حديث : فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد صلی اللّه علیه و آله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ... (2).

73. عن زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الحلال والحرام فقال : حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره (3).

74. قال علیه السلام : بعث أنبياءه ورسله ونبيه محمداً فأفضل الدين معرفة الرسل وولايتهم وأخبرك أنّ اللّه أحلّ حلالاً وحرّم حراماً إلى يوم القيامة (4).

75. عن أبي عبد اللّه علیه السلام : انّ بعض قريش قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ فقال : إنّي كنت أوّل من آمن بربي ... (5).

76. قال له علیه السلام قائل : علّمني دعاءً ؟ ، فقال : أين أنت من دعاء الالحاح ، فقال له الطالب : وما دعاء الالحاح ؟ فقال له : تقول : اللّهمّ ربّ السموات السبع وما فيهن وربّ الأرضين السبع وما فيهن وربّ العرش العظيم وربّ محمد خاتم النبيين أسألك باسمك ... (6).

77. وقال علیه السلام في كيفية زيارة الحسين علیه السلام في حديث : ثم امش وقصر خطاك حتى تستقبل القبر واجعل القبلة بين كتفيك واستقبل بوجهك وجهه وقل : السلام عليك من اللّه والسلام على محمد أمين اللّه على رسله وعزائم أمره الخاتم لما

ص: 155


1- هدية الزائرين ص 135 - 137.
2- الكافي 2 / 17 - المحاسن ص 193.
3- الكافي 1 / 57.
4- البحار ج 24 ص 288.
5- الكافي 2 / 10.
6- قرب الاسناد ص 4 - 5.

سبق والفاتح لما استقبل ... اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد صاحب ميثاقك وخاتم رسلك وسيد عبادك ... (1).

78. عن إسماعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق علیه السلام يقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى بعث محمداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالاً وحرّم حراماً ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ... (2).

79. وعنه علیه السلام : إذا أردت زيارة قبر أمير المؤمنين فتوضّأ واغتسل وامش على هيئتك وقل ... السلام من اللّه والتسليم على محمد أمين اللّه على رسالته وعزائم أمره ومعدن الوحي والتنزيل الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل (3).

80. عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : يستحب أن يصلّي على النبي صلی اللّه علیه و آله بعد العصر يوم الجمعة بهذه الصلاة : اللّهمّ انّ محمداً صلی اللّه علیه و آله كما وصفته في كتابك ... وأنّه رسولك وخاتم النبيين وجاء بالحق من عندك وصدق المرسلين (4).

81. وقال في تلك الصلاة أيضاً : اللّهمّ واجعل صلاتك وغفرانك ... وصلوات ملائكتك ورسلك وأنبيائك ... على محمد بن عبد اللّه سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين ... (5).

82. وعنه علیه السلام في زيارة الحسين المشهورة بوارث : السلام عليك يا خاتم النبيين السلام عليك يا سيد المرسلين (6).

83. عن أيوب بن الحر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : إنّ اللّه ختم بنبيّكم النبيين فلا نبي بعده أبداً وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً وأنزل فيه

ص: 156


1- كامل الزيارات ص 230 - 231.
2- تفسير النعماني ص 3 - الميزان 3 / 81 نقلاً منه.
3- تهذيب الأحكام 7 / 25 - فرحة الغري ص 33.
4- مصباح المتجهد ص 271 - 272.
5- مصباح المتجهد ص 272.
6- مصباح المتجهد ص 500.

تبيان كل شيء ... (1).

84. عن الصادق علیه السلام : إذا زرت جانب النجف فزر عظام آدم وبدن نوح وجسم علي بن أبي طالب علیه السلام فإنّك زائر الآباء الأوّلين ومحمد صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين وعلياً سيد الوصيين وانّ زائره يفتح له أبواب السماء فلا تكن على الخير نوماً (2).

85. عن الصادق علیه السلام : من قال عند غروب الشمس في كل يوم : يا من ختم النبوّة بمحمد صلی اللّه علیه و آله اختم لي في يومي هذا بخير وسنّتي بخير وعمري بخير ... (3).

86. عن الصادق علیه السلام : كان علي يرى مع رسول اللّه قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت قال : وقال له صلی اللّه علیه و آله : لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصي نبي ووارثه بل أنت سيّد الأوصياء وإمام الاتقياء (4).

87. وروي عنه علیه السلام في كيفية تشهّد الصلاة : فإذا جلست في الرابعة قلت : بسم اللّه وباللّه ... السلام على محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين لا نبي بعده والسلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ثم تسلّم (5).

88. قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ تبّعاً قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي أمّا أنا لو أدركته لخرجت معه وكتب كتاباً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وعنوان الكتاب : إلى محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين ورسول ربّ العالمين من تبّع الأوّل (6).

89. روى عاصم بن حميد قال : قال أبو عبد اللّه علیهاالسلام : إذا حضر أحدكم الحاجة فليصم ... ويقول - وذكر دعاءاً طويلاً نذكر منه موضع الحاجة - : اللّهمّ إنّي

ص: 157


1- الوافي الجزء الثاني من ج 1 ص 144.
2- مزار ابن المشهدي مخطوط ص 14 - تحفة الزائر ص 61.
3- فلاح السائل ص 202 - بحار الأنوار 86 / 267.
4- الشرح الحديدي على نهج البلاغة 13 / 210 - غاية المرام ص 47.
5- وسائل الشيعة 4 / 989 - 990.
6- اثبات الهداة 1 / 401.

أتقرّب إليك بنبيّك ورسولك وحبيبك خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين (1).

90. عن الفضيل قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لم يبعث اللّه عزّ وجلّ من العرب إلاّ خمسة أنبياء هوداً وصالحاً وإسماعيل وشعيباً ومحمداً خاتم النبيين (2).

91. وعنه علیه السلام في زيارة أمير المؤمنين علیه السلام : السلام من اللّه على رسول اللّه محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين وإمام المتقين ... الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل ... (3).

92. وعنه علیه السلام في زيارته التي زار بها أمير المؤمنين علیه السلام في مولد النبي صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا من بات على فراش خاتم الأنبياء ووقّاه بنفسه عند مبارزة الأعداء وفي نسخة ( شر الأعداء ) (4).

93. وعنه علیه السلام أيضاً فيها : السلام عليك يا وارث علم النبيين ومستودع علم الأوّلين والآخرين وصاحب لواء الحمد وساقي أوليائه من حوض خاتم النبيين السلام عليك يا يعسوب الدين وقائد الغر المحجّلين ووالد الأئمّة المرضيين ورحمة اللّه وبركاته (5).

94. وعنه علیه السلام في دعائه بعد زيارة أمير المؤمنين : أسألك بحق محمد خاتم النبيين وعلي أمير المؤمنين ... (6).

95. وروى بريد عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه في تفسير قوله عزّ وجلّ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) قولهما : « لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء » (7).

ص: 158


1- اثبات الهداة 2 / 472.
2- البحار 11 / 42 نقلاً عن قصص الأنبياء.
3- البحار 100 / 336.
4- بحار الأنوار 100 / 374 - زاد المعاد ص 343.
5- بحار الأنوار 100 / 375 - زاد المعاد ص 345.
6- تحفة الزائر ص 100.
7- الكافي ج 15 ص 177 ومضى ما يقرب منه في الحديث رقم 84.

تنصيص الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام على الخاتمية

96. عن علي بن رئاب عن العبد الصالح علیه السلام قال : ادع بهذا الدعاء في شهر رمضان مستقبل دخول السنة ... اللّهمّ ربّ السموات السبع والأرضين السبع وما فيهنّ وما بينهنّ ... وربّ محمد صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته سيد المرسلين وخاتم النبيين ... (1).

97. عن إبراهيم بن أبي البلاد قال : قال لي أبو الحسن علیه السلام : ... فكتب لي وأنا قاعد بخطه وقرأه عليّ : إذا وقفت على قبره ( رسول اللّه ) صلی اللّه علیه و آله فقل : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ... وأشهد أنّك خاتم النبيين ... (2).

98. عن موسى بن جعفر علیه السلام : انّ رجلاً سأل أبا عبد اللّه علیه السلام ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلاّ غضاضة ؟ قال : لأنّ اللّه لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة (3) ودلالته على الخاتمية واضحة.

تنصيص الإمام علي بن موسى الرضا علیهماالسلام على الخاتمية

99. خطب الرضا علیه السلام هذه الخطبة : الحمد لله حمد في الكتاب نفسه وافتتح بالحمد كتابه ... وصلّى اللّه على محمد خاتم النبوّة وخير البرية وعلى آله آل الرحمة وشجرة النعمة ... (4).

100. وقال علیه السلام في حديث وصف الإمامة والإمام : فهي في ولد علي علیه السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلی اللّه علیه و آله ... (5).

101. وعنه عن آبائه عن علي علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا علي ما

ص: 159


1- الكافي 4 / 72 - الفقيه 2 / 103.
2- كامل الزيارات ص 17.
3- عيون أخبار الرضا 2 / 87.
4- الكافي 5 / 373.
5- عيون أخبار الرضا 1 / 218.

سألت ربّي شيئاً إلاّ سألت لك مثله غير أنّه قال : لا نبوّة بعدك أنت خاتم النبيين وعلي خاتم الوصيين (1).

ابهام وايضاح :

اشارة

كون علي علیه السلام خاتم الوصيين لا ينافي كون الحسن والحسين والأئمّة من بعده أوصياء أيضاً ، فإنّ الوصاية عن الأنبياء قد ختمت بعلي ، فلا وصي نبي بعد علي علیه السلام وأمّا الأئمّة من بعده فهم أوصياء وصيّه ، أو أوصياء وصي وصيّه ، لا أوصياء النبي نفسه ، كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال هنا وصاية واحدة متعلقة بعلي وأولاده علیهم السلام فوصاية الحسن والحسين والأئمّة من بعده بنفس الوصاية المتعلقة بأبيهم أمير المؤمنين ، فكون علي خاتم الأوصياء ، كناية عن كون الوصاية المتعلقة به وبأولاده قد ختم بها باب الوصاية السماوية وبذلك يسقط استدلال الفرقة الضالة بهذا الحديث على نفي كون « خاتم » بمعنى « آخر » قائلة بأنّه لو كان « الخاتم » بمعنى « الآخر » لزم سلب الولاية عن الأئمّة الآخرين ، وقد عرفت منّا فقه الحديث وليس استدلالهم بهذا إلاّ كتمسّك الغريق بالطحلب.

102. عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : إنّما سمّي اُولوا العزم اُولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب الشرائع والعزائم وذلك أنّ كل نبي بعد نوح علیه السلام كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل علیه السلام ، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى ، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم فهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد صلی اللّه علیه و آله

ص: 160


1- عيون أخبار الرضا 2 / 73.

لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادعى بعده نبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه (1) وقد نقلنا الحديث بطوله لما فيه من الفوائد.

103. عن الفضل بن شاذان قال : سأل المأمون علي بن موسى الرضا علیه السلام أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار فكتب علیه السلام له : أنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ... وأنّ محمداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه وسيد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين لا نبي بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته وأنّ جميع ما جاء به محمد بن عبد اللّه هو الحق المبين والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللّه وأنبيائه وحججه والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وأنّه المهيمن على الكتب كلّها وأنّه حق من فاتحته إلى خاتمته ... (2).

104. وعنه علیه السلام في حديث : حتى انتهت رسالته إلى محمد المصطفى صلی اللّه علیه و آله فختم به النبيين وفي نسخة ( المرسلين ) وقفى به على آثار المرسلين وبعثه رحمة للعالمين ... (3).

105. صورة ما كان على ظهر العهد الذي عهده المأمون إليه بخطه علیه السلام : الحمد لله الفعّال لما يشاء ... وصلواته على نبيّه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر ... (4).

106. روى الصدوق مسنداً عن علي بن موسى الرضا علیه السلام عن أبيه عن آبائه عن فاطمة بنت النبي صلی اللّه علیه و آله لما حملت بالحسن وولدته ... ثم هبط جبرئيل فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي

ص: 161


1- عيون أخبار الرضا 2 / 80.
2- عيون أخبار الرضا 2 / 121 - 122.
3- عيون أخبار الرضا 2 / 154.
4- المناقب للمازندراني 4 / 364 - كشف الغمة 3 / 177.

بعدك ، سم ابنك باسم ولد هارون ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله وما اسم ابن هارون ؟ قال شبّر ، قال النبي صلی اللّه علیه و آله : لساني عربي ، قال جبرئيل : سمّه الحسن (1).

تنصيص الإمام أبي محمد الجواد علیه السلام على الخاتمية

107. جاء في بعض دعواته : بسم اللّه قوي الشأن عظيم البرهان شديد السلطان ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن أشهد أنّ نوحاً رسول اللّه وانّ إبراهيم خليل اللّه وانّ موسى كليم اللّه ونجيّه وأنّ عيسى ابن مريم روح اللّه وكلمته صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين وأنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين لا نبي بعده (2).

تنصيص الإمام الهادي علیه السلام على الخاتمية

108. عن عبد العظيم الحسني قال : دخلت على سيدي علي بن محمد علیهماالسلام فلمّا أبصرني قال لي : مرحباً يا أبا القاسم أنت وليّنا حقاً قال : فقلت له : يا بن رسول اللّه انّي اُريد أن أعرض عليك ديني ... أنّي أقول : إنّ اللّه واحد ليس كمثله شيء ... وأنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله عبده ورسوله خاتم النبيين ولا نبي بعده إلى يوم القيامة وأنّ شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة ... (3).

109. عن علي بن محمد الهادي علیهماالسلام في زيارته التي زار بها علياً علیه السلام في يوم الغدير في السنة التي أشخصه المعتصم ... السلام على محمد رسول اللّه خاتم النبيين وسيّد المرسلين وصفوة ربّ العالمين ... والخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل ... (4).

ص: 162


1- عيون أخبار الرضا ج 2 ب 1 ص 25.
2- مهج الدعوات ص 40 - بحار الأنوار 94 / 359.
3- اكمال الدين ص 214 الطبع الحجري.
4- بحار الأنوار 100 / 360.

تنصيص الإمام العسكري علیه السلام على الخاتمية

110. عن الإمام العسكري علیه السلام قال : لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على العقبة ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب فما قدروا مغالبة ربّهم ، حملهم على ذلك حسدهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في علي علیه السلام لمّا فخم من أمره وعظم من شأنه من ذلك أنّه لما خرج من المدينة وقد كان خلفه عليها ... قال أكثر المنافقين ملّه وسأمه وكره صحبته ، فتبعه علي علیه السلام حتى لحقه ... فقال له : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ... (1).

تنصيص الحجّة القائم علیه السلام على الخاتمية

111. قال علیه السلام في الصلوات المروية عنه التي خرجت إلى أبي الحسن الضراب الاصبهاني بمكة : بسم اللّه الرحمن الرحيم اللّهمّ صلّ على محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وحجة ربّ العالمين ... (2).

112. وفي دعائه الذي قرأه في شهر رجب في مسجد السهلة : يا أسمع السامعين ويا أبصر المبصرين ويا أنظر الناظرين ويا أسرع الحاسبين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين صلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطاهرين الأخيار ... (3).

113. وفي جوابه لكتاب أحمد بن اسحاق : بسم اللّه الرحمن الرحيم أتاني كتابك أبقاك اللّه ... ثمّ بعث محمداً صلی اللّه علیه و آله رحمة للعالمين وتمّم به نعمته وختم به أنبياءه وأرسله إلى الناس كافة وأظهر من صدقه ما أظهر وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن ثم قبضه اللّه إليه حميداً فقيداً سعيداً ... (4).

114. وفي الزيارة الخارجة من الناحية إلى أحد الأبواب الأربعة : السلام على آدم

ص: 163


1- غاية المرام 151.
2- مصباح المتهجد ص 284.
3- الاقبال ص 645.
4- مكاتيب الأئمة 2 / 276.

صفوة اللّه من خليقته ... السلام على ابن خاتم الأنبياء السلام على ابن سيد الأوصياء (1).

وفيها أيضاً : اللّهمّ إنّي أتوسّل إليك يا أسرع الحاسبين ويا أكرم الأكرمين ويا أحكم الحاكمين بمحمد خاتم النبيين ورسولك إلى العالمين أجمعين ... (2).

روايات اُخرى

115. في رواية قال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه فعلمت أنّه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممّن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى اللّه إليه : وعزّتي وجلالي أنّه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه لما خلقتك (3).

116. وفي دعاء السمات : وصلّى اللّه على سيدنا محمد خاتم النبيين وعترته الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً (4).

117. قال اللّه تعالى لآدم علیه السلام : أنت يا آدم أوّل الأنبياء والرسل وابنك محمد خاتم الأنبياء والرسل ... (5).

118. ومما أوحى اللّه إلى آدم : من ولدك إبراهيم أجري على يده عمارة بيتي تعمّره الاُمم حتى ينتهي إلى نبي يقال له خاتم النبيين أجعله من سكانه وولاته (6).

119. في التوراة عن اللّه تبارك وتعالى : إنّي باعث في الاُمّيين من ولد إسماعيل رسولاً انزل عليه كتابي وأبعثه بالشريعة القيّمة إلى جميع خلقي ، اُوتيه حكمتي ، وأيّدته بملائكتي وجنودي ... اُكمل بمحمد صلی اللّه علیه و آله وبما أرسله به من بلاغ وحكمة ديني وأختم به أنبيائي ورسلي فعلى محمد صلی اللّه علیه و آله واُمّته تقوم الساعة (7).

ص: 164


1- بحار الأنوار 101 / 318 - الصحيفة الهادية والتحفة المهدية ص 203.
2- بحار الأنوار 101 / 323 - الصحيفة الهادية والتحفة المهدية ص 217.
3- ينابيع المودة ص 17 - 18.
4- بحار الأنوار 90 / 101.
5- اثبات الهداة 1 / 318.
6- اثبات الهداة 1 / 400.
7- الاقبال ص 509.

120. وفي حديث بحيراء الراهب : أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين ... (1).

121. وجاء في دعاء يوم الخميس : وصلّى اللّه على محمد خاتم النبيين وآله الطيبين والأخيار الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (2).

122. وجاء في تسبيح يوم الخميس : وصلّى اللّه على رسوله محمد خاتم النبيين وآله أجمعين (3).

123. وفي دعاء يوم الجمعة : اللّهم صلّ على محمد وآل محمد نبي الرحمة وقائد الخير وإمام الهدى والداعي إلى سبيل الإسلام ورسولك يا ربّ العالمين وخاتم النبيين وسيد المرسلين (4).

124. وفي دعاء أيام شهر رجب : يا أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأسرع الحاسبين يا ذا القوّة المتين صلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته (5).

125. وفي دعاء ليلة النصف من شعبان : وصلّى اللّه على محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى أهل بيته الصادقين وعترته الناطقين (6).

126. عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم وآخرهم محمد صلی اللّه علیه و آله وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين نبي. المرسل ( الرسل ) منهم ثلاثمائة وخمسة ، وخمسة منهم اُولوا العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، وخمسة منهم العرب هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلی اللّه علیه و آله (7).

127. قال الطبرسي رحمه اللّه : وإذا أراد الرجوع إلى بيته فليقل حين يدخل بسم اللّه وباللّه أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ثم

ص: 165


1- اثبات الهداة 1 / 345.
2- مصباح المتهجد ص 34.
3- مصباح المتهجد ص 341.
4- مصباح المتهجد ص 345.
5- مصباح المتهجد ص 558.
6- مصباح المتهجد ص 586.
7- الاختصاص ص 264 - بحار الأنوار 11 / 43.

يسلّم على أهله إن كان في البيت أحد فإن لم يكن في البيت أحد فليقل بعد الشهادتين السلام على محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين السلام على الأئمّة الهادين المهديين السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين (1).

128. وفي زيارة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا خاتم النبيين أشهد أنّك قد بلغت الرسالة ... (2).

129. وأيضاً في زيارته صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا نجيب اللّه السلام عليك يا خاتم النبيين السلام عليك يا سيد المرسلين (3).

130. وأيضاً في زيارته صلی اللّه علیه و آله : السلام عليك يا حجة اللّه على الأوّلين والآخرين السابق في طاعة ربّ العالمين والمهيمن على رسله والخاتم لأنبيائه والشاهد على خلقه والشفيع إليه (4).

131. وأيضاً في زيارته صلی اللّه علیه و آله : أوّل النبيين ميثاقاً وآخرهم مبعثاً الذي غمسه في بحر الفضيلة ... (5).

132. في زيارة إبراهيم ابن رسول اللّه : السلام على محمد بن عبد اللّه سيد الأنبياء وخاتم الرسل ... (6).

133. وفي زيارة عاشوراء : السلام عليك ياوارث آدم صفوة اللّه ... وسبط خاتم المرسلين (7).

134. وفي زيارة الحسين علیه السلام في أوّل شهر رجب : السلام عليك يابن

ص: 166


1- مكارم الأخلاق 188.
2- بحار الأنوار 100 / 161.
3- بحار الأنوار 100 / 183 - زاد المعاد ص 334.
4- بحار الأنوار 100 / 184 - زاد المعاد ص 335.
5- بحار الأنوار 100 / 185 - زاد المعاد ص 337.
6- بحار الأنوار 100 / 217 - هدية الزائرين ص 262 نقلاً عن المفيد وابن طاووس والشهيد.
7- بحار الأنوار 101 / 313.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السلام عليك يا بن خاتم النبيين (1).

135. روي في الاختصاص ، عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم وآخرهم محمد صلی اللّه علیه و آله وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي ، المرسل منهم ثلاثمائة ، خمسة منهم اُولوا العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، وخمسة من العرب هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلی اللّه علیه و آله (2).

هذه جملة ما وقفت عليه من آثار النبوّة والمأثورات عن أئمة أهل البيت (3) ولعلّ ما لم أظفر به أكثر ممّا ظفرت به ، كل ذلك يؤيد ما هو المنصوص في القرآن الحكيم ، وأنّ اللّه أوصد باب النبوّة ورسالة السماء إلى الأرض ، ببعث نبيّه وآخر سفرائه محمد صلی اللّه علیه و آله فليس بعده نبي ولا شريعة ولا كتاب ولا ... هذا وقد أغناهم تصريح الكتاب بالموضوع عن افاضة القول فيه ، كما هو شأن كلّ موضوع فيه نص في القرآن الكريم.

شبهات حول الخاتمية :

لقد حصحص الحق مما سردناه من الأدلّة والدلائل الناصعة ، على خاتمية الرسول فلم يبق مقول لقائل ولا مصول لصائل ، وما سردناه من الأدلّة يفيد القطع واليقين بالخاتمية للرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله لكل من آمن بقرآنه وسنّته القطعية ، والاجماع المسلم بين الاُمّة المدعم بالضرورة والبداهة بين المسلمين.

غير أنّ شرذمة قليلة ممّن أصابهم مس من الالحاد والمادية ، أخذوا يلقون حبالاً وعصياً في سبيل الضعفاء من المسلمين ، يخدعون بها الهمج الرعاع والبسطاء من الناس فجاءوا بشكوك وشبهات لفّقوها من هنا وهناك لا تقل عن شبهات السوفسطائية تّجاه

ص: 167


1- بحار الأنوار 101 / 336.
2- الاختصاص وبحار الأنوار ج 11 ص 43.
3- لا يخفى على القارئ الكريم ما عانيته من الجهود في جمع تلكم الأحاديث المأثورة عن النبي وآله من مصادرها المختلفة.

البديهة.

وقد اتخذت تلك الشرذمة الضئيلة انكار الخاتمية اداة للفتنة وسبيل إلى هدم الإسلام ، وإضلال المؤمنين بها وتمهيداً لأهدافهم وأغراضهم الرجعية. تلك الشبهات توقفنا على مبلغ علمهم بالكتاب والسنّة ومدى إلمامهم بالأدب العربي وتوقفنا على أنّه لا هدف لهم في اختلاق هذه الشكوك ، إلاّ خدمة الاستعمار وتفريق الكلمة وهدم الصفوف الإسلامية ، وقد عرفتهم الاُمّة الإسلامية ، وعرفت نواياهم وضمائرهم كما عرفت قيمة شبهاتهم التي تتضاءل عند كل من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة وتجعلها في معرض البطلان.

ولإسكات ما أحدثته هده الشبهات من جلبة وتركاض وصخب وهياج ولإماطة اللثام عن حقائق ناصعة ، خفيت على من اختلقها. عقدنا هذا الفصل حتى يتجلى للقارئ الحق بأجلى مظاهره ولا يبقى للأفّاكين المتخرصين مجال للبحث والتشكيك.

لقد حسب هؤلاء المغترّون أنّ ما لفّقوه من الأوهام سينطلي على عقول أبناء الأجيال الصاعدة ، ويتقبّلونه بصدر رحب ، إلاّ أنّه خفى عنهم ، أنّ الوعي الذي تمتعت به هذه الأجيال أخذ يرد عليهم خرافتهم الباطلة ، وأنّ المستقبل الكشّاف سيكشف عن سوأتهم.

ومن جهة اُخرى أنّ بعض هذه الأوهام التي جمعوها وطلوها ربّما يخيّل للبسطاء من الناس أنّها مسائل مستحدثة ، أو دلائل جديدة إلاّ أنّها ليست إلاّ نسائج قديمة أكل عليها الدهر وشرب ، وذكرت في كتب التفسير والحديث بشكل أسئلة اُجيبت عليها بأجوبة مقنعة ناجعة ... ولكنّهم من أجل ايقاع السذج والبسطاء في حبائلهم أخذوا بالأسئلة ، وتركوا أجوبتها.

وها نحن نقف تّجاه هذه الشبهات وقفة ، نجعلها في مدحرة البطلان ونقطع الطريق على هذه العصابات المجرمة وإن طال بنا الكلام ، واتسع مقامنا مع القرّاء الكرام.

ص: 168

الفصل الثالث: شبهات حول الخاتمية

اشارة

لما حاول الاستعمار الغاشم الاستيلاء على الشرق الأوسط ومناطقه الخصبة وربوعه المعمورة ومعادنه الغالية وما يسيل تحت أراضيه من الذهب الأسود ( البترول ) إلى غير ذلك من الثروات الطائلة ، قام بكل ما يملك من حول وقوة بشن الغارات عليه بصورة استفزازية مزرية.

نعم للاستعمار أساليب وتخطيطات وألوان مختلفة ، تختلف حسب طبائع الأجيال والأمكنة والتخطيط الأصيل له والحجر الإساسي الذي ترتكز عليه مخططات المستعمرين هو أصل « فرّق تسد » فاُولئك هم وليدوا ذلك الأصل ، وهم المبتدعون له ( على وجه غير دائر ) فالتفريق بين قطاعات الشعب في المبدأ والعقيدة عامل هدام يبدد قوى الشعب ، وسيل كاسح جارف ، يخرب كل حاجز دون نواياهم ، ويزعزع كل سد دون أهدافهم ، فلا شيء أضر بحال الشعب وأنفع للعدو من إشاعة القلق والفوضى في المجتمع واختلاف الكلمة والتشتت في التوجيه والدعوة بين أفراده ، فهي ضربة قاضية

ص: 169

تنصبّ على وجوده وتحول دون اتحاد أبنائه وتضامنهم ووقوفهم صفاً واحداً في وجه العدو وجرائمه المخزية وأعماله الاجرامية.

فها هي ذي بلادنا « إيران » كان يضرب المثل منذ زمن بعيد ، باتحاد شعبها وتضامن أبنائها وقد اعتنق الإسلام كثير منهم في عهد الخلافة ، وتفيأوا في ظلاله قروناً متطاولة ، غير أنّ الاستعمار الغادر لم يرض باتحادهم وإتفاق كلمتهم ، فطفق يديف السم في الدسم ، يفرق كلمتهم في المبدأ والعقيدة ، ببعث رجال التبشير والإنذار وإختلاق احزاب سياسية ، مطبوعة بطابع الدين ، ومصبوغة بصبغة المذهب ، وليس فيها شيء يمت إلى الدين بصلة ولا مرمى لهم في ذلك ، إلاّ تضليل عقيدة الشعب وتدمير أخلاقه وتحطيم كرامته حتى يعود مرتداً متحلّلاً ، فاقد الكرامة ، مسلوب الإرادة ، لا يلتزم بمبدأ ولا يؤمن بدين ، ولا يعرف هدفاً يسعى إليه ، سوى الاستهتار التام.

وعند ذلك يسهل للعدو تعكير الصفو وتمزيق الوحدة وضرب الشعب بعضه ببعض وتهون له الإغارة على الثروات الطائلة في أيديهم وما احتوته أراضيهم من معادن ومنابع.

هذا القلق الديني والفوضى المذهبية ، اللذين نشاهدهما في الشرق الأوسط بل والعالم الإسلامي إنّما هما وليدا هذا الاستعمار الغاشم ، وليدا تكتيكه الأصيل ( فرّق تسد ) وقد فتح هذا الاختلاف في وجه الشعب أبواباً من الأزمات الكثيرة في نواحي مختلفة.

ضع يدك على هذه الفرق المنحوتة ، والدعوات السياسية المتولدة في القرن الأخير ، واقرأ اُصولها وفروعها ، وتأمّل في غاياتها المتوخّاة منها وطالع صحائف من حياة مؤسسيها ومبتكريها ، تجدهم عمد الاستعمار وأذنابه ، فمن شيخية إلى بابية ، ومن أزلية إلى بهائية ، ومن قاديانية إلى أحمدية وكلّها وليدة الاستعمار الغاشم ، وليدة رجال العيث والفساد ، وليدة الأفّاكين الذين عرفتهم الاُمّة ، وعرفت نواياهم وسرائرهم وأهدافهم.

فدونك البهائية من هذه الفرق السياسية وقد اختلقها زعيمها « الميرزا حسين علي المازندراني » في إيران ، لتراه يدعو تارة إلى الوهية نفسه ويقول : « إنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا ،

ص: 170

كما قال النقطة الاولى من قبل بعينه يقوله ، من يأتي من بعد » (1) ويدعو إلى نبوّته ورسالته تارة اُخرى ، وأنّه نبي كسائر الأنبياء ، وأنّ باب النبوّة مفتوح إلى يوم القيامة ، لم يوصد بعد نبي الإسلام ، ثم إنّ لهؤلاء الأقوام كُتّاباً مستأجرين استأجرهم الاستعمار لنصرة هذا الحزب المختلق بإسم الدين وطابع المذهب ، وقد جاءوا بشبهات تافهة في مسألة الخاتمية ، فدونك هذه الشبهات مع أجوبتها :

الشبهة الاُولى :

اشارة

كيف يدّعي المسلمون انغلاق باب النبوّة والرسالة مع أنّ صريح كتابهم قاض بانفتاح بابه إلى يوم القيامة ، وذلك قوله سبحانه :

( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأعراف - 35 ).

قال : فهذا الخطاب الوارد في القرآن الكريم ، النازل على قلب سيد المرسلين ينبئ عن مجيء الرسل بعد نبي الإسلام ، ويدل بظاهر قوله : ( يَأْتِيَنَّكُمْ ) الذي هو بصيغة المضارع ، على أنّ باب النبوّة لم يوصد وأنّه مفتوح بعد ، ومعه كيف يدعي المسلمون أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيين وآخرهم وكتابهم يشهد على خلافه (2).

الجواب عن الشبهة :

هذه الشبهة الواهية حصلت من الجمود على نفس الآية والغض عمّا تقدمها من الآيات فإنّك إذا لاحظت سياقها تذعن بأنّها ليست إنشاء خطاب في ظرف نزول القرآن بل حكاية لخطاب خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة ، ولقد حكاه في القرآن بعد لأي من الدهر ، فكما أنّه سبحانه يحكي فيه الخطابات الدائرة بين رسله

ص: 171


1- بديع ص 154.
2- الفرائد ص 314 ط مصر 1315 ه.

وجبابرة عصورهم من فرعون وقارون من دون انشاء خطاب في زمن الرسول ، فهكذا يحكي في هذه الآية وما تقدمها ، الخطابات الصادرة منه سبحانه في بدء الخلقة ، وإن كنت في ريب مما ذكرناه ، فلاحظ الآيات الواردة في سياقها ودونك إجمالها.

ابتدأ سبحانه بقصة آدم في سورة الأعراف ، من الآية الحادية عشرة وختمها بما استنتج منها من العبر في الآية السابعة والثلاثين ، ودونك اجمال القصة ونتائجها بنقل الآيات.

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) ( الأعراف - 11 - 25 ).

وعند ذلك ناسب أن يستنتج سبحانه من تلك القصة ويخاطب أبناء آدم بخطابات أربعة ، هادفة إلى لزوم طاعة اللّه سبحانه والتجافي عمّا يأمر به الشيطان ،

ص: 172

وإنّ لهم في قصة أبيهم واُمّهم لعبرة واضحة فقال سبحانه :

1. ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأعراف - 26 ).

2. ( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 27 ).

3. ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف - 31 ).

ولا تجعل قوله سبحانه في ثنايا الخطابات الأربعة : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... ) دليلاً على كونها انشاء خطاب في عصر القرآن للمسلمين بقرينة ذكر المسجد ، لأنّه مردود بوجهين :

الأوّل : لوجود المسجد في الاُمم السابقة وعدم اختصاصه بعصر الرسالة كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) ( الكهف - 21 ).

الثاني : إنّ المراد من المسجد ليس البناء الخاص الدارج في البلاد الإسلامية بل هو كناية عن حالة الصلاة والعبادة التي أمر اللّه بها عباده في الاُمم جمعاء على اختلافها في الأجزاء والشرائط والصور ، كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) ( مريم : 54 - 55 ).

وقوله سبحانه حاكياً عن المسيح : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) ( مريم - 31 ).

وعليه فالمراد أمّا خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة وألبسوا أجودها في حال

ص: 173

العبادة ، أو خذوا ما تسترون به عوراتكم حالها ، وعلى أي تقدير فهذا الحكم لا يختص بالاُمّة الإسلامية بل يعم الاُمم جمعاء.

4. ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأعراف - 35 ) ثم إنّه سبحانه في الآية السادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين توعّد من كذّب بآياته واستكبر عنها ومن افترى على اللّه كذباً ، وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .

وبعد ذلك ختم القصة مع ما استنتج منها لابناء آدم من عظات وعبر.

وأنت إذا احطت خبراً بهذه الآيات ، صدرها وذيلها وهدفها ومرماها ، لوقفت على أنّ الخطاب الأخير الحاكي عن بعث الرسل إلى بني آدم ليس انشاء خطاب في عهد الرسالة حتى ينافي صريح قوله الآخر : ( وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) بل هي حكاية لاحدى الخطابات التي ألقاها اللّه في بدء الخلقة ، عندما أخرج الشيطان أبانا من الجنة وأهبطه إلى الأرض ، وتعلقت مشيئته سبحانه بأن يستقر هو وأبناؤه في الأرض إلى حين ، فخاطب سبحانه أبناء آدم بلسان النصح وقال : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... ) فصدّق الخبر الخبر وجاءت الرسل تترى ، مبشّرين ومنذرين ، تالين على بني آدم آيات اللّه.

وممّا يؤيد ما ذكرنا ( أنّ قوله سبحانه : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ... ) حكاية للخطاب الذي ألقاه سبحانه في بدء الخلقة ، لا انشاء خطاب في عهد القرآن ) إنّ اللّه سبحانه حيث ما يذكر في موضع آخر من القرآن قصّة آدم على وجه التفصيل ، يذيّلها بمضمون هذه الآية وما بعدها من الآيتين (1) كما في سورتي البقرة وطه ، فإنّ

ص: 174


1- الآية السادسة والثلاثون والسابعة والثلاثون.

مضمونهما موجود في ذيل القصة ، وإنّما الاختلاف في اللفظ والعبارة ، دون اللب والمعنى.

ودونك ما في سورة البقرة ، ترى أنّ اللّه سبحانه بعد ما ذكر قصة آدم ، وإنّ الشيطان أزلّهما ، يكرّر مضمون هذه الآية وما بعدهما من الآيتين حيث يقول : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *.وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة : 38 - 39 ).

فهاتان الآياتان في سورة البقرة ، يتحد مضمونهما مع مضمون ما ورد في سورة الأعراف غير أنّهما جاءتا في سورة الأعراف بلفظ « يا بني آدم » دون ما في سورة البقرة وهذا يؤيد أو يدل على أنّ الوارد في سورة الأعراف ليس إنشاء لخطاب في عهد الرسالة ، بل حكاية لخطاب سبق منه سبحانه في بدء الخلقة.

ونظير ذلك ما ورد في سورة طه ، حيث يقول فيها سبحانه : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) ( طه : 121 - 122 ).

( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) ( طه - 123 ).

( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) ( طه - 124 ).

فهاتان الآياتان تتحدان مع ما وردتا في سورة الأعراف معنى ومضموناً ، وإن اختلفتا معهما لفظاً وعبارة ، وبذلك يظهر صدق ما أوضحناه من كون الآيتين في سورة الأعراف قد وردتا حكاية عن خطاب الهي صدر منه بعد خروج آدم من الجنة ، لا خطاب ابتدائي صدر منه سبحانه إلى المسلمين.

ومما يشهد على أنّها من الخطابات الواردة في بدء الخلقة ، أنّه سبحانه يؤاخذ

ص: 175

الخليقة كلها يوم القيامة بنفس هذا الخطاب ويقول : ( يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) ( الأنعام - 130 ).

فإذا نظرت إلى مضمون الآية ، ترى أنّ مادة الإحتجاج فيها هو عين ما ورد في سورة الأعراف وهذا دليل على أنّ الخطاب في هذه السورة من الخطابات الواردة في بدء الخلقة واللّه تعالى حكاها في القرآن للنبي الأكرم واُمّته ، فلاحظ.

دحض الشبهة بوجه آخر :

قد جمعنا وبعض البهائيين مجلس في سالف الأيام (1) في مدينة عبادان وسألني عن هذه الآية ودلالتها على مجيء الرسل بعد نبي الإسلام وأنّها تدل على أنّ باب النبوّة لم يوصد ، وكان في المجلس بعض الأعلام.

فقلت : إنّ لفظة « إمّا » مركبة من « إن » و « ما » الزائدة ، وكأنّه سبحانه قال : إن يأتينّكم ... وهو فعل الشرط ، والجزاء قوله : فمن اتقى ، ولكنّها مجردان عن الدلالة على الزمان ( الحال والاستقبال ) ، لأنّ الآية سيقت لبيان أصل الملازمة بين الشرط والجزاء ، غير مقيّد بزمان دون زمان ، بمعنى أنّ سنّة اللّه جرت على انقاذ من أطاع رسله ، واتقى محارمه ، وأصلح حاله ، وانّ من كان حاله كذا ، فلا خوف عليه ولا حزن ، وهذه عادة اللّه في الاُمم السالفة والحاضرة والمستقبلة.

وليس الخطاب مقيداً بزمان الحال حتى لا يعم الخطاب الاُمم السالفة ، ويختص بالاُمّة الحاضرة والتالية لها ويدل بالدلالة الالتزامية على مجيء الرسل في مستقبل الأيام بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بل هو بيان لحكم قطعي جرت مشيئة اللّه عليه ، على وجه الاطلاق ، غير مقيّد بزمان.

وإن شئت قلت : إنّ الهدف من الآية ليس الإخبار عن مجيء الرسل بعد رسول

ص: 176


1- عام 1379 ه ق.

اللّه صلی اللّه علیه و آله وإلاّ لكان اللازم أن يخرجها عن صورة الشرط ، ويلقيها على وجه الإخبار بل الهدف والذي سيق لأجله الكلام ، هو بيان الملازمة ، وأنّ السنّة جرت عليها في الأدوار كلّها ، من دون أن يكون بصدد الإخبار عن وقوع الشرط في زمان.

وهذا كقول المعلم لتلاميذه : لا صلة ولا قرابة بيني وبين أحد منكم ، من جد في درسه واتقن كتابته وخرج عن عهدة التكاليف الواجبة عليه فهو الناجح ، يعني بذلك أنّ السنّة الجارية في المدرسة والكليات والجامعات هي هذه من غير فرق بين هذا الصف والصف الآخر ، وهذه المدرسة والمدرسة الاُخرى ، وهذا الزمان أو غيره من الأجيال السالفة والتالية.

وأدل دليل على أنّ الآية ليست بصدد الإخبار عن مجيء رسل آخرين غير رسول اللّه هو استعمال كلمة « إن » الدالة على الشك والترديد في وقوع تاليها ، دون « إذا » الدالة على القطع واليقين ، فلو كان الهدف الإخبار عن مجيئهم لكان له الإخبار عن ذلك بكلمة تدلّ على القطع والجزم ، لأنّ الرسل ومجيئهم من مهمات الاُمور وعظائمها ، فلا يصح الإخبار عنه بهذه الجملة الدالة على الشك والترديد ، إلاّ إذا سيقت الآية لبيان الملازمة فقط ، لا الإخبار عن وقوع الشرط ولذلك ترى أنّه سبحانه يأتي في معرض الدلالة على الاُمور القطعية بعبارة مؤكدة كما في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) ( سبأ - 3 ).

وقوله سبحانه : ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا ) ( النمل - 37 ).

وحصيلة البحث أنَّ الآية بصدد بيان أنّ الفلاح والرشاد لمن يقتدي بهدى نبيّه ويقتفي أثره ولا يتخطى الخطوط التي يرسمها له رسوله في معاشه ومعاده سواء أكان الرسول رسول الإسلام أم غيره ، وليست ناظرة إلى بيان مجيء الرسل بعد عصر نزول الآية كما هو مرمى المستدل.

ونظير المقام قوله : ( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ

ص: 177

وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الأحزاب : 38 - 39 ).

فإنّ قوله : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ ) وإن كان بصيغة المضارع ، إلاّ أنّه مجرد عن الدلالة على الحال والاستقبال ، بدليل أنّه صفة لقوله سبحانه : ( الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ) فلو كانت الدلالة على الزمان مقصودة لوجب أن يقال : الذين بلغوا رسالات اللّه ، تطبيقاً للوصف على الموصوف ، ولما كان المقصود قيام الرسل الذين خلوا من قبل بنفس أمر التبليغ من غير دلالة على زمان القيام واستمراره ، صح توصيفه بالمضارع.

نقل كلام عن العلمين :

ثم إنّي وقفت بعد فترة من الزمان على سؤال وجّهه بعض الأجلّة (1) إلى العلمين الشيخ محمد جواد البلاغي (2) والسيد هبة الدين الشهرستاني (3) يسألهما عن تلك الشبهة الضئيلة ، وقد وافاه الجواب منهما ، وبعث السائل السؤال والجواب إلى مجلة العرفان (4) فنشرهما مدير المجلة على صفحاتها (5) فراقنا نقل الجوابين على وجه الاجمال ، لكون مضمونهما قريباً مما ذكرناه.

قال العلاّمة البلاغي : لابد من بيان أمرين :

الأوّل : إنّ تلك الطائفة لا يعرفون اللغة العربية وخواصها ، فإنّ الفعل المضارع غير مختص في المحاورات بالاستقبال ، بل يؤتى به منسلخاً عن خصوصيات الزمان للدلالة على الدوام والثبات كقولهم : زيد يكرم الضيف ، ويفك العاني ومن ذلك قول

ص: 178


1- العلامة الچرندابي المغفور له كان آية في التتبع ، وله أشواط بعيدة وخدمات ومواقف مشكورة.
2- كان علماً من أعلام الاُمّة وفطاحلها ، قد أفنى عمره في الذب عن حريم التوحيد والرسالة ، توفّي عام 1352.
3- نادرة الزمان ونابغة العراق ، توفّي في 25 من شهر شوال عام 1386.
4- مجلة علمية أدبية سياسية شيعية ، تصدر في مدينة صيدا ، من لبنان الجنوبي ، أسّسها الشيخ أحمد عارف الزين عام 1327 وهي لم تزل تصدر إلى الآن.
5- المجلد السادس والثلاثون ص 767 - 771.

اليشكري في المعلّقة :

يدهدون الرؤوس كما تدهدى *** مزاورة بأبطحها الكرينا

وقوله أيضاً :

علينا البيض واليلب اليماني *** وأسباب يقمن وينحنينا

وقوله سبحانه :

( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) ( سبأ - 3 ).

الثاني : إنّ الجملة الشرطية كثيراً ما تجيء غير ناظرة إلى الزمان ، بل لمجرد ملازمة الجزاء للشرط وترتبه عليه في أي زمان وقع الشرط ، بمعنى أنّه لابد من وقوعه عند وقوع الشرط في أي زمان ، ومنه قول القائل :

من يفعل الحسنات اللّه يشكرها *** والشر بالشر عند اللّه سيان

ومن قوله سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة 7 - 8 ).

ومنه قول زهير في معلّقته :

ومن لم يصانع في اُمور كثيرة *** يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

ومثله قوله الآخر :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

إذا تقرر هذا : فلا خفاء في أنّ حاصل الآية : أنّه مهما آتى بني آدم رسل ، يعني رسل حق ، يأتون بآيات اللّه ووحيه ويقصّونها في التبليغ ، فمن اتقى حسب ما جاء في الآيات ولم يعص اللّه بالمخالفة به وأصلح وجعل أعماله صالحة ، فلا خوف عليهم ولا يحزنون.

ص: 179

فجيء بالشرط بصيغة المضارع ، للدلالة على ثبوت الاتيان بتكرره ، بحسب الحكمة ، وأنّ الجزاء لازم لهذا الشرط ، دون نظر إلى الزمان الخاص ، والواقعة الخاصة ، وليس نظره إلى خصوص الزمان الماضي ولا خصوص المستقبل. لكن القرآن الكريم بين أنّ هذا الشرط لا يقع في المستقبل وذلك بقوله سبحانه : ( وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، فكان هذا البيان من المحكمات التي هي اُم الكتاب.

قال العلامة الشهرستاني : « إما » لفظة مركبة من « إن » الشرطية ، و « ما » الكافة عن العمل ، وعليه كفت المضارع عن الجزم ، وقرنته بنون التأكيد الثقيلة وجردته عن الدلالة على زمان خاص بالحال والاستقبال ، كما أنّ الصيغ التالية لها ( فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) ، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا ) تجردت أجمع عن الدلالة الخاصة بالماضي والمفهوم من المجموع قضية طبيعية عامة السير في الاُمم ، وهي توجه رسل الهداية إلى أقوام البشر لغاية الوعظ والانذار بآيات اللّه وبيّناته.

وإن شئت قلت : انّ الغاية في الآية عبرة الانسان بتاريخ الانسان ، حتى يترك اغتراره بالحال الحاضر ، وهذا لا يكون إلاّ من درس تاريخ السلف ، ولا معنى للعبر بالمستقبل. نعم المعتبرون هم الجيل الحاضر والمستقبل ، ولكن المعتبر به حال السلف والحوادث النافعة ، وأمّا مادة الوعظ ، أي المعتبر به ، هي القصص الماضية ( دون سواها ) ورسلها ورسالاتها وعواقب أمرها ومعرفة مصير المتقين ومصير المكذّبين.

فبأي لفظة من الآية يستدل هؤلاء على صحة الرسالة من بعد محمد المصطفى صلی اللّه علیه و آله ! أبلفظ « يأتينّكم » وقد تبيّن أنّها تجردت عن اختصاصها بالحال والاستقبال ، كما تجردت لفظة أتقى وأصلح ، عن الاختصاص بالماضي.

أم يستدلون بلفظة « الرسل » وقد تبيّن أنّهم وقصصهم وآياتهم ذكرت في الآية ، لغاية الموعظة والعبرة ، ومثله لابد وأن يكون من الجيل الماضي إذ لا معنى للعبرة من المستقبل.

أم بلفظة « يا بني آدم » وانّه خطاب للجيل الحاضر أو المستقبل ، نعم انّ

ص: 180

اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء ، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر ، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية ، فإنّ أقصى ما في هذه ، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين ، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم ، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي ، بقصة موسى وفرعون ، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به ، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :

اشارة

استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة ، وعدم انتهائها بآية ثانية ، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم ، ودونك الآية :

( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر - 15 ).

قال المستدل في فرائده : إنّ قوله سبحانه : ( يُلْقِي الرُّوحَ ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة ، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة (1).

الجواب :

توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

1. الظاهر من « الروح » هو الوحي (2) فاستعير له الروح ، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع ، ويوضح ذلك قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا

ص: 181


1- الفرائد ص 313 وص 126 من الطبعة الحجرية.
2- وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة ، وما اخترناه هو الأولى ، فتدبر.

كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ( الشورى - 52 ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء - 85 ).

2. يوم التلاق : إنّما هو يوم لقاء اللّه ، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود ، وأهل الأرض والسماء ، كما يوضحه ما بعد الآية : ( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر - 16 ).

والمراد من قوله : ( لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه ، ويجزي المحسن والمسيء ، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.

إذا عرفت الأمرين ، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان ، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها ، بلا نظر إلى زمان النسبة ، سواء أكان الماضي ، أم الحال أم المستقبل ، كما في قوله :

من يفعل الحسنات لله يشكرها

والشر بالشر عند اللّه سيان

وعلى هذا ، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق ، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد ، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده ، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم ، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول : ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان - 32 ). أو يطعن ويقول : ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف - 31 ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر ، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه ، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض ، التعبير بالماضي ، أو المضارع ، فسواء أقال : « القى الروح » أم قال : ( يُلْقِي الرُّوحَ ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف ، والمقصد الأسنى ،

ص: 182

اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده ، من دون دلالة على زمان الاتصاف.

ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.

فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل ، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده ، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب ، فيجيب الملك بقوله : إنّ الامر بيدنا ، نقدم من نشاء ، ونؤخر من نشاء ، نرفع من نشاء ونضع من نشاء ...

فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته ، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل ، متمسكاً بأنّه قال : « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل : « قدمت ».

لا ، ليس لك ولا لغيرك هذا ، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف ، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي ، فلاحظ.

فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول : إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة ، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات ، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.

قال الشيخ المفيد : إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع ، والعلم بأنّه خلاف دين النبي صلی اللّه علیه و آله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار (1).

ص: 183


1- أوائل المقالات ص 39.

قال الفاضل المقداد في أثره القيّم (1) أنّه صلی اللّه علیه و آله مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخباره صلی اللّه علیه و آله بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب ، إلى أن قال : ... يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلاّ لم تكن عامة للخلق ، ولقوله تعالى : ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وقوله صلی اللّه علیه و آله : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :

اشارة

وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :

الاُولى : قوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( يونس - 47 ).

الثانية : قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( يونس - 49 ).

تقرير هذه الشبهة أنّ اللّه حدد حياة الاُمم بحد خاص ، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم ، فلها أجل خاص ، ومدة محدودة ، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة ؟

وروي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية ، فأجاب صلی اللّه علیه و آله بقوله : إن صلحت اُمّتي فلها يوم ، وإن فسدت فلها نصف يوم (2).

الجواب :

لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين : أمّا الآية الاُولى ، أعني قوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) فصريح الآية هو أنّ اللّه سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،

ص: 184


1- اللوامع الالهية في المباحث الكلامية ص 225.
2- الفرائد ص 17 الطبعة الحجرية.

مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى ، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه ، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها ، فالآية غير ناظرة إليه ، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص ، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان ، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك ، كما تقدمت دلائله.

ونظير ذلك قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ( النحل - 36 ).

أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام ، لا ، لا تجده من نفسك ، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.

وأمّا الآية الثانية ، فكشف الغطاء عن محيا الحق ، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة ، فنقول :

قال الراغب : الاُمّة ، كل جماعة يجمعهم أمر ما : أمّا دين ، أو مكان ، أو زمان ، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً (1).

هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب ، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين ، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :

الجامع الديني ، كما في قوله سبحانه : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) ( البقرة - 128 ) وقوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ) ( آل عمران - 110 ).

الجامع الزماني كقوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ

ص: 185


1- المفردات للراغب ص 23 مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال : أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية ، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة ، لاطلاقها على الجماعة.

سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف - 34 ) وفسّرها المفسرون بلازم المعنى وقالوا : بعد حين ، أي بعد انقضاء أهل عصر ، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة ، ومثله قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( هود - 8 ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى ، وقال : إلى جماعة من الاوقات.

الجامع المكاني : نحو قوله سبحانه : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) ( القصص - 23 ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم ، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة ، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد ، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.

الجامع العنصري والوشيجة العنصرية ، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه : ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) ( الأعراف - 160 ).

وقوله : ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) ( الأعراف - 168 ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة ، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية ، إلاّ أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً ، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع ، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :

إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد ، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا ) ( النحل - 120 ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة اللّه ، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة ، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.

بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب ، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،

ص: 186

كقوله سبحانه : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام - 38 ).

فعدّ اللّه كل صنف من الدواب والطيور اُمماً ، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق ، فهي بين ناسجة كالعنكبوت ، وبانية كالسرفة ، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام ، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع (1).

ويمكن أن يقال : إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة ، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة ، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان ، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة : الطريقة والدين :

نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه ، في الكتاب والسنّة ، وهو الطريقة والدين ، كقوله سبحانه : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف - 22 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف - 23 ).

قال الجوهري في صحاحه : الاُمّة ، الطريقة والدين ، يقال لا اُمّة له ، أي لا دين ونحلة ، قال الشاعر :

وهل يستوي ذو اُمّة وكفور ...

وقال الفيروز آبادي : الاُمة - بالكسر - الحالة والشرعة والدين ويضم.

هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلاّ في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.

ص: 187


1- المفردات للراغب ص 23.
فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :

إذا عرفت ما ذكرناه : فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ... ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة ، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله : ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ... ) إذ يجب حينئذ أن يقول : فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير ، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة (1) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني : أعني الجماعة ، التي يربطهم في الحياة أمر ما ، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً ، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم ، فلا إمهال ولا تأخير ، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.

وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة (2) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما ، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً ، أو عنصراً ، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.

وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه ، وأوضحناه ، ودونك بعضها :

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (3) * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا

ص: 188


1- سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.
2- وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها ، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».
3- أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.

يَسْتَأْخِرُونَ ) ( الحجر 4 - 5 ) ، وقوله سبحانه : ( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( المؤمنون 42 - 43 ).

وقريب منه قوله سبحانه : ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون : 10 - 11 ) ، وقوله سبحانه : ( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح - 4 ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :

ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع ، وانتهاء أمدها ، بل قصر استعماله على موارد اُخرى ، لبيان آجال الديون ، والعقود كقوله تعالى : ( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ( البقرة - 282 ).

وقوله سبحانه : ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ( البقرة - 235 ).

أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) ( الأنعام - 2 ) وقوله سبحانه : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد - 2 ).

وأمّا قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد - 38 ) فيحتمل وجوهاً :

1. إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً ، كتب وفرض في ذلك الأجل ، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال ، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.

2. ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً ، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً ، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن ، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو

ص: 189

أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح ، ونحن حملنا على الحتم والفرض.

3. انّ المراد منه : انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه ، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.

4. انّ لكل أمر قضاه اللّه كتاب كتب فيه ، وأبعد الوجوه هو الأخير ، إذ هو تفسير بالأعم ، وهو سبحانه يقول : ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد - 38 ) فلقد كانوا يقترحون على النبي صلی اللّه علیه و آله بعض الآيات ، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً ، كتبه اللّه لذلك الوقت ، ولا يجري إلاّ فيه.

وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة ، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً ، إلاّ على الوجه الثاني ، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.

وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً ، والحكم ليس نفس الدين والشريعة ، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.

وأمّا على المعنى الثالث والرابع ، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً ، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :

وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً ، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله ، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة ، إذ لنا أن نقول : إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان ، في أديم الأرض وقيام القيامة ، وحضور الساعة ، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة

ص: 190

والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة ، وأنّ أجله وأجلها واحد.

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول اللّه :

هلم نسأله ، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : أنّه بعد ما نزلت آية : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية ، فأجابه بقوله : إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم (1).

فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني ، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابه صلی اللّه علیه و آله عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية ، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

نعم تفسير اليوم بألف عام ، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج - 47 ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة ، استناداً إلى قوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج - 4 ).

وأمّا ما رواه العلاّمة المجلسي ، مسنداً عن كعب الأحبار ، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام ، من الحديث ، فمما لا يقام له وزن ، فإنّ كعب الأحبار وضّاع

ص: 191


1- الفرائد صفحة 17 الطبعة الحجرية.
2- ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام 955 ه قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق : انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال ، ثمّ نزول عيسى ، وخروج الدابة و ... حتى لو لم يبق من الدنيا إلاّ مقدار يوم واحد ، فوقع ذلك كلّه ، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته : وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه ، أعاذنا اللّه منه ) من اليوم الذي وعد به رسول اللّه بقوله في اُمّته : إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم ، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) لاحظ اليواقيت ج 2 ص 160 ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.

كذّاب مدلس ، لم تخرج اليهودية من قلبه ، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية ، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة ، فلنضرب عنه صفحاً.

أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله ولا إلى الولي ، فكيف يكون حجّة ؟

ثم إننا نسأل صاحب الفرائد (1) ومن مشى مشيه ، ونقول : إنّ رسول اللّه قال ( بزعمكم ) : إن صلحت اُمّتي فلها يوم ... فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام ، وازدهر فيهم العدل والإحسان ، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم ... وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام ، التي هي نصف يوم ، من اليوم الربّاني ، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه.

وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي اللّه الأعظم ، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل اللّه فرجه ) لا عام بعثة الرسول صلی اللّه علیه و آله أو هجرته أو وفاته ، أو سنة صدور الحديث. أو ما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية ؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل ، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ، عام غيبة الولي ، أعني عام 260 من الهجرة النبوية ، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلاّ هو سبحانه ، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب (2) على اختتام ألف عام (3).

فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى ، مفتتح عام 1260 من الهجرة النبوية.

ص: 192


1- أبو الفصل الجرفادقاني.
2- المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب ، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية.
3- فالرجل قد وضع فكرة معينة ، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها ، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن كلّ هوى وميل شخصي ، ويتابع النصوص ومفادها ، فما أدت إليه بعد التمحيص ، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.

الشبهة الرابعة :

استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة ، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي قوله سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور - 25 ).

قال : إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام ، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به ، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم ، كما قال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة - 3 ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي (1). الجواب :

هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير ، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر (2) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين ، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي ، فسّره في مجمعه بقوله : يتم اللّه لهم جزائهم الحق ، فالدين بمعنى الجزاء (3) ، وقال الزمخشري : الحق ، صفة الدين وهو الجزاء (4) لا الطريقة والشريعة.

ص: 193


1- الفرائد صفحة 122 الطبعة الحجرية.
2- فقد ألّف « الفرائد » بمصر ، أيام اقامته هناك ، وفرغ منه عام 1315.
3- مجمع البيان ج 7 ص 134.
4- الكشاف ج 3 ص 223.

وليت الكاتب ، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ... ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية ، فهل هذا اليوم إلاّ يوم البعث ؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم اللّه جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين ، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، ويوفي اللّه دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه.

على أنّ سياق الآية يوضح المقصود ، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعتاب البليغ ، والزجر العنيف ، لإستعظام ما ركبوا من ذلك ، وما أقدموا عليه ، إذ قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور : 23 - 25 ).

ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة :

1. اللعن عليهم في الدينا والآخرة.

2. شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية.

3. توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم.

ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته ، وأرخى قلمه ولسانه ، وفسّر الآية برأيه الباطل ؟!

الشبهة الخامسة :

اشارة

قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة ، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم ، وهي الاستدلال

ص: 194

بالآية التالية : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة - 5 ).

فقد فسّر صاحب الفرائد (1) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة ، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين ، ورفضه في مراحل الحياة ، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي ، مدلهمّة بالخطايا ، مريضة بشيوع الفساد والفوضى ، فيبعث اللّه عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب ، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلاّ يوماً ربّانياً ، وهو ألف سنة ممّا تعدون (2).

الجواب :

ما ذكره بصورة الشبهة ، لا يصح إلاّ بعد تسليم اُمور ، لم يسلم واحد منها :

1. إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي.

2. إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة.

3. العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة.

وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول :

أمّا الأوّل : فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة ، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض ، باحدى

ص: 195


1- الفرائد الطبعة الحجرية.
2- ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي اللّه الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب ، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي ، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً ، إلاّ بتحريف كلام اللّه وتأويله السخيف.

الطرق المقررة في محلها.

وإن شئت قلت : التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها ، كما قال سبحانه : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات - 5 ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور.

وقوله سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد - 24 ).

وقوله سبحانه : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص - 29 ) إلى غير ذلك.

أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأوعد عليه النار وقال : من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار (1).

وأمّا الثاني : فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح ، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات.

هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة ، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف.

سؤال : إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها ، كما يقال أمرته : إذا كلّفته ، فيصح تفسيره بالشريعة ، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده ؟

الجواب : انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة ، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود ، فإنّ كل ما يسيطر على العالم ، من نظام وسنن وقوانين ، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

ص: 196


1- حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( يس : 82 - 83 ).

حصيلة البحث :

انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها ، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني ، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد :

1. لفظ التدبير ، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة ، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض ، على وجه تقتضيه المصلحة ، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة ، فلا السماء تسقط على الأرض ، ولا الأرض تنخسف بنا ، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً ، إلى غير ذلك من سنن ونظم ...

2. سياق ما تقدمها من الآيات ، فإنّ محور البحث في سابقها ، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش ، ودونك الآية المتقدمة عليها :

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السجدة - 4 ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض ... أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة ، وأنّ اللّه سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة ، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة ، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق ، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه ، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير ، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك ، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية ، ولكن أوامره سبحانه ، أوامر تكوينية ، لا يقوم بوجهها شيء ، فما قال له كن ، فيكون ، بلا تراخ ولا تمرّد.

ص: 197

3. الآيات المنزّلة في هذا المضمار ، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه ، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه ، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها ، ودونك الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس - 3 ).

وقوله سبحانه : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ) ( يونس - 31 ).

وقوله سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ( الرعد - 2 ).

نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية ، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها.

ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف - 54 ) هو أمر الخليقة ، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها ، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها ، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق ، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر ، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً ، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي ، صحيحاً لا ريب فيه.

وأمّا الثالثة : فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً ، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج - 4 ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها ، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه

ص: 198

إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء ، بل كل ما يستفاد ، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها ، لا إنّها تعرج إليه سبحانه.

أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه ، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام ، لاقتضى ذلك أن يعبّر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية ، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلاّ بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً ، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها ، حتى تفرّد هو بهذا الكشف ؟!

مشكلة المفتتح والمختتم :

بقيت في المقام مشكلة ، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها ، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر ، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب (1) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي ، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلاّ عام غيبة الإمام ، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء.

وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى ، فقال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة - 3 ).

ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي ، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبي صلی اللّه علیه و آله بالرفيق الأعلى ، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه ، فينتقض كلامه من جانب آخر ، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة ، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة ، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ

ص: 199


1- فقد اتفقت غيبة الإمام عام 260 ، وادّعى الباب ما ادّعى ، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة 1260.

النسخ التدريجي عام فوت الرسول صلی اللّه علیه و آله فإنّ العصور التي جاءت من بعده صلی اللّه علیه و آله لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان ، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها ، فتصافقوا على تجاهل النص ، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّات والنوازل.

ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة ، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة ، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل

أفلا تعجب من الكاتب ، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة ، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام ، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله : ( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) فله منّا بحث آخر ، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم ، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.

الشبهة السادسة :

اشارة

الشبهة السادسة (1) :

* ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية ، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع ، ونسخ جميعها.

ص: 200


1- هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.

* وينص أيضاً على أنّ المؤمنين باللّه واليوم الآخر من جميع أهل الشرائع سينالون ثواب اللّه ، وأنّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

* فماذا يعني ذلك ؟

هل ذلك اعتراف من الإسلام بشريعة تلك الشرائع ، والسماح لها بالاستمرار إلى جانبه أو لا ؟

إذا كان الإسلام آخر شريعة في مسلسل الشرائع السماوية ، وكانت رسالته خاتمة الرسالات ، وناسخة الأديان ، فلماذا يعتبر القرآن كل من يؤمن باللّه ، ويعمل صالحاً من أصحاب الديانات المسيحية أو اليهودية أو غيرهما مأجوراً عند اللّه ، وآمناً من عذابه ؟!

ألا يعني بهذا أنّ جميع الشرائع السماوية لا تزال تحتفظ بشرعيتها ، إلى جانب الإسلام ، وأنّ أتباعها ناجون شأنهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً ، وكأنّ شريعة جديدة لم تأت وكأنّ أمراً ما لم يقع ؟ (1).

قبل اعطاء الإجابة الصحيحة على هذا السؤال يتحتم علينا أوّلاً أن نستعرض سريعاً ما يذكر في هذا الشأن من الآيات وهي ثلاث :

1. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة - 62 ).

2. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( المائدة - 69 ).

3. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( الحج - 17 ).

قد يقفز إلى الذهن في النظرة الاُولى أنّ القرآن يكرّس شرعية الشرائع المذكورة

ص: 201


1- قد شاع هذا النظر من جانب بعض المستشرقين.

ويعترف بحقها في أمان من عذاب اللّه ، وفي منجى من مؤاخذته ، بشرط أن يكونوا مؤمنين باللّه وباليوم الآخر ، وأن يقدموا على ربّهم بعمل صالح ويكون نتيجة ذلك أنّ فكرة نسخ الإسلام للشرائع ادعاء فارغ لا أساس له ولا واقع ما دام الإسلام يعتبر أنّ كل الطرق تؤدي إلى اللّه ، وانّه ليس من الضروري على أصحاب الشرائع الاُخرى أن يعتزلوا شرائعهم ، وينضمّوا إلى صفوف الإسلام والمسلمين.

هذا هو ما نسمعه بين الحين والآخر من بعض الأفواه.

غير أنّه يجب أن نعرف أوّلاً : أنّ الأساس السليم في تفسير آية ما ، ليس هو أن نتجاهل أخواتها من الآيات أوّلاً ، وملابسات النزول ثانياً ، ومقتضى السياق القرآني ثالثاً ، لأنّنا في هذه الحالة سنقع في تخبط عريض لا أوّل له ولا آخر.

ثم إنّ علينا - قبل كل شيء - أن نلاحظ سيرة الرسول صلی اللّه علیه و آله مع أصحاب الشرائع هل كان يأمرهم بالاعتزال عن دياناتهم ، والانضمام إلى صفوف المسلمين أو لا ؟ فإذا كان الجواب في المقام ايجابياً لكان ذلك الأمر قرينة على أنّ المقصود من الآيات المذكورة غير ما يتبادر منها في بدء الأمر.

وبعبارة واضحة : إذا كان الإسلام يعترف بشرعية الشرائع وحقها في الاستمرار والبقاء حتى بعد ظهور الإسلام ، فإنّ معنى ذلك هو أنّ الإسلام ينسف بنفسه مقوّمات وجوده ويعطل من ناحية اُخرى كل الاُسس الوجيهة التي قامت عليها دعوة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله قادة العالم آنذاك إلى شريعته ضمن رسائله ومكاتيبه المشهورة ، ويفند بالتالي دعوى الرسول صلی اللّه علیه و آله بأنّه ( آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ) وأنّ رسالته خاتمة الرسالات !!!

إنّ الرسائل الهامة التي وجهها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى قادة وملوك زمانه وأيضاً جهاده المرير وجهاد المسلمين ضد أهل الكتاب سواء في عهده أو بعد ذلك ، مضافاً إلى مجموع ما وصل إلينا من تصريحات قادة الإسلام لدليل صارخ على أنّ الإسلام أعلن بظهوره ( نهاية ) عهد الشرائع بأسرها و ( بداية ) عهد جديد لا شريعة له سوى ( الإسلام ) ولا نبي له سوى ( محمد ) صلی اللّه علیه و آله .

ص: 202

الحديث يبيّن هدف الآية :

إنّ مفاد الآيات المذكورة ليس - في الواقع - سوى تقرير لحقيقة ثابتة ، وهي التي تتجلى - بوضوح - من خلال الآيات السابقة لهذه الآية من سورة البقرة.

فالآيات إنّما تتحدث عن مصير الماضين من اتباع الشرائع في عهود الأنبياء السابقين قبل ظهور الإسلام ممّن آمن منهم باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً.

فالقرآن يخبرنا بأنّ هؤلاء ناجون بسبب إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح والتزامهم بتعاليم شرائعهم دون من حاد عن طر يق الإيمان ولم يأت بعمل صالح وانحرف عن جادة التوحيد الخالص ، وهم الفرقة التي عبدت العجل مرة (1) وبلغ بها الوقاحة أن طلبت من موسى أن يريها اللّه (2) ذلك الطلب الوقح الذي صار سبباً لأن يحل غضب اللّه على بني اسرائيل.

لقد أراد اللّه هنا أن يزيل الغموض أو الاشتباه حول مصير الفريق المؤمن من أهل الكتاب حتى لا يختلط أمرهم بأمر ذلك الفريق الكافر المعاند فأخبر بأنّ من آمن من أهل الكتاب باللّه عن اخلاص ، وآمن باليوم الآخر عن صدق وعمل صالحاً ، فإنّه لا خوف عليهم يوم القيامة ولا حزن ولا عقاب ، بل جنّة وثواب ورضوان من اللّه.

في هذه الصورة يمكن اعتبار الآية مرتبطة بذلك الفريق المؤمن من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون في العصور الماضية السابقة على الإسلام دون أن يكون لها أي ارتباط بعصر الرسالة الإسلامية وما بعده.

ونأتي بشأن نزول هذه الآية ليلقي ضوء أكثر على هذا الموضوع ، ويؤيّده تأييداً كاملاً.

فهذا هو الطبري ينقل عن السدّي قوله : نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان

ص: 203


1- راجع البقرة الآيات : 51 ، 54 ، 92 ، 93 ، والنساء : 153 ، والأعراف : 152.
2- راجع البقرة : 55.

الفارسي حيث ذكر أصحابه للنبي صلی اللّه علیه و آله فقال له نبي اللّه : هم من أهل النار ، فأنزل اللّه هذه الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ... ) (1).

في هذه الصورة لا تجد أي ارتباط للآية بزعم اُولئك الذين يدعون أنّ هذه الآية لا تعني سوى ( الوفاق الإسلامي المسيحي اليهودي ) ويزعمون أنّ الإسلام يقرّر في هذه الآيات ( أمان ) المعتنقين لغير الإسلام من عذاب اللّه وعقابه.

هذا مضافاً إلى أنّنا لا نرى أي علاقة بين الآية الثالثة ( وهي الآية 17 من سورة الحج ) وبين ما يزعم هؤلاء .. حيث أنّ مفاد هذه الآية لا يعني سوى الإخبار بأنّ اللّه هو الحاكم بين الطوائف المختلفة ، يوم القيامة فهو الذي ينتقم من طائفة وينتصر لطائفة اُخرى ، وليس يعني ذلك مطلقاً أنّ أصحاب الشرائع الاُخرى على حق ، وأنّهم ناجون يوم الحساب !

جواب آخر :

ولنا - هنا - إجابة ثانية على السؤال المطروح ، ولكن قبل أن ندخل في صميم هذه الاجابة نرى من الضروري أن نشير إلى بعض هذه الاُمور :

فكرة الشعب المختار :

التاريخ يحدثنا أنّ اليهود والنصارى كانوا كثيراً ما يستعلون على المسلمين بل العالم بادعاء فكرة ( الشعب المختار ) ، فكل واحدة من هاتين الطائفتين : اليهود والنصارى ، كانت تدّعي أنّها أرقى أنواع البشر !!

وكانت اليهود خاصة أكثر تمسكاً بهذا الزعم ، حتى أنّهم كانوا يدّعون أنّهم ( شعب اللّه المختار ).

ص: 204


1- تفسير الطبري ج 1 ص 256 ، والحديث طويل وقد أخذنا موضع الحاجة منه ، والظاهر أنّه منقول بالمعنى وفي بعض عباراته خلل.

وقد ذكر القرآن في إحدى آياته هذا الزعم الباطل ، وذكر أنّ النصارى هم أيضاً يدّعون هذا الإدّعاء الفارغ عندما يقول :

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ) ( المائدة - 18 ).

والقرآن جاء يفنّد هذا الزعم بكل قوّة عندما يقول : ( فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ) وقد بلغت أنانية اليهود ، واستعلائهم الزائف حداً بالغاً ، وكأنّهم قد أخذوا على اللّه عهداً بأن يستخلصهم ، ويختارهم حيث قالوا :

( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ( البقرة - 80 ).

ولكن القرآن نسف بقوة هذا الزعم حيث قال في شكل إستفهام انكاري :

( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة - 80 ).

هكذا نستكشف من خلال هذه المزاعم وردودها أنّ اليهود كانوا يعدّون أنفسهم صفوة البشرية ونخبة الشعوب وكانوا يحاولون بمثل هذه المزاعم فرض كيانهم على العالم كأرقى نوع بشري انتخبه اللّه على سائر البشر ، حتى كأنّهم أبناء اللّه المدلّلون.

2. الأسماء لا تنقذ انساناً :

إنّ اليهود والنصارى كما كانوا يحاولون الاستعلاء الباطل عن طريق بث ( فكرة الشعب المختار ) كانوا من ناحية ثانية يعتبرون الأسماء ، أو الانتساب إلى اليهودية والمسيحية سبباً آخر من أسباب التفوّق في الدنيا ، والنجاة في الآخرة والفوز بالثواب الجزيل.

فقد كان في تصورهم أنّ الجنّة هي نصيب كل من ينتسب إلى بني اسرائيل أو يسمّى مسيحياً ليس إلاّ ، وكأنّه بإمكان الأسماء أو الانتساب أن تصبح يوماً ما سبيلاً إلى

ص: 205

الهداية ، أو مفاتيح للجنّة !!

ولكن هذا الزعم - على رغم سخافته - اُمنية لهم كسائر أمانيهم كما يحدثنا القرآن :

( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ) ( البقرة - 111 ).

غير أنّ القرآن كان بالمرصاد لهذه الدعاوي الباطلة أيضاً ، عندما ذكر بأنّ الوسيلة الوحيدة لامتلاك الجنّة العريضة هي : ( الإيمان الصادق ) و ( العمل الصالح ) وليست الأسماء ، أو مجرد الانتساب إلى عقيدة سماوية مهما كانت. فقال :

( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة : 111 - 112 ).

ولا شك أنّه واضح جداً أنّ جملة ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ ) إنّما تعني الإيمان الخالص والتسليم الصادق لله ، وجملة ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) إنّما تعني العمل وفق ذلك الإيمان أي العمل بالشريعة التي يؤمن الشخص بها ، وكلتا الجملتين تدلاّن على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة إنّما هو : الإيمان والعمل ، وليس اسم اليهودي أو النصراني فليست المسألة مسألة أسماء وإنّما هي مسألة إيمان صادق ، وعمل صالح.

3. ليست الهداية في اعتناق اليهودية والمسيحية :

يشير القرآن - أيضاً - إلى دعوى اُخرى لهم باطلة كأخواتها ، فارغة كمثيلاتها وهي قولهم بأنّ الهدى الحقيقي إنّما هو في اعتناق اليهودية أو المسيحية !!

( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) ( البقرة - 135 ).

ولكنّ القرآن يرد - أيضاً - هذا الزعم الواهي بقوله :

( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( البقرة - 135 ).

فالهدى الحقيقي هو في الاقتداء بملّة إبراهيم واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة.

ص: 206

وفي آيات اُخرى في القرآن نجد كيف أنّ اليهود والنصارى حاولوا اضفاء طابع اليهودية والمسيحية على إبراهيم ، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهم ويضفوا الشرعية على مسلكهم ، غير أنّ القرآن مضى يفنّد - بكل قاطعية وعنف - هذه الاكذوبة بقوله :

( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران - 67 ).

نستخلص من كل هذه الآيات كيف أنّ اليهود والمسيحيين والقدامى منهم خاصة كانوا يحاولون - بهذه الأفكار الواهية - التفوّق على البشر ، والتمرّد على تعاليم اللّه ، والتخلص بصورة خاصة من الإنضواء تحت لواء الإسلام ، مرة بافتعال اكذوبة ( الشعب المختار ) الذي لا ينبغي أن يخضع لأي تكليف ، ومرة اُخرى بافتعال خرافة ( الأسماء والانتساب ) وادعاء النجاة بسبب ذلك والحصول على مغفرة اللّه وجنّته وثوابه. ومرة ثالثة بتخصيص ( الهداية ) وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنّه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكل صراحة وتأكيد : أنّه لا فرق بين انسان وانسان إلاّ بتقوى اللّه فإنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم ..

وأمّا النجاة والجنّة فمن نصيب من يؤمن باللّه ، ويعمل بأوامره دونما نقصان لا غير ، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.

بهذا البحث حول الآيات الثلاث ( المذكورة في مطلع البحث ) نكتشف بطلان الرأي القائل بأنّ الإسلام أقر - في هذه الآيات - مبدأ ( الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي ) تمهيداً لإنكار عالمية الرسالة الإسلامية ، بينما نجد أنّ غاية ما يتوخّاه القرآن - في هذه الآيات - إنّما هو فقط نسف وإبطال اليهود والنصارى وليعلن مكانه بأنّ النجاة إنّما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح.

فلا استعلاء ، ولا تفوّق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً ، كما أنّ هذا التشبّث الفارغ بالأسماء والدعاوي ليس إلاّ من نتائج العناد والاستكبار عن الحق.

ص: 207

فليست الأسماء ، ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر ، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وهذا الباب مفتوح على وجه كل انسان يهودياً كان أو نصرانياً مجوسياً أو غيرهم.

ويوضح المراد من هذه الآية قوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ( المائدة - 65 ).

فتصرّح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافة من غير فرق بين جماعة دون جماعة حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم.

هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات ، وليس أي شيء آخر.

إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاثة على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره .. وإنّما تدل على أنّ القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.

يبقى أن تعرف أنّ هنا آيات اُخرى تؤيد بصراحة ما ذهبنا إليه من انحصار النجاة في الإيمان والعمل ، وذلك كسورة ( والعصر ) :

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) ( العصر : 1 - 3 ).

كما أنّ تكرار كلمة ( الإيمان ) في الآيات الثلاث تأكيداً آخر لما قلناه حيث قال في مطلع الآيات : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) ثم قال : ( ... مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ) وهو يقصد بمن ( آمنوا ) الاُولى ، الذين اعتنقوا الإسلام في الظاهر ، دون أن يتسرب الإيمان إلى قلوبهم ، وينعكس على تصرفاتهم ، ويقصد بمن ( آمن ) الثانية الإيمان الصادق المقرون بالعمل.

وبعبارة اُخرى : انّ المراد من قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) هم المسلمون لوقوعه في مقابل اليهود والنصارى ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً

ص: 208

لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ) ( المائدة : 82 ) فقد جعل لفظ « آمنوا » في مقابل اليهود.

وحينئذ فالمراد من قوله : ( آمَنُوا ) في صدر الآية هو من أظهر الإيمان باللّه ورسالة رسوله محمد صلی اللّه علیه و آله كما أنّ المراد من قوله : ( مَن يُؤْمِنُ ) هو الإيمان الحقيقي الراسخ في القلب.

ونظيره قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ) ( النساء - 136 ).

ثمّ إنّي بعد ما كتبت هذا وقفت على ما كتبه الكاتب الإسلامي أبو الأعلى المودودي حول الآية ، وكان متقارباً لما قلناه ، وحررناه ، ولأجل اتمام الفائدة نأتي بإجمال ما كتبه :

والحقيقة انّ هذا التحريف قد اسدى إلى روح الضلالة خدمة كان قد عجز عن مثلها أكابر أئمّة الضلال والكفر على بعد نظرهم ، ومكرهم في التضليل ، إذ هو يزوّد - في جانب - غير المسلمين بدليل من القرآن نفسه على عدم احتياجهم إلى قبول الحق ، ويأخذ - في جانب آخر - بيد المنافقين والدخلاء على الجماعة الإسلامية من الذين يتلملمون دائماً للتنصل من قيود الإسلام وحدوده حتى ينالوا الرخصة بلسان القرآن نفسه في ازالة الحاجز القائم بين الكفر والإسلام ، ويزلزل - في الجانب الثالث - إيمان المؤمنين المتّبعين للقرآن والسنّة في داخل الجماعة الإسلامية حتى ليساورهم الشك بأنّ الانسان ما دام من الممكن له أن يستحق النجاة ولو بانكار القرآن والسنّة النبوية وبغير حاجة إلى الإيمان بكتاب ولا برسالة ، فمن العبث أن يتقيّد بحدود الإسلام إذ لا فرق - البتة - بين كونه مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً أو صابئياً أو هندوكياً أو غيره.

ثم شرع الكاتب في تفسير جمل الآية وقال :

إنّ المراد ب : ( الَّذِينَ آمَنُوا ) هم طائفة أهل الإسلام وإنّ المراد من : ( مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) اُولئك الذين هم متصفون في حقيقة الأمر بصفة الإيمان الصحيح الكامل.

والمراد من : ( وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى ... ) اُولئك الذين يعدون من طوائف

ص: 209

اليهود والنصارى ، وليس المراد بهم ، اُولئك الذين اختاروا عقيدة اليهود ، وانتهجوا نهجهم في حقيقة الأمر ، أو الذين يعتقدون النصرانية في واقع الأمر حسب ما ذكر في جملة : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

ثمّ أفاد في رفع الستار عن هدف الآية ، وقال :

إنّ التصورات الطائفية التي كانت شائعة في عهد نزول القرآن هي بعينها شائعة في العصر الحاضر أيضاً.

فلهذا لا يصعب علينا أن ندرك أنّ القرآن إنّما يفرّق في هذه الآية بين الذين هم مؤمنون لمجرد انتسابهم إلى طائفة أهل الإيمان وبين الذين هم مؤمنون واقعيون متصفون بصفة الإيمان ، ومتمثّلون لحقيقته في الواقع.

فكما أنّنا نشاهد في هذا الزمان أنّ الدنيا تميّز بين الأفراد من وجهة الطائفية فيقال لرجل : مؤمن ، أو مسلم ، لمجرد أنّه من جماعة المسلمين على حسب انقسام أفراد البشرية بين مختلف الجماعات بصرف النظر عمّا إذا كان هو مسلماً في واقع الأمر أم لا ، ويقال لفرد من اليهود والنصارى والبوذيين : يهودي أو نصراني أو بوذي ، باعتبار انتسابه إلى ديانة من تلك الديانات وبصرف النظر عمّا إذا كان مؤمناً بمبادئ طائفته في واقع الأمر أم لا ، كذلك كان النوع البشري في عهد نزول القرآن موزّعاً بين عدد من الطوائف على حسب الظواهر بدون اعتبار الواقع ، فكان يميّز بين مختلف الأشخاص والجماعات باعتبار أنّ فلاناً من جماعة محمد صلی اللّه علیه و آله وفلاناً من طائفة اليهود ، وفلان من طائفة النصارى وهلمّ جرا.

ومن هنا كان المنافقون يعدّون من جماعة المسلمين - الذين آمنوا - مع أنّهم لم يكونوا مسلمين في حقيقة الأمر.

والحقيقة انّ اللّه سبحانه وتعالى يريد بهذا الجزء من الآية أن يفنّد الفكرة السائدة عند الناس عامة وهي أنّ الناس سيحشرون في الآخرة بموجب التصنيف الطائفي ، وباعتبار أنسابهم وأسمائهم الصورية في الدنيا ، فيعتقد اليهودي أنّ النجاة خالصة لمن

ص: 210

هو معدود في طائفة اليهود دون سائر الناس ، ويظن النصراني أنّ الدخول في النصرانية دخول في أهل الحق ، وكل من هو خارج عن هذه الدائرة يكون على الباطل ، وكذلك قد بدأ المسلمون يظنون أنّ من هو داخل في جماعتهم على اعتبار اسمه واسرته ومولده فهو مسلم وله الشرف والفضيلة على كل من ليس بداخل في جماعتهم بموجب تلك الاعتبارات.

فتفنيداً لهذه الفكرة الخاطئة يقول سبحانه وتعالى إنّ الفرق الحقيقي بين الانسان والانسان ليس على حسب الطائفية الظاهرية ، بل الذي عليه المدار هو الإيمان والعمل الصالح ، وليس كل من تسمّى بأسماء المسلمين مع خلوّه من الإيمان وابتعاده عن العمل الصالح بالمؤمن في واقع الأمر ، ولن يكون في عاقبته مثل المؤمنين الحقيقيين ، وكذلك ليس كل من ينتسب إلى اليهودية والنصرانية أو الصابئة يهودياً أو نصرانياً أو صابئاً إذا كان متجرداً من هذه الصفات. فكما أنّ الاعتداد في جماعة المسلمين لا يغني عن الانسان شيئاً كذلك اعتباره من اليهود وإلنصارى والصابئيين لا يرجع عليه بالفائدة في الآخرة.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر بعض ما قدمنا من الآيات من مزاعم اليهود والنصارى من كون الجنّة مختصة بهم ، أو أنّ النار لا تمسّهم إلاّ أياماً معدودة ، أو أنّهم أبناء اللّه واحباؤه ، قال إنّ كل هذه الآيات إنّما تكشف عن حقيقة بعينها هي أنّ اللّه عزّ وجلّ ليست عليه دالّة لطائفة في الأرض ، ولا أنّ طائفة خاصة مستأثرة بالنجاة عنده ، فليس من حق أحد من الناس أن يعامل بصفة خاصة بناء على أنّه ولد في اُمّة معيّنة أو ينتمي إلى جماعة خاصة ، بل الجميع من حيث هم أفراد الجنس البشري ، لا فرق بينهم البتة في نظر اللّه ، لأنّ الاعتبار الحقيقي عند اللّه ما هو الانتسابات أو القوميات ، بل هو للمبادئ والحقائق فإن آمنتم بصدق قلوبكم وعملتم الصالحات نلتم جزاءً حسناً عند اللّه ، وإن بقيتم على غير شيء من الإيمان والعمل الصالح فلا شيء ينقذكم من العقاب والعذاب الأليم ، ولو إلى أي طائفة أو جنس كنتم تنتسبون ، واللّه تعالى قد صرّح بهذه الحقيقة في موضع آخر من كتابه حيث يقول - مخاطباً المسلمين - : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ

ص: 211

مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) ( النساء 123 - 124 ) (1).

وأنت إذا لاحظت ما ذكره المؤلّف وما قد حررناه من قبل تجد الجوابين متوافقي المضمون ، متشاكلي المعنى.

وإذا وقفت على هدف الآية ومرماه فلندخل في صميم الإجابة الثانية حتى نثبت أنّها لا تمتّ بصلة إلى مدّعى القائل ، إذ الآية تسوقنا إلى أنّ الاعتبار في النجاة هي ( الحقائق والمسمّيات والمعاني ) دون الصور والأسماء والقشور.

وأمّا ما هو حقيقة الإيمان باللّه وما هو شرطه ، وما المقصود في العمل الصالح وكيف يتقبل.

فالآية ساكتة عن بيانها ومنصرفة عن توضيحها ، وإنّما تطلب هذه الشروط والقيود من سائر الآيات ولأجل ذلك يجب أن ينضم إلى الآية سائر ما ورد من الآيات الورادة في باب الإيمان باللّه والإتيان بالعمل الصالح حتى نقف على مرمى القرآن.

فنقول : ليس معنى الإيمان باللّه أن يقر الانسان بوجود اللّه ، ويعترف بوحدانيته بل المراد هو التسليم لله ، كما في قوله سبحانه :

( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة - 112 ).

وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان باللّه لا ينفك عن الإيمان بأنبيائه ورسله حيث قال سبحانه :

( قُولُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ

ص: 212


1- الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة طبعة دار القلم ص 190 - 196 وهو من أنفع كتب المؤلّف غير أنّه يعتمد في المسائل الفقهية على رأي كلّ صحابي أو تابعي ، وينقل آراء أصحاب المذاهب الأربعة ولا ينقل رأي واحد من أئمة أهل البيت غير الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام .

وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( البقرة - 136 ).

كما دلّت على أنّ الإيمان بأنبيائه ورسله لا تنفك عن الإيمان بنبّيه الخاتم حيث قال سبحانه : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) ( البقرة - 137 ).

والقرآن يعترف بأنّ تكفير نبي واحد تكفير بجميع الأنبياء بل تكفير باللّه سبحانه كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء : 150 - 151 ).

كيف وقد عدّ الإيمان بنبيّه الخاتم من أركان الإيمان وقال :

( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) ( النور - 62 ).

وقال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحجرات - 15 ).

وليس المراد من الإيمان بالرسول هو الاعتراف بعظمة الرسل وجلالة مكانتهم بل المراد هو الطاعة العملية حيث قال سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( النساء - 64 ).

وقال سبحانه :

( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) ( النساء - 115 ).

وقال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ) ( الأحزاب - 36 ).

ص: 213

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في شأن الأنبياء وخصوص شأن الرسول الأكرم.

وعلى ذلك فالإيمان باللّه الذي تعتبره الآية وسيلة للنجاة لا ينفك عن الإيمان برسله وكتبه ، وعن الإيمان برسوله الخاتم ، ولا ينفك الإيمان بهم وبه عن الإيمان بطاعته ، وامتثال أوامره والانزجار عن نواهيه ، ولا يتم ذلك إلاّ بالعمل بالقرآن وشريعته وأوامره وزواجره ، سننه وفرائضه وليس يراد من المسلم إلاّ ذاك ، ولا تخالف بين الآية وغيرها من الآيات في الهدف والمرمى.

نعم كل من أراد أن يستخرج من الآية ما هو كفاية رسوخ اليهودي في يهوديته والنصراني في نصرانيته .. فقد غضّ بصره عن سائر الآيات شأن كل من يختار مذهباً أوّلاً ثمّ يرجع إلى القرآن حتى يجد له دليلاً ثانياً.

إنّ اللّه يأمر نبيّه أن يعلن ويقول :

( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( الأنعام - 153 ).

وعندئذ لا يمكن له أن يعترف بصحة الطرق المختلفة الاُخرى وأنّها أيضاً طرق مستقيمة.

خاتمة المطاف :

بقيت هنا كلمة وهي أنّه ربّما يستدل (1) على الخاتمية بمثل قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) ( سبأ - 28 ).

وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف - 158 ) والاُولى الاستدلال بها على عالمية الرسالة الإسلامية لا خاتميتها.

وما ربّما يقال : بأنّ الناس ربّما يطلق ويراد منه جماعة من الناس مثل قوله سبحانه

ص: 214


1- اللوامع الالهية ص 225.

في قصة موسى وفرعون : ( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ) ( الشعراء - 39 ).

وقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) ( الفتح - 20 ).

والمقصود من الناس هم المشركون خاصة وعلى ذلك فليست هذه الآية ونظائرها دالة على سعة رسالته فضلاً عن خاتميتها.

والجواب عن الشبهة واضح وذلك لأنّ استعمال كلمة ( الناس ) في الجماعة الخاصة في الآيات المتقدمة إنّما هو لوجود القرائن الحافة بالكلام ولولاها لما صح استعمال الكلمة التي وضعت للعموم في جماعة خاصة.

هذه شبهات الخاتمية التي اختلقها القوم ولم تكن إلاّ شبهات سوفسطائية أو أشواكاً في طريق الحقيقة ، وبقيت شبهات ضئيلة اُخرى للقوم ، أرى التعرّض لها ضياعاً للوقت الثمين.

أجل هناك أسئلة حول الخاتمية جديرة بالبحث والتحليل ، فلا بد من التعرض لها وما يمكن أن يجاب به حولها ، ولأجل ذلك عقدنا الفصل التالي وهو من الفصول المفيدة جداً.

ص: 215

ص: 216

الفصل الرابع: أسئلة حول الخاتمية

اشارة

أنّ من شيم العصر الإلحادي الحاضر ، كثرة السؤال والتشكيك في كل شيء ، خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد ، والمعارف الغيبية أي المسائل الراجعة إلى ما وراء الطبيعة ، ولم تسلم مسألة خاتمية الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله من هذه التشكيكات ، فقد كثر السؤال وطال الحوار والنقاش حولها ، ونحن نذكر تلكم الأسئلة الدارجة في الأذهان والأفهام ونعترف بأنّ بعضها أو كثيراً منها جدير بالبحث والتمحيص أكثر ، مما بحثنا عنه.

السؤال الأول :

اشارة

وحاصله : هب أنّه ختمت النبوّة التشريعية ، فلماذا ختمت التبليغية منها ؟

توضيحه : أنّ النبي إذا بعث بشريعة جديدة وجاء بكتاب جديد ، فالنبوّة تشريعية وأمّا إذا بعث لغاية الدعوة والإرشاد إلى أحكام وقوانين سنّها اللّه سبحانه على لسان نبيه المتقدم ، فالنبوّة تبليغية.

ص: 217

والقسم الأوّل من الرسل ، قد أنحصر في خمسة ، ذكرت أسماؤهم في القرآن والنصوص المأثورة ، أمّا الأكثرية منهم ، فكانوا من القسم الثاني وقد بعثوا لترويج الدين النازل على أحد هؤلاء فكانت نبوّتهم تبليغية (1).

حينئذ فقد يسأل سائل ويقول : هب أنّ نبي الإسلام جاء بأكمل الشرائع وأتمها وأجمعها للصلاح وجاء بكل ما يحتاج إليه الإنسان ، في معاشه ومعاده ، إلى يوم القيامة ولم يبق لمصلح رأي ولمفكّر نظر ، في اُصول الإصلاح واُسسه ، لأنّ نبينا صلی اللّه علیه و آله قد أتى بصحيح الرأي وأتقنه وأصلحه في كافة شؤون الحياة ومجالاتها ولأجل ذلك الإكتمال اُوصد باب النبوّة التشريعية.

ولكن لماذا اُوصد باب النبوّة التبليغية التي منحها اللّه للاُمم السالفة فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام لا تستغني عمّن يقوم بنشرها وجلائها وتجديدها ، لكي لا تندرس ويتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأسلوب صحيح ، فلماذا أوصد اللّه هذا الباب بعد ما كان مفتوحاً في وجه الاُمم الماضية ، ولماذا منح اللّه سبحانه هذه النعمة على السالف من الاُمم وبعث فيهم أنبياء مبلغين ومنذرين وحرم الخلف الصالح من الاُمم منها ؟.

الجواب :

أنّ انفتاح باب النبوّة التبليغية في وجه الاُمم السالفة وإيصاده بعد نبي الإسلام ليس معناه أنّ الاُمم السالفة استحقت هذ النعمة المعنوية ، لفضيلة تفردت بها ، دون الخلف الصالح من الاُمم ، أو أنّ الاُمّة الإسلامية حرّمت لكونّها أقل شأناً وأهون مكانة من الاُمم الخالية - كلا - بل الوجه أنّ الاُمم السالفة كانت محتاجة إليها دون الاُمّة الإسلامية ، فهي في غنى عن أي نبي مبلغ يروج شريعة نبي الإسلام.

وذلك أنّ المجتمعات تتتفاوت إدراكاً ورشداً ، فربّ مجتمع يكون في تخلقه كالفرد

ص: 218


1- الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية هي كلمة « التبشير » ولكن كلمة « التبليغ » أولى وأليق بهذا المعنى ، فهي مقتبسة من القرآن ، ومدلولها اللغوي منطبق على المقصود كل الانطباق.

القاصر ، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه كالطفل الذي يمزق كتابه ودفتره غير شاعر بقيمته.

وربّ مجتمع بلغ من القيم الفكريّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة ، شأواً بعيداً يحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره استثماراً جيداً فهو عند ذاك غني عن كل مروج يروج دينه ، أو مبلغ يذكر منسيه أو مرب يرشده إلى القيم الأخلاقية ، أو معلم يعلمه معالم دينه ويوضح له ما أشكل من كتابه ، إلى غير ذلك من الشؤون ، فأفراد الاُمّة السالفة كانوا كالقصر ، غير بالغين في العقلية الاجتماعية فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي بكتابه بتحريفهم له وتأويله بما يتوافق مع أهوائهم ومشاربهم ، ولذا كان يحل بالشريعة ، إندراس بعد مضي القرون والأجيال ويستولي عليها الصدأ بعد حقبة من الزمان.

لهذا ولذلك كان على المولى سبحانه أن يبعث فيهم نبياً ، جيلاً بعد جيل ، ليذكرهم بدينهم الذي إرتضاه اللّه لهم ، ويجدد شريعة من قبله ويروج قوله وفعله ويزيل ما علق بها من شوائب بسبب أهواء الناس وتحريفاتهم. وأمّا المجتمع البشري بعد بعثة الرسول صلی اللّه علیه و آله ولحوقه بالرفيق الأعلى ، فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتح العقلي والرشد الاجتماعي شأواً يتمكن معه من حفظ تراث نبيه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى تصنيف أنواع التآليف في أحكامه وتفسيره وبلاغته ومفرداته وإعرابه وقرائته فإزدهرت تحت راية القرآن ضروب من العلوم والفنون.

فلأجل ذلك الرشد الفكري في المجتمع البشري ، جعلت وظيفة التبليغ والإنذار ، على كاهل نفس الاُمّة حتى تبوأت وظيفة الرسل من التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد على طول الزمان يبلغ رسالة من قبله.

فإذا قدرت الاُمّة على حفظ ما ورثته عن نبيها ، ونشره بين الناس في الآفاق ، ومحو كل مطمع فيه وهدم كل خرافة تحدثها يد التحريف ، استغنت طبعاً عن قائم بهذا الأمر

ص: 219

سوى نفسها.

لقد ظهرت طلائع هذا التفويض من أوّل سورة نزلت على النبي صلی اللّه علیه و آله حيث خاطبه اللّه سبحانه ، في اليوم الذي بعثه رسولاً إلى الناس وهادياً لهم بقوله : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( العلق : 1 - 5 ).

وهذا الخطاب يؤذن بأن دينه ، دين التلاوة والقرائة ، دين العلم والتعليم ، دين القلم والتحرير ، وأنّ هذا الدين سوف يربي اُمة مفكرة ، متحضرة ، عالمة بقيمة التراث الذي يصل إليها ، قادرة على حفظ هذا الدين في ضوء العلم والفكر ، مستعدة لنشر تعاليمه في أقطار العالم وأرجاء الدنيا ، بأساليب صحيحة.

وقد بلغت عناية الإسلام بالقلم والكتابة ، إلى حد أن أقسم سبحانه : ( وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) وأنزل سورة باسمه ، تمجيداً له وحثاً للاُمة على تقديره والعناية به ، ليكون رائداً للتقدم والحضارة والمعرفة ، ويصير أحسن ذريعة إلى حفظ التراث بلا حاجة إلى مبلغ سماوي.

ثم أنّه سبحانه ، صرح بهذا التفويض أي تفويض أمر التبليغ إلى نفس الاُمّة في غير موضع من كتابه ، منها قوله سبحانه : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة - 122 ).

ومنها قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران - 104 ).

ومنها قوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران - 110 ).

وفي السنن والأحاديث تصاريح بذلك ، نكتفي بما يلي :

قال الباقر علیهاالسلام : « أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، وفريضة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب وترد

ص: 220

المظالم ، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر » (1).

ولعل في قوله علیه السلام : « سبيل الأنبياء » إشارة إلى أنّ هذا الأمر موكول إلى الاُمّة بعد انقطاع الوحي وإيصاد باب النبوّة.

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا ظهرت البدع ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (2).

ثمّ أنّ هناك جواباً آخر ، ربّما يكون ملائماً لاُصول الشيعة الإمامية في مسئلة الإمامة والخلافة ولأجل إيقاف القارئ الكريم عليه نأتي به إجمالاً ولا يعلم إلاّ بالوقوف على معنى الإمامة لدى الشيعة ودور أهل البيت في إكمال الدين.

دور أهل البيت في إكمال الدين وختم الرسالة :

أنّ للشيعة الإمامية نظراً خاصاً في كيفية استغناء الاُمّة الإسلامية عن ضرورة استمرارية النبوّة وتواصلها بعد لحوق النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بالرفيق الأعلى ، وعمدة ذلك هو ثبوت نظرية الإمامة التي تتبناها الشيعة الإمامية في باب الولاية الإلهية والخلافة بعد رسول اللّه.

فالإمامة عندهم عبارة عن الولاية الإلهية العامة على الخلق فيما يختص بشؤونهم الدينية والدنيوية وهي مستمرة بعد قبض النبي الأعظم ، لم يوصد بابها بل أنّه مفتوح إلى أن يشاء اللّه إيصاده ، وإنّما الذي ختم بالنبي الأعظم هو باب النبوّة التي هي تحمل النبأ عن اللّه سبحانه ، وباب الرسالة التي هي تنفيذ ما تحمله النبي عن اللّه سبحانه بين الاُمة (3).

هذه الولاية الالهية غير النبوّة والرسالة وإن كانت تجامعهما تارة وتفارقهما اُخرى

ص: 221


1- وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأوّل الحديث 6.
2- وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأربعون الحديث 1.
3- سيوافيك توضيح الفرق بين النبوّة والرسالة في الجزء الرابع من كتابنا هذا.

فقد تمثلت المناصب الثلاثة في شخص إبراهيم.

إذ كان علیه السلام يمثل منصب الإمامة ، كما كان يمثل منصبي النبوّة والرسالة ولقد حباه اللّه سبحانه منصب الإمامة ، بعد ما منحت له النبوّة وأرسله رسولاً ويدل على ذلك قوله سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ( البقرة - 124 ) (1).

والأئمّة الاثنا عشر لدى الإمامية يمثلون منصب الإمامة ، من دون أن يكونوا أنبياء أو رسلاً ، فهم أئمّة الدين ، وأولياء اللّه بين الاُمّة ، ولهم رئاسة إلهية عامة ، دينية ودنيوية على وجه يوجب على الاُمّة الانقياد لهم وهم حجج اللّه على عباده يهتدى بهم إليه سبحانه ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده (2).

والباعث على انفتاح باب الولاية الإلهية في وجه الاُمّة ، بعد ختم النبوّة والرسالة وإيصاد بابها بالتحاق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى اُمور نشير إلى واحد منها (3).

لا يختلف اثنان من المسلمين بانقطاع وحي السماء عن وجه الأرض بموت النبي وقبضه كما لا يختلفان في أنّ النبي قام بمهمة التشريع والتبليغ وتثقيف الاُمّة الإسلامية بالثقافة الدينية وبث العقيدة الدينية فيهم وحفظ الشريعة عن شبهات المنكرين وإرجاف المرجفين بأحسن الوجوه وأكملها وقال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة - 3 ) غير أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يراعي في نشر الأحكام حاجة الناس ومقتضيات الظروف فكانت هناك اُمور مستجدة

ص: 222


1- روى ثقة الإسلام الكليني عن جابر عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال سمعته يقول : أن اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، واتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً ، فلما جمع له هذه الأشياء وقبض قال له يا إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً فمن عظمها في عين إبراهيم قال يا ربّ ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( الكافي باب طبقات الأنبياء والرسل ج 1 ص 175 ).
2- هكذا وصف الإمام باقر العلوم ، راجع الكافي باب « إنّ الأرض لا تخلو من حجة » ج 1 ص 178.
3- قد أوضحنا تلك الاُمور في الجزء الثاني من هذه الموسوعة فلاحظ بحث : صيغة الحكومة الإسلامية بعد النبي صلی اللّه علیه و آله .

ومسائل مستحدثة ، لم تكن معهودة في زمن الرسول ولم يأت بها نص في الكتاب الكريم وسنّته الثابتة ، ولم يتسن للنبي الإشادة بها أمّا لتأخر ظروفها أو لعدم تهيأ النفوس لها أو لغير ذلك من العلل.

وقد ظهرت بوادر هذا الأمر عندما اتسع نطاق الإسلام وضرب بجرانه خارج الجزيرة العربية وطفق المسلمون يخوضون في غمار معارك طاحنة وحروب دامية ، يفتحون البلاد ويخالطون الاُمم ففوجئوا بمسائل مستجدة لم يعرفوا لها حلاً في الكتاب الكريم ولا في سنّة نبيهم مع أنّ اللّه سبحانه كان قد أخبر في كتابه عن اكمال الدين واتمام النعمة وبناء على هذا فإننا نستكشف أنّ النبي إيفاء لغرض التشريع استودع معارفه عند من يقوم مقامه ويكون له من الصلاحيات ما تخوله للقيام بمثل هذا الأمر الخطير.

وإلى ذلك يشير باقر العلوم بقوله مخاطباً لهشام بن عبد الملك بن مروان : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللّه على نبيه صلی اللّه علیه و آله في قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) والأرض لا تخلو ممّن يكمل هذه الاُمور التي يقصر غيرنا عنها (1).

ثمّ أنّ الكتاب الكريم الذي هو أحد الثقلين فيه محكم ومتشابه وعامّ وخاصّ ومطلق ومقيد ومنسوخ وناسخ ، يجب على الاُمّة عرفانها ، إذ الجهل بها يوجد اتجاهات مذهبية متضاربة. غير أنّ تفسير المتشابه من دون الاستناد إلى ركن وثيق يورث اختلافاً عنيفاً بين المسلمين ، وتفسير المعضل وتفصيل المجمل وتشخيص المنسوخ عن ناسخه يحتاج إلى احاطة كاملة بمفاهيم الكتاب وتشريعاته جليلها ودقيقها وهو ليس إلاّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ومن يتلو تلوه.

فلأجل رفع هذه المحاذير يجب عليه سبحانه حفاظاً على وحدة الاُمّة وصيانتها عن الشرود في متاهات الضلال أن يشفع كتابه بميزان آخر ، وهاد يدعم أمره ، ومعلم يوضح لهم أسراره ، ليرجع إليه المسلمون حتى يكتمل به غرض التشريع ويرتفع

ص: 223


1- (1 بحار الأنوار ج 46 ص 307.

التضارب والخلاف في الشؤون الدينية.

وإلى ذلك يشير قوله صلی اللّه علیه و آله : أني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (1) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : أني أوشك أن اُدعى فاُجيب وأني تارك فيكن الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما (2).

وهذا هو الإمام الصادق علیه السلام يعرف الإمام ومكانته العظيمة بقوله : أنّ الأرض لا تخلو وفيها إمام ، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم (3).

وأبلغ تعبير عن حقيقة الإمامة عند الشيعة ما روي عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في حديث طويل وفيها : أنّ الإمامة منزلة الأنبياء وأرث الأوصياء أنّ الإمامة خلافة اللّه وخلافة الرسول ، الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، أنّ الإمامة أساس الإسلام النامي وفرعه السامي.

الإمام يحل حلال اللّه ويحرم حرام اللّه ، ويقيم حدود اللّه ويذب عن دين اللّه ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة (4).

ص: 224


1- أخرجه الحاكم في مستدركه ج 3 ص 148 ، وقال هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
2- مسند أحمد ج 3 ص 17 و 26 وللحديث صور كثيرة كلها تنص على وجوب التمسك بأهل بيته وعترته صلی اللّه علیه و آله وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة ، وقد صدع بها رسول اللّه في مواقف له شتى : يوم غدير خم ، يوم عرفة في حجة الوداع ، بعد انصرافه من الطائف ، على منبره في المدينة ، وفي حجرته في اُخريات أيامه. وقد أنهى إسناده العلامة الجليل السيد مير حامد حسين في بعض أجزاء كتابه الكبير «العبقات» وطبع في ستة أجزاء بإيران وفاح أريجه بين لابتي العالم وقد اغرق نزعاً في التحقيق ، ولم يبق في القوس منزعاً، وقد أغنانا كتابه عن الافاضة والبحث.
3- الكافي ج 1 ص 178.
4- الكافي ج 1 ص 200.

وبذلك تعرف وجه غنى الاُمّة الإسلامية بعد النبي عن أي نبي مروّج وأية نبوّة تبليغية ، ويتضح أنّ الإسلام في تخطيطه المبدئي ، قد فرض أنّه ( بعد إنتهاء وظيفة النبي الأعظم وقطعه أشواطاً بعيدة في الجهات المختلفة المتقدمة ) يتكفّل القيادة المعصومة من بعده من يقوم مقامه بنصه سبحانه وتعيينه ، وله من الشرائط ما للنبي سوى ما يختص به على ما تبيّن في محله حتى تنتهي هذه العملية إلى مراحلها النهائية المفروضة.

ولا يضير الإسلام في شيء أن تكون الاُمّة قد انحرفت عن الخط المفروض لها من قبل اللّه سبحانه ، وتجاوزت عن كل الضمانات التي وضعها لتنفيذ مخطّطه الالهي.

وفي الختام نقول : إنّ التاريخ ليشهد بأنّه ما من إمام من أئمّة الشيعة الاثنى عشرية إلاّ وقد قام بأعباء مهمة الإمامة خير قيام ، وأنّ حياة كلّ منهم كانت مشحونة بالعمل المتواصل في سبيل إيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الاُمّة ولقد عانوا في ذلك من المشاق ولاقوا من الأهوال ما لاقاه النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

فعند ذاك استغنت الاُمّة الإنسانية بشكل عام والمسلمون بشكل خاص ، بتعاليمهم الدائرة حول نطاق رسالة جدهم السماوية ، عن استمرارية كلتا النبوّتين ، وبصورة خاصة التبليغية منها.

ص: 225

السؤال الثاني

اشارة

« لماذا حرم الخلف من الاُمم ، من المكاشفة الغيبية ، والاتصال بالملأ الأعلى ، واستطلاع ما هنالك من معارف وحقائق » ؟

يقول السائل : إنّ النبوّة منصب معنوي ورقي روحي ، تقدر معه النفس على الاتصال بالملأ الأعلى ، والاطلاع على ما هنالك من معارف عقلية ، والتحدث مع الوحي الالهي ، إلى غير ذلك من الفيوضات المعنوية ، ولكن هذا الباب قد اُوصد بعد إكمال الشريعة الإسلامية وختم النبوّة.

هب أنّ الشريعة الإسلامية ، هي أكمل الشرائع ، وأنّ الخلف من الاُمم قادر على حفظ تراثه الديني ، ولأجل ذلك اُوصد باب النبوّة التشريعية والتبليغية ولكن لماذا انقطعت الفتوحات الباطنية والمحادثة مع ملائكته سبحانه ، أو القاء الحقائق في روع الانسان ، إلى غير ذلك من الفيوضات السماوية ، فهذه الاُمور كلّها من لوازم النبوّة ، فلا يعقل انفتاحها مع إيصاد بابها ...

ثم إنّه لماذا كان باب هذا الفيض مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، وحرم منها الخلف الصالح بعد النبي ؟ هل كانت الاُمم السالفة اُولى وأجدر بهذه النعمة ؟ وهل الاُمّة المتأخرة عنهم أقل جدارة بها واستحقاقاً لها ؟!

ص: 226

الجواب :

ليس الإطلاع على ما احتجب عن عامة الناس من الحقائق ، من لوازم النبوّة ، حتى ينسد بابه بانسداد بابها ، ولا الخلف محروم من الفيض الذي كان مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، فإنّ الولاية الالهية التي تلازم تلكم الفتوحات الباطنية ، ليست من خصائص النبوّة وتوابعها ، حتى تنقطع بانقطاعها ، بل هي كرامة إلهية يرزقها سبحانه ، المخلصين من عباده ، المتحلّين بفضائل الأخلاق المتطهرين عن درك الشرك ولوث المعاصي ، إلى غير ذلك من صفات كريمة.

والنبوّة باب خاص من الولاية تستتبع تحمل الوحي التشريعي أو التبليغي فيوصد بابه بإيصاد بابها ، وأمّا سائر الفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والايحاءات الملكوتية ، فلم يوصد بابها قط.

وللتوضيح نحن نتساءل : ماذا أراد السائل من إيصاد باب الاتصال ، بختم باب النبوّة ؟

فإن أراد الاتصال باللّه ومعرفة أسمائه وصفاته والوقوف على ما هنالك من معارف عن طريق البرهنة والاستدلال والتدبر في آياته الآفاقية ، فهذا الطريق مفتوح إلى يوم القيامة في وجه من أراد الإطلاع على حقائق الكون ودقائقه ، وما وراء الحس من عوالم ودقائق.

وقد قال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ... ) ( فصلت - 53 ) (1).

ص: 227


1- نعم ربّما تفسر الآية بوجه آخر تسقط معه دلالتها على ما نرتئيه وهو أنّ المراد ما يسّر اللّه عزّ وجلّ لرسوله والمسلمين من بعده في آفاق الدنيا وارجاء العالم من الفتوح التي لم يتيسّر أمثالها لأحد من الجبابرة والأكاسرة ، وتغلب قليلهم على كثير من أعدائهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة وبسط دولته في أقاصيها. فهذه الاُمور الخارقة للعادة يقوى معها اليقين ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أنّ دين الإسلام هو الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلاّ مكابر ... راجع الكشاف ج 3 ص 75 وما حققناه حول الآية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ص 173.

وقال سبحانه : ( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الذاريات : 20 - 21 ).

ولو أراد معرفة ربّه وأسمائه وصفاته ، وعظمته وكبريائه ، وما هناك من مقامات ودرجات ، بلا توسيط برهان ، أو تسبيب دليل ، بل مشاهدة بعين قلبه وبصر روحه ، وبعبارة أوجز : شهود الحقائق العلوية ، وانكشاف ما وراء الحس والطبيعة ، من العوالم الروحية ، والمشاعر الإلهية ، ومعرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره والاتصال بجنوده وملائكته واستماع كلامهم ووحيهم وصوتهم إلى غير ذلك من الاُمور ، فهذا مقام خطير ، يحصل للعرفاء الشامخين المخلصين من عباده ، المطهرين من اللوث والدنس ، المتحررين عن قيود الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات اللّه ، الحاكمين بالكتاب ، العاملين بسننه وسنن نبيّه حسب اخلاصهم وعرفانهم ، حسب استعدادهم وقابليتهم ، حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل عجائب الحقائق الغيبية ، ومشاهدة جلال اللّه وجماله وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات ، وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات.

ثمّ إنّ لأهل السلوك والعرفان كلاماً في المقام ، لا يخلو عن فائدة ، وخلاصته :

أنّ اليقين الحقيقي النوراني المنزّه عن ظلمات الأوهام والشكوك ، لا يحصل من مجرد أعمال الفكر والاستدلال ، بل يتوقف حصوله على الرياضة والمجاهدة وصقل النفس وتصفيتها عن كدورات ذمائم الأخلاق ، وإزالة الصدأ عنها ، ليحصل لها التجرد التام ، والسر أنّ النفس بمنزلة المرآة تنعكس على صفحتها الصور المتعلّقة بالموجودات الخارجية ، ولا ريب في أنّ انعكاس الصور من ذواتها على المرآة ، يتوقف على تمامية شكلها وصفاء جوهرها ، وحصول ما يتمكن انعكاسه عليها وإرتفاع الحائل بينهما ، والظفر بالجهة التي فيها الصور المطلوبة ، كذلك يجب في انعكاس حقائق الأشياء من العقل على النفس ، تحقق اُمور :

1. عدم نقصان جوهرها ، بأن لا تكون كنفس الصبي التي لا تتجلىّ لها

ص: 228

المعلومات ، لنقصانها.

2. صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة ، وخبائث المعاصي ، وهو بمنزلة الصيقل عن الخبث والصدأ.

3. توجّهها التام وانصراف فكرها إلى المطلوب ، بأن لا يكون غارقاً في الاُمور الدنيوية ، وهو بمنزلة المحاذاة.

4. تخليتها عن التعصب والتقليد ، وهو بمنزلة إرتفاع الحجب.

5. التوصل إلى المطلوب بتأليف مقدمات ، مناسبة للوصول إليه على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة ، وهو بمنزلة العثور على الجهة التي فيها الصورة.

ولولا هذه الأسباب المانعة للنفوس عن افاضة الحقائق اليقينية إليها ، لكانت عالمة بجميع الأشياء المرتسمة في العوالم الروحانية.

إذ كل نفس لكونها أمراً ربّانياً وجوهراً ملكوتياً بحسب الفطرة ، صالحة لمعرفة الحقائق ، فحرمان النفس عن معرفة حقائق الموجودات إنّما هو لأحد الموانع.

وقد أشار سيد الرسل إلى أنّ كدورات المعاصي وصدأها مانعة عن ذلك بقوله صلی اللّه علیه و آله لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض.

فلو ارتفعت عن النفس ، حجب السيئات والتعصب ، وحاذت شطر الحق الأوّل لتجلّت لها صورة عالم الملك والشهادة بأسرها ، إذ هو متناه يمكن لها الإحاطة به ، وصورة عالمي الملكوت وإلجبروت ، بقدر ما يتمكّن منه ، بحسب مرتبته (1).

فالعارف الشامخ في عالم المعرفة ، إذا اتصف بما ذكرناه : « صار سمع اللّه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاه أجابه ، وإن سأله أعطاه » (2).

ص: 229


1- جامع السعادات ج 1 ص 125 - 126 ولاحظ مقدمة ابن خلدون.
2- وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة أبواب اعداد الفرائض ونوافلها - الباب 17 الحديث 6.

فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والالقاءات في الروع ، غير مسدودة بنص الكتاب العزيز :

1. قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) ( الأنفال - 29 ) أي يجعل في قولبكم نوراً تفرّقون به بين الحق والباطل وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، لا بالبرهنة والاستدلال ، بل بالشهود والمكاشفة.

2. وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الحديد - 28 ).

إنّ صاحب الكشّاف ومن لفّ لفّه وإن فسره بقوله : « ويجعل لكم يوم القيامة نوراً تمشون به » إلاّ أنّ الظاهر خلافه ، وأنّ المراد النور الذي يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته ، في معاشه ومعاده ، في دينه ودنياه ، وهذا النور الذي يحيط به ويضيء قلبه ، نتيجة إيمانه وتقاه ويوضّحه قوله سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) ( الأنعام - 122 ).

3. وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ( العنكبوت - 69 ).

4. وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة - 282 ).

فإنّ عطف الجملة الثانية على الاُولى يحكي عن صلة بين التقي وتعليمه سبحانه.

5. وقال سبحانه : ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ) ( التكاثر : 5 - 6 ).

فإنّ الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة ، رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام - 75 ).

وهذه الرؤية القلبية غير محققة قبل يوم القيامة لمن الهاه التكاثر بل ممتنعة في حقه لامتناع اليقين عليهم.

ص: 230

والمراد من قوله : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) هو مشاهدتها يوم القيامة بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فالمراد بالرؤية الاُولى رؤيتها قبل يوم القيامة ، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة (1).

6. وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) ( محمد - 17 ) فلو أنّ الانسان جعل نفسه في مسير الهداية ، وطلبها من اللّه سبحانه زاده تعالى هدى وآتاه تقواه.

7. وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) ( الكهف - 13 ) والآية تبيّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ، وتغرّبوا لحفظ إيمانهم ودينهم فزاد اللّه من هداه في حقهم وربط على قلوبهم كما يقول سبحانه :

8. ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) ( الكهف - 14 ).

والقرآن يصرح بانفتاح باب الهجرة إلى اللّه ورسوله ، والهجرة كما تشمل الهجرة الظاهرية تشمل الهجرة المعنوية ، التي هي عبارة عن السير في مدارج الكمال والإنابة إليه سبحانه.

9. يقول سبحانه : ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ ) ( النساء - 100 ) ، وإلى الهجرة المعنوية ( هجرة النفوس عن السيئات إلى الطاعات ) يشير النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ يقول :

« من كانت هجرته إلى اللّه ورسوله ، فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى مال يصيبه فهجرته إلى ما هاجر إليه » (2) فحمل الآية والرواية على خصوص الهجرة الظاهرية والخروج عن الأوطان والتغرّب لحفظ الإيمان هو أحد أبعاد الآية ، فهناك بعد آخر ، وهو حملها على مهاجرة النفوس من الظلمة إلى النور ، ومن الضلال إلى الهداية ،

ص: 231


1- الميزان ج 20 ص 496 - 497.
2- صحيح البخاري ج 1 كتاب الإيمان الباب 42 ص 16.

ويؤيده قوله سبحانه :

10. ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) ( آل عمران - 195 ). فالمراد من المهاجرة هو الهجرة المعنوية حتى تصح مقابلتها مع قوله سبحانه : ( وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

نعم كثرت في القرون الأخيرة عناية طوائف من صوفية أهل السنّة بمسألة الإمامة والإمام ومنهم « النجانية » وقد كتب عنهم العقاد في كتابه « بين الكتب والناس » ومنهم « السنوسية » وقد أفاض فيهم القول البستاني في دائرة معارفه غير أنّ في بعض ما ذكروه خداعاً وضلالاً ، وللبحث عن ما يدّعونه من الكشف والعرفان مجال آخر لا يسعه المقام.

انّ الناظر في نهج البلاغة يجد في كلام الإمام علي علیه السلام تصريحات وإشارات على فتح هذا الباب وعدم إيصاده فالإمام علیه السلام يقول :

« قد أحيى عقله ، وأمات نفسه ، حتى دق جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع ، كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه ، في قرار الأمن والراحة » (1) ، ويقول :

« هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين » (2).

فهذه الكلمات العلوية تبيّن جلياً أنّ القلب يمكن أن يصبح محلاً للإشعاع الإلهي على مدار الزمان وفي زمن الخاتمية.

وقد روى الفريقان عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال من أخلص لله أربعين صباحاً ، فجّر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه ، على لسانه (3).

ص: 232


1- نهج البلاغة الخطبة 215.
2- نهج البلاغة قصار الكلم الرقم 147.
3- سفينة البحار ، مادة « خلص » نقله عن عدة الداعي لابن فهد الحلي.

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم ، لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع » (1).

وقال الصادق علیه السلام : « ما أخلص عبد الإيمان باللّه أربعين يوماً ، إلاّ زهّده اللّه في الدنيا ، وبصره داءها ودواءها ، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه » (2).

وهناك كلمة طيبة عن الإمام أمير المؤمنين ، تعرب عن رأي الإسلام في المقام ، قال علیه السلام :

« إنّ اللّه تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ، عزت آلاؤه ، في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات (3) ، عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم » (4).

فهو علیه السلام يصرح بأنّ الذاكرين من عباده قد بلغ بهم المقام إلى درجة يناجيهم اللّه في سرائر ضمائرهم ، ويكلمهم من طريق عقولهم ، فهل يوجد مقام أرفع من هذا ، أو درجة أشرف من تلك.

وقريب من ذلك ما رواه الديلمي في إرشاده في خطابات له سبحانه لنبيّه في ليلة المعراج بلفظ « يا أحمد ! فمن عمل برضائي الزمه ثلاث خصال ، أعرفه : شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا اُخفي عليه خاصّة خلقي ، واُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، واُعرفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا اُخفي عليه شيئاً

ص: 233


1- حديث مشهور.
2- سفينة البحار ، مادة « ربع ».
3- التخصيص بعد التعميم فلا يضر بالمطلوب لو كان المراد منه الفترة بين المسيح وبعثة الرسول صلی اللّه علیه و آله .
4- نهج البلاغة ، الخطبة 217.

من جنّة ولا نار ، واُعرّفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة. وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء ... - إلى أن قال : - يا أحمد ! اجعل همّك هماً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً ، من غفل عنّي لا اُبالي بأي واد هلك » (1).

وهذه الرواية توقفنا على أنّ المعرفة الحقيقية ، التي تحيى بها نفوسنا ، لا تستوفى بالسير الفكري ، ولا يقف السالك في سبيل الحق على هذه الاُمور ، إلاّ بتهذيب النفوس وتطهير القلوب والانقطاع إلى الربّ عن كل شيء ، حتى يرفع دونه كل حجاب مضروب ، وكل غشاء مسدول ، فيعرف ربّه وأسماءه ، وصفاته حق المعرفة ، ويشاهده بعين القلب ويسمع كلامه وكلام ملائكته ، ويرى عظمته وسرادقات كبريائه.

فهذه الفتوحات الباطنية بمراتبها ، ميسّرة في وجه الاُمّة ، لم توصد قط.

الاسفار المعنوية الأربعة :

ثم إنّ للسالك من العرفاء والأولياء أسفاراً ، وهي على ما اعتبرها أهل الشهود أربعة.

أحدها : السفر من الخلق إلى الحق.

ثانيها : السفر من الحق إلى الحق بالحق.

ثالثها : السفر من الحق إلى الخلق بالحق.

رابعها : السفر من الخلق إلى الخلق بالحق.

فبعض هذه الأسفار وقطع منازلها وإن كان يختص بأنبيائه ورسله ، إلاّ أنّ السفر الأوّل والثاني ، لا يختصان بهم ، بل يتيسّران لكل سالك الهي ، لا يقصد إلاّ الاناخة في ساحة ربّه ، والنزول على طاعته ، بلا استثناء ، ودونك توضيح ذينك السفرين : ففي السفر الأوّل ، أعني السفر من الخلق إلى الحق ، ترفع الحجب المظلمة ، بين السالك وربّه ،

ص: 234


1- إرشاد القلوب للديلمي ص 329.

فيشاهد جمال الحق ويفني ذاته فيه ، ولأجل ذلك يسمى مقام الفناء. وعندما ينتهي السفر الأوّل يأخذ السالك في السفر الثاني ، وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق وإنّما يكون بالحق لأنّه صار ولياً ، وصار وجوده وجوداً حقّانياً ، فيأخذ السلوك من موقف الذات إلى الكمالات واحداً بعد واحد حتى يشاهد جميع كمالاته فيعلم جميع أسمائه كلّها إلاّ ما استأثر به عنده ، فتصير ولايته تامة ، ويفني ذاته وأفعاله وصفاته في ذات الحق وصفاته وأفعاله ، فبه يسمع ، وبه يبصر وبه يمشي وبه يبطش ، وحينئذ تتم دائرة الولاية.

ولعمري لولا خوف الإطالة ، والخروج عمّا هو الهدف الأسمى للرسالة ، لشرحت للقارئ الكريم ، تلكم الاسفار والمواطن واحداً بعد واحد ، وكفانا ما حبرته يراعة العرفاء الشامخين في هذا الباب (1).

وفي الاُمّة الإسلامية رجالاً مخلصون ، لا يدرك شأوهم ولا يشق غبارهم ، اُولئك أولياء اللّه في أرضه وخلفاؤه في خلقه ، تغبطهم النبوّة ، كما قال الرسول صلی اللّه علیه و آله : إنّ لله عباداً ليسوا بأنبياء ، تغبطهم النبوّة (2).

هب أنّ النبوّة قد اُوصد بابها ، إلاّ أنّ باب الفيض المعنوي ، من جانب الإمام الحي علیه السلام بعد مفتوح لم يوصد (3).

ص: 235


1- راجع تعاليق الأسفار الأربعة ج 1 ص 13 - 18 للحكيم السبزواري.
2- حكاه صدر المتألّهين في مفاتيح الغيب ، وقال : هذا الحديث ممّا رواه المعتبرون من أهل الحديث ، من طريقة غيرنا ، نعم لم أقف عليه مسنداً حتى اُحقق حاله.
3- وقد دلّت البراهين الكلامية على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة ، وأنّه لا بد للناس في كل دورة وكورة من إمام معصوم يهدي إلى الرشد - وقد تفرّدت به الشيعة عن سائر فرق الإسلام. وقال أمير المؤمنين: اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم اللّه بحجة: أما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج اللّه وبيناته وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك - واللّه - الأقلون عدداً والأعظمون عند اللّه قدراً، يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقه بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء اللّه في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم (نهج البلاغة باب الحكم رقم 147).

وقد حقق في أبحاث الولاية الالهية أنّ وجه الأرض والمجتمع الانساني لا يخلو أبداً من انسان كامل ذي يقين ، مكشوف له عالم الملكوت ، وله ولاية على الناس في أعمالهم ، يهديهم إلى الحق ويوصلهم إلى المطلوب بأمر من اللّه سبحانه ، كما هو شأن الإمام في كل عصر ودور ، لقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة - 24 ).

فهذا الفيض الالهي والعرفان المعنوي ، لم يزل يجري علي المجتمع البشري بأمر منه سبحانه ، وينزل عليهم من طريق الإمام ، ليهديهم سبيل الحق ويرشدهم إلى مدارج الكمال ، حسب استعداداتهم وقابلياتهم.

قال سيدنا الاُستاذ قدس سره : إنّه سبحانه كلّما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية ، تعرض التفسير قال تعالى في قصة إبراهيم : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ( الأنبياء - 72 - 73 ).

وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة - 24 ).

فوصفهم بالهداية وصف تعريف ، ثمّ قيد هذا الوصف بالأمر فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق الهداية بل هي الهداية التي تقع بأمر اللّه ، فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتهم ، إيصالهم إلى الكمال بأمر اللّه دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى اللّه سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة (1).

فهذا الباب من الفتوحات الغيبية والفيوض الالهية مفتوح ، في وجه الاُمّة لم يوصد أبداً.

ص: 236


1- الميزان ج 1 ص 274 - 275.

مثل الفضيلة والأخلاق

قد كان لأمير المؤمنين صفوة من الأصحاب يستدر بهم الغمام ، ويندر مثالهم في الدهر كزيد وصعصعة ابني صوحان واُويس القرني والأصبغ بن نباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وأشباههم ، وكان هؤلاء مثلاً للفضيلة وكرم الاخلاص وخزنة للعلم والاسرار ، منحهم أمير المؤمنين من سابغ علمه واستأمنهم على غامض أسراره ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم فجمعوا العلم ، سرّه وجهره ، والفضائل ، نفسية وخلقية ، ذاتية وكسبية ، والعبادة قولاً وعملاً وجارحة وجانحة ، فاكتسبوا من أمير المؤمنين جميع الفعال والخصال وأخذوا عنه أسرار العلم وعلم الأسرار ، حتى زكت بهم النفوس وكادوا أن يزاحموا الملائكة المقرّبين في صفوفهم ، وغبطهم الملأ الأعلى على ما اتصفوا به من كمال الذات والصفات ، فصاروا أهلاً ، لأن يأتمنهم الإمام على نفائس الأسرار وأسرار النفائس فكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم.

فهذا ميثم ، عظيم من حواري علي ، وولي من أوليائه وأحد خريجي مدرسته العالية ، الذين نهجوا في السير على هداه واتبعوه قائداً وقدوة في أمره ونهيه فصار مستودع أسراره وحقل علومه وخاصة حواريه.

كان رسول اللّه يخلو بعلي يناجيه ، وكانت اُم سلمة زوج النبي صلی اللّه علیه و آله تلك البرة الطاهرة ، تلتقط من المناجات درراً ثمينة ، فممّا التقطته منها ، وصاياه لأبي الحسن علیه السلام في ميثم ، فدخل ميثم على اُمّ سلمة وهو يريد الحج ، فقالت له : طالما سمعت رسول اللّه يذكرك في جوف الليل ويوصي بك علياً.

وكان ميثم يصحب الإمام أحياناً إلى الأماكن الخالية وعند خروجه في الليل إلى الصحراء ، فيستمع منه الأدعية والمناجاة ، وكثيراً ما يجلس إليه الإمام في السوق وأفواج الناس ذاهبة وآيبة ، ينظرون الإمام وهو في دكان « ميثم » يسامره ويحادثه ويلقي إليه

ص: 237

دروسه ويميره من العرفان الالهي ، فعلّمه علم المنايا والبلايا ، أي علم الآجال وعلم الحوادث والوقائع التي يبتلى بها الناس ، حتى أخبره أنّه سيصلب على باب عمرو بن حريث.

لم يكن ميثم فريداً من بين أصحاب الإمام وحوارييه ، وإن كان أحد عظمائهم إذ أنّه قد أودع هذا العلم عند من كان يأتمنه عليه من أفذاذ أصحابه الآخرين ، نظراء رشيد الهجري واُويس القرني ، وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي وكميل بن زياد ومن يشابههم في الإيمان الشامخ.

ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغاية ، لنقلنا كثير ممّا دار بينهم من المحادثات حول البلايا والمنايا.

فهذا ميثم نفسه ، وقد قيد على خشبة الصلب يقول للناس رافعاً صوته ، أيها الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب علیه السلام قبل أن اُقتل فواللّه لأخبرنّكم بعلم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وما يكون من الفتن (1).

لم يكن علي علیه السلام نسيج وحده في تربية هؤلاء العظماء الذين صقلت نفوسهم وتجلّت لهم صور ما في الكون من الحقائق والموجودات ، بل سبقه سيد الرسل فأدّب أناساً ، نهجوا في السير على هداه ، واتبعوه في أمره ونهيه ، وساروا في الطريق الذي رسمه لهم ، فكانوا مثلاً أعلى للفضيلة وكرم الأخلاق وخزنة للعلم والأسرار ، فشاهدوا الخليقة وما فيها من حقائق غامضة ، ورأوا ملكوت السماوات والأرض ، وعاينوا الحقائق العلوية والعوالم الروحية ، من قبل أن يخرجوا من الدنيا.

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : استقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حارثة ابن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال : يا رسول اللّه مؤمن حقاً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك ؟ فقال :

ص: 238


1- راجع في ترجمة ميثم ، كتب الرجال ، ولا سيما « قاموس الرجال » ج 9 ص 164 - 171 وما دبجته براعة الاُستاذ المغفور له الشيخ محمد حسين المظفر حول حياة ميثم.

يا رسول اللّه ! عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري كأنّي أنظر إلى عرش ربّ - ي وقد وضع للحساب ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنيّ أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال له رسول اللّه : عبد نوّر اللّه قلبه ، أبصرت فاثبت ، فقال : يا رسول اللّه اُدع اللّه لي أن يرزقني الشهادة معك ، فقال : اللّهمّ أرزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلاّ أياماً حتى بعث رسول اللّه سرية فبعثه فيها فقاتل ، فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل (1).

أخرج الكليني عن إسحاق بن عمار ، قال سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى شاب في المسجد فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كيف أصبحت يا فلان ؟ قال : أصبحت يارسول اللّه موقناً ، فعجب رسول اللّه من قوله وقال : إنّ لكل يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك ؟ فقال : إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، وعلى الأرائك متّكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار ، يدور في مسامعي فقال رسول اللّه لأصحابه : هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان (2).

هذا هو الإيمان المحض والعبودية الخالصة بل أنّه لشأن لا يتوصل إليه بالحس والعلم.

فكم في الاُمّة الإسلامية من ذوي الرتب العلوية ، رجال وأبدال شملتهم العناية الالهية ، فجردوا أنفسهم عن أبدانهم ، حينما أرادوا ، فعاينوا الحقائق واطلعوا على الأسرار.

وقد تضافرت الأحاديث على أنّ في الاُمّة الإسلامية مثل الاُمم السابقة رجالاً مخلصين محدّثين ( بالفتح ) يطلعون على المغيبات باحدى الطرق التي ألمحت إليها

ص: 239


1- الكافي ج 2 ص 54.
2- الكافي ج 2 ص 53.

الروايات.

والمحدث على ما تشرحه الأحاديث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

روى البخاري عن النبي صلی اللّه علیه و آله لقد كان في من كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء (1).

روى شيخ الطائفة باسناده عن أبي عبد اللّه قال كان علي علیه السلام محدثاً وكان سلمان محدثاً ، قال : قلت فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه ملك فينكت في قلبه ومنّا من يخاطب (2).

قال صدر المتألهين في الفاتحة الحادية عشرة :

« اعلم أنّ الوحي إذا اُريد به تعليم اللّه عباده ، فهو لا ينقطع أبداً ، وإنّما انقطع الوحي الخاصّ بالرسول والنبي من نزول الملك على اُذنه وقلبه » (3).

نعم ليس كل من رمى أصاب الغرض ، وليست الحقائق رمية للنبال ، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممّن خلص روحه وصفا قلبه ، كما كان كذلك في الاُمم السابقة أيضاً.

* * *

ص: 240


1- صحيح البخاري ج 2 ص 149.
2- أمالي الطوسي ص 260.
3- مفاتيح الغيب ص 12.

السؤال الثالث

اشارة

« لا تجد في الكون المادي أمراً خالداً باقياً عبر الأجيال ، والدهور ، أوليس التحول ناموساً عاماً في الفلسفة ؟ وهل في العالم المادي أصل ثابت وموجود خالد ، فكيف يكون الإسلام أمراً ثابتاً » ؟

توضيحه :

أنّ الإسلام قد أعلن بصوت عال أنّه دين اللّه الخالد إلى يوم القيامة ، وأنّه لا شريعة ولا دين ولا كتاب سماوي بعده ، وأنّ قوانينه وتشريعاته غير متغيّرة عبر الأجيال والقرون ، وأنّ حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

وعند ذلك يعترض السائل ويقول : إنّ الكون بعامة أجزائه ، بسمائه وأرضه ، وما تحتويانه ، متغيّر متبدّل ليس له أيّ إستقرار وأنّ الحركة والتبدل والتغيّر في الكون ناموس عام في الفلسفة الالهية والمادية ، وليس لنا في عالم المادة أصل ثابت أبداً ، سوى قولنا : « ليس لنا أصل ثابت » ، ومع هذا الأصل الفلسفي ، كيف يدعي الإسلام بقاءه وثباته ودوامه وصونه عن طوارق التغير والتبدل ؟

الجواب :

قد خلط السائل بين الموجودات المادية والنواميس الحاكمة عليها فانّ المتغير إنّما هو الأوّل ، دون الثاني ، فإنّ السماء وما فيها من الشموس والأقمار والنجوم متغيّرات والأرض سهلها وجبلها والبحر وما تنطوي عليه من عظائم الموجودات لا تستقر على

ص: 241

حالة واحدة ، بل تتقلب من صورة إلى اُخرى ومن حالة إلى ثانية ، والمادة الخارجية غير منفكة عن الفعل والإنفعال في الأحوال كلّها.

هذه هي المادة ، وأمّا النواميس السائدة عليها في نفس الأمر فهي ثابتة أبدية ولا تتغيّر ولا يصيبها التبدّل ولا تقع في مجالات الحركة والتحوّل ، مثلاً المعادلات الرياضية وقانون الجاذبية والثقل النوعي في الموجودات وإنكسار الضوء وأحكام العدسيات وسرعة النور وغيرها من القوانين الفيزياوية ، ثابتة غير متغيرة سائدة في كل الظروف والأزمنة.

على أنّ الإسلام السائد على المجتمع البشري طوال القرون والأجيال ، والباقي إلى مدى الدهور والزمان ، إنّما هو قوانين سماوية ونواميس إلهية شرّعت لإصلاح المجتمع وإسعاده وليس أمراً مادياً أو ظاهرة من ظواهره حتى يعمّه حكم المادة من الحركة والتحوّل والتبدّل ، بل قوانين سماوية سنّها اللّه سبحانه لعباده ، ليبلغهم إلى مدارج الكمال ومعارج العز ...

ثم إنّه ماذا يريد القائل من قوله : « ليس لنا أصل ثابت » فهل هي نظرية ثابتة ، وفكرة باقية مدى الدهور والأيام وأمر غير متغيّر ، أولا ؟ فلو قال بالأوّل ، فقد جاء بأصل ثابت ، وأمر غير متغيّر ، وبالنتيجة يكون قد نقض قاعدته ، وأصله الذي ركن إليه.

وإن قال بالثاني صار الإشكال أعظم إذ يلزم من عدم ثباته ثبات سائر الاُصول ودوامها ، إذ المفروض أنّ قوله : « ليس لنا علم ثابت » ليس حكماً ثابتاً فليزم من عدم صدقه ، صدق نقيضه ، كما هو شأن المتناقضين.

وبذلك يؤاخذ كل من نفى العلم الصحيح المطلق الصادق في جميع الأدوار والشرائط ، لأنّ قولهم هذا ( ليس عندنا علم صحيح مطلقاً ) قد اُلقي بصورة أنّه صحيح مطلق وأنّه صادق على وجه الاطلاق ، ولو قال بأنّه قد اُلقي على الوجه الصحيح النسبي يصير الفساد أكثر لأنّه يستلزم أن يكون غير هذا القول صحيحاً مطلقاً إذ المفروض أنّ سلب الإطلاق عن غيره إنّما هو بالسلب النسبي لا السلب المطلق ولازم

ص: 242

ذلك اتصاف سائر الاُصول بالصحة الاطلاقية (1).

وربّما يستدل على لزوم تطور المجتمع ب « حتمية التاريخ » ويقال : حتمية التاريخ لها دور كبير في الفلسفة المادية وقد اعتمد عليها فطاحل الماديين وغيرهم وفرعوا عليها فروعاً واستنتجوا منهامسائل كثيرة ، وملخّص ما يريدون من هذا الأصل :

انّ ما يحدث في تاريخ الاُمم من صعود وتدهور ، ومن صلح وسلام ، وحرب وكفاح ، واختراع ، واكتشاف ، وظهور انقلابات وثورات ، وتقدم في الانتاج والاقتصاد.

وعلى الجملة ما شاهده تاريخ الاُمم ، أم ما نشاهده في الحضارة العصرية من حوادث وطوارئ وتطور في ألوان الحياة وأشكالها كلّها ، رهين عوامل في نفس المجتمع توجب وجودها ضرورة اجتماعية ، ولا يمكن التحرز عنها أبداً ، ويساق المجتمع إليها عنفاً وجبراً بلا إرادة واختيار.

وهذه العوامل الخلافة ، لألوان الحياة وأشكالها وحوادثها وطوارئها ، لا تدوم على حالة واحدة ، بل تتبدل ويخلفها غيرها ، وهكذا ...

فإذا كان العيش الاجتماعي متطوراً ، كسائر الظواهر الطبيعية ، تطوراً ضرورياً حتمياً ، خارجاً عن إرادة المجتمع واختياره ، فكيف يخضع المجتمع المتحول المتطور ، لتشريع لا يتحول ولا يتبدل ؟

الجواب :

وزان حتمية التاريخ عند الماديين ، وزان القضاء والقدر عند الجبرية ، فكما أنّ هؤلاء يلقون كل حادث وطارئ وكل خير وشر يقع في المجتمع ، على عاتق القضاء والقدر ، ويريحون أنفسهم عن أية مسؤولية ، كذلك يفعل الماديون ، إذ يلقون كل حادث وطارئ وكل خير وشر في المجتمع ، على عاتق الحتمية التاريخية ، ويريحون أنفسهم عن أية مسؤولية.

ص: 243


1- لاحظ اُصول الفلسفة ج 1 ص 212 - تعريب المؤلّف.

لكن هذا الأصل إنّما يصح في بعض الموارد وليس أصلاً كلياً ، صادقاً في عامة نواحي الحياة ، حتى يعود المجتمع البشري آلة صماء مسلوب الإرادة والاختيار ولا عمل له إلاّ تحقيق ما تفرضه تلكم العوامل.

ونلاحظ ثانياً أنّ حتمية التاريخ لا صلة لها بتطور الاجتماع ، وأنّ استنتاج الأمر الثاني من الأمر الأوّل غير صحيح جداً ، بل تطوره وثباته تابع لتطور عامل الاجتماع وثباته ، فإن كان العامل المحرك للحياة الاجتماعية ثابتاً كان هو ثابتاً ، وإن كان ذلك العامل متطوراً ، كان متطوراً.

توضيحه : أنّ العامل المحرك للحياة ، قد يكون عاملاً فطرياً فيكون ثابتاً وباقياً وحاكماً ، ما دام الانسان موجوداً أو أفراده باقية متسلسلة ، وعندئذ فمقتضى هذا العامل وأثره يبقى في المجتمع ثابتاً لا يتغير ، ولا مجال فيه لتحوّل ولا تغير.

مثلاً ، الميل الجنسي أمر فطري في الانسان ، له أثر حتمي ودور عظيم في العيش الاجتماعي ومقتضاه في المجتمع هو الزواج ، وبما أنّه عامل فطري في الإنسان ، فلأثره الخلود في المجتمع البشري.

ودونك مثالاً آخر :

التدين والتوجه إلى ما وراء الطبيعة ، أمر فطري في الناس ، وطالما تجمعت الأسباب القاهرة من عنف الجبابرة ، وفتك الطغاة على أنّ تصرّف بني الانسان عن التدين فما استطاعت انتزاعه ، فالحياة الدينية التي هي جزء من الحياة الاجتماعية موجودة دائماً ، لأنّ لها عاملاً فطرياً لا يزول.

ونحن نعترف بأنّ للعوامل الداخلية التي تستمد من طبيعة المجتمع ، تأثيراً حتمياً في تاريخ الحياة الاجتماعية للانسان لا يختلف ، وهي أثر محتوم لها ، غير أنّ جعل حتمية التاريخ مساوية لتطوّر المجتمع وتحوّله في كل زمان غير صحيح أبداً. بل هناك مسألتان :

1. تطور الاجتماع وتبدله في كل زمان.

ص: 244

2. حتمية التاريخ.

وليست الاُولى من نتائج الثانية ، ومن ثمراتها ، بل الاُولى تابعة في الثبات والتحول لعاملها وعلّتها ، فإن كان عامل الحياة فطرياً ثابتاً ، فأثره حتمي ثابت في العيش الاجتماعي ، وإن كان العامل المحرّك ، أمراً متغيراً طارئاً غير فطري فأثره المحتوم في المجتمع يتغير ويتطور تبعاً لتغيره وتطوره.

مثلاً : استخدام الطبيعة والاستفادة منها في سبيل الحياة ، أمر فطري للبشر لكن التوصل إلى المقصود والاستفادة منه بأدوات خاصة ، كالسهم والنصل والبعير ، ليس أمراً فطرياً ، بل هي تتطور وتتطور معه صور الاجتماع وأوضاعه.

فالانسان الذي كان يركب الدواب في قطع المسافات وتأمين المواصلات أخذ في هذا القرن ، يقطع المسافات ويؤمن مواصلاته بالسيارة والطائرة.

اذن فالقول بتبدل الأشكال والأوضاع الاجتماعية ، استناداً إلى حتمية التاريخ باطل جداً ، وإنّما التبدل وعدمه متوقف على العامل المؤثّر فيه ، فإن كان العامل ثابتاً يثبّت الوضع الاجتماعي المستند إليه ، وإن كان متبدّلاً يتبدل (1).

* * *

ص: 245


1- عن مقال للعلامة الشريف الشهيد مرتضى المطهري.

السؤال الرابع

لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات باختلاف ألوان الحياة :

إنّ التطور الاجتماعي يستلزم تطوراً في قوانين الاجتماع ، والقانون الموضوع في ظرف خاصّ ، ربّما يكون مضراً أو غير مفيد أصلاً في ظرف آخر ، ومقتضيات الزمان ( القوانين ) تختلف باختلاف المجتمعات وألوان الحياة ، فما صح الأمس لا يصح اليوم ، وما يصح اليوم ، لا يصح غداً.

توضيحه :

أنّ الهدف من تشريع القوانين والأنظمة الخارجية ، في المجتمع البشري ليس إلاّ تأمين الحياة الاجتماعية له ، وصونها عن التصادم والجدال وحفظها عن الهلاك والبوار.

فالنظام التشريعي ليس أمراً مطلوباً بالذات ، بل هو ذريعة لتأمين الحياة وحفظها عن التحطم.

وعلى هذا ، قد يعترض بأنّ الحياة الاجتماعية ، لو استمرت على وتيرة واحدة لساغ لأي قانون تشريعي كان سائداً في الأزمنة الغابرة ، أن يسود في جميع الظروف والأجواء ، وأمّا إذا لم تكن على وتيرة واحدة بل كانت الحياة في المجتمع الانساني منذ لجأ الانسان إلى الحضارة والعيش الاجتماعي ، متحوّلة ومتغيّرة ، فكيف يصح لقانون موضوع في ظرف أن يطبق في ظرف مباين له.

مثلاً : إذا تأمّل في الدور الذي كانت وسائل النقل فيه منحصرة في الجمال وغيرها

ص: 246

من المواشي ، وكانت الثروات الطبيعية فيه لا تكاد تستغل باستثناء شيء قليل فيها ، وكانت أدوات الحروب الطاحنة فيه ، لا تتجاوز السيف والسهم ، فلا يرتاب في أنّ الحياة الاجتماعية في ذلك الدور ، لا تلتقي مع الدور الذي بلغت فيه حضارة الانسان حدّاً ، سخّر معه الأرض والفضاء ووضع أرض القمر تحت قدميه ، واستخدم الكهرباء والبخار ، وأخذ يقطع المسافات البعيدة بالسيارة والطائرة والصاروخ ، ويواجه العدو في جبهات الحرب بالقنابل الذريّة والهيدروجينية ، إلى غير ذلك من الآلات القاتلة ، فكيف يمكن لقانون واحد ، وضع لتأمين الحياة في مجتمع خاص ، أن يسود في الدورين ؟ وهل القوانين الاجتماعية إلاّ « رد فعل » للأوضاع الاجتماعية المتطورة ، إذ كلّما تغيرت الأوضاع الاجتماعية وتطورت ، فلابد وأن يتبعها « رد فعل » في التغير والتبدل.

الجواب :

انّ للانسان مع قطع النظر عمّا يحيط به من شروط العيش المختلفة ، روحيات وغرائز خاصة تلازمه ، ولا تنفك عنه ، إذ هي في الحقيقة مشخّصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات وتلازم وجوده في كل عصر ولا تنفك عنه بمرور الزمان.

فهاتيك الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة ، لا تستغني عن قانون ينظم اتجاهاتها ، وتشريع ينظمها ، وحكم يصونها عن الافراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته وصالحاً لتعديلها ومقتضياً لصلاحها ومقاوماً لفسادها ، لزم خلوده بخلودها ، وثبوته بثبوتها.

والسائل قد قصّر النظر على ما يحيط به من شروط العيش المختلفة المتبدّلة وذهل عن أنّ للانسان خلقاً وروحيات وغرائز ، قد فطر عليها ، لا تنفك عنه ما دام انساناً ، وكل واحد منها يقتضي حكماً يناسبه ولايباينه ، بل يلائمه ، ويدوم بدوامه ويثبت بثبوته عبر الأجيال والقرون.

ودونك نماذج من هذه الاُمور ليتبين لك بأنّ التطور لا يعم جميع نواحي الحياة ، وأنّ الثابت منها يقتضي حكماً ثابتاً لا متطوراً :

ص: 247

1. إنّ الانسان بما هو موجود اجتماعي ، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية ، وهذان الأمران من اُسس حياة الانسان ، لا تفتأ تقوم عليهما في جملة ما تقوم عليه منذ بدء حياته.

وعلى هذا ، فإذا كان التشريع الموضوع لتنظيم المجتمع مبنياً على العدالة ، حافظاً لحقوق أفراده ، خالياً عن الظلم والجور والاعتساف ، وبعبارة اُخرى موضوعاً على ملاكات واقعية ، ضامناً لمصلحة الاجتماع وصائناً له عن الفساد والانهيار ، لزم بقاؤه ودوامه ، ما دام مرتكزاً على العدل والانصاف.

2. إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة ، التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما ، ولأجل ذلك ، اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر ، اختلافاً يقتضيه طبع كل منها ، فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما ، ظل ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المقتضى ثبات محموله ، حسب الاصطلاح المنطقي.

3. الروابط العائلية ، كرابطة الولد بالوالدين ، والأخ بأخيه ، هي روابط طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، والوحدة النسبية بينهم ، فالأحكام المتفرقة المنسقة ، لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ، ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.

4. التشريع الإسلامي حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال ، ومما لا شك فيه ، أنّ الخمر والميسر والاباحة الجنسية .. ضربة قاضية على الأخلاق ، وقد عالج الإسلام تلك الناحية من حياة الإنسان بتحريمها ، وإجراء الحدود على مقترفيها ، فالأحكام المتعلقة بها ، من الأحكام الثابتة مدى الدهور والأجيال ، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان ، فالخمر يزيل العقل والميسر ينبت العداوة في المجتمع والاباحية الجنسية تفسد النسل والحرث دائماً ما دامت السماوات والأرض ، فتتبعها أحكامها في الثبات والدوام.

هذا وأمثاله من الموضوعات الثابتة في حياة الانسان الاجتماعي قد حددها

ص: 248

ونظمها الإسلام بقوانين ثابتة تطابق فطرته وتكفل للمجتمع تنسيق الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أحسن نسق وحفظ حقوق الأفراد وتنظيم الروابط العائلية.

وحصيلة البحث : أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها لا يوجب أن يتغير النظام السائد على غرار الفطرة ، ولا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية ، من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغير لون الحياة في وسائل الركوب ، ومعدات التكتيك الحربي و ... مثلاً ، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ حرمة الظلم ووجوب العدل ولزوم أداء الأمانات ودفع الغرامات والوفاء بالعهود والإيمان و ...

فإذا كان التشريع على غرار الفطرة الانسانية ، وكان النظام السائد حافظاً لحقوق المجتمع وموضوعاً على ملاكات في نفس الأمر ، تلازم الموضوع في جميع الأجيال ، فذلك التشريع والنظام يحتل مكان التشريع الدائم.

المقررات المتطوّرة في الإسلام :

إنّ للانسان مع هذه الصفات والمشخّصات الذاتية ، ظروف عيش اُخرى زمانية ومكانية ، لا تزال تتغير ، ويتغير معها وضع الانسان ، من حال إلى حال ، فمثل هذه الظروف الطارئة تتغير أحكامها بتغيرها.

وفي الفقه الإسلامي ، يطلق على الأحكام المتعلقة بهذه الظروف عنوان « المقررات » كما يطلق على الأحكام المتعلقة بالظروف الثابتة ، عنوان « القوانين ».

وهذه المقررات ليست بمعزل عن القوانين الكلية الإسلامية ، ولا تكون اعتباطاً وفوضى بل تجري في ضوء القوانين الكلية الثابتة ، بحيث لا تناقضها ولا تعطّلها ، وإن شئت قلت : إنّ هنا أحكاماً وخطوطاً عريضة تمثل القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي وهي مصونة عن التحوّل والتبدل ، مهما اختلفت الأوضاع وتباينت الملابسات.

وهناك أحكام متفرّعة على تلكم الخطوط ، مستخرجة منها ، بإمعان ودراية

ص: 249

خاصة ، يستنبطها الباحث الإسلامي باستفراغ وسعة على ضوء هذه الخطوط العريضة ، بشرط أن لا يصادمها ، وهذا القسم من الأحكام يتجدد بتجدد العهود وتباين الظروف وتعدد الملابسات واختلاف الشرائط.

فمن قواعد الدين الإسلامي ما هو خالد وثابت وهو ما يمس الفطرة الإنسانية وله صلة بالكون والطبيعة ، وما هو متغير ومتبدل ، وهو الذي لا يمس واقع العلاقات الاجتماعية والشؤون البشرية ، ولا يتجاوز حدود الظواهر الاجتماعية وقد منحه هذا التطور ، أسباب الخلود والبقاء والمسايرة مع عامة الحضارات ، بشرط أن لا يصطدم التحوّل على أي أساس مع اُسسه ولا يتجاوز حداً من حدوده.

فالحكم الكلي الذي يعالج القضايا البشرية على غرار الفطرة ، وصعيدها الكوني ، ثابت وخالد في كل العصور والأزمنة ، وإن تطورت الأوضاع الاجتماعية والسياسية واختلفت حاجات الناس فإنّ الأنظمة الإسلامية والدساتير الشرعية ، تساير الفطرة الإنسانية الثابتة ، وتوالي الطبيعة الكونية ، ولا تتخلف عنهما قدر شعرة فإذا كان التشريع معبّراً عن الكون الثابت ، ومبتنياً عليه ، فيخلد بخلوده ويدوم بدوامه.

أجل أنّ تقلّب الأحوال وتحوّل الأوضاع الاجتماعية يتطلب تحوّلاً في السنن والأنظمة ، وتبدّلاً في الأحكام والقوانين ، غير أنّه لا يتطلب تحولاً فيما يمس واقع الانسانية السائدة في جميع الأحوال ومختلف الأوضاع ، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين الكونية التي أصبحت تدبّر الكون باُصوله الثابتة فلا تتغير النسب الرياضية ولا النتائج الهندسية وإن تطورت الأوضاع وتبدلت الحضارات.

وإنّما المتغير هو المظاهر والقشور ، والشكل التطبيقي لهاتيك الأحكام في مختلف الأوضاع وتطور الاجتماع ، والمتأثّر بالأوضاع هو القسم الثاني لا الأوّل ، ولا ضير فيه فإنّ الدين الإسلامي إنّما يستعرض القضايا التي تمس واقع البشرية ، والمسائل التي لها صلة بالكون والطبيعة ويترك التطبيق بعد لنفس المكلف حسب ظروفه وأحواله.

وبذلك تقف على أنّ التطور والتحوّل ، فيما كتب له التغير والتبدل جزء جوهري

ص: 250

للدين ، عنصر داخل في بناء التشريع الإسلامي كما أنّ الثبات والدوام فيما فرض له ذلك ، أحد عناصر الدين ومن أجزاء ذاك البناء التشريعي السامي فتجريده من أي واحد من عنصريه يوجب انحلال المركب وفناء الدين ، وتأخره عن مسايرة المواكب الحضارية.

قال سيدنا الاُستاذ ( رضوان اللّه عليه ) : هناك أحكام شرعية ثابتة لا يعرض عليها التغيير والاختلاف ، ولا يمكن أن تتأثر باختلاف البيئة والمحيط بشكل من الأشكال.

وهناك لون آخر من المقررات الاجتماعية التي تجري باشراف من هيئة الولاية العامة ، تختلف باختلاف الظروف وتتأثر باختلاف البيئات والأزمنة.

ولتوضيح الأمر نستعير شاهداً من الظواهر الاجتماعية التي نعيشها في حياتنا الخاصة.

لنفترض أنّ مواطناً يرأس عائلة صغيرة ، ويدير اُمور العائلة الداخلية في حدود مقررات البلاد العامة. فيأمر بعض أفراد العائلة بالقيام بهذا الشأن من شؤون البيت ، ويأمر آخرين منهم بشأن آخر من شؤون العائلة ويحدد اختيارات كل واحد منهم في البيت في حدود مصلحة العائلة ويأمر بالانقطاع عن العمل يوماً أو يومين للاستجمام ويأمر بالاستمرار في العمل في حدود ما تقتضيه مصلحة العائلة ، وحسب ظروف البيت الخاصة ...

وفي الوقت الذي يملك هذا الشخص كل هذه الصلاحيات الواسعة في الإدارة والسلطة لا يسمح له أن يخرج عن دائرة مقرّرات البلاد العامة في شأن من الشؤون أو يتجاوز حدود النظام العام بشكل من الأشكال.

وممّا تقدم يتضح أنّ المقرارات المرعية في محيط هذه العائلة على نوعين :

نوع يتسم بطابع الثبات والبقاء.

ونوع يتعرض للاختلاف والتغيير حسب ما تقتضيه مصلحة البيت.

والنسبة ذاتها قائمة بين الشريعة الإسلامية ، التي يطبعها طابع من الثبات

ص: 251

والبقاء ، والمقررات التي تختلف باختلاف الظروف والمصالح الاجتماعية والتي تدور في فلك الشريعة من غير أن تتجاوزها بحال من الأحوال (1).

ودونك نماذج من هذا القسم ، أي من الأحكام المتطورة المتغيرة بتغيّر الزمان :

1. في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية : يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين ، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة ، وأمّا كيفية تلك الرعاية ، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية ، فتارة تقتضي المصلحة السلام والمهادنة والصلح مع العدو ، واُخرى تقتضي ضد ذلك.

وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصة في هذا المجال ، باختلاف الظروف ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين ، كقوله سبحانه :

( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء - 141 ).

وقوله سبحانه : ( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) .

( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة 8 - 9 ).

2. العلاقات الدولية التجارية : فقد تقتضي المصلحة عقد اتفاقيات اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسسات صناعية ، مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له ، الفقيد المجدد ، السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانكلترا ، إذ كانت مجحفة بحقوق الاُمّة المسلمة الإيرانية لأنّها خوّلت لانكلترا حق احتكار التنباك الإيراني.

ص: 252


1- نظرية السياسة والحكم في الإسلام ص 37 - 39.

3. الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء ، قانون ثابت لا يتغير ، فالمقصد الأسنى لمشرع الإسلام ، إنّما هو صيانة سيادته عن خطر أعدائه وأضرارهم ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوّة ضاربة ضد الأعداء ، واعداد جيش عارم جرار تجاه الأعداء كما يقول سبحانه : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ) ( الأنفال - 60 ) فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة أمّا كيفية الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح ، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه ، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان ، تتغير بتغيره ، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت ، حتى مسألة لزوم التجنيد العمومي ، الذي أصبح من الاُمور الأصلية في غالب البلاد.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب ، أو وضع كتاب خاص ، لأحكام السبق والرماية ، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ونقل أحاديث في ذلك الباب ، عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأئمّة الإسلام ، فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام ، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة ، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم الغرض منه ، تحصيل القوّة الكافية ، تّجاه العدو في تلكم العصور وأمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبق في العصر الحاضر ، فانّه تفرضها مقتضيات العصر نفسه (1).

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر ويصد كل مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب

ص: 253


1- قال المحقق في الشرائع ص 152 وفائدة السبق والرماية : بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة. وقال الشهيد الثاني في المسالك في شرح عبارة المحقق : لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد ، بل أمر به النبي في عدة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدد في الجهاد لأعداء اللّه تعالى ، الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللّهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما. فإذا كانت الغاية من تشريعهما الاستعداد للقتال والتدرب للجهاد، فلا يفرق عندئذ بين الدراج في زمن النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم وغيره أخذاً بالملاك المتيقن.

إمكانيات الوقت.

والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به ، لا يجب عليه التعرض إلى تفاصيل الاُمور وجزئياتها ، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والاُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة ، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظه من البقاء قليلاً جداً.

4. نشر العلم والثقافة ، واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية ، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدد بحد خاص ، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي ، واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الامكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة : فقد ألزم الإسلام ، رعاة المسلمين ، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الانسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أي لون من الاُمّية ، وأمّا نوع العلم وخصوصياته ، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.

فرب ، علم لم يكن لازماً ، لعدم الحاجة إليه ، في العصور السابقة ، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الأوّل من العلوم اللازمة التي فيها صلاح المجتمع كالاقتصاد والسياسة.

5. حفظ النظام وتأمين السبل والطرق ، وتنظيم الاُمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد و ... من الضروريات ، فيتبع فيه وأمثاله مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع ، بل الذي يتوخّاه الإسلام هو الوصول إلى هذه الغايات ، وتحقيقها بالوسائل الممكنة ، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى امكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ، وكلّها في ضوء القوانين العامة.

6. قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) وقد فرّع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحة عقد البيع أو المعاملة فقالوا : يشترط في صحة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصح المعاملة ومن هنا حرّموا بيع ( الدم ) وشراءه.

ص: 254

إلاّ أنّ تحريم بيع الدم أو شراءه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما افادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له فالحكم يدور مدار وجود الفائدة ( التي تخرج المعاملة عن أن تكون أكل المال بالباطل ) وعدم تحقق الفائدة ، فلو ترتبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شراءه فسوف يتبدل حكم الحرمة إلى الحلية ، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) .

وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً علیه السلام سئل عن قول الرسول صلی اللّه علیه و آله : « غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود » ؟ فقال علیه السلام : « إنّما قال صلی اللّه علیه و آله ذلك والدين قلّ ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار » (1).

وفي الختام نأتي بما أفاده الشيخ الرئيس ابن سينا في هذا المقام في الشفاء قال :

ويجب أن يفوض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد فإنّ للأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط وأمّا ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج واعداد اهب الأسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو خليفة ولا تفرض فيها أحكام جزئية فإنّ في فرضها فساداً لأنّها تتغيّر مع تغيّر الأوقات وفرض الكليات فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل المشورة (2).

وفي الختام نعطف نظر القارئ إلى نكتة ، وهي : أنّ عنوان « مقتضى الزمان » و « حتمية التاريخ » وغيرهما من العناوين صار رمزاً ، لكل من أراد أن يتحرّر من القيم الأخلاقية ، ويعيش متحلّلاً من كل قيد وحدّ ، خالعاً كل عذار ، والكثير من أفراد الانسان في العصر الحاضر ، حينما رأوا ، الاباحة الجنسية واختلاط الرجال والنساء ، واتخاذ الملاهي على أنواعها وشرب المسكر واللعب بالميسر واقتراف المعاصي واخذ الربا مما راج

ص: 255


1- نهج البلاغة الحكم رقم 16.
2- الشفاء قسم الالهيات ص 566.

في البيئات الغربية بلا استنكار وقد حرّمها الشرع ورفضتها قوانين الأخلاق الصحيحة ، والفطرة السليمة ، لم يجدوا مبرّراً لاقترافها والانصياع التام لشهواته الجامحة إلاّ بأن يتمسكوا باحدى هذه العناوين ، وليست الغاية من هذه القالة عنده ، إلاّ اقتراف السيئات والانغمار في الشهوات.

كما أنّ هذه العناوين قد صارت ملجأ لكل من أراد هدم الثقافة الشرقية الأصيلة وتحويرها ، وسوق الشرق إلى الإنصياع لتوجيهات الغرب وتناسي كل ما كان له من كرامة قديمة وقطع صلته بها.

ترى المنادين باستعمال الحروف اللاتينية بدل الحروف الشرقية الإسلامية يتمسكون باعذار ، ويستدلون باُمور منها : كون ذلك من مقتضيات الزمان ، ونتيجة يحتمها التاريخ ، غير أنّ الباحث الحر ، يرى للقديم كرامته الموروثة وللحديث نضارته الموجودة ، فيأخذ منها كل ما يليق بالأخذ ويصلح للاقتفاء فلا يعقد حلفاً مع كل قديم حتى الخرافات ولا يكب على كل حديث وإن أضر به وبكرامته وشرفه.

فعلى كل من يريد أن يحافظ على كرامة الانسان وكيانه وقيمه الأخلاقية ، أن يتوخّى الأصلح من مقتضيات الزمان ويصلحه على ضوء العقل والفطرة ، لا أن يطبق عمله عليه ، فليس مقتضى العصر وحياً اُوحي إلى المجتمع ، مصوناً عن الخطأ أو نقياً عن الاشتباه.

على أنّ هؤلاء المتشدّقين بأمثال هذه العبارات ، تقليداً للغرب والحضارة الغربية بلا تأمّل ولا روية ، قد عزب عنهم أنّ « هذه الحتمية » و « اقتفاء مقتضى الزمان » التي ينادون بها ، غير معترف بها عند أعيان القوم ، ومفكري المجتمعات ، بل أكابرهم فيها ، فكم نبّه علماء وحذر مفكرون من أبناء الغرب ، من عواقب السير على منهج هذه الحضارة ، واستخفّوا خطتها وتنبّأوا بانهيارها ونادوا بوجوب نقض اُسسها (1).

ص: 256


1- نذكر على سبيل المثال منهم ، العلامة « الكسيس كارل » فارجع إلى ما حرره في كتابه « الانسان ذلك المجهول ».

ولأجل أن يقف القارئ الكريم على موقف الإسلام فيما يرجع إلى التطور الزمني نتوقف في المقام قليلاً ونقول :

الإسلام والتطوّر الزمني :

لا نجد بين الشرائع السماوية شريعة قد تدخلت في جميع شؤون الناس كالإسلام ، حيث لم يكتف في مقرراته وتعاليمه على تعريف الناس بالأذكار والأوراد التي تربطهم بالخالق أو على ابداء النصائح الأخلاقية لهم فحسب ، بل أنّه بين كافة ما يهم المجتمع من حقوق ووظائف فردية واجتماعية ، ووضع الخطوط العريضة لكل قضايا الانسان في هذه الحياة ، وقد اعترف بهذه الحقيقة كثير من المفكرين والكتاب غير المسلمين الذين كتبوا عن الإسلام ووصفوا قوانين الإسلام بأنّها أرقى القوانين التي تعالج قضايا الانسان ، وذلك حيث أنّها تمتلك مادة حيويه ومرونة تخوّلها أن تعيش خالدة لكل الظروف.

ومن ذلك ما قاله المفكر الانجليزي ( برناردشو ) : أنا أحترم دين محمد لأنّه دين حر ولأنّه الدين الوحيد الذي يقبل الانطباق مع الصور المختلفة في الحياة ، وأضاف يقول : وأنا أتنبّأ بأنّ دين الإسلام سوف تعتنقه اُوربا.

وقال الدكتور شبلي شميل ، الكاتب المادي المعروف في مقال له تحت عنوان « القرآن والاعمار » نشره في الجزء الثاني من كتابه ( فلسفة النشوء والارتقاء ) الذي قرر فيه فرضية « دارون » مع شرح « بخنر » الالماني لها ، وردّ فيه على بعض الغربيين الذين زعموا أنّ الإسلام هو سبب تأخّر المسلمين قال : إنّ انحراف المسلمين عن تعاليم دينهم هو سبب انحطاطهم ، وأنّ الذين يزعمون بأنّ الإسلام هو المسؤول عن تأخر المسلمين وانحطاطهم أمّا جاهلون بحقيقة الإسلام ، أو أنّهم يريدون بهذا أن يمهّدوا الطريق لاستعمار الغرب للشرق الإسلامي.

ولأجل ذلك نواجه اليوم كثيراً من الشباب يتساءل عن مدى انطباق قوانين

ص: 257

الإسلام على التطورات الزمنية المختلفة وقدرته على قيادة الانسانية إلى السعادة والرفاه ؟

بين الجمود والجهل :

القرآن الكريم يصف الانسان بأنّه ظلوم جهول ، وصدق اللّه العظيم ، فمن الناس من يريد التحرّر من قيود الانسانية ، والتجاوز عن كل الضوابط الأخلاقية بحجة رفض كل ما هو قديم وقبول كل ما هو جديد في حياة البشر ، ويعيش إباحياً لأنّ تطور الزمن يقضي بذلك ، فهذا هو الانسان الظلوم.

ومنهم من يمشي على عكس الأوّل ، يحب كل ما هو قديم ويشجب كل ما هو جديد وينسب ذلك إلى الإسلام ، فيظن أنّ الإسلام جاء لابقاء القديم على قدمه ، دون أن يفرق في ذلك بين الوسائل والأهداف والقشور واللباب ، ولذلك فهو يتقيد بالكتابة بأقلام القصب أو الاستحمام في الخزائن ، أو الأكل باليد ، أو الاستفادة من المصابيح القديمة وما شاكل ذلك ، وهذا هو الانسان الجهول.

فالظلوم لطغيانه يهدّم أساس الشريعة ويمحق تعاليمها ، والجهول يعرّض الدين بغير ما هو عليه من التطور والمرونة فينفر الناس عنه ، فهما بين افراط وتفريط.

النسخ غير المرونة :

إنّ بعض الكتّاب الذين يتظاهرون بالإسلام يفسرون تطور الإسلام الزمني بما يؤدي إلى محق أحكام الإسلام والقضاء عليها فاُولئك يزعمون أنّ التعاليم الإسلامية تدخل تحت اُطر ثلاثة :

اُولاها : اطار الاُصول العقائدية كالتوحيد والنبوّة والمعاد.

ثانيها : اطار الأحكام العبادية كالصلاة والصوم وما شاكل.

وثالثها : اطار القوانين التي ترتبط بشؤون الحياة.

فيزعمون أنّ الثابت من تعاليم الدين ليس إلاّ ما يدخل تحت اطار الأوّل والثاني

ص: 258

فقط ، وأمّا ما يرتبط بالاطار الثالث من القوانين الاجتماعية فليست من صميم الدين وبالامكان تغييرها واحلال ما تقتضيه مقتضيات الزمان مكانها في هذه المجالات.

أقول : إنّ القائل بهذه المقالة ممّن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ويريد حصر الإسلام في المسجد ، لتخلو الساحة الاجتماعية لغيره لكي يلعبوا ما يشاؤون ، ويستوردوا القوانين الاجتماعية من هنا وهناك ويملأوا بها الفراغ وتكون النتيجة أنّ مصائر المسلمين يتحكم فيها أعداؤهم ويضعون لهم خطوط المسيرة.

إنّنا نرى القرآن الكريم يشبه المسلمين بالزرع الذي من خواصّه النمو والحياة يقول سبحانه : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) ( الفتح - 29 ).

فقوانين الإسلام بما هي مشتملة على المادة الحيوية وبما هي ذات مرونة تنطبق مع كل الظروف والحضارات الانسانية ولا تحتاج إلى تغييرها واقامة غيرها مكانها ولأجل هذه الخصيصة أصبح المسلمون بفضل الإسلام ذوى نمو وارتقاء في مجالات الحياة.

* * *

ص: 259

السؤال الخامس

ادعاء النقص في التشريع الإسلامي :

« كلّما تكاملت نواحي الحضارة ، وتشابكت وتعددت ألوانها ، واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثاً جديدة ، وطرحت عليه مشاكل طارئة ، لا عهد للأزمنة السابقة بها ، إذ لم تتعرض تشريعاتها ، لأي هذه الأوضاع والأحداث والمشاكل بحكم من الأحكام إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة ، لا تزال تتزايد كل يوم ، تبعاً لذلك ».

توضيح السؤال :

لا يرتاب ذو مسكة في أنّه كلّما توسّع نطاق الحضارة وبلغ البشر من التمدن ما بلغ ، احتاج في تنظيم حياته إلى قوانين جديدة ، وتشريعات خاصة ، أزيد ممّا كان محتاجاً إليها في الظروف الغابرة ، وبما أنّ الحضارة الإنسانية ، ما زالت تتوسّع وتتكامل ، ولا تقف عند حد ، فما زال الانسان تبعاً لذلك ، تتوسّع حاجته إلى قوانين وتشريعات جديدة ، متكاملة فكيف يمكن أن تعالج القوانين المحدودة الموضوعات الكثيرة ، غير المحدودة ؟! (1).

ص: 260


1- الفرق بين هذا السؤال وما سبق من السؤال الرابع واضح ، إذ الرابع يرجع إلى لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات ، حسب اختلاف اشكال الحياة في الاجتماع ، وتبدلها من دون نظر إلى طروء حوادث لم يكن منها أثر في العهود السابقة ، وهذا الوجه يرجع إلى اثبات وجود النقص في ناحية التشريع الإسلامي ، وعدم إيفائه بالحوادث الجديدة والوقائع الطارئة التي يوجبها تكامل الحضارة وتشعّباتها وتعددها ، ولم يكن لها أثر في زمن الرسالة ودور نزول القرآن.

ويلاحظ بأنّ الإسلام ، هو الذي يواجه وحده ، بهذا الاشكال من بين سائر الشرائع ، إذ ليس الإسلام عبارة عن تعاليم منحصرة في عدة أحكام عبادية وأخلاقية تؤدّى بصورة فردية ، بين الانسان وربّه ، أو بينه وبين نفسه ، دون أن يتدخل في تحديد المناهج الاجتماعية والعلاقات الانسانية والمدنية ، وليس منحصراً في هذه المقررات البسيطة ، حتى لا يكون وافياً في جميع الأزمنة ، بالغاية التي يهدف إليها وإنّما هو نظام تشريعي كامل ، قد تدخل في شؤون المجتمع كافة ، فهو ذو قوانين مدنية وقضائية وسياسية واجتماعية وعسكرية وعائلية ، كفيلة باغناء البشرية ، عن كل تشريع سوى تشريعه ، وعن كل اصلاح غير اصلاحه ، فهذه القوانين المحدودة كيف تغني المجتمع البشري عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول ؟

وفي هذه النقطة ، تفترق المسيحية عن الإسلام ، إذ هي لا تتجاوز في تشريعها نطاق الأخلاق الفردية والتعبّد لله ، بصلاة وصوم ، في وقت معين ، أمّا مناهج الحياة الاجتماعية وتنظيمها وتنسيق معاملاتها ، ذلك ما يقرّه المجتمع نفسه ، ويفوّضونه إلى السلطات الحاكمة.

ولكن الإسلام يتعرض لكل شأن من شؤون الحياة ، ويقنّن ويشرّع لكل أمر من اُمور المجتمع ، المدنية والمعاشية ، بالاضافة إلى تشريعاته وقوانيه الأخلاقية ، والعبادية الفردية ، ويسد باب التشريع في ذلك على غيره ، فالسلطة التشريعية بيده وحده ، وعلى المجتمع أن يختار السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فقط ، ضمن ما يشرعه الإسلام.

وملخص السؤال ، انّ المجتمع الإنساني ، يواجه أوضاعاً وأحداثاً جديدة تطرح عليه مشاكل لاعهد للأزمنة السابقة بها ، فلا نجد في التشريع الإسلامي لهذه الأوضاع والأحداث حكماً من الأحكام ، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كل يوم تبعاً لذلك ، وبما أنّ نصوص الشريعة من الكتاب والسنّة محدودة ، وحوداث المجتمع غير محدودة ، فكيف يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية ؟

ص: 261

الجواب :

انّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الانسانية ، واستغناءه عن كل تشريع سواه ، يتوقف على وجود أمرين فيه :

الأوّل : أن يكون التشريع ذا مادة حيوية خلاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الاُمّة والاخصائيون منهم على استنباط كل حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كل عصر من الأعصار.

الثاني : أن ينظر إلى الكون والاجتماع بسعة وانطلاق ، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال ، وتساير الحضارات الانسانية المتعاقبة.

وقد أحرز التشريع الإسلامي كلا الأمرين :

أمّا الأمر الأوّل ، فقد أحرزه بتنفيذ اُمور :

الأوّل : الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة :

انّ من سمات التشريع الإسلامي التي بها يمتاز عن سائر التشريعات ، ادخال العقل في دائرة التشريع ، والاعتراف بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها ، فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصاف المصادر الاُخر للتشريع وأنّه يكشف عن الحكم الشرعي ويبيّن وجهة نظر الشارع في مورده ، وأنّ من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه ، فالملازمة بين العقل والشرع حتمية.

ولا يهمنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد هل هو نفس الحكم الشرعي ومن صميم التشريع الإسلامي أو أنّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجية ادراكاته.

وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتل محلاًّ خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كل ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة ، فعند ذاك اعتمد

ص: 262

عليه في تبليغ الأحكام إلى الناس كما اعتمد على القرآن والسنّة.

وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً ، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الانسانية ، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كل ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة ، فإنّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.

نعم ليس معنى الاعتراف بحجية العقل ، أنّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتى يتاح له ( بما اُوتي من امكانات ووسائل محدودة ) أن يتسرّع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.

بل فسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحفظه عن الزلل ، وسوف نشير إلى هذه الشرائط والضمانات ، وستوافيك نماذج من الأحكام العقلية في هذا البحث.

فالقارئ الكريم إذا لاحظ كتاب اللّه العزيز وسنّة نبيّه صلی اللّه علیه و آله وعترته علیهم السلام يرى فيهما الحث البالغ الأكيد على التدبّر والتفكّر والتعقّل لما يعسر على الانسان الاحاطة والاحصاء ولنكتف بذكر بعض ما اثر في المقام.

قال الإمام الطاهر موسى بن جعفر علیه السلام لتلميذه هشام :

إنّ اللّه تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال : ( ... فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( الزمر 17 - 18 ).

يا هشام : إنّ اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ

ص: 263

وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة - 164 ).

يا هشام : ثم وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام - 32 ).

يا هشام : إنّ العقل مع العلم فقال : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت - 43 ).

ثم ذم الذين لا يعقلون فقال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة - 170 ).

يا هشام ثم ذكر اُولي الألباب بأحسن الذكر وحلالهم بأحسن الحلية فقال : ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( البقرة - 269 ).

يا هشام : إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني : عقل.

وقال ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ ) ( لقمان - 12 ) قال : الفهم والعقل.

يا هشام : ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن اللّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام : إنّ لله على الناس حجّتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول (1).

وقال الصادق : حجة اللّه على العباد ، النبي ، والحجة في ما بين العباد وبين اللّه ،

ص: 264


1- الكافي ج 1 ص 13 - 16 ولم ننقله بطوله وإنّما اقتبسنا مقتطفات منه.

العقل.

هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن أعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالاقيسة والاستحسانات.

نعم لا يخلص الحكم العقلي من الزلل والخطأ إلاّ بعد ملاحظة اُمور :

1. قصور الفكر الانساني وعجزه عن الاحاطة بمسائل الكون والنفس والاجتماع وضعف المدارك الحسية التي تربط الانسان بالواقع الاجتماعي والنفسي والكون الذي يعيشه.

2. تأثّر الفكر الانساني بالجانب الانفعالي والحيواني من النفس كالغرائز النفسية والدوافع الحيوانية المستقرة في النفس التي لا تتخلّص منها النفس والفكر إلاّ بعد جهد شاق.

3. انطباع الفكر بالرواسب اللاشعورية والأعراف والتقاليد التي يرثها الانسان من البيئة الاجتماعية والتي تنتقل في المجتمع مع الأجيال من دون أن تفقد تأثيرها الخاص واطارها الاجتماعي الذي يسبغ عليها جانباً قدسياً في المجتمع.

وقد حاول الإسلام أن يحقق الضمانات الكافية التي تعصم الفكر من هذه الوجوه الثلاثة في مجال الحكم والتشريع.

كما حاول الإسلام من جانب أن يفسح المجال للعقل في الحكم ليحفظ الدستور ويصلح للحكم والتطبيق في البيئات والظروف المختلفة.

ومن جانب آخر حاول الإسلام أن يحفظ العقل ممّا يمكن أن يحفظ به إلى المستويات الحيوانية واللاشعورية أو ممّا تقصر عنه امكاناته العلمية (1).

ص: 265


1- لاحظ المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي ص 107 - 108.

قال العلاّمة الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني : إنّ القضايا المشهورة على أقسام :

منها ما فيه مصلحة عامة : كالعدل حسن ، والجور قبيح ، وعبّر عنها بالتأديبات الصلاحية.

منها : ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة كالحكم بقبح كشف العورة لانبعاثه عن الحياء وهو خلق فاضل.

منها : ما ينبعث عن رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك واستلزام الحسن والقبح عقلاً للحكم الشرعي بالمعنى المتقدم في ما كان منشأه المصالح العمومية واضح لأنّ الشارع يرعى المصالح العمومية وكذا ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة لأنّ المفروض أنّها ملكات فاضلة ، والمفروض انبعاث الحكم بالحسن والقبح عنها وأمّا ما ينبعث عن انفعالات طبيعية من رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك فلا موجب لاشتراك الشارع مع العقلاء.

ولذا ترى الشارع ربّما يحكم لحكمة ومصلحة خاصة بما لا يلائم الرقة البشرية كالحكم بجلد الزاني والزانية غير ذات البعل مع كمال التراضي (1).

وللشيخ الرئيس في اشارته كلام يوقفنا على أقسام الادراكات العقلية فراجع الاشارات وشرحها للحكيم الطوسي (2).

فإذا توفرت في الحكم العقلي هذه الشرائط وكان حكمه منبعثاً عن الجانب العقلي المحض ، غير متأثر عن الجوانب اللاشعورية ، والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ، وتجنب عن الأساليب الممنوعة وحكم من صميم التدبّر والتفكّر بحكم بات ، يصير حجة بين اللّه وعبده ، وحينئد يجب السير والسلوك على مقتضى حكمه وتنفيذ ما يقضي به تأسيساً أو تحديداً لاطلاق حكم شرعي أو تخصيصاً لعمومه ويصير عند ذاك أحد

ص: 266


1- نهاية الدراية ج 2 ص 130.
2- الاشارات ج 1 ص 220 ط طهران.

الأدلة التي يستنبط منها ، الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط ، ويعد قريناً للكتاب والسنّة ، والاجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.

والباحث النابه ، يجد الملازمة بين العقل والشرع ، أحد القواعد المسلمة عند المحققين ، من علماء الإسلام ، الذين يعتنى بقولهم ، فقد صرحوا بأنّ كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل.

إنّ للعقل دوراً كبيراً في استنباط كثير من الأحكام التي يصلح للعقل القضاء فيها ويقدر على ادراك ملاك الحكم ومناطه نظير الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، ووجوب الشيء وحرمة ضده أو عدمهما ، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه وصحة العبادة والمعاملة وفسادهما ، واجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية والأحكام المتفرعة على تنجيز العلم الاجمالي وما يستقل به العقل عند اليأس عن الأدلّة السمعية فيحكم بالبراءة أو الاشتغال أو التخيير ، حسب ما اقتضاه المقام. بل له دور واسع في باب المعاملات وغيرها.

فهذه الملازمات وغيرها ، من الأحكام العقلية ، مصادر لاستنباط كثير من الأحكام واستكشاف ما هو المرضي لدى الشارع ، يستريح إليه الفقيه في تأسيس الحكم الشرعي أو تحديده ، وفي تشخيص الوظيفة العملية عند اليأس عن العثور على الأدلّة السمعية وبذلك يسد الفراغ المتوهم في التشريع الإسلامي.

كل ذلك يرشدنا إلى أنّ التشريع الإسلامي ، يتبنى الواقع ولا يحيد عن متطلبات الحياة ، وأنّه ليس لتعاليمه طابع الرمز والتعبد السماوي وأنّ للإسلام علاقة واقعية بالعقل ، لا تجد مثلها في الشرائع الاُخرى ، بل لا يسوغ لغيره أن يدخل العقل في مصادر تشريعه ، ويعده أحد الأدلّة.

الثاني : إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد :

إنّ الأحكام الشرعية عند العدلية من المسلمين ، الذين يمثلون الطبقة العليا

ص: 267

منهم ، تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها ، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه ، وقد تحقق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى وهذا الأصل ، وإن خالف فيه بعض الاُمّة ، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب اللّه وسنّة نبيه ونصوص خلفائه علیهم السلام ترى أنّه سبحانه يعلّل حرمة الخمر والميسر بقوله :

( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ( المائدة - 91 ).

ويستدل على وجوب الصلاة بقوله سبحانه : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) ( العنكبوت - 45 ) إلى غير ذلك من الفرائض والمناهي التي صرح أو اُشير إلى ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.

وقد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا علیه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يحرّم إلاّ ما فيه الضرر والتلف والفساد » (1).

وقال علیه السلام في الدم : « إنّه يسيء الخلق ويورث القسوة للقلب ، وقلة الرأفة والرحمة ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده » (2).

وهذا باقر الاُمّة وإمامها يقول : « إنّ مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروته ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا » (3).

وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين (4).

فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع ، فالغاية المتوخّاة من تشريعها ، إنّما هو الوصول إليها ، أو التحرّز عنها ، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على

ص: 268


1- مستدرك الوسائل ج 3 ص 71.
2- بحار الأنوار ج 62 : ص 165 ، الحديث 3.
3- المصدر نفسه ص 164 ، الحديث 2.
4- راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام في بيان علل التشريع وفلسفته.

وزان واحد ، بل ربّ واجب يسوغ في طريق احرازه ، اقتراف بعض المحارم ، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلاً ، وربّ حرام ذي مفسدة كبيرة ، لا يجوز اقترافه ، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.

ولأجل ذلك قد عقد الفقهاء باباً خاصاً ، لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد ، فيقدمون « الأهم على المهم » والأكثر مصلحة على الأقل منها ، والأعظم مفسدة على الأحقر منها ، وهكذا ... ويتوصّلون في تمييز الأهم عن المهم ، بالطرق والامارات التي تورث الاطمئنان ، وباب التزاحم في علم الاُصول غير التعارض فيه ، ولكلّ أحكام.

وقد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة ، وأنّها من المعضلات التي لا تنحل أبداً ، ولنأت على ذلك بمثال ، وهو :

أنّه قد أصبح تشريح بدن الانسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث ، فلا يتسنّى تعلم الطب إلاّ بالتشريح والإطلاع على خفايا الأمراض والأدوية.

غير أنّ هذه المصلحة تصادمها ، مصلحة احترام المؤمن حيّه وميّته ، إلى حد أوجب الشارع ، الاسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن ، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه ، بل هو من المحرمات الكبيرة التي لم يجوز الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور ، غير أنّ عناية الشارع بالصحة العامة وتقدم العلوم جعلته يسوغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية ، مقدماً بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف منه ، وهكذا ...

الثالث : التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية

إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب ، مشتمل على اُصول وقواعد عامة ، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري ، على امتداد القرون

ص: 269

والأجيال ، وهذه الثروة العلمية ، التي اختصت بها الاُمّة الإسلامية من بين سائر الاُمم ، أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.

وقد تضافرت الروايات على أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد جاءت فيه آية محكمة أو سنّة متّبعة.

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام قال سمعته يقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكل شيء حداً ، وجعل عليه دليلاً يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً.

روي باسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال سمعته يقول : ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة.

اُخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى علیه السلام قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه ، أو تقولون فيه ؟ قال : بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيه (1).

وهذا العلاّمة الحلي ، أحد فقهاء الإمامة في القرن الثامن ، قد ألّف عشرات الكتب في الفقه واُصوله ، منها « تحرير الأحكام الشرعية » وقد حوى من الأحكام والقوانين ما يربو على أربعين ألف مسألة ، استنبطها من هذه الاُصول الواردة في القرآن والسنّة النبوية ، والأحاديث المأثورة عن أئمّة الدين ، رتبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد : العبادات ، والمعاملات ، والايقاعات ، والأحكام (2).

وجاء من بعده من الفقهاء والمجتهدين ، فبحثوا عن موضوعات وأحكام ، لم تكن لعصره بها صلة ، فاستخرجوا ما لها من الحكم الشرعي ، من تلكم الاُصول والقواعد بوضوح وانطلاق ، ولم يجدوا التشريع الإسلامي عاجزاً في هذه المجالات.

ص: 270


1- راجع الكافي « باب الرد إلى الكتاب والسنّة » ج 1 ص 59 - 62 ، تجد فيه أحاديث تصرح بما ذكر ، والمراد منها اُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.
2- راجع الذريعة ج 4 ص 378.

وهذا « صاحب الجواهر » ذلك الفقيه الأعظم ، من فقهاء القرن الثالث عشر الإسلامي ، قد جاء في مشروعه الوحيد « جواهر الكلام » بأضعاف ما جاء به العلامة الحلي ، فإنّ الباحث عندما يقف أمام هذا الكتاب الثمين وينظر في مباحثه ، يرى أمامه بحراً يزخر بالدرر التي تحار في حصرها النهى والخواطر وتنبهر لها عيون البصائر ، فلقد حوى من الفروع والقوانين ، ما يعسر عدها.

ولأجل ذلك استعارت منا الاُمم الغربية كثيراً من قوانينه ، ( بعكس ما نحن عليه الآن من تبعيّتنا للقوانين الأجنبية ) وليس ذلك إلاّ لأجل كون الفقه الإسلامي ذا مادة حيوية ، وقواعد متموّجة ، تستطيع أن تواجه الأحداث الطارئة طيلة القرون.

يوم كان الإسلام يبسط ظله على أكثر من نصف المعمورة ، حيناً من الدهر وإنّ الاُمّة الإسلامية ، كانت تتألّف من شعوب مسلمة مختلفة الألوان ، لكلّ بيئة خواصها في العادات والتقاليد ، وما يقع فيها من وقائع وأحداث ، كان التشريع الإسلامي بقواعده واُصوله الوافرة ، وافياً لاستخراج أحكامها ، من دون أن تمدّ يدها إلى المساعدات الأجنبية.

الرابع : تشريع الاجتهاد

وهو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعينة ، وهو رمز خلود الدين وبقاء قوانينه ، لأنّه يحفظ غضاضة الدين وطراوته ، ويجدده ويصونه عن الإندراس ، ويغني المسلمين عن موائد الأجانب ، باعطائه كل موضوع ما يقتضيه من حكم.

« أما لزوم فتح هذا الباب في أعصارنا هذه فلا يحتاج إلى البرهنة والدليل إذ نحن في زمن تتوال فيه المخترعات والصناعات ، وتجعلنا هذه المجالات أمام أحد اُمور :

أمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة ، من الاُصول والقواعد الإسلامية.

أو اتباع المبادئ الاوربية ، من غير نظر إلى مقاصد الشريعة ، وأمّا الوقوف من غير

ص: 271

اعطاء حكم » (1).

« وليس الاجتهاد من البدع المحدثة ، فإنّه كان مفتوحاً في زمن النبوّة وبين أصحابه صلی اللّه علیه و آله فضلاً عن غيرهم ، وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده ، نعم غايته إنّ الاجتهاد يومئذ ، كان خفيف المؤونة جداً ، لقرب العهد ، وتوفّر القرائن ، وامكان السؤال المفيد للعلم القاطع ، ثم كلّما بعد العهد من زمن الرسالة وكثرت الآراء والأحاديث والروايات ، ربّما قد دخل فيها الدس والوضع ، وتوفرت دواعي الكذب على النبي ، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي ، يصعب ويحتاج إلى مزيد من المؤونة واستفراغ الوسع » (2).

ويرشدك إلى وجوده في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله قول الرسول لأمير المؤمنين علیه السلام عندما بعثه إلى اليمن : قال علي علیه السلام : بعثني رسول اللّه إلى اليمن ، قلت يا رسول اللّه تبعثني وأنا شاب ، أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء ؟ قال : فضرب بيده في صدري وقال : « اللّهمّ أهد قلبه وثبّت لسانه » فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين (3).

وقال النبي صلی اللّه علیه و آله لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن : بم تقضي ؟ قال : بما في كتاب اللّه ، قال فإن لم تجد ؟ قال : بما في سنّة رسول اللّه ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : اجتهد رأيي ، ولا آلو جهداً ، فسر النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله بما يرضي رسوله (4).

ص: 272


1- رسالة الإسلام ، السنة الثالثة ، العدد الثاني ، عن مقال « أحمد أمين المصري ».
2- أصل الشيعة واُصولها ، ص 119 طبعة بيروت.
3- أعلام الورى ص 137 ، والبحار ج 21 ص 361 ، وشتان بين علمه واجتهاده علیه السلام وعلم الآخرين واجتهادهم.
4- الطبقات الكبرى ج 2 ص 347 والاستيعاب ، لابن عبد البر ، في ترجمة « معاذ » واللفظ للثاني. أقول: لو صح الحديث يكون المراد منه باعتبار وروده في أمر القضاء، هو فصل الخصومة في الأموال والنفوس، بما يعدها العقلاء عدلاً وأنصافاً وهذا المراد من قوله: اجتهد رأيي. وعندئذ لا يكون الحديث دليلاً على صحة مطلق الرأي حتى المستند إلى القياس والاستحسان واشباههما التي لا قيمة لها عندنا في عالم الاستنباط.

« وبطبيعة الحال ، أنّ الصحابي قد يسمع من النبي صلی اللّه علیه و آله في واقعة ، حكماً ويسمع الآخر في مثلها خلافه ، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين وغفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً ، ولا تنافي واقعاً ، ولهذه الأسباب وأضعاف أمثالها ، احتاج حتى نفس الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور ، في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد ، والنظر في الحديث وضم بعضه إلى بعض والالتفات إلى القرائن الحالية ، فقد يكون للكلام ظاهر ، ومراد النبي خلافه اعتماداً على قرينة في المقام ، والحديث نقل ، والقرينة لم تنقل ».

« وكل واحد من الصحابة ، ممن كان من أهل الرأي والرواية ، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث ، للسامع من بعيد أو قريب ، فهو في هذا الحال راو ومحدّث وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات ، بحسب نظره فهو في هذا الحال ، مفت وصاحب رأي » (1).

ولم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة ، من زمن صاحب الرسالة إلى يومنا هذا ، وقد تخرج منهم الآلاف من المجتهدين والفقهاء ، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس ، وأغنوا بذلك الاُمّة الإسلامية في كل مصر وعصر ، عن التطلع إلى موائد الغربيين ، وألّفوا مختصرات ومتطوّلات ، لا يحصيها إلاّ اللّه سبحانه.

وقد اقتدى الشيعة في فتح هذا الباب على مصراعيه في وجه الاُمّة بأئمّة دينهم وخلفاء رسولهم ، الذين حثوا شيعتهم بأقوالهم وأفعالهم ، على التفقّه في الدين والاجتهاد فيه ، وأنّه « من لم يتفقّه ، فهو اعرابي » وأرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة ، من الآيات والاُصول المتلقاة عنهم ، بالتدبر في الآيات والاُصول المتلقاة عنهم ، وأمروا أصحابهم بالتفريع (2) وقد بلغت عنايتهم بذلك ما جعلهم ينصبون بعض من يعبأ بقوله ورأيه في منصب الافتاء ، إلى غير ذلك.

ص: 273


1- أصل الشيعة ص 118.
2- ستوافيك روائع نصوصهم في هذا المضمار.

والاجتهاد كما عرّفناك هو بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعية فلا يحتج به إلاّ إذا بنيت أحكامه على أساس الكتاب والسنّة ، وما يرجع إليها فهو مقيد من هذه الجهة وإن كان متحرراً من سوى ذلك ، فلا يتقيد بمذهب ولا برأي ، بل هو فوق المذاهب.

غير أنّ أئمّة أهل السنّة ، قد أقفلوا باب الاجتهاد ، إلاّ الاجتهاد في مذهب خاص ، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ، وبما أنّ الفتاوى المنقولة عنهم ، مختلفة أخذ علماء كل مذهب يبذلون جهدهم لتشخيص ما هو رأي كل إمام في هذا الباب.

ولا أدري لماذا اقفل هذا الباب المفتوح من زمن الرسول ، وإن تفلسف في بيان وجهه ، بعض الكتّاب من متأخّريهم ، وقال : ولم يكن مجرد اغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء واصدار قرار منهم ، وإنّما كان حالة نفسية واجتماعية ذلك أنّهم رأوا غزو التتار لبغداد وعسفهم بالمسلمين ، فخافوا على الإسلام ورأوا أنّ أقصى ما يصبون إليه ، هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمّة مما وضعوه واستنبطوه (1).

ولا يكاد يخفى على القارئ الكريم ما في اعتذاره من الاشكال.

ولقد صدع بالحق الدكتور « حامد حفني داود » اُستاذ الأدب العربي بكلية الألسن في القاهرة في ما قدمه على كتاب عقائد الإمامية (2) وقال :

إنّ الصورة المتوارثة عن جهابذة أهل السنّة أنّ الأجتهاد اُقفل بابه بأئمّة الفقه الأربعة : أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل.

هذا إذا عنينا الاجتهاد المطلق أمّا ما حاوله الفقهاء بعد هؤلاء من اجتهاد لا يعدو أن يكون اجتهاداً في المذهب أو اجتهاداً جزئياً في الفروع ، وأنّ هذا ونحوه لا يكاد يتجاوز عند أهل السنّة القرن الرابع بحال من الأحوال ، أمّا ما جاء عن الغزالي في القرن الخامس ، وأبي طاهر السلفي في القرن السادس ، وعز الدين بن عبد اللّه السلام وابن

ص: 274


1- رسالة الإسلام : العدد الثالث ، من السنة الثالثة عن مقال لأحمد أمين المصري.
2- للعلاّمة المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر راجع ص 17 - 18 من المقدمة.

دقيق العيد في القرن السابع ، وتقي الدين السبكي ، وابن تيمية في القرن الثامن والعلاّمة جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي في القرن التاسع ... فإنّ هذا ونحوه لا يتجاوز - في نظر المنهج العلمي الحديث - باب الفتوى ولا يدخل في شيء من الاجتهاد ، وهو القدر الذي أوضحناه في كتابنا « تاريخ التشريع الإسلامي في مصر ».

أمّا علماء الشيعة الإمامية فإنّهم يبيحون لأنفسهم الاجتهاد في جميع صوره التي حدّثناك عنها ، ويصرّون عليه كل الاصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا.

وأكثر من ذلك تراهم يفترضون بل يشترطون وجود « المجتهد المعاصر » بين ظهرانيهم ، ويوجبون على الشيعة اتباعه رأساً دون من مات من المجتهدين مادام هذا المجتهد المعاصر استمد مقوّمات اجتهاده - اُصولها وفروعها - من المجتهدين ، وورثها عن الأئمّة كابراً عن كابر.

وليس هذا غاية ما يلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالاجتهاد.

وإنّما الجميل والجديد في هذه المسألة أنّ الاجتهاد على هذا النحو الذي تقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطوّرها ، ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة نامية متطورة ، تتمشى مع نواميس الزمان والمكان ، فلا تجمد ذلك الجمود الذي يباعد بين الدين والدنيا ، أو بين العقيدة والحياة الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم. ولعل ما نلاحظه من كثرة عارمة في مؤلفات الإمامية وتضخّم مطّرد في مكتبة التشيّع راجع - في نظرنا - إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ».

هذا هو الاجتهاد ، وهذا دوره في خلود الدين وصلوحه للظروف والبيئات ولم يكن اغلاقه إلاّ جهلاً بأهميته أو ابتغاء للفتنة ، أو تزلفاً إلى أبناء الدنيا ، أو جبناً عن النطق بالصواب ، وعلى أي تقدير فقد تنبّه بعض الجدد (1) من أهل النظر بلزوم فتحه وإنمائه ، وأنّ الاجتهاد أحد مصادر الشريعة التي تسع كل تطور تشريعي ، قال في مقال

ص: 275


1- الاُستاذ علي علي منصور المصري مستشار مجلس الدولة لمحكمة القضاء الاداري.

له حول الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية بمصر وإثبات ما عليه القواعد الشرعية من سموّ وشمول ودقة وأحكام مع اتسامها دائماً بالجدة ، وملائمة أحكامها لكل حضارة ولكل بيئة ولكل زمان : « النصوص الشرعية للأحكام التي وردت في الكتاب والسنّة قليلة إذا ما قيست بمواد القانون في أي شريعة وضعية ، إذ الآيات القرآنية التي تضمّنت اُصول الأحكام على ما أحصاها ابن قيم الجوزية لا تعدو مائة وعشرين آية من نيف وستة آلاف آية ، أمّا الأحاديث فخمسمائة من أربعة آلاف حديث ، ولقد أراد اللّه بذلك أن يهيأ للناس فرصة الاجتهاد في الفروع دون الاُصول ، فجعل النصوص الأصلية لقواعد الشريعة عامة ، دون التعمّق في التفاصيل ليتسع لها عقل من نزل فيهم القرآن وليترك للقوى الانسانية التي أودعها مخلوقاته ، فرصة العمل والتفكير والتدبير واستنباط الأحكام فيما لا نص فيه من كتاب أو سنّة ، لما يجد ويعرض لهم في حياتهم من مشاكل وأقضية تختلف باختلاف الزمان والمكان ، وهذا هو الاجتهاد وهو أحد مصادر الشريعة المحمدية.

ومشروعية هذا المصدر ثابتة من حديث معاذ بن جبل إذ أنّه لمّا بعثه الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى اليمن قال له : بم تقض يا معاذ؟ قال : بكتاب اللّه ، قال الرسول صلی اللّه علیه و آله فإن لم تجد ؟ قال : فبسنّة رسول اللّه ، قال : وإن لم تجد ؟ قال : اجتهد برأيي ، فأقره على ذلك » (1) وما كان يمكن أن ينزل الكتاب والسنّة على غير هذا الاجمال والتعميم ، لأنّ هذه الشريعة إنّما نزلت لكل زمان وكل مكان : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) .

ولو أنّ صاحب الشريعة عني بالتفاصيل والجزئيات لوجب أن يقدر ما سيكون عليه العالم من نظم مختلفة واختراعات مستحدثة في جميع الأمكنة والأزمنة فيضع لها ولما تفرّع عنها ، من التفاصيل ، ولو أنّه فعل ذلك لما اتسع وقت الرسالة لهذا كلّه ، بل لأعرض الناس عن هذه الدعوة لتعقدها ، ولأنّها تضمّنت أحكاماً عن جزئيات ومخترعات لا تقع تحت حسهم ، ويصعب عليهم تصورها ، لأنّها لم تعرف في زمانهم ، ولنضرب لذلك مثلاً

ص: 276


1- قد مر المراد من الحديث فلاحظ.

فقد نزلت في القرآن آية تضمّنت الحكم العام لآداب التلاوة وجرت على نسق مختصر : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وحدث بعد نزولها بنيف وألف وثلثمائة عام أن اخترع المذياع ( الراديو والتلفزيون ) ، ولما بدأ باذاعة آيات الذكر الحكيم به ، بدأ التسائل عن حكم الشرع والدين في ذلك أحلال هو أم حرام ؟ وهل تصح اذاعته في منتدى ترتكب فيه الآثام والموبقات وتدار كؤوس الخمر ؟

لا بدع في أنّ حكم هذه الجزئية لم يرد بنص صريح في الكتاب ، وانّ ذلك ترك للاجتهاد على هدى الحكم العام الوارد بالآية الشريفة ، لا بدع في ذلك ، إذ لو اُريد للشريعة أن تتضمّن الأحكام المفصلة لجميع الفروع والجزئيات لوجب أوّلاً افهام الذين نزل عليهم الدين وقت الرسالة ما هو الراديو وما هو التلفزيون ، ولو حاول الرسول ذلك وقال لهم : إنّ مخترعات البشر باذن اللّه ستجيء للعالم بعد ألف وثلثمائة عام بآلة يستطيع بها الانسان أن يسمع ويرى صورة المحدث وهو على بعد آلاف الفراسخ والأميال ، لما صدّقوه لعدم امكانهم تصوره ولجادلوه فأكثروا جداله في كنه تلك الآلة ، ولما لزمتهم حجته في أنّ الذي يقوله ليس من عنده وإنّما هو من عند اللّه لأنّ الحجة لا تلزمها صفة الاقناع إلاّ متى دخلت مناط العقل ، أمّا إذا كانت فوق إدراك المرسل إليهم فهي داحضة ...

والاجتهاد هو الباب الذي دخلت منه إلى حضيرة الشريعة الإسلامية كل الحضارات بما فيها من مشاكل قانونية ومالية واجتماعية فوسعها جميعاً وبسط عليها من محكم آياته وسديد قواعده ما أصاب المحجة ، فكان للشريعة الإسلامية في ذلك تراث ضخم تسامي على كل الشرائع وأحاط بكل صغيرة وكبيرة من اُمور الدين والدنيا ...

أفبعد ذلك يصح في الأفهام أن تتهم الشريعة الإسلامية بالقصور ، أو بأنّها نزلت لعرب الجزيرة لتعالج اُمورهم في حقبة من الزمان انقضى عهدها ، أو أنّها تضيق عن أن تجد الحلول لمشاكل الحضارات الحديثة ، إرجعوا إليها وإلى تراثها الضخم تجدوا أنّها عالجت الجليل والخطير والصغير والكبير من اُمور الدين والدنيا فيها ذكر ما مضى ،

ص: 277

وفيها ذكر الحاضر ، وفيها ذكر المستقبل وسيظل العلم الحديث يكشف عمّا فيها من كنوز وستترى المشاكل على العالم جيل بعد جيل ، ويضطرب العالم في محاولة الحلول لها دون جدوى إلاّ إذا رجع إلى أحكام هذا الدين وهذه الشريعة المحكمة السمحة ، حيث الدواء الشافي والعلاج الحاسم لكل ما يجيب العالم في حاضره وفي مستقبله (1).

وممّا يؤيد لزوم انفتاح باب الاجتهاد إلى يوم القيامة هو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما هذا ملخّصه :

انّه لم يكن كل واحد من أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله متمكناً من دوام الحضور عنده صلی اللّه علیه و آله لأخذ الأحكام عنه ، بل كان في مدة حياته يحضره بعضهم دون بعض وفي وقت دون وقت ، وكان يسمع جواب النبي صلی اللّه علیه و آله عن كل مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب ويفوت عن الآخرين فلمّا تفرق الأصحاب بعد وفاته صلی اللّه علیه و آله في البلدان تفرقت الأحكام المروية عنه صلی اللّه علیه و آله فيها ، فيروى في كل بلدة منها جملة ، ويروى عنه في غير تلك البلدة جملة اُخرى حيث أنّه قد حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري ، وحضر المصري ما لم يحضره الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضره البصري ، وحضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلى غير ذلك ، وكان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام.

ولعدم تساوي هؤلاء المجتهدين في العلوم والإدراكات وسائر القوى والملكات تختلف طبعاً الآراء والاجتهادات ، فمجرد تفاوت أشخاص الصحابة تسبب اختلاف فتواهم ثم تزايد ذلك الاختلاف بعد عصر الصحابة.

ثم قال : ثم بعد الصحابة تبع التابعون فتاوى الصحابة فكانوا لا يتعدون عنها غالباً ، ولما مضى عصر الصحابة والتابعين صار الأمر إلى فقهاء الأمصار أبي حنيفة والسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة ، وابن جريح بمكة ، ومالك وابن الماجشون بالمدينة ، وعثمان التيمي ( الظاهر عثمان بن مسلم البطي ) وسوار بالبصرة ، والأوزاعي بالشام والليث بن سعد بمصر فكان هؤلاء الفقهاء يأخذون من التابعين وتابعيهم أو يجتهدون.

ص: 278


1- مجلة رسالة الإسلام لجماعة دار التقريب العدد الأوّل من السنة الخامسة.

وذكر المقريزي في الجزء الرابع من الخطط ما هذا ملخّصه :

انّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة 170 إلى أن صار قاضي القضاة فكان لا يولّي القضاء إلاّ من أراده ، ولمّا كان هو من أخص تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان والشام والعراق وغيرها إلاّ من كان مقلّداً لأبي حنيفة ، فهو الذي تسبب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

وفي آوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نشر مذهب مالك في افريقية المغرب ، بسبب زياد بن عبد الرحمان ، فإنّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها ، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة 160 هو عبد الرحمان بن القاسم.

قال : ونشر مذهب محمد بن ادريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة 198 وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد « جوهر » بجيوش مولاه « المعز لدين اللّه أبي تميم معد » الخليفة الفاطمي ، إلى مصر سنة 358 فشاع بها مذهب الشيعة حتى لم يبق بها مذهب سواه ( أي سوى مذهب الشيعة ).

ثمّ إنّ المقريزي بين بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال :

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها ، وانكر عليه ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم (1).

وهذه الكلمة الأخيرة « وتحريم ما عداها » تكشف عن أعظم المصائب على الإسلام حيث أنّه قد مضى الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصى عددهم إلاّ ربّهم ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً ثم فيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الفرعية في غاية من

ص: 279


1- راجع الخطط المقريزية ج 2 ص 333 و 334 و 344.

السعة والحرية ، كان يقلد عاميهم من اعتمد عليه من المجتهدين وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية ، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامة المسلمين : « العامي المقلد والفقيه المجتهد » أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمّة الأربعة ، وبأي دليل شرعي صار اتباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً ، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيّناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدم بعضها على غيرها ، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة كما أفصح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة ، ص 216 في وقائع سنة 645 يعني قبل انقراض بني العباس باحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو ، سنة 656 فلاحظ ذلك الكتاب (1).

وفي الختام نلفت نظر القارئ الكريم لمعرفة قضية الاجتهاد وتطورة وعلل إيصاد بابه لدى بعض المسلمين إلى المصادر التالية :

1. المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار : تأليف الشيخ تقي أبو العباس المعروف بالمقريزي المولود في بعلبك عام 766 والمتوفّى بالقاهرة عام 845.

2. تاريخ اليعقوبي المعروف بابن واضح وقد طبع عام 1358.

3. الحوادث الجامعة في المائة السابعة لكمال الدين عبد الرزاق بن المروزي الفوطي البغدادي المتوفّي سنة 723.

4. الانصاف في بيان سبب الاختلاف.

5. عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد : ألّفهما ولي اللّه الدهلوي المولود سنة 1114 والمتوفّى 1180.

6. الاقليد لأدلّة الاجتهاد والتقليد.

ص: 280


1- راجع تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلامة الطهراني ص 104.

7. الطريقة المثلى في الاشارة إلى ترك التقليد : ألّفهما صديق حسن خان القنوجي البخاري المتوفّى سنة 1307 ، وطبعا بالاستانة عام 1295.

8. حصول المأمول من علم الاُصول : له أيضاً طبع في الجوائب سنة 1296.

9. مقالة صاحب السعادة أحمد تيمور باشا ابن إسماعيل بن محمد المولود في القاهرة سنة 1288 وهي تحت عنوان نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة ، طبعت مستقلة في القاهرة سنة 1344.

10. ما كتبه محمد فريد وجدي في دائرة معارفه في مادتي « جهد وذهب » وما كتبه يعد أبسط ما كتب في الموضوع.

11. أعلام الموقعين عن ربّ العالمين : للحافظ ابن القيم.

12. تاريخ حصر الاجتهاد : لشيخنا العلاّمة الطهراني المتوفّى يوم الجمعة 13 ذي الحجة عام 1389.

إلى غير ذلك من المؤلفات ، وقد أشار إلى غير ما ذكرنا صديق حسن خان في كتابه حصول المأمول في علم الاُصول ص 198.

الحقيقة بنت البحث :

كلمة موجزة ومثل سائر ، يهدف إلى أوضح الحقائق وأنصعها ويفيد أنّ الوقوف على الحقيقة وإماطة الستر عن وجهها وليد النقاش العلمي ووليد المحادثة وهذا مما لا يرتاب فيه أحد ويدركه كل من له حظ من الفكر والنظر.

وفي الحقيقة إنّ التقاء أفكار ذوي الآراء كالتقاء الأسلاك الكهربائية ، فكما أنّ الأشعة الكهربائية ، تتفجر من اتصالها سلباً وإيجاباً ، فكذلك نور الحقيقة يشع أمامنا بتبادل الفكرتين وتعارضهما بالنفي والإيجاب.

إذ طالما يتخيل للانسان أنّه صائب في فكره ونظره ، فإذا عرضه للبحث والنقاش

ص: 281

وتوارد عليه النفي والاثبات ربّما ظهر وهنه وضعفه.

نعم يجب على الباحث عن الحقيقة أن يعرض آراءه وأفكاره للجو الهادئ المتحرر عن التعصب لفئة غابرة ، أو فكرة حاضرة ، الشاخص أمام كل رأي فارغ عن الدليل والبرهنة ، فالاجتهاد بهذا النحو رمز كشف الحقيقة ، رمز خلود الإسلام وبقائه ، رمز كونه غضاً طرياً في كل عصر وجيل.

نعم ربّما يجد الناشئ الجديد في نفسه حرجاً عند وقوفه على اختلاف أصحاب الآراء والمذاهب في اُصول الإسلام وفروعه ، ويتخيله حاجزاً يعرقل خطاه عن الوصول إلى الواقع ، ويتمنّى رفع الخلاف الفكري في المسائل من رأس بتأسيس مؤتمرات علمية من ذوي الأفكار.

بل ربّما نسمع من بعض الشباب سؤالاً يوجهه إلى الهيئات العلمية الإسلامية ويقول كان في وسع النبي صلی اللّه علیه و آله أن يجمع اُصول الإسلام وفروعه وكل ما يرجع إليه في كتاب ، ويتركه بين الاُمّة حتى يسد بذلك باب التقوّل من بعده على المتقوّلين ، فلماذا لم يفعل ذلك ؟!

لكنّه رأي غير ناضج ، إذ لو جمعها النبي في كتاب وسلمه إلى الاُمّة ، لاستولى الركود الفكري والتدهور العقلي على عقلية الاُمّة ، وانحسر كثير من المفاهيم والقيم الإسلامية عن ذهنيتها ، وأوجب ضياع العلم وتطرق التحريف إلى اُصوله وفروعه حتى إلى الكتاب الذي كتب فيه كل صغير وكبير.

فلم تقم للإسلام دعامة ، ولا حفظ كيانه ونظامه ، إلاّ على ضوء هذه البحوث العلمية والنقاشات الدارجة بين العلماء ، ورد صاحب فكر على ذي فكر آخر بلا محاباة.

وقد حكى شيخنا العلاّمة المتضلّع شيخ الشريعة الاصفهاني (1) في مقدمة

ص: 282


1- فقيه متضلّع ، اُصولي بارع ، خبير باسرار الحديث والتفسير فهو ممن يضن بهم الدهر إلاّ في فترات يسيرة ، كان رحمه اللّه آية في الذكاء والحفظ ، أثنى عليه كل من أدركه وقرأ عليه ، توفّي عام 1339 هجرية قمرية في النجف الأشرف ودفن في الصحن الحيدري.

كتابه (1) عن بعض الأعلام كلاماً يعرب عمّا قلناه ، قال : إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الاُمّة التي أعظم اللّه بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدية إلى تحريف ما فيها ، وإندارس تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخول إلاّ بيّنوه ، ولفاعل فيه تحريف ، إلاّ قوّموه ، حتى اتضحت الآراء وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة البيضاء على ملئ الآفاق بأضوائها وشفاء القلوب بها من أدوائها ، مأمونة عن التحريف ، ومصونة عن التصحيف.

شبهة حول الاجتهاد الدارج في عصرنا :

ربّما يختلج في اذهان بعض القصر من الناس عدم مشروعية الاجتهاد الدارج في أعصارنا هذه مستدلاً بأنّ الفقه في هذه الأعصار أخذ لنفسه صورة فنية ، وجاء على طراز سائر العلوم العقلية الفكرية بعدما كان في أعصار المتقدمين من العلوم البسيطة المبنية على سماع الأحكام من النبي والأئمّة وبثّها بين الناس من دون أن يجتهد الراوي في تشخيص حكم اللّه ويرجّح دليلاً على الآخر ، أو يقيده أو يخصّص واحداً بالآخر ، إلى غير ذلك من الاُصول الدارجة في زماننا.

الجواب عن الشبهة :

إنّ ذلك أشبه شيء بالشبهة ويمكن الجواب عنه بوجهين :

الأوّل : أنّ الاجتهاد بالمعنى الوسيع وأعمال النظر في الروايات ، والتدقيق في دلالتها ، وترجيح بعضها على بعض ، كان موجوداً في أعصارهم ، دارجاً بين أصحابهم فإنّ الاجتهاد وإن توسع نطاقه في أعصارنا وبلغ مبلغاًعظيماً ، إلاّ أنّ أصل الاجتهاد بالمعنى الجامع بين عامة مراتبه كان دارجاً في تلك الأعصار وأنّ الأئمّة أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أعصارهم ، وكانت سيرة الناس الرجوع إليهم من دون تزلزل وتردد ، أمّا ما يدل

ص: 283


1- ابانة المختار ، مخطوط نحتفظ بنسخة منه.

على وجود الاجتهاد بهذا المعنى في أعصارهم فعدة روايات هي :

1. ما رواه ابن ادريس في « مستطرقات السرائر » نقلاً عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا (1).

2. ما روى عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا علیه السلام : « قال علينا القاء الاُصول وعليكم التفريع » (2) فإنّ التفريع الذي هو استخراج الفروع عن الاُصول الكلية الملقاة ، وتطبيقها على مواردها وصغرياتها ، إنّما هو شأن المجتهد وما هو إلاّ الاجتهاد ، نعم التفريع والاجتهاد يتفاوت صعوبة كما يتفاوت نطاقه حسب مرور الزمان ، فإذا قال علیه السلام : لا تنقض اليقين بالشك ، أو روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله : لا ضرر ولا ضرار ، كان على المخاطبين وعلى علماء الأعصار المستقبلة استفراغ الوسع في تشخيص صغرياتها وما يصلح أن يكون مصداقاً له أو لا يصلح ، فهذا هو ما نسميه الاجتهاد.

3. ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إنّ الحكمة لتصرف على وجوه ولو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب (3).

فإنّ عرفان معاني الكلام ليس إلاّ تشخيص ما هو الأظهر بين المحتملات ، بالفحص عن القرائن الحافّة بالكلام وبعرض أخبارهم على الكتاب والسنّة إلى غير ذلك ممّا يتضح به المراد ، ويتعيّن ما هو المفاد ، وليس هذا إلاّ الاجتهاد.

4. ما رواه الصدوق في عيونه بإسناده عن الرضا علیه السلام قال : من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم ، ثم قال : إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا (4) فإنّ رد المتشابه إلى محكمه يجعل أحدهما قرينة على الآخر ، لا يتحقق

ص: 284


1- وسائل الشيعة ج 18 : ص1. 42 ، كتاب القضاء الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 51 و 52.
2- وسائل الشيعة ج 18 : ص1. 42 ، كتاب القضاء الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 51 و 52.
3- الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث 27 و 22.
4- الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث 27 و 22.

بدون الاجتهاد.

5. الروايات الواردة في تعليم أصحابهم كيفية استفادة الأحكام والفروع عن الذكر الحكيم ، مثل قول الإمام الباقر علیه السلام بعد ما سأله زرارة بقوله : ألاّ تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك وقال : يا زرارة قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونزل به الكتاب عن اللّه عزّ وجلّ قال : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ، ثم قال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ، ثم فصل بين الكلام فقال : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال : ( بِرُءُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ثم فسّر ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فضيّعوه (1).

6. ما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام بعد ما سأل الإمام عن حكم المسح على المرارة. قال : هذا واشباهه يعرف من كتاب اللّه عزّ وجلّ قال اللّه تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج - 78 ) امسح على المرارة ، فقد أوضح على السائل كيفية الاستنباط ، ورد الفروع على اُصولها (2) ونظير ما تقدم بل أقوى منه ما في مرسلة (3) يونس الطويلة الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة ، فإنّ فيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد إلى غير ذلك من الروايات المرشدة إلى دلالة الكتاب وكيفية الاستدلال ، وهي منبثّة في طيات أبواب الفقه فراجع :

7. قول الباقر علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم حيث سألا أبا جعفر الباقر علیه السلام وقالا له : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي ؟ فقال : إنّ اللّه عزّ

ص: 285


1- الوسائل ج 1 أبواب الوضوء الباب 23 الحديث 1.
2- الوسائل ج 1 أبواب الوضوء الباب 39 الحديث 5.
3- وسائل الشيعة ج 2 أبواب الحائض الباب 3 الحديث 4.

وجلّ يقول : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ( النساء - 101 ).

فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر ، قالا قلنا : إنّما قال اللّه عزّ وجلّ : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) ولم يقل : « افعلوا » فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟ فقال علیه السلام : أوليس قد قال اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) ( البقرة - 158 ).

ألاّ ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيه وكذلك التقصير شيء صنعه النبي وذكره اللّه في كتابه (1).

8. مقبولة عمر بن حنظلة ورواه المشايخ العظام في جوامعهم وتلقاها الأصحاب بالقبول ، بل عليها المدار في كتاب القضاء وهي تصرح بوجود الاجتهاد بالمعنى الدارج في زماننا في عصر الصادق علیه السلام ودونك متنها : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً لأنّه أخذ بحكم الطاغوت - إلى أن قال : - قلت : كيف يصنعان ؟ قال : ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي جعلته عليكم حاكماً ومن ردّه فإنّما بحكم اللّه استخف ، وعلينا قد رد والراد علينا كالراد على اللّه وهو على حد الشرك باللّه ، قلت : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع

ص: 286


1- الوسائل ج 5 : ص 538 ، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث2.

عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، إلى آخر ما أفاده وفيه إرشاد إلى كيفية استنباط الحكم عن الكتاب والسنّة ، وعلاج الخبرين المتعارضين بعرضهما عليهما (1).

9. روى العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام فأتيا محمد بن علي علیه السلام فقال لهما : بما تقضيان ؟ فقالا : بكتاب اللّه والسنّة ، قال : فما لم تجداه في الكتاب والسنّة؟ قالا : نجتهد رأينا ، قال علیه السلام : رأيكما أنتما ؟

فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيين في بيت وسقط عليهما فماتتا وسلم الصبيان ؟ قالا : القافة ، قال : القافة يتجهم منه لهما ، قالا : فاخبرنا ؟ قال : لا !!

قال ابن داود : مولى له جعلت فداك بلغني أنّ أمير المؤمنين علياً علیه السلام قال : ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه وألقوا سهاهم إلاّ خرج السهم الأصوب فسكت (2).

10. روى الصيقل عن أبي عبد اللّه علیه السلام قلت : رجل طلّق امرأته طلاقاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره فتزوّجها رجل متعة أتحل للأوّل ؟ قال علیه السلام : لا ، لأن اللّه تعالى يقول : ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا ... ) ( البقرة - 230 ) والمتعة ليس فيها طلاق (3).

11. روى الحسن بن الجهم قال : قال لي أبو الحسن الرضا علیه السلام : يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوّج نصرانية على مسلمة ؟ قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك ؟ قال : لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي ، قلت : لا يجوز تزويج نصرانية على مسلمة ولا على غير مسلمة ، قال : ولِمَ ؟ قلت : لقول اللّه : ( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) ( البقرة - 221 ) قال : فما تقول هذه الآية :

ص: 287


1- الوسائل كتاب القضاء ج 18 الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
2- التهذيب ج 9 باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ص 359.
3- الوافي ج 3 أبواب النكاح باب تحليل المطلّقة لزوجها ص 47.

( وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) ؟ ( المائدة - 5 ) قلت فقوله : ( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ ) نسخت هذه الآية فتبسّم علیه السلام ثم سكت (1).

12. بل يظهر من كثير من الروايات وجود الاجتهاد بين أصحاب الأئمّة ونورد من تلكم الروايات حديثاً واحداً.

روى حسن بن محمد بن سماعة قال : سمعت جعفر بن سماعة وسئل عن امرأة طلقت على غير السنّة : ألي أن أتزوّجها ؟ فقال : نعم ، فقلت : أليس تعلم أنّ علي بن أبي حمزة ، روى : « إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً على غير السنّة فإنّهنّ ذوات الأزواج » ؟ فقال : يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس ، قلت : وأي شيء روى علي بن أبي حمزة ؟ قال : روى عن أبي الحسن أنّه قال : الزموهم من ذلك ما ألزموا به أنفسهم ، وتزوّجوهنّ فأنّه لا بأس بذلك (2).

فقد اجتهد جعفر بن سماعة حيث قدم الخبر الثاني على الأوّل باحدى ملاكات التقديم.

وقد ألّف في هذا المضمار العلاّمة الحجة السيد عبد الرسول الشيرازي رسالة ممتعة وطبع قسم منها في بعض المجلاّت نسأل اللّه أن يوفّقه لنشر الجميع.

الخامس : حقوق الحاكم الإسلامي :

من الأسباب الباعثة على بقاء الدين وكونه ذا مادة حيوية صالحة لحل المشاكل والمعضلات الطارئة ، كون الحاكم الإسلامي بعد النبي ممثلاً لقيادته الحكيمة في اُمور الدين والدنيا ، التي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية الصحيحة ، فقد منح مثل هذا الحاكم بنص الشريعة الإسلامية كافة الصلاحيات

ص: 288


1- الوافي ج 3 ص 26 باب نكاح الذمية المشركة.
2- الوافي ج 2 كتاب الطلاق ص 161 باب أنّ المخالف يقع طلاقه.

المؤدية إلى حق التصرف المطلق في كل ما يراه ذا مصلحة للاُمّة ، لأنّه يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق ، إلاّ ما يعد من خصائصهما.

وإلى ذلك يشير شيخ الاُمّة الميرزا النائيني في أثره الخالد « تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة » ويقول : « فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقررات لمصلحة الجماعة وسد احتياجاتها ، في اطار القوانين الإسلامية » (1).

مثلاً إذا رأى الحاكم ، أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع ، فقد فوض إليه ذلك الأمر ، فله أن يقرر وينفذ ما يحقق هذه الغاية ، في ضوء العدل والانصاف كاجبار أصحاب الأراضي التي يمر بها الطريق على بيع أراضيهم ووضع ضريبة على صنف خاص من الشعب ، أو كلّه لتأمين هذه الغاية.

وله أن يقرر ما يراه مناسباً لتنظيم السير ، متوخياً في ذلك سلامة النفوس وسهولة الذهاب والاياب ، كل ذلك في إطار القوانين العامة الإسلامية.

وهذه الحقوق كانت ثابتة في الدرجة الاُولى ، للنبي الأعظم ، لقوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب - 6 ) وبعده لخلفائه المعصومين ، أئمّة الدين ، وفوضت من بعدهم ، إلى علماء الاُمّة وفقهائهم الذين اُلقيت على كواهلهم اُمور تدبير حياة الاُمّة ، وصيانة الشريعة ، بالأدلّة القطعية المقررة في محلها.

إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام أو في مناطقه كلّها وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة وأخص بالذكر العلم الوسيع والعدل ، يجب على المسلمين اطاعته ، وله من الحقوق والمناصب والولاية ، ما للنبي الأكرم من اعداد القوات العسكرية ودعمها بالتجنيد وتعيين الولاة وأخذ

ص: 289


1- تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة ص 97 ولا ينافي ما ذكره شيخ الاُمّة المحقق النائيني مع ما حققناه في الجزء الأول من كون التقنين والتشريع مختصاً باللّه سبحانه ، فإنّ ما يضعه الحاكم الإسلامي ، أو مجلس الشورى إنّما هو من قبيل التخطيط ، وتطبيق الكليات على مواردها لا من قبيل التشريع والتأسيس.

الضرائب وصرفها في محالها إلى غير ذلك ...

وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحكّام الإسلاميين مثل النبي والأئمّة في جميع الشؤون والمقامات حتى في الفضائل النفسانية والدرجات المعنوية فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه ، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المخوّلة إلى الحاكم الإسلامي والموضوعة على عاتقه لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية ، فإنّهم صلوات اللّه عليهم في هذا المضمار في درجة لا يدرك شأوهم ولا يشق لهم غبار حسب روائع نصوصهم وكلماتهم.

وليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية اجتماعية كبرى أمام اللّه سبحانه أوّلاً ، وأمام المسلمين ثانياً ، والجهة الجامعة ما بين الحاكم والإمام في إدارة دفة الحكم وسياسة العباد ليس لها أي ارتباط بالمثل الخلقية والصفات النفسانية (1).

وهذه الوجوه التي مرت عليك بالاجمال أوجبت خلود الشريعة ، وبقاءها وصلاحها لإدارة المجتمع في الأعصار كلّها ، مع اختلافها في الحضارة والتقدم.

الأمر الثاني مرونة أحكامه :

من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء والخلود ، مرونة أحكامه التي تمكّنه من أن يماشي جميع الأزمنة والحضارات ، وقد تمثّلت هذه المرونة باُمور :

1. الإسلام دين جامع والاُمّة الإسلامية اُمة وسط :

إنّ من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي ، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال ، كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة والدعوة

ص: 290


1- ولاية الفقيه للاُستاذ الأكبر الإمام الخميني - قدّس اللّه سرّه - ص 63 - 66 وقد أشبعنا الكلام حول حقوق الحاكم الإسلامي في الجزء السابق فلاحظ.

إلى الروح ، ديناً وسطاً بين الماديّة البحتة والروحية المحضة ، فقد آلف بتعاليمه القيمة بينهما ، موالفة تفي بحق كل منهما ، بحيث يتيح للانسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.

وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية ، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى ، فدعت إلى الرهبانية والتعزّب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع ، والعيش في الأديرة وقلل الجبال ، وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين ، كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية ، وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت ، المقصد الأسنى ، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة.

وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيح علیه السلام أم لم تصح ( ولن تصح إلاّ أن يكون لاصلاح انغمار الشعب الاسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وانجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف ) وإن شئت قلت : « كانت تعاليمه اصلاحاً مؤقتاً لاسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم وآثروا دنياهم على دينهم والغلو يقاوم موقتاً بضده » (1). لا تتماشى مع الحضارات الانسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة ، ولا تتلائم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.

لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الانسان ، بما هو كائن ، لا غنى له عن المادة ، ولا عن الحياة الروحية ، فأولاهما عنايته ، فدعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يؤثر معه على الحياة الروحية ، كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته وطبيعته.

وحصيلة البحث : أنّه لم يعطل الفطرة في تشريعه وتقنينه ، بل جعلها مقياساً لحكمه بالوجوب والتحريم ، فإذا كان الحكم مطابقاً لطبع من شرعت له الأحكام حافظاً لكيانه ، لا يتعارض مع ما يحتاج إليه جسمه وروحه ، كان ماضياً ونافذاً حسب بقاء الفطرة ودوامها.

ص: 291


1- الوحي المحمدي ص 153.

وأمّا تفصيل الآيات التي تمثل رأي الإسلام في الدعوة إلى الدين والدنيا ، إلى الروح والجسم ، إلى المادة والمعنى ، فليرجع فيه إلى الكتب المعدة لبيان ذلك.

ونختم البحث بكلمة عن أمير المؤمنين علیه السلام حيث قال : للمؤمن ثلاث ساعات ، ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يرم فيها معاشه ، وساعة يخلي بينه وبين نفسه ولذاتها (1).

فقد قرن بين عبادة اللّه وطلب الرزق وترفيه النفس ، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد ، فندب إلى عبادة اللّه ، كما ندب إلى طلب المعاش ، وتوخي اللذة بحكم واحد بلا مفاضلة.

فلو كان أداء الصلاة والصوم والقيام بالحج وظيفة دينية ، فشق الطريق لطلب الرزق والمعاش ، والقيام بالنزهة بين الرياض أو سباحة في البحر والعمل الرياضي البدني ، وظيفة دينية للمؤمن ، كما نص الإمام علیه السلام .

وهذا من الاُسس التي تنسجم مع الإسلام وتحول بينه وبين التصادم مع الحضارات المتواصلة ، إلى عصرنا هذا ، فإذا كان المنهج ، منهجاً متوسّطاً بين المادية والروحية ، مطابقاً لفطرة الانسان انقادت له مقاليد الحضارات الانسانية الصاعدة وارتفع التصادم.

2. النظر إلى المعاني ، لا المظاهر :

إنّ الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق ، لا المظاهر والقشور ، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة ، له من القداسة ما يمنع تغييره ، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص ، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه مع التقدم العلمي الهائل في مظاهره ، وأشكاله الخارجية.

توضيحه : أنّه لا شك أنّه كان في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله هندسة خاصة للمساكن

ص: 292


1- نهج البلاغة باب الحكم ، رقم 390.

والبيوت ، وشكل خاص في المأكل والملبس ، ونمط خاص لبث العلم والتربية ... غير أنّ الذي كان يهم الإسلام - في جميع الأزمنة - لم يكن تخطيط الحياة البشرية على تلك الأشكال والأنماط بل كان الحقيقة والجوهر من كل ذلك ، فإنّ الذي يبتغيه الدين الإسلامي هو وجود المسكن وتوفر الملبس وإشاعة العلم والتربية ، وكون الغذاء حلالاً طيباً طاهراً.

وأمّا الكيفية والشكل والصورة فلا يهم الدين ولا يحدد شيئاً في مجاله ، فليكن البيت بأيّة هندسة كانت ، ولتصنع الملابس بأي شكل كان ، وليطبخ الناس طعامهم على النحو الذي يريدون ، وليشاع العلم بأيّة وسيلة كانت فليس كل ذلك مهماً ومطروحاً للدين.

وهذا هو سر خاتمية الدين الإسلامي وهذا هو سر خلوده ، وتمشّيه مع تطور الحياة ، وتقدم الحضارات.

والذي يوقفك على ذلك أنّ بيع الدم وشراءه كان من المعاملات المحرّمة ومصداقاً لقوله سبحانه :

( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) ( البقرة - 188 ).

وذلك لعدم وجود منفعة محلّلة للدم ولذلك قال الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه ( ص 41 ) :

« تحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف » بل عن النهاية وشرح القواعد لفخر الدين والتنقيح : « الاجماع عليه ، وتدل عليه الأخبار ».

بيد أنّ تقدم العلوم والحضارة أوجد للدم منفعة محلّلة كبيرة ، فعليها تقوم « العملية الجراحية » ومداوة الجرحى عن طريق الحقن الدموية.

ولهذا عادت المعاملة بالدم - في هذا العصر - معاملة صحيحة ، لا بأس بصحّتها وجوازها ... وليس هذا من قبيل منسوخية الحكم بل لتبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كتبدل الخمر إلى الخل.

ص: 293

وقس على ذلك سائر الاُمور فللإسلام خاصية الاهتمام باللب والجوهر في عامة المجالات وهذا أحد العناصر التي تجعله يساير عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.

3. الأحكام التي لها دور التحديد :

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الانسانية تشريعه للقوانين الخاصة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء ، بالأدلّة الحاكمة ، لأجل حكومتها وتقدمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو هو. فهذه القوانين الحاكمة ، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل حضارة انسانية ، مثلاً : قوله سبحانه :

( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج - 78 ) حاكم على كل تشريع استلزم العمل به حرجاً ، لا يتحمل عادة ، للمكلف ، فهو مرفوع ، في الظروف الحرجية ، ومثلاً قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار » فكل حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً ، فهو مرفوع في تلك الشرائط ، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.

نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم ، وما يرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط ، يحتاج إلى الدقة والامعان والتفقّه والاجتهاد ، ومن رأينا أنّ الموضوع يحتاج إلى التبسط أكثر من هذا ، فالى مجال آخر أيها القارئ الكريم.

خاتمة المطاف :

إنّ بعض الكتّاب من الجدد طرح سؤالاً في المقام وجاء بجواب مبهم أوجد قلقاً واستياء في الأوساط العلمية ونحن ننقله بتعريب منّا :

السؤال : إنّكم تذهبون إلى ضرورة التكامل حتى في وجود الشخص النبي وأثبتم أنّ كل موجود يحتاج إلى السير التكاملي ، إذن لماذا كان النبي محمد يقول : أنا خاتم

ص: 294

النبيين ؟

الجواب : لقد أجاب على قسم من هذا الفيلسوف الإسلامي الكبير « محمد اقبال » وأضيف أنا الجواب على بقيته ، وهو ما أذهب إليه وأنا مسؤول عنه ، فأقول : عندما يقول النبي : « أنا خاتم الأنبياء » لا يريد أن يقول : « إنّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » بل الخاتمية تريد أن تقول : كان الانسان يحتاج حتى الآن - لاستمرار حياته إلى الهداية بما وراء ما يستمده من عقله وما توحيه تربيته البشرية ، والآن في هذا العصر ( القرن السابع الميلادي ) وبعد أن أوجدت المدنية اليونانية وحضارة روما والتمدّن الإسلامي ، وبعد أن اُنزل القرآن والإنجيل والتوراة ، بلغت التربية المذهبية إلى الحد الذي كان لابد منه. وبعد هذا العصر - وعلى ضوء هذا القسم من التربية - بإمكان الانسان أن يحيى ويتكامل من دون حاجة إلى وحي ونبوّة جديدة وعلى هذا ختمت النبوّة فشقّوا الطريق بأنفسكم.

ولم يظهر لنا ماذا قصد من هذا الجواب وإليك بعض احتمالاته :

1. أن يقصد من قوله : « لا يريد أن يقول انّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » ما أوضحناه عند البحث عن السؤال الخامس ، من أنّه يجب على علماء الاُمّة وفقهائهم عندما يحدث شيء من المشكلات والأزمات في جميع مجالات الحياة من الحوادث التي لم تكن معهودة في عصر صاحب الرسالة ، استفراغ الوسع في استنباط أحكامها على ضوء الكتاب والسنّة واطار سائر المصادر الشرعية ، فلو أراد هذا فهو حق لا إشكال فيه غير أنّ تلك النظرية لا تختص به ولا بالفيلسوف الإسلامي « محمد اقبال » حتى يكون هو المسؤول فيما ذهب إليه واختار ، بل كل مسلم يؤمن بأنّ الإسلام شريعة اللّه الخالدة الدائمة الكاملة الوافية بحل جميع اُمور الحياة ومشاكلها من اُصولها إلى فروعها.

2. أن يكون المقصود منه الاعلام بختم النبوّة والرسالة دون ختم التشريع فهو مفتوح لم يوصد بعد ، فعلى الاُمّة أن تشرّع من القوانين حسب ما تحتاج إليه عبر الزمان.

ص: 295

غير أنّ تلك فكرة عليها مسحة مسيحية محجوجة بما دلّت الضرورة والأدلّة على أنّ التشريع من حقوق اللّه سبحانه على عباده لم يفوّضه لأحد من أفراد الاُمّة.

3. أن يكون المقصود أنّ هنا أحكاماً ثابتة ومقررات متغيّرة ، حسب مقتضيات الزمان ومصالح الوقت ، فلو أراد ذلك فقد أوضحنا حاله عند البحث عن السؤال الرابع فلاحظ.

* * *

هذه هي الخاتمية ، ودلائلها المشرقة ، وشبهاتها الضئيلة ، وأسئلتها الهامة ، وأجوبتها الرصينة عرضناها للبحث والتنقيب ، ولم يكن رائدنا إلاّ تبنّي الحقيقة وكشف الغطاء عن وجهها ، متحررين من كل رأي سابق لا دليل عليه.

ص: 296

الفصل الخامس: النبي الاُمّي في الذكر الحكيم

اشارة

لم يختلف اثنان من الاُمّة الإسلامية في أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة قبل بزوغ دعوته لمصلحة صرّح اللّه بها في الكتاب العزيز وسوف يوافيك بيانها. وصحائف حياته البيضاء أوضح دليل على ذلك ، وقد أجمع أهل السير والتاريخ على أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يدخل مدرسة ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم الكتابة ، بل هو منذ نعومة أظفاره ، يوم كان في أحضان جده وعمّه إلى أن بلغ الأربعين ، لم يحم حول هذه الاُمور وقد تواترت على ذلك كلمات العلماء الأبرار والفطاحل من أئمّة الإسلام ، وقد اقتفوا في ذلك أثر كتاب اللّه العزيز ودونك نصوصه من مواضع مختلفة.

النص الأوّل قوله سبحانه :

( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت - 48 ) سبحان اللّه ما أصرح كلامه وأوضح دلالته.

ص: 297

هل تجد من نفسك ريباً في أنّه بصدد نفي تلاوة أي كتاب عن نبيّه الأكرم قبل نزول الوحي عليه ، وكتابة أي صحيفة عنه ، أوليس من القواعد الدارجة بين أئمّة الأدب ، أنّ النكرة في سياق النفي تفيد انتفاء الحكم عن كل أفرادها وتعطي شمول السلب كقوله سبحانه : ( وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ) ( الحج - 18 ) وقد قال سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فأدخل النفي على النكرة وجعلها في سياقه ، فإذن المراد من التلاوة المنفية تلاوة مطلق الكتاب كما أنّ المراد من الخط المنفى عنه تسطير أي كتاب وترسيم أي صحيفة تقع في ذهن السامع ، فالضمير المتصل بالفعل ( لاتخطه ) عائد إلى ( كتاب ) وكأنّه جل شأنه قال وما كنت تخط كتاباً. وقد وافاك أنّ مثل هذا الكلام لوقوع النكرة في سياق النفي يفيد عموم النفي فاللّه سبحانه نفى عن نبيه ، مطلق التلاوة والكتابة قبل بعثته.

ثم إنّه عزّ اسمه ، علّل سلب هذا الأمر عن نبيّه بمصلحة أولى وألزم ، وهي نفي ريب المبطلين وشك المشككين ، إذ لو كان الرسول صلی اللّه علیه و آله في برهة من عمره تالياً للكتب ، وممارساً للصحف ، لساغ للبسطاء من اُمّته والمعاندين منهم أن يرتابوا في رسالته وقرآنه ، ويلوكوا في أشداقهم بأنّ ما جاء به من الصحف والزبر والسور والآيات ، إنّما تلقّاها من الصحف الدينية وقد صاغها وسبكها في قوالب فصيحة ، تهتز منها النفوس وترتاح إليها القلوب ، فليست لما يدّعيه من نزول الوحي على قلبه ، مسحة حق أو لمسة صدق.

وقد حكى سبحانه هذه الفرية الشائنة عن بعض المشركين فقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان : 4 - 5 ) فاللّه سبحانه لقلع جذور الشك عن قلوب السذج من الاُمّة ، والمبطلين منهم ، صرفه عن تعلّم الكتابة حتى يصبح لنبيّه أن يتلو على رؤوس الاشهاد قوله سبحانه : ( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس - 16 ).

ص: 298

يعني يا معشر العرب : أنتم تحيطون خبراً بتاريخ حياتي فإنّي تربيّت بين ظهرانيكم ولبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين ، فهل رأيتموني أتلو كتاباً أو اخط صحيفة ، فكيف ترمونني بالافك الشائن : بأنّه أساطير الأوّلين اكتتبتها ، ثم افتريتها على اللّه ، وأعانني على ذلك قوم آخرون.

فلو لم يكن النبي اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان قارئاً وكاتباً وممارساً لهما على رؤوس الأشهاد ، لما أمكن له أن يتحدى الاُمّة العربية وفي مقدمتهم صناديد قريش بقوله : ( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان - 6 ). فلأجل تحقيق هذه المصلحة المهمة ، نشأ النبي في أحضان قومه وشب وترعرع إلى أن ناهز الأربعين وهو اُمّي لا يحسن القراءة والكتابة ، ولو كان وقتئذ قارئاً وكاتباً وهم اُمّيون لراجت شبهتهم في أنّ ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس وأثر نظر في الكتب.

وجاء المفسرون في المقام بكلمات درية وجمل موضحة للمراد فقال أمين الإسلام في تفسير الآية : « اللام » في قوله : ( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) للقسم وفي الكلام حذف ، تقديره : ولو خططته بيمينك أو تلوت قبله كتاباً إذاً واللّه لارتابوا ، والمعنى لو كنت تقرأ كتاباً أو تكتبه لوجد المبطلون طريقاً إلى إيجاد الشك في أمرك والقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك ولقالوا : إنّما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأوّلين فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثمّ أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنّه من عند اللّه تعالى وليس من عندك ، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الانسان بين قوم يشاهدون أحواله من صغره إلى كبره ، ويرونه في سفره وحضره ، لا يتعلّم شيئاً من غيره ، ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين (1).

* * *

ص: 299


1- مجمع البيان ج 4 ص 287.

نظريات شاذة للدكتور الهندي

ثم إنّ الدكتور عبد اللطيف الهندي المعاصر - في مقال خاص له حول اُمّية النبي الأعظم - رأياً شاذاً وقد ألقى مقاله هذا باللغة الانكيلزية في المؤتمر الإسلامي المنعقد في حيدر آباد عام (1964) فخرق الاجماع المسلّم بين طوائف المسلمين على أنّه صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب ، وخالف الرأي العام وقال إنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان يقرأ ويكتب في حداثة سنّه إلى اُخريات أيّامه (1) ولما رأى أنّ تلك النظرية تخالف النص الصريح في القرآن الكريم جاء يتأوّل ظاهر الآية تأويلاً بارداً وقال ما هذا حاصله :

المراد من الكتاب في قوله : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) إنّما هو الكتب السماوية نظائر التوراة والانجيل النازلة بغير اللغة العربية فلم يكن النبي عارفاً بتلكم اللغات ولا قادراً على تلاوتها وهو غير القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن قارئاً ولا كاتباً حتى باللغة العربية التي هي لسان قومه وبيته.

ولا أدري ماذا حمل الكاتب على هذا التأويل إذ لو كان المراد نفي معرفته بهذه الكتب المعينة ، لما صح له أن يقول : ( مِن كِتَابٍ ) بل كان عليه أن يقول : ما كنت تتلو من قبله الكتاب أو الكتب مشيراً باللام إلى الكتاب أو الكتب المعهودة وقد أتى باللام فيما قصد نفي العرفان بالكتب السماوية عنه فقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى - 52 ).

وقال عزّ شأنه : ( وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ ) ( العنكبوت - 47 ).

ص: 300


1- وقد تأثر في نظره عن رجال الكنيسة والتبشير ، قال الحداد في كتابه - القرآن والكتاب - ص 410 محمد لم يكن اُمّياً بل تاجراً دولياً ومثقفاً ومطّلعاً وبحاثة دينياً ...

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنه صلی اللّه علیه و آله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين ، ولا يتحصل ذلك إلاّ بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط ، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمره صلی اللّه علیه و آله والقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّه صلی اللّه علیه و آله بمزاولته صحف والكتب العربية ، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين ، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها ، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على اللّه ، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان - 5 ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنه صلی اللّه علیه و آله حيث عطف على الجملة الأولى : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله : ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه : لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبي صلی اللّه علیه و آله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية ، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى ، ولا يردفها بقوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة ، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً ، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات ، والاجهار بها بأصح الأساليب ، وأنّه صلی اللّه علیه و آله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً ، بل كان بعيد عن ذلك

ص: 301

كل البعد ، لصح عطفها على ما تقدم عليها ، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه : إنّه لا يعرف القراءة والكتابة ، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة ، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً ، توضيحاً للمراد. واللّه سبحانه لمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة ، أتى بما هو الدارج في لسان العرب ، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا : أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه ، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفته صلی اللّه علیه و آله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة ، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال (1) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه : قلت : سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبي صلی اللّه علیه و آله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف : 157 - 158 ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي : أنّه رسول ، نبي ، اُمّي ،

ص: 302


1- نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج 8 ص 216 ط بيروت.

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل ، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، يحل لهم الطيبات ، يحرّم عليهم الخبائث ، يضع عنهم الإصر ، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة - 78 ).

قوله سبحانه : ( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلاّ أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم ، الذين يحرفون كتاب اللّه وكلماته عن مواضعها ، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة - 79 ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين ، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي : إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع (1) إلى أن قال : الصفة الثالثة كونه اُمّياً ، قال الزجّاج : معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب ، قال عليه الصلاة والسلام : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب (2) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون ، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً (3).

ص: 303


1- لا ، بل عشر ، كما عرفت.
2- إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه ج 1 ص 327 عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا ، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.
3- مفاتيح الغيب ج 4 ص 309.

وقال البيضاوي : الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا ، إحدى معجزاته (1).

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم : أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام 395 صاحب « مقاييس اللغة » (2) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل ، والمرجع والجماعة والدين ، قال الخليل : كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه ، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس : وهو الدماغ ، اُم التنائف : أشدها وأبعدها ، اُم القرى : مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى ، واُم القرآن : فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ ، واُم الرمح : لواؤه وما لف عليه ، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها : اُم مثوى ، واُم كلبة : الحمى ، واُم النجوم : السماء ، واُم النجوم : المجرّه ... إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال : الاُمّي في اللغة : المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب ، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه (3).

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلاّ مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا ...

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

ص: 304


1- أنوار التنزيل وأسرار التأويل ج 3 ص 230 مع شرحه لاسماعيل القنوي.
2- بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة ، وكنه أسرارها وفهم اُصولها ، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال - وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد ، ولم يخلفه غيره.
3- المقاييس ج 1 ص 21 - 28 والكشاف ج 1 ص 224.

ويتحققوا ما فيها (1).

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان : ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها : أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها : أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها : أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت : هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير ، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

1. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى - 7 ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً : إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة - وإن كان يطلق عليها - غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها ، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله : « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

ص: 305


1- المقاييس ج 1 ص 21 - 28 والكشاف ج 1 ص 224.

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية ، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها ، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص - 59 ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص ، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى ، أو نقطة دون نقطة ، وعلى هذا ، فمفاد الآية أنّ اللّه سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية ، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها ، والمجتمع لأكثر الناس ، وملتقى أفكارهم ، رسولاً يبشرّهم وينذرهم ، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه ، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة اللّه وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً ، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً : لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي ، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما *** ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب *** أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول *** مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه : إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج ، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً : تأبطي ، وفي بعلبك : بعلي ، وإن كان مركب إضافة ، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه ، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة ، فنقول في ابن الزبير : زبيري ، وفي أبي بكر : بكري ، وفي غلام زيد : زيدي ، وإن لم يكن كذلك ... (1).

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

ص: 306


1- شرح ابن عقيل ج 2 ، ص 391.

والاُخت ، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك - وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً : إنّ اللّه وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة ، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه ، لتلاءم الكلام ، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته ، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب ، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور ، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب ، وهذا برهان رسالته ودليل صلته باللّه وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد ، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت : لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها ، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه ، وكلّ البلغاء عن معارضته ، وخرس الفصحاء لديه ، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة ، وهذا دليل على صدق دعوته ، وأنّه مبعوث من عنده تعالى ، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة - 2 ).

فإنّ توصيف النبي صلی اللّه علیه و آله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة ، وما ذلك إلاّ لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج ، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

ص: 307

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى ، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

2. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال : الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية ، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ اللّه جعل الاُمّي في الكتاب العزيز ، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول : ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية ، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور ، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها ، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال : اجتمع ثلاثة نفر من طي ب « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة ، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثم تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ، ثم السكوني صاحب دومة الجندل ، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

ص: 308

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء ، ثمّ أراهما الخط فكتبا ، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر ، ومضى إلى ديار مضر ، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب ، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب ، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها - إلى أن قال : - فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب ، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو ... (1).

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته ، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة ، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال : ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر ، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد ، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة ، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير ، هو الأليق من الأقوال (2).

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى ، نعم كانت الربوع

ص: 309


1- فتوح البلدان ص 457.
2- مقدمة ابن خلدون ص 418 ، طبع بيروت ، الطبعة الرابعة.

المختصة باليهود والنصارى ، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم ، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم ، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر ، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات ، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه : ( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران - 20 ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة - 78 ) (1) فالآية بحكم رجوع الضمير ( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود ، تقسم اليهود إلى طائفتين ، طائفة يعلمون الكتاب ، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه ، قراءة وكتابة ، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط ، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال : إنّه ليس للاُمّي إلاّ مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً ، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات ، حسب اختلاف الاضافات والنسب ، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل : ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه ، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا ...

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب ، لا يحسنون تلاوتها

ص: 310


1- هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية ، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

ولا كتابتها ، إلاّ أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم ، وطائفة جاهلة به ، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً ، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها ، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية ، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة ، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلاّ مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية ، فلأجل قرينة دلّت عليه ، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره اللّه تعالى للتبشير والانذار ، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف اللّه به نبيّه الأكرم ، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب (1).

1. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد (2) عن ابن

ص: 311


1- سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.
2- سعد بن عبد اللّه القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكري علیه السلام .

عيسى (1) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا علیه السلام فقلت : يا بن رسول اللّه لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال : ما يقول الناس ؟ قلت : يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب ، فقال : كذبوا عليهم لعنة اللّه في ذلك ، واللّه يقول في محكم كتابه : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن ، واللّه لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال : بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة ، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام - 92 ) (2).

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام 290 في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف ، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً : قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً ، يعطي أنّه صلی اللّه علیه و آله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط ، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّه صلی اللّه علیه و آله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد ، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً ، خلاف الظاهر ، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 312


1- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، ثقة جليل.
2- علل الشرائع ص 53 ، ومعاني الأخبار ص 20.

إذ لو كان النبي صلی اللّه علیه و آله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّه صلی اللّه علیه و آله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات ، وهو لا يجد من يشافهه بها ، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً : إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى ، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب ، وجهابذة اللغة ، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته ، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث ، بيد علماء الأدب ، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس ، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره ، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم ، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب ، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم ، أو الكلام الصادر عن عربي صميم ، وجب علينا هدم القاعدة ، ورميها بالخطأ والغلط ، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح ، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح ، صادر أمّا عن اللّه سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 313

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه ، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل ، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته ، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت ، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً : إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين (1) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً ، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً ، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك ، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

2. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر علیه السلام قال : قلت : إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال : كذبوا لعنهم اللّه أنّى يكون ذلك وقال اللّه عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال : قلت : فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال : نسب إلى مكة وذلك قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك (2).

ونقله صاحب البصائر عن عبد اللّه بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر (3).

ص: 314


1- راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم ، والحسن الصيقل عن الصادق علیه السلام .
2- علل الشرائع ص 542.
3- بصائر الدرجات ص 62 ، بحار الأنوار ج 16 ص 133.

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات ، غير موصول السند إلى الإمام ، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره اللّه تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمره صلی اللّه علیه و آله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

ص: 315

أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته

اشارة

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ له صلی اللّه علیه و آله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة ، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله (1) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة ، واكمالاً للبحث ، نردف المقال بالبحث عن وضع النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس ، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية ، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس ، أو لم يبق عليه ، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي ، وقلبه الواسع ، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلاّ بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبي صلی اللّه علیه و آله باذنه سبحانه

ص: 316


1- زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبي صلی اللّه علیه و آله فكرة حديثة بين المسلمين ، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف ، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره ، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات ، ونحن نذكر تلكم الوجوه ، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

1. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

1. إنّ اللّه تعالى لما جعل نبيّه صلی اللّه علیه و آله جامعاً لخصال الكمال كلها ، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها ، ليصح له الكمال ، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل ، ومن حرمها نقص.

2. إنّ اللّه تعالى جعل النبي صلی اللّه علیه و آله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه ، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك ، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق ، وتبرأ بها الذمم ، وتقوم بها البيّنات ، وتحفظ بها الديون ، وتحاط بها الأنساب ، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه ، وإذا صح أنّ اللّه جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة ، محسناً لها.

3. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته ، ولو جاز أن يحوجه اللّه في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه ، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه ، فثبت أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يحسن الكتابة.

4. إنّ اللّه سبحانه يقول : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة - 2 ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه ، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما ، ولا معنى لقول من قال : إنّ الكتاب هو القرآن خاصة ، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلاّ بدليل ، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

ص: 317

أصحاب الحديث.

5. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت - 48 ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة ، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة ، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل ، ولو كان حاله صلی اللّه علیه و آله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة ، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده ، لا يتضمن خلافه فيقول له : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال ، أو يقول : لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال ، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال اللّه تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس - 69 ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه اللّه تعالى ما وصفناه ، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه (1).

وفي ما ذكره رحمه اللّه مناقشات نشير إليها :

أوّلاً : انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها ، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّنا صلی اللّه علیه و آله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه ، كيف وهو صلی اللّه علیه و آله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة ، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

ص: 318


1- أوائل المقالات ص 111 - 113 ط تبريز.

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت ، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها ، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقه صلی اللّه علیه و آله دون الآخر.

ثانياً : إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ اللّه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل اللّه سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح اللّه بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة ، صرفه اللّه سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره ، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله : ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنه صلی اللّه علیه و آله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفاده رحمه اللّه :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته ، ولو جاز أن يحوجه اللّه في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة ، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم ، بخلاف الثاني.

ثالثاً : إنّ قوله سبحانه : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

ص: 319

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين ، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط ، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبي صلی اللّه علیه و آله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّه صلی اللّه علیه و آله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً ، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة ، فقد تواتر عنه صلی اللّه علیه و آله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة (1) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة : ( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه (2).

2. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت - 48 ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

ص: 320


1- قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص 23 » : وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة ، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.
2- راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص 327 - 428 ما أفاده العلامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

« إنّ الآية لا تدل على أنّ النبي كان اُمياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه ... ».

« ولو دلّت الآية على أنّه لم يكن يحسن الكتابة قبل الايحاء إليه ، لدلّت بالمفهوم على أنّه كان يحسنها بعد الايحاء إليه ، حتى يكون فرقاً بين الحالتين ولا يكون الاتيان بالقيد - قبله - لغواً » (1).

وفي ما أفاده مواقع للنظر :

أوّلاً : ففرق واضح بين من يحسن الكتابة ويتركها ، ومن لا يحسنها أصلاً ، فانّ من يحسن الكتابة ، لا يتركها دائماً ، بل يتركها مؤقتاً بسبب ظروف تلم به ولا يصح الاستدلال بتركه مؤقتاً ، على أنّه لا يحسنها ولا يستكشف حاله منه ، وأمّا من لم يكتب منذ نعومة أظفاره إلى أن بلغ الأربعين بل ناهز الخمسين كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، فيعد ذلك دليلاً عند العرف على أنّه لا يحسنها أصلاً وبتاتاً.

فالآية حسب ما يفهم منها عرفاً ، تدل على أنّه صلی اللّه علیه و آله كان اُمياً لا يقدر على الكتابة ، وقوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) بالنظر إلى ذيله وهو رفع الشك عن قلوب المبطلين ، كناية عن كونه صلی اللّه علیه و آله كان اُمّياً لا يحسن شيئاً من القراءة ، لا أنّه كان عارفاً بها ولكنّه تركها لمصلحة أو غيرها.

وثانياً : إنّ استفادة المفهوم من الآية ودلالة القيد - من قبله - عليه مشكلة جداً وإن قلنا بدلالته على المفهوم في مقام آخر ، وذلك أنّ دلالة القيد عليه إنّما هي إذا كان بقاء الحكم وعدمه عند ارتفاع القيد سواسية ، فعند ذلك يستدل بأخذ القيد في موضوع الحكم على دخله في الغرض وفي الحكم المذكور في القضية ويكون مرجعه إلى ارتفاع الحكم السابق بارتفاع القيد كما إذا قيل : أكل زيد قبل طلوع الشمس ، وأمّا إذا كان بقاء

ص: 321


1- التبيان ج 8 ص 216 ط لبنان ويظهر من الآلوسي في تفسيره الاعتماد على هذا الوجه.

الحكم عند ارتفاع القيد أولى في نظر السامع كما في المقام فلا يستنبط منه المفهوم فإنّ من بقى على اُميته حتى ناهز الأربعين بل الخمسين أولى بأن يبقى على تلك الحالة في ما بقي من عمره ، فإنّ الرجل إذا لم يحصل على ملكة الكتابة إلى أن ورد في العقد الخامس من عمره لا يحتمل في حقه عادة أن يعود إلى تحصيلها بعد هذه المراحل الطويلة ، وعلى ذلك فلا يمكن الاستدلال على رفع الحكم المستفاد من قوله : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ) وقوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) عند ارتفاع القيد ، أي لا يدل على أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد بعثته كما هو المقصود.

خلاصة القول : إنّ الآية غير دالة على وضع النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته ولا يدل على شيء من الطرفين والتمسك بمفهوم القيد : ( مِن قَبْلِهِ ) إنّما يصح إذا سيق الكلام لأجل افادته والإيماء إلى اختلاف حاله في المقامين وأمّا إذا سيق الكلام لغير هذه الغاية فلا يدل على ما استظهره من المفهوم ، فانّ الغاية من الإتيان بالقيد هو الاستدلال باُمّيته قبل نزول الوحي عليه ، على صدق مقاله ودعوته فإنّ الاُمّي إذا أتى بكتاب أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الخطابة وسادات القوافي وملوك البيان بل أدهش بقوانينه اساطين القوانين والنظام ، يعد كتابه هذا بهذه الأوصاف والنعوت آية على كونه وحياً إلهياً خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، وأمّا أنّه هل بقي على الاُمّية بعد ما صار نبيّاً يوحى إليه أو لا ؟ فخارج عن هدف هذه الآية وليست له صلة بمرماها ومقصدها وعلى ذلك نظائر في اللغة والعرف.

ولقد أحسن المرتضى ، فلم يجعل الآية دليلاً على تغيّر حاله بعد بعثته ، وسلك مسلكاً متوسطاً غير ما سلكه استاذه الشيخ المفيد وما قصده تلميذه شيخ الطائفة الطوسي ودونك نقل كلامه :

هذه الآية : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) تدل على أنّ النبي ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فالذي نعتقده في ذلك ، التجويز لكونه عالماً بالقراءة والكتابة ، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع بأحد الأمرين وظاهر الآية يقتضي

ص: 322

أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها ، ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة (1) لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون تعلّمها من جبرئيل بعد النبوّة (2).

وكلامه هذا يعرب عن توقفه في المسألة كما هو صريح قوله : « من غير قطع بأحد الأمرين » وما ذكره « ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها » صحيح لو أراد بذلك نفي دلالة الآية على أحد الأمرين وأمّا لو أراد به دلالتها على كونه قارئاً وكاتباً بعد فموهون بما أوضحناه عند البحث عن كلام تلميذه الجليل شيخ الطائفة رحمه اللّه ، مع أنّه بعيد عن ظاهر كلامه.

وأمّا ما أفاده من « إنّ المبطلون إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلّق له بالريبة والتهمة » غير ثابت ولا ظاهر بل يمكن أن يتطرق الشك إلى نبوّته لو كان يحسنها بعد النبوّة إذا تظاهربها في مرآى ومسمع من الناس ، فلاحظ التعليقة السابقة.

3. الاستدلال بقوله سبحانه : ( يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً )

استدل الدكتور عبد اللطيف الهندي بقوله سبحانه : ( رَسُولٌ مِّنَ اللّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) ( البينة : 2 - 3 ) قال : « إنّه يدل على تحقق التلاوة منه صلی اللّه علیه و آله أيام رسالته وفي رحاب دعوته ».

لكنّه لا يدل على ما رامه فإنّ التلاوة كما تصدق على التلاوة عن الكتاب ، تصدق

ص: 323


1- اختصاص التعليل بما قبل النبوّة غير ظاهر بل لو تظاهر النبي بالقراءة والكتابة بعد نبوته ، فهو وإن كان يعد معجزة ومفخرة له عند من خلصت نيته ، وطهر قلبه ، لكنّه يوجب تسلل الشك إلى اُمّيته قبل نبوته عند المبطلين والمشككين فيضلّون ويضلّون ، وينشرون الأوهام والأراجيف حول دعوته ورسالته ، نعم لو كان عارفاً بها غير متظاهر لصح اختصاص التعليل بما قبل النبوّة.
2- مجمع البيان ج 8 ص 287 ، مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 161.

على التلاوة عن ظهر القلب ، ويؤيده أنّه لم يرو عن النبي صلی اللّه علیه و آله في أيام رسالته أنّه تلا القرآن عن غير ظهر قلبه ، أضف إلى ذلك ما ذكره المفسرون في « صحف مطهرة » من الاحتمالات التي تخرجها عن محيط هذه الصحف المادية التي يرومها المستدل ومن شاء الاحاطة بها فليرجع إلى التفاسير.

ونظير ذلك قوله سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) ( الأعلى : 7 - 8 ) إذ معناه : سنقرأ عليك القرآن فلا تنساه ونجعلك قارئاً باذن منه فلا تنسى ما تتلقاه من أمين الوحي ، إلاّ بمشيئة منه فإنّ الاقراء والانساء كليهما بيده سبحانه ، فلا يدل إلاّ على تلاوة القرآن وقراءته عن ظهر القلب فقط كما كان هو دأب النبي في تلاوة كل ما اُوحي إليه ، وهو غير ما يرومه الدكتور وأمثاله.

قال الزمخشري : بشّر اللّه تعالى باعطاء آية بيّنة وهي أن يقرأ عليه جبرئيل ما يقرأ عليه من الوحي وهو اُمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه.

وأمّا الاستثناء فلا يدل على تحقق الانساء منه سبحانه بالنسبة إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله بل هو للتنبيه على أنّ الأمر كله بيده ، وإن منحت كرامة الحفظ إليه صلی اللّه علیه و آله فليس بمعنى تفويض الأمر إليه وخروجه عن يد اللّه سبحانه ، بل الأمر في كلا الحالين بيده ، فاللّه الذي جعله قارئاً لا ينسى ، قادر على أن يصيره ناسياً لا يحفظ شيئاً ، ولا يخطر على روعه شيء ، فوزان الاستثناء في هذه الآية وزان الاستثناء في قوله سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ( هود - 108 ).

فلا يدل على تحقق المشيئة في المستقبل منه سبحانه حتى ينافي خلود المؤمنين في الجنة.

4. الاستدلال بقوله سبحانه : ( اكْتَتَبَهَا )

استدل بعض الأعلام بقوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان - 5 ) وفسّره في الكشّاف بقوله : اكتتبها : اكتتبها لنفسه

ص: 324

وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه : إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه (1) وكأنّه يريد أن يفهم أنّ زيادة التاء في « اكتتبها » للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه بخلاف المجرد عنها كقولنا « كتب فلان » فإنّه أعم من أن يكون ذلك لنفسه أو لغيره.

وقال الشيخ الطوسي : اكتتبها هو وانتسخها فهي تملى عليه حتى ينسخها (2) وجه الاستدلال ، أنّ المشركين قالوا : إنّ القرآن أساطير كتبها محمد لا من تلقاء نفسه بل بالإملاء عليه من غير ، فقولهم : يكتب الأساطير بإملاء الغير عليه ، صريح في أنّه بعد الايحاء إليه كان كاتباً يكتب القرآن ، وبما أنّ الكتابة صفة كمال لا ينسبها إليه خصومه كذباً وافتراء فلا بد أن تكون ثابتة له في تلك الحال (3).

ولكن ما أقامه من الدليل موهون جداً فإنّ الكتابة وإن كانت صفة كمال إلاّ أنّ شهادة الخصم إنّما تدل على اتصافه بها إذا كانت الشهادة صادرة عن خلوص وصفاء وأمّا إذا جعلها ذريعة لإنكار نبوّته ، فلا يعد رميه بها دليلاً على صدق النسبة فإنّ القوم لما عجزوا عن الوقيعة في قرآنه ولم يتمكنوا من معارضته ومباراته دخلوا من باب آخر ، حتى يفتحوا بذلك باب الريب على نبوّته وكتابه وقالوا إنّ هنا من يملي عليه القرآن بكرة وأصيلاً ، وهو يكتب ما يملى عليه ولا هدف لهم من تلك الفرية إلاّ التشكيك في نبوّته ونزول الوحي عليه ولولا ذلك لما وصفوه بها ولا بغيرها من الصفات ، فإنّ التوصيف ، بأدنى مراتب الكمال ، يخالف ما يرمون إليه من انتقاصة.

على أنّ هنا في لفظة « اكتتبها » احتمالاً آخر وهو أنّه أمر بالكتابة والاستنساخ ، احتمله الرازي بل اختاره وقال : معنى « اكتتب » ههنا ، أنّه أمر أن يكتب له كما يقال : « احتجم » و « افتصد » إذا أمر بذلك (4).

إلى هنا تم ما وقفنا عليه من الأدلّة القرآنية التي أقامها القائلون على أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً بعد نزول الوحي عليه ، وقد عرفناك وهن الجميع ، ووقفت على ما فيها من

ص: 325


1- الكشاف ج 2 ص 400.
2- التبيان ج 7 ص 472.
3- تفسير الآيات المتشابهات ص 47 - 48.
4- مفاتيح الغيب ج 6 ص 353.

المناقشات.

نعم هناك وجوه عقلية واستحسانات ، اعتمد عليها بعض من اختار هذا النظر ، ونحن نأتي بها.

5. الاستدلال بالأولوية :

استدل بها المجلسي وقال إنّه صلی اللّه علیه و آله كان قادراً على التلاوة والكتابة بالاعجاز وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين ، انّ هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف ، ومن كان قادراً باذن اللّه على شق القمر وأكبر منه ، كيف لا يقدر على نقش الحروف والكلمات على الصحائف والألواح واللّه تعالى يعلم (1).

وما ذكره لا يخرج عن حدود الاستحسان إذ من الممكن أن لا يمكنه اللّه من القراءة والكتابة لمصلحة هو أعلم بها ، أو لأجل رفع الريب والشك عن جانب نبوّته كما هو غير بعيد حتى بالنسبة إلى ما بعد النبوّة ، إذا تظاهر بالقراءة والكتابة.

6. التجارة تتوقّف على الكتابة :

قال بعض من عاصرناه : « إنّ المشركين رموه بالكذب والسحر والجنون والفرية ولم ينسبوه إلى الاُمية مع كونها صفة نقص لا سيما للتجار ذوي رحلة الشتاء والصيف ، فإذا لم يعيبوه بالاُمّية كان ذلك دليلاً على أنّه كان بعد النبوّة قارئاً وكاتباً » (2).

ونناقش ما أفاده :

أوّلاً : إنّ عدم رميه صلی اللّه علیه و آله بالاُمّية ، فلعدم كونها عيباً عندهم ، كيف والقوم كانوا جماعة اُمّية وكانت تلك الصفة هي السائدة عليهم ، وكان الرامي بها والمرمى إليها في هذا الوصف سواسية.

ص: 326


1- بحار الأنوار ج 16 ص 136.
2- تفسير الآيات المتشابهات ص 50.

ثانياً : إنّ التجارة وإن كانت تتوقف على القراءة والكتابة في الأوساط المدنية غير أنّ الدارج في البيئات البعيدة عن الحضارات كان غير ذلك ، خصوصاً قريش الذين كانت لهم رحلة الشتاء والصيف ، فكانوا يبيعون أو يشترون ، ويرجعون ، من دون أن يبقى لهم أو عليهم شيء.

هذا ما لدى القائلين من الأدلّة على كونه صلی اللّه علیه و آله قارئاً وكاتباً بعد بزوغ نبوّته ، هلم معي ندرس بعض ما وقفنا لهم في المقام من كلمات تؤكد من نقلناه عنهم.

قال الشيخ : « إنّ الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتابة والنبي عليه وآله السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة وإنّما لم يحسنها قبل البعثة » (1).

وتبعه ابن ادريس الحلي في باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وجاء بعين ما نقلناه عن الشيخ (2).

واختاره العلامة الحلي في كتاب النكاح عن تذكرته عند البحث عن مختصات النبي الأكرم حيث قال : كان يحرم عليه الخط والشعر تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته قال اللّه تعالى : ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) وقال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) ( يس - 69 ).

وقد اختلف في أنّه هل كان يحسنها أو لا : وأصح قولي الشافعي الثاني وإنّما يتجه التحريم عل الأول (3) أي على القول بأنّه كان يحسن الكتابة إذ على فرض عدم عرفانه بها ، فالتحريم يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل.

غير أنّ دلالة الآية على حرمة الكتابة عليه ، مبني على كون « لا » في قوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) ناهية وهو خلاف الظاهر ، خصوصاً بملاحظة سياق الآية أي قوله تعالى : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فإنّه جملة خبرية وهو يقتضي أن تكون الجملة التالية لها أيضاً خبرية لا انشائية.

ص: 327


1- المبسوط : كتاب القضاء ج 8 ص 120.
2- السرائر : باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وهو غير مرقم.
3- تذكرة الفقهاء ج 2 ص 566 الطبعة الجديدة المرقمة.

وقد اقتفى في ذلك قول الشيخ في مبسوطه حيث قال : « وقد خصّ اللّه نبيّه محمداً بأشياء وميّزه بها عن خلقه أربعة : واجب ، ومحظور ، ومباح ، وكراهة - إلى أن قال : - وأمّا المحظورات فحظرت عليه الكتابة وقول الشعر وتعليم الشعر » (1).

اُمّية النبي في الأحاديث :

لقد بان الحق وظهرت الحقيقة من هذا البحث الضافي حول هذه الآيات ، فلم نجد آية تدل على أنّه صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته ، صار قارئاً أو كاتباً.

نعم وردت أحاديث وروايات ، رواها الفريقان ، ربّما يركن إلى بعضها ، ويستدل به على تمكنه من القراءة والكتابة بعد بعثته ، بإعجاز منه سبحانه ، وإن كان الكل لا يخلو من اشكال ونحن نورد هنا تلكم الأحاديث :

منها : حديث بدء الوحي

ررى أصحاب السير والتفسير :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجاور في حراء من كل سنة شهراً حتى إذا كان الشهر الذي بعثه اللّه سبحانه فيه خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى حراء حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللّه فيها برسالته ، جاءه جبرئيل بأمر اللّه ، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله :

« فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ ؟ قلت : ما أقرأ ؟ فغتني به (2) حتى ظننت أنّه الموت ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ؟ قال : قلت : ما أقرأ ؟ قال : فغتني

ص: 328


1- راجع المبسوط أوائل كتاب النكاح ج 4 ص 152 - 153.
2- كذا في جامع الاُصول والطبري والغت : حبس النفس ، وفي صحيح البخاري والمواهب « غطني » وهي بمعنى الغت أيضاً.

به حتى ظننت أنّه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ؟ قال : قلت : ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلاّ افتداءاً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) قال : فقرأتها ثمّ انتهى ، فانصرف ، وهببت من نومي ، فكأنّما كتبت في قلبي ، قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوت من السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ، قال : فرفعت رأسي إلى السماء انظر فإذا بجبرئيل في صورة رجل صف قدميه في افق السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ».

ويظهر من البخاري من صحيحه أنّ جبرئيل نزل بسورة العلق حينما كان النبي صلی اللّه علیه و آله يقضاً لا نائماً ، وأنّه تحمّل بدء الوحي في حال اليقظة حيث قال : فجاءه الملك فقال : اقرأ ؟ ما أنا بقارئ (1) قال : فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ؟ قلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ؟ فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثمّ أرسلني فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) .

كلمة حول سند الحديث :

إنّ سند الحديث ينتهي إلى أشخاص ثلاثة يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله ودونك أسمائهم.

1. عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ، أخرج الحديث عنه ابن هشام في سيرته ج 1 ص 235 ، والطبري في تفسيره ج 30 ص 162 ، وتاريخه ج 2 ص 300 ، وقد ترجم الرجل ابن الاثير في اُسد الغابة ج 3ص 353 ، وقال ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي ، وهو معدود في كبار التابعين يروي عن عمر وغيره من

ص: 329


1- وهذا شاهد على أنّ الملك لم يرد أن يلقنه الآيات ليتابعه في القراءة فإنّ ذلك أمر مقدور للقارئ والاُمّي ، ولو أراد هذا كان المناسب أن يقول ماذا أقرأ ، بل أراد أن يقرأه النبي بنفسه بلا متابعة.

الصحابة.

2. عبد اللّه بن شداد ، أخرج الحديث عنه الطبري في تفسيره ج 30 ص 162 وفي تاريخه ج 2ص 299. ترجمه ابن الأثير في اُسد الغابة ج 4 ص 183. وقال ولد على عهد النبي روى عن أبيه وعن عمر وعلي.

وعلى ذين السندين فالحديث مرسل غير موصول السند إلى النبي الأكرم إذ من البعيد أن يرويا الحديث عن النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه.

3. عائشة اُمّ المؤمنين ، أخرج البخاري عنها الحديث في صحيحه ج 1ص 3 وج 3 ص 173 في تفسير سورة العلق والطبري في تفسيره ج 30 ص 161. وعلى ذلك فقد تفردت هي بنقل هذا الحديث ، ومن البعيد جداً أن لا يحدث النبي هذا الحديث بغيرها ، مع اشتياق غيرها إلى سماع أمثال هذه الأحاديث عنه صلی اللّه علیه و آله . وعند ذلك يشكل الاستدلال بالحديث جداً.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري كما في البحار ج 18 ص 206 لكن كون التفسير من الإمام فيه كل الشك والريب ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه ج 1ص 40 - 44 ، والمجلسي في بحاره ج 18 ص 196.

توضيح مفاد الرواية :

إنّنا مهما جهلنا بشيء من الأشياء ، فلا يمكن أن نجهل بأنّ النبوّة منصب الهي لا يتحمله إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يقوم بأعبائها إلاّ من عمر قلبه بالإيمان ، وزود بالخلوص والصفاء وغمره الطهر والقداسة ، واُعطي مقدرة روحية عظيمة لا يتهيب حين ما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه ، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وتلك المقدرة لا تفاض من اللّه على عبد إلاّ بعد معدّات ومقدّمات :

منها : شموخ أصلاب آبائه وطهارة أرحام اُمّهاته ، حتى ينتقل من صلب شامخ إلى صلب آخر مثله ، ومن رحم طيبة إلى اُخرى مثلها.

ص: 330

منها : البخوع للعبادة ، والعكوف على المجاهدات النفسانية والرياضات التي لا تنازع الفطرة ، بل تعدل الميول والغرائز وتهديها سبيل الرشاد والسلام.

منها : التفكير في آثار صنعه وعجائب خلقه وبدائع كونه بتعمّق وتدبّر حتى يهديه التفكير في جمال الطبيعة إلى معرفة بارئها معرفة تامة تليق بحال نبيّه.

منها : أن يكون في رعاية أكبر ملك يهديه إلى طرق المكارم ومحاسن الأخلاق كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة : « لقد قرن به صلی اللّه علیه و آله من لدن ان كان فطيماً ، أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير ، وأنّك لعلى خير » (1).

هذا البيان الضافي من أمير الإسلام والبيان علیه السلام يؤمي إلى كثير مما ذكرناه من المقدمات ، ويرسم لنا صورة اجمالية من حياة النبي صلی اللّه علیه و آله الأكرم قبل بعثته وأنّه صلی اللّه علیه و آله منذ نعومة أظفاره ، ومنذ أن فطم من الرضاع ، وقع تحت كفالة أكبر ملك يسلك به طريق المكارم ، ويرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال ، ويصونه طيلة حياته من طفولته إلى شبابه وإلى كهولته من كل سوء.

هذا البيان يفيدنا بأنّ نفس أي انسان لا تستعد لقبول الوحي إلاّ بعد اقتحام عقبات وطي مراحل ، وأنّ الملك الأكبر لم يزل يواصل نبي الإسلام ليله ونهاره حتى استعدت نفسه لقبول الوحي ، وتمثّل أمينه بين يديه ، والقاء كلام ربّه إليه ووعيه له منه ، بانطباعه في لوح نفسه ، وإذا اقتحم تلكم العقبات وتحققت تلكم المقدمات والمعدات

ص: 331


1- نهج البلاغة الخطبة القاصعة ص 374 طبع عبده.

وتم الاستعداد ، ارتقت نفسه إلى ذلك الحد الأسمى فانحسرت عن قلبه الأغطية وارتفعت عنه الحجب ، حيث أخذ يعاين الأشياء على ما هي عليه ، ويقف على الحقائق على النحو الذي يليق به ويقدر على تلاوة ما لم يكن قادراً عليها.

وقد تحققت تلك الغاية وبلغت نفسه الشريفة إلى ذلك الحد في الشهر الذي اختاره اللّه تعالى فيه رسولاً إلى الناس ، فجاءه أمين الوحي بلوح برزخي يحتوي على آيات من القرآن الكريم فعرضه على النبي صلی اللّه علیه و آله وطلبه منه أن يقرأه فأبى وتجافى عن قراءته قائلاً بأنّه اُمّي لا يقرأ ولا يكتب ، وأنّه ماقرأ وما كتب طيلة عمره فغطه الأمين ثلاث مرات فإذا به يقرأ.

نحن لا نعلم كنه هذا الغط ولا نستطيع إدراكه ، وليس هو إلاّ أثراً مادّياً لأمر معنوي كاماطة الستر عن روحه وقلبه ، وهذا أمر طبيعي في مثل هذا الموقف العظيم الجليل الذي تنوء به أجسام وأرواح البشر ، فإنّ لكل عمل روحي ولا سيما لمثل كشف الغطاء أثراً خاصاً في أبداننا ، والأثر البارز المادي لكشف الغطاء عن قلب النبي ونفسه ، هو الغط الذي أحسّه في ذلك الحين ، وإلاّ فالغط المادي لا مدخلية له في القدرة على القراءة والتلاوة.

هكذا كانت هذه اللحظة الحاسمة من حياته صلی اللّه علیه و آله منعطفاً رائعاً إلى مرحلة جديدة ، فكشف عنه الغطاء آن الغط ، فقدر على قراءة ما لم يقدر عليه فعرف الحروف والنقوش ، بل الحقائق فصار أكمل إنسان يطأ الأرض بقدميه ، ويعيش في اديمها ويتظلّل بسمائها.

وهذا البيان منضمّاً إلى ما سمعته من حديث بدء الوحي يدفعنا إلى القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله قد انقلبت حاله بعد البعثة بإعجاز من اللّه سبحانه واقدار منه تعالى. غير أنّ ما ذكرنا مبني على صحة الحديث واتصال سنده إلى النبي ولكنّك عرفت أنّ الحديث مقطوع غير موصول بالنبي الأكرم فلاحظ.

ص: 332

منها : حديث المطالبة بالقلم والدواة :

أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ونقلها أهل السير والأخبار كافة ويكفيك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال : لما حضر رسول اللّه وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبي صلی اللّه علیه و آله : هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلی اللّه علیه و آله قال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قوموا ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم (1).

أخذ المستدل بظاهر الحديث وقال : النبي صلی اللّه علیه و آله طلب أن يكتب كتاباً ، وظاهره كون الكاتب نفسه لا غير ، لكنّه نسى أو تناسى أنّ في الإسناد مجازاً وأنّه من باب كتب الأمير ، أو كتب الملك وليس معناه أنّه كتب بنفسه ، بل السيرة على أنّ الملك أو الأمير يمليان والكاتب يكتب وينفّذانه بخاتمهما ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يملي والكاتب يكتب ولا يكتب بيده ، وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده ، ما كانوا يكتبون إلاّ في مواقف خاصة.

منها قصة الحديبية :

ملخّصه : لما اعتمر النبي صلی اللّه علیه و آله في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب ، هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قالوا : لا نقر بهذا ، لو نعلم أنّك رسول لله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد اللّه ، فقال : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، ثمّ قال لعلي علیه السلام :

ص: 333


1- صحيح البخاري ج 2 ص 22 كتاب العلم ، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا في صحيحه ج 2 ص 14 ، وأحمد في مسنده ج 1 ص 325 وغيرهم من أعلام الاُمّة.

امح رسول اللّه ، قال علي : لا واللّه لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يدخل مكة السلاح إلاّ السيف في القراب الخ (1).

وقد تمسك بظاهر الرواية « أبو الوليد الباجي » فادّعى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كتب بيده بعد أن لم يكن يكتب ، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة وانّ الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم :

برئت ممّن شرى دنيا بآخرة *** وقال إنّ رسول اللّه قد كتبا

فجمعهم الأمير فاستظهر « الباجي » عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير : هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن ، لأنّه قيد النفي بما قبل ورود القرآن ، فقال : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) وبعد أن تحققت اُمنيته وتقررت بذلك معجزته ، وأمن الارتياب في ذلك ، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة اُخرى.

وذكر « ابن دحية » أنّ جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك منهم شيخه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد ، عن عون بن عبد اللّه ، قال : ما مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى كتب وقرأ ، قال مجاهد : فذكرته للشعبي فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك (2).

الجواب عن الاستدلال بالرواية :

إنّ ما رواه البخاري وغيره ممّن جنح إليه على خلاف ما يرتئيه المستدل أدل ، فإنّ

ص: 334


1- صحيح البخاري ج 5 باب عمرة القضاء ص 141 ، الكامل ج 2 ص 138 ، مسند أحمد ج 4 ص 298 ولفظه هكذا : فكتب مكان رسول اللّه ، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ألاّ يدخل مكة السلاح إلاّ في القراب.
2- فتح الباري ج 9 ص 44 وأضاف الباجي بأنّ في معرفة الكتاب بعد اُمّيته صلی اللّه علیه و آله معجزة اُخرى لكونها من غير تعليم ، لاحظ مناهل العرفان ج 1 ص 358.

قوله : « وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » أصدق شاهد على اُميته.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من قول النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله لعلي : « أرني إيّاها » أو قوله : « فضع يدي عليها » فهو شاهد صدق على بقائه على ما كان عليه من الاُمّية.

ولأعلام الحديث والتاريخ كلمات ضافية حول الرواية تميط الستر عن وجه الحقيقة ، فلنأت بما وقفنا عليه.

1. قال ابن حجر : إنّ النكتة في قوله : « فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » هو بيان قوله : « أرني إيّاها » فإنّه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي علیه السلام من محوها ، إلاّ لكونه لا يحسن الكتابة.

على أنّ قوله بعد ذلك « فكتب » فيه حذف تقدير ، أي فمحاها لعلي فكتب وبهذا جزم ابن التين وأطلق « كتب » بمعنى أمر بالكتابة ، وهو كثير كقوله : كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى.

وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة ، أن يصير عالماً بالكتابة ويخرج عن كونه اُمّياً فإنّ كثيراً ممّن لا يحسن الكتابة ، يعرف تصوير بعض الكلمات ، ويحسن وضعها بيده وخصوصاً الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً.

واحتمل أن يكون المراد : جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج الكتاب على وفق المراد ، فيكون معجزة اُخرى في ذلك الوقت خاصة ، ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمّة الاُصول من الأشاعرة وتبعه « ابن الجوزي » وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأنّ هذا وإن كان ممكناً ويكون آية اُخرى لكنّه يناقض كونه اُمّياً لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وان حسمت الشبهة ، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة ، وقال السهيلي والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً ، والحق أنّ معنى قوله فكتب : أي أمر علياً

ص: 335

أن يكتب (1).

2. قال الحلبي : تمسك بعضهم بظاهر الحديث وقال : إنّ النبي كتب بيده يوم الحديبية معجزة له ، مع أنّه لا يقرأ ولا يكتب وجرى على ذلك أبو الوليد الباجي المالكي فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه وقالوا : هذا مخالف للقرآن.

- إلى أن قال - : والجمهور على أنّ الروايات التي فيها « أنّه أخذ الكتاب بيده فكتب » محمول على المجاز أي أمر أن يكتب الكاتب (2).

أقول : إنّ لفظة « بيده » ليست في نسخ صحيح البخاري ونص على ذلك الحلبي أيضاً وقوله : « ليس يحسن أن يكتب » الوارد في صحيحه وغيره من المصادر الأصلية (3) دال على ما نرتئيه في هذا المقال.

نعم رواه البخاري في كتاب الصلح بصورة اُخرى قال : « فلمّا كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقالوا : لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول اللّه ما منعناك - إلى أن قال - : ثم قال لعلي : امح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لا واللّه لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكتاب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه لا يدخل مكة سلاح إلاّ في القراب » (4).

إنّ تلك الواقعة قد رويت بصورتين اُخريين ، رواهما أعلام السير والتاريخ.

الاُولى : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر علياً أن يمحو لفظ « رسول اللّه » فامتنع علي من محوه فقال رسول اللّه : أرنيه ، فأراه علي ، فمحاه بيده الشريفة ، ثم أمر علياً أن يكتب ودونك لفظ الرواية : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علياً أن يكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 336


1- فتح الباري ج 9 ص 45.
2- السيرة الحلبية ج 3 ص 24 وسيرة زينى دحلان في هامش السيرة ج 2 ص 214 ولكن اللفظ للأخير.
3- راجع الأموال ص 158 ونقله عن المجلسي في بحاره ج 20 ص 371.
4- صحيح البخاري ج 3 ص 185 فحذف قوله وليس يحسن يكتب.

سهيل بن عمرو ، فقال : فعلى مَ نقاتل ؟ اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، فأمر بمحوها فعند ذلك كثر الضجيج واللغط وأشاروا إلى السيوف فقال علي علیه السلام ما أنا بالذي أمحوه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ستدعى إلى هذا وأنت مضطهد مقهور (1) إلى أن قال : وضج المسلمون وارتفعت الأصوات وجعلوا يقولون لا نعطي هذه الدنية ، وجعل رسول اللّه يخفضهم ويومي بيده إليهم أن اسكتوا ثمّ قال : أرنيه ، فأراه علي علیه السلام فمحاه بيده الشريفة ثمّ أمر علياً أن يكتبه.

نعم يظهر من البخاري أنّ النبي محاه من دون أن يريه علي علیه السلام وربّما يستدل به على تمكّنه من القراءة ، فروى في كتاب الصلح : لما صالح رسول اللّه أهل الحديبية - إلى أن قال : - فقال لعلي : أمحه ، فقال علي : ما أنا بالذي أمحاه ، فمحاه رسول اللّه بيده وصالحهم على أن يدخل ... (2).

ويحتمل أنّه تركه للاختصار ، اعتماداً على ما نقله في كتاب « الجزية والموادعة مع أهل الحرب » وقد نقل القصة فيه عن « البراء » هكذا ... فقالوا : لو علمنا أنّك رسول اللّه لم نمنعك ولبايعناك ولكن اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه - إلى أن قال : - فقال لعلي : امح رسول اللّه ، فقال علي : لا أمحاه أبداً ، قال : فأرنيه؟ قال : فأراه إيّاه ، فمحاه النبي صلی اللّه علیه و آله بيده (3).

ومع هذا التصريح لا يعبأ بما نقله من دون هذه الزيادة.

ص: 337


1- هذا من أعلام النبوّة فلاقى علي أمير المؤمنين يوم صفين عندما رضوا بالحكمين ما لاقاه رسول اللّه في هذا اليوم ، روى أهل السير والتاريخ أنّ علياً أمر لكاتبه أن يكتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : صدق اللّه وصدق رسوله أخبرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ثم كتب الكتاب ، راجع السيرة الحلبية ج 3 ص 23.
2- صحيح البخاري كتاب الصلح ج 3 ص 184.
3- صحيح البخاري كتاب الجزية ج 4 ص 104.

وروى الشيخ الأكبر المفيد أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعلي : فضع يدي عليها ، فمحاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيده وقال لأمير المؤمنين علیه السلام ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض ثم تمم أمير المؤمنين علیه السلام الكتاب (1).

وفي اعلام الورى : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : امحها يا علي ، فقال له : يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة. قال : فضع يدي عليها فمحاها رسول اللّه بيده وقال لعلي : ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض (2).

روى أمين الإسلام الطبرسي القصة بطولها وقال : ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله امح رسول اللّه ، فقال : يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فمحاه ، ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه (3).

وعلى هذه الصورة من الرواية : أنّ رسول اللّه نفسه محا لفظة رسول اللّه ، لكن علياً كتب الكتاب بأمره دون رسول اللّه.

الثانية : وهي تشترك مع الاُولى في التصريح بأنّ الكتاب كتبه علي علیه السلام من بدئه إلى ختمه بأمر رسول اللّه واملاء منه وتفترق عنها بأنّه ليس فيها عن محو لفظة رسول اللّه عين ولا أثر.

خلاصتها : أنّه عندما أحسّ الهدوء وانخفضت الأصوات بإيماء منه صلی اللّه علیه و آله أمر رسول اللّه علياً أن يكتب هذا ما صالح أو قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ... فكتب على حسب ما املاه عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودونك نقل ما رواه الطبري في تاريخه.

قال سهيل : لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، قال : فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 338


1- السيرة الحلبية ج 3 ص 24 وسيرة زيني دحلان ج 2 ص 212 ، والارشاد ص 6 واللفظ للأخير.
2- اعلام الورى ص 106.
3- مجمع البيان ج 9 ص 118 راجع تفسير القمي ص 634.

وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب (1) وقريب منه ما رواه البخاري نفسه في موضع آخر (2) واليعقوبي في تاريخه (3) والواقدي في مغازيه (4) وابن هشام في سيرته (5) وغيرهم من أساطين التاريخ والحديث (6) ويقرب منه ما رواه الكليني في روضته حيث قال : قال رسول اللّه لعلي : اكتب : هذا ما قاضى رسول اللّه وسهيل بن عمرو ، فقال سهيل : فعلى مَ نقاتلك يا محمد ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، فقال له الناس أنت رسول اللّه ، قال : اكتب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ، فقال له الناس : أنت رسول اللّه (7).

فبعد هذا الاتفاق والاصفاق من أعلام التاريخ والحديث والتفسير على أنّ الكتاب كتبه علي باملاء من النبي صلی اللّه علیه و آله من أوّله إلى آخره فهل يصح الركون إلى ما تفرد به البخاري وأحمد واعتمد عليهما الجزري في كامله ، مع أنّ البخاري نقض ما نقله في باب « عمرة القضاء » في كتاب الصلح على ما عرّفناك.

على أنّ التضارب الصريح الذي نشاهده في نقل البخاري في المقام يمنع النفس عن الركون إليه ، فقد اضطرب نقله وكلامه من وجوه :

1. تراه أنّه نقل القصة في موضع هكذا « أخذ رسول اللّه الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللّه » (8) ، وفي الوقت نفسه ساقها في موضع آخر من كتابه بنفس اللفظ السابق ، ولكنه حذف قوله : « وليس يحسن يكتب » (9).

2. تراه أنّه يصرح بأنّ النبي أمحا لقبه بإراءة علي علیه السلام حيث يقول : فقال لعلي : امحه ، فقال علي علیه السلام لا أمحاه أبداً ، قال : فأرينه ؟ قال : فأراه إيّاه فمحاه النبي بيده (10).

ص: 339


1- تاريخ الطبري ج 2 ص 281.
2- صحيح البخاري كتاب الصلح ج 3 ص 195.
3- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 45.
4- المغازي ج 2 ص 610.
5- السيرة ج 2 ص 317.
6- راجع صحيح مسلم ج 5 ص 174.
7- روضة الكافي ص 326.
8- صحيح البخاري ج 5 ص 141.
9- نفس المصدر ج 3 ص 185.
10- صحيح البخاري ج 4 ص 104.

ومع ذلك تراه ينقل امحاء النبي ، من دون أن يشير بأنّه كان بإراءة من علي حيث قال : « فقال لعلي : امح رسول اللّه ، فقال : ما أنا بالذي امحاه ، فمحاه رسول اللّه بيده » (1).

3. يظهر منه في موضع أنّ علياً هو الذي كتب اسم النبي بعد امحائه ما امحاه حيث قال : « فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : واللّه إنّي لرسول اللّه وإن كذّبتموني ، اكتب محمد بن عبد اللّه » (2).

منها كتاب النبي إلى العذار :

روى البخاري عن العذار بن خالد قال كتب لي النبي صلی اللّه علیه و آله : هذا ما اشترى محمد رسول اللّه من العذار بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة (3).

ودلالته على أنّه صلی اللّه علیه و آله ، كتب الكتاب بنفسه ضعيفة ، لا يمكن الركون إليه في هذه المسألة إذ كثيراً ما يسند الفعل إلى الاُمراء والملوك ويراد منه التسبيب لا المباشرة.

كما أنّ الاستدلال على بقاء النبي على ما كانت عليه قبل الدعوة بقوله في الحديث المروي : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب ، ليس بسديد إذ يكفي في صدق مضمونه كون أكثر من بعث إليه اُمّيون لا يكتبون ولا يحسنون.

فذلكة البحث :

ما سردناه لك من الأحاديث في هذه الصحائف ، قد رواه الجمهور في صحاحهم ، وقد وافاك عدم دلالة كثير منها على ما نرتئيه ، غير حديث بدء الوحي ولو صح سنده واعتمدنا على ما تفردت بنقله « عائشة » فإنّما يدل على أنّه سبحانه مكّن عبده من قراءة اللوح الذي كان بيد أمين الوحي ، ولم يكن ذاك اللوح ، لوحاً مادياً

ص: 340


1- المصدر السابق ج 3 ص 185.
2- راجع المصدر السابق ج 3 ص 195.
3- صحيح البخاري ج 3 ص 7.

وصحيفة جسمانية بل كان لوحاً برزخياً ، ومن قدر على قراءة نقوش ذاك اللوح وحروفه وجمله يقدر على قراءة ما كتب في الألواح والصحائف المادية ، ولكنّك قد وقفت على إرسال الرواية وأنّ الحديث غير موصول بالنبي صلی اللّه علیه و آله إلاّ من ناحيتها.

بقيت في المقام روايات ضعاف ومراسيل ، نقله بعض المتأخرين ، ولا يمكن الاستدلال بها في مثل هذه المسألة ، ودونك ما نقلوه :

قال القاضي الحافظ أبو الفضل بن عياض بن موسى بن عياض : انّه صلی اللّه علیه و آله كان لا يكتب ، ولكنّه اُوتي علم كل شيء حتى قد وردت آثار بمعرفته بالخط وحسن تصويرها ، كقوله لا تمدوا بسم اللّه الرحمن الرحيم (1) رواه ابن شعبان (2) من طريق ابن عباس ، وقوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنّه كان يكتب بين يديه صلی اللّه علیه و آله فقال له : الق الدواة (3) وحرف القلم (4) وأقم الباء (5) وفرق السين (6) إلى آخر ما نقله ... (7) والمظنون أنّ الحديث من ولائد النزعات الباطلة تزلّفاً للاُمويين.

عرض وتحقيق :

لا بأس بإكمال البحث بما وصل إلينا من الروايات من أئمّة أهل البيت مع ترجمة رجال اسنادها وتوضيح مضامينها على وجه الاجمال وقد نقل المجلسي منها كثيراً في بحاره في الباب السادس من الجزء السادس عشر المختص بحياة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله (8).

ص: 341


1- قال القارئ في شرحه : أي مد سينه من غير تبيّن روى الدارمي عن زيد بن السن إذا كتبت فبيّن السين.
2- هو أبو إسحاق العصري المالكي له ترجمة في الميزان مات سنة خمسة وستين وثلاثمائة.
3- أمر من الاق الدواة إذا جعل لها ليقة وأصلح لها مدادها.
4- أي اجعل شقه الأيمن أزيد من الطرف الآخر قليلاً لأنّه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة.
5- أي طولها.
6- أسنانها.
7- راجع فتح الباري ج 9 ص 44 ، شرح الشفاء ج 1 ص 726 - 727.
8- بحار الأنوار ج 16 ص 131 - 135.

1. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن ابن الوليد عن سعد (1) عن ابن عيسى (2) عن الحسين بن سعيد ومحمد البرقي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : كان النبي يقرأ الكتاب ولا يكتب (3).

والحديث صحيح رجاله كلهم ثقاة بالاتفاق ولكنّه ظاهر ، أو محمول على عهد الرسالة لما عرفت من تنصيص الكتاب العزيز على كونه اُمّياً قبل البعثة.

2. أخرج الصدوق في علله عن أبيه عن سعد (4) عن عيسى عن البزنطي عن أبان عن الحسن الصيقل قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : كان مما منّ اللّه على نبيّه صلی اللّه علیه و آله أنّه كان اُمّياً لا يكتب ولا يقرأ الكتاب (5) والسند صحيح إلى البزنطي ، نعم اختلفت كلماتهم في أبان ورمَوْه بالناووسية والنسبة غير محققة ، والرجل من أصحاب الاجماع ، والحسن الصيقل مهمل في كتب الرجال لم يوصف بالوثاقة ولم يرد فيه طعن ، والحديث وإن لم يكن صحيحاً لكنّه يعتبر خصوصاً لنقل « أبان » الذي هو أحد أصحاب الاجماع عنه ، والحديث نظير ما تقدم عليه في الحمل والظهور بل أظهر من سابقه في كونه راجعاً إلى أيام نبوّته وعهد رسالته صلی اللّه علیه و آله بقرينة قوله : « كان ممّا منّ اللّه عزّ وجلّ به على نبيّه ».

3. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن أبيه عن سعد عن معاوية بن الحكيم عن البزنطي عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : كان ممّا منّ اللّه عزّ وجلّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه كان يقرأ ولا يكتب ، فلما توجه أبو سفيان إلى « اُحد » كتب العباس إلى النبي فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ، ولم يخبر أصحابه وأمرهم أن يدخلوا المدينة ، فلما دخلوا المدينة أخبرهم (6) والخبر صحيح إلى البزنطي وهو

ص: 342


1- المراد سعد بن عبد اللّه.
2- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي.
3- علل الشرائع ص 53.
4- قد أوضحنا المراد منه ومن بعده في الحديث المتقدم.
5- علل الشرائع ص 53 ومعاني الأخبار ص 20.
6- علل الشرائع ص 53.

من أصحاب الاجماع ورجاله كلهم ثقاة غير أنّ في آخره إجمالاً واهمالاً ، يلحقه بالمراسيل نعم لا بأس بمضمونه فهو يؤيد ما قدمناه من الصحيحين ، وأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يقرأ أحياناً في عهد الرسالة لكن نقله زيني دحلان في سيرته بصورة اُخرى ودونك نصه : كتب العباس للنبي صلی اللّه علیه و آله وأخبره بجمعهم وخروجهم وراودوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال فجاء كتابه للنبي وهو بقبا وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك ، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لاُبي بن كعب فقرأه عليه فاستكتم اُبياً ثم نزل صلی اللّه علیه و آله على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس (1).

4. أخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال عن خلف بن حماد عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ النبي كان يقرأ ويكتب ويقرأ ما لم يكتب (2) ويكفي في ضعف الحديث أنّه مروي عن أحمد بن هلال الذي خرج التوقيع عن الناحية المقدسة في لعنه ونقل الصدوق عن شيخه ابن الوليد عن سعد أنّه قال : ما سمعنا ورأينا بمتشيّع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلاّ أحمد بن هلال.

أضف إليه أنّه مخالف لما قدمناه من الصحيحين من أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يقرأ ولا يكتب(3).

فاتضح أنّ ما يصح من هذه المأثورات إنّما هو الحديث الأوّل والثاني ويؤيدهما الثالث وهي بمجموعها تهدف إلى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يقرأ ولا يكتب أيام رسالته ورحاب دعوته ولا ضير في الالتزام به خصوصاً إذا كان غير متظاهر بالقراءة ، مكتفياً بقدر الضرورة ، ويؤيدها حديث بدء الرسالة.

ص: 343


1- سيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج 2 ص 24.
2- بصائر الدرجات ص 62.
3- راجع الحديث الأوّل والثاني.

5. أخرج الكليني في كتاب الحجة باسناده عن الحسن بن العباس الحريش عن أبي جعفر الثاني علیه السلام عن أبي عبد اللّه قال :

كان علي علیه السلام كثيراً ما يقول : ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يقرأ : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ) بتخشّع وبكاء فيقولان : ما أشد رقّتك لهذه السورة ؟ فيقول رسول اللّه لما رأت عيني ووعى قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي فيقولان : وما الذي رأيت وما الذي يرى ؟ قال : فيكتب لهما في التراب : ( تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) قال : ثمّ يقول : هل بقى شيء بعد قوله عزّ وجلّ : ( كُلِّ أَمْرٍ ) فيقولان : لا ، فيقول : هل تعلمان من المنزل إليه بذلك ؟ فيقولان : أنت يا رسول اللّه ، فيقول : نعم ، فيقول : هل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : فهل ينزل ذلك الأمر فيها ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : إلى من ؟ فيقولان : لا ندري ، فيأخذ برأسي ويقول : إن لم تدريا فادريا هو هذا من بعدي ، قال : فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من شدة ما يداخلهما من الرعب (1).

وجه الدلالة : أنّ قوله علیه السلام : « فيكتب لهما في التراب » بصيغة المعلوم دال على أنّ النبي كان يكتب هذه الآيات في التراب.

ويؤسفنا أنّ الحديث ضعيف للغاية.

لأجل الحسن بن العباس بن الحريش ، قال النجاشي : « أبو علي روى عن أبي جعفر الثاني ضعيف جداً له كتاب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وهو كتاب ردئ الحديث ، مضطرب الألفاظ (2).

وقال الغضائري : « أبو محمد ضعيف جداً يروي عن أبي جعفر الثاني فضل « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وله كتاب مصنف فاسد الألفاظ ، تشهد مخائله على أنّه موضوع وهذا الرجل لا يلتفت إليه ولا يكتب من حديثه ».

ص: 344


1- الكافي كتاب الحجة باب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وتفسيرها ص 249 طبع مكتبة الصدوق.
2- فهرست النجاشي ص 45 ط الهند.

قال المحقق التستري : « إن أردت أن تقف على صحة ما قاله النجاشي والغضائري في حق الرجل فراجع باب « فضل إنّا أنزلناه » من الكافي تجد صحة كلامهما فترى أنّه روى في ذاك الباب تسعة أخبار بسند واحد كلها عن الحسن بن عباس بن الحريش عن الجواد علیه السلام فلفظها فاسد ومعناها كاسد وهكذا راجع تفسير القمي في أول سورة محمد صلی اللّه علیه و آله (1).

ثم نقل بعض أحاديثه ، ونقده نقداً نزيهاً.

حصيلة الكلام في اُمّية النبي صلی اللّه علیه و آله :

قد أصبحت اُمّية النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله قبل أن يختاره اللّه لإبلاغ رسالته أمراً واضحاً كوضوح شمس الضحى ، لا يشك فيها ذو مسكة ومن له أدنى إلمام بتاريخ الجزيرة وحياة الاُمّة العربية ، العائشة فيها وأمّا حديثها بعد البعثة فالامعان في ما نقلناه من حديث بدء الرسالة والصحيحين المرويين عن الإمام الصادق علیه السلام يعطي أنّه كان يقرأ ولا يكتب ، فلو جاز الركون في مثل المقام إلى هذه النقول المروية بصورة الآحاد من الأخبار ، فنحكم بمفادها ، وإلاّ فالحكم ببقائه على ما كان عليه من الاُمّية قبل البعثة أوثق وأسد ، ويؤيد الأخير ما نقلناه في قصة الحديبية في بعض صورها التي عرفناك ، والتعليل الوارد في الآية الكريمة أعني قوله سبحانه : ( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) خصوصاً لو كان مراد القائل تظاهره صلی اللّه علیه و آله بصناعة القراءة والكتابة على أظهر الناس ، ورؤوس الأشهاد ، فإنّه يجر الشك إلى ما قبل الرسالة كما لا يخفى.

نحن وقساوسة الغرب والمستغربة :

بالرغم من شهادة تاريخ الحجاز في الدور الجاهلي ، ومحيطه البدوي على اُمّية النبي وعشيرته وأقربائه ، نجد مغالطات وتشكيكات أثارتها قساوسة الغرب حول

ص: 345


1- قاموس الرجال ج 3 ص 182 - 183 ، راجع تنقيح المقال ج 1 ص 286.

اُمّيته صلی اللّه علیه و آله وتبعهم بعض المستغربة في الشرق ، الذين يتطفّلون على موائد الغربيين في كل شيء ، حتى فيما يرجع إلى الإسلام والمسلمين ، والشرق والشرقي ، غير واقفين على نواياهم وما تكنه صدورهم وضمائرهم ، من القضاء على الإسلام والمسلمين ، والحقد والعداء للنبي الأعظم ورسالته ، وما يستهدفون من بث هذه التشكيكات والمغالطات ، التي لها طابع التحقيق ، حول الرسول الأكرم واُمّيته.

وفي الوقت نفسه ، لا مصدر لهم في انكار اُمّيته إلاّ مراسيل عن مجاهيل ، أو انتحالات أعداء الدين ، نظراء ابن أبي العوجاء و ... كل ذلك لبثّ الريب في قلوب البسطاء من المسلمين بالنسبة إلى رسالته ، ودينه ، وكتابه ، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لانكار رسالته الالهية واتصاله بالعوالم الروحية حتى يصوّروا لهم ، أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً وأنّ ما جاء به من المعارف والأحكام هي انتاج عبقريته الفذة وشخصيته اللامعة ، وسبره في الكتب وغوره فيها ، شأن كل باحث متتبع.

غير أنّ جهلهم أو تجاهلهم الحقيقة ودعاياتهم الواسعة لا يؤثر شيئاً في قلوب المثقفين من الاُمّة ، كيف وقد تسالمت عليها الاُمّة منذ ألف وقرون لم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه ، حتى جعل صاحب المنار وغيره « اُمّية » النبي أحد وجوه اعجاز القرآن وقالوا : إنّ الضمير في قوله سبحانه : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) يعود إلى - المبلغ - بكسر اللام أي الرسول نفسه لا إلى القرآن ، وقال في تفسير الآية : « فإن خفي عليكم الحق بذاته فهذه آية من أظهر آياته ، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن ، من رجل اُمّي مثل الذي جاءكم به ، وهو عبدنا ورسولنا محمد وإن عجزتم عن الاتيان بسورة من مثله ، تساوي سورة في هدايتها وتضارعها في اسلوبها وبلاغتها ، وأنتم فرسان البلاغة وعصركم أرقى عصور الفصاحة فاعلموا ما جاء به ، بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلاّ بوحي إلهي وامداد سماوي » (1).

وما ذكره من رجوع الضمير إلى النبي وإن كان خلاف ظاهر الآية ، خصوصاً في

ص: 346


1- المنار ج 1 ص 191.

قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء - 88 ) وفي قوله سبحانه : ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) ( هود - 13 ) إلاّ أنّه أحد وجوه اعجازه.

قال العلاّمة الشهرستاني : « إنّ من وجوه اعجاز القرآن والاعجاب به صدوره من مثل محمد الاُمّي ربيب البادية ، البعيد عن حضاير الفنون ، البعيد عن حواضر الحكماء ومحاضر العلماء - إلى أن أوضح مقاله بمثال - وقال : الشعب الواثق بأنّ سفيره لا يقرأ ولا يكتب ولا يخون ، ولا يكذب ولم يعهد منه الشعر ففي وضع راهن كهذا لو يفاجئهم سفيرهم بكتاب فذ في الكتابة والإنشاء والإملاء ... وادعى أنّه مرسل به من ناحية السلطان ... فإنّ الشعب ضروري ايمانه واذعانه له ، وعدم اتهامه بأنّه المباشر لهذه الفرية ».

ص: 347

ص: 348

الفصل السادس: علم الغيب في الكتاب العزيز

اشارة

أظنّك أيّها القارئ الكريم في غنى عن بيان معنى « الغيب » ومفاده ، لغةً وعرفاً ، فإنّ للغيب « أصلاً صحيحاً يدل على تستر الشيء عن العيون ، ثم يقاس من ذلك الغيب ما غاب ، ممّا لا يعلمه إلاّ اللّه ».

« ويقال : غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً. وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة ، إذا غاب بعلها ، ووقعنا في غيبة وغيابة أي هبطة من الأرض يغاب فيها. قال اللّه تعالى في قصة يوسف علیه السلام : ( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ ) والغابة : الاجمة والجمع غابات وغاب ، وسمّيت لأنّه يغاب فيها » (1).

وقال الراغب : « الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين يقال : غاب عن كذا ، قال تعالى : ( أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) واستعمل في كل غائب عن

ص: 349


1- مقاييس اللغة ج 4 ص 403.

الحاسة ، وعما يغيب عن علم الانسان بمعنى الغائب قال تعالء : ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ويقال : للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا باللّه تعالى فإنّه لا يغيب عنه شيء كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وقوله : ( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه والغيب في : ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول وإنّما يعلم بخبر الأنبياء علیهم السلام (1).

توضيحه : أنّ الغيب يقابل الشهود ، فما غاب عن حواسّنا وخرج عن حدودها ، فهو غيب ، سواء أكان أمراً مادياً ، قابلاً للإدارك بالحواس ، كالحوادث الواقعة في غابر الزمان ، والمتكوّنة حالياً ، الغائبة عن حواس المخبر ، أو بعد لاي من الدهر ، أم كان مما يمتنع إدراكه بالحس أو وقوعه في أفقه ، كذاته تعالى ، وحقيقة البعث والنشور ، والحساب ، ونفخ الصور ، والميزان ، وملائكة اللّه ، وجنته وناره ، ولقائه ، وحقيقة الحياة ، في النشأة الاُخرى ، والوحي والنبوّة إلى آخر ما يجب الإيمان به وتصديقه ، كما يدل عليه قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ... وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ( البقرة : 3 - 4 ).

وقد أوضحه بعض الأعلام بقوله :

الغيب : في العرف العربي اسم لمعنى يقابل الحضور وضد الشهود ، كما في القرآن : ( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وفي الحديث النبوي : « ألا فليبلغن الشاهد الغائب » وفي كلام الإمام علي علیه السلام : « شهود كالغيب ».

والشهود : كناية عن اتصال الحواس بالحاضر لديها وهو المراد من الحضور أيضاً فالغيب كالغائب ، ما لا يتصل به الحس ، وبه سمّي المسافر غائباً ، وخلافه حاضراً ، فالنبأ الغيبي ، بناء على ما عرفت ، هو النبأ الذي لا يتصل بالمحسوس لديك فعلاً ، وإن

ص: 350


1- مفردات الراغب ص 366 - 367.

كان أصله محسوساً من قبل ، ثم غاب كالمسافر أو بالعكس كالمولود الذي كان في غيابة الرحم ، محجوباً عن الحواس ثمّ ولد بعد ، فصار محسوساً بين الناس.

وربّ اُمم دوّخت الأقيال والأجيال في سالف الدهر ، كجرهم وأياد ، ثمّ بادت ، وهم اليوم غيب ، وأنباؤهم الخطيرة تعد في زوايا التاريخ من الغيوب ، وربّ جراثيم الأمراض كانت محجوبة ، أو لا تزال محجوبة عن الحواس ، ثمّ في مستقبل الأجيال تقوى الآلات على استكشافها ، فتصير محسوسة مشهودة ، وربّ طعام يقصر عن شمّه حسّ الانسان والحيوان ، إلاّ النمل الذي فاق حسّه على غيره ، فيهتدي إليه ولا يغيب عنها ، أو كحبة خردل لا تغيب عن الغراب ، لحدة بصره ، بينما هي غائبة عن غيره ، أو صوت متحرك في دياجير الظلام لا يغيب عن احساس الفرس ، لقوّة سمعه بينما يغيب عن غيره ... (1).

وهذا البيان الضافي يوقفنا على أنّ الغيب على قسمين : مطلق واضافي ، فالمطلق منه ما لا يقع في اُفق الحس أبداً ويمتنع إدراكه بالآلات والأدوات المادية كذاته سبحانه وصفاته وغيرهما ممّا عدّدناه ، والاضافي ما يتفاوت بحسب الظروف والاشخاص ، فربما يكون غيباً في ظرف ، فجرثومة السل كانت غيباً في غابر الزمان ، قبل أن يقف عليها مكتشفوها ، ويروها تحت المجهر إلى أن عادت أمراً محسوساً في هذه الظروف التي كثرت فيها الأدوات العلمية ، وسهل الوقوف على صغار الموجودات التي لا يدركها الطرف مجرداً عن الآلات الحديثة ...

وإلى ذلك يشير العلامة الطباطبائي بقوله : الأشياء المجهولة ، أي غير الواقعة تحت الحواس ، غيب ، ومن الحري أن نسمّيها عندئذ غيباً نسبياً ، لأنّ هذا الوصف الطارئ عليها ، وصف نسبي يختلف بالنسب والاضافات ، كما أنّ ما في الدار مثلاً ، من الشهادة بالنسبة إلى من فيها ، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها ، وكذا الأضواء والأكوان المحسوسة بحاسّة البصر ، من الشهادة بالنسبة إلى البصر ، ومن الغيب

ص: 351


1- المعجزة الخالدة ص 71 - 72.

بالنسبة إلى حاسّة السمع ، والمسموعات التي ينالها السمع ، شهادة بالنسبة إليه ، وغيب بالنسبة إلى البصر ، ومحسوساتهما جميعاً من الشهادة بالنسبة إلى الانسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الاناسي (1).

وبذلك يصح لنا أن نصطلح ونعبّر عن الغيب البحت (2) ب « الغيب عن العالم المادي » وعن الغيب النسبي ب « الغيب في العالم ».

بما أنّ الغيب البحت ، لا يخرج عن تحت الخباء ، فلا يتفاوت حاله بحسب الظروف والأحوال ، فالواجب على الانسان ، الإيمان به ، إذا قام الدليل على وجوده لامتناع شهودها ، والتعرف على حقيقتها ما لم يخرق الانسان الحجب المادية ، ولم يلق الستار عن مشاعره ، حتى يتعرّف عليها كتعرّفه على المحسوسات ولا يحصل ذلك إلاّ بالموت ، والتحلل من الجسد ، والتحرر من المادة حتى يصدق عليه قوله سبحانه :

( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق : 21 - 22 ).

أنواع المغيبات في القرآن :

اشارة

إنّ المغيبات الواردة في القرآن لا تزيد اُصولها على أقسام ثلاثة :

الأوّل :

الخبر عن اللّه سبحانه وأسمائه وصفاته ، والخبر عن الروحانيات وملائكته وتدبيره العوالم الأرضية ، والسماوية ، وشؤون الاحياء بعد الموت في البرزخ وحالة الأرواح قبل المعاد وبعده من نعيم أو جحيم ، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية المطلقة التي لا

ص: 352


1- الميزان ج 7 ص 128.
2- ما أسميناه غيباً بحتاً فإنّما هو مجرد اصطلاح ليحصل الفرق بين القسمين وإلاّ فإنّما هو غيب بحت بالنسبة إلى العالم المادي ، وأمّا بالنسبة إلى نفسه أو ما يسانخه من الموجودات أو الواجب سبحانه فليس غيباً أصلاً.

يتعرف عليها الحس ولا تقع في اُفقه في هذا الظرف.

الثاني :

الإخبار عن اُمم قد خلت من قبل وطويت حياتها ، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى مساكنهم ومواطنهم ، من دون أن يرجع إلى كتب السير والتاريخ والكهنة والربانيين أو يطالع كتاباً أو باباً خاصاً في هذا الموضوع. ومثله الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، والاشعار بملاحم وفتن وأحداث في مستقبل الزمن ، كإخبار القرآن عن إنّ ابا لهب وامرأته يموتان كافرين ، في قوله تعالى : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) ( المسد : 1 - 5 ) ، وإخباره عن غلبة الروم ، بعد بضع سنين في قوله سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ... ) ( الروم : 1 - 4 ).

وتلحق بذلك الاُمور التي قيل اختص علمه بها سبحانه ، كوقت الساعة : والمستور في ظلمات الارحام ، ... الواردة في قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان - 34 ).

وسوف نرجع إلى البحث عن هذه الآية وتقف على نظرنا فيها.

الثالث :

الإخبار عن بعض الموجودات أو النواميس السائدة في الكون ، وقد كان مغيباً عند نزول الوحي عن ادراك الحواس المجردة عن الأدوات المخترعة في هذا الزمان ، كإخباره سبحانه عن زوجية الأشياء عامة بقوله : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( الذاريات - 49 ) ووجود الدابة في السماوات بقوله : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ

ص: 353

قَدِيرٌ ) ( الشوري - 29 ).

إلى غير ذلك من إخباراته عن الحقائق العلمية والنواميس المطردة في الكون.

ثمّ إنّ الزرقاني أرجع اُصول أنباء الغيب الواردة في القرآن إلى اُمور ثلاثة على وجه يقرب ممّا ذكرناه ، قال : من ذلك قصص عن الماضي البعيد ، المتغلغل في أحشاء القدم ، وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلاً عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء - إلى أن قال : - أمّا غيوب الماضي فكثيرة تتمثّل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لمحمد إليها من سبيل كقصة نوح ، وموسى ، ومريم ، وأمّا غيب الحاضر فنريد به ما يتصل باللّه تعالى والملائكة والجن والجنّة والنار ونحو ذلك ممّا لم يكن للرسول صلی اللّه علیه و آله سبيل إلى رؤيته ولا العلم به ، فضلاً عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح.

ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلاّ العلم الحديث ، وأمّا غيب المستقبل فهو تنبّأ بحوادث وقعت كما أخبر ... (1).

نعم أرجع العلاّمة الشهرستاني أنواع المغيبات إلى ثمانية أقسام (2) ويرجع اُصولها إلى الوجوه الثلاثة التي أوضحناها.

ثمّ إنّ هذا التقسيم ، إنّما هو بالنسبة إلى البشر المحدود ، الذي تغيب الأشياء عنه ، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالأشياء كلّها حاضرة لديه ، بأعيانها الخارجية فالماضي والحال والمستقبل عنده سواسية : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) ( يونس : 61 ) فهو المحيط بكل ما دق وجل ، ولا يشذ عن محيط علمه خبر خطير ولا صغير ... إلاّ يعلم من خلق ، وهو اللطيف الخبير.

ص: 354


1- مناهل العرفان ج 2 ص 263 - 264.
2- المعجزة الخالدة ص 72.

الإخبار عن الغيب أحد وجوه إعجازه :

ثمّ إنّ المغيبات التي أشرنا إليها إجمالاً ، دلّت قبل كلّ شيء على كون القرآن كتاباً سماوياً ، أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه ، فإنّ الإخبار عن المغيبات الكونية ، والنواميس السائدة في الوجود ، أو الإخبار عن الاُمم البائدة على النحو الذي ذكرناه أو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره ، والإيماء إلى الملاحم والفتن ، والتي لا يدل عليها ولا يرشد إليها الحس ، أمر خارج عن طوق البشر ، فلا مصدر لها إلاّ كونها وحياً أو إلهاماً ، من خالقه إلى مخلوقه ورسوله الذي ارتضاه فهو عالم الغيب والشهادة فلا يطلع على غيبه أحداً إلاّ من ارتضاه من رسول ، فمستند النبي في مثل هذه المغيبات هو اللّه علام الغيوب.

وقد عرفت أنّ الإخبار عن الغيب بأقسامه الثلاثة كثير في القرآن المجيد ، وأنّ استقصاء الموضوع بعامّة نواحيه ، يحوج الباحث إلى تأليف مفرد. وقد قام عدة من الفضلاء في عصرنا بجمع الآيات التي أخبرت عن النواميس السائدة على الكون من أسرار الخلقة ونواميس الطبيعة ، مما كانت مختفية في عصر نزول القرآن ، ولم يكن سبيل إلى استكشافها إلاّ من طريق الوحي ففسرّوها وأوضحوا مداليلها (1) وبذلك أغنونا عن أفاضة القول في هذا القسم من الغيب ، وأمّا غير هذا القسم من أقسام المغيبات التي جاءت في القرآن فمجمل القول فيه :

إنّ المتفحّص في ما أخبر القرآن به من أحوال الاُمم والحوادث الماضية ، يجد من نفسه أنّ المصدر الوحيد لبيان تلك الحوادث هو الوحي الالهي ليس غير وأنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله لم يتلقها من مثقفي عصره ولا من الكتب الدارجة في عهده ، التي تنسب إلى الوحي وتعزى إلى الأنبياء ، إذ لو فرضنا أنّه أخذ ما أتى به من القصص من أحبار اليهود وأساقفة النصارى وقسيسيهم وكهنة العرب والكتب الدينية الرائجة من التوراة

ص: 355


1- راجع كتاب العلوم الطبيعية والقرآن ، والقرآن والعلوم الحديثة وغيرهما.

والانجيل ، لوجب أن تنعكس على كتابه ظلال مصادر علمه ، ومآخذ نقله ، ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي عامة وفي ناحية القصص خاصة.

إنّ القرآن اشترك في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على أنّها كتاب اللّه المنزل على رسوله « موسى » علیه السلام فأوردت التوراة الدارجة تلك القصص مملوءة بالخرافات وجاء في بيانها بجمل تشابه كلام المبتلى بالهذيان.

غير أنّ القرآن الكريم لما كان كلام اللّه القدوس ، ووحيه ، قد نقل كثيراً من قصص الاُمم وتواريخها ، بأبلغ العبارات وأحسنها ، وأنصع الجمل وأسدّها نزيهة عمّا يمس كرامة اللّه سبحانه وكرامة أنبيائه ورسله ، ولو صح ما ذكر من اختلاق النبي الأكرم للقرآن من جانب نفسه يجب أن يتأثر بمصادر نقلها ، وامتنع حسب العادة أن لا يذكر شيئاً من محتوياتها مع ما فيها من القعقعة التاريخية ، والناقل لقصص العهدين يستحيل أن لا ينعكس على أفكاره وكلامه ، ما يجده فيهما.

يجب على علماء المسلمين ولاسيما الاخصائيين منهم في علم السير والتاريخ القيام بتأليف موسوعة كبيرة (1) تتضمن عرض ما جاء في العهدين من القصص والحوادث على ما جاء في القرآن ثمّ القضاء الصحيح بين النقلين حتى يتبيّن أنّ ما يحتوي عليه القرآن من سمّو المعارف ورصانة التعليم ، لا يمكن أن يعزى إلاّ إلى الوحي السماوي ، وأنّ ما تشتمل عليه كتب العهدين من قصص الخرافة وأباطيل الأحاديث لا تلتئم مع البرهان ، ولا تتمشّى مع المنطق الصحيح ، وأنّ هذه الكتب قد دست وزورت

ص: 356


1- نعم ، قد قام لفيف من الفطاحل الأعلام فألّفوا في هذا المضمار كتباً ورسائل تسد جوع القارئ بعض السد فعالجوا بعض النواحي من هذه الاطروحة شكر اللّه مساعيهم ، فراجع إلى « الهدى إلى دين المصطفى » و « الرحلة المدرسية » للعلامة الحجة البلاغي و « نفحات الاعجاز » و « البيان في تفسير القرآن » لآية اللّه الخوئي و « الميزان في تفسير القرآن » ج 3 تأليف المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي ، ثمّ حكّم عقلك ووجدانك هل ترى أنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله أخذ معارف كتابه واقتبس معارف قرآنه وقصصه من هذه الكتب.

وتطرّق إليها التحريف بيد اُناس لا خلاق لهم من الدين ولا الشرف الانساني.

بقي من أقسام الغيب الوارد في الكتاب العزيز أمران :

1. ما يرجع إلى الإخبار عن اللّه سبحانه وأسمائه وصفاته والعوالم الروحية وغيرها التي يموج بها القرآن ، فقد خصصنا لبيان هذه المعارف القسم الأوّل من كتابنا هذا فشرحنا لك هذه المعارف وما فيها من سمو ورصانة واحداً بعد واحد حسب الترتيب الذي وقفت عليه في مقدمة الكتاب.

2. ما يرجع إلى الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره وما يلم به من ملاحم وفتن ، فهذا هو الذي نبحث عنه في المقام على وجه الاختصار فنقول :

إنّ القرآن قد أخبر عن الحوادث التي كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية ، وما يجري من النكال والتشريد ، والجفاء على ملبيها ، مع أنّه صار صادقاً في جميع ما اخبر به ولم يخالف الواقع في شيء منها ، ولا شك أنّه لم يكن له طريق في الإخبار بهذه المغيبات إلاّ الوحي ، هب أنّه تكهّن أو تفرّس في بعض إخباراته - وأجل نبي العظمة عن هذه الفرية الشائنة ، فهل يمكن القول بأنّه تفرس في جميع ما اخبر به ، وأنّه تنبأ معتمداً على علائم وإمارات كانت ترشده إليها ، مع أنّ المفروض أنّ الأحوال الحاضرة في بعض إخباراته كانت تقتضي خلاف ما اخبر به كما سيوافيك بيانه ، ونحن نأتي في المقام بكثير من الآيات التي تتضمن الإخبار عن الحوادث المستقبلية التي تحققت بعد إخبارها في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله أو بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بيسير ، وأمّا الاستقصاء في ذلك فلنتركه إلى من أراد الغور أكثر من ذلك.

نقول : هناك مغيبات عن ملاحم أحداث وفتن اخبر بها القرآن وظهر صدقها في عصر الرسول صلی اللّه علیه و آله أو بعده بقليل ، فهذه الأخبار تدل قبل كل شيء على صحة نبوّته وأنّ القرآن منزّل من عنده سبحانه ، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة أو القرائن أحياناً من أقوال الكهنة أو العرّافين والمنجمين فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم

ص: 357

والناس لا يحصون عليهم أقوالهم ، ولا يبحثون عن حيلهم وتلبيساتهم ، وإنّما يذكرون بعض ذلك إذا اقتضته الحال ، كتشنيع أبي تمام على المنجمين في زعمهم أنّ عمورية لا تفتح إلاّ عند نضج التين والعنب في قصيدته المعروفة التي مطلعها :

السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب

إلى أن يقول :

سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت *** جلودهم قبل نضج التين والعنب

على أنّ دأب المنجمين هو أن يعبّروا عمّا يتوقعون من أحداث المستقبل بآرائهم وبقرائن الأحوال وأخبار الصحف الدورية ، برموز وكنايات واشارات يفسرون بها الوقائع بأهوائهم ، وأمّا ما يعرفه الفلكيون بالحساب كالخسوف والكسوف ومطالع الكواكب ومغاربها فليس من التنجيم المحرم ولا من علم الغيب في شيء (1).

ص: 358


1- راجع المنار ج 1 ص 204 - 205.

مغيبات القرآن وأخباره الغيبية

1. تنبؤ القرآن بعجز البشر عن معارضته بمثله :

لقد تحدى القرآن في مواضع عديدة من آيات سوره تحدّياً يثير روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم ، وتحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين ومضت أجيال من عرب وأعجام ، وكلهم اعترفوا بالعجز عن المعارضة مع كثرة من تتطاول أعناقهم إلى هدم بناء الدين ، وإبطال معجزة الإسلام الخالدة.

إنّ المتأخرين من الناقدين لا يعييهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إمّا نقصاً يعالجوه بالكمال أو كمالاً يعالجونه بما هو أكمل منه ، وإذا فرضنا أنّ واحداً قد عجز عن هذا ، فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة ، وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز اُمّة ، وإذا عجزت اُمّة ، فمن البعيد أن يعجز جيل ، وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال ، فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدّي عن رجل يعرف ما يقول فضلاً عن رجل عظيم ، فضلاً عن محمد أفضل المرسلين؟ وهل يمكن أن يفسر هذا التحدّي الجريء الطويل العريض ، إلاّ بأنّه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار ، وحديث عن من بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه (1).

ص: 359


1- مناهل العرفان ج 2 ص 268.

وقد نص بذلك التحدّي في موارد من آيات سوره.

منها قوله سبحانه :

( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة : 23 - 24 ).

أخبر القرآن في بداية أمر النبي بمكة عن عجز البشر عن مباراة القرآن ومعارضته إلى يوم القيامة ، وأنّ الناس لا يسعهم الاتيان بمثل هذا القرآن ، مهما تظاهروا وتناصروا وحتى اليوم تنقضي على هذا التحدي والتنبؤ قرون وهو صادق في وعده وعهده وسيبقى التحدّي قائماً مادام القرآن ، ويستمر عجز البشر عن مجابهة هذا التحدي.

قال الطبرسي : « ولن » في قوله : ( وَلَن تَفْعَلُوا ) تنفي على التأبيد في المستقبل وفيه دلالة على صحة نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله لأنّه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنّهم لا يأتون بمثله ، فوافق المخبر عنه الخبر (1).

ويليها في التنبؤ بعجز البشر والجن عن معارضة القرآن ، قوله سبحانه :

( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء - 88 ).

وقد بلغ في تحدّيه إلى أن اكتفى من المتحدّي بإتيان عشر سور مثله ، بل سورة واحدة من سوره.

قال سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم

ص: 360


1- مجمع البيان ج 1 ص 63.

مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( هود - 13 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( يونس - 38 ).

ترى في هذه الآيات من التنبّؤ الواثق بعجز الانس والجن عن معارضة القرآن ولكن المستقبل كما يقال « غيب » لا يملكه النبي ولا الوصي ولا أي شخص سواهما غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبّؤه هذا ، ولا يزال صادقاً في الحال فعلى أي مصدر اعتمد هو في هذا التحدي الطويل العريض ، غير الإيحاء إليه الذي لم يزل يصدر عنه في اخباره وتشريعه ؟

2. التنبّؤ بانتصار الرومان على الفرس :

قال سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم : 1 - 6 ).

وقد وقع ما أخبرت به الآية بأقل من عشر سنين ، فغلب الروم ودخل جيشهم مملكة الفرس باجماع من أهل التاريخ ، ودونك اجماله : انّ دولة الرومان وهي مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية بعد حروب طاحنة بينهما سنة 614 م فاغتمّ المسلمون بسبب أنّها هزيمة لدولة متديّنة أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب ، وقد غلبهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي اُنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم.

فنزلت الآية الكريمة يبشّر اللّه فيها المسلمين : بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار للمسلمين في بضع سنين ، أي في مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع ، ولم يك مظنوناً وقت هذه البشارة ، انّ الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها ، لأنّ الحروب الطاحنة انهكتها حتى غزيت في عقر دارها ، كما يدل عليه النص الكريم : ( فِي أَدْنَى الأَرْضِ ) ولأنّ دولة الفرس كانت

ص: 361

قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة ، ولكن اللّه تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة 622 م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة.

واحتمل « الزرقاني » أنّ الآية الثانية حملت نبوءة اُخرى وهي البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في الوقت الذي ينصر فيه الروم ، وقد صدق اللّه وعده في هذه كما صدقه في تلك ، وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعاً في الظرف الذي ظفر الرومان ، وهكذا تحققت النبوءتان في وقت واحد ، مع تقطع الأسباب في انتصار الروم ، كما علمت ، ومع تقطع الأسباب أيضاً في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة ، لأنّهم كانوا أيامئذ في مكة في قلة وذلة يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم وإلاًّ ولا ذمة ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية ، نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما في موكب من التأكيدات البالغة التي تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات (1).

غير أنّ من المحتمل أن يكون فرح المؤمنين لأجل انتصار الرومان على الفرس تفؤلاً بذلك حيث كان التدين باللّه سبحانه وشرائعه السماوية يجمعهما في أمر واحد لا لأجل انتصار المسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى.

نعم الآية محتملة لكل من الوجهين وإن أصر الكاتب على استفادة المعنى الأوّل منها.

3. اخباره عن صيانة النبي عن أذى الناس :

قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( المائدة - 67 ).

أصفقت صحاح السنّة (2) ، وأحاديث الشيعة المتواترة (3) على أنّ الآية نزلت يوم

ص: 362


1- مناهل العرفان ج 2 ص 266.
2- راجع الغدير ج 1 ص 194 - 217.
3- راجع غاية المرام ص 335.

الغدير ، حينما أمره سبحانه أن ينصب علياً علیه السلام إماماً للناس ، وكان النبي على حذر من الناس في تنصيب علي للخلافة ، فأخبره اللّه سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس وشرّهم ، ولا يصلون إليه بقتل ولا يتمكنون من اغتيال شخصه الشريف وتحققت نبوءة القرآن وصدّق الخبر الخبر.

ولو فرضنا صحاح القوم ولم نعتقد بما أثبته المتواتر من الروايات ، وقلنا إنّ المراد من الناس هم المشركون وأعداء الإسلام ، الذين أضمروا في أنفسهم عداء لقائده ، فالآية متضمنة للتنبّؤ بالغيب أيضاً ، إذ لم يتمكن أحد من أعداء الإسلام أن يقتله ، مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم ، وكانوا يتربصون به الدوائر ، ويتحيّنون به الفرص ، للايقاع به والقضاء عليه ، وعلى دعوته وهو أضعف منهم استعداداً وأقل جنوداً ، فمن الذي يملك هذا الوعد إذن ، إلاّ اللّه الذي يغلِب ولا يغلَب.

وقال سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ( الحجر : 94 - 96 ) أخبر سبحانه عن أنّه يكفيه عن أذى المستهزئين ومؤامراتهم ، وقد كفاه اللّه أشرف كفاية لم تكن تتعلق بها الآمال بحسب العادة ، وقد بان للمشركين وعلموا ما في قوله سبحانه في آخر الآية : ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

روى البزاز والطبراني عن أنس بن مالك أنّها نزلت عند مرور النبي صلی اللّه علیه و آله على أناس بمكة فجعلوا يغمزون في قفاه ، ويقولون هذا الذي يزعم أنّه نبي ومعه جبرئيل (1) فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبي ، وانتصاره على أعدائه ، وخذلانه للمشركين الذين ناووه واستهزأوا بنبوّته واستخفّوا بأمره ، وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس ، اندحار قريش ، وانكسار شوكتهم وظهور النبي عليهم.

قال الطبرسي : أي كفيناك شر المستهزئين واستهزاءهم بأن أهلكناهم وكانوا

ص: 363


1- لباب العقول ص 133.

خمسة نفر من قريش أو ستة ثم ذكر أسماءهم وكيفية هلاكهم (1).

قال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) ( النساء - 113 ) والمراد من الإضرار هو القتل فاللّه سبحانه حافظه وناصره.

4. تنبّوءات حول المنافقين والمخلّفين من الأعراب :

تجد في سورة التوبة والفتح والحشر نماذج من هذا القسم ، يقول سبحانه : ( فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة - 83 ).

فأخبر عن قعودهم ، وعدم خروجهم مع النبي ، فقوله سبحانه : ( فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا ) معناه لن يكون لكم شرف صحبة الإيمان ، بالخروج معي إلى الجهاد في سبيل اللّه ، ولا إلى غيره من النسك أبداً ما بقيت : ( وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) من الأعداء لا بالخروج والسفر إليهم ، ولا بغير ذلك.

ويتلوه ما جاء فيه من التنبّؤ بما يحلف به المنافقون كقوله سبحانه : ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة - 42 ).

فأخبر عن حلفهم في المستقبل القريب ، وعن كذبهم في حلفهم هذا. قال : الطبرسي وفي هذه دلالة على على صحة نبوّة نبيّنا إذ أخبر أنّهم سيحلفون قبل وقوعه فحلفوا وكان خبره على ما أخبر به (2).

ومثله قوله سبحانه : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ

ص: 364


1- مجمع البيان ج 3 ص 346.
2- مجمع البيان ج 3 ص 33.

فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( التوبة - 95 ) وفي هذه السورة شيء كثير من هذا الضرب من التنبّؤ ، فتدبّر في آياتها ومضامينها تجدها مملوءة من الإخبارات الغيبية ، وقد نزلت في حق المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك.

ونظير تلكم الآيات ما ورد في سورة الفتح من التنبّؤ حول الأعراب الذين تخلّفوا عن النبي في الخروج إلى الحديبية ودونك بعض الآيات : ( سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ( الفتح - 11 ).

وقوله سبحانه : ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الفتح - 15 ).

وفي هاتين الآيتين إخبارات غيبية عن كثير مما تفوّه به المخلفون وعن ما يضمرون في أنفسهم ، وما يصيبهم في المستقبل ، يظهر ذلك لكل من أمعن النظر في مفاد الآيتين ودونك تفسيرهما :

لمّا أراد النبي المسير إلى مكة عام « الحديبية » معتمراً وكان في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، استنفر من حول المدينة من القبائل إلى الخروج معه ، وهم « غفار » و « أسلم » و « مزينة » و « جهينة » و « أشجع » و « الدئل » ، حذراً من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو بصد وهو أحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنّه لا يريد حرباً ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، فتخلّفوا عنه ، واعتلوا بالشغل ، فأخبر سبحانه عن العذيرة التي سوف يتشبّثون بها ، عند رجوع النبي وأصحابه عن الحديبية بقوله : ( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ) كما أخبر عن أنّهم سوف يطلبون من النبي أن يستغفر لهم والحال أنّهم كاذبون في معذرتهم التي تمسّكوا بها ، وفي ما يطلبون من النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله من الاستغفار لهم ، وهم لا يبالون استغفر لهم النبي أم لم يستغفر.

ثمّ أخبر سبحانه عن أنّ النبي بعد منصرفه عن الحديبية بالصلح ، سوف يتوجّه

ص: 365

إلى « خيبر » ويأخذ من أهلها مغانم ، وأنّ هؤلاء المتخلّفين يطلبون من النبي أن يتبعوه حتى يشاركوا المسلمين في ما يأخدون من المغانم ، وأنّ النبي يجيبهم بأنّكم : ( لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ ) ولأجل ذلك خص النبي مغانم « خيبر » لمن شهد الحديبية.

ويظهر من قوله سبحانه : ( كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ ) أنّ اللّه سبحانه كان قد أخبر نبيّه عن تخلفهم في الحديبية ، أيضاً كما أخبره عن تخلّفهم في غزوة خيبر.

ونظير ما سبق قوله سبحانه : ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح - 16 ).

فأخبر المتخلّفين عن غزوة الحديبية بأنّهم سيدعون إلى معركة عنيفة تدور بينهم وبين قوم اُولي بأس شديد ، فدعاهم النبي بعد سنتين إلى المقاتلة مع قبائل هوازن وحنين وثقيف ، وكانوا أقواماً ذوي نجدة وشدة حسب ما نقرأه في السير والتاريخ ، ثم أخبر سبحانه عن أنّهم يأخذون مغانم كثيرة بقوله : ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ( الفتح : 19 - 20 ).

فقد أخذوا بعد غنائم خيبر التي أشار إليها بقوله : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) غنائم كثيرة في محاربة قبائل حنين وهوازن.

ثمّ إنّه أخبر عمّا أضمره المنافقون وأسرّوه من الكفر والعصيان وأنهم ليعدون وعداً ثم يخالفونه قال سبحانه :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر : 11 - 12 ).

ص: 366

وحاصل الآيات : أنّه سبحانه يخاطب النبي ويقول : ألم تر يا محمد إلى الذين نافقوا فأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان يقولون لأخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب يعني يهود بني النضير لئن اخرجتم من دياركم وبلادكم لنخرجن معكم مساعدين لكم ولا نطيع في قتالكم وفي مخاصمتكم أحداً أبداً أي محمداً وأصحابه ، بل وعدوهم النصر بقولهم : وإن قوتلتم لننصرنكم ، ثم كذبهما اللّه في ذلك بقوله : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) فإنّه لو خرج أهل الكتاب لا يخرج المنافقون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرهم هؤلاء المنافقون ، ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار وينهزمون.

وقد نقل المفسرون أنّ الآية نزلت قبل إخراج بني النضير واُخرجوا بعد ذلك فلم يخرج معهم منافق ولم ينصرونهم (1).

وقال سبحانه في بني النضير من اليهود ومن مال إليهم من المنافقين : ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ) ( الحشر - 14 ).

أخبر سبحانه عن أحوال المنافقين مخاطباً للمؤمنين ، بأنّهم لا يقاتلونكم إلاّ في قرى محصّنة لا يبرزون لحربكم وإنّما يقاتلونكم متحصّنين بالقرى أو من وراء جدر يرمونكم من ورائها بالنبل والحجر بأسهم بينهم شديد ، فعداوة بعضهم لبعض شديدة فليسوا بمتّفقي القلوب تحسبهم جميعاً متجمعين في الظاهر وقلوبهم شتى ، خذلهم اللّه باختلاف كلمتهم ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون.

والآية تنطبق كل الانطباق على بني النضير ، فلاحظ سيرة ابن هشام ج 2 ص 191.

5. الإخبار عن القضاء على العدو قبل المعركة :

قال سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ

ص: 367


1- مجمع البيان ج 5 ص 263.

الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ... إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) ( الأنفال : 7 - 12 ).

الآية نزلت في وقعة « بدر » ، وقد وعد اللّه فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم ويقطع دابرهم ، والمؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد والعدة ، حتى أنّ الفارس فيهم كان المقداد أو هو والزبير بن العوام ، والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم ذو شوكة ، وأنّ المؤمنين اشفقوا من قتالهم ، ولكن اللّه يريد أن يحق الحق بكلماته ، وقد وفى للمؤمنين بوعده ، فنصرهم على أعدائهم وقطع دابر الكافرين.

« قال رسول اللّه سيروا على بركة اللّه فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد وعدني ( إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ) ولن يخلف اللّه وعده ، واللّه لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة ابن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان ، وأمر رسول اللّه بالرحيل وخرج إلى بدر » (1).

فأخبر سبحانه بقوله : ( وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) عن هزيمة المشركين وقتل أعوانهم واستئصال شأفتهم ومحق قوّتهم ، فإنّ دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ويكون من ورائهم ، ولن يصل إليه الهلاك إلاّ بهلاك من قبله من الجيش ، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر لما بعدها إلى أن قطع اللّه دابر المشركين بفتح مكة (2).

وليس تنبّؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصرة بهذه الآية بل تنبّأ بذلك في آية اُخرى وهي قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ

ص: 368


1- مجمع البيان ج 4 ص 522.
2- المنار ج 9 ص 601 ، والناظر الدقيق المتأمّل في مفاد هذه الآيات السبع يجد فيها تنبّؤات كثيرة تحقّقت كلّها في غزوة بدر ، فاقرأ سيرة النبي الأكرم ولاحظ مفاد هذه الآيات.

الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) ( القمر : 44 - 45 ) فأخبر عن انهزام جمع الكفار وتفرّقهم وقمع شوكتهم ، وقد وقع هذا في يوم « بدر » أيضاً حين ضرب أبا جهل فرسه وتقدم نحو الصف الأوّل قائلاً : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فأباده اللّه وجمعه وأنار الحق ورفع مناره ، وأعلى كلمته فانهزم الكافرون وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهّم أحد بأنّ ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ليس لهم عدة يظفرون فيها بجمع كبير تام العدة وافر العدد ، وكيف يستفحل أمر اُولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير ، حتى تذهب شوكته كرماد اشتدت به الريح (1).

6. التنبّؤ بصيانة القرآن عن التحريف :

تنبّأ القرآن بأنّه سيبقى مصوناً عن التحريف بعامة معانيه ، فمع أنّ القرآن بل التاريخ يقصّان علينا تحريف الكثير من كتب اللّه ووحي السماء ، ومع أنّ المستقبل مليء بشتيت الحوادث المرة والليالي حبالى مثقلات ، جاء القرآن يخبر بوضوح بأنّ الأيدي الجائرة لا تتمكن من التلاعب به حيث قال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر - 9 ) والمراد من « الذكر » بقرينة قوله سبحانه : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر - 6 ) هو القرآن لا النبي كما احتمله بعضهم ، وبما أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن من الذين يطلبون المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة ويسيرون على الخيال ، فلا مناص من أن تكون صادرة عن وحي سماوي ، معبّرة عن رأي من يملك الأرض والسماء والماضي والمستقبل.

نعم نوقش في دلالة الآية على صيانة القرآن عن التحريف بوجوه زائفة لا قيمة لها في ميزان الانصاف (2).

ص: 369


1- البيان ص 52 - 53.
2- راجع في الوقوف على تلكم الشبهات وأجوبتها ، تفسير البيان ص 144 - 146.

7. الاخبار عن نجاح الإسلام والرسول :

قال سبحانه : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 32 - 33 ويقرب منهما ما ورد في سورة الصف 8 - 9 ، باختلاف يسير ) فأظهره على الدين كلّه أعزّ اظهار ، اُرغمت به آناف المشركين ، وقبض ولحق بالرفيق الأعلى ، ولم يبق في الجزيرة العربية وثن ولا وثني ، ولأعلام التفسير حول الآية كلمات تفسر الآية بغير ما ذكرناه.

قال صاحب المنار بعد ما حقّق وفصل أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يصلح لأن يكون عالمياً ، ويظهر على الدين كلّه ، وأنّه صح عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « أنّ اللّه زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك اُمتي ما زوى لي منها » ، قال : ومن العلماء من يقول إنّ بعض البشارات هذه لا يتم إلاّ في آخر الزمان عند ظهور المهدي وما يتلوه من نزول عيسى بن مريم علیه السلام من السماء وإقامته لدين الإسلام (1).

وفسّر الطبرسي « الظهور » بالغلبة بالحجة والقهر معاً ، وقال أي ليظهر دين الإسلام على جميع الأديان بالحجة والغلبة والقهر لها حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلاّ مغلوباً ، ولا يغلب أحد الإسلام بالحجة وأهل الإسلام يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة ، وأمّا الظهور بالغلبة فهو أنّ كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك ولحقهم قهر من جهتهم.

وقيل : أراد عند نزول عيسى بن مريم فانّه لا يبقى أهل دين إلاّ أسلم أو أدّى الجزية ، وقال أبو جعفر علیه السلام إنّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد فلا يبقى أحد إلاّ أقرّ بمحمد صلی اللّه علیه و آله ، وقال المقداد بن الأسود سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله اللّه كلمة الإسلام أمّا بعزّ عزيز وأمّا

ص: 370


1- المنار ج 10 ص 460.

بذل ذليل ... (1).

وقال في موضع آخر : وفي هذه دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله لأنّه سبحانه قد أشهر دينه على جميع الأديان بالاستعلاء والقهر واعلاء الشأن كما وعده ذلك في حال الضعف وقلّة الأعوان. روى عباية : أنّه سمع أمير المؤمنين يقول : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) أظهر بعد ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : كلا ، فوالذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه بكرة وعشياً (2).

نعم يمكن أن يقال : المراد من الظهور معناه الجامع العام أي الظهور والغلبة أعم من الغلبة بالبرهان والحجة والغلبة بالقدرة والسيطرة ، ثم الظهور أعم من الظهور على الشرك والوثنية السائدة في الجزيرة العربية يوم نزول الآية ، والظهور على الشرائع كلها ، في مشارق الأرض ومغاربها ، فللظهور مراتب ودرجات تحقق بعضها في عصر الرسول والبعض الآخر بعده صلی اللّه علیه و آله والدرجة العليا منها إنّما تتحقق بظهور المهدي من آل محمد « عجل اللّه تعالى فرجه ».

على أنّ هنا آيات تنبّأت بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحاً باهراً مثل قوله سبحانه : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) ( الرعد - 17 ).

فتنبّأ بأنّ الإسلام سيخلد ويبقى ، وأنّ الباطل والوثنية سيذهب جفاء ، أخبر بذلك في الوقت الذي كان فيه المسلمون في مكة مضطهدين مستضعفين يخافون أن يتخطّفهم الناس ، وقريب منه قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) ( إبراهيم : 24 - 25 ) فالمراد من الكلمة الطيبة ، هي كلمة التوحيد وما يتفرّع عنها من أحكام وفروع ، فالاعتقاد باللّه سبحانه ووحدانيته هو

ص: 371


1- مجمع البيان ج 3 ص 24.
2- مجمع البيان ج 5 ص 280.

الأصل الثابت والمحفوظ من كل تغير وزوال ، ومن طروء أي بطلان عليه ، وتتفرّع عنها أحكام ونسك وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيى بها الانسان ، ويعمّر بها المجتمع ، وتعطي اُكلها وثمارها التي هي عبارة عن صلاح المجتمع الانساني وتكامله كل حين.

فالآية تشير إلى أنّ العقائد الحقّة وما يتفرع عنها من الأحكام ، كشجرة طيبة فكما هي تضرب عروقها في الأرض وتعلوا أغصانها إلى السماء ، ويتظلّل بها الناس ، ويستفيد من ثمارها القريب والبعيد ، فهكذا الدين الحق والكلمة الطيبة التي هي كلمة التوحيد والإسلام ، سوف تستقر في قلوب الناس ، وتضرب عروقها في ضمائرهم وقلوبهم ، وترفع أغصانها في مظاهر حياتهم ، يتظلّل بها العرب والعجم ويستفيد من آثارها الداني والقاصي ، وبها يستقر السلام العام وتأمن سعادة الناس ، وبها يتكامل المجتمع البشري في مراحل الحياة ومظاهرها ، فتبقى دائمة على مرّ الليالي والأيام.

فهذه الآية تنبّئ عن مستقبل الإسلام ونجاحه نجاحاً باهراً في وقت لم يكن من بواسم الآمال ما يلقى ضوءً على نجاح هذا الدين ، ولم يكن عند النبي من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح ، وليس النبي بشهادة تاريخ حياته ورجاحة عقله واتزانه ودقته ، من الذين يلقون القول على عواهنه غير متريّثين بما يقولون بل كان يثبت في كلامه ، ويتحرّى في مقاله حتى اشتهر بالصدق والأمانة ، ومع ذلك فقد أخبر بلغة الواثق فيما يقول ، عن نجاح دينه في المستقبل وأنّه سوف يضرب بجرانه خارج مكة بل خارج الجزيرة العربية إلى أقاصي الدنيا.

وأعطف على ذلك تنبّؤ القرآن بكل وعود تدل على نجاح الرسل والمؤمنين في ميادين الحياة ومعارك التنازع ، كقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافات : 171 - 173 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر - 51 ) وقوله سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ

ص: 372

دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( النور - 55 ) (1).

فهذه الوعود المؤكدة الكريمة وإن وردت بصورة عامة ، لكنّها تعم النبي الأكرم والذين آمنوا به ، فقد نصر النبي وجنده وغلبهم على مخالفيهم وأعدائهم ، ومكّن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في أرضه واستخلفهم فيها ، وبدل خوفهم أمناً حتى استطاعوا أن يعبدوه آمنين غير خائفين إلى يومنا هذا.

« إنّ الإسلام لقى من ضروب العنت مراراً وتكراراً في أزمان متطاولة وعهود مختلفة ، ما كان بعضه كافياً في محوه وزواله ولكنّه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقي ثابتاً ، يسامي الجبال ، شامخاً يطاول السماء ، على حين انّ سجّلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ، ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذي أصاب الرسول وأتباعه في مكة والمدينة وقد رمتهم العرب بقوس واحدة ، عندما نزلوا المدينة وكانوا لا يبيتون إلاّ بالسلاح ولا يصبحون إلاّ فيه ، وقد وعدهم بالنصر والغلبة وهم يضطهدون ، وما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهي ، رغم هذه الأحوال المنافية في العادة لما وعد ، فدالت الدولة لهم واستخلفهم في أقطار الأرض وأورثهم ملك كسرى وقيصر ، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وأبدلهم بعد خوفهم آمناً ، يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدّث بها إلاّ من يملك تحقيقها ويخرق إن شاء عادات الكون ونواميسه من أجلها ، ( إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) ( وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) » (2).

كيف وهو لم يكتف بهذا بل تنبّأ في الوقت الذي لم يكن فيه من بواسم الآمال ، ما يوجب اطمئنانه بنجاحه ونجاح دينه وبأنّه سيعود إلى معاده وموطنه في حين أنّ المسلمين كانوا بمكة في أذى وغلبة من أهلها ، وكان هو بالجحفة أثناء هجرته إلى المدينة

ص: 373


1- راجع ما أسلفاه حول الآيات المتقدمة من عمومية المعنى وأوسعيته وكونه ذا مراتب فلا ينافي تأويلها بخروج الإمام المنتظر.
2- مناهل العرفان ج 2 ص 270 - 271 بتصرف.

وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( القصص - 85 ) فأخبر عن رجوعه إلى معاده من غير شرط ولا استثناء وجاء المخبر مطابقاً للخبر (1).

وانّك لتجد في سبرك الذكر الحكيم آيات اُخرى غير ما ذكرناه تبشر بنجاح الإسلام والمسلمين ، وتعبّر عن غلبتهم على أعدائهم ، وهذه الآيات الكثيرة الواردة في هذا القسم من المغيبات ، قد تحققت كلها ولم تتخلّف منها واحدة ولو تخلّفت منها واحدة لزمرت وطبّلة على تلك السقطة أعداؤه وطفقوا يرقصون فرحاً بالخلاف الذي وجدوه في كتابه الذي به تحدّاهم فهدم كيانهم وسفه أحلامهم.

ولا بأس بذكر بعض ما يناسب المقام من الآيات التي تنبّأت بانتصار الرسول والمسلمين على أعدائهم وأنّهم سوف يدخلون مكة بل يفتحونها.

قال سبحانه : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح - 27 ) ، روى أصحاب السير والتاريخ : « إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية ، انّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ، وأنّهم سوف يدخلون مكة ، فلمّا خرجوا من المدينة وبلغوا الحديبية ، خرج منها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عدد من أصحابه حتى إذا كان بذي الحليفة بعث النبي صلی اللّه علیه و آله عيناً ، وجاء فأخبره بأنّ كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش طليعة ، وبعد محادثات جرت بين المسلمين وقريش اصطلحوا على أن يضعوا الحرب عشر سنين وأن يرجع رسول اللّه ومن معه من أصحابه في عامه هذا فلا يدخل مكة إلاّ من العام القابل ، فيقيم بها ثلاثاً ومعه سلاح الراكب والسيوف في القرب ، ولا يدخلها بغيره ، فلمّا أنصرف رسول اللّه ومن معه من أصحابه ، قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل اللّه هذه الآية وأخبر أنّه أرى رسوله الصدق في منامه ، لا

ص: 374


1- مجمع البيان ج 4 ص 269.

الباطل وأنّهم يدخلونه وأقسم على ذلك وقال : ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ ) أي العام القابل وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة ولعلّ التقييد بالمشيئة لعلمه سبحانه بأنّ منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها ، فأدخل الاستثناء لأنّ لا يقع في الخبر خلف (1).

ونختم هذا القسم بتنبّؤين :

1. تنبّؤ القرآن بانتصاره على أعدائه من قريش وفتحه عاصمة الوثنيين ودخول الناس في دين الإسلام فوجاً بعد فوج ، قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) ( النصر : 1 - 4 ) فأظفره اللّه على أعدائه وفتح مكة ودخل الناس في دين الإسلام زمرة بعد زمرة ، ولأجل ذلك النصر العظيم أمره سبحانه بتنزيه اللّه عمّا لا يليق به ، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي تنبّأ فيها القرآن الكريم بفتح مكة ، بل تنبّأ بفتح مكة مرة اُخرى وهو قوله سبحانه : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) ( الفتح - 1 ) فقد روي أنّ المسلمين رجعوا عن غزوة الحديبية وقد حيل بينهم وبين نسكهم فهم بين الحزن والكآبة إذ أنزل اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) فأدرك الرسول السرور والفرح ، ما شاء اللّه ، ففتحت مكة بعد عامين من نزول السورة ، ومعنى قوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا ) إنّا قضينا لك بالفتح.

وقال سبحانه : ( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) ( الصف - 13 ) والمراد من « فتح قريب » أمّا فتح مكة أو فتح بلاد الفرس والروم (2).

2. تنبّؤ القرآن بأنّه لا يضر ارتداد من ارتد ممّن آمن به فانّ اللّه يأتي بقوم رحماء على المؤمنين أشدّاء على الكافرين ، يجاهدون في سبيل اللّه لاعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه ، حيث قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ

ص: 375


1- سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 308 - 322 ، مجمع البيان ج 5 ص 126.
2- مجمع البيان ج 5 ص 108 - 109 و 282.

يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة - 54 ).

وروي أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله سئل عن هذه الآية ، فضرب بيده على عاتق سلمان فقال : هذا وذووه ... ثم قال : لو كان الدين معلّقاً في الثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس ، ونقلت في هدف الآية أقوال اُخر (1).

8. التنبّؤ بأحداث جزئية :

ومن غرائب التنبّؤات الإخبار عن أحداث جزئية ، تحققت بعد الإخبار كما أخبر ، فأخبر بأنّ أبا لهب وامرأته يموتان على الكفر ، ولا يحظيان بسعادة الإسلام الذي يكفّر عنهما آثام الشرك ويحط أوزارهما ، فماتا على الكفر ، كما أخبر به اخباراً حتمياً وذلك في قوله سبحانه :

( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) ( المسد : 1 - 5 ) ، فأخبر بأنّه يدخل ناراً عنيفة الاشتعال تلتهب عليه ، وهي نار جهنم وجاء المخبر كما أخبر.

كما أخبر عن الوليد بن المغيرة ومصير أمره وعاقبة حياته ، وأنّه يموت على الكفر ، وأنّه سبحانه يدخله في عذاب لا راحة فيه ، وذلك عندما اتهم النبي بأنّه ساحر ، فأنزل اللّه سبحانه فيه الآيات التالية : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) ( المدثر : 11 - 30 ).

ص: 376


1- مجمع البيان ج 2 ص 208.

روي أنّ قريشاً اجتمعت في دار الندوة فقال الوليد لهم أنّكم ذووا أحساب وذووا أحلام ، وأنّ العرب يأتوكم ، فتنطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فاجمعوا أمركم على شيء واحد ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا : إنّه شاعر ، فعبس وقال : قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر ، فقالوا : إنّه كاهن ، قال : إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة ، قالوا : إنّه لمجنون ، فقال : إذا تأتونه فلا تجدونه مجنوناً ، قالوا : إنّه ساحر ، قال : وما الساحر ؟ فقالوا : بشر يحبب بين المتباغضين ويبغض بين المتحابين ، قال : فهو ساحر ، فخرجوا فكان لا يلاقي أحد منهم النبي إلاّ قال : يا ساحر يا ساحر ، واشتد ذلك فأنزل إليه هذه الآيات (1).

وهذا التنبّؤ صدر عنه صلی اللّه علیه و آله في مكة وكان في وسع الرجل أن يقلب حاله ويصلح باله ولكنّه بقي على ما كان عليه من كفره وعدائه للنبي والإسلام.

وقد تنبأ القرآن به بصورة اُخرى وهو أنّه سنجعل له علامة على أنفه يعرف بها ، حيث قال سبحانه : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ ) ( القلم : 10 - 16 ) وقد حضر الرجل في معركة بدر الكبرى فخطم أنفه بالسيف ، وبقي أثر هذه الضربة سمة وعلامة له كما هو أحد الوجوه في تفسير قوله : ( سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ ) (2).

ولا ينحصر تنبّؤ القرآن بعدم إيمان عمّه أو الوليد بل تنبأ في آية اُخرى عن عدم إيمان ثلة كبيرة من الكافرين فقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة : 6 ).

وقال سبحانه : ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( يس - 10 ). وليس المراد عموم الكافرين لبطلانه بالضرورة لدخول كثير منهم في الإسلام بل

ص: 377


1- مجمع البيان ج 1 ص 387.
2- الكشاف ج 4 ص 258.

المراد هم الذين كانوا يظاهرون بعدوانه.

قال الطبرسي : تدل الآية على أنّه يجوز أن يخاطب اللّه تعالى بالعام والمراد به الخاص لأنّا نعلم أنّ في الكفّار من آمن وانتفع بالانذار (1).

ومثله تنبّؤ القرآن بأنّ عدو النبي صلی اللّه علیه و آله ( العاص بن وائل السهمي هو الأبتر ) وأنّ اللّه سبحانه سيرزق نبيّه ذرية كثيرة حتى يصير نسبه أكثر من كل نسب ، قال سبحانه : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) (2). قال في تفسير الفخر : إنّ هذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه علیه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني اُمية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا علیهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم.

كل ذلك دليل على أنّه لا مصدر لهذه التنبّؤات والإخبارات الغيبية إلاّ اللّه سبحانه علاّم الغيوب.

9. تنبّؤ القرآن في مكّة بما سيصيب كفّار قريش :

تنبّأ القرآن بالمستقبل الأسود الذي كان ينتظر قريشاً ، وذلك عندما دعا النبي على قومه لما كذبوه بقوله : اللّهمّ اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف ، فأجدبت الأرض فأصابت قريشاً المجاعة ، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وأكلوا الميتة والعظام ، ثمّ جاءوا إلى النبي وقالوا : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم ، وقومك قد هلكوا فسأل اللّه تعالى لهم بالخصب والسعة ، فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر (3) وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

ص: 378


1- مجمع البيان ج 1 ص 43.
2- لاحظ مجمع البيان ج 5 ص 540 ومفاتيح الغيب ج 8 ص 498.
3- مجمع البيان ج 5 ص 63 ، البرهان ، ج 4 ، ص 160.

( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) ( الدخان : 10 - 16 ).

فقد تنبّأ في هذه الآيات السبع عن عدة مغيبات هي :

1. الإخبار عن القحط الذي يقع بهم ، وشدة الجوع الذي يغشاهم ، إلى حد يتصوّر الرجل السماء كالدخان ، لما به من شدة الجوع ، حيث قال سبحانه : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ) .

2. الإخبار بابتهالهم وتضرّعهم إلى اللّه سبحانه ، عندما تلم بهم هذه الأزمة ، ويحل بهم الجوع والغلاء ، قال سبحانه : ( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) .

3. الإخبار برفع العذاب وكشفه عنهم قليلاً ، قال سبحانه : ( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً ) .

4. الإخبار بعودهم إلى ما كانوا عليه من الكفر والإنكار ، قال سبحانه : ( إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) .

5. الإخبار بأنّ اللّه سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى ، وهو يوم بدر الكبرى حيث انتقم منهم وقتل من صناديد قريش ، سبعون رجلاً وأسر منهم مثله وفرّ الآخرون.

وهذه الكثرة الوافرة من الأنباء الغيبية لم تتخلّف واحدة منها ، بل تحققت كما أخبر بها ، ولو لم يتحقق لنقل لتوفر الدواعي على نقله وتواتره.

نعم قيل إنّ الدخان الوارد في الآية من أشراط الساعة (1) ، وهو بعد لم يأت وإنّما يأتي قبل يوم الساعة ، وتكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ، ويستمر ذلك أربعين يوماً. ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل أظهر وأنسب لقوله سبحانه : ( أَنَّى لَهُمُ

ص: 379


1- مجمع البيان ج 5 ص 62.

الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) إذ لو كان الدخان الوارد في الآية من أشراط الساعة ، لغشي الناس جميعاً ، ولم يختص بكفار قريش وعند ذاك لا يصح لوم الجميع بقوله : ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) فإنّ كثيراً من المحشورين في يوم القيامة ، ليسوا من اُمّة نبيّنا « محمد » ولم يتولّوا عنه ولم يتّهموه بأنّه معلّم مجنون.

ثمّ إنّ القرآن كما تنبّأ في مكة بما يصيب كفار قريش لم يزل يتنبّأ أيضاً بعدما هبط النبي في المدينة وأخذ يتنبّأ بما سيصيب الكفار من المشركين واليهود ويخبر عن مؤامراتهم ضد الإسلام فقال :

( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ ) ( آل عمران - 12 ) فالآية أمّا نازلة في حق اليهود أو في مشركي مكة ، وعلى كلّ حال فالآية صادقة في حق كلتا الطائفتين (1) وسيوافيك بيانها.

ومثل الآية قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال - 36 ) ، والآية تخبر عن مؤامرة المشركين وانفاق أموالهم في معصية اللّه ، ثم ينكشف لهم من ذلك الانفاق ما يكون حسرة عليهم من حيث إنّهم لا ينتفعون بذلك الانفاق ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يكون وبالاً عليهم ثم يغلبون في الحرب ، فقد روى أنّها نزلت في أبي سفيان بن حرب الذي استأجر يوم أُحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي ، سوى من استأجرهم من العرب.

وروي أيضاً غير ذلك (2).

ص: 380


1- مجمع البيان ج 1 ص 413.
2- مجمع البيان ج 2 ص 541.

10 - التنبّؤ حول اليهود والنصارى :

من عجائب التنبؤات القرآنية وغرائبها ، تحدّيه اليهود بأبسط الأشياء وأسهلها ومطالبته إيّاهم بما هو ميسور لهم في كلّ وقت وحين ، وفي متناول قدرتهم ، ودائرة استطاعتهم في كل زمان ، ومع ذلك عجزوا عن تكذيبه وانصرفوا عن مخالفته ، وهذا يدل قبل كلّ شيء على أنّ القرآن كلام من بيده القلوب والضمائر.

قال سبحانه : ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة : 94 - 96 ).

لما زعم اليهود أنّهم الشعب المختار عند اللّه ، وأنّ الدار الآخرة خالصة لهم كما تحكي عنه الآية ويدل عليه أيضاً قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ( البقرة - 80 ).

عرض عليهم سبحانه ، رداً على مقالهم ( انّ نعيم الآخرة وقف على الشعب المختار ، وانّ الدار الآخرة خالصة لهم ) أن يتمنّوا الموت جناناً ولساناً وعملاً ، فإنّ الانسان بفطرته إذا خيّر بين العيش الخالص عن التعب والألم ، والعيش الممزوج بألوان العذب والكد ، يختار الأوّل ، ولا ريب أنّ عيش الآخرة هو العيش الخالص عن شائبة التعب ، فلو أنّهم يزعمون أنّهم صادقون في ما يقولون بألسنتهم من أنّ لهم الدار الآخرة ، وأنّهم الاُمّة المختارة من بين شعوب الناس بالحياة الدنيا ، يجب أن لا يكونوا أحرص الناس على الحياة الدنيا ، بل يلزم عليهم تمنّي الموت تمنّياً صادقاً ، تظهر آثاره في حياتهم وتقلبهم بين الناس.

غير أنّ التاريخ والحس يقضيان بخلاف ما يدّعونه ، وأنّهم أحرص الناس على

ص: 381

الحياة وكل واحد منهم يودّ لو يعمّر ألف سنة ، وما تمنى ولن يتمنّى أحد منهم الموت أبداً تمنّياً تلوح منه آثار الصدق ، لا أقول إنّهم ما تمنّوا تلفّظاً ولقلقة باللسان ، بل تمنّياً من صميم الروح ، تظهر آثاره على الجوارح والأفعال ، ولذلك قال سبحانه :

( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( الجمعة : 6 - 7 ).

نعم إنّ الزرقاني فسّر الآية على وجه يشمل التمنّي باللسان وقال : « ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم نحن نتمنّى الموت كي تنهض حجّتهم على محمد ويسكتوه ، لكنّهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول : إنّي أتمنّى الموت » (1) ، غير أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية فإنّ التمنّي حالة نفسانية للنفس ، واللفظ الدال عليه معبر عمّا في الضمير ، ولا يطلب القرآن منهم التمنّي الكاذب ولا يدعوهم إليه بل التمنّي الصادق الكاشف عن الإرادة الجدية والطلب الحقيقي له ، مع ظهور آثاره في حياة المتمنّي وسلوكه ...

ثمّ إنّ القرآن تنبّأ بانهزام اليهود في مضمار الحرب والنضال مع النبي والمسلمين قال سبحانه :

( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ ) ( آل عمران - 12 ).

قال الطبرسي : روى محمد بن يسار عن رجاله : لما أصاب رسول اللّه قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من اللّه مثلما نزل بقريش يوم بدر ، واسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، وقد عرفتم أنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم ، فقالت اليهود : يا محمد لا يغرّنك أنّك لقيت قوماً اغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، إنّا واللّه لو قاتلناك لعرفت إنّا نحن الناس فأنزل اللّه هذه

ص: 382


1- مناهل العرفان ج 2 ص 276.

الآية (1) ، ولقد صدق الخبر ، الخبر ، فغلب النبي على من في الجزيرة من اليهود فضلاً عن خصوص القانطين منهم في المدينة.

ثمّ إنّ في القرآن تنبّؤات بالمستقبل المظلم الأسود الذي لم يزل يواكب بعضها اليهود طيلة أربعة عشر قرناً من نزول القرآن إلى يومنا هذا ، لم ينخرم أي واحد منها أبداً ، وذلك قوله سبحانه : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( آل عمران : 111 - 112 ).

وفي هاتين الآيتين تنبّؤات :

1. إنّ هذا الشعب الماكر اللئيم ، لا يمكنه القيام بحرب مواجهة ومقابلة الند للند ، وإنّما يقع ضررهم على المسلمين عن طريق الغدر والمكر.

2. ولو قاتلوا المسلمين لولّوهم الأدبار.

3. ضرب عليهم الذل كضرب السكة على الدينار والخيمة على الانسان ، نعم كتب عليهم الذل والهوان إلاّ إذا تمسّكوا بحبل من اللّه ودخلوا في عهد منه أو عهد من الناس يستعينون بهم ويستظلّون بظلالهم.

4. ضربت عليهم المسكنة وهي زي الفقر والخوف منه ، وفيهم من يملك آلاف الآلاف وليس فيه غنى النفس ، فهم أشد الشعوب خوفاً من الفقر ، وأشدها طمعاً وشرها في جمع الدنيا ، لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال ، ولا يتورّعون عن الجري وراء الدنايا ، بأحط الوسائل.

5. حلول غضب اللّه عليهم كما يعطيه قوله : ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ ) .

والمراد من الضمير المتصل من قوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ ) وإن كان هو أهل الكتاب ،

ص: 383


1- مجمع البيان ج 1 ص 413.

الوارد في الآية المتقدمة ، غير أنّ المقصود منه هم اليهود بلا كلام لما في ذيل الآية التالية من تعليل ضرب الذل والمسكنة عليهم بقتلهم الأنبياء وهو من فعل اليهود.

ويؤيده قوله سبحانه ، في شأن اليهود : ( اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( البقرة - 61 ) وبذلك يظهر أنّ ما يقال من عمومية الآية ، لمطلق أهل الكتاب ، أخذاً بمفاد الضمير المتصل ، الراجع إلى أهل الكتاب ، المذكور في الآية السابقة ، ليس بسديد.

وقد تنبأ سبحانه بقوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ) بما جرى بين المسلمين وطوائف من اليهود من « بني النضير وقريضة وقينقاع » فحاربوا المسلمين ولم يثبتوا بل استسلموا ، وهو تنبّؤ صادق شهد به التاريخ الصحيح ، بل يمكن أن يكون تنبّأ بعامة ما جرى بينه وبين اليهود أيام حياته صلی اللّه علیه و آله فهو قد طهّر الجزيرة العربية من هذه العناصر الماكرة ، أعداء اللّه وأعداء الانسانية في مدة قليلة ولم ينصروا بعد قط.

والمراد من الاستثناء في قوله سبحانه : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ) هو الضرر اليسير الذي ليس فيه كبير تأثير من سب باللسان وخوض في النبي ، وقد تحقق المخبر به كما أخبر في تطهير أرض المدينة وما حولها من الطوائف الثلاث الذي اسميناهم ، فلم ينالوا من المسلمين إلاّ سبّاً باللسان أو ضرراً قليلاً كما هو الحال في غزوة خيبر على ما هو مسطور في السير والتاريخ ، ومفاد الآية راجع إلى عصر الرسالة فقط كما أوضحنا ، ويفيده التدبر في الآية وفي الضمائر الواردة فيها من قوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ ... ) (1).

وأما الآية الثانية المتضمّنة لضرب الذلة والمسكنة عليهم فربّما يحتمل اختصاص مفادها بعصر الرسالة غير أنّه محجوج بأمرين :

ص: 384


1- قال الطبرسي ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبينا صلی اللّه علیه و آله لوقوع مخبره على وفق خبره لأنّ يهود المدينة من بني قريضة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لهم قط وانهزموا ( مجمع البيان ج 1 ص 488 ).

الأوّل : إنّ المتبادر من قوله سبحانه : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) في كلتا الآيتين هو العموم والشمول وكأنّه يريد أن يقول : عجنت طينتهم بالذل والهوان والمسكنة ولا تنفك عن تلكم الطائفة في أي جيل وزمان.

الثاني : انّه سبحانه علّل ضرب الهوان والذل والمسكنة عليهم بأمرين : أحدهما : الكفر بآيات اللّه وهو مشترك بين الجميع. وثانيهما : وهو يرجع إلى أسلافهم وأجدادهم ، من قتل الأنبياء ولكن اليهود المعاصرين لعصر الرسالة لما رضوا بفعالهم وعملهم الشنيع ، صاروا مثلهم « فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم » فأسند سبحانه الفعل إليهم أيضاً ، فضرب الذلة على جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم. ولو كان هذا هو الملاك لضرب الذل على يهود عهد الرسالة فهو بعينه موجود في الباقين بعده إلى زماننا هذا ، ولا وجه لاختصاص الذل والمسكنة ببعضهم دون بعض ، إذ ليس الهوان أو المسكنة ، إلاّ جزاءً ونكالاً من اللّه سبحانه بالنسبة إلى هذه الطائفة ، فهم بين مقترف لأشد المعاصي وأهولها ، وبين راض بما ارتكبه قومه من الجنايات الموبقة ، فكل من الطائفتين يعاقب ويؤخذ بجزاء عمله كما قال سبحانه : ( لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( آل عمران : 181 - 182 ).

وقد أثبتت القرون والأجيال صدق ما تنبّأ به القرآن من لدن نزوله إلى عصرنا ، ولكي نتحقق من ذلك لا بد من الرجوع إلى التاريخ : « فها هو « بخت نصر » دخل أورشليم وقاد أكثر أهلها أسرى وكان ذلك عام 587 ق.م وفي سنة 302 ق.م أثقل ملوك سوريا كواهل اليهود بالضرائب واضطهدوهم.

وأمّا إضطهادهم بعد الإسلام فكثير ، فقد أجلى النبي « بني قينقاع » « وبني النضير » وقتل « بني قريظة » لما تآمروا عليه كما هاجمتهم جميع الاُمم المسيحية فلم يجدوا ملجأ إلاّ الأندلس حيث أحاطهم اُمراء الإسلام بعطف خاص ، لكن عندما احتل النصارى الأندلس أخذوا بتشريد اليهود وطردهم وإجبارهم على مغادرة البلاد الإسبانية ، وقد

ص: 385

وقع كثير منهم في أيدي القراصنة الذي انتشروا حول الشواطئ فجرّدوهم من أموالهم واتخذوهم عبيداً ارقّاء.

هذا ما عدا الذين ماتوا جوعاً أو اُصيبوا بالطاعون فأهلكهم ثم لجأ ثمانون ألفاً إلى البرتغال ارتكاناً إلى وعد ملكها ، لكن القساوسة الأسبانيين أثاروا الرأي العام في تلك البلاد ضدهم ، وعمدوا إلى اقناع ملك البرتغال بعدم إيوائهم ، فأصدر أمراً يقضي بابعاد جميع اليهود البالغين ، أمّا الأولاد الذين لا تتجاوز سنهم أربعة عشر عاماً فقد انتزعوا من أحضان اُمّهاتهم لكي يربوا وينشأوا على مبادئ الدين المسيحي.

ولم يقتصر الغربيون على طرد اليهود من أسبانيا والبرتغال فقط بل طردوا وشردوا من انجلترا ، فرنسا ، بلجيكا ، هولندا ، ايطاليا ، ألمانيا ، روسيا و ... » (1).

أي ذل وهوان أوضح من هذا الذي صادفوه طيلة القرون الغابرة إلى يومنا هذا ، كل ذلك مضافاً إلى تنفّر الناس عن كل يهودي ماكر ، وإسرائيلي لئيم ، وابتعادهم عنهم في حلّهم وترحالهم ، لما هم عليه من الغدر والمكر والشره والطمع وعدم اندماجهم مع غيرهم وعدم وفائهم للذين استضافوهم وآزروهم ، لما يظنون أنّهم شعب يمتاز على الشعوب التي يعيشون بينها ، وأنّهم يحق لهم اغتصاب حقوق الغير أخذاً بتعاليم التلمود حيث يعبّر عن املاك غير اليهود ب « أنّه كالمال المتروك الذي يحق لليهودي أن يملكه ».

هذا وذاك أوجب بأن يعلن القرآن منذ أربعة عشر قرناً بأنّه سبحانه يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة حيث قال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأعراف - 167 ).

فقضى اللّه سبحانه أنّه ليسلّطنّ على بني اسرائيل إلى يوم القيامة من يذيقهم أشد العذاب ، جزاء لهم على أعمالهم ونكالاً بهم ، فكما هو سبحانه سريع الصفح عن ذنب التائب ، فهو أيضاً سريع العقاب.

ص: 386


1- راجع لمعرفة تفصيل ذلك كتاب « اليهود في القرآن » 94 - 96.

إجابة عن سؤال

إلى هنا يكون قد تبيّن صحة تنبّؤ القرآن حول اليهود ، وأنّه ما تخلف طيلة أربعة عشر قرناً ، قدر شعرة غير أنّ هنا سؤالاً ، يوجهه الشباب حول الآية وهو أنّه كيف وصفهم اللّه بضرب الذل والهوان عليه مع أنّه استقرّت لهم السيادة في الأراضي المحتلة فجمعوا من العدة والعدد ما أوجب نجاحهم في هذه المعارك الرهيبة لا سيما في نكسة الخامس من حزيران ، وتمكن الاجابة عن هذا السؤال بوجوه :

الجواب الأوّل :

إنّ مشيئة اللّه سبحانه في خلقه وعباده تجري على وفق القوانين والسنّن الكونية ولا تختلف باختلاف الاُمم ، فالعارف بفن السباحة - مثلاً - يعوم ويصل إلى شاطئ الأمان والجاهل بها يرسب ويكون عرضة للهلاك ، ومن زرع حصد ومن لم يزرع لم يحصد ، والإيمان لا ينبت قمحاً والكفر لا ينبت شوكاً في هذه الحياة ، وكذلك من أعدّ العدّة لعدوّه واحتاط له ، ظفر به وإن كان ملحداً ، إذا لم يكن الآخر على حذر واستعداد ، ومن تقاعس وأهمل خسر ، وإن كان من الأولياء والصديقين ، قال تعالى مخاطباً أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله بالآية 46 من الآنفال : ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وقال الإمام علي علیه السلام : « إنّ هؤلاء - يشير إلى أصحاب معاوية - قد انتصروا باجماعهم على باطلهم وخذلتم - الخطاب لأصحابه - بتفرّقكم عن حقّكم » ، إذن الحق لا ينتصر لمجرد أنّه حق ، والباطل لا يخذل لمجرد انّه باطل ، بل هناك سنن في هذه الحياة تسير المجتمع ، وتتحكّم به ، واللّه سبحانه لا يسقطها ولا يعطّل سيرها ، تماماً كما هو شأنه في سنن الطبيعة ، انّ اللّه سبحانه قد خلق الحياة وجعل لها قوانين تحكمها ، وتأبى هذه القوانين أن تمطر السماء نصراً على غير العاملين له.

وعليه فلا عجب أن تغتال الصهيونية جزءً من أرضنا بمعونة الاستعمار مادمنا في

ص: 387

غفلة عنها وعن مقاصد أعوانها منقسمين إلى دويلات لا جامع بينها إلاّ لفظ العرب والعربية (1).

إنّ للسعادة والشقاء والحضارة والتقدّم والتدهور والانحطاط ، قوانين وسنن لا تنفك عنها آثارها ومسبباتها ومن دق باباً ولج ولج ، من غير فرق بين اُمّة واُمّة أو طائفة دون اُخرى ، انّ نكسة الخامس من حزيران والاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة الإسلامية ، كان نتيجة عمل طويل واعداد متواصل من قبل اليهودية العالمية التي تلاقت أهدافها مع مصالح الاستعمار في الشرق الأوسط من جانب ، ومع الفساد السياسي الاجتماعي الشامل الذي كان المسلمون يعيشون فيه من جانب آخر ، فالعدوّ تمسّك بأقوى وسائل القهر والغلبة ، وأعد نفسه للتقابل مع المسلمين في معارك صعبة قرابة قرن ، وتحمّل في طريقه جهوداً وبذل من نفسه وماله الكثير ، وأمّا المسلمون ففي القرن الذي كان العدوّ يجمع العدة والعدد ، ويتجهّز بالعلم والصنعة وتربية الخبراء ومهرة الفن ، كانوا يعيشون في فرقة ونفاق ، يضطهد بعضهم بعضاً ، مضافاً إلى ما يعانون من ميوعة وخيانة وإنحلال في الأخلاق ، والمشي على المخططات التي رسمها لهم الأعداء المصبوغة بطابع الود والاحسان.

وعلى ذلك فلا غرو في أن يحتل العدو الغاشم جزءً كبيراً من أرضنا ويترصد لأخذ جزء آخر ، وإذن الظهور والغلبة لهم والنكسة للعرب جاءت على وفق القوانين والسنن التي تحكم على الحياة.

إذا عرفت ما ذكر ، فالجواب عن السؤال واضح بعد الإمعان في الآية التالية : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ) ( آل عمران - 112 ).

ترى أنّه سبحانه حكم بضرب الذل والهوان عليهم ثمّ استثنى عنه بقوله : ( إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ) وفي الوقت نفسه حكم بضرب المسكنة عليهم بلا

ص: 388


1- من هنا وهناك ص 42 - 43.

استثناء.

وبعبارة اُخرى : ترى أنّه سبحانه استثنى من احاطة الذل والهوان صورتين : إذا تمسّكوا بحبل من اللّه ، وإذا تمسّكوا بحبل من الناس ، وبهذين السببين يمكن أن يدفعوا عن أنفسهم الذل والهوان ، والمراد من الحبل هو العهد (1) فلو دخلوا في عهد اللّه وهو الإسلام ودفعوا الجزية وعملوا بشرائط الذمة وتركوا الغدر والحيلة مع المسلمين فسيعود لهم العز كسائر الذمّيين ، ويعاملون بالمساواة ، وتصان دماؤهم وأعراضهم وأموالهم ، ويذاد عنهم كما يذاد عن غيرهم ، ولو تمسّكوا بحبل من الناس واستعانوا باحدى الاُمم ممّن له منعة وقدرة يتيسر لهم بواسطتها أن يطردوا عن أنفسهم الذل والهوان ، ويستحصلوا على العز والقدرة ما داموا كذلك.

ولا شك أنّ اُمّة اليهود ما احتلت أرضاً ، وما كسبت سلطاناً ، وما أدركت عزّاً إلاّ بحبل من الناس ومساعدة من الاُمم الكبرى ممّن توافقت أهدافهم العالمية مع مصالح العدو الطريد (2).

« إنّ إسرائيل ليست سوى قاعدة عسكرية مزودة بكافة الأسلحة الحديثة ، اقامتها الولايات المتحدة ، لحماية مصالحها في بلاد العرب ، وأهمّها شركات البترول التي يحتاج بقاؤها والاحتفاظ بها ، إلى نصف مليون جندي امريكي لولا وجود اسرائيل ... فليس من المعقول أن تكون للولايات المتحدة شركات احتكارية في بلد من البلدان ولا يكون إلى جانبها قاعدة حربية أو حلف عسكري يحميها من الثورات والحركات الوطنية ، وقد وجدت في إسرائيل غنى عن القواعد والأحلاف » (3).

أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل وإن اُسّست باسم الدين وصبغت بالصبغة الشريعة

ص: 389


1- سمّي حبلاً لأنّه يعقد به الأمان كما يعقد الشيء بالحبل.
2- قال الطبرسي في تفسير قوله : ( إِلاَّ بِحَبْلٍ ) أي بعهد من اللّه وحبل من الناس أي وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان ، مجمع البيان ج 1 ص 488.
3- من هنا وهناك ص 99.

إلاّ أنّ كثيراً منهم لا يمتون إلى الدين بشيء ، ولا صلة بينهم وبين دين اليهود ، فحكومتهم حكومة ذات نزعة عنصرية طائفية ، مدفوعة بكونهم من أولاد إسرائيل واخلافهم سواء أكانوا مؤمنين بدينه أم كافرين به ، ملتزمين بأحكام التوراة أم لا ، وما تنبّأ به القرآن إنّما هو راجع إلى اليهود الذين آمنوا بشريعة اسرائيل وما بعده إلى موسى والتزموا باُصول دينهم وفروعه ، ووقفوا في وجه سائر الشرائع ، متنسّكين بشريعة ، وليست اسرائيل ومن يعيش في أرضها ، يمثلون هؤلاء ، فهي دولة مادية صبغة باسم الدين وطابعه كما هو واضح لمن لاحظ كتبهم وجرائدهم ومجلاّتهم ، وعلى كل حال فخذلان بني اسرائيل التي يحتّمها القرآن إنّما تكون حتمية فيما لو وقفوا تجاه المسلمين بما هم يدينون بدين اليهود ، لا بما أنّهم يتعصّبون إلى يهوديتهم تعصّباً عنصرياً أعمى من غير تدين.

الجواب الثاني :

ربّما يجاب عن الإشكال بوجه آخر وهو أنّ المراد من ضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم ، والدليل على ذلك قوله : ( أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) فإنّ ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم ، وهو يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية فيؤول معنى الآية إلى أنّهم أذلاّء ، بحسب حكم الشرع الإسلامي إلاّ أن يدخلوا تحت الذمّة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء (1).

غير أنّ هذا الجواب لا يلائم ظهور الآية فإنّ القضاء التشريعي بذلتهم لا يختص بتلكم الطائفة بل يعم أهل الكتاب جميعاً ، وقد أوضحنا أنّ الآية مختصة باليهود.

الجواب الثالث :

إنّ القرآن وإن تنبّأ بضرب الذلّة والمسكنة على اليهود ، غير أنّه تنبّأ أيضاً بعود القدرة والمنعة إليهم في فترة من الزمن ، مرتين فيفسدون في الأرض ، إلى أن يقيّض اللّه

ص: 390


1- الميزان ج 3 ص 384.

رجالاً اُولي بأس شديد ، ينتقم منهم ، ودونك الآيات في سورة الإسراء :

( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) .

( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) .

( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) .

( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) .

( عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) ( الإسراء : 4 - 8 ).

فإنّ الآيات تعرب عن افساد الطائفة المذكورة في الأرض مرتين وانتقام اللّه سبحانه منها بعد كل فساد تقوم به ، ويدل على الفساد الأوّل قوله سبحانه : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) وعلى الفساد الثاني قوله عزّ وجلّ : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) .

أمّا الانتقام الأول فيدل عليه قوله سبحانه : ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) .

أمّا الانتقام الثاني فيدل عليه قوله تعالى : ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) (1).

ثمّ إنّ المفسرين مالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذه الآيات ولم يأتوا بأمر مقنع تطمئن إليه النفس ودونك بعض ما ذكروه من الوجوه :

1. المراد من الفساد الأوّل قتل يحيى بن زكريا ، ومن الانتقام غلبة بخت نصر مع

ص: 391


1- الضمائر كلّها ترجع إلى « عباد اُولي بأس شديد » المحاربين لليهود.

النبطيين على بني اسرائيل ، والمراد من الفساد الثاني غلبة بني اسرائيل على النبطيين مرة ثانية ولم يذكروا المراد من الانتقام الثاني.

2. الفساد الأوّل هو قتل زكريا والثاني هو قتل يحيى بن زكريا ، والانتقام الأوّل تسلّط « سابور » ذي الاكتاف ، والانتقام الثاني هجوم « بخت نصر » على اليهود.

3. المراد من الفساد الأوّل قتل زكريا وغيره من الأنبياء وبالانتقام الأوّل تسلّط « بخت نصر » على اليهود ، والمراد من الفساد الثاني طغيان اليهود بعد اخذ استقلالهم على يد كوروش ، ومن الانتقام الثاني ما وقع بيد « انطياخوس » ملك الروم (1).

وهذه الوجوه وأضرابها مما يحصل من تركيب بعضها مع بعض لا يمكن الركون إليها فإنّها منقولة عن اناس كانوا يأخذون ما يقولونه عن أحبار اليهود وعلمائهم فهي قصص اسرائيلية يجب تنزيه القرآن عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لفظي : ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ) يعرب عن مكانة المنتقمين عند اللّه وأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه وهم عباد ممدوحون له ، وهل يمكن عد نظراء بخت نصر ، ذلك الكافر السفّاك الأثيم الذي اقترف من الجرائم ما لا يعد ولا يحصى ، أو سابور ذي الاكتاف ذلك الرجل القاسي المجرم الذي فعل مع العرب ما فعل ، أو انطياخوس واضرابه ، من العباد الممدوحين وأنّهم كانوا مبعوثين من جانبه سبحانه.

ويليه في الضعف ما يقال انّ المراد من الفساد الأوّل قتلهم أشعيا النبي ، والانتقام الأوّل تسلط جالوت على بني اسرائيل ، ومن الفساد الثاني هو غلبة بني اسرائيل على جالوت.

أو ما يقال من أنّ المراد من أحد الانتقامين ما جرى بيد ادولف هتلر من الاُمور القاسية ، كما اختاره سيد قطب في ظلال القرآن.

إذ كيف يمكن أن يقال أنّ جالوت وعملاق ألمانيا أو غيرهم من الجبابرة كانوا

ص: 392


1- تفسير الطبري ج 15 ص 38 ، ومجلة الهادي العدد الثاني.

مبعوثين من جانبه سبحانه ، فقد حارب جالوت داود ومن معه من صالحي بني اسرائيل وكما حارب طالوت الذي بعثه اللّه ملكاً ، وأمّا عملاق ألمانيا فحدث عن جرائمه ولا حرج.

وما يقال إنّه لما كان تسلّط بخت نصر وقهره لهم جزاء لهم على أعمالهم السيئة فأسنده سبحانه لنفسه وقال : بعثنا عليكم عباداً لنا (1) توجيه لا تركن إليه النفس ، ونضيف إلى ما ذكر أنّ كل هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية لاستلزامها التفكيك بين مراجع الضمائر إذ الظاهر أنّ الضمائر الغائبة في : ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) وفي : ( لِيَسُوءُوا ) و : ( لِيَدْخُلُوا ) و : ( دَخَلُوا ) و : ( لِيُتَبِّرُوا ) يرجع إلى من وصفهم اللّه بقوله ثم : ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ولازم ذلك اتحاد الفئة التي تحارب اليهود في المرة الاُولى مع الفئة المتغلبة عليهم في المرة الثانية ، وإن هناك حربين تقعان بين اليهود وجماعة خاصة ، لا أنّ كل واحد من الحربين تقع مع جماعة غير الجماعة الاُخرى.

وهذا الأمر غير موجود في الوجوه التي ذكروها إذ لم يقع أي إشتباك مجدد بين اليهود وبخت نصر ، أو بينهم وبين سابور ، ولم تصدر كرّة منهم عليهم مجدداً ، أضف إلى ذلك أنّ ظاهر قوله سبحانه وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة أنّ المحاربين لليهود يدخلون المسجد مرتين ويتسلّطون على المسجد الأقصى كما يستفاد من تعريفه باللام ، مرة بعد مرة ، مع أنّ بخت نصر وسابور لم يتسلّطا على المسجد أكثر من مرة ، وما دخلوه أكثر منها.

وعلى الجملة : انّ هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية ويحتمل أن تكون الآيات مشيرة إلى الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة ، ويعلم اللّه سبحانه أنّ أي واحد من الوعدين تحقق ، وأنّ الوضع الحاضر يمثل أيّاً منهما ولا شك أنّهم مزوّدون بالأموال والبنين مضافاً إلى دعم الدول العالمية الكبرى لهم ، وبعد ذلك كلّه فما ذكرناه إنّما هو أحد الآراء

ص: 393


1- الميزان ج 1 ص 40.

المذكورة حول الآية ، ولسنا حاكمين بواحد من هذه الوجوه ، واللّه سبحانه هو العالم.

وعلى أي حال فالتوفيق سهل بين ضرب الذلّة والهوان عليهم ، وبين ما ترى فيهم من القوة والمنعة ، والأوّل من هذه الوجوه هو الأولى.

ختامه مسك :

فلنختم البحث بتنبّؤات وردت في آية واحدة وهي قوله سبحانه : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) .

1. ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) .

2. ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ) .

3. ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( المائدة - 64 ).

ودونك بيانها على وجه الاجمال.

1. الظاهر أنّ الضمير في « بينهم » راجع إلى اليهود المذكورين في صدر الآية وما في المنار (1) من رجوعه إلى اليهود والنصارى المذكور في الآية الحادية والخمسين بعيد جداً بل كان الأولى له عندئذ أن يقول انّه راجع إلى أهل الكتاب الوارد ذكرهم في الآية التاسعة والخمسين ، أي قوله : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ ... ) فالآية حاكية عن تضارب اليهود بعضهم ببعض واختلافهم في المذاهب إلى يوم القيامة ، ويفسره قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ

ص: 394


1- ج 6 ص 457 ، ولو رجع الضمير إلى الاُمتين فلا مانع أيضاً أن يكون المراد تضارب بعض الفرق من كل اُمة مع الاُخرى كتضارب اليهود بعضهم ببعض وتضارب الفرقة الكاثوليكية مع البروتستانت ، أو النسطورية والملكانية واليعقوبية من اُمّة المسيح بعضهم مع بعض.

مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الجاثية : 16 - 17 ).

والفرق بين العداوة والبغضاء أنّ الاُولى عبارة عن البغض الذي يظهر أثره في الخارج ، وأمّا البغضاء فهو مطلق المنافرة وإن لم يستعقب شيئاً من العمل.

هذا إذا قلنا برجوع الضمير إلى اليهود فقط ، وأمّا إذا قلنا بمقالة المنار من رجوعه إلى اليهود والنصارى فالعداوة بينهم غير منقطعة ، وأوضحه صاحب المنار بقوله : « العدواة على أشدها في بلاد روسيا على أقلها في انكلترا وفرنسا والمانيا واليهود أغنى أهلها والمديرون لأرحية أعظم الأعمال المالية فيها ، وهم على مكانتهم هذه مبغوضون في جماهير النصارى ، فكم اُلّفت كتب في فرنسا وغيرها في التحريض عليهم ، قال : « قد أخبرني ألماني من المستشرقين أنّهم لا يعدون اليهودي من بلاده منهم بل يقولون هذه يهودي وهذا ألماني » (1).

نعم تنبّأ القرآن في آية اُخرى باغراء اللّه سبحانه العداوة والبغضاء بين النصارى إلى يوم القيامة قال سبحانه : ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة - 14 ) والعداوة بين فرق النصارى أشد وأوضح لمن زاولهم وطالع كتبهم.

وفي الوقت نفسه فإنّ الآيتان تنبئان عن بقاء دينهم إلى يوم القيامة وهو تنبّؤ آخر تضمّنته الآيتان ، فلاحظ.

2. قوله سبحانه : ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ ... ) فالحرب ضد السلم وهو أعم من القتال والقتال يصدق بالاخلال بالأمن والنهب والسلب وتهييج الفتن والاغراء بالقتال ، وقد أغرى اليهود المشركين بالنبي والمؤمنين وهم الذين حزّبوا الأحزاب على

ص: 395


1- المنار ج 6 ص 457.

رسول اللّه ، حتى قدموا على قريش مكة وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه ، حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود ، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أديننا خير أم دينه ؟قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه (1).

بل منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ويأوي أعداءهم ويساعدهم ككعب الأشراف.

ويمكن أن تكون الآية ناظرة إلى الأعمال الإجرامية التي كانوا يرتكبونها قبل الميلاد وبعده ثم ضد المسلمين.

والمراد من الاطفاء خذلانهم في كل ما يكيدون لرسوله وللمؤمنين ، امّا بخيبتهم في ما يسعون إليه من الاغراء والتحريض ، وامّا بنصر اللّه رسوله والمؤمنين وعلى أي تقدير ، المراد خيبة مساعيهم في الحروب التي يوجهونها على دين اللّه ورسوله والمؤمنين ، بما هم متدينون ومؤمنون باللّه وآياته ، وأمّا الحروب والنيران التي يوقدونها لا لمحق الدين بل لأغراض سياسية ، أو تغلب جنسي ، فهي خارجة عن مساق الآية.

قال الطبرسي : وفي هذا دلالة ومعجزة لأنّ اللّه أخبر فوافق خبره المخبر عنه ، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأساً وأمنعهم داراً حتى أنّ قريشاً كانت تعتضد بهم والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم وتتكثر بنصرتهم ، فأباد اللّه خضراءهم واستأصل شأفتهم واجتث أصلهم ، فأجلى النبي بني النضير وبني قينقاع وقتل بني قريظة وشرّد أهل خيبر وغلب على فدك ، ودان له أهل وادي القرى فمحى اللّه آثارهم صاغرين (2).

3. قوله سبحانه : ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ) فليس الهدف من تقلبهم في البلاد ، السعي وراء صالح الأعمال والأخلاق ، أو اصلاح شؤون الاجتماع ، بل لا

ص: 396


1- سيرة ابن هشام ج 1 ، ص 54 و 55 و 214.
2- مجمع البيان ج 2 ص 221.

يستهدفون إلاّ منع خروج المسلمين من الاُمية إلى العلم ، ومن الوثنية إلى التوحيد ، وهم يحسدونهم في ذلك حباً في دوام امتيازهم عليهم.

وقد قرر القرآن هذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرناً غير أنّا نحسها في يومنا هذا بوضوح ، فإنّ من مخططاتهم تقويض الأخلاق عند الغير ، لأضعافه والسيطرة عليه ، وهل الإباحية والخلاعة إلاّ أحد مخططاتهم التي تتجلى في الأفلام السينمائية والمرابع والحانات وحتى في الساحات العامة.

وفسره سبحانه في آية اُخرى وقال : ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( المائدة - 62 ).

ملاحظة :

هذه هي الأخبار الغيبية الواردة في القرآن ولم نعرضها على وجه التفصيل والاستقصاء ، وإنّما جئنا بها على وجه الاجمال وفي ما ذكرناه غنى وكفاية.

قل لي بربّك هل انخرم واحد من تلكم الأخبار أو تخلّف ، أو كلّها غيب تحققت في المستقبل ، كما أنّ ما سألوا عنه حول أصحاب الكهف وذي القرنين والروح غيب أما تحقق في الماضي أو جار فيه ، وفي الحال كما في السؤال عن الروح وقد أجابهم عن ما سألوه ولم يكن عنده شيء يستند إليه سوى الوحي ، ولم يكذّبوه فيما حدثهم.

وكل واحد من هذه الانباء معجزة كبرى ولو عددت كل ما ورد في الكتاب من الانباء الغيبية على أقسامها ، تبين لك عدد تلكم المعجزات ، ويزيدك اعجاباً بها إذا وقفت على أنّ المتحدث بها اُمّي ربيب البادية لم يحضر على أحد في شيء من تلكم الأخبار والمغيبات.

ويزيدك اعجاباً أكثر أنّ انجيل « متى » تنبّأ بأمر واحد حول المسيح وهو أنّه يبقى مدفوناً في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ، ولكن ما برح انجيل « متى » أن كذّب في

ص: 397

أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الاُخر على أنّ المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفّنها ودفنها ، وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت ، وخرج من قبره ، وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلاّ ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد ، وذلك نهار وليلتان (1).

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ) .

ص: 398


1- مقدمة آلاء الرحمن للعلامة البلاغي.

الفصل السابع: اختصاص العلم بالغيب باللّه سبحانه

اشارة

لقد ورد لفظ الغيب في الذكر الحكيم ، مع بعض مشتقاته أربعاً وخمسين مرة ، وقد عرفت بما أسلفناه ما هو المراد من الغيب ، غير أنّا نريد في المقام أن نتحدث عن ناحية اُخرى لها تعلّق به ، وهي أنّه هل الغيب مختص باللّه سبحانه لا يعدو غيره أو غير مختص به ويتصف به سواه ؟!

والقول الفصل في المقام هو أنّ العلم بالغيب على ضربين :

أحدهما : ما هو مختص باللّه سبحانه لا يشاركه فيه غيره ، ولا يتجاوز إلى سواه ، وأنّ ما جاء في الذكر الحكيم من الاشارة إلى علم الغيب ، لا يراد منه إلاّ هذا ، فقوله سبحانه : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل - 65 ) لا يراد منه إلاّ هذا المعنى المختص به تعالى كسائر أوصافه ونعوته.

ثانيهما : ما يتصف به غيره سبحانه من ملائكته ورسله ومن يظهره على غيبه ، وهذا لا يصح اطلاقه على اللّه سبحانه ، وهذا الانقسام كما يجري في علم الغيب كذلك

ص: 399

يجري في سائر نعوته وصفاته من قدرته وحياته و ... فما يجري منها على الواجب سبحانه لا يمكن تشريك الغير فيه ، ولا يصح اطلاقه عليه ، وما يجري على من سواه لا يصح اطلاقه عليه سبحانه ، ولا يطلق إلاّ على غيره من المخلوقين ، فلنذكر ما يدل على اختصاص العلم بالغيب بالمعنى الأول والذي يمكننا استفادته منه وجوه :

1. قصره على اللّه سبحانه في بعض الآيات :

فمن الآيات الدالّة على الحصر به قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الانعام - 59 ) وقوله تعالى : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل - 65 ).

وأمّا قوله سبحانه : ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ ) ( يونس - 20 ).

وقوله تعالى : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ( النحل - 77 ) وقوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ( هود - 123 ) ، فلا يدل على مانحن بصدده.

إذ المقصود من قوله : ( إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ ) هي الآيات الباهرات والمعجزات التي يستدل بها على نبوّة المدعي وصلته به سبحانه ، وذلك ظاهر لمن أمعن النظر في سياق الآيات. وأمّا قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) فالمراد منه : أنّ الحكومة المطلقة في السماوات والأرض غيبهما وشهادتهما ، باطنهما وظاهرهما ، لله سبحانه ، وأنّه تعالى يملك غيب السماوات والأرض ملكاً لا حدود له ، وله أن يتصرّف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما ، وكيف لا وغيب الشيء لا يفارق شهادته وهو موجود ثابت معه ، وله الخلق والأمر ؟!

ويؤيده ذيل الآية ، وهو قوله : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) والمعنى أنّ الساعة الموجودة ، ليست بأمر محال حتى لا تتعلّق بها قدرة ، بل هي من غيب

ص: 400

السماوات والأرض ، وحقيقتهما المستورة عن الافهام ، في هذا الزمان ، فهي مما استقر عليه ملكه تعالى ، وله أن يتصرف فيه بالاخفاء تارة وبالاظهار اُخرى ، وليست بصعبة عليه تعالى ، فإنّما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لأنّ اللّه على كل شيء قدير.

ومن ذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) فإنّ الآيتين متقاربتان في المعنى والمقصد ، ومفاد صدر الآية : يعني كونه سبحانه مالكاً لغيب السماوات ، علّة لذيلها أعني قوله سبحانه : ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ورجوع الكل إليه ، من غيب السماوات والأرض ، ومن يملك غيبهما قادر على إرجاع الاُمور إليه.

ونظيره قوله سبحانه : ( قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الكهف - 26 ) والمعنى إذا كان سبحانه مالكاً لغيب السماوات والأرض بحقيقة معنى الملك ، وله كمال البصر والسمع ، فهو أعلم بما لبثوا !!.

2. ما يستفاد منه الحصر بمعونة القرائن :

وهناك آيات يستفاد منها الحصر بمعونة القرائن وهي كثيرة مثل قوله في بدء الخليقة عند تفنيد مزعم الملائكة : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة - 33 ) فالآية بصدد تنزيهه سبحانه عن الجهل وترفيعه على من سواه بصفة تختص به سبحانه ولا يشاركه فيها غيره ، وقوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر - 38 ) وقوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة - 109 ) والصيغة في المقام للتكثير لا للمبالغة نظير قوله سبحانه : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( آل عمران - 182 ) والمراد من اللفظين في كلا الموردين هو الانتساب إلى المبدأ أعني الغيب والظلم فيؤول المعنى إلى أنّه المنسوب إلى علم الغيب فقط دون غيره ، أو أنّه لا صلة بينه وبين الظلم.

ص: 401

كقول امرؤ القيس :

وليس بذي رمح فيطعنني به *** وليس بذي سيف وليس بنبال

أي وليس بصاحب نبل ، ولا صلة ونسبة بينه وبين النبل أبداً.

وقد ورد توصيفه سبحانه بهذا اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرات (1) ووزان هذا القسم من الآيات ، وزان قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام - 73 ) وقوله : ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) ( التوبة - 94 ) وقوله : ( وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة - 105 ) إلى غير ذلك مما يبلغ توصيفه في الذكر بهذا النحو عشر مرات (2) ، فإنّ الظاهر من هذا التوصيف بهذه الكثرة هو اختصاصه سبحانه بالعلم بالغيب والشهادة ، على نحو لا يشاركه غيره.

3. سلب العلم بالغيب عن غيره :

اشارة

هذا القسم من الآيات يدل بالملازمة العرفية على اختصاصه به سبحانه ، مثل قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 188 ) ، ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) ( هود - 31 ) (3).

ومن هذه الوجوه الثلاثة يستفاد اختصاص العلم بالغيب به سبحانه وأنّه لا يشاركه فيه غيره ، غير أنّ اختصاصه به سبحانه على الوجه اللائق بساحته لا ينافي إمكان إطلاع الغير على الغيب باذن منه سبحانه.

ص: 402


1- المائدة 109 و 116 ، التوبة 78 ، سبأ 48.
2- الأنعام 73 ، التوبة 94 ، و 105 ، الرعد 9 ، المؤمنون 92 ، السجدة 6 ، الزمر 46 ، الحشر 22 ، الجمعة 8 ، التغابن 18.
3- سيوافيك توضيح مفاد الآية وما يماثلها التي تسلب العلم بالغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله عن قريب فانتظر.

توضيحه : أنّ ما يجري على اللّه سبحانه من صفات ونعوت تختلف عمّا يجري على غيره سبحانه لا بمعنى أنّ للعلم معنيين مختلفين بأحدهما يجري على الواجب وبالمعنى الآخر يجري على الممكن ، فإنّ ذلك باطل بالضرورة إذ ليس للعلم ولا لسائر أوصافه في اللغة والعرف إلاّ معنى واحداً وهو في العلم انكشاف المعلوم لدى العالم بطريق من الطرق ، وكذا الحياة والقدرة والسمع والبصر بل المراد اختلاف المحمول عند الجري على الواجب والممكن من جانب آخر. وهو الاختلاف في كيفية الجري والاتصاف ، فإنّ العلم : منه واجب ، ومنه ممكن منه ذاتي ومنه اكتسابي ، منه مطلق ومرسل عن القيود ، ومنه مقيّد محدود ، منه ما هو عين الذات بلا تعدد بين الوصف والموصوف ، ومنه زائد على الذات وعارض عليه ، وهكذا واللائق من هذه الأقسام بساحته تعالى هو القسم الأوّل.

كما أنّ الصحيح عند الحمل على الموجود الممكن هو الثاني لما تحقق وثبت بالبراهين العلمية أنّ علمه سبحانه مطلقاً بذاته أو غيره ، ذاتي له لا عرضي ، مطلق لا مقيّد. مرسل لا محدود.

وعلى ذلك - فعلمه سبحانه بكل شيء ، عين ذاته ، لا عارض عليه ، فالذات هو نفس العلم والعلم هو عين الذات بلا تعدد ولا اثنينية بين الذات وعلمه ونظير المقام اطلاق علمه ، فعلمه سبحانه مطلق عن القيود ، مرسل عن الحدود ، فلا يحدده كيف ولا يقيّده أين ، مجرد عن الامكان وأحكامه ، منزّه عن التجزئة والمقدار وآثاره إلى غير ذلك من أحكام الممكنات ولوازمها.

فهذه الآيات الدالة على اختصاص العلم بالغيب به سبحانه لا تهدف إلاّ إلى ما يناسب ساحته وهو العلم الواجب الذاتي المرسل المطلق عن الحدود ، الذي لا يشاركه غيره ، لا ما يمكن أن ينعت به الممكن ويتصف به غير الواجب واتصاف الغير بالعلم الامكاني الكسبي منه سبحانه ، المحدود بالزمان والمكان وغيرها من الحدود ، الزائد على ذات الموصوف ، والعارض عليه ، لا يعد نقضاً للحصر ، بل لا يستلزم استثناء عن الحكم

ص: 403

استثناء حقيقياً متصلاً ولا يستلزم مشاركة الواجب والممكن في هذا الوصف ، كاتصاف سائر الموجودات بالحياة والقدرة ، والسمع والبصر وغيرهما من الصفات الثبوتية.

فالغيب المختص به سبحانه إنّما هو هذا النوع من العلم الذي لا يشاركه فيه شيء ، بل يمتنع أن يشاركه فيه أحد لاستلزامه الشرك وتعدد الواجب.

وعليه يحمل كل ما دلّ على أنّ علم الغيب مختص به سبحانه ، فالعلم بالغيب الذي هو عين ذاته سبحانه الذي لا يحده شيء ، ولا يقيده قيد ، مخصوص به تعالى ، لا يشاركه في هذا العلم أحد من خلقه ، بل العلم بالشهادة على هذا الوجه أيضاً مختص به ، كما قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام - 73 ) إلى غير ذلك ممّا يلمح إلى انحصار كلا العلمين فيه سبحانه.

وهذه قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآيات الدالة على اختصاص علم الغيب به سبحانه ، هو ما يليق بساحة الواجب الذي لا يشاركه فيه أحد ، وإلاّ فالعلم بالشهادة على غير الوجه الذاتي ، وغير المطلق المرسل عن القيود ، بأن يكون محدوداً ومقيداً وعرضياً ، فغير مختص به ، بل يوجد عند كل من أعطى له الإدراك والشعور ، وقدرة الاتصال بالخارج ، فما دل على انحصار كلا العلمين ( العلم بالغيب والشهادة ) فيه سبحانه إنّما يراد منه ما يليق بساحته عزّ وجلّ.

هل يمكن للانسان الاطلاع على الغيب :

إنّ في وسع المولى سبحانه أن يظهر على غيبه من شاء من عباده ويطلعه على ما حدث وغبر ، أو يحدث ويتحقق من ملاحم وأحداث وفتن أو غيرها ، في حين أو أحايين ويوقفه على ما لم يره ولم يشهده ، وليس في ذلك أي تصادم مع اختصاصه باللّه ، فهو يعلم الغيب بالأصالة ، وغيره بتعلّم منه ومن طريق التبعية.

قال الشيخ الرئيس في اشاراته ما هذا لفظه : « التجربة والقياس متطابقان على أنّ للنفس الانسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما ، في حالة المنام ، فلا مانع من أن يقع مثل

ص: 404

ذلك النيل في حال اليقظة إلاّ ما كان إلى زواله سبيل ، ولارتفاعه إمكان ، أمّا التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به ، وليس أحد من الناس إلاّ وقد جرب ذلك في نفسه ، تجارب ألهمته التصديق اللّهمّ إلاّ أن يكون أحدهم فاسد المزاج ، نائم قوي التخيل والتذكر ، وأمّا القياس فاستبصر فيه من تنبيهات » ثم ذكر بعض التنبيهات لاثبات ما ارتآه (1).

وقد صرّح بذلك في آيات :

الاُولى : قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) ( الجن : 26 - 28 ) فمعناه أن الغيب كلّه مختص به ، لا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فيظهر رسوله على ما شاء من الغيب ، فهذه الآية إذا انضمت إلى قوله سبحانه : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل - 65 ) يتضح أنّ الهدف من الآية ، اختصاصه به على وجه الأصالة والذاتية ، واطلاع الغير بتعليم منه سبحانه وليس ابطالاً له بل استثناء منه يشبه الاستثناء المنقطع ، فإنّ علمه بالأشياء بالأصالة وعلم غيره بالتبعية ، والعلم التبعي الاستنادي ، لم يكن داخلاً فيه ، حتى يحتاج إلى اخراجه إلاّ بضرب من التأويل ، لتشابه بين العلمين من بعض الجهات وإن افترقا من جهات شتى ، فصح أن يقال : إنّ العلم بالغيب مختص به سبحانه وفي الوقت نفسه يظهر على غيبه بعض عباده من دون أن يمس كرامة اختصاصه به.

ونظير المقام قوله سبحانه : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر - 42 ) فهو ظاهر في أنّ التوفّي منحصر في اللّه سبحانه مع أنّه سبحانه أسنده إلى ملك الموت في مورد وإلى رسله في مورد آخر ، وقال : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ( السجدة - 11 ) فالتوفّي وأخذ الأرواح والنفوس ، من فعل اللّه سبحانه على وجه

ص: 405


1- راجع الاشارات والتنبيهات النمط العاشر ج 3 ص 399.

الأصالة ومن فعل غيره على وجه التسبيب والتبعية ، ومع ذلك لا ينافي اختصاصه به سبحانه على الاطلاق لاختلاف الفعلين من جهة وتشابههما من جهة اُخرى.

نعم ما يظهره على رسوله من الغيب لما كان في مظنة التغيير لم يكتف بنفس الاظهار والاعلام بل عين له رصداً وحفظة يحفظون ما يلقى إليه ، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) .

ولما كان علم الرسول بالغيب محاطاً بعلمه سبحانه قال : ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ) أي ما لدى الأنبياء والخلائق وهم لا يحيطون إلاّ بما يطلعهم اللّه عليه فقد : ( وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) .

ثمّ إنّه وإن خصص العام في هذه الآية بالرسول حيث قال : ( إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) إلاّ أنّه لا يأبى عن ورود مخصص آخر عليه فإنّه سبحانه كما أظهر غيبه على رسله ، أظهره على أنبيائه الآخرين حيث قال سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) ( النساء - 163 ) والوحي أحد مصاديق الغيب على ما عرفناك.

هذا إذا قلنا باختلاف الرسول والنبي في المصداق وأنّ بين اللفظين حسب المصداق عموم مطلق أو عموم من وجه ، أمّا إذا قلنا باختلافهما في المفهوم وتساويهما في المصداق كما هو غير بعيد ، فلا يلزم تخصيص آخر.

ومن هنا يظهر الحال في علم خلفاء الرسول بالغيب فإنّهم علیهم السلام لما جعلوا مصدر علمهم بالغيب ، التعلّم من ذي علم وهو الرسول والوراثة منه (1) لا يلزم عندئذ تخصيص آخر على الآية ، غير أنّ كون مصدر علمهم منحصراً فيها لا يخلو من غموض لما سيوافيك من كونهم علیهم السلام محدثين - بالفتح - فانتظر.

وربّما يقال : انّ المراد من الغيب في قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) ( الجن - 26 - 27 ) وهكذا في نظائره ممّا استدل به على جواز تعرّف النبي صلی اللّه علیه و آله على الغيب ، هو الوحي القرآني الذي نزل على قلب

ص: 406


1- وقد عقد الكليني في اُصوله باباً لذلك فراجع ج 1 ص 223.

النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ، وإنّما الخلاف في تعرّفهم على الغيب ، من غير هذا الطريق ، وممّا يدل على ما استظهر ، قوله سبحانه في عدة مواضع من القرآن : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) فلاحظ ( آل عمران - 44 ، ويوسف - 102 ، وهود - 49 ).

والاجابة عنه سهلة بعد الوقوف على معنى الغيب في اللغة والعرف ومصطلح القرآن في غير هذه المواضع ويتضح الجواب بملاحظة اُمور :

1. أنّ الغيب يطلق في اللغة على الأمر الغائب عن الحس في مقابل الشهود الذي يطلق على المعنى المحسوس بأحد الحواس ، وإذا اُطلق على الوحي كلمة الغيب فإنّما هو بسبب خفاءه عن حواسنا كالحوادث الغائبة عن حواسنا الواقعة في هذا الكون وعندئذ فما هو المبرر لتخصيص كلمة الغيب بالوحي فقط.

إنّ القرآن الكريم يجعل أحد علائم المتقين في كتابه هو ( الإيمان بالغيب ) حيث يقول : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) فهل يسوغ المعترض لنفسه تفسير الغيب في الآية بالوحي فحسب ؟ في حين أنّ الغيب هنا يحمل معنى واسعاً يكون الإيمان بالقيامة والوعد والوعيد أحد مصاديقه أيضاً ، التي يؤمن بها المتقون رغم عدم إدراكهم لها بالحواس ، أضف إلى ذلك أنّ الغيب في اللغة بمعنى الأمر الغائب عن الحس مقابل ( الشهادة ) ، ومن هنا يقول القرآن في وصفه سبحانه : ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وليس المراد منه خصوص الوحي قطعاً ، واطلاق الغيب على الوحي ، ليس لأنّ الوحي هو معناه ، بل لأنّ الوحي هو من بعض مصاديقه باعتبار عدم ادراكنا له بالحس أيضاً ، فهذا الاشتباه من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم في مصطلح العلماء ، وقد تصور المعترض أنّ الغيب بمعنى الوحي فقط بينما ليس الوحي إلاّ أحد مصاديق الغيب حسبما عرفنا الآن ، وقد ورد لفظ الغيب في القرآن الكريم أربعاً وخمسين مرّة ولم يقصد فيه إلاّ الاُمور الغائبة عن الحس أيضاً حتى الآيات التي استدل بها المعترض على ما يقوله من تفسير الغيب بالوحي فقط.

إنّ هذه الآيات تشير إلى قصص مريم ويوسف ونوح التي لم تكن معروفة عند

ص: 407

الناس بشكلها الصحيح ، فبيّنها القرآن لهم بالشكل المطلوب الصحيح ، وفي الواقع كان الوحي هنا أحد طرق معرفة الغيب ، لا أنّ الغيب موضوع للوحي خاصة ، ولعلك لا تعثر في القرآن كلّه على موضع واحد اُطلق فيه لفظ الغيب واُريد منه الوحي فقط وإليك بعض النماذج :

( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( البقرة - 33 ) ، ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) ( الأنعام - 59 ) ، ( أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ ) ( سبأ - 14 ) (1).

2. إنّ كلمة ( الغيب ) في قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) ( الجن - 26 ) بمعنى الاُمور الغائبة عن الحس كما قدمناه وليست بمعنى الوحي كالقرآن مثلاً ، وذلك لأنّ الآية السابقة (2) قد عرضت موضوع اطّلاع النبي صلی اللّه علیه و آله على موعد القيامة وكانت الآية قد نفت - بلسان النبي صلی اللّه علیه و آله - مثل هذا الاطّلاع عنه صلی اللّه علیه و آله ، وحين يأتي بعد هذا النفي المباشر قوله سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) .

يكون موضوع القيامة داخلاً في اطار كلمة ( الغيب ) المستعملة في الآية أيضاً وتكون الآية الأخيرة بمثابة تعليل لما تقدم في الآية السابقة من نفي العلم بموعد القيامة عن النبي صلی اللّه علیه و آله بجعلها من علم الغيب المختص باللّه سبحانه ولا يمكننا بعد ذلك تفسير ( الغيب ) في الآية بخصوص الوحي ، لأنّ سياق الآية يمنع من إخراج العلم بموعد القيامة عن مورد الآية. وإذا كان العلم بموعد القيامة ممّا تتضمنه الآية أيضاً حسب السياق ، لا يمكننا استثناء سائر المواضيع الغيبية من هذه الآية ، وحينئذ يكون معنى الآية كما يلي :

( أنّ اللّه عَالِمُ الْغَيْبِ - كل من غاب عن الحس من وحي وغيره - فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) . وتكون الآية دليلاً واضحاً على اطّلاع

ص: 408


1- راجع المعجم المفهرس.
2- تقول الآية السابقة : ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ ... ) .

النبي صلی اللّه علیه و آله على الغيب من وحي وغيره بأمر من اللّه تعالى.

3. إنّ المفسرين فسّروا الغيب في الآية المبحوث عنها من ( سورة الجن ) بالاُمور الغائبة عن الحس ، وأيدوا بها اطّلاع الأنبياء على هذه الاُمور ، ويعلل طائفة من هؤلاء المفسرين كالطبرسي والقرطبي وصاحب ( روح البيان ) اطّلاع الأنبياء على الغيب بأنّ ذلك دليل متمّم على صدق رسالتهم ، ومعجزة لهم ، حيث إنّ علمهم بالغيب سبب لوثوق الناس بهم ، ودليل على ارتباطهم بالسماء. وبعد هذا هل يمكن تخطئة جميع هؤلاء المفسرين وتصحيح ما قاله المعترض فقط ؟!

إنّنا راجعنا التفاسير التالية فوجدناها جميعاً تفسر ( الغيب ) بكل أمر غاب عن الحس مطلقاً ولم يفسر أحد منهم الغيب بالوحي خاصة وإليك أسماء التفاسير التي راجعناها مع أرقام الصفحات والمجلدات : تفسير التبيان للشيخ الطوسي 10 / 158 ، ومجمع البيان للطبرسي 10 / 374 ، تفسير ابن كثير 4 / 433 ، تفسير القاضي البيضاوي ص 445 الطبعة الحجرية ، تفسير جوامع الجوامع للطبرسي ص 514 ، الكشاف 4 / 633 ، زاد المسير لابن الجوزي 7 / 385 ، تفسير القرطبي 10 / 6819 ، تفسير الجلالين ص 766 ، الطنطاوي 24 / 281 ، المراغي 29 / 106 تفسير گازر 10 / 191 ، في ظلال القرآن 29 / 162 ، تفسير القمي ص 700 ، الصافي 2 / 753 ، تفسير شبر ص 1164 ، مقتنيات الدرر 11 / 273 ، منهج الصادقين 10 / 4 ، روح البيان 10 / 201.

الثانية : قوله سبحانه : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران - 179 ) فهو بظاهره يفيد أنّ اللّه سبحانه لا يظهر على غيبه أحداً من الناس ليعلم ما في قلوب الآخرين ، ويميز المؤمن من المنافق ، ولكن يختار من يشاء من رسله فيوقفه على الغيب ويطلعه عليه.

ولا يتوهّم أنّ المقصود من الغيب هو الوحي القرآني فإنّه لا يناسب مفاد الآية إذ

ص: 409

المقصود من ( الخَبِيثَ ) هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، كما أنّ المقصود من ( الطَّيِّبِ ) هم المؤمنون الحقيقيون.

إنّ اللّه تعالى يلفت أنظار الاُمّة في مطلع هذه الآية بأنّه تعالى سوف لا يدع الاُمّة بهذا الشكل المختلط من المؤمنين والمنافقين بل أنّه تعالى سيميز بين الفريقين بأحد الطريقين التاليين :

1. فرض الامتحان والابتلاء عليهم جميعاً وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان فيعرف المؤمن من المنافق.

2. عن طريق علم الغيب وذلك بأن يطلع نبيه على شؤون المؤمنين والمنافقين والفوارق بينهما ، ولكن هذا الطريق مختص بالنبي والأنبياء فقط ، وليس كل الأنبياء ، بل اُولئك الذين يجتبيهم اللّه من أنبيائه ورسله. ولقد أشار الى هذه الحقيقة بقوله : ( مَا كَانَ اللّهُ ) . ويتضح من ذلك كلّه أنّ ليس المقصود من الغيب في هذه الآية هو الوحي المصطلح ، بل معناه الاطّلاع على المواضيع الخارجية مثل تمييز المنافق من المؤمن ، لأنّه لو كان المراد منه الوحي المصطلح ما كان هناك داع لتخصيصه بطائفة من الرسل ، في حين أنّ جميع الأنبياء ينزل عليهم مثل هذا الوحي.

أضف إلى ذلك أنّ الهدف من اطّلاع الأنبياء على الغيب هنا ، حسبما يدل عليه السياق هو تمييز المؤمن من المنافق ، ولا يكون هذا إلاّ بأن يطّلع النبي صلی اللّه علیه و آله على كل شؤون المنافقين ويعرف كل فرد منهم ، والقرآن وإن بين بعض صفات المنافقين على وجه العموم ، ولكنّه لم يعرفهم بشكل تفصيلي يؤدي إلى التمييز بينهم وبين المؤمنين ، والدليل على أنّ المقصود من الآية هو معرفة المنافقين تفصيلياً هو ما يرويه التاريخ من أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله عرف جميع المنافقين يوم تبوك وعرّفهم لحذيفة (1) أيضاً. ولقد تحقق مفهوم هذه الآية : ( حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) بمعرفة النبي صلی اللّه علیه و آله للمنافقين ، عن طريق تحقق

ص: 410


1- لاحظ المصادر التالية : تاريخ بغداد ج 1 ص 161 ، اُسد الغابة ج 1 ص 319 ، الاستيعاب ج 1 ص 277 ، الدرجات الرفيعة ص 284 وغيرها وقد عرف حذيفة بأنّه صاحب سر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

محتوى هذه الآية.

إنّ من يمعن النظر في الآية يذعن بأنّه ليس المقصود من « الغيب » فيها وحي السماء بل المقصود هو : معرفة الخبيث ( المنافق ) من الطيب ( المؤمن ) الحقيقي ، ومثل هذه المعرفة التفصيلية لا تحصل عن طريق الاُمور الكلية والعامة ، بل لا بد من طريق آخر يعرّفهم النبي ثم يعرّفهم للآخرين.

الثالثة : قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) ( التكوير : 23 - 24 ) ، المراد من « الغيب » هو الوحي النازل عليه والمعنى أنّه لا يبخل بشيء مما يوحى إليه ، فلا يكتمه ولا يحبسه ولا يغيره ، بل يبلّغ الناس على النحو الذي اُمر بابلاغه فتدل الآية على اطّلاعه على الغيب.

الرابعة : قوله سبحانه : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) وقد تكررت الآية في الذكر الحكيم فراجع آل عمران - 44 ، يوسف - 102 ، وقال سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ) ( هود - 49 ) وعلى أي تقدير فتدل هذه الآيات الأربعة على أنّه سبحانه يظهر غيبه على رسوله ويطلعه عليه ، وعلى الأنباء الغيبية مما لم يكن يعلمه لا هو ولا قومه.

وقد استدل في بعض الروايات على اطّلاع النبي والأئمة على الغيب بقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) ( الدخان : 3 - 5 ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... ) ( القدر : 1 - 5 ).

ونقلها الكليني في اُصوله (1) عن الحسن بن العباس بن الحريش وقد عرفت حال الرجل وأنّه لا يلتفت إليه ولا يكتب حديثه وأنّه ... (2).

ص: 411


1- الكافي ج 1 ص 245 - 249.
2- راجع ما أسلفناه ص 342 - 343 من كتابنا هذا ، وجامع الرواة ج 1 ص 205 وقاموس الرجال ج 3 ص 182 - 183.

نعم استدل بعض الأكابر (1) على عموم علم النبي والأئمة من أهل بيته لكل غابر وحادث بل على فعلية علومهم بكل شيء بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ( الأحزاب - 33 ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 33 ).

حيث قال : « إنّ عموم إذهاب الرجس والتطهير والاصطفاء ، الظاهري والباطني والتنزيه عن شوائب الكدر ، وظلمات الجهل والسهو دال على كلّ من المطلوبين من عموم علمهم وفعليته » لكن في دلالة الآيتين على المطلوب خفاءً.

أمّا الاُولى : فإنّ دلالتها على اعتصام أهل البيت بالعصمة الالهية في غاية الظهور على ما هو مقرر في محله ، وأمّا دلالتها على سعة علمهم وفعليته ففيه خفاء تام ، فإنّ الرجس هو الشيء القذر يقال : رجل رجس ، ورجال أرجاس ، والقذارة أمر وجودي توجب تنفر النفس من الشيء المتلبس بها وهي إمّا بحسب ظاهر الشيء كما في الخنزير كقوله سبحانه : ( إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) ( الأنعام - 145 ) ، أو بحسب باطنه وهي القذارة المعنوية كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق والخمر والميسر بما لهما من الآثار الموبقة ، قال سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) ( التوبة - 125 ) ، وقال عزّ وجلّ : ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( الأنعام - 125 ) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة - 90 ). والمتفحص في موارد استعماله يذعن بأنّه أمر وجودي في الشيء إمّا بحسب ظاهره مما يدركه الناس أو باطنه مما يجب أن ينبه عليه من جانب العقل أو الشرع ، والغاية من إذهاب الرجس عنهم هو إزالة كل صفة خبيثة في النفس ، تدعو إلى الاعتقاد الباطل أو العمل السيء في مقابل العصمة الالهية ، التي هي هيئة

ص: 412


1- السيد عبد الحسين النجفي الشيرازي.

علمية نفسانية ، تصون الانسان عن الزلل في الرأي والقول والعمل.

أمّا الجهل بالشيء مطلقاً خصوصاً الجهل بالفتن وملاحم أحداث وكل ما يجري في الكون من نوازل أو ملمات أو ما يحكم فيه من نواميس وقوانين فليس أمراً وجودياً أو هيئة في النفس ، يورث التنفّر والتجنب ، حتى يدل إذهاب الرجس على إذهابه فلو جهل الانسان بنواميس الكون والقوانين السائدة في الأفلاك لا يعد جهله هذا رجساً ، أترى من نفسك أن جهل الفقيه بالمعادلات الجبرية والقوانين الطبية رجس ، أو جهل الأديب بفنون الصنايع رجس ؟

وأمّا عد الإلحاد والشرك من الرجس ، فليس لأجل كون الملحد والمشرك جاهلاً باللّه سبحانه وصفاته بل لأجل تعلق قلبه بأمر باطل لا يعدو كونه أمراً وجودياً وإن كان يجتمع مع الجهل أيضاً (1).

وأمّا الآية الثانية : فلأنّ المراد من الاصطفاء هو أخذ صفوة الشيء وتخليصه ممّا يكدر ، فالمناسب له ، هو اصطفاؤهم من الزلل في الرأي والقول والعمل الذي هو عبارة عن العصمة الالهية وهي الجهة الجامعة الوحيدة بين المصطفين أعني آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ، فإنّ المراد من آل إبراهيم هم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسماعيل والطاهرون من ذريتهما ، كما أنّ المراد من آل عمران هي مريم وابنها المسيح أو هما وزوجة عمران بقرينة ذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنته بعد الآيتين. وعلى أي تقدير فالمراد اصطفاؤهم من كدر الشرك وقذارة الذنوب وتطهيرهم من مساوئ الأعمال وقبائحها ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران - 42 ).

نعم إنّ اللّه سبحانه وإن اصطفى آدم بتعليمه الأسماء حين قال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ( البقرة - 31 ) لكنّه اصطفاه باُمور اُخرى أيضاً فهو أوّل خليقة وطأ الأرض من النوع الانساني قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ

ص: 413


1- راجع المفردات للراغب ص 188 والميزان ج 16 ص 330.

فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة - 30 ) ، وأول من اجتباه بقبول توبته قال سبحانه : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) ( طه - 122 ) إلى غير ذلك من خصائص ومناقب ، كما أنّه اصطفى نوحاً بجعله أوّل الخمسة من اُولي العزم أصحاب العزائم القوية والشريعة لقوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) ( الشورى - 13 ) إلى غير ذلك ، واصطفى إبراهيم وآله باُمور وخصال يجدها المتفحص في سيرتهم المذكورة في القرآن.

لكن الجهة الجامعة المشتركة بين الجميع في الآية ، التي يمكن أن يكون الاصطفاء لأجلها ليست إلاّ العصمة الالهية ، أعني التطهير من الذنوب وكدر الشرك أو هي مع النبوّة في غير مريم ، لا ما يختص بكل واحد منهم من صفات وخصال كتعليم الأسماء لآدم مثلاً حتى تكون الآية ناظرة إلى اصطفاء المذكورين في الآية بتعليمهم كل شيء واطلاعهم على كل أمر ، ويدل بالنتيجة على اطلاع النبي وآله على الغيب.

القرآن يدل على تحقق التنبّؤ من الأنبياء والصالحين :

ما مر عليك من الآيات تدل بصورة كلية على أنّ رجال الوحي يمكنهم الاطّلاع على الغيب والتطلع على ما ليس بمشهود لغيرهم ، هلم معي نتدبر في الآيات التي تدل على تحقق التنبّؤ عنهم في مواقف شتى.

ولنقدم كلمة ، وهي : أنّ كل ما أتى به الرسول صلی اللّه علیه و آله من اُصول وفروع وقصص و ... كلّها أنباء غيبية أظهره اللّه عليها قال سبحانه في شأن النبي الأعظم : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( هود - 49 ) فأي غيب أعلى وأجلى ممّا أظهر نبيه عليه من القرآن المبين الذي يعد بنفسه نبأً غيبياً ويحتوي من الإخبار بالمغيبات الوافرة ما لا يعد ولا يحصى ، فكل ما جاء به في مجالات مختلفة ، غيب بلفظه ومعناه أطلعه اللّه عليه وأوحاه إليه بصورته ومادته ، إذ المفروض أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه والمعجزات احدى المغيبات.

وعلى كل تقدير أنّ القرآن يدل بفضل نصوصه على أخبار غيبية ، تنبّأت بها ثلّة

ص: 414

جليلة من عباده المخلصين من انبيائه ورسله وخيار عباده وان اللّه أظهر من علمه المكنون ما كان خفياً ، على بعض رسله وانبيائه وثلّة من أوليائه ودونك ما وقفنا عليه عند التدبر في الذكر الحكيم.

1. النبي آدم علیه السلام والاطلاع على الغيب :

قال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة : 31 - 33 ).

والنظر الدقيق في هذه الآيات الثلاث يقودنا إلى أنّه سبحانه أطلع نبيه آدم علیه السلام على جملة من الحقائق كان يغيب علمها عن الملائكة وقد أخبر آدم - بأمر من اللّه - الملائكة عن هذه الحقائق التي عبر عنها القرآن بالأسماء ، وليس المراد من الأسماء في الآية : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) أسماء الأشياء فقط فإنّ معرفة الأسماء لا تعد فضيلة لآدم علیه السلام .

وإنّما المقصود منها مسمّياتها - أي حقائق الأشياء - وعلى هذا علمه سبحانه أسرار الخليقة فاطّلع على خواص الأشياء وآثارها فصارت نتيجة تعليم الأسماء لآدم علیه السلام هو نصب الحقائق الكونية بين يديه وإخباره عن واقع الحياة (1). والاتيان بضمير الجمع المذكر العاقل في قوله تعالى : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ ) دون الاتيان بضمير المفرد المؤنث يدل على ما قلناه فلو كان الهدف تعليم نفس الأسماء لآدم علیه السلام فحسب لكان ضمير المفرد المؤنث جديراً بالمقام. وهذه الآيات الكريمة دلّت على وجود علم الغيب الفعلي عند آدم علیه السلام وذلك لأنّ الاطّلاع على الغيب

ص: 415


1- قد نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ج 1 ص 76 طبع صيدا ، أقوال المفسرين حول المراد من الأسماء واختار ما ذكرناه.

والإخبار عن شؤون البشر في المستقبل ، والايحاء إلى الملاحم والفتن ليس بأعلى من الوقوف على حقائق المسمّيات التي كلت دون إدراكها ملائكة اللّه سبحانه حتى أنبأهم وأطلعهم عليها.

2. تنبّؤ نوح علیه السلام :

قال سبحانه : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) ( نوح : 26 - 27 ).

لقد سار شيخ الأنبياء نوح علیه السلام باُمته سيراً سجحاً وتحمّل في سبيل دعوته المحن والكوارث ، وجابه ضوضاء الشرك بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يئس من إيمانهم ، فدعا ربّه بإهلاكهم وإبادتهم مخبراً عن مآل قومه ومن يرثهم وذلك كما تقدم في الآية ، أوليس هذا إخباراً عن عواقب اُمورهم وأخلافهم ، وأنّه لن يؤمن أحد منهم ولا من أخلافهم ؟

ولعل المعترض يقول : إنّ نوحاً بعد أن قضى ردحاً مديداً من الزمن مع قومه ، رأى أنّ البيئة الاجتماعية أصبحت منحرفة إلى درجة لا تسمح مطلقاً بمقتضى علمه العادي أن يوجد فيها فرداً صالح وهذا أمر متصور. أو أنّه وقف على مآل أمر قومه ، بعد إخباره سبحانه بذلك كما قال : ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( هود - 36 ).

أقول : هب أنّه فهم مآل قومه من القرائن أو من اخباره سبحانه لكنّه من أين وقف على أحوال خلفهم وإن من يرثهم لا يكون إلاّ فاجراً كفاراً ؟ وليس ذلك إلاّ بتعليم من اللّه واظهاره على نبيه باحدى الطرق.

3. إبراهيم علیه السلام وملكوت السماوات والأرض :

إنّ القرآن يصف إبراهيم بصفات كثيرة ويشرح أمره في بدء الدعوة ويقول :

ص: 416

( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام - 75 ).

فالملكوت هو الملك كالطاغوت والجبروت وإن كان آكد بالنسبة إلى الملك كما أنّ الطاغوت والجبروت آكد بالنسبة إلى الطغيان والجبر والجبران.

والمراد من اراءة ملكوت السماوات والأرض لإبراهيم هو توجيه نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه استناداً لا يقبل الشرك بحيث عاد إبراهيم بعد تلك الاراءة فحكم أنّ ليس في صفحة الوجود ربّ غيره سبحانه يتولى تدبير النظام وإدارة الاُمور حتى صار من الموقنين.

وهذه الاراءة لا تقل عن علم الغيب بما هو خارج عن إطار الحس لو لم يكن أشرف منه.

وللبحث حول قصة إبراهيم ودلائله الباهرة في إبطال ربوبية الأجرام السماوية والأرضية مجال آخر قدمنا بعضه في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة (1).

4. اطّلاع لوط علیه السلام على الغيب :

هذا هو لوط أحد الأنبياء ، المعاصر لإبراهيم فقد اطّلع على مسير قومه وهلاكهم في وقت الصبح عن طريق جنود ربّه ورسله قال سبحانه :

( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ( هود - 81 ).

فلو أخبر هذا النبي الكريم بطانته الصالحين بأنّ قومه سيهلكون في الصبح وأنّ موعدهم هو ذاك الوقت ، يصح أن يقال : إنّه مخبر عن الغيب وعالم به وإن كان علمه

ص: 417


1- لاحظ الجزء الأول ص 132 - 143.

محدوداً ومتناهياً ، مكتسباً غير ذاتي.

5. تنبّؤ يعقوب علیه السلام :

قال سبحانه : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ للإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( يوسف : 4 - 6 ).

تدل الآيات على أنّ يعقوب علیه السلام فسر رؤيا ولده يوسف ، مخبراً عن حقيقة مستورة من خلال تلكم الرؤيا وكانت تلك الحقيقة وصول ولده يوسف إلى المقام الشامخ في الدنيا ، والاطلاع على الواقع من خلال الرؤيا وهو لون من الاطّلاع على الغيب ، خص تعالى بعض عباده بهذا الفضل.

لمّا طلب اخوة يوسف من أبيهم يعقوب أن يرسل يوسف حتى يرتع ويلعب معهم ، أجابهم يعقوب بقوله : ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) ( يوسف - 13 ) ، أفليس قوله : ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ) تنبّؤً بفكرتهم الشيطانية في حق يوسف كيف وقد حكاه سبحانه عنهم بقوله : ( يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) ( يوسف - 17 ).

ثمّ أنّ يعقوب لمّا سمع تقولهم في حق أخيهم عاد يكذّبهم بقوله : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) ( يوسف - 18 ) قائلاً : بأنّ يوسف حي يرزق ولم يأكله الذئب أوليس هذا إخباراً عن ما وراء الحس ؟

ولا غرو في ذلك فإنّ اللّه يصف نبيه يعقوب بقوله : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف - 68 ).

ولأجل تلك المكانة لما أخبر الاخوة بأنّ ابنه ( أخا يوسف ) سرق ، كذّبهم أو كذّب

ص: 418

الخبر بأنّه : ( سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) ( يوسف - 83 ).

ولمّا اعترض أولاده على بكائه بقولهم : ( تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ ) أجابهم بقوله : ( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ( يوسف : 85 - 87 ).

هذه تنبّؤات نبي اللّه يعقوب فيعرب عن صدق قوله سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ) كما يدل على صدق قوله : ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

أفبعد هذه التنبّؤات يصح لقائل أن ينفي علمه بالغيب بتاتاً.

أضف إلى ذلك قوله : ( عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف - 83 ).

مخبراً عن حياة يوسف وأخيه وأنّه وأخاه سوف يأتي اللّه بهما.

وهكذا قوله سبحانه :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ ) ( يوسف : 93 - 94 ).

فلو لم يك يعقوب علیه السلام عالماً بمصير يوسف ولم يدر عما بلغ إليه ولده من جلال وعظمة ، ولم يك مطلعاً على تعرف الاخوة على أخيهم ورجوعهم بخبره السار ، كيف يقول : ( إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) أليس هذا علماً بالغيب وهبه اللّه لنبيه المبتلى يعقوب ؟

6. تنبّؤ يوسف علیه السلام :

قال سبحانه : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ

ص: 419

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ( يوسف - 101 ).

والآية تصرح بأنّ اللّه سبحانه علم نبيه يوسف علیه السلام تفسير الرؤيا وتأويلها وذلك قسم من علم الغيب.

وقال سبحانه : ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ * ... يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) ( يوسف : 36 - 41 ) وتحقق الأمر الذي أخبر عنه يوسف علیه السلام فنجى أحدهما وأصبح ساقي البلاط بينما اُعدم الثاني ومن الوضوح بمكان أنّ هذا اللون من التفسير للرؤيا هو قسم من الغيب الذي نطق به يوسف علیه السلام .

وقال سبحانه : ( وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ ... * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) ( يوسف : 43 - 49 ).

وفي هذه القصة يخبر يوسف علیه السلام عن ثلاثة اُمور غيبية وذلك ضمن تفسيره لرؤيا الملك وهذه الاُمور هي : 1. ينعمون بسبع سنوات مليئة بالبركات والخيرات ويتحسن وضعهم الزراعي. 2. يصابون بعدها بسبع سنوات جدب حيث تغلق عنهم أبواب الرحمة. 3. وفي الخامسة عشر من هذه السنين تعود إليهم النعم والخيرات من جديد وتفتح عليهم أبواب الرحمة.

ص: 420

7. صالح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب :

قال سبحانه : ( وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ( هود : 64 - 65 ).

أخبر نبي اللّه صالح علیه السلام بمصير قومه السيء إذا مسوا الناقة بسوء ، تلك الناقة التي كانت تمثل معجزته حين دعاهم إلى اللّه وإلى التصديق بنبوته ، وهكذا يتحقق ما أخبر به هذا النبي عن مصير قومه بعد أن عقروا الناقة فيأتيهم البلاء بعد ثلاثة أيام فقط كما قال تعالى : ( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) ( الذاريات : 43 - 44 ) وأي غيب أعظم من هذا يا ترى ؟

8. اطّلاع سليمان علیه السلام بالغيب :

قال سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ ) ( النمل - 16 ) وهل معرفة داود وسليمان منطق الطير إلاّ قسماً من الغيب ؟

وقال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) ( النمل : 18 - 19 ).

ألا يعد اطّلاع سليمان على لسان النمل من علم الغيب ؟ ثمّ ألا يكون هذا خرقاً للعادة البشرية ؟

وقال سبحانه : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * ... فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) ( النمل : 20 - 22 ).

ص: 421

وهل الاطّلاع على لسان الهدهد إلاّ اطّلاع على الغيب ؟

9. المسيح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب :

قال سبحانه : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) ( آل عمران - 49 ).

طفق المسيح علیه السلام ينبئ قومه - بإذنه سبحانه - بأسرارهم وما كانوا يدّخرون في الصيف لشتائهم بمقداره ولونه وحقيقته. وكان ذلك إحدى معجزاته.

وكذا قوله :

( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف - 6 ).

أليس في إخبار عيسى علیه السلام وتبشيره بقدوم النبي محمد صلی اللّه علیه و آله بعد ستمائة عام إخباراً عن الغيب ؟

ونظيره ما ورد في العهدين حول نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله من ذكر أسمائه وصفاته وما يحل به وبأولاده واُمته وغلبة دينه على جميع الشرائع ، فإنّ تلكم البشارات الواردة فيها مع تحقق مضمونها تعتبر دليلاً على أنّ المبشرين بها كانوا يعلمون الغيب وهم إمّا أنبياء الاُمم السالفة أو أوصياؤهم.

10. انباء النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بالغيب :

قال سبحانه : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ ) ( التحريم - 3 ).

قال الطبرسي : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أسرّ إلى حفصة حديثاً ، أمرها باخفائه لكن حفصة أخبرت غيرها به ، فأفشت سره صلی اللّه علیه و آله وأطلع اللّه نبيه على ما جرى من افشاء سره فعرّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حفصة ببعض ما ذكرت وأفشت ، وأعرض عن بعض ما ذكرت فلم يخبر

ص: 422

بجميع ما أخبرت به ، فسألته عن أنّه كيف اطّلع على اخبارها وافشائها سره فقال : نبّأني العليم الخبير بسرائر الصدور (1) ، وهو يدل على أنّ اللّه أطلع نبيه على الغيب عن طريق القرآن.

هذه الآيات التي مرّت حتى الآن ذكرت لنا بعض المواضع التي أخبر فيها أنبياء اللّه عن الغيب ، مثل آدم ونوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف وصالح وداود وسليمان وعيسى وخاتم الأنبياء محمد صلی اللّه علیه و آله . وهناك آيات قرآنية اُخرى دلّت على أنّ أشخاصاً غير الأنبياء أيضاً أخبروا عن الغيب ، ويتضح من هذا أنّ موضوع الاطّلاع على الغيب لا ينحصر بطبقة الأنبياء بل هو فضل اللّه يخص به من يشاء من عباده الصالحين وإليك الآن بعض هذه الآيات :

11. اطّلاع مريم علیهاالسلام على الغيب :

قال سبحانه : ( إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران : 45 - 46 ).

وهل يدخل ادراك مريم بانّها سترزق ولداً رغم عدم تزوجها ثم علمها باسمه وخصائص شخصيته إلاّ في قائمة الاُمور الغيبية ؟

12. الغيب وامرأة إبراهيم :

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ... * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود : 69 - 73 )

ص: 423


1- مجمع البيان ج 1 ص 316.

أمّا تعرّفت زوجة إبراهيم بأنّ اللّه سبحانه وتعالى سيرزقها ولداً عند كبر سنها عن طريق الغيب ؟ إنّ مثل هذه المواضيع التي ينحصر معرفتها عن طريق الملائكة يعرفها أناس ليسوا بأنبياء وهل نستطيع أن نفسر معرفتهم لها عن غير طريق الغيب ؟

13. الغيب واُم موسى :

قال سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص - 7 ). ويظهر من هذه الآية أنّ اُم موسى عرفت عن طريق الغيب مستقبل ولدها وأنّ اللّه تعالى سيحفظه إلى أن يعيده إليها سالماً ، فنحن هنا لا نجد أي فرق بين اطلاعها على الغيب أو اطلاع أحد من الأنبياء والأوصياء عليه.

14. الغيب وصاحب موسى :

هذا صاحب موسى الذي آتاه اللّه رحمة وعلماً من عنده ، قد أحاط بما لم يحط به موسى علیه السلام فخرق السفينة ، علماً منه بأنّ وراء السفينة ملكاً يأخذ كل سفينة غصباً ، فخرقها حتى لا يرغب فيها ، وقتل غلاماً كان أبواه مؤمنين فخشى أن يرهقهما طغياناً وكفراً وأقام جداراً يريد أن ينقض لعلمه بأنّ تحته كنزاً لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ستره وصيانته عن أعين الناس حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، ثم أسند علمه وعمله هذا إلى اللّه تعالى وقال : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ( الكهف : 60 - 82 ).

فدلّ هذا على أنّ اللّه تعالى هو الذي أخبره عن هذه الأسرار الغيبية. والنظرة الموضوعية في هذه الأدلة الكافية من القرآن الكريم لا تدع للباحث مجالاً للشك أو التردد في هذه المسألة.

والحقيقة التي نصل إليها بعد كل هذا : أنّه لا يمكن لمن آمن بالقرآن أن ينفي

ص: 424

( علم الغيب ) عن البشر لأنّ القرآن أثبت - كما رأينا - هذا العلم للأنبياء ولغيرهم من بعض الصالحين ، وأمّا الآيات القرآنية التي دلّت بظاهرها على اختصاص علم الغيب باللّه ونفيه عن البشر فقد أوضحنا المقصود منه ، فلاحظ.

ولا بأس ختاماً للبحث أن نذكر بعض الآيات الاُخرى التي استدل بها علماؤنا الإمامية في هذا المجال وإن كان للمناقشة مجال في بعضها :

15. النبي شهيد على الاُمّة :

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله شهيد على الاُمّة بنص القرآن العظيم والشهادة على الشيء فرع العلم به وذلك في قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ( البقرة - 143 ) وقوله سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) ( النساء - 41 ).

وليس المراد من الشهادة في الآيتين وغيرهما الشهادة على صور الأعمال والأفعال حتى يكتفي فيه بالحواس العادية والقوى الكامنة في البدن بل الشهادة على حقائق الأعمال والمعاني القلبية من الكفر والإيمان والإخلاص والرياء وغيرها وهي مما لا تكفيه الحواس العادية بل يحتاج إلى احساس آخر وراء الاحساس العادي.

16. المؤمنون شهداء على المنافقين :

ما دل على أنّ اللّه ورسوله بل المؤمنون يرون عمل المنافقين وذلك في قوله سبحانه : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة - 94 ).

ونظير قوله سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة - 105 ).

ص: 425

لكن في دلالة الآيتين على تعرّف النبي والمؤمنين على الغيب تأملاً لأنّ المتبادر في بادئ النظر من رؤية الأعمال هو شهودها بأنفسها أو شهودها بآثارها ونتائجها والآية الأولى تهدف إلى أنّ العبرة بالعمل لا بالاعتذار عن التقصير وهو لا يخفى بعد على اللّه ورسوله ، والمتبادر من الآية الثانية هو ذاك أيضاً لأنّه عطف على قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) أي أعملوا لدنياكم وآخرتكم وهو لا يخفى على اللّه ولا على رسوله ولا على الناس وهو ممّا تكفي فيه الحواس الظاهرية ولا يتوقف على العلم بالغيب.

ورؤية الأعمال بهذا المعنى وإن كانت لا تختص بالمؤمنين بل تعم الناس جميعاً غير أنّه لمّا كان البحث والحوار في الآية دائراً بين المؤمنين والمنافقين خص اللّه سبحانه المؤمنين بالذكر وأعرض عن غيرهم.

نعم ربّما يستظهر أنّ المراد من رؤية عملهم هو الوقوف على حقائق الأعمال ومقاصدهم من أعمالهم وهو مما لا يمكن الاطّلاع عليها من طريق الآثار والنتائج بل يتوقف على ادراك غيبي وعند ذاك يكون المراد من المؤمنين شهداء الأعمال لا كلّهم.

حصيلة البحث :

ليس هناك أي مانع من أن يعلم اللّه أحد أوليائه بشيء من غيبه المكتوم وسره المخفي مما كتمه على غيره وستره عنه.

نعم لا يجب على كل من اطلع على الغيب ، اعلام الناس به أو العمل به فلا يستلزم العلم بالشيء ، العمل به أو إخباره الناس بذلك فإنّ هناك مراحل ثلاث مرحلة الاطّلاع ، مرحلة العمل ، ومرحلة الاعلام ، ولكلّ مقتضيات وشرائط وموانع تجب رعايتها نظير القاضي إذ ليس له إلاّ الحكم على وفق ما سمع واقيمت عنده البينة لا على وفق ما علم.

وسيوافيك توضيح هذا الأمر عند الأجابة عن التساؤلات الموجودة حول علم الغيب.

ص: 426

ما هو مفاد الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله ؟

اشارة

ثم إنّ هناك آيات تسلب بصراحة العلم بالغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله فما مفادها وكيف يجتمع مفادها مع الآيات المثبتة وإليك الآيات :

1. ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( الأحقاف - 9 ).

2. ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ) ( الأنعام - 50 ).

3. ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( هود - 31 ).

4. ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 188 ).

5. ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا

ص: 427

تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة - 101 ).

6. ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء - 109 ).

7. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة - 109 ).

8. ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( ص : 69 - 70 ).

فما مفاد هذه الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي صلی اللّه علیه و آله بصراحة إزاء ما دلّت آيات اُخرى على وجود علم الغيب عند الأنبياء ، بل عند بعض الصالحين أيضاً وكيف تفسر هذه الآيات ؟

الجواب :

إنّ الوقوف على مفاد هذه الآيات النافية سهل بعد الوقوف على ما ذكرناه من أنّ علم الغيب الثابت للنبي ، غير الثابت لله سبحانه ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في الجزء الأوّل وقلنا : بأنّ القرآن بينما يثبت فعلاً لله سبحانه على وجه الحصر في مورد ، يثبته لغيره أيضاً ، فمثلا عندما يقول : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) على وجه الحصر نافياً طلب العون من غيره سبحانه ، يأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة وهما غيره سبحانه حيث يقول : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ( البقرة - 45 ).

فعندما يقول : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر - 42 ) ويجعل التوفيّ فعلاً مختص باللّه سبحانه ، يثبته لغيره كالملائكة حيث يقول : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) ( النحل - 32 ).

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي بينما ينسب فيه الفعل إليه سبحانه على وجه الحصر ، ينسب إلى غيره أيضاً ، والحل في الجميع واحد وهو أنّ اللائق بساحته الأقدس

ص: 428

والمنسوب إليه سبحانه ، غير الثابت لغيره ، فالثابت هو الفعل الاستقلالي غير المتكئ على أحد ، إلاّ ذاته سبحانه ، والمنفي عن عباده هو ذاك الفعل الاستقلالي أو الثابت لهم هو الفعل التبعي القائم باللّه سبحانه ، وبالوقوف على ما ذكرناه ينفتح عليك باب من أبواب معرفة الذكر الحكيم ، وقد أوعزنا إلى ذلك الأمر في هذه الموسوعة غير مرّة (1).

ولأجل إيضاح مفاد هذه الآيات النافية ، نبحث عن كل واحدة بحثاً مستقلاً ، ليتضح الحق بأجلى مظاهره فنقول :

أمّا الآية الاُولى فهي مكونة من أربع فقرات ، ولمعرفة دلالة الآية بصورة صحيحة لابد من معرفة دلالة كل فقرة من هذه الفقرات الأربع المكوّنة للآية بشكل كامل وهذه الفقرات هي :

1. ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) .

2. ( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) .

3. ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) .

4. ( وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) .

تشير الفقرة الاُولى إلى خطأ المشركين في ظنهم بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يجب أن يستثنى من سائر البشر العاديين ، ولا يشابههم في عادتهم من أكل وشرب ونوم وما شاكل ذلك ، وكانوا يقولون لو كان محمد نبياً حقاً لما كان مثل الناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فلا يمكن أن يكون نبياً - حسب زعمهم - إلاّ أن يتنزّه من تلكم الصفات الموجودة في البشر عادة ، وقد أشار القرآن إلى زعمهم بقوله : ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ) ( الفرقان - 7 ).

وقد كشف القرآن عن خطأهم في هذه الفقرة من الآية حيث قال : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) ومعناها أنّ هذا النبي الجديد لا يختلف عن الأنبياء السابقين في هذه

ص: 429


1- لاحظ الجزء الأوّل ص 362 - 364.

الصفات البشرية من أكل الطعام ومشي في الأسواق ، وهذه الصفات ليست أمراً جديداً في هذا النبي بل أنّها صفات دائمة لكل نبي بعثه اللّه تعالى.

كما كشف في سورة الفرقان أيضاً وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ) ( الفرقان - 20 ).

ويفهم من هاتين الآيتين أنّ المشركين كانوا يتوقعون من النبي صلی اللّه علیه و آله اُموراً هي فوق طبيعة البشر ، حيث زعموا عدم اجتماع النبوّة مع أكل الطعام والمشي في الأسواق.

بل كانوا معتقدين بلزوم وجود قدرة غير متناهية عند النبي المبعوث يختلف بها عن غيره من البشر ، وبذلك انتظروا من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعلم الغيب ذاتياً دون ارتباط باللّه تعالى ، يعلمه وكأنّ الأمر قد فوّض إليه.

إنّ اللّه تبارك وتعالى خاطب نبيّه مبطلاً هذا الزعم بقوله : ( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) أي قل لهم يا محمد إنّني بشر ولا يستطيع أحد من البشر أن يتنبّأ بمصيره أو مصائر الآخرين دون إلهام من اللّه تعالى. فالآية الكريمة اذن تنفي ذلك اللون من علم الغيب الذي يتصوره بشكل ذاتي ، وبصورة تفويض مطلق من غير ارتباط باللّه تعالى ، وهو الأمر الذي طلبه المشركون ، وهو لا يصطدم - أبداً - بما أثبتناه نحن من وجود علم الغيب عند الأنبياء بتعليم من اللّه.

ولأجل نقد هذه المزعمة يقول في الفقرة الثالثة : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) وقد وقفت على أنّ الوحي أحد الطرق التي يطلع اللّه بها أنبياءه على الاُمور الغائبة عن الحس والأشياء الخفية.

ولو كانت الآية الكريمة تريد نفي ( علم الغيب ) عن النبي صلی اللّه علیه و آله اطلاقاً استقلالاً وتبعاً ذاتياً واكتسابياً لكانت الآية مناقضة لنفسها ، حيث أثبتت قسماً من الغيب للنبي وهو الغيب الذي يأتي عن طريق الوحي وذلك في الفقرة الثالثة ، ولو كانت الفقرة الثالثة من الآية قد جاءت عن طريقة الاستثناء لأمكننا تصديقه بأنّها جاءت على وجه الاستثناء ، ولكنّها لم تأت على طريقة الاستثناء كما هو واضح.

ص: 430

فقد اتضح مما ذكرناه أنّ الفقرة الثانية من الآية لا تنفي عن النبي إلاّ علم الغيب بشكله الذاتي بينما أثبتت الفقرة الثالثة منها للنبي صلی اللّه علیه و آله علم الغيب عن طريق الوحي بشكله التبعي ، والفقرة الرابعة من الآية توضح ما وصلنا إليه أيضاً حيث تقول : ( وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ومعناها : أنّ ما ترتقبونه منّي من علم غيب ذاتي ليس إلاّ عبثاً ، إنّما أنا نبي نذير اُخبركم عمّا أطلع عليه عن طريق الوحي فقط ، ولا أعرف شيئاً دون تعليم اللّه تعالى.

أمّا الآية الثانية أعني قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) ( الأنعام - 50 ) فبالنظر إلى ما ذكرناه من التصورات الخاطئة التي حملها المشركون في أذهانهم عن الأنبياء ، يتضح مفهوم هذه الآية أيضاً ، إذ أنّهم ترقبوا من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعلم الغيب من عند نفسه ودون سابق ارتباط باللّه ، ولكن الآية ترد عليهم هذا الارتقاب غير الصحيح بقولها : ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) أي لا أعلم الغيب إلاّ من اللّه ، والفقرة الأخيرة من الآية تدل على ذلك : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) أي انّي عن طريق الوحي أطلع على الغيب.

أمّا الآية الثالثة أعني قوله سبحانه : ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) ( هود - 31 ).

فغنية عن التوضيح إذ أنّها لا تختلف عن الآية الثانية لفظاً ومفاداً.

أمّا الآية الرابعة أعني قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف - 188 ).

فيتضح مفهومها بملاحظة ما قدمناه حول الآية الاُولى حيث أنّها تبطل ما يحمله المشركون في أذهانهم اتّجاه النبي صلی اللّه علیه و آله من تصورات خاطئة من قبيل أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يجب أن يحظى بقدرة فائقة وسلطة عريضة في هذا الكون دون اتصال باللّه تعالى ، فيجلب - استناداً لهذه القدرة الفائقة - كل خير إلى نفسه ويبعد كل شر مرتقب عنه ، ثم يخبر عن

ص: 431

الغيب أيضاً.

فيأمر اللّه تعالى نبيّه أن ينفي عن نفسه أيّة قدرة أو علم دون الإرتباط باللّه تعالى والاستمداد منه ، وذلك تفنيداً لمزاعم المشركين الباطلة.

وتأتي جملة : ( إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ ) في الآية الكريمة دليلاً آخر على أنّ الآية ليست في مقام نفي القدرة والعلم عن النبي صلی اللّه علیه و آله بصورة مطلقة ، بل أنّها نفت عنه صلی اللّه علیه و آله ذلك اللون من العلم والقدرة اللّذين يتصور أنّ النبي واجد لهما استقلالاً وبصورة التفويض ، ولأجل ذلك فالآية لم تنف عن النبي صلی اللّه علیه و آله العلم والقدرة اللّذين يقتبسهما من اللّه ، بل أثبتت ذلك له حسب الاستثناء الوارد في قوله تعالى : ( إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ ) .

وبالتالي يتضح لنا مفهوم الفقرة الاُخرى من الآية وهي قوله : ( لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) الخ.

ومعناها : لو كنت أعلم الغيب دون إلهام من اللّه تعالى لحصلت على الخير الكثير ودفعت عن نفسي الشر الكثير ، ولكن لا أستطيع ذلك لأنّ علم الغيب ليس وصفاً ذاتياً لي ، بل هو فيض من اللّه ، يعطيني ذلك حين يشاء ، وفي جانب قدرة التصرف في هذا الكون أحظى بمقدار ما يشاء.

أما الآية الخامسة أعني قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة - 101 ).

فالآية الكريمة وإن كانت تدلّ - بحكم كلمة ( لا تَعْلَمُهُمْ ) - على وجود منافقين في المدينة لا يعرفهم النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهو لا يتفق مع ما يدعى له صلی اللّه علیه و آله من علم الغيب ؟ إلاّ أنّ الآية لا تدل على أكثر من نفي العلم عن النبي بالنسبة للمنافقين في ظرف نزول الآية فقط ، ولا يعني هذا نفي العلم عن النبي صلی اللّه علیه و آله تجاه المنافقين في كل الظروف والأحوال ، ولا شك في أنّ اللّه تعالى أخفى عن نبيّه بعض الحوادث عند وقوعها ، وكان منها وضع المنافقين المؤسف في المدينة لما يحمل في طياته من ألم عميق للنبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 432

ولكن هذا الأمر يختلف من أن نقول : إنّ اللّه أخفى عن نبيّه أحوال المنافقين حتى آخر عمره.

وثانياً : في الوقت الذي يخاطب اللّه نبيّه بقوله : ( لا تَعْلَمُهُمْ ) في مورد المنافقين ، يخاطبه في موضع آخر بقوله : ( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد - 30 ) فهذه الآية الثانية تعرفنا امكان معرفة النبي للمنافقين عن طريق أقوالهم.

وثالثاً : لم يكن المنافقون مجهولين للنبي صلی اللّه علیه و آله دائماً كيف وقد عرفهم القرآن بذكر الأوصاف المختلفة لهم كما في الآية التالية : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( المنافقون - 4 ).

لقد وصفوا في هذه الآية بالأوصاف التالية :

1. اعطوا بسطة في الجسم.

2. يمثّلون في ظاهرهم الحق والدين.

3. إنّهم كالخشب المسندة التي اُسندت إلى جدار (1).

وهناك آيات اُخرى تعرف المنافقين في نفس هذه السورة ( المنافقون ) وهي ظاهرة لمن نظر إليها بدقة بل كشف النقاب عن المنافقين وعرفهم بصورة واضحة في صورة التوبة بقوله سبحانه : ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة - 54 ) وهكذا سائر الآيات الواردة في هذه السورة.

ورابعاً : إنّ اللّه يأمر نبيّه بمحاربة الكفّار والمنافقين وعدم اتباع أقوالهم كما في قوله :

ص: 433


1- والمقصود من هذا التشبيه : أنّ آيات القرآن وكلمات النبي صلی اللّه علیه و آله الحكيمة لم تؤثر فيهم الأثر الحسن المطلوب ، ولم يظهر منهم أي رد فعل ايجابي تجاه تلكم الأقوال الهادية ، فهم كالخشب المسندة أجسام لا روح فيها.

1. ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ( التوبة - 73 ).

2. ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) ( الأحزاب - 48 ).

فهل يمكن أن يأمر اللّه نبيّه محمداً صلی اللّه علیه و آله بجهاد المنافقين والغلظة عليهم ثمّ لا يعرّفهم له طيلة عمره صلی اللّه علیه و آله ؟ إنّ هذه الآيات تدل - على سبيل الملازمة - على أنّ كتمان أمر بعض المنافقين عن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يك بصورة دائمية وإنّما كان حكماً مؤقتاً.

ويخاطب اللّه نبيّه أيضاً بقوله : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) ( التوبة - 84 ) والآية نازلة في حق المنافقين انّ هذه الآيات وغيرها تحكي لنا معرفة النبي صلی اللّه علیه و آله بالمنافقين ، ولم يكن النبي وحده الذي يعرف المنافقين بل كان قد أودع أسماءهم وأوصافهم عند ( حذيفة ) (1) الصحابي الشهير. ومن هنا كان الخليفة الثاني لا يصلّي على أحد يشك في نفاقه إلاّ أن يسأل حذيفة عنه ، وهذا أمر مذكور في سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله وتاريخ الخلفاء والصحابة من بعده.

أمّا الآية السادسة أعني قوله سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء - 109 ).

فالجواب عن الاستدلال بها واضح إذ البحث في أصل ثبوت علم الغيب للنبي والإمام لا في المقدار الذي يتحمّله صدر النبي أو الإمام من علم الغيب.

وإذا كان النبي صلی اللّه علیه و آله قد نفى في موضوع ما عن نفسه علم الغيب فإنّ ذلك لا يتنافى أبداً مع ما نحن فيه من اثبات علم الغيب له ، وهناك نقطة جديرة بالذكر في هذه

ص: 434


1- راجع أسد الغابة 1 / 391 وسائر الكتب التي تترجم الصحابة ونص كلام ( اُسد الغابة ) كما يلي : « وحذيفة صاحب سر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المنافقين لم يعلمهم أحداً إلاّ حذيفة أعلمهم له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسأله عمر : أفي عمّالي أحد من المنافقين ؟ قال : نعم ، أحد ، قال : من هو؟ قال : لا أذكره ، قال حذيفة : فعزله كأنّما دل عليه ، كان ( عمر بن الخطاب ) إذا مات ميت يسأل عن حذيفة فإن حضر الصلاة عليه صلّى عليه وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضره عمر.

الآية وهي :

انّ النبي صلی اللّه علیه و آله حين ينفي عن نفسه علم الغيب هنا فهو ينفيه عن موضوع يختص علمه باللّه تعالى وذلك هو يوم القيامة ، ووقت تحقق الوعد والوعيد اللّذين أنذر بهما عباده.

وسيوافيك أنّ العلم بالساعة وبموعد القيامة من الموضع أو المواضيع التي خص اللّه به نفسه ولم يطلع عليها أحداً ، والآيات القرآنية في هذا الموضوع صريحة إلى حد لا يمكن تصوّر خلافها ، ولا مانع أن يخبر اللّه نبيّه عمّا مضى ويأتي من الحوادث ولكنّه يخص علم الساعة لنفسه ، وإليكم بعض الآيات القرآنية التي صرحت بأنّ علم الساعة من مختصاته تعالى :

1. ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الأعراف - 187 ).

2. ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) ( طه - 15 ).

3. ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان - 34 ).

4. ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ) ( الأحزاب - 63 ).

5. ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( فصلت - 47 ).

6. ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزخرف - 85 ).

دلّت هذه الآيات بصورة واضحة على أنّ علم الساعة ممّا استأثر اللّه بعلمها لحكمة يعلمها سبحانه وعدم اطلاع النبي على وقت الساعة لا يستلزم أبداً عدم اطلاعه على اُمور اُخرى ولكلّ الأشياء.

ولقد ورد هذا المعنى أيضاً في آية اُخرى من سورة الجن ، قال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا

ص: 435

تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) ( الجن : 24 - 27 ).

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله - في هذه الآيات كما نرى - ينفي عن نفسه العلم بموعد القيامة لأنّ العلم بذلك من مختصاته سبحانه كما تصرح هذه الآيات.

وأمّا الآية السابعة أعني قوله : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة - 109 ) فقد استدل بها على نفي علم الغيب عن الأنبياء لأنّهم ينفون عن أنفسهم أي شكل من أشكال الغيب ويصفون اللّه بأنّه : ( علاّم الغيوب ) ولكن الاجابة عن الاستدلال واضحة بعد معرفة موارد استعمال « لا » النافية للجنس ، فإنّها وإن كانت لنفي الجنس ولكنّها تأتي على وجهين :

1. نفي الجنس حقيقة وبصورة واقعية مثل قولنا : « لا إله إلاّ اللّه » وقوله سبحانه : ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام - 59 ) وقولنا : لا رجل في الدار ، حين لا يوجد رجل في الدار صغيراً كان أم كبيراً ، صحيحاً أم سقيماً.

2. نفي الجنس على سبيل التجوز فتقول : « لا أحد هنا » حين يطرق الباب طارق فيسأل هل يوجد أحد هنا ؟ فرغم وجود شيخ كبير ، أو انسان لا طاقة له على الحركة في الدار ، ولكنّك تنفي وجود أحد في الدار مجازاً لأنّ ذلك الشيخ الكبير أو المريض لا يفيدان السائل بشيء ، فاعتبرت وجودهما كالعدم بالنسبة إلى السائل فنفيت الجنس مجازاً. ومن هذا القبيل كلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام التي خاطب بها أصحابه المتخاذلين ، والذين كانوا يجعلون من الحر والبرد وسيلة للتقاعس عن ساحة الحرب والجلوس عن مجاهدة البغاة معاوية وأمثاله ، حيث قال : يا أشباه الرجال ولا رجال (1).

ونظير قوله علیه السلام : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ». والآية الكريمة من هذا القبيل ، فإنّ الأنبياء حين ما يقيسون علمهم المحدود الاكتسابي إلى علم اللّه تعالى اللامحدود واللامتناهي والذاتي ، يرون ضآلة ما عندهم من العلم تجاه ما عند اللّه

ص: 436


1- نهج البلاغة الخطبة 26 طبع عبده.

تعالى ، حتى العلم المحدود الموجود عندهم الذي هو مظهر من مظاهر فيضه تعالى عليهم ، وعند ذاك ينفون عن أنفسهم العلم أمام المولى خضوعاً وتسليماً ويقولون : ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ويدل على ما ذكرناه من التفسير وجوه :

1. إنّ الآيات الورادة في موضوع شهادة النبي والشهداء الآخرين تصرح بأنّ الأنبياء سوف يدعون في الآخرة لأداء الشهادة قال سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) ( الزمر - 69 ) وهل يمكن أن يشهد الأنبياء والشهداء الآخرون في المحكمة الإلهية العادلة دون علمهم بشيء من أحوال المشهود عليهم. إنّ آيات الشهادة في القرآن وخاصة قوله سبحانه : ( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) ( النساء - 41 ) وقوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر - 51 ) تدفعنا إلى أنّ المراد من قوله سبحانه : ( لا عِلْمَ لَنَا ) عن لسان الأنبياء يوم القيامة هو ما قدمناه من التفسير.

2. إنّ سلب العلم عن الأنبياء لأحوال اُممهم على وجه الاطلاق يتنافى مع ما يحكيه اللّه تعالى عن لسان نبيّه يوم القيامة وذلك عند تجمع الأنبياء وقيام المحكمة الالهية العادلة في قوله تعالى : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) ( الفرقان - 30 ) وسياق الآيات الاُخر مثل قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) ( الفرقان - 27 ) يوضح أنّ شكوى النبي صلی اللّه علیه و آله على قومه تكون يوم القيامة.

3. كيف يمكن نسبة عدم العلم إلى الأنبياء يوم القيامة بصورة كلية وهم الذين يعرفون المحسنين والمسيئين على الأعراف بسيماهم كما يقول القرآن : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) ( الأعراف - 46 ). ثمّ إنّ نبياً ينزل عليه الوحي فيخبره عن غدر الوليد (1) وخيانته في قضية مشهورة ، أو تنزل عليه آيات قرآنية في كشف حقيقة أبي لهب ، أقول إنّ نبيّاً بهذه المنزلة هل يمكن أن يقول يوم القيامة : ( لا عِلْمَ لَنَا ) على سبيل الحقيقة ؟ دون قصد أهداف اُخرى من هذا الكلام وهو الخضوع أمام عظمة المولى جل شأنه.

ص: 437


1- الحجرات - 6 ولاحظ ما ورد حولها من الأخبار في التفاسير.

إنّ هذه الوجوه تشير إلى الحقيقة التي قدمناها الآن وهي : أنّ الهدف من هذا النفي في قوله تعالى : ( لا عِلْمَ لَنَا ) ليس إلاّ التأدّب أمام المولى واستعمال كل أسلوب يدل على الخضوع التام أمام علم اللّه اللامتناهي ، وليس المراد به نفي العلم عن الأنبياء على سبيل الحقيقة والواقع.

4. يصرح القرآن بتوجيه السؤال يوم القيامة إلى كل من الأنبياء والاُمم فيقول : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) ( الأعراف - 6 ). ودلّت آيات اُخرى من القرآن على علم المجرمين والعاصين بأحوالهم الماضية في الدنيا وما تجره في ذلك اليوم إليهم من آلام ، حيث يبدون أسفهم على ما قدموا وتكون كلمة ( ليت ولعل ) طوع ألسنتهم يقول تعالى : ( يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) ( الفرقان - 27 ) ( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً ) ( الفرقان - 28 ) ( فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) ( السجدة - 12 ).

ترى كم يملك نصيباً من الصحة القول : بأنّ الاُمّة تعلم يومذاك عن مرارة أوضاعها وسوء مصائرها فتطرق برؤوسها متمنية العودة إلى الحياة الدنيا لتستأنف العمل في حين ينفي الأنبياء - الذين عاصروا اُممهم فترات طويلة من الزمن - عن أنفسهم يوم القيامة أي لون من ألوان العلم على سبيل الحقيقة ؟

وبالنظر إلى كل ما قدمناه يتضح مفهوم الآية ونعلم جيداً أنّها لا تختلف أبداً عن الآيات التي تثبت علم الغيب للنبي صلی اللّه علیه و آله .

وأمّا الآية الثامنة أعني قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( ص : 69 - 70 ) المراد من الخصومة في الآية هي خصومة الملائكة في موضوع خلق الانسان ، وقد جاءت واضحة في سورة البقرة ضمن الآية ( 30 - 33 ).

ويؤكد كون المراد من الخصومة ذلك ، قوله سبحانه بعد الآيتين : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ

ص: 438

سَاجِدِينَ ) ( ص : 71 - 72 ) هذا وأنّ التعرف على مفاد الآية يتوقّف على الاطلاع على موارد استعمال لفظة ( ما كان ) في القرآن الكريم وكيفية استعمالها قال سبحانه :

1. ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة - 143 ).

2. ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي ) ( آل عمران - 79 ).

3. ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران - 145 ).

4. ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) ( الأنفال - 67 ).

5. ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ ) ( التوبة - 17 ).

6. ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ ) ( يونس - 37 ).

7. ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( الرعد - 38 ).

إنّ التعمّق في هذه الآيات ونظائرها يعطي أنّ الهدف من هذا النفي هو نفي الاقتضاء الذاتي لمضمون الجملة ، ومعناه أنّ الموضوع لا يقتضي مثل هذا الأمر ذاتياً ، ولكن مثل هذا النفي ينقسم إلى قسمين :

1. النفي الأبدي حيث لا يحتمل التغيير والخلاف في موضوعه أبداً مثل قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) فليس من شأن اللّه تضييع جزاء الأعمال لأنّ تضييع جزاء الأعمال لون من ألوان الظلم وتخلف عن الوعد ، وهو منزّه عنهما.

2. النفي غير الأبدي : وهو ما يمكن تغيير موضوعه أو مضمونه في ظل عنوان آخر كما في الآية التالية : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( الرعد - 38 ).

والهدف من هذه الآية هو : أنّ أي رسول من قبل اللّه لا يملك القدرة على الاتيان بمعجزة ، ولكن عدم تمكن الرسول من نفسه لا يعني عدم تمكنه على الاتيان بالمعجزة على الاطلاق فإنّ ذلك ممكن له في ظلال قدرة اللّه تعالى.

إذا وقفت على ما ذكرناه يتضح لك مفهوم الآية المبحوث عنها ، أنّها تقول : ما

ص: 439

كان لي من علم من جانب نفسي وذاتي بالخصومة التي وقعت بالملأ الأعلى. وهذا العلم الذاتي ليس من شأن البشر.

ولكن هذا لا يدل على عدم العلم على الاطلاق ليشمل عدم علمه عن طريق الوحي أيضاً أو في المستقبل مثلاً ، وأحسن دليل على هذا الموضوع هو الآية التالية لها حيث تقول : ( إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) فتدل الآية على أن ترقب علم الغيب الذاتي من النبي صلی اللّه علیه و آله عبث ، إنّما هو نذير ، لا يوجد عند نظير مثله ما يتوقعون ولا يمكنه الاطلاع على الغيب بغير إيحاء منه سبحانه ولكنه لا يمنع من اطلاعه عليه عن طريق الكسب كما تقدم ، وكونه نذيراً لا يمنع أن يطلعه اللّه على بعض الاُمور الغيبية التي تعزز هدفه ، وتؤيده في الطريق ، حيث يتمكن بواسطة بث الاُمور الغيبية للناس إدخال خوف اللّه إلى قلوبهم فيكون نذيراً حقاً.

وإذا كان النبي صلی اللّه علیه و آله قد نفى عن نفسه في هذا الموضع العلم بخصومة الملأ الأعلى ، نجده صلی اللّه علیه و آله في مواضع اُخرى من القرآن يذكر هذه الخصومة بصورة تفصيلية ، ألا يدل ذلك النفي وهذا الاثبات على ما قلناه من أنّ هدف النفي في الموضع الأوّل هو نفي العلم الاستقلالي عن نفسه لا التبعي ؟

ص: 440

تساؤلات حول علم النبي بالغيب

السؤال الأول :

إنّ علمه سبحانه بالأشياء وإن كان مطلقاً ومرسلاً غير محدود وذاتياً له غير مفاض ، على ما دلّت عليه البراهين الكلامية والفلسفية إلاّ أنّ ذلك لا يصحح حمل الآيات على هذه المعاني البعيدة عن مستوى الافهام ، وكون علمه سبحانه عين ذاته وعلم غيره زائداً عليها أمر معلوم من الخارج ، ولا يكون مثل هذا العلم كقرينة على تفسير ما دلّ على اختصاص العلم بالغيب له سبحانه ، فكيف تحمل هذه الآيات على العلم الذاتي ، المحيط بكل شيء ، المرسل عن كل شيء ؟!

الجواب : انّ من لاحظ سياق الآيات والقرائن الحافة بها ، وسبر التاريخ والحديث يقف على أنّ المتبادر من « العلم بالغيب » في عصر الرسالة وبعده كان هو العلم الذاتي لا العرضي ولأجل ذلك كان الأئمة من أهل البيت مع ما اُخبروا من المغيبات ما لا يحصى يتحاشون عن توصيفهم بأنّهم عالمون بالغيب ناسبين علومهم ومعارفهم وما يخبرون به من ملاحم وأحداث وفتن ، إلى التعلّم من ذي علم (1) والوراثة من الرسول (2) ويصف هشام بن الحكم الإمام الصادق وهو من أكابر أصحابه ، بأنّه يخبرنا بأخبار

ص: 441


1- نهج البلاغة خطبة 124 وسيوافيك لفظ الإمام.
2- كما في الحديث عن الإمام الطاهر موسى الكاظم علیه السلام وسيوافيك لفظه.

السماء وراثة عن أب وجد ، وهذا أقوى دليل على أنّ المتبادر في عصر الرسالة وبعده ، من العلم بالغيب هو القسم اللائق بساحته سبحانه.

وكون العلم اكتسابياً أو غير اكتسابي ليس من المفاهيم الغامضة التي لا ينقدح في الافهام الوسطى فضلاً عن العليا ، فإنّ الانسان العارف باللّه ، مهما تنازل وبعد عن المعارف ، يقف على أنّ هنا موجوداً غنياً من جميع الذات والغنى نفسه وذاته فوجوده وعلمه وقدرته وحياته ثابت له من دون استناد إلى غيرها ، وانّ هنا موجوداً فقيراً ومخلوقاً لغيره يعتمد في كل كمال وجمال إلى خالقه وبارئه ولا نعني من الذاتي والاكتسابي غير هذا.

وإلى ما ذكرنا يشير شيخ الاُمّة الشيخ المفيد رحمه اللّه بقوله :

« إنّ الأئمة من آل محمد صلی اللّه علیه و آله قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ، يعرفون ما يكون قبل كونه ، وليس بواجب في صفاته ولا شرطاً في إمامتهم وإنّما أكرمهم اللّه تعالى وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنه وجب لهم من جهة السماع ، فأمّا اطلاق القول عليهم بأنّهم « يعلمون الغيب » ، فهو منكر بيّن الفساد ، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقه من علم الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد وهذا لا يكون إلاّ لله عزّ وجلّ وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة » (1).

فالتوفيق بين قوله : « اطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب بيّن الفساد » وقوله علیه السلام : « بأنّهم يعلمون ما في الضمائر » لا يحصل إلاّ بما ذكرنا ، بل هو صريح كلامه لمن أمعن فيه النظر.

قال رشيد الدين محمد بن شهر آشوب (2) : النبي والإمام يجب أن يعلما علوم

ص: 442


1- أوائل المقالات ص 38.
2- أحد أقطاب التفسير والحديث في القرن السادس توفّي عام 588 ، وله المناقب وأسباب نزول القرآن ، ومتشابهات القرآن كما صرح به في معالمه.

الدين والشريعة ولا يجب أن يعلما الغيب وما كان وما يكون لأنّ ذلك يؤدي إلى أنّهما مشاركان للقديم تعالى في جميع معلوماته التي لا تتناهى وإنّما يجب أن يكونا عالمين لأنفسهما (1) ، وقد ثبت أنّهما عالمان بعلم محدث ، والعلم لا يتعلّق على التفصيل إلاّ بمعلوم واحد. ولو علما ما لا يتناهى لوجب أن يعلما وجود ما لا يتناهى من المعلومات وذلك محال ، ويجوز أن يعلما الغائبات والكائنات الماضيات أو المستقبلات باعلام اللّه تعالى لهما شيئاً منها (2).

فإنّ الظاهر من كلامه أنّ الشرك إنّما يلزم من أمرين : « الأوّل » القول بعدم تناهي علومهم ، « الثاني » كون علومهم مستندة إلى أنفسهما لا باعلام منه سبحانه والمنفي في كلامه هو العلم الذاتي غير المتناهي ، أما المتناهي المستند إلى اللّه عزّ وجلّ فهو ثابت لهم.

السؤال الثاني :

لو كان النبي عالماً بالغيب بعلم مستفاد ومفاض منه سبحانه لما مسّه السوء والشر مع أنّه كان يمسّه السوء بنص منه سبحانه حيث قال : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) ( الأعراف - 188 ) فإنّ الانسان إذا وقف على أنّ في ركوب أمر خطراً على نفسه وماله ، أو أنّ في هذا الغذاء سمّاً لاجتنب عنهما وتركهما بتاتاً سواء أوقف عليها من جانب نفسه أم باطلاع غيره فمس السوء وفوت الخير ، دليلان على عدم اطلاعه على الغيب لا من جانب نفسه ولا من ناحية غيره مطلقاً.

الجواب من وجوه : الجواب الأوّل :

إنّ السؤال موجه إذا قلنا بسعة علم النبي صلی اللّه علیه و آله بعامة الحوادث القادمة مع تفاصيلها وجزئياتها ، وأنّ علمه صلی اللّه علیه و آله بغابر الاُمور وقادمها غير محدود بشيء من التحديد ،

ص: 443


1- كذا في النسخة والصحيح لا لأنفسهما كما هو واضح لمن أمعن النظر.
2- متشابهات القرآن ومختلفه ج 1 ص 211.

غير كونه علماً إمكانياً مفاضاً ومستفاداً منه سبحانه ، فعند ذاك يتوجه السؤال ويقال :

بأنّه لو كان النبي عالماً بما سيقع من الحوادث كلّها ، يجب أن لا يمسّه السوء أبداً ويحترز من كل شر ، قبل إصابته وأمّا إذا حددناه بشيء من التحديد وقلنا إنّ علمه بالحوادث ليس بهذه المثابة كما يدل عليه قوله علیه السلام : « إنّ لله علمين : علم مخزون لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه » (1) ، وقوله علیه السلام : « لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة » فقلت أيّة آية؟ قال : « قول اللّه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) » (2) فالسؤال غير وجيه جداً لأنّه إذا كان علمه بالحوادث المستقبلة ، محدوداً بشيء من هذه الحدود ، لا ينافيه مس السوء وعدم استكثار الخير في بعض الأحايين ، لإمكان أن يكون المورد من العلم المكنون الذي لم يطلع عليه أحد ، أو من الاُمور التي تحقق فيها البداء بمعناه الصحيح الذي نصّت عليه الأحاديث.

روى معمر بن خلاد قال : سأل أبا الحسن علیه السلام رجل من أهل فارس فقال له : أتعلمون الغيب ؟ فقال : قال أبو جعفر : يبسط لنا العلم فنعلم ، ويقبض عنّا فلا نعلم ، فقال : سرّ اللّه عزّ وجلّ أسرّه إلى جبرئيل ، وأسرّه جبرئيل إلى محمد وأسرّه محمد إلى من شاء اللّه (3) ، وبهذا المضمون روايات وأحاديث ، واختاره لفيف من مشايخ الإمامية (4).

نعم هذا الجواب ربّما لا يلائم ما دلّت عليه بعض الأحاديث التي نقلها الكليني في كافيه وعقد له باباً ب « أنّهم علیهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم شيء ».

ص: 444


1- الكافي ج 1 ص 147 وتضافرت الروايات بهذا المضمون وقد جمعها العلامة المجلسي في بحاره في الباب الثاني من كتاب توحيده فراجع ج 2 ص 47 - 92.
2- بحار الأنوار ج 4 باب البداء والنسخ ص 118 ، الحديث 52.
3- الكافي ج 1 ص 256.
4- كالشيخ الصدوق وأمين الإسلام الطبرسي وغيرهما ممّن لا يقولون بعموم علمهم بكل شيء.

غير أنّ ابداء الرأي القاطع في سعة علومهم واطلاعهم على المغيبات يحتاج إلى امعان النظر في أحاديث الباب كلّها فإنّها ليست على صعيد واحد بل تختلف مضامينها وبما أنّ الاسهاب يوجب الخروج عن الهدف من هذا الفصل فنرجئ البحث عنه إلى مقام آخر.

الجواب الثاني :

لو كان علمهم علیهم السلام بالمغيبات علماً بالفعل بحضورها لديهم تفصيلاً بدقائقها وتفاصيلها فلا يجتمع ذاك مع مفاد الآية ، وأمّا إذا قلنا بأنّ علمهم بالغيب على حسب مشيئتهم بحيث لو شاؤوا علموا ، ولو لم يشاؤوا لم يعلموا (1) فينقطع الإشكال من أصله فإنّ مثلهم بالنسبة إلى الحوادث القادمة علیهم السلام كمثل الذي اُلقي عليه سؤال وبيده كتاب ، فيه جوابه لو رجع إليه علم ، وإذا لم يرجع إليه لم يعلم ، أو مثل الفقيه الذي له ملكة الاجتهاد ، واستنباط الأحكام عن أدلّتها ، أو الطبيب البارع الذي له قدرة التشخيص والعلاج ، أو العالم الرياضي القادر على حل المعادلات الجبرية فإنّهم إذا شاؤوا علموا وأجابوا عن السؤال ، ورفعوا الستار عن مجهولهم بالرجوع إلى ملكاتهم العلمية ، فلا ينافي عدم استحضارهم جواب السؤال ، مع امكان اطلاعهم عليه إذا شاؤوا ، وعلى ذلك فكل ما أصابهم شر وكل ما فاتهم خير فيمكن أن يكون ممّا لم يشاؤوا أن يعلموه.

قال العلاّمة الطباطبائي : « قد ورد في بعض الأخبار ، وسياق التفسير لسائرها أنّهم علیهم السلام إذا شاؤوا علموا ، وإذا لم يشاؤوا لم يعلموا ، ويتحصل منه أنّ لهم بحسب مقام نورانيتهم علماً بالفعل بكل شيء ، وأمّا بحسب الوجود العنصري الدنيوي فهم إذا شاؤوا علموا ، بفضل الاتصال بمقام النورانية باذن اللّه ، وأمّا إذا لم يشاؤوا لم يعلموا.

ص: 445


1- وقد عقد الكليني باباً خاصاً لأحاديثه ، غير أنّ ما رواه في هذا الباب ضعيف السند لاحظ الكافي ج 1 ص 258.

وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض القصص والسير المأثورة عنهم ممّا ظاهره أنّهم ما كانوا على علم بما كان يستقبلهم من الحوادث فلا تغفل » (1).

الجواب الثالث :

ما تفضل به سيدنا العلاّمة الطباطبائي ( رضوان اللّه عليه ) عندما عرضنا عليه هذا السؤال ، فألّف في جوابه رسالة موجزة في ثمان صفحات على القطع الصغير باستدعاء منّا ، ونحن نقتطف منه مايلي بتصرّف يسير :

لما كان علمهم علیهم السلام هذا بالحوادث علماً بها بما أنّها واجبة التحقق ، ضرورية الوقوع ، لا تقبل بداء ، ولا تحتمل تخلفاً ، كما في الأخبار ، فلا تأثير لهذا العلم الذي هذا شأنه في فعل الانسان ، وتوضيحه يكون ببيان اُمور :

1. انّ من المقرر عقلاً ، وقد صدقه الكتاب والسنّة ، أنّ كل ظاهرة وحادثة تحتاج في تحققها إلى علّة ، ثمّ إنّ العلّة التي يتوقّف عليها وجود الشيء ، تنقسم إلى ناقصة وتامة ، والتامة منها ما يتوقف عليه وجود الشيء ، بحيث يجب وجوده بوجودها ، وعدمه بعدمها ، والناقصة منها ، وإن كان يتوقف عليه وجود الشيء أيضاً ، ويجب عدمه بعدمها ، إلاّ أنّه لا يجب وجود الشيء بوجودها.

2. إنّ الحادثة لا تتحقق إلاّ وهي موجبة بإيجاب علّتها التامة ومحتمة بحتمية منها ، وكذا الكلام في علتها حتى ينتهي إلى الواجب بالذات تبارك وتعالى. فالعالم مؤلّف من سلسلة من الحوادث ، كل حلقة من حلقاتها واجبة الوجود ، بعلّة تسبقها وإن كانت ممكنة بالقياس إلى أحد أجزاء علّتها العرضية أو أحد عللها الطولية.

3. هذه الوجوبات المترتبة ، الواقعة في سلسلة الحوادث هي نظام القضاء الحتمي الذي ينسبه اللّه سبحانه إلى نفسه ويقول : ( لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ) ( الأنفال - 42 ) ، وقال : ( وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) ( مريم - 21 ).

ص: 446


1- عن رسالة خطية له رحمه اللّه نحتفظ بنسخة منها.

4. إنّ للعلم أثراً في انتخاب أحد الأمرين من الفعل والترك وجلب النفع ودفع الضرر ، فالانسان الفاعل بالعلم والإرادة ، إنّما يقصد ما علم أنّه يفيده ، ويهرب ممّا علم أنّه يضره ، فللعلم تأثير في انتخاب أحد الفعلين وفي فعل شيء أو تركه.

5. علم الانسان بالخير والنفع وكذا علمه بالشر والضرر في الحوادث المستقبلة إنّما يؤثّر إذا تعلّق بأمر ممكن غير مقضي ، وذلك مثل أن يعلم الانسان أنّه لو حضر مكاناً كذا ، في ساعة كذا ، من يوم كذا ، قتل قطعاً ، فلهذا العلم تأثير خاص في ترك الحضور في المكان المعين ، تحرّزاً من القتل ، وأمّا إذا تعلّق العلم بالضرر مثلاً من جهة كونه ضروري الوقوع واجب التحقق ، كما إذا علم أنّه في مكان كذا ، ساعة كذا ، من يوم كذا ، مقتول لا محالة بحيث لا ينفع في دفع القتل عنه عمل ، ولا تحول دونه حيلة ، فإنّ مثل هذا العلم ، لا يؤثر في الانسان شيئاً ولا يبعثه إلى نوع من التحرز والالتقاء لفرض علمه بأنّه لا ينفع فيه شيء من العمل فهذا الانسان مع علمه بالضرر المستقبل ، يجري في العمل مجرى الجاهل بالضرر.

إذا علمت ذلك ثمّ راجعت الأخبار الناصة على أنّ الذي علمهم اللّه تعالى من العلم بالحوادث التي لا بداء فيه ولا تخلف ، ظهر لك اندفاع ما أورد على القول بعلمهم بعامة الحوادث ، من أنّه لو كان لهم علم بذلك لاحترزوا مما وقعوا فيه من الشر ، كالشهادة قتلاً بالسيف أو بالسم ، لحرمة إلقاء النفس في التهلكة.

وجه الاندفاع أنّ علمهم بالحوادث علم بها من جهة ضرورتها كما هو صريح نفي البداء عن علمهم (1) والعلم الذي هذا شأنه لا أثر له في فعل الانسان ببعثه إلى نوع من التحرز ، وإذا كان الشر بحيث لا يقبل الدفع بوجه من الوجوه ، فالابتلاء به وقوع في التهلكة لا القاء فيها ، قال تعالى : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ

ص: 447


1- يشير رحمه اللّه إلى ما روي عن أبي جعفر علیه السلام : العلم علمان فعلم مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله فما علّمه ملائكته ورسله ، فإنّه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء الكافي باب البداء ج 1 ص 148.

الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران - 154 ).

ولما كان ما ذكره في مقام الاجابة موجزاً كمال الايجاز أوضحنا ما أفاده بأمرين :

1. ما سمعناه منه رضوان اللّه عليه شفاهاً.

2. ما حرّره بقلمه حول السؤال في رسالة فارسية فها نحن نقدم ما سمعناه منه شفاهاً ثم نتبعه بما جاء في رسالته الخاصة.

أمّا الأوّل فنقول :

إنّ علم النبي بالمغيبات لو كان من عند نفسه يجب أن يكون مستنداً إلى امارات وقرائن تثير في نفسه القطع والعلم بأنّه لو شرب هذا السم يهلك قطعاً فالعلم في هذا القسم يتعلق بقضية شرطية ، بحيث لو تحقق الشرط لتحقق الجزاء ، فإذا وقف الانسان على علم هذا شأنه ، لاحترز عن اقترافه بحكم الغريزة الانسانية وليدفع عن نفسه السوء والشر ، فأصبح خلوّاً من كلّ مكروه.

وإن شئت قلت إنّ العلم في هذا النوع يتعلّق بالحوادث من جهة امكانها لا من جهة ضرورتها ، كما مثل به رحمه اللّه : « من أنّه لو حضر مكاناً كذا ، في ساعة كذا من يوم كذا لقتل » وعند ذاك يختار ترك الحضور أخذاً بواحد من طرفي الامكان وهو الذي فيه نجاته ونجاحه.

وأمّا إذا كان علمه صلی اللّه علیه و آله مفاضاً ومستفاداً من جانبه سبحانه فبما أنّ ما علمهم اللّه لا بداء فيه ولا تخلف ، وهو ممّا يتحقق قطعاً فلا محالة يسير النبي حسب ما أوحى اللّه إليه ولا يقدر أن يتخلّف عنه قدر شعرة فيصيبه من الخير والشر ما قضي عليه بضرورة وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) من عند نفسي ( لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ ) واخترت أنفع الاُمور وأصلحها ( وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) واحترزت عن اقتراف المضار ، بحكم الغريزة الانسانية التي تدعو إلى صيانة النفس عما يضرّها ويؤذيها ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى ) فأسير ، حسب ما اُوحي إليّ ، وهو ليس خبراً

ص: 448

يقبل الكذب أو الخطأ ، بل هو خبر قطعي الثبوت فيصيبني من الخير والشر ما قضى وقدر (1).

وعلى ذلك ، لا يكون ، مس السوء دليلاً على عدم علمه بالغيب ، فإنّه لا أثر للعلم وعدمه في هذا النوع في الاجتناب والاتقاء.

غير أنّ القارئ الكريم بعد ما أمعن النظر في هذا الجواب يجب عليه أن يلاحظ أمرين :

1. أنّ العلم العادي كما يمكن أن يتعلق بالقضية من ناحية امكانها - فيصح فعل الشيء وتركه - كذلك يمكن أن يتعلق بها من جهة ضرورتها ، كأن ينكشف له بأحد الأسباب بأنّه يموت في وقت كذا ، ويهلك في زمن كذا فلا ينحصر العلم غير المفاض على قسم واحد ولعله رحمه اللّه يلتزم بذلك.

2. إنّ القول بأنّ علمهم بالحوادث ممّا لا بداء فيه ولا تخلف ، وإن دلّت عليه بعض الأحاديث ولكن يظهر من كثير منها وقوع البداء في ما وصل إليهم علمه أيضاً.

ثم إنّ الاستاذ عمل رسالة خاصة باللغة الفارسية قد أوضح فيها ما قصده من الجواب ونحن نقتطف منها ما يمس بالمقام :

1. إنّ علم الإمام الخاص ليس له أثر في أعماله ولا يرتبط بتكاليفه الخاصة لأنّ كل شيء تعلّق به القضاء الحتمي ، وكان ضروري الوقوع لا يتعلق به الأمر والنهي ولا الإرادة والقصد من تلك الجهة ، نعم يكون هذا الشيء الذي تعلق به القضاء الحتم مورداً لرضا العبد بهذا القضاء الالهي وذلك كما قال الحسين علیه السلام في اللحظات الأخيرة من حياته وهو صريع على الأرض ، مضمّخ بالدم : « رضى بقضائك وتسليماً لأمرك لا معبود سواك » وكما قال علیه السلام حين أراد الخروج من مكة : « رضا اللّه رضانا أهل البيت الخ ».

2. من الممكن أن يتصور البعض بأنّ العلم القطعي بالحوادث التي لا تقبل

ص: 449


1- ما أوضحناه به كلامه ، سمعناه منه شفاهاً.

التغيير والتبديل يستلزم القول بالجبر في الأفعال ، فلو فرض أنّ الإمام علیه السلام علم أنّ شخصاً معيناً سيقتله في ظرف معين ، بحيث لا يقبل هذا الحدث التغيير أبداً ، فلازم هذا الفرض أن لا يكون للقاتل اختياراً على تر ك القتل ، فهو إذن مجبور على قتل هذا الإمام ، فلا تكليف ولا عقاب حينئذ على هذا القاتل ، ولكن هذا التصور باطل لما يلي :

أ. إنّ هذا الإشكال في الواقع ليس إلاّ إشكالاً على شمول القضاء الالهي لأفعال الانسان الاختيارية أيضاً ، وليس هو إشكالاً على علم الإمام بالغيب ، ولأجل ذلك الإشكال منع المعتزلة شمول القضاء الالهي للأفعال الاختيارية للانسان زاعمين أنّ الانسان هو الذي يخلق أفعاله استقلالاً وبالتالي فهو خالق لأفعاله واللّه تعالى خالق بقية الأشياء ، في حين نجد النص القرآني والأخبار المتواترة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت تعتبر كل الموجودات وكل الحوادث الكونية بلا استثناء مشمولة لقضاء اللّه وقدره ، كما أنّ هذا الأمر ثابت من طريق العمل أيضاً ، وإن كنّا لا نستطيع بحثه في هذا المقال المختصر لسعة أطرافه.

والذي نستطيع أن نقوله بإجمال هو : أنّه لا يوجد شيء في هذا الكون إلاّ بمشيئة اللّه تعالى وإذنه ، وحتى أفعال الانسان الاختيارية تعلّقت بها المشيئة على أن تصدر بإرادة نفس الانسان واختياره ، فمثلاً : انّ اللّه أراد أن يصدر فعل معين من انسان مخصوص ولكنّه تعالى أراد في نفس الوقت صدور هذا الفعل المعيّن من الانسان المخصوص باختيار من الانسان وإرادة ، ومن البديهي أنّ هذا الفعل المعيّن مع وصفه الخاص ضروري الوقوع ، رغم أنّه اختياري للانسان لأنّه لو لم يكن اختيارياً لتخلفت إرادته تعالى عن مرادها : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .

ب. ومع غض النظر عمّا تقدم الآن فإنّ اللّه تعالى - كما نعلم جميعاً - خلق لوحاً محفوظاً أثبت فيه جميع الحوادث الماضية والقادمة للعالم ولا مجال للتغيير فيه أبداً ، فإذا كان علم اللّه تعالى السابق بهذه الحوادث كما أثبتها اللوح المحفوظ لا تستلزم أن يكون الانسان مجبوراً في أفعاله ، فكيف يكون علم الإمام السابق ببعض هذه الحوادث أو

ص: 450

بجميعها مستلزماً لأن يكون الانسان مجبوراً في أفعاله الاختيارية والتي منها عملية قتل الإمام المعينة مثلاً ؟

3. بعض الأعمال التي تصدر من الإمام وهي موافقة للأسباب الظاهرية لا يمكن أن نعتبرها دليلاً على جهل الإمام بالواقع وفقدانه لموهبة العلم التي أثبتناها له كأن يقال :

لو كان الحسين علیه السلام يعلم حقاً مستقبل أمره فلماذا بعث مسلماً إلى الكوفة رسولاً عنه ؟

ولماذا أرسل مع الصيداوي كتاباً إلى أهل الكوفة ؟ ولماذا خرج من مكة متوجهاً نحو الكوفة ؟ ولماذا ألقى بنفسه في التهلكة ؟ واللّه تعالى يقول : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ولماذا ؟ والخ.

وتتضح الاجابة عن كل علائم الاستفهام هذه بالحقيقة التي ذكرناها قبل لحظات وهي : أنّ الإمام لم يعمل في هذه المواضع ونظائرها إلاّ بالعلم الذي يحصل لديه بالوسائل العادية وعن طريق الأدلة والشواهد الظاهرية ، فلم يبذل أي جهد لدفع الخطر الواقعي المعلوم عن نفسه لأنّه علم أنّ أي جهد من هذا القبيل هو عبث لأنّ القضاء الحتمي قد تعلق بهذا الأمر كما يقول تعالى في سورة آل عمران في شأن اولئك الذين قالوا في حق أصحابهم يوم اُحد : ( لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ) ( آل عمران - 156 ) يقول اللّه في حقهم : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران - 154 ).

القسم الثاني من علم الإمام - العلم العادي :

إنّ النبي أو الإمام من العترة الطاهرة ليسوا إلاّ بشراً حسب نص القرآن الكريم والأعمال التي تصدر من الإمام هي كالأعمال التي تصدر من غيره من الناس تستند إلى اختياره وعلى أساس علمه العادي ، أنّ الإمام كغيره يميّز الخير والشر ، ومدى النفع والضرر في الأعمال عن طريق الأسباب الطبيعية والوسائل العادية ثم تحدث عنده إرادة

ص: 451

العمل الذي يراه صالحاً ونافعاً ، ثم يسعى للقيام به وتحقيقه ، فحين تكون العوامل الخارجية مساعدة ، ومنسجمة مع بعضها يستطيع تحقيق الأمر الذي يريده ، وبغير ذلك يخفق في تحقيق الهدف الذي يريده ( وقد مرّ أنّ وقوف الإمام على جميع الحوادث الجزئية ما مضى منها وما يأتي باذن اللّه لا تؤثّر في مجرى أعماله الاختيارية ) أنّ الإمام كسائر الناس العاديين عند اللّه وهو مثلهم مكلّف بالتكاليف الدينية من قبل اللّه تعالى ونظراً لمنصبه القيادي الذي اُعطى من قبل اللّه يجب عليه أن يعمل بتكاليفه المقررة عليه من قبل اللّه كإمام ، وفقاً للموازين العادية للبشر ، ويبذل كل ما في وسعه لإحياء كلمة الحق واقامة منهج الدين والعدل.

الجواب الرابع :

إنّ الأنبياء والأئمة مع تميّزهم عن الغير بشخصياتهم الربّانية وقوّة الولاية التي منحت لهم ( ذلك أنّ شطراً من شخصياتهم قائمة على المواهب الالهية والشطر الآخر حصل نتيجة الجهود التي بذلوها للقرب من المولى تعالى ) أنّهم مع ذلك كانوا يعملون وفقاً لعلومهم العادية حيث يواجهون حوادث الحياة المختلفة ، على صعيد شخصي ، أو على صعيد اجتماعي كمسائل القضاء والحكم بين الناس مثلاً ، أنّهم مع علمهم الكامل بالحوادث الجزئية في ظلال موهبة الولاية ، ومعرفتهم بعلل الحوادث وتفاصيلها لارتباطهم بما وراء الطبيعة ، أقول : إنّهم مع ذلك لم يستفيدوا من علومهم تلك في قضاياهم الشخصية ولا في الاُمور التي ترتبط بالمجتمع وذلك لمصالح وحكم خاصة.

وبتعبير آخر : لم يحل النبي والإمام مشاكلهما الحياتية عن طريق الانتفاع من سلاح الغيب ، ولم يقطعا دابر الحوادث المرّة بالقضاء على عللها التي اطلعوا عليها عن طريق الغيب ، كذلك ولم يحلاّ خلافات الناس وخصوماتهم بالعلم الغيبي ، لقد اُخبر النبي صلی اللّه علیه و آله وهو في المسجد عن شدة مرض ابنه العزيز إبراهيم فعاد إلى البيت ليحتضن

ص: 452

ولده العزيز ويحدق في وجهه النظر قائلاً : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون (1).

كان النبي صلی اللّه علیه و آله يملك ثلاثة ألوان من سلاح الغيب في كل أدوار رسالته وكان يتمكن بواسطتها من تغيير الوضع كيفما يريد ، عند مواجهته للمصاعب ، وعند حدوث اللحظات الخطيرة ولكنّه لم يستعمل هذا السلاح في أغلب الأوقات ، وكانت ألوان السلاح الغيبي متمثلة في الاُمور التالية : 1. المعجزة. 2. استجابة دعائه. 3. علم الغيب.

كان النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله يتمكن عن طريق الاعجاز والولاية التكوينية التي ملكها من قبل اللّه تعالى أن يهب السلامة والعافية لولده العزيز إبراهيم ( وذلك كالولاية التكوينية التي ملكها عيسى علیه السلام وكان بها يحي الميت ويبرئ الأكمه والأبرص ) وكان يستطيع أيضاً ببركة دعائه المستجاب الذي منح له من قبل اللّه تعالى أن يدعو اللّه ويغيّر حالة ولده ، وينقذه من الموت ، وكان يقدر كذلك - عن طريق معرفته بالغيب - أن يمنع من عوامل المرض قبل أن تتسرب إلى جسم ولده العزيز لئلاّ يبتلى ولده بالمرض ، أو يختار لولده الأدوية الناجعة لتخليصه من المرض وذلك عن طريق اطلاعه على الغيب. كان يتمكن صلی اللّه علیه و آله على هذا ومثله ولكنّه رغم ذاك لم يستفد من هذه الأسلحة الغيبية التي كانت في يده لدفع الأضرار المرتقبة عنه وعن اسرته ولم يخط إلاّ في ظل المجاري الطبيعية للحياة ، ذلك لأنّ هذه الأسلحة ، أو الأسباب الغيبية إنّما اُعطيت للنبي صلی اللّه علیه و آله ليستفيد منها في اثبات رسالته وولايته الالهية حين يقتضي الأمر ذلك ، وإمّا الاستفادة منها في غير ذلك المجال فغير مأذون.

ومن المحتمل أن يكون أحد الأسباب التي تمنع النبي أو الإمام من الانتفاع من هذه السبل لجلب الخير أو لدفع الشر هو : أنّ استعمال هذه الأسباب الغيبية يقضي على الآثار العملية لدعوتهم ، لأنّه لا شك أنّ حياة القادة بما تحمل في طياتها من صبر وتحمّل

ص: 453


1- راجع بحار الأنوار ج 22 ص 157 والسيرة الحلبية ج 3.

للمشاق ، واستقامة وفداء في ساحة الجهاد ، منار ساطع لأتباعهم.

فإذا افترضنا أنّ النبي أو الإمام يدفع عن نفسه وعن اسرته الأخطار في معترك الحوادث بواسطة الإعجاز أو الدعوة المستجابة أو معرفته بما وراء الطبيعة ، فيهب السلامة لولده - مثلاً - عن طريق الإعجاز أو يستفيد من دعائه المستجاب أو معرفته الغيبية لاعادة السلامة إلى ولده ، فإنّه حينئذ لا يستطيع أن يمنح الآخرين من أتباعه النصح على تحمل المصائب والتسليم لقضاء اللّه تعالى ، ولو أنّه استفاد من هذه الأسباب الغيبية في ساحة الجهاد في سبيل اللّه فحصّن نفسه عن وصول سهام العدو إليه وأبعد كل خطر مرتقب عن نفسه وعن أهل بيته المقرّبين بواسطة تلكم الأسباب فحينذاك لا يمكنه أن يدعو الناس إلى تحمل الألم والعناء في سبيل اللّه لأنّهم - حتماً - سيعرضون عليه قائلين : إنّ الشخص الذي يدعونا إلى هذه المناهج الخلاّقة والمبدعة يجب أن يكون نفسه مثالاً رائعاً لهذه المناهج الرائعة. انّ الشخص الذي لا مفهوم عنده للألم والعناء ، ولا تمسّه الكوارث طيلة حياته لا يستطيع أن يكون قدوة الاُمم ومنار الحياة للآخرين.

ولهذا - ولجهات اُخرى ليس هنا مجال عرضها - نجد أنّ الشخصيات الالهية كغيرهم يبذلون شتى الوسائل الطبيعية ، ويسعون جاهدين لدفع الأخطار والمصائب عن أنفسهم ، عند ما يواجهونها ، وقد يخفقون في سعيهم بسبب عدم وجود الوسائل الطبيعية بالقدر المطلوب. إنّنا حين نرى عدم الاختلاف بين سلوك المعصومين في الحياة وسلوك الناس العاديين ، أي أنّهم كانوا حين يمرضون يستعملون الدواء للعلاج ولاعادة السلامة كالآخرين ، ويستعملون كل الوسائل الطبيعية والعلوم العادية في القضايا الاجتماعية وفي ساحة الجهاد كغيرهم ، ويعينون أشخاصاً لنقل مختلف الأخبار إليهم وإلى غير ذلك. كل ذلك لأنّ الأسباب الغيبية ما كان يجوز لهم استعمالها إلاّ في مواضع خاصة.

وهناك شواهد تؤيّد ما قلناه ، فقد روي أنّ عبيد اللّه بن أبي رافع كان مديراً لبيت المال أيام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وحين أرسل الإمام علیه السلام ( أبا موسى

ص: 454

الأشعري ) إلى دومة الجندل للحكم في ق - ضية الحكمين يوم صفّين أوصاه الإمام علیه السلام قائلاً : « احكم بكتاب اللّه ولا تجاوزه » ، فلمّا أدبر قال علیه السلام : « وكأنّي به وقد خدع ». يقول ابن أبي رافع : قلت للإمام علیه السلام : فلمَ توجهه وأنت تعلم أنّه مخدوع ؟ فأجابه الإمام علیه السلام قائلاً : يا بني لو عمل اللّه في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل (1) أنّه تعالى كان يعلم أنّ طائفة من الناس يستوي عندهم بعث الأنبياء وعدم بعثهم ، أنّهم لا يؤمنون سواء أأرسل إليهم رسول أم لا ومع ذلك فقد أرسل إليهم أنبياء. انّ الإمام علیه السلام حين يشير في جوابه هذا إلى علم اللّه غير القابل للخطأ كأنّه يبيّن هذه النقطة وهي : على أن أعمل في الحياة بمقتضى العلل والعوامل الطبيعية ، ولست أعمل وفقاً لما أعلمه من الغيب.

وهكذا نرى الأئمّة علیهم السلام في الأحاديث المنقولة عنهم يؤكدون على أنّ طريق قضائهم وحكمهم بين الناس هي الأسباب العادية كالشهادة واليمين لا علومهم الغيبية وذلك كما يروي الإمام الصادق علیه السلام عن الرسول صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » ، وأمّا ما ورد في بعض الروايات من جواز أن يحكم الإمام بعلمه في مجال اجراء الحدود فالمقصود منه هو العلم الذي يحصل عليه من الطرق العادية والأسباب الظاهرية كأن يرى الإمام بعينه شخصاً يشرب الخمر ، لا حظوا الرواية التالية : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب خمراً أن يقيم عليه الحد ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنّه أمين اللّه في خلقه » (2) هذه الرواية تدلّ على أنّ المقصود من عمل الإمام بعلمه هو علمه العادي والطبيعي كما دلّت عليه لفظة « نظر » في الرواية. وإذا لاحظنا أيضاً المسائل القضائية التي وقعت في عصر الإمام أمير المؤمنين لرأينا بوضوح أنّ الإمام علیه السلام لم يحكم بين الناس استناداً إلى علمه الخاص عن القضية أبداً بل

ص: 455


1- المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 261.
2- وسائل الشيعة ج 18 ص 344 ، نعم للإمام أن يحكم بعلمه العادي في الحقوق الالهية فقط ويقيم الحد على مرتكب الجريمة ، ولا يجوز له العمل بعلمه في حقوق الناس كأن يرى شخصاً يسرق من آخر والمسألة معنونة في الفقه فراجع الجواهر.

كان يسعى سعياً حثيثاً معداً بعض المقدّمات التي تجعل الخصمين المدّعي والمنكر يعترفان بالواقع أمامه ثم يقضي بينهما.

ويقول السيد الطباطبائي في ( ملحقات العروة الوثقى ) حين يقول : يجوز للقاضي أن يعمل بعلمه في حل دعاوى المتخاصمين نقصد بذلك العلم الحاصل عن الطرق العادية لا العلم الحاصل عن طريق الرمل والجفر وغيرهما (1).

ولكن الذي يستفاد من الروايات أنّ الإمام المهدي ( عج ) هو الذي يحكم بين الناس بعلمه حين ظهوره فقط وذلك كما حكم نبي اللّه داود علیه السلام ويقول الإمام الباقر علیه السلام في هذا الصدد : « إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود علیه السلام لا يسأل عن بيّنة » (2).

هذا وقد طال بنا الوقوف في المقام وذلك لقلع جذور الشبهة عن أذهان الشباب ، وإن كان أعداء آل البيت يبثّون كل يوم جذور الشك ولكن نور المعرفة لا يفتأ متبلجاً ، والحقائق الراهنة لا تزال متأرجة وسحب الشبه وإن أطلّت على الاُمّة ردحاً من الزمن ، لكنّها تكتسح بشمس المعرفة.

أراها وإن طالت علينا فإنّها *** سحابة صيف عن قليل تقشع

نعم قام لفيف من علمائنا بتأليف كتب ثمينة حول علم النبي والإمام سدوا بها الفراغ بعض السد ودونك ما وقفنا عليه :

1. المعارف السلمانية بمراتب الخلفاء الرحمانية ، طبع بإيران على الحجر عام 1313 هجرية قمرية للعلاّمة السيّد عبد الحسين النجفي الشيرازي ( قدّس اللّه سرّه ) له ترجمة ضافية في طبقات أعلام الشيعة ج 3 ص 1048.

2. الالهام في علم الإمام ، للعلاّمة الشيخ محمد علي الحائري السنقري طبع في

ص: 456


1- ملحقات العروة ج 2 ص 31.
2- وسائل الشيعة ج 18 ص 168.

النجف عام 1370.

3. علم الإمام ، للعلاّمة الحجة المغفور له الشيخ محمد الحسين المظفر طبع بالنجف 1380 ه أضف إلى ذلك ما أفاده العلامة المجلسي في بحاره في غير موضع من مباحث الإمامة ، شكر اللّه مساعيهم.

4. رسالة فارسية في علم الإمام ، صنّفها المفكّر الإسلامي السيد محمد حسين الطباطبائي وانتشر سنة 1391 ه وله رسالة عربية صغيرة في هذا الموضوع أيضاً مخطوطة نحتفظ منها بنسخة.

السؤال الثالث : مشكلة المشاركة مع اللّه :

تمسك بهذه الشبهة في سلب العلم بالغيب من غيره سبحانه « عبد اللّه القصيمي » فقال رداً على عقيدة الشيعة في علم الأئمّة بالغيب : « فالأئمّة يشاركون اللّه في هذه الصفة صفة علم الغيب وعلم ما كان وما سيكون ، وأنّه لا يخفى عليهم شيء والمسلمون كلهم يعلمون أنّ الأنبياء والمرسلين أنفسهم لم يكونوا يشاركون اللّه في هذه الصفة والنصوص في الكتاب والسنّة وعن الأئمّة في أنّه لا يعلم الغيب إلاّ اللّه متواترة لا يستطاع حصرها في كتاب ، وهذا غني عن الإدلاء بشواهده ، ومن المؤسف المخجل لعمر اللّه أن يزعموا أنّ الأئمّة يعلمون الغيب » (1).

الجواب :

هذه شبهة تافهة لا تستحق الرد والبحث ، وكتابه هذا مملوء بالسب والطعن لأعلام الشيعة بما ينزه اليراع عن نقله ونحن نمرّ عليه مرّ الكرام وخفي عليه أنّ بين العلمين بوناً شاسعاً فإنّ اللّه سبحانه عالم بالغيب بذاته ، وغيره مطلع عليه باظهار منه

ص: 457


1- الصراع بين الإسلام والوثنية ج 1 اُنظر المقدمة.

وأي تجانس بين العرضي والذاتي والمحدود وغير المحدود وأي صلة بين الأصيل في علمه ، المرسل في إدراكه وبين المتدلي في ذاته وعلمه ، الفقير في كلّ شأن من شؤونه حتى في علمه هذا فلو استلزم ذلك شركاً لزم أن يكون توصيف الممكن بالحياة والقدرة والسمع والبصر مما يجري على اللّه سبحانه أيضاً شركاً.

السؤال الرابع :

إنّ ما تقدم من الآيات لا تدل على أكثر من اطلاع النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله على الغيب ، فما الدليل على اطلاع غيره على الغيب ؟

الجواب :

انّ هناك روايات متضافرة تدلّ على أنّ لأئمّة أهل البيت علیهم السلام حظاً وافراً في هذا المجال ، ويدل على ذلك :

أوّلاً : الأخبار الغيبية التي وردت في نهج البلاغة وسيوافيك بعضها في هذه الصحائف وهي تدل بوضوح على معرفة علي علیه السلام واطلاعه على الغيب.

ثانياً : الأخبار الغيبية الواردة عن أئمّة أهل البيت التي ملأت كتب علمائنا الأبرار فهذا هو الشيخ الحرّ العاملي أتى في كتابه القيم « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » كثيراً من الأخبار الغيبية المروية عن الأئمّة علیهم السلام ، ودونك احصاء ما نقله عن الحسن السبط المجتبى وغيره من الأئمّة حتى ينتهي إلى الإمام الثاني عشر فقد نقل عن الحسن بن علي المجتبى علیه السلام أزيد من عشرة أحاديث ومثله عن الإمام السبط الحسين علیه السلام ، ونقل عن الإمام سيد الساجدين عشرين حديثاً وعن الإمام الباقر علیه السلام خمسين حديثاً ، وعن الإمام الصادق علیه السلام مائة وخمسين حديثاً ، وعن الإمام الكاظم علیه السلام ثمانين حديثاً ، وعن الإمام الرضا علیه السلام مائة وثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الجواد علیه السلام أزيد من ثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الهادي

ص: 458

علیه السلام قرابة خمسين حديثاً ، وعن الإمام الحسن العسكري علیه السلام أزيد من ثمانين حديثاً ، وعن الإمام القائم علیه السلام أزيد من مائة حديث.

نعم لقد تكرر مضمون بعض الروايات ومع ذلك فإنّ الباقي يشكل مجموعة كبيرة من الإخبارات الغيبية التي فيها الكفاية لمن تأمّل.

ثالثاً : إنّ الروايات تضافرت عنهم علیهم السلام بأنّ الأئمّة ورثوا علم النبي صلی اللّه علیه و آله وجميع الأنبياء والأوصياء الذين سبقوهم (1).

وأنت إذا لاحظت كتاب الحجة من الكافي في مختلف أبوابها تقف على أنّ الأئمّة علیهم السلام وقفوا على علوم غيبية لم يعرفها غيرهم فلاحظ الأبواب التالية :

1. انّ الأئمّة شهداء اللّه على خلقه.

2. انّ الأئمّة قد اُوتوا العلم واُثبت في صدورهم.

3. انّ الأئمّة اصطفاهم اللّه من عباده وأورثهم كتابه.

4. انّ الأئمّة معدن العلم وشجرة النبوّة.

5. انّ الأئمّة ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً العلم.

6. انّ الأئمّة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم إلى غير ذلك من الأبواب التي وردت فيها كيفية علومهم وكميتها.

فعلى القارئ الكريم أن يرجع إلى هذه الأبواب.

السؤال الخامس :

لا شك أنّ النبي الأعظم والأئمّة من أهل البيت ، قد تنبّأوا بكثير من المغيبات التي كانت الفراسة والتكهن تقتضيان خلافها ، غير انّا نراهم في بعض المقامات يتحاشون عن نسبة العلم بالغيب إليهم ، فما وجه ذلك ؟

ص: 459


1- لاحظ الكافي ج 1 ص 223 - 226.

الجواب :

انّ الناظر في هذه الروايات يقف على أنّ المتبادر من العلم بالغيب في تلك العصور كان هو العلم الاستقلالي الذاتي الذي يختص باللّه سبحانه ، فهم علیهم السلام لصيانة شيعتهم عن الغلو والشرك ، أو لدفع أعدائهم ، صرّحوا بأنّ ما يخبرون عنه من الفتن وملاحم أحداث ليس بعلم غيب بل وراثة من رسول اللّه أو تعلّم من ذي علم إلى غير ذلك ممّا لا ينافي ما أثبتناه من تحقق اطلاعهم على الغيب بعلم مفاض واعلام منه سبحانه ، ودونك ما وقفنا عليه من تلكم الروايات :

1. هذا أمير المؤمنين ، قد أماط الستر عن المسألة ، وعن علمه وعلم الأئمّة من بعده بالغيب ، وقد أخبر عن ملاحم (1) تحدث بالبصرة ، فاعترض بعض أصحابه وقال : « لقد اُعيطت يا أمير المؤمنين علم الغيب » ؟ فضحك علیه السلام وقال للرجل - وكان كلبياً - : « يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده اللّه بقوله : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ) الآية.

فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر واُنثى وقبيح وجميل ، وسخي وبخيل ، وشقي وسعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيين مرافقاً ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه ، وما سوى ذلك ، فعلم علّمه اللّه تعالى نبيّه ، فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي » (2).

وهذا البيان من مولانا أمير المؤمنين علیه السلام لا يدع لقائل شبهة ، ويعطي أنّ العلم بالمغيبات ، إذا كان على وجه التعلّم من الغير ليس هو علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه بل ليس علماً بالغيب وإنّما هو إظهار من الغير.

2. هذا الإمام الطاهر موسى الكاظم علیه السلام قد كشف النقاب عن وجه الحقيقة حينما سأله يحيى بن عبد اللّه بن الحسن عن علمه بالغيب وقال : « جعلت فداك

ص: 460


1- سوف يوافيك لفظه.
2- نهج البلاغة الخطبة 124.

انّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب » ؟ فقال : « سبحان اللّه ، ضع يدك على رأسي ، فواللّه ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلاّ قامت ، ثم قال : لا واللّه ، ما هي إلاّ وراثة عن رسول اللّه » (1).

3. ما روي عن الإمام الصادق : أنّه خرج وهو مغضب فلمّا أخذ مجلسه قال : يا عجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب ، ما يعلم الغيب إلاّ اللّه عزّ وجلّ ، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت منّي ، فما علمت في أي بيوت الدار » (2) ، فهذه الرواية محمولة ومفسرة بما أوضحناه ، وما سيوافيك من الأحاديث فالمقصود نفي العلم الاصالي القائم بذاتهم غير المستند إلى غيرهم ، وأمّا أنّه علیه السلام همّ بضرب جاريته فهربت فما علم مكانها ، فيوجّه بوجوه :

أ. ما أسلفناه من كون علومهم على حسب مشيئتم وإنّهم إذا شاؤوا علموا.

ب. ما وافاك من أنّ هنا مراحل ثلاثة ، مرحلة الاطلاع ، مرحلة العمل ، مرحلة الإعلام ولكلّ منها ، مقتضيات وشرائط وموانع ، وأنّه لا يستلزم العلم بالشيء العمل به ، فلعلّه علیه السلام أراد أن يطلع على مكانها من الطرق العادية لا غيرها.

أضف إلى ذلك أنّ ذيل الرواية تفصح عمّا ذكرناه بوضوح ، ويعطي للإمام منزلة عظيمة ومكانة أرقى ممّن كان عنده علم من الكتاب ودونك لفظه : « قال سدير فلمّا أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له : جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ، ونحن نعلم أنّك تعلم علماً كثيراً ولا ننسبك إلى علم الغيب ؟ قال : فقال : يا سدير ألم تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، قال : فهل وجدت فيما قرأت من كتاب اللّه عزّ وجلّ : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ؟ ( النمل - 40 ).

ص: 461


1- رجال الكشي ص 352 - 353 ط الأعلمي ، ورواه شيخنا المفيد في أماليه في المجلس الثالث ص 114 بأدنى تفاوت.
2- الكافي ج 1 ص 257.

قال : قلت : جعلت فداك قد قرأته ، قال : فهل عرفت الرجل ؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب ؟ قال : قلت : اخبرني به ؟ قال : قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب ؟ قال : قلت : جعلت فداك ما أقل هذا ، فقال : يا سدير ما أكثر هذا ، أن ينسبه اللّه عزّ وجلّ إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب اللّه عزّ وجلّ أيضاً : ( قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ ( الرعد - 43 ).

قال : قلت : قد قرأته جعلت فداك ، قال : أفمن عنده علم الكتاب كلّه أفهم ، أم من عنده علم الكتاب بعضه ؟ قلت : لا ، بل من عنده علم الكتاب كلّه ، قال : فأوما بيده إلى صدره وقال : علم الكتاب واللّه كلّه عندنا ، علم الكتاب واللّه كلّه عندنا.

ج. أن يكون صدر الرواية وارداً على وجه التقية من النصاب والمخالفين لهم ولشيعتهم ، كما أنّهم ببغضهم وحسدهم على أمير المؤمنين ، إذا سمعوا ما لا يحتملونه ربّما اعترضوا بالسؤال عنه ، فيصدّهم بقوله : « إنّما هو تعلّم من ذي علم » كما نقلناه عن علي علیه السلام عند اخباره عن الفتن والملاحم في البصرة ، فإنّ طريق علمهم بالحوادث وغيرها ليس منحصراً بالوراثة ، كما هو ظاهر لمن راجع الأحاديث الواردة في باب علومهم ، وإنّما الوراثة أحد هذه الطرق ، غير أنّ إسناد علمهم عند الاخبار بما لا تحتمله عامّة الناس إليها كان يصدهم عن الاعتراض عليه.

ثمّ إنّ العلاّمة الشيخ محمد الحسين المظفر ، أجاب عن حادثة الجارية وإنكاره علیه السلام على من يقول بأنّهم يعلمون الغيب بوجهين : ثانيها ما قدمناه أخيراً قال : « إنّهم علیهم السلام أعلم الناس بالناس وأعرفهم بضعف عقولهم ، وعدم تحملهم فلو إنّهم كانوا يتظاهرون دوماً ، بما منحوا من ذلك العلم ، لأعتقد بهم أهل الضعف بأنّهم أرباب أو غير ذلك ممّا يؤوّل إلى الشرك ، ولقد اعتقد بهم ذلك ، كثير من الناس ، من البدء حتى اليوم ، على أنّهم كانوا ينفون عنهم تلك المقدرة وذلك العلم أحياناً ولم يكونوا بأهل السلطة ليقيموا أود الناس بالتأديب بعد الوعظ والزجر كما سبق لأمير المؤمنين

ص: 462

علیه السلام مع بعض أصحابه ».

وقال : « بل كانوا غرضاً لفراعنة أيامهم ، وهدفاً لنبالهم ولم يكونوا بذلك المظهر عندهم ، فلو تظاهروا بتلك الخلة ، كيف ترى يحمل الحسد اُولئك الطواغيت ، على الفتك بهم وهم المحسودون على ما آتاهم اللّه من فضله وأي حائل يحجز عمّا يريدونه بهم وبأوليائهم ، وأنّهم لم يطلعوا أعدائهم ولا سواد أوليائهم على جميع ما رزقوا من ذلك الفضل ، وقد لاقوا من المصائب والنوائب والحوادث والكوارث والوقائع والفجائع ، ما تشيخ منه شم الجبال وتشيب من هوله الرضّع ، ولو لم يكونوا رزقوا ذلك الجلد والصبر على قدر ما رزقوا من الفضل ، لما استطاع أن يحمل - ما تحمّلوه - بشر وهل مات أحد منهم حتف أنفه ، دون أن يتجرع غصص السم النقيع ، أو يصافح حدود الصوارم ويعتنق قدود الرماح ، هذا فوق ما يرونه من الهتك للحرمات وتسيير العقائل والسب والسلب والغصب للحقوق والتلاعب بالدين ، وتضييع أحكام الشريعة.

نعم لا يظهر بتلك المنح الالهية جميعها إلاّ الإمام المنتظر عجل اللّه فرجه ، لأنّه لا يخشى ذلك التسرّب إلى ضعاف البصائر ، لو صارح بما وهب من الفضل لقدرته على الردع والتأديب ، ولا يخاف حسد حاسد أو سطوة ظالم ، وهو صاحب السلطة والسيف » (1).

4. ما رواه الكشي عن عنبسة بن مصعب قال : قال لي أبو عبد اللّه علیه السلام : أي شيء سمعت من أبي خطاب ؟ قال : سمعته يقول : إنّك وضعت يدك على صدرك وقلت له عه ولا تنس. وأنّك تعلم الغيب و ... ، قال علیه السلام : واللّه ما مس شيء من جسدي إلاّ يده ، وأمّا قوله : إنّي قلت أعلم الغيب فواللّه الذي لا إله إلاّ هو ما أعلم الغيب فلا آجرني اللّه في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له (2).

5. ما أخبره صائب البصائر عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه : جعلت فداك أي شيء هو العلم عندكم ؟ قال : ما يحدث بالليل والنهار ، الأمر بعد الأمر ، والشيء بعد

ص: 463


1- علم الإمام ص 48 - 49.
2- رجال الكشي ص 188.

الشيء إلى يوم القيامة (1) والحديث بصدد نفي العلم القديم عنهم علیهم السلام .

6. ما نقله صاحب البصائر باسناده عن ضريس قال : كنت مع أبي بصير عند أبي جعفر علیه السلام فقال له أبو بصير : بما يعلم عالمكم ، جعلت فداك ؟ قال : يا أبا محمد إنّ عالمنا لا يعلم الغيب ولو وكّل اللّه عالمنا إلى نفسه كان كبعضكم ولكن يحدث إليه ساعة بعد ساعة (2) وظهور الحديث فيما نرتئيه أغنانا عن البحث حوله.

7. ما خرج عن صاحب الزمان علیه السلام ردّاً على الغلاة من التوقيع جواباً لكتاب إليه على يدي محمد بن علي بن هلال الكرخي : يا محمد بن علي ، تعالى اللّه عزّ وجلّ عمّا يصفونه سبحانه وبحمده لسنا نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته بل لا يعلم الغيب غيره ، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) إلى أن قال : ... أشهدك وأشهد كلّ من سمع كتابي هذا أنّي برئ إلى اللّه وإلى رسوله ممّن يقول : إنّا نعلم أو نشارك اللّه في ملكه أو علينا محلاً سوى المحل الذي نصّبه اللّه وخلقنا له (3).

وفي التوقيع قرائن كثيرة تدل على أنّ المقصود من نفي علم الغيب هو العلم الاصالي الموجب لكونهم شركاء لله في علمه وملكه وقد أكد في التوقيع بأنّهم وجميع الأنبياء والمرسلين كلّهم عبيد لله عزّ وجلّ فراجع إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يقف عليه المتتبع الخبير.

خاتمة المطاف :

قد سبق منّا في أوليات الفصل السابق (4) أنّ كلّ ما غاب عن الحس والشهود فهو غيب لا يقف عليه أحد إلاّ بإذن خاص من اللّه عزّ وجلّ وهو لا يظهره على أحد

ص: 464


1- بصائر الدرجات ص 94 ونقله المجلسي في بحاره ج 26 ص 60.
2- بصائر الدرجات ص 94 ، راجع البحار ج 26 ص 61.
3- الاحتجاج ج 2 ص 288 ط النجف.
4- راجع ص 347 - 350 من هذا الجزء.

إلاّ من إرتضاه قال سبحانه : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ) ( البقرة - 255 ).

غير أنّ الغيب الذي يتوقف على اذنه ومشيئته الخاصة ، هو التعرّف عليه من دون أن يتوسل بعلل وأسباب عادية كما هو الحال في علم الرسول وخلفائه ، وأمّا الاطلاع على الغيب بطرقه العادية وأسبابه الطبيعية ، كاخبار المنجّم عن خسوف القمر في ليلة مقمرة ، وكسوف الشمس في يوم معيّن ، بالاعتماد على الجداول العلمية والمحاسبات الرياضية ، فهو وإن كان علماً بالغيب وتعرّفاً على ما هو غائب عن حس العامة غير أنّه ليس علماً بالغيب في مصطلح القرآن والاخبار.

وإن أبيت إلاّ دخوله في علم الغيب في مصطلح الذكر الحكيم فنقول : إنّ الاطلاع على الغيب بأسبابه العادية من المغيبات التي أذن اللّه لكل أحد أن يطلع عليها إذا طرقها من أبوابها ونظر إليها في ضوء العلم والتجربة.

فقد أذن لكل من تداول علم النجوم ومارس الطب والطبابة أن يعرف وقت التربيع والخسوف والكسوف وأوضاع الكواكب وأحوالها بفضل الجداول والقوانين الرياضية ، وأن يقف على مستقبل المريض وحالاته بل واوان موته ، كما أذن لكل من درس علم الفلاحة ومارسها ، أن يعرف الشجرة ونتاجها ، والوردة وآوان تفتحها والتربة ومدى صلاحها ، وقابليتها للزراعة إلى غير ذلك ممّا يدور في حقله ، فالتنبّؤ بهذه الاُمور الغائبة ونظائرها يتحقق في ظل دراسات ومسبقات علمية ، ولا يعد ذلك آية ومعجزة ودليلاً على صلة المخبر باللّه والعوالم الغيبية بل إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على نبوغه وتوغّله في فنّه الذي تخصص فيه.

ثمّ إنّ الرسول إذ كان ممّن ارتضاه اللّه سبحانه للتعرف على الغيب والاطلاع عليه ، فللّه سبحانه أن يظهره على غيبه عن طريق كتابه وقرآنه ، وقد وقفت على نماذج من ذلك ، كما أنّ له أن يوقفه عليه بغير هذا الطريق بقذف في روعه وتحديث من ملائكته أو غير ذلك من الطرق الغيبية فلا نرى عند ذاك فرقاً بين أن يتنبّأ بفضل كتابه المنزّل عليه

ص: 465

أو بطريق آخر ، فالتنبّؤ في كلا الموردين آية معجزة ودليل على صلته باللّه سبحانه غير أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه ، وغيره وحي بمعناه دون لفظه وكلاهما حق لا ينطق بهما النبي إلاّ عن وحي يوحى.

وقد شغلت بال المحدّثين تلك التنبّؤات التي صدرت عن النبي عن طريق غير الوحي القرآني فعقدوا لبيانها باباً أو أبواباً ، بل ألّفوا حولها كتباً ورسالات (1).

ونحن نذكر هنا بالرغم على ما تثيره العناصر المعاندة لأهل البيت والعادية عليهم من انكار تعرّفهم على الغيب واطلاعهم عليه ، معشار ما وقفنا عليه في صحاح القوم ومسانيدهم وكتب الحديث والتاريخ حتى يلمس القارئ خلاله ما هو الحق في المقام.

تنبّؤات نبوية :

1. تنبّأ الرسول بغلبة المسلمين على كسرى وفتح كنوزه واستقرار السلام العام في مناطقهم وبيئاتهم. قال عدي بن حاتم : بينا أنا عند النبي إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثمّ أتاه آخر فشكا قطع السبيل ، فقال يا عدي : هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد اُنبئت عنها ، قال : فإن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلاّ اللّه ... ولئن طالت بك حياة لنفتحن كنوز كسرى ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم ، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملئ كفّه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله ... قال عدي : رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلاّ اللّه ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ، رواه البخاري (2).

ص: 466


1- أجمع كتاب اُلّف في هذا الموضوع لدى الشيعة ما ألّفه المحدث السيد هاشم البحراني وأسماه مدينة المعاجز ، وهو مجلد كبير طبع بإيران ويليه ما ألّفه المحدّث الحر العاملي وأسماه ب « اثبات الهداة بالبيّنات والمعجزات » وقد طبع في مجلدات سبع وقد مرّ الايعاز إلى ما ورد فيه من الأخبار الغيبية.
2- راجع التاج ج 3 ص 256.

2. قد شكا خباب بن الارت إلى النبي وكان هو متوسّد بردة له في ظل الكعبة فقال له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو اللّه لنا ؟ فقال النبي - مشيراً إلى ألوان التعذيب التي كانت تحل بالمؤمنين في الاُمم السالفة - : « واللّه ليتمنّ اللّه هذا الأمر حتى يسير المراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ اللّه أو الذئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون » رواه البخاري وأبو داود في الجهاد وبهذا المضمون أحاديث كثيرة (1).

3. تنبّأ النبي بالمستقبل المظلم الذي يواجهه الخويصرة رئيس الخوارج والمارقين وهو الذي قال لرسول اللّه : « اعدل » فقال رسول اللّه : ويلك من يعدل إن لم أعدل ؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه أتأذن لي فيه أضرب عنقه ؟ قال : دعه فإنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء (2) وللحديث صور اُخرى نقلها في التاج (3).

4. وقد تنبّأ صلی اللّه علیه و آله بكذّاب ثقيف وقتال الروم وفتح القسطنطينية وغيره من علامات خروج المهدي وقد جمعها صاحب التاج في كتاب الفتن ، فراجع الجزء الخامس ص 296 - 326 تجد فيها من التنبّؤات ما لا يحصى.

5. تنبّأ رسول اللّه بقتل علي بسيف أشقى الأوّلين والآخرين وهو يبكي ، فقال علي : يا رسول اللّه ما يبكيك ؟ فقال : يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ثمود فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك (4) وهو أخبر في كلامه هذا عن عدة مغيبات من أنّ علياً لا يموت بحتف أنفه ، بل يقتل في شهر رمضان ، في حال الصلاة ، بالسيف ،

ص: 467


1- راجع التاج الجزء الثالث ص 257.
2- المصدر نفسه ج 5 ص 286 كتاب الفتن.
3- المصدر نفسه ج 5 ص 295.
4- عيون أخبار الرضا ج 1 ص 297 ، تاريخ بغداد ج 1 ص 135 الكامل للمبردج 2ص 132 ، نهج البلاغة ، عبده ، الخطبة 151.

ويصيب السيف بقرنه ، وتخضب منها لحيته ، وانّ قاتله شقيق عاقر ثمود في الشقاء.

6. أخبر في غزوة تبوك عن موت أبي ذر وحده بفلات من الأرض وذلك عندما أبطأ على أبي بذر بعيره فتركه وأخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه ماشياً ونزل رسول اللّه في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول اللّه أنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده ، فقال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كن أبا ذر ، فلمّا تأمله القوم قالوا : يا رسول اللّه هو واللّه أبو ذر ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده.

ولما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة مات هناك ، ولم يكن معه إلاّ امرأته وغلامه ، فأوصاهما أن اغسلاني وكفّناني ثمّ ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه ، فأعينونا على دفنه ، وقبل عبد اللّه بن مسعود في رهط من أهل العراق وقام إليهم الغلام فأخبرهم بما أمر ، فاستهل عبد اللّه بن مسعود يبكي ويقول صدق رسول اللّه تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، ثمّ نزل هو وأصحابه فواروه ، ثمّ حدثهم عبد اللّه بن مسعود حديثه وما قال رسول اللّه في مسيره إلى تبوك (1).

7. وقد خاطب صلی اللّه علیه و آله عائشة بقوله : يا حميراء كأنّي بك تنبحك كلاب الحوأب تقاتلين علياً وأنت ظالمة ، يا حميراء إيّاك أن تكوني أنت (2).

8. كان رسول اللّه يحث أصحابه على نصرة أمير المؤمنين في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين وقال أمير المؤمنين : أمرني رسول اللّه بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (3).

9. تنبّأ النبي بما يجري على الاُمّة من بني اُميّة وقال كما قال أبو ذر لعثمان : سمعت رسول اللّه يقول : إذا كملت بنو اُميّة ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد اللّه دولاً ، وعباد اللّه

ص: 468


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 523.
2- العقد الفريد ج 2 ص 283 ، مستدرك الحاكم ج 3 ص 194.
3- تاريخ الخطيب ج 8 ص 340 وغيره.

خولاً ، ودين اللّه دغلاً ، فارتجّ الخليفة بسماعه فبعث إلى علي بن أبي طالب فأتاه فقال : يا أبا الحسن أسمعت رسول اللّه يقول ما حكاه أبو ذر وقص عليه الخبر ، فقال علي : نعم (1).

يحدثنا التاريخ عن سيرة الخليفة في الغنائم والأموال وعن اقتناء جماعة من أصحاب الفتن والثورات من آل العاص وبني اُميّة ضياعاً عامرة ودوراً فخمة وقصوراً شاهقة ، وثروة طائلة وأسس الخليفة حكومة اُموية قاهرة في الحواضر الإسلامية وسلّطهم على رقاب الناس وأدلى الأمر ، في المراكز الحساسة إلى أغلمة بني اُمية وشبابهم وأشياخهم وذلّل لهم السبل وكسح عن مسيرهم العراقيل إلى غير ذلك من أحداث موبقة جرت الويلات على الاُمّة الإسلامية في أمصارها إلى أن قتل من جرائها.

وإلى ذلك يشير النبي بقوله : سيكون اُمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون (2).

10. ما أخبر به عمار إذ دخل عليه وقد أثقلوه باللبن فقال : يا رسول اللّه قتلوني يحملون علي ما لا يحملون بقوله : ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلوك إنّما تقتلك الفئة الباغية ، وأنّ آخر رزقك من الدنيا صاع من لبن أو مذقة من لبن ، وقد طلب عمار شربة فاُتي بشربة لبن ، فقال : انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : آخر شربة تشربها في الدنيا شربة لبن وشربها ثمّ قاتل حتى قتل (3).

11. تنبّأ النبي بقتال الزبير مع أمير المؤمنين وقد برز علي ، قبل وقوع الحرب يوم الجمل وأراد أن يستفيئه إلى طاعته ، وقال ليبرز إليَّ الزبير فبرز إليه مدججاً ، فقيل لعائشة : قد برز الزبير إلى علي علیه السلام فصاحت : وازبيراه ، فقيل لها : لا بأس عليه منه ، أنّه حاسر والزبير دارع ، فقال له علي - بعد كلام دار بينه وبين الزبير - : ناشدتك اللّه أتذكر يوماً مررت بي ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله متّكئ على يدك وهو جاء من بني عمرو بن

ص: 469


1- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 162 ط النجف وغيره من المصادر الوافرة.
2- مسند أحمد ج 1 ص 456.
3- سيرة ابن هشام ج 1 ص 497 ، اُسد الغابة ج 4 ص 46.

عوف فسلّم علي وضحك في وجهي فضحكت إليه لم ازده على ذلك فقلت : لا يترك ابن أبي طالب يا رسول اللّه زهوه ، فقال لك : مه أنّه ليس بذي زهو أما أنّك ستقاتله وأنت له ظالم. فاسترجع الزبير وقال : لقد كان ذلك ولكن الدهر أنسانيه ... (1).

12. تنبّأ النبي بقتال علي علیه السلام على تأويل القرآن ، روى أبو سعيد قال : كنّا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانقطعت نعله فتخلّف علي يخصفها فمشى قليلاً ثمّ قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله » فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر وقال أبو بكر : يعني علياً ، فأتيناه فبشرناه فلم يرجع به رأسه كأنّه قد سمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

13. أخبر النبي بقتل كسرى وأنّ اللّه سلّط ابنه « شيرويه » عليه ، فقتله في شهر كذا وليلة كذا ، وذلك عندما كتب كسرى إلى « باذان » وهو باليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به ، فبعث باذان « بابويه » وكان كاتباً حاسباً ورجلاً آخر من الفرس فأعلما النبي بما قدما له ، فقال لهما رسول اللّه : أرجعا حتى تأتيان غداً ، فلمّا أتيا تنبّأ بقتل كسرى وأمر بهما أن يقولا لباذان : « ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى وينتهي منتهى الخف والحافر » (3).

14. تنبّأ النبي بأنّه لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة وقد روى حصين عن أبيه جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبي على النبي سمعته يقول : أنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، قال ثمّ تكلم بكلام خفي علي ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلّهم من قريش (4).

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ممّا يقف عليه المتتبع في مسانيد الحديث

ص: 470


1- مستدرك الحاكم ج 3 ص 366.
2- مستدرك الحاكم ج 3 ص 23.
3- الطبقات الكبرى ج 1 ص 260 ، تاريخ الكامل ج 2 ص 146 ، السيرة الحلبية ج 3 ص 278.
4- صحيح مسلم ج 2 ص 191 ، ورواه غيره بصور متقاربة.

وصحاحه وجوامع التاريخ أتينا بها ، ليكون القارئ على بصيرة من الأمر ولا يصغي لدعوة العناصر المعاندة من رماة القول على عواهنه.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا درست حقيقة النبوّة وما أكرم اللّه سبحانه به أنبيائه من نفسيات وملكات كالعصمة والقداسة الروحية والنزاهة النفسية ، والعلم الذي لا يضلّون معه في شيء ، إلى كثير من كرائم وفضائل ، حتى جعلهم أكمل البشر خلقاً وخُلقاً ، وأصدقهم قولاً وأحاطهم بالرعاية ، وشملهم بالعناية ، كما قال سبحانه مخاطباً نبيّه الأكرم : ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) ( الطور - 48 ) ، لوقفت أنّ التنبّؤ بالغيب والاخبار عن غابر الحوادث وطارئها ليس أمراً عجيباً في جنب ما منح اللّه لهم من عظائم المواهب ، وكرائم الفضائل.

فعند ذاك فلا غرو فيما اخبروا عن غابر الاُمور وطارئها مما نقلناه وما لم ننقله فإنّ النبوّة منصب إلهي خطير لا يستحقه إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس وأفضلهم وأجمعهم للكمالات وأعلمهم بالحقائق والاُمور ، ممّن شملته العناية الالهية وتعلّم منه ما لم يكن يعلمه هو ولا قومه كما قال : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ( آل عمران - 48 ).

وقال سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ) ( هود - 49 ) ، وقال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ) ( يوسف - 68 ) ، وقال : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( يوسف - 96 ) ، فعند ذاك فلا عجب إذا أخبروا بغابر الاُمور وطارئها ، أو بكل ما كان وما يكون من الحوادث باذن من اللّه سبحانه ف ( أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) .

تنبّؤات علوية :

هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صنو النبي ، وباب علمه ووارثه ، قد تنبّأ بملاحم أحداث وفتن في حياته وأيام امارته أخذها من منهلها العذب ونميرها الصافي ،

ص: 471

فصدق الخبر الخبر ، فتحقق بعضها بعد مئات السنين ، ولم يكن تنبّؤ الوصي عن تكهّن وتخرّص ولا عن فراسة ومحاسبات عادية ، وشتّان بين تخرّص متخرّص ، أو كهانة متكهّن ، أو تفرّس متفرّس ، وما تنبّأ به الوصي على صهوات المنابر في الحواضر الإسلامية وميادين الحروب الطاحنة وأندية الوعظ والتبليغ معلناً بأنّ ما ذكره وراثة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعلم وصل إليه منه ، ودونك نماذج ممّا وقفنا عليه :

قام خطيباً في البصرة مخاطباً أهلها الناكثين عندما وضعت الحرب أوزارها وقال :

1. كأنيّ بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها (1).

وقد وقع المخبر به ، فإنّ البصرة غرقت مرتين في أيام القادر باللّه ، ومرّة في أيام القائم بأمر اللّه ، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلاّ مسجدها الجامع ، بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر ، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين علیه السلام فقد جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ، وخربت دورها ، وغرق كل ما في ضمنها ، وهلك كثير من أهلها (2).

2. قوله : وكأنيّ وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، يثيرون الأرض بأقدامهم ، كأنّها أقدام النعام (3).

3. قوله : وكأنيّ أراها قوماً كأنّ وجوههم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، يعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك استحرار قتل ، حتى يعيش المجروح على المقتول ، ويكون المفلت ، أقل من المأسور (4).

ص: 472


1- نهج البلاغة ، الخطبة 12.
2- الشرح الحديدي ج 1 ص 253.
3- نهج البلاغة الخطبة 124 ، قال الشريف الرضي : يومي بذلك إلى صاحب الزنج ، وقد ذكر أخباره الطبري في تاريخه ج 3 ص 1743 طبع أوربا ، والمسعودي في مروج الذهب ج 4 ص 194 ، ونقله الشارح المعتزلي في شرح النهج ج 8 ص 126 - 214.
4- نهج البلاغة الخطبة 124.

يومي به إلى فتنة التتار وجيشه العرمرم الذي أعدّه رئيسها لغزو المسلمين وهدم بلادهم ونهب أموالهم وقتل صغيرهم وكبيرهم ، وقد ذكر ابن الاثير ، هذه الحادثة المؤلمة في تاريخه ( في حوادث سنة 617 وما بعدها ج 9 ص 329 - 387 ).

وقال في أوّلها : ولقد بقيت عدّة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة ، استعظاماً لها ، كارهاً لذكرها ، فأنا أقدم إليه رجلاً واُخّر اُخرى ، فمن الذي يسهل عليه ، أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ؟ من ذا الذي يهون عليه ذكره ، فياليت اُمّي لم تلدني ، ويا ليتني مت قبل هذا ، وكنت نسياً منسياً ، إلاّ أنّه حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها ، وأنا متوقف ، ثمّ رأيت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً.

وقد نقل الشارح الحديدي ج 8 ص 218 - 241 اجمال هذه الملحمة أيضاً ، فراجع.

4. ومثل إخباره عمّا يجري بعد وفاته على الاُمّة وتعرفهم على شخصيته البارزة بعد ما كانت مجهولة كقوله : « غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي » (1).

5. ومثل إخباره عن ملك بني اُمية وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض حيث قال : « أقسم ثمّ أقسم لتنخمنها (2) اُمية من بعدي كما تلفظ النخامة ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبداً ماكر الجديدان » (3).

6. وقوله مخبراً عن تسلّط معاوية على العراق والزامه الناس بسب علي علیه السلام والبراءة منه كما يقول : « أمّا أنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ; ولن تقتلوه ألا وإنّه سيأمركم بسبّي

ص: 473


1- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 145.
2- نخم - كفرح - أخرج النخامة من صدره فألقاها ، والنخامة - بالضم - ما يلف - ظه الصدر أو الدماغ من المواد المخاطية.
3- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 153.

والبرائة منّي ، أمّا السب فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّي فإنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة » (1).

قال الشارح الحديدي : وكثيراً من الناس يذهب إلى أنّه علیه السلام عنى زياداً وكثير منهم يقول : أنّه عنى الحجاج وقال قوم : أنّه عنى المغيرة بن شعبة ، والأشبه عندي : معاوية لأنّه كان موصوفاً بالنهم وكثرة الأكل وكان بطيناً يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه - إلى أن قال - : وتظافرت الأخبار بأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعى على معاوية لما بعث إليه يستدعيه فوجده يأكل ثم بعث فوجده يأكل فقال اللّهمّ لا تشبع بطنه وقال الشاعر :

وصاحب لي بطنه كالهاوية *** كأن في أحشائه معاوية (2)

7. ما يومى إلى سلطة الحجاج : لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه ، إذاً لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم ، وتندمون على أنفسكم - إلى أن قال : - أما واللّه ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذيال الميال ، يأكل خضركم ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة (3).

8. تنبّأ بما ستلقى الاُمّة من مروان وولده بقوله - لما اُخذ مروان أسيراً يوم الجمل - : « أما أنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه (4) ، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الاُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر » (5) وفسّروا الأكبش الأربعة بولد عبد الملك بن مروان وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام الذين سوّدوا تاريخ الخلافة بل تاريخ الانسانية بجناياتهم الموبقة

ص: 474


1- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 56.
2- الشرح الحديدي ج 4 ص 54 - 55.
3- نهج البلاغة الخطبة 112 : الوذح ما يتعلق بذنب الشاة من البعار فيجف ، والمراد هنا الخنفساء وقد لسعت يد الحجاج فورمت يده وأخذته حمى من اللسعة فأهلكته ، ولا يخفى أنّ في هذا الكلام القصير تنبّؤات.
4- تصوير عن قصر مدتها ، وكانت تسعة أشهر ، وهذا تنبّؤ آخر.
5- نهج البلاغة ط عبده ص 70.

وخزاياتهم المهلكة.

9. هذا « عرفة » الأزدي وهو من أصحاب النبي و « الصفة » وقد دعا له النبي أن يبارك له في صفقته يقول : دخلني شك في شأن علي علیه السلام فخرجت معه على شاطئ الفرات ، فعدل عن الطريق ووقف ووقفنا حوله ، فقال - مشيراً بيده - : « هذا موضع رواحلهم ، ومناخ ركابهم ، ومهراق دمائهم بأبي من لا ناصر له في الأرض ولا في السماء إلاّ اللّه » ، فلمّا قتل الحسين ، خرجت حتى أتيت المكان الذي قتلوا فيه ، فإذا هو الحال ما أخطأ شيئاً ، قال : فاستغفرت اللّه مما كان من الشك وعلمت أنّ علياً علیه السلام كان على حق لم يقدم إلاّ بما عهد إليه منه (1).

10. ما تنبأ به علیه السلام عندما عزم على حرب الخوارج ، قيل له : انّ القوم قد عبروا جسر النهروان ، قال : مصارعهم دون النطفة واللّه لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة.

قال الرضي : يعني بالنطفة ماء النهر وهي أفصح كناية عن الماء وقال الشارح الحديدي : هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لاشتهاره ونقل الناس كافة له وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب.

والاخبار على قسمين :

أحدهما : الأخبار المجملة ولا اعجاز فيها : نحو أن يقول الرجل لأصحابه : انّكم ستنتصرون على هذه الفئة التي تلقونها غداً ، فإن نصر ، جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسماها معجزة ، وإن لم ينصره قال : تغيّرت نيّاتكم وشككتم في قولي ، فمنعكم اللّه نصره ونحو ذلك من القول ، ولأنّه قد جرت العادة على أنّ الملوك والرؤساء يعدّون أصحابهم بالظفر والنصر ، ويمنّونهم الدول ، فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمّن اعجازاً.

والقسم الثاني : في الأخبار المفصلة عن الغيوب ، مثل هذا الخبر فإنّه لا يحتمل

ص: 475


1- اُسد الغابة ج 4 ص 169.

التلبيس ، لتقييده بالعدد المعيّن في أصحابه وفي الخوارج ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه ، من غير زيادة ولا نقصان وذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعرفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جهة اللّه سبحانه ، والقوّة البشرية تقصر عن ادراك مثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره.

وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته ، وأحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا ، حتى نسب إلى أنّ الجوهر الإلهي حلّ في بدنه كما قالت النصارى في عيسى علیه السلام وقد أخبره النبي صلی اللّه علیه و آله بذلك فقال : « يهلك فيك رجلان محبّ غال ومبغض قال ».

وقال له تارة اُخرى : « والذي نفسي بيده لولا أنّي أشفق أن تقول طوائف من اُمّتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالاً لا تمرّ بملأ من الناس إلاّ اخذوا التراب من تحت قدميك للبركة » (1).

ثمّ قال : وإعلم انّا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ولكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه باقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه ، فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدّعي النبوّة ، لم يجز أن يكون ذلك إلاّ بإذن اللّه سبحانه وتمكينه ، وأن يريد به تعالى استدلال المكلّفين على صدق مدّعى النبوّة.

وأمّا إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدّعياً للنبوّة ، نظر في حاله ، فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنّه كرامة أظهرها اللّه تعالى على يده أبانة له وتمييزاً عن غيره ، كما في حقّ علي علیه السلام وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ساحراً أو كاهناً ، أو نحو ذلك.

وبالجملة فصاحب هذه الخاصية أفضل وأشرف ممّن لا يكون فيه من حيث اختصاصه بها فإن كان للانسان العاري منها مزية اُخرى يختص بها توازيها أو تزيد عليها ، فنرجع إلى التمثيل والترجيح بينهما ، وإلاّ فالمختص بهذه الخاصية أرجح وأعظم

ص: 476


1- الشرح الحديدي ج 5 ص 4.

من الخالي منها على جميع الأحوال (1).

11. لما قتل الخوارج وقيل له : يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم فأجابهم :

كلاّ واللّه ، إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء (2) كلّما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً (3) سلاّبين.

قوله علیه السلام : « كلّما نجم منهم قرن قطع » استعارة حسنة ، يريد : كلّما ظهر منهم قوم استؤصلوا ، فعبّر عن ذلك بلفظة « قرن » كما يقطع قرن الشاة إذا نجم ، وقد صح إخباره علیه السلام عنهم انّهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان وأنّها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد ، وهكذا وقع وصحّ إخباره علیه السلام أيضاً أنّه سيكون آخرهم لصوصاً سلاّبين ، فإنّ دعوة الخوارج اضمحلّت ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض.

وممّن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني في أيام الرشيد بن المهدي فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله وحمل رأسه إلى الرشيد.

ثم خرج في أيام المتوكل ، ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق وأخاف السبيل ، وتسمّى بالخلافة ، فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي.

وقد خرجت بعد هذين جماعة من الخوارج ، وكلّهم بمعزل عن طرائق سلفهم وإنّما وكدهم وقصدهم إخافة السبيل والفساد في الأرض واكتساب الأموال من غير حلّها (4).

12. وقد أماط الإمام الستر عن وجه الحقيقة وعن كمية علمه وكيفيته في بعض خطبه وأقسم فيه باللّه الذي نفسه بيده ، أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين

ص: 477


1- المصدر نفسه ص 12 - 13.
2- قرارات النساء كناية عن الأرحام.
3- نهج البلاغة الخطبة 59.
4- الشرح الحديدي ج 5 ص 73 - 77.

القيامة إلاّ أخبرهم به وأنّه ما صح من طائفة من الناس ، يهتدي بها مائة وتضل بها مائة إلاّ وهو مخبر لهم إن سألوه برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ومن يقتل منها قتلاً ، ومن يموت منها موتاً ، حيث قال بعد أنّ فرغ من قتال الخوارج :

« أيّها الناس فإنّي فقأت عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها ، واشتد كلبها.

فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده ، لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة ، إلاّ أنبأتكم (1) بناعقها وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحط رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً.

ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الاُمور ، وحوازب الخطوب ، لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسؤولين ، وذلك إذا قلصت حربكم ، وشمرت عن ساق ، وكانت الدنيا عليكم ضيقاً تستطيلون أيام البلاء عليكم ، حتى يفتح اللّه لبقية الأبرار منكم.

انّ الفتن إذا أقبلت شبهت ، وإذا أدبرت نبهت ، ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن حول الرياح ، يصبن بلداً ، ويخطئن بلداً.

ألا وأنّ أخوف الفتن عندي عليكم ، فتنة بني اُمية ، فإنّها فتنة عمياء مظلمة ! عمت خطتها ، وخصت بليتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، وأخطأ البلاء من عمى عنها.

وأيم اللّه لتجدن بني اُمية لكم أرباب سوء بعدي ، كالناب الضروس ، تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درها ، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم ، إلاّ نافعاً لهم ، أو غير ضائر بهم.

ولا يزال بلاؤهم عنكم ، حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد

ص: 478


1- مخطوطة النهج : « نبّأتكم ».

من ربّه ، والصاحب من مستصحبه ، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية ، وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منها منار هدى ولا علم يرى.

نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة ، ثم يفرجها اللّه عنكم كتفريج الأديم ، بمن يسومهم خسفاً ، ويسوقهم عنفاً ، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلاّ السيف ، ولا يحلسهم إلاّ الخوف ، فعند ذاك تود قريش بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاماً واحداً ، ولو قدر جزر جزور ، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه ، فلا يعطوننيه » (1).

قال ابن أبي الحديد : ولقد امتحنّا اخباره فوجدناها موافقة ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة ، كاخباره عن الضربة التي يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته ، واخباره عن قتل الحسين ابنه علیه السلام ، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها ، واخباره بملك معاوية الأمر من بعده واخباره عن الحجاج ، وعن يوسف بن عمر ، وما أخبره به من أمر الخوارج بالنهروان ، وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم ، وصلب من يصلب ، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص علیه السلام إلى البصرة لحرب أهلها ، وإخباره عن عبد اللّه بن الزبير وقوله فيه : « خب ضب يروم أمراً ولا يدركه ، ينصب حبالة الدين لإصطياد الدنيا وهو بعد مصلوب قريش ».

وكاخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة اُخرى بالزنج وهو الذي صحفه قوم فقالوا : بالريح ، وكاخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق ، ( بتقديم المهملة ) وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية ،

ص: 479


1- نهج البلاغة الخطبة 89 ، قال الشارح الحديدي : وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير ، وهي متداولة مستفيضة ، خطب بها علي علیه السلام بعد انقضاء أمر النهروان وفيها ألفاظ لم يوردها الرضي من ذلك قوله : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي ميّت عن قريب أو مقتول ، بل قتلاً ، ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه بدم » وضرب بيده إلى لحيته. لاحظ نهج البلاغة ج 7 ص 57.

وكاخباره عن الأئمّة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما في قوله علیه السلام : « وإنّ لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره اللّه إذا شاء دعاؤه حق يقوم باذن اللّه فيدعوا إلى دين اللّه ».

وكاخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله : « إنّه يقتل عند احجار الزيت » وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة (1) : « يقتل بعد أن يظهر ويقهر بعد أن يقهر » وقوله أيضاً : يأتيه سهم غرب (2) يكون فيه منيته فيا بؤساً للرامي شلّت يده ووهن عضده » واخباره عن قتلى « وج » وقوله فيهم : « هم خير أهل الأرض ».

وكاخباره عن المملكة العلوية بالغرب ، وتصريحه بذكر كتامة ، وهم الذين نصروا أبا عبد اللّه الداعي المعلم ، وكقوله وهو يشير إلى أبي عبد اللّه المهدي : وهو أوّلهم ثمّ يظهر صاحب القيروان الغض البض ، ذو النسب المحض ، المنتجب من سلالة ذي البداء ، المسجى بالرداء ، وكان عبيد اللّه المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة رخص البدن ، تار (3) الأطراف ، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد علیهماالسلام وهو المسجّى بالرداء لأنّ أباه أبا عبد اللّه جعفر أسجاه برداءه لما مات ، وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدوه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.

وكاخباره عن بني بويه وقوله فيهم : « ويخرج من ديلمان بنو الصياد » اشارة إليهم وكان أبوهم صياد السمك ، يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه ، فاخرج اللّه تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة ، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم ، وكقوله علیه السلام فيهم : « ثمّ يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء » فقال له قائل : فكم مدته يا أمير المؤمنين ؟ فقال : « مائة أو تزيد قليلاً » وكقوله فيهم : والمترف ابن

ص: 480


1- كذا في النسخة وكتب الينا المحقق الشيخ محمد تقي التستري أن الصحيح : « بباخمرى ».
2- سهم غرب ، أي لا يدرى راميه.
3- التار : الممتلئ جسمه وعظمه ريا.

الأجدم يقتله ابن عمه على دجلة وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين ، وكان معز الدولة أقطع اليد ، قطعت يده للنكوص في الحرب ، وكان ابنه عز الدولة بختيار ، مترفاً صاحب لهو وشرب ، وقتله عضد الدولة فنّاخسرو ، ابن عمه ، بقصر الجص على دجلة في الحرب ، وسلبه ملكه ، فأمّا خلعهم للخلفاء فإنّ معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة ، خلع الطائع ورتب عوضه القادر ، وكانت مدة ملكهم كما أخبر به علیه السلام .

وكاخباره علیه السلام لعبد اللّه بن العباس رحمه اللّه تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده فإنّ علي بن عبد اللّه لما ولد ، أخرجه أبوه « عبد اللّه » إلى علي علیه السلام فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة ، قد لاكها ، ودفعه إليه وقال : خذ إليك أبا الأملاك ، هكذا الرواية الصحيحة وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في كتاب « الكامل » (1) وليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه.

وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ، ممّا لو أردنا استقصاءه لكرّسنا له كراريس كثيرة ، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (2).

13. قوله علیه السلام في خطبة تسمّى القاصعة ... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلی اللّه علیه و آله فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنّة ؟! فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير (3).

قال الشارح الحديدي : روي عن جعفر بن محمد الصادق علیه السلام قال كان

ص: 481


1- الكامل 2 : 217.
2- شرح النهج ج 7 ص 48 - 50.
3- نهج البلاغة طبعة عبده ج 2 ص 182 - 183.

علي علیه السلام يرى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت وقال له صلی اللّه علیه و آله : « لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصي نبي ووارثه بل أنت سيد الأوصياء وإمام الاتقياء » (1).

ولا دليل على حمل قوله : « انّك تسمع ما أسمع » على سماع خصوص رنّة الشيطان بل هو ظاهر في العموم حسب ما يظهر من الإمام الصادق علیه السلام .

14. مثل اخباره عن فتنة صاحب الزنج وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس حيث جمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ في نواحي البصرة وخرج بهم على المهتدي العباسي في سنة خمسة وخمسين ومائتين واستفحل أمره وانتشر أصحابه في أطراف البلاد للسلب والنهب إلى أن قتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين.

« فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة ، ولا ترد لها راية ، تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها ويجدها راكبها أهلها قوم شديد كلبهم قليل سلبهم يجاهدهم في سبيل اللّه قوم أذلّة عند المتكبرين ، في الأرض مجهولين وفي السماء معروفون ، فويل لك يا بصرة ، عند ذلك من جيش من نقم اللّه لا رهج له ولا حس وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر » (2).

قال الشارح الحديدي فسّر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج ، وهو بعيد لأنّ جيشه كان ذا حس ورهج ولأنّه أنذر البصرة بهذا الجيش ألا تراه قال : « فويل لك يا بصرة » ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام (3).

ص: 482


1- الشرح الحديدي ج 13 ص 210.
2- نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 98.
3- شرح النهج ج 7 ص 104.

هذه أربعة عشر خبراً غيبياً من روائع نصوص الإمام تدل على وقوفه على ما غاب عن الحس بإذن من اللّه سبحانه. وقد نقل الشارح الحديدي كثيراً من أخباره الغيبية في أجزاء كتابه ، وقد نقلنا بعضها في ما تقدم فلاحظ بعضها في الجزء الثاني من شرحه ص 286 - 295 ترى فيه أخباراً غيبية كثيرة كيف وقد روي عنه علیه السلام إخبارات غيبية مبثوثة في كتب الحديث والتاريخ بحيث لو جمعها جامع لخرج بسفر جليل وضخم وفيما نقلناه كفاية للقارئ الكريم.

عثرة لا تقال :

هذا هو الحق الذي أحق أن يتبع ، وقد صدقه كتاب اللّه العزيز وأيّدته النصوص المستفيضة وأطبقت عليه الأعلام في العصور المختلفة.

غير أنّ هذه المسألة قد أثارت في عصرنا قلقاً واضطراباً في الأوساط الدينية فحامت حولها الشبهات ، واكتنفتها أجواء تثير السخط والاستياء ، من اُناس ابتلوا بعقدة النقص أو جنون العظمة ، مع أنّ كتاب اللّه بين ظهرانيهم والنصوص المتضافرة بين أيديهم ، فلو رجعوا إلى ذينك المصدرين ، بقلب سليم وفكر مستقيم لعرفوا الحق واتبعوه ، والحق أحق أن يتبع.

وقد وقفت بعدما كتبت هذا الفصل على « كتيب » لبعض من يضمر لأئمّة أهل البيت حقداً وعداءاً ، ويحارب كل فضيلة تثبتها النصوص لهم ، ويمتلئ صدره بالتعصب المقيت وقد أعاد فيه ما ذكره ابن تيمية ونظراؤه من الذين أكل عليهم الدهر وشرب حيث أنكر علم النبي وأوصياؤه بالغيب على وجه الاطلاق وعزاه إلى جمهور الإمامية وفطاحلهم ، قائلاً بأنّ فكرة علمهم بالغيب ، اسطورة حدثت في الآونة الأخيرة بيد الغلاة. واستشهد على ذلك بما ذكره أمين الإسلام في كتابه ، حيث قال في تفسير قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )

ص: 483

( المائدة - 109 ) ما هذا لفظه :

وذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره : انّها تدل على بطلان قول الإمامية : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب وأقول : إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم ، فإنّا لا نعلم أحداً منهم بل أحداً من أهل الإسلام يصف أحداً من الناس بعلم الغيب ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين ، والشيعة الإمامية براء من هذا القول ومن نسبهم إلى ذلك فاللّه ما بينه وبينهم (1).

غير أنّه عزب عن هذا المسكين أنّ ما ذكره « أمين الإسلام » لا يمثّل رأي الشيعة الإمامية في الموضوع ، وإنّما هو رأي واحد منهم ولا يمثّل رأي الجميع ولا يؤخذ الجمع بفعل الواحد ورأيه.

أضف إلى ذلك : أنّ ما ذكره أمين الإسلام لا يهدف إلاّ إلى ما ذكرناه ، وانّ الممنوع توصيفهم باطلاعهم على الغيب على غرار علمه سبحانه ، بشهادة قوله : « ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين » إذ أي صلة بين مفارقة الدين والقول بأنّ اللّه سبحانه أظهر غيبه لأحد أوليائه ، واطلع هو على الغيب من تلك الناحية وتعرف بتعليم منه سبحانه.

ولو رجع الكاتب إلى موضع آخر من كتابه ولم يقصر نظره على موضع واحد منه ، لوقف على مغزى ما رامه فإنّه قدّس اللّه سرّه قد حقّق المسألة في موضع آخر من كتابه.

قال في تفسير قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود - 123 ) ما هذا لفظه : وجدت بعض المشايخ ممّن يتّسم بالعدوان والتشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره فقال : « هذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه يختص بعلم الغيب خلافاً لما تقول الرافضة : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب » ولا شك أنّه عنى بذلك من يقول بإمامة

ص: 484


1- مجمع البيان ج 2 ص 261 ط صيدا.

الاثنى عشر ويدين بأنّهم أفضل الانام بعد النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ هذا دأبه وديدنه فيهم ، يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم ، وينسب الفضائح والقبائح إليهم ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، فإنّما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد ، وهذه صفة القديم سبحانه ، العالم لذاته لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين ومن اعتقد أنّ غير اللّه سبحانه يشاركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام.

فأمّا ما نقل عن أمير المؤمنين علیه السلام ورواه عنه الخاص والعام من الأخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل قوله وهو يومي به إلى صاحب الزنج ، كأنّي يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النعام.

وقوله يشير إلى مروان أمّا أنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الاُمّة منه ومن ولده موتاً أحمر ، وما نقل من هذا الفن عن أئمّة الهدى علیهم السلام من أولاده مثل ما قاله أبو عبد اللّه علیه السلام لعبد اللّه بن الحسن وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية ليبايعوا ابنه محمداً ، واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم وأشار إلى العباسيين وأنّ ابنيك لمقتولان ، ثمّ نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال له : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ؟ - يعني أبا جعفر المنصور - قال : نعم ، فقال : إنّا واللّه نجده يقتله. فكان كما قال.

ومثل قول الرضا علیه السلام : بورك قبر طوس وقبران ببغداد ، فقيل له : قد عرفنا واحداً فما الآخر ؟ قال : ستعرفونه ، ثمّ قال : قبري وقبر هارون هكذا - وضم أصبعيه - (1) وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي وقد ناوله قبضة من التمر لو زادك رسول

ص: 485


1- نظير قوله لموسى بن مهران في مسجد المدينة عندما كان هارون يخطب : أترونني وإياه ندفن في بيت واحد ، عيون أخبار الرضا ج 2 ص 226.

اللّه صلی اللّه علیه و آله لزدناك ، وقوله من حديث علي بن أحمد الوشاء حين قدم مرو من الكوفة : « معك حلّة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك وقالت اشتر لي بثمنها فيروزجاً » والحديث مشهور إلى غير ذلك ممّا روي عنهم علیهم السلام . فإنّ ذلك متلقّى عن النبي صلی اللّه علیه و آله ممّا أطلعه اللّه عليه ، فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب ، وهل هذا إلاّ سب قبيح وتضليل لهم بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير واللّه يحكم بينه وبينهم وإليه المصير (1).

هل استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور ؟

قد اشتهر بين المفسّرين أنّ هناك اُمور خمسة استأثر اللّه بعلمها وحده ، لا يجليها لغيره واستندوا في ذلك إلى قوله تعالى :

( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان - 34 ) ويؤيده ما روي من اختصاص العلم بهذه الاُمور الخمسة باللّه تعالى وأنّ غيره لا يطلع عليها أبداً وقد جرت مشيئة اللّه على كتمان العلم بهذه الاُمور عن خلقه.

ولقائل أن يقول : لا محيص عن صحة ما ذكروه في الأربعة التالية : علم الساعة ، العلم بما في الأرحام ، العلم بما يكسبه الانسان في مستقبل أيامه ، وعلمه بالأرض التي يموت فيها الانسان ، وأمّا اختصاص العلم بوقت نزول الغيث به سبحانه فلا تفيده الآية إذ أنّه تعالى يقول : ( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) ، ولم يقل : وعنده علم نزول الغيث.

ويدفع بأنّ العلم بوقت نزول الغيث لو لم يكن مثل الأربعة الباقية لكان الاتيان

ص: 486


1- مجمع البيان ج 3 ص 205 وقوله للمأمون عندما ذاكره بقوله : ندخل بغداد إن شاء اللّه فنعمل كذا وكذا ، فقال له الرضا : تدخل أنت بغداد يا أمير المؤمنين ، ثم سأله أحد أصحابه عن ذلك ، فقال : ( وما أنا وبغداد ؟! لا أرى بغداد ولا تراني ) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 225.

به عندئذ اقتضاباً بلا جهة وعطفاً بلا مناسبة فلأي وجه أورده في هذه الآية في عداد الاُمور التي سلّمنا اختصاص علمها به سبحانه وليس هو منها ، فلأجل الالتزام بوجود المناسبة بين المتعاطفات لا مفر من القول باختصاص علمه به سبحانه أيضاً.

دفع شبهة :

ربّما يتخيل بل يقال : كيف استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور ، والنشرات الجوية ، لدائرة الأنواء الجوية تعيّن أوقات نزول الغيث والوفر والاختبارات الطبية تبين وضع الجنين وأنّه ذكر أو اُنثى ، ولكنّها مدفوعة بما يلي :

1. إنّ اللّه سبحانه واقف على وضع الجنين من بدء تكونه في رحم اُمّه ، حينما يكون خليّة فيها ، ليس لها من الصور المعتورة عليه شيء ، إلى أن تضعه اُمّه ، فهو سبحانه يعلم حين ما هو خليّة في رحمها ، أنّه ذكر أو اُنثى ، وليس ذلك مقدوراً للبشر وإن أطل بنظره عليها بأشعة قوية كهربائية أو باختبارات طبية ، فالعلم بذكورة الجنين أو اُنوثته ، من بدء وجوده إلى ختامه ، مخصوص به سبحانه ، ولا يشاركه في هذا الحد الوسيع أحد من البشر.

2. إنّ تخصيص قوله سبحانه : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ) بأحد الوصفين المذكورين ( الذكورة والانوثة ) مخالف لاطلاق كلامه ، فإنّ الظاهر منه أنّه سبحانه يعلم جميع حالات ما في الأرحام ، وأنّه ذكر أو اُنثى ، قبيح أو جميل ، سخي أو بخيل ، شجاع أو جبان ، سعيد أو شقي ، مرافق النبيين في الجنان أو حطب لنار جهنّم إلى غير ذلك من الصفات والروحيات التي لا يتمكّن البشر من الوقوف عليها عندما كان صاحب الصفات جنيناً في رحم اُمّه ، وهذا التعميم وشمول الآية للصفات الظاهرية والباطنية صريح كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة (1).

ص: 487


1- راجع نهج البلاغة الخطبة 126.

وأمّا النشرات الجوية التي تصدرها دائرة الأنواء الجوية الدارجة في الحضارة الفعلية ، فهي أنباء ظنية على اُصول وتجارب واستطلاع على أوضاع تكتسبها دائرة الأنواء الجوية من مختلف البلدان قريبها وبعيدها - ومع ذلك - فلا تخرج عن دائرة الحدس والظن ، وليست مصونة عن الخطأ كما هو الشاهد لكل من يصغي إليها ثمّ يرجع إلى فسيح الكون ويطبّقها عليه.

توضيحه : أنّ لكل من الاُمم عبر الأجيال والقرون ، تجارب في هذا الباب كانوا يستكشفون بها على سبيل الظن والتخرّص ، مواقع نزول المطر والثلج ، حتى أنّ القرويين والبدو ، كانوا يستطيعون التنبّؤ بحالة الطقس المقبلة من صحو أو مطر ، وما أشبه ذلك من بعض الظواهر الجوية كإتجاه الريح مثلاً. بل كانوا يستكشفون بغير ذلك من نزول الكلب من سطح البيت إلى داخله وقد حكي أنّ نصير الدين الطوسي ( ذلك الفلكي العظيم ) نزل في بعض أسفاره على طحان له طاحونة خارج بعض البلاد فلمّا دخل المنزل صعد السطح لحرارة الهواء ، فقال له صاحب البيت : أنزل ونم في داخل البيت لأجل نزول المطر فنظر « نصير الدين » إلى الأوضاع الفلكية ، فلم ير شيئاً يورث الظن بنزول المطر ، فقال له الطحّان : أنّ لي كلباً ينزل في كل ليلة يحس بأنّ المطر سينزل فيها إلى البيت ، فلم يقبل ذلك منه المحقّق ، وبات فوق السطح فأدركه المطر أثناء الليل وتعجّب المحقق الطوسي (1).

نعم الأدوات الحديثة لتعيين درجة الحرارة في الجو وارتباط مختلف البلدان بعضها ببعض ، بواسطة أجهزة البرق السلكية واللاسلكية ، وتبادل المعلومات فيما بينها عن الحالة الجوية ساعة فساعة ، هذه الأدوات احتلّت مكان التجارب السالفة وساعد على امكان التنبّؤ بتقلّبات الطقس بالاستنتاج والتخمين.

ومع ذلك فإنّ استنتاجات دائرة الأنواء الجوية لا تكون صائبة دائماً فكثيراً ما

ص: 488


1- مكاسب الشيخ الأنصاري ص 25.

تخطئ في تخمينها ، ولا تخبر عما تخبر إلاّ بالظن والترديد ، بل على نحو الاجمال في جانب والاهمال في جانب آخر ، ولاتستطيع أن تحدد وقت نزول المطر ومحال نزوله دقيقاً ، وأنّه في أي ساعة أو على أي مكان من الأرض العظيمة ينزل.

وأعجب منه أنّه إذا شوهد منها التخلف حتى في مجمل ما أخبرته تراها تتمسّك باعذار كاشفة عن قصور باعها وعدم احاطتها بما في الجو الفسيح ، من الأحوال والأوضاع.

وأمّا الاختبارات الطبّية ، فاعطف نظرك إلى بعض ما ذكره بعض الاخصائيين في المقام لتقف على أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة ، أو إلى الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها قال (1) :

توجد في كل فرد غدتان تناسليتان وتختلف الغدد الذكرية عن الغدد الاُنثوية في مكانها التشريحي بالجسم ، وفي وظائفها الأوّلية والثانوية وفي تأثيرها على شخصية الفرد. وتؤثر هذه الغدد ، بهرموناتها المختلفة في التفرقة بين الذكر والاُنثى ، ولهذه الفروق الجنسية أثر قوي في سرعة النمو ، وفي تباين اختلاف مظاهره.

هذا وتنشأ الاختلافات الجنسية منذ اللحظة الاُولى التي تتكوّن فيها البويضة المخصبة أي عندما تلتقي الصبغيات الذكرية بالصبغيات الاُنثوية في نواة البويضة وتتميز البويضة بأنّها تحتوي على صبغة خاصة بالجنس ، توجد دائماً بصورة واحدة نرمز لها بالرمز (س) ويتميّز الحي المنوي بوجود صبغى خاص بالجنس يوجد أحياناً ، بصورة تماثل صورة الصبغة الاُنثوية ولذلك يرمز لها بالرمز (س) أيضاً ويوجد أحياناً بصورة اُخرى يرمز لها بالرمز (ص) فإذا احتوت البويضة المخصبة على الصبغيين ( س س ) كان الجنين اُنثى. وإذا احتوت على الصبغيين ( س ص ) كان الجنين ذكراً ، وهكذا يتحدد الجنس منذ اللحظة الاُولى في تكوين البويضة المخصبة وبذلك يسيطر الحي المنوي على

ص: 489


1- الاُسس النفسية للنمو تأليف الدكتور فؤاد البهي مدرّس علم النفس بجامعة عين الشمس.

نوع الجنس ، أي أنّ الجنس ذكراً كان أم اُنثى يرجع في جوهره إلى الرجل لا إلى المرأة وإذا عرفنا أنّ عدد الحيوانات المنوية الذكرية في كل نطفة يربو على 000/000/200 حي ذكري عرفنا بعد ذلك أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة أو الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها.

نظرنا في الموضوع :

إلى هنا جرينا على مسلك المفسّرين في تفسير الآية ودفعنا عنهم ما اُشكل عليهم وقد أرسلوه إرسال المسلّمات وأيّدوها بروايات سوف نوضّح حالها ، ومدى صحتها ، غير أنّ هنا احتمالاً آخر ، ربّما يكون أقرب إلى ظاهر الآية ممّا ذكروه ودونك بيانه :

انّ لسان الآية في بيان علمه سبحانه بهذه الأشياء الخمسة ، ليس على نسق واحد بل على وجوه ثلاثة :

1. لسان الحصر : وهذا يختص بالعلم بوقت الساعة من الاُمور الخمسة ، فتراه يقول : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) بتقديم الظرف على المبتدأ وهو يفيد الحصر ولا تجد هذا السياق من الكلام في الأربعة الباقية ، ولأجل ذلك تراه غير أسلوب الكلام عندما أراد أن يبيّن تعلّق علمه بغير الساعة وقال : ( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَ ... ) .

وعلى هذا لا بأس بما ذكروه في هذا القسم ، فإنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ العلم بوقت الساعة مختص به سبحانه لا يعدو غيره.

وتؤيّده آيات اُخر ، وردت في هذا المضمار قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الأعراف - 187 ) وقال : ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ ) ( الأحزاب - 63 ) وقال تعالى : ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ) ( فصلت : 47 ) ترى أنّه سبحانه في هذه الآية الأخيرة عندما أنهى غرضه عن

ص: 490

رد علم الساعة إليه ، غيّر اُسلوب كلامه من الحصر ، إلى اُسلوب لا يفيد سوى علمه بهذه الاُمور ، وأنّه لا تخرج ثمرة من أوعيتها وغلفها ، ولا تحمل اُنثى ، ولا تضع اُنثى ، إلاّ في الوقت الذي يعلم سبحانه أنّه تخرج منها أو تحمل وتضع فيه.

ونظيره قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزخرف - 85 ) وقوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ) ( النازعات : 42 - 44 ) وقد فسّر الطبرسي قوله : ( فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ) بقوله : أي لست في شيء من علمها وذكراها.

ولأجل اختصاص علمه باللّه سبحانه ، لما سئل عن وقت الساعة وتعيين تاريخها أعرض سبحانه عنه ، وأخذ ببيان علائمها وأشراطها كما في قوله سبحانه : ( يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ ) ( القيامة : 6 - 10 ).

فإذا أمعنا النظر في هذه الآيات وما فيها من السياق الواحد المفيد للحصر والقصر ، لا نشك في صحة ما ذكره المفسّرون في جريان مشيئته سبحانه على كتمان العلم بوقتها عن غيره ولعلّ هنا من يفرّق بين قوله : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) وقوله : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) حيث حملنا الثاني على العلم الأزلي الذاتي ، وقلنا إنّ المختص باللّه سبحانه ، هو هذا القسم دون العلم المستفاد المفاض منه ، سبحانه إلى عباده ، وأنّ الآية لا تشمل ما كان من العلم اكتسابياً ، وعلى فرض عمومه لكلا القسمين ، يمكن تخصيصها بما دلّ على اطلاع الرسول على الغيب نظير قوله سبحانه : ( فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) ( الجن : 26 - 27 ).

وأمّا قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) فلأنّ تضافر الآيات على حصر خصوص العلم بالساعة به سبحانه والتصريح به في كل مورد تحدث عنه ، باسلوب يغاير اسلوب ما عداه كما عرفت فيما تقدم من الآيات ، ربّما يؤكد نظر المفسرين من أنّه

ص: 491

ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، نعم امكان اطلاع النبي على وقتها بمكان من الامكان إلاّ أنّ البحث في وقوعه لا في امكانه (1).

هذا كله راجع إلى صدر الآية وهو القسم الأوّل من سياقها وإليك بيان الثاني والثالث منه.

الثاني : اثبات علمه بوقت نزول الغيث وما في الأرحام من دون قصر العلم بهما عليه سبحانه.

الثالث : التصريح بجهل البشر بما يكسب غداً وبالأرض التي فيها تموت ولكن استفادة الاستئثار من هذين القسمين ، لا يخلو من غموض وخفاء بل لا يدل عليه فإنّ أقصى ما يستفاد منها عدم اطلاع البشر عليها من عند نفسه ، وهذا لا ينافي اطلاعه عليها بتعليم من اللّه سبحانه كسائر الاُمور الغيبية ، وتخصيص هذه الموارد بالذكر مع كون الجميع كذلك ، للحث على علم الواجب سبحانه بجلائل الاُمور ودقائقها وجهل البشر بما يهمّه ولا يدل على جريان مشيئة اللّه على كتمانها عن كل بشر وعدم اعلامها لأحد.

بل يمكن أن يقال : إنّ نفي العلم عن الانسان بهذه الاُمور الأربعة كما لا ينافي امكان اطلاعه عليها بإذن اللّه واعلامه ، فهكذا لا ينافي امكان وقوف البشر عليها في ظل النواميس الكونية التي تم اكتشافها ، والأدوات العلمية التي تم اختراعها ، فإنّ مثل هذا العلم خارج عن مرمى الآية على احتمال قوي ، بل هي ناظرة إلى أنّ البشر ، بما هو هو من غير أن يستعين بشيء لا يتمكن من الوقوف على هذه الاُمور. وهذا لا ينافي امكان اطلاعه عليها بتعليمه سبحانه أو باتصاله بعوالم روحية أو باستخدام وسائل وأدوات

ص: 492


1- ومع ذلك كلّه فيمكن أن يقال : إنّه لو لم يكن هنا سوى قوله سبحانه : ( وعنده علم الساعة ) لم يصح لنا الحكم البات بأنّه ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، وإنّما يصح الحكم بعد ملاحظة ما ورد في المقام من الآيات التي عرفتها فلاحظ.

تورث الظن أو العلم بأوضاعها.

انّ الطبيب ربّما يحدس أو يخبر على سبيل القطع عن حال مريضه ، وأنّ الموت سوف ينشب أظفاره في وقت كذا ، ويصيب في اخباره هذا ، فكما أنّ هذا النحو من العلم لاستناده إلى الامارات والعلائم والأدوات الطبية ، المورثة للظن أو العلم ، خارج عن مفاد الآية ، فهكذا ما يستند إليه الانسان في كشف المغيبات من الوسائل والاختبارات.

ولأجل ذلك نرى النبي والخلفاء من بعده ، تنبّأوا بمستقبل أحوالهم ، وما يحل بهم من نعمة ونقمة وعن زمان موتهم ومكانه.

وقد رأينا بعض المخلصين من عباده ، تنبّأوا بزمان موتهم ومكانه ، وما يحل بهم من أزمة وأزمات ونقل ذلك أيضاً عن كثير من الصلحاء ، فكيف يمكن القول بأنّه سبحانه استأثر بهذه الاُمور ، أو ما أخبر يوسف عما يكسبه صاحباه غداً فقال : ( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ) ( يوسف - 41 ) وأي فرق بين العلم بما يكسبه الانسان نفسه وما يكسبه الغير.

وما ربّما يقال : من تخصيص ظاهر الآية بما ثبت من تنبؤ بعض المعصومين بما يحل بهم ومكان موتهم وزمانه لا طائل تحته ، فإنّ لازم هذا التخصيص هو طرح تلكم الروايات لا تخصيصها لأنّه عندئذ ينتقض الاختصاص ولا يصدق الاستئثار أبداً فإنّ الاستئثار يتوقف على كتمان العلم بها عن كل أحد إلى يوم القيامة.

أضف إلى ذلك : أنّ من الممكن القريب أن تصبح الوسائل العلمية دقيقة فنطلع على مواقع نزول المطر ونعرف الجنين أهو ذكر أو اُنثى.

عرض وتحليل :

اعتمد المشهور في تفسير الآية على روايات لم يصح أكثرها ولم تثبت صحة اسنادها ودونك بيان ما وقفنا عليه :

ص: 493

1. روى الصدوق في خصاله عن ابن الوليد ، عن الصفار ، عن ابن هاشم ، عن عبد الرحمان بن حماد ، عن إبراهيم بن عبد الحميد بن أبي اُسامة ، عن أبي عبد اللّه قال : قال لي أبي : ألا أخبرك بخمسة لم يطلع اللّه عليها أحداً من خلقه ؟ قلت : بلى ، قال : « إنّ اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ... » (1).

ورجال الحديث كلّهم ثقات غير عبد الرحمان بن حماد وعبد الحميد فإنّ الأوّل مهمل لم يتضح حاله بوثاقة أو ضعف ، وأمّا عبد الحميد بن أبي اُسامة فإنّه مختلف فيه وإن رجّح شيخنا العلاّمة التستري في قاموسه وثاقته.

2. روى صاحب البصائر عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن أبي الجارود عن الأصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين يقول : إنّ لله علمين علم استأثر به في غيبه فلم يطّلع عليه نبيّاً من أنبيائه ولا ملكاً من ملائكته وذلك قول اللّه تعالى : ( إنّ اللّه عنده علم الساعة ... ) (2) والحديث ضعيف الاسناد لأجل « محمد بن سنان » فقد ضعّفه كثير من علماء الرجال وأمّا أبو الجارود فهو زيدي.

3. ما رواه القمي في تفسيره (3) مرسلاً عن الصادق ومضمونه قريب ممّا رواه الصدوق في خصاله.

وأمّا ما رواه الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور عن عكرمة أنّ رجلاً جاء إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمد متى قيام الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً ؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟فنزلت الآية (4) فلا ينطبق على ظاهر الآية

ص: 494


1- الخصال ص 290 طبع مكتبة الصدوق.
2- بصائر الدرجات ص 31.
3- تفسير علي بن إبراهيم القمي ص 510 وقد جمع أحاديث الباب العلامة المجلسي في بحاره راجع ج 26 ص 101 - 103.
4- الدر المنثور ج 5 ص 169.

فإنّ المتبادر من قوله : ( ويعلم ما في الأرحام ) هو العلم بخصوصية الجنين لا العلم بوقت ولادته كما هو ظاهر الحديث مضافاً إلى ما في سنده من الضعف الظاهر لانحراف عكرمة عن أمير المؤمنين ، وأخذه الحديث من اُناس لا خلاق لهم من الدين.

هذه الأحاديث لا يصح الاعتماد عليها إلاّ على ما نقله الرضي في نهج البلاغة عن الإمام علیه السلام من أنّ علم الغيب علم الساعة ، وما ذكره اللّه سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه (1).

وهو مما يجب تأويله وتوجيهه على وجه لا ينافي ما تواتر من الروايات من تنبؤ المخلصين بزمان موتهم ومكانه ، وما يلم بهم من خير وشر خصوصاً إذا وقفنا على أنّ الإمام ألقى كلامه هذا تجاه النواصب والمخالفين الذين سمعوا من الإمام في البصرة من الأسرار ما لا يتحملون ، فاعترضوا عليه بأنّه تنبؤ بالغيب ، فأجابهم وصد اعتراضهم بأنّه ليس بعلم الغيب ، بل تعلم من ذي علم ، وإنّما الغيب هو الساعة ، وما عدده سبحانه ... ».

وبما أنّ الكلام ورد في مقام اسكات الخصم يمكن تأويله باحدى الوجوه التي ذكرها العلامة المجلسي في بحاره (2).

وأوضحها : أن يكون العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى وكل ما أخبر اللّه به من ذلك كان محتملاً للبداء والغرض من تخصيص هذه الموارد بالذكر مع أنّ الجميع كذلك لأجل الحث على جهل البشر بما يهمّه ، واللّه سبحانه هو العالم بحقائق كتابه.

وإليك نص عبارته :

الأوّل : أن يكون المراد أنّ تلك الاُمور لا يعلمها على التعيين والخصوص إلاّ اللّه تعالى فإنّهم إذا اخبروا بموت شخص في اليوم الفلاني فيمكن أن لا يعلموا خصوص

ص: 495


1- قد أسلفنا لفظ الحديث فراجع صفحة 458 من كتابنا.
2- بحار الأنوار ج 26 ص 103 - 104.

الدقيقة التي تفارق الروح الجسد فيها مثلاً ، ويحتمل أن يكون ملك الموت أيضاً لا يعلم ذلك.

الثاني : انّ العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى ، وكل ما اخبر اللّه به من ذلك كان محتملاً للبداء.

الثالث : أن يكون المراد عدم علم غيره تعالى بها إلاّ من قبله فيكون كسائر الغيوب ويكون التخصيص بها لظهور الأمر فيها أو لغيره.

الرابع : ما أومأنا إليه سابقاً وهو أنّ اللّه تعالى لم يطلع على تلك الاُمور كلية أحداً من الخلق على وجه لا بداء فيه ، بل يرسل علمها على وجه الحتم في زمان قريب من حصولها كليلة القدر أو أقرب من ذلك ، وهذا وجه قريب تدل عليه الأخبار الكثيرة إذ لابد من علم ملك الموت بخصوص الوقت كما ورد في الأخبار ، وكذا ملائكة السحاب والمطر بوقت نزول المطر ، وكذا المدبرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث.

ص: 496

الفصل الثامن: سيرة النبي الأعظم وصفاته وأسماؤه في القرآن الكريم

اشارة

بالرغم من أنّ جوانب حياة النبي صلی اللّه علیه و آله واسعة المدى ، فسيحة الأرجاء ، متعددة الجهات ، مختلفة النواحي ، فقد عني المسلمون منذ فجر الإسلام وانبثاق الدعوى الالهية في ربوع العالم ، بضبط ما يرجع إلى حياته صلی اللّه علیه و آله ممّا دق وجل من قول ولفظ ، وفعل وعمل ، وما في تاريخه من نوادر وطرائف ونقاط ، فما صدر منه كلام إلاّ نقلوه ، أو فعل إلاّ ضبطوه ، أو سنّة إلاّ سجلوها ، وقد بلغوا الغاية في ذلك حتى دوّنوا حياة أصحابه وتابعيه وما ينسب إليه وإليهم بأدنى مناسبة. فترى في غضون المعاجم والسير كثيراً ممّا يرجع إليه صلی اللّه علیه و آله من الاُمور التي قلّما تخطر على بال بشر أن يصفها أو يسجلها كتوصيف نعله ، وسواكه ، ومشطه ، ومكحلته ، ومرآته ، وقدحه ، وسيوفه ، ودروعه ، وتروسه ، ورماحه ، وسوطه ، ورايته ، ومغفره ، وأعلام خيوله ، وابله ، وبغلته ، وحماره ، ومنايحه من الغنم ، ومواليه وحجر أزواجه ، وفسطاطه ، وقصعته ، وقعبه ، وعمامته ، وخاتمه ، وأصناف لباسه ، وطولها ، وعرضها ، وشعره ، وشيبه ، وكيفية خضابه ، ونومه ، ومأكله والطعام الذي يعجبه ،

ص: 497

حتى سجلوا الأبار التي شرب منها ، والخمرة التي كان يصلّي عليها ، إلى غير ذلك من نوادر الاُمور التي لا يهتم بذكرها وضبطها بالنسبة إلى البشر العاديين.

كل ذلك دليل على شدة ما كان يتمتع به النبي من ود وحب عريق ، إلى حد قيض همة ثلة جليلة من فطاحل المسلمين وأكابرهم لضبط وتسجيل كل ما يرجع إليه كبيراً أو صغيراً شرعياً أو عرفياً (1).

فألّفوا في كل ناحية من نواحي حياته كتباً زاخرة ورسائل طافحة أو عقدوا لها فصولاً في كتب السير والتاريخ ، ولقد زخرت المكتبة الإسلامية بأثار هذا النشاط بل زخرت مكتبات اُخرى في لغات واُمم اُخرى بكتب ورسائل في هذا المضمار إلى حد يقف العقل أمامها حائراً مشدوهاً يخالجه مزيج من الاعجاب والمهابة.

والعجب أنّ الركب بعد سائر لم يقف ، ولم يفتر ، وهذه الكتب مع كثرتها لم تشبع نهمتهم ، وما قضت وطرهم في تحليل حياة النبي ، حتى انّنا نرى الأكابر من العلماء في كل عصر وجيل إلى عصرنا هذا ، يكتبون كتباً زاخرة في حياة النبي ويؤلّفون رسائل طافحة بالتحقيق والتحليل ، حتى يغنوا بذلك الناشئ الجديد عن أساطين التاريخ وأفانين الرواية ورسائل المستشرقين ويقدمون له ما يسد جوعته ويجعل المسلم الحر يرتشف من المنهل العذب.

وعلى ضوء هذه الكتب والجهود الجبارة التي تحمّلها لفيف من علماء المسلمين بل فئة كبيرة منهم ، لم يتركوا في حياة النبي مبهمة إلاّ كشفوا أستارها ورفعوا النقاب عن وجهها ، أو جانباً مجهولاً إلاّ حدّدوه وعيّنوه بأدق وجه وأنصع بيان.

عناية القرآن ببيان صفات النبي صلی اللّه علیه و آله :

ولم تكن عناية القرآن ببيان نواح من حياة النبي الجليلة وشؤونه الدقيقة بأقل من

ص: 498


1- راجع الطبقات الكبرى ج 1 ص 360 وتاريخ الطبري ج 1 ص 417 - 428 وبحار الأنوار ج 16 ص 82 - 229 وغير ذلك من المجاميع التاريخية والحديثية.

عناية المسلمين ضبطاً وتسجيلاً ، فإنّ القارئ يجد في مختلف السور والآيات ، صوراً واضحة رائعة من صفات النبي وفضائل أخلاقه وكرائم نعوته إلى حد يقف الانسان على روحياته ونفسياته ومختلف أقواله وأفعاله ، ويقدر مع التدبر التام فيما نزل في حقه من الآيات على الاحاطة بمراحل حياته منذ بعث بل منذ نعومة أظفاره إلى أن فارقها إلى الرفيق الأعلى ، ولعلنا نرجع إلى ذلك في مستقبل الأيام (1).

فالرجوع إلى نفس القرآن واستخراج سيرة النبي وصفاته ونفسياته وأفعاله من خلال آياته الكريمة ، أوثق وأسد الطرق لدراسة شخصية النبي الأعظم ، فالتدبر في هذا القسم من الآيات ، يعطي لنا صورة واضحة عن حياة النبي وشخصيته الفذة ، وعبقريته النادرة ، وما أودعه اللّه فيها من مواهب وقوى خلقية ونفسية وعقلية ، بلغت الذروة والروعة والعظمة ، ويغنينا عن المبالغات التي يعمد إليها بعض فرق المسلمين من غير سند وثيق.

إنّ تلكم الآيات تصلح أن تكون رداً حاسماً وقوياً على الموقف المنكر الذي يقفه المغرضون من المبشرين والمستشرقين من أخلاق النبي وفضائله ، إذ يتجاهلون أو يغفلون عن ما في القرآن من نصوص ، ويتمسكون دونها بالروايات التي ربّما تكون مخترعة أو مدسوسة ومزوّرة ، فينسبون إلى ساحة النبي الأكرم ما هو بري منه ، في حين أنّ في القرآن من الآيات ما فيه كل المقنع لمن لم يختم اللّه على قلبه بما كان عليه من الرحمة والصدق والبساطة والتجرد والزهد والاستغراق في اللّه والتحلّي بالمثل العليا واعطاءه القدوة الحسنى لذلك كله.

فقد أشار سبحانه إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه ، وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء بعضنا بعضاً بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ

ص: 499


1- وقد وقفنا بعد ما كتبنا هذا الفصل على ما ألفه « محمد عزة دروزة » في هذا المضمار وأسماه « سيرة الرسول » وهي صورة مقتبسة من القرآن الكريم وذكر في مقدمة الكتاب ، الحوافز التي دفعته إلى تأليف كتابه وقد طبع في مطبعة الاستقامة بالقاهرة في جزءين وقد راجعنا هذا الكتاب بعض المراجعة عند تقديم هذا الفصل إلى الطبع.

النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ( الحجرات : 2 ) وبقوله سبحانه : ( لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ) ( النور - 63 ) ، وإلى حرمة التسرّع في ابداء الرأي والبدء في العمل بقوله عزّ وجلّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الحجرات - 1 ).

وإلى تأثّره وغمّه وهمّه وحزنه من عدم استجابة قومه لدعوته واهتدائهم بهداه بقوله سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا ) ( الكهف - 6 ) ، وبقوله : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء - 3 ) ، وإلى تحمسه وثباته في المعارك الطاحنة وما فيه من شجاعة وثبات جنان في مواقف الشدة وميادين الكفاح ، وإلى موقفه أمام العدو حين ما دارت الدائرة على المسلمين وانهزموا وتفرّق كثير من أعيانهم وأبطالهم ، ووقف النبي وثبت في ميدان المعركة ، ومعه من لا يتجاوز عدد الأصابع بقوله سبحانه : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران - 153 ).

فكان النبي قطب الرحى في هذا الموقف العصيب إذ ثبت ثبات الجبال ، رابط الجأش ، مطمئن النفس ، فصار اسوة حسنة للمؤمنين.

وإلى أنّه بلغ من الكمال إلى حد ، صار إماماً وقدوة للمؤمنين يتأسون به في قيمه الروحيه ومثله العليا بقوله : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا ) ( الأحزاب - 21 ).

وإلى أنّه قد رزق الكوثر والخير الكثير من كل جوانب الحياة ومظاهرها فرزقه اللّه من بنت واحدة ، ما ملأ الخافقين بقوله : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ( الكوثر - 1 ) وغيرها من الخيرات التي لا تعد ولا تحصى فلمّا رماه خصمه بأنّه الابتر ، فرمى شانئه بأنّه أولى بذلك لا نبي العظمة.

ص: 500

وقد بلغ من العظمة موقفاً إلى أنّ اللّه وملائكته يصلّون عليه ، فأمر اللّه سبحانه المؤمنين أن يصلّوا عليه ويسلّموا تسليماً وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ( الأحزاب - 56 ).

روى الشافعي عن أبي هريرة أنّه قال لرسول اللّه كيف نصلّي عليك ؟ قال : « تقولون : اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ثمّ تسلمون عليّ » (1).

قال ابن حجر صح عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول اللّه قد عرفنا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا اللّهم صلّ على محمد وآل محمد - إلى أن قال - وروي عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء ؟ قال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد صلی اللّه علیه و آله (2).

وقد نسب الزرقاني هذين البيتين إلى الإمام الشافعي :

يا آل بيت رسول اللّه حبّكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم *** من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (3)

وإلى أنّه وصل إلى الذروة من عظمة الخلق وقوة الروح وصفاء النفس ورجاحة العقل بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ( القلم - 4 ).

غير أنّ من المحتمل أن يكون « الخلق » بمعنى الدين ، أي أنّك على دين عظيم كما عليه قوله سبحانه : ( إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ ) ( الشعراء - 137 ) فالمقصود اكبار الدين الذي بعث النبي لبيانه وابلاغه ، ويؤيده قوله سبحانه بعده : ( فَسَتُبْصِرُ

ص: 501


1- مسند الشافعي ج 2 ص 97.
2- الصواعق ص 144.
3- شرح المواهب ص 7.

وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ المَفْتُونُ ) أي فسترى يا محمد ويرون الذين رموك بالجنون ( بِأَييِّكُمُ المَفْتُونُ ) أي أيكم المجنون الذي فتن بالجنون أأنت أم هم ، وحيث إنّك على دين عظيم يؤيدك اللّه وينصرك عليهم (1).

وإلى دماثة خلقه وحسن معاشرته ورأفته وعطفه على أعدائه ، وتنزهه عن فظاظة الخلق ، وغلظة القلب بقول سبحانه : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ( آل عمران - 159 ).

وإلى ما رزق من قلب نقي وسريرة طيّبة ورغبة شديدة في خير المؤمنين وعظم ثقته بحسن نياتهم بقوله : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ) ( التوبة - 61 ).

وإلى حيائه وصبره على ما يؤذي نفسه من أصحابه وتجنّبه من كسر قلوبهم وجرح عواطفهم بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ ) ( الأحزاب - 53 ).

وإلى ما فطر من رحمة ورأفة وبر وحرص شديد على مصلحة قومه وشعوره بما يلم بهم من آلام وما ينالهم من مشاق ، وما يلقي من جهد وعنت في سبيل ازالة آلامهم وتخفيف ما يشق عليهم ، واشتياقه إلى ارشاد الناس وهدايتهم واشفاقه ورأفته بالمؤمنين وعطفه عليهم بقوله : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة - 128 ).

وإلى غزارة علمه بقوله سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء - 113 ).

وإلى طهارة روحه وأهل بيته من الرجس ودرن الشرك والمعاصي بقوله سبحانه :

ص: 502


1- راجع مجمع البيان ج 5 ص 233.

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ( الأحزاب - 33 ).

وإلى عكوفه على عبادة ربّه وتهجّده في الليل وسهره في طريق طاعة اللّه بقوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) ( المزمل - 20 ).

وإلى أنّه رسول اللّه إلى الناس كافة وخاتم النبيين وأنّ اللّه سبحانه حافظ لدينه وكتابه إلى يوم القيامة بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( سبأ - 28 ) ، وبقوله : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الأحزاب - 40 ) ، وبقوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر - 9 ).

وإلى أنّه مصدق لما بين يديه من الكتب بقوله : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ) ( البقرة - 101 ).

وإلى صبره في طريق هداية الاُمّة بقوله : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) ( النحل - 127 ).

وإلى أجره عند اللّه سبحانه بقوله : ( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) (القلم - 3).

وإلى قربه منه سبحانه ، وتأثير استغفاره في حق الاُمّة ، وأنّهم لو طلبوا منه أن يستغفر لهم ، لوجدوا اللّه تواباً وغافراً لذنوبهم بقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) ( النساء - 64 ).

إلى أن عاد القرآن فأشار إلى عظمة قدره وجلالة شأنه بتوصيفه بأنّه : رسول نبي اُمّي ، مكتوب اسمه في التوراة والانجيل ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم الاصر ، ويرفع عنهم الاغلال حيث قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ

ص: 503

الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الأعراف - 157 ).

كما وصفه بأنّه صلی اللّه علیه و آله ، شاهد ، مبشر ، نذير ، داع إلى اللّه ، سراج منير ، ورحمة للعالمين ، وأنّه أحد الأمانين في الأرض ، وأنّه سبحانه لا يعذّب الناس وهو فيهم تجد كل هاتيك الصفات والثناء في الآيات التالية :

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) ( الأحزاب : 45 - 46 ).

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء - 107 ).

( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ( الأنفال - 33 ).

وفي الوقت نفسه لا يقتصر القرآن على بيان روحياته ونفسياته فقط بل يطري النبي ويصفه كوصف محب متجلد فيوجه نظره السامي إلى تسمية أعضائه الظاهرة المهمة.

فيصف بصره بقوله : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) ( النجم - 17 ).

ووجهه بقوله : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) ( البقرة - 144 ).

وقلبه بقوله : ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( البقرة - 97 ).

وفؤاده بقوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) ( النجم - 11 ).

وصدره بقوله : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ) ( الانشراح : 1 - 3 ).

وصوته بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ

ص: 504

النَّبِيِّ ) ( الحجرات - 2 ).

إلى أن يعود القرآن فيحلف بعمره ويقول : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( الحجر - 72 ).

ويصف سيره وعروجه في الليل إلى المسجد الأقصى ومنه إلى السموات العلى بقوله : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) ( الإسراء - 1 ) (1).

ويبين نهاية سيره وأنّه قد بلغ إلى سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى قال سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) ( النجم : 13 - 18 ).

ويصف أوليات حياته وأنّه لم يزل محروساً بعين اللّه سبحانه ومشمولاً لعنايته ، قال سبحانه : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( الضحى : 1 - 11 ).

كما يصف شرح صدره لتحمل عبء النبوّة ، ورفع الوزر الذي انقض صدره فقال : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب ) ( الشرح : 1 - 8 ).

ويشير إلى نزول الوحي عليه وأنّ معلّمه شديد القوى إذ قال سبحانه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ) ( النجم : 1 - 7 )

ص: 505


1- راجع في قصة المعراج إلى سورة النجم الآية السادسة إلى الثامنة عشر.

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) ( آل عمران - 44 ).

وإلى براءته من كل ما يلصق به من تهمة ، فقال سبحانه : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ * الجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) ( التكوير : 15 - 25 ).

وإلى لزوم الاستجابة لدعوته وإنّ فيها حياتهم ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ( الأنفال - 24 ) وقال سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( آل عمران - 31 ).

أسماؤه في القرآن :

إنّ القرآن يتفنّن في توصيف النبي وذكره بل في تسميته والايماء إليه ، فتارة يشير إليه بإحدى الصفات العامة الشاملة لكل انسان كما في قوله : ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) ( النجم - 10 ) غير أنّ في إضافة العبد إلى نفسه الماعاً إلى تكريمه وتقربّه منه سبحانه : واُخرى يخاطبه بالألقاب الخاصة بأنبيائه ورسله ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) ( الأنفال - 65 ) ، ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ( المائدة - 67 ) (1).

وثالثة يخصّه باسميه اللذين كان يدعى بهما في الإسلام أعني محمداً وأحمد ، أمّا الأوّل فقد جاء في مواضع أربعة من القرآن :

1. ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ

ص: 506


1- نعم جاء في بعض الوثائق التاريخية والمجاميع الحديثية أنّ أسماءه صلی اللّه علیه و آله يس ، طه ، ن ، غير أنّه لم يحقق ذلك إذ من المحتمل جداً أن تكون من الحروف المقطعة كما عليه أعلام التفسير.

النَّبِيِّينَ ) ( الأحزاب - 40 ).

2. ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ( آل عمران - 144 ).

3. ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) ( محمد - 2 ).

4. ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح - 29 ).

وأما الثاني فقد جاء في موضع واحد حيث يقول سبحانه : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف - 6 ).

وليس الرسول صلی اللّه علیه و آله بدعاً من بين الرسل في كونه ذا اسمين فقد سبقه في ذلك ثلّة من الأنبياء كيوشع بن نون وهو ذو الكفل في القرآن ويعقوب بن إسحاق وهو إسرائيل ويونس وهو ذو النون وعيسى وهو المسيح (1) وعلى ذلك فلا إشكال في أن يكون للرسول الأعظم إسمان : محمد وأحمد ، ويظهر من الروايات المتظافرة أنّ اسمه في السماء أحمد ، فقد جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومما سأله أنّه لم سمّيت محمداً وأحمد وأبا القاسم وبشيراً ونذيراً وداعياً ؟ فقال النبي : « أمّا محمد فإنّي محمود في الأرض ، وأمّا أحمد فإنّي محمود في السماء » (2) .

ولعلّ المراد من السماء عالم الوحي ويطابق مضمونه ما تعطيه آية الصف من تبشير المسيح بمجي نبي اسمه أحمد. وروى أهل السير والتاريخ عن الباقر علیه السلام : انّ « آمنة » اُم النبي اُمرت في المنام وهي حامل برسول اللّه أن تسميه أحمد وسماه جده محمداً بالهام من اللّه تفاؤلاً بأن يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها ، وإلى ذلك يشير أبو طالب بقوله :

وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

ص: 507


1- سأل الشامي أمير المؤمنين علیه السلام عن ستة من الأنبياء لهم أسمان فأجاب بما ذكرناه وأضاف الخضر وهو حلقيا ومحمد صلی اللّه علیه و آله وهو أحمد صلوات اللّه عليهم. عيون أخبار الرضا ص 1. بحار الأنوار ج 16 ص 90.
2- أمالي الصدوق : ص 112 ، علل الشرائع ص 53 ، معاني الأخبار ص 19 ، بحار الأنوار ج 16ص 94.

وفي الخصائص الصغرى : « أحمد » ولم يسم به أحد قبله (1) فإنّ العرب كانوا مأنوسين بلفظ « محمد » لأنّه سمّي به في زمن النبي وقد عد بعضهم من سمّي بمحمد ستة عشر ونظمهم بقوله :

انّ الذين سمّوا باسم محمد *** من قبل خير الخلق ضعف ثمان

وأمّا أحمد فلم يسم به أحد قبله بل منع اللّه بحكمته أن يتسمّى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله منذ خلقت الدنيا وفي خلال حياته الشريفة حتى لا يدخل لبس أو شك على ضعيف القلب ، وأوّل من سمّي بأحمد في الإسلام ولد جعفر بن أبي طالب (2). وكذلك محمداً أيضاً لم يسم به أحد قبل وجوده صلی اللّه علیه و آله وميلاده ولم يتحقق ذلك إلاّ بعد أن شاع أنّ نبياً يبعث في الحجاز اسمه محمد وقد قرب زمنه فسمّى بعضهم حينئذ أبناءهم بذلك وحمى اللّه تعالى هؤلاء من أن يدعي أحد النبوّة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه شيء من سماتها إلى أن تحققت دعوة النبي (3).

لا ريب أنّ أحمداً أحد أسمائه المعروفة ولا يتردد في تسميته بهذا الأسم من له أدنى تتبع في سيرته وتاريخ حياته ، وما قيل في حقه من المدائح في الإسلام وقبله يوضح أنّه كان يدعى بهذا الإسم منذ نعومة أظفاره.

وهذا أبو طالب شيخ الأباطح حامي النبي وكفيله يذكره في أشعاره بهذا الاسم ويسمّيه به ومثله حسان به ثابت شاعر الرسول في عهد الرسالة ، ومادحه وغيرهما من الشعراء المخضرمين ، تراهم أصفقوا على تسميته بأحمد من دون تردد ولا ريب ، كل ذلك يدل على أنّ البيت الذي ولد ونشأ فيه النبي صلی اللّه علیه و آله قد أسماه بهذا ، والبيئة التي شب وترعرع فيها ، كان تعرفه به.

ص: 508


1- السيرة الحلبية ج 1 ص 93.
2- كتب إلينا المحقق التستري في ملاحظاته على الكتاب أنّه لم يجد بأحمد بل كانوا مسمين ب « عون » و « عبد اللّه » و « محمد ».
3- المصدر نفسه ص 95 - 97 بتلخيص منّا.

شبهة تافهة اختلقها رجال الكنيسة :

إنّ الغرب بعد أن تم غزوه لبلاد الشرق واحتلّها بالحديد والنار ، طفق يغزو الأفكار ويبث الشبهات وقد بعث رجال التبشير إلى هذه البلاد لتحريف أفكار شباب الإسلام منه ثمّ توجيههم إلى المسيحية أوّلاً واللادينية ثانياً ، حتى يسهل اصطيادهم وسحق حقوقهم ونهب منابعهم وأموالهم ، ومن الشبهات التافهة التي نشرها بعض رجال الكنيسة في بلادنا قولهم :

إنّ المسيح بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد غير أنّه لا ينطبق على نبي الإسلام فإن إسمه « محمد » بنص القرآن الكريم واتفاق المسلمين وغيرهم ، والذي بشّر به المسيح إنّما هو أحمد ، وحينئذ فإنّ ما بشّر به هو غير ذاك ، ونحن نتربص بفارغ الصبر مجيء نبي آخر اسمه أحمد ، يكون خاتم الأنبياء والمرسلين.

وتلك شبهة لا تحتاج إلى الجواب ، ولا غرو من مبدعها فإنّ من يعمد إلى تغيير الشرائع بالتحريف ، لا يتعفف عن تحويل الأسماء عن مسمياتها إلى غيرها مما يرشده إليه هواه ، إذ من الضروري أنّ أحمد أحد أسماء نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وكانت الحجاز والحرم والبيت ومن يعيش فيها ، تعرفه بهذا الاسم كما كانت تعرفه باسمه الآخر.

أضف إلى ذلك أنّه لما نزل قوله سبحانه : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) لم يعترض على النبي أحد من المسيحيين ولا من غيرهم ، بل لم ينبس أحد ببنت شفة ، بأنّ من بشّر بمجيئه المسيح إنّما هو أحمد ، وأي صلة بينك وبين هذه البشارة ، بل سكتوا عنه وتلقّوه أمراً مسلماً وهذا دليل على أنّه صلی اللّه علیه و آله كان معروفاً بهذا الاسم يوم ذاك بل منذ ولادته ونعومة أظفاره (1).

ودونك نماذج مما وقفت عليه من شعر عمّه وغيره ممن ذكروا النبي في أشعارهم

ص: 509


1- والأوهن من تلك الشبهة ما حسبه بعض المغفلين من أنّ الآية اخبار عن نبوّة غلام أحمد القادياني ذلك المتنبئ المشعوذ الذي خدم الاستعمار البريطاني عند احتلال الهند.

بهذا الاسم وسمّوه به ، ونكتفي من الكثير بالقليل ، حذراً من الاطالة :

قال أبو طالب رحمة اللّه عليه :

ألا أنّ خير الناس نفساً ووالداً *** إذا عدّ سادات البرية أحمد (1)

وقال :

إن يكن ما أتى به أحمد اليوم *** سناء وكان في الحشر ديناً (2)

وقال :

وقوله (3) لأحمد أنت امرء *** خلوف الحديث (4) ضعيف النسب

وإن كان (5) أحمد قد جاءهم *** بحق ولم يأتهم بالكذب (6)

وقال :

تنالون أحمد أو تصطلوا *** ظباة الرماح وحد القضيب (7)

وقال :

أرادوا قتل أحمد ظالموه *** وليس بقتلهم فيهم زعيم (8)

وقال :

فلسنا وبيت اللّه نسلم أحمدا *** لعزاء من عض الزمان ولا كرب (9)

ص: 510


1- ديون أبي طالب ص 13.
2- المصدر نفسه ص 19.
3- وفي مجمع البيان : وقالوا.
4- وفي المجمع : اللسان.
5- وفي المجمع : « إلاّ أن ».
6- مجمع البيان ج 2 ص 287 ط صيدا.
7- المصدر نفسه ص 26.
8- المصدر السابق ص 29.
9- المصدر نفسه ص 20 وتجد بعض تلكم العسجدية مبثوثة في طيات الكتب والمعاجم ونرى المقام غنياً عن الاشارة لمصادرها غير إنّا أخذناها من ديوانه المطبوع بالنجف الأشرف في المطبعة الحيدرية وجامع ديوانه هو عبد اللّه بن مهزم البصري كما صرح به النجاشي في فهرسته ص 151 وذكر طريق روايته إليه ، وذكره شيخنا في الذريعة ج 14 ص 195.

وقال :

لقد أكرم اللّه النبي محمداً *** فأكرم خلق اللّه في الناس أحمد

وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد (1)

قال الديار بكري : أنشأ أبو طالب في مدح النبي أبياتاً منها هذا البيت.

وشقّ له من اسمه ليجله ...

وحسان بن ثابت ضمن شعره هذا فقال :

ألم تر أنّ اللّه أرسل عبده *** بآياته واللّه أعلى وأمجد

وشقّ له من اسمه ليجله ...

قال ابن هشام : ولما خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من أنّه غير مسلّم رسول اللّه ولا تاركه لشيء أبداً حتى يهلك دونه. ومن تلك القصيدة قوله :

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد *** واحببته حب الحبيب المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها *** وزيناً لمن والاه رب المشاكل

فأصبح فينا أحمد في أرومة *** تقصر عنه سورة المتطاول (2)

روى ابن الأثير : أنّ أبا طالب رأى النبي وعلي يصلّيان ، وعلي على يمينه فقال لجعفر - رضي اللّه تعالى عنه - : صل جناح ابن عمك وصلّ على يساره ، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل ، وقال أبو طالب :

فصبراً أبا يعلي على دين أحمد *** وكن مظهراً للدين وفقت صابراً

ص: 511


1- تاريخ ابن كثير ج 1 ص 266 ، الإصابة ج 4 ص 115 ، تاريخ الخميس ج 1 ص 254.
2- سيرة ابن هشام ج 1 ص 272 وشرح النهج ج 14 ص 79.

وباد قريشاً بالذي أتيته *** جهاراً وقل ما كان أحمد ساحراً (1)

روى شيخنا أبو الفتوح الرازي في تفسيره :

زعمت قريش أنّ أحمد ساحر *** كذبوا ورب الراقصات الى الحرم (2)

إلى غير ذلك مما نقل وأثر منه سلام اللّه عليه ، ولو اسقصينا ما نقل عنه من الشعر في هذا الباب لخرجنا عن المقصود ، وقد نقل السيد الفخار عنه هذين البيتين في ضمن أبيات :

وانصر أحمداً فإنّ من اللّه *** رداء عليه غير مدال

فخير بني هاشم أحمد *** رسول الاله على فترة (3)

وقال :

يا شاهد اللّه علي فاشهد *** انّي على دين النبي أحمد (4)

وقد أثر عن أمير المؤمنين علي علیه السلام أنّه قد أمره والده أبو طالب بالصبر في الدفاع عن النبي بقوله :

أصبرن يا بني فالصبر أحجى *** كل حي بصبره مشعوب

فأجاب علي علیه السلام بقوله :

أتأمرني بالصبر في دين أحمد *** وواللّه ما قلت الذي قلت جازعاً

ص: 512


1- اُسد الغابة ج 1 ص 287 ، كما في الغدير ج 7 ص 358 ، بحار الأنوار ج 18 ص 221 ، مجمع البيان ج 2 ص 287 ، وفي الأخير : يحض أبو طالب أخاه حمزة على اتباع النبي صلی اللّه علیه و آله .
2- تفسير أبي الفتوح ج 4 ص 212 ونقله أبو علي شمس الدين السيد فخار بن محمد الموسوي المتوفّى 630 صاحب كتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب ص 72.
3- كتاب الحجة ص 74.
4- شرح النهج ج 14ص 78 ، وقال وقد يروى لعلي في ديوانه ، ولكنّه موجود في ديوان أبي طالب ص 75 ولم نذكر في عداد ما نقلناه عن ديوانه لمكان هذا الترديد.

سأسعى لوجه اللّه في نصر أحمد *** نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعاً (1)

وأمّا ما نقل عن غير أبي طالب متضمناً تسمية النبي بأحمد ، فكثير جداً تصعب الاحاطة به ويطول الكلام بنقل ما وقفنا عليه في مجاميع التاريخ والأدب ولنكتفي بما يلي :

قال حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في رثاه :

مفجعة قد شفها فقد أحمد *** فظلّت لآلاه الرسول تعدد

أطالت وقوفاً تذرف العين جهدها *** على طلل القبر الذي فيه أحمد (2)

وقال أيضاً في رثاه صلی اللّه علیه و آله :

صلّى الاله ومن يحيق بعرشه *** والطيّبون على المبارك أحمد (3)

وقال :

فمن كان أو يكون كأحمد *** نظام الحق أو نكال لملحد

وقال في رثاه جعفر الطيار :

بها ليل منهم وابن اُمّه *** علي ومنهم أحمد المتخير

وقال يرثي زيد بن حارثة :

ذاكم أحمد الذي لا سواه *** ذاك حزني معا له وسروي (4)

وقال حسان :

ص: 513


1- شرح النهج الحديدي ج 14 ص 64.
2- نقلها ابن هشام في سيرته ج 2 ص 667 و 669 ، ونقل الثاني منهما ابن سعد في طبقاته ج 2 ص 323.
3- نقلها ابن هشام في سيرته ج 2 ص 667 و 669 ، ونقل الثاني منهما ابن سعد في طبقاته ج 2 ص 323.
4- أخذنا ما نقلناه إلى هنا من شاعر عهد الرسالة من مواضع مختلفة من ديوانه راجع ص 59 ، 63 ، 65 ، 102 ، 109 ط بيروت ، تحقيق محمد عزت نصر اللّه ، مضافاً إلى المصادر الاُخرى التي أوعزنا إليها.

فمن كف أحمد قد فجرت *** عيون من الماء يوم الظمأ (1)

وقال :

ففي كف أحمد قد سبّحت *** بتقديس ربي صغار الحصى (2)

وقال كعب بن مالك :

فهذا نبي اللّه أحمد سبّحت *** صغار الحصى في كفّه بالترنم (3)

وقد نقل عن ورقة بن نوفل أنّه بعد ما اطلع على أمر النبي صلی اللّه علیه و آله وأنّه ينزل عليه الناموس الأكبر الذي كان ينزل على موسى وعيسى أنشأ يقول :

فإن يك حق يا خديجة فاعلمي *** حديثك أيانا فأحمد مرسل (4)

وقال :

بأنّ أحمد يأتيه فيخبره *** جبريل أنّك مبعوث إلى البشر (5)

وقال :

وانّ ابن عبد اللّه أحمد مرسل *** إلى كل من ضمّت عليه الأباطح (6)

وقال أحد بني عامر رداً على حسان في افتخاره بالأنصار :

بسيف ابن عبد اللّه أحمد في الوغى *** بكف علي نلتم ذاك فاقصروا (7)

وقال حمزة حين أسلم ، أبياتاً منها :

إذا تليت رسائله علينا *** تهدر دمع ذي اللّهب الحصيف

رسائل جاء أحمد من هداها *** بآيات مبيّنة الحروف (8)

ص: 514


1- بحار الأنوار ج 16 ص 413 و 414 و 415.
2- بحار الأنوار ج 16 ص 413 و 414 و 415.
3- بحار الأنوار ج 16 ص 413 و 414 و 415.
4- بحار الأنوار ج 18 ص 195 و 196 وراجع بلوغ الارب ج 2 ص 274 و 275.
5- بحار الأنوار ج 18 ص 195 و 196 وراجع بلوغ الارب ج 2 ص 274 و 275.
6- بحار الأنوار ج 18 ص 195 و 196 وراجع بلوغ الارب ج 2 ص 274 و 275.
7- بحار الأنوار ج 20 ص 259.
8- سيرة ابن هشام ج 1 ص 293.

وقالت عاتكة بنت عبد المطلب ترثي النبي صلی اللّه علیه و آله :

يا عين جودي ما بقيت بعبرة *** سحاً على خير البرية أحمد (1)

ونقل المجلسي عن الخرائج : انّ تبع بن حسان سار إلى يثرب وقتل من اليهود ثلاثمائة وخمسين رجلاً بالصبر وأراد خرابها ، فقام إليه رجل من اليهود وقال : إنّك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية ، قال : ولِمَ ؟ قال : لأنّه يخرج منها من ولد اسماعيل نبي يظهر من هذه البنية ، يعني البيت الحرام ، فكف « تبع » ومضى يريد مكة ومعه اليهود وكسا البيت وأطعم الناس وهو القائل :

شهدت على أحمد أنّه *** رسول من اللّه باري النسم (2)

وقالت صفية في تزويجه صلی اللّه علیه و آله :

ثمّ السعود لأحمد *** والسعد عنه ما برح

بخديجة بنت الكمال *** وبحر أناملها طفح (3)

واجتمع سادة قريش وأكابرها في اليوم الثالث كعادتهم ، ونهض العباس وهو يقول :

شاع في الناس فضلكم *** وعلا في المراتب

قد فخرتم بأحمد *** زين كل الاطائب

أحمد سيد الورى *** خير ماش وراكب (4)

وقال بعض المسلمين عند اجلاء بني النضير وربّما ينسب إلى علي بن أبي طالب علیه السلام :

ص: 515


1- الطبقات الكبرى ج 2 ص 326.
2- بحار الأنوار ج 15 ص 214.
3- بحار الأنوار ج 16 ص 75.
4- بحار الأنوار ج 16 ص 72.

رسائل تدرس في المؤمنين *** بهن اصطفى أحمد المصطفى

إلى أن قال :

وقلن لأحمد ذرنا قليلا *** فإنّا من النوح لم نشتف (1)

خاتمة المطاف :

ولنختم البحث بذكر ما ورد حول أسمائه فانّ صريح الأحاديث أنّ أسماءه في القرآن أكثر من هذين ، فقد روى الصدوق في خصاله (2) أنّ لرسول اللّه عشرة أسماء : خمسة منها في القرآن ، وخمسة ليست في القرآن ، فأمّا التي في القرآن : محمد ، أحمد ، عبد اللّه ، يس ، ن ، وأمّا التي ليست في القرآن : فالفاتح ، الخاتم ، الكاف ، المقفي ، الحاشر.

روى الشيخ الأكبر عن الكلبي (3) عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال لي : كم لمحمد اسم في القرآن ؟ قال : قلت : اسمان أو ثلاثة ، فقال : يا كلبي له عشرة أسماء ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ، ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ، ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) ، ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ، ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ، ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ، ( يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ ) ، ( يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ ) ، ( قَدْ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّهِ ) ، فالذكر اسم من أسماء محمد ونحن أهل الذكر ، فسل يا كلبي عمّا بدا لك ؟

ومفهوم الحديثين واضح فانّ المراد من الاسم فيها أعم من الصريح والمؤوّل ومن العلم والوصف فانّ بعض ما عد اسماً له صلی اللّه علیه و آله لا يعدو عن كونه وصفاً له كالمدثر والمزمل كما أنّ عد الحروف المقطعة علماً له إنّما هو بالتأويل المخصوص علمه لهم علیهم السلام ، فلاحظ.

ص: 516


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 197.
2- الخصال ج 2 ص 48.
3- بصائر الدرجات ص 159.

وقال الشيخ الطوسي في التبيان : روي عن علي علیه السلام : سمّى اللّه تعالى النبي في القرآن بسبعة أسماء (1).

هذه سيرة النبي الأكرم وهذه صفاته ونعوته وأسماؤه ، وما قدمناه خطوة رائدة للتعرف على نفسياته وسيرته من اُفق القرآن المبين ، أو نواة طيبة يمكن البناء عليها ، وهو باجماله يمثل شخصيته اللامعة ، ومكانته المرموقة ، التي قرن اللّه طاعته بطاعته وقال سبحانه : ( مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) ( النساء - 80 ) ومحبّته بمحبّته وقال سبحانه : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ( آل عمران - 31 ).

وبيعته ببيعته وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ ) ( الفتح - 10 ) إلى غير ذلك.

وما أردت أن ألمح إلى جميع ما ورد في حقه صلی اللّه علیه و آله في القرآن المجيد فإنّ استخراجه عمل ضخم لا تسعه طاقة انسان واحد.

وإنّما الذي استهدفت هو أن أشير إلى نماذج حتى يكون فتحاً للباب واستنهاضاً للهمم وتقديماً للاسوة : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا ) .

وآخر دعوانا

أن الحمد لله ربّ العالمين

ص: 517


1- التبيان ج 2 ص 475.

ص: 518

فهرس مصادر الكتاب

1. القرآن الكريم

حرف الألف

2. إبانة المختار : شيخ الشريعة الأصفهاني ( 1266 - 1339 ه ) دار القرآن ، قم.

3. إثبات الهداة : الحرّ العاملي : محمد بن الحسن ( م 1104 ه ) المطبعة العلمية ، قم.

4. الإحتجاج : أبو منصور : أحمد بن علي الطبرسي ( من أعلام القرن السادس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

5. إحقاق الحق : الشهيد السيد نور اللّه الحسيني التستري ( 1091 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

6. الاختصاص : المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي ، قم المقدّسة.

7. الإرشاد : له أيضاً 1 قم المقدّسة - 1402 ه.

8. إرشاد القلوب : الديلمي : أبو محمد : الحسن بن محمّد ( من أعلام القرن الثامن الهجري ) منشورات الرضي ، قم المشرفة.

9. الاستيعاب : أبو عمر : يوسف بن عبد اللّه بن عبد البر ( م 456 ه ) ، دار نهضة مصر ،

ص: 519

القاهرة.

10. اُسد الغابة : ابن الأثير : أبو الحسن : علي بن أبي الكرم ( م 630 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

11. الأسس النفسية للنمو : الدكتور فؤاد البهي مدرس علم النفس بجامعة عين شمس.

12. الإشارات : الشيخ الرئيس ابن سينا ( م 428 ه ) طبع طهران.

13. إشراقات : عبد الحميد خاوري.

14. الإصابة : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( م 852 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1358 ه.

15. أصل الشيعة واُصولها : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( 1295 - 1373 ه ) مطبعة العرفان ، صيدا - 1355 ه.

16. اُصول الفلسفة : العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي ( 1402 ه ) منشورات المؤسسة الثقافية ، النجف الأشرف - 1385 ه.

17. أعلام الورى : الطبرسي : أمين الإسلام الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) طبع إيران.

18. الإقبال : ابن طاووس : علي بن موسى الحلّي ( م 664 ه ) طبع تبريز.

19. إكمال الدين : الشيخ الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) طهران - 1405 ه.

20. الأمالي : له أيضاً قدس سره المكتبة الإسلامية ، طهران.

21. الأمالي : الطوسي : محمّد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1401 ه.

22. الأمالي : المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( م 413 ه ) قم - 1404 ه.

23. أوائل المقالات : له أيضاً قدس سره مكتبة الحقيقة ، تبريز - 1371 ه.

24. ايقان : عبد الحميد خاوري.

ص: 520

حرف الباء

25. بحار الأنوار : محمّد باقر المجلسي ( م 1110 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1403 ه.

26. بديع : حسين علي النوري.

27. بصائر الدرجات : الصفار : محمد بن الحسن ( م 290 ه ) تحقيق الميرزا محسن كوچه باغي ، الطبعة الثانية ، إيران - 1391 ه.

28. بلوغ الارب : السيد محمود الآلوسي ( م 1270 ه ).

حرف التاء

29. التاج : أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 ه ) مطبعة تابان - 1349 ه.

30. التاج الجامع للاُصول : الشيخ منصور علي ناصف ، دار الفكر ، بيروت - 1406 ه.

31. تاريخ ابن كثير المسمى ( البداية والنهاية ) : ابن كثير الشامي ( م 774 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1402 ه.

32. تاريخ الإسلام السياسي : الدكتور حسن إبراهيم حسن ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة - 1967 م.

33. تاريخ بغداد : أبو بكر : أحمد بن علي الخطيب البغدادي ( م 463 ه ) المكتبة السلفية ، المدينة المنورة.

34. تاريخ بيهق : ابن فندق ( م 565 ه ) تعليق الاُستاذ بهمنيار ، ط. طهران.

35. تاريخ حصر الاجتهاد : آقا بزرگ الطهراني ( 1293 - 1389 ه ) مدرسة الإمام المهدي - عج - خونسار ، إيران - 1401 ه.

36. تاريخ الخميس : الديار بكري : الشيخ حسين بن محمّد ، مؤسسة شعبان ، بيروت.

37. تاريخ الطبري المسمّى ( تاريخ الاُمم والملوك ) : أبو جعفر محمّد بن جرير ( م 310 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت.

38. تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من علماء القرن الثالث الهجري ) المكتبة

ص: 521

الحيدرية ، النجف الأشرف - 1384 ه.

39. التبيان في اعراب القرآن: أبو البقاء عبد اللّه بن الحسين العكبري (م 616).

40. تجريد الاعتقاد : نصير الدين الطوسي ( م 672 ه ).

41. تحفة الزائر : العلاّمة محمّد باقر المجلسي ( 1110 ه ) طبعة حجر ، إيران.

42. تذكرة الفقهاء : العلاّمة الحلّي ( م 726 ه ) المكتبة الرضوية ، تبريز ، طبعة حجر.

43. تعاليق الأسفار الأربعة : الحكيم السبزواري.

44. تفسير ابو الفتوح المسمّى ( روح الجنان ) : أبو الفتوح الرازي ، طهران - 1394 ه.

45. تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل: عبد اللّه بن عمر البيضاوي، طبع مصر.

46. تفسير البرهان : السيد هاشم التوبلي البحراني ( م 1107 ه ) قم - 1375 ه.

47. تفسير البيان : السيد أبو القاسم الخوئي ( 1317 - 1413 ه ) مطبعة الآداب ، النجف الأشرف.

48. تفسير التبيان : الطوسي : محمّد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

49. تفسير الدر المنثور : جلال الدين السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

50. تفسير الرازي : الفخر محمّد بن عمر الخطيب ( 544 - 606 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

51. تفسير فرات : أبوالقاسم : فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي ( من أعلام الغيبة الصغرى ) طهران - 1410 ه.

52. تفسير الكشاف : الزمخشري : محمود بن عمر ( م 538 ه ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة - 1367 ه.

53. تفسير مجمع البيان : الطبرسي : الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) مطبعة العرفان ، صيدا - 1354 ه.

54. تفسير المنار : محمد رشيد رضا ( م 1354 ه ) دار المنار ، مصر - 1373 ه.

ص: 522

55. تفسير الميزان : العلاّمة محمّد حسين الطباطبائي ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

56. تفسير النعماني : ابو عبد اللّه محمد بن إبراهيم.

57. تنبيه الاُمّة وتنزيه الملّة : الميرزا النائيني.

58. تنقيح المقال : عبد اللّه المامقاني ( 1290 - 1351 ه ) النجف الأشرف - 1350 ه.

59. تهذيب الأحكام : الشيخ الطوسي : محمد بن الحسن ( م 460 ه ) النجف الأشرف 1378 ه.

60. تهذيب الوصول إلى علم الاُصول : العلاّمة الحلّي ( م 726 ه ) طبعة حجر.

61. التيسير في علم التفسير : عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري المعروف بالديريني ( 612 - 694 ه ).

حرف الجيم

62. جامع الاُصول : الترمذي.

63. جامع الرواة : الأردبيلي ، محمّد بن علي الغروي ، منشورات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي ، قم المقدّسة - 1403 ه.

64. جامع السعادات : جلال الدين عبد الرحمان السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار الفكر ، بيروت.

65. الجامع الصغير : جلال الدين عبد الرحمان السيوطي ( 849 - 911 ه ).

حرف الحاء

66. الحجة الذاهب إلى تكفير أبي طالب : أبو علي : شمس الدين فخار بن محمد الموسوي ( م 630 ه ).

67. حق اليقين : السيد عبد اللّه شبر ( م 1188 - 1242 ه ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف.

ص: 523

68. حلية الأولياء : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه الإصبهاني ( م 430 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الخاء

69. الخاتمية : علي أمير پور ، منظمة مرجان للمطبوعات ، طهران - 1385 ه.

70. الخرائج والجرائح : قطب الدين الرواندي ( م 573 ه ) مؤسسة الإمام المهدي ، قم - 1409 ه.

71. الخصال : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي ، قم - 1403 ه.

72. الخطط المقريزية : تقي الدين المقريزي ( م 845 ه ) دار صادر ، بيروت.

حرف الدال

73. الدرجات الرفيعة : صدر الدين السيد علي خان المدني الحسيني ( م 1120 ه ) منشورات المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف - 1381 ه.

74. الدعوة إلى الإسلام : السير توماس ارنولد.

75. ديوان أبي طالب : الجامع علي بن حمزة البصري التميمي المكنّي بأبي نعيم ( م 375 ه ).

حرف الذال

76. الذريعة : آقا بزرگ الطهراني ( 1293 - 1389 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

حرف الراء

77. الرجال : الكشي : أبو عمرو ( من علماء القرن الرابع الهجري ) مؤسسة اللأعلمي ، كربلاء ، العراق.

ص: 524

حرف الزاي

78. زاد المعاد : العلاّمة محمد باقر المجلسي ( 1110 ه ) طبعة حجر ، إيران.

حرف السين

79. السرائر : ابن إدريس الحلي ( م 598 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم - 1410 ه.

80. سفينة البحار : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) طبعة حجر ، النجف الأشرف.

81. السنن : ابن ماجة : أبو عبد اللّه : محمد بن يزيد القزويني ( 207 - 275 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1395 ه.

82. السنن : الدارمي : عبد اللّه بن عبد الرحمان ( 181 - 255 ه ) دار إحياء السنة النبويّة.

83. السيرة النبويّة : ابن هشام : أبو محمد : عبد الملك بن أيوب الحميري ( م 213 أو 218 ه ) دار التراث العربي ، بيروت.

84. السيرة الحلبيّة : الحلبي : برهان الدين علي بن إبراهيم ( م 1044 ه ) المكتبة الإسلامية ، بيروت.

85. السيرة الدحلانية على هامش السيرة : السيد أحمد زيني دحلان ، المكتبة الإسلامية ، بيروت.

حرف الشين

86. الشرائع : المحقق الحلّي : أبو القاسم : جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

ص: 525

87. شرح ابن عقيل : عبد اللّه بن عقيل الهمداني المصري ( 698 - 769 ه ) المكتبة التجاريّة الكبرى ، بيروت - 1403 ه.

88. شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد ( م 655 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1378 ه.

89. شرح المواهب : الزرقاني.

90. الشفاء : الشيخ الرئيس ابن سينا ( م 428 ه ) منشورات بيدار ، إيران.

حرف الصاد

91. الصحيح : البخاري : محمد بن إسماعيل ( م 256 ه ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي ، مصر - 1314 ه.

92. الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( م 261 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

93. الصحيفة السجادية الجامعة : الإمام زين العابدين : علي بن الحسين علیهماالسلام مؤسسة الإمام المهدي - عج - قم المقدّسة - 1411 ه.

94. الصحيفة الهادية والتحفة المهدية : الشيخ إبراهيم بن محسن الكاشاني.

95. الصراع بين الإسلام والوثينة : عبد اللّه القصيمي.

96. الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيتمي ( م 974 ه ) مكتبة القاهرة ، مصر - 1385 ه.

حرف الطاء

97. الطبقات الكبرى : محمد بن سعد ( م 230 ه ) دار صادر ، بيروت - 1380 ه.

حرف العين

98. العرب : الاُستاذ عمر أبو النصر.

ص: 526

99. عقائد الإمامية : الشيخ محمد رضا المظفر.

100. العقد الفريد : ابن عبد ربه الأندلسي ( 246 - 328 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - 1404 ه.

101. علل الشرائع : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1408 ه.

102. علم الإمام : الشيخ محمد حسين المظفر : النجف الأشرف - 1380 ه.

103. عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق ( م 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1404 ه.

حرف الغين

104. غاية المرام : السيد هاشم البحراني ( م 1107 ه ) طبعة حجر ، إيران.

105. الغدير : العلاّمة الأميني : عبد الحسين أحمد النجفي ( 1320 - 1390 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الفاء

106. فتح الباري : ابن حجر : شهاب الدين أحمد العسقلاني ( م 852 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

107. فتوح البلدان : البلاذري : أبو الحسن ( م 279 ه ) المكتبة التجارية ، مصر - 1959 م.

108. الفرائد : الشيخ الأنصاري ( 1212 - 1281 ه ) طبعة حجر ، إيران.

109. فرحة الغري : عبد الكريم بن طاووس ، النجف الأشرف - 1368 ه.

110. فلا السائل : علي بن موسى بن جعفر بن طاووس ( م 664 ه ) منشورات دفتر تبليغات إسلامي التابع للحوزة العلمية ، قم المقدّسة.

111. الفهرست : النجاشي : أبو العباس ( م 450 ه ) طبع بومبي.

ص: 527

حرف القاف

112. قاموس الرجال : محمد تقي التستري ( المعاصر ، تولد 1320 ه ) طهران - 1397 ه.

113. القرآن والكتاب : الحداد.

114. قرب الإسناد : الحميري القمي : عبد اللّه بن جعفر ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) مكتبة نينوى الحديثة ، طهران.

حرف الكاف

115. الكافي : الكليني : محمد بن يعقوب ( م 329 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1388 ه.

116. كامل الزيارات : ابن قولويه : جعفر بن محمد ( 367 ه ) منشورات ميقات ، طهران - 1406 ه.

117. الكامل في الأدب : المبرد النحوي : أبو العباس : محمد بن يزيد ( م 285 ه ) مكتبة المعارف ، بيروت.

118. الكامل في التاريخ : ابن الأثير الجزري : محمد بن محمد ( م 630 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت.

119. كتاب سليم بن قيس : سليم بن قيس الهلالي ( م 90 ه ) مؤسسة البعثة ، طهران - 1407 ه.

120. كشف الغمّة : الأربلي : علي بن عيسى ( م 693 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1405 ه.

121. كشف المراد : العلاّمة الحلّي : الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر ( م 726 ه ) مطبعة العرفان ، صيدا - 1353 ه.

122. كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين : العلاّمة الحلّي ( م 726 ه ) طهران -

ص: 528

1411 ه.

123. كنز الفوائد : الكراجكي : محمد بن علي بن عثمان ( م 449 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1405 ه.

حرف اللام

124. لباب المنفول في أسباب النزول : جلال الدين عبد الرحمان السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار إحياء العلوم ، بيروت - 1403 ه.

125. اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية : جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلّي ( م 826 ه ) مطبعة شفق ، تبريز - 1397 ه.

حرف الميم

126. المبسوط : الشيخ الطوسي ( م 460 ه ) طبع طهران - 1387 ه.

127. متشابهات القرآن ومختلفه : ابن شهر آشوب ( 488 - 588 ه ) مطبعة شركت سهامي طبع كتاب ، ايران.

128. مجموعة الرسائل الكبرى : ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم ( 661 - 728 ه ) مصر - 1385 ه.

129. المحاسن : البرقي : أحمد بن محمد ( م 274 ه ) طبع طهران - 1370 ه.

130. المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي : الدكتور عبد الرحمان الصابوني ، المطبعة الجديدة ، دمشق - 1399 ه.

131. مروج الذهب : المسعودي : علي بن الحسين ( م 345 ه ) منشورات الجامعة اللبنانية ، بيروت - 1965 م.

132. المزار الكبير : ابن المشهدي ، مخطوط ، مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي ، قم المشرّفة.

133. المستدرك : الحاكم النيسابوري : محمد بن عبد اللّه ( م 405 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

ص: 529

134. مستدرك الوسائل : النوري الطبرسي : الحسين بن محمد تقي ( 1254 - 1320 ه ) مؤسسة آل البيت ، قم - 1407 ه.

135. المسند : أحمد بن حنبل ( م 241 ه ) دار الفكر ، بيروت.

136. المسند : الشافعي.

137. مصباح المتهجد : الشيخ الطوسي : محمد بن الحسن ( م 460 ه ) بإشراف إسماعيل الزنجاني ، إيران.

138. معاني الأخبار : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) دار المعرفة ، بيروت 1399 ه.

139. المعجزة الخالدة : العلاّمة الشهرستاني.

140. المغازي : الواقدي : محمد بن عمر بن واقد ( 130 - 207 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، لبنان.

141. مفاتيح الغيب : صدر المتألّهين.

142. المفردات : الراغب الأصفهاني : أبو القاسم : الحسين بن محمد ( م 502 ه ) مطبعة الميمنية ، القاهرة - 1324 ه.

143. مقاييس اللغة : أبو الحسين : أحمد بن فارس بن زكريا ( م 395 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1366 ه.

144. مقباس المصابيح : العلاّمة محمد باقر المجلسي ( م 1110 ه ).

145. المقتل : الخوارزمي : موفق بن أحمد المكي ( م 568 ه ) مطبعة الزهراء ، النجف الأشرف - 1367 ه.

146. المقدّمة : ابن خلدون : عبد الرحمان بن محمد ( م 808 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - 1398 ه.

147. مكاتيب الأئمة : العلاّمة محمد بن المحسن بن المرتضى الكاشاني ( 1039 - 1115 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين - قم 1407 ه.

148. مكاتيب الرسول : علي بن حسين علي الأحمدي ( المعاصر ) المطبعة العلمية ، قم -

ص: 530

1379 ه.

149. مكارم الأخلاق : الطبرسي : الحسن بن الفضل ( من أعلام القرن السادس الهجري ) منشورات الشريف الرضي ، قم - 1408 ه.

150. المكاسب : الشيخ مرتضى الأنصاري ، منشورات علاّمة ، قم - 1408 ه.

151. ملحقات العروة الوثقى : السيد الطباطبائي.

152. مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب : أبو جعفر : رشيد الدين محمد بن علي السروي المازندراني ( 488 - 588 ه ) المطبعة العلمية ، قم ، إيران.

153. مناهل العرفان : محمد عبد العظيم الزرقاني ، دار الفكر ، بيروت - 1408 ه.

154. من لا يحضره الفقيه : الشيخ الصدوق : محمد بن علي بن بابويه القمي ( م 381 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1390 ه.

155. من هنا وهناك : محمد جواد مغنية ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1388 ه.

156. الموطأ : مالك بن أنس ( م 179 ه ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت - 1403 ه.

حرف النون

157. نظرية السياسة والحكم في الإسلام : العلاّمة الطباطبائي ( م 1402 ه ) طهران - 1402 ه.

158. نهاية الدراية : السيد حسن الصدر ( 1272 - 1354 ه ) الهند ، لكهنو - 1324 ه.

159. نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي ( 359 - 404 ه ) بيروت - 1387 ه.

160. نهج السعادة : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( م 1112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم المقدّسة ، إيران.

161. نور الثقلين : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( م 1112 ه ) مطبعة الحكمة قم المقدّسة ، إيران.

ص: 531

حرف الهاء

162. هدية الزائرين : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) طبعة حجر.

حرف الواو

163. الوافي : الفيض الكاشاني ( م 1091 ه ) منشورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين ، اصفهان - 1406 ه.

164. الوحي المحمدي : محمد رشيد رضا ( م 1354 ه ) طبع مصر.

165. وسائل الشيعة : الحرّ العاملي : محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

166. ولاية الفقيه : الإمام روح اللّه الخميني ( م 1409 ه ) منشورات ناس ، طهران.

حرف الياء

167. اليهود في القرآن : عفيف عبد الفتاح طبارة ، دار العلم للملايين ، بيروت - 1386 ه.

168. ينابيع المودة : القندوزي : سليمان بن إبراهيم البلخي ( م 1294 ه ) مطبعة اختر ، اسلامبول - 1301 ه.

ص: 532

فهرس المواضيع

كليمة قيّمة للعلامة الطباطبائي قدس سره ... 3

إكبار وتقدير من الشيخ محمد تقي التستري ... 4

التفاتة كريمة من الشيخ محمد الكرمي ... 5

عواطف خالصة من فضيلة الشيخ حسن طراد العاملي ... 7

مقدّمة الطبعة الثالثة ... 9

مقدمة الطبعة الثانية : القرآن كتاب القرون والأجيال ... 11

القرآن معجزة خالدة ... 11

أوجه الإعجاز القرآني ... 12

لزوم الاهتمام بالمعارف الإلهية ... 14

تقديم مباحث النبوّة على الصفات ... 16

مباحث النبوّة ... 18

مقدمة الطبعة الاُولى : منهج متكامل في علام التفسير ... 21

القرآن وآفاقه اللامتناهية ... 22

ص: 533

التفسير في مختلف الاتجاهات ... 24

المنهج الصحيح في التفسير ... 25

1. تفسير القرآن بالقرآن : ... 26

2. على ضوء الأحاديث الإسلامية الصحيحة : ... 28

تأثير الحضارة الغربية في المنهج التفسيري ... 29

نزول القرآن نجوماً ... 30

الجمود فى التفسير ... 33

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ... 34

أوّليات الطريقة الموضوعية في التفسير ... 35

منهجنا في هذا الكتاب ... 37

الفصل الأوّل

عالمية الإسلام على ضوء القرآن الكريم

تأثير تلكم الكتب : ... 44

النصوص القرآنية في عالمية رسالته : ... 45

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر : ... 49

الدعوة إلى الفطرة ، أساس الأحكام الإسلامية : ... 54

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية : ... 55

نظرة في الآيات المشعرة بعدم العمومية ... 59

1. آيات الانذار : ... 59

2. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين : ... 61

3. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها : ... 63

4. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه ... 70

ص: 534

مغالطة اُخرى حول الآية ... 71

هل كانت نبوّة نوح والكليم والمسيح عالمية ؟ ... 73

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟ ... 74

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟ ... 78

موقف دعوة الكليم من القبطيين ... 79

موقف دعوة الكليم من غير القبطيين ... 83

المقام الثاني في عموم شريعته ... 86

أسئلة وأجوبة ... 90

هل كانت نبوّة المسيح عالمية ؟ ... 97

ما المراد باُولي العزم من الرسل ... 102

من هم اُولي العزم من الرسل ؟ ... 105

شبهة واهية في المقام : ... 110

الفصل الثاني

الخاتمية في الذكر الحكيم

النصوص القرآنية الدالّة على ختم النبوّة ... 117

الخاتم وما يراد منه ... 118

تشكيكان حول دلالة الآية على كون نبي الإسلام خاتماً ... 123

التشكيك الأوّل ... 124

التشكيك الثاني ... 127

التنصيص الثاني على الخاتمية : ... 129

ص: 535

النص الثالث من القرآن على الخاتمية : ... 133

النص الرابع من القرآن على خاتمية الرسول صلی اللّه علیه و آله : ... 135

النص الخامس على الخاتمية : ... 135

النص السادس على الخاتمية : ... 136

اشارات قرآنية إلى الخاتمية : ... 137

الخاتمية في الأحاديث الإسلامية ... 140

تنصيص الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله على الخاتمية ... 140

تنصيص الإمام أمير المؤمنين علیه السلام على الخاتمية ... 148

تنصيص فاطمة الزهراء علیهاالسلام على الخاتمية : ... 152

تنصيص السبط المجتبى على الخاتمية : ... 152

تنصيص الإمام سيد الشهداء علیه السلام على الخاتمية ... 153

تنصيص الإمام زين العابدين علیه السلام على الخاتمية ... 153

تنصيص الإمام الباقر علیه السلام على الخاتمية ... 154

تنصيص الإمام الصادق علیه السلام على الخاتمية ... 155

تنصيص الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام على الخاتمية ... 159

تنصيص الإمام الرضا علیه السلام على الخاتمية ... 159

ابهام وايضاح : ... 160

تنصيص الإمام أبي محمد الجواد علیه السلام على الخاتمية ... 162

تنصيص الإمام الهادي علیه السلام على الخاتمية ... 162

تنصيص الإمام العسكري علیه السلام على الخاتمية ... 163

تنصيص الإمام الحجة المنتظر ( عجل اللّه فرجه الشريف ) على الخاتمية ... 163

روايات اُخرى ... 164

ص: 536

الفصل الثالث

شبهات حول الخاتمية

الشبهة الاُولى : الاستدلال بلآية : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ ... ) لنفي الخاتمية 171

الجواب عن الشبهة : ... 171

دحض الشبهة بوجه آخر : ... 176

نقل كلام عن العلمين : ... 178

الشبهة الثانية : الاستدلال بالآية : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ... ) لنفي الخاتمية ... 181

الجواب : ... 181

الشبهة الثالثة : بالآيتان : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ... ) و ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ... ) لنفي الخاتمية 184

الجواب : ... 184

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة : ... 186

الاُمّة : الطريقة والدين : ... 187

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن : ... 189

سؤال من المستدل : ... 190

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول اللّه : ... 191

الشبهة الرابعة : الاستدلال بالآية : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ ... ) لنفي الخاتمية ... 193

الجواب : ... 193

الشبهة الخامسة : الاستدلال بالآية : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ ... ) لنفي الخاتمية 194

الجواب : ... 195

حصيلة البحث : ... 197

مشكلة المفتتح والمختتم : ... 199

ص: 537

الشبهة السادسة : استدلالهم بأن القرآن أقرّ استمرار جميع الشرائع السماوية واحتفاطها بشرعيتها 200

الحديث يبيّن هدف الآية : ... 203

جواب آخر : ... 204

1. فكرة الشعب المختار : ... 204

2. الأسماء لا تنقذ انساناً : ... 205

3. ليست الهداية في اعتناق اليهودية والمسيحية : ... 206

خاتمة المطاف : ... 214

الفصل الرابع

أسئلة حول الخاتمية ... 217

السؤال الأول : إذا اختمت النبوة التشريعية ، فلماذا ختمت التبليغية منها ؟ ... 217

دور أهل البيت في إكمال الدين وختم الرسالة : ... 221

السؤال الثاني : لماذا حرم الخلف من الاٌمم من المكاشفة الغيبية ؟ ... 226

الاسفار المعنوية الأربعة : ... 234

مثل الفضيلة والأخلاق ... 237

السؤال الثالث : لاتجد في الكون المادي أمراً خالداً عبر الأجيال ، فكيف يكون الإسلام أمراً ثابتاً ؟ 241

السؤال الرابع : لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات باختلاف ألوان الحياة ... 246

المقررات المتطوّرة في الإسلام : ... 249

الإسلام والتطوّر الزمني : ... 257

بين الجمود والجهل : ... 258

النسخ غير المرونة : ... 258

ص: 538

السؤال الخامس : ادعاء النقص في التشريع الإسلامي ... 260

الأمر الأوّل : التشريع ذو مادة حيوية خلاقة للنفاصيل ... 262

الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة ... 262

إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد : ... 267

التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية ... 269

تشريع الاجتهاد ... 271

الحقيقة بنت البحث : ... 281

شبهة حول الاجتهاد الدارج في عصرنا : ... 283

الجواب عن الشبهة : ... 283

حقوق الحاكم الإسلامي : ... 288

الأمر الثاني : مرونة أحكامه ... 290

1. الإسلام دين جامع والاُمّة الإسلامية اُمة وسط : ... 290

2. النظر إلى المعاني ، لا المظاهر : ... 292

3. الأحكام التي لها دور التحديد : ... 294

خاتمة المطاف : ... 294

الفصل الخامس

النبي الاُمّي في الذكر الحكيم

النص الأوّل : قوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ... ) ... 297

نظريات شاذة للدكتور الهندي ... 300

النص الثاني : من القرآن على كونه اُمّياً : ... 302

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي : ... 305

ص: 539

الرأي الأول : الأٌمّي منسوب إلى اُم القرى ... 305

الرأي الثاني : الأُمي من لم يعرف المتون السامية ... 308

بحث وتنقيب ... 311

أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بعد بزوغ دعوته ... 316

1. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد : ... 317

2. الاستدلال بمفهوم الآية : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ... ) ... 320

تأملات وملاحظات ... 321

3. الاستدلال بقوله سبحانه : ( يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ) ... 323

4. الاستدلال بقوله سبحانه : ( اكْتَتَبَهَا ) ... 324

5. الاستدلال بالأولوية : ... 326

6. التجارة تتوقّف على الكتابة : ... 326

اُمّية النبي في الأحاديث : ... 328

منها : حديث بدء الوحي ... 328

كلمة حول سند الحديث : ... 329

توضيح مفاد الرواية : ... 330

منها : حديث المطالبة بالقلم والدواة : ... 333

منها قصة الحديبية : ... 333

الجواب عن الاستدلال بالرواية : ... 334

منها كتاب النبي إلى العذار : ... 340

فذلكة البحث : ... 340

عرض وتحقيق : ... 341

حصيلة الكلام في اُمّية النبي صلی اللّه علیه و آله : ... 345

نحن وقساوسة الغرب والمستغربة : ... 345

ص: 540

الفصل السادس

علم الغيب في الكتاب العزيز

أنواع المغيبات في القرآن : ... 352

الإخبار عن الغيب أحد وجوه إعجازه : ... 355

مغيبات القرآن وأخباره الغيبية ... 359

1. تنبؤ القرآن بعجز البشر عن معارضته بمثله : ... 359

2. التنبّؤ بانتصار الرومان على الفرس : ... 361

3. اخباره عن صيانة النبي عن أذى الناس : ... 362

4. تنبّؤات حول المنافقين والمخلّفين من الأعراب : ... 364

5. الإخبار عن القضاء على العدو قبل المعركة : ... 367

6. التنبّؤ بصيانة القرآن عن التحريف : ... 369

7. الاخبار عن نجاح الإسلام والرسول : ... 370

8. التنبّؤ بأحداث جزئية : ... 376

9. تنبّؤ القرآن في مكّة بما سيصيب كفّار قريش : ... 378

10. التنبّؤ حول اليهود والنصارى : ... 381

إجابة عن سؤال ... 387

ختامه مسك : ... 394

الفصل السابع

اختصاص العلم بالغيب باللّه سبحانه

1. قصره على اللّه سبحانه في بعض الآيات : ... 400

ص: 541

2. ما يستفاد منه الحصر بمعونة القرائن : ... 401

3. سلب العلم بالغيب عن غيره : ... 402

هل يمكن للانسان الاطلاع على الغيب : ... 404

القرآن يدل على تحقق التنبّؤ من الأنبياء والصالحين : ... 414

1. النبي آدم علیه السلام والاطلاع على الغيب : ... 415

2. تنبّؤ نوح علیه السلام : ... 416

3. إبراهيم علیه السلام وملكوت السماوات والأرض : ... 416

4. اطّلاع لوط علیه السلام على الغيب : ... 417

5. تنبّؤ يعقوب علیه السلام : ... 418

6. تنبّؤ يوسف علیه السلام : ... 419

7. صالح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب : ... 421

8. اطّلاع سليمان علیه السلام بالغيب : ... 421

9. المسيح علیه السلام والتنبّؤ بالغيب : ... 422

10. انباء النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بالغيب : ... 422

11. اطّلاع مريم على الغيب : ... 423

12. الغيب وامرأة إبراهيم : ... 423

13. الغيب واُم موسى : ... 424

14. الغيب وصاحب موسى : ... 424

15. النبي شهيد على الاُمّة : ... 425

16. المؤمنون شهداء على المنافقين : ... 425

حصيلة البحث : ... 426

ما هو مفاد الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي ... 427

تساؤلات حول علم النبي بالغيب ... 441

السؤال الأول : كيف تحمل الآيات الدالة على علم النبي بالغيب على العلم

ص: 542

الذاتي ، المحيد بكل شيء ، المريسل عن كل شيء ؟ ... 441

السؤال الثاني : لوكان النبي صلی اللّه علیه و آله عالماً بالغيب بعلم من اللّه لما مسّه السوء ... 443

السؤال الثالث : مشكلة المشاركة مع اللّه ... 457

السؤال الرابع : علم الغيب مختص بالرسول صلی اللّه علیه و آله دون الأئمّة علیهم السلام ... 458

السؤال الخامس : سبب تحاشي الرسول صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام نسبة العلم بالغيب إليهم 459

خاتمة المطاف : ... 464

تنبّؤات نبوية : ... 466

تنبّؤات علوية : ... 471

عثرة لا تقال : ... 483

هل استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور ؟ ... 486

دفع شبهة : ... 487

نظرنا في الموضوع : ... 480

عرض وتحليل : ... 493

الفصل الثامن

سيرة النبي الأعظم وصفاته وأسماؤه في القرآن الكريم

عناية القرآن ببيان صفات النبي صلی اللّه علیه و آله : ... 498

أسماؤه في القرآن : ... 506

شبهة تافهة اختلقها رجال الكنيسة : ... 509

خاتمة المطاف : ... 516

فهرس مصادر الكتاب ... 519

فهرس المواضيع ... 533

ص: 543

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.