مفاهيم القرآن المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 4

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1427 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-249-8

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الأول

تفسير موضوعي يبحث حول الآيات الواردة في التوحيد والشرك

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

ص: 2

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الأول

تفسير موضوعي يبحث حول الابيات

الواردة في التوحيد والشرك

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 4

مقدمة الطبعة الثالثة

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

القرآن كتاب القرون والأجيال

الحمد لله الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الذي نزل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين ، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.

أمّا بعد ، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة ، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بعداً من أبعاده ، وحقيقة من حقائقه.

وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين ، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية ، وإليها يشير ابن عباس بقوله : إنّ القرآن يفسره الزمان (1).

وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

ص: 5


1- راجع النواة في حقل الحياة ، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

والحقّ يقال : انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية ، بل وأتاح للمفسرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامة لم تكن معروفة من ذي قبل ، وذلك بفضل تطور المناهج العلمية المتداولة.

إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى ، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته ، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر ، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً ، وإلى ذلك يشير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن وأغواره ، فيقول :

« فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع مشفّع ، وماحل مصدَّق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم ، وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جالٍ بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلّص من نشب ، فانّ التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور » (1).

كما أشار أمير المؤمنين علي علیه السلام إلى هذه الأبعاد اللا متناهية ، وقال في معرض كلامه عن القرآن : « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحراً لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون » (2).

ص: 6


1- الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن.
2- نهج البلاغة ، الخطبة رقم 198.

إنّ هذه الميزة ( البعد اللا متناهي للقرآن ) لم تكن أمراً خفياً على بلغاء العرب في صدر الرسالة ، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب ، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :

واللّه لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وانّ له لحلاوة ، وانّ عليه لطلاوة ، وانّ أعلاه لمثمر ، وانّ أسفله لمغدق ، وانّه ليعلو وما يعلى عليه (1).

إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة ، وما هذا إلاّ لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة ، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر ، والنبي صلی اللّه علیه و آله وإن جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوضهم اللّه سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها ، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته ، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضا علیهماالسلام حين سأله السائل ، وقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة ؟ فقال الإمام : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة » (2).

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز

ارتحل النبي صلی اللّه علیه و آله وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين ، إحداهما : الكتاب ، والأُخرى : العترة.

وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم ، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا

ص: 7


1- مجمع البيان : 5 / 387 ، طبع صيدا ، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله : « وما يعلى ».
2- البرهان في تفسير القرآن ، للسيد البحراني : 1 / 28.

بتفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته ، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه ، وردّ متشابهه إلى محكماته ، وتمييز ناسخه عن منسوخه ، وتفسير آيات أحكامه ، وإيضاح قصصه وحكاياته ، وأمثاله وأقسامه ، واحتجاجاته ومناظراته ، إضافة إلى بيان أسباب نزوله ، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي

إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة ، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسر آيات القرآن برمتها ، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلاّ بتفسير بعض السور ، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي ، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي ، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.

بيد انّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة ، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته ، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد ، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة ، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.

وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلف في حياته الفردية والاجتماعية فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد ، فيفسرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد ، كما

ص: 8

يفسرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص ، وهكذا سائر الآيات ، وهذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني ( المتوفّى عام 820 ه ) ، و « آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلي المعروف بالفاضل المقداد ( المتوفّى عام 826 ) ، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد ، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السنة في تفسير آيات الأحكام كالجصاص وغيره ، فانّهم فسروا آيات الأحكام حسب السور ، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسرون ».

يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن » : يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط ، وهو لا يتمشى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصاص وابن العربي مثلاً ، بل طريقته في تفسيره : انّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه ، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد ، فمثلاً يقول : باب الطهارة ، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية ، شارحاً كلّ آية منها على حدة ، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإمامية الاثنا عشرية (1).

ثمّ إنّ أوّل من توسع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي ، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسرها تفسيراً سريعاً ، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة ، لكنّها جليلة في عالم التفسير ، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.

وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد ، لذا

ص: 9


1- التفسير والمفسرون : 2 / 465.

فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً ، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلامية ، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماوية.

فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح انّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي وألربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أية مسألة أُخرى من المسائل العقائدية والمعارف العقلية. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأي دين أن يتجلى في صورة « عقيدة سماوية » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها ، كما لا يمكن لذلك المنهج أن ينفذ إلى الأعماق والافئدة بدونها.

ويجدر بالذكر انّ عناية القرآن تركزت أساساً على ابلاغ وبيان « أُصول الدين » وبذر بذورها في الأفئدة ، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.

ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (2000) آية ، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (288) آية أو يتجاوزها بقليل.

وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.

وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما ، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي لله سبحانه فقط ، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية ، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة ، وما يمت لهما بصلة.

ص: 10

وبذلك انتهت هذه الموسوعة القرآنية المبتكرة في موضوعها ، وهي نعمة منَّ اللّه سبحانه بها على عبده الفقير.

وفي الختام لا يسعني هنا إلاّ أن أتقدم بخالص الشكر إلى ولدي الروحي الحجة الفاضل الشيخ جعفر الهادي ( حفظه اللّه) حيث قام بتدوين ما ألقيته من محاضرات في الجزء الأوّل والثاني على أحسن ما يمكن.

وقد بذل وقته الثمين لتحرير هذين الجزءين وإخراجهما بهذه الحلة القشيبة ، وهو ( حفظه اللّه ) ذو باع طويل في هذا المضمار.

وأمّا الأجزاء الثمانية الباقية فقد قمت بكتابتها وتحريرها بفضل من اللّه سبحانه فجاءت هذه الموسوعة في عشرة أجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

14 ذي الحجة الحرام من شهور عام 1420 ه

ص: 11

ص: 12

مراتب التوحيد

اشارة

لقد لخّص المحقّقون الإسلاميون البحوث المرتبطة بالتوحيد في أربعة أقسام نذكرها فيما يأتي باختصار :

1. التوحيد في الذات

والمقصود به أنّ اللّه واحد أحد لا شريك له ولا نظير ولا يتصور له شبيه ولا مثيل.

بل انّ ذاته المقدّسة بسيطة غير مركبة ، من أجزاء كما هو شأن الأجسام.

2. التوحيد في الصفات

ويراد منه أنّ اللّه تعالى وإن كان متّصفاً بصفات عديدة كالعلم والقدرة والحياة ، إلاّ أنّ هذا التعدّد إنّما هو باعتبار المفهوم الذهني وليس باعتبار الوجود والواقع الخارجي ، بمعنى أنّ كل واحدة من هذه الصفات هي « عين » الأُخرى وليست « غير » الأُخرى ، وهي أجمع « عين » الذات وليست « غير » الذات.

فعلم اللّه - مثلاً - هو « عين » ذاته ، فذاته كلّها علم ، في حين تكون ذاته كلها

ص: 13

« عين » القدرة ، لا أن حقيقة العلم في الذات الإلهية شيء ، وحقيقة القدرة شيء آخر ، بل كل واحدة منهما « عين » الأُخرى ، وكلتاهما « عين » الذات المقدسة.

ولتقريب المعنى المذكور نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي فنقول :

من الواضح أنّ كل واحد منّا « معلوم » لله ، كما أنّه « مخلوق » لله في نفس الوقت.

صحيح أنّ مفهوم « المعلومية » غير مفهوم « المخلوقية » في مقام الاعتبار الذهني وعند التحليل العقلي البحت ، ولكنَّهما في مقام التطبيق الخارجي واحد ، فإنّ وجودنا بأسره معلوم لله ، كما أنّ وجودنا بأسره مخلوق لله في نفس الوقت .. هكذا وجود واحد باعتبارين.

فهما ( أي المعلومية والمخلوقية ) المتصف بهما وجودنا ليسا في مقام المصداق الخارجي إلاّ « عين » الأُخرى ، وهما « عين » ذاتنا ، لا أنّ قسماً من ذاتنا هو المعلوم لله والقسم الآخر هو المخلوق له تعالى ، بل كل ذاتنا بأسره مخلوق ومعلوم لله في آن واحد.

3. التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصة ك :

الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها ، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها ، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله.

ص: 14

والتوحيد الافعالي هو أن نعتقد بأنّ هذه « الآثار » مخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

بمعنى أنّ اللّه الذي خلق العلل المذكورة هو الذي منحها تلك « الآثار ».

فخلق الشمس وأعطاها خاصية الإشراق ، وخلق النار وأعطاها خاصية الإحراق ، وخلق السيف وأعطاه خاصية القطع ، إلى آخر ما هنالك من العلل والمعلولات ، والأسباب والمسببات والمؤثرات وآثارها.

وبعبارة أُخرى : انّ « التوحيد الافعالي » هو أن نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل ، والأسباب والمسببات ، ما هو إلاّ فعل اللّه سبحانه ، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثراتها بإرادته ومشيئته.

فكما أنّ الموجودات غير مستقلة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه ، فكذا هي غير مستقلة في تأثيرها وعلّيَّتها وسببيَّتها.

فيستنتج من ذلك أنّ اللّه سبحانه كما لا شريك له في ذاته ، كذلك لا شريك له في فاعليته وسببيته ، وأنّ كل سبب وفاعل - بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليتهما - قائم به سبحانه وأنّه لا حول ولا قوة إلاّ به.

ويندرج في ذلك « الإنسان » ، فبما أنّه موجود من موجودات العالم وواحد من أجزائه فإنّ له فاعلية ، وعلية بالنسبة لأفعاله ، كما أنّ له حرية تامّة في مصيره وعاقبة حياته ، ولكنَّه ليس موجوداً مفوّضاً (1) إليه ذلك ، بل هو بحول اللّه وقوته يقوم ويقعد ويتسبب ويؤثر.

ص: 15


1- المراد من التفويض هو أنّ اللّه أعطاه الفاعلية ثم هو يفعل ما يريد دون مشيئة اللّه وعلى نحو الاستقلال ، وسيأتي شرح التفويض في الفصول القادمة مسهباً.

إنّ « التوحيد الافعالي » لا يعني إنكار العلل الطبيعية أو إنكار مشاركتها في التأثير وفي حدوث معلولاتها ، بل يعني مع الاعتراف بأنّ للعلل تمام المشاركة في ظهور الآثار ، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل.

أقول : يعني مع الاعتراف بهذا ، الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في صفحة الوجود إلاّ « اللّه » وأنّ تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرة اللّه ، ذلك المؤثر الحقيقي الأصيل ، وأنّ هذه العلل ما هي إلاّ وسائط للفيض الإلهي.

فمنه تعالى تكتسب « الشمس » القدرة على الإشراق والإضاءة كما استمدت منه أصل وجودها.

ومنه تعالى تكتسب « النار » خاصية الإحراق والحرارة كما استمدت منه أصل وجودها ، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص ، وأعطاها هذه الآثار كمامنحها : وجودها أساساً وأصلاً.

وبتعبير آخر نقول : إنّ التوحيد الأفعالي يعني أنّه لا مؤثر بالذات - في هذا الوجود - إلاّ « اللّه » ، فهو وحده الذي لا يحتاج إلى معونة أحد أو شيء في الإيجاد والتأثير والإبداع والابتكار.

وأمّا تأثير ما عداه « من العلل » ، فجميعه يكون بالاعتماد على قدرته وقوته سبحانه.

بهذا البيان يتضح الفرق بين مدرستين في هذا المجال :

مدرسة الأشاعرة القائلين بعدم دخالة العلل في الآثار مطلقاً.

والمدرسة القائلة بالتوحيد الافعالي.

ص: 16

فتذهب المدرسة الأُولى إلى أنّ الشمس والنار والسيف غير مؤثرة إطلاقاً ، وغير دخيلة مطلقاً في وجود النور والحرارة والقطع ، بل انّ عادة اللّه هي التي جرت على أن يوجد اللّه النور بعد طلوع الشمس ، والحرارة عند حضور النار ، والقطع عند حضور السيف ، وإن لم تكن لهذه الأشياء [ أي الشمس والنار والسيف ] أيّة مشاركة في إيجاد هذه الآثار ووقوعها.

ولا شك أنّ هذه النظرية مرفوضة في نظر العقل ومنطق القرآن (1).

فبينما تنفي مدرسة الأشاعرة دور العلل ومشاركتها رأساً ، تذهب المدرسة الثانية ( القائلة بالتوحيد الافعالي ) إلى الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في الوجود إلاّ « اللّه » (2) ولكن مع الاعتراف - إلى جانب ذلك - بدخالة « العلل » في إيجاد « الآثار » ، مستمدة هذه القدرة على التأثير من ذلك المؤثر الحقيقي الواحد ، ونعني « اللّه » سبحانه وتعالى.

ولهذا يغدو أي اعتقاد بالثنوية أو التثليث مرفوضاً في منطق هذه المدرسة.

وبهذا يتبيّن أنّ القائلين بأنّ الإنسان محتاج إلى اللّه في أصل وجوده ، ولكنه مستغن عنه تعالى في أفعاله ومستقل في تأثيره ، قد سقطوا في الشرك من حيث لا يعلمون ، ذلك لأنّهم بمثل هذا الاعتقاد يكونون قد اعترفوا - في الحقيقة - بمؤثرين أصيلين مستقلين غنيين وخرجوا بذلك عن إطار « التوحيد الافعالي » !!

ص: 17


1- فالقرآن يصرح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها حيث يقول : ( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ) ( النحل : 11 ) فإنّ قوله ( بِهِ ) صريح في تأثير الماء في إنبات هذه الثمار ، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك عند البحث في التوحيد الربوبي.
2- الاعتراف بوحدانية المؤثر في صفحة الوجود لا ينافي القول بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها.

كما أنّ الذين اعتقدوا بوجود « مبدأين » لهذا العالم ، وتصوّروا بأنّ خالق الخير هو غير خالق الشر هم أيضاً خرجوا عن دائرة التوحيد الافعالي وارتطموا في الشرك والثنوية في الفاعلية والتأثير (1).

4. التوحيد في العبادة

ونعني أنّ العبادة لا تكون إلاّ لله وحده ، وأنّه لا يستحق أحد أن يتخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.

ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام أحد لا يجوز إلاّ لأحد سببين ، لا يتوفران إلاّ في « اللّه » جل جلاله :

1. أن يبلغ المعبود حداً من الكمال يخلو معه عن أي عيب ونقص ، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كل منصف ويعبده كل من يعرف قيمة ذلك

ص: 18


1- ونظنك أيّها القارئ قد وقفت على الفرق بين التوحيد الافعالي ، وبين ما يذهب إليه الأشاعرة والمجبرة. فإن الفاعل عند هاتين الطائفتين (الأشاعرة والمجبرة) لامشاركة له في أفعاله وآثاره أصلاً، وإنها تستند إلى اللّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة فهو الذي ينفذ الفعل عن طريق الفاعل دون إرادة و مشاركة من الفاعل في الفعل مطلقاً !! و أما الذي نقوله نحن فهو أن كل فاعل إنّما يعتمد - في فعله وأثره _ على اللّه من حيث إنّه فقير محتاج إلى الغني بالذات في جميع شؤونه وأطواره وأن للفاعل - مريداً كان أو غير مريد _ دوراً في حدوث الأثر و بروزه و أنّ الأثر لا يمكن أن يتحقق على صعيد الوجود إلا عن طريق هذا الفاعل. وكم فرق بين أن ننسب أفعال الفاعل كلها إلى اللّه مع نفي مشاركته فيها، وبين أن نعزي إمكانية التأثير إلى اللّه مع الاعتراف بمشاركة الفاعل في فعله. و سوف يظهر لك الفرق بين المدرستين _ بنحو أكثر تفصيلاً _ في البحوث الآتية.

« الكمال المطلق ».

ونعني ببلوغ أقصى درجات الكمال ومراتبه أن يتحلّى - مثلاً - بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم ، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل ، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز أو عيّ.

فهذه الأُمور هي التي تدفع كل ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمام ذلك الكمال المطلق.

2. أن يكون ذلك المعبود بيده مبدأ الإنسان ومنشأ حياته فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات إياه ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

ترى هل يتوفر هذان الوصفان في أحد غير اللّه ؟ وهل سواه يتصف بأكمل الكمال ؟ أم هل سواه منح للأشياء وجودها وخلق الإنسان ويسر له سبل الحياة ؟ وهل سواه المبدأ الفياض الذي لو وكل الحياة إلى ذاتها ، وترك الإنسان لنفسه آناً من الآونة صارت الحياة كأن لم تكن ؟

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلاّ ل ( كمال ) ذلك المعبود المطلق.

فهم لمعرفتهم الأفضل ، واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا اللّه سبحانه لما وجودوا فيه من الجمال المطلق ، والكمال اللامحدود ، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة ، والتقديس والخضوع والتعظيم فعبدوه وقدسوه وخضعوا له وعظموه.

أجل لذلك فحسب وليس لسواه عبدوه ، وأعطوه بلاءهم وولاءهم ، حتى

ص: 19

أنّهم كانوا سيعبدونه - حتماً - حتى ولو لم يك هناك العامل والملاك الآخر للعبادة ، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون « اللّه » لكونه خالقهم ، ومصدر وجودهم وسابغ الأنعم عليهم ، وواهب القدرة والطول لهم ، ولأنّ بيده مفتاح كل شيء وناصية كل موجود (1).

على كل حال سواء كان الأولى هو الأخذ بالملاك الأوّل للعبادة أم الثاني ، فإنّ العبادة بكلا الملاكين المذكورين مخصوصة باللّه وليس معه في ذلك شريك ، لعدم وجودهما في غيره تعالى.

وبذلك تكون عبادة غير اللّه أمراً مرفوضاً بشدة في منطق العقل والشرع على السواء.

كان هذا هو مقصود علماء الإسلام من مراتب وأقسام التوحيد الأربعة ، التي ذكرناها باختصار وسنذكرها مفصّلة ، كما سنذكر غيرها من مراتب التوحيد في الصفحات القادمة مع استعراض الآيات الدالة عليها إن شاء اللّه.

غير أنّنا مع تقديرنا لما قام به أُولئك العلماء والمحقّقون المسلمون من خدمات علمية جليلة على هذا الصعيد نقول : إنّ مراتب التوحيد - حسب نظر القرآن - لا تنحصر في ما ذكروه من المراتب ، بل يستفاد من آيات الكتاب العزيز أنّ هناك مراتب توحيدية أُخرى يمكن استنباطها واستفادتها من القرآن ، من الصعب ، ادراجها تحت المراتب الأربع المذكورة.

وإليك فيما يلي هذه المفاهيم باختصار :

ص: 20


1- هناك عوامل أُخرى للعبادة سيوافيك بيانها في موضعه.

التوحيد في الولاية

اشارة

ولا نعني من الولاية « الولاية التكوينية » أي الربوبية والتدبير ، بل المراد « الولاية التشريعية » وتنظيم شؤون الفرد والمجتمع في عامّة مجالات الحياة.

والولاية بهذا المعنى تعني الأمارة ، ولها مظاهر ثلاثة :

1. التوحيد في الحاكمية

ولقد وجّه القرآن الكريم عناية خاصة إلى « التوحيد في الحاكمية » بحيث يتبيَّن بوضوح أنّ الحكم والولاية في منطق القرآن ليس إلاّ لله تعالى وحده ، وانّه لا يحق لأحد أن يحكم العباد دونه ، وأنّه لا شرعية لحاكمية الآخرين إلاّ إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية وقائمة بأمره تعالى ، وفي غير هذه الصورة لن يكون ذلك الحكم إلاّ حكماً طاغوتياً لا يتصف بالشرعية مطلقاً ولا يقرّه القرآن أبداً.

على أنّنا حينما نطرح هذا الكلام ونقول : بأنّ الحكم محض حق لله وأنّ الحاكمية منحصرة فيه دون سواه فليس يعني ذلك أنّ على اللّه أن يباشر هذه الحاكمية بنفسه ، ويحكم بين الناس ويدير شؤون البلاد دونما واسطة ، ليقال إنّ ذلك محال غير ممكن ، أو يقال إنّ ذلك يشبه مقالة الخوارج إذ قالوا للإمام علي علیه السلام رافضين حكمه وإمارته :

« أن الحكم إلاّ لله ، لا لك يا علي ، ولا لأصحابك » (1).

بل مرادنا هو : أنّ حاكمية أيِّ شخص يريد أن يحكم البلاد والعباد لا بد أن

ص: 21


1- كان هذا شعار الخوارج يردّدونه في المسجد وغيره.

تستمد مشروعيتها من : « الإذن الإلهي » له بممارسة الحاكمية.

فما لم تكن مستندة إلى هذا الإذن لم تكن مشروعة ولم يكن لها أي وزن ، ولا أي قيمة مطلقاً.

ونفس هذا الكلام جار في مسألة الشفاعة أيضاً.

فعندما يصرح القرآن بوضوح قائلاً : ( قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) لا يعني أنّه لا يشفع إلاّ اللّه ، إذ لا معنى لأن يشفع اللّه لأحد.

بل المفاد والمراد من هذه الآية هو أنّه ليس لأحد أن يشفع إلاّ بإذن اللّه ، وأنّه لا تنفع الشفاعة إذا لم تكن برضاه ومشيئته (2).

وإن شئت قلت : إنّ أمر الشفاعة بيد اللّه تعالى من حيث الشافع والمشفع واللام في قوله ( لله ) يدل على اختصاص خاص وهو أنّ أمر التصرّف باختياره تعالى كقوله : ( وَللهِ غَيْبُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) (3).

2. التوحيد في الطاعة

كما أنّ الحاكمية على العباد مختصة باللّه سبحانه ، كذلك لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً غير اللّه ، فالطاعة هي أيضاً حق منحصر باللّه سبحانه لا يشاركه فيها ولا ينازعه أحد.

وأمّا لو شاهدنا القرآن يأمرنا - في بعض الموارد - بطاعة غير اللّه ، مثل

ص: 22


1- الزمر : 44.
2- بحث المؤلف الشفاعة في كتاب مستقل باسم « الشفاعة بين يدي القرآن والسنّة والعقل ».
3- هود : 123.

الأنبياء والأولياء ، فليس لأنّ طاعة هؤلاء واجبة بالذات ، بل لأنّ وجوب طاعتهم من جهة أنَّها « عين » طاعته سبحانه ، وبأمره.

وبتعبير أجلى : حيث إنّ اللّه تعالى « أمر » بطاعة هؤلاء ، لهذا وجبت إطاعتهم واتّباع أوامرهم والانقياد لأقوالهم امتثالاً لأمر اللّه وتنفيذاً لإرادته ، فلا يكون هناك حينئذ إلاّ « مطاع واحد » في واقع الحال ، وهو اللّه جل جلاله. وأمّا إطاعة الآخرين (أي غير اللّه) فليست إلاّ في ظل إطاعة اللّه تعالى شأنه ، وفرع منها.

3. التوحيد في التقنين

إنّ حق التقنين والتشريع - هو الآخر - مختص باللّه في نظر القرآن الكريم ، تماماً مثل الأُمور السالفة الذكر.

فليس لأحد سوى « اللّه » حق التقنين والتشريع وجعل الأحكام وسن القوانين للحياة البشرية.

ولذلك فإنّ الذين أعطوا مثل هذا الحق للأحبار والرهبان خرجوا من دائرة التوحيد في التقنين ، ودخلوا في زمرة المشركين.

ويمكن إدراج هذا القسم ( أي التوحيد في التقنين ) تحت قسم ( التوحيد الافعالي ) ولكن من الأفضل أن نفرد له قسماً خاصاً ، وبحثاً مستقلاً ، لأنّ المقصود بالأفعال في « التوحيد الافعالي » هو الأفعال التكوينية أي المرتبطة بعالم الخلق والتكوين والطبيعة ، في حين أنّ التقنين والتشريع نوع من الأُمور الاعتبارية والجعلية العقلائية ، فليس التحليل والتحريم أمرين تكوينيين ، بل من الملاحظات العرفية القائمة بذهن المعتبر واعتباره ، ولهذا يكون من الأنسب التفريق بين هذين القسمين.

ص: 23

وهكذا بالبحث في :

التوحيد في الحاكمية.

والتوحيد في الطاعة.

والتوحيد في التقنين.

أقول : بالبحث في هذه الأُمور تتضح صيغة الحكومة ونظام الحكم في الإسلام ، وتتجلّى لنا الصورة الواقعية للحكومة الإسلامية.

لأنّ على هذا الأساس لن تكون الحكومة الإسلامية من نوع « حكم الفرد على الشعب » ولا من نمط « حكم الشعب على الشعب » على إطلاقه ، بل هي من نوع « حكومة اللّه على المجتمع بواسطة المجتمع » (1) أو بعبارة أُخرى : حكومة القانون الإلهي على المجتمع.

وأمّا بقية الصيغ الأُخرى للحكم التي سوف نستعرضها فيما بعد فلا توافق الصيغة القرآنية على صعيد نظام الحكم مطلقاً.

ففي كثير من الصيغ المطروحة لنظام الحكم يشار فيها - في العادة - إلى هذه الأُصول الثلاثة وهي :

1. السلطة التشريعية.

2. السلطة القضائية.

3. السلطة التنفيذية.

ص: 24


1- على النحو الذي سيأتي بيانه موسعاً فيما بعد.

وكل هذه السلطات الثلاث محترمة في نظر الإسلام ، إلاّ أنّ مهمة « السلطة التشريعية » في الحكومة الإسلامية ليست إلاّ « التعريف بالقانون » والتخطيط وفق موازين الشريعة الإسلامية وليس سن القوانين ، لأنّ في النظام الإسلامي يختص حق التقنين باللّه ، فلا مكان لمقنّن آخر فيه سوى اللّه الذي سن جميع ما يحتاجه البشر من القوانين وأبلغها إليهم عن طريق الأنبياء والمرسلين.

من هنا لا بد لتكميل « البحوث التوحيدية » - بالإضافة إلى دراسة مراتب التوحيد الأربع - من البحث في هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد على ضوء القرآن.

على أنّنا لا ندعي بتاتاً بأنّ مراتب التوحيد وأقسامها تنحصر في هذه المراتب السبع وتقف عند هذا الحد ، بل يمكن أن يكون للتوحيد مراتب أُخرى ذكرها القرآن (1) ولكن بحثنا سيدور فعلاً حول هذه الأقسام السبعة.

ولكي نحيط إحاطة كاملة بالكثير من المسائل المرتبطة « بالتوحيد والشرك » من وجهة نظر القرآن الكريم يتعين علينا أن نتعرف على نظر القرآن الكريم في المباحث التالية التي هي موضع عناية القرآن :

1. اللّه والفطرة.

2. اللّه وعالم الذر.

ص: 25


1- مثل « التوحيد في الهداية » و « التوحيد في المالكية » و « التوحيد في الرازقية » و « التوحيد في الشفاعة » مما يمكن إدخال بعضها أو جميعها في قسم « التوحيد الافعالي ».

3. اللّه وبراهين وجوده في القرآن (1).

4. اللّه وسريان معرفته في الوجود بأسره.

5. اللّه والتوحيد في الذات.

6. اللّه وبساطة ذاته وعينيّة صفاته لذاته.

7. اللّه والتوحيد في الخالقية (2).

8. اللّه والتوحيد في الربوبية ( التدبير ) (3).

9. اللّه والتوحيد في العبادة.

10. اللّه والتوحيد في التقنين.

11. اللّه والتوحيد في الطاعة.

12. اللّه والتوحيد في الحاكمية.

ص: 26


1- ليس من الصحيح أن يؤخذ علينا استدلالنا بالقرآن على وجود اللّه بظن أنّ هذا يستلزم الدور الصريح بأن يقال : إن القرآن حجة فيما يقول لو ثبت الوحي والرسالة، والوحي والرسالة لا يثبتان إلا بعد ثبوت الموحي المرسل، فالاستدلال بالقرآن لثبوت الموحي المرسل استدلال بالشيء على نفسه. أقول: لا يصح أن يؤخذ علينا إشكال كهذا، لأننا إنّما نستدل بالقرآن، لأنه لا يعرض ما يتعلق بالعقائد الدينية إلا مع الأدلة العقلية القاطعة، وهذا وحده أمر يستدعي الاهتمام بغض النظر عن كون القرآن وحياً إلهياً وكتاباً سماوياً. فاستشهادنا واستهداؤنا بالقرآن إذن هو من قبيل استهداء التلميذ بأستاذه الذي يريه الطريق، أي بصرف النظر عن كون القرآن كلام اللّه بل بالنظر إلى كونه مبيناً للأدلة والبراهين العقلية ومشيراً إلى الأدلة التي تستدعي من عقولنا التأمل.
2- الخالقية والتدبير ( اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين ) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال ، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.
3- الخالقية والتدبير ( اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين ) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال ، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.

وسنبحث في هذا الكتاب وفق هذا الجدول الذي يؤلف فصول هذا الكتاب الرئيسية ، وسيكون مستندنا الوحيد - طوال هذا البحث - هو (آيات القرآن الكريم ) ومداليل هذه الآيات ومفادها.

كما أنّنا لمزيد التوضيح ربّما استعنا - خلال البحث - بالأدلة العقلية الواضحة والتحليل الفلسفي ، وربّما نستشهد ببعض الأحاديث التي رواها السنّة والشيعة عن النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله وآله علیهم السلام ومن اللّه نسأل العون والسداد.

ص: 27

ص: 28

الفصل الأوّل: اللّه والفطرة

اشارة

ص: 29

معرفة اللّه والفطرة

1. هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية.

2. اعترافات علماء الاجتماع بأصالة التديّن.

3. هل وجود اللّه أمر بديهي ؟

4. تعاليم الدين - بأُصولها - أُمور فطرية.

5. تجلّي الفطرة عند الشدائد.

6. هل وحدانية اللّه أمر فطري وإن لم يكن الاعتقاد بذاته فطرياً ؟

7. الإجابة عن هذا السؤال.

8. ما هو الفرق بين التوحيد الفطري والاستدلالي ؟

9. كيف نميز بين الفطري وغير الفطري ؟

10. علامات الفطرية الأربع.

11. البعد الرابع أو غريزة التدين.

12. سلوك الماركسيين تجاه أُصولهم.

13. المعنى الآخر لفطرية الإيمان باللّه.

14. الفطرة في الأحاديث.

ص: 30

هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية

في التحوّل العلمي الأخير للغرب انطلق المكتشفون والمخترعون يعدون العالم البشري بأنّه لو تم لهم اكتشاف الضوابط والسنن المتحكمة في دنيا المادة ، ولو تم لهم الوقوف والاطّلاع على العلاقات السائدة بين الظواهر الطبيعية وبالتالي لو أمكنهم أن يكبحوا جماح غول الجهل الذي يطارد البشرية دونما رحمة.

لو تم لهم كل ذلك لاستطاع البشر أن يحصلوا على « المدينة الفاضلة » التي وعد بها إفلاطون ، بل لاستطاعوا أن يحصلوا على الجنّة التي طالما تحدث عنها الأنبياء ، وأخبر بها الرسل !! ولم يعد بعد ذلك أيّة حاجة إلى الدين والتعاليم الدينية !! فالتقدّم العلمي والتكنولوجي وحده كفيل بأن يحقق للإنسانية ما يليق بها من العزة والكرامة والسعادة !!

هذا ما كان يتحدّث عنه.

بيد أنّه الحوادث المريعة التي شهدتها أوائل وأواسط القرن الأخير والتي بلغت ذروتها في الحربين العالميتين اللتين كان مجموع ضحاياهما ما يزيد عن المائة مليون إنسان ما بين قتيل وجريح ومفقود الأثر.

هذه الحوادث أفرغت اليأس في قلوب كل أُولئك المتشدّقين وفنّدت مزاعمهم ، وأثبتت بقوّة بأنّ عهد الدين لم يول بعد ، وأنّ الحاجة إلى التعاليم

ص: 31

الدينية لا ولن ترتفع أو تزول ، وأنّ من المستحيل أن تسعد البشرية وتنال الرفاه المنشود ورغد العيش دون الأخذ بالدين ، ودون التوجّه إلى اللّه ، وأنَّها على فرض حصولها على العيش الرغيد في معزل عن الدين ، فإنّها - ولا ريب - ستواجه مشكلات جديدة لا يمكن حلها وعلاجها بأدوات التطور العلمي المادي والتقدم الصناعي ، والتكنولوجي.

لأنّه ما الذي سيمنع - في ظل الأنظمة المعتمدة على العلم المجرّد عن الدين - من بروز الحروب المبيدة الساحقة ، واندلاع المعارك المدمرة ؟

أم أي نظام حقوقي سيكون قادراً على تلبية كل احتياجات الإنسان الحقوقية ومعالجة كل المشكلات الطارئة على العلاقات الاجتماعية ؟!!

لقد أصبح عرض المبادئ والنظريات الفجة مع انتحال صفة « الآيديولوجية » لها ، شعار هذا العصر ، ولكن الواقع العملي أثبت أنّ كل هذه المبادئ والنظريات وما يسمّى ب « الآيديولوجيات التقدمية » عجزت ، وفشلت ، وسقطت على صعيد التطبيق السياسي والاجتماعي والأخلاقي ، وعجزت عن تقديم نموذج أعلى للحياة وطريقة فضلى للعيش ، فإذا بنا نجدها تختفي عن المسرح الواحدة تلو الأُخرى وبسرعة ، مسلمة نفسها إلى يد النسيان والفناء ، والاندحار.

فالماركسية التي جعلت « الاقتصاد » مبدأ حركة التاريخ وغايته ومحور كل التحولات الاجتماعية لم تستطع - أبداً - أن تروي عطش الإنسان إلى القضايا الروحية والمعنوية ولم تستطع أن تشبع تلك الجوعة المتأصلة في كيان الكائن البشري إلى ما وراء المادة ، وبالتالي عجزت الماركسية عن الإجابة على أبسط الأسئلة في هذا المجال !!

ص: 32

فالإنسان يريد دائماً أن يعرف :

من أين جاء ؟؟

ولماذا جاء ؟؟

وإلى أين يذهب ؟؟

ولكنَّ الفكر الماركسي يلوذ بالصمت تجاه هذه الأسئلة المحرجة ، ويعجز - تماماً - عن الإجابة عليها.

ومن المعلوم أنّ الإنسان ما لم يحصل على إجابات مقنعة على أسئلته حول علة خلقه والهدف منه والغاية التي تنتظره فإنّه لن تنحل عنده بقية مسائل الحياة بصورة جدية وقطعية.

وكيف - ترى - يمكن أن تنحل هذه المشاكل ويتضح جواب هذه التساؤلات والماركسية تعتبر الكون ككتاب مندرس سقط أوّله وآخره فلا أوّل له ولا آخر ولا مبدأ ولا منتهى حيث إنّها لا تعترف بالمبدأ الأوّل ولا تقرّ به ولا تعرفه كما لا تعرف الغاية من الخلق ولا تقرّ بها ولا تعترف.

من هنا يعتقد المفكرون المتحررون واقعيو النظرة في العالم ، اليوم بأنّ على البشرية أن تعود إلى أحضان الدين ، وأنّ المعتقدات والتعاليم الدينية يجب أن تؤخذ في الحسبان على أنّها جانب أساسي في حياة الإنسان وأنّ أي مبدأ وآيديولوجية تريد أن تشغل الإنسان بالطبيعة فقط متجاهلة ما وراء الطبيعة فإنّها ستكون محكومة بالفشل وسيكون مآلها إلى السقوط في وجه المشاكل العويصة والطرق المسدودة التي تعترض سبيلها ، وسبيل كل فكرة وعقيدة.

وصفوة القول هو ما قاله العالم المعروف : « جان ديورث » :

ص: 33

كيفما فسرنا الأُمور الدينية وكيفما تصورناها ، فإنّ للدين سابق عهد في الحياة البشرية وله دور فعلي الآن ، ولا ريب أنّه سيكون له ذلك في المستقبل أيضاً.

إنّ كون الآيديولوجية ( إلهية ) وكون المنهج إلهياً لا يعني أنّ نوجه عنايتنا إلى ما « وراء الطبيعة » ونتجاهل عالم المادة ونهمل دنيا الطبيعة ، بل انّ الفارق بين « الإلهي » و « المادي » هو أنّ الإلهي يجعل معرفته بالطبيعة سبيلاً إلى معرفة ( ما وراء الطبيعة ) هذا إلى جانب الاستفادة الكاملة والمعقولة من عالم الطبيعة والمادة ، في حين يقتصر المادي على الاستفادة من الطبيعة ويجعلها هدفه الوحيد ، وغايته القصوى ، ويحبس نفسه في سجن المادة دون أن يحاول التحليق إلى آفاق ما وراء الطبيعة كما يفعل المادي.

علماء الاجتماع وأصالة التديّن

يذهب علماء الاجتماع المحقّقون المحايدون إلى أنّ للاعتقاد والإيمان باللّه جذوراً عميقة ، وتاريخاً عريقاً في حياة الإنسان ، بحيث لم يحدث للبشر حذف الدين من منهاج حياته ولا حتى لبرهة عابرة من الزمن.

أمّا البلاد الشيوعية التي حذفت الإيمان باللّه من برنامج حياتها ، وتظاهرت بالإلحاد والكفر وإنكار الخالق وبكل ما يتعلق بما وراء الطبيعة « الميتافيزيقا » فلها تراجيديا واسعة سنشير إليها في خاتمة البحث.

والآن إلى البحث حول أصالة التديّن وتجذّره في تاريخ البشر :

إنّ حياة البشر على هذا الكوكب كنز غني وثمين متاح للإنسان المعاصر والقادم. ولكل فرد من أبناء البشر حسب رؤيته ، وتبعاً لمقدار معلوماته وتخصصه

ص: 34

أن يستفيد من هذا الكنز العظيم الزاخر بالعبر والدروس.

ومن أجل ذلك راح الأنبياء العظام والمصلحون العالميون ، والحكماء والفلاسفة ، ومن ورائهم المربون الاجتماعيون وأساتذة الأخلاق ، والنفسانيون وغيرهم يلفتون نظر المجتمعات البشرية إلى « تاريخ الأسلاف » ويدعونهم إلى قراءته واستلهام الدروس منه ، وراح كل واحد من هذه الطوائف التي ذكرنا يستفيد من هذا الكنز العظيم ، أعني : التاريخ البشري ، ما أمكنه لإنجاح مهمته ، وأهدافه لما في التاريخ من أدلة وشواهد لما يقولون.

إنّ تصفح مثل هذا التاريخ ومطالعة حياة الأقوام والشعوب السالفة وعلل ظهور الحضارات « الواحدة والعشرين » (1) وأرضياتها وأُسسها ، وسيلة مطمئنة للباحث الذي يريد الاطلاع على جذور التديّن في قلوب البشر وفي تاريخه الطويل.

فالمتصفح في التاريخ البشري الطويل يرى كيف أنّ البشر اختار - طوال آلاف السنين وخلال هذه الحضارات المتنوعة - عشرات المناهج والأساليب لحياته ، ولكنّه سرعان ما كان ينبذها ويحذفها من حياته تماماً.

لقد كان البشر ولا يزال طالباً للجديد ، وخاضعاً لسنة التطور والتحول والتغير ففيما هو يوجد لنفسه ولحياته ، أو يختار ، برامج وأساليب جديدة لنظامه نجده من جانب آخر يلغي أُموراً - تبعاً للعوامل الطبيعية والظروف المحيطية والعنصرية - طالما دافع عنها وأحبها إلى درجة بذل النفس في سبيلها.

لكنَّ هناك أمراً واحداً بقي ثابتاً لا يتغير في قاموس الحياة البشرية ، رغم كل

ص: 35


1- حسبما أحصاها بعض مؤرخي الحضارات.

تلك التغيّرات والتحوّلات.

أمراً واحداً بالغ البشر في حفظه وصيانته وتوسيع دائرته ألا وهو : موضوع « الدين » ، والإيمان بما وراء المادة الذي لم يعرف فيه مللاً ولا فتوراً ولا إعراضاً.

هذا القدم في الوجود وهذه الأصالة كاشفة ولا شك عن أنّ « التديّن » والدين يعتبر من العناصر التي تؤلِّف ذات الإنسان وتعد من غرائزه الأصيلة وحاجاته الروحية والنفسية التي كانت لا تزال معه بحيث لم تتسلل إليها يد التغيير والتبديل.

يقول « ويل دورانت » المؤرّخ المعاصر :

صحيح أنّ بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق ، إلاّ أنّ هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأنّ الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية.

ثم يقول :

إنّ الفيلسوف معني بمسألة العقيدة الدينية من حيث قدم ظهورها ودوام وجودها (1).

ويقول العالم الاجتماعي المعروف « صموئيل كونيك » في بعض كلماته حول جذور الدين في الأسلاف من البشر :

إنّ أسلاف البشر المعاصر - كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في

ص: 36


1- قصة الحضارة : 1 / 99.

الحفريات - كانوا أصحاب دين ، ومتدينين ، بدليل أنَّهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم ، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر ، وراء هذا العالم (1).

انّ ذلك الفريق من البشر وان كان يعيش في عصر لم يتم فيه اختراع « الخط » بعد ، ولكنه مع ذلك كان الالتفات إلى الدين الذي يلازم بالضرورة « التوجه إلى الميتافيزيقيا » جزء من حياته.

وفي موضع آخر يطرح « ويل دورانت » السؤال التالي ويقول :

ما أساس هذه التقوى التي لا يمحوها شيء من صدر الإنسان (2) ؟

ثم يجيب هو بنفسه على هذا السؤال في موضع آخر من الصفحات التالية بنحو ما إذ يقول :

إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع الإنسان الفطرية وغرائزه ، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو الاعيب كهنوتية إنّما نشأت عن فطرة الإنسان (3).

وقد يقال : لو كان للدين والتدين جذور عميقة في فطرة الإنسان وأعماق وجدانه ، إذن فلماذا خاض أصحاب الأديان كل تلك الحروف طوال التاريخ البشري من أجل إقرار الدين في مجتمعاتهم.

وجواب هذا واضح ، فإنّه لم يكن هناك خلاف في أصل « وجود اللّه »

ص: 37


1- كتاب « جامعه شناسي » : 192.
2- قصة الحضارة : 1 / 99.
3- المصدر نفسه.

والالتفات إلى ما وراء المادة .. وإنّما الخلاف وقع في خصوصيات هذا الاعتقاد وليس في جوهره وأصله.

وبهذا يتضح أنّ الصراع قام حول التفاصيل والخصوصيات ، وأمّا أصل العقيدة والإيمان بوجود اللّه فقد اتفقت عليه كلمة البشرية على مدار التاريخ الإنساني الطويل.

هل وجود اللّه بديهي ؟

لقد اعتبر بعض العرفاء « وجود اللّه » في العالم أمراً بديهياً ، وادّعوا بأنّ استنباط هذه الحقيقة من آيات القرآن والوقوف عليها استنباط واضح ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه والتفكير مطلقاً.

وكأنّ « توماس كارليل » الفيلسوف الانجليزي قد انتزع مقالته التالية من هذا التصور والاعتقاد إذ قال :

إنّ الذين يريدون إثبات وجود اللّه بالبرهان والدليل ما هم إلاّ كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس (1).

ولدى مراجعة الآيات القرآنية والأدعية الواردة عن أهل بيت النبي علیهم السلام يمكن الوقوف على إشارات جلية إلى هذا المطلب ، ونعني بداهة « وجود اللّه » (2).

ص: 38


1- گلشن راز : 51.
2- ليس المراد من البداهة أن لا يختلف فيه اثنان أو لا يحتاج إلى تذكير مذكر بل للبداهة مراتب بعضها يحتاج إلى تذكير مذكر أو إشارة مشير ، وربما يحتاج التصديق به إلى تخلية النفس من الرواسب والآراء السابقة ، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكون وجود اللّه معنى بديهياً وإن اختلف فيه الناس والفلاسفة.

ومن ذلك قوله تعالى :

( أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) (1).

فما يمكن أن يكون إشارة إلى قضية « بداهة وجود اللّه » في هذه الآية هو قوله : ( أَفِي اللّه شَكٌّ ) في حين أنّ المقطع التالي من الآية أعني قوله : ( فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) يعتبر دليلاً مستقلاً على وجود اللّه كما سيأتي توضيحه وبيانه فيما بعد.

وكما يمكن أن تكون الآية المذكورة إشارة إلى « بداهة وجود اللّه » كذلك يستفاد ذلك من الآية التالية التي تصف اللّه بالظهور إذ تقول :

( هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ) (2).

كما ويمكن استفادة إشارات واضحة إلى هذا الأمر من دعاء الإمام أبي عبد اللّه الحسين بن علي سيد الشهداء علیه السلام ، ومناجاته يوم عرفة مع ربه إذ يقول :

« كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟!

أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟!

متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟!

ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟!

عميت عين لا تراك عليها رقيباً ».

ص: 39


1- إبراهيم : 9.
2- الحديد : 3.

ويقول علیه السلام في ختام دعائه :

« يا من تجلّى بكمال بهائه ، كيف تخفى وأنت الظاهر ؟!

أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر ؟ » (1).

ولكن لابد أن نعلم أنّه لا تنافي بين « بداهة وجود اللّه » و « فطرية الإيمان به » فلا مانع من أن يكون وجود اللّه بديهياً ويكون الإيمان بوجوده فطرياً أيضاً.

وفي الحقيقة فإنّ بداهة وجود اللّه ما هي إلاّ نتيجة فطريته ، لأنّ أحد أقسام البديهي هو : « الفطريات » كما هو واضح لمن يراجع هذا البحث في محله (2).

ولأجل ذلك لا مانع من أن تكون مسألة وجود اللّه بديهية وفطرية في آن واحد وما ذلك إلاّ لأنّ الإيمان بوجوده تعالى قد امتزج بوجداننا وبفطرتنا ، ولذلك يبدو وجوده لنا في صورة الأمر البديهي.

الإنسان يبحث عن اللّه فطرياً

يذهب أكثر المفسرين إلى أنّ فطرية الإيمان باللّه أمر يمكن استفادته من الآيات القرآنية (3) وإذا بهم يجعلون الإيمان باللّه كسائر الغرائز المتأصلة في البشر

ص: 40


1- راجع كتاب الأدعية في دعائه علیه السلام يوم عرفة.
2- بحث « مواد الأقيسة » وهذا البحث من المباحث الهامة جداً في علم المنطق ، ولكنّ المتأخرين لم يهتموا به كما ينبغي مع الأسف ، وقد انفرد العلاّمة الحلي فقط في كتابه « الجواهر النضيدة » بهذا المبحث.
3- بمعنى أنّ الآيات القرآنية تصرّح بأنّ الإذعان بوجود اللّه فطري لدى الإنسان.

ويقولون : كما أنّ الإنسان يحب الخير فطرياً ، أو يكره الشر فطرياً كذلك يبحث عن اللّه فطرياً وذاتياً ، ويريد معرفة ما وراء الطبيعة فطرياً أيضاً ، وما كل ذلك إلاّ لأنّ البحث عن اللّه والتفتيش عن الخالق أمر جبل عليه الإنسان وفطر عليه تكوينه وعجنت به سريرته ، فإذا به يميل إلى الإذعان باللّه ذاتياً بينما يكره الإلحاد ونكران اللّه ذاتياً كذلك.

وفي هذا الباب نواجه نوعين من الآيات :

نوعاً يعتبر التعاليم الدينية بأُصولها ( من عقيدة وعمل ) قضايا فطرية مغروسة في جبلة البشر وخلقته ، فإذا هي ( أي هذه التعاليم ) ليست سوى نداءات الضمير ، ومحاكاة للفطرة.

ونوعاً آخر يصرح بأنّ الإيمان باللّه وألتوجه إليه في الشدائد من الأُمور الفطرية التي ولدت مع الإنسان.

وإليك فيما يلي كلا النوعين من الآيات :

التعاليم الدينية أُمور فطرية

قال اللّه تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلّدِينِ حَنِيفاً فِطْرةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

ففي هذه الآية لم تجعل مسألة « معرفة اللّه والإيمان به » فقط أمراً ، فطرياً بل وصف الدين بأُصوله ( والتي تعني تلك الأُصول والكليات التي تؤلّف أساس

ص: 41


1- الروم : 30.

الدين الإلهي ) بكونه فطرياً جبلياً (1).

ويشهد الواقع على ذلك إذ نرى أنّ كل التعاليم الّتي جاء بها الدين من عقيدة وعمل ، تنطبق على مجموع الاحتياجات الفطرية سواء بسواء. (2)

والإمعان في الآية المذكورة يفيدنا أنّ الدين عجن بفطرة البشر عجناً ، فإذا هو منها وإذا هي منه ، وجزء من كيانه.

وحقيقة الدين ليست سوى الطريق الأفضل الذي يجب أن تسلكه البشرية للوصول إلى السعادة.

وبتعبير آخر : انّ الهدف والغاية من خلق البشر ليس إلاّ الحصول على السعادة والكمال ، وقد هدى اللّه تعالى كل فرد من أفراد البشر بل وكل نوع من أنواع مخلوقاته إلى ذلك إذ جهزه بما يوصله إلى شواطئ السعادة المنشودة والكمال المطلوب بوسيلة مناسبة.

وقد أشار الكتاب العزيز بصراحة إلى هذه « الهداية التكوينية » العامة والتي لا تقتصر على بني آدم بل تشمل كل الكائنات على الإطلاق.

ص: 42


1- الاستدلال بالآية في المقام موقوف على كون الدين بمعنى مجموع العقيدة والشريعة لا بمعنى الطاعة كما هو الظاهر من قوله تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( البينة : 5 ) أي مخلصين له الطاعة. فإن الدين في تلك الآية وأضرابها بمعنى الطاعة. فلو قلنا بكون الدين في هذه الآية بمعنى الطاعة لصارت من شواهد التوحيد في الطاعة. غير أن مشاهير المفسرين قد فسروا الدين في الآية المبحوثة هنا بمجموع العقيدة والشريعة، وجعلوا العقائد الإسلامية وأصول الشريعة وكليّاتها (لا جزئياتها وتفاصيلها) من الأمور الفطرية.
2- هذا بالإضافة إلى أنّنا نجد أغلبية الناس يميلون إليها طوعاً ورغبة إذا عرضت عليهم على النحو الصحيح ، وإذا هم تجرّدوا عن العصبية - الهادي -.

فقد صرح بذلك في آيات أُخرى مضافاً إلى ما سبق ، إذ قال :

( رَبُّنُا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1).

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (2).

هذه الآيات تفيد - بوضوح كامل - أنّ اللّه زوّد كل كائنات هذا العالم - بشراً وغير بشر - بهداية فطرية تكوينية تتبين بموجبها طريقها في الحياة فتأخذ ما يناسبها وتدع ما لا يناسبها ، وتعينها تلك الهداية الفطرية على معرفة ما هو مفيد لها وما هو مضر.

وفي خصوص الهداية الفطرية التي زود بها البشر خاصة يقول القرآن الكريم : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (3).

( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (4).

( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ ) (5).

كل هذه الآيات حاكية عن أنّ جميع الموجودات - أعم من الإنسان وغير الإنسان - تعيش في ظل هداية تكوينية فطرية ، هداية تقودها إلى الكمال المنشود المطلوب.

والهادي للإنسان في هذا المسير إنّما هو خلقته وتكوينه. وجميع البشر سواسية في هذه الموهبة الإلهية المعنوية ونعني الهداية الفطرية فلم يفضل اللّه فيها

ص: 43


1- طه : 50.
2- الأعلى : 2 - 3.
3- الشمس : 7 - 8.
4- البلد : 8 - 10.
5- عبس : 19 - 20.

بعضاً على آخر ، ولم يعطها لفريق ويحرم منها آخرين. إنّما هي فطرة فطر عليها عامة البشر بلا استثناء إذ يقول :

( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ) .

فلم يخلق جماعة على غريزة الإيمان ، وجماعة أُخرى على غريزة الإلحاد. جماعة على الميل إلى الخير ، وجماعة أُخرى على الميل إلى الشر.

كلاّ ، إنّما هي فطرة واحدة فطر عليها جميع الناس دون تمييز وتفضيل. إذ لا ريب أنّه لو لم يقم مجتمع ما على أساس مشترك لما أمكن سوقه إلى هدف الخلقة ( ونعني به التكامل ).

فإذا كانت التعاليم الدينية بأُصولها ذات طابع فطري وصفة جبلية ، فمن الأحرى أن تكون مسألة « معرفة اللّه والإيمان به » التي تعد أساس كل التعاليم الدينية أمراً فطرياً كذلك.

تجلّي الفطرة عند الشدائد

من المعلوم أنّ فطرية الإيمان باللّه لا تعني بالضرورة أن يكون الإنسان متوجهاً إلى اللّه دائماً ملتفتاً إليه متذكراً إيّاه في جميع حالاته وآونة حياته اليومية ، إذ رب عوامل تتسبب في إخفاء هذا الإحساس في خبايا النفس وحناياها وتمنع من تجليه ، وظهوره على سطح الذهن ، وفي مجال الوعي والشعور.

وأمّا عند ما يرتفع ذلك الحجاب المانع عن الفطرة فالإنسان يسمع نداء فطرته بوضوح.

أجل .. هذه حقيقة لا تنكر .. فعندما يواجه المرء حوادث مخيفة نجده

ص: 44

يتوجه إلى اللّه ، ويستنجد به بحكم فطرته طالباً منه تيسير عمله ، وتسهيل أمره.

عندما تقع للإنسان حوادث خطيرة كهجوم الأمواج العاتية على السفينة التي يركبها في عرض البحر ، أو حدوث عطل فني في الطائرة التي يمتطيها في الجو ، أو انحراف السيارة التي يستقلها ، أو يتعرض لهجوم سيل كاسح على قريته أو مدينته.

أقول : عندما يواجه الإنسان أحد هذه المخاطر نراه يتوجه من فوره - وبصورة تلقائية فطرية - إلى اللّه ، وتحدث لديه حالة عرفانية قلبية ، يطلب فيها من اللّه سبحانه الخلاص والنجاة.

ففي هذه الحالة صار الخوف مذكراً له بنداء الفطرة وكاشفاً عنها لا موجداً للإيمان باللّه.

فلا يصح لنا أن نستنتج من توجه البشر إلى اللّه في هذه الحالة وفي هذه اللحظات من حياته بأنّ الإيمان وليد الخوف والرهبة من الطبيعة الغاضبة كما يدعي الماركسيون ومن حذا حذوهم بل الخوف مجرد وسيلة تكشف الغطاء عن ذلك الإيمان المغروس في أعماق البشر ، المودوع في الفطرة بيد الخالق العظيم.

إنّ غريزة حب الجمال واكتناز الثروة وطلب العلم رغم أنّها أُمور مجبولة مع فطرتنا ومعجونة مع خلقتنا فهي لا تظهر ولا تتفتّح ولا تبرز في كل الأوقات والظروف ، ولا تتجلّى في عالم الذهن في كل الأزمنة والأحوال ما لم تتهيّأ الظروف المناسبة لها في وجودنا.

وكذلك تكون غريزة التديّن وفطرة الإيمان باللّه.

وها هو القرآن الكريم يذكرنا بهذه الحقيقة فيخبرنا كيف أنّ فريقاً من البشر

ص: 45

يذكرون اللّه ويتوجهون إليه في مواقع الشدة ، والخطر .. أي عندما تواجه سفنهم طغيان الأمواج - مثلاً -.

ففي هذا الموضع - بالذات - يتذكّرون اللّه وينسون ما سواه من العلل المادية حتى الأصنام التي كانوا يتصورون بأنّها مقربة لهم إلى اللّه ، فيدعون اللّه ويطلبون منه بكل إخلاص أن ينجيهم مما هم فيه :

( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريح طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِها جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنَّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحَقِّ ... ) (1).

( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّه مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (2).

( وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّار كَفُور ) (3).

( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (4).

( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (5).

ص: 46


1- يونس : 22 - 23.
2- العنكبوت : 65.
3- لقمان : 32.
4- يونس : 12.
5- النحل : 53 - 54.

( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُوراً ) (1).

( وَإَذَا مَس النَّاسَ ضُرٌّ دَعوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (2).

هذه الآيات كلها تفيد أنّ الإيمان باللّه مزروع في فطرة الإنسان ، غاية ما في الأمر أنّ الإنسان قد يغفل عن ذلك بعض الأحيان بسبب ما يعتريه من سهو ولهو ولذات منسية سريعة الفوت ، ولكنَّه سرعان ما يعود بحكم فطرته إلى اللّه - عندما يواجه الشدائد وتفقد الحياة رتابتها - فهنالك لا يرى سوى اللّه منقذاً ومخلصاً ، ولا يرى في غيره ولياً ولا نصيراً.

هل الإيمان بوحدانية اللّه فطري أيضاً ؟

يعتقد فريق من العلماء أنّ الآيات المذكورة ناظرة إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوحدانية اللّه » لا إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوجوده تعالى ».

فقد كتب من هذا الفريق من يقول :

لو كانت هذه الآيات تتحدث عن فطرية شيء ، فهي إنّما تتحدث - في الحقيقة - عن فطرية « وحدانية اللّه » لا عن فطرية « أصل وجوده ».

وذلك لأنّ هذه الآيات موجهة - أساساً - إلى المشركين الذين كانوا يتخذون مع اللّه إلهاً أو آلهة أُخرى.

ص: 47


1- الإسراء : 67.
2- الروم : 33.

وبذلك يكشف شأن نزولها عن أنّ الأمر الموصوف بالفطرية والمنعوت بكونه جبلياً هنا ليس هو « الاعتقاد بوجود اللّه » بل هو « الاعتقاد بوحدانيته » كما لا يخفى.

الجواب :

ويمكن الإجابة على هذا الاعتراض بجوابين :

1. أنّ هذا الكلام - لو صح - إنّما هو صادق بالنسبة للآيات التي تتحدث عن حالة راكبي الفلك (1) حينما تعتريهم الأمواج الطاغية فيتوجهون - في غمرة الخوف والانقطاع - إلى اللّه فيما يتوجهون في غير هذه اللحظات إلى معبوداتهم وآلهتهم المزعومة المصطنعة مشركين ، حائدين عن جادة التوحيد.

وأمّا تلكم الآيات التي تصف أُصول التعاليم الدينية بالفطرية ، وتعتبرها أُموراً نابعة من صميم ذاته ومنطبقة مع جبلته ، ومقتضى خلقته فخارجة عن مجال هذا الكلام والاعتراض.

ففي هذه الآيات الأخيرة لم يعتبر التوحيد فقط أمراً فطرياً جبلياً بل اعتبر العلم بالمحسنات والمقبحات والعلم بالتقى والفجور كما في قوله تعالى : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (2) أو العلم بالدين كما في قوله : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه ) (3).

أقول : اعتبر العلم بهذه الأُمور فطرياً.

ص: 48


1- يونس : 23 ، والعنكبوت : 65 ، لقمان 32 ، والإسراء : 67.
2- الشمس : 8.
3- الروم : 30.

وفي هذه الصورة لا منافاة بين فطرية الاعتقاد بأصل وجود اللّه والاعتقاد بوحدانيته فطرياً ، لأنّ كل ذلك يندرج تحت إطار « التعاليم الدينية » على السواء.

2. وحتى لو أغمضنا النظر عن هذا الجواب وقصرنا النظر على آيات راكبي الفلك ، فإنّ الاعتراض لن يصح في موردها أيضاً.

وذلك لأنّ المشركين رغم اعتقادهم باللّه ، فإنَّهم ما كانوا يعبدون - في الأوقات الاعتيادية - إلاّ أوثانهم خاصة ، فلم يكن لديهم في تلك الأحيان أي توجه إلى اللّه أبداً ، بينما كان هذا الأمر ينعكس تماماً عند مواجهة الأخطار والشدائد فكانوا يتوجهون إلى اللّه وحده ، يعبدونه وحده ، ويتضرعون إليه وحده ، وأمّا الأصنام فكانت تسلم إلى يد الإهمال والنسيان.

من هذا الأمر يمكن استنباط الحقيقة التالية ، وهي أنّه كما أنّ وحدانية اللّه أمر فطري كذلك الاعتقاد بأصل وجوده فطري أيضاً.

لأنّ المشرك - كما لاحظنا - لم يتوجه في الشدائد إلاّ إلى اللّه الذي كان ينسى وجوده وصفته في الحالات الاعتيادية نسياناً مطلقاً وكأنّ اللّه لم يكن.

ولا ريب أنّ هذه الالتفاتة بعد تلك الغفلة الشاملة للذات أيضاً ، علامة أنّ الذات والصفة ، ونعني ذات اللّه ووحدانيته كلاهما أمران فطريان.

وبعبارة أُخرى : إذا كان الاعتقاد بصفة من صفات اللّه فطرياً فمن الأحرى أن يكون « أصل الاعتقاد بوجوده » كذلك أمراً فطرياً لدى الإنسان ، ولذلك فإنّ الآيات المذكورة حتى إذا كانت تعني فطرية التوحيد - حسبما ادّعوا - فإنّها تعني بالضرورة والأولوية فطرية الإيمان بوجود اللّه.

ص: 49

تنبيه إلى عدة نقاط

اشارة

لقد قادنا التحقيق السابق إلى فطرية مباني الدين وأُسسه وأُصوله ، ويتعين علينا الآن أن ننبه القارئ الكريم بعدة نقاط نراها ضرورية في المقام :

الأُولى : الفرق بين التوحيد الفطري والتوحيد الاستدلالي

يمكن البحث والتحدث حول معرفة اللّه والتوصل إليها عن طريقين هما :

1. طريق الفطرة.

2. طريق الاستدلال.

والمراد من « طريق الفطرة » هو أنّ كل إنسان يشعر في قرارة ضميره ، ومن تلقاء نفسه بانجذابه نحو اللّه ، وميله العفوي الفطري إليه دون أن يكون في ذلك متأثراً ببرهان ، أو خاضعاً لدليل ، أو نابعاً من تعليم معلم ، أو دعوة أحد ، أو ما شابه ذلك من المؤثرات الخارجية.

والمقصود بالطريق الثاني أي التوحيد الاستدلالي ، هو أن يجد المرء طريقه إلى معرفة اللّه عبر الاستدلال وإقامة البراهين العقلية والفلسفية فلا يكون دليله في هذا السبيل ، إلاّ تلك البراهين ليس إلاّ.

وقد يحدث خلط والتباس بين هذين الطريقين وهذين النوعين من « التوحيد » لذلك لا بد من التلميح إلى ما يساعدنا على التمييز بين « الفطري » و « غير الفطري » من الأُمور. وهذا هو ما نبينه في النقطة الثانية التالية :

ص: 50

الثانية : كيف نميّز العمل الفطري عن غير الفطري ؟

اشارة

يصدر من الإنسان في حياته نوعان من الأفعال :

1. الأفعال الفطرية.

2. الأفعال العادية.

والأفعال الفطرية هي تلك الأفعال التي تنبع من جبلة الإنسان وفطرته وغريزته كالتنفس ، والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر.

وهذه الأعمال لا تختلف عما تفعله الحيوانات من أعاجيب الأفعال بحكم الغريزة وتحت هداية الفطرة وتأثير الجبلة ودون أن تخضع في شيء من ذلك لأي عامل خارجي عن وجودها.

والأفعال العادية هي التي لا يكون لها أية جذور غريزية باطنية بل يقوم بها الإنسان تحت تأثير العوامل الخارجية عن ذاته.

ولمزيد من التوضيح نمثل للأفعال الفطرية بالأمثلة التالية :

1. الغريزة الجنسية وميل كل جنس إلى مخالفه من الأُمور الفطرية التي تتجلّى لدى كل فرد من أبناء البشر في سنين متفاوتة.

فكل أبناء البشر - بلا استثناء - يميلون في هذه الفترة من العمر إلى الزواج واللقاء الجنسي دون أن يدعوهم إلى ذلك داع أو مبلّغ ودون أن يسوقهم إلى ذلك مرشد أو معلّم.

2. الميل إلى الجاه والمكانة الاجتماعية هو الآخر من الأُمور الفطرية التي تنبع من أعماق الباطن البشري ، وحنايا النفس الإنسانية.

ص: 51

فالحكم على الناس والحصول على المناصب ليس شيئاً لا يريده أحد أو يحتاج إلى تعليم معلّم.

3. حب المال واكتناز الثروة وجمعها من الأُمور الفطرية كذلك.

ألا ترى كيف لا يشبع الإنسان من جمع المال ، ولا يمل من تكديس الثروة وكأنّ جبلته عجنت بطلب الدنيا وحبها.

هذه هي بعض النماذج من الأفعال الفطرية ، وهي كما نرى لا تخضع لأي تغيير وتبدّل ، كما لا تخضع لأي عامل خارج الذات.

ويقابل ذلك مجموعة من الأفعال العادية التي تخضع لحالة التغيّر والتبدّل باستمرار.

فإذا كانت الحاجة إلى اللباس فطرية فإنّ كيفية اللباس الذي يلبسه الإنسان ليست فطرية ، ولأجل هذا نرى التفاوت الكبير في كيفية الثياب والألبسة والأزياء واختلافها من شعب إلى شعب ومن أُمّة إلى أُخرى.

واليوم حيث يتزايد تقارب الشعوب بفضل المواصلات وأجهزة الإعلام بحيث يكاد يصبح العالم عائلة واحدة نجد أنّ مواصفات الأزياء وطُرُز الألبسة تتعرض للتغير والتبدل في كل عام في أغلب نقاط عالمنا ، فتذهب طُرُز وتحل محلها طُرُز أُخرى جديدة بينما تبقى الحاجة إلى اللباس ثابتة لا تتغير.

وعلى غرار الأزياء تخضع أساليب تجميل النساء وطرق الزينة ، وهكذا زخارف المنازل والمحلات والمخازن ، للتغيّر والتبدّل كل عام وينتخب كل شعب لنفسه زياً من الأزياء وطرازاً من الطُرُز ، وشكلاً من الأشكال.

مع ملاحظة الأمثلة التي ذكرناها للنوعين يمكن تمييز الأمر الفطري عن

ص: 52

الأمر غير الفطري بمعونة العلامات التالية :

1. حيث إنّ الأُمور الفطرية ذات جذور غريزية باطنية ، لذلك فهي تتصف بالشمولية والعمومية ، فليس هناك أحد من أبناء البشر يفقدها ويخلو منها.

2. الأُمور الفطرية تتحقق بوحي الفطرة وهدايتها ، ولا تحتاج إلى تعليم معلّم.

3. كل فكرة أو عمل تكون له جذور فطرية لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية ، بل هي تعمل وتتحقق بعيداً عن نطاق هذه العوامل وتأثيرها.

4. الدعايات المكثفة والمستمرة ضد الأُمور الفطرية يمكن أن تضعفها وتحد من نموها ولكن لا تتمكن - أبداً - من استئصالها والقضاء عليها بالمرة.

هكذا تكون الأُمور الفطرية بينما تكون الأُمور العادية - على العكس -.

فهي محلية.

وهي تتأثر بالعوامل والمؤثرات المحيطية والبيئية.

وهي تخضع لتعليم معلم.

وأخيراً هي مما تتمكن الدعايات المضادة من استئصالها بالمرة.

والآن علينا أن نرى ما إذا كانت غريزة التديّن تتصف بالصفات والعلامات الأربع التي ذكرناها أو لا ؟

ص: 53

1. البحث عن اللّه ظاهرة عالمية

لقد كشف التحقيق الكلّي الذي قمنا به في مطلع هذا الفصل كشف النقاب عن « عالمية » هذا الإحساس ، ونعني حس البحث عن اللّه والانجذاب إلى ما وراء المادة « الميتافيزيقيا ».

ونضيف هنا أنّ علماء التنقيب والآثار عثروا ويعثرون باستمرار - وخلال حفرياتهم - على معابد وهياكل للعبادة وأصنام تصور معبودات جميلة كان يتخذها البشر القدامى وتقدّسها الأجيال الغابرة البائدة ، وتعود إلى أقدم العصور.

فها هو فريد وجدي يكتب في دائرة معارفه :

إنّ نتيجة التنقيبات في باطن الأرض تفيد أنّ الوثنية كانت من أظهر وأبرز الإدراكات البشرية ، وكأنّ الاعتقاد بالمبدأ نشأ مع ظهور البشر جنباً إلى جنب (1).

ويكتب « جان دايورث » الأُستاذ بجامعة كولومبيا حول الدين وأصالته في المجتمع البشري (2) :

إنّك لن تجد أية ثقافة لدى أية أُمَّة من الأُمم وقوم من الأقوام إلاّ ويكون في تلك الثقافة شكل من أشكال التديّن وأثر بارز للدين.

إنّ جذور التديّن ممتدة إلى أعماق التاريخ .. إلى الأعماق المجهولة من التاريخ السحيق البعيد غير المدون (3).

ص: 54


1- دائرة المعارف : مادة « إله » و « وثن ».
2- الدين في التجارب.
3- المصدر السابق.
2. الفطرة هي الهادية إلى اللّه وليس التعليم

يستيقظ الشعور الديني في باطن كل إنسان - تماماً - كبقية الأحاسيس الباطنية دون معلم ودون إرشاد أو توصية من أحد.

فكما يحس الإنسان باطنياً وذاتياً في فترة من فترات حياته أو في كل الفترات بميل شديد إلى أُمور كالجاه أو الثروة أو الجمال أو الجنس وذلك تلقائياً ودون تعليم معلم ، كذلك يستيقظ في باطنه « ميل إلى اللّه » وإحساس تلقائي يدفعه بدون إرادته إلى التفتيش عنه ، وهو إحساس يتعاظم ويتزايد ويظهر ويتجلّى أكثر فأكثر أثناء البلوغ حتى أنّ علماء النفس يتفقون في أنّ بين « ازمة البلوغ » و « القفزة المفاجئة في المشاعر الدينية » في الفرد ارتباطاً وتلازماً لا ينكر.

ففي هذه الأوقات نشاهد نهضة قوية ، واندفاعة شديدة في الشعور الديني حتى عند أُولئك الذين كانوا قبل تلك الفترة غير مكترثين بالدين وقضايا الإيمان.

ويبلغ الشعور الديني ذروته في سن السادسة عشرة حسب نظرية « استانلي هال ».

وأمّا الأشخاص الذين سبق لهم أن تلقّوا تربية دينية في عهد الطفولة ، فلا توجد لديهم مثل تلك النهضة المفاجئة ، بل يمتد الشعور الديني الموجود قبل البلوغ إلى ذلك الوقت دونما مفاجأة.

إنّ ظهور الميل المفاجئ إلى الدين وإلى اللّه ومسائل الإيمان دون تعليم أو توجيه ، لهو أحد الدلائل القاطعة على فطرية هذا الأمر ، وكون هذا الإحساس يظهر فطرياً شأن بقية الأحاسيس الإنسانية الفطرية الأُخرى.

ص: 55

ولكن علينا أن لا نغفل عن نقطة مهمة وهي : أنّ هذا الإحساس ، وكذا بقية الأحاسيس والمشاعر الإنسانية لو لم تحط بالمراقبة الصحيحة والرعاية اللازمة أمكن - بل من المحتم - أن تعروها سلسلة من الانحرافات وتتعرض للاعوجاج كما هو الحال عند الوثنيين وغيرهم ممن تركوا عبادة اللّه ، وأخذوا بعبادة الآلهة.

3. الشعور الديني ليس وليد العوامل المحيطية

عندما نجد الشعور الديني منتشراً وسائداً في كل مكان وكل صقع من هذا العالم ، وفي كل عصر من عصور التاريخ البشري ، فإنّ من البديهي أن نستنتج أنّ هذا الشعور نداء باطني فطري لا محرك له سوى الفطرة ، ولا مقتضي له سوى الجبلة.

لأنّه لو كان للظروف الجغرافية أو العوامل الأُخرى دخل في نشوء هذا الشعور ، لوجب أن يوجد في مكان دون مكان ، ولدى شعب دون شعب ، ولدى طبقة خاصة دون أُخرى.

وبتعبير آخر لوجب أن يكون هذا الشعور لدى من تتوفر لديه الظروف الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية الخاصة دون من لا تتوفر فيه تلكم الخصوصيات. في حين أنّ الأمر على العكس من هذا تماماً ، فالشعور الديني موجود في جميع المناطق ولدى جميع الشعوب وفي جميع أدوار التاريخ البشري الطويل .. وهذا هو بالذات شأن كل ما لا يخضع لتأثير العوامل الخارجية .. وبالتالي شأن كل أمر فطري.

وفي هذا الصدد يقول « بلورتاك » المؤرخ الإغريقي الشهير منذ نحو من ألفي سنة :

ص: 56

من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح ولكن لم ير قط مدينة بلا معبد ، أو لا يمارس أهلها عبادة (1).

ويقول العالم الأثري الراحل الدكتور سليم حسن :

دلت البحوث العلمية البحتة الآن على أنّ لكل قوم من أقوام العالم عامة - مهما كانت ثقافتهم منحطة - ديناً يسيرون على هديه ويخضعون لتعاليمه (2).

4. الدعايات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله

لا شك في أنّ الدعايات المناوئة ، في مقدورها أن تحد من نمو كثير من الأحاسيس والمشاعر الدينية ، ولكنّها لا تستطيع - بتاتاً - أن تقضي عليها وتستأصلها.

وحتى الآن ورغم سيطرة الأفكار اليسارية على ما يقرب من ثلث عالمنا المعاصر ومحاولة البعض لحبس « الشعور الديني » في سجن الاستعمار الشيوعي أو القضاء عليه بالمرة (3) فإنّ هذه الجهود المناوئة للدين لم تحقق أي قسط مهم من النجاح في القضاء على الدين ، أو تفريغ قلوب أكثرية سكان هذا العالم من هذا الشعور.

فها هو الشعور الديني - في نفس الاتحاد السوفياتي البلد الشيوعي الأُم - رغم مرور أزيد من ستين عاماً على الثورة الشيوعية فيها لا يزال يحتفظ بمكانته في أعماق القلوب ، ولذلك عمدت السلطات - في الأوان الأخير - إلى إعطاء بعض

ص: 57


1- بين العلم والدين : 36.
2- بين العلم والدين : 25.
3- حتى أنّ بعض الأحزاب التقدمية رفعت مؤخراً شعار : « القضاء على الدين دين ».

الحريات للمسلمين والمسيحيين لإقامة شعائرهم الدينية.

وفعلت الصين مثل ذلك مؤخراً كما تنقل نشرات الأخبار ووكالات الأنباء.

كل ذلك برهان ساطع ودليل قاطع على أنّ الشعور الديني فطرة فطر عليها الناس ، جميع الناس .. لا تمحوها الدعايات المناوئة ، ولا أي شيء آخر ، وإن كانت تقلل من اندفاعاتها وتحد من نموها ، بعض الوقت ، وبعض الشيء.

الثالثة : الشعور الديني أو البعد الرابع في الروح الإنسانية

اشارة

إذا كان القرآن الكريم وأحاديث أئمّة الإسلام تعتبر الشعور الديني أمراً نابعاً من الفطرة ، وراجعاً إليها .. وأمراً جبل عليه الإنسان يوم خلق فإنّ علماء النفس منهم خاصة يصفون هذا الشعور بأنّه « البعد الرابع » للروح الإنسانية.

وإذا تهافتت في الغرب نظرية الأبعاد الثلاثة للجسم إثر ظهور النظرية النسبية التي أضافت بعداً رابعاً للأجسام هو الزمان مضافاً إلى أبعاده الثلاثة المنظورة ( وهي الطول والعرض والعمق ) فقالت : كما أنّ الجسم لا يخلو من هذه الأبعاد الثلاثة كذلك لا يخلو من الزمن الذي هو وليد الحركة بما أنّ الأجسام في حركة دائمة.

أقول : كما تهافتت نظرية الأبعاد الثلاثة بظهور البعد الرابع للأجسام ، كذلك مع اكتشاف الشعور الديني في الإنسان والاطلاع على أنّ هذا الشعور يمثل أحد العناصر الثابتة والطبيعية في الروح والنفس الإنسانية تهافتت النظرية القائلة بأنّ للروح الإنسانية ثلاثة أبعاد فحسب ، وثبت في المآل أنّ في الروح والفطرة البشرية حسّاً آخر علاوة على الأحاسيس والغرائز الثلاث المعروفة ، وهذا

ص: 58

الحس هو « حس التدّين » الذي لا يقل أصالة عن بقية الأحاسيس الأصيلة والمشاعر المتأصلة في وجود الإنسان.

وإليك فيما يلي بيان الغرائز والأحاسيس الثلاث باختصار :

1. غريزة حب الاستطلاع

وهذه الغريزة هي التي دفعت وتدفع الفكر الإنساني - منذ البداية - إلى البحث وإلى دراسة المسائل والمشاكل والسعي لاكتشاف المجهولات وفك الرموز واستكناه الحقائق. وهي الغريزة التي نشأت في ظلها العلوم والصناعات وتوسعت المعارف وتطوَّرت وتقدّمت ... وهي الغريزة التي ساعدت المكتشفين والمخترعين منذ القدم وكانت معواناً ومشجعاً لهم على مواصلة البحث المضني لاكتشاف ألغاز الطبيعة وأسرار الحياة وكشف القناع عنها ، وتحمل كل الصعوبات والمتاعب في ذلك الطريق الوعر.

2. غريزة حب الخير

وهي منشأ ظهور الأخلاق ، ومعتمد الفضائل والسجايا الإنسانية والصفات النفسانية المتعالية.

وهي الغريزة التي تدفع الإنسان إلى أن يحب بني نوعه ويطلب العدل ، والحق ، والسلام.

وهي التي توجد في المرء نوعاً من الميل الفطري الباطني إلى الأخلاق النبيلة والسجايا الحميدة ونفوراً من الرذائل والصفات الذميمة.

ص: 59

3. غريزة حب الجمال

وهي منشأ الفنون الجميلة قديماً وحديثاً وسبب ظهور الأعمال الفنية في شتى مجالات الحياة.

4. غريزة التدّين

وتعني بأنّ كل فرد من أبناء الإنسان يميل بنحو ذاتي وفطري ، وبحكم غريزته إلى اللّه ويميل إلى التدّين ، وينجذب عفوياً إلى معرفة ما وراء الطبيعة والقوة الحاكمة على هذا الكون الذي يعيش ضمنه ويكون وجود الإنسان فرعاً من وجوده وجزءاً من أجزائه.

تلك القوة التي بيدها أمر العالم ويمكن أن تنقذه من البلايا ، وتدفع عنه كل مكروه إن شاءت.

ولقد أوجد اكتشاف هذا الشعور وهذا البعد الأخير حركة عظيمة في الأوساط العلمية ، إذ حط هذا الاكتشاف العلمي النفساني الهام من غرور ماديي القرن العشرين وكبريائهم.

فإذا كان إنكار ما وراء الحس « الميتافيزيقيا » دليلاً على الفهم والعلم والتحقيق ذات يوم ، فقد أصبح هذا الأمر - بعد اكتشاف البعد الرابع - علامة الجهل والتعصب والتحجّر ، والإنكار لأبده الحقائق الحاضرة.

وإذا كانت مقالة لينين حول الدين ، تعتبر ذات يوم في نظر البعض أصلاً لا يقبل النقاش والجدل ، وكانت جماهير السواد تتصور بأنّه قد اكتشف لغزاً وسراً عظيماً من أسرار الكون ، فقد أصبحت هذه النظرية بعد اكتشاف البعد الرابع ،

ص: 60

أي الشعور الديني الفطري ، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان ، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل (1) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى اللّه وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص ، وملازمة الزوجية للأربعة ... وكأنّ التوجه إلى اللّه وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية ..

نشيد لا يهدأ ...

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر ، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

ص: 61


1- هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون : إنّ الدين لم يوجد إلاّ لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل. ولكن بعد أن ثبت أن للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر ، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين - أنفسهم - لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل ، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين ، أُموراً صحيحة مائة بالمائة ، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل (1) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في 26 أبريل 1949م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء : كارل ماركس ، ولينين ; وستالين ، ولا نؤمن بثلاثة أشياء : اللّه ، والدين ، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية ، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية ، والمروق من اللينينية الماركسية ... ويعتبرونه مرتداً حزبياً ، تماماً كما يفعل المتدينون ، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

ص: 62


1- هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد ، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسو الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب ، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلاّ ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء ، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات ، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً ، ضد الكادحين ، سفاكاً ، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها ، واستهان بآراء الجماهير ، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله - طوال الفترة التي عشناها - نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين .. فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته (1).

ص: 63


1- بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً ، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو » ، وسوف لن يمضي زمان طويل إلاّ ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز ، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلاّ أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ (1).

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً ، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلاّ لتحقيق منفعة شخصية إلى

ص: 64


1- يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر ، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها - الهادي -.

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلاّ لمنفعة نفسه ، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه ، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان باللّه

وقد تفسر فطرية الإيمان باللّه بنحو آخر إذ يقال : يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال ، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال ، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة ، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد ، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا - لو تأملنا - دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

ص: 65

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله ، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه ، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل - حقاً - على وجود مثل هذا الكمال ، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر ، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه ، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق ، وتحوله بالتالي من باحث عن اللّه إلى واجد لله ، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود ، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك ، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام علي علیه السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان ، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان » (1).

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان اللّه » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس ، انّه نور لا ظلمة فيه ، ويقين لا شك فيه ، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية ، إذ يقول :

ص: 66


1- نهج البلاغة : شرح محمد عبده ، خطبة 174.

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (1).

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية (2).

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين .. إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق ، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلاّ عند القليلين من عباد اللّه المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين علیهم السلام التي تتحدث عن ذلك وإليك طائفة منها :

1. صحيح البخاري في تفسير الآية ( فِطْرَةَ اللّهِ ... ) نقل الحديث التالي عن النبي صلی اللّه علیه و آله :

« ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ثم أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

ص: 67


1- الحجر : 98 - 99.
2- انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

يمجّسانه » ثم قال صلی اللّه علیه و آله : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (1).

وقد ورد في أحاديث أهل البيت علیهم السلام في تفسير آية الفطرة ما يقارب (15) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد ، وهي تفيد أنّ توحيد اللّه والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته (2).

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب « الإسلام » و « معرفة اللّه » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

2. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمد علیهماالسلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد » (3).

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادق علیه السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

3. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر علیهماالسلام حينما سأله قائلاً : أصلحك اللّه ، قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

ص: 68


1- التاج الجامع للأُصول : 4 / 180 ، وتفسير البرهان : 3 / 261 ، الحديث 5.
2- راجع تفسير البرهان : 3 / 261 - 263 ، والتوحيد للصدوق : 328 - 331.
3- راجع تفسير البرهان : 3 / 261 - 263 ، والتوحيد للصدوق : 328 - 331.

« فطرهم على التوحيد (1) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم » (2).

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

4. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقر علیهماالسلام قال سألته عن قول اللّه عزّ وجل : ( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية ، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ».

ثم قال :

« فطرهم اللّه على المعرفة » (3).

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لمّا سأله عن نفس الآية فقال علیه السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم ، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم » (4).

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

5. ما عن عبد اللّه بن سنان ، عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام لمّا سأله عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام :

ص: 69


1- انّ تفسير الدين المفطور عليه ، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل أنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.
2- نفس المصادر السابقة.
3- نفس المصادر السابقة.
4- نفس المصادر السابقة.

« هي الإسلام » (1).

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد اللّه بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة اللّه إذ قال علیه السلام :

« هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد » . (2)

6. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادق علیه السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقال علیه السلام :

« من صنع اللّه ، ليس للعباد فيها صنع » . (3)

7. سأل أبو بصير الإمام الصادق علیه السلام فقال الإمام علیه السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع » . (4)

8. ولقد تعرض الإمام علي علیه السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد باللّه » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول ، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود اللّه والإذعان بإلهيته ، إذ يقول علیه السلام :

« فبعث اللّه فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول » (5).

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول اللّه

ص: 70


1- 1المصادر السابقة.
2- 1المصادر السابقة.
3- أُصول الكافي : 1 / 85 ، 93 ، 165.
4- أُصول الكافي : 1 / 163.
5- نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

تعالى : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (1) في حق الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله هو : أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع - أساساً - في فطرتهم .. أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها - على الأقل -.

9. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمد الصادق علیهماالسلام .. قال الرجل : يابن رسول اللّه دلّني على اللّه ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام : « يا عبد اللّه هل ركبت سفينة قط ؟ » قال : نعم ، قال : « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال : نعم.

قال : « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال : نعم.

قال الصادق علیه السلام : « فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث » (2).

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد ، وهي تواكب جميع مراحل حياته ، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره .. ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللّهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (3).

ص: 71


1- الغاشية : 21.
2- بحار الأنوار : 3 / 41 ، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.
3- النحل : 78.

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها ، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي : انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية ، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا ، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر ، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت - في ذهنه - ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع ، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين : ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النظرية ، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية (1).

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها ، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلاّ قوة العلم

ص: 72


1- راجع مفاتيح الغيب للرازي : 5 / 349.

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه ، ولامس الحقيقة الخارجية ، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول : إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك .. أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

ص: 73

ص: 74

الفصل الثاني: اللّه وعالم الذر

اشارة

ص: 75

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

1. استعراض الآيات أوّلاً.

2. نقاط جديرة بالاهتمام.

3. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

4. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

5. انتقادات على هذه النظرية.

6. النظرية الثانية.

7. إشكالات على هذه النظرية.

8. النظرية الثالثة.

9. أسئلة حول هذه النظرية.

10. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

ص: 76

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور ، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية ، أوّلاً ، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (1).

نقاط جديرة بالاهتمام

1. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (18) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً .. والمقصود بها في كل تلك الموارد هو : « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف ، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

ص: 77


1- الأعراف : 172 - 174.

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق ، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى : المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة (1).

2. تستعمل لفظة الذرية - غالباً - في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (2).

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (3).

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (4).

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً (5).

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

ص: 78


1- راجع في هذا الصدد : مفردات الراغب مادة « ذرو » ، ومجمع البيان : 1 / 199 تفسير آية ( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .
2- البقرة : 266.
3- الأنعام : 84.
4- آل عمران : 38.
5- ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم : 6 ).

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (1).

3. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية ...

فالآية تفيد أنّ اللّه أخذ من ظهور كل أبناء آدم ، أنسالهم وذرياتهم ، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ اللّه تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل : وإذ أخذ ربك من آدم .. وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

4. تصرح الآية بأنّ اللّه أخذنا شهداء على أنفسنا ، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا ، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

5. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين ، فلا يحق لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة ، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ... ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

ص: 79


1- الأعراف : 173.

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق ، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا (1).

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى : إنّنا - لا شك - لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي ، في حين أنّ الآية (172) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد : إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق ... فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى : ( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ ) ؟

6. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية أمّا موجه إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وأمّا إلى

ص: 80


1- إنّ للمفسرين في أمثال هذه الآية مذهبين : أحدهما: تقدير لا ، ففي مثل قوله سبحانه : (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء: ١٧٦) قالوا: إن المعنى هو أن لا تضلّوا. فهم جعلوا قوله: (أَنْ تَضِلُّوا) مفعولاً له ليبين، بنحو «التحصيلي» في_ك__ون المعنى «يبين اللّه لكم لأجل أن لا تضلوا». الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب الحصولي» كقول القائل ضربته لسوء أدبه ، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته. فيكون معنى الآية السابقة هو يبين اللّه لوجود الضلالة فيكم ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

عامة البشر.

وحتى لو كان صدر الآية موجهاً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنّ ذيلها - لا ريب - موجه إلى عامة البشر.

إنّ القرآن يريد بهذا الخطاب أن يلفت أنظارنا إلى حادث حدث قبل الخطاب لا حينه ولا بعده بدليل مجيء إذ في مطلع الآية.

ف « إذ » تستعمل فيما إذا كان ظرف الحادثة هو الماضي ، ومعناها « واذكر إذ » وقعت هذه الحادثة في الماضي (1).

آراء العلماء حول الميثاق في عالم الذر

إنّ غاية ما يفيده ظاهر آية الميثاق المطروحة هنا على بساط البحث هو أنّ اللّه أخذ من بني آدم ميثاقاً وعهداً على الإقرار بربوبيته .. وأمّا كيفية هذا الميثاق فلم يرد - في الآية المذكورة - أي توضيح بشأنها ... ولأجل هذا اختلف المفسرون المسلمون حول حقيقة هذا الميثاق.

وفيما يلي عرض للآراء المطروحة حول هذا المطلب :

النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث

اشارة

وتقول هذه النظرية - والتي لها سند حديثي - إنّ اللّه أحضر أبناء آدم عند خلقه ، من صلبه على هيئة كائنات ذرية صغيرة الحجم جداً وأخذ منهم الميثاق

ص: 81


1- تقدير « اذكر » في هذه المواضع لإراءة ماضوية الحادثة ، وإن كان غير محتاج إليه حسب القواعد الأدبية فإنّ « إذ » ظرف مهمل غير مقيد بشيء.

قائلاً لهم : « ألست بربكم ؟ فقالوا : بلى » (1) ثم أعادهم إلى صلب آدم علیه السلام ، وقد كانت هذه الكائنات الدقيقة الحجم ذات شعور وعقل كافيين آنئذ ، وقد سمعت ما قال اللّه لها وأجابت على سؤاله ، وقد أخذ هذا الإقرار من بني آدم ليغلق عليهم باب الاعتذار والتعلّل يوم القيامة.

وهذه النظرية اتخذت باعتبار أنّ لفظة « ذرية » مشتقة من مادة « ذر » واختارها جمع من المفسرين.

انتقادات على هذه النظرية

1. انّ أوضح دليل على قصور هذه النظرية هو عدم موافقتها للمدلول الظاهري للآية ، لأنّ ظاهر الآية - كما قلنا في النقطة الخامسة - يفيد أنّ اللّه أخذ من ظهور كل أبناء آدم ذرّيتهم ، لا من آدم وحده.

ولأجل هذا قال سبحانه : ( مِن بَنِي آدَمَ ) ولم يقل من آدم.

كما أنّ الضمائر جاءت في صيغة الجمع : ( مِن ظُهُورِهِمْ ) ، ( ذُرِّيَّتَهُمْ ) لا المفرد.

وعلى هذا الأساس لا تطابق هذه النظرية مفاد الآية في هذه الناحية.

2. إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل وعيهم ، فلماذا لا يتذكره أحد منّا ؟

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ ما هو منسي ومغفول عنه هو « وقت هذا

ص: 82


1- راجع مجمع البيان : 3 / 497 طبع صيدا ، وتفسير الفخر الرازي : 4 / 320 طبع مصر عام 1308 ه.

الميثاق والإقرار » وليس نفس الميثاق والإقرار والاعتراف ، بدليل ما يجده كل إنسان في ذاته من ميل فطري إلى الإذعان بوجود اللّه وربوبيته ، ولا شك أنّ هذا هو امتداد طبيعي لذلك الإقرار المأخوذ في عالم « الذر ».

لكن هذا الجواب ليس بوجيه جداً كما تصوّر أصحابه ، لأنّه ليس من المعلوم أنّ ما نجده من « الميل الفطري » إلى اللّه في ذواتنا يرتبط حتماً بمثل ذلك الميثاق .. بل ربما يكون نتيجة « فطرية وجود اللّه وربوبيته » وبداهتهما.

وما يقال من أنّ الفاصل الزمني الطويل هو الذي كان سبباً لنسيان الميثاق المذكور ليس بصحيح كما يظهر.

لأنّ طول هذا الفاصل لا شك أقل - بكثير - من طول الفاصل الزمني بين الإنسان في الدنيا ويوم القيامة على حين نجد أنّ الإنسان لا ينسى ما شاهده من حوادث في الدنيا فهاهم أهل الجنة - مثلاً - يقولون لأهل النار :

( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ ) (1).

ونظير ذلك قول بعض أهل الجنة :

( إنّي كَانَ لِي قَرينٌ [ أي في الدنيا ] * يقول ءَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ ) (2).

ومثله قول بعض أهل النار :

( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ [ أي في الدنيا ] مِنَ الأشْرَارِ ) (3).

ص: 83


1- الأعراف : 44.
2- الصافات : 51 - 52.
3- ص : 62.

وغير ذلك من الآيات الدالة على تذكر أهل القيامة لما جرى لهم في العالم الدنيوي ممّا يدلّ على عدم نسيان الحوادث رغم طول الفاصلة الزمنية.

3. انّ الهدف من أخذ الميثاق - أساساً - هو أن يعمل الأشخاص بموجب ذلك الميثاق ، والعمل فرع للتذكّر ، فإذا لم يتذكّر الشخص أي شيء من هذا الميثاق ، فكيف ترى يصح الاحتجاج به عليه ، وكيف يمكن دفعه إلى العمل وفقه ؟

على أنّنا بعد أن كتبنا هذا ، وقفنا على كلام للعلاّمة الشريف المرتضى في ( أماليه ) وهو ينص على ما ذكرنا حيث أبطل هذا الرأي إذ قال :

« وقد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده ، أنّ تأويل هذه الآية : أنّ اللّه استخرج من ظهر آدم علیه السلام جميع ذريته وهم في خلق الذر ، فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم.

وهذا التأويل - مع أنّ العقل يبطله ويحيله - مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) ولم يقل من آدم وقال : ( مِن ظُهُورِهِمْ ) ولم يقل : من ظهره ، وقال : ( ذُرِّيَّتَهُمْ ) ولم يقل : ذريته.

ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة أنّهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم ، وأنّهم نشأوا على دينهم وسنتهم ».

ثم يقول الشريف المرتضى :

« فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية - التي استخرجت من ظهور آدم علیه السلام فخوطبت وقررت - من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون ، فإن كانت بالصفة الأُولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم

ص: 84

وإنشائهم ، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال ، وما قرّروا به واستشهدوا عليه ، لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وأن بعد العهد وطال الزمان وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير.

على أنّ تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية ، وذلك لأنّ اللّه تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم وأشهدهم لئلاّ يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه ، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها ، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثاً قبيحاً يتعالى اللّه عنه » (1).

4. انّ هذه النظرية تؤول إلى نوع من القول بالتناسخ الذي بطلانه من ضروريات الدين ، لأنّه يعني - على أساس هذه النظرية - أنّ الإنسان أتى إلى هذه الدنيا قبل ذلك ، ثم بعد العيش القصير ارتحل ثم عاد بصورة تدريجية إلى هذه الدنيا مرة ثانية .. وهو التناسخ الذي أبطله المحقّقون والعلماء المسلمون (2).

ويبقى ها هنا سؤال وهو : إذا كانت هذه النظرية تواجه تلك الإشكالات وتعاني من هذا القصور ، فما هو مصير الأحاديث والروايات التي تسند هذه النظرية ؟! وسيوافيك حق المقال فيها.

ص: 85


1- الأمالي : 1 / 28 - 29.
2- هذه الانتقادات الأربعة نقلها صاحب مجمع البيان من المحققين الإسلاميين في : 4 / 497. وذكرت أيضاً في الميزان بالإضافة إلى انتقادات أُخرى ، راجع لذلك : 8 /2. 327 ، كما وذكرت هذه النظرية في تفسير الرازي مع اثني عشر إشكالاً فراجع : 4 / 221 - 222.

النظرية الثانية

يحمل بعض المفسرين ( وعلى رأسهم : الرماني وأبو مسلم وفريق آخر ) هذه الآية على : التوحيد الفطري ، ويفسرونها بهذا التفسير.

فهم يقولون : يحط الإنسان قدميه في هذه الدنيا ، وهو ينطوي على سلسلة من الغرائز والاستعدادات ، وسلسلة من الحاجات الطبيعية والفطرية إلى جانب سلسلة من المدركات العقلية.

فهو [ أي الإنسان ] عند نزوله من صلب أبيه إلى رحم أُمّه ، وعند انعقاد نطفته لا يكون أكثر من ذرة ، ولكن هذه الذرة تنطوي على استعدادات وقابليات جديرة بالاهتمام .. ومن جملة تلكم الاستعدادات هي قابليته لمعرفة اللّه التي تنمو وتتكامل مع تكامل هذه الذرة وجنباً إلى جنب مع تكامل سائر استعداداته الأُخرى حتى تنتقل في المآل من مرحلة « القوة » إلى مرحلة « الفعلية » والكمال.

وبعبارة أُخرى ، فإنّ الإنسان يولد وقد أُودعت في كيانه « غريزة معرفة اللّه » والتوجه إلى ما وراء الطبيعة بشكل سر إلهي مزروع في أعماق البشر بحيث لو لم تنله يد خارجية لنمت غريزة « الميل إلى معرفة اللّه » في فؤاد الإنسان ولما انحرف عن جادة التوحيد مطلقاً إلى درجة أنّ علماء النفس اعتبروا « الشعور الديني » هذا أحد أبعاد الروح الإنسانية ووصفوه بمثل هذا البعد ، إذ قال أحدهم في تعريف الإنسان بأنّه « حيوان ميتافيزيقي ».

وفي الحقيقة أنّ هذا الشعور الديني الغريزي رسم في ضمير الإنسان بقلم التكوين على غرار بقية الغرائز والأحاسيس الموجودة في الإنسان وهي [ أي غريزة الشعور الديني ] تنمو وتنضج مع نمو الإنسان وتكامله.

ص: 86

وبعبارة - ثالثة - : فإنّ اللّه أخرج أبناء الإنسان من ظهور آبائهم إلى بطون أُمهاتهم وقد جعل تكوينهم بنحو خاص بحيث يعرفون ربهم دائماً ، ويحسّون باحتياجهم إليه تعالى.

وعندما يحس الإنسان باحتياجه إلى اللّه ، ويجد نفسه غارقاً في التوجه إليه سبحانه فساعتئذ يكون وكأنّه يقال له : ألست بربكم ؟ فيقول البشر : بلى أنت ربي (1).

خلاصة القول : إنّ الإنسان خلق مؤمناً باللّه بمقتضى الفطرة الإلهية السليمة الموهوبة له ، وسيظل بمعونة العقل الهادي إلى اللّه يبحث عن اللّه ويطلبه ويسأل عنه ، ويظل يواصل هذه المسيرة ما لم يعقه عائق ولم يمنعه مانع.

وعلى هذا فإنّ الميثاق المذكور في الآية لم يكن ميثاقاً تشريعياً وعلى نحو الخطاب والجواب اللفظيين ، بل هو ميثاق تكويني فطري ، وجوابه - كذلك - تكويني فطري.

على أنّ مثل هذا النوع من الحوار والاستيثاق شائع جداً في القرآن الكريم وكذا في محاوراتنا اليومية.

ففي المثال يقال : إنّ اللّه أعطانا البصر وأخذ منّا الميثاق بأن لا نسقط في البئر.

أو كما يقال : إنّ اللّه أعطانا العقل وأخذ منّا العهد بأن نميّز به الحق عن

ص: 87


1- راجع لمعرفة هذه النظرية : الميزان : 8 / 333 طبع طهران ، وتفسير الفخر الرازي : 4 / 322 ومجمع البيان : 4 / 498 ، طبع صيدا ، وفي ظلال القرآن : 9 / 58 - 59 ، وقد جعل الأخير وقت استقرار الخلية البشرية في رحم الأُمّ موعد ذلك الميثاق.

الباطل.

ويقول القرآن الكريم حول السماوات والأرض :

( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهَاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (1).

وهذا النوع من الكلام وتوجيه الخطاب إلى السماوات والأرض الفاقدة للشعور والإدراك والعقل ليس إلاّ عن طريق التكوين .. فيكون معنى هذه الآية هو أنّ السماء والأرض خاضعتين - تكوينياً - لمشيئة اللّه وإرادته ، وأنّهما تجريان وفق سننه التي شاءها لهما (2).

ونقل من بعض بلغاء العرب وخطبائهم مقال من هذا القبيل إذ قال :

« سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك ، وأينع ثمارك ، فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً » (3).

ولهذا الرأي شاهد قرآني وحديثي :

أمّا الشاهد القرآني فهو قوله سبحانه : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ ) الذي يمكن أن يكون مبيناً لهذه الآية.

وغاية التفاوت ما بين الآيتين هي : أنّ آية ( فِطْرَةَ اللّهِ ) تقول بإجمال : أنّ الشعور الديني عجن بفطرة البشر وخلقته من دون أن تعين الآية زماناً ، في حين أنّ الآية - المبحوثة هنا - تتحدث عن تحقّق هذا السر الإلهي في كيان الإنسان في بدء تكوينه وظهوره ، أي أنّ الإنسان كان ينطوي فطرياً وتكوينياً على هذا السر الإلهي

ص: 88


1- فصلت : 11.
2- سيوافيك حق المقال في الآية في فصل سريان العلم في الموجودات.
3- مجمع البيان : 4 / 498 طبع صيدا.

منذ أن كان موجوداً ذرياً صغيراً في رحم أُمّه .. وكأنّ أوّل خلية إنسانية تستقر في رحم الأُم تنطوي على هذه الوديعة الإلهية وهي « غريزة الميل والانجذاب إلى اللّه ».

وإذا أردنا أن نتحدث عن ذلك بلغة العلوم الطبيعية لزم أن نقول :

إنّ جينات الخلية لدى كل إنسان تحمل بين جوانحها هذه الخاصية الروحية ، وإنّ هذه الخاصية تنمو وتتكامل مع تكامل الخلية ونموها.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظرية تنطبق مع ما جاء في حديث معتبر السند من أنّ عبد اللّه بن سنان يقول سألت أبا عبد اللّه - الصادق - علیه السلام ، عمّا هو المقصود من الفطرة ؟ فقال :

« هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ألست بربكم وفيه المؤمن والكافر » (1).

وإنّ للشريف الرضي كلاماً لعله يشير إلى أنّه اختار هذه النظرية إذ قال :

« إنّه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيباً يدل على معرفته ويشهد بقدرته ، ووجوب عبادته ، وأراهم العبر والآيات ، والدلائل في أنفسهم وفي غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته - على الوجه الذي أراده اللّه تعالى وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته - بمنزلة المقر المعترف وان لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (2) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهم جواب ، ومثله

ص: 89


1- تفسير البرهان : 3 / 47 في تفسير آية ( فِطْرَة اللّه ) الحديث 7.
2- فصلت : 11.

قوله تعالى : ( شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) (1) ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم وإنّما لما ظهر منهم ظهوراً لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به ومثل هذا قولهم :

« جوارحي تشهد بنعمتك وحالي معترفة بإحسانك » (2).

ثم إنّ سيدنا الحجة شرف الدين ممن ذهب إلى هذا المذهب إذ قال رحمه اللّه :

« واذكر يا محمد للناس ما قد وثقوا اللّه عليه بلسان حالهم التكويني من الإيمان باللّه والشهادة له بالربوبية وذلك ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ) أي حيث أخذ ربك جل سلطانه ( مِن بَنِي آدَمَ ) أي ( مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) فأخرجها من أصلاب آبائهم نطفاً ، فجعلها في قرار مكين من أرحام أُمهاتهم ثم جعل النطف علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأ كلاً منهم خلقاً سوياً قوياً في أحسن تقويم سميعاً بصيراً ناطقاً عاقلاً مفكّراً مدبّراً عالماً عاملاً كاملاً ذا حواس ومشاعر وأعضاء أدهشت الحكماء ، وذا مواهب عظيمة وبصائر نيرة تميّز بين الصحيح والفاسد والحسن والقبيح وتفرق بين الحق والباطل فيدرك بها آلاء اللّه في ملكوته وآيات صنعه جل وعلا في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ... وبذلك وجب أن يكونوا على بيّنة قاطعة بربوبيته ، مانعة عن الجحود بوحدانيته فكأنّه تبارك وتعالى إذ خلقهم على هذه الكيفية قررهم ( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) فقال لهم : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) وكأنّهم ( قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) على أنفسنا لك بالربوبية .. نزولاً على ما قد حكمت به عقولنا وجزمت به بصائرنا حيث ظهر

ص: 90


1- التوبة : 17.
2- الأمالي : 1 / 30.

لديها أمرك ... فلا إله إلاّ أنت خلقتنا من تراب ثم أخرجتنا من الأصلاب فلك الحمد إقراراً بربوبيتك ...

ثم يقول : هذا كلّه من مرامي الآية الكريمة ، وإنّما جاءت على سبيل التمثيل والتصوير تقريباً للأذهان إلى الإيمان وتفنّناً في البيان والبرهان ، وذلك ممّا تعلوا به البلاغة فتبلغ حد الإعجاز .. ألا ترى كيف جعل اللّه نفسه في هذه الآية بمنزلة المشهد لهم ، على أنفسهم وجعلهم بسبب مشاهدتهم تلك الآيات وظهورها في أنفسهم بمنزلة المعترف الشاهد وإن لم يكن هناك شهادة وإشهاد.

وباب التمثيل واسع في كلام العرب ولا سيما في الكتاب والسنّة » (1).

إشكالات هذه النظرية

هذه النظرية وإن كانت أفضل من سابقتها ، إلاّ أنّها رغم ذلك لا تخلو من نقود وإشكالات نذكر طرفاً منها :

1. أنّ ظاهر الآية المبحوثة هنا حاك عن أنّ حادثة أخذ الميثاق قد تحقَّقت في الزمن السابق بدليل قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ ) .

ولفظة ( إِذْ ) تستعمل في الماضي ، وإذا ما اتفق أن استعملت في المستقبل كان ذلك تجوزاً ولعناية خاصة اقتضاها المقام مثل : ( وَإِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه ) (2) ، فإنّ من المسلّم أنّ الباري تعالى لم يقل هذا الكلام لعيسى بن مريم في الماضي ، وإنّما سيقوله له في المستقبل [ أي في يوم القيامة ] ... ويسوغ استعمال « إذ » و « قال » في المستقبل كون

ص: 91


1- فلسفة الميثاق والولاية : 3 - 5.
2- المائدة : 116.

هذا المستقبل محقّق الوقوع فيكون كالماضي.

وعلى كل حال فإنّ ظرف توجه هذا الخطاب القرآني إلى النبي صلی اللّه علیه و آله أو إلى المسلمين أو إلى عامة البشر هو ظرف نزول القرآن ، ولكن ظرف وقوع أخذ الميثاق هو الماضي ، ولذا جاءت الآية مبتدئة ب « إذ » الذي هو بمعنى « واذكر إذ ».

فإذا كانت الآية ناظرة إلى خلقة الإنسان وتكوينه مع الاستعدادات القابلة لهدايته إلى اللّه - كما تقوله النظرية هذه - ففي هذه الصورة يكون ظرف هذا الحادث وظرف الخطاب واحداً ، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث يفيد تعدّد ظرفي أخذ الميثاق ، والخطاب.

2. إذا كان هدف الآية هو بيان أنّ الإنسان خلق مع سلسلة من القابليات الفطرية والعقلية التي تهديه إلى اللّه ، ففي هذه الصورة لماذا يقول اللّه :

( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) ؟

في حين كان المناسب أن يقول :

فعرف نفسه لهم.

ولماذا قالوا في آية أُخرى :

( بَلَى شَهِدْنَا )

وكان الأحرى أن يقولوا :

بلى عرفناك ؟

3. انّ تفسير قول اللّه تعالى ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) بالخطاب والجواب « التكوينيين » وان كان صحيحاً في حد ذاته إلاّ أنّه خلاف الظاهر قطعاً .. إذ أنّ

ص: 92

ظاهر الآية هو الخطاب والجواب « التشريعيين ».

ومعلوم أنّ الأخذ بما هو خلاف الظاهر لا يصح ما لم يدل عليه دليل ، وما لم يصرفنا عن الأخذ بالظاهر صارف وجيه.

4. هذه النظرية « أعني : أخذ الميثاق بمعنى خلق الإنسان مع قابليات فطرية وعقلية تهديه إلى اللّه » بيان ملخّص للتوحيد الفطري والاستدلالي.

ولو كان هذا هو هدف القرآن من هذه الآية ، لتعيّن عليه أن يبيّن ذلك بعبارة أوضح.

النظرية الثالثة

اشارة

وهي ما ذهب إليها وارتآها الأُستاذ الجليل العلاّمة الطباطبائي ، مؤلّف تفسير الميزان ، حيث فسر آية الميثاق هذه ، بنحو نذكر توضيحه قبل نقل نص ما قاله حرفياً :

وإليك هذا التوضيح في نقاط :

1. انّ الزمان ظاهرة تدريجية الظهور ، فأجزاء الزمان - بحكم كونه حادثاً - لا تجتمع في مكان واحد ، وهذه الخاصية ونعني بها خاصية الظهور والحدوث التدريجي والتقطيع والتفرق لا تختص بالزمان فقط ، بل تشمل كل حادث وتعم كل حادثة ظاهرة تستقر على بساط الزمن.

2. لا شك أنّ حوادث العالم تنقسم بالنسبة إلينا إلى :

حوادث الماضي.

وحوادث الحاضر.

ص: 93

وحوادث المستقبل.

ولكل حادث زمان ومكان خاصان ، ولا يمكن للإنسان الذي يعيش ضمن نطاق الزمان أن يشهد كل الحوادث دفعة واحدة وفي نظرة واحدة ، ولا يمكن أن تجتمع كلها لديه.

ولكن الناظر إلى الحوادث لو شاهدها من فوق نطاق الزمان والمكان ، ونظر إلى كل أجزاء الزمان على أنّها ظاهرة واحدة فحينئذ ينتفي مفهوم الماضي والحاضر والمستقبل.

ولتقريب هذا الأمر إلى الذهن نشير إلى بعض الأمثلة التي تقرب هذه الحقيقة إلى الذهن فنقول :

3. لنفترض شخصاً جالساً في غرفة وهو ينظر من روزنة صغيرة جداً إلى خارج تلك الغرفة وفي هذا الأثناء يمر من أمام تلكم الروزنة قطار إبل ، فإنّ من المسلّم - في هذه الحالة أن لا يرى ذلك الشخص في كل لحظة إلاّ بعيراً واحداً.

أمّا إذا صعد هذا الشخص على سطح تلك الغرفة فإنّه يتسنى له في هذه الحالة أن يرى كل الآبال في نظرة واحدة وفي لحظة واحدة ، وليس جملاً واحداً في كل لحظة كما كان ينظر من خلال الروزنة داخل الغرفة.

إنّ مثل المحبوس في نطاق الزمن الناظر إلى الحوادث من خلال هذا المنفذ مثل الجالس في الغرفة - في المثال المذكور - لا يرى الأشياء إلاّ تدريجاً.

أمّا إذا تسنّى للإنسان أن ينظر إلى الحوادث من فوق هذا النطاق ، فإنّه يمكنه حينئذ أن يرى كل أجزاء الشيء وحالاته في مكان واحد ودفعة واحدة ، لأنّه في مثل هذه الحالة سينظر إلى الشيء من خلال المنظار الواسع.

ص: 94

4. لنتصور نملة تسير فوق سجّاد ملوّن ، فإنّ هذه النملة ستشاهد في كل لحظة لوناً واحداً لا أكثر ، لمحدودية نظرها ، وصغر أُفق رؤيتها.

أمّا الإنسان حيث إنّه يتمتع بنظر أوسع ، فإنّه يرى كل ألوان ذلك السجّاد والبساط دفعة واحدة.

5. لنتصوّر أنفسنا ونحن جلوس في مكان ما من ضفاف النيل ننظر إلى الماء ونراقب جريانه وتموّجاته ، فإنّنا لن نرى في هذه الحالة إلاّ جانباً محدوداً من جريان هذا النهر العظيم وجانباً من مائه وتموّجاته.

ولكنّنا عندما ننظر إلى النيل من طائرة محلّقة فوق ذلك النهر ، فإنّنا سنرى جانباً أعظم وأكثر من مسيره ومسيله وتموّجاته وتعرّجاته.

من هذا البيان يتضح أنّ بُعد الحوادث وقُربها إنّما يصدق بالنسبة إلى من يعيش ضمن نطاق الزمان ، فالزمان هو الذي يقرّبه من الحوادث أو يبعده عنها ، ولكن الموجودات التي تعيش فوق الزمان والمكان ، فلا يصدق في حقّها الفاصل الزماني أو المكاني.

6. للإنسان ولغيره من أجزاء هذا العالم ممّا يعيش ضمن نطاق الزمان وجهان :

وجه بالنسبة إلى اللّه.

ووجه بالنسبة إلى الزمان.

فهي من جهة كونها مرتبطة باللّه ، وكون اللّه تعالى محيطاً بها لا يكون شيء من أجزائها بغائب عن بعضها ، كما لا يكون اللّه بغائب عنها ، ولا هي بغائبة عن ساحة اللّه ومتناول علمه .. بل كل كائنات العالم [ دون أن يكون فيها ماض

ص: 95

ومستقبل ] حاضرة عنده سبحانه.

وكيف يمكن أن تكون تلك الأشياء على غير هذا النحو ، في حين أنّ العالم بأسره من صنعه وفعله ، ولا شيء من المصنوع بغائب عن صاحبه وصانعه.

وإلى ذلك يشير الإمام زين العابدين علي بن الحسين علیه السلام في دعائه قائلاً :

« كيف يخفى عليك - يا إلهي - ما أنت خلقته ؟! وكيف لا تحصي ما أنت صنعته ؟! أو كيف يغيب عنك ما أنت تدبّره ؟! » (1).

ولكن هذه الموجودات من حيث كونها تعيش في بطن الزمان ، وتكون مزيجة به ، لذلك تبدو في شكل حوادث متناثرة وأجزاء متفرّقة ومختلفة تتخلّلها فواصل زمنية .. وهنا تمنعها عوامل معينة من حضور اللّه عندها (2).

[ لا حضورها عند اللّه ] فيوجد بين اللّه وبين رؤيتها القلبية له حجاب حائل.

في هذا المحاسبة يعمد الأُستاذ الطباطبائي إلى تقسيم العالم إلى وجهين :

الباطن.

والظاهر.

فيكون الوجود الجمعي للعالم هو الباطن ، والوجود الجزئي المتفرق هو الظاهر.

ويستفيد الأُستاذ الطباطبائي لإثبات هذين الوجهين من بعض الآيات ، ويقول : إنّ جملة « كن فيكون » إشارة إلى هذين الجانبين :

الجمعي والتدريجي.

ص: 96


1- الصحيفة السجادية : الدعاء 52.
2- أي أن تكون هي عالمة باللّه.

فيقول : إنّ لفظة « كن » إشارة إلى الوجود الدفعي الجمعي للعالم (1) خصوصاً إذا ضممنا هذا المقطع من الآية إلى الآية 50 من سورة القمر ، وهي :

( ومَا أمْرُنا إلاّ واحدةٌ كَلَمْحٍ بالبَصَر ) .

بتقريب أنّ وحدة الأمر لا تعني إلاّ أن تتواجد كل الحوادث في مكان واحد دفعة واحدة دون تفرّق أو تدرّج وذلك بعد توجّه الخطاب « كن » إليها.

وجملة « فيكون » الحاكية عن التدريجية والتواجد التدريجي إشارة إلى الجانب التدريجي والظهور المتفرق لهذا العالم.

من هذا البيان الذي قرّرناه بتوضيح وشرح منا نستنتج أنّ الآية المبحوثة [ أي آية أخذ الميثاق ]ناظرة إلى حالة الوجود والحضور الجمعي الدفعي عند حضرة ذي الجلال حضوراً لا تتصور فيه غيبة ، وكأنّ كل أبناء آدم أخذوا وجمعوا من ظهور آبائهم ، وحضروا عند اللّه ، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يجد كل إنسان ربه ، ووجدانه لله تعالى دليل واضح على وجود اللّه وربوبيته.

ولكن استقرار الإنسان ضمن نطاق الزمان وتطورات الحياة أشغله بحيث نسي نفسه وغفل عن علمه الحضوري باللّه [ أي علمه باللّه الناشئ من حضوره بين يديه سبحانه ].

وإليك فيما يلي نص ما قاله العلاّمة الطباطبائي في ميزانه :

« إنّ لكل شيء عند اللّه وجوداً وسيعاً غير مقدّر في خزائنه ، وإنّما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلاً :

فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه

ص: 97


1- الحاضر عند اللّه بمجموعه وكله وأسره.

النشأة.

وأثبت بقوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء ) (1) ، ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْح بِالْبَصَرِ ) (2) وما يشابههما من الآيات ، أنّ هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من اللّه يفيضه على الشيء ، ويلقيه إليه بكلمة « كن » إفاضة دفعية وإلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الأشياء وجهان :

وجه إلى الدنيا ، وحكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجياً ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ويظهر ناقصاً ثم لا يزال يتكامل حتى يفنى ويرجع إلى ربّه.

ووجه إلى اللّه سبحانه وهي بحسب هذا الوجه أُمور غير تدريجية ، وكل ما لها فهو لها في أوّل وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل.

وهذا الوجه غير الوجه السابق وإن كانا وجهين لشيء واحد وحكمه غير حكمه وإن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة .. وقد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح وسيجيء إن شاء اللّه استيفاء الكلام فيه.

ومقتضى هذه الآيات أنّ للعالم الإنساني على ماله من السعة وجوداً جمعياً عند اللّه سبحانه ، وهو الذي يلي جهته تعالى ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ولا يغيبون فيه عن ربهم ولا هو يغيب عنهم ، وكيف يغيب فعل عن فاعله ، أو ينقطع صنع عن صانعه ؟ وهذا هو الذي يسمّيه اللّه سبحانه

ص: 98


1- يس : 83.
2- القمر : 50.

بالملكوت ويقول : ( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) (1).

وأمّا هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني وهو الذي يفرّق بين الآحاد ، ويشتت الأحوال والأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان ، وتطبيقها على مر الليالي والأيام ، ويحجب الإنسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية الأرضية ، واللذائذ الحسية فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه ، وموقع تلك النشأة وهذه النشأة في تفرعها عليها موقعا كن ويكون في قوله تعالى : ( أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2).

ويتبيّن بذلك أنّ هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أُخرى إنسانية هي هي بعينها غير أنّ الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربّهم يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم لا من طريق الاستدلال ، بل لأنّهم لا ينقطعون عنه ولا يفقدونه ويعترفون به وبكل حق من قبله. وأمّا قذارة الشرك وألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلاّ فعله تعالى القائم به.

وأنت إذا تدبّرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ... ) وأجدت التدبّر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله.

فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرّق اللّه فيها بين أفراد هذا النوع وميّز

ص: 99


1- الأنعام : 75.
2- يس : 82.

بينهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ». (1)

أسئلة حول هذه النظرية

هناك أسئلة تفرض نفسها حول هذه النظرية لابد من طرحها هنا ، لأنّه ما لم يجب عليها بإجابات قاطعة لا يمكن الاعتماد على هذه النظرية.

وإليك فيما يأتي بعض هذه الأسئلة :

1. لا شك أنّ هذا العالم يتجلّى للشخص المحيط الناظر إليه من فوق الزمان والمكان على غير ما يتجلّى للمحاط الغارق في الزمان والمكان.

وبعبارة أُخرى : فإنّه يمكن أن ينظر إلى هذا العالم من منظارين :

أ. من منظار الناظر المحيط بالزمان والمكان.

وفي هذه الصورة لا وجود للتفرّق والتشتّت بل ما يراه هو الوجود الجمعي للأشياء ، والظواهر.

ب. من منظار الناظر المحاط بالزمان والمكان.

وفي هذه الصورة لا يرى إلاّ الوجود المتفرّق المتشتّت المتناثر التدريجي لجميع الظواهر والحوادث.

ولكن هذا الاختلاف في السعة والضيق في المرأى ، هل هو عائد إلى السعة والضيق في الرائي ، ونظرة الناظر بمعنى أنّ في الأُولى يكون لدى الرائي قدرة على النظر الواسع فيما يكون الرائي في الصورة الثانية فاقداً لهذه القدرة ، أم أنّ هذا الاختلاف يرجع إلى نفس الظواهر والحوادث ؟

ص: 100


1- راجع تفسير الميزان : 8 / 334 - 336.

لا شك أنّ هذا الاختلاف لا يرتبط بذات الكون وذات الحوادث والظواهر ، بل هو مرتبط بسعة رؤية الناظر إن كان محيطاً ، تلك السعة التي تمكّنه من مشاهدة كل نقوش البساط وألوانه ، وكل تموّجات النهر وتعرّجاته ، وكل عربات القطار دفعة واحدة كما في الأمثلة السابقة.

في حين أنّ فقدان هذه السعة في رؤية الشخص الآخر يجعله لا يرى في كل لحظة إلاّ حادثة واحدة فقط ، وإلاّ تموّجاً واحداً من النهر ، وإلاّ لوناً واحداً من ألوان البساط.

ومن هذا البيان يتبيّن أنّه ليس للعالم وجهان ونشأتان :

نشأة باسم الباطن.

وأُخرى باسم الظاهر.

وبعبارة أُخرى انّه ليس للظواهر والحوادث مرحلتان :

مرحلة الوجود الجمعي الدفعي.

ومرحلة الوجود التدريجي.

بل ليس للظاهرة - في الحقيقة - تحقّقان ووجودان إنّما هو وجود واحد ، وتحقّق واحد ، يرى تارة في صورة المجتمع ، وأُخرى في صورة المتفرّق.

وأمّا الاختلاف - لو كان - فهو يرجع إلى قدرة الملاحظ وسعة نظرته وضيقها ، وليس إلى ذات الحوادث والظواهر.

2. انّ حضور الحوادث والظواهر عند اللّه دليل على علم اللّه بها جميعاً ، لأنّ حقيقة العلم ليست إلاّ حضور المعلوم عند العالم وحيث إنّ موجودات العالم من

ص: 101

فعله سبحانه وقائمة به فهي إذن حاضرة لديه.

ونتيجة هذا الحضور ليست سوى علم اللّه بها ولكن لا يدل مثل هذا الحضور على علم الموجودات هي بالخالق الواحد سبحانه.

وبعبارة أُخرى لو كان هدف الآية هو بيان أنّ اللّه أخذ من بني آدم « الإقرار » بربوبيته والشهادة بها من جهة حضور هذه الموجودات لدى اللّه - كما تفيده هذه النظرية - يلزم علم اللّه بهذه الموجودات والحوادث لا علم هذه الحوادث والموجودات باللّه تعالى ، فلا يتحقّق معنى الشهادة والإقرار.

فإنّه ربّما يتصور إنّ حضور الأشياء عند اللّه كما يستلزم علمه بها ، كذلك يستلزم علم تلك الموجودات باللّه.

ولكن هذا وهم خاطئ وتصور غير سليم ، لأنّ الحضور إنّما يكون موجباً للعلم إذا اقترن بقيام الشيء باللّه وإحاطته سبحانه بذلك الشيء ، ومثل هذا الملاك موجود في جانب اللّه حيث إنّه قيوم [ تقوم به الأشياء ]محيط بالكون في حين أنّه لا يوجد هذا الملاك في جانب الموجودات ، لأنّها محاطة وقائمة باللّه ( أي ليست محيطة باللّه ولا أنّ اللّه سبحانه قائم بها حتى تعلم هي به تعالى ).

3. انّ هذا التوجيه والتفسير لآية الميثاق بعيد عن الأذهان العامة ، ولا يمكن إطلاق اسم التفسير عليه ، بل هو للتأويل أقرب منه إلى التفسير.

نعم غاية ما يمكن قوله هو أنّ هذه النظرية تكشف عن أحد أبعاد هذه الآية ، لكنَّه ليس البعد المنحصر والوحيد.

هذا مضافاً إلى أنّ ألفاظ هذه الآية مثل قوله : ( فَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) ونظائره الذي هو بمعنى أخذ الشهادة والاعتراف والإقرار لا يتلاءم ولا ينسجم

ص: 102

مع هذا التفسير.

النظرية الرابعة

وتظهر هذه النظرية من الشريف المرتضى في أماليه ، وإليك نص ما قاله الشريف بلفظه : (1)

إنّ اللّه تعالى إنّما عنى جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على ألسن رسله علیهم السلام بمعرفته وما يجب من طاعته ، فأقرّوا بذلك ، وأشهدهم على أنفسهم به لئلاّ يقولوا يوم القيامة : ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ ) أو يعتذروا بشرك آبائهم.

وحاصل هذا الكلام وتوضيحه أنّ اللّه تعالى أخذ الاعتراف من جماعة خاصة ، من البشر ، وهم العقلاء الكاملون ، لا من جميع البشر.

وقد أخذ هذا الاعتراف والميثاق حيث أخذ بواسطة الرسل والأنبياء الذين ابتعثهم اللّه إلى البشرية في هذه الدنيا.

وهذه النظرية مبنية على كون « من » في قوله سبحانه : ( مِن بَنِي آدَمَ ) تبعيضية لا بيانية ، ولأجل ذلك يختص بالمقتدين بالأنبياء.

ويمكن تأييد هذه النظرية بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد أخذ منهم الاعتراف في بعض المواضع على اختصاصه تعالى بالربوبية ، كما يحدّثنا القرآن الكريم إذ يقول : ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (2) ، وما يشابههما من الآيات التي أخذ فيها الاعتراف من الأشخاص ،

ص: 103


1- الأمالي : 1 / 29.
2- المؤمنون : 86 - 87.

وسيوافيك بعض هذه الآيات عند البحث في التوحيد الخالقي والربوبي.

ولكن ضعف هذه النظرية ظاهر ، إذ مآلها انّ المؤمنين بكل نبي هم الذين اعترفوا - دون سواهم - بتوحيده سبحانه.

ولو كان مقصود الآية هو هذا ، لكان ينبغي أن يكون التعبير عنه بغير ما ورد في الآية.

ثم إنّه يجب أن يكون تعبير القرآن عن المعاني الدقيقة بأوضح العبارات وأحسنها وأبلغها.

فلو كان مقصوده تعالى هو اعتراف جماعة خاصة ممَّن اقتدوا بالرسل ، بتوحيده سبحانه ، لوجب أن يبين ذلك بغير ما ورد في الآية من بيان.

هذه هي الآراء والنظريات التي أبداها المفسرون الكبار حول مفاد آية الميثاق والذر .. ونحن نأمل أن يستطيع المحقّقون - في المستقبل - من إيقافنا على معنى أوضح وأكثر انسجاماً مع ألفاظ هذه الآية الشريفة ، وأن يوفقوا إلى توضيح حقيقتها ومغزاها.

* * *

ذكرنا فيما سبق أنّ النظرية الأُولى تستند إلى طائفة من الأحاديث الواردة في المجاميع الحديثية ولابد من دراستها والتوصل إلى حل مناسب لها.

فالعلاّمة المرحوم السيد هاشم البحراني نقل في تفسيره المسمّى ب « البرهان » في ذيل تفسير آية الميثاق (37) حديثاً (1).

ص: 104


1- البرهان : 2 / 46 - 51.

وكذا نقل نور الثقلين - وهو تفسير للقرآن على أساس الأحاديث على غرار تفسير البرهان - أيضاً (27) حديثاً في ذيل تفسير هذه الآية (1).

ولابد من الالتفات إلى أنّ هذه الأحاديث والأخبار تختلف في مفاداتها عن بعض ، فليست بأجمعها ناظرة إلى النظرية الأُولى ، فلا يمكن الاستدلال بها - جميعاً - على ذلك لوجوه :

أوّلاً : أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في القول الثاني ، أو أنّها قابلة للانطباق على القول الثاني ، مثل الأحاديث : 6 و 7 و 20 و 22 و 35.

وإليك نص هذه الأحاديث :

أمّا الأحاديث 6 و 22 و 35 وجميعها واحد راوياً ومروياً عنه وان اختلفت في المصدر ، فهي :

عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : كيف أجابوا وهم ذر ؟ فقال علیه السلام :

« جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ».

ففي هذه الأحاديث - كما نلاحظ - ليس هناك أي كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيين بل قال الإمام : « جعل فيهم » وهي كناية عن وجود الإقرار التكويني في تكوينهم.

أما الحديث 7 فقد روي عن عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه ( الصادق ) علیه السلام عن قول اللّه ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟

ص: 105


1- نور الثقلين : 2 / 92 - 102.

قال :

« هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ألست بربكم ، وفيه المؤمن والكافر ».

وهذا الحديث كما هو واضح يفسر الميثاق المذكور في آية الذر بالفطرة ممّا يكون تصريحاً بأنّ الاستيثاق وأخذ الميثاق والإقرار أمر فطري جبلي تكويني.

وفي الحديث 20 جاء عن المفضل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمد علیهماالسلام في حديث طويل قال فيه :

« قال اللّه عزّ وجلّ لجميع أرواح بني آدم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، كان أوّل من قال بلى محمد صلی اللّه علیه و آله فصار بسبقه إلى بلى سيد الأوّلين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين ».

وليس في هذا الحديث أي كلام عن اعتراف الذر وإقرار بني آدم وهم على هيئة ذرات صغيرة ، ولذلك فهو وإن لم يكن صريحاً في النظرية الثانية « القائلة بالإقرار التكويني لا اللفظي من جانب الذرية » ولكنّه قابل للانطباق عليها.

ثانياً : أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في أنّ الإقرار والاعتراف بالربوبية جاء من جانب الأرواح كما لاحظنا في الحديث 20.

أمّا ما يدل من تلك الأحاديث ( المنقولة في تفسير البرهان ) على النظرية الأُولى فهي 3 ، 4 ، 8 ، 11 ، 14 ، 17 ، 18 ، 27 ، 29.

وعددها كما هو الظاهر (9) أحاديث ، ولكنّنا لو أمعنا النظر فيها لوجدنا أنّ عددها الحقيقي لا يتجاوز 5 أحاديث لا أكثر ، لأنّ خمسة من هذه الأحاديث رواها « زرارة بن أعين » بمعنى أنّ آخر راو في هذه الأحاديث من الإمام هو زرارة ،

ص: 106

ومن المسلم أنّ راوياً واحداً لا يسأل عن شيء من الإمام خمس مرات ، وأمّا نقل رواية زرارة ( التي هي - في الحقيقة - رواية واحدة ) في خمس صور ، فلتعدد من روى هذا الحديث عن « زرارة » ، ولذلك اتّخذ الحديث الواحد طابع التعدّد والكثرة ، وهذا لا يوجب أن يعد الحديث الواحد خمسة أحاديث.

وعلى هذا فإنّ الأحاديث 3 و 4 و 11 و 27 و 29 التي تنتهي إلى راو واحد هو « زرارة » لا يمكن عدّها خمسة أحاديث ، بل يجب اعتبارها حديثاً واحداً لا غير.

وفي هذه الحالة ينخفض عدد الأحاديث المؤيدة للنظرية الأُولى من 9 إلى 5.

يبقى أنّ الأحاديث الأربعة الأُخرى ( أعني : 8 و 14 و 17 و 18 ) فهي مبهمة نوعاً ما ، وليست صريحة في المقصود.

وبعض تلك الأحاديث تعتبر هذا الميثاق والميثاق الذي أخذه اللّه من خصوص النبيين وتحدّث عنه القرآن في الآية 81 - آل عمران : ( وإذ أخَذَ اللّه ميثاقَ النّبِيِّينَ لَما آتَيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ) تعتبر هذين الميثاقين واحداً مثل الحديث رقم 12.

وها نحن ننقل لك أيها القارئ نص حديث زرارة أوّلاً ، وهذا الحديث هو ما جاء تحت رقم 3 و 4 و 11 و 27 و 29.

وإليك نصها بالترتيب :

عن ابن أبي عمير ، عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا جعفر الباقر علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجل : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ... ) فقال ، وأبوه

ص: 107

يسمع :

« حدثني أبي أنّ اللّه عزّ وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات ، فخرجوا كالذر من يمينه وشماله ، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار ، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً » إلى آخر الحديث.

وعن ابن أُذينة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال : سألته عن قول اللّه عز وجل : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قال :

« أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذر ، فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ».

ومثل هاتين الصورتين بقية الصور لحديث زرارة حرفاً بحرف.

أمّا الروايات الأربع الأُخرى ( أعني : 8 و 14 و 17 و 18 ) فهي بالترتيب :

عن حمران عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال :

« فقال اللّه لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون : إلى الجنة ولا أبالي ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أبالي ، ثم ؟ قال : ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا ... » الخ.

وعن ابن مسكان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قوله ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قلت : معاينة كان هذا ؟ قال :

« نعم ، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه ».

ص: 108

وعن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام في قوله عزّ وجلّ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قال :

« أخذ اللّه من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وهم كالذر ، فعرفهم نفسه ، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ، وقال : ألست بربكم ، قالوا : بلى ».

وفي حديث طويل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قال :

« قول اللّه عزّ وجلّ ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) أخبرك أنّ اللّه سبحانه لمّا خلق آدم مسح ظهره فاستخرج ذرية من صلبه سيما في هيئة الذر فألزمهم العقل ، وقرر بهم أنّه الرب وأنّهم العبد فأقروا له بالربوبية ».

هذه هي عمدة الأحاديث التي نقلها تفسير البرهان في ذيل الآية المبحوثة تؤيد النظرية الأُولى.

وكذا نقل صاحب تفسير الدر المنثور أحاديث تؤيد هذه النظرية نذكر بعضها :

فمنها ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ... ) قال : خلق اللّه آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه ، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ».

وغير ذلك كثير (1).

***

ص: 109


1- راجع الدر المنثور : 3 / 141 - 142.

ثالثاً : لقد بين أئمّة الشيعة المعصومون علیهم السلام معياراً خاصاً لمعرفة الصحيح من الأحاديث وتمييزه عن غير الصحيح ، وأمرونا بأن نميز صحاح الأحاديث على ضوء هذه المعايير .. هذا المعيار هو اعتماد ما يوافق الحديث للقرآن وطرح ما يخالفه.

وقد ذكرنا فيما سبق إنّ هذا القسم من الأحاديث ( التي نقلناها عن البرهان ) يخالف ظاهر القرآن ، ولذلك ينبغي التسليم أمامها ، ورد علمها إلى الأئمّة أنفسهم على فرض صدورها منهم.

ص: 110

الفصل الثالث: اللّه وبراهين وجوده في القرآن

اشارة

ص: 111

اللّه وبراهين وجوده في القرآن

1. كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى.

2. دليل الفطرة.

3. برهان الحدوث.

4. برهان الإمكان.

5. برهان الحركة.

6. برهان النظم.

7. برهان محاسبة الاحتمالات.

8. برهان التوازن والضبط.

9. الهداية الإلهية في عالم الحيوان.

10. برهان الصدّيقين.

11. براهين أُخرى.

ص: 112

كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى

من الأقوال المشهورة في أوساط العلماء تلك الجملة التي تقول :

« الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق ».

فهذه الجملة المقتضبة تشير إلى أنّ الأدلة على وجود اللّه جل شأنه ليست واحداً ولا اثنين ولا عشر ولا مائة ، بل هي بعدد أنفاس المخلوقات.

وهذا الكلام وإن كان مثار عجب ودهشة عند من ليس لديه دراسة مفصلة وتعمّق في العلوم الإلهية .. إذ كيف يمكن - في نظر هؤلاء غير المتعمّقين في الإلهيات وغير الملمّين بعلوم التوحيد -.

كيف يمكن أن تكون أدلّة وجود اللّه بعدد أنفاس الخلائق التي لا يحصيها عدد ولا يحصرها عد ؟!!

ولكن لو أُتيح لنا أن نطّلع على ما ورد في كتب العقائد والفلسفة من الأدلّة على وجود اللّه ، لأدركنا أنّ هذا الكلام لم يكن مبالغاً فيه ، بل هو عين الحقيقة.

لأنّ بعض هذه الأدلّة التي سنشير إلى « أُصولها » وأُمّهاتها - هنا - من السعة والشمولية بحيث يتّخذ من نظام كل ذرة في عالمنا دليلاً على وجود اللّه ، وطريقاً إلى إثباته.

ومن المعلوم أنّه لا يعلم عدد ذرات هذا العالم إلاّ اللّه تعالى.

وفيما يأتي نذكر أُصول وأُمهات هذه البراهين الرائجة :

ص: 113

1. دليل الفطرة

دليل الفطرة - كما تحدّثنا عنه في الفصل الأوّل - طريق القلب ودليل الفؤاد لا العقل والاستدلال.

فكل فرد ينجذب إلى اللّه ويميل إليه قلبياً وبصورة لا إرادية ، سواء في فترة من حياته ، أم في كل فترات حياته دون انقطاع.

وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كل فرد فرد من أبناء البشر لهو إحدى الأدلّة القاطعة على وجود اللّه ، وهذا هو ما يسمّى بدليل « الفطرة ».

2. برهان الحدوث

برهان الحدوث هو البرهان الذي يعتمد على « حدوث » الكون وما فيه.

وملخّصه : أنّ لهذا الكون بداية ، وأنّه لذلك فهو مسبوق بالعدم ، ومن البديهي أنّ ما يكون مسبوقاً بالعدم ( أي كان حادثاً ) ، فإنّ له محدثاً بالضرورة ، لامتناع وجود الحادث دون محدث.

ويعتمد المتكلّمون الإسلاميون - في الأغلب - على حدوث العالم لإثبات الصانع ، ربما باعتباره أقرب الأدلة إلى متناول العقول ، والأفهام.

3. برهان الإمكان

يتوسّل الفلاسفة المسلمون - في الغالب - لإثبات وجود اللّه بتقسيم الأشياء إلى :

واجب

ص: 114

وممكن

وممتنع

وذلك لأنّ أيّة ظاهرة وأي شيء نتصوّره في عالم الذهن لا يخرج عن إحدى حالتين عندما ننسب إليه الوجود الخارجي فهو :

إمّا أن يقتضي الوجود لذاته ، أي ينبع الوجود من ذاته ، فهو « واجب الوجود ».

وإمّا يقتضي العدم لذاته ، بمعنى أنّ العقل يمنع الوجود عنه ، فهو « ممتنع الوجود ».

وأمّا لو كان الوجود والعدم بالنسبة إليه على حد سواء ( أي لا يقتضي لا الوجود ولا العدم بذاته ) فحينئذ يحتاج اتصافه بأحد الأمرين ، أعني : العدم والوجود إلى عامل خارجي حتماً ، لكي يخرجه من حالة التوسط والتساوي ويضفي عليه طابع الوجود أو العدم ، وهذا النوع هو ما اصطلح على تسميته ب « ممكن الوجود ».

وعندما نتصور الأشياء والظواهر الكونية نجد أنّ العدم أو الوجود لم يكن جزءاً من ماهيتها ولا عينها ولا مزروعاً فيها في الأصل ، فإذا وجدناها تلبس ثوب الوجود ، فلابد أن يكون هناك عامل خارجي عن ذاتها هو الذي أسبغ عليها ذلك .. وهو الذي أخرجها من عالم المعدومات إلى حيز الموجودات ، أو بالعكس.

وهذا العامل الخارجي إن كان هو أيضاً على غرار تلك الأشياء في كونها ممكنة الوجود إذن لاحتاج إلى عامل خارجي آخر يضفي عليه حلة الوجود ويطرد عن ساحته صفة العدم.

ص: 115

وإن كان هذا العامل الثاني نظير العامل الأوّل « في صفة الإمكان » لاحتاج إلى عامل آخر ، وهكذا دواليك بحيث يلزم « التسلسل ».

وأمّا لو كان العامل الخارجي الأوّل - في حين كونه موجداً وعلّة للأشياء - معلولاً وموجداً من قبل نفس تلك الأشياء لزم « الدور » المستحيل في منطق العقول.

ولما كان التسلسل والدور باطلين عقلاً (1) لزم أن نذعن بأنّ كل الحادثات الممكنات تنتهي إلى موجد « غني بالذات » « قائم بنفسه » غير قائم بغيره ، وغير مفتقر في وجوده إلى أحد أو شيء على الإطلاق.

وذلك الغني بالذات هو « الواجب الوجود » هو اللّه العالم ، القادر ، القيوم .. القائم بذاته القائم به ما سواه.

وهذا هو دليل الإمكان.

4. برهان الحركة

كان روّاد العلوم الطبيعية - في السابق - كأرسطوا وأتباعه ، يستدلّون ب « حركة الأجسام والأجرام الفلكية » على وجود المحرّك ، وبذلك يثبتون وجود اللّه.

فكانوا يقولون ما خلاصته : إنّه لا بد لهذه الأجرام المتحرّكة من محرّك منزّه عن الحركة ، وذلك استناداً إلى القاعدة العقلية المسلمة القائلة : « لابد لكل متحرّك من محرّك غير متحرّك ».

ص: 116


1- سيوافيك بيان جهة بطلان التسلسل والدور في الأبحاث القادمة.

5. برهان النظم

لقد ظل النظام البديع العجيب الذي يسود كل أجزاء الكون من الذرة إلى المجرّة ، أحد العوامل المهمة التي هدت ذوي الألباب والفكر والمتذكرين (1) من البشر إلى اللّه ، إذ لم يكن من المعقول - أبداً - أن لا يخضع مثل هذا النظام البديع والمعقد لتدبير قوة عاقلة عليا ، وتدبير مدبّر حكيم.

والآيات القرآنية المتعرضة لبيان آثار اللّه تعالى في عالم الخلق إن كانت تهدف إلى إثبات الصانع ، فهي في الحقيقة إنّما تعتمد على « برهان النظم ».

فإذا كانت ورقة من أوراق الشجرة ، أو ذرة من ذرات العالم ، دليلاً على حكمة اللّه تعالى وبرهاناً على إرادته ، فهي بطريق أولى دليل على « أصل وجوده ».

إذ الوجود مقدّم على الصفات ، فما دلّ على الصفات فهو بالأحرى دال على الوجود.

وسيأتي الحديث المفصّل عن هذا القسم في المستقبل.

6. برهان محاسبة الاحتمالات

وهو برهان ابتكره علماء الغرب وزاده نضجاً وتوضيحاً العالم المعروف « كريسي موريسون » صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي لم يهدف من كتابته إلاّ بلورة وإيضاح هذا البرهان - أساساً -.

ص: 117


1- هذه الأوصاف الثلاثة مقتبسة من القرآن الكريم ، فهو عندما يذكر آثار قدرة اللّه وحكمته وعلمه تعالى يعقب كلامه بهذه العبارات : ( أُولُو الأَلْبَابِ ) و ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و ( لقوم يتذكّرون ) .

وإليك ملخّص هذا البرهان :

يقول : لا شك أنّ ظهور الحياة بشكلها الحاضر على وجه الأرض ليس إلاّ نتيجة تضافر شرائط وتوفر علل وعوامل كثيرة بحيث لو فقد واحد منها لامتنع ظهور الحياة على الأرض ولاستحالت حياة الأحياء عليها.

فلو أنّ ظهور الحياة كان نتيجة انفجار أو انفجارات في المادة الأُولى عن طريق المصادفة ، لكان من الممكن أن تتحقّق ملياردات الصور والكيفيات ويكون احتمال ظهور هذه الصورة واحداً من مليارات الصور ، وحيث إنّ صورة واحدة فقط هي التي تحققت دون بقية الصور ينطرح هذا السؤال :

كيف تحقّقت هذه الصورة الحاضرة دون بقية الصور عقيب الانفجار ؟

وكيف وقع الاختيار على هذه الصورة بالذات من بيان سائر الصور والحال كان المفروض أنّ جميعها متساوية في منطق المصادفة.

إنّنا لا نجد جواباً معقولاً في هذا المجال إلاّ أن نعزي الأمر إلى غير المصادفة.

وبعبارة أُخرى : انّ كثرة الشروط اللازمة لظهور الحياة على الكرة الأرضية تكون بحيث إنّ احتمال اجتماع هذه الشرائط بمحض المصادفة مرة في بليون مرة ، ولا يمكن لعاقل أن يفسر ظاهرة من الظواهر بمثل هذا الاحتمال غير العقلائي وغير المنطقي جداً.

وننقل هنا نص ما قاله العالم المعروف تحت عنوان « المصادفة » :

« إنّ حجم الكرة الأرضية وبعدها عن الشمس ، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة ، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء ، ومقدار ثاني أوكسيد

ص: 118

الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة ، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى ، وعلى التصميم والقصد ، كما تدلّ على أنّه طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة ، « كان يمكن أن يحدث هكذا » ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !!

وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف - كما ينبغي لنا - بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان ، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا ، نتائج المصادفة.

لقد رأينا أنّ هناك 999/999/999 فرصة ضد واحد ، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة » (1).

7. برهان التوازن والضبط

وهذا البرهان من فروع برهان النظم ، والمقصود منه هو ذلك « التعادل والتوازن والضبط » الذي يسود عالم الأحياء كلها من حيوانات ونباتات.

ونذكر نموذجاً لذلك من باب المثال فنقول :

يتبيّن لنا من دراسة عالم الحيوان والنبات أنّ كلاً منهما مكمّل للآخر ، بحيث لو لم يكن في عالم الطبيعة إلاّ الحيوانات فحسب لفنيت الحيوانات وزالت من صفحة الوجود ، وهكذا لو لم يكن إلاّ النباتات فحسب لفنيت النباتات وزالت هي أيضاً.

ص: 119


1- العلم يدعو للإيمان : 195 - 196.

وذلك لأنّ النباتات - على وجه العموم - تتنفس « ثاني أُكسيد الكاربون » فيما تطلق الأوكسجين في الفضاء.

فأوراق الشجر بمنزلة رئة الإنسان مهمتها التنفس ، في حين أنّ الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتدفع الكربون.

وبهذا يبدو - جلياً - أنّ عمل كل واحد من هذين الصنفين من الأحياء مكمل لعمل الآخر ومتمم لوجوده ، وأنّ حياة كل منهما قائمة على الأُخرى.

فلو كانت في الأرض : « النباتات » فقط لنفذ الكربون ... ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولو لم يكن في الأرض إلاّ « الحيوانات » فقط لفني الأوكسجين ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولكان معنى كل ذلك فناء النوعين بالمرة وزوالهما من وجه الأرض بسرعة.

8. الهداية الإلهية في عالم الحيوانات

يعتبر « اهتداء » الحيوانات والحشرات إلى ما يضمن بقاءها ، واستمرار حياتها ، دليلاً آخر على وجود « هاد » لها فيما وراء الطبيعة هو الذي يقوم بهدايتها في مسيرة الحياة ، ويلهمها كل ما يفيدها ويساعدها على العيش والبقاء إلهاماً أسماه القرآن ب « الوحي ».

ولهذا البرهان جذور وأُصول قرآنية ، ولذلك سنتعرض له بالبحث ونتاوله بالتحقيق بنحو مبسوط في المستقبل ، كما سنبرهن على أنّه غير البرهان المعروف ببرهان « النظم في عالم الوجود ».

ص: 120

تلك هي أُصول البراهين وأُمهات الأدلّة المتعارفة (1) التي يستدل بها لإثبات وجود اللّه سبحانه في مقدور كل فرد من أفراد البشر أن يستفيد منها حسب مذاقه وحسب إدراكه فيهتدي إلى اللّه ويتوصل إلى معرفته تعالى.

ولذلك يقول القرآن الكريم : ( وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ) (2).

ويعني بذلك أنّ لكل فرد أن يستدل على وجود اللّه بشيء من هذه البراهين والأدلة .. فهي أدلة توصل إلى معرفة اللّه ، والإذعان بوجوده لا محالة.

غير أنّ أكثر هذه الأدلة شهرة وشمولاً وأقربها إلى الأذهان هو برهان النظم .. فهو برهان يلتفت إليه كل أحد مهما بلغت معلوماته من الضيق والضآلة ومهما هبط مستواه الفكري ، لأنّ هذا البرهان قائم على إثبات الصانع عن طريق المشاهدات والاستنباطات والمقدمات البسيطة التي يدركها ويلمسها كل إنسان حتى العادي.

ولكن هناك طائفة أُخرى من الأدلة العقلية تفوق مستوى الفهم العام وهي تحتاج - لعمقها - إلى إمعان ومزيد تعمّق وتدبّر ... بل وإلى إرشاد « معلم إلهي » متخصّص في هذا العلم ، متضلّع في هذا الفن من المعارف .. وليس ذلك إلاّ لدقة مسالكها ، وعمق محتوياتها.

ومن هذه الأدلة ما يلي :

9. برهان الصدِّيقين

وهو أحد البراهين ذات الدلالة القوية على « وجود اللّه » سبحانه.

ص: 121


1- والتي يندرج تحت كل واحد منها آلاف بل آلاف الآلاف من الأدلّة.
2- البقرة : 148.

ويتلخص هذا البرهان في : أنّ للإنسان أن يتوصل إلى معرفة اللّه من مطالعة الوجود نفسه ... بمعنى أنّه لا يحتاج - هنا - لإثبات الصانع إلاّ إلى مطالعة نفس الوجود لا غير.

ولهذا البرهان أصل قرآني وجذور في كتاب اللّه الكريم.

وربما يكون قوله تعالى : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (1) إشارة إلى هذا الدليل (2).

كما ورد في أدعية أئمّة أهل البيت علیهم السلام ما يشير إلى هذا البرهان من قريب أو بعيد :

فقد ورد في الدعاء المعروف بدعاء « الصباح » وهو الدعاء القيّم الذي علّمه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام لتلميذه « كميل » قوله :

« يا من دل على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » (3).

وقد تعرض ابن سينا ، الفيلسوف الإسلامي إلى هذا البرهان في كتابه « الإشارات » (4).

كما تبعه في ذلك المحقّق نصير الدين الطوسي في كتابه المعروف ب « تجريد الاعتقاد » الذي شرحه تلميذه العلاّمة الحلي رحمهما اللّه (5).

ص: 122


1- فصلت : 53.
2- وهناك آيات أُخرى ربّما حملوها على هذا البرهان وسيوافيك بيانها في موضعه.
3- راجع كتب الأدعية.
4- الإشارات : 3 / 18 - 28.
5- التجريد : 172 ، وقد قرر هذا البرهان المرحوم صدر المتألّهين بشكل آخر في كتابه « الأسفار » فليراجعه من أراد أن يقف على تقريره.

وحيث إنّ لهذا البرهان أصلاً قرآنياً - كما أسلفنا - لذلك سنذكره مفصلاً في محله من هذه البحوث.

10. براهين أُخرى

مثل : برهان الوجوب.

برهان الترتب.

برهان الأسد والأخصر.

وهي براهين خارجة عن إطار الهدف الذي من أجله عقدنا هذه البحوث وكتبنا هذه الدراسة ، إذ غاية ما نرمي إليه في هذه البحوث هو ذكر البراهين ذات « الأصل القرآني » أي ذكر ما له جذور في كتاب اللّه من هذه البراهين ، لأنّ هدفنا - كما يتضح من عنوان هذه الدراسة - هو استجلاء « معالم التوحيد في القرآن الكريم » (1).

ص: 123


1- وقد تحدث المرحوم صدر المتألّهين حول برهان « الوجوب » وبرهان « الأسد والأخصر » في كتاب الأسفار : 2 / 165 - 166.

التوحيد الاستدلالي في القرآن الكريم

اشارة

ذكرنا فيما مضى أنّ هناك طريقين لإثبات وجود اللّه تعالى :

طريق الاستدلال ، وطريق الفطرة.

وها نحن نستعرض في هذا الفصل « الأدلّة » العقلية والعلمية الواردة في القرآن لإثبات وجود اللّه سبحانه .. ولن نتقيّد بتطبيق هذه الأدلّة القرآنية على البراهين التسعة التي ذكرناها .. نعم لو حصل أن انطبق دليل قرآني على واحد من تلك البراهين التسعة أشرنا إلى ذلك ، وعمدنا إلى توضيحه قدر المستطاع والإمكان.

* * *

بعث رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في بيئة كانت تسودها الوثنية ، وكان الناس إلاّ الشاذ منهم وثنيين يعبدون الأصنام ويعكفون على الأوثان رغم اعتقادهم باللّه ظناً بأنّ هذه الأصنام والصور المعبودة مقربة عند اللّه ، وشفعاء بينه وبين البشر.

ولأجل هذا تركز اهتمام القرآن على تنزيهه سبحانه عن « الشريك » في العبادة لا على إثبات وجوده ، لأنّ وجوده تعالى كان أمراً مسلّماً ومفروغاً عنه في ذلك المجتمع.

ص: 124

وفيما يلي نذكر الآيات التي تبيَّن اعتقاد وثنيي عصر الرسالة حول اللّه وكيف أنّهم كانوا يعتقدون بوجوده :

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللّه ) (1).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللّه ) (2).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (3).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (4).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (5).

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللّه ) (6).

إنّ ملاحظة مفادات هذه الآيات تفيد - بوضوح لا يقبل جدلاً - بأنّ المجتمع الجاهلي المعاصر لعصر الوحي ونزول الرسالة لم يكن معتقداً بوجود اللّه فحسب بل كان معتقداً - فوق ذلك - بأنّه الخالق الوحيد لهذا الكون والمدبّر الحقيقي لأُموره وشؤونه ، بمعنى أنّهم كانوا موحِّدين في الخالقية والربوبية - كما هو

ص: 125


1- لقمان : 25.
2- الزمر : 38.
3- الزخرف : 9.
4- الزخرف : 87.
5- العنكبوت : 61.
6- العنكبوت : 63.

المصطلح -. ولذلك فإنّ أوّل موضوع طرحه الرسول الأكرم على قومه هو الدعوة إلى « توحيد اللّه » في العبادة لا الاعتقاد بوجوده.

على أنّ مراجعة معتقدات المشركين والوثنيين في عصر الوحي وقبله ، والتي سوف نوردها في الفصل التاسع : « التوحيد في العبادة » أفضل شاهد ودليل على ما قلناه من أنّ انحراف المشركين كان في مسألة « الوحدانية » في العبادة لا في أصل وجود اللّه.

فهناك - في الفصل التاسع - سوف نذكر كيف أنّ غالبية وثنيي العرب ما كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام خالقة السماوات والأرض ، ولا أنّها مدبّرة للكون إلى جانب اللّه ، بل كانوا يعتقدون بأنّها مقربة عند اللّه ، وشفعاء لديه وكانوا يظنون بأنّ عبادتهم لها ستقربهم إلى اللّه تعالى ، وتوجب الزلفى لديه (1).

ويدل على وجود مثل هذا الاعتقاد لدى من كان يعبد الأصنام آيات هي :

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه ) (2).

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى ) (3).

( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلاَ يَعْقِلُونَ ) (4).

ص: 126


1- نعم لا يمكن القول بأنّ كل وثنيي العرب أو كافة وثنيي العالم على مثل هذا الاعتقاد ، بل هناك من يعتقد بتعدد « واجب الوجود » كالمثلثة ، أو تعدد « الخالق » تعدداً حقيقياً كالثنويين ، أو من يعتقد بتعدد « المدبّر » وسيوافيك بيان مفصل عن مقالاتهم وعقائدهم في الفصل التاسع.
2- يونس : 18.
3- الزمر : 3.
4- الزمر : 43.

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ ) (1).

ولكن رغم كل هذا لا يمكن لأحد أن يدّعي عدم وجود ملحدين - بتاتاً - في عصر الرسالة ، أو يدّعي أنّ القرآن الكريم لم يتحدث أبداً حول أصل وجود اللّه ، بل على خلاف هذا النظر فإنّ بعض الآيات القرآنية تكشف عن وجود ملحدين في عصر الرسالة ، كما أنّ هناك مجموعة من البراهين العلمية في القرآن الكريم قد وردت - في الحقيقة - لإثبات وجود اللّه.

وسنذكر الآيات الدالة على كلا الأمرين.

ونذكر أوّلاً الآية التي تذكر عقيدة جماعة من الماديين الذين كانوا يعاصرون عهد الوحي ، حول الإنسان وما سواه من الظواهر الكونية مبدأ ومآلا ، حيث يقولون - حسبما يحدثنا القرآن - :

( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (2).

ومن الطبيعي أنّ هذا المنطق أعني : زعم هؤلاء بأنّ سبب هلاك البشر هو مرور الزمن لم يكن إلاّ بسبب عدم اعتقادهم بوجود « خالق » اسمه اللّه ، هو الذي يميت كما خلق.

فهم كانوا يعتقدون بأنّ الحياة والموت ما هما إلاّ أثرين من آثار المادة. أي

ص: 127


1- الأنعام : 94.
2- الجاثية : 24.

من الآثار الفيزياوية والكيمياوية للمادة - حسب المصطلح الحديث -.

فحينما تشيخ المادة وتهرم بسبب مرور الزمن فتأخذ طريقها - في المآل - إلى البلى وتؤول إلى دنيا العدم ، فذلك هو الموت.

إذا تبيّن هذا نقول : هل من المعقول أن يطرح القرآن هذه النظرية الإلحادية عن لسان أتباعها في عصر الرسالة ثم لا يعمد إلى نقدها والرد عليها ، ولا يقيم ضدها ما يرفع الشك ويزيل الشبهة ؟!!

لقد كان الأُستاذ العلاّمة الطباطبائي - صاحب تفسير الميزان - يصر في محاضراته العلمية على أنّ القرآن الكريم لم يتعرض مطلقاً لإثبات أصل وجود اللّه ، ولم يقم عليه أي دليل أبداً ، وذلك إمّا لبداهة وجود اللّه وفطريته ، أو لأنّ ذات اللّه أسمى من أن يحتاج إثباتها إلى دليل.

ولكنّنا نتصور أنّه قد وردت في الكتاب العزيز براهين لإثبات وجود اللّه تعالى ، وسوف نورد هذه البراهين في هذه الدراسة بنحو من الأنحاء بإذن اللّه.

ص: 128

التوحيد الاستدلالي : البرهان الأوّل

برهان الفقر والإمكان

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّه واللّه هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ ) (1). (2)

قبل الورود في توضيح الآيات التي وردت لإثبات وجوده سبحانه نأت بنكتة وهي : أنّه قد سبق منا - آنفاً - أنّ البراهين الواردة في القرآن حسب النوع تناهز عشرة براهين أو أكثر ، ولسنا مدّعين أنّ هذه الآيات صريحة في تلك البراهين أو منطبقة عليها انطباقاً تاماً حسب العناوين التي نأتي بها في أوّل البحث ، وإنّما هدفنا هو طرح الأدلّة التي تعرّض لها القرآن واستدلّ بها لإثبات الصانع ، سواء كانت هذه الأدلّة الواردة في القرآن منطبقة مع الأدلّة والبراهين السالفة الذكر أم لا.

ص: 129


1- فاطر : 15 - 17.
2- يصف القرآن الكريم ( اللّه تعالى ) في الآية الأُولى من الآيات الثلاث بأنّه الغني الحميد ، وقد جاء في الآيتين التاليتين دليل ذلك : ١ . أما أن اللّه غني، فلأنه يمكنه أن يعدمنا لنعلم أنه لا يحتاج إلينا، وأنه لو شاء لأتى بخلق جديد، وهذا مفاد (الآية ١٦). ٢ . وأما أنّه تعالى حميد، فلأنّه قادر على ذلك وهذا هو مفاد (الآية ١٧).

وصفوة القول : إنّ ما نبغيه هنا هو التتلمذ على القرآن واتّخاذه إماماً ومعلماً لنا في هذا المجال لا ما يقوله الحكماء والفلاسفة والعلماء نعم لو طابق شيء من كلامهم مع ما ذهب إليه القرآن واستدل به أشرنا إليه ، وقلنا انّ هذا الاستدلال يشير إلى دليل النظم أو الإمكان أو ...

وفي كل ذلك نستعين اللّه على فهم مراد كتابه ومفاهيمه ، وهو ولي التوفيق.

لا ريب أنّ « فقر » الشيء دليل قاطع على احتياجه إلى « غني قوي » يزيل حاجته ، ويمسح عن وجهه غبار الاحتياج والافتقار ، فما لم تمتد يد من الخارج إلى ذلك الشيء لم يرتفع فقره ، ولم يندحر احتياجه.

تلك حقيقة لا يمكن أن يجادل أو يشك في أمرها أحد.

من هنا لا بد أن يكون لهذا الكون - بأسره - من أفاض عليه الوجود.

فالظواهر الكونية من الذرة إلى المجرة مقرونة ب « الفقر الذاتي » .. فجميعها مسبوقة بالعدم ، ولهذا فهي تحتاج في تحقّقها ووجودها إلى « غني » يطرد عنها غبار العدم ، ويلبسها حلّة الوجود.

افترض - للمثال - أيّة ظاهرة شئت تجد أنّها قبل أن ترتدي حلّة الوجود كانت تختفي خلف حجاب العدم وتنغمس في ظلماته ، ثم استطاعت - في ظل قدرة فعّالة - أن تمزّق حجب العدم ، وتشق طريقها إلى عالم الوجود.

ومن المعلوم أنّه لو لم يكن ثمت غني باسم « العلة » لما قدر لهذه الظاهرة المعدوم - أصلاً - أن تدخل إلى ساحة الوجود ، ذلك لأنّ نسبة أي شيء ممكن يتصوّره الذهن ، إلى الوجود والعدم سواء ، بمعنى أنّه كما لا يترجح وجوده ذاتياً كذلك لا يترجح عدمه ذاتياً أيضاً.

ص: 130

ويسمّى هذا التساوي في منطق العلماء ب « الإمكان ».

ولكي ندرك بنحو أحسن معنى هذا التساوي ، ومعنى الإمكان المذكور لابد أن نشير إلى مثال مقنع في هذا المقام.

إنّ للفلاسفة في تصوير « الإمكان » بياناً نشير إليه فيما يأتي :

فهم يقولون :

لنفترض دائرة ، ولنضع ما نتصوّره في ذهننا من الأشياء في وسط هذه الدائرة تماماً.

ولنجعل على طرف من الدائرة : الوجود ، ونجعل في مقابله العدم.

ثم يقولون :

إنّ الشيء الممكن هو كهذا « الشيء المتصور الموضوع في وسط الدائرة » لا يقتضي بذاته أي واحد من الحالتين لا الوجود ولا العدم. بل هو بالنسبة إليهما سواء .. بمعنى أنّ الوجود أو العدم لا ينبع من ذات ذلك الشيء .. وإلاّ لكان ذلك الشيء « ممتنع الوجود » ان اقتضى العدم ذاتياً ، أو « واجب الوجود » ان اقتضى الوجود ذاتياً.

ولأجل ذلك فإنّ كل الظواهر التي كانت معدومة - ذات يوم - ثم لبست حلة الوجود في يوم آخر ما هي - في الحقيقة - إلاّ سلسلة من « المفاهيم المجردة عن الوجود أو العدم » كالنقطة الموجودة في وسط الدائرة بين كفتي الوجود والعدم التي نسبتها إلى كل من الحالتين سواء .. ولو حدث أن خرجت هذه « المفاهيم المجردة » عن وسط الدائرة ومالت إلى إحدى الحالتين الوجود أو العدم فإنّ ذلك الخروج لم يتحقّق بالضرورة إلاّ بسبب « علة » ساقت تلكم الظاهرة إلى الحالة التي

ص: 131

تلبست بها.

إنّ « العلة الموجدة » هي التي جرّت الظاهرة المذكورة إلى ناحية الوجود.

كما أنّ « علة العدم » هي التي جرّتها إلى ناحية العدم.

بناء على هذا فإنّ الوجود أو العدم لم يكن ولن يكون عيناً ولا جزءاً أصيلاً في ذات الشيء المجرد عن علة الوجود أو العدم ، بل جاذبية العامل الخارجي هي التي ساقت ذلكم الشيء إلى إحدى الناحيتين ..

فإن كان هناك موجد غني ، جرّ الظاهرة قهراً إلى ناحية الوجود.

وأمّا لو واجهت الظاهرة فقدان علة الوجود انجذبت قهراً إلى جانب العدم.

على أنّ هناك فرقاً بين مسألة « وجود » الظاهرة و « عدم وجودها ».

فلظهور ظاهرة ما ووجودها لابد من حضور علة موجدة ضمن ظروف وشروط خاصة لتعطي الوجود لتلك الظاهرة.

بينما لا يحتاج فقدان الظاهرة إلى أي نوع من الفعل والانفعال ، بل يكفي لفقدان أية ظاهرة فقدان علتها فقط.

إنّ الظواهر الحاضرة فعلاً ، والتي كانت قبل هذا معدومة ، ومختبئة خلف حجب العدم قروناً متمادية ، لم يكن فقدانها - في تلك الأزمنة - لأجل أنّها كانت ترفض الوجود ذاتياً .. إذ لو كان كذلك لامتنع وجودها بالمرة وإلى الأبد ، بل انّ فقدانها في تلك الأوقات إنّما هو لفقدان مقتضي وجودها ، ومجرد فقدان هذا المقتضي كان كافياً لأن تنجذب الظواهر الكونية المذكورة بسببه إلى ناحية العدم وأن لا تتجلّى على مسرح الوجود.

ص: 132

ثم إنّ قولنا : بأنّ الظواهر تنجذب إلى ناحية « الوجود » على أثر وجود عللها لا يعني أنّ هذه الظواهر بعد وجودها بسبب العلة تتخلص نهائياً من صفة « الفقر الذاتي » ومن خصلة « الإمكان الذاتي » فتنقلب إلى موجودات غنية ، لا تحتاج إلى علة.

لا نقول ذلك ، لأنّه لا يمكن أن ينقلب ما هو « فقير بالذات » إلى « غني بالذات » (1) إنّما المقصود هو أنّ الظاهرة تلبس حلة الوجود مع كونها متصفة بالفقر والإمكان الذاتيين دون أن تفقد هذه الصفة حتى بعد ارتدائها حلة الوجود.

ولأجل هذا « الإمكان والفقر الذاتيين » يكون الاحتياج إلى العلة احتياجاً أبدياً وحالة دائمية لا تفارق طبيعة الأشياء ، بحيث لو انقطع الارتباط بين « العلة والمعلول » لحظة واحدة لم يبق للظاهرة أي وجود .. بل عادت خبراً بعد أثر كما يقول المثل السائر.

ولتوضيح هذه الحقيقة نشير إلى مثالين :

1. لنتصور قصراً فخماً غارقاً في أضواء المصابيح المتعدّدة المتنوعة.

فعند ما يرى الشخص السطحي التفكير هذا المشهد يظن أنّ هذا النور نابع من القصر نفسه .. أي انّ طبيعة المصابيح مضيئة بنفسها. بينما لو تفحص هذا جيداً لرأى أنّ هذا النور وهذه الأضواء تتعلّق ب « مولد الكهرباء » بحيث لو انقطع الارتباط بين المصابيح والمولد الكهربائي لحظة واحدة لغرق القصر بأسره في

ص: 133


1- نعم غاية ما يحصل أنّ الظاهرة بعد انضمام العلّة إليها تصبح غنية بالعرض - حسب المصطلح الفلسفي - وهو يجتمع مع « الفقر الذاتي » ولا يناقضه ولا يعارضه.

الظلام ، ولهذا فلابد أن يستمر المولد الكهربائي في إمداد القصر بالطاقة والتيار الكهربائي حتى يبقى ذلك القصر مضاء سابحاً في الأنوار.

2. لنتصوّر أرضاً مملحة تحت أشعة الشمس ، ونحن نريد أن تبقى رطبة .. ففي هذه الصورة لابد أن تتوالى قطرات الماء عليها فتسقط القطرة ثم تليها القطرة الثانية قبل أن تجف الأُولى .. وهكذا حتى نحافظ على رطوبتها ونحول دون جفافها .. إذ في غير هذه الصورة تجف الأرض تحت أشعة الشمس.

هذان مثالان يوضحان لنا أنّ « الفقير ذاتياً » لابد من ارتباطه بعلة وجوده على الدوام وبصورة مستمرة ليحافظ على وجوده .. وذلك لأنّه ليس من طبيعته : الوجود ، وما ليس الوجود من طبيعته افتقر إلى علة موجدة واستمر افتقاره هذا ما دام « الفقر الذاتي » إلى الوجود ملازماً له ، وحاكماً فيه.

من البيان السابق نستنتج الأُمور التالية :

أوّلاً : أنّ احتياج الظواهر إلى العلة هو مقتضى ذاتي لتلك الظواهر ، وأمر ملازم لها ، بحيث لا ينفك هذا الاحتياج عنها لا في حال تلبسها بالعدم ، ولا في حال اتصافها بالوجود.

ثانياً : أنّ حالة الشيء المحتاج الممكن لن تتغيّر ولن تتبدّل ما لم يساعده « الغني » في ذلك.

ثالثاً : أنّ جميع البشر ، وجميع الظواهر الكونية فقيرة ومحتاجة - بطبيعتها - وأنّها كانت تبقى محكومة بالعدم ما لم يتوفر علتها .. ولو كان الوجود عيناً أو جزءاً من ذاتها وطبيعتها لما عدمت ولا لحظة واحدة. ولو أنّ غنياً بذاته غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، لم يمد إليها يد العون ولم يفض عليها الوجود لبقيت خلف حجب

ص: 134

العدم إلى الأبد.

وحيث إنّ الفقر والاحتياج من لوازم ذوات تلك الأشياء - لأجل ذلك - يجب أن تبقى محكومة بالفقر في كل الحالات ، حتى بعد وجودها.

بناء على ذلك ، ومن ملاحظة حالة الموجودات الكونية ، وملاحظة فقرها واحتياجها الذاتي وكونها غير قادرة على تغيير حالتها ووضعها وانتقالها من عالم العدم إلى صفحة الوجود دون الاعتماد على ركن أصيل غني.

أقول : من ملاحظة كل هذه الأُمور يمكن الاستدلال على وجود خالق غني أصيل هو الذي منح الوجود لهذه الأشياء ، وهو بالتالي واهب الكون والمكان والوجود والزمان لجميع الممكنات كما ويمكن - بهذا الدليل - إثبات احتياج الممكنات - بجملتها - إليه في كل الأزمنة واللحظات وفي جميع الأحوال والأوقات ، ابتداء من أول عمرها إلى آخره ، احتياجاً لازماً لا ينقطع ، وافتقاراً دائماً لا يزول ولا يرتفع.

هذا هو ما صرح به القرآن الكريم في نداء يشمل جميع أبناء البشر إذ قال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (1).

ففي هذه الآية ركز القرآن الكريم على موضوع « الفقر الذاتي » في الإنسان واحتياجه إلى « العلة الموجدة » أي اللّه تعالى ، إذ قال : ( أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللّهِ ) وصرح بأنّ الموجود الوحيد الذي يمكنه رفع هذا الاحتياج والفقر الإنساني هو اللّه تعالى شأنه.

فهو الوحيد الذي يقدر على مساعدة البشر ، وليس سواه بقادر على ذلك

ص: 135


1- فاطر : 15.

لاتصاف ما سواه بصفة الإمكان.

وقد بيَّنت الآية هذه الحقيقة بقولها : ( إِلى اللّه واللّه هُو [ أي وحده ] الغَنِيُّ ) .

على أنّ القرآن الكريم لا يعتبر الإنسان محتاجاً وفقيراً إلى اللّه قبل الخلق فحسب ، بل هو محكوم لهذا الفقر والحاجة حتى بعد أن يرتدي حلّة الوجود ..

وهذا هو ما تفيده جملة : ( أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللّه )

فهي كما نلاحظ لم يؤخذ فيها « قيد الزمان الماضي » فلم يقل مثلاً : كنتم الفقراء إلى اللّه ، بل بإطلاقها وعدم تقيدها بالزمان تشمل الماضي والحاضر والمستقبل ، وهذا يعني بكل وضوح أنّ الإنسان محتاج إلى اللّه سبحانه ، وجوداً وبقاءً.

وينقل الحكماء والفلاسفة المسلمون في هذا الصدد حديثاً عن الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله يقول فيه :

« الفقر سواد الوجه في الدارين » (1).

ويقال : إنّ مراد النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله من هذه العبارة هو : الإشارة إلى أنّ حاجة الإنسان إلى اللّه أمر ملازم له في الدنيا والآخرة.

وقد ركز القرآن الكريم في مواضع متعددة على صفة « الغنى » في الذات الإلهية بحيث يمكن اعتبار ذلك إشارة ضمنية أو صريحة إلى هذا البرهان ، نعني : برهان الفقر والإمكان.

وإليك فيما يلي بعض الآيات التي وصف اللّه فيها بالغنى :

ص: 136


1- تجد نصَّ هذا الحديث في الكتب الفلسفية والعرفانية وسفينة البحار : 2 / 378.

( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) (1).

وهذا هو موسى الكليم علیه السلام يعتبر نفسه محتاجاً إلى ما وهبه له ربّه وما أنزل وينزل عليه - ومن ذلك وجوده - إذ يقول : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (2).

وقد وصف اللّه ذاته في تسعة عشر موضعاً (3) آخر بأنّه الغني إذ يقول - على غرار ما مر في الآية المبحوثة هنا - : ( واللّهُ الغَنْيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ ) (4).

فقر الأشياء وبرهان الإمكان

إنّ هذه الآية ، أعني قوله تعالى : ( وَاللّهُ الغَنْيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ ) ، يمكن أن

ص: 137


1- النجم : 48.
2- القصص : 24.
3- نشير فيما يلي إلى هذه المواضع بذكر السورة والآية : البقرة : 263 و 267. آل عمران : 97. الأنعام : 133. يونس : 68. إبراهيم : 8. الحج : 64. النمل : 40. النساء : 131. العنكبوت : 6. لقمان : 12 و 26. فاطر : 15. الزمر : 7. محمد : 38. الحديد : 24. الممتحنة : 6. التغابن : 6.
4- محمد : 38.

تكون ناظرة إلى « برهان الإمكان » (1) ، لأنّ التركيز في هذه الآية واقع - كما نرى - على مسألة « الفقر والاحتياج » الكائنين في أبناء البشر والملازمين للكيان الإنساني حتى بعد وجوده ، ملازمة الظل للشاخص.

إنّ الفقر والاحتياج عين الإمكان أو ملازم له ، لأنّ الممكن يفقد - بطبيعته - الوجود ، والعدم ، إذا قيس ب « واجب الوجود » و « ممتنع الوجود » ، ولذا فالممكن في حد ذاته مفتقر في اتصافه بإحدى الحالتين ( أعني : الوجود والعدم ) إلى العلة التي توجده ، أو تعدمه.

فعندما نقول : الإنسان ممكن الوجود فكأنّنا نقول : الإنسان فاقد - في مقام التصور - للوجود ومحتاج للتلبّس بالوجود والاتصاف به إلى « غني » يأتي به ويهب له الوجود.

لهذا يمكن القول بأنّ أساس الاستدلال في هذه الآية هو : « برهان الإمكان ».

ص: 138


1- المقصود من الإمكان في هذا الفصل هو : الإمكان الماهوي الذي هو صفة الماهية والمفاهيم الذهنية ، وليس الإمكان الوجودي الذي له معنى آخر وأجماله هو : « تعلّق الموجودات باللّه القائم بنفسه ». والحاصل أن الإمكان قد يقع صفة للماهية ومعناه حينئذ تساوي «الماهية» بالنسبة إلى الوجود والعدم. وقد يقع صفة لنفس «الوجود» ولا يصح حينئذ تفسيره بتساوي الوجود والعدم بالنسبة إليه، إذ لا معنى لتساوي الوجود بالنسبة إلى الوجود، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري، بل معناه عندئذ قيامه بالواجب القيوم واحتياجه إليه: (حدوثاً وبقاء).

التوحيد الاستدلالي : البرهان الثاني

الأُفول والغروب يدلّ على وجود مسخّر

( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ والأرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبّي هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ والأرضِ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَاني وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ باللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (1).

ص: 139


1- الأنعام : 75 - 83.

قبل أن نبيّن هدف هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط تساعد على فهم مفاد هذه الآيات :

1. « الملكوت » و « الملك » تهدفان إلى معنى واحد غير انّه أُضيف إلى الأوّل « الواو والتاء » لأجل المبالغة والتوكيد على غرار « جبروت » و « طاغوت » الذي يرجع أصلهما إلى جبر وطغيان.

وحيث إنّ معنى الملك هو المالكية والحاكمية لذلك فمن الطبيعي أن يكون معنى الملكوت هو ذلك المعنى نفسه مع المبالغة والتأكيد.

وسوف نوضح عند شرح استدلال إبراهيم علیه السلام كيف أبطل الخليل : حكومة الكواكب والشمس والقمر ومشاركتها في تدبير نظام الكون والحياة الإنسانية. وبالتالي أعلن عن اعتقاده بأنّه ليس للكون سوى « مدبّر » واقعي واحد تجري أُمور العالم تحت إرادته خاصّة.

2. استفاد بعض المفسرين من العبارات التالية : « رأى كوكباً ، فلما رأى القمر » وما يماثلهما أنّ إبراهيم علیه السلام قال هذه العبارات عندما وقع نظره - لأوّل مرّة - على تلك الكواكب إذ أنّه لم يكن قد رآها قبل ذلك.

وتؤيد بعض الروايات هذا الرأي حيث تقول : إنّ أُم إبراهيم علیه السلام أخفته منذ بدء طفولته في الغار ، خوفاً عليه من بطش طاغية زمانه « نمرود » ، وكان هذا أول خروجه من الغار ، والتحاقه بمجتمعه ، وقومه ، وأوّل خطوة له في مطالعة ما حوله والتحقيق فيما يراه.

غير أنّ هاهنا احتمالاً آخر هو أنّ إبراهيم علیه السلام كان قد رأى الشمس والقمر والكواكب من قبل ، ولكنَّه لم ينظر إليها بنظرة الباحث المدقّق ، وكان هذا أوّل

ص: 140

مطالعته الباحثة للكون ، وأوّل نظره إلى ما حوله بنظرة المحقق المتأمّل واستفادته هذه المطالب التوحيدية من ذلك.

3. تشهد عبارة ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) أنّ إبراهيم بدأ تحقيقه هذا بين أبناء قومه الذين كانوا يعبدون هذه الكواكب باعتقاد أنّها أرباب وتشهد أنّهم كانوا معه ، في كل المراحل الثلاث من التحقيق ، المذكورة في الآيات ، يرون تحقيقه ، ويشاهدون بحثه ، للوقوف على الرب الحقيقي ويسمعون كلامه طوال ذلك البحث والتأمّل.

ولو كان الأمر على غير هذا لما صح توجيه الخطاب إلى قومه مرّة واحدة فيقول : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) ، لأنّ الهدف من جعل قومه موضعاً لخطابه هو ضم قومه إليه في الاعتقاد الصحيح ، ودفعهم إلى ترك الشرك ، وهذا التكليف إنّما يكون صحيحاً إذا سمعوا منطقه وحديثه المبرهن.

4. عندما كانت تقع عينا إبراهيم على الكوكب أو القمر أو الشمس كان يقول : ( هذَا رَبِّي ) .

إنّ هذه الجملة لا تعني - بالمرّة - وللأدلة التي سنذكرها ، إذعاناً قلبياً بربوبية هذه النجوم بل كان الهدف هو طرح النظرية هذه ليتضح ويوضح - بعد ذلك - بطلانها أو صحتها.

وهذا أسلوب متعارف وشائع في عمليات البحث والتحقيق العلمي.

فالباحث عن علّة حادثة ما يستعرض في مخيلته جميع الاحتمالات والفروض الواحد تلو الآخر ، ويعمد إلى مطالعة كل واحد من هذه الفروض والاحتمالات فيفترض كونه هو العلة ولو للحظة واحدة ، ولا يتركه إلى غيره ما لم تتضح النتيجة

ص: 141

وما لم يثبت بطلان الفرض. فإذا ثبت بطلان الفرض تركه وانتقل إلى دراسة الفرض الآخر ، وهكذا يتحكم نوع من الروح الباحثة على كل هذه الفروض دون أن يكون في البين أيُّ إذعان وتصديق.

هذا مضافاً إلى أنّ قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيم ... ) يفيد أنّ إبراهيم كان مشمولاً بالعناية الإلهية الخاصة في كل المواقف ، وكان علیه السلام يستمد منه تعالى العون ، والمدد ، وكان اللّه سبحانه يريد لإبراهيم أن يقف على معنى مالكية اللّه وحاكميته المطلقة عبر طي مراحل من استعراض مجموعة من الفرضيات عن حاكمية الكواكب والنجوم وإبطالها ، وأن يطمئن - من خلال دليل رافع للشك - إلى أنّ أمر الإنسان بيد اللّه وليس بيد هذه الأجرام النورية الأسيرة في قبضة القوانين الطبيعية ، الخاضعة للسنن الكونية.

مع هذا البيان لا يكون قول إبراهيم علیه السلام : ( هذَا رَبِّي ) بمعنى الإذعان والتصديق القلبي.

وبعبارة أُخرى : كان اللّه تعالى يريد لإبراهيم أن يكون - بمشاهدته لملكوت السماوات والأرض وتعلّق هذه الموجودات بالقدرة الإلهية - من الموقنين ، كما صرح بذلك القرآن الكريم بعد أن كان من المؤمنين.

وهذا الكلام لا يعني - بالطبع - أنّ إبراهيم كان إلى ذلك الحين خالياً من هذا اليقين عارياً عنه. كلا بل كان يعلم بفطرته السليمة أنّ الرب الحقيقي للكون والإنسان هو اللّه الخالق لا غير ، ولكنّه أُريد له أن يقف على ذلك الأمر الذي كانت الفطرة تدعو إليه عن طريق الاستدلال ، ليزداد يقيناً إلى يقين.

ولم يكن هذا بالأمر الجديد في شأن إبراهيم علیه السلام ، بل تكرر منه مثل هذا في

ص: 142

أمر المعاد ، وبعث الإنسان والحياة أيضاً.

ولك أن تراجع في هذا الصدد تفسير قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).

كل هذا مضافاً إلى أنّ بحث إبراهيم وتحقيقه تم في حين كان قومه مشركين يعبدون تلك الكواكب والنجوم ، فهو كان فيهم وكانوا معه ، وحيث إنّ أحد أهدافه علیه السلام في هذا التحقيق كان إرشاد قومه وهدايتهم إلى طريق الحق والصواب ، وذلك يقتضي أن يقبل الموجّه والمرشد الفكرة الباطلة بنحو موقت ثم يعمد إلى إبطالها بالدليل وإقامة البرهان ، لذلك لم يكن بد لإبراهيم من اتخاذ هذا الاسلوب المعقول والمنطقي في الإرشاد والهداية والتوجيه.

5. الظاهر أنّ الآيات المبحوثة تفيد أن إبراهيم علیه السلام قام بجميع مراحل بحثه - المذكورة في الآيات - تباعاً وفي موقف واحد بحيث طلع القمر على أثر أُفول النجم ، وطلعت الشمس على أثر غياب القمر.

ومثل هذا الفرض أي ملازمة طلوع القمر مع أُفول النجم يحصل - في الأكثر - مع كون النجم المذكور هو الزهرة.

لأنّ كوكب الزهرة - نظراً لضيق مداره - لا يمكن أن يبتعد عن الشمس أكثر من 47 درجة ، ولهذا فهو يلازم الشمس دائماً ، وقد يظهر في السماء قبل طلوع الشمس ، ولكن لا يلبث أن يختفي بعيد طلوع الشمس ، وقد يظهر بعد غروب

ص: 143


1- البقرة : 260.

الشمس في جهة المغرب ولا يلبث أن يغيب من الأُفق بسرعة.

فعلى هذا يقارن غروب الزهرة طلوع القمر في النصف الثاني من الشهر في الليالي 17 و 18 و 19.

لأجل هذا لا يستبعد أن يكون المراد بالكوكب المذكور في الآية هو كوكب الزهرة (1).

ذلك مضافاً إلى أنّ الصابئة الذين كانوا يقطنون في العراق وكان النبي إبراهيم يعيش بينهم كانوا ينسبون تدبير الظواهر والحوادث الأرضية إلى السيارات السبع ( ومنها الزهرة ) وكانوا يحترمون هذه الكواكب فقط دون بقية الكواكب ، هذا على العكس من الهندوس الذين كانوا ينسبون تدبير الموجودات والوقائع الأرضية إلى الثوابت من الكواكب ويحترمونها خاصة.

6. تكشف آية : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ والأرض ) عن أنّ مسألة خالقية اللّه لم تكن موضع بحث وحوار بين إبراهيم وقومه. فهو وقومه - أيضاً - كانوا يعتقدون بأنّه لا خالق للكون غير اللّه ، بل كان البحث والجدل يدور حول من هو « مدبّر » الظواهر والحوادث الأرضية ؟

هل هو اللّه الخالق ؟

أم أنّ بعض أُمور تدبير الموجودات الأرضية قد فوض إلى بعض المخلوقات

ص: 144


1- وقد أثر عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام أنّ هذا الكوكب كان الزهرة ، من ذلك قول الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام : أنّ إبراهيم علیه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس ، فلما رأى الزهرة قال هذا ربي على الاستنكار والاستخبار فلما أفل الكوكب قال : لا أحب الآفلين ، لأنّ الأُفول من صفات المحدث لا من صفات القديم. راجع التوحيد الصدوق: 74 - 75.

كما كان يظن ويعتقد قوم إبراهيم في العراق ، ويتصورون أنّ تدبير الحوادث الأرضية فوِّض إلى القمر والشمس وغيرهما من الكواكب ؟

إذن فمصب البحث لم يكن إثبات الصانع ، أو توحيد ذاته تعالى ، أو توحيد الخالقية ، بل كان تعيين « المدبّر » الحقيقي للظواهر الأرضية.

وبتعبير آخر : فإنّ مصب البحث كان هو التوحيد الافعالي ، لأنّ البحث في إرجاع تدبير الكون ، كله أو بعضه ، إلى بعض المخلوقات من فروع التوحيد في الأفعال.

وقد كان قوم إبراهيم علیه السلام مشركين في مسألة التدبير هذه. وكان إبراهيم يريد أن يدعوهم إلى التوحيد في هذه المسألة ويدفعهم إلى الاعتقاد بوحدانية المدبّر.

لهذا السبب جاء في نهاية آية ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ) قوله : ( وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) تلويحاً إلى أنّه يعتقد بوحدانية المدبّر على خلاف ما عليه أبناء قومه المشركين في قضية التدبير.

7. يستدل إبراهيم بأُفول هذه الأجرام الثلاثة على أنّ هذه الأجرام لا تصلح لأن تكون هي المدبّر لشؤون الأرض وحوادثها ، وعلى الأخص : الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال هو : كيف ولماذا استدل الخليل بأُفول هذه الأجرام على عدم كونها مدبّرة ، أو مشاركة في التدبير ؟!

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يتم في صور مختلفة على أنّ كل صورة من هذه الصور مفيدة في حد ذاتها.

هذا بالإضافة إلى أنّ تعدد تفسير منطق إبراهيم في إبطال مدبّرية الكواكب

ص: 145

يكشف عن تعدّد أبعاد مفاهيم القرآن وكثرتها ، بحيث يصلح كل بعد منها لفريق من الناس المختلفي المدارك.

وإليك التفسيرات المتعددة المتنوّعة لهذا الاستدلال :

ألف. لمّا كان الهدف من اتخاذ الرب هو أن يبلغ الموجود الضعيف في ظل اتصاله بالقدرة الربانية إلى الكمال المطلوب ، لذلك ينبغي ( بل ويتحتم ) أن يكون هذا الرب والمربي قريباً من مربوبيه بحيث يكون عالماً بأحوالهم مطّلعاً على احتياجاتهم ، ولا يكون بعيداً عنهم ، مفارقاً لهم ، غير حاضر لديهم ولا شاهداً لأوضاعهم.

أمّا ذلك الموجود الذي يكون بعيداً عن مربوبيه ، ساعة أو ساعات ، ويكون نائياً عنهم بالمرة بحيث يحجب عنهم أنواره ، وبركاته ، فكيف يصلح أن يكون مربياً لتلك الموجودات المربوبة ورباً للكائنات الأرضية ؟!

من أجل هذا كان أُفول هذه الكواكب ، وغيبتها علامة على غربتها عن الكائنات الأرضية وانقطاع الصلة بينها وبين هذه الموجودات ، وشاهداً على أنّ لهذه الكائنات مدبّراً غير هذه الكواكب .. مدبّراً عارياً عن أي نقص منزّهاً عن أي عيب.

ب. انّ طلوع وغروب الأجرام السماوية وحركتها المنتظمة في مدارات لا تتغير لدليل قاطع على أنّها خاضعة لموجود آخر فوقها ، وأنّها مسخَّرة لقدرة عليا سخَّرها لإرادته ، وجعلها محكومة لقوانين خاصة تابعة لمشيئته.

ومن المعلوم أنّ المسخَّر لا يمكن أن يكون مدبّراً مطلقاً ، وأنّ الخضوع لقوانين منتظمة آية ضعف هذه الكواكب ، وعلامة واضحة على أنّها لا يمكن أن

ص: 146

تحكم على الوجود ، أو تدبّر شؤون الأرض.

وأمّا استفادة الكائنات الأرضية من نور هذه الأجرام فليست دليلاً على ربوبية هذه الأجرام ، بل هي شاهد آخر على أنّ هذه الأجرام تأتمر بأوامر قدرة عليا ، وتخضع لمشيئة مقام أعلى ، وأنّها بالتالي لا تقوم تجاه الأرض إلاّ بما حملت من تكاليف.

ج. ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات ، ونعني النجوم والكواكب هل الهدف هو السير من النقص إلى الكمال ، أم العكس ؟

أمّا الثاني فليس قابلاً للتصوّر ، وعلى فرض التصوّر فلا معنى لأن يسير « الرب » من الكمال إلى النقص ، والعدم.

إذن لابد أن يكون الأوّل هو الصحيح على حين أنّ ذلك الأمر ، أي السير من النقص إلى الكمال ، أفضل شاهد على وجود مربّ آخر ، يوصل هذه الموجودات الضعيفة الناقصة في الحقيقة ، القوية في الظاهر ، إلى مرحلة الكمال الأفضل.

وفي الحقيقة فإنّ ذلك المربّي هو الرب الحقيقي الذي يجر هذه الأجرام وما سواها وما دونها نحو الكمال الذي تسير إليه.

هذا ويمكن تفسير وتصوير استدلال النبي إبراهيم علیه السلام أشكال أُخرى ، بعضها بعيد عن روح استدلاله علیه السلام .

وإليك بعض هذه التفسيرات :

1. انّ الأُفول والغروب في الأجرام والكواكب علامة الحركة.

والحركة ملازمة للتغيّر في المتحرّك.

ص: 147

والتغيّر دليل على حدوث المتحرّك ، لأنّ الموجود المتحرّك يصل بعد الحركة إلى كمال كان فاقداً له قبل ذلك.

لأجل هذا تكون الحركة ملازمة للحدوث.

ومن البيّن أنّ الموجود « الحادث » لكونه غير أزلي ، وغير أبدي لا يمكنه أن يكون رباً.

ونقائص هذا الاستدلال واضحة :

أوّلاً : إذا كان الأُفول والغروب علامة الحدوث ، فإنّ الطلوع والشروق هو أيضاً علامة الحدوث ، فلم استدل الخليل علیه السلام بالأُفول والغروب فقط في حين أنّ الغروب والطلوع من حيث الدلالة على الحدوث سواء ؟!

ثانياً : إذا كان قوم إبراهيم يعتقدون في شأن الأجرام السماوية بأنّها آلهة واجبة الوجود تنتهي إليها سلسلة الممكنات صح أن يقال حينئذ أنّ الحدوث لا يلائم ولا يوافق شأنها قطعاً ، لأنّها في هذا الفرض ، أي كونها آلهة واجبة الوجود تحتل مكان علّة العلل ولابد أن تكون علّة العلل أزلية أبدية.

ولكن قوم إبراهيم كانوا يعتبرون هذه الكواكب مخلوقة لله ، وغاية ما كانوا يعتقدون في حقّها أنّ أمر تربية الموجودات الأرضية وأمر تدبيرها قد فوّض إليها تفويضاً على النحو الذي مر معناهن.

وفي مثل هذه الحالة لايضير الحدوث بها ، كما لا تشترط الأبدية والأزلية في شأنها.

وبناء على هذا لا ربط لطرح مسألة الحدوث وعدم الأبدية والأزلية ببرهان إبراهيم الذي عرضه على قومه.

ص: 148

2. إذا كانت الحركة دليل الحدوث فهي دليل الإمكان أيضاً ، بدليل أنّ كل حادث ممكن أيضاً وكل ممكن لا بد أن ينتهي - من حيث الوجود - إلى موجود آخر ، منزّه عن صفة الإمكان ، واجب الوجود - حسب الاصطلاح العلمي - أي غير مستمد وجوده من غيره.

وإشكال هذا الاستدلال بيّن أيضاً : لأنّ قوم إبراهيم لم يعتبروا الكواكب - قط - إلهاً خالقاً يرتبط به وجود العالم ليكون إمكانه دليلاً على بطلان اعتقادهم وفساد مذهبهم.

3. يعتبر الحكيم صدر المتألّهين استدلال النبي إبراهيم مرتبطاً بإثبات الصانع .. وذهب إلى أنّه ناظر إلى « برهان الحركة » ، وهو البرهان الذي يتوسّل به علماء الطبيعة لأثبات وجود خالق لهذا الكون ، على أساس أنّ الحركة الشاملة في الكون تدلّ على محرّك (1).

فقد تصور صدر المتألّهين لأدلة ثبت بطلانها على أثر الاكتشافات المهمة التي تمت في عالم الفلك والفضاء أنّ حركة الأجرام السماوية لا تعود إلى طبيعتها ، كما أنّ ذلك ليس قسرياً ، إنّما هي حركة نابعة من « شوق وإرادة » في هذه الكواكب والأجرام غير ناشئة عن الغضب أو الشهوة ، لأنّ هذه الأجرام أسمى - كما في نظره

ص: 149


1- من الطبيعي أن يستدل كل فريق بما يناسب تخصّصه العلمي على وجود اللّه ، وهكذا فعل علماء الطبيعة الذين يبحثون عن خواص المادة وأحوالها ، فهم استدلوا على وجود اللّه بالحركة فقالوا : لا بد لهذا العالم المتحرّك من محرّك ، ولابد أن ينتهي هذا المحرك إلى محرك غير متحرّك لنتخلص من ورطة الدور والتسلسل ، وفي هذا الصدد يقول الحكيم السبزواري صاحب المنظومة في المنطق والفلسفة : ثم الطبيعي طريق الحركة *** يأخذ للحق سبيلاً سلكه أي أنّ العالم الطبيعي والناظر في الأجسام الطبيعية يسلك طريق « الحركة » لإثبات وجود اللّه.

- من أن تكون حركتها ناشئة عن الغضب أو الشهوة.

وإذا تبيّن أنّ حركتها هكذا فلابد أن يكون الغاية التي تتحرك نحوها أمراً قدسياً ، فإن كان ذلك واجب الوجود ثبت بذلك وجود اللّه الصانع وإن لم يكن كذلك فلابد أن ينتهي إلى واجب الوجود حتماً ، دفعاً للتسلسل والدور.

وهكذا أثبت صدر المتألّهين وجود « الوعي » لدى هذه الأجرام ، واستدل من حركتها على وجود الصانع .. وبذلك تصوّر أنّ استدلال إبراهيم كان لإثبات الصانع.

وإليك نص ما كتبه صدر المتألّهين في كتابه « المبدأ والمعاد » قال :

« وللطبيعيين طريق خاص في الوصول إلى هذا المقصد أي إثبات وجود الصانع وهو أنّهم قالوا في بيانه : إنّ الأجسام الفلكية حركتها ظاهرة ، وهي ليست طبيعية ولا قسرية ، بل نفسانية شوقية لابد لها من غاية.

وإذ ليست الغاية غضبية ولا شهوية لتعاليها عنهما .. ولا الغاية الأجسام التي تحتها أو فوقها .. ولا النفوس التي لشيء منها - كما ستطلع على بيان الجميع بالبرهان إن شاء اللّه -.

فتعين أن يكون غايتها أمراً قدسياً مفارقاً عن المادة بالكلية تكون ذا قوة غير متناهية ، لا تكون تحريكاته لها على سبيل الاستكمال .. فإن وجب وجوده فهو المقصود ، وإن لم يجب فينتهي إلى ما يجب وجوده دفعاً للدور والتسلسل.

وهذه الطريقة هي التي سلكها واعتمد عليها مقدم المشّائين ، وأُشير إليها في الكتاب الإلهي حكاية عن الخليل » (1).

ص: 150


1- المبدأ والمعاد : 11 ، والأسفار : 6 / 44.

ولكن هذا الرأي وهذا الاستدلال مضافاً إلى أنّه ثبت بطلانه - كما قلنا - لبطلان أدلّته ، وثبت أنّ حركة الأجسام الفلكية ليست حركة واعية ، توجيه بعيد عن هدف إبراهيم علیه السلام ، لأنّه - كما قيل - لم يكن الخليل علیه السلام في مقام إثبات الصانع وأبطال الإلحاد ، بل هو في مقام استنكار الشرك وإبطال فكرة الشريك لله في التدبير.

كلمة أخيرة حول هذه الآيات

وآخر ما يمكن قوله حول هذه الآيات هو أن نقول :

إنّ هذه الآيات تتحدث مباشرة عن محاربة الشرك في التدبير ولكنّها تتعلّق - بصورة غير مباشرة - بإثبات الصانع أيضاً ، بتقريب أنّ أُفول هذه الكواكب يدلّ على كونها مسخّرة وأنّ هناك مسخّراً هو الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الصورة لا يمكن أن تكون هي مدبّرة ، إنّما التدبير لذلك الخالق الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الحالة يكون أُفول وغياب هذه الأجرام حين كونها دليلاً على عدم ربوبيتها دليلاً قاطعاً وشاهداً واضحاً على ربوبية مسخّرها ومالك أمرها.

ص: 151

التوحيد الاستدلالي : البرهان الثالث

خلق السماوات والأرض دليل على وجود الخالق

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) (1).

كيفية الاستدلال بهذه الآية واضحة. فالقرآن الكريم يطرح مسألة « الشك في وجود اللّه » في صورة استفهام إنكاري ، إذ يقول : ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ ) ؟

ولكي يرد هذا الشك ويدفعه يذكّر بخلق السماوات والأرض وفطرها ، إذ يقول :

( فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) .

أي وهو فاطر السماوات والأرض.

و « الفطر » تعني لغة : « الخلق ».

وإطلاق الفطر على الخلق بمناسبة أنّ الخالق يشق بطن العدم ، ويستخرج

ص: 152


1- إبراهيم : 10.

منه « الشيء » الذي يريد خلقه وإيجاده.

خلاصة القول : إنّ الآية تعني أنّ خلق السماوات والأرض ووجودهما بعد العدم ، خير دليل على وجود موجد لها ، وخالق خلقها ، وأتى بها إلى حيز الوجود.

لهذا يجب أن لا نسمح للشك في هذا الأمر « أي وجود الخالق » ونحن نرى هذه المخلوقات الجسام العظيمة الصنع.

والاستدلال في هذه الآية على نمط الاستدلال بوجود الأثر والمصنوع على وجود المؤثر الصانع ، وهو ما يصطلح عليه بالبرهان الأنّي (1).

وقد بيّن هذا البرهان في كتب الكلام والعقائد في صور مختلفة متنوعة.

سؤال حول الآية

لقد بعث الأنبياء والرسل المذكورون في الآية لهداية أقوام نوح وعاد وثمود (2) في حين كان جميع هذه الشعوب والأقوام مؤمنين باللّه خالقاً لهذا الكون وفاطراً للسماوات والأرض ، ولكنّهم كانوا يعبدون الأصنام باعتقاد أنّها شفعاء مقرّبة ، ومقرّبة عند اللّه أو لأسباب أُخرى ، وفي هذه الحالة لماذا طرح القرآن الكريم موضوع الشك في « وجود » اللّه ، وأقام البرهان على « وجوده » تعالى ، وليس المقام مقام شك في وجوده سبحانه ؟

وبتعبير آخر : لم تكن هذه الأقوام التي مر ذكرها ، ملحدة ، ومنكرة لوجود

ص: 153


1- الاستدلال الإنّي هو الاستدلال بالمعلول على وجود العلة عكس البرهان اللّمي الذي يستدل فيه بالعلة على المعلول وستوافيك كلمتنا حول الاستدلالين.
2- كما يلاحظ ذلك من مراجعة الآية السابقة لهذه الآية إذ تقول : ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودٍَ ) ( إبراهيم : 9 ).

اللّه ، بل كانوا يعانون من عبادة المعبودات المتعددة. ومن المعلوم أنّ الأنبياء لم يبعثوا إلاّ ليجنّبوا البشرية عن عبادة غير اللّه ، ولذلك يتحتم - عند المحاورة والدعوة - إبطال أساس الشرك العبادي ، وإقامة البراهين على وهنه وضعفه وفساده ، لا على إثبات وجود اللّه ، فلماذا طرح أُولئك الأنبياء قضية إثبات وجود اللّه كما نرى في الآية المبحوثة ؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتضح من الإمعان والتدبّر في ما قبل وما بعد هذه الآية.

فمن تأمل رأى كيف أنّ الأنبياء عندما دعوا هذه الأقوام - في بداية الأمر - إلى توحيد العبادة ، ونهوا عن عبادة غير اللّه قوبلوا من جانب تلك الأُمم بهذا الرد :

( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيب ) (1).

لقد كانت دعوة الأنبياء مركبة من أمرين :

1. عبادة اللّه.

2. ترك عبادة الأوثان.

وقد رفضت تلك الأقوام - وبشهادة الآية 9 - كلا المطلبين ، أو المطلب الثاني على الأقل.

ولذلك عمد الأنبياء إلى البرهنة على صحة المطلبين بطرح مسألة خالقية اللّه للسماوات والأرض فقالوا :

( أَفِي اللّهِ شَكٌّ ) ؟

ص: 154


1- إبراهيم : 9.

يعني كيف يجوز ويمكن الشك في وجود اللّه وآيات وجوده ظاهره ساطعة .. وأعظمها هو خلق السماوات والأرض : ( فَاطِرِ السَّماوَاتِ والأرض ) وإذا لم يكن له وجود لما كان لهذه السماوات والأرض من وجود.

وبعد أخذ هذا الاعتراف من تلكم الأقوام ، أصبح الطريق ميسّراً لإثبات المطلبين على النحو الآتي :

1. إذا كنتم تعتقدون بمثل هذا الإله ، الخالق والمالك للكون ولأرواحكم وأجسادكم ، أذن لابد - وبحكم أفضليته وعلوّه وبحكم مالكيته للكون والإنسان - من عبادته والخضوع أمامه خضوع العبيد.

ولأجل هذا جاء في ذيل الآية قوله حكاية عنهم علیهم السلام : ( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

2. إذا كنتم تعتقدون بمثل هذا الإله فلماذا تعبدون الأصنام التي هي جزء من مخلوقات هذا العالم ، وشأنها شأن بقية الكائنات في هذا الكون في الضعف والعجز ، إذن لابد أن تعبدوا اللّه المنعم المحسن لا المخلوق المملوك الضعيف (1).

بناء على هذا فإنّ الهدف من الإشارة إلى « مسألة خالقية اللّه للسماوات والأرض » إنّما هو إثبات انحصار العبادة فيه تعالى وأنّه يجب أن لا يعبد سواه ، من خلال إثبات خالقيته التي هي ملاك العبادة وموجبها.

وصفوة القول : إنّ ضمائر تلك الأقوام كانت تنطوي على مقدمة ضمنية ، وهي « من كان خالقاً كان مدبّراً أيضاً » ولهذا وبحكم فاطرية اللّه للسماء والأرض تثبت مدبّريته للكون .. وإذا لم يكن من مدبّر سواه إذن فبيده - دون غيره - مفاتيح

ص: 155


1- تفسير الفخر الرازي : 5 / 229 طبعة عام 1308 ه.

كل الخيرات .. ولأجل هذا يجب أن يعبد وحده ولا يعبد غيره ، ذلك لأنّ الغير لا يملك أي خير وأي أمر.

وبهذا يكون القرآن قد اعتمد على مقدمة وجدانية واستفاد منها لإثبات انحصار العبادة في اللّه.

وهذا الاستدلال يشبه ما إذا راجع عامل مؤسسة ، من لا يستطيع حل مشكلته وفك عقدته فتقول له - لأجل منعه عن مراجعة من لا ينبغي مراجعته - ؛

من هو صاحب المؤسسة ورئيسها ؟

ومن الذي بيده مقاليد الأمر فيها ؟

وهدفك من هذه العبارات المعروف جوابها عند المخاطب ، هو ردعه عن مراجعة الآخرين.

وكأنّك تريد أن تقول له : أيها العامل أنت الذي تعرف أنّ صاحب المؤسسة هو غير هذا ، فلماذا لا تراجع صاحب المؤسسة ولماذا تراجع هذا ؟

ص: 156

التوحيد الاستدلالي : البرهان الرابع والخامس والسادس

اشارة

1. برهان الإمكان

2. برهان امتناع الدور

3. برهان حاجة المصنوع إلى الصانع

1. المعلول بلا علة محال.

2. خلق الشيء لنفسه مستلزم للدور المحال.

3. وجود السماوات والأرض دليل على وجود الخالق.

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ) (1).

( أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ والأرض بَلْ لا يُوقِنُونَ ) (2).

( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (3). (4)

تتألف دعوة رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله من ثلاثة أُصول أساسية ، وهي الدعوة إلى :

ص: 157


1- الطور : 35.
2- الطور : 36.
3- الطور : 43.
4- لمزيد الاطلاع راجع نص الآيات من 36 - 43 من السورة المذكورة ، وقد اكتفينا منها بنقل هذه الآيات التي تتضمن أصل الاستدلال رعاية للاختصار.

1. الاعتقاد بالمعاد.

2. الاعتقاد بنبوته.

3. التوحيد بمعناه الواسع الجامع الذي من شعبه : الاعتقاد بوجود الصانع.

وقد بحثت هذه المواضيع الثلاثة في سورة « الطور » بنحو بديع.

ففي الآيات 1 إلى 28 طرحت مسألة « المعاد » وبعث الناس في يوم القيامة وما يلابس ذلك.

وفي الآيات 29 إلى 34 طرحت مسألة « نبوة الرسول الأعظم » صلی اللّه علیه و آله .

وفي الآيات المبحوثة هنا طرحت مسألة « وجود اللّه الواحد » (1).

وقد هدى القرآن الكريم الإنسان الباحث إلى الاعتقاد بوجود اللّه بطرح مجموعة من الاحتمالات والأسئلة ، كما نشاهدها في هذه الآيات.

وهذه الاحتمالات وإن كانت واضحة ، يدركها كل أحد بمجرد ملاحظة نصوص الآيات لكننا نشير - مرة أُخرى - إلى مضامين هذه الاحتمالات والتساؤلات لغرض الاستنتاج.

وإليك مجموعة هذه التساؤلات والاحتمالات التي تطرحها هذه الآيات حول مبدأ الإنسان وعلة وجود العالم :

1. أن تكون الكائنات البشرية قد وجدت بلا علة ( علة مادية كانت كالأب والأُم والخلية التناسلية ، أو علة مجردة عن المادة كاللّه تعالى ) بمعنى أن تكون قد وجدت مصادفة ، ومن تلقاء نفسها.

ص: 158


1- تفسير الرازي : 28 / 259 الطبعة الجديدة.

وقد طرح هذا السؤال في قوله تعالى :

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) (1).

2. أن تكون هي الخالقة لنفسها وهي الصانعة لذاتها والموجدة لها.

وإلى هذا الاحتمال أشارت جملة :

( أَمْ هُمُ الخالِقُونَ ) ؟

3. على فرض أنّها هي الموجدة لنفسها فإنّه يبقى سؤال آخر في هذا المجال وهو : من خلق السماوات والأرض ؟

هل يمكن القول بأنّ هؤلاء الأفراد هم الذين خلقوا السماوات والأرض ؟

وإلى هذا السؤال أشار قوله سبحانه :

( أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ ) (2) ؟

4. أن يكون لهم إله غير اللّه وهذا الاحتمال أشار إليه قوله :

( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه ) ؟

هذه هي الاحتمالات التي طرحها القرآن الكريم ليفكر الناس فيها ثم يهتدوا إلى اللّه الواحد ، وهي كلّها باطلة وغير صحيحة في منطق الوجدان الحي ، والضمائر اليقظة.

ص: 159


1- بملاحظة ما بين القوسين يمكن إرجاع كثير من الاحتمالات التي ذكرها المفسرون لكلمة « غير شيء » إلى معنى جامع واحد ولمعرفة هذه الاحتمالات يراجع تفسير الرازي : 29 / 260 ، والميزان : 19 / 19.
2- الطور : 36.

فلابد إذن من الإذعان بوجود اللّه الواحد ، ولابد من التزام العبودية أمامه.

يبقى أن نعرف وجه بطلان هذه الاحتمالات فنقول :

أمّا بطلان الاحتمال الأوّل ففطري ، لبداهة أنّ لكل ظاهرة وحادث موجداً ومحدثاً لدلالة الفطرة السليمة ، والضمير اليقظ والتجربة المتكررة ، والبرهان العقلي عليه ، بحيث لو ادّعى أحد إمكان وقوع معلول دون علة لسخَّر منه العقلاء أجمعون.

وبرهان الإمكان يؤيد هذه الآية.

وأمّا بطلان الاحتمال الثاني فهو كذلك بديهي كالأوّل لبداهة أنّ كل ظاهرة إذا كانت موجدة لنفسها كان معنى ذلك رجوع الاحتمال الثاني إلى الأوّل ، وهو « تواجد المعلول بلا علة موجدة له خارجة عن ذاته » وقد عرفت فساده.

وخلاصة القول : إنّ الشيء إذا كان غير موجود بالذات ( أي لم يكن وجوده نابعاً من ذاته ) فهو إذن حادث ، فهو إذن يحتاج - بحكم ما قلناه في الاحتمال الأوّل - إلى محدث.

وأما لو كان وجود الشيء نابعاً من ذاته فهو ليس إذن بحادث ، بل هو أزلي أبدي في حين أنّهم ( أي الملحدين ) مذعنون بأنّ هذه الأشياء ( أي البشر ) ليست سوى أُمور حادثة مسبوقة بالعدم.

وبعبارة أكثر وضوحاً : انّ خلق الشيء لنفسه يستلزم « الدور » الواضح بطلانه.

لأنّ معنى قولك : « خلق الشيء نفسه » هو أن يكون الشيء موجوداً قبل ذلك ليتسنّى له خلق نفسه. ومعنى هذا : توقف الشيء وتقدمه على نفسه وهو

ص: 160

معنى الدور البديهي البطلان.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كسابقيه في التهافت والبطلان ، إذ ليس هنا من يدّعي أنّ السماوات والأرض مخلوقة لأُولئك البشر وأنّ البشر هم خالقوها وموجدوها فيتعين أن يكون لها خالق وهو الذي يسمّى ب « اللّه ».

وأخيراً يمكن أن نستنتج من بطلان الاحتمالات الثلاثة أنّ البشر حيث لا يمكن أن يوجد بدون علّة تعطيه الوجود ، كما لا يمكن أن يكون علة لوجود نفسه ، ولا يمكن أن يكون هو خالق السماوات والأرض ، لذلك لابد أن يكون للبشر والسماوات والأرض من خالق .. وهو من يشار إليه بلفظة « اللّه » ، وهو خالق الجميع بلا استثناء.

لقد طرح في المقطع الأوّل هذا السؤال : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) .

أي هل خلق منكرو وجود اللّه من تلقاء أنفسهم ، وعلى نحو المصادفة .. دون علة ؟

والجواب هو النفي طبعاً ، لأنّ تلك الموجودات ( أعني : المنكرين ) أشياء ممكنة الوجود ، وكل ممكن مرتبط في وجوده بعلّة ومحتاج إليها فيه.

وهذا المقطع من الآية ناظر - على ما يبدو - إلى « برهان الإمكان ».

وفي المقطع الثاني من تلك الآية ، ( أعني قوله : ( أَمْ هُمُ الخالِقُون ) ) والذي جرى الحديث فيه عن خلق الشيء لنفسه ، يؤلّف « بطلان الدور » أساس البرهان فيه.

لأنّ منكري اللّه - بحكم أنّهم علّة لوجود أنفسهم - يجب أن يكونوا

ص: 161

موجودين متحقّقين قبل أنفسهم ، وهذا هو تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال ، لأنّه دور.

وأمّا في الآية الثانية ( أعني قوله : ( أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ والأرض ) ) فقد استدل فيها على وجود اللّه ببرهان « النظم » أو ببرهان آخر يقرب منه كدلالة « المصنوع على صانعه » ، و « الأثر على مؤثره ».

فإذا كان أساس البرهان هو نظام السماوات والأرض فالآية حينئذ تكون ناظرة إلى « برهان النظم ».

وإذا كان أساسه هو « دلالة الآثر على المؤثر » ، فالآية حينئذ ناظرة إلى برهان آخر .. ولعلّها ناظرة إلى « برهان الإمكان » أو « برهان الحدوث ».

وأمّا دلالة « المصنوع على الصانع » التي وردت الإشارة إليها في عنوان هذا البحث فليست ببرهان مستقل ، بل تعود إلى أحد هذه البراهين ونحن لم نذكرها بصورة مستقلة إلاّ للتنوّع.

وها هنا ينطرح سؤالان هما

الأوّل : انّ إبطال هذه الاحتمالات الثلاثة لا يفيد أكثر من إثبات احتياج البشر والسماوات والأرض إلى موجد وخالق.

وأمّا أنّ موجد الجميع هو اللّه « الواحد » فلا يستفاد من إبطال هذه الاحتمالات أبداً ، ولا يثبت من خلال ذلك .. بل وربما يمكن التصوّر بأنّ خالق البشر غير خالق السماوات والأرض أو يمكن أن يكون خالق العالم والبشر غير مدبّر أُمورهما فما هو وجه دلالة إبطال الاحتمالات المذكورة على وحدانية الخالق والمدبّر ؟

ص: 162

الجواب

لقد ذكر القرآن الكريم لإبطال هذا التصوّر وهذا الاحتمال جملة رابعة حيث قال في الآية الثالثة من الآيات المذكورة في مطلع البحث :

( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

إنّ التوحيد في الخالقية والمدبّرية قد أبطل هذا التصوّر وهذا الاحتمال ( ونعني احتمال تعدّد خالق البشر والكون ومدبّرهما ). لأنّ الخالق والمدبّر - بحكم التوحيد في الخالقية والمدبّرية - ليسا أكثر من واحد.

من هذا البيان يتضح أنّ المقصود من « الإله » في الآية السالفة ليس هو مطلق المعبود المتخذ بعنوان الشفيع والمقرب .. بل أمر أعلى من ذلك ، وهو من يقدر على الخلق والإيجاد والتدبير.

فيكون معنى قوله تعالى : ( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ ) أي هل لهم خالق ومدبّر غير اللّه ؟

وبهذا لم يبق القرآن مجالاً لتصور تعدد خالق البشر والكون ومدبّرهما.

السؤال الثاني : أنّ المخاطبين في هذه الآيات - المطروحة هنا على بساط البحث - لا ريب هم « مشركو مكة » .. وهم لم يكونوا معتقدين بوجود اللّه حسب ، بل كانوا - فوق ذلك - يعتبرونه الخالق الوحيد للكون والإنسان جميعاً.

وفي هذه الصورة ما هو الداعي لطرح هذه الاحتمالات ثم إبطالها والقوم مؤمنون باللّه أساساً ، وجوداً ، ووحدانية في الخالقية والمدبّرية ؟

ص: 163

وهل ذنب هؤلاء ليس سوى إعراضهم عن عبادة اللّه وحده ، وعبادة الأصنام التي ظنوا أنَّها شفعاء لا أكثر.

أفليس مقتضى البلاغة في المقام هو صب الحديث على معتقداتهم التي هم عليها ، لا النقاش فيما لم يكن عندهم بموضع نزاع .. بل كان موضع اتفاق ( أعني : وجود اللّه الواحد ).

انّ الجواب على هذا السؤال هو ما قلناه ، وبينّاه في قوله تعالى : ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ ) .

فهناك قلنا : بأنّ القرآن الكريم يحاول بطرح هذه التساؤلات أخذ الاعتراف من ضمائرهم وتحريك ما هو كامن في فطرتهم لأجل إيقاظها وتنبيهها ، كمقدمة لأخذ نتيجة أُخرى.

إنّ القرآن يسعى من خلال الاستفادة من المقدمة المسلم بها التي تنطوي عليها ضمائر القوم وهي « اعترافهم بوجود اللّه الواحد » أن يمهد لدعوتهم إلى عبادة اللّه الواحد ، وهدايتهم إلى توحيد العبادة.

فبأخذ هذا الاعتراف منهم ( نعني الاعتراف بأنّه لا خالق ولا مدبّر لهم إلاّ اللّه ، وأنّه الخالق المدبّر الوحيد الذي منه وجود وتدبير كل الكائنات على الإطلاق ).

أقول : بأخذ هذا الاعتراف يوجه القرآن ضربة قاضية إلى مسلكهم المنحرف في العبادة ، لأنّه إذا كان الخالق والمدبّر واحداً لا أكثر .. وإذا كان هذا الخالق والمدبّر هو الوحيد الذي استمدت منه كل الموجودات ( من إنسان وغيره ) وجودها وتدبيرها ، فإذن لابد من عبادته وحده ، والكف عن عبادة غيره من الموجودات

ص: 164

الحقيرة الذليلة المحتاجة هي إلى ذلك الخالق المدبّر العظيم (1).

ص: 165


1- وبهذا يكون القرآن الكريم قد هدم بنيان الشرك العبادي ونسف قواعده وأركانه مع الاستفادة من قضية وجدانية مفيدة عندهم. وفي الحقيقة فأنّ القرآن الكريم يكون _ في الوقت الذي عرّف العالم فيه على منطق التوحيد _ قد أثبت ضرورة التوحيد العبادي، الذي كان مشكلة مخاطبي القرآن في ذلك العصر أيضاً. ومع ملاحظة هذا النوع من الاستدلال الموضوعي الرصين نكتشف مدى تمشي القرآن مع جميع العصور وجميع الأجيال رغم أنه نزل ليعالج مشاكل موجودة في عصر نزوله ضمناً.

التوحيد الاستدلالي : البرهان السابع والثامن

اشارة

1. برهان الإمكان

2. برهان النظم

تركيب الخلايا البشرية العجيبة ونمو النباتات وتساقط المطر وخلقة الأشجار تشهد بوجود خالقها

( هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) (1).

( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) (2).

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُون * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُون ) (3).

ص: 166


1- الواقعة : 56 - 59.
2- الواقعة : 63 - 65.
3- الواقعة : 68 - 72.

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) (1).

الآيات كلّها من سورة الواقعة (2).

قبل أن نشرع في بيان مفاد هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط :

1. أنّ الهدف الأصلي للآيات القرآنية هو : الدعوة إلى الإيمان بالمعاد ، وبعث الإنسان في يوم القيامة ، وضرورة عبادة اللّه وحده.

وأمّا مسألة إثبات وجود اللّه ، فلها جانب ضمني في هذه الآيات ، كما سنبين ذلك.

بل انّ مراجعة آيات هذه السورة [ أي سورة الواقعة ] تفيد أنّ الهدف الأصلي لهذه السورة التي تبدأ بآية ( إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ ) والآيات المبحوثة هنا التي تبدأ بقوله : ( هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) .

إنّ الهدف هو - في الحقيقة - إثبات إمكان المعاد ، حتى أنّ مسألة لزوم عبادة اللّه وحده تقع في الدرجة الثانية من اهتمام وهدف هذه السورة.

وقد أُشير إلى هذا الهدف الثانوي في قوله سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) .

ولكن على الرغم من ذلك يمكننا أن نجد في الآيات المذكورة إشارات واضحة إلى وجود الصانع حتى لأوّل نظرة.

وحيث إنّ آيات هذه السورة تشبه - من جهة طرح التساؤلات - سورة

ص: 167


1- الواقعة : 74.
2- لقد اكتفينا هنا بنقل الآيات المرتبطة بهذا البحث التوحيدي وللمزيد من الاطلاع والتوضيح ينبغي مراجعة مجموع الآيات من 56 - 74 في السورة نفسها.

الطور ، لذلك رأينا أن نجعل كلا القسمين إلى جانب بعض ، وسيتضح بالتأمل والإمعان في آيات هذه السورة ، وآيات سورة الطور أنّ القرآن الكريم جعل الإنسان أمام حزمة من التساؤلات ، تماماً على النمط السقراطي ، لأجل إيقاظ وجدان البشر ، ليتسنّى له في ظل هذه اليقظة أن يميّز الحق عن الباطل ، وليخضع - بالتالي - لمنطق الحق ولا يكون له سبيل إلى غير ذلك.

2. لقد طرح القرآن الكريم في هذه الآيات أربعة مواضيع :

1. تركيب الخلية البشرية وخلقتها العجيبة.

2. نمو النباتات وحفظها وصيانتها عن الآفات.

3. نزول الغيث وصيانته عن التلوث والتأسن والاجوج.

4. استخراج ونشأة النار من الشجر.

وفي الحقيقة فإنّ موضوع البحث في هذه الآيات هو : الإنسان والنعم الثلاث الكبرى ، وهي : المواد الغذائية ، والماء ، والنار التي لا يمكن أن يحيا البشر بدونها (1).

3. انّ طريقة الاستدلال في هذه الآيات هي من باب الاستدلال بوجود المصنوع ( وهو هنا النطفة البشرية ، وتربية النباتات ، ونزول المطر ، وخلق الأشجار ) على وجود الصانع.

صحيح أنّ للإنسان مشاركة جزئية في تكون ونشوء هذه الظواهر الطبيعية كاللقاح والجماع في تكون الإنسان ، والبذر ، إلاّ أنّ هذه المشاركة الجزئية والتأثير الجزئي لا يكفي في تكون وظهور هذه الظواهر والموجودات ، وما لم تكن ثمة قدرة

ص: 168


1- تفسير الرازي : 29 / 180.

عليا مطلقة تساعد على تأثير هذه المقدمات لما أمكن لها أن تتواجد وتتكون وتأتي إلى منصة الظهور وساحة الوجود.

وإليك توضيح المطلب

في الآيات : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) يتحدث القرآن الكريم عن مبدأ وجود وتكون الإنسان وهو ما أسماه بالنطفة.

وقد اعترف القرآن بسهم الوالدين في نشوء الإنسان وتكوّنه ، ولكنه اعتبر إسهامهما هذا في مستوى عملية النقل والانتقال فقط.

وتلك العملية تتمثّل في أنّ الأب ينقل جزءاً منه ، من موضع معين في جسمه إلى رحم الأُم لا أكثر.

أمّا من خلق النطفة ومن أوجدها ؟ فلا يمكن أن نعتبر الأب هو الخالق لها ، لبداهة جهله بحقيقتها.

ولذلك فلا مناص من أن يكون لها خالق معين.

خالق أعطى - بقدرته وعلمه - للنطفة ، القدرة على النمو في رحم الأُم ، ومكّنها من الرشد في ذلك الجو ، حتى يتكون الموجود البشري.

من المسلم أنّ تكوين هذه الذرة العجيبة يحكي عن موجود أعلى من الإنسان ، هو الذي خلق هذه البداية العجيبة للبشر.

وقد تحدث القرآن الكريم - في هذه الآية - على نمط الاستدلال بالمصنوع على الصانع ، والنظام على المنظم.

وفي الآيات : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ )

ص: 169

طرحت مسألة الزراعة ، ونرى فيها أنّ القرآن الكريم يسهم الزّراع في ظهور النباتات وتواجدها ، ولكنّه يعتبر اسهامهم محدوداً لا يتعدّى عملية بذر البذور ، ولهذا يسمح بأن يطلق عليهم صفة الزارع (1).

ولكن عمل الزارع لا يتجاوز هذا الأمر ، أعني : البذر.

غير أنّ هذا العمل وحده غير كاف في مسألة الزراعة ونشوء النباتات والثمار لأنّه :

يسأل أوّلاً : من الذي خلق البذرة ؟ وعلى قدرة من اعتمدت هذه الحبة بحيث استطاعت أن تتسبب في ظهور مئات الحبات ونشوئها في شكل سنابل ؟

لا مناص من أن يكون لهذه الحبة خالقاً غير البشر.

ثم يسأل ثانياً : هل يكفي لتربية النباتات وخروجها مجرد الحرث وبذر البذور ، أم أنّ مئات العوامل والعلل الخارجية الأُخرى ، يجب أن تتضافر وتتفاعل وتتعاضد فيما بينها لتمنع من جفاف النبتة والسنبلة ، وهذا شيء خارج عن قدرة البشر.

ترى هل هذا كلّه من صنع اللّه أم من فعل العوامل المخلوقة لله ؟

وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن بقوله :

( لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (2) * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) (3).

ص: 170


1- إلاّ أنّه لا يخلو من العناية والمجاز كقوله سبحانه : ( يَعْجَبُ الزُّرَاّعَ ) (الفتح : 29).
2- تتفكهون أي تتحدثون ، وأصله من التفكّه : أخذ الشيء فاكهة واستعير للحديث الذي يتحدثون به تفرجاً بتناوله.
3- الواقعة : 65 - 67.

وفي هذا الاستدلال استدلّ القرآن بوجود المصنوع ( كالمزارع الخضراء وحفظها وصيانتها من الجفاف ) على وجود الصانع.

وقد جاء عين هذا الاستدلال في القسم الثالث والرابع أيضاً ، فنزول المطر من السحاب - وهو أمر حادث - لا بد له من محدث ..

وإذا ساعدت بعض العوامل على ذلك ، كتبخر مياه البحار بسبب الشمس ، فإنّه لا محيص - في المآل - من أن يعتمد الموضوع على إرادة قادر متعال ، هو الذي أوجد تلك العوامل ، وهو الذي نسّقها ، ونظّمها ، وساعدها على التأثير وصانها من أي تلوث وأجوج كما يقول :

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (1).

في هذا المورد استدل الكتاب الكريم بوجود ظاهرة هطول المطر ، وظاهرة السحاب وصيانتها عن الأُجوج والتلوث ، على وجود الصانع.

وعلى هذا النمط والغرار يكون أمر تواجد النار تلك الظاهرة العجيبة جداً.

فالإنسان لا يقوم في مسألة النار إلاّ بدور الناقل فحسب.

فهو - كما نلاحظ - لا يفعل إلاّ إيصال شعلة الكبريت إلى الحطب في المطبخ لا أكثر.

لهذا فلا يكون للإنسان أي دور في نشأة هذه الظاهرة ( النار ) وتكوّنها ، اللّهم إلاّ عملية الإشعال والوري.

ص: 171


1- الواقعة : 68 - 70.

ولذلك نسب القرآن الكريم عملية « الوري » إلى البشر ، إذ قال :

( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ) .

ولكن الوري والإيقاد وحده لا يكفي في تكوّن هذه الظاهرة ، أعني : النار ، بل لابد من قادر أوجد بقدرته هذه المواد الاحتراقية في الشجر يابسه ورطبه حتى يتأتّى - ضمن شروط وفي ظروف خاصة معينة - أن تشتعل.

ترى هل يمكن لأحد أن ينكر تأثير قدرة عليا في ظهور هذه الأشجار التي تختزن المواد الاحتراقية ؟

بالطبع لا.

ولذلك يقول الكتاب العزيز :

( ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ) .

وفي هذه الأقسام الأربعة استدلّ بوجود المصنوع على وجود الصانع القادر العالم.

وفي الختام نعترف - ثانية - بأنّه مع أنّ هذه الآيات تستدل على وجود اللّه بطريق الإن ، غير انّ مقصودها الأصلي ليس إثبات أصل وجود اللّه ، بل المقصود والهدف هو الاستدلال على إمكان وقوع المعاد وبعث الإنسان بعد موته ، ونشور الكون بعد انعدامه ، وإنّما ذكرت البراهين الدالة على وجود اللّه وخالقيته كمقدمة لإثبات إمكان إعادة الخلق بعد الموت.

لأنّنا حيث نعلم أنّ الفاعل والمدبّر لهذه الظواهر الكونية هو اللّه القادر فلماذا ننكر إمكانية المعاد الإنساني ؟!

ص: 172

وبتعبير القرآن :

( وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ) (1).

فالآية تقول :

الآن وأنتم ترون آثار تلك القدرة الإلهية ظاهرة في عالم الخلق ساطعة في دنيا الطبيعة ، فلم تستبعدون قدرته على إحياء الموتى وإعادة الكون والإنسان يوم القيامة ولماذا تنكرون المعاد ؟

وعلى كل حال لو كان مبدأ البرهان في هذه الآيات أنّ هذه الأشياء كانت فاقدة الوجود من ذي قبل ، ولذلك فهي محتاجة في اتصافها بالوجود إلى علة فالآيات حينئذ ، ناظرة إلى « برهان الإمكان ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التنبيه إلى النظام السائد في هذه الأشياء ، فإنّ البرهان المشار إليه هنا هو « برهان النظم ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التركيز على سبق العدم على وجود الأشياء ، فهو يعتمد على الاستدلال بالحدوث على وجود المحدث.

ص: 173


1- الواقعة : 62.

التوحيد الاستدلالي : البرهان التاسع

اشارة

بطلان المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات

اجتماع شرائط الحياة على النسق الموجود يبطل نظرية المصادفة

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ * وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ * وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1).

في هذه الآية يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة ، وعشرات بل مئات وآلاف العوامل الخفيّة والبارزة التي ساعدت على وجود ظاهرة الحياة على هذا الكوكب الترابي ، وكأنّها تقول : هل يمكن اجتماع كل هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة ، ودون وجود خالق هو الذي أوجدها ورتّبها ونظمها ، فحدثت ظاهرة الحياة على الصورة الموجودة ؟

وبهذا كما يمكن أن تكون هذه الآية دليلاً على وجود الصانع الخالق من

ص: 174


1- البقرة : 164.

باب دلالة النظام على المنظم ، كذلك يمكن أن تكون دلالتها على ذلك من باب بطلان نظرية المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات.

ويجدر بالذكر أنّ برهان محاسبة الاحتمالات وبطلان فرضية المصادفة من الأدلة الحديثة التي توصّل إليها العلماء الغربيون المعاصرون ، وبلورهما العالم المعروف كريسي موريسون صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي كتبه خصيصاً لإبطال نظرية المصادفة ، تلك النظرية التي تمسّك بها بعض الملحدين لإنكار وجود الخالق.

ولأجل أن نعرف معنى المصادفة ، وكيفية بطلانها علميّاً وحسابيّاً لابد أن نعطي شرحاً لذلك ثم نشير إلى بعض الأدلة التي أشار إليها العلامة السالف الذكر ، وغيره من العلماء في هذا المجال.

ما هو المقصود من المصادفة ؟

ليس المقصود من المصادفة هو بروز حادثة وظاهرة معينة دون علّة خارجية ، لأنّ هذا التفسير للتصادف يتنافى مع قانون العلية الذي يقرّ به ويعترف كل العلماء في العالم ، فليس بين العلماء والفلاسفة من ينكر قانون العلية هذا ، اللّهم إلاّ « هيوم » الفيلسوف الانجليزي المعروف ، على أنّه إنّما أنكر هذا القانون الكلّي لأجل أنّه أراد أن يثبته عن طريق التجربة ، وكان يرى التجربة أعجز من أن تثبت أصالة لهذا القانون.

أمّا لماذا كان يرى أنّ التجربة أعجز من أن تثبت ذلك فلسنا بصدده الآن. ولو كان هيوم مطّلعاً على القوانين والمقدمات الفلسفية لهذا الأصل ، لما كان يحدث له أي شك في ذلك.

ص: 175

إنّما المقصود من المصادفة - عند الماديين وفي منطقهم - هو أن تتسبب سلسلة من التفاعلات الطويلة والحركات المتتالية في ظهور ظاهرة أو ظواهر منظمة ، دون أن يكون وراء ذلك أيُّ تخطيط وأيّة محاسبة ، ودون أن يكون وراء ذلك أيُّ موجد منظم ومخطط ، كأن يلعب طفل بآلة كاتبة - طويلاً - حتى تظهر قصيدة منظمة ، أو تنحدر صخرة وتسقط عدة مرّات من فوق جبل ، وتتحول فجأة - وبعد اصطدامها المكرر بالصخور - إلى تمثال إنسان معين ، وهكذا.

هذا هو رأي الماديين حول وجود الكون وظهور النظام الكوني ، ولكن برهان محاسبة الاحتمالات الذي سندرسه في هذا الفصل يبطل وجود الكون المنظم عن طريق المصادفة ، وإليك توضيح ذلك.

ظاهرة الحياة

سواء اعتبرنا الحياة ظاهرة مادية مائة بالمائة وأثراً كيمياوياً لتفاعلات المادة ، أم اعتبرناها ظاهرة مجرّدة ، فإنّه لابد من الإذعان - حتماً - بأن تحقّق الحياة في هذه الكرة أو في غيرها من الكرات يحتاج إلى عوامل وشرائط كثيرة ، حتى يتسنّى أنّ تتحقق الحياة على الأرض بسببها ، ومن المعلوم أنّ اجتماع هذه الشرائط والعوامل الكثيرة ، بمحض المصادفة بعيد إلى درجة أنّه لا يمكن عدّه في عداد الاحتمالات المعقولة ، والعقلائية.

وعندما يلزم ، لتحقق ظاهرة مادية من الظواهر ، توفر عوامل متعددة فإنّ كل عامل من هذه العوامل سيكون جزءاً من العلة ، يستوجب وجوده وجود الظاهرة ، وفقدانه فقدانها ، قطعاً.

وبالنسبة إلى ظاهرة الحياة فإنّ عدد العوامل والظروف الموجبة لتحققها على

ص: 176

الأرض من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحيط بها فكر البشر ، وبحيث إنّ احتمال اجتماعها عن طريق التصادف ما هو إلاّ احتمال واحد من بين مليارد من الاحتمالات ، ومن غير الممكن لعاقل أن يعتمد في تفسير وجود الظاهرة على مثل هذا الاحتمال من بين ذلك الركام الهائل من الاحتمالات ، والفروض.

ولهذا يقول العالم الكندي المتخصص في الطبيعة البيولوجية حول نظرية المصادفة :

« إنّ ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة » (1).

كما لهذا السبب أيضاً قال العالم الجليل : « كريسي موريسون » في كتابه : « العلم يدعو للإيمان » :

« إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة » (2).

وقال في موضع آخر من نفس الكتاب :

« إنّ للحياة فوق أرضنا هذه شروطاً جوهرية عديدة بحيث يصبح من المحال حسابياً أن تتوافر كلّها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت » (3).

ثم يضرب العالم المذكور مثلاً لذلك بالغازات التي نستنشقها ونتنفسها

ص: 177


1- راجع « اللّه يتجلّى في عصر العلم » : 5 ، مقال : هل العالم مصادفة ؟
2- العلم يدعو للإيمان : 195.
3- المصدر السابق : 24.

قائلاً :

« إنّ الاوكسجين والهيدروجين وثاني أوكسيد الكاربون والكاربون سواء أكانت منعزلة أم على علاقاتها المختلفة - بعضها مع بعض - هي العناصر البيولوجية الرئيسية وهي عين الأساس الذي تقوم عليه الحياة. غير أنّه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين ، تقضي بأن تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد ، بتلك النسب الصحيحة اللازمة للحياة ! وليس لدى العلم إيضاح لهذه الحقائق.

أمّا القول بأنّ ذلك نتيجة المصادفة فهو قول يتحدّى العلوم الرياضية » (1).

ولكي يتضح هذا البحث نشير إلى بعض هذه الظروف والشرائط التي يكون لكل واحد منها دور مهمّ ومؤثر في نشأة الحياة واستمرارها على هذا الكوكب الترابي ، بحيث لو فقد لانتفت هذه الحياة ، ولامتنع وجودها بالمرة.

1. يحيط بالكرة الأرضية غلاف جوّي غليظ من الغازات يقدر العلماء ضخامته ب « 800 » كيلومتر ، وهو بمثابة ترس واق يحفظ سكان هذه الكرة من خطر عشرين مليوناً من الشهب القاتلة والصخور الفضائية المتناثرة كل يوم في الفضاء والتي يبلغ سرعة الواحد منها 50 كيلومتراً في الثانية ، حيث يحول هذا الغلاف دون وصول تلك الصخور إلى الأرض.

ولو كان هذا الغلاف الواقي أرق وألطف مما هو عليه لاخترقت النيازك - كل يوم - غلاف الأرض الجوي الخارجي ، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها.

ص: 178


1- المصدر السابق : 73.

فهذه النيازك والصخور الفضائية الطائرة في الجو تواصل رحلتها بسرعة 6 إلى 40 ميلاً في الثانية ، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنّها ستحرق كل شيء تصطدم به وتحدث فيه انفجاراً هائلاً.

ولو كان سرعتها أقل من ذلك ، أي كان بسرعة رصاصة ، وكانت تصل كلّها إلى الأرض ، لأحدثت فيها خراباً لا يتحمل ، وحولتها إلى غربال.

إنّ للغلاف الهوائي للأرض - مضافاً إلى الخاصية المذكورة - دوراً آخر وهو حفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة.

2. انّ الماء لهو من عوامل الحياة على وجه الأرض ، فلكي تستمر الحياة في المحيطات والبحار والأنهر ، خلال فصول الشتاء الطويلة فقد خلق هذا العنصر الحياتي وهذه المادة الحيوية بشكل خاص بحيث ينجمد إذا بلغت درجة الحرارة ما يقارب الصفر ، وبذلك يحدث ويوجد غطاء يمنع من خروج الحرارة من داخل المياه ، ونتيجة لذلك تبقى المياه في أعماق البحار والأنهر وما شابه على حالة السيولة والميعان ، إذ في غير هذه الصورة لا يعني إلاّ أن تنجمد مياه المحيطات والبحار والأنهر ويستحيل على أثر ذلك بقاء الحياة والأحياء.

ولا يخفى أنّ وزن الثلج ، الخاص به يساعد على ذلك ، إذ من البيّن أنّ وزن الثلج أخف من الماء السائل ، ولذلك يطفو الماء المنجمد على السطح ولا ينزل إلى الأعماق.

3. انّ الأرض هي أيضاً من عناصر الحياة ومقوّماتها كالماء تماماً ، فهي تحتوي على مواد معدنية خاصة ، تجذبها وتمتصها النباتات وتصنع منها الأغذية التي تحتاج إليها الحيوانات.

ص: 179

إنّ وجود المعادن والفلزات في باطن الأرض وعلى مسافة قريبة من متناول أيدي البشر هو سبب ظهور وجوه متنوعة من الحضارات الإنسانية والتي من أبرزها الحضارة التكنولوجية التي نعاصرها.

4. لقد خلقت الأرض بجاذبية خاصة وعلى قطر خاص بحيث تجذب بها المياه والهواء نحو مركزها وتحافظ عليها.

فلو أنّ قطر الأرض كان ربع قطرها الفعلي لعجزت جاذبيتها عن الاحتفاظ بالماء والهواء على سطحها ولارتفعت درجة الحرارة إلى حد الموت.

ولو أنّ الأرض بعدت عن الشمس بمقدار ضعف ما هي عليه الآن لانخفضت درجة حرارتها ( أي حرارة الأرض ) إلى ربع حرارتها الحالية ، ولتضاعف طول مدة الشتاء فيها ، ولانجمدت كل الأحياء فيها.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال ، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.

فهل يمكن - ترى - أن تكون كل هذه الشرائط والعوامل قد اجتمعت واتفقت وجعلت الحياة ممكنة ، عن طريق التصادف في حين أنّ الاجتماع التصادفي لها كان من الممكن أن يؤول إلى آلاف الصور الأُخرى وتجعل الحياة في المآل غير ممكنة.

محاسبة أُخرى

تدور الأرض حول نفسها في كل 24 ساعة دورة واحدة ، وهي في دورتها

ص: 180

هذه تسير بسرعة ألف ميل في الساعة.

فلو تناقص ذلك أي بلغ مقدار سرعتها مائة ميل في الساعة مثلاً ، لتضاعف طول الليالي والأيام إلى عشرة أضعاف ما هي عليه الآن ، ولأحرقت شمس الصيف بحرارتها الملتهبة كل النباتات في الأيام الطويلة ، ولجمدت برودة الليالي الطويلة من جانب آخر كل البراعم والنبتات الصغيرة ، وتلفت.

ولو أنّ شعاع الشمس الواصل إلى الأرض تناقص إلى درجة النصف مما هو عليه الآن لهلكت جميع أحياء الأرض من فرط البرد.

ولو تضاعف هذا المقدار لمات كل نبت بل لماتت نطفة الحياة وهي في بطن الأرض.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والقمر إلى خمسين ألف ميل بدلاً من المسافة الشاسعة الحاضرة (1) لبلغ المد والجزر من القوة بحيث إنّ جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها ، وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب.

وإذا فرضنا أنّ القارات قد اكتسحها الماء فإنّ معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف ميل ، وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلاّ في أعماق المحيط السحيقة بصورة حيوانات تتغذى على نفسها وتفنى بالتدريج ويؤول نسلها إلى الانقراض.

5. انّ الهواء المحيط بالأرض سميك بالقدر اللازم لمرور الأشعة الكونية

ص: 181


1- المسافة الفعلية بين القمر والأرض هي 000/240 ميل.

ذات التأثير الكيمياوي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات دون أن تضر بالإنسان ، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ومعظمها سام ، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان.

إنّ الهواء الذي نستنشقه مكون من غازات مختلفة ، فنسبة النتروجين الموجود فيه هي 78% في حين تكون نسبة الاوكسجين فيه 21% تقريباً ويتألف 1% من بقية الغازات الأُخرى.

فلو كان الأُوكسجين بنسبة 50% مثلاً ، لأصبحت جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم عرضة للاشتعال لدرجة أنّ أوّل شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة.

فهل يمكن لعاقل منصف وهو يرى ويواجه مثل هذه المحاسبات الدقيقة والتي لم نشر إلاّ إلى جزء يسير جداً منها ، أن يقول بأنّها وليدة المصادفة العمياء ، وانّ انفجار المادة الأُولى ، والذي كان يمكن أن ينتهي إلى آلاف الصور غير الصورة الفعلية ، انتهى إلى الصورة الفعلية بمحض المصادفة ؟!!

كيف يمكن القول بأنّ هذه العوامل والعلل وغيرها من الظروف التي تؤلّف قوام الحياة وأركانها قد ظهرت فجأة ومصادفة على وجه هذه الأرض في زمان واحد دون مداخلة عقل قادر وإرادة حكيمة ، بل كانت العوامل - هي بنفسها من حيث الكمية والكيفية - بحيث أوجد اجتماعها هذه الحياة المعقدة ؟!!

يقول البروفيسور ايدوين كوبكلين :

« إنّ القول بأنّ الحياة وجدت نتيجة « حادث اتفاقي تصادفي » شبيه في مغزاه

ص: 182

بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار تصادفي يقع في مطبعة » (1).

برهان رياضي لإبطال المصادفة

إنّ العلماء لم يهملوا حساب احتمال وجود الشيء عن طريق المصادفة ، فها هو العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون يضرب لنا مثلاً لهذا في كتابه الذي أشرنا إليه فيقول :

« لو تناولت عشر قطع ، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطاً جيداً ثم حاولت أن تخرج منها الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرة أُخرى.

فإمكان أن تتناول القطعة رقم (1) في المحاولة الأُولى هو واحد على عشرة ، وإمكان أن تتناول القطعة رقم (1) و (2) متتابعين هو بنسبة واحد على مائة ، وفرصة سحب القطع التي عليها أرقام (1 و 2 و 3) متتالية هي بنسبة واحد على ألف ، وفرصة سحب (1 و 2 و 3 و 4) متوالية هي بنسبة واحد على عشرة آلاف ، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب القطع بترتيبها الأوّل من 1 إلى 10 هي بنسبة واحد من عشرة بلايين محاولة (2).

مثال آخر

لنفترض أنّ معك كيساً يحوي مائة قطعة رخام تسع وتسعون منها سوداء وواحدة بيضاء والآن هز الكيس وخذ منه واحدة ، انّ فرصة سحب القطعة

ص: 183


1- راجع « اللّه يتجلّى في عصر العلم » : 72.
2- العلم يدعو للإيمان : 51.

البيضاء هي بنسبة واحدة إلى مائة ، والآن أعد الرخام إلى الكيس ، وابدأ من جديد ، انّ فرصة سحب القطعة البيضاء لا تزال بنسبة واحدة إلى مائة ، غير أنّ فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف ( المائة مضاعفة مرة ).

والآن جرب مرة ثالثة انّ فرصة سحب تلك القطعة البيضاء ثلاث مرات متوالية هي بنسبة مائة مرة عشرة آلاف أي بنسبة واحد من المليون ، وهكذا.

ولنعد الآن إلى أصل البحث فنقول :

لابد لتحقق « ظاهرة الحياة » من توفر عوامل لا تحصى حيث لو فقد أحدها لامتنعت الحياة ولصارت مستحيلة وغير ممكنة ، والآن لنحاسب :

أليس القول بأنّ انفجار المادة الأُولى وبصورة منتظمة تحتوي على كل الشروط والعوامل اللازمة للحياة ، إلاّ أنّه انتخاب احتمال واحد من ملياردات من الاحتمالات ، لأنّه كان من الممكن للمادة الأُولى - أثر الانفجار المذكور - أن تنتهي إلى واحدة من ملياردات الصور الأُخرى من جهة الكم والكيف ، وتبقى من بين تلك الصور الكثيرة صورة واحدة تضمن ظهور الحياة وبقاءها ، وهو الاحتمال المطلوب الذي توفرت فيه الشروط المساعدة للحياة والنظم والترتيب اللازمان ، وأمّا بقية الصورة فلا تصلح لظهور الحياة وبقائها.

إنّ احتمال أن يتحقق خصوص هذا الفرض وهذه الصورة - عقيب الانفجار التصادفي - من بين تلك المحتملات التي لا تعد ولا تحصى لهو ترجيح احتمال في مقابل احتمالات كثيرة ، لا يمكن أن يقع موضع القبول لدى عاقل.

إنّ الآية التي ذكرناها في مطلع هذا الفصل يمكن أن تكون ناظرة إلى مثل

ص: 184

هذا الاستدلال ، أعني : عدم إمكان توفر كل الشروط والعوامل اللازمة للحياة من باب المصادفة.

فإنّ قوله تعالى :

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ * وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ * وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1).

إنّ قول اللّه هذا - مضافاً إلى كونه مشيراً إلى « برهان النظم » يمكن أن يكون تلويحاً إلى عوامل استقرار الحياة على الأرض ، ومذكراً للعقول بأنّه لا يمكن أن تجتمع كل هذه العوامل - مع ما فيها من المحاسبات العلمية الدقيقة - عن طريق المصادفة ومن باب « المصادفة العمياء » دون أن يتدخل في ذلك تدبير « مدبّر عاقل حكيم » ودون أن يكون قد جمعها - على هذا النسق المطلوب المناسب لظاهرة الحياة - « إله خالق » عارف بالأُمور ، محيط بالمحاسبات والسنن.

كما يمكن أن تكون بعض الآيات الأُخر مشيرة إلى هذا البرهان مثل قوله تعالى :

( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَهَا ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأجَل مُسَمّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (2).

ص: 185


1- البقرة : 164.
2- الرعد : 2.

وقوله تعالى :

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغشِي الَّليلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

فإنّ كثيراً من العلل والعوامل اللازمة لنشوء ظاهرة الحياة قد ذكرت في هذه الآيات ، فهل يمكن أو هل من المعقول والمقبول أنّ كل هذه الشرائط والعوامل اجتمعت دفعة واحدة ودون مخطط سابق ، بل مصادفة ، وأوجدت ظاهرة الحياة على وجه الأرض بنحو اتفاقي تصادفي ؟!!

ص: 186


1- الرعد : 3.

التوحيد الاستدلالي : البرهان العاشر

اشارة

الآيات الآفاقية والأنفسية

دلائل وجود اللّه في الآفاق والأنفس

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللّه ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ ) (1).

لقد جرت العادة - في الكتب الفلسفية (2) والكلامية - أن يستدل بالآية الثانية على المسائل التوحيدية ( أعم من إثبات وجود اللّه ، أو توحيد ذاته ، وصفاته ) ، وجرت عادة الخطباء كذلك على الاستشهاد بها عند تعرضهم لمباحث التوحيد ومسائله.

لأجل هذا يلزم أن نعرف هنا هدف هذه الآية.

فإن كانت الآية الثانية مرتبطة في مفادها بالآية الأُولى ، واعتبرنا السياق ، فإنّ الآية تكون حينئذ في مقام بيان مطلب آخر ليس له كثير ارتباط بالتوحيد ، إلاّ من بعيد.

ص: 187


1- فصلت : 53 - 54.
2- الإشارات : 3 / 66 ، الأسفار : 6 / 26.

توضيح ذلك أنّ محور الحديث في الآية الأُولى هو : القرآن ، وضمير « كان » عائد إلى القرآن إذ يقول تعالى :

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ ( القرآن ) مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) .

وبناء على هذا يجب أن يكون الضمير في الآية الثانية في قوله : ( أَنَّهُ الحَقُّ ) عائداً إلى القرآن ، هذا لو اعتبرنا الآيتين مرتبطتين مفاداً ومتحدتين سياقاً فيكون ملخص الآية الثانية هو : أنّ الآيات الآفاقية والأنفسية التي سيريها اللّه للبشر خير دليل على صدق جميع ما يحتويه القرآن ، لا خصوص « وجود اللّه » أو خصوص « توحيده الذاتي ».

ومعنى ذلك أنّ الآية تعني : أنّ اللّه سيثبت صدق ما جاء به القرآن بنحو كلي من خلال ما سوف يريه الباري سبحانه من الآيات الآفاقية والأنفسية المرتبطة ببيئة المشركين ، والآيات الموجودة في أنفسهم.

إنّ توسّع الإسلام التدريجي في شبه الجزيرة العربية ، وتهافت قلعة الشرك والوثنية على أيدي المؤمنين الموحدين ، وقيام دولة التوحيد في تلكم الربوع ، لهي بجملتها سلسلة من الآيات الآفاقية التي أخبرها بها القرآن ، والتي تثبت مصادفة.

أفليست الآيات القرآنية حملت سلسلة من البشائر والوعود والتنبّؤات التي صرح فيها بوقوع تلك الوعود في المستقبل القريب ، ومنها إخبار القرآن باستقرار حكم اللّه على الأرض بأيدي الموحدين المسلمين والذين آمنوا ، إذ يقول :

( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرضِ ) (1).

ص: 188


1- النور : 55.

إذن يجب علينا أن ننظر كيف عمل اللّه بوعده في استخلاف المؤمنين.

إنّ انتشار الإسلام وتوسعه في عهد النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وبعده لهو أحد تلك الوعود ، والبشائر التي تحقّّقت ، وهو بالتالي إحدى الآيات الآفاقية الدالة على صدق أخبار القرآن الغيبية المستقبلية.

كما أنّ هلاك صناديد قريش وأقطابها وزعمائها في بدر وأحد والأحزاب واندحار النظام الكسروي والقيصري هي الأُخرى من الآيات الأنفسية الشاهدة على صدق أخبار القرآن ومغيّباته.

وبعد تحقّق هذين النوعين من الآيات والعلامات يجب أن لا يشك أحد في صحة القرآن الكريم وصدقه ، لصدق تنبّؤاته ، وصحة دعاويه.

لقد ذكر اللّه تعالى في ذيل الآية الثانية بواحد من أهم أُسس الدعوة القرآنية ، ألا وهو حضور اللّه في كل مكان وشهادته على كل شيء دون استثناء أو أنّ جميع الأشياء تراه وتشهده ، إذ قال :

( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) .

وعندئذ - أي وفق النظرية التي ذكرناها - لا تكون الآية الثانية ناظرة إلى الاستدلال على وجود اللّه سبحانه عن طريق الآيات الآفاقية والأنفسية ، بل تكون ناظرة إلى صحة دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله لتحقّق أخباره.

وهذا التفسير - كما قلنا - إنّما يكون وجيهاً ومقبولاً إذا ربطنا بين الآيتين وحافظنا على وحدة السياق بينهما.

وأمّا إذا درسنا الآية الثانية بقطع النظر عن الآية المتقدمة عليها ، أو احتملنا نزول الآية الثانية مرتين : مرة مع الآية الأُولى وبصحبتها ، وأُخرى منفردة وبصورة

ص: 189

مستقلة.

ففي هذه الحالة ( أي في حالة نزولها منفردة مستقلة ) يمكن أن تكون ناظرة إلى دلائل وجود اللّه في الآفاق والأنفس ويكون ذيلها إشارة إلى برهان ثالث.

وحينئذ يكون مرجع الضمير في قوله ( أَنَّهُ الحَقُّ ) هو : اللّه تعالى ، نفسه.

على أنّ ذيل الآية ، أعني قوله تعالى : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ، أنسب مع هذا التفسير.

توضيح الاستدلال

إنّ جميع الأنظمة البديعة الحاكمة على عالم الكون ، والسنن السائدة على النجوم ، ثابتتها وسيارتها ، والأنواع المختلفة من الموجودات التي تعيش على الأرض.

كل ذلك من الدلائل والآيات الآفاقية على وجود اللّه تعالى.

كما أنّ الأنظمة العجيبة المعقدة الحاكمة في وجود البشر وتكوينه وخلقته منذ نشوئه في رحم الأُم حتى موته أدلة وآيات أنفسية على وجود اللّه سبحانه.

والنظر إلى هذه الدلائل والآيات في الآفاق والأنفس يقود كل عاقل منصف إلى الإذعان بوجود اللّه ، والاعتراف به.

وهذا هو ما تقصده الآية المطروحة هنا.

إلى هنا تم الاستدلال بصدر الآية على وجوده سبحانه عن طريق آياته الآفاقية ، الأنفسية ، وبقي الكلام في ذيل الآية ، أعني قوله : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ، فيمكن أن يكون إشارة إلى برهان آخر تسمّيه الفلاسفة ببرهان « الصديقين » وننقل كلاماً لابن سينا في المقام.

ص: 190

كلام ابن سينا

لقد قسّم ابن سينا في كتابه « الإشارات » وهو آخر مؤلفاته الفلسفية مضمون هذه الآية الثانية إلى قسمين :

القسم الأوّل قوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفُسِهِمْ ) فيقول فيه ما حاصله : أنّها تعني انّنا سنهتدي من وجود آيات اللّه في الكون والأنفس إلى وجود اللّه ، فهو ينطوي على البرهان « الإنّي » وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلة كما نستدل بنزول المطر وصوت الرعد والبرق على وجود السحب الداكنة (1).

القسم الثاني من الآية وهو قوله : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ ) ، ففي هذا القسم نكون قد توصلنا عن طريق شهود اللّه إلى معرفة صفاته ، ومن معرفة صفاته إلى أنّ له خلقاً ومخلوقات بهذه الصفة أو تلك (2).

ص: 191


1- ومما يجب التنبيه عليه هو أنّ الشيخ الرئيس قال في كتاب البرهان في منطق الشفاء : إنّ البرهان الإنّي مما لا يفيد اليقين ، وهو ما كان السلوك فيه من المعلول إلى العلّة لتوقف العلم بوجود المعلول على العلم بوجود العلة فلو عكس لدار. وأمّا الاستدلال من الآيات الآفاقية والأنفسية علی وجوده سبحانه وصفاته فعلی وجه آخر لا يسع المقام لبيانه.
2- والاستدلال فيه ليس لمّياً وهو الذي يسلك فيه من العلة إلى المعلول ، إذ ليس الواجب عز شأنه معلولاً ولا إنّياً ، وهو ما يسلك فيه من المعلول إلى العلة أو يتناسب مع السلوك من الآيات الآفاقية والأنفسية إلى خالقها ، بل هو نوع آخر شبيه بالاستدلال من بعض اللوازم على بعضها ، وهذا واضح خصوصاً إذا قررنا البرهان على الطريقة الصدرائية ، إذ فيها يسلك من كون الوجود حقيقة ثابتة بذاتها ، على كونه واجباً لذاته. وإن شئت فسمّه برهاناً انياً تحفظاً علی حضر البرهان في اللم والإن كما عليه سيدنا الأستاذ العلامة الطباطبائي -دام ظله- في تعليقاته علی الأسفار: 29/6.

وهذا النوع من الاستدلال هو استدلال الصدّيقين ، الذي يبدأ بحثه ودراسته في الوجود ، فمنه إليه سبحانه وإلى صفاته وأفعاله ، ثم يختمه في الكائنات ، وسوف نشير في الفصل التالي إلى « برهان الصدِّيقين » على الطريقة السينائية (1).

واكتفاؤنا ببيان هذا البرهان على الطريقة السينائية فحسب ، لأنّ بيانها حسب الطريقة الصدرائية يحتاج إلى ذكر مقدمات خارجة عن هدف هذا الكتاب.

ثم إنّ الحكيم الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي - دام ظله - قد قرر هذا البرهان بوجه رائع ، ربما يكون أفضل مما قرره « صدر المتألّهين » ، فمن أراد أن يقف على تقريره ، فليراجع تعاليقه على « الأسفار » (2) ، وكتابه القيم : « أُصول الفلسفة » (3).

ص: 192


1- ومن أراد أن يقف على تقرير صدر المتألهين فليراجع الأسفار : 6 / 14 - 18 ، والمظاهر الإلهية : 10 ، والمشاعر : 68.
2- الأسفار : 6 / 14 - 15.
3- أُصول الفلسفة : 5 / 277.

التوحيد الاستدلالي : البرهان الحادي عشر

اشارة

برهان الصدّيقين

معرفة اللّه عن طريق معرفة الوجود

يعتقد الفلاسفة المسلمون أنّ بعض الآيات القرآنية ناظرة إلى برهان خاص هو ما اصطلحوا عليه ببرهان الصدّيقين.

وقد تصدّى لتقرير هذا البرهان قطبان من أقطاب العلوم العقلية هما :

1. الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب « الإشارات » (1) حيث ذكر هذا البرهان مع مقدماته في ذلك الكتاب في عدة فصول.

وقد أورد المحقّق نصير الدين الطوسي في كتابه الكلامي الشهير المسمّى ب « تجريد الاعتقاد » هذا البرهان باختصار ، وقد تصدى العلاّمة الحلي شارح الكتاب المذكور ، لشرحه وبيانه.

وإليك نص البرهان كما جاء في تجريد الاعتقاد حيث قال المحقّق الطوسي : « الوجود ، إن كان واجباً فهو المطلوب ، وإلاّ استلزمه لاستحالة الدور والتسلسل » (2).

ص: 193


1- 2 / 18 - 28 الطبعة الجديدة.
2- تجريد الاعتقاد : 172 ، طبعة صيدا.

2. صدر المتألّهين مؤلف الأسفار الأربعة ، فقد بيّن هذا البرهان بنحو آخر لا يحتاج إلى أية مقدمات كإبطال « الدور والتسلسل » ثم عد هذا البرهان أفضل البراهين لمعرفة المبدأ تعالى شأنه.

وبهذا الطريق حدثت نقطة عطف في مسألة معرفة اللّه والطريق إلى ذلك.

وسنكتفي هنا بعرض ذلك البرهان وبيانه وتوضيحه على الطريقة السينائية فحسب للسبب الذي ذكرناه في خاتمة الفصل السابق ، موكلين بيان هذا البرهان حسب الطريقة الصدرائية إلى موضع ووقت آخرين.

لقد جاء في كلا التقريرين ( السينائي والصدرائي ) أنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية ناظرة إلى هذا البرهان ، وإليك الآيات المذكورة :

( اللّهُ نُورُ السَّماوَاتِ والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّه لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ واللّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ) (1).

( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2).

( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (3).

هذا ويمكن أن تكون هناك آيات أُخرى على هذا الصعيد ، وها نحن نذكر

ص: 194


1- النور : 35.
2- فصلت : 53.
3- آل عمران : 18.

البرهان على الطريقة السينائية :

حاصل البرهان - على ما لخصه صدر المتألّهين - : انّ الموجود ينقسم بحسب المفهوم إلى واجب وممكن ، والممكن لذاته لا يترجّح وجوده على عدمه ، فلابد له من مرجّح من خارج ، وإلاّ ترجحه بذاته ، فكان ترجحّه واجباً بذاته ، فكان واجب الوجود بذاته وقد فرض ممكناً ، وكذا في جانب العدم فكان ممتنعاً وقد فرض ممكناً وهذا خلف ، فواجب الوجود لابد من وجوده.

وبما انّ الموجودات حاصلة فإن كان شيء منها واجباً فقد وقع الاعتراف بالواجب ، وإلاّ وقع الانتهاء إليه لبطلان ذهاب السلسلة إلى غير نهاية ، وبطلان عودها إلى بدئها لكونه مستلزماً للدور وهو باطل لاستلزامه تقدم الشيء على نفسهوذلك ضروري البطلان فلم يبق إلاّ الانتهاء إلى الواجب لذاته وهو المطلوب ، وهذا المسلك أقرب المسالك إلى منهج الصدِّيقين ، وليس بذلك كما زعم (1).

وأمّا تفصيل البرهان :

1. لا ريب انّ وراء ذهننا ، وتصوّراتنا وجوداً خارجياً ، وواقعاً غير قابل للإنكار وإنّ ما يتصوّره الإنسان من الصور الذهنية لها مصاديق خارجية ووجوداً عينياً على صعيد الخارج ، وهذا على خلاف ما يتصوره السوفسطائيون من قصر الوجود والواقعية على مجرد (الصور الذهنية) ، وانّه ليس وراء ذهننا أي شيء ، وأية واقعية ، بل هو خيال في خيال.

وهذا الذي قلناه نحن أمر لا ينكره من لديه أقل حظ من الفكر السليم.

ص: 195


1- الأسفار : 6 / 26.

2. الوجود في أي مرتبة من المراتب لا يخلو إمّا أن يكون واجباً أو يكون ممكناً.

وبتعبير آخر : إمّا أن يكون له ضرورة الوجود ويكون وجوده نابعاً من ذاته ونفسه ، أو لا يكون كذلك بل يكون وجوده من غيره ، ولا شق ثالث لهما.

3. كل شيء ليس وجوده من ذاته ومن نفسه ، فإنّه محتاج في تحقّقه ووجوده إلى « علة » تمنحه الوجود.

وهذا الأمر ، أعني : احتياج الممكن إلى العلة من الأُمور البديهية التي لا يشك فيها من له أدنى حظ من العقل.

4. الممكنات لا يمكن أن توجد من سلسلة لا تنتهي من العلل والمعلولات ، لأنّ ذلك يستلزم « التسلسل ».

كما أنّه لا يمكن أن يؤثر كل من الممكنين في الآخر دون واسطة ، أو مع الواسطة فيؤثر كل في الآخر ، ويعطي كل واحد منها الوجود للآخر ، لأنّ نتيجة ذلك هو الدور ، والدور والتسلسل من المحالات العقلية.

هذه هي الأُسس والقواعد التي يقيم عليها ابن سينا برهانه المذكور : « برهان الصدِّيقين ».

وإليك صورة البرهان

لو أمكن أن يشك أحد منّا في شيء ، فإنّه لا يمكنه أن يشك أبداً في أنّ هناك - خارج أذهاننا - واقعاً موجوداً وعالماً كائناً قائماً.

ثم إنّه لا ريب أنّ هذه الموجودات من سماء وأرض وإنسان أو أي شيء

ص: 196

آخر موجود ، أمّا أن يكون وجودها من لدن نفسها (1) بحيث لا تحتاج في تحققها على صعيد الوجود الخارجي إلى غيرها ، بمعنى أنّه لا تكون معلولة لشيء ، بل يكون وجودها نابعاً من ذاتها ، أو تكون على خلاف هذا الفرض.

أمّا في الصورة الأُولى فنكون قد اعترفنا بوجود « موجود واجب » يكون وجوده نابعاً من ذاته غير آت من غيره ... ، موجود يكون علة دون أن يكون معلولاً لشيء ، وغنياً غير فقير ، لا يكون وجوده مكتسباً من شيء أو أحد سواه.

وأمّا في الصورة الثانية التي يكون وجود الأشياء مفاضاً عليها من غيرها فنحن نسأل عن ذلك « الغير » هل وجوده نابع من ذاته ونفسه ، أي أنّه واجب الوجود ؟

فإن كان كذلك ففي هذه الحالة نكون قد اعترفنا بوجود موجود واجب يسمّى في منطق الإلهيين ب : اللّه.

وأمّا إذا كان هذا الموجود الثاني على نمط الموجود الأوّل في كون وجوده غير نابع من ذاته ، وإنّما هو مكتسب من غيره ففي هذه الصورة ننقل السؤال إلى الموجود الثالث ونطرح عليه ما طرحناه على الثاني ، وهكذا.

وهذه السلسلة إمّا أن تتوقف عند نقطة معينة ، أي عند موجود يكون علة غير معلول ويكون وجوده نابعاً من ذاته لا من غيره فهو المطلوب.

وإمّا إذا لم تتوقف هذه السلسلة من العلل والمعاليل عند حد معين في نقطة معينة ف :

ص: 197


1- أي بحيث لا ينفك عنها الوجود ولا تنفك هي عن الوجود ، فعندئذٍ اعترفنا بأنّ في العالم واجب الوجود.

إمّا أن تمضي إلى غير نهاية بحيث يكون كل واحد من هذه الممكنات قد اكتسب الوجود من سابقه فحينئذ يلزم أن يكون العالم سلسلة غير متناهية من العلل والمعاليل ، ومجموعة من الممكنات دون أن تنتهي إلى موجود واجب الوجود ، وهذا هو « التسلسل » الذي سنثبت بطلانه بالأدلة القاطعة والبراهين المحكمة.

وأمّا أن يعود بأن يكون الواقع في المرتبة المتقدمة متأثراً من الواقع في المرتبة المتأخرة ، وذلك هو « الدور » الذي ثبت بطلانه أيضاً.

ونمثل للصورة الأخيرة بما إذا مضت السلسلة إلى عشر حلقات ولكن الحلقة العاشرة تكون قد اكتسبت وجودها من سابقتها ، فهذا هو « الدور ».

والحاصل أنا إذا نظرنا إلى العينية الخارجية المتيقنة لكل إنسان ، فإمّا أن تكون تلك العينية نابعة من ذاتها غير مفاضة من غيرها ، فقد اعترفنا بوجود واجب قائم بنفسه غير متعلق بغيره ، وهذا ما نقصده من « واجب الوجود ».

وإمّا أن يكون ما نتيقنه من العينية الخارجية مفاضة من غيرها وقائمة بغيرها ، فهذا الوجود الثاني إمّا أن يكون مفاضاً من ثالث ، فرابع ، فخامس إلى غير نهاية ، فهذا هو التسلسل الذي سنبرهن على بطلانه ، وإمّا أن يتوقف فعندئذٍ :

إمّا أن يكون وجود المتوقف عليه نابعاً من ذاته ، فهذا هو الواجب سبحانه وإمّا أن يكون وجوده معلولاً لسابقه فهذا هو « الدور ».

وبتعبير ثالث نقول :

الحاصل أنّ صور المسألة لا تخرج من أربع :

1. أمّا أن تكون العينية الخارجية هي الوجود الأزلي النابع من ذاته غير القائم بغيره ، فقد اعترفنا عندئذ بواجب الوجود.

ص: 198

2. وأمّا أن يكون مفاضاً من غيره ، وقائماً بذلك الغير لكن ذلك الغير قائم بنفسه ، فقد اعترفنا بواجب الوجود ، ولكن في الرتبة الثانية.

3. وأمّا أن يكون الثاني قائماً بالثالث فالرابع فالخامس إلى غير نهاية ، فهذا هو « التسلسل » الباطل.

4. وأمّا أن يكون الأوّل قائماً بالثاني والثاني قائماً بالأوّل وهذا هو « الدور » الثابت بطلانه واستحالته.

صفوة القول : إنّ الوجود الخارجي - مع حذف الصور المستلزمة للدور والتسلسل - إمّا أن يكون « الواجب الوجود » إن كان وجوده لذاته ، أو يكون مستلزماً لمثل ذلك « الوجود الواجب » إن كان وجوده مكتسباً من غيره.

هذا هو توضيح البرهان المعروف ببرهان الصدّيقين والذي راح ابن سينا يعتز به ويفتخر بابتكاره ، ويعتقد بأنّه أفضل برهان على وجود « واجب اللّه ».

ففي هذا البرهان - كما لاحظنا - لم يدرس إلاّ الوجود نفسه.

فمطالعة الوجود وحده هي التي تقودنا إلى واجب الوجود.

ويسمى هذا البرهان ببرهان الصديقين للاستدلال فيه باللّه على نفسه ، لا بالغير عليه تعالى ، وهذا هو غاية التصديق.

إذ في هذا البرهان لم يتخذ النظام الكوني أو وجود المصنوعات طريقاً لإثبات الخالق.

ولذلك يقول ابن سينا.

« تأمّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأوّل ووحدانيَّته وبراءته عن الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود ، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً

ص: 199

عليه. لكن هذا أوثق وأشرف ، أي إذا اعتبرنا حال « الموجود » فشهد به الوجود من حيث هو وجود ، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الواجب.

وإلى مثل هذا أُشير في الكتاب الإلهي في قوله سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ) .

أقول : إنّ هذا حكم لقوم ، ثم يقول : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إنّ هذا حكم للصدّيقين الذين يستشهدون به لا عليه (1).

هذا ولإكمال البحث نذكر نقطتين هما :

1. لقد جرى الحديث في البرهان المذكور عن بطلان « الدور والتسلسل » ولابد أن نورد هنا التوضيحات اللازمة لمن لا يعرف شيئاً عن هذين المصطلحين وعلة بطلانهما :

ألف. الدور هو أن نفترض موجودين باسم (أ) و (ب) ونعتبر كلا منهما علة لوجود الآخر.

فعندما نلاحظ (أ) نجد أنّ وجوده متوقف على (ب) بمعنى أنّ (ب) كان موجوداً قبل ذلك ليمكنه أن يوجد (أ).

ثم إذا لاحظنا (ب) نجد أن وجوده متوقف على (أ) بمعنى أنّ (أ) كان موجوداً قبل ذلك ليمكنه ايجاد (ب).

ومن الطبيعي أنّ هذا الفرض باطل قطعاً ، لأنّ معنى هذا الفرض هو أن يكون وجود كل واحد منهما متوقفاً على وجود الآخر ومشروطاً بوجوده بحيث يمتنع وجوده ما لم يتحقق وجود ذلك الآخر ، لأنّ التحقّق السابق لكل واحد منهما

ص: 200


1- الإشارات : 3 / 66.

سبب وشرط لتحقّق الآخر ، وحيث إنّه ليس لأي واحد منهما تحقّق ووجود سابق ، فتكون النتيجة لمثل هذا الاشتراط أن لا يتحقّق وأن لا يوجد أي واحد منهما.

ولأجل التوضيح نضرب المثال التالي :

لنفترض أنّ شخصين يريدان حمل متاع معاً ، ولكن كل واحد منهما يشترط بأن لا يأخذ طرفاً من ذلك المتاع إلاّ إذا أخذ الآخر طرفه قبله ، فمن المعلوم - حينئذ - أنّ هذا المتاع لن يحمل - في النتيجة - أبداً ، لعدم تحقّق شرط أي واحد منهما.

والحقيقة أنّ قضية الدور ليست في جوهرها إلاّ كون وجود كل من الحادثين متوقفاً على الوجود القبلي للآخر ، وحيث إنّه لا وجود قبلي لأي واحد منهما قبل الإيجاد من جانب الآخر ، فلن يوجد أي منهما في المآل.

ب. « التسلسل » ليس إلاّ أن تمضي سلسلة العلل والمعاليل إلى ما لا نهاية ، أي ما لا يصل إلى نقطة واحدة معينة تكون علة للجميع ، دون أن تكون معلولاً لشيء ، ويكون موجوداً غنياً غير فقير.

وهذا الفرض هو أيضاً باطل ومحال بالبيان الذي مر في إبطال « الدور ».

لأنّه على فرض التسلسل ، فإنّ الحادثة الأخيرة تكون معلولة للحادثة السابقة عليها ، والحادثة السابقة تكون معلولة لما قبلها ، وهكذا.

وفي الحقيقة فإنّ الحادثة الأُولى التي نواجهها تكون مشروطة الوجود بالحادثة الثانية التي تسبقها والحادثة الثانية تكون متوقفة على الحادثة التي تسبقها ، وهكذا الثالثة على الرابعة ، والرابعة على الخامسة ، وهكذا كلّما نتقدّم فإنّنا لا نقف على موجود غير مشروط بشرط ، بل إنّ هذا الوضع سيستمر إلى ما لا نهاية ، وفي هذه

ص: 201

الحالة فإنّ الحادثة التي نواجهها ليس فقط هي التي لا تتحقق بل ولا تتحقق أية حلقة من هذه السلسلة الطويلة غير المتناهية.

لأنّه لو أُتيح لهذه الحلقات أن تتكلم وتنطق بلسان حالها لقالت الأخيرة : إنّما أتحقّق أنا لو أنّ ما قبلي تحقّق ، وما قبلها تقول : إنّي أتحقّق لو أنّ ما قبلي تحقّق ، وحيث إنّ وجود أية واحدة من هذه الحلقات غير خال عن ال « لو » الشرطية كان معناه عدم تحقّق أي شيء من هذه الحلقات بالمرة ، لأنّنا لن نصل - في هذه السلسلة - إلى حلقة غير مشروطة الوجود بشيء.

فينتج أن لا توجد مثل هذه السلسلة بتاتاً ، اللّهم إلاّ أن يوجد بين حلقات هذه السلسلة ما لا يكون وجوده مشروطاً بشرط أبداً.

فإذا كان هناك مثل هذا الموجود كان معناه حينئذ أنّ هذا الموجود يكون هو « الموجود المطلق » ، أو ما يصطلح عليه ب « الواجب الوجود » ، ومن الطبيعي حينئذ أن ينقطع تصاعد هذه السلسلة ، وينتفي التسلسل.

ولنمثل - لتوضيح هذه الحقيقة - بنفس المثال الذي ضربناه ، أعني : مسألة حمل المتاع.

فلنفترض أنّ الأوّل قال : أنا سأحمل هذا المتاع لو ساعدني عليه الثاني.

وقال الثاني : أنا سأحمله لو ساعدني عليه الثالث.

وقال الثالث : وأنا سأحمله لو ساعدني عليه الرابع.

وهكذا قال الرابع فالخامس فالسادس - مثل ذلك الكلام - إلى ما لا نهاية ، فمن المعلوم أنّ حمل المتاع المذكور لن يتحقّق بالمرّة ما لم يكن في هذه السلسلة من لا يشترط حمل المتاع على شرط.

ص: 202

أمّا إذا تحقّق حمل المتاع المذكور فسنكتشف أنّ هناك - قطعاً - من أقدم على حمل المتاع دون أن يعلّق مساعدته وحمله على شرط.

وبعبارة مختصرة حيث نجد أنّ هذه السلسلة تحقّقت بتحقّق آخر حلقاتها نكتشف وصول هذه السلسلة إلى حد معين ونقطة معينة لم يكن وجودها مشروطاً بشرط ، ولا متوقفاً على شيء ، وهذا هو واجب الوجود والموجود المطلق.

* * *

2. الآيات التي أتينا بها في مطلع هذا الفصل قابلة للتطبيق على هذا البرهان بنحو ما ، إذ لو تمكنا من ملاحظة الوجود نفسه ملاحظة دقيقة أمكن أن نصل إلى اللّه وأمكن أن نعتبر قوله تعالى : ( أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ناظراً إلى هذا المعنى.

أي انّه شاهد على كل شيء حتى نفسه وذاته ، أو مشهود لكل الأشياء عموماً وللإنسان المتفكر في الوجود خصوصاً.

كما أنّه يمكن أن يقال بأنّ شهادة اللّه على وحدانيته (1) على غرار شهادته على وجوده ، لا تعني إلاّ أن نطالع ونلاحظ نفس الوجود لنصل إلى هذه الحقيقة.

إنّ ملاحظة نفس الوجود تشهد على وجود اللّه ، وأما كيف تشهد على وحدانيته ، فسيوافيك بيانه في فصل التوحيد الذاتي.

كما أنّ آية سورة النور ، لو قلنا بقابلية انطباقها على هذا البرهان يكون المقصود من أنّ ( اللّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) حينئذ أنّ وجود اللّه هو واقع هذا العالم ، أو أنّه واهب « الواقعية » للممكنات.

ص: 203


1- اشارة إلى الآية 18 من سورة آل عمران : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ) .

ومطالعة الوجود هي التي توصلنا إلى هذه « الواقعية ».

والحق أن يقال : انّ استخراج مثل هذا المراد من الآية المذكورة أخيراً ما هو إلاّ من قبيل التأويل ، أو اكتشاف بعد من أبعاد القرآن ، الكثيرة لا أنّه تفسير لظاهر الآية.

وعلى كل حال ، سواء أكان تطبيق مفاد الآيات المذكورة على هذا البرهان صحيحاً وصائباً أم كان من قبيل التأويل واكتشاف بعد جديد من أبعاد الآيات فإنّ برهان الصدّيقين - في حد ذاته - وعلى الطريقة السينائية برهان واضح ، وقابل للاعتماد عليه بل وجدير بالاهتمام.

ونأمل أن نعرض الطريقة الصدرائية منه في فرصة أُخرى بإذن اللّه.

ص: 204

التوحيد الاستدلالي : البرهان الثاني عشر

آيات اللّه في عالم الطبيعة

إنّ القرآن الكريم يدعونا إلى التفكّر والتدبّر والنظر في آيات اللّه في عالم الطبيعة والخلق ويعتبر مثل هذا النظر والتفكّر جديراً بأهل الفكر والألباب وأصحاب الضمائر الحية والعقول السليمة (1).

والآيات القرآنية في هذا المجال من الكثرة بحيث لا يمكننا نقل عُشرها في هذه الصفحات القلائل ، ولذلك سنقتصر على إيراد نماذج معدودة منها ، ثم نتحدث عن أهداف هذا القسم من الآيات فيما بعد.

وإليك الآن هذه النماذج التي وعدناك بها :

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (2).

ص: 205


1- ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة : 164 ) ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الرعد : 3 ) ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( إبراهيم : 25 ) ( لأُولِي الألْبَابِ ) ( ص : 43 ).
2- البقرة : 164.

هذه الآية تدعونا إلى التدبّر في أُمور عديدة :

1. النظر في العالم من أرض وسماء واختلاف الليل والنهار.

2. التدبّر في أمر صناعة السفن ، والتدبّر في منافعها الاقتصادية.

3. التفكّر في الكائنات الجوية ، كالرياح والسحاب والمطر ، وعلل تكوّنها.

4. التدبّر في الأحياء والدواب التي تعيش على وجه البسيطة ، والذي يؤلِّف أساس علم الأحياء.

إنّ للتدبّر في هذه الأُمور والأشياء نتائج مهمة ، ويمكن أن يكون منشأ لمعرفة سلسلة من المعارف والعلوم.

فماذا تهدف هذه الآية من دفعنا إلى التدبّر في هذا النظام البديع ؟

هل تهدف إلى أن نهتدي من التدبّر في هذا النظام البديع إلى مبدعه وصانعه ؟

أو أن نتعرّف على صفاته تعالى من هذا السبيل كالقدرة والعلم ؟

أمّ أنّ الهدف هو شيء ثالث وهو : أن نوحّده في العبادة بعد أن وقفنا على أنّه سبحانه هو خالق هذا النظام البديع وتعرفنا على مدى علمه ، فتكون هذه الآية في الحقيقة دعوة إلى « التوحيد العبادي ».

هذه الاحتمالات الثلاثة ليست مطروحة في هذه الآية فحسب ، بل هي مطروحة ومحتملة في كل الآيات التي تشير إلى النظام الكوني والقدرة الإلهية الكبرى في عالم الطبيعة.

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ

ص: 206

فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغشِي الَّليلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

هذه الآية تدعونا إلى التدبّر والنظر في أُمور معينة ، ومن المعلوم أنّ للتدبّر في هذه الأُمور نتائج مختلفة متنوعة :

وأمّا هذه الأُمور فهي :

1. كيف امتدت الأرض واتّسعت ؟

2. كيف ولماذا وجدت الجبال والأنهار في الأرض ؟

3. كيف خلقت الثمار أزواجاً ؟

4. كيف يختلف الليل والنهار ؟

إنّ التدبّر في هذه الأُمور كما يمكن أن يقودنا إلى معرفة وجود اللّه سبحانه ، كذلك يدلّنا على علم اللّه وقدرته ، وكذا على وحدانية مدبّر الكون أيضاً ، ذلك لأنّ وحدة النظام وترابط أجزائه يكشف عن حاكمية إرادة واحدة على عالم الكون ، ولو كان هناك آلهة متعدّدون لتعرض هذا النظام للفوضى والفساد والتبعثر ...

كما أنّ التعرف على مركز القدرة وصاحب التدبير الحقيقي من شأنّه أن يوقظ ضمائرنا ويدفعنا - بالتالي - إلى عبادة هذا الخالق الحقيقي والمدبّر الواقعي للكون دون سواه.

( وَفِي الأرض قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ ) (2).

ص: 207


1- الرعد : 3.
2- الرعد : 4.

هذه الآية تدعونا إلى التدبّر في الأُمور التالية :

1. الأرض رغم كونها متصلة ببعضها ، فإنّ قسماً منها صالح للزراعة ، وقسماً آخر غير صالح للزراعة ، منها الخصب ، ومنها الجدب ، فما هو السبب ؟

2. في كثير من المزارع والبساتين توجد ثمار متنوعة ومختلفة ، من عناقيد العنب وأعذاق التمر ، وسنابل القمح إلى غير ذلك من ألوان الثمر والنباتات.

فلماذا - ترى - هذا التنوّع والاختلاف في الألوان ، والتراب واحد ، والماء واحد ، وأشعة الشمس تتساقط على الجميع بصورة متساوية ، والمنطقة واحدة ، والظروف كذلك واحدة ؟

3. رب ثمار بستان واحد تختلف فيما بينها في النوعية والجودة ، فلماذا ذلك ؟

إنّ التدبّر والنظر والتفكير في هذه الأُمور الثلاثة لا ريب تستتبع نتائج هامة ثلاث :

أ. أنّ هذه المشاهد الجميلة للبساتين التي تمثّل معرضاً طبيعياً لأجمل اللوحات تكشف - ولا ريب - عن وجود صانع وخالق رسم بريشته الخفية هذه النقوش الرائعة الجمال في صفحة هذه البساتين الزاهية المناظر.

ب. أنّ هذه المعارض الجميلة ذات النقوش المتناسقة تكشف - أيضاً - عن علم صانعها وقدرته المطلقة.

ج. أنّ صاحب هذه النقوش البالغة الروعة وهذه المعارض والمشاهد الجميلة هو اللّه فهو الذي أوجد هذه المعارض والنقوش ، فلماذا إذن لا نعبده وحده ، ولماذا نعبد سواه مما لا يكون لا خالقاً ولا مدبّراً.

إنّ الآيات التي تتضمن بيان النظام الكوني البديع والسنن الإلهية في عالم

ص: 208

الطبيعة التي لا تقبل تحويلاً ، وتغيراً ، من الكثرة والوفور بحيث لا يمكن نقلها جميعاً في هذه الصفحات ، ولكنّنا عرّفنا القارئ الكريم على نماذج منها ، ولمزيد الاطّلاع يراجع « المعجم المفهرس » مادة : « آية ».

فمثلاً ذكرت في سورة الروم دلائل وجود اللّه في ست آيات ، وكلها تبدأ بكلمة : ( وَمِنْ آياتِهِ ) ، وإليك فيما يلي هذه الآيات نصاً :

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ والأرض وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِِ بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتهِِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأرض بِأَمْرِه ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرض إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجونَ ) (1).

لا شك أنّ هذه الآيات تتركز - في الأكثر - على إيقاظ الوجدان البشري وتوجيهه إلى صفات اللّه ، والتأكيد على أنّه هو الإله الواحد العالم القادر المدبّر الرحيم.

وقد ذكرت هذه النتائج في ذيل الآيات ، التي تبدأ في القرآن بكلمة ( وَمِنْ آياتِهِ ) . (2)

ص: 209


1- الروم : 20 - 25.
2- راجع المعجم المفهرس.

وفي سورة النحل توجد سلسلة من الآيات التي تشير هي أيضاً إلى جوانب من النظام الكوني العجيب البديع وكيفية انتفاع البشر بها ، وتبدأ هذه الآيات بقوله : ( هُوَ الَّذِي ) :

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذِلَكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكّرونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللّيلَ والنهارَ والشمس والقمر والنجومُ مُسَخَّراتٌ بأمرِهِ إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحَرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَريّاً وتسْتَخْرجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأرضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (1).

ثم يستنتج القرآن من كل ذلك بقوله : ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (2) ، إنّ هذه الآية الأخيرة تكشف عن أنّ الهدف من تلك الآيات هو الدعوة إلى التوحيد « العبادي » ، ولأجل ذلك صدرت الآية الحاضرة بفاء النتيجة ، لأنّ بعض مشركي العرب رغم علمهم بأنّ اللّه هو الخالق والمدبّر للكون ، كانوا يعبدون آلهة مدّعاة مصطنعة ، ولذلك يعني التذكير بمظاهر القدرة الإلهية في عالم الطبيعة ، إيقاظ ضمائرهم الغافلة ، وإثارة عقولهم الغافية ، كيما يتذكروا أنّ العبادة لا تصح إلاّ لله سبحانه دون سواه ، وأنّ ما يعبدون من دونه عاجزون ضعفاء لا

ص: 210


1- النحل : 10 - 16.
2- النحل : 17.

يملكون ضراً ولا نفعاً.

وقد يكون الهدف من التذكير بالنظام الكوني البديع هو التمهيد لطرح موضوع المعاد والحياة الأُخرى ، لكي لا ينكر الإنسان المعاد ، أو لا يستبعد وقوعه بعد وقوفه على مظاهر وآثار القدرة الإلهية في عالم الكون ، إذ صرح سبحانه بهذا الاستنتاج بقوله :

( ... ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعوةً مِنَ الأرض إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) (1).

وعلى هذا الأساس فإنّ الاستدلال بهذه الآيات على وجود اللّه يجب أن يكون بصورة ضمنية لا بصورة أنّه الهدف الأصلي لها ، لأنّه إذا كانت أجزاء هذا الكون ، من صغيرها إلى كبيرها ، من دقيقها إلى جسيمها ، تشهد بثبوت صفة القدرة والعلم لله تعالى ، وإذا تعرفنا من خلالها على جماله وكماله سبحانه ، فإنّ من القطعي البديهي أن تهدينا إلى « أصل وجوده » ، ويثبت لنا ذلك بما لا يقبل الشك ، كما تهدينا إلى أنّه المعبود دون غيره ، وانّه وحده يستحق العبادة.

إنّ الطريق الواضح لمعرفة اللّه والذي يتناسب مع أذهان كل الطبقات هو « البحث حول أنظمة الكون الدقيقة العجيبة البديعة » التي تشهد بلسان حالها على وجوده وتوحيده وسائر صفاته العليا :

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنّه واحد

ص: 211


1- الروم : 25.

التوحيد الاستدلالي - البرهان الثالث عشر

الحيوانات والهداية الإلهية

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1).

من الأدلّة التي يقيمها القرآن الكريم لمعرفة اللّه هي تلك الهداية التي تشمل مخلوقات الكون وأحياءه بحيث تهتدي - بهذه الهداية - إلى طريقها ، وتختار ما يصلحها ، ويناسبها في ظل هذه الهداية الإلهية.

وهذا هو ما أشار إليه النبي موسى بن عمران علیه السلام ، واصفاً اللّه تعالى عندما سأله فرعون عن ربه ؟ فأجابه بالآية السابقة.

فاهتداء الحيوانات - مثلاً - إلى طريقها التي تضمن حياتها وبقاءها دون أن تعرف معلماً أو مدرسة ، أو تتلقّى معلوماتها عن طريق الوراثة أو ما شابه ، أمر يدلّ على وجود هاد يهديها ، ومرشد يوجّهها إلى ما يضمن بقاءها واستمرار وجودها ، ومواصلة السير إلى هدفها دون أن تخطأ.

إنّ « اهتداء » هذه الحيوانات إلى ما يناسب طبيعتها ويوافق خلقتها لا يمكن أن يكون بفعل الوراثة ولا بفعل الغريزة كما يدّعي البعض.

ص: 212


1- طه : 50.

أمّا أنّها لا يمكن أن تكون عن طريق الوراثة ، فلأنّ المعلومات لا يمكن أن تنتقل من أحد إلى أحد من هذا الطريق ، وإلاّ لكان ابن الطبيب طبيباً بالوراثة ، ولكان ابن العالم عالماً بالوراثة حتماً دون أن يتلقّى العلم أو الطب من أحد.

وأمّا أنّ هذه الحيوانات لا تفعل ما تفعل بتأثير الغريزة فقط ، فلأنّ الغريزة لا يمكن أن تخضع للانتخاب والاختيار ، بينما نجد كثيراً من هذه الحيوانات عندما تواجه مفترق طرق متعدّدة تختار إحداها بفعل ما تتلقّاه من الهداية والتوجيه ، وهذه الهداية التي تعين الحيوانات على الانتخاب والاختيار هو ما يسمّى في منطق القرآن بالوحي أو ما سمّاه بعض العلماء ب « الإلهام » (1).

ونمثّل لهذا الأمر بما جاء حول النحل في القرآن الكريم ، إذ يقول :

( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

فحشرة النحل الصانعة لألذ الأشياء وأطيبها ، نعني : العسل ، تبدأ عملها منذ أن تخرج من البيض دون تعب وملل ، وفي ذكاء مفرط ، وانضباطية فائقة.

فتختار - في ذكاء - أفضل وأطيب الزهور وتمتص عصارتها بنحو عجيب ، وتصنع للبشر شهداً من أطيب الشهد.

وتصنع بيوتها سداسية الشكل في نظم لا يخطئ ، وعلى فواصل دقيقة لا تزيد ولا تنقص.

ص: 213


1- راجع كتاب العلم يدعو للإيمان : 116.
2- النحل : 68 - 69.

ويلاحظ أنّها قبل أن تمتص الزهور تقوم بعملية انتخاب وتفتيش عن الزهرة المناسبة لها ، وهذا - كما نرى - لا يصدر إلاّ من موجود ملهم ، موحى إليه ، موجَّه بتوجيه أعلى ، لأنّ في أعمالها ما يتجلّى منه القصد والهدفية ، وهذا من خصائص « الإلهام » ليس إلاّ.

ومن هنا ندرك معنى قوله تعالى :

( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) .

يقول العلامة كريسي موريسون حول عجائب ما تفعله نحلة العسل :

« إنّ العاملات من نحل العسل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية ، وتعد الحجرات الصغيرات للعمال ، والأكبر منها لليعاسيب ( أي الذكر من النحل ) وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل ، والنحلة الملكة تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور وبيضاً مخصباً في الحجرات الصحية المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات.

والعاملات اللائي هي إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد ، تهيّأن أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغيرة بمضغ العسل واللقح ، ومقدمات هضمه ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور الإناث ولا يغذين سوى العسل واللقح ، والإناث اللائي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات فيما بعد.

أمّا الإناث اللائي في حجرات الملكة فإنّ التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر عندهن ، وهؤلاء اللائي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل ، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضاً مخصباً ، وعملية تكرار الإنتاج هذه

ص: 214

تتضمن حجرات خاصة وبيضاً خاصاً ، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء. وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء » (1).

ويقول كريسي موريسون عن النحلة في موضع آخر من كتابه :

« والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل ذلك دليل يرى ، وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ، ولكنه يكمل عتاده القليل منها [ ويصل إلى مقصده ] بأدوات الملاحة » (2).

ومن المعلوم أنّ هذه الأعمال المقصودة الدقيقة التي تقوم بها حشرة النحل دون أن تخطىء أو تضل عن طريقها لو كانت بدافع الغريزة ، وتحت تأثير الجبلة والخلقة لما حسن أن يقول اللّه : ( وَأوحَى ) ، والوحي كما نعلم نوع من التوجيه المباشر الإلهي للمخلوق الحي ، ونوع من الخطاب الصادر من جانب اللّه إلى الموحى إليه.

ويدل على ما قلناه توجيه الخطاب إلى النحل بقوله : اتخذي ، وكلي ، واسلكي.

إنّ ما تفعله هذه الحشرة الذكية وكلّ الحشرات المثيلة لها كالنمل - مثلاً - خير دليل على وجود هاد لها ، يوحي إليها ما يوحي ، ويهديها إلى سبل حياتها.

فها هو القرآن الكريم يتحدث لنا عن النمل في قصة مواجهتها لعرش سليمان بما يكشف لنا عن فطنة هذه الحشرة ، الكاشفة هي بدورها عن « الهداية العليا » التي تحيط هذه الحشرة بالعناية والرعاية.

ص: 215


1- العلم يدعو للإيمان : 114 - 118.
2- العلم يدعو للإيمان : 114 - 118.

فالقرآن يخبرنا أنّ نملة لما شاهدت جنود سليمان وأدركت الخطر نبهت بني جنسها بذلك :

( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (1).

وهي قصة تكشف عن أنّ النملة تدرك بفعل الإلهام الإلهي ما يحيق بها من أخطار فتتحذر منها وتحذر بني نوعها.

ولنلقي نظرة على ما يقوله كريسي موريسون في كتابه المذكور عن النمل :

« والنحل والنمل يبدو أنّها تدرك كيف تنظم وتحكم نفسها ، فلها جنودها وعمالها وعبيدها ويعاسيبها.

إنّ هناك أنواعاً من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير إلى زرع أعشاش للطعام.

والنمل يأسر طوائف من الدود ويسترقها.

وبعض النمل حين يصنع أعشاشه يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب.

كيف يتاح لهذه الحشرة أن تقوم بهذه العمليات المعقدة ؟!

لا شك أنّ هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك (2).

ترى في أية مدرسة وأي معهد تلقّت النمل وغيرها من الحشرات هذه

ص: 216


1- النمل : 18.
2- العلم يدعو للإيمان : 130 - 132.

المعلومات.

ومن أي شخص تعلّمت كيف تعرف الخطر وتشخص البلايا وتحذر منها أبناء نوعها.

أم بماذا يمكن تفسير هذا التمييز والقصد والاختيار الذي تتصف بها تصرفات النمل والنحل وما سواهما من الحشرات ؟

هل ذلك إلاّ بوحي من خالقها وإلهام من بارئها وصانعها ؟

ولكي نقف على المزيد من هذه النماذج التي تدل على وجود الهداية الإلهية والإرشاد الرباني في عالم الحيوانات نقرأ معاً ما يقوله العلاّمة موريسون حول بعض الحيوانات.

فمثلاً يقول موريسون عن سمك « السلمون » :

« إنّ سمكة السلمون التي تسبح في النهر صعداً إذا نقلت إلى نهر آخر ، أدركت تواً أنّه ليس جدولها ، فهي تشق طريقها خلال النهر ، ثم تحيد ضد التيار قاصدة إلى مصيرها.

فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد ؟ » (1).

ويكتب حول بعض الحيوانات التي تسارع إلى تعويض ما فقدته من الأعضاء فيقول :

« وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر الذي إذا فقد مخلباً ، عرف أنّ جزءاً من جسمه قد ضاع وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل

ص: 217


1- المصدر نفسه : 120.

الوراثة ، ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل لأنَّها تعرف بطريقة ما أنّ وقت الراحة قد حان » (1).

ويشير موريسون إلى صفة انطباق الحيوانات مع المحيط والبيئة ، فيقول عن هذه الصفة في مجال الخلايا :

« وقد يمكن السؤال عما إذا كان للخلايا فهم وإدراك أم لا.

وسواء اعتقدنا أنّ الطبيعة قد زودت الخلايا بالغريزة - مهما تكن هذه - أو بقوة التفكير ، أم لم نعتقد ذلك ، فلا مناص لنا من الاعتراف بأنّ الخلايا ترغم على تغيير شكلها وطبيعتها كلها ، لكي تتمشى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه ، وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءاً من اللحم ، أو أن تضحي نفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى ، وعليها أن تضع ميناء الأسنان وأن تنتج السائل الشفاف في العين أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الآذان.

ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أُخرى لازمة لتأدية مهمتها.

ومن العسير أن نتصور أنّ خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى ، ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الإذن اليمنى ، بينما الأُخرى تصبح جزءاً من الأُذن اليسرى » (2).

أليس كل هذا يكشف عن وجود القصد والتمييز في هذه الموجودات

ص: 218


1- المصدر السابق : 124.
2- المصدر السابق : 103.

الحية ؟

وهل هذا إلاّ تفسير قول النبي موسى علیه السلام ، إذ قال : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ؟

يبقى أن نعرف أنّنا نستطيع استنتاج وجود مثل هذا الإلهام والوحي والتوجيه الإلهي الموجّه إلى الحيوانات من قول موسى علیه السلام ، إذ يذكر في كلامه أوّلاً ما يتعلّق بالجانب الخلقي الغريزي في الحيوانات بقوله :

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) .

ثم أشار إلى ذلك الإلهام والوحي الإلهي بقوله :

( ثُمَّ هَدَى ) .

بتقريب أنّ في الفصل بين الجملتين ( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) و ( هَدَى ) ب ( ثُمَّ ) التي هي للعطف المتراخى المتأخّر ، دلالة أدبية على أنّ هذه الهداية لم تخلق مع الحيوانات والحشرات بنحو فطري وجبلي ، بل هي هداية تصل إلى الحشرات عندما تحتاج إلى مثل هذه الهداية وعندما تواجه ما يضطرها إلى مثل هذا التوجيه والإرشاد الربانيّين ، فحينئذ تأتيها هذه الهداية وينزل إليها ذلك الوحي والإلهام.

إنّنا نستطيع أن نكتشف آثار هذه الهداية وهذا الالهام في عالم الحشرات بجلاء ووضوح ، إذا قايسناها بوليد الإنسان الذي لا يعرف شيئاً عندما يولد ، ولا يمكنه أن يقوم بأي عمل إلاّ بعد مدة من التربية والرشد ، وإلاّ بعد فترة من التعلم والدراسة ، وتلقّي المعلومات والمعارف في المدارس والمعاهد ، وإلاّ بعد سلسلة طويلة من التجارب والأخطاء والهفوات.

ص: 219

وخلاصة القول : إنّنا نلاحظ في فعاليات هذه الحشرات عدة أُمور :

أ. أنّ هذه الحشرات تعرف احتياجاتها وطريق رفعها ، بدون معلم مشهود ومنظور.

ب. أنّ هذه الأحياء تعرف - على وجه الدقة - أُصول تقسيم أعمالها ، وانتخاب وظائفها وطرق تنفيذها على أحسن وجه وبصورة جماعية.

ج. أنّ هذه الأحياء تسعى دوماً إلى تطبيق نفسها مع الأوضاع المحيطية المتغيرة ، بل وتحدث هي بعض التغييرات في جسمها وأعضائها.

وأمام هذه الظاهرة العجيبة ، لنا أن نختار إحدى طرق ثلاث :

1. أمّا أن نحتمل بأنّ هذه الأحياء تملك بنفسها من العقل والإدارك والفهم ما لم يكتشف الإنسان إلاّ جزءاً ضئيلاً يساوي واحداً بالمائة منها.

غير أنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يركن إليه ، لأنّ الخلايا النباتية والحيوانية لا تملك العقل والفهم لتعالج مشاكلها على ضوئهما.

ومن هنا يتضح سبب عدم إدخالنا للإنسان في أمثلة هذا الفصل ، واقتصارنا على الحشرات كالنحل والنمل وما شابههما ، لأنّ الإنسان إنّما يقوم بأعماله على ضوء ما أُوتي من عقل وفكر ، بمعنى أنّ بيولجيته وخلاياه ودماغه الكبير والمفكّر هي التي تضيء له سبيل حياته دون حاجة إلى إلهام من العالم الأعلى ووحي من خارج.

هذا أمر أدركه البشر ذاته ، وهي بالتالي فكرة واردة في شأن الإنسان.

أمّا بالنسبة إلى هذه الحيوانات والحشرات فلا يمكن أن يخطر ببال أحد أنّها تملك عقلاً وفكراً ، أو لا يمكن أن يخطر لأحد بأنّ الخلايا النباتية والحيوانية تملك -

ص: 220

ذاتياً - ذلك الفهم والفكر والشعور الهادي وتكون - هي بذاتها - موجدة للأفكار التي تعين تلك الأحياء على الاهتداء إلى سبل حياتها.

وحيث إنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يكون وارداً وصحيحاً ، لذلك لابد أن نسلك طريقاً آخر بأن نقول :

2. انّ طبيعة البناء الميكانيكي والتركيب المادي لهذه الأحياء تكفي - دون شيء آخر - لإيقاع هذه الأعمال ، ونقول بالتالي : إنّ اهتداء هذه الأحياء وما سوى ذلك من الأعمال التي ذكرناها والتي نشاهدها في عالم النمل والنحل وحشرة الموروفيل أو الاسفنج البحري ، كل ذلك إنّما هو نتيجة انتظام الأجزاء والعناصر الجسمانية لهذه الأحياء وانضمامها إلى بعض بنحو يؤدي ذلك النظم والتركيب الخاص إلى صدور هذه العمليات والأفعال من هذه الأحياء بصورة تلقائية لا إرادية.

وبعبارة أُخرى : أنّ الخواص الفيزياوية والكيمياوية لخلايا هذه الأحياء هي التي تقتضي وتوجب هذه السلسلة من الأعمال والنشاطات دون تدخل من خارج.

وفي هذه الصورة لن يكون موضوع « اهتداء » هذه الأحياء إلى سبيل حياتها دليلاً مستقلاً على وجود اللّه ، بل يندرج تحت عنوان « برهان النظم » لكونه مسألة ترجع إلى النظم ، فقد جهّزت خلقة هذه الأحياء بجهاز متين على نظم خاص رصين يقدر معه وبفضله على القيام بشؤون حياته كالأشجار فيكون اهتداؤها ليس إلاّ مقتضي كيفية تركيب أجزائها.

3. أن نختار ما اختاره بعض المحقّقين إذ قال ما خلاصته : إنّ الحركات

ص: 221

والفعّاليات الصادرة من أي جهاز من الأجهزة إنّما يمكن التنبّؤ بها من قبل ما دامت ترتبط بنفس ذلك الجهاز وتركيبته ، بمعنى أنّ نفس الجهاز المادي وتشكيلاته الداخلية تكون كافية لأن تكون الإحاطة به سبباً للتنبّؤ بأعماله وفعالياته.

وبعبارة أُخرى : انّ ما تقوم به هذه الحشرات من الأعمال البديعة إنّما تصح نسبتها إلى الجهاز الميكانيكي إذا كان ذلك الجهاز كافياً في صدور تلك الأعمال منها بأن يكون نفس نظام ذلك الجهاز وكيفية تركيبه كافياً في القيام بهذه الأعمال.

وأمّا عندما يصل الأمر إلى موضع لا يجب أن يقوم ذلك الجهاز فيه بفعل مخصوص بل يواجه مفترق طريقين ، ومع ذلك يختار أحد الطريقين مما يكون موصلاً إلى الهدف فهناك لابد من الإذعان بأنّ مجرد النظم المادي لذلك الجهاز غير كاف لاختيار أحد الطريقين دون سواه ، بل انّ هذا النوع من الاهتداء والانتخاب كاشف عن وجود رابطة خفية بين الجهاز المذكور وبين مصيره ، وأنّ هذه الحقيقة ، أعني : الابتكار والابتداع ، دليل على الهداية من النوع الثاني « أي الذي لا يرتبط بنفس الجهاز ونفس نظامه وتركيبه العضوي » بل يرتبط بهداية عليا.

إنّ آلة حاسبة يمكن أن تصنع وتنظم بشكل تؤدي كل عمليات الجمع والطرح والضرب والتقسيم الحسابية بدقة متناهية ، ولكن من المستحيل أن تقدر هذه الآلة الحاسبة على القيام بابتكار وابتداع قاعدة رياضية واحدة.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى آلة ترجمة فإنّها قادرة على ترجمة كلام شخص أو مقالة ، ترجمة دقيقة متقنة ، ولكن نظمها لا يقدر - أبداً - على تصحيح أخطاء ذلك

ص: 222

القائل والقيام بعمل ابتكاري ، وابداعي من هذا النمط (1).

ونستخلص مما سبق أنّ القدرة الغيبية الخفية التي تهدي هذه الأحياء ، قوة واسعة مطلقة تحيط علماً بكل الحشرات ، إحاطة شاملة كاملة وهي عنده بمنزلة سواء.

وتلك القوة الهادية العظيمة ليست سوى اللّه تعالى أو سائر القوى الغيبية المدبّرة لأُمور الكون العاملة بإذن اللّه ومشيئته ، التي أُنيطت إليها هداية هذه الحشرات وإرشادها وتوجيهها.

وأخيراً لابد من الإشارة إلى نكتة مهمة وهي :

أنّ هذا البرهان سواء رجع إلى برهان النظم بمعنى أنّ أعمال هذه الأحياء ما هي إلاّ نتيجة النظم المادي الحاكم على تركيبتها المادية ، وتشكيلاتها الداخلية ، أو قلنا بأنّ هناك قوة هادية هي التي تقوم بهداية هذه الحشرات إلى تلك الأعمال والمواقف العجيبة ، وتساعدها في هذه الابتكارات والإبداعات فيكون هذا برهاناً مستقلاً بنفسه.

أقول : سواء كان هذا أم ذلك فإنّ مما لا شك فيه انّ دراسة « الأحياء » في حد ذاتها واحدة من سبل معرفة اللّه وإحدى الطرق للتعرف عليه.

وقد اعتمد القرآن على ذلك في غير الآية المذكورة - في مطلع بحثنا هذا - إذ يقول - في موضع آخر - مخبراً عن اللّه بأنّه :

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (2).

ص: 223


1- راجع تعاليق أُصول الفلسفة للأُستاذ الشهيد مرتضى مطهري : 49 - 51.
2- الأعلى : 2 - 3.

والجدير بالذكر أنّ الإمام علياً علیه السلام أشار إلى هذا البرهان ذاته عندما تحدّث عن خلقة النمل قائلاً :

« ولو فكروا في عظيم القدرة ، وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة !

ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر ؟

انظروا إلى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبتّ على أرضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها ، وتعدّها في مستقرها ، تجمع في حرّها لبردها ، وفي ورودها لصدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس !

ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجباً ، ولقيت من وصفها تعباً ! فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ! لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه في خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي ، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ».

وفي سياق هذا الكلام يقول الإمام علیه السلام :

ص: 224

« وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان » ؟ (1).

وتبعه في ذلك الإمام الصادق علیه السلام حيث ذكر في أماليه التي أملاها على تلميذه « المفضل » إذا قال عن النحل مثلاً :

« انظر إلى النحل واحتشاده في صنع العسل ، وتهيئته البيوت المسدّسة ، وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة ، فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيباً ، وإذا رأيت المعمول ( أي العسل ) وجدته عظيماً شريفاً موقعه من الناس.

وإذا راجعت إلى الفاعل ( أي النحل ) ألفيته غبياً جاهلاً بنفسه (2) فضلاً عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل ، بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس » (3).

ص: 225


1- نهج البلاغة : الخطبة : 180 ، وللإمام نظير هذا الكلام في الخفاش والطاووس والجراد ، راجع نهج البلاغة.
2- قال المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار في تعليقته : 3 / 110 على هذا المقطع من كلام الإمام : أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص ، فظهر أنّ خصوص هذا الأمر ( الهام ) من مدبّر حكيم.
3- المصدر السابق.

ص: 226

الفصل الرابع: اللّه وسريان معرفته في العالم كلّه

اشارة

ص: 227

سريان معرفة اللّه في الكون بأسره

1. الكون بأسره يسجد لله ويسبّح بحمده.

2. ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟

3. بيان حقيقة سجود الكائنات.

4. ما المراد من السجود الطوعي والإكراهي ؟

5. الحمد والتسبيح الكوني كيف ؟

6. آراء المفسرين في تسبيح الكائنات.

7. النظرية الأُولى.

8. النظرية الثانية.

9. النظرية الثالثة.

10. النظرية الرابعة.

11. القرآن وسريان الشعور في عموم الموجودات.

12. القرآن وسريان الشعور في الجمادات.

13. البرهان العقلي على هذا الرأي.

14. سريان الشعور والعلم الحديث.

ص: 228

ذرّات الكون بأجمعها تسجد لله وتسبّح بحمده

من الحقائق الجليلة والمعارف الرفيعة التي تضمّنها القرآن الكريم هو إخباره عن سجود الكائنات - بأجمعها - لله وتسبيحها له سبحانه.

وتلك حقيقة عليا لم تسمع إذن الدهر من غير هذا الكتاب العزيز بمثل هذا التفصيل والشمولية.

وبعبارة أُخرى فإنّ القرآن الكريم يخبرنا - وفي صراحة كاملة - أنّ جميع أجزاء العالم - بدءاً من الذرة حتى أعظم مجرّة - تقوم بثلاث وظائف وأعمال كبرى هي :

1. السجود لله تعالى.

2. حمده وتمجيده عز شأنه.

3. تسبيحه وتنزيهه سبحانه.

وكأنّ الكون بأسره : « كتلة واحدة » من الخضوع والخشوع ، والشعور والإحساس والوعي.

أو كأنّ الكون - بجميع أجزائه وذرّاته - لسان واحد ينطق بحمد اللّه ، ويلهج بثنائه ، وقلب واحد ينبض بتمجيده ، ويؤدّي السجود له.

ص: 229

والفرق بين السجود والتسبيح والحمد واضح.

أمّا السجود فهو الخضوع أمام كماله المطلق ، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.

وأمّا الفرق بين الحمد والتسبيح فيتلخص في أنّ الحمد تمجيد لله وثناء عليه بالجميل الاختياري ، في حين أنّ حقيقة التسبيح تعني أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تنزهّه عن أي نقص وعيب.

قال الراغب - في مفرداته : - « الحمد لله : الثناء عليه بالفضيلة وهو أخص من المدح ، وأعم من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره وغيره ، فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه والحمد يصح في الثاني دون الأوّل ، والشكر لا يقال إلاّ في مقابلة نعمة فكل شكر حمد وليس كل حمد شكراً ، وكلّ حمد مدح وليس كل مدح حمداً » (1).

إذا تبين هذا فإنّ علينا الآن أن نتحدث بالتفصيل عن هذه الأُمور الثلاثة التي هي من معارف القرآن العليا.

ذرّات الكون بأجمعها تسجد لله

طرح القرآن الكريم قضية « سجود الكائنات بأسرها لله » في صور مختلفة.

ففي بعض الآيات تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصة إذ قال :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ

ص: 230


1- مفردات الراغب باب الحاء : حمد.

والآصَالِ ) (1).

ففي هذه الآية (2) أُشير إلى سجود الموجودات العاقلة خاصة ، بدلالة لفظة ( مَن ) في قوله ( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ ) مع العلم بأنّ ( مَن ) تستعمل في العقلاء.

وبما أنّ الآية تخبر عن سجود الموجودات العاقلة كلّها بلا استثناء ، لا يمكن حملها على السجود التشريعي الصادر من المؤمنين لأجل امتثال أمر إلههم ، لأنّه من الواضح عدم عمومية هذا النوع من السجود لكل من له عقل وفكر ، فإنّ كثيراً من الناس يتركون عبادة ربهم والسجود له ، فعندئذٍ يجب تفسير الآية بالسجود التكويني الذي سنبيّن مفاده.

وقد أُشير إلى هذا النوع من السجود ، أعني : سجود العقلاء ، أيضاً في سورة النحل إذ يقول :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماوَاتِ وما فِي الأرض مِنْ دَابَّة وَالمَلاَئِكَةُ ) (3).

والشاهد فيها هو سجود الملائكة.

وفي سورة الحج إذ يقول :

( أَلَمْ تَرَ أَن اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض ) (4).

ص: 231


1- الرعد : 15.
2- محل الاستشهاد هو قوله سبحانه : ( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّماواتِ ) باعتبار لفظ « من » وإن كانت لفظة « وظلالهم » دالة على سجود الموجودات غير العاقلة أيضاً ، لكن بهذا الاعتبار تدخل الآية في الطائفة الرابعة الآتية.
3- النحل : 49.
4- الحج : 18.

وفي طائفة أُخرى من الآيات تحدّث القرآن عن نطاق أوسع للسجود ، فتحدّث عن سجود كلّ الدواب ، إذ يقول - كما في الآية المتقدمة -.

( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّة ) (1).

ثم تحدث ثالثاً عن سجود النباتات والأشجار إذ قال :

( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان ) (2).

ثم تحدّث رابعاً عن سجود أكثر شمولاً ، إذ قال وهو يخبر عن سجود ظلال الأجسام :

( أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) (3).

وقد تقدم في التعليقة السابقة دلالة قوله : ( وَظِلالُهُمْ ) على مفاد هذه الآية أيضاً.

وتحدّث خامساً عن سجود الشمس والقمر والكواكب والجبال والشجر والدواب إذ يقول :

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض والشمس والقمر وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) (4).

فهذه النصوص القرآنية تفيد بأنّ السجود ظاهرة عامة ، وحالة تشمل كل

ص: 232


1- النحل : 49.
2- الرحمن : 6.
3- النحل : 48.
4- الحج : 18.

أجزاء هذا الوجود دون أن تختص بشيء معين.

إنّ ما هو المهم - هنا - هو فهم حقيقة هذا السجود ، وكيف أنّ هذه الموجودات أجمع ( عاقلها وغير عاقلها ) تظهر الخضوع أمام اللّه وتسجد له سبحانه. ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟

يؤدّي الإنسان عمل السجود - عادة - بالهوي إلى الأرض ، ووضع الجبين أو الذقن على التراب ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم إذ يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للإذْقَانِ سُجَّداً ) (1).

وهذه الهيئة - ما هي في الحقيقة - إلاّ الشكل الظاهري للسجود ، ولكن جوهرها وروحها هو « إظهار غاية التذلّل والخضوع أمام المعبود ».

وهنا ينطرح هذا السؤال وهو : هل يلزم - في السجود - وجود هيئة خاصة بحيث لا يصح استعمال هذه اللفظة مع عدم تلك الصورة الخاصة ، أو أنّ ملاك السجود هو مجرد إظهار الخضوع ، فإذا تحقّق ذلك ، تحقّقت حقيقة السجود وصح إطلاق لفظة السجود على ذلك المورد دونما إشكال ، حتى وان لم يكن في البين تلك الهيئة الخاصة ، حتى أنّ إطلاق السجود على الهيئة الخاصة ليس إلاّ باعتبار أنّ تلك الهيئة تحكي في نظر العرف عن غاية التواضع ومنتهى الخضوع وباعتبار أنّها - في الحقيقة - طريق إلى إظهار الصغار والتذلّل أمام المعبود ؟

ص: 233


1- الإسراء : 107.

الحق أنّ القرآن يختار في هذه المسألة الطريق الثاني ، بمعنى أنّ السجود في نظر القرآن الكريم هو إظهار التذلّل والخضوع في أية صورة تحقّق وفي أي شكل وقع.

ويدلّ عليه أنّ أئمّة اللغة فسّروا السجود بالذل والتطامن تارة ، وطأطأة الرأس وانحنائه تارة أُخرى بلا إشارة إلى الهيئة المخصوصة الرائجة.

قال ابن فارس : « سجد يدلّ على تطامن وذل ، يقال : سجد ، إذا تطامن وكل ما ذلّ فقد سجد ، قال أبو عمرو : سجد الرجل ، إذا طأطأ رأسه وانحنى.

قال أبو عبيدة أنشدني أعرابي أسدي :

« وقلن له اسجد للبلى فاسجدا ».

يعني البعير إذا طأطأ رأسه » (1).

قال الراغب في مفرداته : « السجود أصله التطامن والتذلّل ، وجعل ذلك عبارة عن التذلّل لله وعبادته ، وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد ، وذلك ضربان :

سجود باختيار وليس ذلك إلاّ للإنسان.

وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات حتى فسر قوله تعالى : ( وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً ) (2) ، بقوله متذلّلين منقادين » (3).

وعلى ذلك فاحتمال انّ السجدة مختصة بالهيئة المخصوصة واستعمالها في

ص: 234


1- المقاييس : 2 / 13 مادة سجد.
2- البقرة : 58.
3- مفردات الراغب : مادة سجد.

غيرها مجاز ، بعيد ، كاحتمال أنّ المقصود هو أنّنا ندرك الخضوع والسجود من الموجودات غير الشاعرة لا أنّها تظهر من نفسها التذلّل والخضوع الذي هو أبعد ، لكونه خلاف المتبادر من نسبة السجود إلى ذوات الموجودات بأنفسها ، لا أنّ الغير يدرك ذلك منها من دون أن توجد حقيقة السجود في ذواتها.

على أنّ العرف والعقل هما أيضاً اختارا هذا الطريق ( أي عدم الخصوصية ) في أمر استعمال الألفاظ.

فعندما استعملت لفظة المصباح على المصابيح البدائية كالشمعة التي لا تضيء إلاّ بضع سانتيمترات حولها وما عداها من المصابيح البدائية ذات الهيئة الخاصة التي لا تشبه المصابيح الضخمة الحاضرة في أية جهة من الجهات.

أقول : يوم استعملت هذه اللفظة أُريد منها - في الحقيقة - ما يضيء ، ولذلك حيث إنّ خاصية تلكم المصابيح القديمة موجودة - بذاتها - في المصابيح الحاضرة وبنحو أكمل جاز وصح استعمال اللفظة المذكورة في المصابيح الضخمة القوية الضوء ، أيضاً دون أي تغيير.

حقيقة سجود الكائنات

جميع الكائنات في هذا الوجود ، تظهر من نفسها التذلّل والخضوع لله ، وبنحو خاص.

وإنّ أعلى مظاهر ذلك الخضوع ، والتذلّل لله هو كون العالم بأسره تحت أمره سبحانه وفي قبضته ، وهو كونها - دون استثناء - مطيعة له تعالى ، ومؤتمرة بأوامره ، وخاضعة لمشيئته المطلقة.

ص: 235

وبتعبير آخر : انّ علامة هذا الخضوع الكوني الشامل هو : سيادة الإرادة الواحدة على الكون برمّته واتّباع كلّ أجزاء هذا العالم لتلك الإرادة العليا الواحدة دون مقاومة ، أو تمرّد ، ودون طغيان أو تردّد.

وبناء على هذا لا يمكن تصور أي نوع من « الإكراه والكراهية » في السجود بهذا المعنى ونعني به : الإطاعة المطلقة للأرادة الإلهية النافذة في مجال التكوين.

إذ « الإكراه » إنّما يتصور عندما يملك الشيء إرادة واختياراً من نفسه ، ليتمكن من معاندة المكره ومقاومته ، ومخالفة أمره في حين لا يملك أي واحد من هذه الكائنات « وجوده » دون الاستناد إلى اللّه ، فكيف يمكن لها - والحال هذه - أن تخالف مشيئة اللّه ، ويصدق عليها أنَّها مكرهة في سجودها أمام العظمة الإلهية ، وخضوعها أمام المشيئة الربانية ؟

السجود الطوعي والإكراهي

إذا كان معنى السجود هو خضوع الموجود أمام إرادة اللّه ومشيئته ، فلا معنى لتقسيمه إلى الطوعي والإجباري مع أنّا نرى القرآن الكريم يثبت للإنسان ولغيره من ذوي العقول نوعين من السجود إذ يقول :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ) (1).

سجود عن طواعية ورغبة.

وسجود عن كراهية وإجبار.

وفي هذه الصورة لابد أن نختار لهذين النوعين من السجود معنى آخر غير

ص: 236


1- الرعد : 15.

ما سلف فنقول : إنّ المراد ب « السجود الطوعي » هو قبول تلك الحالات الملائمة للطبع البشري أو لطبع أي موجود آخر ، كالنمو ، ودوران الدم ، وضربان القلب ، بينما يكون المقصود ب « السجود الإجباري » هو قبول تلك الحالات المنافية للطبع كالموت والبلاء والمحنة التي تقضي على الإنسان أو الحيوان قبل حلول أجله الطبيعي.

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم استعمل هاتين اللفظتين : « طوعاً وكرهاً » في مورد سجود السماوات والأرض ، ومن الطبيعي أنّ المقصود من ذلك هو ما قلناه كذلك.

فمراد اللّه من خطابه للسماوات والأرض إذ يقول لهما : ( ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) هو دعوة السماوات والأرض إلى أن تقبل أي نوع من التغيّرات والتبدّلات والحالات سواء أكانت ملائمة لطبعها أم لا ؟

وعلى هذا فإنّ قبول الشيء للوجود ، وقبوله لأي نوع من التصرّفات سواء أكانت موافقة لطبعه أم مخالفة له ، خضوع وإظهار للتذلّل أمام اللّه ، غاية ما هنالك أنّ قبول هذه الأُمور قد يكون كلّه عن رغبة وطواعية باعتبار ، وقد يكون قبول بعض هذه الحالات عن كراهية عندما تكون على خلاف طبع الشيء.

على أنّه ليس وجود الموجودات هو وحده في قبضة اللّه تعالى ، بل ظلالها هي الأُخرى تابعة لإرادته تعالى في حركاتها ، وتحوّلاتها ، بكرة وعشياً كما قال سبحانه :

( أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للهِ ) (1).

ص: 237


1- النحل : 48.

فهل ترى يجوز للإنسان - وهو يجد جميع الكائنات حتى ظلالها تسبِّح لله وحده.

هل يجوز لهذا الإنسان أن يشرك في سجوده أو يمتنع من الخضوع أمامه تعالى ، وله يسجد كل ما عداه ؟!

وبعد أن تعرّفنا على معنى سجود الموجودات آن الأوان أن نتحدّث بتفصيل أكثر عن تسبيحها وحمدها لله وتمجيدها له سبحانه.

* * *

إذا وقفت على ما تعنيه آيات السجود فلا يمكن أن يستفاد منها علم الموجودات بسجود نفسها ، بعد ما كان معنى السجود هو مطلق خضوعها وتذلّلها لدى إرادة بارئها.

نعم يستفاد سريان العلم في جميع الموجودات من آيات التسبيح كما سيمر عليك.

الحمد والتسبيح الكونيان كيف ؟

كل الكائنات - في هذا الوجود - تسبح لله ، وتحمده ، وتمجّده.

هذه - كما قلنا - حقيقة نطق بها الكتاب العزيز في أكثر من موضع.

وقد مر عليك أنّ الحمد يعني ثناء الموجودات على اللّه ، لأجل أفعاله الجميلة وكمالاته الاختيارية ، وأنّ التسبيح يعني تنزيهه عن كل عيب ونقيصة ، وبالتالي وصف اللّه بالتنزيه عن الصفات السلبية التي لا تليق بشأنه.

قال ابن فارس في مقاييسه : « التسبيح : هو تنزيه اللّه جل ثناؤه من كل سوء ،

ص: 238

والتنزيه : التبعيد ، والعرب تقول : سبحان من كذا : أي ما أبعده ».

وحيث إنّ بعض الآيات ذكرت كلا اللفظين في مكان واحد ، لذلك سنبحث عنهما في مقام واحد أيضاً دون تفريق.

وسنذكر كل الآيات الواردة في هذا الباب فيما يأتي.

* * *

1. ربما عرض القرآن موضوع تسبيح الموجودات في نطاق واسع ، واعتبره أمراً عاماً ، وحالة شاملة لكل الكائنات بلا استثناء عندما يقول :

( سَبَّحَ لله مَا فِي السَّماوَاتِ والأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

ولفظة ( ما ) على العكس ممّا يتصوره البعض ، تستعمل في العاقل وغيره ، والمقصود - هنا - في هذه الآية هو كل موجود وكائن في السماوات والأرض.

وعلى هذا الغرار أيضاً كل ما جاء في المواضع التالية من القرآن :

( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2).

( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (3).

( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (4).

( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وما فِي الأرض المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (5).

ص: 239


1- الحديد : 1.
2- الحشر : 1.
3- الحشر : 24.
4- الصف : 1.
5- الجمعة : 1.

( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1).

على أنّ أشد آية صراحة في هذا الشأن هو قوله تعالى :

( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماوَاتُ السَّبْعُ والأرضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) . (2)

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تحمل في ذيلها دليل ما ادّعيناه وهو قوله :

( ولكِنْ لا تَفْقَهوُنَ تَسْبِيحَهُمْ ) (3).

وهي عبارة تكشف عن أنّ التسبيح العام أمر واقع وكائن ، ولكن البشر لا يفقه ذلك.

2. وربّما تحدّث القرآن عن تسبيح الملائكة بالصراحة تارة ، وبالكناية تارة أُخرى ، إذ يقول :

( وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (4).

وقد ورد الإخبار بتسبيح الملائكة في آيات أُخرى غير هذه الآية أيضاً ، وهي :

( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) (5).

ص: 240


1- التغابن : 1.
2- الإسراء : 44.
3- الإسراء : 44.
4- الشورى : 5.
5- الأعراف : 206.

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (1).

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتَرُونَ ) (2).

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ) (3).

( فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْئَمُونَ ) (4).

( وَتَرَى المَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (5).

3. وربما ذكر القرآن - بعد الاخبار عن عموم التسبيح - تسبيح الطير إذ يقول : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرضِ وَالطَّيْرُ صَافَّات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (6).

إنّ الإمعان في هذه الآية يفيد أنّ القرآن الكريم ينسب « العلم والوعي » إلى الفريق المسبِّح ، ويصرّح بأنّ كل واحد من هذه الموجودات يعلم تسبيح نفسه بمعنى أنّ ما يقع منها من تسبيح يقع عن وعي وشعور بذلك ، إذ يقول :

( كُلٌّ ( أي كل واحد من الموجودات العاقلة والطير ) قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ

ص: 241


1- الرعد : 13.
2- الأنبياء : 19 - 20.
3- غافر : 7.
4- فصلت : 38.
5- الزمر : 75.
6- النور : 41.

وَتَسْبِيحَهُ ) .

وقد ورد تسبيح الطير في آيات أُخرى ، وهي :

( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ (1) ) (2).

( إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ * وَالطَيْرَ محْشُورَةً كُلٌّ ( من الجبال والطير ) لَهُ أَوَّابٌ ) (3).

4. وفي آيات أُخرى صرح القرآن الكريم بتسبيح الجبال في أوقات خاصة معينة ، إذ يقول :

( إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ) (4).

وقد جاء تسبيح الجبال في آيات غير هذه الآية أيضاً ، وهي :

( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ) (5).

( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) (6).

5. وتحدث القرآن عن تسبيح الرعد ، فقال :

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (7).

ص: 242


1- عطف على محل الجبال ، أي ودعونا الطير لتسبّح معه.
2- سبأ : 10.
3- ص : 18 و 19.
4- ص : 18.
5- الأنبياء : 79.
6- سبأ : 10.
7- الرعد : 13.

والآن يجب أن نعرف ماذا يعني التسبيح ؟

التسبيح لغة يعني التنزيه عن النقائص والمعايب.

فعندما ينزّه شخص أحداً عن النقائص والمعايب يقال : سبحه ، وقدسه.

إذن فينطوي التسبيح على معنى التقديس والتنزيه ، وأي تفسير للتسبيح لا يكون حاكياً عن تنزيه اللّه ، وتقديسه من النقائص والعيوب لا يمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً.

آراء المفسرين في تسبيح الكائنات

اشارة

إنّ بعض المفسرين - وإن قال بأنّ المراد من لفظة ( ما ) في قوله تعالى : ( مَا فِي السَّماوَاتِ ) هو الموجودات العاقلة المدركة الشاعرة كالإنسان والملائكة التي تقدّس الباري ، وتنزّهه بكامل شعورها وإدراكها ووعيها - ولكن كثيراً من المفسرين لم يرتضوا هذا الرأي وقالوا : بأنّ المقصود من ( ما ) هو مطلق الموجودات ( عاقلة وغير عاقلة ، مدركة وغير مدركة ) وظاهر الآية يؤيد هذا الرأي ، إذ أنّ لفظة ( ما ) تستعمل عادة في مطلق الموجودات على عكس ( من ) التي تطلق - في الأغلب - على أصحاب العقل والإدراك.

أضف إلى ذلك أنّ الآية الدالة على سجود الموجودات غير العاقلة لا تختص بالآيات التي وردت فيها لفظة ( ما ) ، بل كان هناك لفيف من الآيات ذكر فيها تسبيح الطير والجبال والرعد.

وعلى ذلك فالتوجيه المزبور لو صح لتم في القسم الأوّل من الآيات لا في القسم الثاني.

ص: 243

وقد ذكر فريق من المفسرين توجيهات مختلفة للتسبيح ، ولكن أكثرها وإن كانت صحيحة غير أنّها لا ترتبط بالمعنى الحقيقي للتسبيح ، وسوف نشير فيما يلي إلى جملة من هذه الآراء.

النظرية الأُولى

النظرية الأُولى (1)

قال أصحاب هذه النظرية : إنّ المراد من التسبيح هو « التسبيح التكويني » بمعنى أنّ وجود كل موجود حادث يشهد - بحدوثه - أنّ له صانعاً خالقاً حتى أنّ وجود المادي الملحد المنكر لله بلسانه ، هو أيضاً ، يشهد بوجود الخالق الصانع.

بيد أنّ هذا الرأي - رغم صحته واستقامته في حد نفسه - لا يمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً للتسبيح ، لما قلناه من انطواء التسبيح على معنى ( التنزيه ) والتقديس من العيوب والنقائص ، ولا ربط لدلالة الموجودات على وجود خالق لها بمسألة « التنزيه » و « التقديس » عن العيب والنقص والشريك.

النظرية الثانية

وتقول هذه النظرية : إنّ المقصود من التسبيح هو « الخضوع التكويني » الذي يبديه كل واحد من الموجودات الكونية تجاه مشيئة اللّه وأمره ، إذ نحن نلمس بالوجدان كيف يخضع كل الوجود بلا استثناء أمام الإرادة الإلهية ، سواء أكان في تقبل الوجود ، أم في اتّباع السنن الطبيعية التي قررها وأرساها اللّه في عالم الكون.

ص: 244


1- هذه النظرية إجمال ما سيوافيك في النظرية الثالثة ، ولعل مراد من فسر التسبيح بما في هذه النظرية ، هو ما سيأتي في ثالثتها من أنّ العالم كما يدل على وجود خالقه يدل على صفاته من توحيده وعلمه و ... وعلى ذلك تتحد النظريتان.

فهذه الطاعة المطلقة أزاء تلك الإرادة الإلهية العليا ، وهذا الانصياع لتلكم السنن الإلهية هو « تسبيح الموجودات » ليس غير.

ثم يستدل أصحاب هذا الرأي على تسليم جميع الموجودات تجاه الإرادة الإلهية النافذة بآيات ، مثل قوله تعالى :

( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (1).

وبناء على هذه النظرية فإنّ جميع الآيات التي نسب فيها « السجود » والخضوع إلى كل ما في السماوات والأرض ، يمكن أن تكون مؤيدة للرأي المذكور.

ولكنّنا نتصور أنّ هذا الرأي غير صحيح هو أيضاً ، ذلك لأنّ مسألة « خضوع » الوجود بأسره وبكل أجزائه ، وتسليمه للسنن والقوانين الإلهية لا يرتبط بمسألة تنزيه اللّه ، وتقديسه تعالى من العيب والنقص والشرك ، وينبغي أن لا نخلط بين هذين الموضوعين ، وإن كان كل منهما صحيحاً وصائباً في حد ذاته.

النظرية الثالثة

ذهب كثير من المفسرين إلى تفسير تسبيح عموم الموجودات على النحو الآتي ، إذ قالوا :

إنّّ النظام العجيب المستخدم في تكوين كل واحد من هذه الموجودات والدقة المتناهية في هذا النظام دليل على « قدرة » عليا و « حكمة » و « علم » مطلقين لصانعها وخالقها.

ص: 245


1- فصلت : 11.

فالكيان المعقّد والعجيب لكل واحد من هذه الموجودات ، والمليء بالأسرار كما يشهد بصدق وجلاء على صانع لها ، كذلك يشهد - بلسان التكوين - على خالق واحد ، عالم وقدير وحكيم ، وعلى الجملة على « علم » ذلك الصانع و « حكمته » و « قدرته » وخلوّه عن أي نوع من الجهل والعجز والعي ، بل يكفي في التسبيح دلالتها على صفاته الكمالية فقط ، الملازم لدفع الصفات السلبية ولا يجب أن يكون بصورة سلب النقائص ابتداء.

ففي مجال تنزيه اللّه عن « الشريك » مثلاً ، تأتي شهادة هذه الموجودات على النحو الآتي :

إنّ النظام الواحد الذي يسود في الذرة والمجرّة على السواء يشهد بأنّ الكون بأسره وجد بإرادة خالق وصنع صانع واحد دون أن تكون لأي خالق آخر مشاركة في هذا الخلق والصنع ، وأنّ وحدة النظام دليل على وحدة المنظم وعدم الشريك له سبحانه.

وكذا إنّ سيادة نظام موحد على مجموع أجزاء الكون كما تفيد أنّ ثمة « منظماً واحداً » يحكم هذا العالم ، كذلك تكشف الأسرار الدقيقة ، والتقدير المتقن عن « علم » صانعها و « حكمته » و « قدرته » الملازم لتنزّهه عن الجهل واللعب والعجز (1) ، وقد مر أنّه يكفي في التسبيح دلالة الشيء على كمال المؤثر الملازم

ص: 246


1- هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظرية تفصيل لما أجمل في النظرية الأُولى ، فإنّ القائل بالنظرية الأُولى أجمل القول واكتفى بالقول بأنّ كل موجود حادث يدل على وجود محدثه ، لكن القائل بالنظرية الثالثة بسط الكلام وأفاد بأنّ وجود كل حادث كما يدل بحدوثه على وجود محدثه ، كذلك يدل بصفاته ( أعني : النظام السائد فيه ) على صفات موجده من العلم والقدرة والحكمة ، وخلوّه عن العجز والجهل والعبث. ولأجل هذا قلنا إنّ النظرية الثالثة تفصيل لما جاء في الأولی.

لدفع العيب عنه ولا يلزم أن يدل على تنزيهه من الجهل مطابقة.

ولنا على هذا الرأي الذي اعتمد عليه كثير من المفسرين ملاحظات من عدة جهات :

1. إذا كان هذا هو مقصوده سبحانه من تسبيح عموم الموجودات ، فهو ممّا يدركه ويفقهه جميع الناس أو أكثرهم ، ولا معنى لأن يقول القرآن في سورة الإسراء الآية 44 : ( وَلَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) .

وقد اضطر البعض إلى إصلاح هذه النظرية بتفسير جملة ( لا تَفْقَهُونَ ) بأنّها بمعنى عدم الانتباه والالتفات ، وإنّ أكثر الناس غير منتبهين إلى تسبيح الموجودات ، أمّا لانغماسهم في المادية ، أو لأجل كون دلالة الموجودات على « تنزيه » اللّه عظيمة جداً بحيث لا يمكن للبشر أن يقف على مداها.

ولكن لا يخفى انّ هذا التوجيه خلاف ظاهر الآية ، ولو صح ما فسروا به جملة ( لا تَفْقَهُونَ ) للزم أن يقول « ولكنكم إذا لاحظتم تفقهون » أو ما يناسب ذلك مع ما نعرف من الدقة في التعبير القرآني ، لا أن يسلب عنهم العلم والفهم بتاتاً.

هب أنّ أكثر الناس غير واقفين على دقة الخلقة وأسرارها والروابط السائدة على المخلوقات غير أنّ ذلك لا يصحح سلب العلم عن الناس عامة ، جاهلهم وعالمهم ، ولا سيما في هذا العصر الذي ظهرت فيه البواطن والأسرار واكتشفت الحقائق.

2. إذا كان تسبيح الموجودات بالمعنى المذكور في هذه النظرية ، ( أي أنّنا يمكن أن ندرك من التدبّر في خلقة الأشياء نزاهة خالقها وصانعها من الجهل

ص: 247

والعجز ) فلماذا وصف القرآن بعض الحيوانات كالطير بإدراكها لتسبيحها وتنزيهها لربها وكونها تعلم بحقيقة تسبيحها إذ قال :

( كُلّ ( أي كل من في السماوات والأرض والطير ) قَد عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (1).

وبتعبير أوضح : لماذا نسب القرآن الكريم « العلم » إلى الطير بشكل صريح في حين أنّ مقتضى هذه النظرية هو أنّها لا تعلم بتسبيح نفسها ، ولا تشعر ولا تدرك ذلك ، بل نحن فقط نشعر ونعلم بتسبيحها التكويني من التدبّر في خلقتها ودقة صنعتها دون أن تشعر هي نفسها بذلك.

اللّهم إلاّ أن يخصص العلم - بحكم ظاهر الآية - بالموجودات العاقلة للفظة ( مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) وخصوص الطير.

3. إذا كان المقصود من تسبيح الكائنات هو ما جاء في هذه النظرية لما كان لهذا التسبيح وقت خاص ، وزمان معين.

بل هو ( أي التسبيح بلسان التكوين ) حقيقة ملازمة للكائنات في كل وقت وآن ، بحيث يدركها البشر أنّى تدبّر في خلقتها ، وأنّى تفكّر في تكوينها ، وتمعّن في صنعها ، في حين أنّ القرآن الكريم يحدّد زمن « تسبيح الجبال » بأوقات خاصة من طرفي النهار بكرة وأصيلاً ، إذ يقول في سورة ( ص الآية 18 ) :

( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ) (2).

ص: 248


1- النور : 14.
2- إلاّ أن يكون « العشي والإشراق » كنايتين عن مداومة التسبيح طول الليل والنهار ، وعند ذلك لا يصلح هذا الوجه للاستدلال.

نعم يمكن أن يقال : إنّ تحديد تسبيحها بالعشي والإشراق ، لأجل أنّ تسبيح داود كان محدّداً بهذين الوقتين وكانت الجبال يسبحنّ معه ، ولأجل تلك التبعية صار تسبيح الجبال محدّداً بها.

ولكن ذلك لا يضر بالمقصود ، إذ هو حاك عن سريان شعور مرموز إليها بحيث تدرك تسبيح ولي اللّه سبحانه في أوقات خاصة فتنطلق تسبح معه كما هو صريح الآية.

واحتمال أنّ تسبيح الجبال كتكلّم شجرة موسى ، وأنّ التسبيح إذا صدر من عباد اللّه الصالحين ، تتجاوب معه الجبال بصورة خارقة كتكلم الشجرة بأمره ، ولأجل ذلك صح اسناد التسبيح إلى الجبال ، احتمال لا يمكن الركون إليه في تفسير الآية إلاّ بشاهد من نفسها أو خارجها والظاهر هو المتبع ما لم يذدنا عنه البرهان.

على أساس هذه الملاحظات - بالرغم من صحة نظرية التسبيح التكويني في كل موجود في حد ذاتها - لا يمكن حمل « آيات التسبيح الكوني » عليها والقول بأنّها ناظرة إلى هذا المعنى.

النظرية الرابعة

وهذه النظرية هي للفيلسوف الإسلامي الجليل المرحوم « صدر المتألّهين » صاحب الآراء الجليلة في الإلهيات ، وما وراء الطبيعة ، وأحد كبار المؤسّسين

ص: 249

لأُصول الفلسفة الإسلامية ، المحقّقين النادرين (1).

يقول هذا الفيلسوف الإسلامي ما توضيحه :

إنّ الكون بجميع أجزائه يسبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور وإدراك.

فلكل موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

وعلى هذا الشعور تسبّح الموجودات كلّها ، خالقها ، وبارئها ، وربها سبحانه وتنزّهه عن كل نقص وعيب.

ثم يقول :

إنّ العلم والشعور والإدراك كل ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من « واجب الوجود » إلى النباتات والجمادات ، وأنّ لكل موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة و .. و .. ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا - بعض الأحيان - لضعفها وضآلتها.

على أنّ موجودات الكون كلّما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادات فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً

ص: 250


1- ولد عام 979 ه في شيراز من بلاد إيران ، وتوفّي عام 1050 ه في طريق الحج في البصرة. لقد أنشأ المرحوم السيد حسين البروجردي في تاريخ وفاته قوله - كما في كتابه نخبة المقال - : ثم ابن إبراهيم صدر الأجل *** في سفر الحج « مريضاً » ارتحل قدوة أهل العلم والصفاء *** يروي عن الداماد والبهائي

بينما كلما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ولكنّها ليست كذلك ( أي أنّها ليست خلوة من العلم والشعور والإدراك ) - كما نتوهم - إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة (1).

ثم إنّ صاحب هذه النظرية أثبتها عن طريق الأدلة والبراهين الفلسفية ، والمكاشفات النفسانية.

على أنّه خطا خطوة أكبر ، إذ قال : انّ ما يقوله القرآن بأنّ البشر لا يفقه تسبيح الموجودات ، ناظر إلى أغلب الناس ، لأنّ أغلبهم لا يفقهون هذا التسبيح ، ولا يمنع ذلك من أن يفقهه بعض العارفين الذين ارتبطت أرواحهم بحقائق الموجودات ، فلمسوا تسبيح الكائنات عامة ، بعين القلب ، واطّلعوا على تقديسها لله سبحانه ، وانقيادها لمشيئته ، وخضوعها له.

أجل أنّ القلوب الخالية من الوساوس الشيطانية ، الطاهرة من العلائق المادية التي صارت محلاً للنور الإلهي ومحطّاً للفيوض الربانية ، ومهبطاً للبركات المعنوية قادرة على « مشاهدة » هذه الحقائق العليا ، مشاهدة وجدانية ، وإدراكها إدراكاً قلبياً لا يتطرق إليه شك ، وماذا يمنع من ذلك يا ترى ؟

* * *

وبعد أن وصل البحث إلى هذه النقطة يلزم أن نحاول الوصول إلى هذه الحقيقة القرآنية ، بالتدبّر في آياتها التي تنسب الشعور والعلم إلى عموم

ص: 251


1- راجع الأسفار : 1 / 18 و 6 / 139 - 140 ، الطبعة الجديدة.

الموجودات ، لأنّ القرآن إذا نسب « التسبيح والحمد » إلى عمومها ، فهو في نفس الوقت يصف كل ذرات العالم بأنّها شاعرة ، ومدركة ، وسامعة.

فإذا وضعنا هاتين الطائفتين من الآيات إلى جانب بعض ، ثبتت لنا صحة النظرية التي ذهب إليها « صدر المتألّهين ».

وإليك - فيما يأتي - الآيات الدالة على سريان الشعور ، والعلم في عامة الموجودات بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة ، مع ما يمكن استنباطه واستفادته من هذه الآيات.

سريان الشعور في عموم الموجودات

ويمكن إثبات هذا الادّعاء عن طريقين :

أوّلاً : عن طريق الآيات التي تشهد على وجود الشعور ، وسريانه في جميع موجودات هذا العالم ، أحيائها ، وغير أحيائها.

ثانياً : عن طريق البراهين والدلائل العقلية التي تثبت وجود الشعور في كل ذرات الكون.

وإليك الطريق الأوّل : ويتألف من آيات متعددة هي :

1. يشهد القرآن - بصراحة ووضوح - على أنّ النمل تتمتع بشعور خاص ، لأنّها عندما مر على واديها سليمان وجنوده راحت نملة تخاطب بني نوعها وتحثّها على الدخول في بيوتها لئلاّ يسحقها سليمان وجنوده ، كما يحدثنا القرآن إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (1).

ص: 252


1- النمل : 18.

وكان هذا النداء التطميني ( أو التحذيري ) من تلك النملة ، نداء حقيقياً ، واقعياً ، ولا يمكن أن نحمله على معنى مجازي ، وندعي بأنّ ما قالته النملة كان بلسان « الحال » ، وذلك لأنّ سليمان تبسّم على أثر سماعه ذلك النداء ، ودعا ربّه أن يوفقه للشكر على ما وهبه وأنعم عليه وعلى والديه ، إذ يقول القرآن :

( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا (1) وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) (2).

2. انّ في القرآن قصة عن الهدهد تكشف عن شعور خاص لدى هذا الطائر ، بحيث يمكن للهدهد أن يميز بواسطته : الموحد عن المشرك وبحيث كان سليمان يبعثه في إنجاز مهام معينة تحتاج إلى الشعور وتتطلب العلم والفهم.

وإليك هذه القصة بلسان القرآن نفسه :

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِين * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَم تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّماوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخُفْونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيم * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ

ص: 253


1- إنّ في لفظة « قولها » دلالة على أنّ نداءها لم يكن بلسان الحال ، بل كان بالكلام والقول الذي ينطلق من شعور وأدراك.
2- النمل : 19.

مِنَ الكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرجِعُونَ ) (1).

ألا يدل فعل هذا الطائر - العجيب - الذي يدرك كل الأُمور الدقيقة ، ويخبر عنها بدقة وأمانة ، ويمتثل لأُوامر سيده سليمان على أحسن وجه.

أقول : ألا يدل كل هذا على أنّ هذا الطائر يتمتع بشعور خاص وإدراك مخصوص هو الذي أهّله لتحمّل تلك المسؤولية الكبيرة الدقيقة ؟

3. يعد القرآن من مفاخر سليمان : علمه بمنطق الطير ، وهذا يكشف عن وجود منطق خاص للطير كاشف عن شعوره بما يقول ، إذ قال :

( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) (2).

كما أنّ القرآن يخبرنا بأنّ سليمان ألّف جيشاً ضخماً من الإنسان والجن والطير ، وكانت جميعها تحت أمره ، ورهن إرادته ، وإشارته :

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) (3).

وهكذا يستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ الطيور والنمل تتمتع بنوع خاص من الوعي والشعور ، وأنّه لو أُتيح للإنسان أن يحكم على الكون كله ، لاستطاع أن يتحدث معها ويعرف حديثها ، وأن يستفيد منها في إرساء النظام التوحيدي وتقوية دعائمه ، وتحطيم مظاهر الشرك والوثنية وتقويض قواعدها ، كما استفاد سليمان من الهدهد ذلك الأمر ، والظاهر أنّه لا خصوصية للمورد.

ص: 254


1- النمل : 19 - 28.
2- النمل : 16.
3- النمل : 17.

سريان الشعور في الجمادات

تحدّثت الآيات القرآنية عن هذه الحقيقة بنحو ما ، وراحت تنسب أفعالاً إلى ( الجمادات ) تقترن بالشعور وتثبت الإدراك لها.

فالقرآن الكريم يرى أنّ سقوط بعض الصخور من نقطة ما إنّما هو نتيجة خوفها من اللّه وخشيتها منه تعالى إذ يقول :

( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه ) (1).

نعم ربما يحتمل أنّ المراد من قوله تعالى : ( وإِنَّ مِنها ( مِنَ الحْجَارَةِ ) لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ... ) هو التعبير عن شدّة قسوة قلوب اليهود ، بشهادة أنّ من الحجارة ما تتفجّر منه الأنهار ، دون قلوبهم ، وانّ من الحجارة ما يهبط من خشية اللّه دونها ، وعند ذاك لا تصلح الآية للاستدلال على سريان الشعور في الموجودات عامّة.

غير انّ هذا الاحتمال لا يضر بما ذهبنا إليه ، فإنّ التعبير عن شدّة قسوة قلوبهم يجتمع مع دلالة الآية على سريان الشعور في عامّة الموجودات ، فإنّ الآية أثبتت للحجارة صفتين : التفجّر ، والهبوط من خشية اللّه.

فكما أنّ التفجّر أمر حقيقي لها ، فكذلك الهبوط من خشية اللّه أمر حقيقي لها ، ومع ذلك تدلّ على شدّة قسوة قلوبهم.

وفي آية أُخرى يخبر القرآن الكريم عن قضية عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وامتناع هذه الأشياء عن حملها خشية وإشفاقاً فيقول :

( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ والأرض وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا

ص: 255


1- البقرة : 74.

وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ ) (1).

غير أنّ طائفة من المفسرين فسّروا هذه الآية ونظائرها بالمعاني المجازية ، وبأنّ كل هذا الذي يخبر عنه القرآن تم بلسان الحال ، بمعنى أنّها أبين وأشفقن عن تحمّل الأمانة المعروضة عليها ، بلسان حالها ، لا بلسان مقالها الكاشف عن الشعور في حين أنّ هذا التفسير والحمل ضرب من اتخاذ المواقف قبل البحث والدرس وهو أمر لا مبرر له ، إذ لا دليل على حمل مثل هذه الآيات على غير ظاهرها ، وتأويل هذه الحقيقة - التي يتحدّث عنها القرآن بصراحة - بمعان مجازية ، ومحامل لم يقم عليها دليل.

على أنّ عدم توصل العلم إلى هذه الحقيقة ، أعني : وجود الشعور عند عامّة الموجودات لا يكون دليلاً - أبداً - على عدم وجود هذا الشعور عند هذه الكائنات ، لأنّ وظيفة العلم إنّما هي الإثبات فقط ، وليس للعلم حق « النفي » والسلب ، والإنكار.

إنّ العلم لم يبلغ تلك المرحلة من المعرفة ، والإحاطة بحقائق الكون ، إحاطة يمكنه معها أن ينكر ما لا يعرف وجوده أو عدمه (2).

وفي موضع آخر يقول القرآن في هذا الصدد :

ص: 256


1- الأحزاب : 72.
2- وهذه إحدى الفروق بين العلم والفلسفة فإنّ للثانية حق النفي والإثبات وليس للأوّل ذلك الحق ، لأنّ الوسائل التي يتوسل بها العلم للتحقيق أقصر من أن يتوسل بها إلى الإحاطة بجميع الموجودات ، وهذا بخلاف الفلسفة فإنّها تجعل صفحة الوجود مسرحاً لنقاشها ونفيها ، وإثباتها وللبحث عن الفرق الكامل بين العلم والفلسفة موضع آخر.

( لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) (1).

ولا ريب أنّنا لو تجرّدنا عن آرائنا الشخصية حول الآيات القرآنية ، لوجب علينا أن نقول : إنّ هذه الجبال لابدّ أنّها تنطوي على قابلية الخشوع والتصدّع لكي يصح أن يتوجه إليها الخطاب الإلهي القرآني.

إذ ليس من المعقول أن ينسب القرآن الكريم - وليس من شأنه المبالغة الكاذبة - هذا النوع من الحالة ( أي حالة الخشوع ) إلى ما لا يكون قابلاً لها.

وربّما يحتمل أنّ الآية كناية عن عظمة القرآن وجلالة قدره ، بدليل انّه لو أنزله اللّه على جبل لخشع وتصدّع ، ولا يستلزم هذا إثبات قابلية الشعور في الجبال.

غير انّ الإجابة على هذا الاحتمال واضحة جداً ، فإنّ هذا التفسير مبني على ما سلّم به القائل مسبقاً من أنّه لا شعور في الجبال ، ولذلك عاد ففسر الآية على ما بنى عليه.

ولو تخلّى عن هذه الفكرة - كما قلناه آنفاً - ودرس الآية بدون فكرة سابقة لوقف على أنّ الآية مع دلالتها على عظمة القرآن تدل أيضاً على وجود شعور في الجبال ، وقابلية للخضوع والخشوع الحقيقيين لديها.

وليست دلالة الآية على عظمة القرآن مانعة عن دلالتها على الأمر الثاني.

ويستفاد وجود مثل هذا الشعور والوعي في الجبال من بعض الآيات الأُخرى عندما تقول :

( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ) (2).

ص: 257


1- الحشر : 21.
2- إبراهيم : 46.

وكقوله تعالى :

( تَكَادُ السَّماوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدّاً ) (1).

فإذا لم تكن في « الجبال » تلك القابلية وذلك الوعي لما يدور خارجها لما صحت هذه التوصيفات والنسب ، ولوجب حينئذ أن نفترض لهذه الآيات « معاني مجازية » من قبيل المبالغة ، والتمثيل تماماً كما ذهب إليها بعض المفسرين حيث ارتكبوا حملها على التجوز والتمثيل.

نعم يمكن أن تكون الآية وسابقتها ناظرتين إلى أمر آخر وهو : أنّ عظم مكرهم بلغ إلى حد يمكن أن تنقلع به الجبال وتنشق السماء والأرض ، والإزالة والانشقاق أثر المكر لا أن تزول وتنشق بتأثر ناشئ عن إدراك وشعور لديها.

فمكرهم أو قولهم بأنّ اللّه اتخذ ولداً قد بلغ من التأثير السيّء إلى حد الآلة الهدامة.

على أنّ الآيات المرتبطة بيوم القيامة تكشف النقاب عن وجود هذا الوعي والشعور - فضلاً عن إمكانه - حيث إنّها تخبرنا عن تكلّم الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها على الإنسان في ذلك اليوم الرهيب بأمر اللّه ، فإذا بها تشهد على العصاة بكل ما فعلوا من أفاعيل ، وآثام ، بدقة متناهية.

وإليك هذه الآيات :

( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (2).

( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا

ص: 258


1- مريم : 90.
2- النور : 24.

يَكْسِبُونَ ) (1).

( وَيَومَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللّه إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إَذَا مَا جَاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2).

نعم الآية واردة في شهادة الجلود يوم القيامة وألاستدلال بها على إمكانية وجود الشعور في جلود الإنسان هنا في الدنيا يحتاج إلى لطافة ذوق فإنّ النشأة الأُخروية ليست مباينة للنشأة الدنيوية.

ثم إنّ القرآن يشهد - بصراحة تامة - في آيات أُخرى بأنّ الأرض تتحدث بأمر اللّه وتخبر عما وقع على ظهرها إذ يقول :

( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ ( أي الأرض ) أخْبَارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) (3).

كما أنّ القرآن الكريم يخبرنا عن طاعة « السماوات والأرض » الكاشفة عن وجود مثل هذا الوعي فيها إذ يقول :

( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (4) (5).

ص: 259


1- يس : 65.
2- فصلت : 19 - 21.
3- الزلزلة : 4 - 5.
4- فصلت : 11.
5- والخطاب إلى السماء والأرض باعتبار أنّ الخطاب توجّه إليهما بعد إيجاد مادتهما الأُولى بشهاد قوله سبحانه : ( وَهِيَ دُخَانٌ ) فلا يمكن قياس تلك الآية بالآيات التي ورد فيها لفظ كن ، فإنّ الخطاب هناك تكويني لغرض الإيجاد ، دون المقام.

هذه الآيات ونظائرها تفيد - حسب نظر من يتخلّى عن آرائه الشخصية عند فهم مقاصد القرآن - سريان الشعور والفهم في جميع أجزاء هذا العالم ، وذراته.

أمّا كيف وماذا تكون حقيقة هذا الشعور والفهم والوعي ، وما هو مستواها وحجمها فذلك ما ليس بواضح ولا معلوم لنا ، بيد أنّ هذا الجهل لا يمكن أن يكون سبباً للإنكار فما أكثرها من حقائق في هذا الوجود لا يعرفها البشر المحدود الرؤية والتفكير.

ومما يجدر بالذكر أنّ الأدعية الإسلامية قد أشارت إلى هذا الموضوع ، نذكر من باب المثال بعض النماذج :

« تسبّح لك الدواب في مراعيها والسباع في فلواتها ، والطير في وكورها ، وتسبح لك البحار بأمواجها والحيتان في مياهها » (1).

كما أنّنا نقرأ في « الصحيفة السجادية » نظير هذا حيث يخاطب الإمام السجاد « الهلال » عند رؤيته ، إذ يقول علیه السلام :

« أيّها الخلق المطيع الدائب السريع المتردّد في منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التدبير ... » (2).

بعد ملاحظة هذه الآيات والروايات الكاشفة عن سريان الشعور والفهم في كل الموجودات يتعيّن علينا أن نختار نظرية المرحوم صدر المتألّهين التي فسر فيها التسبيح المذكور في مورد الكائنات عامة ، بالتسبيح « الحقيقي الواقعي » بمعنى أنّ

ص: 260


1- راجع كتب الأدعية.
2- الصحيفة السجادية : الدعاء : 43.

الموجودات تسبّح لله ، عن شعور وإدراك لا بلسان « الحال » والتكوين كما ذهبت إليه النظريات الأُخرى.

البرهان العقلي على هذا الرأي

ويمكن إثبات هذا الرأي بالدليل العقلي ، وأُصول « الحكمة المتعالية » (1) وخلاصة ذلك هي : أنّ الوجود - في كل مراتبه - ملازم للشعور والعلم والوعي ، وكل شيء نال حظاً من الوجود ، فإنّه يتمتع بالوعي والعلم والشعور بقدر ما نال من الوجود.

ويتألّف الدليل الفلسفي لهذا الادّعاء من مقدمتين ونتيجة :

1. انّ ما هو أصيل في الكون ، ومصدر لجميع الآثار والكمالات هو : « الوجود ».

فهو منبع كل فيض معنوي ومادي وهو منشأ كل علم وقدرة وكل إدراك وحياة.

فكل ذلك ناشئ من وجود الأشياء ، بحيث لو انتفى الوجود من البين ، لتوقّفت جميع الحركات وسكنت جميع النشاطات وانعدمت كل الفيوض وآل كل ذلك إلى العدم.

2. ليس للوجود - في كل مراحله من واجب وممكن ومجرد ومادي وعرض وجوهر - إلاّ حقيقة واحدة لا أكثر.

وحقيقة الوجود وان لم تكن واضحة لنا ولكننا يمكننا أن نتعرف عليها

ص: 261


1- هذه اللفظة تشير إلى مدرسة شيخ المتألّهين صدر الدين الشيرازي رحمه اللّه .

بسلسلة من المفاهيم الذهنية ونقول :

إنّ الوجود هو الذي يطرد العدم وتفيض العينية والتحقّق منه للأشياء.

وبعبارة أُخرى : ليست للوجود - من أشرفه إلى أخسّه ، من واجبه إلى ممكنه - إلاّ حقيقة واحدة ، تتفاوت في الشدة والضعف حسب تفاوت مراتبه ودرجاته وليست الشدة إلاّ نفس الوجود ، لا أمراً منضماً إليه وليس الضعف إلاّ محدودية الوجود.

فللوجود - في جميع مراتبه - حقيقة واحدة ، ونشير إلى تلك الحقيقة الواحدة بأنّها « طاردة للعدم » أو كونها نفس العينية الخارجية ، وإن كانت لتلك الحقيقة مراتب مختلفة من الشدة والضعف لكن الاشتداد ليس إلاّ نفس الوجود لا أمراً زائداً عليه ، كما أنّ الضعف ليس إلاّ محدوديته ، لا أمراً ينضم إليه.

فإذا اعتبرنا الوجود منبعاً للكمالات ، وأنّه ليس له إلاّ حقيقة واحدة لا أكثر وجب أن نستنتج من تلك المقدمات هذه النتيجة وهي : إذا كان الوجود في مرتبة خاصة من مراتبه - كوجود الحيوانات - ذا أثر ، وهو العلم والشعور فلابد أن يكون هذا الأثر سارياً في كل المراتب بنسبة ما فيها من الوجود.

وغير هذه الحالة يجب إمّا أن لا يكون الوجود منشأ للكمالات ومنبعاً للآثار وإمّا أن نتصور للوجود حقائق متباينة ، أي أن نعتبر حقيقته في مرتبة الحيوانات متغايرة عما هي في مرتبة النباتات والجمادات.

إذ ليس من المعقول أن يكون لحقيقة واحدة أثر معين في مرتبة دون مرتبة أُخرى منها.

وبتعبير آخر إذا كان الوجود ذا حقائق متباينة جاز أن يكون ذا أثر معين في

ص: 262

مورد ما بينما يكون فاقداً لذلك الأثر في مورد آخر.

ولكن إذا كانت للوجود حقيقة واحدة ، ولم تختلف مصاديقها إلاّ في الشدة والضعف فحينئذ لا معنى لأن يكون الوجود ذا أثر في مرحلة بينما يكون فاقداً لذلك الأثر في مرحلة أُخرى.

هذه هي خلاصة البرهان الفلسفي الذي تحدث عنه المرحوم صدر المتألّهين في مواضع مختلفة من كتبه.

على أنّ ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه الحقيقة إذ تقول : ( وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (1).

سريان الشعور والعلم الحديث

من حسن الحظ أنّ العلوم الحديثة - اليوم - أثبتت بفضل جهود المحققين والباحثين : « وجود الوعي والعلم » في عالم النبات إلى درجة أنّ علماء روس اعتقدوا بأنّ للنبات أعصاباً على غرار الإنسان ، وأنّها تصرخ وتظهر من نفسها ردود فعل معينة.

وإليك ما نشرته صحيفة اطلاعات في هذا الصدد :

« كشفت إذاعة موسكو عن نتائج جديدة لتحقيقات علماء روس في عالم النبات حيث قالت : بأنّ العلماء توصلوا مؤخراً إلى أنّ للنباتات أجهزة عصبية شبيهة بالأجهزة في الحيوانات.

ولقد توصل العلماء إلى هذه الحقيقة بعد أن علّقوا أجهزة سمع وبث

ص: 263


1- الإسراء : 44.

الكترونية دقيقة على ساق نبات القرع ثم لاحظوا - بوضوح - ظهور ردود فعل غريبة على ساق النبات المذكور عندما راحوا يقطعون بعض جذوره !!

وفي الوقت ذاته كانت قد أُجريت اختبارات مشابهة في المختبر الفسيولوجي للنبات بأكاديمية العلوم الزراعية أفرزت نتائج مشابهة أيضاً !

ففي هذه الاختبارات وضعوا جذور إحدى النباتات في ماء ساخن فضبطوا على أثره صيحات ألم وأنات صدرت من النبات غير أنّ هذه الأصوات لم تسمع بالطبع بالأُذن المجردة ، وإنّما أجهزة تسجيل الأصوات الالكترونية الدقيقة هي التي التقطت هذه الصرخات ، وسجلتها على أشرطة خاصة » (1).

ص: 264


1- جريدة اطلاعات.

الفصل الخامس: اللّه والتوحيد الذاتي « وانّه لا نظير ولا مثيل له »

اشارة

ص: 265

اللّه والتوحيد الذاتي

1. أنواع الوحدات.

2. شهادة اللّه على وحدانيته سبحانه.

3. بحث حول كيفية شهادته سبحانه.

4. إجابة عن سؤال.

5. وجود اللّه غير متناه.

6. عوامل المحدودية منتفية في ذاته تعالى.

7. اللامحدود لا يتعدد.

8. سؤال وجواب.

9. سؤال آخر وجواب.

10. أحاديث أئمّة أهل البيت حول وحدانية اللّه.

11. وحدة اللّه ليست وحدة عددية.

12. الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث.

13. كيف تسرب التثليث إلى النصرانية ؟

14. رأي القرآن في التثليث.

15. آثار المسيح البشرية.

ص: 266

التوحيد في الذات

قبل الخوض في دراسة الآيات القرآنية وتحليل الدلائل العقلية والمرتبطة بوحدانية الذات الإلهية المقدسة يلزم أن نذكّر القارئ الكريم بنقاط هي :

1. قلنا فيما تقدم أنّ المحقّقين الإسلاميين اختصروا ولخصوا مراتب التوحيد في أربع هي :

أ. التوحيد الذاتي.

ب. التوحيد الصفاتي.

ج. التوحيد الإفعالي.

د. التوحيد العبادي.

لكن مراتب التوحيد - في الحقيقة - لا تنحصر في هذه الأقسام الأربعة ، بل ثمة مراتب أُخرى له قد ورد ذكرها في الكتاب العزيز ، وسوف يوافيك شرحها ، وبيانها تدريجياً.

والمقصود من « التوحيد الذاتي » هو أنّ اللّه لا شريك ولا نظير ولا شبيه ولا مثيل له.

وبتعبير أوضح ، إنّ « التوحيد الذاتي » هو أنّ الذات الإلهية لا تقبل التعدّد

ص: 267

ولا يمكن أن يتصوّر الذهن مصداقاً وفرداً آخر لله في عالم الخارج ، فالذات الإلهية تكون بحيث لا تقبل التعدّد والتكثّر.

* * *

2. يتركز اهتمام القرآن - في الأغلب - على : مسألة « التوحيد الافعالي » و « التوحيد العبادي » وقلّما يهتم القرآن - في الظاهر - بالتوحيد « الذاتي » والتوحيد في « الصفات » وقلّما يتناولهما بالبحث والبيان.

بيد أنّ الناظر في المفاهيم والمعارف التي يتناولها القرآن الكريم لو أجاد النظر في الآيات القرآنية لوجد أنّ القرآن تعرض للمسألتين الأخيرتين أيضاً ، ولكن في مستويات أرفع يحتاج فهمها واستيعابها واستنتاجها إلى مزيد فحص وإمعان.

* * *

3. لقد قسّم الفلاسفة الإسلاميون الوحدة إلى أربعة أنواع :

أ. الوحدة الشخصية ( العددية ).

ب. الوحدة الصنفية.

ج. الوحدة النوعية.

د. الوحدة الجنسية.

ولتوضيح ذلك نقول :

هناك « وحدة شخصية » و « واحد بالشخص » كما أنّ هناك « وحدة صنفية » و « واحداً بالصنف » ثم « وحدة نوعية » و « واحداً بالنوع » كما أنّ هناك « وحدة جنسية » و « واحداً بالجنس ».

ص: 268

وربما يخلط بينهما وإلى هذا الاختلاط والالتباس يشير الحكيم السبزواري في منظومته الفلسفية قائلاً :

وواحد بالنوع غير النوعي *** في مثله التمييز أيضاً مرعي

وعمدة الفرق بين الصورتين أنّ الأمرين اللّذين يقعان تحت الصنف أو النوع الواحد مثلاً يسميان « واحداً بالنوع أو بالصنف أو بالشخص أو بالجنس ».

فزيد وعمرو بما أنّهما داخلان تحت « نوع واحد » وهو « الإنسانية » فهما واحدان بالنوع كما أنّ مفهوم الإنسانية له « وحدة نوعية ».

والإنسان والفرس بما أنّهما داخلان تحت جنس واحد فهما « واحدان بالجنس » أعني الحيوانية ، كما أنّ ذلك المفهوم « أي مفهوم الحيوانية » له وحدة جنسية.

وقس عليه الوحدة الصنفية مثلاً ، فالطالبان بما أنّهما داخلان تحت عنوان طلبة العلم فهما واحدان بالصنف ويكون لمفهوم الطالبية « وحدة صنفية ».

4. على هذا الأساس لا يمكن ولا يجوز أن نصف اللّه تعالى بالوحدة العددية بأن نقول اللّه واحد ليس باثنين.

إذ أنّ هذا التعبير إنّما يجوز استعماله فيما يمكن تصور فرد « ثان » للشيء الموصوف بالوحدانية ، في الخارج ، أو في عالم الذهن ، وان لم يكن للمفهوم المعين سوى مصداق واحد.

ولكن إذا كانت كيفية وجود الشيء بحيث لا يمكن تصور فرد آخر مثيل له أبداً ، كما بالنسبة إلى اللّه سبحانه ، ففي هذه الصورة لا تتحقق الوحدة العددية مطلقاً ، ولا يصح إطلاقها واستعمالها في مثل هذا المورد بتاتاً.

ص: 269

إنّ الدلائل العقلية ، التي سنذكر طائفة منها - في هذا المقام - لتذكرنا وتهدينا إلى النقطة الهامة ، وهي : أنّ الذات الإلهية « حقيقة خارجية » لا تقبل التعدّد والكثرة بأي شكل من الأشكال وحتى لو أمكننا افتراض « ثان » له فإنّه سيكون نفسه لا غيره (1).

هذا مضافاً إلى أنّ « الوحدة العددية إنّما تصح إذا اندرج الفرد الواحد المعين تحت ماهية كلية كالفرد أو الفردين من أفراد الإنسان التي تندرج تحت عنوان الإنسان.

وهذا التصور باطل في شأن « اللّه » ، إذ لا تندرج ذاته سبحانه أبداً تحت أية ماهية كلية.

وبتعبير فلسفي ، إنّ اللّه منزّه عن الماهية وأن يندرج تحت مفهوم ذاتي.

5. سنبحث في الفصل التاسع من هذا الكتاب حول لفظة « الإله » و « اللّه » وسوف نقول هناك أنّ لفظة إله ولفظة اللّه ترجعان - لفظاً ومعنى - إلى شيء واحد غير أنّ لفظة « إله » عامّة ولفظة « اللّه » اسم خاص ، ولذلك يجمع الأوّل لكونه اسماً عاماً ، في حين لا يمكن جمع الثاني لكونه اسماً خاصاً ، وعلماً.

فعلى هذا تكون الآيات التي وردت في القرآن الكريم بشكل « لا إله إلاّ اللّه » وما شابهها ناظرة إلى وحدانية الذات الإلهية ، ونفي المثيل والنظير له تعالى.

وقد أخطأ من حمل هذه الآيات على « التوحيد العبادي » ونفي معبودات غير اللّه ، لأنّ « إله » كما قلنا ليس بمعنى المعبود ، بل هو ولفظة اللّه سواسية في اللفظ والمعنى.

ص: 270


1- سوف نوضح هذا البرهان بمزيد من البيان في المستقبل.

6. انّ أوضح آية دلالة على توحيد الذات ونفي الشريك والنظير لله سبحانه هو قوله تعالى :

( شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

وقد وردت في القرآن آيات أُخرى بهذا المضمون وفي عبارات متنوعة مثل :

( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (2).

( لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (3).

( لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ ) (4).

( لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا ) (5).

وغير ذلك مما يمكن الوقوف عليها بمراجعة « المعجم المفهرس لألفاظ القرآن » بسهولة ويسر.

وإليك آيات أُخرى في هذا الصدد :

( فَاطِرُ السَّماوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجَاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (6).

ص: 271


1- آل عمران : 18.
2- محمد : 19.
3- الحشر : 22.
4- الأنبياء : 87.
5- النحل : 2.
6- الشورى : 11.

وهل الكاف في الآية زائدة فيكون هدف الآية نفي المثل له ، أو غير زائدة فيكون معناها نفي مثل المثل له ، ويستلزم ذلك نفي المثل بالدلالة الالتزامية إذ من الطبيعي أنّه إذا لم يكن لمثل الشيء مثل فلن يكون لذاته مثل أصلاً.

وتوضيح ذلك :

قال التفتازاني : إنّ الآية بصدد نفي شيء بنفي لازمه ، لأنّ نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال : ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه ، لأنّه لابد لأخي زيد من أخ هو زيد ، فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه ، أي ليس لزيد أخ ، إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد.

فكذا نفيت أن يكون لمثل اللّه مثل ، والمراد نفي مثله تعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير انّه موجود.

ثم نقل عن صاحب الكشاف وجهاً آخر لعدم زيادة الكاف ، وهو : انّهم قد قالوا مثلك لا يبخل والغرض نفيه عن ذاته ، فسلكوا طريق الكناية قصداً إلى المبالغة ، لأنّهم إذا نفوه عما يماثله وعمّن يكون على أخص أوصافه فقد نفوه عنه. فحينئذ لا فرق بين قوله : ليس كاللّه شيء وقوله : ليس كمثله شيء ، إلاّ ما تعطيه الكناية من فائدتها وهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته (1).

( قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ * اللّه الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (2).

ص: 272


1- المطول : بحث المجاز المفرد 320.
2- الإخلاص : 1 - 4.

توضيحات حول الآية الأُولى

تذكر الآية الأُولى - بجلاء تام - شهادة اللّه والملائكة والعلماء على وحدانية اللّه ، وعلينا هنا أن نعرف كيف تكون شهادة اللّه على هذا الموضوع.

1. يمكن أن تحمل هذه الشهادة على الشهادة القولية كما نشهد نحن على وحدانيته بقولنا : « لا إله إلاّ اللّه ».

وقد شهد اللّه على وحدانيته بالشهادة اللفظية عن طريق القرآن وهو الوحي والكلام الإلهي ، ضمن الآيات التي تعرضت لبيان هذه الوحدانية وإثباتها ، وقد أشرنا إلى بعضها - فيما تقدم -.

وجملة ( قَائِمَاً بِالقِسطِ ) إشارة إلى القسط الإلهي في القول والعمل ، ومن المعلوم أنّ قبول الشهادة فرع « عدالة الشاهد » وصدقه فلما كان الشاهد عادلاً كانت شهادته صادقة وصحيحة.

2. يمكن أن تكون هذه الشهادة ( المذكورة في الآية ) شهادة عملية ، لأنّ اللّه بخلقه الكون الذي يسوده نظام واحد ، وتترابط أجزاؤه ، وكأنّها موجود واحد ، وكائن فارد أثبت عملياً وحدانية الذات المدبرة لهذا الكون ووحدانية الإرادة المنظمة ، الحاكمة على هذا العالم.

أليس لو كان يحكم إلهان أو أكثر على هذا الكون لم يكن هذا النظم ، ولما كان لهذا التلاحم والترابط وجود ولا أثر ؟

والحق أنّ « الرأي الأوّل » أفضل وأقوم ، لانسجام هذا الرأي مع شهادة الفريقين الآخرين ، أعني : شهادة الملائكة وأُولي العلم ، التي يناسب أن تكون شهادتهما « قولية » ، وحفظ سياق الآية يقتضي تفسير الشهادات الثلاث بمعنى

ص: 273

واحد.

هذا مع العلم أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي تخبر عن شهادة « اللّه » ، بل ورد نظير ذلك في آيات أُخرى أيضاً ، ولا يمكن لأحد حملها على الشهادة العملية فقط .. وذلك مثل : ( لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى باللّهِ شَهِيداً ) (1).

ولأجل ورود مثل هذه الشهادة في القرآن الكريم ( خاصة بالنظر إلى قوله يشهد بما أنزل ) ينبغي أن نحمل الشهادة المذكورة في الآية المبحوثة على : الشهادة اللفظية ، التي يحكي « الوحي » الإلهي عنها.

سؤال في المقام

اشارة

إنّ الهدف من الشهادة هو أن يتعرف السامع على حقيقة ما ، لاعتقاده بعدالة الشاهد وصدقه حتى إذا كان « المشهود به » من القضايا الاعتقادية اعتقد به ، وإذا كان من الوظائف العملية أتى به.

ولا شك في أنّه لا شاهد أعدل من « اللّه » ولا أصدق منه حديثاً ، فإذا شهد بوحدانية نفسه ، أزالت هذه الشهادة كل شك في ذلك وكل ريب وتردد.

ولكن من أين يمكن إثبات أنّ هذا القرآن الذي يتضمن شهادة اللّه ، هو كلام اللّه وحديثه وخطابه ووحيه ؟!

والجواب : أنّ القرآن أثبت انتسابه إلى اللّه تعالى عن طريق تحدي الناس ، وأنّه

ص: 274


1- النساء : 166.

ليس من صنع الفكري البشري ، وعن طريق عجز الناس عن مواجهة هذا التحدي ، والإتيان بمثل القرآن في جميع الدهور.

وإذا ثبت كون القرآن « وحياً إلهياً » عن هذا الطريق ، لزم قبول كل الشهادات الواردة فيه - بشكل مطلق - دونما مناقشة أو تردد.

* * *

وأمّا الفريق الثاني من الشهود ، أعني : الملائكة ، فهو يسبح لله باستمرار وعلى الدوام وينزّهه ، ويقدّسه عن كلّ عيب ونقص وخاصة عن الشريك.

وقد نقلت شهادة هذا الفريق في الكتاب العزيز بنحو آخر ، إذ يقول القرآن :

( وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (1).

* * *

وأمّا الفريق الثالث من الشهود ، أعني : أُولي العلم ، فهم يشهدون بوحدانية اللّه بالاستلهام من البراهين المتنوعة ، كبرهان « الفطرة » ، لأنّ الإنسان يتوجه عند الشدائد ، إلى اللّه الواحد دائماً ، وهذا هو خير دليل على وحدانيته سبحانه.

هذا بالإضافة إلى غيره من الأدلّة العقلية ، وآيات وحدانية ذاته تعالى ، التي تهديهم إلى هذه الشهادة ، ونحن - في هذا الفصل - سنشير إلى بعض هذه الأدلة العقلية الدالة على وحدانية الذات الإلهية ، كما سنورد الدلائل الآفاقية ، والأنفسية ، على وحدانية خالق الكون في فصل « التوحيد في الخالقية ».

ص: 275


1- الشورى : 5.

ولا يفوتنا أن نطلب من القارئ الكريم في هذا المقام أن يعيد مطالعة الآية المبحوثة ويمعن فيها وفي مفادها ثم يسلم ويخضع أمام منزلها وموحيها ، لكي يكون في عداد الشهود بوحدانية اللّه ، مع الملائكة وأُولي العلم.

قال الزبير بن العوّام : قلت لأدنونّ هذه العشية من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهي عشية عرفة حتى أسمع ما يقوله ، فحبست ناقتي بين ناقة رسول اللّه وناقة رجل كانت إلى جنبه فسمعته صلی اللّه علیه و آله يقول : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) إلى آخرها ، فما زال يردّدها حتى رفع. (1)

والآن حين انتهينا من دراسة الآية الأُولى ، يلزم أن نعطي بعض التوضيحات حول الآية الثانية ، والثالثة.

ففي الآية 11 من سورة الشورى جاء قوله سبحانه هكذا :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) .

وفي الآية الرابعة من سورة الإخلاص نقرأ قوله سبحانه :

( ولمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

فلماذا ليس لله مثيل ولا نظير ؟

فهل من غير الممكن أن يكون له نظير ؟

أم أنّ ذلك ممكن - أساساً - ولكن لم يكن لله تعالى نظير ولا مثيل من باب المصادفة والاتفاق.

إنّ الدلائل العقلية والقرآنية تهدينا إلى امتناع مثل هذا الكفو والنظير -

ص: 276


1- مجمع البيان : 1 - 2 / 717.

أساساً - ولذلك يتعين علينا أن نتوقف هنا قليلاً ونصغي إلى شهادة العقل.

لقد استدل الفلاسفة الإسلاميون على وحدانية الذات الإلهية المقدسة من طريقين :

أ. الوجود « غير المتناهي » لا يقبل التعدّد.

ب. الوجود « المطلق » لا يقبل التعدّد.

وسنعمد - هنا - إلى توضيح البرهان الأوّل فحسب ، لكونه ذا جذور قرآنية.

وأمّا البرهان الثاني فيطلب توضيحه من الكتب الفلسفية والكلامية ، التي تتحدث عن الصفات الإلهية (1).

وإذا ثبتت لنا « لا محدودية » وجود اللّه ، حينئذ يسهل علينا تصوّر توحيده.

والآن يجب علينا إثبات الأمرين (2) بأوضح دليل وبرهان.

أ. وجود اللّه غير متناه

اشارة

إنّ محدودية الموجود ملازمة للتلبس بالعدم.

لنفترض كتاباً طبع بحجم خاص ثم لننظر إلى كل طرف من أطرافه الأربعة ، فإنّا نرى أنّه ينتهي - ولا شك - إلى حد معين ينتهي إليه وجود الكتاب ، وحدود حجمه ، ولا شيء وراء ذلك.

ولنفترض جبال الهملايا فهي مع عظمتها محدودة أيضاً ، ولذلك لا نجد بين

ص: 277


1- شرح المنظومة للحكيم السبزواري : 143 ، وفي ذلك يقول : صرف الوجود كثرة لم تعرضا *** لأنّه أمّا التوحد اقتضى
2- أي لا محدودية اللّه ، واستلزام ذلك ، لتوحيده تعالى.

كل جبلين من جبال الهملايا أي أثر للجبل وذلك دال على أنّ كلاًّ من الجبلين محدود.

من هذا البيان نستنتج أنّ « محدودية » أية حادثة من حيث « الزمان » أو محدودية أي جسم من حيث « المكان » هي أن يكون وجوده مزيجاً بالعدم ، وانّ المحدودية والتلبس بالعدم متلازمان.

ولذلك فإنّ جميع الظواهر والأجسام المحدودة « زماناً ومكاناً » مزيجة بالعدم ، ويصح لذلك أن نقول في حقّها بأنّ الحادثة الفلانية ، لم تتحقق في الزمان الفلاني أو أنّ الجسم الفلاني لا يوجد في المكان الفلاني.

على هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذات « اللّه » محدودة ، لأنّ لازم المحدودية هو الامتزاج بالعدم ، والشيء الموجود الممزوج بالعدم موجود باطل لا يليق للمقام الربوبي الذي يجب كونه حقاً ثابتاً مائة بالمائة كما هو منطق القرآن الكريم والعقل حول اللّه سبحانه.

( ذلِكَ بأنَّ اللّه هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ ) (1).

ويمكننا أن نستدل لإثبات لا محدودية الذات الإلهية بدليل آخر هو :

عوامل المحدودية منتفية في ذاته

ويقصد من « انتفاء عوامل المحدودية في ذاته » أنّ للمحدودية موجبات وأسباباً ، منها : « الزمان والمكان » فهما من أسباب محدودية الظواهر والأجسام.

فالحادثة التي تقع في برهة خاصة من الزمان حيث إنّ وجودها مزيج

ص: 278


1- الحج : 62.

بالزمان ، فمن الطبيعي أن لا تكون هذه الظاهرة في الأزمنة الأُخرى.

كما أنّ الجسم الذي يشغل حيزاً ومكاناً معيناً من الطبيعي أن لا يكون في مكان وحيز آخر ، وهذا هو معنى « المحدودية ».

في هذه الصورة لا بد أن يكون وجود اللّه المنزّه عن الزمان والمكان منزّهاً من هذه القيود المحدّدة.

وحيث لا يمكن تصوّر الزمان والمكان في شأنه تعالى ، لزم وصفه سبحانه باللامحدودية من جانب الزمان والمكان.

وبتعبير آخر ، أنّ الشيء الذي يتصف بالكم والكيف لابدّ وأن يكون محدوداً بحد ، إذ لازم اتصاف الشيء بكمية أو كيفية معينة ، هو عدم اتصافه بكمية وكيفية أُخرى مضادة (1).

أمّا عندما يكون الشيء خالياً وعارياً عن أي نوع من أنواع الكيفية والكمية ، بل يكون وجوده أعلى من الاتصاف بهذه الأوصاف فإنّه يكون لا محالة « غير متناه » وغير محدود من هذه الجهات ، كما هو واضح وبديهي.

إلى هنا استطعنا أن نثبت - ببيان واضح - لا محدودية الذات الإلهية ، وقد حان الأوان أن نثبت المطلب الثاني ، أعني : عدم إمكان تعدّد اللامحدود.

ب. اللامحدود لا يتعدّد

هذا أمر يتضح بأدنى تأمل ، لأنّنا إذا اعتبرنا « اللامحدود » متعدداً فإنّنا

ص: 279


1- لأنّ التكيّف والاتصاف بالكيفيات والكميات والإضافات والانتسابات توجب للأشياء المحدودية بالحدود ، والموجود العاري عن هذه القيود لا يتحدد بأي نوع من المحدودية ، واللّه سبحانه منزَّه عن الكيف والكم ، منزَّه عن الانتساب والإضافة.

نضطر حينئذ - لإثبات الاثنينية - إلى أن نعتبر كل واحد منهما « متناهياً » من جهة أو جهات ، ليمكن أن نقول : هذا غير هذا.

لأنّ ذينك الشيئين إذا كان أحدهما عين الآخر من كل الجهات لم يصدق - حينئذ - كونهما اثنين ، أي لم تصح الاثنينية.

وبعبارة أُخرى : انّ نتيجة قولنا : هذا غير ذاك. هي أنّ وجود كل واحد منهما خارج عن وجود الآخر ، وإنّ الثاني يوجد حيث لا يوجد الأوّل ويوجد الأوّل حيث لا يوجد الثاني ، وهذه هي « المحدودية » و « التناهي » ، في حين أنّنا أثبتنا في الأصل الأوّل : « عدم محدودية اللّه وعدم تناهيه ».

ومن باب المثال نقول : إنّما يمكن افتراض خطين غير متناهيين في الطول إذا كانا متوازيين ( أي كانا بحيث لا يشغل الأوّل مكان الثاني ) ، ففي مثل هذه الصورة فقط يمكن افتراض اللانهائية واللامحدودية في كل من الخطين.

أمّا عندما نفترض جسماً غير متناه في الكبر والسعة في جميع أبعاده فإنّه لا يمكن - حينئذ - أن نفترض وجود جسم آخر غير متناه في الكبر والسعة في جميع أبعاده على غرار الجسم الأوّل.

لأنّ المفروض أنّ الجسم الأوّل لكونه « غير محدود » في الكبر والسعة ، شغل كل الفضاء ، وبهذا لم يترك أي مجال لجسم آخر ، وإلاّ لعاد الجسم الأوّل « محدوداً » وهو خلاف ما افترضناه.

وحينئذ إمّا أن يكون الجسم الثاني عين الجسم الأوّل قطعاً ، وإمّا أن يكون الجسم الأوّل محدوداً من جهة أو من جهات.

وهكذا الأمر في الحقيقة الإلهية التي لا حد لها ولا نهاية.

***

ص: 280

من هذين البيانين اتضح مقصود القرآن الكريم من قوله :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

وقوله :

( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

كما اتضح أيضاً لماذا لا تكون الوحدة التي نصف بها الذات الإلهية ، وحدة عددية ، لأنّ مثل هذه الوحدة ( أي العددية ) إنّما تتصور إذا أمكن تصور فردين أو أفراد للشيء ، في حين لا يمكن تصور التعدّد في مورد اللامحدود ، لأنّ كل واحد من الفردين عند افتراض التعدّد ، غير الآخر ، ومنتهى حدود الآخر ، ولهذا يكون أي واحد منهما غير محدود ، وغير متناه في حين أنّنا افترضنا الأوّل غير محدود ، وغير متناه.

سؤال في المقام

نرى في الكتاب العزيز مجيء وصف « القهار » عقيب وصف اللّه ب « الواحد » مثل قوله :

( وَمَا مِنْ إِله إِلاَّ اللّه الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (1).

( سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (2).

( وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (3).

ص: 281


1- ص : 65.
2- الزمر : 4.
3- الرعد : 16.

وهنا ينطرح سؤال عن وجه الارتباط بين وصفي الوحدانية والقهارية ؟

الجواب :

الحق أنّ « القهارية » دليل على وحدانية اللّه ، لأنّ الشيء المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، وعلامة المقهورية هي أن يصح سلب أُمور منه ، مثلاً يصح أن يقال في شأنه :

هذا الجسم ليس هناك أو أنّه لم يكن في ذلك الوقت.

وعلى هذا فإنّ المقهورية هي سبب المحدودية.

وأمّا إذا كان الشيء « قاهراً » من كل الجهات ، فلا تتحكم فيه الحدود قطعاً ، واللامحدودية تستلزم الوحدانية والتفرّد ، ولأجل ذلك قورنت صفة الوحدانية بوصف القاهرية ، وقال : ( الوَاحِدُ القَهَّارُ ) .

وفي الحقيقة يمكن اعتبار هذا النوع من الوصف ( أي الوصف بالقهارية ) إشارة إلى ذلك الدليل العقلي الذي ذكرناه في هذه الإجابة.

وهكذا يتضح وجه الارتباط بين وصفي « الوحدانية » و « القهّارية » اللّذين اجتمعا في بعض الآيات القرآنية.

سؤال آخر :

إذا كان وجود اللّه منزّهاً عن الوحدة العددية ، ففي هذه الصورة ماذا يكون معنى الآيات التي تصف اللّه بأنّه « الواحد » ، والواحد ، كما نعلم ، هو ما يقابل الاثنين والثلاث إلى غيرهما من الأعداد ، كقوله سبحانه :

ص: 282

( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (1).

( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (2).

خاصة إذا عرفنا بأنّ هذه الآيات نزلت في مقام الرد على ما كان يذهب إليه المشركون من الاعتقاد ب « تعدّد الآلهة » ، والذين كانوا يقولون :

( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (3).

الجواب : انّ الهدف من هذه الآيات - في الحقيقة - هو استنكار ما كان يعتقده المشركون بأنّ لكل قبيلة وقوم إلهاً خاصاً بها كانوا يعبدونه ولا يعتقدون بآلهة الآخرين.

فالمقصود من هذه الآيات هو إبطال إلوهية هذه الأوثان والآلهة المدّعاة وتوجيه الأذهان إلى « اللّه الواحد » بدل تلك الآلهة المتعددة.

وأمّا أنّ وحدته كيف ؟ وعلى أي وجه ؟ ومن أي نوع من أنواع الوحدات الأربع تكون هذه الوحدة ؟ فليست الآيات المذكورة ناظرة إليه ، بل يجب استفادة هذا الأمر من الإشارات التي وردت في القرآن إلى هذه الوحدة في مواضع أُخرى.

أحاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام حول وحدانية اللّه

لقد ورد هذان الموضوعان ، أعني : عدم تناهي ذاته سبحانه وعدم الوحدة العددية ، المذكوران في البرهان العقلي في أحاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام أيضاً فهي

ص: 283


1- البقرة : 163.
2- العنكبوت : 46.
3- ص : 5.

صرّحت بنفي المحدودية والتناهي في الذات الإلهية ، وصرّحت أيضاً بعدم صدق « الوحدة العددية » في حقّه سبحانه.

فقد قال الإمام الثامن علي بن موسى الرضا علیه السلام في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء :

« ليس له حد ينتهي إلى حده ، ولا له مثل فيعرف بمثله » (1).

ومما يستحق الإمعان والدقة أنّ الإمام علیه السلام - بعد نفيه الحد عن اللّه - نفى المثيل له سبحانه لارتباط اللامحدودية وملازمتها لنفي المثيل على النحو الذي مر بيانه.

ومن ذلك ما قاله الإمام علي علیه السلام في وقعة الجمل عندما كان بريق السيوف يشد إليها العيون ، وكانت ضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح التفت إليه رجل من أهل العراق وسأله عن كيفية وحدانية اللّه ، فلامه أصحاب الإمام وحملوا عليه قائلين له : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ( أي تشتت الفكر واضطراب البال ) ؟!

فقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

« دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

ثم قال - شارحاً ما سأل عنه الأعرابي - :

« وقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ».

ص: 284


1- توحيد الصدوق : 33.

ثم أضاف علیه السلام قائلاً :

« هو ( أي اللّه ) واحد ليس له في الأشياء شبيه ، كذلك ربنا » (1).

وهكذا يصرح الإمام بأنّ الواحدية المذكورة هنا تعنى أنّه لا عديل له لا أنّه واحد على غرار قولنا : « هذا قلم واحد » الذي يكون مظنة لإمكان الاثنينية ، إذ في هذه الصورة يمكن أن يكون ذات مصاديق متعددة وأفراد متكثرة ، ولكنه انحصر في اللّه ، وهذا خلف ، وغير صحيح.

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث

بعد أن درسنا - بالتفصيل - الآيات المرتبطة بتوحيد اللّه ، يلزم أن نعرف نظر القرآن في حقيقة التثليث.

الحقيقة أنّه قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها المسيحية.

كما أنّه قلّما توجد مسألة في غاية الإبهام واللامعقولية كما تكون عليه مسألة « التثليث » في تلك العقيدة.

لقد أدّى تقادم الزمن وتطور الحياة والتكامل الفكري وتضاؤل العصبيات المذهبية والتحولات الفكرية ، أدّت كل هذه الأُمور إلى ظهور « طبقة » جديدة بين مفكري المسيحية وعلمائها ، كما تسببت في وجود فجوة عميقة بين العلم والمنطق من جانب ، وبين معتقداتهم القديمة من جانب آخر بشكل لا يمكن ملؤها بأي نحو ، وأي شيء.

غير أنّ هذه « الطبقة الجديدة » من العلماء المسيحيين اتخذت لملء هذه

ص: 285


1- توحيد الصدوق : 83.

الفجوة الفكرية وهذا الخلاء العقيدي طريقين :

الطريق الأوّل : محاولة البعض منهم لتأويل تلك المعتقدات المسيحية الباطلة المرفوضة حتى في المنطق البشري الحاضر ، وإعطاء هذه الأفكار الخرافية صبغة منطقية عصرية كما نشاهد ذلك في تأويلهم لمسألة التثليث.

الطريق الثاني : هو اجتناب التأويل واتباع قاعدة أتفه وهي قولهم : « بأنّ طريق العلم يختلف عن طريق الدين » وأنّه من الممكن أن يقول الدين بشيء أو يرتضي أصلاً لا يصدقه العلم فيه. وإنّه ليس من الضروري أن يطابق الدين مع العلم دائماً.

وبالتالي قبول خرافة « الدين يخالف العلم ».

ولكن هؤلاء غفلوا عن نقطة هامة جداً وهي أنّ القول بخرافة : « مضادة الدين للعلم » ستؤدي في المآل إلى إبطال أصل الدين ، لأنّ اعتقاد البشر بأي دين من الأديان يتوقف على الاستدلالات العقلية والعلمية ، وفي هذه الصورة ، نعني : مضادة العلم للدين ، كيف يمكن إثبات صحة الدين بالاستناد إلى الأُسس العقلية والعلمية والحال أنّ بين الدين والعلم مباينة - حسب هذه النظرية - أو أنّ في الدين ما ربما يخالف العلم والعقل ؟!!

إنّ البحث في العقيدة النصرانية حول سيدنا المسيح يتركّز في مسألتين :

1. التثليث وانّ اللّه سبحانه هو ثالث ثلاثة.

2. كونه سبحانه اتخذ ولداً.

والمسألتان مفترقتان من حيث الفكرة وإقامة البرهان ، ولأجل ذلك نعقد لكل واحدة منهما عنواناً خاصاً.

ص: 286

كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية ؟

ينقل الأُستاذ فريد وجدي نقلاً عن دائرة معارف « لاروس » :

« أنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه ، وسمعوا قوله ، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس أحد حوارييه ، يعتبره إلاّ رجلاً موحى إليه من عند اللّه ، أمّا بولسن فإنّه خالف عقيدة التلامذة الأقربين لعيسى وقال : إنّ المسيح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جديد أي عقل سام متولد من اللّه » (1).

إنّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك والوثنية - تحت تأثير المضلّين - وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لأنبياء اللّه ورسله.

إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل وترك التوحيد الذي هداهم النبي العظيم موسى له ، لمن أفضل النماذج لما ذكرناه وهو ما أثبته القرآن والتاريخ للأجيال القادمة ، وعلى هذا فلا داعي للعجب إذا رأينا تسرب خرافة « التثليث » إلى العقائد النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح علیه السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ تقادم الزمن قد رسخ موضوع « التثليث » وعمّقه في قلوب النصارى وعقولهم بحيث لم يستطع حتى أكبر مصلح مسيحي ونعني « لوثر » الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات وأسس المذهب البروتستانتي ، لم يستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.

ص: 287


1- دائرة معارف القرن العشرين مادة ثالوث.

رأي القرآن في التثليث

يعتبر القرآن الكريم « قضية التثليث » مرتبطة بالأديان السابقة على المسيحية ويعتقد أنّ المسيح علیه السلام نفسه ما كان يدعو إلاّ إلى اللّه « الواحد » الأحد إذ يقول :

( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إنّ اللّهَ هُوَ المسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبَّكُمْ إنّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّه عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) (1).

ويعتقد القرآن أنّ النصارى هم الذين أدخلوا هذه الخرافة في العقائد المسيحية إذ يقول :

( وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (2).

لقد أثبتت تحقيقات المتأخرين من المحققين صحة هذا الرأي القرآني بوضوح لا لبس فيه.

فهذه التحقيقات والدلائل التاريخية جميعها تدل على أنّه أدخلت - في القرن السادس قبل الميلاد - إصلاحات على الدين البراهماني ، وفي النتيجة ظهرت الديانة الهندوسية.

وقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي وتجسد - لدى البراهمة - في ثلاثة مظاهر وآلهة :

1. برهما ( الخالق ).

ص: 288


1- المائدة : 72.
2- التوبة : 30.

2. فيشنو ( الواقي ).

3. سيفا ( الهادم ).

ويوجد هذا الثالوث الهندوكي المقدس في المتحف الهندي ، في صورة ثلاث جماجم متلاصقة ، ويوضح الهندوس هذه الأُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما » : هو الموجد في بدء الخلق ، وهو دائماً الخالق اللاهوتي ، ويسمى الأب.

« فيشنو » : هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا » : هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأُولى.

لقد أثبت مؤلف كتاب « العقائد الوثنية في الديانة النصرانية » في دراسته الشاملة حول هذه الخرافة وغيرها من الخرافات التي تعج بها الديانة النصرانية أثبت أنّ هذا « الثالوث » المقدس كان في الديانة البراهمانية ، وغيرها من الديانات الخرافية ، قبل ميلاد المسيح علیه السلام بمئات السنين.

وقد استدل لإثبات هذا الأمر بكتب قيمة وتصاوير حية توجد الآن في المعابد والمتاحف يمكن أن تكون سنداً حياً ، ومؤيداً قوياً لرأي القرآن الكريم ، الذي ذكرناه عما قريب.

ثم في هذا الصدد يكتب غوستاف لوبون :

« لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأُولى من حياتها مع

ص: 289

أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأوّل الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوناً من الأب والابن وروح القدس مكان التثليث القديم المكون من نروپي تر ، وژنون ونرو » (1).

***

لقد أبطل القرآن الكريم مسألة التثليث بالبرهان المحكم إذ قال :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) (2).

نعم لم يرد في هذه الآية كلام صريح عن التثليث بل تركز الاهتمام فيها على إبطال « إلوهية المسيح » ، ولكن طرحت - في آيات أُخرى - إلوهية المسيح في صورة إنكار « التثليث » ومن هذا الطرح يعلم أنّ إلوهية المسيح كانت مطروحة بصورة « التثليث » وتعدد الآلهة كما قال القرآن في موضع آخر :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه ثَالِثُ ثَلاَثَة وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ ) (3).

يقيم القرآن الكريم - في هذا المجال - برهانين في غاية الوضوح والعمومية ، وها نحن نوضحهما فيما يأتي :

والبرهانان هما :

1. قدرة اللّه على إهلاك المسيح.

ص: 290


1- قصة الحضارة.
2- المائدة : 17.
3- المائدة : 73.

2. أنّ المسيح مثل بقية البشر يأكل ويمشي و ...

يقول القرآن حول البرهان الأوّل :

( فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّه شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ واللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (1).

ولا ريب أنّ جميع النصارى يعترفون بأنّ السيد المسيح « ابن » لمريم ولذلك يقولون : المسيح ابن مريم.

فإذا كان عيسى « ابناً » لمريم فلابد أنّه بشر كسائر البشر وآدمي كبقية الآدميين ، محياه ومماته بيد اللّه ، وتحت قدرته ، فهو تعالى يهبه الحياة متى يشاء ، وهو تعالى يميته متى أراد ، ومع هذه الحالة كيف تعتبره النصارى « إلهاً » وهو لا يملك لنفسه حياة ولا موتاً ؟!! »

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم وجّه في هذه الآية عناية كاملة إلى « بشرية » المسيح باعتبار أنّ بشرية المسيح تؤلِّف أساس البرهان الأوّل ولذلك نجد القرآن يصفه علیه السلام بأنّه ابن مريم ، ويتحدث عن « أُمه » وعن جميع من في الأرض فيقول : ( وََأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) مشيراً إلى بشريته ، بل وليثبت أنّ المسيح ليس أكثر من كونه واحداً من آحاد البشر وفرداً من أفراد النوع الإنساني يشترك مع بني نوعه في كل الأحكام على السواء.

وبعبارة أوضح أنّ هناك قاعدة في الفلسفة الإسلامية هي قاعدة « حكم

ص: 291


1- المائدة : 17.

الأمثال » التي تقول : « حكم الأمثال فيما يجوز [ عليها ] وما لا يجوز واحد ».

فإذا كان هلاك أفراد الانسان ( ما عدا المسيح ) ممكناً كان هلاك المسيح أيضاً ممكناً كذلك ، لكونه واحداً من البشر ، وفي هذه الصورة كيف تعتبره النصارى إلهاً ، والإله لا يجوز عليه الموت ؟!

ولتتميم هذا المطلب يختم القرآن الكريم الآية بجملة ( وَللهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرض ) وفي الحقيقة إنّ هذه الجملة تكون علة للحكم السابق فمعناه أنّ اللّه يملك اهلاك عيسى وأُمّه وكل أفراد البشر لأنّهم جميعاً ملكه ، وفي قبضته ، وتحت قدرته ، فيكون معنى مجموع الآية : انّ اللّه قادر على إهلاك عيسى وأُمّه ، لأنّه مالكهم جميعاً وبيده ناصيتهم دون استثناء ، والقدرة على إهلاكه وإهلاك أُمّه ، أدل دليل على كونه مخلوقاً له سبحانه. البرهان الثاني : المسيح والآثار البشرية

خلاصته : أنّ المسيح وأُمّه شأنهم شأن بقية الأنبياء ، يأكلون الطعام ، كأي بشر آخر ، إذ يقول :

( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) (1).

وعلى هذا فليس بين المسيح وأُمّه وبين غيره من الأنبياء والرسل أي فرق ، وتفاوت ، فهم يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسّوا بالحاجة إلى الطعام ، وشأن عيسى وأُمّه شأنهم ، ولا ريب أنّ « الحاجة » دليل الإمكان والإله

ص: 292


1- المائدة : 75.

منزّه عن الحاجة والإمكان.

إنّ هذه الآية لا تبطل إلوهية المسيح فحسب ، بل تبطل إلوهية أُمّه أيضاً ، إذ يستفاد من بعض الآيات أنّ « أُمّه » كانت معرضاً لهذه التصورات الباطلة أيضاً حيث يقول القرآن :

( ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (1).

لقد استوفينا البحث حول التثليث في نظر القرآن وبقي البحث حوله من زاوية البراهين العقلية ، وسيوافيك ذلك في مختتم هذا الفصل ، بعد أن ندرس بنوة عيسى ومعبوديته وبطلانها قرآنياً ، لنتفرغ بعده إلى دراسة التثليث عقلياً.

اللّه سبحانه واتخاذ الولد

اشارة

اللّه سبحانه واتخاذ الولد (2)

تعتبر مسألة بنوة المسيح لله إحدى مظاهر الشرك في « الذات » ، الذي يصوّر حقيقة الإله الواحد في صورة آلهة متعددة ، ويقوم « التثليث » النصراني في الحقيقة على هذا الأساس ، أي على أساس اعتبار المسيح ابناً لله سبحانه.

وقد فنّد القرآن الكريم هذا الاعتبار الخاطئ وأبطله ببراهين عديدة ، وأوضح تفاهته بطريقين :

أوّلاً : عن طريق البراهين العلمية الدالة على استحالة أن يكون لله ولد مطلقاً سواء أكان هذا الولد عيسى علیه السلام أم غيره.

وثانياً : عن طريق بيان تولد المسيح من أُمّه ، واستعراض حياته البشرية ،

ص: 293


1- المائدة : 116.
2- هذه هي المسألة الثانية التي أشرنا إليها - آنفاً في مطلع بحث التثليث -.

الدال على بطلان كونه « ولداً » لله خصوصاً.

على أنّ النصارى ليسوا هم وحدهم الذين اعتقدوا بوجود ولد لله ، بل قالت بمثل ذلك اليهود حيث ينقل سبحانه عنهم :

( وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) (1).

وحذا حذوهم مشركو العرب حيث كانوا يتصورون أنّ « الملائكة » بنات اللّه إذ يقول سبحانه :

( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ) (2).

وإليك هذه البراهين حول الطريق الأوّل بالتفصيل.

البرهان الأوّل

يقول سبحانه :

( بَدِيْعُ السَّماوَاتِ والأرض أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (3).

أُشير في هذه الآية الشريفة إلى برهانين على استحالة اتخاذ اللّه للولد :

1. انّ اتخاذ الولد يتحقق بانفصال جزء من الأب باسم « الحويمن » ويستقر في رحم الأُم ويتفاعل مع ما ينفصل منها وتسمّى بالبويضة ، وتواصل تلك البويضة تكاملها حتى يكون الوليد بعد زمن.

ص: 294


1- التوبة : 30.
2- النحل : 57.
3- الأنعام : 101.

إذن فمثل هذه العملية تحتاج ولا ريب إلى وجود « زوجة » أو بتعبير القرآن إلى « صاحبة » في حين يعترف الجميع بعدم الصاحبة له سبحانه كما يقول القرآن ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) .

2. إن كان معنى « اتخاذ الولد » هو ما قلناه ، إذن فلا يكون الولد مصنوعاً لله ومخلوقاً له تعالى بل يكون عدلاً وشريكاً له.

لأنّ « الوالد » ليس خالق « الولد » بل الولد جزء من والده انفصل عنه ، ونما خارجه ، وكبر ، في حين انّ اللّه خالق كل شيء ما سواه من الأشياء بلا استثناء كما تقول : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

ويقول سبحانه في صدر الآية : ( بَدِيعُ السَّماوَاتِ والأرْضِ ) بمعنى موجد السماوات والأرض وخالقهما وما فيهما.

البرهان الثاني

( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (1).

وقد أُشير في هذه الآية إلى برهان واحد على « نفي الولد لله » وهو مسألة « المالكية التكوينية له سبحانه والوهيته المطلقة » لما سواه ، وتوضيحه :

إنّ هناك نوعين من المالكية : مالكية اعتبارية ، تنشأ من العقد الاجتماعي الدارج بين أبناء البشر ، ومالكية تكوينية تنشأ من خالقية المالك.

إنّ مالكية الإنسان لأمواله مالكية ناشئة عن « العقد الاجتماعي » الذي

ص: 295


1- الفرقان : 2.

أذعن له الإنسان لغرض إدارة الحياة وضمان تمشيتها وجريانها ، في حين أنّ مالكية اللّه للسماوات والأرض وما بينهما مالكية تكوينية ناشئة عن خالقيته لها.

فإذا كان اللّه سبحانه مالكاً لكل شيء فلا يمكن حينئذ أن نتصور له ولداً لأنّ ولد الإنسان - بحكم كونه ليس مخلوقاً له - لا يكون مملوكاً له كذلك مع أنّا أثبتنا أنّ اللّه مالك لكل شيء لكونه خالقاً لكل شيء ، وإلى هذا البرهان أُشير في هذه الآية : ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) .

كما أُشير - في ذيل هذه الآية - إلى علة هذه المالكية وأساسها وهو « الخالقية » إذ يقول : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

البرهان الثالث

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَى أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

استدل في هاتين الآيتين على « نفي الولد » بثلاثة براهين :

1. أنّ معنى الولد هو انفصال جزء من الوالد واستقراره في رحم الأُم ، وهذا يستلزم كون اللّه جسماً ، ومتصفاً بالآثار الجسمانية كالمكان ، والزمان والجزئية ، والتركب من الأجزاء بينما يكون اللّه سبحانه منزّهاً عن هذه الأُمور وإلى هذه الناحية أشارت الآية بكلمة « سبحانه ».

2. انّ إلوهية اللّه مطلقة وربوبيته عامة وشاملة ، فكل الموجودات قائمة به ومحتاجة إليه ، غير مستغنية عنه.

ص: 296


1- البقرة : 116 - 117.

فإذا كان له « ولد » يلزم - حتماً - أن يكون الولد مثيلاً ونظيراً له في الاتصاف بجميع صفات اللّه ومنها : « الاستقلال والغنى عن الغير » على حين ثبت كونه سبحانه مالكاً مطلقاً للسماوات والأرض وما بينهما فهي قائمة به ، تابعة له ، محتاجة إليه دون استثناء ومطيعة لأمره وخاضعة لمشيئته بلا منازع ، وليس هنا موجود مستقل غيره.

وإلى هذا البرهان أشار بقوله سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) .

3. انّه لا موجب لاتخاذ اللّه للولد ، لأنّ طلب الأبناء والأولاد ، إمّا أن يكون لغرض استمرار النسل والذرية ، أو بهدف الاستعانة بهم لرفع الاحتياج عند الشيخوخة والعجز ، ولا يمكن أن يتصور أي واحد من هذه الدوافع في مقامه سبحانه وإلى هذا أشارت الآية بقولها :

( بَدِيعُ السَّماوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَى أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

فأية حاجة تتصوّر لله إلى الولد وهو بديع كل شيء ؟

وفي آية أُخرى اعتمد على موضوع « الغنى الإلهي » لنفي الولد ، إذ يقول :

( قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وما فِي الأرْضِ ) (2).

وهكذا ينفي القرآن الكريم خرافة اتخاذ اللّه للبنين والبنات ، تلك الخرافة التي كانت توجد في الديانات القديمة ك : « اليهودية » و « النصرانية »

ص: 297


1- البقرة : 117.
2- يونس : 68.

و « الزرادشتية » و « الهندوكية » وعند المشركين.

ولقد استدل المسيحيون على بنوة عيسى لله بتولده من غير أب ، إذ قالوا للنبي صلی اللّه علیه و آله هل رأيت ولداً من غير أب ؟ إذن فليس لعيسى من أب إلاّ اللّه.

فأجاب اللّه عن هذا الزعم بقوله :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

أي إنّ مثل عيسى في تكونه من غير أب كمثل آدم في خلق اللّه له من غير أب وأُم فليس عيسى عندئذ بأبدع وأعجب من آدم فكيف أنكروا هذا وأقرّوا بذلك ؟!

خلاصة ما سبق

تلخّص مما سبق أنّ القرآن يستند في نفيه لاتخاذ اللّه ولداً على البراهين التالية :

1. ليست له سبحانه أية زوجة حتى يكون له ولد منها.

2. انّه تعالى خالق كل شيء واتخاذ الولد ليس خلقاً بل هو انفصال جزء من الوالد وهو ينافي خالقيته لكل شيء.

3. انّه مالك كل شيء مالكية ناشئة عن الخالقية وكون المسيح ولداً له سبحانه يستلزم عدم مخلوقيته وهو يستلزم عدم كونه مملوكاً وهو ينافي مالكية اللّه العامة.

4. انّه سبحانه منزّه عن أحكام الجسم ، واتّخاذ المسيح ولداً يستلزم كون اللّه

ص: 298


1- آل عمران : 59.

جسماً ومحكوماً بالأحكام الجسمانية ، لأنّ معنى كون المسيح ولداً له سبحانه هو انفصال جزء منه سبحانه وهو يستلزم كونه جسماً.

5. انّ جميع الأشياء قائمة باللّه فلا استقلال لسواه في حين يستلزم افتراض ولد لله سبحانه استقلاله كاستقلال الوالد حتى يكون الولد نظير الوالد.

6. انّ اللّه تعالى غني فلا حاجة له إلى ولد.

7. انّ كون المسيح دون والد ليس بأعجب من آدم الذي وجد من دون أبوين مطلقاً.

* * *

وأمّا الطريق الثاني (1) الذي سلكه القرآن لإبطال « بنوة خصوص المسيح » فهو بيان حياة السيد المسيح وشرحها بنحو واضح في سور مختلفة خاصة في سورة « مريم » (2) بحيث لا يبقى أي شك لمنصف في « بشريته » علیه السلام .

وقد وردت في بعض الآيات التي مرت في هذا البحث نماذج عن حياته البشرية (3).

بقي هنا بحث هام اعتنى به القرآن الكريم بجد ، وهو مسألة كون المسيح

ص: 299


1- قد تقدم آنفاً في صفحة 293 إنّ القرآن استعرض مسألة نفي الولد لله سبحانه بشكلين تارة عن طريق نفي أي ولد له سواء أكان المسيح أم غيره وأُخرى عن طريق نفي خصوص بنوة المسيح ، وقد استوفينا البحث في القسم الأوّل وإليك البحث في القسم الثاني.
2- راجع سورة مريم : 16 - 35.
3- راجع سورة المائدة : 17 و 75 ، وسورة التوبة : 30 وسيوافيك قوله سبحانه : ( إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) ( النساء : 171 ) فبملاحظة حالاته في هذه الدنيا نجزم بأنّه مخلوق لله سبحانه وليس ولداً له.

معبوداً وانّه لا يستحق العبادة سواء أكان ابناً لله سبحانه أم لا ، وسواء أصح التثليث أم لا ، وهذه مسألة مستقلة تجتمع مع نفي التثليث والبنوة ، ولأجل ذلك نستعرض هذا البحث مستقلاً عن البحثين الماضيين.

القرآن ومعبودية المسيح

إنّ القرآن ينزّه اللّه تنزيهاً مطلقاً عن أن يبعث رسلاً يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم بدل الدعوة إلى عبادة اللّه سبحانه ، فقال :

( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللّه وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيّيِنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (1).

وفي هاتين الآيتين نفي لمعبودية المسيح أو مشاركته في الربوبية.

كما أنّ القرآن الكريم طرح مسألة عبادة السيد المسيح في آيات أُخرى وأبطل - بنفي مالكية المسيح لضر عباده ونفعهم - إمكان كونه مستحقاً للعبادة فيقول :

( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً واللّه هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (2).

ص: 300


1- آل عمران : 79 - 80.
2- المائدة : 75.

وحيث إنّ البحث هنا هو حول التوحيد الذاتي ، فنرجئ البحث عن التوحيد في العبادة مطلقاً وبطلان معبودية المسيح خصوصاً إلى الفصل التاسع.

غير أنّ التدبر في هذه الآية والآيات المشابهة لها يوضح لنا نقطة مهمة وهي : أنّ الدافع الأساسي لاتخاذ شخص أو شيء معبوداً إنّما هو لأجل الاعتقاد بمالكية ذلك المعبود لضرهم ونفعهم.

وعلى هذا فكل خضوع وخشوع ينبع من هذه النقطة المهمة يمكن أن يكون مصداقاً للشرك في العبادة.

وأمّا إذا خضع أحد أمام إنسان آخر دون هذا الدافع فإنّ عمله لا يكون حينئذ إلاّ احتراماً ، وتكريماً وليس عبادة.

وسوف يأتي مفصل هذا القسم في الفصل التاسع إن شاء اللّه.

وبالتالي فإنّ القرآن الكريم يبدي نظره حول « السيد المسيح » وهو - في الحقيقة - الرأي الصحيح البعيد عن أية مبالغة أو غمط حق ، وهو قوله سبحانه :

( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) (1).

فلقد وصفت هذه الآية السيد المسيح بأفضل ما يمكن أن يكون مبيناً لحقيقة شخصية رفيعة الشأن جليلة المقام ، وكان هذا الوصف والتعريف رفيعاً ومؤثراً جداً بحيث جعل النجاشي ( ملك الحبشة ) الذي سأل جعفر بن أبي طالب أن يبين له رأي القرآن في المسيح فقرأ عليه هذه الآية.

ص: 301


1- النساء : 171.

أقول : جعل النجاشي يعمد - بعد سماعه الآية - إلى عود من الأرض ، ويقول :

« ما عدا [ أي ما تجاوز ] عيسى عما قلت هذا العود » (1).

إنّ الأوصاف التي وصف بها عيسى في هذه الآية هي :

1. ( إِنَّما المَسِيحُ ) ، وتعني لفظة المسيح : المبارك وقد وصف عيسى في آية أُخرى بهذا النحو :

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ ) (2).

2. ( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، فقد وصف في هذا المقطع بكونه « ابناً لمريم » ومع هذا كيف يجوز أن يعتبره النصارى إلهاً ، أو ابناً لله ؟

3. ( رَسُولُ اللّهِ ) حيث وصف بالرسالة والنبوة ، فلا هو إله ولا هو رب كما ادّعى النصارى.

4. ( كَلِمَتُهُ ) ، وهنا لا بد أن نقول : إنّ الكون بأجمعه وإن كان كلمة لله وإنّ النظام البديع وإن كان يحكي عن علمه ويخبر عن حكمته ويعبَّر عن قداسته كما تعبر الألفاظ والكلمات عن معانيها ، ولكن حيث إنّ هذه الكلمة ( أعني : المسيح ) خلق دون توسط أسباب وعلل ، لذلك أطلقت عليه لفظة الكلمة بخصوصه لإبراز أهميته الخاصة من بين كلمات اللّه الأُخرى.

5. ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) ، أي من جانب اللّه.

ص: 302


1- الكامل لابن الأثير : 2 / 55.
2- آل عمران : 45.

التثليث في نظر العقل

بعد أن فرغنا من البحث حول التثليث من وجهة نظر القرآن ، يتعين علينا أن نعرضه على المعايير العقلية لنرى مدى انطباقه على تلك المعايير.

تحكي كلمات المسيحيين - في كتبهم الكلامية - عن أنّ الاعتقاد بالتثليث - عندهم - من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأنّ التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهم هذا المطلب ، كما أنّ المقايسات التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث لأنّ حقيقته - حسب زعمهم - فوق القياسات المادية.

ثم يقولون : حيث إنّ تجارب البشر مقصورة بالمحدود ، فإذا قال اللّه بأنّ طبيعته غير المحدودة تتألف من ثلاثة أشخاص ، لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك ، وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي على أنّ هؤلاء الثلاثة يؤلِّفون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » !! وانّهم رغم تشخص كل واحد منهم وتميّزه عن الآخرين ليس بمنفصل ولا متميز عن الآخر رغم انّه ليست بينهم أية شركة في الالوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الالوهية !!! (1).

فالأب مالك - بانفراده - لتمام الالوهية وكاملها متحقق فيه دون نقصان.

والابن كذلك مالك - بانفراده - لتمام الالوهية وكامل الالوهية متحقق فيه دون نقصان.

ص: 303


1- انظر إلى التناقض الواضح بين تشخص كل واحد من جانب وعدم تميز كل واحد عن الآخر ، ولأجل ذلك جعلوا منطقة التثليث منطقة محرمة على العقل.

وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده - لكامل الالوهية وانّ الالوهية بتمامها متحققة فيه دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها من التوجيهات للتثليث المسيحي توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية ، وأنّها بالتالي « منطقة محرمة » على العقل ، فلا يمكن الاستدلال الصحيح عليها ، بل مستند ذلك هو الوحي والنقل ليس غير.

ولهذا ينبغي - قبل أي شيء - أن نبحث أوّلاً في الأدلة النقلية ، وهم وان كانوا يستندون في هذه الفكرة إلى النقل ولكن ليس للتثليث أي مستند نقلي معتبر.

وأمّا « الأناجيل » الأربعة الفعلية فليست بمعتبرة إطلاقاً ، إذ لا تشبه الوحي بل تدل طريقة كتابتها على أنّها من بقايا أدب القرن الأوّل والثاني الميلاديين ، وهذا يعني عدم كونها متعلقة بفجر المسيحية حقيقة.

ثمّ إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يمكن أن يقاس بالأُمور المادية المألوفة ولكنّه ليس بمعنى أنّ ذلك العالم فوضى وخلو من المعايير ، بل لكل مقياسه الخاص ، والدليل على ذلك انّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل تحكم في عالم المادة ، وعالم ما وراء المادة سواء كمسألة احتياج كل معلول إلى علة وكمسألة ( امتناع اجتماع النقيضين ).

إلى غير ذلك من القواعد العامة الحاكمة في عالمي المادة والمعنى.

وعلى ذلك إذا أبطلت البراهين العقلية مسألة التثليث لم يعد مجال للاستناد بالأدلة النقلية ، بل يتعين أن نعترف ببطلان النصوص هذه ، ونذعن بأنّها ليست من كلام اللّه ووحيه إذ كيف يجوز للوحي أن يخالف ما هو مسلم عقلاً.

إذا عرفت هذا ، حان الوقت لأن نعرف حقيقة الأمر من وجهة نظر العقل.

ص: 304

هل يمكن واحد وثلاثة في آن واحد ؟

يتعين علينا أن نعرف أوّلاً ما هو المقصود من التثليث الذي ربما يعبرون عن الموصوف به ب « الثالوث المقدس » وهم يقولون في تفسير فكرة « التثليث » :

إنّ الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الأب والابن وروح القدس.

والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة ، وعمل واحد (1).

والأقنوم - لغة - يعني : الأصل ، والشخص ، فإذن يصرح المسيحيون بأنّ هذه الآلهة الثلاثة ذات رتبة واحدة ، وعمل واحد وإرادة واحدة ، بموجب هذا النقل.

ونحن نتساءل ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة ؟ والواقع إنّ للتثليث صورتين لا يناسب أي واحد منهما المقام الربوبي :

1. أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخص ووجود خاص ، فكما أنّ لكل فرد من أفراد البشر وجوداً خاصاً ، كذلك يكون لكل واحد من هذه الأقانيم ، أصل مستقل ، وشخصية خاصة ، متميزة عما سواها.

غير أنّ هذا هو نظر « الشرك » الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية في

ص: 305


1- قاموس الكتاب المقدس.

صورة تعدد الآلهة ، وقد تجلّى في النصرانية في صورة التثليث !

ولكن دلائل « التوحيد » قد أبطلت أي نوع من أنواع « الشرك » من الثنوية والتثليث في المقام الالوهي والربوبي.

وقد وافتك تلك الأدلة حول التوحيد في الذات وسيأتي ما يدل على التوحيد في الربوبية في الفصل الثامن ، والعجيب - حقاً - أنّ مخترعي هذه البدعة من رجال الكنيسة يصرون - بشدة - على أن يوفقوا بين هذا « التثليث » و « التوحيد » بالقول بأنّ الإله في كونه ثلاثة ، واحد ، وفي كونه واحداً ثلاثة ، وهل هذا إلاّ تناقض فاضح ؟! إذ لا يساوي الواحد مع الثلاثة في منطق أي بشر !! وليس لهذا التأويل من سبب غير أنّ - هم لما واجهوا - من جانب - أدلة التوحيد اضطروا إلى الإذعان بوحدانية اللّه تعالى.

ولكنهم من جانب آخر لما خضعوا للعقيدة الموروثة ( أي عقيدة التثليث ) التي ترسخت في قلوبهم أيما رسوخ ، حتى أنّهم أصبحوا غير قادرين من التخلص منها ، والتملص من حبائلها ، التجأوا إلى الجمع بين التوحيد وألتثليث وقالوا : إنّ الإله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد !!

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟!

هناك تفسير آخر للتثليث وهو : أنّ يقال انّ الأقانيم الثلاثة ليست بذات لكل منها وجود مستقل ، بل هي بمجموعها تؤلف ذات إله الكون الواحد ، فلا يكون أي واحد من هذه الأجزاء والأقانيم بإله بمفرده ، بل الإله هو المركب من هذه الأجزاء الثلاثة.

ص: 306

ويرد على هذا النوع من التفسير أنّ معنى هذه المقالة هو كون اللّه « مركباً » محتاجاً في تحقّقه وتشخصه إلى أجزاء ذاته ( أي هذه الأقانيم الثلاثة ) بحيث ما لم تجتمع لم يتحقق وجود اللّه.

وفي هذه الصورة سيواجه أرباب الكنيسة والنصارى إشكالات أكثر وأكبر من ذي قبل :

ألف. أن يكون إله الكون محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الغير ( وهو كل واحد من هذه الأقانيم باعتبار أنّ الجزء غير الكل ) في حين أنّ المحتاج إلى الغير لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود ، بل يكون حينئذ ممكناً مخلوقاً محتاجاً إلى من يرفع حاجته كغيره من الممكنات.

بل يلزم كون الأجزاء الممكنة مخلوقة لله سبحانه من جانب ويلزم أن يكون الإله المتكون منها مخلوقاً لها من جانب آخر.

ب. إمّا أن تكون هذه الأجزاء ممكنة الوجود أو واجبة ، فعلى الأوّل يلزم احتياج الواجب ( أعني : الكل ) إلى الأجزاء الممكنة ، وعلى الثاني يلزم تعدد واجب الوجود ، وهو محض الشرك ، وعندئد فلا مناص من أن يكون ذلك الإله الخالق بسيطاً غير مركب من أجزاء وأقانيم.

ج. انّ القول : بأنّ في الطبيعة الإلهية أشخاصاً ثلاثة ، وأنّ كل واحد منها يملك تمام الالوهية ، معناه أن يكون لكل واحد من هذه الثلاثة وجوداً مستقلاً مع أنّهم يقولون : إنّ طبيعة الثالوث لا تقبل التجزئة.

وبتعبير آخر ، إنّ بين هذين الكلامين ، أي استقلال كل اقنوم بالطبيعة الالوهية وعدم قبول طبيعة الثالوث للتجزئة ، تناقضاً صريحاً.

ص: 307

د. إذا كانت شخصية الابن إلهاً ( أي أحد الآلهة ) فلماذا كان يعبد الابن أباه ؟ وهل يعقل أن يعبد إله إلهاً آخر مساوياً له ، وأن يمد إليه يد الحاجة ، أو يخضع أحدهما للآخر ويخفض له جناح التذلل والعبودية وكلاهما إلهان كاملا الالوهية ؟!

هذا حق المقال حول التثليث ومن العجب أنّ أحد القسيسين القدامى وهو « أوغسطين » قال : أؤمن بالتثليث لأنّه محال (1).

ص: 308


1- راجع مقارنة الأديان المسيحية للكاتب أحمد شلبي.

الفصل السادس: اللّه وبساطة ذاته تعالى « وعينية صفاته لذاته »

اشارة

ص: 309

بساطة ذاته تعالى

1. التوحيد الذاتي وبساطة الذات.

2. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي.

3. ذاته منزهة عن التركيب العقلي.

4. صفات اللّه عين ذاته.

5. الدليل على وحدة الصفات والذات.

6. تعدد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

ص: 310

بساطة ذاته تعالى

ويقع البحث في هذا الفصل في مقامين :

1. ذات اللّه منزّهة عن التركيب.

2. صفات اللّه عين ذاته.

بعد ما عرفنا « التوحيد الذاتي » بمعنى نفي الشبيه والنظير والمثيل لله سبحانه ببراهينه ، يتعين علينا الآن أن نستعرض « التوحيد الذاتي » من زاوية أُخرى ، وهي بساطة الذات الإلهية ، ونفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والعقلي فيها.

ولما كانت لمسألة بساطة الذات عن التركيب الخارجي والعقلي ، ومسألة التوحيد في الصفات ( بمعنى اتحاد الذات مع صفاتها وجوداً وخارجاً ) دلائل مشتركة جعلناهما في فصل واحد وهو الفصل الحاضر ، مع الاعتراف بأنّ المسألتين من بابين مختلفين ، فمسألة « بساطة الذات » من فروع التوحيد الذاتي ، ومسألة اتحاد الذات والصفات من شعب التوحيد في الصفات ، ونركز بحثنا أوّلاً على بساطة الذات.

التوحيد الذاتي وبساطة الذات

للتوحيد الذاتي معنيان :

ص: 311

1. أنّ اللّه واحد لا يتصور له نظير ولا مثيل.

2. أنّ ذاته تعالى بسيطة ومنزهة عن أي نوع من أنواع التركيب ، والكثرة العقلية ، والخارجية.

وقد اصطلح بعض العلماء على التوحيد الذاتي بالمعنى الأوّل بالواحدية ، وبالمعنى الثاني بالأحدية ، ولعل هذين الاصطلاحين مبتنيان على أنّ لفظة « واحد » تعني في لغة العرب ما يقابل الاثنين فإذا قلنا : « اللّه واحد » ، يعني : لا ثاني له ولا نظير ولا مثيل ولا عديل ، ولكن لفظة « أحد » ، تعني الوحدة في مقابل التركيب ، وإذا وجدنا القرآن يصف اللّه بلفظة الأحد ويقول : ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) فهو يقصد مقابلة « التثليث التركيبي » الذي كانت النصارى تدعيه فتزعم بأنّ المقام الالوهي « مركب » من ثلاثة أقانيم.

ويدل على ذلك أنّه لو كان المقصود من « أحد » في هذه الآية هو أنّ اللّه واحد ، ولا نظير له لما كان ثمة داع لتكرار هذا المضمون في ذيل السورة إذ يقول : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، ويتضح ما قلناه إذا وقفنا على أنّ هذه السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين ، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

وعلى كل حال سواء أطابق هذا الاصطلاح المعنى اللغوي ل : « الواحد » أو « الأحد » أم لا (1) ، فإنّ مثل هذا الاصطلاح سبب للتفكيك بين نوعين من « التوحيد الذاتي ».

* * *

ص: 312


1- سنثبت في البحث القرآني لهذا الفصل أنّ المعنى اللغوي للواحد والأحد هو الذي جاء في هذا الاصطلاح.

قد يتصور الإنسان - في النظرة البدائية - أنّه لا توجد في القرآن أية آية أو آيات ناظرة إلى هذا القسم من التوحيد ( أي بساطة الذات ) ، وكأنّ القرآن أو كل أمثال هذه البحوث إلى عقل البشر ، ولكننا عندما نعيد النظر في القرآن بعد الاطلاع على التحقيقات الفلسفية التي من شأنها إعطاء الإنسان نظرة أعمق وأوسع نجد أنّ القرآن يصف اللّه سبحانه بطائفة من الصفات التي لا تنسجم مع أي نوع من أنواع التركيب في الذات أبداً ، وهو يدل ضمنياً على نفي التركيب وإثبات البساطة لذاته تعالى ، وقد ذكرنا في السابق أنّ القرآن ذو أبعاد متعددة من حيث الأهداف والمعاني وإنّه يمكن أن يدرك بعد من أبعاد الآية في النظرة الأُولى بينما ينكشف بعد آخر لنفس الآية في النظرة الثانية في حين يكون اكتشاف بعد ثالث ورابع لنفس الآية محتاجاً إلى مزيد تعمّق وإمعان.

ويؤيد هذا الأمر ما قاله الإمام السجاد حول آيات من سورة الحديد :

« إنّ اللّه عز وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللّه عز وجل ( قُل هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ ) والآيات من سورة الحديد ... إلى قوله ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ما هنالك هلك (1).

لهذا يجب أن لا نكتفي - في استخراج المعارف المتعلّقة بالمبدأ أو المعاد من الآيات القرآنية - بالنظرة الأُولى بل لابد من الغوص في بحار القرآن ، معتمدين على النظر الأعمق ، والجهد الفكري الأكثر ، فحينئذ سنرى أيّة جواهر ثمينة سنصيب في هذا الغوص المبارك.

لهذا السبب ولكي نقوي من نظرتنا فإنّنا سنعالج مسألة « بساطة أو تركيب

ص: 313


1- توحيد الصدوق : 283 - 284 طبع الغفاري.

الذات » وكذا التوحيد في الصفات من نظر العقل أوّلاً ، ثم نطرح بعد ذلك هذه المسألة على القرآن وصحاح الأحاديث.

1. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي

والمراد من « التركيب الخارجي » هو أن يكون الشيء ذا أجزاء خارجية ، كالمعادن والمحاليل الكيمياوية ، التي تتألف من الأجزاء المختلفة.

ولكن مثل هذا « التركيب » يستحيل في شأن اللّه سبحانه ، لأنّ الشيء المركب من مجموعة الأجزاء سيكون « محتاجاً » في وجوده إلى تلك الأجزاء لا محالة ، والمحتاج إلى غيره معلول لذلك الغير ولا يصلح للإلوهية حينئذ.

هذا مضافاً إلى أنّ الأجزاء المؤلفة للذات الإلهية إمّا أن تكون « واجبة الوجود » فحينئذ سنقع في مشكلة « تعدد الآلهة » التي يعبر عنها في علم الكلام بتعدد القدماء.

وإمّا أن تكون « ممكنة الوجود » وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها ، فيكون معنى هذا أنّ ما فرضناه « إلهاً » يكون معلولاً لأجزاء ذاته التي هي معلولة لموجود أعلى وبالتالي لا يكون إلهاً.

2. ذاته منزّهة عن الأجزاء العقلية

ولتوضيح هذا النوع من البساطة نذكر الأُمور التالية :

أ. انّ الشيء ، يعرف بجنسه وفصله أو ما يقوم مقامهما التي تسمّى بالماهية وليس للماهية أي دور ، إلاّ تحديد وجود الأشياء وبيان موقعها في عالم الوجود.

ص: 314

ب. انّ كل موجود ممكن مركب من شيئين : ماهية ووجود وليس المقصود تركبه من الجزءين الخارجيين كالعناصر المتركبة ، بل المراد هو أنّ الذهن النقاد يرى الشيء الخارجي الواحد - في مختبر العقل - مكوناً من جزءين :

أحدهما يحكي عن مرتبته الوجودية وانّه يقع في أي مرتبة من مراتب الوجود ، من الجماد والنبات والحيوان ، وغيرها ، والثاني يحكي عن عينيته الخارجية التي طرد بها العدم عن ساحة الماهية.

ولكن هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهية ، لأنّها إذا كانت مؤلفة من وجود وماهية ، انطرح هذا السؤال :

إنّ الماهية كانت في حد ذاتها فاقدة للوجود والعينية ، فبماذا طرد هذا العدم وأُقيم محله الوجود فإنّ هذا الطرد يحتاج - تبعاً لقانون العلية العام - إلى عامل خارجي عن ذات الشيء ؟ ومن المعلوم أنّ الشيء المحتاج إلى العلة الخارجة عن وجوده ممكن لا يستحق الالوهية ؟!

ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته وانّها منزّهة عن الماهية ، وهو عين الوجود وصرفه.

3. صفات اللّه عين ذاته

لا شك في أنّ لله سبحانه صفات ، كالعلم والقدرة والحياة ، غير أنّه يجب أن نقف على أنّها هل هي أزلية أم حادثة ، وعلى الأوّل فهل هي « زائدة » على الذات ، وبعبارة أُخرى هل الصفات « عين » الذات أو « غيرها » ؟

إنّ هناك فرقة واحدة أعني الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني ذهبت

ص: 315

إلى حدوث الصفات ، وقالوا بخلو الذات الإلهية عنها - في البداية - ثم اتصفت بها فيما بعد (1).

ولو تجاوزنا هذه الفرقة لوجدنا جميع الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين متفقين على « أزلية » هذه الصفات.

ومما لا يخفى أنّ الكرامية وغيرها مذاهب ابتدعتها السياسة العباسية آنذاك لإشغال المفكّرين الإسلاميين بالبحوث والمناقشات الجانبية ، لكي تسهل لهم السيطرة على الأُمّة الإسلامية ، ولأجل هذا لا نجد لهذه المذاهب المفتعلة بأيدي السياسات الزمنية المنحرفة أي أثر إلاّ في طيات كتب الملل والنحل فقط.

ولو كانت « الذات الإلهية » فاقدة لهذه الصفات منذ الأزل لاستلزم ذلك حتماً أن تكون الصفات « ممكنة » وحادثة ، وحيث إنّ كل ممكن مرتبط بعلة ، ومحتاج إلى محدث لزم أن نقف على محدثها.

فهل وجدت من قبل نفسها ، أو من قبل اللّه سبحانه ، أو من جانب علة أُخرى ؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل فلا يحتاج إلى مزيد بيان إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه ، وأمّا الثاني فكسابقه فإنّ فاقد الشيء لا يكون معطيه ، إذ كيف يمكن أن يكون فاقد العلم معطياً له ؟ وأمّا الاحتمال الثالث فكسابقيه أيضاً ، إذ ليس هناك عامل خارجي محدث أخذاً بحكم التوحيد في الذات ، ولأجل ذلك اختار الجمهور من الإسلاميين ، أزلية الصفات.

***

ص: 316


1- الأسفار الأربعة : 6 / 123.

فإذا ثبتت أزلية صفاته سبحانه كذاته يبقى بحث آخر وهو :

هل هذه الصفات القديمة الأزلية زائدة عليها لازمة لها ، كما ذهب إلى ذلك فريق من المتكلمين الإسلاميين كالأشاعرة (1) ، أم هي « عين » الذات ، وأنّه ليس للذات والصفات سوى مصداق واحد لا أكثر ، وهنا يتعين علينا أن نتوقف قليلاً لنرى التفاوت بين القولين ثم بمعونة العقل نميز الصحيح عن غير الصحيح منها.

ولوضوح المطلب نقدم أُموراً لها صلة بالموضوع :

1. انّ قولنا : اللّه سبحانه عالم ، مركب من كلمتين : اللّه وعالم ، وكل واحدة تحكي عن أمر ، فالمبتدأ يحكي عن الذات ، والخبر يحكي عن صفته.

والقائل باتحاد صفاته مع ذاته لا يقول باتحاد مفاهيمها مع ذاته أي اتحاد مفهوم العالم وما وضع عليه ذلك اللفظ مع مفهوم لفظ الجلالة الذي وضع عليه ذلك اللفظ ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته وانّ وجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين ، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج غير مصداق لفظ العالم.

ثم يبقى هنا سؤال وهو أنّ ذاك الاتحاد لا يختص بذاته سبحانه بل هو حال عامة الموجودات مع صفاتها ، فلماذا اختص هذا البحث باللّه سبحانه ؟ وهذا ما نرجع إليه في الكلام التالي.

2. إذا قلنا أنّ زيداً عالم نرى أنّ علمه ليس بمنفصل عن ذاته ووجوده ، بحيث لا يمكننا أن نشير إلى علمه على حدة وعلى ذاته إلى انفرادها ، فنقول هذا

ص: 317


1- كشف المراد : 181 ، والأسفار الأربعة : 6 / 123.

ذاته وهذا علمه ، بل الذات والعلم متحدان على الصعيد الخارجي.

وعند ذلك يتوجه السؤال الآتي : ما هو مقصود القائلين باتحاد صفاته سبحانه مع ذاته ؟ فإنّ الاتحاد حسب ما أوضحناه ليس منحصراً به سبحانه بل جار في جميع الموجودات الممكنة ، فإنّ كل موجود ممكن يختلف عن صفاته مفهوماً ويتحد معها خارجاً.

عندما نقول : الصدف أبيض ، أو العسل حلو ، فإنّ البياض متحد بالصدف ، والحلاوة متحدة بالعسل بحيث لا يمكن الإشارة إلى الحلاوة بمعزل عن العسل ، وهكذا بالنسبة إلى بياض الصدف ، فما الفرق بين النوعين من الاتحاد ؟ ويجاب على ذلك ، بأنّ المقصود من اتحاد الذات الإلهية مع صفاته تعالى ليس من قبيل اتحاد الصدف مع بياضه ، وعلم زيد مع ذاته بل هو نوع خاص من الاتحاد والعينية لا يوجد في غير اللّه. وتوضيح ذلك هو ما تقرؤه في البيان التالي :

3. انّ « الصفات والذات » في الممكنات وان كانت تتمتع بنوع من الاتحاد في كل الموارد ولكن كيفية الاتحاد في مورد « الصفات والذات الإلهية » تختلف عن الاتحاد في الممكنات.

فإنّ علم زيد وان كان متحداً مع ذاته بنوع من الاتحاد ولكن علمه لا يتحد مع ذاته في جميع مراحلها ، بل يتحد معها في بعض مراحل الذات ، بدليل أنّ زيداً كان في مجتمعه - ذات يوم - ولم يكن معه ذلك العلم - فكانت الذات متحققة ولم يكن العلم معها ، وهذا يشعر بأنّ ذاته أي ما به يكون زيد ، زيداً غير علمه ، وهذا يشعر بأنّ ذاك الاتحاد ليس بمنزلة يجعل الصفات في مرتبة حقيقته وذاته.

وبعبارة أُخرى فإنّ ملاك إنسانية زيد والعناصر المكونة لذاته هي ما يوجد

ص: 318

في الآخرين سواء بسواء فإنّ ملاك الإنسانية ، والعناصر المكونة لحقيقة الأفراد الآخرين هي « الحيوانية والناطقية » التي تتكون منهما ذات زيد ، أما « علمه » فما هو إلاّ « حلية » توجت إنسانيته ، وزينتها ، وفضلتها على الآخرين ، ولتوضيح الحقيقة نفترض « بناء » قد تم وبقي طلاؤه الذي يطلى به ظواهر البناء وخارجه وأبوابه وجدرانه.

وفي هذه الصورة ، فإنّ كل ما ينقش على جدران هذا البناء ، يضيف إلى جمال البناء جمالاً إضافياً ، لكن هذا الطلاء رغم أنّه ليس منفصلاً عن البناء وجدرانه وأبوابه ، إلاّ أنّه لا يشكل حقيقة البناء ، لأنّ العناصر والمواد المنشئة لذلك البناء هي الحديد والاسمنت والجص والآجر ، وليست الأصباغ والطلاء.

وعلى هذا فإنّ اتحاد الأبواب والجدران مع الطلاء ( عندما نقول الجدار أزرق ) لا يعني أنّ اللون جزء من واقعيته وذاته ، بل غاية ما في الأمر أنّ الألوان قد اتحدت بظاهر الجدار لا أنّها اتحدت بذاته وحقيقته ، وعلى هذا النمط يكون بياض الصدف وحمرة التفاح وصفرة الليمون ، كما أنّ على غرار هذا يكون اتحاد علم زيد بذاته.

وخلاصة القول : إنّ الاتحاد في هذه الموارد ليس بمعنى أنّ « العارض » قد أصبح جزءاً من ذات « المعروض » بل اتحد مع بعض مراحله ومعنى هذا أنّ العارض والمعروض شيء واحد ولكن دون أن يكون العارض داخلاً في ذات المعروض وجزءاً من حقيقته ، وعلى هذا فالمقصود من « وحدة صفات اللّه مع ذاته » ليس على هذا النمط من الاتحاد بل وحدة آكد وأشد بمعنى أنّ « صفات اللّه تؤلِّف ذاته » سبحانه فهي « عين » ذاته وليست عارضة عليها ، وبالتالي ليس يعني ، أنّ ذاته شيء وصفاته شيء آخر ، بل صفاته هي ذاته وحقيقته ، فعلم الإنسان بشيء

ص: 319

إنّما هو بعلم زائد على ذاته فهو بالعلم الزائد يطّلع على ما هو خارج عن ذاته فيدرك المرئيات والمسموعات عن طريق « الصور الذهنية » التي تدخل إلى الذهن بواسطة الحواس الخمس ، وإذا أخذت منه هذه « الصور الذهنية » لم يعد قادراً على درك ما هو خارج عن ذاته ولكنه يحتفظ بذاته مع فقد علمه ، وبما أنّ ذات اللّه عين علمه ، وليس العلم بزائد على ذاته ، فهو تعالى يدرك جميع المبصرات والمسموعات بنفس ذاته بحيث يكون فرض سلب العلم والقدرة عنه تعالى مساوياً لفرض نفي ذاته.

وعلى هذا فالمقصود من « اتحاد صفات اللّه مع ذاته » هو عينية الصفات للذات في عامة مراحلها ، وكون العلم الإلهي عين الذات الإلهية ، وكذا القدرة والحياة ، وغيرها من صفات الذات فهي عين ذاته سبحانه ، لا أنّ الذات شيء وحقيقة مستقلة ، والصفات حقائق طارئة على الذات وعارضة لها.

نظرية الأشاعرة في الصفات

إنّ القول بزيادة الصفات على الذات لا يخلو من مفاسد عقلية أظهرها أنّه يستلزم وجود قدماء ثمانية حسب تعدد صفاته تعالى ، وليس هذا إلاّ الفرار من خرافة التثليث المسيحي ، والوقوع في ورطة القول بالقدماء الثمانية بدل الثلاثة في حين أنّ براهين « التوحيد الذاتي » قاضية بانحصار القديم في اللّه سبحانه وعدم وجود « واجب آخر سواه ».

الدليل على وحدة الصفات والذات

1. انّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته وعينية أحدهما للآخر يوجب

ص: 320

« غناءه » سبحانه في العلم ، بما وراء ذاته ، عن غيره ، فيعلم بذاته كل الأشياء دون حاجة إلى الغير ، وهذا بخلاف القول بالزيادة - كما عليه الأشاعرة - فإنّه يستلزم ذلك افتقاره سبحانه في علمه بالأشياء وخلقه إياها ، إلى أُمور خارجة عن ذاته ، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته ، ويخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته ، وهكذا سائر الصفات من السمع والبصر ، والواجب سبحانه منزّه عن احتياجه إلى غير ذاته فهو غني في ذاته وفعله عمن سواه.

نعم الأشاعرة وإن كانت قائلة بأزلية الصفات مع زيادتها ولكن ذلك لا يدفع الفقر والاحتياج عن ساحته ، لأنّ الملازمة غير العينية فكونه سبحانه مع صفاته متلازمين منذ الأزل غير كونه نفس هذه الصفات وعينها.

والحاصل إنّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول باحتياجه في العلم والإيجاد إلى غيره.

إذ نتيجة قولهم بفصل الذات عن الصفات هي أنّه يستعين في تحصيل العلم بذاته ، بعلم منفصل كما يعني أيضاً أن يستعين في إيجاد شيء بقدرة خارجة عن ذاته على أنّ دلائل « عينية الصفات للذات » وبالعكس لا تقتصر على هذا الدليل الذي ذكرناه فقط ، ولكننا نكتفي بذلك.

تعدّد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

لقد قادتنا البراهين السابقة إلى « بساطة الذات الإلهية » وخلوّها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي والخارجي ، وهنا ينطرح سؤال هو : كيف يتناسب تعدّد الصفات مع بساطة الذات ؟ أليس يستلزم تعدد الصفات تركّب الذات الإلهية من صفات متعدّدة ، وهذا ما يخالف بساطتها ؟

ص: 321

إنّ السؤال إنّما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يكوّن جزءاً خاصاً ويحتل موضعاً معيناً من ذاته سبحانه ، فحينئذ يمكن القول بأنّه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه.

ولكن إذا قلنا بأنّ كل واحد من هذه الصفات يكوّن تمام الذات ، برّمتها وبأسرها فلا يبقى حينئذ أي مجال لتصوّر التركيب في شأنه تعالى ، إذ ماذا يمنع من أن يكون شيء على درجة من الكمال بحيث يكون ذاته علماً كلها ، وقدرة كلها وحياة كلها ، دون أن تظهر أية كثرة في ذاته ، نعم لو كانت هناك كثرة فإنّما هي في عالم الاعتبار والذهن دون الواقع الخارجي إذ يكون في هذه الصورة مصداق العلم في اللّه نفس مصداق القدرة ويكون كلاهما نفس مصداق الذات بلا مغايرة ولا تعدّد.

ولتقريب هذا المعنى الدقيق نشير إلى مثال له في عالم الممكنات.

ولنأخذ مثلاً الإنسان ، فكل وجوده مخلوق لله ، بينما هو أيضاً بكلّه معلوم له سبحانه دون أن يكون معنى ذلك أنّ جزءاً من ذات الإنسان معلوم لله والجزء الآخر مخلوق له سبحانه ، بل كلّه معلوم لله في عين كونه مخلوقاً كله له وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

وللمزيد من التوضيح لاحظ النور ، فإنّ الإضاءة والحرارة من خواص النور ، ولكن ليست الكاشفية والإضاءة مرتبطة بناحية خاصة من وجوده ، بل الإضاءة والكاشفية خاصية تمامه دون تبعض ، كما أنّ الحرارة هي أيضاً خاصية تمامه دون أن يستلزم ذلك أي تعدد في ذات النور وحقيقته.

ص: 322

إلى هنا تبيّنت لنا حسب التحليل العقلي مسائل ثلاث هي :

1. ذات اللّه منزّّهة عن التركيب الخارجي.

2. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الذهني.

3. صفات اللّه عين ذاته.

وقد ذكرنا - في معرض بيان هذه الحقائق وشرحها - أنّ الأمر لو كان على غير ما أثبتناه للزم أن يفتقر اللّه تعالى إلى سواه.

فالواجب الوجود غني عن غيره ، لا يفتقر إلى شيء سبحانه ، وسنذكر فيما يلي ما ورد من الآيات في هذا المجال.

1. هو الغني المطلق

إنّ القرآن يصف اللّه سبحانه في سبعة عشر مورداً بالغني وعدم الافتقار والاحتياج ، فقال :

( واللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (1).

( فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) (2).

( أنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (3).

( واللّهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ ) (4).

( سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ ) (5).

ص: 323


1- البقرة : 263.
2- آل عمران : 97.
3- البقرة : 267.
4- فاطر : 15.
5- يونس : 68.

( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (1).

وفي سورة فاطر وصف القرآن الكريم جميع الناس بالفقر إلى اللّه كما وصف اللّه وحده بالغني دون غيره ، إذ قال :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (2).

وليس لغناه سبحانه معنى إلاّ عدم احتياجه في ذاته ووجوده ، وفي علمه ، وقدرته إلى من سواه ، والاحتياج في هذه المراحل من أشد أنواع الاحتياج ، وقد أسلفنا أنّ تركب الذات من الأجزاء الخارجية والعقلية يستلزم - بالبداهة - الاحتياج إلى الأجزاء.

كما أنّ عدم عينية الصفات للذات الإلهية دليل على احتياجه تعالى إلى العلم والقدرة الخارجين عن ذاته ، وحيث إنّ اللّه هو الغني غير المفتقر يلزم أن يكون منزّهاً عن هذه التصوّرات.

فكونه سبحانه غنياً على الإطلاق يثبت المسائل الثلاث : تنزّهه عن التركيب العقلي ، والخارجي ، وعينية صفاته لذاته.

2. هو اللّه الأحد

يقول اللغويون :

الأحد أصله وحد.

وحيث إنّ هذه اللفظة ذات معنى خاص ، لذلك لا يوصف بها غير اللّه تعالى (3).

ص: 324


1- النمل : 40.
2- فاطر : 15.
3- راجع مفردات الراغب : 12.

ولو جعلت هذه اللفظة ( أعني : الأحد ) في سياق النفي أُطلقت على غير اللّه مثل أن تقول : ما جاءني من أحد. وأمّا لو جُعلت في سياق الإثبات فتستعمل على نحو الإضافة فقط مثل قولهم : أحدهم ، أحد عشر.

وأمّا في غير صورة الإضافة فتطلق على اللّه فحسب ، مثل قوله : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) بمعنى أنّه لا يوصف بها حينئذ ، إلاّ اللّه سبحانه.

يقول الأزهري ، اللغوي المعروف :

« إنّ « أحد » صفة من صفات اللّه استأثر بها فلا يشركه فيها شيء من الكائنات ، ويأتي في كلام العرب بمعنى الأوّل كيوم الأحد » (1).

وأمّا المفسرون الإسلاميون فيذكرون لفظة الأحد في قوله تعالى : ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) طائفة من التفاسير منها :

« الأحد : هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ، ولا في صفاته » (2).

ويقول الجزائري في كتاب « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

« إنّ الواحد : الفرد الذي لم يزل وحده ، ولم يكن معه آخر ; والأحد : الفرد الذي لا يتجزأ ولا يقبل الانقسام » (3).

ويقول العلاّمة الطباطبائي - دام ظله - في تفسيره في هذا المجال :

« والأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد ، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على

ص: 325


1- تفسير سورة الإخلاص للشيخ حبيب اللّه الكاشاني : 31.
2- مجمع البيان : 5 / 564.
3- فروق اللغات : 38.

ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ، ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد ، فإنّ كل واحد له ثانياً وثالثاً أمّا خارجاً وأمّا ذهناً بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيراً ، وأمّا الأحد فكل ما فرض له ثانياً كان هو هو لم يزد عليه شيء » (1).

وهذه الحقيقة نكتشفها بوضوح من التحقيق في موارد استعمال هاتين اللفظتين : الأحد والواحد في سياق النفي.

فإذا قال قائل : ما جاءني من القوم أحد ، كان مفهوم الجملة نفي مجيء مطلق الأفراد ، لا نفي مجيء فرد واحد أو فردين ، أو ثلاثة.

وبتعير أوضح ، فإنّ مفهوم هذه الجملة هو نفي الجنس لا نفي الواحد.

ولكن إذا قال : ما جاءني واحد ، فهم من هذه الجملة نفي مجيء شخص واحد في مقابل نفي مجيء فردين أو ثلاث.

وحيث إنّ للفظة « أحد » مثل هذه الخصوصية لذلك عدّت صفة منحصرة في اللّه سبحانه ولم يجز أن يوصف بها غيره ، ولذلك يقول أحد أئمّة أهلالبيت علیهم السلام :

« كل مسمّى بالوحدة غيره قليل » (2).

ويؤيد ما قاله أهل اللغة والمفسرون مجيء جملة ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) بعد وصف اللّه تعالى نفسه ب ( الأحد ) في سورة الإخلاص ونحن نعلم أن مفاد

ص: 326


1- تفسير الميزان : 20 / 387.
2- سيوافيك عن قريب أنّه يمكن استنتاج المسألة الثالثة ، أعني : عينية الصفات مع الذات من هذه الآية فارتقب أيضاً.

هذه الجملة أي قوله : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) ، هو نفي النظير والمثيل له سبحانه في الذات والفعل ، فلا ذات كذاته ولا خالق أو لا مدبر مثله ، فإذا كان معنى هذه الجملة هو ما عرفناه وذكرناه فليس من المستحسن أن نفسر جملة ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) بنفس المعنى أيضاً ، إذ أنّ ذلك يستلزم تكرار مضمون واحد في سورة واحدة وعلى فاصلة قصيرة لهذا يجب القول بأنّ الجملة الأُولى تفيد نفي أي نوع من أنواع التركيب والتجزئة ، والجملة الثانية تفيد نفي الشبيه والنظير له سبحانه.

وبملاحظة هذا التفسير تستفاد مسألتان (1) من المسائل الثلاث المطروحة في مطلع هذا القسم من هذه الآية ، لأنّ وحدة الذات تستلزم - بالضرورة - نفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والذهني عن اللّه.

وأمّا المسألة الثالثة وهي « عينية الصفات الإلهية للذات » فطريق إثباتها هو « صفة الغنى المطلق » التي أثبتها القرآن الكريم لله سبحانه في مواضع عديدة.

كما أنّ وصف اللّه في سورة الإخلاص بالصمد يثبت هذه العينية والاتحاد أيضاً بناء على أنّ أحد معاني الصمد هو « المقصود لكل محتاج ».

فإذا كان اللّه مقصود كلِّ محتاج ولم يكن أيُّ مقصود سواه ، استلزم ذلك أن تكون « الصفات عين الذات » وإلاّ لاحتاج في العلم بالأشياء ، أو إيجاد شيء ، إلى علم خارج ، وقدرة خارجة عن ذاته ، وفي هذه الصورة لا يكون اللّه متصفاً بالغنى المطلق ولن يكون حينئذ مقصود كلِّ محتاج.

بل يكون هناك مقصود آخر ، يتوجّه إليه حتى اللّه سبحانه.

إلى هنا أثبتنا ، عن طريق الآيات القرآنية « بساطة الذات الإلهية » ووحدتها

ص: 327


1- الميزان : 20 / 387.

وكذا عينية الصفات للذات ، ولتكميل هذا المبحث يتعيّن علينا الآن أن نستعرض ما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام حول هذا المطلب.

والجدير بالذكر أنّ الأحاديث والأخبار الواردة في هذا الشأن أكثر من أن تحصى ، ومن أن يمكن الإتيان بها في هذا الموضع ، إلاّ أنّنا سنكتفي بذكر نماذج منها ، فقد قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

« وأمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه [ أي في اللّه من التوحيد ] فقول القائل :

1. هو واحد ليس له في الأشياء شبه.

2. أنّه عزّ وجلّ أحدي المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود [ خارجي ] ولا عقل ولا وهم » (1).

والعبارة الأخيرة تثبت بوضوح بساطة الذات الإلهية ونفي أيّ شكل من أشكال التركيب الخارجي والذهني (2) في شأنها.

كما وصفه الإمام الصادق علیه السلام بالبساطة ، ضمن كلام طويل ، إذ قال :

« وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمّى » (3).

وهذا الحديث يمكن أن يكون ناظراً إلى نفي « الحد والماهية » عن اللّه تعالى ، كما يمكن أن يكون المراد منه هو نفي المحدودية عنه تعالى ، أو يكون مسوقاً لبيان كليهما.

ص: 328


1- توحيد الصدوق : 83 - 84.
2- كالتركب من الوجود والماهية.
3- توحيد الصدوق : 192.

ويقول الإمام الثامن علي بن موسى الرضا علیه السلام في هذا الصدد :

« بتجهيره الجواهر عرف أنّ لا جوهر له » (1).

من هذه الأحاديث يمكن استنباط كلا المسألتين المذكورتين بوضوح ، وأعني بهما :

1. نفي الأجزاء الخارجية ( والتركيب الخارجي ).

2. نفي الأجزاء العقلية ( والتركيب العقلي ).

أمّا المسألة الثالثة ، وهي عينية الصفات للذات ، فنشير إلى بعض الأحاديث الناظرة إليها فيما يأتي :

قال أمير المؤمنين علیه السلام :

« وكمال الإخلاص له ، نفي الصفات [ الزائدة ] عنه لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلِّ موصوف أنّه غير الصفة.

فمن وصف اللّه [ أي وصف زائد على ذاته ] فقد قرنه [ أي قرن ذاته بشيء غير الذات ] ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (2).

وفي هذا الكلام العلوي تصريح بعينية الصفات للذات المقدسة ، بل في هذا الكلام إشارة إلى برهان آخر ، وهو أنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن التركيب والتجزئة ، ونفي الاحتياج والافتقار عن ساحته.

وأمّا إذا قلنا بغيريَّتها مع الذات فذلك يستلزم التركيب وبالم آل : الثنويّة ،

ص: 329


1- توحيد الصدوق : 37.
2- نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

والتركيب آية الاحتياج ، واللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى من سواه.

وعلى هذا الأساس يكون قوله تعالى : ( هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) التي تدل على بساطة الذات دليلاً أيضاً على عينيّة الصفات للذات ، إذ على فرض زيادتها على الذات يحصل هنا وجود مركب من العارض والمعروض فيكون مصداق لفظة الجلالة هو المركب منهما ، مع أنّ المفروض بساطة ذاته.

هذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بزيادة الصفات - حسب ما ذهب إليه الأشاعرة - يستلزم أن يكون هناك « قدماء ثمانية » ما عدا اللّه القديم ، في حين أنّ الآيات القرآنية التي تدل على وحدانية القديم الأزلي تنفي هذه النظرية أيضاً ، وقد أشرنا إليه سابقاً.

قال الإمام الصادق علیه السلام لأبي بصير في هذا الصدد :

« لم يزل اللّه جل وعزّ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور » (1).

والإمام يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه وهو وجود العلم بلا وجود معلوم ، ووجود السمع بلا وجود مسموع ، وشرح هذا القسم من العلم يطلب من الكتب الكلامية والفلسفية.

وللفيلسوف الجليل صدر المتألّهين في هذا المقام بيان لا يسع هذا المجال لإيراده (2).

ص: 330


1- التوحيد للصدوق : 139.
2- الأسفار الأربعة : 6 / 263 - 270.

الفصل السابع: اللّه والتوحيد في الأفعال

اشارة

1. التوحيد في الخالقية

ص: 331

اللّه والتوحيد في الخالقية

1. عقيدة المعتزلة في العلل والأسباب.

2. نقد هذه العقيدة.

3. مذهب الإمام الأشعري في العلل الطبيعية.

4. نقد هذا المذهب.

5. مذهب أئمة أهل البيت علیهم السلام « الأمر بين الأمرين ».

6. التوحيد في الخالقية من شعب التوحيد الافعالي.

7. ما معنى الخالقية ؟

8. لماذا يؤكد القرآن على التوحيد في الخالقية ؟

9. ما معنى خالقية المسيح ؟

10. التوحيد في الخالقية يؤكد الاختيار.

11. كيف تعلّقت الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن الفاعل.

12. تحليل عن الشرور.

13. خلاصة القول في الشرور.

14. جواب آخر حول الشرور.

15. الشر أمر نسبي.

ص: 332

التوحيد في الخالقية

تشهد النظرة العلمية والفلسفية بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسببات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية بعلّة وسبب مادي ، فهذا النظام - بمجموعه - نظام ممكن ، محتاج - في ذاته ، وفعله - إلى واجب غني بالذات ، وحيث إنّ الإمكان والافتقار لازم « ذات » الممكن وماهيته ، والفقر والاحتياج لا ينقطع ولا ينفك عنه ، فالنظام الذي يتألف من سلسلة « العلل والمعلولات » يكون قائماً - في وجوده وبقائه وفي تأثيره وفعله - باللّه تعالى دون أن يتمتع بأي « استقلال » ذاتي واستغناء عنه حدوثاً وبقاء ذاتاً وفعلاً.

وبعبارة أُخرى إنّ الظواهر الكونية كما أنّها « غير مستقلة في ذاتها » وأصل وجودها كذلك هي غير مستقلة - في مقام عليتها وتأثيرها - بمعنى أنّها لا تؤثر أو لا يمكنها التأثير إلاّ بإرادة اللّه ، وحوله وقوته سبحانه ، ويستنتج من ذلك أنّه كما لا شريك له سبحانه في الفاعلية والعلية ، ليس هناك في الواقع إلاّ « فاعل مستقل واحد » لا غير ، وإلاّ علة واحدة قائمة بنفسها لا بسواها ، وذلك هو « اللّه » عز وجل.

وأمّا الأسباب والعلل الأُخرى فهي تستمد « وجودها » و « فاعليتها » أيضاً من اللّه ، وتقوم به ، ولذلك فإنّ شعار المؤمن الموحد يكون دائماً هو : « لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ».

ص: 333

عقيدة المعتزلة

ذهب المعتزلة إلى أنّ كل ممكن مؤثر ، يحتاج في ذاته إليه سبحانه لا في فعله ، فوجوده فقط قائم به تعالى ، دون إيجاده ، وإنّ فعل الممكن يرتبط بنفسه لا بموجده.

فقد فوض تأثير الفاعل - في نظر هذه الطائفة - إلى نفس « الأسباب والعلل » بحيث لم تعد هذه الأسباب بحاجة إلى اللّه في « تأثيرها وفاعليتها » بل هي تأتي بكل ذلك على وجه الأصالة والاستقلال دون فرق في هذه الناحية بين الإنسان وغيره.

وقد دفع هذه الفرقة إلى اختيار مثل هذه العقيدة ، تصور تنزيه اللّه عمّا يفعله العباد من الآثام والقبائح كالظلم والقتل والزنا.

فلو كانت « سببية » هذه الأفعال مستندة إلى الإرادة الإلهية ، لاستلزم ذلك أن يكون عقاب العصاة - حينئذ - مخالفاً للعدل الإلهي ، واستلزم نسبة القبيح إليه سبحانه.

فهم بغية الحفاظ على العدل الإلهي وتنزيهه سبحانه سلكوا هذا المسلك على خلاف البراهين العلمية والفلسفية ، وعلى خلاف الآيات والأحاديث الإسلامية ، واعتبروا العلل « عللاً مفوضة » فوضت إليها السببية والتأثير ، بحيث تؤثر دون الاستناد إلى القدرة الإلهية ، أي بالاستقلال والأصالة.

وفي الحقيقة ، جعلوا مكان « الفاعل المستقل الواحد » ملايين الفاعلين المستقلين ، وبذلك اتخذوا لله - بدل شريك واحد - شركاء كثيرين له في الفعل

ص: 334

والتأثير ، فسقطوا بذلك في ورطة « الشرك الخفي » (1) بظن المحافظة على العدل الإلهي.

نقد هذا الاعتقاد

ونحن قبل أن نتحدث حول الآيات المرتبطة ب « التوحيد في الخالقية » الذي هو في الحقيقة بحث في « التوحيد الأفعالي » سنذكر باختصار ما يرد على هذه النظرية من نقد وأشكال ، فنقول :

1. هل يصح أن يستند الموجود الممكن في وجوده وذاته إلى اللّه ، ولكن يكون مستقلاً عنه في تأثيره في حين أنّ الارتباط من حيث الذات يستلزم الارتباط من حيث الفعل والتأثير ، لزوماً وحتماً.

وبعبارة أُخرى : إذا كان وجود هذه الموجودات وذاتها مرتبطة باللّه ، فإنّ فعلها وتأثيرها يكون أيضاً مرتبطاً به تعالى ، فكيف يقول هؤلاء باستقلال هذه الموجودات في فعلها وتأثيرها مع اعترافهم بارتباطها باللّه سبحانه في ذاتها ، الملازم لارتباطها قهراً به في الفعل والتأثير في حين لو كان الفاعل مستقلاً في فعله لوجب أن يكون أيضاً مستقلاً في ذاته وأصل وجوده ، والاعتقاد باستقلال الأشياء في « أصل وجودها وذاتها » موجب للاعتقاد بوجوب وجودها - لا محالة - ومعلوم أنّ مثل هذا الاعتقاد مناف ل « التوحيد الذاتي ».

2. من الجدير - جداً - التعمّق في الآية التالية :

ص: 335


1- انّ اعتقاد المعتزلة باستقلال العلل والأسباب في الفاعلية هو نوع من الشرك الخفي الذي لا يدركه إلاّ العلماء والمحققون دون عامة الناس ، ولهذا لا يكون هذا الاعتقاد سبباً للخروج من الإسلام.

( وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (1).

فإنّ قوله سبحانه : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ ) أوضح دليل على عدم استقلال أي فاعل في فعله ، إذ لا شك أنّ أثر الفاعل عاقلاً كان أو غيره جزء من الملك ، فلو كان الفاعل مستقلاً في فعله ، لكان بعض الكون وهو ذوات العلل والأشياء ملكاً لله سبحانه والبعض الآخر يكون ملكاً لغيره تعالى ، أعني : العلل والأسباب ، فإنّ المالكية متفرعة على الخالقية فلو كانت الآثار خارجة عن إطار خالقية اللّه لخرجت عن إطار مالكيته.

إنّ القرآن الكريم يخبر عن مجموعة من المدبرات إلى جانب اللّه حيث يقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (2).

فمن ترى تكون تلك المدبّرات ؟

المراد من تلك المدبّرات أمّا العلل الطبيعية أو الملائكة التي تدبّر الكون.

فإذا كانت هذه الأشياء تدبّر شؤون العالم على وجه الاستقلال دون أن تكون أفعالها مستندة إلى إرادة اللّه ومشيئته ، فهل يصح قوله تعالى :

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) .

فأي شريك أعلى وأبين من هذه الشركاء المشتغلة بتدبير العالم دون الاعتماد على اللّه ودون الرجوع إليه فرضاً.

3. لقد أشار أحد أئمّة أهل البيت في الرد على عقيدة المعتزلة إلى نكتة

ص: 336


1- الإسراء : 111.
2- النازعات : 4.

خاصة وهي :

« انّ القدرية أرادوا أن يصفوا اللّه عز وجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه » (1).

فلقد كشف الإمام موسى بن جعفر علیه السلام النقاب ، منذ بداية نشوء مذهب الاعتزال (2) عن الدوافع الأوّلية لمثل هذا الاعتقاد ، وأعلن منذئذ عن فساده ، وعلة بطلانه ، لأنّه يحدّد قدرة اللّه.

ولو أمعنوا النظر في كيفية صدور الفعل عن الإنسان ، وكيفية فاعليته ، مع المحافظة على أصل « التوحيد الافعالي » ، لثبت لهم أنّ كل فعل صادر من الإنسان مع أنّه فعل اللّه هو فعل الإنسان نفسه ، ومع أنّه ( أي الفعل البشري ) قائم باللّه تعالى هو صادر من العبد نفسه أيضاً ، غاية ما في الباب أنّ فاعليته تعالى بالقيومية وفاعلية البشر فاعلية مباشرية.

يقول الإمام موسى بن جعفر علیه السلام في كتاب له إلى أحد أصحابه :

« قال اللّه : يابن آدم بمشيئتي كنت ، أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أديت إليَّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعاً ، بصيراً ، قوياً » (3).

ص: 337


1- بحار الأنوار : 5 / 54.
2- نعم أنّ أصحاب الاعتزال قد أخذوا الأصلين الرئيسيين ( التوحيد والعدل ) عن خطب أمير المؤمنين عن طريق محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم غير أنّهم لابتعادهم عن سائر أئمّة أهل البيت لم يوفقوا إلى تفسير هذين الأصلين على النحو اللائق بهما إلى أن وجد فيهم أقوام لهجوا بأنّ اللّه غير قادر على أفعال الإنسان إيجاداً واعداماً وهؤلاء هم القدرية الحقيقية.
3- بحار الأنوار : 5 / 57.

فالحديث رغم أنّه يصف الإنسان بأنّه هو الذي يريد لنفسه ما يريد ، وبإرادته يؤدي فرائضه ويرتكب جرائمه إلاّ أنّه في نفس الوقت يقول : بأنّه يفعل ما يفعل بأنعام اللّه وأقداره.

نعم اختارت المعتزلة ما اختارت من استقلال العبد في فعله بدافع المحافظة على « العدل الإلهي » متوهّمين بأنّ القول بوجود فاعل مستقل واحد في العالم يستلزم أن يكون عقاب العصاة على أفعالهم على خلاف العدل ، ولكنّهم غفلوا عن أنّ عقاب العصاة على آثامهم إنّما يكون مخالفاً له إذا أنكرنا حرية الإنسان في الاستفادة من المواهب الإلهية ، واعتبرناه مجبوراً مقهوراً في أفعاله وأنكرنا وساطة العلل والأسباب وفاعليتها وعلّيتها.

وأمّا إذا قلنا بمشاركة العلل والأسباب في وقوع الفعل بحيث لا يتحقق الفعل إلاّ عن هذا الطريق ، أعني : وجود العبد وإرادته واختياره فلا يكون لذلك التوهم أي مجال ، والقول بمشاركة العبد في فعله على النحو الذي ذكرنا لا ينافي « التوحيد الافعالي » إذ لا يعني منه إنكار علية العلل والأسباب الطبيعية وغير الطبيعية وإلغاء دورها وتأثرها ، بل يعني مع احترام علية العلل وسببية الأسباب أنّه ليس ثمت سبب مستقل ومؤثر بالذات إلاّ اللّه ، وانّه تعالى المؤثر الوحيد الذي يؤثر بالأصالة والاستقلال دون غيره ، وبهذا الطريق وحده يمكن الاجتناب عن أي نوع من ألوان الشرك في الذات والفعل (1).

وبعبارة أُخرى : انّ اللّه قد أعطى القدرة والنعمة لعبده ، ولكن جعله حراً في كيفية الاستفادة منهما ، فهو بإرادته واختياره يصرف كل نعمة في أي مورد شاء ،

ص: 338


1- للسيد الرضي في المقام كلام فراجع حقائق التأويل : 209 - 210.

وعندئذ يكون هو المسؤول عن أعماله وأفعاله ، وعلى هذا الأساس فالفعل مستند إلى اللّه سبحانه باعتبار أنّه أقدر عبده على الفعل وأنعم عليه ، كما أنّه مستند إلى عبده لكونه باختياره صرف القدرة والنعمة في أي مورد شاء ، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي تواترت عليه الأخبار عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

مذهب الإمام الأشعري

إنّ هناك مذهباً آخر يعد مقابلاً للمذهب الماضي وهو المنسوب إلى الإمام الأشعري ، فهو لا يعترف إلاّ بمؤثر واحد وهو اللّه سبحانه وينكر علّية أي موجود سواه ، بل يقول جرت إرادة اللّه على خلق الحرارة بعد النار وخلق النور بعد الشمس وهذا هو ما أسموه بالعادة الإلهية.

فالعادة الإلهية جرت - حسب تلك النظرية - على ظهور الأثر عقيب وجود المؤثر ، دون مشاركة أو سببية للمؤثر في حصول ذلك الأثر مطلقاً.

ولكن هذه النظرية مرفوضة لمخالفتها الصريحة للبراهين العلمية والفلسفية ولصريح الآيات القرآنية حول تأثير العلل والأسباب الطبيعية في عالم الكون ، ونحن نرجئ بيان بطلان هذا الرأي من الناحية العلمية والفلسفية (1) إلى موضع آخر ، وإنّما نكتفي هنا ببيان بطلانه من وجهة نظر القرآن.

ص: 339


1- نعم هذه النظرية تقارب ما نقل من الفيلسوف الإنجليزي المعروف : هيوم ، حيث إنّه أنكر مطلق العلية ولم يعترف حتى بعلّة واحدة ، وعلّل ذلك بأنّ التجربة لا تثبت إلاّ التوالي والتقارن بين النار وحرارتها والشمس وضوئها ، وهما غير العلّية أي نشوء شيء من شيء. ولكنه لما حصر أسباب المعرفة بالتجربة والاختبار عجز عن إثبات قانون العلية الذي تبتني عليه المعارف البشرية، ولو رجع إلى البراهين الفلسفية التي أقامها الفلاسفة على أن كل ظاهرة ممكنة تحتاج إلى سبب يخرجها من نقطة الاستواء لظهر له الحق بأجلى مظاهره.

ففي هذه الآيات يصرح القرآن - بوضوح كامل - بعلية وتأثير العلل الطبيعية نفسها.

وإليك هذه الآيات :

( وَفِي الأرضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ) (1).

وجملة ( يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.

وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين :

( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (2).

( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأرض الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ) (3).

ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز - بجلاء - بتأثير الماء في الزرع ، إذ أنّ « الباء » تفيد السببية - كما نعلم -.

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرىَ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مِنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ) (4).

ص: 340


1- الرعد : 4.
2- البقرة : 22.
3- السجدة : 27.
4- النور : 43.

ففي هذه الآية نرى - لو أمعنا النظر - كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدماتها.

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك - بزمن طويل - سبق القرآن إلى بيان تلك المقدمات في عبارات هي :

1. يزجي ( يحرك ) سحاباً.

2. ثم يؤلّف ( ويركب ) بينه.

3. ثم يجعله ركاماً ( أي كتلة متراكمة متكاثفة ).

4. فترى الودق ( أي المطر ) يخرج من خلاله.

5. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وهكذا يصرح اللّه سبحانه في كل المراحل بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية ، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن اللّه ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

( اللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (1).

وأية جملة أوضح من قوله : ( فَتُثِيرُ سَحَاباً ) أي الرياح ، فالرياح في نظر

ص: 341


1- الروم : 48.

القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول « تأثير العلل الطبيعية بإذن اللّه ».

ففي هذه الجمل جاء التصريح :

1. بتأثير الرياح في نزول المطر.

2. وتأثير الرياح في تحريك السحب.

3. وانبساط السحب في السماء.

4. وتجمع السحب - فيما بعد - على شكل قطع متراكمة.

5. ثم نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذه الأفاعيل إلى اللّه في هذه الآيات عند تعرضه لذكر مراحل تكون المطر ونزوله بأنّه ( هو ) يبسط السحاب في السماء و ( هو ) الذي يجعله كسفاً ، فإنّما يقصد - من وراء ذلك - التنبيه إلى مسألة « التوحيد الافعالي » الذي سنبحثه من وجهة نظر القرآن في هذا الفصل وما بعده.

على أنّ الآيات التي تؤكد دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر ، وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب والمسببات التي تعمل بإرادة اللّه وإذنه وتكون فاعليتها فرعاً من فاعلية اللّه ، أكثر من أن يمكن إدراجها هنا ، ولكننا نرى في ما ذكرنا الكفاية لمن تدبّر.

هذا وقال أحمد أمين المصري : إنّ من الدائر على ألسنة الأزهريين :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّه *** فذاك كفر عند أهل الملّه

ص: 342

وقال الزبيدي في إتحاف السادة (1) وهو شرح لإحياء العلوم :

ثبت مما تقدم أنّ الإله هو الذي لا يمانعه شيء وإنّ نسبة الأشياء إليه على السوية ، وبهذا أبطل قول المجوس وكل من أثبت مؤثراً غير اللّه من علة أو طبع أو ملك أو أنس أو جن ، إذ دلالة التمانع تجري في الجميع ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان.

هذا ، وقد تقرب الإمام الأشعري إلى أهل السنّة بنسبته فعل الشر إلى اللّه تعالى لمّا تاب عن الاعتزال ، فرقى يوم الجمعة كرسياً في المسجد الجامع بالبصرة ونادى بأعلى صوته : « من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن وانّ اللّه لا يرى بالأبصار وانّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة فخرج بفضائحهم ومعايبهم » (2).

ولا يخفى أنّ التوحيد الافعالي بهذا المعنى أي سلب العلية والتأثير عن أي موجود سواه استقلالاً وتبعاً وبالمعنى الاسمي والمعنى الحرفي جر الويل بل الويلات على أصحاب هذا الرأي من أهل السنّة فدخلوا في عداد الجبرية وان كانوا لا يقبلون بإطلاق هذا الاسم عليهم.

غير انّ هذا الرأي الزائف لا ينتج غير الجبر والإلجاء في أفعال الإنسان ، ولذا رأينا أنّ الإمام الأشعري قد تاب عن قول : « إنّ أفعال الشر أنا أفعلها » ، وذلك حينما دخل في عقيدة السنّة - حسب رأيه -.

ص: 343


1- اتحاف السادة : 2 / 135.
2- الفهرست لابن النديم : 257.

ما معنى هذه الجملة التي ذكرها الإمام الأشعري في جملة عقائد أصحاب الحديث والسنّة إنّ سيئات العباد يخلقها اللّه عزّ وجلّ ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً (1).

أو ليس هذا موجباً للغوية بعث الأنبياء والرسل ، ولغوية الحث على العمل الصالح والزجر عن غير الصالح.

ونرى إمام الحنابلة يمشي على هذا الضوء فيفسر القضاء والقدر على نحو يساوي الجبر والحتم حيث يقول : القدر خيره وشره ، حسنه وسيئه من اللّه قضاء قضاه وقدر قدره لا يعدو واحد منهم مشيئة اللّه عز وجل والعباد صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم لأفعاله وهو عدل منه عزّ ربنا وجل والزناء والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المرء المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلها بقضاء وقدر (2).

إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا المعنى تشعب عن الفكرة الخاطئة من إنكار العلية والمعلولية في عالم الطبيعة مطلقاً وانّ الظواهر الطبيعية لا مصدر ولا منشأ لها إلاّ إرادته سبحانه من دون وساطة علة أو مشاركة سبب ، وهو ما عرفت بطلانه في الصفحات السابقة.

وأمّا كشف النقاب عن حقيقة قضائه وقدره سبحانه مع شمولها لعامة الحوادث والظواهر الطبيعية والأفعال الإنسانية ، فقد أسهبنا فيه الكلام في بعض أبحاثنا الفلسفية (3).

ص: 344


1- مقالات الإسلاميين : 1 / 321.
2- طبقات الحنابلة : 1 / 25.
3- راجع القضاء والقدر في العلم والفلسفة تأليف شيخنا الأُستاذ وتعريب محمد هادي الغروي طبع في بيروت 1399 ه.

وللعلاّمة الحجة السيد مهدي الروحاني مقال مسهب في المقام في كتابه « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه.

مذهب أئمة أهل البيت

أقول : من جعل القرآن رائده وإمامه ، ونظر في آياته مجرّداً عن الميول والأفكار المسبقة ، يقف على أنّ كلا المذهبين ( مذهب المعتزلة والأشاعرة ) على جهتي الإفراط والتفريط ، فلا تفويض ولا جبر ، لا إشراك ولا ثنوية ولا اضطرار والجاء ، لا أنّ الممكن مستقل في فعله وتأثيره ، ولا هو منعزل عن فعله وأثره بتاتاً.

إنّ كلا الرأيين والمذهبين لا يصدقهما القرآن ولا الدلائل العقلية الواضحة بل انّ هناك مذهباً ثالثاً أسماه أئمّة أهل البيت بالأمر بين الأمرين وهو الذي يرشدنا إليه التدبر في القرآن وبه يحافظ على التوحيد في الخالقة والفاعلية ، وانّه لا خالق مستقل إلاّ هو ، وعلى مشاركة العلل والأسباب مختارها ومضطرها في الفعل والأثر « فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » وسيوافيك توضيح الفرق بين المذهبين والأمر بين الأمرين بطرح مثال بديع.

* * *

ويمكن تلخيص التوحيد الافعالي في فصلين :

1. انّه ليس في عالم الوجود إلاّ خالق أصيل ومستقل واحد ، وأمّا تأثير العلل الأُخرى وفاعليتها فليست إلاّ في طول خالقية اللّه وعلّيته وفاعليته ، ومتحقّقة بإذنه.

ص: 345

2. انّه لا مدبر للعالم إلاّ « اللّه » ولا تدبير لغيره إلاّ بإذنه سبحانه وأمره.

وأمّا القسم الأوّل فهو « التوحيد في الخالقية ».

والقسم الثاني فهو « التوحيد في التدبير والربوبية ».

وسيوافيك انّ « الرب » ليس بمعنى : الخالق ، بل بمعنى المدبر الذي وكل إليه أمر إصلاح فرد أو جماعة (1).

التوحيد في الخالقية

من مراجعة القرآن الكريم يتضح أنّ هذا الكتاب السماوي لا يعرف خالقاً مستقلاً أصيلاً إلاّ اللّه ، وأمّا خالقية ما سواه فهي في طول خالقيته وليس له استقلال في الخلق والإيجاد ، وإليك فيما يلي طائفة من الآيات التي تشهد بهذا الأمر :

( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (2).

( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ وَكِيلٌ ) (3).

( ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ خَالُقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (4).

ص: 346


1- قد فسر الوهابيون « الرب » بالخالق واعتبروا التوحيد في الربوبية والتوحيد في الخالقية قسماً واحداً ، في حين أنّ الربوبية لا تعني الخالقية ، بل تعني إدارة فرد أو جماعة وتدبير أُمورهم وسيأتي توضيح هذا القسم في المستقبل.
2- الرعد : 16.
3- الزمر : 62.
4- غافر : 62.

( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ ) (1).

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ) (2).

( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (3).

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) (4).

( أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (5).

ولا يمكن أن تكون هناك عبارات أوضح من هذه العبارات في إفادة المقصود وهو : أنّ كل الأشياء - بذاتها وآثارها - معلولة لله ومخلوقة له سبحانه.

فهو الذي خلق الشمس والقمر والنار ، وهو الذي أعطاها النور والضوء والحرارة ، وأقام ارتباطاً وثيقاً بين هذه الآثار وتلك الأشياء.

وبالتالي فهو الذي أعطى للأسباب سببيّتها وللعلل علّيتها.

إنّ القرآن يرى - بحكم نظرته الواقعية - بأنّ كل ما في هذه الحياة من سماء وكواكب وأرض وجبال وصحراء وبحر ، وعناصر ومعادن ، وسحاب ورعد وبرق وصاعقة ، ومطر وبرد ، ونبات وشجر ، وحجر وحيوان وإنسان ، وغيرها من الموجودات غير مستقلة في التأثير ، وإنّ كل ما ينتسب إليها من الآثار ليست لذوات هذه الأسباب ، وانّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى اللّه سبحانه.

ص: 347


1- الأنعام : 102.
2- الحشر : 24.
3- الأنعام : 101.
4- فاطر : 3.
5- الأعراف : 54.

فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباطها بعضها ببعض - بحكم العلية - فهي مخلوقة لله جميعاً ، فإليه تنتهي العلية وإليه تؤول السببية وهو معطيها للأشياء.

ولا شك أنّ البشر هو أيضاً ذو آثار وأفعال ، كالأكل والشرب والقيام والقعود وغيرها من الأفعال ، وكلّها مرتبطة بالإنسان نفسه ، فهي أفعاله الاختيارية التي يتعلّق بها الأمر والنهي.

ولكنّه ليس مستقلاً في فعله وأثره ، فكما أنّ فعله يعد فعلاً له ومرتبطاً به ، فهكذا يعد فعله فعلاً لله سبحانه ومرتبطاً به بحكم كون وجوده وما أُعطي من القوى والطاقات مستندة إلى اللّه سبحانه ، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون فعل العبد مرتبطاً بالعبد ومنقطعاً عن اللّه ، إذ كيف يكون ذات الشيء مرتبطاً ويكون فعله منقطعاً ، فإنّ غير المستقل بالذات غير مستقل في الفعل ، والمستقل في الذات مستقل في الفعل أيضاً.

وبعبارة أُخرى : انّ المراد من كون أفعال العباد مخلوقة لله ليس هو كونها فعلاً له سبحانه بلا مشاركة العبد ، بل المراد هو عدم استقلال العبد والعلل كلها في مقام الإنشاء والإيجاد وإلاّ لزم أن يكون في صفحة الوجود فاعلون مستقلون في الفعل والإيجاد وهو بمنزلة الشرك.

وبذلك يرتفع الاستيحاش عن القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله ، إذ ليس المراد انّه سبحانه فاعل دونهم كما ليس المراد أنّها أفعال لهم دونه سبحانه ، بل هي أفعال له تعالى من جهة وأفعال لهم من جانب آخر.

وقد أوضحه بعض المحقّقين بالمثال التالي الذي يوضح موقف كل من مذهبي الجبر والتفويض وما هو الحق من الأمر بين الأمرين ، فلنفرض أنّ إنساناً

ص: 348

أعطى لأحد سيفاً مع علمه بأنّه يقتل به نفساً ، فالقتل إذا صدر منه لا يكون مستنداً إلى المعطي بوجه ، فإنّه حين صدوره يكون أجنبياً عنه بالكلية غاية الأمر أنّه هيّأ بإعطائه السيف مقدمة إعدادية من مقدمات القتل ، وهذا واقع التفويض.

كما أنّه لو شد آلة جارحة بيد الإنسان المرتعش بغير اختيار ، فأصابت الآلة من جهة الارتعاش نفساً فجرحته ، فالجرح لا يكون صادراً من ذاك الإنسان المرتعش ، بإرادته واختياره ، بل هو مقهور عليه في صدوره منه ، وهذا واقع الجبر وحقيقته.

وإذا فرضنا أنّ يد الإنسان مشلولة لا يتمكّن من تحريكها إلاّ مع إيصال الحرارة إليها بالقوة الكهربائية ، فأوصل رجل القوة إليها بواسطة سلك يكون أحد طرفيه بيد المولى ، فاختار ذلك الإنسان قتل نفس والموصل يعلم بذلك ، فالفعل بما انّه صادر من الإنسان المشلول باختياره يعد فعلاً له ، وبما أنّ السلك بيد الموصل وهو الذي يعطي القوة للعبد آناً فآناً فالفعل مستند إليه ، وكل من الإسنادين حقيقي من دون أن يكون هناك تكلّف أو عناية ، وهذا هو واقع الأمر بين الأمرين ، فالأفعال الصادرة من المخلوقين بما أنَّها تصدر منهم بالإرادة والاختيار ، فهم مختارون في أفعالهم ; وبما أنّ فيض الوجود والقدرة والشعور من مبادئ الفعل يجري عليهم من قبل اللّه تعالى آناً فآناً ، فأفعالهم منتسبة إلى خالقهم (1).

إنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية تبيّن هذه الحقيقة بنحو آخر وهو أنّه ليس اللّه تعالى خلق الأشياء فقط ، بل هو الذي قدر تأثير كل شيء وخلق له

ص: 349


1- أجود التقريرات : 1 / 90.

« حدوداً » خاصة ، وغايات معينة مثل قوله تعالى :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (1).

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (2).

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (3).

هذه الآيات وما قبلها تبيّن « التوحيد الخالقي » بوضوح ولا تعترف بخالق أصيل ومستقل إلاّ اللّه ، كما أنّها لا تعترف بمقدّر أصيل للأشياء وهاد واقعي لها غيره سبحانه.

ما هو معنى الخالقية ؟

ماذا يراد من أنّ اللّه سبحانه هو الخالق الوحيد وانّ الذوات والأشياء وما يتبعها من الأفعال والآثار حتى الإنسان وما يصدر منه ، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية ؟

إنّ الوقوف على تلك الحقيقة القرآنية يتوقف على تحليل معنى الخلق لغة واستعمالاً.

إنّ لفظة « الخلق » تارة يراد منها « التقدير » وأُخرى الإبداع والإيجاد ، والميزان في ذلك هو إنّه إذا قيل : خلق هذا من ذاك وذكرت معه المادة القابلة للصياغة والتصوير والنحت والتكوين يراد منه التقدير ، قال سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيح علیه السلام :

( أَنِّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً

ص: 350


1- الفرقان : 2.
2- طه : 50.
3- الأعلى : 2 - 3.

بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

يقال : خلقت الأديم للسقاء ، إذا قدرته ، ويقال أيضاً : خلق العود : سوّاه (2).

وأمّا إذا تعلّق الخلق بالشيء ونسب إليه من دون أن تقترن بمادة خاصة ، فيراد منه الإبداع والإيجاد من كتم العدم ، كقوله سبحانه :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (3).

نعم دلت البراهين الفلسفية على أنّ « الخلق » لا ينفك عن الإيجاد والإبداع حتى في القسم الأوّل ، فإنّ المادة وإن كانت موجودة لكن الصورة - لا شك - إنّها أبداعية قطعاً ، كقوله سبحانه :

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) (4).

ولعلّه لذلك اكتفى ابن فارس في مقاييسه في توضيح معنى الخلق بالمورد الأوّل أي التقدير ولم يذكر المورد الثاني اعتماداً بأنّ التقدير لا ينفك عن الإيجاد والإبداع كما أنّ الإيجاد لا ينفك عن التقدير ، كما صرح بقوله : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (5).

***

ص: 351


1- آل عمران : 49.
2- المقاييس لابن فارس : 2 / 214 ، والقاموس المحيط : مادة خلق.
3- الفرقان : 2.
4- غافر : 67.
5- الفرقان : 2.

ثم إنّه وقع النزاع في صحة استعمال لفظ الخلق في الأفعال ، لغة ، وانّه هل يتعلّق الخلق بالأفعال كتعلّقه بالذوات ، أو أنّه لا يتعلّق إلاّ بالذوات ، وأمّا الأفعال والأحداث فيتعلّق بها الإيجاد ، والإنسان موجد لفعله لا خالق له ، فيقال : أوجد فعله ولا يقال : خلقه.

وربما يستدل على صحة تعلّقه بالفعل والعمل بقوله تعالى :

( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * واللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (1).

والشاهد هو قوله : ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) غير انّه يمكن أن يقال : انّ المراد من الموصول في قوله : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) هو الأصنام التي كانوا يعملونها وينحتونها بقرينة ما سبقها من الآيات ، أعني قوله : ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) والمقصود انّ اللّه خلقكم وخلق الأصنام التي تصنعونها ، ويكون وزان الآية وزان قوله سبحانه : ( يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ ) (2).

وبذلك يسقط الاستدلال بالآية.

وربما يستدل على نفي صحة اسناد الخلق إلى غيره سبحانه بقوله تعالى :

( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) (3). (4)

فإنّ الظاهر من قوله ( لا يَخْلُقُ شَيْئاً ) انّ كل معبود سواه لا يخلق شيئاً ولا

ص: 352


1- الصافات : 93 - 96.
2- سبأ : 13.
3- الأعراف : 191.
4- ومثله الآية 20 من سورة النحل والآية 3 من سورة الفرقان.

يقال لفعله انّه مخلوق ولا لنفسه انّه خالق.

غير انّ الإجابة عن هذا الاستدلال أيضاً واضحة ، فإنّ المراد بعد الغض عن احتمال كون المراد الأصنام المنحوتة لا كل موجود سواه ، نفي الخالقية اللائقة لساحته سبحانه ، وهي الخالقية المستقلة غير المعتمدة على شيء ومن المعلوم أنّ الخالقية بهذا المعنى لا يقدر عليها أحد.

إذا وقفت على استدلال الطرفين من حيث صدق الخلق على الفعل وعدم صدقه ، فهلمّ معنا نوقفك على الحقيقة وانّه هل يجوز استعمال لفظ الخلق في مورد الأعمال وعدمه ؟

فنقول : أمّا أوّلاً : لا شك أنّ الخلق يتعلّق بالفعل كما يتعلّق بالذات ، كما في قوله سبحانه :

( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) (1).

فإنّ قوله سبحانه : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) بمعنى تقولون : كذباً ، فليس الكذب والصدق إلاّ من أفعال البشر.

وفي الحديث :

« خلقت الخير وأجريته على يدي من أحب وخلقت الشر وأجريته على يدي من أُريد ».

قال الطريحي في تفسير الحديث : المراد بخلق الخير والشر خلق تقدير لا خلق تكوين ، ومعنى التقدير نقوش في اللوح المحفوظ ، ومعنى خلق التكوين

ص: 353


1- العنكبوت : 17.

وجود الخير والشر في الخارج ، وهو من أفعالنا وقد ورد في الحديث يا خالق الخير والشر (1).

وثانياً : سلمنا أنّ الخلق لا يتعلّق بالفعل غير أنّ عمومية المتعلّق في الآيات الواردة في هذا الفصل التي تخص الخالقية باللّه سبحانه كقوله : ( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) وقوله : ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ ) أو قوله : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرِ اللّه ) تكون قرينة على أنّ المراد من الخلق في الآيات هو مطلق الإيجاد والإبداع ، سواء تعلّق بالذات أو بالفعل ، فيستدل بعموم المتعلّق ( كل شيء ) مثلاً على إلغاء الخصوصية المتوهمة في لفظ الخلق من أنّه لا يتعلّق إلاّ بالذوات دون الأفعال.

إنّ عناية القرآن بطرح متعلّق الخلق بشكل عام عناية لا يرى مثلها في غيره تكون قرينة على أنّ المراد هو نفي وجود أي مؤثر أو موجود مستقل في صفحة الوجود دون اللّه ، وقد ذكر علماء المعاني ، انّ خصوصية الفعل ربّما يسري إلى المتعلّق فيخرجه عن السعة ، فإذا قال القائل : لا تضرب أحداً ، ينصرف لفظ الأحد بقرينة « لا تضرب » إلى الحي وإن كانت تلك اللفظة عامة تشمل الحي الميت.

وقد يعكس فتكون سعة المتعلّق قرينة على شمول الفعل وعموميته ، كما لا يخفى مثلاً أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) وإن كان خاصاً من جهة الموصول والصلة بالعاقل فلا يشمل إلاّ دعوة العقلاء ، إلاّ أنّ قوله من دون اللّه قرينة على أنّ الممنوع هو دعوة مطلق غير اللّه عاقلاً كان أو غيره ،

ص: 354


1- مجمع البحرين مادة خلق ، ولا يخفى أنّه كما تكون ذوات الأشياء خيراً وشراً كذلك تكون الأفعال خيراً وشراً ، بل نسبة الخير والشر إلى الذوات كصحة البدن والمال إنّما هي باعتبار كونها مبدأ للخير والشر.
2- الحج : 73.

وبذلك يظهر أنّ للعموم الحاكم على المتعلّق في الآيات ، أعني قوله تعالى : ( كُلَّ شَيْءٍ ) ، وإضرابه دليلاً على أنّ المقصود حصر مطلق الخلق المتعلّق بالذوات والأفعال باللّه سبحانه.

ثالثاً : انّ المقصود من التوحيد في الخالقية هو التوحيد في التأثير والإيجاد سواء أصح إطلاق الخلق عليه أم لا. (1) والمراد أنّ كل موجود ممكن غير مستقل في ذاته غير مستقل في فعله وتأثيره أيضاً ، لأنّ غير المستقل في الذات والقوى والطاقات غير مستقل في أعمال هذه القوى والاستفادة من هذه الطاقات ، إلاّ أنّ كون الفاعل غير مستقل ليس بمعنى كونه مجبوراً ومضطراً في أعمال هذه القوى والطاقات ، بل هو مخير في أعمالها على أي نحو شاء.

وتظهر حقيقة هذا المعنى بالتدبّر في الآيات التي تصف اللّه تبارك وتعالى بالقيومية كما في قوله سبحانه : ( اللّهُ لاَ إِله إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (2). (3)

فإنّ معنى القيومية ليس إلاّ قيام ما سواه - من ذات وفعل ومؤثر وأثر - به سبحانه ومعه كيف يمكن أن نصف الموجودات الإمكانية بالاستقلال في الفاعلية والتأثير.

سؤال في المقام

إذا كان المشركون لا يشكّون في موضوع « التوحيد في الخالقية » ، فلماذا نجد

ص: 355


1- نعم عند ذاك لا تصلح الآيات الحاصرة للخلق باللّه سبحانه للاستدلال في المقام إلاّ بضرب من التأويل ، ولابد من الاستدلال بالآيات التي تحصر القيومية باللّه سبحانه وغيرها من الآيات.
2- البقرة : 255 ، وآل عمران : 2.
3- وقوله سبحانه : ( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ ) ( طه : 111 ).

القرآن ينهض لذم المشركين ، ويذكرهم بأنّ معبوداتهم لم تخلق شيئاً ؟ كقوله :

( هذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين ) (1).

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لإنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ) (2).

( أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (3).

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (4).

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (5).

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماوَاتِ ) (6).

الجواب : انّ الهدف من التذكير بخالقية اللّه وحده وسلب الخالقية من غيره ليس لأنّ المشركين كانوا يعتبرون الأوثان خالقة ، إنّما الهدف من طرح « حصر الخالقية باللّه ونفيها من الأصنام » هو في الحقيقة « ردع » المشركين من عبادة غير اللّه

ص: 356


1- لقمان : 11.
2- الفرقان : 3.
3- الرعد : 16.
4- الحج : 73.
5- الروم : 40.
6- فاطر : 40.

تعالى ، ذلك لأنّ العبادة إنّما يستحقها من يكون متصفاً بالكمال ومنزّهاً عن أية نقيصة أو عائبة ، وأي كمال أعلى من الاتصاف بالخالقية التي أسبغ صاحبها لباس الوجود على كل شيء مما سواه ؟

وبعبارة أُخرى فإنّ العبادة من مقتضيات المالكية والمملوكية ، الناشئتين من الخالقية والمخلوقية ، وإذ يعترف المشركون بأنّ اللّه هو الخالق دون سواه ، فلماذا يعبدون غيره ؟ ولماذا لا يجتنبون عن عبادة من سواه ؟

وعلى هذا الأساس فإنّ إصرار القرآن الكريم ليس لأنّ المشركين كانوا يشكون في « التوحيد الخالقي » وغافلين عن هذه الحقيقة الساطعة الثابتة ، بل لأنّهم كانوا غافلين عن لوازم التوحيد الخالقي ، وهو : التوحيد في العبادة ، فأراد اللّه بالتذكير بهذه الحقيقة أنّ يلفت نظرهم إلى لازمه وهو « التوحيد في العبادة ».

هذا وقد نقلنا لك فيما مضى بعض هذه الآيات (1).

وقد ذكرت هذه الحقيقة ( أي حصر الخالقية في اللّه تعالى ) في آيات أُخرى بعبارة ( الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) ، مثل قوله :

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (2).

( أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضِ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (3).

ص: 357


1- راجع الآيات التالية : الأنعام : 102 ، فاطر : 3 ، الزمر : 62 ، غافر : 62 ، الحشر : 24 وغيرها.
2- الحجر : 86.
3- يس : 81.

وصفوة القول : إنّ السبب وراء طرح « حصر الخالقية في اللّه » ونفيها عمّا سواه ، وكذا التنديد بالأوثان والأصنام بأنّها لا تقدر على خلق ذبابة ، (1) وغير ذلك هو تنبيه الضمائر الغافلة عن عبادة اللّه وحده ، لأنّه مع اعتراف المشركين بانحصار الخالقية في اللّه ونفيها عن المعبودات الأُخرى ( المصطنعة ) ينبغي أن يعبدوا اللّه وحده ، الذي خلق كل شيء وأخرج جميع الموجودات من العدم إلى حيز الوجود والتحقّق لا أن يعبدوا ما سواه ، من الأوثان والأصنام العاجزة عن فعل أو خلق شيء حتى ذبابة أو دفعها عن نفسها ، وهذا هو ما تريد هذه الآيات التنبيه إليه.

سؤال

إذا لم يكن في الوجود من خالق غير اللّه ، فكيف يصف القرآن عيسى المسيح علیه السلام بأنّه يخلق أيضاً حيث يقول حاكياً عنه :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (2) ؟

ثم كيف يصف اللّه نفسه - بعد أن يذكر مراحل خلقه للإنسان - بأنّه ( أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ، وفي ذلك اعتراف ضمني بوجود « خالقين » آخرين إلى جانب اللّه ، إذ يقول :

( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) (3) ؟

ص: 358


1- الحج : 73 ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ) .
2- آل عمران : 49.
3- المؤمنون : 14.

انّ الجواب : يتضح من التوجه إلى « استقلال » اللّه في التأثير والفعل ، و « عدم استقلال » غيره في مقام الذات والفعل.

فالخالقية المنحصرة في اللّه غير قابلة لاتصاف الغير بها ، ولا قابلة لإثباتها للغير ، إذ هو مستقل أصيل في خلقه بمعنى أنّه لا يعتمد على شيء ولا يستعين بأحد ولا يحتاج لأذن آذن ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يصف أحداً بمثل هذه الخالقية دون اللّه تعالى.

أمّا الخلق والخالقية التي يكون المتصف بها معتمداً على اللّه ، ومحتاجاً إلى قدرته وإرادته وعونه ، فهي يمكن أن تثبت للمخلوقين ، إذ لا مشاركة حينئذ مع اللّه في الصفة الثابتة له المذكورة سابقاً.

فكل شيء من أشياء هذا الوجود يكون خالقاً في حد نفسه عندما يكون مؤثراً لأثر وسبباً لمسبب ، ولا ريب أنّ إثبات هذا النوع من الخالقية لغير اللّه لا ينافي « التوحيد الخالقي » على النحو الذي مر تفسيره وبيانه.

وربما يجاب عن هذا السؤال بأنّ لفظة « الخلق » تطلق ويراد منها الإيجاد من العدم تارة وأُخرى التقدير ، والمراد من قوله سبحانه : ( أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) هو المعنى الثاني ، أي أقدر لكم من الطين كهيئة الطير.

غير انّ هذا الجواب لا يخالف مع ما اخترناه في هذا الفصل ، فانّ التقدير وإن كان فعلاً للمسيح ، إلاّ أنّه بما هو ظاهرة كونية يحتاج إلى فاعل ، وليس الفاعل القريب إلاّ المسيح علیه السلام ، ولكنه ليس مستقلاً في فعله هذا ، كما هو ليس مستقلاً في ذاته وإلاّ تلزم الثنوية في الفاعلية المستقلة ، على ما أوضحنا برهانه فالتقدير مع كونه فعلاً له ، فعل لله سبحانه ، ونعم ما قاله الحكيم السبزواري في منظومته

ص: 359

الفلسفية :

وكيف فعلنا إلينا فوضا *** وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضى

لكن كما الوجود منسوب لنا *** فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا (1)

سؤال آخر

إنّ حصر الخالقية في اللّه سبحانه ربما يستشم منه القول بالجبر ويكون المسؤول عن فعل العبد هو خالق الفعل والمفروض إنّه لا خالق سوى اللّه ؟

الجواب

إنّ هذا الإشكال - في الحقيقة - إنّما يتجه ويصح إذا قلنا بأحد الأصلين التاليين ، وهما :

1. إنكار علّية أية ظاهرة من الظواهر الطبيعية ، وإحلال خالقيته سبحانه مكان العلل الطبيعية ، كما هو الظاهر من كل من أنكر قانون العلية في الأشياء وأراح نفسه بعادة اللّه.

2. أن نعترف بعلية الموجودات الأُخرى ومشاركتها المباشرة في الآثار والأفعال ، ولكن نعتقد بوجود نوع واحد من العلة في العالم فقط وهو العلة المضطرة المسيرة ، لا أكثر.

فمع قبول أحد هذين الأصلين يتوجه الإشكال المذكور على ما قلناه ويتجه ولكن إذا أنكرنا كلا الأصلين المذكورين اتضح جواب الإشكال.

فبالنسبة للأصل الأوّل بحثنا فيما سبق وأوضحنا كيف أنّ البراهين الفلسفية

ص: 360


1- شرح المنظومة : 175.

والقرآنية تعترف وتؤكد « رابطة العلية والمعلولية » بين الموجودات وآثارها واتضح من خلالها أنّ اللّه تعالى علّة العلل وموجد الأسباب ، لا أنّه يقوم مقام الأسباب والعلل بحيث تتعطل الأسباب والعلل ولا تعود لها أية مشاركة وفاعلية.

وعلينا الآن أن نبحث حول الأصل الثاني ونتحدث حول تقسيم العلة إلى « اضطرارية » وأُخرى « اختيارية ».

فنقول : هناك نوعان من العلل والأسباب :

1. علل ذات إدراك وشعور واختيار وإرادة.

وبعبارة أُخرى ، هناك « فاعل مختار » بمعنى أنّه إذا واجه مفترق طريقين اختار أحدهما على الآخر بإرادة واختيار منه ، وبكامل حريته دونما قهر أو جبر.

2. وهو ما يقابل النوع الأوّل وتلك هي العلل الفاقدة للإدراك والشعور بنفسها وبأفعالها ، أو تكون مدركة وشاعرة ولكنها لا تكون مختارة ومريدة لأفعالها.

وهذا النوع من العلل سواء أكانت فاقدة للشعور أم فاقدة للاختيار والإرادة تسمّى فاعلاً مضطراً.

فمثلاً الشمس هي من العلل التي لا تشعر هي بآثارها ( كالإشعاع والإنبات والإنماء ) وتكون لذلك مجبورة ومضطرة في فعلها ، والنحل والنمل وما شابههما من الدواب والحيوانات والحشرات - وإن كانت تشعر وتدرك ما تفعل - إلاّ أنّها تعمل ما تعمل بالوحي أو بالغريزة مائة بالمائة بمعنى أنّ هذه الأحياء لا تفعل ما تفعله بعد مراجعة العقل ، بل تأتي بأفعالها تحت وطأة الغريزة ، ودون إرادة منها ولا اختيار ، ومثل ذلك حركة يد المشلول وأضرابه.

ومع الالتفات إلى هذا النوع من التقسيم يتضح جواب السؤال ، لأنّه وان صحّ أن يقال إنّ أفعال البشر مخلوقة لله ومتعلّقة لإرادته ، وإنّ اللّه أراد من الأزل أن

ص: 361

تقع هذه الحوادث في عالم الطبيعة ، ولكنه يجب أن نعرف مغزى خالقية اللّه لكل شيء ، ويتعرف على ذلك من الوقوف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بكل شيء ، وبكل العلل والأسباب مختارها ومضطرها.

كيف تعلّقت إرادته سبحانه بأفعالنا ؟

إذا عرفنا كيفية تعلّق إرادته تعالى ، فسنعرف كيفية « خالقيته » بالنسبة لأفعالنا ، ولذلك يجب علينا هنا أن نركّز البحث على معرفة كيفية « تعلّق الإرادة الإلهية ».

لقد تعلّقت الإرادة الإلهية منذ الأزل بأن يصدر كل معلول من علّته الخاصة به ، وأن تصدر كل ظاهرة من سببها المخصوص بها ، بمعنى أنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت منذ الأزل بأن تلقي الشمس أشعتها - دون شعور منها - على الأرض ، وأن يمتص النحل رحيق الأشجار والأزهار بفعل الغريزة أو بدافع الشعور ، ولكن بلا اختيار ولا إرادة ولا حرية ، وأن تبني بيوتها كذلك مسدسة ، وكذلك تعلّقت إرادته تعالى بأن يأتي الإنسان بأفعاله باختيار منه وحرية.

وبعبارة أُخرى قد تعلّقت إرادة اللّه سبحانه بوجود الإنسان وفعله ، وصدور فعله منه بالاختيار ، فاللّه سبحانه كما شاء وجود الإنسان شاء صدور فعله منه بلا جبر ولا اضطرار ، فلو فرضنا صدور فعله منه بالاضطرار لزم تفريق إرادته سبحانه من مراده وهو أمر محال.

وعلى الجملة انّ اللّه سبحانه لم يشأ من الإنسان أن يصدر منه الفعل على وجه الإطلاق مختاراً أو مضطراً ، وإنّما شاء أن يصدر منه الفعل بإرادته واختياره ، ولو صدر بغير هذا الوجه لزم تخلّف إرادته عن مراده.

ص: 362

ومعلوم أنّ مثل هذه الإرادة الأزلية التي تعلّقت بأفعال الإنسان مضافاً إلى أنّها لا تخالف حرية الإنسان تكون مؤكدة لحريته واختياره ، فكما أنّ إرادة اللّه نافذة وماضية إذا تعلّقت بوجود الشيء ، فهكذا نافذة إذا تعلّقت بصدور شيء على نحو خاص ، فلو صدرت والحال هذه - على غير هذا النحو - لزم صدور الشيء على خلاف إرادته تعالى.

وحيث إنّ اللّه أراد أن يكون الإنسان حراً مختاراً آتياً بفعله باختياره فلابد أن تتنفذ إرادة اللّه بأن يأتي الإنسان بأفعاله حسب اختياره وحريته ، وإذا أتى بأفعاله باختيار منه وحرية ، تحققت حينئذ مشيئة اللّه في شأنه ، تلك المشيئة التي شاءت أن يكون الإنسان مختاراً في أفعاله.

وإذا فرضنا أنّه يصدر منه الفعل بنحو « الجبر » ودون اختياره يلزم أن لا يكون فعل الإنسان حينئذ مطابقاً للمشيئة الإلهية وأن لا تتحقّق هذه المشيئة الربانية مع أنّ من الضروري أنّ إرادة اللّه لابد أن تتحقّق ولابد أن تتنفذ.

وخلاصة القول : إنّ أصل وجود الإرادة الأزلية لله لا يكون - بتاتاً - موجباً للجبر ولا يكون رافعاً للاختيار ، بل يجب علينا أن ننظر إلى كيفية تعلّق تلك الإرادة أوّلاً ثم نصدر أحكامنا في هذا المجال (1).

ص: 363


1- هذا الجواب يرجع إلى ما ربما يقال أنّ اللّه خلق الإنسان وخلق فيه ( جبراً ) قوة الاختيار في الأفعال بمعنى أنّه لا يجبره شيء في كل فعل يصدر منه. نعم أن العبد وإن كان مجبولاً على الاختيار وخُلق على الحرية التامة لكن حريته وكونه مختاراً لا يخرج عن حيطة إرادة اللّه ومشيئته إذ لا يمكن أن يوجد شيء في صفحة الوجود ويكون خارجاً عن مشيئته وإرادته بتاتاً، فصدور الفعل عن العبد عن اختيار، غير خارج عن حيطة إرداته. وعلى القارئ الكريم أن يرجع للمزيد من التوضيح إلى المثال الذي ذكرناه في صفحة ٣٤٩ فإنه يصور كيفية إرادته سبحانه وإرادة العبد.

إنّ جميع الظواهر الكونية ومنها أفعال البشر وإن كانت داخلة في إطار الإرادة الإلهية وليس شيء منها يتحقّق بلا إذنه وإرادته ، ولكن يجب علينا أن نعرف كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالظواهر الكونية عامة وأفعال البشر خاصة ، فنقول : إنّ إرادته سبحانه تعلّقت بصدور كل شيء عن مباديه الخاصة ، فلو كان الفاعل مضطراً ومجبوراً ، فقد تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالجبر والاضطرار وان كان الفاعل مريداً مختاراً تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالإرادة والاختيار.

إنّ الإرادة الإلهية الأزلية إنّما تكون موجبة للجبر ومستلزمة له في صورة واحدة بينما لا تكون مستلزمة للجبر في صورة أُخرى ، فإن قلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت بصدور كل ظاهرة من علّتها لا عن اختيار ، ففي هذه الصورة تكون الإرادة الإلهية موجبة للجبر ، ولكنّنا إذا اعتبرنا العالم هذا عالم الأسباب والمسببات وتصوّرنا لكلّ معلول علّة خاصة به واعتبرنا الإنسان - من بين هذه الأسباب والعلل - فاعلاً مختاراً وقلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت منذ الأزل بأن يصدر الفعل البشري منه بكامل اختياره وحريته ، ففي هذه الصورة بين هذا وبين الجبر مئات الفراسخ والأميال.

جواب على سؤال

لو قال أحد : إذا كان عالم الممكنات بكل خصائصه وآثاره مخلوقاً لله ، ومنبعثاً عن إرادته ومشيئته ، فقدرته وسعت كل شيء وشملت كل الوجود بلا استثناء إذن ، فكيف يمكن أن تنسب أفعال البشر القبيحة إلى « اللّه » سبحانه ؟

هل يمكن أن نسند الظلم والأفعال القبيحة إلى اللّه ونعتبرها مرادة ومخلوقة له ، وهو القائل :

ص: 364

( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) (1).

والقائل :

( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (2).

فهل من الصحيح أن نعتبره خالق المفاسد والمعاصي والرذائل ؟ وماذا يعني من كونه : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) ؟

أفليس يفيد قوله تعالى : ( لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ ) (3) أنّ خالقيته تشمل كل ما في الوجود وكل ما يكون مصداقاً للشيء ؟

وبعبارة أُخرى : أفلا يستفاد من الآية التي تقول : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) كما في سورة السجدة الآية 7 ، أنّ كل ما هو مخلوق لله فهو متصف بالحسن والجمال ، وبعيد عن القبح بحيث يمكن أن يقال أنّ الخلق والحسن متلازمان في خلق اللّه لا ينفكان ولا ينفصلان ؟ فإذا كان اللّه خالق كل شيء ، فكيف يمكن أن يوصف الظلم - مثلاً - بالحسن وهو كما نعلم من القبائح المسلمة ؟

على أنّ المشكلة لا تنحصر في مسألة الأفعال القبيحة التي يفعلها الناس بل تصدق على مسألة الآفات والبلايا والشرور ، فكيف تصدر من اللّه هذه الحوادث المستقبحة التي تصيب البشر ، وتشقيه ؟

ولنوضح الإشكال بصورة أكثر جلاء فنقول :

إنّ الإشكال يرد - على القائلين بأنّ ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) على الإطلاق -

ص: 365


1- الأعراف : 28.
2- فصلت : 46.
3- الأنعام : 102.

في موردين :

1. الأعمال القبيحة التي تصدر من العباد ، فكيف يمكن أن تكون مخلوقة لله ؟ وهذا هو ما دفع بعض أهل الكلام إلى أن ينسبوا كل أفكار البشر وأفعاله خيرها وشرها بنحو مطلق إلى البشر نفسه ، وأن يقطعوا وينكروا أي ارتباط وصلة بين هذه الأفكار والأفعال وبين المقام الربوبي ، وقد دفعهم إلى هذا الاعتقاد تصور أنّ اسناد أفعال البشر إلى اللّه يستلزم أن يكون الظلم مخلوقاً لله سبحانه.

2. انّ هناك في عالم الكون أُموراً تدعى بالشرور والبلايا ، فكيف يصح أن نعتبر اللّه الحكيم خالقاً لهذه الشرور والآفات ؟! وهذا هو ما تسبب في أن يظهر فريق باسم المجوس يعتقدون بخالقين للكون :

أ. خالق للخير يدعى يزدان.

ب. خالق للشر يدعى اهريمن.

فكيف يواجه القرآن هذين الفريقين وهو يؤكد على وحدة الخالق ، وما هو جوابه عليهما ؟

الجواب

أمّا الأفعال القبيحة فإنّ لها جانبين : وبتعبير آخر : انّ هذه الأفعال يمكن أن تطالع من جانبين :

1. الجانب الوجودي ، الإثباتي.

2. الجانب العدمي ، السلبي.

فالفعل على وجه الإطلاق لا يكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب

ص: 366

الوجودي ويكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب الثاني ( أي الجانب العدمي السلبي ).

خذ مثلاً : اللقاء الجنسي الذي يتم بين الرجل المرأة بصورة غير مشروعة ، فإنّ مثل هذا اللقاء غير المشروع لا يختلف عن اللقاء المشروع في الجوانب الوجودية ، فكلاهما سواء من حيث إنّ العملين نتيجة « الفعالية الجنسية » غايته انّ التفاوت بين هذين اللقاءين هو أنّ العمل الأوّل غير مأذون به من قبل اللّه أو السلطة التشريعية في حين أنّ العمل الثاني مأذون به من قبل اللّه أو موافق لرأي السلطة التشريعية.

وعلى هذا فإنّ عامل القبح في « الزنا » هو صفة « اللامشروعية » التي هي أمر عدمي وسلبي مائة بالمائة ، والذي تتعلّق به القدرة إنّما هو الجانب الوجودي ، للشيء وليس الجانب العدمي السلبي متعلّقاً بها ، لأنّ الأُمور العدمية والجوانب السلبية أقل من أن تتعلّق بها القدرة الإلهية بل يستحيل تعلّق عملية الخلق بها.

وانّك - بالإمعان في هذا المثال - بإمكانك أن تتناول بالتحليل غير عمل الزنا من القبائح كالظلم والخدعة والخيانة والجناية ، فالظلم - مثلاً - إنّما يكون قبيحاً ، لأنّه يؤدي إلى ذهاب حق المظلوم ويوقف نمو المجتمع وتقدّمه ، وهذا بما أنّه أمر عدمي ليس متعلّقاً للقدرة والإرادة الإلهية.

تحليل عن الشرور

إنّ السؤال السابق بعينه ينطرح بالنسبة إلى « الآفات والبلايا » كالزلازل والسيول وغيرها ، وقد بحثه المسلمون في كتبهم الكلامية والفلسفية ، ولكنّنا بغية إكمال هذا القسم نعمد إلى بحثه بصورة مختصرة.

ص: 367

لو تناولنا بالتحقيق كل ما يسمّى شراً ، لتبيّن لنا أنّ تلك الصفة ناشئة من كون الشيء مصحوباً بالعدم ، فالمرض - على سبيل المثال - إنّما يكون شراً وغير مطلوب ، لأنّ المريض - حال مرضه - يكون فاقداً للصحة والعافية ، وهكذا بالنسبة إلى الأعمى والأصم ، فحيث إنّ السمع والبصر من لوازم الحياة عند البشر لكونهما موجبين لكماله ، لذلك يكون فقدانهما « شراً » وأمراً غير مطلوب ، ولكن العمى أو الصمم ليس شيئاً وجودياً في الإنسان الأعمى والأصم ، إنّما هو فقدان وصفي السمع والبصر وعدمهما ليس غير.

فما العمى أو الصمم - في الواقع - سوى حالة الفقدان والعدمية ؟

من ملاحظة هذه النقطة ومقارنة كل الأُمور والموارد المعدودة من الشرور مع المثال المذكور ، يتبين أنّ الشر ملازم لنوع من العدم الذي لا يحتاج إلى موجد وفاعل ، بل هو عين ذلك الفقدان ، فكل البلايا والشرور والقبائح إنّما تكون إذن شروراً وأُموراً غير مطلوبة لكونها « فاقدة » لنوع من الوجود أو مستلزمة ومصحوبة بنوع من العدم.

وقس على ذلك الحيوانات المفترسة والضارة والآفات فكلّها إنّما تكون شراً لأنّها تجر إلى فقدان سلسلة من الأُمور والجهات الوجودية ، لأنّ كل هذه الأشياء ( الحيوانات المفترسة والمضرة والآفات ) توجب الموت وفقدان الحياة أو فقدان عضو من الأعضاء ، أو قوة من القوى ، أو تتسبب في منع نمو القابليات والاستعدادات وتحوّلها إلى مرحلة الفعلية ، فلو كانت هذه الشرور كالزلازل والآفات الحيوانية والنباتية لا تنطوي على مثل هذه النتائج لما عدت شروراً ، ولما كانت أُموراً قبيحة غير مطلوبة.

ص: 368

وعلى هذا فإنّ الموت والجهل والفقر إنّما تكون شروراً لكونها ترافق أنواعاً من العدم ، فالعلم كمال وواقعية يفقدها الجاهل ، والحياة حقيقة وكمال يفقدها الميت ، والفقير هو - بالتالي - من يفقد المال الذي يعيش بسببه.

خلاصة القول

إنّه ليس في هذا الوجود إلاّ نوع واحد من الموجودات ، وهو ما يكون خيراً وجميلاً وحسناً.

أمّا الشرور فهي من نوع العدم ، والعدم ليس مخلوقاً ، بل هو من باب « عدم الخلق » وليس من باب « خلق العدم ».

ولهذا ( أي الوجود الخير فقط ) لا يمكن أن يقال أنّ للعالم خالقين : أحدهما خالق الخير ، والآخر خالق الشر ، إنّ مثل الوجود والعدم مثل الشمس والظل ، فعندما نقيم في الشمس شاخصاً يحدث على الأرض ظل بسبب ذلك الشاخص الذي منع من وصول النور.

وما الظل في الحقيقة إلاّ عدم النور ، لأنّ الظل هو الظلمة ، والظلمة ليست إلاّ « عدم » النور ، فلا يصح أن نتساءل - هنا - : ما هي حقيقة الظل ؟ إذ ليست للظل واقعية خارجية وحقيقة عينية تقابل حقيقة النور وجوهره ، إنّما الظل هو : عدم النور ومعنى هذا أنّه ليس للظل أو الظلمة منبع ينبعان ، ومنشأ ينشآن منه.

هذا ولصدور الآفات والشرور من جانب اللّه توجيهات أُخرى نذكرها فيما يأتي.

ص: 369

جواب آخر حول الشرور

في التحليل - المذكور فيما سبق - بيّنا بوجه مبسوط أوّل الأجوبة التي يجيب بها العلماء على الثنويين ، واتضح أنّ الشر أمر عدمي ، والأمر العدمي الذي هو نوع من الفقدان لا يحتاج إلى خالق وفاعل وموجد ، وفيما يلي نعمد إلى توضيح ثاني أجوبتهم.

الشر أمر نسبي

إنّ لفظة « الحقيقي » و « النسبي » من الألفاظ الرائجة في اصطلاح العلماء كما هي تستعمل في كثير من العلوم الإنسانية والتجريبية ، وإليك توضيحها :

كل موجود نصفه بصفة أمّا أنّه موصوف بتلك الصفة في كل حال مع قطع النظر عن أي شيء وهذه ما نسمّيها ب « الصفة الحقيقية » ، مثلاً صفة الحياة ثابتة للموجود الحي على وجه الحقيقة ، ولا حاجة إلى توصيفه بصفة الحياة إلى أي نوع من المقارنة والمقايسة ولأجل ذاك تكون الحياة بالنسبة للحي صفة حقيقية ، ووصفه بالحياة توصيفاً حقيقياً وواقعياً.

فكون المتر يتألف من (100) سنتيمتر واقعية ثابتة للمتر في جميع الحالات ، ولا حاجة لتوصيف المتر بهذه الكمية إلى أي نوع من المقايسة بشيء.

ويقابل الوصف الحقيقي « الوصف النسبي » ، بمعنى أنّ الشيء ما لم يقس ويقارن بشيء آخر ، وما لم يكن هناك موجود آخر لا يمكن توصيف الشيء بصفة.

فالصغر والكبر - مثلاً - من الأوصاف التي لا يمكن أن يوصف بهما شيء من الأشياء إلاّ إذا كان هناك شيء ثان يقاس به هذا الشيء ، حتى يمكن أن يقال

ص: 370

في شأنه هذا « أصغر » وهذا « أكبر » أو هذا « صغير » وذاك « كبير » ، فإنّ الصغر والكبر وصفان لا يصدقان على شيء إلاّ بعد مقارنته بشيء آخر ، فالكرة الأرضية - مثلاً - إنّما يمكن وصفها بالصغر والكبر ويقال الكرة الأرضية « صغيرة » أو « كبيرة » إذا ما قيست بكرة الشمس والقمر فحينئذ يصح قولنا : الكرة الأرضية أصغر من الشمس وأكبر من القمر ، فالصغر والكبر ليسا وصفين حقيقيين بالنسبة إلى الأرض بحيث يدخلان في حقيقة الأرض وإلاّ لما أمكن وصفها بوصفين متضادين ، بل هما وصفان نسبيان وحالتان للأرض يعرضان لها كلّما قيست إلى الكرتين « الشمس والقمر » ويمكن وصف الأرض بهما في تلك الحالة ، وبذلك لا يكون هذان الوصفان حقيقيين.

من هذه المقارنة والبيان يمكن استنباط نتيجة فلسفية هامة ، وهي : انّ « الصفات الحقيقية » على غرار موصوفاتها التي تتمتع بواقعية لا تنكر على صعيد الخارج ، إنّما تحتاج إلى جاعل وخالق.

وأمّا الصفات النسبية حيث إنّ - ها ليست بذات واقعية خارجية ، بل هي وليدة الذهن ، ونتيجة أفكارنا لدى المقايسة لا تكون محتاجة إلى الخالق والموجد ، إذ لا واقعية خارجية لها حتى تكون محتاجة إلى موجد.

إنّ حياة الخلية أو وصف المتر بكونه مائة سنتيمتر من الأُمور التي تتمتع بالواقعية الخارجية ، فما لم يكن وراؤهما واقعية أُخرى ( ونعني الخالق ) ، لما تحقّقا على صعيد الخارج ، ولما كان لهما حظ من الوجود خارج عالم الذهن حسب قانون العلية.

ولكن الصغر والكبر في المقابل بالنسبة إلى الأرض ليسا لهما واقعية خارج الذهن لكي يحتاجان إلى الخالق والموجد.

ص: 371

إنّ المحتاج إلى الموجد والخالق إنّما هو وجود نفس الكرة الأرضية ، وأمّا صغرها وكبرها فهو وليد الذهن والفكر الذي ينشأ من مقارنة جسمين ببعضهما.

من هذا البيان يمكن معرفة حقيقة « الشرور والآفات » وأنّها من أي نوع من هذين النوعين من الصفات.

هل هي من الصفات الحقيقية ؟

أو هي من الصفات النسبية ؟

بمراجعة سريعة وتحقيق عاجل يمكن معرفة أنّ الشرور أُمور نسبية لا حقيقية بمعنى أنّ صفة الشر ليست جزءاً من ذوات وحقائق الأشياء الموصوفة بالشر ، بل الشر حالة تنسب إلى شيء من الأشياء عندما يقاس إلى شيء آخر ، فسم الحية والعقرب وغزارة المطر لا تكون شراً إذا ما قيست بنفس الأشياء ، بل هي مبعث كمالها وموجب لبقائها واستمرار حياتها ووجودها ، إنّما هي شر إذا ما قيست إلى الإنسان وتضرر البشر بها فالمطر الغزير مثلاً لا يكون شراً في حد ذاته بل عندما يقاس بشيء آخر اتصف حينئذ بهذا الوصف ، فلو نزل المطر الغزير في فصل مناسب أحيا الزرع والنبات واخضرت بسببه المزارع والحدائق وكان خيراً ، ولكنّه يكون شراً من جهة كونه موجباً لانهدام الأكواخ في الصحارى والبراري ، وعلى هذا فإنّ الخير والشر لو كانا من الأوصاف الحقيقية وكان لهما حظ من الوجود لأمكن وصح حينئذ أن نسأل عن موجدها وخالقها ونقول : إنّ المبدأ الذي يتصف بالخير المطلق لا يمكن أن يكون خالق الشرور ، ولذلك نضطر إلى افتراض خالق آخر ( غير خالق الخير ) يكون خالق الشرور وموجودها.

ولكنّ الحق أنّه ليس للشرور « واقعية خارجية » ليتعلّق بها جعل وخلق ،

ص: 372

وعلى هذا فإنّ ما يكون له حظ من الوجود الخارجي كسم العقرب لا يكون مستغنياً عن الخالق ، ولكن شرّية هذا السم ليست لها واقعية لتنضم إلى وجود السم فتكون رديفة للسم في عالم الوجود والكون ، ولأجل هذا لا تحتاج شرّية السم إلى خالق ، ويكون البحث عن خالقها لغواً لا معنى له ، لأنّ الشر - بالمعنى الذي ذكرناه - ليس بذات واقعية خارجية كيما يفتقر إلى الفاعل.

وبعبارة أُخرى انّه ليس من الصحيح أن يقال أنّ اللّه بخلقه للعقرب خلق شيئين وفعل أمرين : خلق « ذات » العقرب مع شرها ، بل فعل اللّه سبحانه شيئاً واحداً ، وهو أنّه تعالى ألبس هذا الموجود لباس الوجود ، وإنّما الإنسان هو الذي يصف هذا العقرب بالشرّية والقبح عندما يقيسه إلى شيء آخر.

من هنا يمكن إدراك حقيقة الجملة التي يرددها الفلاسفة عند بيان نسبة الشرور إلى اللّه إذ يقولون :

جميع الموجودات من حيث كونها تتحلّى بالوجود فهي مخلوقة لله بالذات ، وأمّا من حيث اتصافها بالشرّية فليست موضع إرادته سبحانه بل هي ذات نسبة عرضية ومجازية إذا قيست إلى مبدأ الخلق (1).

وهناك أجوبة أُخرى عن وجود الشر في صفحة الوجود نتركها رعاية للاختصار.

ص: 373


1- هذا هو تفصيل قولهم : الشرور ليست مجعولة بالذات بل هي مجعولة بالتبع والعرض.

ص: 374

الفصل الثامن: اللّه والتوحيد الافعالي

اشارة

2. التوحيد في التدبير والربوبية

ص: 375

التوحيد في التدبير والربوبية

1. وجود الشرك في التدبير بين الوثنيين.

2. هل للرب معان مختلفة ؟

3. نتيجة هذا البحث.

4. القرآن لا يعترف بمدبّر سواه.

5. التدبير لا ينفك عن الخلق والإيجاد.

6. وحدة النظام دليل على وحدة المدبّر.

7. النتيجة.

8. ما معنى المدبّرات في القرآن ؟

9. الجواب عن ذلك.

10. هل الحسنة والسيئة من اللّه ؟

11. ما معنى الآية التي تنسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى الإنسان ؟

12. التوفيق بين هذه الآيات.

ص: 376

التوحيد في التدبير والربوبية

يستفاد - بجلاء - من التدبّر في الآيات القرآنية ومن مطالعة عقائد وثنيّي العرب المذكورة في كتب الملل والنحل أنّ مسألة « التوحيد في الخالقية » كانت موضع اتفاق وإجماع بينهم ، وأنّ الانحراف إنّما كان في « التوحيد في التدبير » و « التوحيد في العبادة » وبعبارة أوضح كان الأغلب متفقين على أنّ لهذا العالم خالقاً واحداً لا غير.

وقد ذكرت هذه الحقيقة في الكتاب العزيز مكرراً ، ونحن نذكر هنا طائفة من تلك الآيات :

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأنَّى يُؤْفَكُونَ ) (1).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (2).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (3).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ

ص: 377


1- العنكبوت : 61.
2- لقمان : 25.
3- الزمر : 38.

العَلِيمُ ) (1).

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (2).

أجل لقد كان الاعتقاد بوجود مبدأين « خالقين » لهذا العالم في عقيدة زرادشت ، أحدهما يزدان والآخر أهريمن أمراً مشهوراً وإن كانت عقيدة زرادشت نفسه في هذه المسائل يكتنفها غموض كبير.

على أنّ عقيدة الزرادشتيين في هذه القضية ليست هي وحدها التي تحيط بها هالة من الإبهام والغموض بل عقيدة البراهمة والبوذيين والهندوس في قضية « وحدة الخالق » هي أيضاً غير واضحة.

وحيث إنّ البحث والتحقيق في عقائد تلك الطوائف خارج عن إطار بحثنا هذا لذلك نواصل بحثنا الأساسي.

* * *

من خلال مراجعة الآيات السالفة يتضح لنا أنّ وثنيّي جزيرة العرب الذين كانوا يعيشون قبل نزول القرآن أو بعده لم يكونوا يعانون من أي انحراف أو إشكال في مسألة « التوحيد في الخالقية » وإن لم يكن إدراكهم للتوحيد في الخالقية على غرار ما شرحه ووضّحه القرآن الكريم (3) ، ولكنّهم كانوا يعتقدون - إجمالاً - بأنّه ليس للكون سوى خالق واحد هو موجد السماوات والأرض وخالقها ، بيد أنّ بعضهم وليس جميعهم كان يشرك في قضية « التدبير لهذا العالم » أو كانوا يعتقدون

ص: 378


1- الزخرف : 9.
2- الزخرف : 87.
3- لأنّ الشرك في التدبير الذي نسمّيه شركاً في الربوبية وكان رائجاً بينهم ، يرجع إلى الشرك في الخالقية كما سيوافيك بيانه.

بأنّ اللّه - بعد أن خلق الكون - فوّض تدبير بعض أُمور الكون إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه واعتزل هو عن أمر التدبير.

هذه المخلوقات المفوض إليها أمر التدبير كانت في نظر معتقدي هذه النظرية عبارة عن « الملائكة » و « الجن » و « الكواكب » و « الأرواح المقدسة » و ... و ... التي كان كل واحد منها مدبّراً لجانب من جوانب الكون - على حد زعمهم - !!

ولأجل أن نقرن قولنا بالأدلة والبراهين نلفت نظر القارئ الكريم إلى أدلّة وجود مثل هذا الشرك في عصر نزول القرآن الكريم.

فبملاحظة هذه الأدلّة سيذعن القارئ بأنّ وجود « الشرك في المدبّرية » في عصر الرسالة وقبل ذلك لم يكن موضع ترديد وشك ، وأنّ ما قد يتصوّر - أحياناً - بأنّ عرب الجاهلية أو من تقدّمهم من الأقوام السالفة كانوا يعتبرون الأصنام مجرد شفعاء عند اللّه لا أكثر ليس تصوراً ينطبق على كل الموارد في عالم الوثنية ، بل هو ( أي الاعتقاد بمجرد شافعية الأصنام لا أكثر ) اعتقاد فريق من العرب الجاهليين ولم يكن اعتقاد جميعهم.

وجود الشرك في التدبير بين الوثنيّين

1. انّ أوضح برهان على أنّ بعض الفرق منهم كان يعتقد بتعدّد المدبّر هو قصة احتجاج إبراهيم علیه السلام مع عبدة الكواكب والنجوم.

فقد كانت هذه الفرق تعبد الشمس والقمر والكواكب بعنوان أنّها رب مدبّر وليس باعتقاد أنّها خالقة ، إذ كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأجرام هي المتصرفة في النظام السفلي من العالم ، وأنّ أمر تدبير هذا الكون فوّض إليها فهي أرباب هذا

ص: 379

العالم دون اللّه.

ولأجل هذا الاعتقاد نجد إبراهيم علیه السلام يبطل ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أُفولها وغروبها.

ولنفكر - هنا - ملياً في استدلال النبي العظيم إبراهيم علیه السلام لنرى أي أمر كان يقصد إثباته أو نفيه من خلال الاستدلال بأُفول هذه الكواكب والأجرام وغروبها.

فإذا كانت هذه الأجرام - حسب اعتقاد قوم إبراهيم - هي المدبّرة للموجودات الأرضية ومنها الإنسان فإنّ المدبّرية - بحكم أنّ نظام المدبّر يكون في اختيار المدبّر - تقتضي أن يعيش المدَبَّر في ظل إشراف المدَبِّر وعنايته ، وينمو ويتربّى ويتقدم نحو الكمال.

هذا ويقتضي بقاء هذه الكواكب والأجرام على اتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها ليمكن التدبير والتصرف.

بيد أنّ هذا الاتصال الدائم يتنافى مع الأُفول والغروب وما تتصف به هذه الأجرام والكواكب من غيبة وجهل ، ولأجل هذا عد النبي إبراهيم علیه السلام الأُفول والغروب دليلاً واضحاً وقاطعاً على عدم كون هذه الأجرام ، مدبّرة للموجودات الأرضية.

ولو كان هؤلاء يعبدون هذه الأجرام بعنوان أنّها أجرام مقدسة توجب عبادتها القربى إلى اللّه لما تكون غيبتها عن صفحة السماء في غير أوقات عبادتها دليلاً على بطلان نظريتهم ، بل يكون حضورها ووجودها حين عبادة الناس لها كافياً لأن تصبح موضع عبادة ، ولا يلزم وراء ذلك أن تكون حاضرة - في كل

ص: 380

الأوقات - متمثلة أمام عبدتها بحيث ينظرون إليها في كل حين ، لأجل هذا استعمل الخليل علیه السلام لفظة رب في كل الموارد التي حمل فيها على عبادة الكواكب والأجرام فقال مستفهماً : ( هذَا رَبِّي ) ؟!!

و « رب » في لغة العرب هو المتصرّف والمدبِّر الذي يدبِّر الشيء ويديره ويتحمل أمر تربيته ويتصرف فيه ، وهذه القصة - مع ملاحظة كل خصوصياتها - دليل على وجود « الشرك الربوبي » في عصر إبراهيم علیه السلام .

إنّ الشرك في الربوبية يشبه إلى حد بعيد قصة من يريد أن يحصل على بيت لنفسه ، فيهيّئ كمية كبيرة من المواد الإنشائية ويجعلها تحت تصرف البنّاء والعامل ، ويطلب منهم أن يبنوا له البيت الذي يريد ، ففي هذه الصورة تكون المواد الإنشائية من صاحب العمل ، ولكن تنسيق هذه المواد وتشغيلها والتصرف فيها يتعلّق بالبنّاء والمعمار والعمال الذين أوكل إليهم بناء البيت المذكور على نحو ما يريدون وكيفما شاءوا.

هذا هو أوضح مثال للشرك الربوبي ، ولقد كان القائلون بربوبية الملائكة والجن والأرواح المقدسة يعتقدون بأنّ موجودات هذا العالم من القمر والشمس إلى الحيوان والإنسان إلى الشجر والحجر إنّما هي المواد الإنشائية لهذا العالم ، وإنّ اللّه فوّض أمر التصرف في هذه المواد - بعد أن خلقها - إلى هذه الأرباب ثم راحت تشتغل بتدبير الكون والتصرف فيه بالاستقلال وبمطلق الاختيار.

لقد كان هذا الفريق يعتقد أنّ مقام الخلق غير التدبير وأنّ الذي يرتبط باللّه إنّما هو الخلق والإيجاد الابتدائي من العدم ، ولكن حيث إنّ الخلق غير التدبير ، فالتدبير يتعلّق بموجودات أُخرى غير اللّه ، أعني : الموجودات المتصرفة لهذا العالم والتي فوض إليها تدبير عالم الطبيعة ، وليس لله أية مشاركة في أمر تدبير الكون

ص: 381

وإدارته وتنظيم شؤونه ، وتصريفه والتصرف فيه.

2. لقد دخلت الوثنية في مكة ونواحيها أوّل ما دخلت في صورة « الشرك في الربوبية » ، فقصة « عمرو بن لحي » دليل واضح على أنّ أهل الشام كانوا يعتبرون الأوثان والأصنام مدبّرة لجوانب من الكون.

يكتب ابن هشام في هذا الصدد :

كان « عمرو بن لحي » أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها ؟

قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا.

فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل » ، ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ، ودعا الناس إلى عبادتها (1).

إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان مشاركة في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

على أنّه ينبغي أن لا يتصوّر أحد بأنّهم كانوا يعتبرون هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي ذاتها المتصرّفة والمدبِّرة للكون ليقال : ليس هناك من جاهل - فضلاً عن عاقل - يقول بأنّ هذه الأصنام الجامدة تكون منشأ كل هذه الآثار والحوادث ، بل الحق أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأصنام الخشبية تمثّل صور الآلهة المدبّرة لهذا

ص: 382


1- سيرة ابن هشام : 1 / 79.

العالم التي فوّض إليها إدارة الكون وتصريفه والتصرف فيه ، ولكن حيث إنّ هذه الآلهة المزعومة لم تكن في متناول أيديهم ، وحيث كانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحس واللمس صعب التصور لديهم عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام ورسوم وأجسام وقوالب من الخشب أو الحجر أو المعدن وراحوا يعبدون الصور والتماثيل عوضاً عن عبادة أصحابها الحقيقين ( وهي الآلهة المزعومة ).

ويمكنك أيها القارئ الكريم أن تقف على مفصل هذه الأُمور في الفصل التاسع ، عند البحث عن « التوحيد في العبادة ».

3. يكتب المفسرون الإسلاميون أنّ « ودّاً » و « سواعاً » و « يغوث » و « يعوق » و « نسراً » كانوا من عباد اللّه الصالحين ، وكان يتبعهم في ذلك فريق من قومهم ، ولمّا ماتوا ظن فريق بأنّهم لو نظروا إلى صورهم وتماثيلهم لأمكنهم أن يعبدوا اللّه بنحو أفضل باعتقاد أنّ صورهم تذكرهم باللّه ، وبمرور الزمن تحولت هذه الفكرة إلى عبادة تلك الصور والتماثيل ذاتها.

وإليك نص ما كتبه صاحب مجمع البيان في هذا الصدد :

« عن محمد بن كعب أنّ هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح علیهماالسلام ، فنشأ قوم بعدهم يأخذون مأخذهم في العباد ، فقال لهم إبليس : لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ، ففعلوا ، فنشأ بعدهم قوم فعبدوهم ، فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت » (1).

يقول المحقّق المعاصر الأُستاذ جواد علي في كتاب : « المفصّل » الذي كتبه

ص: 383


1- مجمع البيان : 10 / 364 طبع صيدا.

حول تاريخ العرب قبل الإسلام ، ويقع في ثمانية مجلدات ضخمة استقصى فيها أحوال العرب في كل جوانب الحياة ومجالاتها.

يقول عن اعتقادهم بالنسبة إلى معبوداتهم المزعومة :

إنّ معارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جداً ، وهذا ممّا حمل بعض المستشرقين على القول بأنّ العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم ، كما كان عند غيرهم من الأُمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين ، وإذا لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية عن العرب ، صعب علينا تكوين فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب ، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم ، وعن كيفية تصوّرهم للآلهة.

فكلمات مثل ود وسعد (1) وهي أسماء لبعض آلهتهم تفيدنا في فهم عبادة الجاهلين وتفكيرهم في تلك الآلهة (2).

5. لم يكن المتنوّرون والطبقة المثقّفة يعتقدون بمدبّر غير اللّه ، بل كانوا يعتبرون الأصنام شفعاء توجب عبادتها الزلفى عند اللّه ، والقربى لديه ، ويدل على هذا الأمر آيات إليك بعضها :

( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (3).

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ

ص: 384


1- التي تكون لها معان تشير إلى صفة الآلهة ، إذ الأوّل يشير إلى أنّه إله المحبة والثاني يشير إلى أنّه إله السعادة.
2- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : 6 / 19.
3- الزمر : 3.

فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (1).

ولكن مع الاعتراف بهذا المطلب لابد من القول - بصراحة - بأنّ مفاد هذه الآية لا يمثل اعتقاد الجميع ، بل كان ثمت فريق من الوثنيين يعتقدون في حق آلهتهم ومعبوداتهم المزعومة بأنّها تملك بعض القوى الغيبية ، وأنّها تتصرف في عالم الطبيعة والكون على غرار ما يفعل الآلهة ، خاصة وأنّهم كانوا قد اختاروا معبوداتهم وآلهتهم المزعومة من صفوف الملائكة والجن والأرواح المقدسة.

صحيح أنّ وثنية « العرب الجاهليين » كانت تصرفاً خاطئاً وباطلاً ولم تكن تستند إلى قاعدة فكرية ، ولم تكن على نمط وثنية اليونانيين والروم والفرس التي كانت تقوم على أساس فلسفي ، ولكن بعض أُولئك العرب كانوا في نفس الوقت يعتقدون بربوبية الأوثان ، وهذا ما يستفاد من عدة آيات في هذا المجال.

ولكن قبل أن نعمد إلى نقل نصوص هذه الآيات نرى لزاماً علينا أن نعرف بدقة ماذا تعنيه لفظة رب التي اشتق منها الربوبية.

يقول اللغوي العربي المعروف ابن فارس :

« الرب : المالك ، الخالق ، الصاحب والرب المصلح للشيء يقال : رب فلان ضيعته إذا قام على إصلاحها والرب ، المصلح للشيء ، واللّه جل ثناؤه الرب ، لأنّه مصلح أحوال خلقه ; والراب ، الذي يقوم على أمر الربيب » (2).

ويكتب الفيروزآبادي قائلاً :

« رب كل شيء : مالكه ومستحقه وصاحبه ...

ص: 385


1- يونس : 31.
2- مقاييس اللغة : 2 / 381.

رب الأمر : أصلحه » (1).

وجاء في المنجد :

« الرب : المالك ، المصلح ، السيد » (2).

وما يشابه هذا المعنى في كتب اللغة والقواميس الأُخرى.

هل للرب معان مختلفة ؟

إنّ وظيفة كتب اللغة والقواميس هي ضبط موارد استعمال اللفظة ، سواء أكان المستعمل فيه هو الذي وضع عليه اللفظة أم لا ، وأمّا تعيين الأوضاع وتمييز الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئيه كتب اللغة.

وهذا هو نقص ملحوظ ومشهود بوضوح في كتب اللغة ومعاجمها ، إذ ما أكثر ما يجد الإنسان عدة معاني متباينة ومتمايزة للفظة واحدة حتى أنّه ليتصور - في أوّل وهلة - أنّ الواضع العربي جعل هذه اللفظة على عشرة معان في عشرة أوضاع ، ولكن بعد التحقيق والدراسة يتبيّن أنّه ليس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غير ، وأمّا بقية المعاني المذكورة فهي من شعب المعنى الأصلي.

ومن المصادفات أنّ لفظة رب تعاني من هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودودي تصور أنّ لهذه اللفظة خمسة معان - في الأصل - ، وذكر لكل معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم.

ولا شك في أنّ لفظة رب استعملت في الكتاب العزيز واللغة في الموارد التالية التي لا تكون إلاّ صورة موسعة ومصاديق متعددة لمعنى واحد لا أكثر ،

ص: 386


1- قاموس اللغة مادة الرب.
2- المنجد مادة ربب.

وإليك هذه الموارد والمصاديق :

1. التربية مثل رب الولد ، ربّاه.

2. الإصلاح والرعاية مثل ربّ الضيعة.

3. الحكومة والسياسة مثل فلان قد رب قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

4. المالك كما جاء في الخبر عن النبي صلی اللّه علیه و آله : أربّ غنم أم ربّ أبل.

5. الصاحب مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا البَيْتِ ) (1).

لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد وما يشابهها ولكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل ، وما هذه المعاني سوى مصاديق وصور مختلفة لذلك المعنى الأصيل ، وسوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي الواحد ، أعني : من فوّض إليه أمر الشيء المربي من حيث الإصلاح والتدبير والتربية.

فإذا قيل لصاحب المزرعة إنّه ربها ، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبط به وفي قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم ، صفة الرب ، فلأنّ أُمور ذلك القوم مفوّض إليه فهو قائدهم ، ومالك تدبيرهم ومنظم شؤونهم.

وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالكه اسم الرب ، فلأنّه فوّض إليه أمر تلك الدار وإدارتها والتصرف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب وما يشابهها

ص: 387


1- الإيلاف : 3.

مصاديق وصور لمعنى واحد أصيل يوجد في كل هذه المعاني المذكورة ، وينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الرب ، بل المعنى الحقيقي والأصيل للفظة هو : من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرف ، وهو مفهوم كلّي ومتحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة ( أعني : التربية والإصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية ).

فإذا أطلق يوسف الصديق علیه السلام لفظ الرب على عزيز مصر ، حيث قال : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (1) ، فلأجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفّلاً لتربيته وقائماً بشؤونه.

وإذا وصف عزيز مصر بكونه رباً لصاحبه في السجن فقال : ( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ) (2) ، فلأنّ عزيز مصر كان سيد مصر وزعيمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً في شؤونها ومالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً ، إذ يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ ) (3) ، فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فيما يختص باللّه.

وإذا وصف اللّه نفسه بأنّه « رب البيت » ، فلأنّ إليه أُمور هذا البيت مادّيها ومعنويّها ، ولا حق لأحد في التصرف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن « اللّه » بأنّه ( رَبُّ السَّماوَاتِ والأرضِ ) (4) وأنّه ( رَبُّ

ص: 388


1- يوسف : 23.
2- يوسف : 41.
3- التوبة : 31.
4- الصافات : 5.

الشِّعْرَى ) (1) وما شابه ذلك ، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها ومديرها والمتصرّف فيها ومصلح شؤونها والقائم عليها ، وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب ، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

* * *

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى :

1. التوحيد في الربوبية.

2. التوحيد في الإلوهية (2).

قائلين : إنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

وأمّا التوحيد في الإلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يعني منه أن لا يعبد سوى اللّه ، وقد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الأمر.

والحق أنّ اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك ، ولكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ واشتباه.

وذلك لأنّ معنى « الربوبية » ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق ، بل هو - كما أوضحنا وبيّنّا سلفاً - ما يفيد التدبير وإدارة العالم ، وتصريف شؤونه ولم يكن هذا - كما بيّنّا - موضع اتفاق بين جميع المشركين والوثنيين في عهد الرسالة كما ادّعى هذا الفريق.

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم مدبّر سوى اللّه ولكن

ص: 389


1- النجم : 49.
2- سيوافيك معنى الالوهية في الفصل التاسع ، ونبين خطأهم في تفسيرها.

كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممّن يعتقدون بتعدّد المدبّر والتدبير ، وهي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر المتقدمة.

هنا نلفت نظر الوهابيّين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية ، ليتضح لهم أنّ الدعوة إلى التوحيد في الربوبيّة لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية ، بل هي دعوة إلى « التوحيد في المدبّرية » والتصرف ، وقد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً وشذوذاً في التوحيد الربوبي ، ويعتقد بتعدّد المدبّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

ولا يمكن - أبداً - أن نفسر الرب في هذه الآيات بالخالق والموجد ، وإليك بعض هذه الآيات :

أ. ( بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّماوَاتِ والأرضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) (1).

فلو كان المقصود من الرب هنا هو الخالق والموجد ، لكانت جملة ( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الرب في الآية للمسنا عدم الاحتياج - حينئذ - إلى الجملة المذكورة ، أعني : ( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) ، بخلاف ما إذا فسر الرب بالمدبِّر والمتصرف ، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة ، لأنها تكون - حينئذ - علّة للجملة الأُولى ، فتعني هكذا : أنّ خالق الكون هو المتصرف فيه وهو المالك لتدبيره والقائم بإدارته.

ب. ( يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدْوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) (2).

فإنّ لفظة الرب في هذه الآية ليست بمعنى « الخالق » ، وذلك على غرار ما

ص: 390


1- الأنبياء : 56.
2- البقرة : 21.

قلناه في الآية المتقدّمة المشابهة لما نحن فيه ، إذ لو كان الرب بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وجه ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الرب يعني المدبر ، فتكون جملة ( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) علّة للتوحيد في الربوبية ، إذ يكون المعنى حينئذ هو : أنّ الذي خلقكم هو مدبِّركم.

ج. ( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (1).

وهذه الآية حاكية عن أنَّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء ، وأنّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يفنّد رأيهم ويبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللّه رباً على خلاف ما كانوا عليه ، ومن المحتم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة « التوحيد في الخالقية » بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد في غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى ، ولذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية ، وليست هي إلاّ مسألة تدبير الكون ، بعضه أو كلّه.

د. ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذا غَافِلِينَ ) (2).

فقد أخذ اللّه في هذه الآية - من جميع البشر - الإقرار بالتوحيد الربوبي ، وكانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة ، كما يقول :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ

ص: 391


1- الأنعام : 164.
2- الأعراف : 172.

المُبْطِلُونَ ) (1).

إذا تبيَّن هذا فنقول : إنّ نزول هذه الآية في بيئة مشركة دليل - ولا شك - على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق ، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبي في الخالقية ، ولكن الفرض هو عدم وجود أي اختلاف في مسألة « توحيد الخالقية » في عصر الرسالة ، فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور ، فلا محيص - حينئذ - من أنّ الخلاف كان - آنذاك - في مسألة تدبير العالم وإدارة الكون.

وبهذا التقرير يكون معنى الرب في الآية المبحوث هنا هو المدبّر.

ه. ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2).

تتعلّق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الذي كان يدافع عن النبي موسى علیه السلام وراء قناع الصحبة والصداقة لآل فرعون ، ويسعى تحت ستار الموافقة معهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبي العظيم ، وأمّا دلالتها على كون الرب بمعنى المدبّر فواضحة ، لأنّ فرعون ما كان يدّعي الخالقية للسماء والأرض ولا الشركة مع اللّه سبحانه في خلق العالم وإيجاده ، وهذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً ، وفي هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبي موسى بقوله : ( رَبِّيَ اللّهُ ) هو حصر « التدبير » في اللّه سبحانه لا مسألة الخلق ، ولو كانت تتعلّق بمسألة الخلق والإيجاد لما كان بينه وبين فرعون أي خلاف ونزاع ، إذ المفروض اعتراف فرعون بخالقية اللّه - كما أسلفنا - هذا مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى يقول في الآية السابقة

ص: 392


1- الأعراف : 173.
2- غافر : 28.

لهذه الآية :

و. ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَليَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) (1).

فإنّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكوين دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لأي تبدّل وتبديل.

ومن هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون : ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ) (2).

ز. ( فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّماوَاتِ والأرضِ لَنْ نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهاً ) (3).

إنّ الفتية الذين فرّوا من ذلك الجو الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بالوهية غير اللّه ، ولكن الوهية غير اللّه - في ذلك المجتمع - لم تكن في صورة تعدّد الخالق ، خاصة وأنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية وأفكارها قد تقدّمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظيت من الرقي بمقدار معتد به ، ولم يكن يعقل - في ظل هذا الرقي الفكري - وجود مجتمع منكر لخالقية اللّه ، أو مشرك فيها ، فلابد أن يقال أنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدّد المدبّر.

ح. انّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبّرية وليس الخالقية كما يتوهم ، هو الآية المتكررة في سورة الرحمن :

( فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة ، وجاءت لفظة رب جنباً

ص: 393


1- غافر : 26.
2- النازعات : 24.
3- الكهف : 14.

إلى جنب مع لفظة الآلاء التي تعني النعم ، وغير خفي أنّ قضية النعمة مع التذكير بمقام ربوبية اللّه لحياة البشر وحفظها من الفناء أنسب وأكثر انسجاماً ، إذ ذكر النعم ( التي هي من شعب التربية الإلهية التي يوليها سبحانه للبشر ) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم وإدامة الإفاضة.

ط. لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الرب في خمسة موارد في القرآن الكريم ، والشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية ودوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد ، وليست حقيقة تدبير الإنسان إلاّ إدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

وإليك هذه الموارد :

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (1).

( قَالَ رَبّي أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَليَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) (2).

( قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) (3).

( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) (4).

( كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (5).

ص: 394


1- إبراهيم : 7.
2- النمل : 19.
3- النمل : 40.
4- الأحقاف : 15.
5- سبأ : 15.

ي. وممّا يدلّ على ما قلنا قوله سبحانه :

( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنيِنَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَاراً ) (1).

ومثله في سورة هود الآية 52.

وهكذا : يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون وتدبير شؤونه تفسيراً للرب : فهو الذي يرسل المطر ، وهو الذي يمدد بالأموال والبنين ، وهو الذي يجعل الجنات ، وهو الذي يجعل الأنهار ، وكلّ هذه الأُمور جوانب وصور من التدبير.

نتيجة هذا البحث

من هذا البحث الموسّع يمكن أن نستنتج أمرين :

1. أنّ ربوبية اللّه عبارة عن مدبِّريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

2. دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة « التوحيد في التدبير » لم تكن موضع اتفاق بخلاف مسألة « التوحيد في الخالقية » ، وانّه كان في التاريخ ثمّت فريق يعتقد بمدبّرية غير اللّه للكون كله أو بعضه ، وكانا يخضعون أمامها باعتقاد أنّها أرباب.

وبما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين ، فيمكن أن يكون بعض الفرق موحداً في الثاني ، ومشركاً في القسم الأوّل ، فاليهود والنصارى تورّطوا في « الشرك الربوبي » التشريعي ، لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار

ص: 395


1- نوح : 10 - 12.

والرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة ، فكأنّه فوَّض أمر التشريع إليهم !! (1).

فها هو القرآن يقول عنهم :

( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللّهِ ) (2).

( وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ ) (3).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل تمثل في اسناد تدبير بعض جوانب الكون ، وشؤون العالم إلى الملائكة والجن والأرواح المقدسة أو الأجرام السماوية ، وإن لم نعثر - إلى الآن - على من يعزى تدبير « كل » جوانب الكون إلى غير اللّه ، ولكن مسألة الشرك في الربوبية تمثّلت في الأغلب في تسليم « بعض » الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد والمخلوقات.

إنّ الآيات الدّالّة على هذه النتيجة - في الحقيقة - أكثر من أن يمكن سردها هنا ، لهذا نكتفي بما ذكرنا من الآيات تاركين للقارئ الباحث التفتيش عنها في القرآن الكريم.

القرآن لا يعترف بمدبِّر سواه

ينص القرآن الكريم - بمنتهى الصراحة - على أنّ اللّه سبحانه هو المدبِّر الوحيد للعالم ، وينفي أي تدبير مستقل يكون مظهراً لربوبية غير اللّه.

( إِنَّ رَبَّكُمْ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا

ص: 396


1- سوف يوافيك في الفصل العاشر أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه ، لا يشترك فيها غيره.
2- التوبة : 31.
3- آل عمران : 64.

تَذَكَّرُونَ ) (1).

( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأِجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (2).

ففي هاتين الآيتين وما شابههما تستدعي الجمل التالية التأمّل أكثر من أي شيء :

1. ثم استوى على العرش.

2 يدبّر الأمر.

3. ما من شفيع إلاّ بإذنه.

فنقول توضيحاً لهذه الجمل : ينتقل القرآن الكريم في هاتين الآيتين - بعد ذكر مسألة خلق السماوات والأرض - إلى مسألة الاستيلاء على العرش ، والهدف من ذلك هو الإشعار بأنّ زمام الكون - بعد خلقه - بيده تعالى ، ولم يفوّضه إلى غيره ، فهو الآخذ بزمام العالم كما هو خالقه ، دون إهمال أو إيكال أو تفويض.

إنّ الاستيلاء على العرش ( والمعني به مطلق عالم الوجود ) كناية عن السيطرة الكاملة والتسلّط التام على كل أجزاء الكون ، وتمام عالم الممكنات.

وفي هاتين الآيتين والآيات المشابهة لهما (3) طرح القرآن - بعد موضوع الاستيلاء على العرش - موضوع تدبير العالم ليفيد بأنّ المدبِّر هو تعالى ، وليس سواه

ص: 397


1- يونس : 3.
2- الرعد : 2.
3- مثل : الأعراف : 54 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4.

من مدبِّر.

ثم إنّ النكتة في ذكر شفاعة الشفيع بإذنه سبحانه بعد مسألة حصر التدبير باللّه سبحانه هو أنّ المراد منه - في المقام - هو الشفيع التكويني ، أعني : نظام العلة والمعلول الحاكم على عالم الطبيعة ، فتشير الآية إلى أنّ تأثير أيّة علّة في العوالم العلوية أو السفلية منوطة بالإذن الإلهي كما أسلفنا.

ولأجل ذلك صرح بأنّه « ما من شفيع » أي وسيط مادياً كان أم مجرداً إلاّ من بعد إذنه لكي يفيد بأنّ مدبّرية اللّه المطلقة لا تنافي الاعتقاد بنظام العلية في عالم الطبيعة ، إذ أنّ وجود هذا النظام العلّي السببي نفسه مظهر من مظاهر تدبير اللّه ، وناشئ عن إرادته العليا ، فالمدبِّر الأصيل والمستقل ليس إلاّ هو وحده ، ولا تدبير لسواه إلاّ بأمره ومشيئته ، وإنّما أطلق لفظ الشفيع على نظام العلية ، لأنّه من الشفع بمعنى الزوج ، فكأنّ نظام العلية يتسبب في إيجاد آثاره وظواهره بالإنضمام إلى إرادة اللّه ومشيئته ، فكل علّة مشفوعة إلى إرادته وإذنه سبحانه تكون مؤثرة.

ولو أُريد من الشفيع الشفاعة التشريعية ، فهو أيضاً داخل في إطار تدبيره سبحانه ، فلا يشفع شفيع في الدنيا والآخرة في حق عباده إلاّ بإذنه سبحانه.

* * *

وربما يتصور البعض أنّ القرآن الكريم طرح مسألة « التوحيد في الربوبية » دون أن يقيم عليها أي برهان ، في حين أنّ القرآن أثبت هذا المطلب بالبراهين الواضحة القاطعة.

وإليك فيما يلي بعض هذه الأدلة.

ص: 398

1. التدبير لا ينفك عن الخلق

إنّ النقطة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسسة وتصوروا أنّهما من نوع واحد.

إنّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه أو رب البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنّ ذاك التدبير يتم بإصدار الأوامر ، في حين أنّ التدبير الإلهي هو إدامة الخلق والإيجاد ، وقد سبق أنّ الخالقية منحصرة باللّه سبحانه.

فالفريق الذي يعتقد بأنّ اللّه تعالى هو الخالق الوحيد يجب عليه أيضاً أن يعتقد بأنّه تعالى هو « المدبّر الوحيد » لكون التدبير خلقاً بعد خلق وهو فعل اللّه خاصة.

توضيح ذلك : أنّ النظام الإمكاني - بحكم كونه فقيراً ممكناً - فاقد للوجود الذاتي ، فإنّ فقره هذا ليس منحصراً في وجوده في بدء تحقّقه ، وإنّما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة ، كما أنّ فقره ليس منحصراً في أصل وجوده ، فحسب بل هو محتاج حتى في علاقاته وروابطه وتأثيراته مع الموجودات الأُخرى وانسجامه مع مجموع العالم.

وليس التدبير إلاّ إفاضة الوجود وإعطاء « القدرة على التأثير » للشيء الممكن ، ثمّ إنّ وجود النظام الإمكاني كما أنّه مفاض عليه من جانب اللّه سبحانه ، فكذلك تدبيره وإدارة وجوده تقوم به سبحانه وليس هذا إلاّ نوع من الخلق.

وإذ ليس هناك من خالق سواه سبحانه ، فليس هناك مدبِّر سواه أيضاً ، وبذلك يستلزم الاعتراف بوحدة الخالق ، الاعتراف بوحدة المدبِّر.

ص: 399

فإنّ « تدبير » الوردة ليس إلاّ تقوّمها من المواد السكرية في الأرض ثم توليدها الأوكسجين في الهواء ، إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها ، وليس هذا إلاّ شعبة من الخلق.

ومثلها ، الجنين منذ تكونه في رحم الأُم ، فهو لم يزل يمر بالتفاعلات حتى يخرج من بطن الأُم ، وليست هذه التفاعلات إلاّ شعبة من عملية الخلق وفرع منه وإيجاد بعد إيجاد.

ويمكن تقرير هذا المطلب بصورة أُخرى بأن نقول :

إنّ التدبير مأخوذ من مادة دبّر أي تابع وواصل وعقب ، وحقيقة التدبير ليست إلاّ لأنّ خالق العالم جعل الأسباب والعلل بحيث تأتي المعاليل والمسببات دبر الأسباب وعقيب العلل بحيث تأتي أجزاء الكون وراء بعضها تباعاً وبحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كمإله المناسب وهدفه المطلوب ، فإذا كان المراد من « التدبير » هو هذا ، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق ، ومع هذا كيف يجوز أن نعتقد بأنّ التدبير مغاير للخلق ونعتبرهما أمرين مختلفين.

ولذا يذكر القرآن الكريم - بعد ذكر مسألة الخلق للسماوات والأرض - مسألة تسخير الشمس والقمر (1) الذي هو من التدبير ، ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق.

وحدة النظام دليل على وحدة المدبِّر

في البحث السابق تحدّثنا عن وحدة نظام الكون ، وأثبتنا بوضوح أنّ مطالعة كل صفحة من صفحات هذا الكتاب التكويني العظيم تقودنا إلى نظام موحد ،

ص: 400


1- الأعراف : 54 ، الرعد : 3.

وكأنّ أوراق الكتاب التكويني - على غرار الكتاب التدويني - شد بعضها إلى بعض بيد واحدة ، وأُخرجت في صورة واحدة.

إنّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كلية وشاملة بحيث لو أُتيح لأحد أن يكتشف بالتجربة سنة في نقطة خاصة من نقاط الكون أمكنه أن يكتشف قانوناً كلياً وشاملاً ، ويهتدي إلى سنة كونية عمومية وهذا هو أفضل دليل على وحدة النظام الحاكم على العالم الطبيعي.

إنّ وحدة النظام الكوني « وعمومية » السنن والقوانين الطبيعية تقودنا إلى موضوعين :

1. أنّه ليس للعالم إلاّ خالق واحد ، وتوضيح ذلك هو ما قرأته في الفصل السابق.

2. انّه ليس للعالم إلاّ مدبِّر واحد.

وبعبارة أُخرى ، فإنّ وحدة النظام والسنن الكونية لدليل واضح على صحة ما قاله القرآن الكريم.

( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (1).

إنّ جملة : ( لَهُ الخَلْقُ ) إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

وجملة : ( وَالأمْرُ ) إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية على عالم الوجود.

وهنا ينطرح سؤال هو : كيف تدل « وحدة القوانين » وعموميتها على « وحدة المدبِّر »؟

ص: 401


1- الأعراف : 54.

وجواب ذلك واضح : إذ عندما يحكم على الكون نوعان من الرأي والحاكمية يكون من الطبيعي والحتمي عدم وجود أي أثر لهذا النظام الواحد ، انّ وحدة النظام لا تتحقّق ولا تكون إلاّ إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد ، ولو خضع الكون لإدارة حاكمين ومنظمين ومدبِّرين لما كان للنظام الموحد أي أثر.

لأنّ تعدّد المدبِّر والمنظِّم - بحكم اختلافهما في الذات أو بعض الجهات منها - يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإدارة ، ويستلزم تعدّد التدبير - بالضرورة - فناء النظام الموحد ، وغيابه.

وبعبارة أُخرى : انّ المدبِّرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم تصدق هناك اثنينية قهراً ، وإن تعدّد المدبِّر يعني - بالضرورة - اختلاف المدبِّرين من جهة أو جهات ، ومعلوم أنّ اختلافاً - كهذا - يؤثر لا محالة في تدبير المدبِّر.

* * *

ويمكن بيان هذا البرهان بصورتين :

1. أن نلتفت - في بيان البرهان - إلى الجوانب الإيجابية فيه ونقول : إنّ ترابط أجزاء الكون ، وتأثيرها في بعضها يدلّ على خضوعها لحاكمية حاكم واحد على جميع العالم يقودها تحت نظام واحد وخطة واحدة.

وقد أكد في أحاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام على هذه النقطة أحياناً ، إذ يقول أحدهم وهو :

« فلما رأيت الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر

ص: 402

واحد » (1).

2. وربما أُشير إلى الجوانب السلبية في هذا البرهان وأنّ تعدّد التدبير يوجب فساد النظام الكوني.

وقد استند القرآن الكريم على هذا الجانب ، إذ قال :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (2).

وربما ورد في بعض نصوص أهل بيت الرسالة الإشارة إلى كلا الجانبين في هذا البرهان ، إذ يقول أحدهم علیهم السلام في جواب هشام الذي سأل عن دليل وحدانية الرب :

« اتصال التدبير وتمام الصنع ، كما قال اللّه عزّ وجل : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (3).

النتيجة

1. انّ وحدة النظام ووحدة الكون وشمول السنن لجميع أجزاء هذا العالم وعمومية القوانين الطبيعية كل ذلك يمكن أن يكون أفضل دليل على وحدة الخالق ، وكذا وحدة المدبِّر.

2. أنّ هذا البرهان يمكن أن يبين في صورتين ، وكلا الصورتين اللّتين هما - في الحقيقة - برهان واحد وردا في القرآن الكريم.

ص: 403


1- توحيد الصدوق : 244.
2- الأنبياء : 22.
3- توحيد الصدوق : 250 وسيوافيك الاستدلال بهذه الآية بشكل آخر.

ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟

فإذا كانت الظواهر الطبيعية وليدة عللها التي هي الموجدة والمدبِّرة لهذه الظواهر بنحو من الأنحاء ، فكيف ينسجم هذا مع حصر المدبّرية المطلقة في اللّه تعالى ؟

فإنّ التدبير الطبيعي عبارة عن تكفّل شيء لشيء آخر ، فإنّ كل علة في هذا النظام الكوني متكفّلة لوجود معلولها وسبب لاستمرار بقائه ودوامه ، وبمقتضى ذلك تكون كل علة مدبّراً ، وعند ذلك فكيف ينحصر التدبير في اللّه سبحانه ؟

مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يعترف بسلسلة من المدبِّرات ويقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (1).

( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (2).

ولا شك أنّ هؤلاء الحفظة لو كانوا يراقبون البشر ويحفظونه من الشرور والأخطار ، فإنّ من الحتمي أن يعدوا مدبِّرين له بنحو ما ؟

الجواب

قد سبق منّا - عند البحث عن التوحيد في الخالقية - أنّ التوحيد في الأفعال ليس بمعنى تعطيل فاعلية الأسباب والعلل وإحلال اللّه تعالى محلها للتأثير في الظواهر مباشرة ، لأنّ هذا عين ما اختارته الأشاعرة ، الذي أبطلناه.

بل التوحيد في الأفعال - سواء أكان في الخالقية أم في التدبير - إنّما هو

ص: 404


1- النازعات : 5.
2- الأنعام : 61.

بمعنى أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه ، وإنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته ، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في اللّه سبحانه ، ومن ليس له إلمام بألفباء المعارف والمفاهيم القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات ، إذ كيف يمكن أن تنحصر بعض الشؤون والأفعال كالشفاعة ، والمالكية ، والرازقية والعلم بالغيب والإحياء في بعض الآيات باللّه سبحانه بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه من عباده ، فكيف ينسجم ذلك الانحصار مع هذه النسبة ؟

وإليك نماذج من هاتين الطائفتين من الآيات :

1. يعد القرآن - في بعض آياته - قبض الأرواح فعلاً لله تعالى ، ويصرح بأنّ اللّه هو الذي يتوفّي الأنفس حين موتها إذ يقول - مثلاً - :

( اللّهُ يَتَوفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (1).

بينما نجده يقول في موضع آخر ، ناسباً التوفّي إلى غيره :

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (2).

* * *

2. يأمر القرآن - في سورة الحمد - بالاستعانة باللّه وحده إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

في حين نجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول :

ص: 405


1- الزمر : 42.
2- الأنعام : 61.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (1).

* * *

3. يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً باللّه وحده ، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (2).

بينما يخبرنا - في آية أُخرى - عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يأْذَنَ اللّهُ ) (3).

* * *

4. يعتبر القرآن الاطّلاع على الغيب والعلم به منحصراً في اللّه ، حيث يقول :

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) (4).

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أُخرى عن أنّ اللّه يختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغيب ، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (5).

* * *

ص: 406


1- البقرة : 45.
2- الزمر : 44.
3- النجم : 26.
4- النمل : 65.
5- آل عمران : 179.

5. ينقل القرآن عن إبراهيم علیه السلام قوله بأنّ اللّه يشفيه إذا مرض حيث يقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (1).

وظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في اللّه سبحانه ، في حين أنّ اللّه يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً ، حيث يقول :

( فِيهِ [ العسل ] شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) (2).

( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) (3).

* * *

6. إنّ اللّه تعالى - في نظر القرآن - هو الرازق الوحيد حيث يقول :

( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ) (4).

بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) (5).

* * *

7. الزارع الحقيقي - حسب نظر القرآن - هو اللّه كما يقول :

ص: 407


1- الشعراء : 80.
2- النحل : 69.
3- الإسراء : 82.
4- الذاريات : 58.
5- النساء : 5.

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) (1).

في حين أنّ القرآن الكريم - في آية أُخرى - يطلق صفة الزارع على الحارثين إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ) (2).

* * *

8. إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول :

( واللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (3).

في حين يعتبر القرآن الملائكة - في آية أُخرى - بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد ، إذ يقول :

( بَلَى وَرُّسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (4).

* * *

9. وفي آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) (5).

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

ص: 408


1- الواقعة : 63 - 64.
2- الفتح : 29.
3- النساء : 8.
4- الزخرف : 81.
5- النمل : 4.

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ ) (1).

وفي آية أُخرى نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ ) (2).

* * *

10. مر في هذا البحث حصر التدبير في اللّه حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا : هو اللّه ، ، إذ يقول في الآية 31 من سورة يونس :

( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ) .

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أُخرى بمدبّرية غير اللّه حيث يقول :

( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (3).

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الآيات تعارضاً ، غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الأُمور أعني : الرازقية ، والإشفاء و ... و ، قائمة باللّه على نحو لا يكون لله فيها أي شريك ، فهو تعالى يقوم بها بالأصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله ، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعية » وفي ظل القدرة الإلهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، وأنّ كل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه

ص: 409


1- الأنفال : 48.
2- فصلت : 25.
3- النازعات : 5.

الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية اللّه من ذلك ، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات غاية ما في الأمر أنّ نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري » ، فيما يكون نسبتها إلى « اللّه » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (1).

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي ، إذ يقول بصراحة ( إذْ رَمَيْتَ ) نجده يصف اللّه بأنّه هو الرامي الحقيقي ، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له ، فيكون فعله فعلاً لله أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ انتساب الفعل إلى اللّه ( الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير ، ولكن شدة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون اللّه مسؤولاً عن أفعال عباده ، إذ صحيح أنّ المقدمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة باللّه وناشئة منه إلاّ أنّه لما كان الجزء الأخير من العلة التامة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحقّقت الظاهرة يعد هو مسؤولاً عن الفعل.

وحدة المدبِّر في العالم

إنّ القرآن استدل على وحدة المدبِّر في العالم ببرهان ذي شقوق ، وقد جاء البرهان ضمن آيتين تتكفل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان ، وإليك الآيتين :

ص: 410


1- الأنفال : 17.

( لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (1).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ ) (2).

وإليك مجموع شقوق البرهان :

إنّ تصوّر تعدّد المدبِّر لهذا العالم يكون على وجوه :

1. أن يتفرد كل واحد من الآلهة المدبِّرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دونما منازع ، ففي هذه الصورة يلزم تعدد التدبير لأنّ المدبِّر متعدّد ومختلف في الذات ، فيلزم تعدد التدبير ، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود ، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه :

( قُلْ لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

2. وأمّا أن يدبِّر كل واحد قسماً من الكون الذي خلقه وعندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلاً ، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون ، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلاّ نوعاً واحداً من النظام يسود كل جوانب الكون من الذرة إلى المجرة.

ص: 411


1- الأنبياء : 22.
2- المؤمنون : 91.

وإلى هذا الشق أشار بقوله : في الآية الثانية : ( إذَنْ لَذَهَبْ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

3. أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكماً عليهم ويوحّد جهودهم ، وأعمالهم ويسبغ عليها الانسجام والاتحاد ، وعندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون الباقي.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه : ( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فتلخّص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما بيان شق خاص.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي اعتبر في تفسيره القيم - الميزان - الآية الثانية برهاناً مستقلاً عن الآية الأُولى وجعل كل جملة منها مشيرة إلى برهان خاص ، وإليك توضيح ما أفاده في كتابه :

توضيح البرهان الأوّل

إذا افترضنا أنّ للكون خالقين وأنّ العالم مخلوق لإلهين ، فإنّه لا بد أن نقول - وبحكم كونهما اثنين - أنّهما يختلفان عن بعض في جهة أو جهات ، وإلاّ لما صحت الاثنينية والتعدد أي لما صح - حينئذ - أن يكونا اثنين دون أن يكون بينهما أي نوع من الاختلاف.

ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الذات سبب للاختلاف في طريقة التدبير والإرادة بين المختلفين ذاتاً.

فإذا كان تدبير العالم العلوي - مثلاً - من تدبير واحد من الإلهين وتدبير العالم السفلي من تدبير إله آخر ، فإنّ من الحتمي أن ينفصم الترابط بين نظامي

ص: 412

العالمين ويزول الارتباط بينهما ، لأنّه من المستحيل أن يكون ارتباط ووحدة بين أجزاء عالم واحد يدار بتدبيرين متنافيين متضادين.

وينتج من ذلك التفكك بين جزئي العالم ، وبالتالي فساد الكون بأسره من سماوات وأرض وما بينهما.

لأنّنا جميعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الكوني - حسب التحقيقات العلمية - ناشئ من الارتباط الحاكم على أجزاء المنظومة الشمسية بحيث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف في التدبير - مثل أن تختل قوتا الجذب والدفع - لتعرض الكون بأسره للخلل ولم يبق للكون وجود ولا أثر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البرهان بالعبارة التي يقول فيها :

( إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

أي أنّ كل إله - في صورة التعدّد - يدبِّر مخلوقه حسب طريقته الخاصة ، وعلى أثر تعدّد التدبير يزول الارتباط والترابط الحاكم على أجزاء الكون ، ذلك الترابط الذي هو علّة بقاء النظام الكوني وعلّة استمراره واستقامته ، وثباته على النمط الذي هو عليه.

توضيح البرهان الثاني

إنّ في عالم الكون سلسلة من النظم والسنن الكونية الكلية والعامة التي يوجد بينها سلسلة من النظم الجزئية ، التي تدار في خلالها وأثنائها.

فالإنسان والحيوان والنبات وما يعيش على الأرض ذوات أنظمة صغيرة محدودة خاصة بها ، وهي جزء من النظام الكلي للكرة الأرضية.

ص: 413

ولكن النظام الكلي للكرة الأرضية هو بدوره يعد جزءاً من النظام الكلي للعالم ، وبهذه النسبة يكون وضع نظام المجموعة الشمسية إذا ما قورن إلى نظام المجرة.

فإذا كان النظام العالي الكلّي للكون مرتبطاً بأحد الإلهين ومحكوماً لتدبيره دون الآخر ، ففي هذه الصورة سيتعالى مدبّر النظام الكلي على مدبِّر النظام الذي يندرج فيه بحيث إذا ذهب وانتفى النظام الكلي لم يبق للنظام الجزئي المندرج فيه أي أثر.

فمثلاً إذا بطل نظام الكرة الأرضية ، فإنّه يبطل - بالضرورة - نظام الإنسان والحيوان وبقية الأحياء ويتعرض أمرهم للزوال والفناء والخطر ، بحكم التبعية والارتباط بينهما.

وإذا تعرض النظام الكلي للمنظومة الشمسية للخلل فإنّ من القطعي أن يختل كذلك النظام الجزئي للمنظومة مثل نظام الكرة الأرضية على أثر ذلك ، ولا يصح العكس طبعاً (1).

وفي هذه الحالة يصح ( بحكم تفوق النظام العالي الكلي على النظام الجزئي السفلي ) أن يقال أنّ مدبِّر النظام العلوي يتفضّل ويستعلي ويتفوّق على مدبِّر النظام السفلي الجزئي ، وتكون نتيجة هذا الفرض أن يستغني مدبِّر النظام العلوي الكلي عن مدبِّر النظام السفلي الجزئي ، بينما يستلزم أن يكون مدبّر النظام السفلي الجزئي محتاجاً في إرادته وتدبيره لمخلوقه للمدبِّر الأعلى.

لأنّ الفرض أنّ النظام السفلي مرتبط - كمال الارتباط - بالنظام العلوي

ص: 414


1- لأنّ فساد الكل يستتبع فساد الجزء.

ويستمد من الأخير دائماً ، ومعلوم أنّ نتيجة هذا الاستمداد هو أن لا يكون موجد النظام السفلي ، مستقلاً في تأثيره وتدبيره ، بل يكون معتمداً على غيره دائماً وأبداً.

ومن البديهي أنّ الموجود المحتاج إلى غيره في التدبير والإيجاد لا يمكنه أن يكون « الإله الغني ».

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا النحو من الاستدلال بالجملة التالية :

( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) .

وعلّة هذا العلو والاستعلاء هو اعتماد تدبير أحدهما على تدبير الآخر بحيث لو اختل أو انتفى التدبير الكلي العلوي لانتفى التدبير السفلي الجزئي ولم يعد له أثر ولا خبر ، ولا ريب أنّ تفوق التدبير مستلزم لتفوق المدبِّر وعلوه (1).

سؤال وجواب

نرى في قوله سبحانه :

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى باللّهِ شَهِيداً ) (2).

إنّ الآية الأُولى تنسب كلاّ من الحسنة والسيئة إلى اللّه ، وفي الوقت نفسه

ص: 415


1- قد تقدم في صفحة 403 الاستدلال بمضمون الآية الأُولى على « وحدة المدبر » غير أنّ الاستدلال هنا يكون بنفس هذه الآية منضمة إلى آية أُخرى ، وجعل الآيتين بمنزلة برهان واحد ذي شقوق تتكفل الآيتان بيان شقوق البرهان.
2- النساء : 78 - 79.

تنسب الآية الثانية الحسنة إليه سبحانه والسيئة إلى نفس الإنسان ، فكيف تجتمع هاتان النسبتان ؟

والخطاب في الآية الثانية وإن كان للنبي إلاّ أنّ الغاية منه أعم ، فهو وإن كان قد خوطب بالكلام ، ولكن المقصود الناس جميعاً ، وعندئذ ينطرح هذا السؤال : إذا كان المؤثر الحقيقي في العالم هو اللّه سبحانه وكان تأثير غيره منوطاً بإذنه ومشيئته وقدرته وأقداره ، كما يفيده قوله سبحانه : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللّهِ ) ، لأجل أنّ للحسنة والسيئة عوامل وعللاً تنتهي إلى اللّه سبحانه وتقوم به ، فيكون الكلّ مستنداً إليه ، ومعه كيف يستدرك في الآية الثانية ويقرن بين الحسنة والسيئة فينسب الأُولى إلى اللّه والثانية إلى نفس النبي وبالنتيجة إلى مطلق الإنسان ويقول : ( ومَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ؟ فهل هذا إلا تفكيك في الحوادث وجعل بعضها منتهياً إلى اللّه دون البعض الآخر.

الجواب

إنّ المقصود من الحسنة في الآية ، الأُمور التي تلائم وتنطبق مع المزاج والمصالح البشرية بينما تكون السيئة عكس ذلك ، كما في قوله سبحانه :

( إِنْ تَمسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ) (1).

وليس المراد منها الطاعة والمعصية ولا الثواب والعقاب بل الحوادث التي تعد خيراً أو شراً للإنسان طيلة حياته.

إنّ بعض المنضمين إلى صفوف المؤمنين كانت ألسنتهم طويلة وعملهم

ص: 416


1- آل عمران : 120.

قليلاً ، فكانوا يتفلسفون ، فإنْ حصل نصر قالوا : هو من عند اللّه ، وإن كانت هزيمة قالوا إنّ سوء القيادة هو سبب الهزيمة.

وبعبارة أُخرى قد كان المنافقون - لجهلهم بمعارف الكتاب العزيز - يعدون الظفر والغلبة في الحروب كحرب بدر - مثلاً - من اللّه ، والانكسار والهزيمة كحرب أُحد من النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولم يكن هذا النوع من التفسير بجديد ، فقد سبقهم في ذلك أعداء موسى ، فقد كان منطقهم ، على شكل آخر ، فكانوا ينسبون الحسنة إلى أنفسهم والسيئة إلى موسى ومن معه.

فإذا واجهوا نعمة كانوا يرون أنّ ذلك نتيجة صلاحيتهم ، وإذا واجهوا نقمة أو بلاء تشاءموا بموسي علیه السلام وتطيّروا به ، واعتبروا وجوده ووجود جماعته المؤمنين سبباً لنزول ذلك البلاء ، كما يقول سبحانه :

( فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ وِإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ ) (1).

ولكنَّ القرآن الكريم يواجه هذا الزعم الأعوج الذي تنسب فيه « الحسنات » تارة إلى اللّه و « السيئات » إلى النبي وأُخرى تنسب الحسنات إلى أنفسهم ، والسيئات إلى موسى علیه السلام ، فكأنّ هناك مؤثرين مستقلين في عالم الكون ، لكل واحد منهما خالق خاص ينافي الآخر ويقول في قبال هذا المنطق : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) .

لأنّه ليس للعالم - بحكم التوحيد في الخالقية - إلاّ خالق واحد لا أكثر ،

ص: 417


1- الأعراف : 131.

وكل ما يحدث في هذا العالم من انتصارات أو هزائم وانكسارات ونزول نعم أو نقم - من حيث وجودها في الخارج - تكون من اللّه ، وليس من الصحيح أبداً أن نعتبر بعضها من جانب اللّه ، والبعض الآخر من جانب النبي أو غيره ، ولأجل هذا يقول القرآن ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) .

إلى هنا اتضح مفاد الآية الأُولى ، وبقي الكلام في الآية الثانية وإنّه كيف تعود فتنسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى النبي ، والمراد منه مطلق الإنسان ؟

غير انّ الإجابة عنه واضحة ، بعد الوقوف على موضوع البحث فيهما فإنّ الآية الأُولى تركز على أنّ وجود الحسنة والسيئة من اللّه سبحانه ، ولا خالق ولا مؤثر في الوجود إلاّ هو ، وأمّا الآية الثانية فهي تركز على مناشئ الحسنة والسيئة ومنابعهما ، فتفرّق بين مناشئ الحسنة ومنابع السيئة بأنّ منشأ الأُولى هو اللّه سبحانه ، إذ هو مبدأ لكل خير وإليه يرجع كل فضل ومنه يفاض إلى الغير ، كما أنّ منابع السيئة هي الإنسان وأفعاله وخصاله التي يمشي عليها في حياته. إذا عرفت ذلك فنقول :

السيئة - كالزلازل والبلايا والمصائب - بما أنّها ظاهرة طبيعية فوجودها من جانب اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك نسبها القرآن إلى اللّه فقال : ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) وبما أنّ أعمالنا مؤثرة في نشوء تلك الظاهرة ، وكل إنسان مأخوذ بفعله فأعمالنا مبادئ لهذه الظواهر والطوارئ فنسب السيئة إلى نفس الإنسان فقال : ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

ويؤيد ذلك قوله سبحانه :

( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَيَّ رَبِّي

ص: 418

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) (1).

إنّه تعالى يأمر نبيه بأن يعترف بأنّ ضلالته من جانب نفسه وهدايته من جانب وحيه سبحانه ، وليس ذلك إلاّ لأنّ الضلالة مما ينشأ من موقف الإنسان نفسه في حياته ، فلأجل ذلك هي أولى بأن تنتسب إلى نفس الإنسان ، وأمّا الهداية فهي كالحسنة أولى بأن تنتسب إلى اللّه سبحانه.

وليس هذا مخصوصاً بالحوادث الطارئة في عالم الطبيعة ، المذكورة ، بل كل إنسان رهين بآثار عمله ، فإنّ الشاب المدمن على الخمر - مثلاً - يجب بالبداهة أن ينتظر سلسلة من البلايا والمصائب والمحن ، والمدينة التي لا تبني السدود في وجه السيول يجب حتماً أن تنتظر الدمار والخراب ، والبيوت التي لا تبنى على أساس مقاومة الزلازل يجب حتماً أن تنتظر الخراب والدمار على أثر الزلازل.

إنّ مثل هذه المجتمعات التي تقصر في هذه الأُمور لابد أن تكون في معرض المصائب والمحن والمآسي.

ولهذا قال تعالى في الآية الثانية : ( مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) وهو بذلك يشير إلى ما قلناه.

لقد كان الأنبياء علیهم السلام يذمّون من يتطيّر بهم ويتشاءم من وجودهم ويقولون : ( قَالُوا ( أي الأنبياء ) طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُم ) (2).

وهم بذلك يشيرون إلى أنّ علّة المحن والمصائب كامنة في نفس العصاة والمنكوبين ، وهو أمر ناشئ منهم ونابع من أعمالهم هم ، وأنّ داءهم فيهم ومنهم إن

ص: 419


1- سبأ : 50.
2- يس : 19.

كانوا يبصرون ويتذكرون.

ولأجل أن نعرف أنّ أعمال الإنسان هي صانعة مصيره يكفي أن نجد القرآن يخبرنا في آيات أُخرى بأنّ أعمال البشر وحالاته وسوابقه هي التي تكون علّة للمصائب والمحن والتحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على حياته ، إذ يقول :

( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (1).

ويقول في آية أُخرى :

( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفِسِهِمْ ) (2).

ويقول أيضاً :

( ذِلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (3).

وقد أُشير إلى هذا الجمع الذي ذكرناه في روايات أئمة أهل البيت علیهم السلام ، فعن الإمام الرضا علیه السلام ناقلاً عن الحديث القدسي :

« ابن آدم ! بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وتقول ، وبقوتي أديت إلي فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، ما أصابك من حسنة فمن اللّه ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني » (4).

وفي حديث آخر عنه علیه السلام :. « فما أصابك من حسنة فمن عندي وبتوفيقي وقوتي ، وما أصابك من سيئة فمن سوء اختيارك وغواية نفسك » (5).

ص: 420


1- الشورى : 30.
2- الرعد : 11.
3- الأنفال : 53.
4- بحار الأنوار : 5 / 56 و 5 وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.
5- بحار الأنوار : 5 / 56 و 5 وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

وفي ختام هذا المبحث نذكّر بعدة نقاط :

1. انّ الآيات القرآنية ، والدلائل العقلية أثبتت بوضوح أنّ التوحيد في الخالقية والتدبير لا يمنع من أن يقوم النظام الكوني على أساس العلة والمعلول ، لأنّ تأثير الأسباب لا يكون في معزل عن إرادة اللّه ، بل هو - بالتالي - فعله بنحو من الأنحاء.

2. قد توجب المصالح بأن يعطّل اللّه سبباً من تأثيره ، مثل أن يجرّد من النار خاصية الإحراق ، ويأمر البحر بأن لا يغرق كما فعل لموسى وقومه ، إذ يقول عن الأوّل :

( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً ) (1).

ويقول عن الثاني :

( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى ) (2).

3. كيف يمكن القول بأنّ اللّه خالق الحسنات والسيئات ، وأي رابطة بين الكمال المطلق والخير البحت والجمال المحض وخلق السيئات ؟

والجواب : إنّ كون الشيء سيئاً ليس من الصفات الحقيقية التي يتّصف بها الشيء مطلقاً كالبياض والسواد حتى يمتنع صدوره من اللّه لكونه كمالاً وخيراً مطلقاً ، بل من الصفات النسبية التي لا يتّصف بها الشيء إلاّ بالمقايسة والنسبة ، كما في الكبر والصغر فإنّ الشيء لا يتّصف به من دون مقايسة.

وعلى ذلك فالسيئات من حيث وجودها لا تتصف بالسوء حتى يمتنع

ص: 421


1- الأنبياء : 69.
2- طه : 77.

انتسابها إلى اللّه ، بل هي من تلك الزاوية طوارئ جميلة ، وإنّما يتّصف بها إذا كان هناك نوع من النسبة بينها وبين حياة الإنسان ، فقدرة العدو مثلاً سيئة ومضرة بالقياس إلى الطرف الآخر ، والمطر مضر وشر بالقياس إلى تخريبه المنازل ، ففي هذه الحالة فقط يمكن أن توصف هذه الظواهر بالشر والسوء وفي هذه الصورة بالذات يقول الناس « لقد نزل البلاء ».

وعلى الجملة : الهدف من انتساب الحسنة والسيئة كليهما إلى اللّه سبحانه ، ليس هو انتساب السيئة - بوصف كونها سيئة - إلى اللّه ، فإنّ الشيء إنّما يتّصف بكونه سيئاً إذا كانت هناك مقايسة بالنسبة إلى الإنسان ، وإلاّ فلا يتصف من حيث وجوده بكونه شرّاً وسيئاً ، فالعقرب شرّ إذا قيس بالنسبة إلى الإنسان ، والسيل الجارف شر إذا قيس إلى الدور التي هدمها ، ومع عدم هذه المقايسة لا يتصف شيء بكونه سيئاً ، والآية بما أنّها في مقام توحيد الخالقية والربوبية تنسب وجود كل حادثة إلى اللّه سبحانه بما أنّه المنبع الوحيد للخلق والتقدير (1).

4. قد تبيّن ممّا ذكرناه في وجه الجمع بين نسبة الحسنات والسيئات إلى اللّه أوّلاً ، ونسبة الحسنات إليه سبحانه والسيئات إلى الإنسان ثانياً ، إنّه لا منافاة بين قوله سبحانه : ( أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2). (3)

وقوله سبحانه : ( قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرتُم ) (4).

فما يتطيّرون به إنّما يجري في الكون بأمره سبحانه فلا خالق له إلاّ هو ، غير

ص: 422


1- راجع ما حققنا في صفحة 370 من نسبة الشرور والآفات إلى اللّه.
2- الأعراف : 131.
3- ونظير ذلك قوله سبحانه : ( قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ ) ( النمل : 47 ).
4- يس : 19.

أنّ منبع الطائر ليس إلاّ نفس الإنسان وعمله الذي يجري عليه الذي يسمّيه طائراً.

5. إنّ أيّة ظاهرة في العالم مرتبطة بعلة ، وهذا قانون كلّي وعام لا يقبل - في منطق العقل - أيَّ تغيير واستثناء ، وفي هذه الصورة ينطرح سؤال وهو : كيف إذن تتحقّق معجزات الأنبياء والرسل علیهم السلام ، وفي ظل أي سبب تقع ؟

غير أنّ المحقّقين من الفلاسفة والمتكلّمين قد بحثوا حول هذاالسؤال بحثاً وافياً ، فليراجع في محله.

ص: 423

ص: 424

الفصل التاسع: التوحيد في العبادة

اشارة

ص: 425

التوحيد في العبادة

1. دوافع الشرك في العبادة.

2. لفظة العبادة في معاجم اللغة العربية.

3. هل العبادة هي مطلق الخضوع ؟

4. هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

5. التعاريف الثلاثة للعبادة.

6. الشيعة الإمامية وتهمة التفويض.

7. معنى الإلوهية وما هو ملاكها ؟

8. هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية غير المستقلة يوجب الشرك ؟

9. هل التوسل بالأسباب غير الطبيعية يُعد شركاً ؟

10. هل الحياة والموت تعدّان حداً للتوحيد والشرك ؟

11. هل تعظيم أولياء اللّه والتبرك بآثارهم أحياء وأمواتاً شرك ؟

12. هل قدرة المستغاث وعجزه من حدود التوحيد والشرك ؟

13. هل طلب الأُمور الخارقة للعادة شرك وملازم للاعتقاد بالوهية المسؤول ؟

14. هل يكون طلب الشفاعة من الصالحين ودعوتهم شركاً ؟

15. عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي.

ص: 426

1

دوافع الشرك في العبادة

اشارة

الأمر الذي كان يؤلِّف أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية هو : دعوة البشر إلى عبادة اللّه الواحد ، والاجتناب عن عبادة غيره.

فالتوحيد في العبادة وتحطيم أغلال الشرك والوثنية كان من أهم التعاليم السماوية التي تحتل مكان الصدارة في رسالات الأنبياء علیهم السلام حتى كأنّ الأنبياء والرسل لم يبعثوا - أجمع - إلاّ لهدف واحد ، هو تثبيت دعائم التوحيد ومحاربة الشرك.

لقد ذكر القرآن هذه الحقيقة - بجلاء - إذ قال :

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (1).

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (2).

ثم في موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة بأنّه الأصل

ص: 427


1- النحل : 36.
2- الأنبياء : 25.

المشترك بين جميع الشرائع السماويّة ، إذ يقول :

( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تََعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (1).

وإذا أردت أن تعرف كيف بيّن القرآن الكريم الشرك في العبادة ، أو جميع أقسامه ، وصور المشرك في فقده ما يعتمد عليه في حياته فتدبّر في الآية التالية ، إذ يقول تعالى :

( وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (2).

ولا يستطيع أيُّ تشبيه على ترسيم بطلان الشرك وضياع المشرك وخيبته وحيرته بأوضح ممّا رسمته هذه الآية الكريمة.

منشأ الشرك والوثنية

من العسير جداً إبداء الرأي في جذور الوثنية ومنشأ هذا الانحراف العقيدي ونموّه بين البشر ، خاصّة أنّ موضوع الوثنية لم يكن عند قوم أو قومين ، ولا في شكل أو شكلين ، ولا في منطقة أو منطقتين ، ليتيسّر للباحث إبداء نظر قطعي فيه وفي نشوئه.

فالوثنية عند « العرب الجاهليين » مثلاً تختلف عمّا عليها عند « البراهمة » ، وهي عند « البوذيين » تختلف عمّا هي عليها عند « الهندوس » ، فاعتقادات هذه الملل والشعوب مختلفة في موضوع الشرك ، بحيث يعسر تصوّر قدر مشترك

ص: 428


1- آل عمران : 64.
2- الحج : 31.

بينها (1).

أمّا العرب البائدة مثل عاد وثمود : أُمم هود وصالح ، ومثل سكنة مدين وسبأ : أُمم شعيب وسليمان ، فكانوا بين وثنيين وعبدة الشمس. (2) وقد ذكرت عقائدهم وطريقة تفكيرهم في القرآن الكريم.

وقد كان عرب الجاهلية من أولاد إسماعيل موحدين ردحاً من الزمن ، يتَّبعون تعاليم النبي إبراهيم وولده إسماعيل علیهماالسلام ولكن - على مرّ الزمان وعلى أثر الارتباط بالشعوب والأُمم الوثنية - حلّت الوثنية محل التوحيد في المجتمع العربي الجاهلي تدريجاً (3).

هذا حال الأُمّة العربية العائشة في تلكم النواحي ، وأمّا الأُمّة العائشة في مكة وضواحيها المقاربة لعصر الرسول صلی اللّه علیه و آله فقد نقل المؤرخون أنّ أوّل من أدخل الوثنية في مكة ونواحيها وروّجها فيها هو : « عمرو بن لحي ».

فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً :

- ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها ؟

قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا !

ص: 429


1- شرحت دوائر المعارف ، وبخاصة دائرة معارف البستاني معتقدات هذه الشعوب الآسيوية التي تعيش في رقعة كبيرة في آسيا.
2- قال سبحانه : ( وَجَدْتَهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلْشَمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ ) ( النمل : 24 ).
3- وهذا يعطي أنّ الوثنية يمتد جذورها في المجتمع العربي الجاهلي إلى زمن بعيد وإن كان دخولها إلى مكة وضواحيها ليس بذاك البعد حسب ما ينقله ابن هشام وغيره من أهل السير والتاريخ.

فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرفة ، ودعا الناس إلى عبادتها (1).

هكذا تسرّبت الوثنية إلى الحجاز وظهرت عند الأقوام والقبائل العربية المختلفة : الأصنام والآلهة المدعاة التي كانوا يعبدونها.

يرى بعض الباحثين أنّ « الوثنية » نشأت من تعظيم الشخصيات وتكريمهم ، فعندما كان يموت أحد الشخصيات كانوا ينحتون له تمثالاً لإحياء ذكراه وتخليد مثاله في أفئدتهم ، ولكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال كانت تتحول هذه التماثيل - عند تلك الأقوام - إلى معبودات ، وإن لم تقترن ساعة صنعها بمثل هذا الاعتقاد (2).

وأحياناً كان رئيس عائلة يحظى باحترام وتعظيم كبيرين - في حياته - حتى إذا مات نحتوا له تمثالاً على صورته وعكفوا على عبادته.

وفي اليونان والروم القديمتين كان ربُّ العائلة ورئيسها يعبد من قبل أهله ، فإذا توفّي عبدوا تمثاله.

وتوجد اليوم في متاحف العالم أصنام وتماثيل لرجال الدين وللشخصيات البارزة الذين كانوا - ذات يوم - أو كانت أصنامهم تعبد كما يعبد الإله.

ومن محاورة النبي إبراهيم علیه السلام مع كبير قومه : « نمرود » يستفاد - بوضوح - أنّ نمرود كان موضع العبادة من جانب قومه.

ص: 430


1- سيرة ابن هشام : 1 / 79.
2- هذا الرأي غير ثابت عند كاتب هذه السطور ، ثم ليس من المعلوم هل كان عملهم ذاك مجرد تعظيم أو عبادة.

كما يتبين بأنّ فرعون زمان موسى علیه السلام رغم أنّه كان بنفسه معبوداً عند قومه كان يعبد أصناماً ، خاصة ، لعلها كانت أشكالاً لشخصيات سابقة من أسلاف فرعون ، حيث يخبرنا القرآن الكريم قائلاً :

( وَقَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (1).

خلاصة النظر : أنّ هذه الأصنام والتماثيل كانت تنحت وتصنع بادئ الأمر لتخليد ذكرى رجال دين وزعماء وشخصيات كبار ، ولكن مع مرور الزمن وانقراض أجيال وحلول أجيال أُخرى مكانها كان هذا الهدف ينحرف عن مجراه الأصلي ، وتتحول تلك التماثيل إلى معبودات ، وتلك الأصنام إلى آلهة مزعومة.

التوحيد في العبادة

والمقصود بهذا التوحيد هو : أن نفرد خالق الكون بالعبادة ، ونجتنب عن عبادة غيره ممّا يكون مخلوقاً له تعالى ، وهذا في مقابل الشرك في العبادة الذي يعني أن يعبد الإنسان رغم اعتقاده بوحدانية خالق هذا الكون - مخلوقاً ، أو مخلوقات ، لسبب من الأسباب.

وهذا هو ما تسمّيه الوهابية بالتوحيد في الإلوهية كما تسمّي التوحيد الذاتي بالتوحيد في الربوبية ، وكلا الاصطلاحين خطأ لما عرفت من معنى الإلوهية حيث قلنا : بأنّ معناها ليس المعبودية ، بل ( الإله ، واللّه ) متساويان من حيث المبدأ والمفهوم ، غير أنّ الأوّل كلّي ، والثاني علم لواحد من مصاديق ذاك الكلّي.

ص: 431


1- الأعراف : 127.

وأمّا الربوبية فهي بمعنى التدبير والتصرّف في الكون ، لا « الخالقية » وان كان التدبير من حيث الأدلة الفلسفية لا ينفك عن الخالقية كما تقدّم تفصيله في « التوحيد في الربوبية » (1).

والأولى بل المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد الذاتي بالتوحيد في الإلوهية ، وأنّه ليس هناك إله إلاّ اللّه ، لا أنّ هناك إلهاً أعلى وهو اللّه سبحانه ، وألهة صغاراً يملكون بعض شؤونه سبحانه ، من الشفاعة والمغفرة وغيرهما مما هو من أفعاله سبحانه كما كان عليه العرب الجاهليون.

كما أنّ المتعيّن أن نعبّر عن « التوحيد في الخلق » بالتوحيد في الخالقية لا التوحيد في الربوبية ، لما عرفنا من أنّ الرب ليس بمعنى الخالق وإن كان لا ينفك عنه في الصعيد الخارجي حسب البرهان العقلي.

كما أنّ المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد في العبادة بهذا اللفظ نفسه لا بالتوحيد الالوهي ، لما عرفت من أنّ الإله ليس بمعنى المعبود.

والحاصل : أنّه ليس المطروح في هذه المرحلة من الشرك هو : تعدد الآلهة ولا الاعتقاد بأنّ للكون أجمع خالقاً غير اللّه الواحد الذي خلق الكون بما فيه من الآلهة المزعومة ، ولكن مع هذا الاعتراف ربّما تترك عبادة الإله الواحد ، ويعبد غيره.

وتختلف دوافع « عبادة المخلوق أو المخلوقات » عند الأُمم والشعوب ، فربما كانت علة بسيطة ، وأحياناً كان يتخذ الدافع صبغة فلسفية ، وفيما يلي نستعرض أهم دوافع الشرك.

ص: 432


1- الفصل الثامن.

دوافع الشرك في العبادة

اشارة

نشير - من بين الدوافع الكثيرة - إلى ثلاثة دوافع :

1. الاعتقاد بتعدّد الخالق

كان الوثنيون ومن شاكلهم من القائلين بالتثليث ، بحكم اعتقادهم بالثنوية والتثليث ، مضطرين إلى عبادة أكثر من اله.

ففي البوذية تجلّى الإله الأزلي الأبدي في ثلاثة آلهة ، أو ثلاثة مظاهر بالأسماء التالية :

1. براهما : أي الإله الموجد.

2. فيشنو : أي الإله الحافظ المبقي.

3. سيفا أي الإله المفني.

وفي النصرانية ظهر بالأسماء التالية :

1. الأب.

2. الابن.

3. روح القدس.

وفي الدين الزرادشتي اعتقد إلى جانب « اهورامزدا » بإلهين آخرين هما :

1. يزدان.

2. اهريمن (1).

ص: 433


1- وعلى هذا التفسير يصير المجوس من الثنوية بلحاظ ، ومن أهل التثليث بلحاظ آخر فتدبر.

وإن كانت عقيدة الزرادشتيين - الواقعية - في شأن هذين الإلهين الأخيرين تكتنفها هالة من الإبهام والغموض.

وعلى كل حال فإنّ الاعتقاد الذهني بتعدد الذات الإلهية كان أحد الدوافع وراء عبادة غير اللّه ، والسبب للشرك في العبادة ، وقد أبطل القرآن الكريم بالبراهين العديدة الواضحة أساس مثل هذا الاعتقاد ، وقد تقدّم البحث في تلك البراهين عند البحث عن التوحيد في الربوبية والتدبير.

2. تصوّر ابتعاد الخالق عن المخلوق

وقد كان الدافع الثاني لعبادة غير اللّه هو تصوّر ابتعاد اللّه عن المخلوق ، بمعنى أنّهم كانوا يظنون أنّ اللّه بعيد عن المخلوقين لا يسمعهم ولا تبلغه أدعيتهم وطلباتهم ، ولذلك اختاروا وسائل ظنوا أنّها تتكفّل إيصال أدعيتهم إليه ، وكأنّ المقام الربوبي كالمقامات البشرية لا يمكن الوصول إليها إلاّ عن طريق الوسائط ، ومن أجل هذا راحوا يعبدون القدّيسين والملائكة والجن والأرواح لتوصل دعواتهم إلى المقام الربوبي !.

ولقد أبطل القرآن الكريم هذه التصوّرات ببيانات متنوعة ومتعددة يقول فيها :

بأنّ اللّه أقرب من كل قريب.

وانّه تعالى يسمع سرهم ونجواهم وعلانيتهم.

وانّه تعالى محيط بما يضمرون ويعلنون.

ولذلك فلا حاجة إلى اتخاذ تلك الآلهة المصطنعة ، ولا حاجة إلى عبادتها ، إذ

ص: 434

لو كان الهدف من عبادتها هو توسطهم لإيصال مطالبهم إلى اللّه ، فاللّه يعلم بها جميعاً ، وهو الذي لا يعزب عنه شيء :

وجاء كل هذا في الآيات التالية :

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ ) (1).

( أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) (2). (3)

( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (4). (5)

( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (6).

( مَا يَكُونُ مِنْ نَجوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ) (7).

وبهذه الآيات وغيرها يبطل القرآن الكريم هذا الدافع للوثنية والشرك.

3. تفويض التدبير إلى صغار الآلهة

يجد كل إنسان في قرارة نفسه الخضوع للقدرة العليا ، ويستصغر نفسه في قبالها ، ومثل هذا الإحساس الفطري وإن لم يظهر على اللسان والجوارح الأُخرى لكنّه يكمن في قرارة الضمير في صورة نوع من الإحساس بالخضوع ، هذا من

ص: 435


1- ق : 16.
2- الزمر : 36.
3- نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه ، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.
4- غافر : 60.
5- نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه ، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.
6- آل عمران : 29.
7- المجادلة : 7.

جانب ، ومن جانب آخر اعتاد على التعامل مع الموجودات المحسوسة فيريد صبَّ كلِّ أمر في قالب المحسوس.

وعلى هذا الأساس يريد المشرك أن يصبَّ القوى الغيبية في صورة الأجسام المشاهدة ، والأشكال المنظورة ، أضف إلى ذلك أنّه لقصور فكره ، أو لتصوّر أنّ كل حادثة في هذا الكون أُنيطت إلى قوّة قاهرة هي أيضاً مخلوقة لله كإله البحر ، وإله الحرب ، وإله السلام ، وكأنّ حكومة الكون مثل حكومات الأرض يفوض فيها كل جانب من جوانب الحياة إلى واحد ، وتكون هذه القدرة مختارة فيما تريد ، وفعالة لما تشاء !!

من أجل هذا عبد سكنة شواطئ البحار إله البحر ، لكي يجود عليهم بنعم البحر ويدفع عنهم آفاته وغوائله ، كالطوفان ; فيما عبد سكنة الأراضي والصحارى إله البر ، ليفيض عليهم بمنافعها ، ويدفع عنهم مضارها ، كالزلزال وما شابه ذلك من آفات الأرض ، وغوائل الصحراء.

ولكن حيث إنّهم ما كانوا متمكنين من رؤية هذه الآلهة التي توهموها واخترعوها ، فافترضوا لها صوراً خيالية ، وأشكالاً وهمية ، ونحتوا على غرارها تماثيل وأصناماً ، وراحوا يعبدون هذه الأصنام المصنوعة بدلاً عن عبادة القوى الغيبية نفسها التي تمثلها هذه الأصنام - كما في زعمهم -.

لهذا السبب كان بين عرب الجاهلية فريق يعبد الملائكة ، وفريق آخر يعبد الجن ، وثالث يعبد الكواكب الثابتة كالشعرى ، ورابع يعبد الكواكب السيارة ، وكان الهدف من عبادتها - جميعاً - هو جلب خيرها ونفعها ، واجتناب ضررها وشرورها.

ولقد كانوا يتمتعون - في صنع التماثيل والأصنام - بسعة نظر خاصة ، فهم لم

ص: 436

يلزموا أنفسهم بأن يصنعوا ما ينطبق على الصور الواقعية لتلك الأشياء ولذلك كانوا يصنعون لكل واحد من الآلهة الموهومة أصناماً لا تشبه صورها الواقعية أبداً كإله الحرب ، وإله السلام ، وإله الحب ، ولكن في كل هذه الموارد كان الدافع الوحيد هو صب الأُمور الغيبية في قالب المحسوسات ، وحيث إنّ هذه الأرباب والآلهة ( الصغار ) لم تكن بذاتها في متناول الإحساس ، وكان للكواكب طلوع وأُفول ، وكان التوجه إليها لا يخلو - لذلك - من مشقة فتوجهوا صوب تماثيلها ، وصاروا إلى عبادتها.

ولقد انتقد القرآن وندّد بشدَّة بفكرة تفويض القدرة وأمر تدبير الكون إلى الآلهة الصغار المدعاة المخلوقة لله ، ووصف اللّه - في مواضع عديدة - بأنّه المدبّر الوحيد لأُمور الكون حيث يقول :

( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) (1). (2)

لقد جعل القرآن الكريم - في آيات كثيرة - الخلق الأحياء والإماتة وتسيير الكواكب والأفلاك وتنظيم الشمس والقمر والأرزاق ، أفعالاً مختصة باللّه تعالى (3) وندّد بعنف وشدة بكلّ فكرة تقتضي بإشراك أيّة قدرة مع اللّه ، وكلِّ فكرة تقول بتفويض تدبير الأُمور الكونية إلى مخلوقاته.

إنّ الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن من الكثرة بحيث يعسر نقل

ص: 437


1- يونس : 3.
2- راجع الرعد : 2 والسجدة : 5.
3- اختصاص هذا النوع من الأُمور باللّه لا يمنع من توسيط الأسباب التي تعمل هي أيضاً بأمر اللّه ومشيئته ويكون قدرتها في طول القدرة الإلهية ، وواضح أنّ الإتيان بتلك الأُمور عن طريق الأسباب لا يعني تفويض أمر الكون إليها ، وقد وافاك حق القول في هذا الأمر ، عند البحث عن التوحيد في الربوبية والتدبير فلاحظ.

عشرها هنا ، ولكن للاطّلاع نذكر ونورد بعض هذه الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمْ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ والقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (1).

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (2).

* * *

إلى هنا بيّنا ثلاثة دوافع للإشراك باللّه في العبادة ولن ندّعي - مطلقاً - بأن لا يكون ثمة دافع آخر للشرك غير ما ذكرناه ، ولكن الدوافع التي ينتقدها القرآن الكريم تكون أساس نشوء الشرك وانتشاره في العالم.

إنّ المسلم المعتقد بإله الكون ، الإله الواحد ، الإله الحاضر في كل مكان ، القريب إلى عباده ، الإله الذي بيده الخلق المدبّر للكون بنفسه الذي لم يعط أمره ولم يفوضه إلى أحد.

إنّ المسلم مع هذا الاعتقاد ، لا يمكن أن يتخذ معبوداً سوى اللّه ، بل لا تكفي عبادته وحده ، إنّما يجب عليه أن يحارب عقائد الشرك والوثنية ، وأن لا يرضى بتجاوز أحد عن دائرة التوحيد لحظة واحدة.

* * *

ص: 438


1- الأعراف : 54.
2- يونس : 31 - 32.

وحول الدافع الثالث نذكّر بنكتة مهمة وهي : أنّه قد يمكن أن يعتقد أحد بأنّ أمر الكون كلّه لله ، ولم يسلّم هذا النوع من الأُمور إلى غيره ، ولكن يعتقد بأنّ الأُمور المعنوية التي ترتبط بأعمال العباد كالشفاعة والمغفرة مما تكون من الأُمور المختصة باللّه فإنّه يمكن أن يعطيها اللّه للأفراد ، وهذا هو أحد دوافع عبادة غير اللّه ، ولقد جعل القرآن الكريم : الشفاعة - بصراحة تامة - محض حق لله فلا يمكن لأحد أن يشفع بدون إذنه ، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1).

كما جعل الغفران والمغفرة لذنوب عباده حقاً مختصاً به سبحانه لا يشاركه فيه أحد غيره ، ومن زعم أنّ المغفرة بيد غيره سبحانه فقد أشرك ، قال تعالى :

( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) (2).

ولقد كان فريق من وثنيي عصر الرسالة يعبدون الأصنام التي كانوا يتصوّرون أنَّها من ذوي النفوذ عند اللّه ، وأنّها أُنيطت إليها أُمور الشفاعة والمغفرة.

وسوف نتحدث في البحوث القادمة حول هذا النوع من الشرك الذي هو أضعف أنواعه ، وإذا تبيّنت هذه الدوافع واتضحت لنا كيفية انتقاد القرآن الكريم لها يلزم أن نلتفت إلى ما يذكره أغلب كتّاب الوهابيين ومؤلّفيهم في كتبهم.

لم يزل مؤلفو الوهابية يعترفون بنوعين من التوحيد ، ويسمّون النوع الأوّل من التوحيد ب « التوحيد الربوبي » ويسمون النوع الآخر ب « التوحيد الالوهي » ثم يذكرون انّ التوحيد الربوبي ، والاعتقاد بوحدانية الخالق لا يكفي بمجرده في

ص: 439


1- الزمر : 44.
2- آل عمران : 135.

التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسول الأعظم خاصة من أجل إقراره ونشره في المجتمع الإنساني ، بل يجب - علاوة على التوحيد الربوبي - أن يفرد اللّه بالعبادة ولا يشرك به أحد ، لأنّ مشركي العرب مع أنّهم كانوا يوحدون خالق الكون ويعتقدون بأنّه واحد لا أكثر ، فإنّ القرآن كان يعتبرهم مشركين ، إذ يقول :

( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (1). (2)

ولا كلام في هذا المطلب ، وليس من المسلمين أحد يتحلّى بالواقعية ينكر عدم كفاية التوحيد الربوبي وحده ، بل للتوحيد - كما أسلفنا - مراحل أربع وإن اقتصر الوهابيون على مرحلتين منها ونسوا أو تناسوا المرحلتين الأُخريين.

غير أنّ الجدير بالذكر هو : انّه لا يختلف أحد مع هؤلاء في هذه المسألة الكلية ، فالجميع متفقون على وجوب الاجتناب عن عبادة غير اللّه ، ولكن المهم هو أنّ الوهابيين يتصورن أنّ تعظيم الأنبياء ، وأولياء اللّه - مثلاً - عبادة ، في حين أنّ بين التعظيم والعبادة - في نظر الآخرين - بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً.

وبعبارة أُخرى : ليس بين المسلمين خلاف في هذا الأصل الكلي ، وهو عدم جواز عبادة غير اللّه أبداً ، وإنّما الخلاف هو في نظر الفرقة الوهابية إلى بعض الأعمال - كالزيارة مثلاً - حيث اعتبرتها عبادة ، في حين لا تكون هذه الأعمال عبادة في نظر الآخرين.

ص: 440


1- يوسف : 106.
2- فتح المجيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ( المتوفّى عام 1285 ه ) ص 12 و 20 ، وهذا الأمر يدرّس الآن في المناهج الدراسية عندهم ، ويؤكدون على هذين النوعين من التوحيد ثم يتهمون المسلمين بأنّهم موحدون ربوبياً لا الوهياً. وقد عرفت في ما مضی أنّ تسمية التوحيد في الخالقية بالتوحيد الربوبي، وتسمية التوحيد في العبادة بالتوحيد الالوهي خطأ من حيث اللغة ومصطلح القرآن فلاحظ الصفحة 431.

وبصيغة علمية لابد أن نقول : ليس الخلاف في الكلي وإنّما الخلاف هو في تعيين المصداق.

ولأجل حل هذه المشكلة لابد - أوّلاً - من التعرّف على المفهوم الواقعي للعبادة لنميّز في ضوء ذلك : العبادة عن غيرها.

وهكذا أيضاً يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأُمور التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسّل بأولياء اللّه ، وطلب الحاجة منهم ، في حين يخالفهم المسلمون في ذلك ، فيجوّزون هذه التوسّلات ، ويعتبرونها نوعاً من الأخذ والتمسك بالأسباب ، الذي ورد في الشرع الشريف.

ص: 441

2

هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم ؟

اشارة

لأئمّة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة ، فهم يفسرون العبادة بأنّها « الخضوع والتذلّل » وإليك فيما يلي نصَّ أقوالهم :

1. يقول ابن منظور في « لسان العرب » : أصل العبودية : الخضوع والتذلّل.

2. ويقول الراغب في « المفردات » : العبودية إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ، لأنّها غاية التذلّل ، ولا يستحق إلاّ من له غاية الأفضال ، وهو اللّه تعالى ، ولهذا قال : ( أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيّاه ) (1) ».

3. وفي « القاموس المحيط » للفيروز آبادي : العبادة : الطاعة.

4. وقال ابن فارس في المقاييس : العبد له أصلان كأنّهما متضادان ، والأوّل من ذينك الأصلين يدل على لين وذل ، والآخر على شدة وغلظ.

ثم أتى بموارد المعنى الأوّل وقال :

من الباب الأوّل : البعير المعبد أي المهنوء بالقطران ، وهذا أيضاً يدل على ما

ص: 442


1- يوسف : 40 ، الإسراء : 23.

قلناه ، لأنّ ذلك يذلّه ويخفض منه. والمعبد : الذلول ، يوصف به البعير أيضاً.

ومن الباب : الطريق المعبد ، وهو المسلوك المذلّل.

بيد أنّ العبادة وإن فسروها بالطاعة والخضوع والتذلل ، أو إظهار نهاية التذلّل ، لكن جميع هذه التعاريف ما هي إلاّ نوع من التعريف بالمعنى الأعم ، لأنّ الطاعة والخضوع وإظهار التذلّل ليست - على وجه الإطلاق - عبادة ، لأنّ خضوع الولد أمام والده ، والتلميذ أمام أُستاذه ، والجندي أمام قائده ، لا يعد عبادة مطلقاً مهما بالغوا في الخضوع والتذلّل ، وتدل الآيات - بوضوح - على أنّ غاية الخضوع والتذلّل ، فضلاً عن كون مطلق الخضوع ، ليست عبادة ، ودونك تلك الآيات :

سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (1).

فالآية تدل على أنّ آدم وقع مسجوداً للملائكة ، ولم يحسب سجودهم شركاً وعبادة لغير اللّه ، ولم تصر الملائكة بذلك العمل مشركة ، ولم يجعلوا بعملهم نداً لله وشريكاً في المعبودية ، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه.

وهذا هو نفسه خير دليل على أنّه ليس كل تعظيم أمام غير اللّه عبادة له ، وأنّ جملة : ( اسْجُدُوا لآدَمَ ) وإن كانت متحدة مع جملة : ( اسْجُدُوا للهِ ) إلاّ أنّ الأوّل لا يعد أمراً بعبادة غيره سبحانه ويعد الثاني أمراً بعبادة اللّه (2).

ويمكن أن يتصور - في هذا المقام - أنَّ معنى السجود لآدم - في هذه الآية -

ص: 443


1- البقرة : 34.
2- وهذا يدل على أنّ الاعتبار إنّما هو بالنيات والضمائر لا بالصور والظواهر.

هو الخضوع له ، لا السجود بمعناه الحقيقي والمتعارف ، ومعلوم أنّ مطلق الخضوع ليس عبادة ، بل « غاية الخضوع » التي هي السجود ، هي التي تكون عبادة.

أو يمكن أن يتصوّر أنّ المقصود بالسجود لآدم هو جعله « قبلة » لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصوّرين باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر ، والمتفاهم العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة - في اللغة والعرف - هو الهيئة السجودية المتعارفة لا الخضوع ، كما أنّ التصوّر الثاني هو أيضاً باطل ، لأنّه تأويل بلا مصدر ولا دليل.

هذا مضافاً إلى أنّ آدم علیه السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان ، إذ قال :

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (1).

لأنّه لا يلزم - أبداً - أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه ، بل اللازم هو : كون المسجود له أفضل من الساجد ، في حين أنّ آدم لم يكن أفضل في نظر الشيطان منه ، وهذا ممّا يدلّ على أنّ الهدف هو السجود لآدم.

يقول الجصاص : ومن الناس من يقول إنّ السجود كان لله وآدم بمنزلة القبلة لهم ، وليس هذا بشيء ، لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة ، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضلاً مكرماً ، ويدل على أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم علیه السلام وتفضيله ، قول إبليس فيما حكى اللّه عنه :

ص: 444


1- الإسراء : 61.

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) (1) ، فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل اللّه وتكرمته بأمره إيّاه بالسجود له ، ولو كان الأمر بالسجود له على أنّه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تحسد كالكعبة المنصوبة للقبلة (2).

وعلى هذا فمفهوم الآية هو أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر اللّه سجوداً واقعياً ، وانّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر اللّه ، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم ، ولكنهم - مع ذلك - لم يكونوا ليعبدوه.

وما ربما يتصور من أنّ سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له ، إنّما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر ، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال الذي يردّده كثير من الوهابيين في المقام.

انّ القرآن يصرح بأنّ أبوي يوسف وإخوته سجدوا له ، حيث قال :

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَ يَا أَبَتِ هذَا تَأْويلُ رُؤيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً ) (3).

ورؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة :

( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (4).

وقد تحققت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود أخوة يوسف وأبويه

ص: 445


1- الإسراء : 61 - 62.
2- أحكام القرآن : 1 / 302.
3- يوسف : 100.
4- يوسف : 4.

له ، وعبَّر القرآن - في كل هذه الموارد - بلفظ السجود ليوسف.

ومن هذا البيان يستفاد - جلياً - أنّ مجرد السجود لأحد بما هو هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليس عبادة ، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل.

3. يأمر اللّه تعالى بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهم ، الذي هو كناية عن الخضوع الشديد ، إذ يقول :

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (1).

ومع ذلك لا يكون هذا الخفض : عبادة.

4. إنّ جميع المسلمين يطوفون - في مناسك الحج - بالبيت الذي لا يكون إلاّ حجراً وطيناً ، ويسعون بين الصفا والمروة وقد أمر القرآن الكريم بذلك ، حيث قال :

( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ) (2).

( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (3).

فهل ترى يكون الطواف بالتراب والحجر والجبل (4) عبادة لهذه الأشياء ؟

ص: 446


1- الإسراء : 24.
2- الحج : 29.
3- البقرة : 158.
4- المسلمون كلهم يستلمون الحجر الأسود - في الحج - واستلام الحجر الأسود من مستحبات الحج ، وهذا العمل يشبه من حيث الصورة ( لا من حيث الواقعية ) أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين انّ هذا العمل يعد في صورة شركاً ، وفي أُخرى لا يعد شركاً بل يكون معدوداً من أعمال الموحدين المؤمنين ، وهذا يؤيد ما ذكرناه آنفاً من أنّ الملاك هو النيات والضمائر لا الصور والظواهر وإلاّ فهذه الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنيين.

ولو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضرباً من الشرك المجاز المسموح به ، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

5. انّ القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلّى عندما يقول : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلّىً ) (1).

ولا ريب في أنّ الصلاة إنّما هي لله ، ولكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى فيه أثر قدميه أيضاً نوع من التكريم لذلك النبي العظيم ولا يتصف هذا العمل بصفة العبادة مطلقاً (2).

6. إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر كما يقول سبحانه :

( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزةٍ عَلَى الكَافِرينَ ) (3).

إنّ مجموع هذه الآيات من جانب ومناسك الحج وأعماله من جانب آخر تدل على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل ، أو التكريم والاحترام ليس عبادة ، وإذا ما رأينا أئمّة اللغة فسّروا العبادة بأنّها الخضوع والتذلّل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع ، أي أنّهم أطلقوا اللفظة وأرادوا بها المعنى الأعم ، في حين أنّ العبادة ليست إلاّ نوعاً خاصاً من الخضوع سنذكره عما قريب.

ص: 447


1- البقرة : 125.
2- ثم إنّ بعض من يفسر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات بأنّ السجود لآدم أو ليوسف حيث كان بأمر اللّه سبحانه فبذلك خرج عن كونه شركاً. وسنرجع إلی هذا البحث تحت عنوان «هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير الشرك»؟ فلاحظ.
3- المائدة : 54.

ومن هذا البيان يمكن أيضاً أن نستنتج أنّ تكريم أحد واحترامه ليست - بالمرة - عبادة ، لأنّه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين ، لأنّهم أيضاً كانوا يحترمون من يجب احترامه.

وقد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( وهو أوّل من أدرك - في عصره - عقائد الوهابية وأخضعها للتحليل ) أشار إلى ما ذكرنا ، إذ قال :

لا ريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلاّ لله ، ومن أتى بها لغير اللّه فقد كفر ، مطلق الخضوع والانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة ، وإلاّ لزم كفر العبيد والأُجراء وجميع الخدّام للأُمراء ، بل كفر الأنبياء في خضوعم للآباء (1).

تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي

نعم ربما تستعمل لفظة العبادة وما يشتق منها في موارد في العرف واللغة ، ولكن استعمال لفظ في معنى ليس دليلاً على كونه مصداقاً حقيقياً لمعنى اللفظ ، بل قد يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما ، وإليك هذه الموارد :

1. العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته ، ويفقد تجاه طلباتها عنان الصبر ، ومع ذلك لا يسمّى مثل هذا الخضوع عبادة ، وإن قيل في حقّه مجازاً انّه يعبد المرأة.

2. الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم - تحت نداءات

ص: 448


1- راجع منهج الرشاد : 24 ، طبع 1343 ه تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( المتوفّى عام 1228 ه ). وقد ألّف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أُمراء السعودية الذين كانوا مروّجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.

النفس الأمّارة - زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى ، ولا عدهم مشركين ، كمن يعبد الوثن ، ولو قيل في شأنه أنّه يعبد هواه ، فإنّ ذلك نوع من التشبيه وضرب من التجوّز.

فها هو القرآن يسمي الهوى إلهاً ، ويلازم ذلك كون الخضوع للهوى : عبادة له ، لكن مجازاً ، إذ يقول :

( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (1).

فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوّز ، فكذا إطلاق العبادة على متابعة الهوى هو أيضاً ضرب من المجاز.

3. هناك فريق من الناس يضحّون بكل شيء في سبيل الحصول على جاه ومنصب ، حتى ليقول الناس في حقّهم : إنّهم يعبدون الجاه والمنصب ، ولكنّهم في نفس الوقت لا يعدّون عبدة حقيقيّين للجاه ، ولا يصيرون بذلك مشركين.

4. انّ المتوغّلين في العنصرية - كبني إسرائيل - وفي الأنانية ، الذين لا يهمّهم إلاّ المأكل والمشرب رغم أنّهم يطلق عليهم بأنّهم عباد العنصر والنفس والشيطان ، ولكن الوجدان يقضي بأنّ عملهم لا يكون عبادة ، وأنّ اتباع الشيطان شيء وعبادته شيء آخر.

وإذا ما رأينا القرآن الكريم يسمّي طاعة الشيطان « عبادة » ، فذلك ضرب من التشبيه ، والهدف منه هو بيان قوة النفرة وشدّة الاستنكار لهذا العمل ، إذ يقول :

( ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (2).

ص: 449


1- الفرقان : 43.
2- يس : 60 - 61.

ومثل هذه الآية الآيتان التاليتان :

1. ( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (1).

2. ( أَنُؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (2).

لا شك في أنّ بني إسرائيل ما كانت تعبد فرعون وملأه ، غير أنّ استذلالهم لمّا بلغ إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.

والقرآن وإن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة ، لكن لا بمعنى أنّه جعلهم في عداد المشركين ، فلا يمكن التصديق بأنّ كل خضوع وطاعة وكل تكريم واحترام « عبادة » ، وعند ذاك يستكشف أن استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة ، وعلاقة مجازية.

وبعبارة أُخرى : أنّ عبّاد الهوى والنفس والجاه و ... وإن كانوا يعتبرون مذنبين ، تنتظرهم أشدُّ العقوبات إلاّ أنّه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

كيف لا ، ونحن نقرأ في الحديث الشريف :

« من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه ، وإن كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه » (3).

فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام ويصغون إلى أحاديث المتحدّثين والمذيعين من الراديو والتلفزيون ، وأكثر أُولئك المتحدّثين ينطقون عن غير اللّه ، فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنّهم عبدة لأُولئك

ص: 450


1- مريم : 44.
2- المؤمنون : 47.
3- سفينة البحار : ج 2 مادة عبد.

المتحدّثين ؟

بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز ، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

فلطالما يتردد في لسان العرف بأنّ فلاناً عبد البطن أو عبد الشهوة فهل يكون هؤلاء - حقاً - عبدة البطن والشهوة ، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحّدون أمام خالق الكون ، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.

هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

ربما يقال أنّ سجود الملائكة لآدم ، واستلام الحجر الأسود ، وما شابههما من الأعمال لما كان بأمر اللّه ، لا يكون شركاً ، ولا يعد فاعلهاً مشركاً (1).

وبعبارة أُخرى : أنّ حقيقة العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام ، ولكن لما كانت تلك الأعمال مأتياً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.

ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً ، وهي :

إنّ تعلق الحكم بموضوع لا يغيّر - بتاتاً - حقيقة ذلك الموضوع ، ولا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدل ماهيته.

إنّ العقل السليم يقضي بأنّ سب أحد وشتمه إهانة له - طبعاً - وذلك شيء تقتضيه طبيعة السباب والفحش والشتم ، فإذا أوجب اللّه سب أحد وشتمه - فرضاً - فإنّ أمر اللّه لا يغيرّ ماهية السب والشتم - أبداً -.

ص: 451


1- القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.

كما أنّ الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد ، واحترام للضيف ، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل ، أعني : الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً ، لتصير إهانة في صورة تحريمها ، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه ولو تعلّق بها تحريم ، فإذا عُدّت أعمال - كالسجود واستلام الحجر الأسود وما شابههما - عبادة ذاتاً ، فإنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهيتها ، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر ، وما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً وطبيعة ، ولكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك ، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز ، وهو قول لا يقبله أي إنسان.

والخلاصة : أنّ المسألة تدور مدار أمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة - بطبيعتها - عن مفهوم الشرك ، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة ، ولكنّها شرك أذن اللّه به وأجازه !!

والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلاً عن الذهاب إليه ، وسيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبار تعظيماً وتواضعاً ، وباعتبار آخر شركاً ، فلو كانت الملائكة - مثلاً - تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً ، وإن أمر اللّه به - على وجه الافتراض - ، وأمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جل شأنه.

نعم ورد في بعض الروايات - وإن لم يتحقق سنده - عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام أنّه لما سئل أيصلح السجود لغير اللّه ؟

فقال : « لا ».

قيل : فكيف أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم ؟

ص: 452

فقال : « إنّ من سجد بأمر اللّه فقد سجد لله إذ كان عن أمر اللّه تعالى » (1).

فإنّ المقصود من هذه الرواية - على فرض صحتها سنداً - هو أنّ السجود كان تعظيماً لآدم وتكريماً له ، وهو في الحقيقة عبادة لله لكونه بأمره.

وتوضيحه أنّ نفس العمل ( أعني : السجود ) كان تعظيماً لآدم غير أنّ الإتيان بهذا العمل حيث كان لامتثال أمر اللّه كان عبادة له سبحانه ، بحيث لولا أمره تعالى لكان العمل - في حد نفسه - جائزاً لكونه تعظيماً ، ونظيره تعظيم العالم واحترامه ، فإنّه لا بداعي أمره سبحانه تعظيم للعالم فقط ، وبداعي الأمر تعظيم له وطاعة لله سبحانه ، وهذا غير القول بأنّ ذات العمل كان شركاً ، ولكن أمر اللّه استلزم تغيره فلم يعد شركاً.

ويؤيد ما قلناه ما عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه علیهم السلام أنّ يهودياً سأل أمير المؤمنين ( علياً علیه السلام ) عن سجود الملائكة لآدم ، فقال الإمام في جوابه :

« إنّ سجودهم [ أي الملائكة ] لم يكن سجود طاعة [ بمعنى ] أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ وجلّ ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة » (2).

وأيضاً ما جاء عن الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ( علي ) علیهم السلام قال :

« قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كان سجودهم لله عز وجلّ ولآدم إكراماً » (3).

وبهذا تبيّن انّ السجود كان - بطبيعته - تعظيماً لآدم وتكرمة له ، وهو في

ص: 453


1- الاحتجاج للطبرسي : 31 - 32.
2- الاحتجاج للطبرسي : 111.
3- عيون الأخبار : 45. نعم لا يوافق مضمون هذا الحديث مضمون ما تقدم من الحديثين حيث إن ما تقدمه جعل السجود لآدم، وهذا جعله اللّه سبحانه ، نعم ما يشتركان فيه هو أنّ السجود كان إكراماً وتعظيماً لآدم، ولأجل ذلك ذكرنا الأحاديث في مقام واحد.

الحقيقة عبادة لله تعالى لكونه بأمره وهو مختار جماعة من المفسّرين.

وتبيّن من ذلك أنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهية هذا العمل ، بل ما يقترن به من الاعتقاد هو الدخيل في كونه شركاً أو لا.

ومن هذا البيان أيضاً علم مفاد الرواية المروية عن الإمام الصادق علیه السلام التي نقلناها عما قريب.

نعم أنّ للأمر الإلهي فائدة هي : أنّه لو نسب أحد أفعاله إلى الأمر الإلهي وأتى بها على أنّها فريضة أو سنّة مندوبة شرعاً ، وجعلها جزءاً من شريعته وكان الواقع يؤيد تلك النسبة ، خرج عمله عن موضوع البدعة ، وخرج هو عن كونه مبتدعاً في الدين ، لأنّ « البدعة : إدخال ما ليس من الدين في الدين ».

لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها ، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود ، إذ قال - ما مضمونه - : إني أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أنّي رأيت النبي صلی اللّه علیه و آله يقبّلك لما قبّلتك (1).

وقد قيل للشيخ : إنّ مفاد كلامكم هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز إذن ؟

ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (2).

فلو كانت ماهية السجود لآدم علیه السلام واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم والحجر وشركاً لما كان اللّه سبحانه يأمر بها - أبداً -.

ص: 454


1- صحيح البخاري : 3 / 149 ، كتاب الحج ، طبعة عثمان خليفة.
2- الأعراف : 38.

3

العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المعبود وربوبيته واستقلاله في فعله

اشارة

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض ، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان ، والعبادة كما هي واضحة مفهوماً ، فهي واضحة - كذلك - مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم ، فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته ، واحتضان ثيابها شوقاً ، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت ، لا يدعى عبادة للمعشوقة.

كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات ، والوفود إلى مقابرهم لزيارتها والوقوف أمامها احتراماً ، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد عبادة - أبداً - وإن كانت هذه الأفعال تبلغ - في بعض الأحايين - من حيث شدّة الخضوع إلى درجة كبيرة ، إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل - في مثل هذا البحث - لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة ، دون حاجة إلى تكلّف ، ولكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن

ص: 455

نعرّفها بثلاثة تعاريف :

التعريف الأوّل

العبادة : هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب « إلوهية » المخضوع له ; وسيوافيك معنى « الإلوهية ».

وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير ، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران :

الأوّل : انّ العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون بالوهية معبوداتهم.

الثاني : أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بإلوهية المعبود ، وانّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.

فهنا دعويان :

الأُولى : انّ العرب الجاهليين بل الوثنيين كلّهم وعبدة الشمس والكواكب والجن ، كانوا يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم « الإله الكبير » الذي نسمّيه « اللّه » سبحانه.

الثانية : انّ الظاهر من الآيات هو انّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول والعمل الناشئين من الاعتقاد بالإلوهية ، إلوهية صغيرة أو كبيرة.

أمّا الدعوى الأُولى ، فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها :

ص: 456

يقول سبحانه :

( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (1).

( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ ) (2).

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (3).

( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخرى ) (4).

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ) (5).

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم ، وقد فسر الشرك في بعض الآيات باتخاذ الإله مع اللّه ، وذلك عندما يقول سبحانه : ( وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (6).

ولذلك يفسر القرآن حقيقة الشرك ب « اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم » ، إذ قال سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (7).

ص: 457


1- الحجر : 96.
2- الفرقان : 68.
3- مريم : 81.
4- الأنعام : 19.
5- الأنعام : 74.
6- الحجر : 94 - 96.
7- الطور : 42.

ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بإلوهية غير اللّه هو الملاك للشرك ، والمراد هنا « الشرك في العبادة ».

وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلى هذه الحقيقة - بوضوح تام - أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بإلوهيتها ، بل يمكن استظهار أن شركهم كان لأجل اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم ، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدّمون لهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية ، وبما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه ، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه :

( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلا اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (1).

أي يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل أنّها آلهة - حسب تصوّرهم -.

ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي اللّه وحده كفروا به لأنّهم لا يحصرون الإلوهية به وإذا أشرك به آمنوا ، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه :

( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ) (2).

إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء.

وأمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة اللّه ، وتنهى عن عبادة غيره ، مدللاً ذلك بأنّه لا إله إلاّ اللّه ، إذ يقول :

( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَالَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرَهُ ) (3).

ص: 458


1- الصافات : 35.
2- غافر : 12.
3- الأعراف : 59.

ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً ، وليس هو إلاّ اللّه ، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله ؟! وكيف تتركون عبادة اللّه وهو الإله الذي يجب أن يُعبد دون سواه ؟!

وقد ورد مضمون هذه الآية في (10) موارد أو أكثر في القرآن الكريم ، ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع - لذلك - الآيات التالية :

الأعراف : 65 ، 73 ، 85 ، هود : 50 ، 61 ، 84 ، الأنبياء : 25 ، المؤمنون : 23 ، 32 ، طه : 14.

فهذه التعابير ( التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف ) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بإلوهية المعبود ، إذ نلاحظ - بجلاء - كيف أنّ القرآن استنكر على المشركين عبادة غير اللّه بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة ، وإنّ العبادة من شؤون الإلوهية ، فإذا وجد هذا الوصف ( أي وصف الإلوهية ) في الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً ، وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في اللّه سبحانه لذلك يجب عبادته دون سواه.

سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة ، فالمشركون كانوا معتقدين بإلوهية الأوثان ، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح ، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة ، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بالوهيتها ، وهذا لا يدل على دخول مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة كما هو المدّعى ، أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد ، في مفهومها.

ص: 459

وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.

وأمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية ، بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.

وأمّا الجواب فنقول : إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ « الاعتقاد بالإلوهية » داخل في « مفهوم العبادة » وضعاً ، حتى يقال انّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شؤون الإلوهية ، وهذا غير القول باندراج مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة ، إنّما المراد أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع والتذلّل ، بل أضيق وأخص منهما وهذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته ، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا الضيق بأنّه خضوع « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية » كما سيوافيك في التعريف الثاني ، لا أنّ هذه الجملة ( ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية والربوبية ) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة ، ومعناها.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شيء بنوعه وفصله ، أو حدّه ورسمه حتى يحدّه تحديداً عقليّاً لا خدشة فيه ، ولكنّه يجد في نفسه ما هو بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين ، والأمر فيما نحن فيه كذلك ، إذ نجد أنّ التعظيم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة وغيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها ، ويجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها ، ولكنه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه وهي ما ذكرناها : « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية » ويضعها مكان الفصل.

وبعبارة ثالثة : انّ الإنسان يجد أنّ « العبادة » ليست مطلق التعظيم ونهاية

ص: 460

التذلّل ، بل هي من خصائص من بيده شؤون الإنسان كلها ، أو شأناً من شؤونه مما به قوام حياته عاجلاً أو آجلاً من الموت والحياة ، والخلق والرزق ، والسعادة والشقاء ، والمغفرة والشفاعة ، فيدير شؤونه ويخطط مصيره حسب ما يليق به.

غير أنّ هذه الجمل ليست بتفصيلها داخلة في « مفهوم » العبادة. ولكنّه يشار إلى تلك الخصوصية الكامنة والضيق الموجود فيها ، بهذه الجمل والتفاصيل ، وحاشا أن تؤخذ هاتيك الجمل فيها بطولها.

وعلى ذلك فيصح أن يقال : العبادة قسم خاص من التواضع والخضوع لفظياً أو عملياً ، ( يؤتى به لتعظيم ما يعتقده العابد بإلوهيته ) ، وما وقع بين الهلالين وإن كان خارجاً عن مفهوم العبادة ، إلاّ أنّه يبيّن ماهو المقصود من القسم الخاص من الخضوع في أوّل العبارة.

ولذلك نظائر في العرف والعادة ، مثلاً :

1. يعرف القوس بأنّه قطعة من الدائرة ، ولا شك أنّه من باب زيادة الحد على المحدود ، إذ لا يعتبر في صدق القوس كونه قطعة من الدائرة ، بل هو يصدق وإن لم يكن قطعة منها ( أي من الدائرة ) ، إذ هو ( أي القوس ) عبارة عن سطح يحيط به خيط مستدير ينتهي طرفاه بنقطتين ، من غير اعتبار كونه بعضاً من الدائرة.

إلاّ أنّ أخذ هذا القيد ، ( أعني : كونه بعض الدائرة ، من باب بيان الخصوصية الموجودة فيه بحيث لو انضم إليه قوس آخر لتحقّقت الدائرة.

2. إنّ اللغويين يفسرون الصهيل بأنّه صوت الفرس ، والزقزقة بأنّها صوت العصفور ، فليس الفرس والعصفور داخلين في مفهومهما البسيطين ، وإنّما جيء

ص: 461

بقيد الفرس والعصفور ، للإشارة إلى تعيين صوت خاص.

* * *

إلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال : العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بإلوهية المعبود ، وإلى ذلك يشير آية اللّه الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي ، في تفسيره المسمّى ب « آلاء الرحمن » في معرض تفسيره وتحليله لحقيقة العبادة : العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلوهية (1).

لقد صب العلاّمة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ والبيان. والآيات المذكورة تؤيد صحة هذا التعريف واستقامته.

التعريف الثاني

العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وآجله وعاجله.

وتوضيح ذلك : انّ العبودية من شؤون المملوكية ومن مقتضياتها ، فعندما يحس العابد في نفسه بنوع من المملوكية ، ويحس في الطرف الآخر بالمالكية ، يفرغ إحساسه هذا - في الخارج - في ألفاظ وأعمال خاصة ، وتصير الألفاظ والأعمال تجسيداً لهذا الإحساس ، ويكون كل عمل أو لفظ مظهراً لهذا الإحساس العميق عبادة ، ولا شك أنّ المقصود بالمالكية ليس مطلق المالكية ، فالاعتقاد بالمالكية القانونية والاعتبارية لا يكون - أبداً - موجباً لصيرورة الخضوع عبادة ، إذ أنّ البشر

ص: 462


1- آلاء الرحمن : 57 طبعة صيدا ، وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

في عصور : « العبوديات الفردية » بالأمس ، وكذا في عصر : « العبودية الجماعية » الحاضر لا يعد امتثاله لأوامر أسياده عبادة ، فلابد أن يكون المقصود من المملوكية - هنا - هي القائمة على أساس الخلق والتكوين وأنّ شأناً من شؤون حياته في قبضته.

وإليك بيان مناشئ أنواع المالكيات الحقيقية :

1. قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً ، ولذلك يكون اللّه سبحانه مالكاً حقيقياً للبشر ، لأنّه خالقه ، وموجده من العدم ، ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة - مثلاً - عبيداً لله ، ويصفه تعالى بأنّه مالكها الحقيقي وذلك لأنّه خلقها إذ يقول :

( إِن كُلُّ مَنْ فِي السَّماوَاتِ والأرضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ) (1).

ولأجل ذلك أيضاً نجده يأمرهم بعبادة نفسه معلّلاً بأنّه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه ، إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (2).

( ذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (3).

2. وقد يوصف بالمالكية لكونه رازقاً ومحيياً ومميتاً ، ولذلك يحس كل بشر سليم الفطرة بمملوكيته لله تعالى ، لأنّه مالك حياته ومماته ورزقه ، ولهذا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية اللّه لرزق الإنسان وانّه تعالى هو الذي يميته ، وهو

ص: 463


1- مريم : 93.
2- البقرة : 21.
3- الأنعام : 102.

الذي يحييه ، ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ اللّه هو الذي يستحق العبادة فحسب ، إذ يقول :

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (1).

( هَل لَكُمْ مِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِن شُرَكَاءُ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (2).

( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (3).

3. وقد يوصف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده ، وحيث إنّ اللّه تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (4) ، ولمغفرة الذنوب ( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) (5) ، بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلاّ بإذنه ، لذلك يشعر الإنسان العادي في قرارة ضميره بأنّ اللّه سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية ، وإذا أحس إنسان بمملوكية كهذه ومالكية مثل تلك ثم جسد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل فإنّه يكون بذلك عابداً له دون ريب.

وإلى ذلك يرجع ما ربما يفسر العبادة بأنّها الخضوع أمام من يعتقد بربوبيته ، فمن كان خضوعه العملي أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبية ذلك الطرف كان بذلك عابداً له.

قال آية اللّه السيد الخوئي في تفسير العبادة بأنّه : إنّما تتحقّق العبادة

ص: 464


1- الروم : 40.
2- الروم : 28.
3- يونس : 56.
4- الزمر : 44.
5- آل عمران : 135.

بالخضوع لشيء على أنّه ربٌّ يعبد (1).

فالمقصود من لفظة « الرب » في التعريف هو المالك لشؤون الشيء المتكفّل لتدبيره وتربيته ، وقد أوضحنا معنى الرب في الفصل الثامن.

وعلى ذلك تكون لفظة العبودية في مقابل لفظة الربوبية ، أي مالكية تربية الشيء وتدبيره ، ومصيره عاجلاً وآجلاً.

ويدل على ذلك أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في اللّه وحده بأنّه الرب لا غير ، وإليك بعض هذه الآيات :

( وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) (2).

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (3).

( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (4).

وقد ورد مضمون هذه الآيات ، أعني : جعل العبادة دائرة مدار الربوبية ، في آيات أُخرى هي :

يونس : 3 ، الحجر : 99 ، مريم : 36 ، 65 ، الزخرف : 64.

ولأجل ما ذكرناه فسّر آية اللّه الخوئي العبادة على النحو الذي مرّ عليك.

وعلى كل حال فإنّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.

ص: 465


1- البيان : 503 طبعة عام 1394 ه.
2- المائدة : 72.
3- الأنبياء : 92.
4- آل عمران : 51.

سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو : لا شك أنّ « العبادة » مفهوم بسيط وجداني ، فكيف يفسر هذا المفهوم البسيط بهذا التعريف المفصّل ؟ وبعبارة أُخرى : لو قلنا بدخول مفهوم « الرب » في مفهوم العبادة ، يلزم تتابع إدراج مفاهيم متعددة في مفهوم بسيط وجداني ، فيدخل في مفهومها مفهوم الرب ، والمالكية ، والقسم الخاص من المالكية مما يليق بشأنه تعالى ... وهذا مما لا يقبله الوجدان السليم.

أمّا الجواب : فقد تقدم توضيحه في التعريف الأوّل ، أي تعريف العبادة بالخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية ، وقلنا : ليس المراد من التعريف أخذ هذه المفاهيم الكثيرة في مفهوم العبادة التي لها مفهوم بسيط ، بل المراد هو إيضاح القسم الخاص من الخضوع الذي يتبادر من لفظ العبادة ، إذ لا شك أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع بل القسم الخاص منها ، ولتوضيح هذه الخصوصية نتشبث بهذه الجملة وأشباهها.

التعريف الثالث

ويمكننا أن نصب إدراكنا للعبادة في قالب ثالث ، فنقول :

إنّ العبادة هي الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله ، أمام من يكون مستقلاً ، وقد وصف اللّه سبحانه نفسه - في غير موضع من كتابه - بالقيوم ، فقال عزّ وجل :

( اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (1).

ص: 466


1- البقرة : 255 وأل عمران : 2.

وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ ) (1).

ولا يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه ، وليست فيه أيّة شائبة من الفقر والحاجة إلى الغير ، بل كل ما سواه قائم به.

وعلى ذلك فلو خضع واحد منا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة ، بل لو طلب فعل اللّه سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه عبادة وشركاً ، فإنّ الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع ، فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل اللّه سبحانه ، ونميّزه عن فعل غيره حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأنبياء والأولياء وغيرهم من الناس فنقول :

إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل اللّه من غيره ، والمعلوم أنّ فعل اللّه ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإذن اللّه ، لأنّه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن ، بل هو القيام بالفعل مستقلاً من دون استعانة بغيره فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلاً عادياً كالمشي والتكلم ، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح علیه السلام (2) ، مثلاً ، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.

توضيحه : انّ اللّه سبحانه غني في فعله ، كما أنّه غني في ذاته عما سواه فهو

ص: 467


1- طه : 111.
2- كما في الآية 49 من آل عمران : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّه وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللّه وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) .

يخلق ويرزق ويحيي ويميت من دون أن يستعين بأحد (1) ، أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة له ، بل اللّه سبحانه يخلق الجميع بنفسه من دون استعانة بأحد أو بشيء ، فهو يخلق المادة ويصورها كيف شاء ، فلو اعتقدنا أنّ أحداً مستغن في فعله العادي ، وغير العادي عمّن سواه ، وإنّه يقوم بما يريد من دون استعانة أو استمداد من أحد حتى اللّه سبحانه ، فقد أشركناه مع اللّه واتخذناه نداً له تعالى.

وصفوة القول هي : إنّ ملاك البحث في هذا التعريف هو : « استقلال الفاعل » في فعله وعدم استقلاله ، والتوحيد بهذا المعنى مما يشترك فيه العالم والجاهل.

نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود وعدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية والكتاب العزيز مما يدركه غيره أيضاً بفطرته التي خلق عليها ، وعقليته التي نما عليها ، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة ( أي المتألهين البصيرين ) حرمان العرب الجاهليين من فهم معاني العبادة ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية ، فالعبادة بهذا المعنى ( أي باعتقاد كون المعبود مستقلاً ) يشترك فيه العالم والجاهل ، والكامل وغير الكامل ، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي من الفهم والدرك كما قال سبحانه : ( فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (2).

غير أنّ الدارج في ألسن المتكلّمين هو « التفويض » فلنشرح مقاصدهم.

ص: 468


1- نعم قد سبق منا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أنّ كون اللّه سبحانه لا يستعين - في فعله بأحد لا يلازم أن يقوم بنفسه بكل الأُمور ، وبأن تكون ذاته مصدراً للخلق والرزق والإحياء والإماتة من دون أن يتسبب في كل ذلك بالأسباب ، بل معناه أن يكون في فعله - سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية - مستغنياً عن غيره ، وإن كانت أفعاله جارية عبر نظام الأسباب والعلل.
2- الرعد : 17.

4

ماذا يراد من التفويض ؟

اشارة

اتّفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشرك ، وأنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعد عبادة للمخضوع له ، والتفويض يتصور في أمرين :

1. تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء ، ويسمّى بالتفويض التكويني.

2. تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع ، والمغفرة والشفاعة ممّا يعد من شؤونه سبحانه ، ويسمّى بالتفويض التشريعي.

أمّا القسم الأوّل

فلا شك أنّه موجب للشرك ، فلو اعتقد أحد بأنّ اللّه فوض أُمور العالم وتدبيرها من الخلق والرزق والإماتة ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده ، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه ، إذ لا يعني من التفويض ، إلاّ كونهم مستقلين في أفعالهم ، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون وما

ص: 469

يريدون.

وبالجملة : فتفويض التدبير إلى العباد قسم من استقلال العبد في فعله وعمله عمّن سواه ، سواء أكان ذاك الاستقلال في الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه وتكلّمه ، أم في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه ، غير أنّه لما كان زعم الاستقلال في أفعال الإنسان العادية بحثاً فلسفياً بحتاً لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية ، لذلك خصوا البحث بالاعتقاد باستقلالهم في تدبير العالم.

وإن أصبح الأوّل أيضاً مثار بحث ونقاش في العهود الإسلامية الأُولى ، بحيث قسّم الباحثين إلى جبري وتفويضي.

والخلاصة : أنّ الأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن اللّه سبحانه ، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته ، وليس التفويض أمراً ثالثاً ، بل هو داخل في القسم الأوّل.

وأمّا الاعتقاد بأنّ القدّيسين من الملائكة والجن ، أو النبي والولي مدبّرون للعالم بإذنه ومشيئته ، وأمره وقدرته من دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون ، أو مفوّضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجباً للشرك ، بل أمره دائر - حينئذ - بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة ، أو غلطاً مخالفاً للواقع كما في النبي والولي ، فإنّ الأنبياء والأولياء غير واقعين في سلسلة العلل والأسباب ، بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النظم ، ومعلوم أنّه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركاً إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية والنظم المادية ، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.

ص: 470

هذا ومن الجدير بالذكر أنّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعاً من الاستقلال في الفعل ، وكانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس ، وقد مرّ أنّ عمرو بن لحي عندما سافر من مكة إلى الشام ورأى أُناساً يعبدون الأصنام فسألهم عن سبب عبادتهم لها فقالوا له :

هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا (1).

وقد كان ثمة فريق من الحكماء يعتقدون بأنّ لكل نوع من الأنواع « رب نوع » فوض إليه تدبير نوعه ، وسلمت إليه إدارة الكون التي هي من شأن اللّه ومن فعله تعالى ، كما أنّ عرب الجاهلية الذين عبدوا الملائكة والكواكب - سياراتها وثوابتها - إنّما كانوا يعبدونها ، لأنّ أمر الكون وأمر تدبيره قد فوّض إليها - كما في زعمهم - وإنّ اللّه عزل عن مقام التدبير عزلاً تامّاً ، فهي مالكة التدبير دون اللّه ، وبيدها هي دونه ناصية التصرّف ، ولهذا كان يعتبر أيُّ خضوع يجسد هذا الإحساس عبادة ، وسيوافيك عقائد العرب الجاهليين حول معبوداتهم.

القسم الثاني من التفويض

إذا اعتقدنا بأنّ اللّه سبحانه فوّض إلى أحد مخلوقيه بعض شؤونه كالتقنين والتشريع ، والشفاعة والمغفرة فقد أشركناه مع اللّه ، وجعلناه نداً له سبحانه ، كما يقول القرآن الكريم :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) (2).

ولا ريب أنّ الموجود لا يقدر أن يكون نداً لله سبحانه ، إلاّ إذا كان قائماً

ص: 471


1- سيرة ابن هشام : 1 / 79. وقد مر مفصل هذه القصة في الفصل الثامن : 382 من هذا الكتاب.
2- البقرة : 165.

بفعل أو شأن من أفعال اللّه وشؤونه سبحانه « مستقلاً » لا ما إذا قام به بإذن اللّه وأمره ، إذ لا يكون عند ذاك نداً لله ، بل يكون عبداً مطيعاً له ، مؤتمراً بأمره ، منفذاً لمشيئته تعالى ، هذا وقد كان أخف ألوان الشرك وأنواعه بين اليهود والنصارى والعرب الجاهليين اعتقاد فريق منهم بأنّ اللّه فوّض حق التقنين والتشريع إلى الرهبان والأحبار كما يقول القرآن الكريم :

( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (1).

وانّ اللّه فوّض حق الشفاعة والمغفرة التي هي حقوق مختصة باللّه إلى أصنامهم ومعبوداتهم ، وأنّ هذه الأصنام والمعبودات مستقلّة في التصرّف في هذه الشؤون ولأجل ذلك كانوا يعبدونها ، لأجل أنّها شفعاؤهم عند اللّه ، وبأيديها أمر الشفاعة كما يقول سبحانه :

( وَيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ ) (2).

ولذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنّه لا يشفع أحد إلاّ بإذن اللّه ، فلو كان المشركون يعتقدون بأنّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن اللّه لما كان لهذا الإصرار على مسألة متفق عليها بين المشركين ، أيُّ مبرر ، على أنّ ذلك الفريق من عرب الجاهلية الذين كانوا يعبدون الأصنام ، إنّما كانوا يعبدونها لكونها تملك شفاعتهم ، لا أنَّها خالقة لهم أو مدبّرة للكون ، وعلى أساس هذا التصوّر الباطل كانوا يعبدونها وكانوا يظنون أنّ عبادتهم لها توجب التقرّب إلى اللّه ، إذ قالوا :

( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (3).

ص: 472


1- التوبة : 31.
2- يونس : 18.
3- الزمر : 3.

الشيعة الإمامية وفكرة التفويض

لقد شدد علماء الشيعة الإمامية - اقتداءً بأئمتهم - النكير على كل من يقول بالتفويض ، وعدّوا قائله مشركاً وخارجاً عن ربقة الموحّدين المسلمين.

فها هو العلاّمة المجلسي قد عقد - في موسوعته المسمّاة ب « بحار الأنوار » - باباً خاصاً أسماه « باب نفي الغلو في النبي والأئمّة وبيان معاني التفويض » سرد فيه مجموعة كبيرة من أحاديث أهل البيت علیهم السلام التي استنكروا فيها قول من يعتقد بالتفويض في شأنهم ، أو في شأن أحد من عباد اللّه ، كما سرد بعض أقوال علماء الشيعة كالصدوق والمفيد رحمهما اللّه.

وإليك بعض الأحاديث أوّلاً :

1. في عيون أخبار الرضا ، قال الراوي : سألت الرضا ( الإمام علي بن موسى ) علیه السلام عن التفويض ؟ فقال :

« الغلاة كفّار ، والمفوّضة مشركون ، من جالسهم ، أو واكلهم ، أو شاربهم ، أو واصلهم ، أو زوّجهم ، أو تزوّج منهم ، أو أمنهم ، أو ائتمنهم على شيء ، أو صدّق حديثهم ، أو أعانهم بشطر كلمة ، خرج من ولاية اللّه عزّ وجل وولاية الرسول ، وولايتنا أهل البيت » (1).

2. في عيون أخبار الرضا ، قال الإمام علیه السلام :

« من زعم أنّ اللّه فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض ، والقائل بالتفويض مشرك ».

وهناك أحاديث أُخرى صريحة وقاطعة ذكرها ، ونقلها المجلسي في البحار ،

ص: 473


1- عيون أخبار الرضا : 325.

فمن شاء التوسع فليراجع الجزء 25 من الصفحة 261 إلى الصفحة 350.

ثم إنّ العلاّمة المجلسي ذكر ما قاله عالمان كبيران من قدامى علماء الإمامية وأعلامهم حول التفويض ، وها نحن نذكر ما قالاه - هنا - :

قال الشيخ الصدوق رحمه اللّه في كتابه : الاعتقادات :

اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة أنّهم كفار باللّه - جل جلاله - وانّهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس ، والقدرية والحرورية ، ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلّة ، وانّه ما صغَّر اللّه جلّ جلاله تصغيرهم شيء ، وقال اللّه تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (1) وقال عزّ وجل : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ ) (2).

ثم أضاف الشيخ الصدوق قائلاً :

« وكان الرضا ( علي بن موسى ) علیه السلام يقول في دعائه :

« اللّهم إنّي أبرأ إليك من الحول والقوّة ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بك. اللّهم إنّي أبرأ إليك من الذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحق. اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا. اللّهم لك الخلق ومنك الأمر وإيّاك نعبد وإياك نستعين اللّهمّ أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلين وآبائنا الآخرين اللّهم لا تليق الربوبية إلاّ

ص: 474


1- آل عمران : 79 و 80.
2- النساء : 171.

بك ، ولا تصلح الإلهية إلاّ لك ، فالعن النصارى الذين صغّروا عظمتك ، والعن المضاهئين لقولهم من بريتك ، اللّهمّ انّا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، اللّهم من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء ، ومن زعم أنَّ إلينا الخلق وعلينا [ أو إلينا ] الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى بن مريم علیه السلام من النصارى ، اللّهم انّا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون ، واغفر لنا ما يدّعون ولا تدع منهم على الأرض دياراً ، إنّك إن تذرهم يضلُّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفارا ».

وروي عن زرارة إنّه قال : قلت للصادق [ جعفر بن محمد ] علیه السلام : إنّ رجلاً يقول بالتفويض ، قال : « وما التفويض ؟ » قلت : يقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى خلق محمداً وعلياً صلوات اللّه عليهما ففوّض [ ثم فوض ] الأمرإليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا !! فقال علیه السلام : « كذب عدو اللّه ، إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد : ( أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القهار ) (1).

يقول زرارة : فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بكل شيء فكأنّه أُلقم حجراً (2).

وقال الشيخ المفيد رحمه اللّه في كتابه « تصحيح الاعتقاد » في شرح كلام الصدوق المتقدم :

الغلو في اللغة هو تجاوز الحد والخروج عن القصد ، قال اللّه تعالى : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ ) (3) ، فمنع عن تجاوز

ص: 475


1- الرعد : 16.
2- اعتقادات الصدوق : 109 - 110.
3- النساء : 171.

الحد في المسيح وحذر من الخروج من القصد في القول ، وجعل ما ادّعته النصارى غلواً لتعدّيه الحق على ما بيّنّاه ، والغلاة من المتظاهرين بالإسلام ، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين [ علياً ] والأئمّة من ذريته إلى الإلهية والنبوة ووصفوهم بالفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا من القصد ، وهم ضلاّل كفّار ، حكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل والتحريق بالنار ، وقضت الأئمّة عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام.

والمفوّضة صنف من الغلاة ، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة : اعترافهم بحدوث الأئمّة ، وخلقهم ، ونفي القدم عنهم ، وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم ودعواهم أنّ اللّه تعالى تفرّد بخلقهم خاصة ، وانّه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال ».

ثم قال الشيخ المفيد رحمه اللّه : ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمّة : سمات الحدوث ، وحكمه لهم بالإلهية والقدم ، إذ قالوا بما يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام واختراع الجواهر (1).

ثم إنّ المجلسي رحمه اللّه نفسه قال في شرح معاني التفويض ما نصه : وأمّا التفويض فيطلق على معان بعضها منفي وبعضها مثبت :

فالأوّل : التفويض في الخلق والرزق والتربية ، والإماتة والإحياء ، فإنّ قوماً قالوا : إنّ اللّه تعالى خلقهم [ أي الأئمّة ] وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون.

وهذا الكلام يحتمل وجهين :

ص: 476


1- تصحيح الاعتقاد للمفيد : 63 - 66.

أحدهما : أن يقال : أنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم ، وهم الفاعلون حقيقة ، وهذا كفر صريح دلّت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية ، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما : انّ اللّه يفعل ذلك [ الخلق والرزق إلى آخره ] مقارناً لإرادتهم كشق القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حية وغير ذلك من المعجزات ، فإنّ جميع ذلك إنّما يحصل بقدرته تعالى مقارناً لإرادتهم لظهور [ أي لأجل إثبات وإظهار ] صدقهم ، فلا يأبى العقل عن أن يكون اللّه خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ثمّ خلق كلّ شيء مقارناً لإرادتهم ومشيئتهم.

ثم قال : وهذا الوجه وإن كان العقل لا يعارضه كفاحاً ، لكن الأخبار السالفة تمنع من القول به في ما عدا المعجزات ظاهراً ، بل صراحة ، مع أنّ القول به قول بما لا يعلم ، إذ لم يرو ذلك في الأخبار المعتبرة في ما نعلم (1).

ثم قال في معرض تفسيره لقول اللّه ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) : يدل هذا على عدم جواز نسبة الخلق إلى الأنبياء والأئمّة ، وكذا قوله : ( هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ) (3) فإنّه يدل على عدم جواز نسبة الخلق ، والرزق والإماتة والإحياء إلى غيره سبحانه وإنّه شرك.

ثم قال ودلالة تلك الآيات على نفي الغلو والتفويض بالمعاني المذكورة

ص: 477


1- فما أبعد بين ما ذكره ذلك الوحيد الغواص في بحار علوم أهل البيت ، والغلو المزعوم الذي ربما ينسب إلى مشايخنا وحفّاظ علوم أئمتنا رضوان اللّه عليهم. نعم يمكن تفسير المعجزات والكرامات بوجهين آخرين غير ما ذكره قدس سره ، وسيوافيك بیانهما في المستقبل.
2- الرعد : 16.
3- الروم : 40.

ظاهرة ، والآيات الدالة على ذلك أكثر من أن تحصى ، إذ جميع آيات الخلق ودلائل التوحيد والآيات الواردة في كفر النصارى وبطلان مذهبهم دالة عليهم ( أي على المفوضة ). (1)

لا ملازمة بين التوزيع ونفي الإله الأعلى

اشارة

إنّ توزيع الإلوهية على صغار الآلهة المتخيّلة أمر باطل عقلاً ونقلاً ، ولا نطيل الكلام بسوق براهينه العقلية وما تدل عليه من الآيات.

ثمّ إنّ توزيع شؤون الإلوهية - كما في زعم عرب الجاهلية - ما كان يلازم نفي الإله الأعلى القاهر ، بل كان الجاهليون يعتقدون بالإله الأعلى رغم عبادتهم للأصنام واعتقاد توزيع الإلوهية عليها.

لكن الأُستاذ المودودي أبطل فكرة توزيع الإلوهية معللاً بأنّ : هذا التوزيع لا يجتمع مع الاعتقاد بإله أعلى ، حيث قال :

إنّ أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أنّ الإلوهية قد توزعت فيما بينهم ، فليس فوقهم إله قاهر ، بل كان لديهم تصوّر واضح لإله كانوا يعبّرون عنه بكلمة اللّه في لغتهم (2).

وفي هذا الكلام نظر ، فإنّ الجمع بين قوله : « إنّ الإلوهية توزعت فيما بينهم » وقوله : « فليس فوقهم إله قاهر » يوهم بأنّ القول بتوزيع الإلوهية يلازم القول بنفي الإله القاهر الذي هو فوق الكل ، ولكنّه ليس كذلك ، فإنّ الصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن أثبتوا للشمس : الإلوهية والتدبير مع القول بوجود إله قاهر ،

ص: 478


1- راجع بحار الأنوار : 25 / 320 - 350.
2- كتاب المصطلحات الأربعة : 19.

حيث قالوا :

« إنّ الشمس ملك من الملائك ولها نفس وعقل ومنها نور الكواكب وضياء العالم ، وتكون الموجودات السفلية فتستحق التعظيم والسجود والتبخير والدعاء » (1).

وأيّ الوهية أكبر من تكوين الموجودات السفلية التي ينسبها اللّه سبحانه في القرآن إلى ذاته.

ومن الصابئة من يقول :

« إنّ القمر ملك من الملائك ، يستحق العبادة ، وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأُمور الجزئية ، ومنه نضج الأشياء المتكوّنة وإيصالها إلى كمالها » (2).

وليس لأحد أن يفسر قولهم بأنّ الشمس والقمر كانا - في عقيدتهم - يحتلان محل العلل الطبيعية ، وانّهما كانا يقومان بنفس الدور لا أكثر ، فإنّ المفروض إنّهم جعلوهما من الملائك وأثبتوا لهما العقل والنفس والتدبير القائم على التفكير ، وهذا يناسب الإلوهية ، وكونهما إلهين ، لا كونهما عللاً طبيعية ، إذ لو كانا عللاً طبيعية لما عبدوهما بتلك العبادة ، فإذن لا مانع من أن يعتقد المشرك - في حين اعتقاده بتوزيع شؤون الإلوهية بين صغار الآلهة - بوجود إله قاهر ، وهو الذي وزّع الإلوهية ، فالعربي الجاهلي كان يعتقد بتفويض المغفرة والشفاعة إلى أصحاب الأصنام والأوثان ، مع اعتقاده بوجود إله آخر قاهر وأعلى. والمغفرة والشفاعة من شؤون الإلوهية ، والدليل على أنّهم كانوا يعتقدون بالتفويض ، هو إصرار القرآن على القول بأنّه لا شفاعة إلاّ بإذن اللّه سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ

ص: 479


1- الملل والنحل للشهرستاني : 265 - 266.
2- الملل والنحل للشهرستاني : 265 - 266.

بِإِذْنِهِ ) (1) ، وإنّ اللّه هو الذي يغفر الذنوب : ( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) (2).

وأظن - ولعلّه ظن مصيب - أنّ للأُستاذ وراء هذا الكلام ( توزيع الإلوهية ينافي الاعتقاد بإله آخر ) قصداً وهدفاً آخر ، وهو إثبات أنّ الإله في القرآن إنّما هو بمعنى المعبود تبعاً لشيخ منهجه « ابن تيمية » فتوصيف الأصنام بالإلوهية إنّما هو بملاك المعبودية ، لا بملاك انّهم صغار الآلهة ، واللّه سبحانه كبيرها.

والأُستاذ وتلاميذ مدرسته نزّهوا المشركين عن قولهم بالوهية الأصنام ، وإنّما كانوا يعبدونها من دون أن يتخذوها آلهة صغاراً في مقابل إله قاهر.

أضف إلى ذلك إنّهم شوّهوا بذلك سمعة جمهرة من المسلمين حيث فسروا الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة ، بالنهي عن عبادتها ، لأنّ الإله عندهم بمعنى المعبود ، ثم طبقوا هذه الآيات على توسل المسلمين وزيارتهم لقبور أوليائهم.

فتفسير الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة ، باتخاذ المعبود خبط ، وعلى فرض الصحة فإنّ تطبيقها على توسّلات المسلمين وزيارتهم قبور أوليائهم خبط آخر.

خلاصة القول

خلاصة القول في المقام أنّ أيَّ عمل ينبع من هذا الاعتقاد ( أي الاعتقاد بأنّه إله العالم ، أو ربّه ، أو غني في فعله وانّه مصدر للأفعال الإلهية ) ويكون كاشفاً عن هذا النوع من التسليم المطلق يعد عبادة ، ويعتبر صاحبه مشركاً إذا فعل ذلك لغير اللّه.

ويقابل ذلك : القول والفعل والخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد ،

ص: 480


1- البقرة : 255.
2- آل عمران : 135.

فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه - مبالغاً في ذلك - دون أن ينبع من الاعتقاد بالوهيته لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود ، وإن كان من الممكن أن يكون حراماً ، مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها ، فإنّها وإن كانت حراماً في الشريعة الإسلامية ، لكنها ليست عبادة ، فكون شيء حراماً ، غير القول بأنّه عبادة ، فإنّ حرمة السجود أمام بشر من غير اعتقاد بالوهيته وربوبيته إنّما هي لوجه آخر.

من هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام ، وهو إذا كان الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية أو التفويض ، شرطاً في تحقق العبادة ، فيلزم أن يكون السجود لأحد دون ضم هذه النيّة جائزاً ؟

ويجاب على هذا : بأنّ السجود حيث إنّه وسيلة عامة للعبادة ، وحيث إنّ بها يعبد اللّه عند جميع الأقوام والملل والشعوب وصار بحيث لا يراد منه إلاّ العبادة ، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي لا تكون عبادة ، وهذا التحريم إنّما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراماً قبله ، وإلاّ لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف علیه السلام ، إذ يقول : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُُّّوا لَهُ سُجَّداً ) (1).

* * *

لقد استدل بعض المحقّقين (2) بالآيات التالية على حرمة السجود لغير اللّه مطلقاً حتى لو لم يكن بعنوان العبادة :

( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ

ص: 481


1- يوسف : 100.
2- البيان : 504.

تَعْبُدونَ ) (1).

( وَأنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) (2).

ولكن الإمعان في هاتين الآيتين يفيد أنّ الهدف هو : تحريم السجدة التي تكون بقصد العبادة لا ما كان بقصد التعظيم ، إذ يقول في أُولى الآيتين : ( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدونَ ) ويقول في ثانيتهما : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) على أنَّنا سنقول في المستقبل إنّ المقصود بالدعوة - هنا - هو : العبادة ، لذلك فالأفضل - في هذا المجال - أن نستدل بالإجماع والأحاديث ، ولذلك استدل هو بنفسه بعد الاستدلال بالآيتين الآنفتين بالإجماع ، إذ قال : « فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير اللّه ».

قال الجصاص : قد كان السجود جائزاً في شريعة آدم علیه السلام ، للمخلوقين ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف علیه السلام ، فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا ، وبمنزلة تقبيل اليد ، قد روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله في إباحة تقبيل اليد أخبار ، وقد روي الكراهة ، إلاّ أنّ السجود لغير اللّه على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس أنّ النبي قال : « ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها » (3).

* * *

ص: 482


1- فصلت : 37.
2- الجن : 18.
3- أحكام القرآن : 1 / 32 ، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص ( المتوفّى عام 370 ه ).

إلى هنا استطعنا - بشكل واضح - أن نتعرف على حقيقة « العبادة » و « الشرك » ويلزم أن نستنتج من هذا البحث فنقول : إذا خضع أحد أمام آخرين وتواضع لهم ، لا باعتقاد أنّهم « آلهة » أو « أرباب » أو « مصادر للأفعال والشؤون الإلهية » بل لأنّ المخضوع لهم إنّما يستوجبون التعظيم ، لأنّهم ( عِبَادٌ مُكَرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (1) فإنّ هذا الخضوع والتعظيم والتواضع والتكريم لن يكون عبادة قطعاً ، فقد مدح اللّه فريقاً من عباده بصفات تستحق التعظيم عندما قال :

( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ) (2).

وفي موضع آخر من القرآن صرح اللّه تعالى باصطفاء إبراهيم لمقام الإمامة ، إذ يقول تعالى :

( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (3).

وكل هذه الأوصاف العظيمة التي مدح اللّه بها : نوحاً وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمداً - صلوات اللّه عليهم أجمعين - أُمور توجب نفوذهم في القلوب والأفئدة ، وتستوجب محبتهم واحترامهم حتى أنّ مودة بعض الأولياء فرضت علينا بنصِّ القرآن (4).

فإذا احترم أحد هؤلاء ، في حياتهم أو بعد وفاتهم ، لا لشيء إلاّ لأنّهم عباد اللّه المكرمون ، وأولياؤه المقربون ، وعظمهم دون أن يعتقد بأنّهم « آلهة » أو « أرباب »

ص: 483


1- الأنبياء : 26 - 27.
2- آل عمران : 33.
3- البقرة : 124.
4- ( قُل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ( الشورى : 23 ).

أو « مصادر للشؤون الإلهية » لا يعد فعله عبادة - مطلقاً - ولا هو مشركاً أبداً.

وعلى هذا لا يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلم ، أو الوالدين ، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية ، أو أضرحة الأولياء وما يتعلّق بهم من آثار ، إلاّ تعظيماً وتكريماً لا عبادة.

نحن ومؤلّف تفسير المنار

وفي ختام هذا البحث يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى طائفة من التعاريف للعبادة ، ونذكر بعض ما فيها من الضعف :

1. قال في المنار : العبادة ضرب من الخضوع ، بالغ حد النهاية ، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشؤها واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها. (1)

وهذا التعريف لا يخلو عن قصور ، إذ بعض مصاديق العبادة ، لا تكون خضوعاً شديداً ، ولا يكون بالغاً حد النهاية كبعض الصلوات الفاقدة للخشوع ، ثم ربما يكون خضوع العاشق أمام معشوقته والجندي أمام آمره ، أشدَّ خضوعاً مما يفعله كثير من المؤمنين باللّه تجاه ربّهم في مقام الدعاء والصلاة والعبادة ، ومع ذلك لا يقال لخضوعهما بأنّه عبادة ، في حين يكون خضوع المؤمنين تجاه ربهم عبادة وإن كان أخف من الخضوع الأوّل.

نعم لقد ذكر هذا المؤلف نفسه - في حنايا كلامه - ما يمكن أن يكون معرّفاً صحيحاً للعبادة ومتفقاً - في محتواه - مع ما قلناه حيث قال :

للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرِّعت لتذكير الإنسان بذلك

ص: 484


1- تفسير المنار : 1 / 57.

الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة ، وسرها (1).

إنّ عبارة : « الشعور بالسلطان الإلهي » حاكية عن أنّ الفرد العابد حيث إنّه يعتقد بالوهية المعبود ، لذلك يكون عمله عبادة وما لم يتوفر مثل هذا الاعتقاد في عمله لا يتصف بالعبادة.

2. وقد جاء شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت بتعريف يتحد مع ما ذكره صاحب المنار معنى ويختلف معه لفظاً ، فقال :

العبادة خضوع لا يحد لعظمة لا تحد (2).

فالتعريفان متحدان نقداً وإشكالاً ، فليلاحظ ، وان كان تفسير المنار يختص بإشكال آخر ، حيث إنّه يقول : « العبادة ناشئة عن استشعار القلب عظمة لا يعرف منشؤها » في حين أنّ العابد يعلم أنّ علة العظمة هي : السلطة الإلهية ، التي هي الوهية المعبود والإحساس بالحاجة الشديدة إليه ، وأنّ بيده مصير العابد ، وغير ذلك من الدوافع ، فكيف لا يعرف منشؤها ؟ (3).

3. وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية ، إذ قال :

العبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة ، والزكاة والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وإداء الأمانة وبر الوالدين ، وصلة الأرحام (4).

وهذا الكاتب لم يفرق - في الحقيقة - بين العبادة ، وبين التقرّب ، وتصوّر أنّ

ص: 485


1- تفسير المنار : 1 / 57.
2- تفسير القرآن الكريم : 37.
3- آلاء الرحمن : 59.
4- مجلة البحوث الإسلامية : العدد2 / 187 نقلاً عن كتاب « العبودية » : 38.

كل عمل يوجب القربى إلى اللّه فهو عبادة له تعالى أيضاً ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فهناك أُمور توجب رضا اللّه ، وتستوجب ثوابه قد تكون عبادة كالصوم والصلاة والحج ، وقد تكون موجبة للقربى إليه دون أن تعد عبادة كالإحسان إلى الوالدين وإعطاء الزكاة والخمس ، فكل هذه الأُمور ( الأخيرة ) توجب القربى إلى اللّه في حين لا تكون عبادة ، وإن سميت في مصطلح أهل الحديث عبادة فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتب الثواب عليها.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإتيان بهذه الأعمال يعد طاعة لله ، ولكن ليس كل طاعة عبادة.

وإن شئت قلت : إنّ هناك أُموراً عبادية ، وأُموراً قربية ، وكل عبادة قربة ، وليس كل قربة عبادة ، فدعوة الفقير إلى الطعام والعطف على اليتيم - مثلاً - توجب القرب ولكنها ليست عبادة ، بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله لله تعالى.

ص: 486

5

ما هو معنى الإلوهية وما هو ملاكها ؟

اشارة

إذا كانت العبادة هي الخضوع أمام أحد بما هو « إله » (1) ، فيقع الكلام في معنى ال : « إله » فنقول : لا نظن أنّ القارئ الكريم يحتاج في فهم معنى : « إله » إلى التعريف ، فإنّ لفظي : « إله » و « اللّه » من باب واحد ، فما هو المتفاهم من الثاني « أي اللّه » هو المتفاهم من الأوّل « أي إله » ، وإن كانا يختلفان في المفهوم اختلاف الكلي والفرد.

غير أنّ لفظ الجلالة علم لفرد من ذاك الكلي ولمصداق منه ، دون ال : « إله » فهو باق على كلّيته وإن لم يوجد عند الموحّدين مصداق آخر له ، بل انحصر فيه.

ص: 487


1- هذا هو أحد التعاريف الماضية في البحث السابق ، وكانت هناك تعاريف أُخرى من كونها : الخضوع أمام أحد بما هو رب ، أو بما هو غني في فعله عن غيره ، أو بما هو مصدر للشؤون الإلهية كالشفاعة والمغفرة ، فراجع. وقد أوضحنا أنّ هذه القيود جيء بها للإشارة إلى أنّها ليست مطلق الخضوع بل هو قسمٌ خاصٌّ منه وإنّ دخول هذه القيود في مفهوم العبادة على غرار دخول الدائرة في مفهوم القوس وإنّه من باب زيادة الحد على المحدود فراجع.

فكما أنّه لا يحتاج أحد في الوقوف على معنى لفظ الجلالة إلى التعريف فلفظة « إله » مثله أيضاً ، إذ ليس ثمة من فارق بين اللفظتين إلاّ فارق الجزئية والكلية ، فهما على وجه كزيد وإنسان ، بل أولى منهما لاختلاف الأخيرين ( زيد وإنسان ) في مادة اللفظ بخلاف « إله » و « اللّه » ، فهما متحدان في تلك الجهة ، وليس لفظ الجلالة إلاّ نفس إله حذفت همزته وأُضيفت إليه « الألف واللام » فقط ، وذلك لا يخرجه عن الاتحاد ، لفظاً ومعنى.

وإن شئت قلت : إنّ ها هنا اسماً عاماً وهو « إله » ويجمع على « آلهة » ، واسماً خاصاً وهو « اللّه » ولا يجمع أبداً ، ويرادفه في الفارسية « خدا » وفي التركية « تاري » وفي الانجليزية « گاد » غير أنّ الاسم العام والخاص في اللغة الفارسية واحد وهو « خدا » ويعلم المراد منه بالقرينة ، غير أنّ « خداوند » لا يطلق إلاّ على الاسم الخاص ، وأمّا « گاد » في اللغة الانجليزية فكلما أُريد منه الاسم العام كتب على صورة « god » وأمّا إذا أُريد الاسم الخاص فيأتي على صورة « God » وبذلك يشخص المراد منه.

ولعل اختصاص هذا الاسم باللّه بخالق الكون كان بهذا النحو : وهو أنّ العرب عندما كانت في محاوراتها تريد أن تتحدث عن الخالق كانت تشير إليه ب « الإله » أي الخالق ، والألف واللام المضافتان إلى هذه الكلمة كانتا لأجل الاشارة الذهنية ( أي الإشارة إلى المعهود الذهني ) ، يعني ذاك الإله الذي تعهده في ذهنك ، وهو ما يسمّى في النحو بلام العهد ، ثم أصبحت كلمة « الإله » مختصة في محاورات العرب بخالق الكون ، ومع مرور الزمن انمحت الهمزة الكائنة بين اللامين وسقطت من الألسن وتطورت الكلمة من « الإله » إلى « اللّه » التي ظهرتفي صورة كلمة جديدة واسم خاص بخالق الكون تعالى وعلماً له

ص: 488

سبحانه (1).

وإلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الزمخشري في « كشافه » : اللّه أصله : الإله ، قال الشاعر :

معاذ الإله أن تكون كظبية *** ولا دمية ولا عقيلة ربرب (2)

ونظيره : الناس أصله ، الاناس ، فحذفت الهمزة ، وعوض عنها حرف التعريف ، ولذلك قيل في النداء يا اللّه بالقطع ، كما يقال : يا إله ، والإله من أسماء الأجناس كرجل وفرس (3).

وينقل العلامة الطبرسي في « تفسيره » عن سيبويه أنّ « اللّه » أصله « إله » على وزن فعال ، فحذفت فاء فعله ، وهي الهمزة ، وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها ، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء في قوله : يا اللّه اغفر لي ، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في غير هذا الاسم (4).

وقال الراغب في « مفرداته » : « اللّه أصله إله ، فحذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام ، فخصّ بالباري تعالى ولتخصّصه به قال تعالى : ( هَلْ تَعْلَمْ لَهُ سَمِّياً ) (5).

وعلى ذلك فلا نحتاج في تفسير إله إلى شيء وراء تصوّر أنّ هذا اللفظ كلي

ص: 489


1- في هذا الصدد نظريات أُخرى أيضاً راجع لمعرفتها تاج العروس : 9 مادة « أله ».
2- استعاذ الشاعر باللّه من تشبيه حبيبته بالظبية أو الدمية ، والربرب : هو السرب من الوحش.
3- الكشاف : 1 / 30 تفسير البسملة.
4- مجمع البيان : 1 / 19 طبعة صيدا.
5- مفردات الراغب : 31 مادة « إله ».

لما وضع عليه لفظ الجلالة ، وبما أنّ هذا اللفظ من أوضح المفاهيم ، وأظهرها فلا نحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي إلى شيء أبداً ، نعم إنّ لفظ الجلالة وإن كان علماً للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال ، أو الخالق للأشياء ، إلاّ أنّ كون الذات مستجمعة لصفات الكمال ، أو خالقاً للأشياء ليسا من مقومات معنى الإله ، بل من الخصوصيات الفردية التي بها يمتاز الفرد عمّن سواه من الأفراد ، وأمّا الجامع بينه وبين سائر الأفراد ، أو التي ربما تفرض ( لا المحقّقة ) فهو أمر سواه سنشير إليه.

ويؤيد وحدة مفهومهما ، بالذات ، مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة مادتهما أنّه ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله (1) ، أي على وجه الكلية والوصفية ، دون العلمية فيصح وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه :

( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّماوَاتِ وَفِي الأرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (2).

فإنّ وزان هذه الآية وزان قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ ) (3).

( وَلا تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) (4).

( هُوَ اللّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ

ص: 490


1- استعمالاً مجازياً مثل قول القائل : هذا حاتم قومه ويوسف أبنائه.
2- الأنعام : 3.
3- الزخرف : 84.
4- النساء : 171.

العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (1).

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ والأرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2).

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية ، ( أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا ).

ويقرب من الآية الأُولى قوله سبحانه :

( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيَّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ) (3).

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء والأمر بدعوة أي منها ربّما يشعر بخلوه عن معنى العلمية ، وتضمّنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : « الإله » وغيره ، ومثله قوله سبحانه :

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ) (4).

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

نعم ، ربما يقال من أنّ لفظ الجلالة من أله بمعنى عبد ; أو من أله بمعنى تحيّر ، لأجل أنّ العبد إذا تفكر فيه تحيّر; أو من أله بمعنى فزع ، لأنّ الخلق يفزعون إليه في حوائجهم ; أو من إله بمعنى سكن ، لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

ص: 491


1- الحشر : 23.
2- الحشر : 24.
3- الإسراء : 110.
4- الحشر : 23.

أو أنّه متخذ من لاه بمعنى احتجب لأنّه تعالى المحتجب عن الأوهام ، أو غير ذلك مما ذكروه (1) ، ولكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل ، وعلى فرض صحتها ، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع وأُطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه ، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن ، وانّ استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل عليه مطلقاً.

والظاهر أنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره ، فإنّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فإنّه يعبده قهراً ، ويفزع إليه عند الشدائد ، ويسكن قلبه عند ذكره ، إلى غير ذلك من اللوازم ، والآثار التي تستلزمها صفة الإلوهية ، ولو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي ورد فيها لفظ الإله ، وما احتف بها من القرائن لوجد أنّه لا يتبادر من الإله غير ما يتبادر من لفظ الجلالة ، سوى كون الأوّل كلياً والثاني جزئياً.

هل الإله بمعنى المعبود ؟

نعم يظهر من كثير من المفسرين بأنّ أله بمعنى عبد ، ويستشهدون بقراءة شاذة في قوله سبحانه :

( لِيُفْسِدُوا فِي الأرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (2).

حيث قرئ والاهتك ، أي عبادتك.

ولعل منشأ هذا التصور هو كون الإله الحقيقي ، أو الآلهة المصطنعة موضعاً للعبادة - دائماً - لدى جميع الأُمم والشعوب ، ولأجل ذلك فسرت لفظة « الإله »

ص: 492


1- راجع مجمع البيان : 9 / 19.
2- الأعراف : 127.

بالمعبود ، وإلاّ فإنّ المعبودية هي لازم الإله وليست معناه البدوي.

والذي يدل - بوضوح - على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو : كلمة الإخلاص : « لا إله إلاّ اللّه » إذ لو كان المقصود من الإله « المعبود » لكانت هذه الجملة كذباً صراحاً ، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا ، غير اللّه ، ومع ذلك فكيف يمكن نفي أي معبود سوى اللّه ؟!

ولأجل ذلك اضطر القائل بأنّ الإله بمعنى المعبود أن يقدر كلمة « بحق » بعد إله لتكون الجملة هكذا : « لا إله [ بحق ] إلاّ اللّه » ليتخلّص من هذا الإشكال ، ولكن لا يخفى أنّ تقدير كلمة « بحق » هنا خلاف الظاهر ، وأنّ هدف كلمة الإخلاص هو نفي أيّ إله في الكون سوى اللّه ، وانّه ليس لهذا المفهوم ( أي الإله ) مصداق بتاتاً سواه سبحانه ، وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ « الإله » بمعنى « المعبود » ، لوجود المعبودات الأُخرى في العالم وإن كانت مصطنعة.

وأمّا جمعه على الآلهة فليس على أساس أنّه بمعنى المعبود ، بل لأجل اعتقاد العرب بأنّ هاهنا آلهة غير اللّه سبحانه ، قال تعالى :

( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ) (1).

وإن شئت أن تفرغ ما نفهمه من لفظ الإله في قالب التعريف فارجع إلى الأُمور التي تعد عند الناس من شؤون الربوبية ولوازمها فالقائم بتلك الشؤون - كلها أو بعضها - هو : الإله ، فالخلق والتدبير والإحياء والإماتة والتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة بالاستقلال كلّها من شؤون الربوبية ، فالقائم بهذه الشؤون حقيقة أو تصوراً : إله ، واقعاً أو عند المتصوّر.

ص: 493


1- الأنبياء : 43.

وهنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، بل بمعنى المتصرّف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الأُمور ، أو ما يقرب من ذلك مما يعد فعلاً له تعالى ، وإليك بعض هذه الآيات :

1. ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (1) ، فإنّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلاّ إذا جعلنا « الإله » في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين ، ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم ، مع عدم الفساد في النظام الكوني ، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحم الآلهة ، ومركزها مع كون العالم منتظماً ، غير فاسد.

وعندئذ يجب على من يجعل « الإله » بمعنى المعبود أن يقيده بلفظ « بالحق » أي لو كان فيهما معبودات - بالحق - لفسدتا ، ولمّا كان المعبود بالحق مدبّراً ومتصرفاً لزم من تعدده فساد النظام وهذا كله تكلّف لا مبرر له.

2. ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذَاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بعْضٍ ) (2).

ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّي ما يطلق عليه لفظ الجلالة ، وإن شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه ، والمناسب في هذا المقام هو الخالق ، ويلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلِّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، ولا يلزم من تعدّده أيُّ اختلال

ص: 494


1- الأنبياء : 22.
2- المؤمنون : 91.

في الكون ، وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة ، فإنّ في العالم آلهة متعددة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أيُّ فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسر « إله » بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3. ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً ) (1) ، فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك مما يرسمه في ذهننا معنى الإلوهية ، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلاّ بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

4. ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ) (2) ، والآية تستدل من ورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة ، إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فإنَّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللّه أجل من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم ، ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه ، وإليك مورداً منها :

( فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتينَ ) (3).

ص: 495


1- الإسراء : 43.
2- الأنبياء : 98 و 99.
3- الحج : 34.

فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب ، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري ، ولأجل هذا ربما يقيد الإله هنا بلفظ « الحق » أي المعبود الحق إله واحد ، ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف وإيصال النفع ، ودفع الضرّ على نحو الاستقلال لصح حصر الإله - بهذا المعنى - في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة ، إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

ولا نريد أن نقول : إنّ لفظ الإله بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر ، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلاّ المعنى البسيط ، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله ، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط ، غير كونها معنى موضوعاً للفظ المذكور ، كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلِّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره ، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله ، لا أنّه نفس معناه.

وبما أنّ بعض الكتاب المعاصرين خلط بين السلطة الغيبية المستقلّة التي يمكن أن تقع رمزاً للالوهية ، والسلطة المستندة إلى اللّه غير المستقلة التي ربما توجد عند الأنبياء ، والأولياء ، وخيار الناس والصالحين من العباد ، فلا بأس بأن نبحث في هذا الموضوع في البحث القادم.

ص: 496

6

هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية لغير اللّه موجب للشرك ؟

اشارة

لا شك في أنّ طلب الحاجة من أحد - بصورة جدية - إنّما يصح إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّه قادر على انجاز حاجته ، وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية ، كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماءً ، ويجعله تحت تصرفنا ، وقد تكون القدرة قدرة غيبية ، خارجة عن نطاق المجاري الطبيعية والقوانين المادية ، كأن يعتقد أحد بأنّ الإمام علياً علیه السلام قلع باب « خيبر » بالقدرة الغيبية ، كما جاء في الحديث.

أو أنّ المسيح علیه السلام كان يقدر ، بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصي علاجه ، دون دواء ، أو إجراء عملية جراحية.

والاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الاعتقاد بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي ، وإلى القدرة المكتسبة منه سبحانه ، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية ، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك ، لأنّ اللّه الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد ، هو الذي أعطى القدرة

ص: 497

الغيبية لآخر ، دون أن يعد المخلوق خالقاً ، وأن يتصور استغناء أحد عن اللّه.

فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طريق السلطة الغيبية ، فقد قام بأمر اللّه وإذنه ومشيئته ، ومثل ذلك لا يعد شركاً ، وتمييز السلطة المستندة إلى اللّه عن السلطة المستقلة هو حجر الأساس لامتياز الشرك عن التوحيد ، وبذلك يظهر خطأ كثير ممّن لم يفرقوا بين السلطة الغيبية المستندة ، والسلطة الغيبية غير المستندة.

وقالوا : لو أنّ أحداً طلب من أحد الصالحين - حيّاً كان أم ميتاً - شفاء علّته أو رد ضالّته ، أو أداء دينه ، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حق ذلك الصالح وإنّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية ، الحاكمة على الكون بحيث يكون قادراً على خرقها وتجاوزها ، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير اللّه عين الاعتقاد بالوهية ذلك المسؤول ، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون شركاً.

فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتبع الأنظمة الطبيعية لتحقّق مطلبه ، أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبيّ موارى تحت التراب ، أو عائش في مكان ناء ، فإنّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي ، أو الإمام على نحو ما يكون لله سبحانه ، ومثل هذا عين الاعتقاد بالوهية المسؤول !!

وممّن صرح بهذا الكلام الكاتب أبو الأعلى المودودي ، إذ يقول :

صفوة القول إنّ التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ، ويستغيثه ، ويتضرّع إليه ، هو - لا جرم - تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة. (1)

ص: 498


1- المصطلحات الأربعة : 17.

وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهيمنة ملاكاً للاعتقاد بالإلوهية ، وقد صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه حيث جعل ملاك الأمر في باب الإلوهية هو الاعتقاد بأنّ الموجود المسؤول قادر على أن ينفع أو يضر بشكل خارج عن إطار القوانين والسنن الطبيعية المألوفة ، إذ قال :

فالذي يتخذ كائناً ما وليّاً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء ، وقاضياً لحاجته ، ومستجيباً لدعائه ، وقادراً على أن ينفعه ، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية ، يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنّه فيه أنّ له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم ، وكذلك من يخاف أحداً ويتّقيه ويرى أنّ سخطه يجر عليه الضرر ، ومرضاته تجلب له المنفعة لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلاّ ما يكون في ذهنه من تصور أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون ، ثم إنّ الذي يدعو غير اللّه ويفزع إليه في حاجته بعد إيمانه باللّه العلي الأعلى فلا يبعثه على ذلك إلاّ اعتقاده فيه أنّه له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الإلوهية (1).

وصريح هذا الكلام هو التلازم بين القدرة على النفع والضرر ، والاعتقاد بالسلطة الإلوهية ، وإنّ كل قدرة على النفع والضرر من غير المجاري الطبيعية ينطوي على الإلوهية ، بالملازمة.

وهذا جد عجيب من المودودي.

إذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بالإلوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة في الطرف الآخر ، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية ، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم ، لأنّها مالكة

ص: 499


1- المصطلحات الأربعة : 23 ، وفي موضع آخر صرح بهذا الاستلزام إذ قال في ص 30 : « انّ كلاّ من السلطة والالوهية تستلزم الأُخرى ».

شفاعتهم ومغفرتهم ، ومعلوم - جيداً - أنّ مالكية الشفاعة غير القول بوجود السلطة التي يراد منها : السلطة على عالم التكوين.

إنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبية الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يوجب الاعتقاد بالإلوهية.

إنّ السلطة على الكون بجميعه - فضلاً عن بعضه - إذا كانت بأقدار اللّه تعالى وبإذن منه - فهي بنفسها - لا تلازم الإلوهية ، فكما أنّ اللّه أعطى لآحاد الناس قدرة محدودة في أُمورهم العادية ، وفضل بعضهم على بعض في تلك القدرة ، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده قدرة تامّة على جميع الكون ، عادية أو غير عادية ، وذلك بنفسه لا يستلزم الإلوهية ، والذي يمكن أن يقع عليه الكلام هو البحث عن وجود تلك القدرة وانّه سبحانه هل أعطى ذلك أو لا ؟ والقرآن يصرح بذلك في عدة موارد ، منها ما ورد في شأن يوسف علیه السلام :

1. يوسف علیه السلام والسلطة الغيبية

أمر يوسف علیه السلام إخوته بأن يأخذوا قميصه إلى أبيه ويلقوه على بصره ليرتد بصيراً ، كما يقول القرآن الكريم في هذا الشأن :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) (1).

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ ألْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (2).

إنّ ظاهر الآية يعطي أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف ، وأنّه لم يكن فعلاً مباشراً لله سبحانه ، وإنّما فعل ما فعله يوسف بقدرة مكتسبة منه سبحانه.

ص: 500


1- يوسف : 93.
2- يوسف : 96.

ولو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى اللّه سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم ، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد ، وليس هذا إلاّ تصرّف لولي اللّه في الكون بإذنه سبحانه.

2. موسى علیه السلام والسلطة على الكون

ونظير هذا نجده في أنبياء آخرين كموسى علیه السلام ، إذ قيل له : ( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجََرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ) (1) فلو لم يكن لضربه بالعصا عن إرادته ، تأثير في تفجّر الماء من الصخر لما أمر به اللّه سبحانه.

وربما يتصور أنّ موسى يضرب بعصاه ، ولكن اللّه هو الذي يفجّر الأنهار ، فهذا لا يدل على سلطة غيبية لموسى ، إذ غاية الأمر أنّ اللّه تعالى يفعل تفجير الأنهار عند ضربه ، لكنه ضعيف يرجع إلى لغوية الأمر بالضرب بالعصا ، فإنّ الضرب بالعصا ليس من قبيل الدعاء ، حتى يقال إنّه سبحانه يجيب دعوته عند دعائه.

وعلى الجملة لا يمكن أن تنكر مشاركة ضربه بالعصا وإرادته ذاك العمل في تفجر العيون ، وإن كان اذنه سبحانه ومشيئته فوقه ، ولا تدل الآية على أزيد من هذا.

ومثله قوله سبحانه :

( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ) (2).

ودلالة هذه الآية على ما نرتئيه لا تقصر عن دلالة الآية السابقة.

ص: 501


1- البقرة : 60.
2- الشعراء : 63.

3. أصحاب سليمان علیه السلام والسلطة الغيبية

كما أنّ مثل هذه السلطة الغيبية لم تقتصر على من ذكرنا ، بل يثبتها القرآن الكريم لأصحاب سليمان وحاشيته ، فها هو أحد حاشيته يضمن له علیه السلام احضار عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه ، وقبل أن ينفض مجلسه ، إذ قال سبحانه :

( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) (1).

بل ويضمن له آخر من حواشيه أن يحضر العرش المذكور في أقل من طرفة عين ، إذ قال :

( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) (2).

ولم يتبيَّن - إلى الآن - ما المراد من هذا العلم الذي كان يحمله قائل هذا القول به : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (3).

وسواء أكان المراد من ذلك هو العلم بخواص الأشياء الغريبة وكيفية معالجتها واحضارها من مكان بعيد في أقل من طرفة عين ، أم كان المراد منه غيره.

وعلى أيِّ تقدير فليس هذا العلم من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب وتنال بالتعلّم ، وهذا يكفي في عد عمله خارقاً للنواميس العادية والسنن الطبيعية المكشوفة الرائجة.

ص: 502


1- النمل : 38 - 39.
2- النمل : 40.
3- ذكر المفسرون هناك أقوالاً واحتمالات فراجع الميزان : 15 / 363.

وربما يحتمل أنّه إذا كان عمله مستنداً إلى علمه بغرائب خواص الأشياء المستورة على الناس لا يخرج عن كونه عملاً طبيعياً ، وإن كان يعد غريباً ، ولعله كان له علم بغرائب الخواص ، وفيه - مع أنّه احتمال غير مدعم بدليل - لا يخرج عمل العامل عن كونه قرين المعجزات وعديل الكرامات التي لا يقدر عليها إلاّ أولياء اللّه سبحانه.

وقد احتمل بعض في باب المعجزات أن يكون عمل الآتي بها ، مستنداً إلى علمه بالسنن الطبيعية التي لم يقف عليها أحد من الناس ، فيتصرف في الطبيعة لإحاطته بتلك القوانين غير المعروفة ، وليس هذا من العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلّم ، وهذا يكفي في عدّه معجزة أو كرامة.

4. سليمان والسلطة الكونية

ويصرح القرآن كذلك بسلطة خارقة لسليمان علیه السلام في سور مختلفة :

1. انّه كان لسليمان سلطة على الجن والطير حتى أصبحت من جنوده :

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الّجِنِّ وَالأِنسِ وَالطَّيْرِ ... ) (1).

2. انّه وهب السلطة على عالم الحيوانات حتى أنّه كان يخاطبهم ويتهددهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره :

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِينٍ ) (2).

3. وانّه سُلِّط على الجن فكانوا يعملون بأمره وإرادته :

ص: 503


1- النمل : 17.
2- النمل : 20 - 21.

( وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءَ ) (1).

4. وانّه سُلِّط على الريح أيما تسليط :

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) (2).

وعلى أي تقدير فأية سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة على عالم التكوين التي كانت لسليمان ، والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقّق له بأمره.

5. المسيح علیه السلام والسلطة الغيبية

ومثله ما صدر عن عيسى المسيح علیه السلام من تصرّف يكشف عن وجود سلطة خارقة للعادة ، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير ، وينفخ فيه فيكون طيراً يتحرك ويطير ، أو يعالج ما استعصي من الأمراض والعلل دونما آلة أو دواء ، كما يحدّثنا القرآن الكريم ، حيث يقول :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) (3).

والجدير بالذكر أنّ اللّه يصرح في آية أُخرى بأنّ هذه التصرفات كانت نتيجة فعل عيسى نفسه ، الكاشف عن سلطته نفسه ( وإن كانت مستندة إلى اللّه مآلاً ) ، إذ يقول تعالى :

ص: 504


1- سبأ : 12.
2- الأنبياء : 81.
3- آل عمران : 49.

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) (1).

ولما كان صدور هذه الآيات منه مستنداً إلى اللّه تعالى من غير أن يستقل عيسى بشيء منها كرر جملة « بإذن اللّه » في كل مورد ، لكيلا يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته ، لصدور تلك الآيات منه ، ولأجل ذلك قيّد المسيح كلَّ آية يخبر بها عن نفسه كالخلق وإحياء الموتى ب ( إِذن اللّه ) ثم ختم الكلام في آية أُخرى بقوله :

( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (2).

وظاهر قوله : ( إِنَّي أَخْلُقُ لَكُمْ ) صدور هذه الآيات منه في الخارج ، ولم يكن الهدف منه مجرّد الاحتجاج والتحدّي ، ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام تقييده بقوله : إن سألتم أو أردتم.

على أنّ ما يحكيه اللّه سبحانه عنه ويخاطبه به يوم القيامة ، يدل على وقوع هذه الآيات أتم دلالة ، حيث قال :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْر بِإِذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى ... ) .

وها هنا يبرز سؤال ، وهو : إذا كان الإخبار عن الغيب آية من آياته المعجزة ، فلماذا لم يقيّده ب « إذن اللّه » كما قيد الآيات الأُخر بهذا القيد ، مع أنّ الإتيان بكلِّ آية من آيات الرسل مقيّد بإذن اللّه سبحانه حيث يقول :

ص: 505


1- المائدة : 110.
2- آل عمران : 51.

( وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ) (1) ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة : فإنّ الإخبار عن ما يأكله الناس ويدّخرونه في بيوتهم ليس كالخلق والإحياء وإبراء الأكمه والأبرص ، فإنّ القلوب الساذجة تقبل وتتوهم الوهية خالق الطير ومحيي الموتى ومبرئ الأكمه والأبرص بأدنى وسوسة ومغالطة ، بخلاف الوهية من يخبر عن المغيّبات فإنّها لا تذعن لاختصاص الغيب باللّه سبحانه ، بل تعتقده أمراً يناله كلّ مرتاض أو كاهن ، ولأجل ذلك لم ير حاجة إلى تقييده ب « إذن اللّه » (2).

سؤال آخر هو : انّ قوله سبحانه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ ) مشتمل على أُمور :

1. خلق هيئة الطير من الطين.

2. النفخ في تلك الهيئة.

3. صيرورتها طيراً بإذن اللّه.

وما هو فعل عيسى علیه السلام إنّما هو الأوّلان ، والثالث خارج عن فعله ، بل هو فعل اللّه بقرينة تقييد الثالث بإذن اللّه دون الأوّل والثاني ، وعلى الجملة : للخلق معنيان :

أ. الإيجاد من العدم.

ب. التقدير.

والمتعيّن في المقام هو المعنى الثاني ، والإيجاد من العدم إنّما يتصوّر فيما لم تكن

ص: 506


1- غافر : 78.
2- - الميزان : 3 / 218.

هنا مادة متحولة ، والمفروض وجود « الطين » في المقام ، وما صدر عن عيسى هو « التقدير » ، أعني : تقدير الطين كهيئة الطير ، وبقي الثالث وهو صيرورته طيراً حقيقياً ، فهو فعل اللّه يتحقق بإذنه سبحانه ، فلم يبق هنا فعل غير عادي يصح استناده إلى المسيح علیه السلام .

أمّا الجواب ، فنقول :

أوّلاً : أنّا لا نسلم بأنّ قوله تعالى : ( بِإِذْنِ اللّهِ ) راجع إلى الأمر الثالث ، بل من المحتمل جداً رجوعه إلى الأُمور الثلاثة ، والشاهد عليه أنّه قيّد الأمر الأوّل من سورة المائدة بهذا القيد حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) (1).

وعلى ذلك فلا يدل تقييد الأمر الثالث بإذن اللّه على أنّ الأمرين الأوّلين فعل عيسي علیه السلام والأمر الثالث فعل اللّه سبحانه ، بل الكلّ فعله علیه السلام من جهة ، وفعل اللّه من جهة أُخرى.

وثانياً : لو سلمنا بذلك التكلّف في خلق الطير ، فماذا يمكن أن يقال في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، التي هي من أفعال اللّه ، كصيرورة الطين طيراً ، فقد نسبه اللّه إلى نفسه ، وقال : ( وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) (2) حتى أنّ اللّه سبحانه نسبها إلى المسيح وخاطبه بها وقال : ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) (3).

ص: 507


1- المائدة : 110.
2- آل عمران : 49.
3- المائدة : 110.

على أنّ اللّه يصف طائفة من ملائكته أيضاً بهذه السلطة فيقول عن جبرئيل بأنّه : ( شَدِيدُ القُوَى ) (1).

أي قواه العلمية كلّها شديدة فيعلم ويعمل (2) وكيف لا يكون ذا قوة وقد اقتلع قرى قوم لوط فرفعها إلى السماء ثم قلبها ، ومن شدة قوته صيحته على قوم ثمود حتى هلكوا (3) ولو كان المراد من شديد القوى هو جبرئيل ، فقد وصفه اللّه في موضع آخر بقوله : ( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرشِ مَكِينٍ ) (4) ، ومن هذا هو شأنه فله السلطة الغيبية بإذنه سبحانه على الكون.

وهل هناك سلطة غيبية أظهر من هذه التي يثبتها القرآن الكريم لفريق من عباد اللّه وأوليائه ، فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازماً للاعتقاد بالوهيته لزم أن يكون جميع هؤلاء : آلهة من وجهة نظر القرآن ، بل لا بد من القول بأنّ تحصيل مثل هذه السلسلة الغيبية أمر ممكن لأشخاص آخرين - حتى غير الأنبياء - عن طريق العبادة.

فالعبادة التي يتصور أغلبية الناس أنّ آثارها تنحصر في جلب رضاء اللّه ، ودفع غضبه فقط ، تمنح الروح قدرة عظيمة ، وبعداً أعمق من ذلك.

فالعبادة ذات تأثير جد عظيم في الباطن ، والروح.

إذ الانتهاء عن المحرمات ، والمكروهات ، والتزام الواجبات والمستحبات ، والإخلاص فيها ذات أثر عظيم ، وعميق ، في تقوية الروح ، وتجهيزها بقدرة خاصة

ص: 508


1- النجم : 5.
2- مجمع البيان : 5 / 173.
3- مفاتيح الغيب للرازي : 7 / 702.
4- التكوير : 20.

خارقة للقوانين والسنن بحيث تكون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.

وهذا هو ما أشارت إليه أحاديث صحاح منها : ما روي في الحديث القدسي عن قوله تعالى :

« ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ، وانّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ». (1).

فالحق : أنّ السلطة الغيبية التي أعطاها سبحانه لخيار عباده ليتصرفوا في الكون بإذنه ومشيئته ، ويخرقوا قوانين الطبيعة في مجالات خاصّة لا تستلزم الاعتقاد بالإلوهية ، ولا يكون صاحبها نداً وشريكاً لله تعالى.

نعم ، الاعتقاد بالسلطة الغيبية « المستقلّة » من دون أن تكون مستندة إليه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالإلوهية ، وقد قال سبحانه في هذا الصدد :

( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِي بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) . (2).

ص: 509


1- أُصول الكافي : 1 / 352. روى هذا الحديث بإسناد صحيح ، وظهور الرواية في أنّ العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة مما لا ينكر واحتمال أنّ المقصود منها أنّ فعل العبد يكون محفوفاً برضا اللّه سبحانه ، وانّه لا يفعل ولا يترك إلاّ ما فيه رضاه ، احتمال مرجوح جداً ، فإنّ الحركة على طبق رضاه طيلة الحياة ، ليست أثر خصوص فعل الصلوات فرائضها ونوافلها ، بل هي قبل كل شيء إثر الإيمان باللّه وثوابه وعقابه ، لا الإقبال على الفرائض والنوافل ، ولو كان لهذه الأفعال تأثير في تلك الحركة فليكن للصوم والحج والجهاد ، تأثير أيضاً فلماذا لم يذكرها. فعلم أن للصلاة فريضتها ونافلتها، تأثيراً في تقوية النفس والروح ورفعها إلى حد يقدر معه الإنسان ، على أن يكون مظهراً اللّه سبحانه في بصره وسمعه، وبطشه وتكلمه، فيبصر ببصره، ويسمع بسمعه، ما لا يبصر ولا يسمع بغيره.
2- الرعد : 38.

كلام آخر للمودودي

يصف المودودي عقائد الجاهليين ، ويقول :

كانت عقيدتهم الحقيقية في شأن سائر الآلهة أنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية ذلك الإله الأعلى ، وانّ كلمتهم تتلقّى بالقبول ، وإنّه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ، ونستدر النفع ، ونتجنب المضار باستشفاعهم. (1).

ويرد عليه أنّ ما صور به عقيدة الجاهلية في شأن سائر الآلهة « بأنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية الإله الأعلى » يحتاج إلى التوضيح ، فإنّ تدخل الغير في شؤونه سبحانه على قسمين :

الأوّل : بصورة كونهم مستقلين في أفعالهم وأعمالهم ، وهذا يوجب الشرك ، وكون المتدخل إلهاً ، والتوجّه إليه عبادة.

الثاني : التدخل والنفوذ بإذنه سبحانه ، وأمره ، فلا نسلم بطلانه ، وليس الاعتقاد به شركاً ، والطلب عبادة ، كيف والقرآن يصرّح بأنّ الملائكة تدبّر الأُمور الكونية ، إذ يقول : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) . (2).

وانّهم هم الذين يقبضون الأرواح ويهلكون الأُمم العاصية ، إذ يقول عن لسان الملائكة :

( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * ... فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا ) . (3).

ص: 510


1- المصطلحات الأربعة : 19.
2- النازعات : 6.
3- هود : 70 و 82.

فإنّنا نلاحظ - بجلاء - أنّ اللّه هو الجاعل ، ولكن المباشر للإهلاك هم : الملائكة ، إذن فلا مناص من تبديل كلمة التدخل والنفوذ في كلامه بكلمة « التفويض » وغيرها ممّا ينطوي على التصرّف في معزل عن أمر اللّه وإذنه وإرادته.

وأمّا ما نقل عنهم من أنّهم كانوا يعتقدون في حق آلهتهم « بأنّه يمكن أن تتحقق أمانيهم بواسطتها ، ويستدر النفع ، ويتجنب المضار باستشفاعهم » لا يخلو من قصور. (1).

فإن أراد أنّ النفع الأُخروي والتجنب عن الضرر الأُخروي لا يجوز سؤاله من غير اللّه سبحانه ، ويكون عند ذاك مثل الوثنيين الجاهليين فقد صرح القرآن بخلافه ، إذ لا شك أنّ دعاء الرسول لمؤدّي الزكاة موجب للسكن لهم ، ورافع للاضطراب عنهم ، إذ قال سبحانه :

( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) . (2).

كما أنّ استغفار الرسول موجب لغفران الذنوب ، لقوله سبحانه :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) . (3).

ص: 511


1- أضف إلى ذلك : أنّ العربي الجاهلي وإن كان يتجنب المضار باستشفاعهم ، إلاّ أنّ عملهم هذا كان مبنياً على القول بالوهيتهم ، ولأجل ذلك عد عملهم شركاً ، وكم فرق بين طلب دفع المضار بالاستشفاع بما أنّ الشفيع عبد مكرم يشفع بإذنه سبحانه ، أو أنّه إله يعبد ويستقل في فعله وعلى ذلك لا فرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي ، في جوازه على الأوّل ، وعدمه على الثاني مطلقاً وكان على الأُستاذ تركيز البحث على اعتقاد السائل في حق من يطلب منه جلب النفع ودفع الضرر في أنّه هل يعتقد بالوهية المسؤول واستقلاله في الجلب والدفع أو يعتقد بعبوديته وانّه لا يجلب ولا يدفع إلاّ بإذنه ؟ يجب أن يركز على هذا لا على الفرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي.
2- التوبة : 103.
3- النساء : 64.

كما كان دعاء يعقوب موجباً لغفران ذنوب أبنائه لقولهم : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) (1) ، فأجابهم يعقوب علیه السلام إذ قال : ( سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (2).

وهو كاشف عن جدوى استغفاره ، إذ لولا ذلك لما وعدهم به ، وعندئذ يجوز أن يطلب من الرسول الدعاء والاستغفار وهو طلب النفع الأُخروي.

وأي نفع - ترى - أولى من النفع الأُخروي ، وأي دفع ضرر أهم من دفع عذاب اللّه بدعاء النبي ؟ ولو طلب أحد من الرسول دعاءه واستغفاره لجلب هذا النفع لا يكون مشركاً ولا عابداً للنبي.

فهل - بعد هذه النماذج الواضحة - يتصور أن يكون الاعتقاد بتأثير النبي والولي في دفع الضرر وجلب النفع الأُخرويين وطلبهما منه موجباً للشرك ، والقرآن يصرح به بأعلى صوته وعلى رؤوس الأشهاد.

وإن أراد من النفع والضرر - في كلامه - النفع والضرر الدنيويين وإنّ طلبهما موجب للشرك ، فقد اعترف القرآن بوقوعه فضلاً عن إمكانه أيضاً.

فقوم موسى علیه السلام استسقوه وهم في التيه فطلبوا منه النفع الدنيوي ، فلم يردعهم موسى علیه السلام ، بل استسقى لهم من اللّه وسقاهم في المآل.

ويشير القرآن الكريم إلى هذا إذ يقول :

( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ) (3).

كما أنّهم طلبوا منه إنزال النعم السماوية ، فلم يزجرهم عن هذا الطلب ، بل

ص: 512


1- يوسف : 97.
2- يوسف : 98.
3- البقرة : 60.

دعا لهم.

وقد طلب آل فرعون منه أن يرفع عنهم الرجز ( أي العذاب الدنيوي المذكور قبل الآية ) وقالوا :

( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدََكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ ) (1).

فكل ذلك يدل على أنّ استدرار النفع وطلب دفع الضرر الدنيوي من الغير بإذن اللّه جائز هو أيضاً ، إذ لولا ذلك لكان على النبي أن يردعهم ويزجرهم في كل هذه الموارد ، وللزم أن يلفت نظرهم إلى اللّه ، ليسألوه تعالى هو مباشرة لا أن يسألوه ويطلبوا منه ذلك ، وهو خلق من خلق اللّه ، وعبد من عبيده.

ولا شك أنّ لموسى مشاركة في جلب النفع الدنيوي وكذا في دفع الضرر أيضاً.

فيجب على الأُستاذ أن يقيد كلامه في منع استدرار النفع ودفع الضرر بقولنا : بالاستقلال ونحوه ، بحيث يكون المسؤول مستقلاً في ذلك.

وصفوة القول هي أنّ الحل في هذه المسألة هو أن نفرّق بين السلطة المستندة إلى إرادة اللّه وإذنه ومشيئته ، والسلطة المستقلة ولا نخلط بينهما.

تكملة

إنّ النظريات في صدور المعجزات عن عباد اللّه الصالحين لا تخرج عن أربع نظريات :

ص: 513


1- الأعراف : 134.

الأُولى : ما عليه الغلاة والمفوّضة من كونهم مستقلين في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة.

الثانية : انّ اللّه يوجد تلك الأُمور مقارناً لإرادتهم ، وقد مرت النظريتان عند البحث عن التفويض فراجع ص 477.

الثالثة : ما استظهرنا من الآيات من أنّ الفعل مستند إليهم علیهم السلام بإذن اللّه سبحانه وأقداره.

الرابعة : النظرية التسخيرية التي وردت فيها روايات غير ما أشرنا إليه ، ولا تعارض بين الثلاث الأخيرة ، فهي غير مانعة الجمع كما لا يخفى.

والنظرية الأخيرة مبنية على سريان الشعور والإدراك في جميع الموجودات ، وقد أوضحنا برهانه في الفصل الثالث.

وعليه فما في الكون يأتمر بأمر النبي إذا أمر بشيء ، وينقاد لطلبه ويؤيده قوله سبحانه : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) (1).

ص: 514


1- ص : 36.

7

هل التوسل بالأسباب شرك ؟

اشارة

ذهب المتصوّفة والدراويش في وصف أقطابهم وشيوخ طرقهم إلى حد الشرك ، كما هو ظاهر ، وبذلك هدموا حدود التوحيد والشرك وتجاوزوا معاييرهما ، ويبدو هذا الأمر - بجلاء - من الأبيات التي مجّد بها القوم مشايخهم حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلاً عن الخفي ، تلك الأبيات التي لا تنسجم مع أُسس التوحيد القرآني بحال ، وإن كان بعضهم يحاول أن يجد لتلك الأبيات والكلمات محامل بمنأى عن الشرك ، ولكن الحق هو أنّ الموحد لا ينبغي له ، بل ولا يجوز ، أن يجري على لسانه كلاماً غير منسجم مع التوحيد الإسلامي القرآني الجلي الملامح ، الواضح الطريق.

ولقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة وشاذة جداً بحيث راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنّه عين التوحيد !! وبذلك ضيقوا دائرة الشرك أيّما تضييق !!

في مقابل هذه الفرقة - تماماً - وقف الوهابيون ، فهم توسّعوا في فهم حقيقة الشرك وإطلاقه ، توسّعاً يكاد يشمل كل حركة وسكون وكل تصرف يصدر من أهل التوحيد تجاه أولياء اللّه بهدف الاحترام والتكريم حيث اعتبره الوهابيون عين

ص: 515

الشرك ، والحيدة عن جادة التوحيد !! وسمّوا فاعله مشركاً ، حتى أنّه اتفق لي أن التقيت ذات يوم بواحد من « هيئة الأمر بالمعروف » في المسجد الحرام ، فاتفق أن صدر مني تكريم بانحناء رأسي - أثناء ذلك اللقاء - وإذا بذلك الشخص يقول - في جدية وانزعاج - :

لا تفعل هذا ... انّه شرك محرّم ... لا تحني رأسك أنّه شرك !!

والحق أنّه لو كان معنى الشرك والتوحيد هو كما يراه الوهابيون ويقولون به ، إذن لما أمكن أن نمنح لأي أحد تحت هذه السماء وفوق هذه الأرض هوية الموحّد ولما استحق أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبداً.

لقد نقل لي صديق ثقة أنّ إمام المسجد النبوي وخطيبه : الشيخ عبد العزيز كان يقول في تحديد الشرك :

« إنّ كل تعلّق بغير اللّه شرك » !

أقول : لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقوله إذن لابد أن نعتبر كل البشر على هذه الأرض مشركين ، بلا استثناء ، حتى الوهابيين أنفسهم ، لأنّهم يتوصلون إلى تحقيق مآربهم وتنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلّق والتوسل بالأسباب مع أنّه لا يمكن أن يقال أنّ الأسباب والعلل هي اللّه ، بل هي غير اللّه ، فينتج عن هذا أن يكون تعلّقهم بالأسباب وتوسّلهم بالعلل توسّلاً بغير اللّه ، وتعلّقاً بسواه.

في حين أنّ هذا النوع من التعلّقات والتشبثات ليست فقط لا تعد شركاً ، بل هي عين التوحيد وصميمه ، لأنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب والعلل.

غاية الأمر أنّ عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب والعلل أي استقلال وانقطاع

ص: 516

عن الإرادة الإلهية العليا ، بل لابد أن يعتقد بتأثيرها تبعاً لمشيئته سبحانه ، نعم انّ التعلّق بالأسباب والعلل الظاهرية المادية قد يكون عين التوحيد من جهة ، وعين الشرك من جهة أُخرى ، فعندما لا نعتقد بأي استقلال لهذه الأسباب - عند تشبثنا بها - ولا نعتبر تأثيرها في مصاف الإرادة الإلهية وفي عرضها ، بل نعتقد بأنّها تقع في ضمن السلسلة التي تنتهي - بالمآل - إلى اللّه ، فلا نخرج عن إطار التوحيد.

وليس في الفكر التوحيدي من مناص إلاّ الاعتقاد بمثل هذا الأمر وعلى هذا النمط.

أمّا عندما نرى لهذه الأسباب والعلل استقلالاً ، ونعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن الإرادة الإلهية ، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين ، ومؤثرين !!

إنّ على الموحّد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون ( العلية والسببية ) الحاكم في الظواهر الطبيعية ، وإنّ هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالاً في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى اللّه في تأثيرها كما في وجودها وبقائها.

إنّ الموحّد رغم أنّه يعرف هذه الحياة ويتعامل معها على أساس أنّها خاضعة لنظام العلية ، إلاّ أنّه ينظر إلى هذه العلل على أساس أنّ وجودها وبقاءها وتأثيرها من اللّه.

فالسبب الأوّل هو اللّه سبحانه ، وأمّا الأسباب الأُخرى فهي مخلوقة له خاضعة لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.

إنّ الفارق الأساسي بين الموحّد والمادي يكمن في هذا الأمر.

فالثاني يعتقد ب « أصالة العلل المادية واستقلالها في التأثير » في حين يسندها

ص: 517

الموحد إلى اللّه خالق كل شيء ، مع أنّه يعترف بقانون العلية الحاكم في هذا الكون.

شهادة القرآن الكريم

إنّ قضية استقلال وعدم استقلال العلل الطبيعية المادية هو الفاصل بين التوحيد والشرك ، وبه يعرف الموحّد عن المشرك - بوضوح - وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن الكريم في آيات عديدة ، فهناك فريق من الناس عندما يواجهون المشاكل المستعصية وتنسد في وجوهههم جميع الأبواب والسبل ويقابلون المهالك وجهاً لوجه ، يتوجهون إلى اللّه ويلوذون به ولا يرون سواه ملجأً ومخلصاً فإذا ما نجوا عادوا إلى شركهم مرة أُخرى ، وهذه حالة فريق من الناس ، وإلى هذه الحالة تشير طائفة من آيات القرآن ، وها نحن نذكر فيما يلي بعضها على أنّ المهم لنا هو أن نعرف ما هو المقصود بالشرك المذكور في هذه الآيات ؟

وإليك فيما يلي نص الآيات :

( وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (1).

( فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (2).

( قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُون ) (3).

ص: 518


1- الروم : 33.
2- العنكبوت : 65.
3- الأنعام : 64.

( ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (1).

هذه بعض الآيات في هذا المجال ، والواجب هو الإمعان في عبارة « إذا هم يشركون ».

إنّ المقصود من الشرك - في هذه الآيات - ليس فقط أنّ هؤلاء إذا وصلوا إلى البر أو نجوا عكفوا على عبادة الأوثان ، بل المراد ما هو أوسع من ذلك ، فإنّهم إذا نجوا عادوا إلى نسيان الحالة السابقة ، والتجأوا إلى الأسباب المادية متصوّرين أنّها أسباب مستقلة تمدّهم في إدامة الحياة من دون استمداد من اللّه سبحانه وناظرين إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على اللّه ، ولا شك أنّ النظر إلى الأسباب العادية من نافذة الاستقلال هو أيضاً شرك يجب الاجتناب عنه ، وهي نقطة الافتراق بين المدرسية الإلهية والمدرسة المادية ، ولو طالعت هذه الآيات المتعلّقة بالشرك والتوحيد بروح علمية ، لوجدت كيف أنّ القرآن الكريم يصر على أنّه ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية ، ولا إرادة في عرض تلك الإرادة.

ويرشدك إلى هذا أنّ القرآن يعتقد بأنّه سبحانه هو الهادي في ظلمات البر والبحر ، وهو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ومنزل الغيث ، ويقول :

( أَمن يَهْدِيِكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ءَإِلهٌ مَعَ اللّهِ تَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2).

مع أنّ البشر كان ولا يزال يستفيد من الأسباب والوسائل الطبيعية كالنجوم والبوصلات ويهتدي بها وبغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية

ص: 519


1- النحل : 54.
2- النمل : 63.

والبحرية ، وليس هذا إلاّ لأجل أنّ سببية الأسباب بتسبيب من اللّه سبحانه.

كما أنّ الرياح والأمطار في هذه الطبيعة ينشآن نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح ، أو الأمطار ، ولكن القرآن مع ذلك يقول :

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) (1).

( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوْا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) (2).

وليس ذلك إلاّ لأنّ اللّه وراء تلك الأسباب ، وهي تفعل بأمره واقداره.

وبكلام آخر أنّ هذه العلل والأسباب حيث إنّها غير مستقلة ، لا في وجودها ولا في تأثيرها ، بل هي مخلوقة بأسرها وبتمام وجودها ، وتأثيرها لله ، لذا يصرح القرآن الكريم بأنّه سبحانه الهادي في ظلمات البر والبحر ومرسل الرياح ومنزل الغيث من بعد ما قنطوا.

وهذه الحقيقة - بعينها - مبينة بوضوح تام في آيات سورة الواقعة.

إنّ هذا لا يعني أنّ القرآن الكريم يتنكر للعلل والأسباب الطبيعية ، وينكر وجودها ومشاركتها ، ويلغي دورها ، بل حيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها استقلالاً وتقوم باللّه سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الإسمي بحيث لو قطعت عنها عنايته تعالى آناً ما ، انهارت وتهافتت جملة واحدة ، وانقلب عالم الوجود مع كل وضوحه إلى ظلام وعدم ، لذلك تفنن في تفسير الظواهر الطبيعية تارة بنسبتها إلى اللّه سبحانه وأُخرى إلى سائر العلل وثالثة إليهما معاً ، قال : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (3). (4)

ص: 520


1- الأعراف : 57.
2- الشورى : 28.
3- الأنفال : 17.
4- ولقد بحثنا حول تلك الآيات في صفحة 405.

التوسل بالأسباب غير الطبيعية

إلى هنا تبيَّن أنّ النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنّها علل غير مستقلة عين التوحيد ، وبلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك ، وأمّا غير الطبيعية من العلل فحكمها حكم الطبيعية حيث إنّ التوسل على النحو الأوّل عين التوحيد ، وعلى النحو الثاني عين الشرك حرفاً بحرف ، غير أنّ الوهابيين جعلوا التوسل بغير الطبيعية من العلل توسّلاً ممزوجاً بالشرك ويقول المودودي في ذلك :

« فالمرء إذا كان أصابه العطش - مثلاً - فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء لا يطلق عليه حكم « الدعاء » ولا أنّ الرجل اتخذ الخادم إلهاً ، وذلك إنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ، ولكن إذا استغاث بولي في هذا الحال فلا شك انّه دعاه لتفريج الكربة وأتَّخذه إلهاً.

فكأنِّي به يراه سميعاً بصيراً ، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب ممّا يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء ، أو شفائه من المرض.

وصفوة القول : إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرع إليه هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ الطبيعة.

إنّ الحديث حول هذا المقام يقع في موردين :

الأوّل : إذا اعتقد إنسان بأنّ للظاهرة المعينة سببين : طبيعياً ، وغير طبيعي. فإذا يئس من الأوّل ولاذ بالثاني ، فهل يعد فعله شركاً أو لا ؟

الثاني : إذا اعتقد بأنّ لشخص خاص سلطة غيبية على الكون بإذنه سبحانه ، فهل يعد هذا الاعتقاد اعتقاداً بإلوهيته ؟

ص: 521

وقد حققنا القول حول الأمر الثاني ونركّز البحث على الأمر الأوّل ، فنقول :

إذا اعتقد إنسان بأنّ لبرئه من المرض طريقين أحدهما طبيعي والآخر غير طبيعي ، وقد سلك الطريق الأوّل ولم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسل إلى مطلوبه بالتمسك بالسبب الثاني كمسح المسيح يديه عليه ، فهل يعد اعتقاد هذا وطلبه منه شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد أو لا ؟

وأنت إذا لاحظت الضوابط التي قد تعرفت عليها في تمييز الشرك عن غيره لقدرت على الإجابة بأنّه لا ينافي التوحيد ولا يضاده بل يلائمه كمال الملاءمة فإنّه يعتقد بأنّ اللّه الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو الذي منح المسيح قدرة يمكنه أن يبرئ المرضى بإذنه سبحانه ، ومعه كيف يعد اعتقاده هذا شركاً ؟

وبكلام آخر : انّ الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شيء في التأثير بمعنى أن يكون أثره مستنداً إليه لا إلى خالقه وبارئه والمفروض عدمه ، ومع ذلك كيف يكون شركاً ، والتفريق بين التوسل بالأسباب الطبيعية وغيرها بجعل الأوّل موافقاً للتوحيد دون الثاني تفريق بلا جهة ، فإنّ نسبتها إلى اللّه سبحانه في كون التأثير بإذنه سواسية.

نعم يمكن لأحد أن يخطّئ القائل في سببية شيء ، ويقول بأنّ اللّه لم يمنح للولي الخاص تلك القدرة وانّه عاجز عن الإبراء ، ولكنه خارج عن محط بحثنا ، فإنّ البحث مركز على تمييز الشرك عن غيره لا على إثبات قدرة لأحد أو نفيها عنه وأظن أنّ القائلين بكون هذا الاعتقاد والطلب شركاً لو ركزوا البحث على تشخيص ملاك الشرك عن غيره لسهل لهم تمييز الحق عن غيره ، إذ أي فرق بين الاعتقاد بأنّ اللّه وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل ،

ص: 522

وبين أنّه هو الذي أقدر وليه مثل المسيح وغيره على البرء ، أو أنّه أعطى للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرف في الكون وإغاثة الملهوف.

وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من إعطاء آثار خاصة لعلل غير طبيعية تلقي الضوء على ما ذكرنا ، فإليك بيانها :

1. انّ القرآن يصف عجل السامري بقوله : ( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) (1).

فبعد ما رجع موسى من الميقات ورأى الحال ، سأل السامري عن كيفية عمله ، وانّه كيف قدر على هذا العمل البديع ؟ فأجاب :

( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (2).

فعلّل عمله هذا بأنّه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه فعاد العجل ذا خوار ، وهذا يعطي أنّ التراب المأخوذ من أثر الرسول كان له أثر خاص وقد توسل به السامري.

2. انّ القرآن يصف كيفية برء يعقوب مما أصاب عينيه ، ويقول حاكياً عن يوسف أنّه قال :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (3).

ص: 523


1- طه : 88.
2- طه : 96.
3- يوسف : 93.

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلْمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (1).

فإذا اعتقد الإنسان بأنّ الذي خلق في التراب المأخوذ من أثر الرسول المعين أثراً خاصاً بحيث إذا امتزج مع الحلي يجعلها ذات خوار ، أو منح للقميص ذلك الأثر العجيب هو الذي أعطى لسائر العلل غير الطبيعية آثاراً خاصة يستفيد منها الإنسان في ظروف معينة ، فهل يجوز لنا رمي المعتقد بهذا ، بأنّه مشرك ، وأي فرق بين ما أخذ السامري من أثر الرسول وقميص يوسف وسائر العلل مع أنّ الجميع علل غير مألوفة.

إنّ التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربها نوع من التمسك بالأسباب في اعتقاد المتمسك وقد قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (2).

وأمّا البحث عن أنّ هذه الأرواح والنفوس هل في مقدورها أن تغيث من يستغيث بها أو لا ؟ فهو خارج عما نحن بصدده.

ص: 524


1- يوسف : 96.
2- المائدة : 35.

8

المعايير الثلاثة المتوهمَّة للشِّرك

1. هل الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك ؟

لا شك أنّ التعاون ، والتعاضد بين أبناء الإنسان أساس الحياة ، وما التاريخ الإنساني إلاّ حصيلة الجهود البشرية التي نبعت من التعاون ، وتقاسم المسؤوليات والاستفادة المتبادلة من الطاقات الإنسانية.

والقرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله ، إذ يقول :

( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) (1).

إذن فاستمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية وجائز عند جميع الأُمم غير أنّ للوهابيين تفصيلاً في المقام يرونه هو الحد الطبيعي الفاصل بين التوحيد والشرك.

فيقولون : إنّ التوسل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم

ص: 525


1- القصص : 15.

ويقول : محمد بن عبد الوهاب في هذا الصدد :

« وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلاً صالحاً تقول له : ادع اللّه لي كما كان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسألونه في حياته ، وأمّا بعد مماته فحاشا وكلا أن يكونوا سألوا ذلك ، بل أنكر السلف على من قصد دعاء اللّه عند قبره فكيف بدعاء نفسه » (1).

إنّ للتوحيد والشرك معايير خاصة بها يمتاز أحدهما عن الآخر وإنّ الإسلام لم يترك تحديد تلك المعايير إلينا ، بل حدّد كل واحد بحد خاص.

وقد ألمعنا بها فيما سبق ولم يذكر في تلك المعايير أنّ الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك.

وستعرف أنّه لا مدخلية لحياة المستغاث منه ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً ، لأنّ الاستمداد والاستغاثة بالحي مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة والتأثير ، وأصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك ، وكون الاستغاثة بالحي أمراً رائجاً بين العقلاء لا يوجب صحتها إذا كانت مقرونة مع الاعتقاد باستقلال المستغاث في الإغاثة ، لأنّ الدارج بين العقلاء هو : أصل الاستغاثة بالحي لا باعتباره مستقلاً في العمل.

فلا تكون استغاثة شيعة موسى مطابقة للتوحيد إلاّ في صورة واحدة وهي : أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير ، بل يجعل قدرته ، وتأثيره في طول القدرة الإلهية ، ومستمدة منه تعالى.

ص: 526


1- كشف الارتياب : 271 نقلاً عن كشف الشبهات تأليف محمد بن عبد الوهاب ، طبع مصر ص 70.

إنّ نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد ، والاستغاثة ب « الأرواح المقدسة » العالمة الشاعرة حسب إخبار القرآن وتأييد العلوم الحديثة ، فإذا استغاث شيعة موسى علیه السلام به بعد خروج روحه عن بدنه بهذه العقيدة لم يكن عمله شركاً ، ولم يجعل موسى شريكاً لله لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ، ولا في العبادة ، ولم يعبد موسى بهذه الاستغاثة والطلب.

وأمّا لو استغاث به وهو يعتقد باستقلال روحه في الإغاثة ويعتقد بأنّها قادرة على التأثير دون القدرة الإلهية ، فإنّ هذا المستغيث يعد مشركاً ويكون موسى - كما يقتضي اعتقاده - في صف الآلهة.

ولو كانت حياة المستغاث ومماته مؤثرة في الأمر ، فإنّما تكون مؤثرة في جدوائية الاستغاثة أوّلاً ، لا في تحديد التوحيد والشرك ، والبحث عن الجدوائية وخلافها خارج عن موضوع بحثنا.

ومن العجب العجاب اعتبار التوسل والاستغاثة بالحي والاستشفاع به عين التوحيد ، وعد هذه الاستغاثة والاستشفاع - مع نفس الخصوصيات - بميت شركاً وفاعلها واجب الاستتابة مستحق القتل.

إنّ الوهابيين يسلمون انّ اللّه سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ويطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذاً بظاهر الآية ( النساء - 64 ) ، كما يسلمون أنّ أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ( يوسف 97 - 98 ) غير أنّهم يقولون : إنّ هذين الموردين إنّما ينطبقان مع أُصول التوحيد لأجل حياة المستغاث ، وأمّا إذا سئل ذلك في مماته عدّ شركاً.

غير أنّ القارئ النابه جد عليم بأنّ حياة الرسول ومماته لا يغيِّران ماهية العمل ، إذ لو كان التوسل شركاً حقيقة للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون

ص: 527

فرق بين حالتي الحياة والممات.

ولو اعترض على الاستغاثة بالميت بأنّه عمل عبثي أوّلاً ، وبدعة لم يرد في الشرع ثانياً فيقال في جوابه :

أوّلاً : انّ هذا العمل إنّما يصطبغ بلون البدعة إذا أتى به المستغيث بعنوان كونه وارداً في الشرع وأمّا لو أتى به من جانب نفسه من دون أن ينسبه إلى مقام فلا يعد بدعة وإحداثاً في الدين ، لأنّ البدعة هو إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وهو فرع الإتيان بالعمل بما أنّه أمر ديني.

وثانياً : أنّ البحث في المقام إنّما هو عن تحديد التوحيد والشرك ولا عن كون العمل مفيداً أو غيره أو بدعة وغير بدعة ، فكل ذلك خارج عن بحثنا ، أضف إلى ذلك أنّه قد ثبت في محله مشروعية التوسّل بالأرواح المقدسة بالدلائل النقلية الصريحة (1).

وعلى كل حال لا يمكن اعتبار الاستغاثة بالميت شركاً ، إذ هو لم يشرك بعمله باللّه أبداً لا في الذات ولا في الصفات ولا في الفعل ليخرج بذلك عن توحيد الربوبية ، ولا في العبادة ليخرج عن التوحيد في العبادة.

إنّ المفتاح لحل هذه المشكلة هو ما ذكرناه في تحديد معنى الشرك والتوحيد وهو انّ الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته وفعله والتوجه به كذلك يعد شركاً في العبادة ، كما أنّ الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته وصفاته وأفعاله يعد اعترافاً بعبوديته ويعد التوجّه به تكريماً واحتراماً ، ولو تناسينا هذه القاعدة لما وجد على أديم الأرض موحد أبداً.

ص: 528


1- راجع للوقوف على تلك الأدلة كشف الارتياب : 301.

وفيما لي نلفت نظر القارئ الكريم إلى كلام لتلميذ ابن تيمية في هذا المجال ، يقول ابن القيم :

ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى ، والاستعانة بهم ، والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإنّ الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً » (1).

وما ذكره من الدليل لا يثبت مدّعاه لأنّ قوله : « فإنّ الميت قد انقطع عمله » دليل على عدم فائدة الاستغاثة بالميت ، وليس دليلاً على كونها شركاً ، وهو لم يفرق بين الأمرين ، والأغرب من ذلك قوله : « وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً » ، إذ لا فرق في ذلك بين الحي والميت ، فلا يملك أحد ضراً لنفسه ولا نفعاً بدون إذن اللّه وإرادته ، سواء أكان حياً أم ميتاً ، ومع الإذن الإلهي يملكون النفع والضر أحياء كانوا أم أمواتاً.

ومن هذا اتضح ضعف ما أفاده ابن تيمية ، إذ قال :

كل من غلا في نبي ، أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول : يا سيدي فلان انصرني أو أغثني ، ... فكلّ هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فإن تاب ، وإلاّ قتل (2).

إذا كانت الاستغاثة ب « الأرواح المقدسة » ( الأموات حسب تعبير الوهابيين ) ملازمة لنوع من الاعتقاد بإلوهية تلك الأرواح ، إذن يلزم أن تكون الاستغاثة بأي شخص - أعم من الحي والميت - ملازمة لمثل هذا الاعتقاد ، لأنّ حياة المستغاث ومماته حد لجدوائية الاستغاثة ولا جدوائيتها لا أنّها حد التوحيد ، وللشرك في حين

ص: 529


1- فتح المجيد : 68 الطبعة السادسة.
2- المصدر السابق : 167.

انّ الاستغاثة بالحي يعد من أشد ضروريات الحياة الاجتماعية البشرية ، ومما به قوامها.

وإليك فيما يلي نبذة أُخرى من كلام ابن تيمية في هذا الصدد ، فهو يقول :

« والذين يدعون مع اللّه آلهة أُخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق ، أو تنزل المطر وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم ، أو يعبدون صورهم يقولون ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى اللّه زلفى ، أو هؤلاء شفعاؤنا » (1).

إنّ قياس الاستغاثة بأولياء اللّه بما كان يقوم به المسيحيون والوثنيون ابتعاد عن الموضوعية ، لأنّ المسيحيين كانوا يعتقدون في حق المسيح بنوع من الإلوهية ، وكان الوثنيون يعتقدون بأنّ الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة ، بل كان بعضهم - على ما نقل ابن هشام - يعتقد بأنّها متصرفة في الكون ، ومرسلة الأمطار (2) - على الأقل - ، ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح وبتلك الأوثان عبادة لها.

فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بالوهية المستغاث كانت شركاً حتماً ، وأمّا إذا كانت الاستغاثة - بالحي أو الميت - خالية وعارية عن هذا القيد لم تكن شركاً ولا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنّه لا يقوم بشيء إلاّ بإذنه سبحانه.

نعم يجب في موارد الاستغاثة بالموتى أن نبحث في فائدة مثل هذه الاستغاثة وعدم فائدتها ، لا في كونها شركاً وعبادة لغير اللّه ، والكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

ص: 530


1- المصدر السابق : 167.
2- راجع قصة عمرو بن لحي المذكورة في ص 382 من هذا الكتاب.

تعظيم أولياء اللّه وإحياء ذكرياتهم ؟

ينزعج الوهابيون - بشدة - من تعظيم أولياء اللّه وتخليد ذكرياتهم ، وإحياء مناسبات مواليدهم أو وفياتهم ، ويعتبرون اجتماع الناس في المجالس المعقودة لهذا الشأن شركاً وضلالاً ، ففي هذا الصدد يكتب محمد حامد الفقي ، رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد :

« الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (1).

إنّّ هؤلاء لم يعينوا حدّاً للتوحيد والشرك ، وللعبادة على الأخص ، ولذلك رموا كل عمل بالشرك حتى أنّهم تصوروا أنّ كل نوع من التعظيم عبادة وشرك.

ولأجل ذلك جعل الكاتب « العبادة » إلى جانب التعظيم وتصور أنّ للّفظتين معنى واحداً ، ومما لاشك فيه أنّ القرآن يعظم فريقاً من الأنبياء والأولياء بعبارات صريحة كما يقول في شأن زكريا ويحيى علیهماالسلام :

( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (2).

فلو أنّ أحداً أقام مجلساً عند قبر من عناهم اللّه وسماهم في هذه الآية ، وقرأ في ذلك المجلس هذه الآية المادحة ، معظماً بذلك شأنهم ، فهل اتبع غير القرآن ؟!

كما ويقول في شأن أهل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله :

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (3).

ص: 531


1- فتح المجيد : 154 ثم نقل عن كتاب قرة العيون ما يشابه هذا المضمون.
2- الأنبياء : 90.
3- الدهر : 8.

فهل ترى لو اجتمع جماعة في يوم ميلاد علي بن أبي طالب - وهو أحد الآل - وقالوا : إنّ علياً كان يطعم الطعام للمسكين واليتيم والأسير ، كانوا مشركين ؟

أو ترى لماذا يكون مشركاً لو أنّ أحداً تلا الآيات المادحة لرسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في حفلة عامة في يوم مولده الشريف كالآيات التالية :

( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1).

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ) (2).

( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (3).

( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4).

فلو تلا أحد هذه الآيات المثنية على النبي ، أو قرأ ترجمتها بلغة أُخرى ، أو سكب هذا المديح الإلهي القرآني في قالب الشعر وأنشد ذلك في مجلس كان مشركاً ؟!

إنّ عدم وجود هذه الاحتفالات في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله ليس دليلاً على كونها شركاً ، وأقصى ما يمكن أن يقال أنّها بدعة لا شركاً ولا عبادة للإنسان الصالح ، بل لا تعد بدعة ، إذ لو نسب إقامة الاحتفالات التكريمية أو مجالس العزاء في

ص: 532


1- القلم : 4.
2- الأحزاب : 45 - 46.
3- التوبة : 128.
4- الأحزاب : 56.

الذكريات ، إلى الشارع المقدس وادّعى بأنّ اللّه أمر بذلك يلزم أن نفحص عن مدى صحة هذه النسبة وصدق هذا الادّعاء ، لا أن نصف إقامة هذه المجالس بأنّها شرك.

وأمّا لو أقامها من جانب نفسه من دون أن يسندها إلى أمره سبحانه فلا تكون بدعة بتاتاً.

كيف لا ، وهذا القرآن الكريم يثني على أُولئك الذين أكرموا النبي صلی اللّه علیه و آله وعظموا شأنه ، وبجّلوه ، إذ يقول :

( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1).

إنّ الأوصاف التي وردت في هذه الآية والتي استوجبت الثناء الإلهي هي :

1. آمنوا به.

2. وعزّروه.

3. ونصروه.

4. واتّبعوا النور الذي أُنزل معه.

فهل يحتمل أحد أن تختص هذه الجمل الثلاث :

« آمنوا به ، ونصروه ، واتبعوا » بزمن النبي صلی اللّه علیه و آله ؟ الجواب : لا.

فإنّ الآية لا تعني الحاضرين في زمن النبي - خاصة - ، فعندئذٍ من القطعي أن لا تختص جملة « عزَّروه » بزمان النبي ، أضف إلى ذلك أنّ القائد العظيم يجب أن يكون موضعاً للتكريم والاحترام والتعظيم في كل العهود والأزمنة.

ص: 533


1- الأعراف : 157.

فهل إقامة المجالس لإحياء ذكريات : المبعث أو المولد النبوي ، وإنشاء الخطب والمحاضرات والقصائد والمدايح إلاّ مصداق جلي لقوله تعالى : ( وَعَزَّرُوهُ ) والتي تعني : أكرموه وعظّموه.

عجباً كيف يعظم الوهابيون أُمراءهم بالاحترام الذي يفوق ما يفعله غيرهم تجاه أولياء اللّه فلا يكون ذلك شركاً ، وأمّا إذا أتى أحد بشيء يسير من ذلك في حقهم عد شركاً ؟!

إنّ المنع عن تعظيم الأنبياء والأولياء وتكريمهم - أحياءً وأمواتاً - يصور الإسلام في نظر الأعداء ديناً جامداً لا مكان فيه للعواطف الإنسانية كما يصور تلك الشريعة السمحاء المطابقة للفطرة الإنسانية ديناً يفقد الجاذبية المطلوبة القادرة على اجتذاب أهل الملل الأُخرى واكتسابهم.

ماذا يقول - الذين يخالفون إقامة مجالس العزاء للشهداء في سبيل اللّه - في قصة يعقوب علیه السلام ؟ وماذا يقولون فيه وهو يبكي على ابنه أسفاً وحزناً في فراق ولده يوسف ، ليله ونهاره ، ويسأل كل من لقيه عن ابنه المفقود حتى يفقد بصره ، كما يقول سبحانه : ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ ) (1).

فلماذا يكون إظهار مثل هذه العلاقة في حال حياة الولد جائزاً ومشروعاً ومطابقاً لأُصول التوحيد بينما إذا كان في حال مماته عد شركاً ؟!

فإذا اتبع أحد طريق يعقوب فبكى على فراق أولياء اللّه وأحبائه يوم استشهادهم ، فلماذا لا يعد عمله اقتداء بيعقوب علیه السلام .

لا ريب في أنّ مودة ذوي القربى هي إحدى الفرائض الإسلامية التي دعا

ص: 534


1- يوسف : 84.

إليها بأوضح تصريح ، فلو أراد أحد أن يقوم بهذه الفريضة الدينية بعد أربعة عشر قرناً فكيف يمكنه ، وما هو الطريق إلى ذلك ؟ هل هو إلاّ أن يفرح في أفراحهم ، ويحزن في أحزانهم ؟

فإذا أقام أحد - لإظهار مسرته - مجلساً يذكر فيه حياتهم ، وتضحياتهم أو يبين مصائبهم ، فهل فعل إلاّ إظهار المودة ، المندوبة إليها في القرآن الكريم ؟! وإذا زار أحد - لإظهار مودة أكثر - مقابر أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله وأقام مثل هذه المجالس عند تلكم القبور ، فإنّه لم يفعل - في نظر العقلاء - إلاّ إظهار المودة.

التبرّك بآثار النبي والأولياء

قد جرت سنّة السلف الصالح على التبرك بآثار النبي وآله سنّة قطعية لا يشك فيها كل من له إلمام بتاريخ المسلمين (1) غير انّ الوهابيين أنكروا ذلك أشد الإنكار وعدّوه شركاً وإن كان ذلك بدافع محبة النبي وآله ومودّتهم.

غير انّ المتبرّك إذا اعتمد في عمله على عمل يعقوب حيث وضع قميص يوسف على عينيه ، فارتد بصيراً ، هل يصح لنا رميه بالشرك ؟! إذ أي فرق بين التبرّك بآثار النبي وآثار سائر الأولياء وتبرّك يعقوب بقميص يوسف ، قال سبحانه : ( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (2).

ص: 535


1- لقد ألّف الشيخ محمد طاهر المكي المعاصر كتاباً في ذلك وأسماه ( تبرك الصحابة بآثار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) نقل فيه شواهد تأريخية قطعية على تبركهم وتبرك التابعين بآثاره صلی اللّه علیه و آله قاطبة ، وقد طبع ذلك الكتاب عام 1385 ه ، ثم أُعيد طبعه عام 1394 ه.
2- يوسف : 96.

خاتمة المطاف

إنّ من يلاحظ عصر الرسول صلی اللّه علیه و آله وما تلاه من عصور التحول العقائدي والفكري يجد إقبال الأُمم المختلفة ذات التقاليد والعادات المتنوعة على الإسلام وكثرة دخولهم واعتناقهم هذا الدين ، ويجد أنّ النبي والمسلمين كانوا يقبلون إسلامهم ، ويكتفون منهم بذكر الشهادتين دون أن يعمدوا إلى تذويب ما كانوا عليه من عادات اجتماعية ، وصوغهم في قوالب جديدة تختلف عن القوالب والعادات والتقاليد السابقة تماماً.

وقد كان احترام العظماء - أحياءً وأمواتاً - وإحياء ذكرياتهم والحضور عند القبور ، وإظهار العلاقة والتعلّق بها من الأُمور الرائجة بينهم.

واليوم نجد الشعوب المختلفة - الشرقية والغربية - تعظم وتخلد ذكريات عظمائها ، وتزور قبور أبنائها ، وتتردّد على مدافنهم ، وتسكب في عزائهم الدموع والعبرات ، وتعتبر كل هذا الصنيع نوعاً من الاحترام النابع من العاطفة والمشاعر الداخلية الغريزية.

وصفوة القول : إنّنا لا نجد مورداً عمد فيه النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قبول إسلام الوافدين والداخلين فيه بعد أن يشرط عليهم أن ينبذوا تقاليدهم الاجتماعية هذه ، وبعد أن يفحص عقائدهم ، بل نجده صلی اللّه علیه و آله يكتفي من المعتنقين الجدد للإسلام بذكر الشهادتين ورفض الأوثان.

وإذا كانت هذه العادات والتقاليد شركاً لزم أن لا يقبل النبي صلی اللّه علیه و آله إسلام تلك الجماعات والأفراد إلاّ بعد أن تتعهد له بنبذ تلكم التقاليد والمراسم.

والحاصل : أنّ ترك التوسّل بالأولياء والتبرّك بآثارهم وزيارة قبورهم لو كان

ص: 536

شرطاً لتحقق الإيمان المقابل للشرك والصائن للدم والمال لوجب على نبي الإسلام اشتراط ذلك كله ( أي ترك هذه الأُمور ) عند وفود القبائل على الإسلام وللزم التصريح به على صهوات المنابر وعلى رؤوس الأشهاد مرة بعد أُخرى ، ولو صرح بذلك لما خفي على المسلمين ، إذن فكل ذلك يدل على عدم اشتراط ترك هذه الأُمور ، وليس ذلك إلاّ لأنّ تركها ليس شرطاً لتحقّق الإيمان ورفض الشرك ولعدم كون الآتي بها مجانباً للإيمان ومعتنقاً للشرك.

ولو كان التوسل والتبرك والزيارة ملازماً للاعتقاد بالإلوهية لما خفى ذلك على المسلمين الذين جرت سيرتهم العملية على ذلك حتى يكون عملهم مخالفاً لاعترافهم بإله واحد ، وقد أوضحنا معنى الإلوهية في هذا الفصل الصفحة 487 فراجع.

وقد تواترت الأخبار عن النبي وآله - صلى اللّه عليهم أجمعين - بأنّ الإسلام يحقن به الدم ، ويصان به العرض ، والمال ، وتؤدّى به الأمانة ، إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على الإسلام.

وحسبك أيها القارئ الكريم ما أخرجه البخاري عن ابن عباس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن :

« إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أنّ اللّه قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ اللّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم » (1).

ص: 537


1- صحيح البخاري : 5 / 162 ، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.

وأخرج البخاري ومسلم في باب فضائل علي علیه السلام أنّه (1) قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم خيبر :

« لأعطين هذه الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله يفتح اللّه على يديه ».

قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ قال : فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها ، قال : فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال : « امش ولا تلتفت حتى يفتح اللّه عليك » فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ : يا رسول اللّه على ماذا أُقاتل الناس ؟

قال صلی اللّه علیه و آله :

« قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على اللّه » (2).

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« بني الإسلام على خمس :

شهادة أن لا إله إلاّ اللّه

وأنّ محمداً رسول اللّه

وإقام الصلاة

وإيتاء الزكاة

والحج

ص: 538


1- واللفظ لمسلم ، وراجع البخاري : 2 / في مناقب علي علیه السلام .
2- صحيح مسلم : الجزء 6 ، باب فضائل علي بن أبي طالب.

وصوم رمضان » (1).

وأخرج البخاري - أيضاً - عن ابن عمر انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال :

« أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على اللّه » (2).

إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية المبثوثة في كتاب الإيمان في كتب الصحاح والسنن.

وأمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت فيكفيك ما رواه سماعة عن الإمام الصادق علیه السلام قال :

« الإسلام : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه والتصديق برسول اللّه به حقنت الدماء وجرت المناكح والمواريث » (3).

وكل هذه الأحاديث تصرح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الأعراض ويدخل الإنسان به في عداد المسلمين هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول.

وعلى ذلك جرت سنة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقد كان يكتفي من الرجل بإظهاره

ص: 539


1- راجع التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور على ناصف : 1 / 20.
2- صحيح البخاري : ج 1 ، كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة ، وفي صحيح ابن ماجة : 2 / 457 ، باب الكف عمّن قال : لا اله إلاّ اللّه.
3- الكافي 2 / 25 ، الطبعة الحديثة راجع باب الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان ترى فيها نصوصاً رائعة وصريحة في هذا المقام. وراجع التاج الجزء الأول كتاب الإسلام والإيمان من صفحة 20 إلی صفحة 34.

الشهادتين ، ولم ير منه أنّه سأل عن الوافدين المظهرين للشهادتين : هل هم يتوسلون بالأنبياء والأولياء والقديسين أو لا ؟ هل هم يتبركون بآثارهم أو لا ؟ هل هم يزورون قبور الأنبياء أو لا ؟ فيشترط عليهم أن يتركوا التوسل والتبرك والزيارة.

أجل كل ذلك يدل على أنّ الإسلام الحاقن للدماء الصائن للأعراض والأموال هو قبول الشهادتين وإظهارهما فقط ، وأمّا ما وراء ذلك فلا دخالة له في حقن الدماء والأموال والأعراض.

نعم انّ اللّه فرض على المسلمين عندما تنازعوا ، أو اختلفوا في أمر أن يردّوه إلى اللّه والرسول كما قال سبحانه :. ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإلى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) . (2).

وعلى ذلك فليس لأحد من المسلمين سب طائفة منهم وشتمها ورميها بالكفر والإلحاد ما دامت تتمسك بالشهادتين وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وذلك لأجل توسّلهم بالأنبياء أو تبرّكهم بآثارهم ، أو غير ذلك من المسائل الفكرية الدقيقة التي تضاربت فيها آراء علمائهم ونظرياتهم.

فإن طعن فيهم طاعن أو رماهم بالشرك ، فقد خرج عن النهج الذي شاءه اللّه للمسلمين ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (3) ، أو قال : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) . (4). وقال

ص: 540


1- النساء : 59.
2- النساء : 83.
3- الأنعام : 159.
4- النساء : 94.

سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (1).

والمراد بحبل اللّه الذي يجب الاعتصام به هو دينه المفسر بالإسلام ، كما قال : ( إِِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلامُ ) (2) ، والإسلام هو إظهار الشهادتين ولا ريب في وجوده في طوائف المسلمين إلاّ من اتفقت كلمتهم على تكفيرهم كالخوارج والنواصب.

ومن راجع الكتاب والسنّة يجد انّهما يركزان دعوتهما على لزوم التوادد والتحابب بين المسلمين لا على التنافر ، ورمي بعضهم بعضاً بالكفر ، والتعدي بالضرب والشتم والقتل.

وأخرج البخاري بطرق عديدة عن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه قال في حجة الوداع :

« انظروا ولا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ». (3).

فكيف يسمح الوهابيون لأنفسهم إذن بأن يرموا المسلمين الموحدين بالشرك ليس إلاّ لأنّهم يظهرون ما يضمرونه من محبة وود للنبي صلی اللّه علیه و آله بتقبيل ضريحه وتعظيمه.

2. هل القدرة والعجز حدّان للشرك ؟

ربما يستفاد من كلمات الوهابيين أنّ هناك معياراً آخر للشرك في العبادة ،

ص: 541


1- آل عمران : 102 - 103.
2- آل عمران : 19.
3- البخاري : ج 9 كتاب الفتن الباب السابع الحديث الأوّل والثاني ، ورواه أيضاً في مختلف كتبه ، ورواه ابن ماجة في باب سباب المسلم فسوق ، راجع 2 / 462 ، ط مصر.

وهو « قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة وعجزه عنه » ، فإذا طلب أحد من آخر حاجة لا يقدر عليها إلاّ اللّه عدّ عمله عبادة وشركاً ، فها هو ابن تيمية يكتب في هذا الصدد قائلاً :

« من يأتي إلى قبر نبي أو صالح ، ويسأله حاجته ، ويستنجد به ، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه ، أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ ، فهذ شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلاّ قتل » (1).

لقد جعل في هذه العبارة للشرك معياراً آخر ، وهو قدرة المسؤول وعجزه عن تلبية السائل ، ولو كان هذا هو الميزان يجدر بابن تيمية أن يضيف بعد قوله : « قبر نبي أو صالح » جملة أُخرى هي : « أو ولي حي » ليتضح أنّ المعيار الذي اعتمده - هنا - ليس هو موت المستغاث وحياته ، بل قدرته على تلبية الحاجة وعدم قدرته على ذلك ، كما فعل الصنعاني ( وهو أحد مؤلّفي الوهابيين ) إذ قال : « من الأموات أو من الأحياء ».

وإليك فيما يأتي نص عبارة الصنعاني في المقام :

الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه مما لا ينكرها أحد ، وإنّما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم ، وطلبهم منهم أُموراً لا يقدر عليها إلاّ اللّه تعالى من عافية المريض وغيرها ، وقد قالت أُم سليم : يا رسول اللّه خادمك أنس ادع اللّه له.

وقد كانت الصحابة يطلبون الدعاء منه وهو حي وهذا أمر متفق على جوازه.

ص: 542


1- زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : 156. وفي رسائل الهدية السنية : 40 نجد ما يقرب من هذا المطلب أيضاً يراجع كتاب كشف الارتياب.

والكلام في طلب القبوريين ، من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم ، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلاّ اللّه (1).

وهكذا نعرف أنّ المعيار هنا هو غير ما سبق.

ففي المبحث السابق كان المعيار هو : حياة وموت المستغاث ، فلم يكن الطلب من الحي موجباً للشرك بينما كان الطلب من الميت موجباً لذلك ، ولكن في هذا المبحث جعلت قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة المطلوبة منه ، أو عجزه عنها هي الميزان والمدار للتوحيد والشرك.

فلو سأل أحد حاجة من آخر غير اللّه ، وكانت تلك الحاجة مما لا يقدر عليها غيره سبحانه ، فإنّه يعتبر - حسب هذا المعيار الجديد - مشركاً دون أن يكون لحياة وموت المستغاث أي ربط بذلك.

فإذن لا تفاوت في هذا المعيار بين المستغاث الحي والميت.

مناقشة هذا الرأي

والحق أنّ هذا الرأي أضعف من أن يحتاج إلى مناقشة ونقد ، وذلك لأنّ قدرة المستغاث أو عجزه إنّما يكون معياراً لعقلائية مثل هذا الطلب وعدم عقلائيته لا معياراً للتوحيد والشرك ، فالساقط في بئر مثلاً لو استغاث بالأحجار والصخور المحيطة به واستنجد بها عد - في نظر العقلاء - عابثاً ، أمّا لو استغاث بإنسان واقف عند البئر قادر على إنقاذه كان طلبه عملاً عقلائياً.

وأغلب الظن أنّ مراد الوهابيين من قولهم : « مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ

ص: 543


1- كشف الارتياب : 272.

وجل » ليس هو التفريق بين القادر والعاجز ، وانّ طلب الحاجة من الثاني شرك دون الأوّل ، وإن كان هذا تفيده ظواهر كلماتهم وعباراتهم ، بل المقصود من تلك الجملة هو التفريق بين طلب ما هو من فعل اللّه وشأنه وما لا يكون من فعله وشأنه فتكون النتيجة أنّه لو طلب واحد من غير اللّه ما هو من فعل اللّه وشأنه ارتكب شركاً ، كما تشعر بذلك عبارة ابن تيمية إذ قال : « أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ » ، ومثله عبارة الصنعاني إذ قال : « من عافية المريض وغيرها ... ».

ولا شك أنّ طلب ما هو من فعل اللّه وشأنه من غيره من أقسام الشرك ، ويعد السائل عابداً له ، وعمله عبادة ، وقد سبق منّا بيان هذا القسم من الشرك عند الكلام في التعريف الثالث للعبادة ، ونحن والمسلمون جميعاً نوافقهم في هذا الأصل.

إلاّ أنّ الكلام كله إنّما هو في تشخيص ما يعد فعلاً لله سبحانه عن فعل غيره ، وقد سلم ابن تيمية بأنّ إشفاء المريض وقضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعاله سبحانه ، ولذلك لا يجوز طلبه من غيره مطلقاً ، بيد أنّ الحق أنّ هذه الأُمور ليست من فعل اللّه مطلقاً بل القسم الخاص منها يعد فعلاً له سبحانه ، وهو قضاء حاجة المستنجد « كإبراء المريض وقضاء الدين ورد الضالّة وغيرها من الأفعال » على وجه الاستقلال من دون استعانة بأحد.

وأمّا القسم الذي يقوم به غيره بإذنه سبحانه ، وإقداره فلا يعد فعلاً خاصاً به ، ولأجل ذلك لو طلب أحد هذه الأُمور من غير اللّه مع الاعتقاد بأنّ المستغاث يقوم بهذه الأُمور مستمداً من قدرة اللّه ونابعاً عن إذنه ومشيئته لم يكن شركاً.

كيف لا وقد نسب القرآن الكريم إشفاء المرضى والأكمه إلى المسيح علیه السلام

ص: 544

مع التلويح بالإذن الإلهي ، إذ قال : ( وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي ) (1).

كما ونسب القرآن : الخلق والتدبير والإحياء والإماتة والرزق إلى كثير من عباده مع أنّها - ولا شك - من أوضح أفعاله سبحانه ولا يقل وضوح انتسابه إلى اللّه مما مثل به ابن تيمية.

وليست هذه النسبة إلى غير اللّه إلاّ لأجل ما أشرنا إليه ، في محله (2) من أنّ ما يعد فعلاً للباري سبحانه ليس هو مطلق الخلق والرزق ، والتصرف والتدبير ، والإحياء والإماتة ، حتى يناقض نسبتها إلى غيره سبحانه ( كما في كثير من الآيات ) بل القسم الخاص منها وهو ما يكون الفاعل مستقلاً في فعله ، منحصر به سبحانه كما أنّه ليس ثمة مسلم يطلب هذه الأفعال بهذا النحو من غيره سبحانه حتى يعد عمله شركاً ويكون سؤاله عبادة.

فالواجب على ابن تيمية وأتباعه دراسة أفعاله سبحانه وتمييزها عن أفعال غيره أوّلاً ، فإنّه المفتاح الوحيد لحل هذه المشكلة ، بل هو المفتاح والطريق لحل كل الاختلافات بين ظواهر الآيات التي تبدو متعارضة مع بعضها في نسبة الأفعال.

وعلى ذلك فإنّ طلب إزالة المرض ورد الضالّة وغيرهما على نحوين :

قسم يختص به سبحانه ولا يجوز طلبه من غيره وإلاّ لعاد الطالب مشركاً وعابداً لغير اللّه.

وقسم يجوز طلبه من غيره ولا يعد الطالب مشركاً ، ولا يكون بطلبه عابداً لغير اللّه.

ص: 545


1- المائدة : 110.
2- راجع للوقوف على كيفية انتساب هذه الأفعال إلى اللّه سبحانه الفصل الثامن ص 404.

وأمّا أنّ المسؤول والمستغاث هل يقدر على تحقيق الحاجة أو لا ؟ وإنّ اللّه هل أقدره على ذلك أو لا ؟ فهي أُمور خارجة عن موضوع بحثنا الفعلي.

3. هل طلب الأُمور الخارقة حد للشرك ؟

لا شك أنّ لكل ظاهرة - بحكم قانون العلية - علَّة لا يمكن للمعلول أن يوجد بدونها ، فليس في الكون الفسيح كله من ظاهرة حادثة لا ترتبط بعلة ، ومعاجز الأنبياء ، وكرامات الأولياء غير مستثناة من هذا الحكم فهي لا تكون دون علة ، غاية الأمر أنّ علتها ليست من سنخ العلل الطبيعية ، وهو غير القول بكونها موجودة بلا علة مطلقاً.

فإذا ما تبدلت عصا موسى علیه السلام إلى ثعبان يتحرك ويبتلع الأفاعي ، وإذا ما عادت الروح إلى جسد ميت بال ، بإعجاز المسيح علیه السلام ، وإذا ما انشق القمر نصفين بإعجاز خاتم الأنبياء صلی اللّه علیه و آله ، أو تكلم الحصى معه ، أو سبّح في يده ، فليس معنى ذلك إنّها لا ترتبط بعلة كسائر الظواهر الحادثة ، بل ترتبط بعلل خاصة غير العلل الطبيعية المألوفة.

فلو استمد إنسان من انسان آخر لقضاء حاجته عن علله الطبيعية لقد جرى على السنة المألوفة بين العقلاء ، إنّما الكلام في الاستمداد لقضاء الحاجة عن الطرق الغيبية والعلل غير الطبيعية ، وهذا هو ما يتصور أنّه شرك ، وفي ذلك يقول المودودي لو طلب حاجة وأمراً لتعطى له من غير المجرى الطبيعي وخارجاً عن إطار السنن الطبيعية كان شركاً وملازماً للاعتقاد بإلوهية الجانب الآخر المسؤول (1).

ص: 546


1- راجع المصطلحات الأربعة : 14.

غير أنّ هذا التفصيل لا يمكن الركون إليه إذ جرت سيرة العقلاء على طلب المعجزة والأُمور الخارقة للعادة من مدعي النبوة ، وقد نقل القرآن تلك السيرة عن الذين عاصروا الأنبياء من دون أن يعقب على ذلك بالرد والنقد ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَة فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1).

وقد كان الأنبياء يدعون الناس ليشهدوا ما يقع على أيديهم من خوارق العادات ، وعلى هذا فالإنسان المستهدي المتطلب لمعرفة صدق دعوى المتنبئ كالسيد المسيح وغيره إذا طلب منه أن يبرئ الأكمه ويشفي الأبرص - بإذن اللّه - (2) لا يكون مشركاً ، ومثله فيما إذا طلب ذلك منه بعد رفعه إلى اللّه سبحانه ، فلا يمكن التفريق بين الصورتين باعتبار الأوّل عملاً توحيدياً والثاني عملاً ممزوجاً بالشرك.

أضف إلى ذلك أنّ بني إسرائيل طلبوا من موسى الماء والمطر وهم في التيه ليخلصهم من الظمأ إذ يقول سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ ) (3).

وقد طلب سليمان من حضّار مجلسه إحضار عرش المرأة التي كانت تملك قومها كما يحكي سبحانه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) (4).

فلو كان طلب الخوارق من غيره سبحانه شركاً كيف طلب بنو إسرائيل من

ص: 547


1- الأعراف : 106.
2- راجع للوقوف على معاجز سيدنا المسيح سورة آل عمران : 249 ، والمائدة : 110.
3- الأعراف : 160.
4- النمل : 37 - 38.

نبيّهم موسى ذلك الأمر ؟ أو كيف طلب سليمان من أصحابه إحضار ذلك العرش من المكان البعيد ؟! وكل ذلك يعطي بأنّ طلب الخوارق أو طلب الشيء عن غير مجاريه الطبيعية ليس حداً للشرك كما أنّ الحياة والموت ليسا حدّين للشرك ، فلا يمكن أن يقال بأنّ طلب الخوارق جائز من الحي دون الميت ، ولأجل ذلك يجب أن نركز البحث في التعرف على ملاك الشرك والتوحيد.

وتصور أنّ طلب الخوارق ملازم للاعتقاد بالسلطة الغيبية الملازمة للإلوهية ، فقد عرفت جوابه في ذلك الفصل (1).

وتصور أنّ طلب شفاء المريض وأداء الدين طلب لفعل اللّه من غيره ، مدفوع بما عرفت من أنّ الملاك في تمييز فعله سبحانه عن غيره ليس هو كون الفعل خارجاً عن إطار السنن الطبيعية وخارقاً للقوانين الكونية ليكون طلب مثل هذا من غير اللّه طلباً للفعل الإلهي من غيره.

بل المعيار في الفعل والشأن الإلهي هو ما كان الفاعل مستقلاً في الخلق والإيجاد غير معتمد على غيره سواء أكان الأمر أمراً طبيعياً أم غير طبيعي ، ويجب على متطلب الحقيقة أن يدرس فعل اللّه وفعل غيره دراسة معمقة نابعة عن الكتاب والسنّة والعقل السليم.

وبكلام آخر : انّه ليس القيام بأمر عن طريق عادي فعلاً للإنسان ، والقيام به عن طريق غير عادي فعلاً لله سبحانه ، بل الفعل على قسمين : قسم منه يعد فعلاً له سبحانه لا يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي ، وقسم يعد فعلاً لغير اللّه يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي أيضاً ، وبذلك يعلم أنّ طلب الشفاء من الأولياء على النحو الذي بيناه لا يخالف أُصول التوحيد.

ص: 548


1- راجع في الوقوف على حقيقة الأمر ص 497.

ولما كان البحث في المقام عن تحديد معايير التوحيد والشرك يجب علينا أن نعود ونبحث في مسائل أربع :

1. هل طلب الشفاء من غيره سبحانه شرك ؟

2. هل طلب الشفاعة من عباد اللّه سبحانه شرك ؟

3. هل الاستعانة بأولياء اللّه شرك ؟

4. هل دعوة الصالحين شرك ؟

أمّا الوهابيُّون فقد اتفقت كلمتهم على أنّ هذه الطلبات عبادة محرمة وأنّ المسؤول سيعود معبوداً حتى أنّهم - مثلاً - لا يجوِّزون أن يقول الإنسان في باب الشفاعة : يا رسول اللّه ! اشفع لي عند اللّه بل يقولون إنّما يجوز أن يقول : اللّهم شفّعه فيَّ ، غير أنّ الفرق الأُخرى من المسلمين قد أجازوا ذلك واستدلّوا عليه بأدلة محررة في كتبهم ، ونحن نبحث هذه المسائل الأربع من زاوية خاصة وهي أنّ هذه الطلبات هل هي شرك أو لا ؟

وبعبارة أُخرى : هل هي من باب طلب فعل اللّه من غيره سبحانه أو لا ؟ والجواب في هذه المسائل هو النفي قطعاً ويظهر وجهه مما حررناه في تحديد فعله سبحانه عن فعل غيره بمعنى أنّ الشفاء على وجه الاستقلال فعله سبحانه ، وعلى النحو المعتمد على قدرته سبحانه فعل للغير ، ومثله الشفاعة والإعانة فإنَّهما يتصوّران على قسمين : قسم يختص به سبحانه ، وقسم يعم عباده.

غير أنّنا طلباً للوضوح الأكثر سندرس هذه المسائل الأربع في ضوء الآيات القرآنية ، وإن كان في ما تقدم غنى وكفاية.

ص: 549

9

هل طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة ودعوة الصالحين شرك ؟

1. هل طلب الإشفاء من غيره سبحانه شرك ؟

لا شك في أنّ هذا الكون عالم منظم ، فجميع الظواهر الكونية فيه تنبع من الأسباب والعلل التي - هي بدورها - مخلوقة لله تعالى ، ومعلولة له سبحانه.

وحيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها أي كمال ذاتي ، بل وجدت بمشيئة اللّه ، وصارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلك صح أن ينسب اللّه آثارها وأفعالها إلى نفسه ، كما يصح أن تنسب إلى عللها.

هذا ما أوضحناه في ما سبق أتم إيضاح وبذلك يظهر أنّ الشفاء تارة ينسب إلى اللّه سبحانه وأُخرى إلى علله القريبة المؤثرة بإذنه ، وبذلك يرتفع التعارض الابتدائي بين الآيات ، فبينما يخص القرآن الإشفاء باللّه سبحانه ويقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (1).

ص: 550


1- الشعراء : 80.

وبينما ينسب الشفاء إلى غيره كالقرآن والعسل ، والجواب انّه ليس هنا في الحقيقة إلاّ فعل واحد وهو الإشفاء ينسب تارة إلى اللّه على وجه التسبيب ، وإلى غيره من الأسباب العادية كالعسل والأدوية وغيرها على وجه المباشرة.

فهو الذي وهب أنبياءه وأولياءه القدرة على الإشفاء والمعافاة والإبراء ، وهو الذي أذن لهم بأن يستخدموا هذه القدرة الموهوبة ضمن شروط خاصة.

فهذا القرآن إذ يصف اللّه تعالى بأنّه هو الشافي الحقيقي ( كما في آية 80 الشعراء ) يصف العسل بأنّه الشافي أيضاً عندما يقول :

( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) . (1)

أو ينسب الشفاء إلى القرآن عندما يقول :

( وننَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ ) (2).

وطريق الجمع الذي ذكرناه وارد هنا وجار في هذا المقام كذلك ، وهو بأن نقول :

إنّ الإبراء والإشفاء - على نحو الاستقلال - من فعل اللّه لا غير.

وعلى نحو التبعية واللااستقلال من فعل هذه الأُمور والأسباب ، فهو الذي خلقها ، وأودع فيها ما أودع من الآثار ، فهي تعمل بإذنه وتؤثر بمشيئته.

ففي هذه الصورة إذا طلب أحد الشفاء من أولياء اللّه وهو ملتفت إلى هذا الأصل (3) كان عمله جائزاً ومشروعاً وموافقاً للتوحيد المطلوب تماماً.

ص: 551


1- النحل : 69.
2- الإسراء : 82.
3- نعني كونهم يؤثرون بإذن اللّه وقدرته ومشيئته.

لأنّ الهدف من طلب الشفاء من الأولياء هو تماماً مثل الهدف من طلب الشفاء من العسل والعقاقير الطبية ، غاية ما في الباب أنّ العسل والعقاقير تعطي آثارها بلا إرادة وإدراك منها ، بينما يفعل ما يفعله النبيُّ والولي عن إرادة واختيار ، فلا يكون الهدف من الاستشفاء من الولي إلاّ مطالبته بأن يستخدم تلك القدرة الموهوبة له ويشفي المريض بإذن اللّه ، كما كان يفعل السيد المسيح علیه السلام ، إذ كان يبرئُ من استعصى علاجه من الأمراض بإذن اللّه والقدرة الموهوبة له من اللّه.

وواضح أنّ مثل هذا العمل لا يعد شركاً ، إذ لا ينطبق على ذلك معايير الشرك ، أو قل المعيار الواحد الحقيقي.

نعم يمكن المناقشة في أنّهم هل يقدرون على ذلك أو لا ؟ وهل أُعطيت لهم تلك المقدرة أو لا ؟ غير أنّ البحث مركز على كونه طلباً توحيدياً أو غير توحيدي.

ومما يوضح ذلك أنّ الفراعنة كانوا يطلبون من موسى كشف الرجز ، كما في قوله سبحانه قالوا :

( يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِننَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (1).

ولا نريد أن نستدل بطلب فرعون أو قومه ، بل الاستدلال إنّما هو بسكوت موسى أمام مثل هذا الطلب.

2. هل طلب الشفاعة من غيره سبحانه شرك ؟

لا مرية في أنّ الشفاعة حق خاص باللّه سبحانه ، فالآيات القرآنية - مضافة

ص: 552


1- الأعراف : 134.

إلى البراهين العقلية - تدل على ذلك ، مثل آية :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1).

إلاّ أنّ في جانب ذلك دلت آيات كثيرة أُخرى على أنّ اللّه أذن لفريق من عباده أن يستخدموا هذا الحق ، ويشفعوا - في ظروف وضمن شروط خاصة - حتى أنّ بعض هذه الآيات صرحت بخصوصيات وأسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء ، كقوله تعالى :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّه لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (2).

كما أنّ القرآن أثبت لنبيِّ الإسلام « المقام المحمود » ، إذ يقول :

( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (3).

وقد قال المفسرون : إنّ المقصود بالمقام المحمود هو : مقام الشفاعة ، بحكم الأحاديث المتضافرة التي وردت في هذا الشأن.

كل هذا مما اتفق عليه المسلمون ، إنّما الكلام في أنّ طلب الشفاعة ممن أُعطي له حق الشفاعة كأن يقول : « يا رسول اللّه اشفع لنا » هل هو شرك أو لا ؟

وليس البحث في المقام - كما ألمعنا إلى ذلك غير مرّة - في كون هذا الطلب مجدياً أو لا ، إنّما الكلام في أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا ؟

فنقول : قد ظهر الجواب مما أوضحناه في الأبحاث السابقة ، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة ، لهم أن يشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا وكيفما ارتأوا ، دون

ص: 553


1- الزمر : 44.
2- النجم : 26.
3- الإسراء : 79.

رجوع إلى الإذن الإلهي أو حاجة إلى ذلك ، فإنّ من المحتّم أنّ هذا الطلب والاستشفاع عبادة وإنّ الطالب يكون مشركاً حائداً عن طريق التوحيد ، لأنّه طلب الفعل الإلهي وما هو من شؤونه من غيره.

وأمّا لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق لله لا يمكنه الشفاعة لأحد إلاّ بإذنه ، فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهية ، ولا يكون خارجاً عن نطاق التوحيد.

وإنّ تصوّر أحد أنّ هذا العمل ، أعني : طلب الشفاعة من أولياء اللّه ، يشبه - في ظاهره - عمل المشركين ، واستشفاعهم بأصنامهم ، فهو تصوّر باطل بعيد عن الحقيقة.

لأنّ التشابه الظاهري لا يكون أبداً معياراً للحكم ، بل المعيار الحقيقي للحكم إنّما هو : قصد الطالب ، وكيفية اعتقاده في حق الشافع ، ومن الواضح جداً أنّ المعيار هو النيّات والضمائر ، لا الأشكال والظواهر ، هذا مع أنّ الفرق بين العملين واضح من وجوه :

أوّلاً : أنّه لا مرية في أنّ اعتقاد الموحّد في حق أولياء اللّه يختلف - تماماً - عن اعتقاد المشرك في حق الأصنام.

فإنّ الأصنام والأوثان كانت - في اعتقاد المشركين - آلهة صغاراً تملك شيئاً من شؤون المقام الإلوهي من الشفاعة والمغفرة ، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم يعتقدون بأنّ من يستشفعون بهم : عباد مكرمون لا يعصون اللّه وهم بأمره يعملون ، وأنّهم لا يملكون من الشفاعة شيئاً ، ولا يشفعون إلاّ إذا أذن اللّه لهم أن يشفعوا في حق من ارتضاه.

ص: 554

وبالجملة فإنّ تحقق الشفاعة منهم يحتاج إلى وجود أمرين :

1. أن يكون الشفيع مأذوناً في الشفاعة.

2. أن يكون المشفوع له مرضياً عند اللّه.

فلو قال مسلم لصالح من الصالحين : ( اشفع لي عند اللّه ) ، فإنّه لا يفعل ذلك إلاّ مع التوجّه إلى كونه مشروطاً بالشرطين المذكورين.

ثانياً : أنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مضافاً إلى استشفاعهم بها ، بحيث كانوا يجعلون استجابة دعوتهم واستشفاعهم عوضاً عما كانوا يقومون به من عبادة لها ، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم لا يعبدون غير اللّه طرفة عين أبداً.

وأمّا استشفاعهم بأُولئك الشفعاء فليس إلاّ بمعنى الاستفادة من المقام المحمود الذي أعطاه اللّه سبحانه لنبيّه في المورد الذي يأذن فيه اللّه ، فقياس استشفاع المؤمنين بما يفعله المشركون ليس إلاّ مغالطة. وقد مر غير مرّة أنّه لو كان الملاك التشابه الظاهري للزم أن نعتبر الطواف بالكعبة المشرفة ، واستلام الحجر ، والسعي بين الصفا والمروة ، موجباً للشرك وعبادة للحجر.

الوهابيون وطلب الشفاعة

إنّ الوهابيّين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة شركاً وعبادة ، ويظنون أنّ القرآن لم يصف الوثنيين بالشرك إلاّ لطلبهم الشفاعة من أصنامهم كما يقول سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (1).

ص: 555


1- يونس : 18.

وعلى هذا فالشفاعة وإن كانت حقاً ثابتاً للشفعاء الحقيقيين ، إلاّ أنّه لا يجوز طلبه منهم ، لأنّه عبادة لهم ، قال محمد بن عبد الوهاب :

إن قال قائل : الصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم وأرجو من اللّه شفاعتهم ، فالجواب أنّ هذا قول الكفار سواء بسواء ، واقرأ عليهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (1) وقوله : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (2). (3)

وإن قال : إنّ النبي أُعطي الشفاعة ، وأنا أطلبه ممّن أعطاه اللّه ، فالجواب أنّ اللّه أعطاه الشفاعة ونهاك عن طلبها منه ، فقال تعالى : ( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) (4) وأيضاً فإنّ الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة يشفعون والأفراد يشفعون والأولياء يشفعون ، أتقول إنّ اللّه أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم ؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها اللّه في كتابه (5).

استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآيات ثلاث :

الأُولى : قوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) إذ قال بأنّ عبادة المشركين للأوثان كانت متحققة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر.

الثانية : قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ

ص: 556


1- الزمر : 3.
2- يونس : 18.
3- كشف الشبهات : 7 - 9 طبعة القاهرة.
4- الجن : 18.
5- كشف الشبهات : 7 - 9 طبعة القاهرة.

لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (1) قائلاً بأنّ عبادة المشركين للأصنام كانت متحققة بطلب شفاعتهم منها.

الثالثة : قوله سبحانه : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (2).

ولابد من البحث حول الآيات التي استدل بها القائل على أنّ طلب الشفاعة ممّن له حق الشفاعة عبادة له فنقول :

أمّا الاستدلال بالآية الأُولى فالإجابة عنه بوجهين :

1. ليس في قوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ) إلى آخر الآية ، أيّة دلالة على مقصودهم ، وإذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك فليس ذلك لأجل استشفاعهم بالأوثان ، بل لأجل أنّهم كانوا يعبدونها لتشفع لهم بالمآل.

وحيث إنّ هذه الأصنام لم تكن قادرة على تلبية حاجات الوثنيين ، لذلك كان عملهم عملاً سفهياً ، لا أنّه كان شركاً.

فالإمعان في معنى الآية وملاحظة أنّ هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين : ( العبادة ، وطلب الشفاعة كما يدل عليه قوله : ( وَيَعْبُدُونَ ) و ( وَيَقُولُونَ ) ) يكشف عن أنّ علّة اتّصافهم بالشرك واستحقاقهم لهذا الوصف كانت عبادتهم لتلك الأصنام وليس استشفاعهم بها ، كما لا يخفى.

ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها في الحقيقة لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى ، أعني : قوله « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا » بعد قوله « ويعبدون » إذ كان حينئذ تكراراً.

ص: 557


1- الزمر : 3.
2- الجن : 18.

إنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يدل على المغايرة بينهما ، إذن لا دلالة لهذه الآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة ، فضلاً عن كون : الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم ، نعم قد ثبت أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة لهم بأدلّة أُخر.

2. أنّ هناك فرقاً بين الاستشفاعين ، فالوثني يعتبر الصنم ربّاً مالكاً للشفاعة يمكنه أن يشفع لمن يريد وكيفما يريد ، والاستشفاع بهذه العقيدة شرك ، ولأجل ذلك يقول سبحانه نقداً لهذه العقيدة : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) والحال أنّ المسلمين لا يعتقدون بأنّ أولياءهم يملكون هذا المقام ، فهم يتلون آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه :

( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (2).

ومع هذا التفاوت البيّن ، والفارق الواضح ، كيف يصح قياس هذا بذلك ؟

والدليل على أنّ المشركين كانوا معتقدين بكون أصنامهم مالكة للشفاعة أمران :

الأوّل : تأكيد القرآن في آياته بأنّ شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه وارتضائه.

قال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (3).

وقال : ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (4).

ص: 558


1- الزمر : 44.
2- البقرة : 255.
3- البقرة : 255.
4- يونس : 3.

وقال : ( يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ) (1).

وقال : ( لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأذَنَ اللّهُ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2).

وقال : ( وَلا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى ) (3).

الثاني : تأكيد القرآن على أنّ الأصنام لا تملك الشفاعة ، بل هي لمن يملكها :

قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ ) (4).

وقال سبحانه : ( لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (5).

فالشفاعة محض حق لمالكها ، وليس هو إلاّ اللّه ، كما تصرّح بذلك الآيات السابقة ، وأمّا المشركون فكانوا يعتقدون أنّ أصنامهم تملك هذا الحق ، ولذلك كانوا يعبدونها أوّلاً ، ويطلبون منها الشفاعة عند اللّه ثانياً.

نعم : انّ الظاهر من قوله سبحانه : ( لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (6).

وقوله سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ ) (7) هو : انّ المتخذين للعهد والشاهدين بالحق يملكون الشفاعة كما هو

ص: 559


1- طه : 109.
2- النجم : 26.
3- الأنبياء : 28.
4- الزخرف : 86.
5- مريم : 87.
6- مريم : 87.
7- الزخرف : 86.

مقتضى الاستثناء.

لكن المراد من المالكية في هاتين الآيتين هو : المأذونية بقرينة سائر الآيات ، لا المالكية بمعنى التفويض ، وإلاّ لزم الاختلاف والتعارض بين مفاد الآيات ، وما ورد في السير والتواريخ من أنّ المشركين كانوا يقولون عند الإحرام والطواف : ( الا شريك هو لك تملكه وما ملك ) (1) يحتمل الأمرين.

وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية الثانية : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا ... ) إذ حمل ابن عبد الوهاب قوله سبحانه : ( مَا نَعْبُدُهُمْ ) على طلب الشفاعة ، مع أنّ الآية المتقدّمة صريحة في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة.

نعم إنّما يكون عبادة إذا اتخذ المستشفع المدعو إلهاً ، أو من صغار الآلهة - كما تقدم -.

وأمّا ما اعترف به ابن عبد الوهاب ( ضمن كلامه المنقول سلفاً ) من أنّ اللّه أعطى الشفاعة لنبيّه ولكنَّه تعالى نهى الناس عن طلبها منه ، فغريب ، إذ لا آية ولا سنّة تدل على النهي عن طلبها ، مضافاً إلى غرابة هذا النهي من الناحية العقلية ، إذ مثله أن يُعطي للسقّاء ماء وينهى الناس عن طلب السقي منه ، أو يُعطي الكوثر لنبيّه وينهى الأُمّة عن طلبه.

وأمّا قوله : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) وهي ثالثة الآيات التي استدل بها ابن عبد الوهاب فسيوافيك مفادها عن قريب حيث نبيّن - هناك - انّ المراد من الدعوة في الآية المذكورة هو : العبادة ، فيكون معنى : فلا تدعوا هو : فلا تعبدوا مع اللّه أحداً ، فالحرام المنهي عنه عبادة غير اللّه ، لا مطلق دعوة غير اللّه ، وليس طلب الشفاعة إلاّ طلب الدعاء من الغير لا عبادة الغير ، وبين الأمرين بون شاسع.

ص: 560


1- الملل والنحل : 2 / 255.

ومن ذلك يظهر ضعف دليل رابع لمحمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ، ما حاصله :

إنّ الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد في قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1).

إنّ دعوة الشفيع - بعد ثبوت الإذن له والرضا من اللّه - ليست عبادة للشفيع حتى تنافي إخلاص العبادة لله سبحانه ، بل هو طلب الدعاء منه ، وإنّما يشترط الإخلاص في العبادة ، لا في طلب الدعاء من الغير ، كما لا تنافي دعوة اللّه ولا تنفك عنها ، إذ الشفاعة من الشفع ، وطلب الشفاعة من الشفيع بمعنى أنّ المستشفع يدعو الشفيع لأن ينضم إليه ، ويجتمعا ويدعوا اللّه سبحانه - معاً - فدعوة المستشفع للشافع ليس إلاّ دعوة الثاني إلى أن يدعو اللّه لا أكثر ، فأيُّ ضير في هذا يا ترى ؟!

ومن العجب تفسير طلب الشفاعة من النبي وغيره بأنّه دعاء للنبي مع اللّه كما في أسئلة الشيخ ابن بليهد : قاضي القضاة عن علماء المدينة (2) حيث قال :

وما يفعل الجهّال عند هذه الضرائح من التمسّح بها ودعائها مع اللّه.

ولا يخفى ما في كلامه من ضعف :

أمّا أوّلاً : فإنّ هؤلاء المتوسلين عند الضرائح لا يشركون أحداً في الدعاء ( الذي هو مخ العبادة ) ولا يدعون إلاّ اللّه الواحد القهّار ، وإنّما يطلبون من أوليائهم أن يضموا دعاءهم إلى دعاء المتوسلين ، فيشتركوا معهم في دعاء اللّه

ص: 561


1- كشف الشبهات : 8.
2- نقلت جريدة أُم القرى في عددها 69 المؤرخ 17 شوال عام 1344 ه كل نص هذه الأسئلة والأجوبة.

لنجاح حاجتهم ، ولولا ذلك لما كان لطلب الشفاعة معنى ، فإنّ الشفاعة مأخوذة من الشفع - كما قلنا - الذي هو ضد الوتر ، فهو يطلب من وليّه أن ينضم إليه في الدعاء ويجتمع معه في العمل ، فأين ذلك من تشريك غير اللّه معه في الدعاء ؟

وثانياً : أنّ المسلمين لا يدعون الضرائح ، بل يطلبون من صاحب الضريح أن يشترك معهم في الدعاء ، لأنّه ذو مكانة مكينة عند اللّه ، وإن كان متوفّياً ، ولكنّه حي يرزق عند ربّه - بنص الكتاب العزيز - وانّه لا يرد دعاؤه لقوله سبحانه في حق النبي صلی اللّه علیه و آله مثلاً :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) . (1)

( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (2).

ثم إنّه يظهر من ابن تيمية في بعض رسائله (3) ، وتلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب في رسالة « أربع قواعد » (4) إنّهما استدلا على تحريم طلب الشفاعة من غير اللّه بقوله سبحانه : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (5).

وكأنّ الاستدلال مبني على أنّ معنى الآية هو : ولله طلب الشفاعة فقط.

ولكنه تفسير للآية بغير ظاهرها ، إذ ليس معنى الآية أنّ اللّه وحده هو الذي يشفع وغيره لا يشفع ، لأنّه تعالى لا يشفع عند أحد ، ثم قد ثبت أنّ الأنبياء

ص: 562


1- النساء : 64.
2- التوبة : 103.
3- رسالة « زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور » : 156.
4- ص 25 ، راجع كشف الارتياب : 240 - 241 وكشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب : 8.
5- الزمر : 44.

والصالحين والملائكة يشفعون لديه.

كما أنّه ليس معناها أنّه لا يجوز طلب الشفاعة إلاّ منه سبحانه ، بل معناها أنّ اللّه مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه.

قال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) ، وقال : ( وَلا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى ) .

ويتضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآية وهو :

( أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1).

فالمقطع الأخير من الآية بصدد الرد على الذين اتَّخذوا الأصنام والأحجار شفعاء عند اللّه ، وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه مع أنّها ما كانت تملك شيئاً ، فكيف كانت تملك الشفاعة وهي لا عقل لها حتى تشفع ؟

يقول الزمخشري - في كشافه - :

( مِنْ دُونِ اللّهِ ) أي من دون إذنه ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعاً ) أي مالكها فلا يشفع أحد إلاّ بشرطين :

أن يكون المشفوع له مرتضى ، وأن يكون الشفيع مأذوناً له ، وهاهنا الشرطان مفقودان جميعاً (2).

وما ذهب إليه ابن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية وأتباعهما من أنّ الآية هذه تدل على أنّ طلب الشفاعة لا يكون إلاّ من اللّه وحده ، دون طلبها من

ص: 563


1- الزمر : 43 و 44.
2- تفسير الكشاف : 3 / 34.

المخلوق وإن كان له حق الشفاعة ، لم يذكره أحد من المفسرين.

* * *

ثم إنّه كيف يمكن التفريق بين طلب الشفاعة من الحي وطلبها من الميت ، فيجوز الأوّل بنص قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (1) ، وبدليل طلب أولاد يعقوب من أبيهم الشفاعة وقولهم : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ) (2)ووعد يعقوب علیه السلام إيّاهم بالاستغفار لهم ، بينما لا يكون الثاني ( أي الاستشفاع بالميت ) جائزاً ؟

أفيمكن أن تكون الحياة والممات مؤثرتين في ماهية عمل ؟! وقد سبق أنّ الحياة أو الممات ليست معياراً للتوحيد والشرك ، وبالنتيجة لجواز الشفاعة أو عدم جوازها.

وإذا لاحظت كتب الوهابيين لرأيت أنّ الذي أوقعهم في الخطأ والالتباس هو مشابهة عمل الموحدين في طلب الشفاعة والاستغاثة بالأموات والتوسّل بهم ، لعمل المشركين عند أصنامهم ، ومعنى ذلك أنّهم اعتمدوا على الأشكال والظواهر وغفلوا عن النيّات والضمائر.

وأنت أيها القارئ لو وقفت على ما في ثنايا هذه الفصول ، لرأيت أنّ الفرق بين العملين من وجوه كثيرة ، نذكر منها :

1. انّ المشركين كانوا يقولون بالوهية الأصنام بالمعنى الذي مرّ ذكره ، بخلاف الموحّدين.

ص: 564


1- النساء : 64.
2- يوسف : 97.

2. انّ الأوثان والأصنام كانت أعجز من أن تلبي دعوتهم ، وهذا بخلاف الأرواح الطاهرة المقدسة ، فإنّها أحياء بنص الكتاب العزيز ، وقادرة على ما يطلب منها في الدعاء.

3. انّ الأوثان والأصنام لم يأذن اللّه لها ، بخلاف النبي الأكرم فإنّه مأذون بنص القرآن الكريم :

قال سبحانه : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (1).

والمقام المحمود - باتّفاق المفسرين - هو مقام الشفاعة.

3. هل الاستعانة بغير اللّه شرك ؟

إنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين :

1. أن نستعين بعامل - سواء كان طبيعياً أم غير طبيعي - مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه وإذنه.

وهذا النوع من الاستعانة - في الحقيقة - لا ينفك عن الاستعانة باللّه ذاته ، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر وأذن به وإن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض ، فقد استعان باللّه - في الحقيقة - لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل ، القدرة على

ص: 565


1- الإسراء : 79.

إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حد الكمال.

2. وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي أو غير طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقل في وجوده ، أو في فعله عن اللّه فلا شك أنّ ذاك الاعتقاد يصير شركاً والاستعانة معه عبادة.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها ، أو أنّها مستقلة في وجودها ، ومادتها كما في فعلها وقدرتها فالاعتقاد شرك والطلب عبادة.

مع مؤلّف المنار في تفسير حصر الاستعانة

إنّ مؤلف المنار تصوّر أنّ حد التوحيد هو : أن نستعين بقدرتنا ونتعاون فيما بيننا - في الدرجة الأُولى - ثم نفوّض بقية الأمر إلى اللّه القادر على كل شيء ، ونطلب منه - لا من سواه - ويقول في ذلك :

يجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك ونبذل لإتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة وأن نتعاون ، ويساعد بعضنا بعضاً ، ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء ونلجأ إليه وحده ، ونطلب المعونة للعمل والموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه (1).

إذ صحيح أنّنا يجب أن نستفيد من قدرتنا ، أو من العوامل الطبيعية المادية ولكن يجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأية أصالة وغنى واستقلال وإلاّ خرجنا عن حدود التوحيد.

ص: 566


1- تفسير المنار : 1 / 59.

فإذا اعتقد أحد بأنّ هناك - مضافاً إلى العوامل والقوى الطبيعية - سلسلة من العلل غير الطبيعية التي تكون جميعها من عباد اللّه الأبرار الذين يمكنهم تقديم العون (1) لمن استعان بهم تحت شروط خاصة وبإذن اللّه وإجازته دون أن يكون لهم أي استقلال لا في وجودهم ولا في أثرهم ، فإنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غير الطبيعية - مع الاعتقاد المذكور - لا تكون استعانته عملاً صحيحاً فحسب ، بل تكون - بنحو من الأنحاء - استعانة باللّه ذاته كما لا يكون بين هذين النوعين من الاستعانة ( الاستعانة بالعوامل الطبيعية والاستعانة بعباد اللّه الأبرار ) أي فرق مطلقاً.

فإذا كانت الاستعانة بالعباد الصالحين - على النحو المذكور - شركاً لزم أن تكون الاستعانة في صورتها الأُولى هي أيضاً معدودة في دائرة الشرك ، والتفريق بين الاستعانة بالعوامل الطبيعية وألاستعانة بغيرها إذا كانتا على وزان واحد وعلى نحو الاستمداد من قدرة اللّه وبإذنه ومشيئته بكونها موافقة للتوحيد في أُولى الصورتين ، ومخالفة له في ثانية الصورتين ، لا وجه له.

من هذا البيان اتضح هدف صنفين من الآيات وردا في مسألة الاستعانة :

الصنف الأوّل : يحصر الاستعانة باللّه فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني : يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة غير اللّه ويعتبرها ناصرة ومعينة إلى جانب اللّه.

ص: 567


1- البحث مركز في أنّ طلب العون والحال هذه شرك أو لا ، وأمّا أنّه هل أُعطيت لهم تلك المقدرة على العون أو لا ؟ فخارج عن موضوع بحثنا وإنّما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنية الأُخرى وقد نبهنا على ذلك غير مرة.

أقول : من البيان السابق اتضح وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً ، إلاّ أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصّنف الأوّل من الآيات فيخطّئون أي نوع من الاستعانة بغير اللّه ، ثم يضطرون إلى إخراج الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص بمعنى أنّهم يقولون :

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّ باللّه ، إلاّ في الموارد التي إذن اللّه بها ، وأجاز أن يستعان فيها بغيره ، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية - مع أنّها استعانة بغير اللّه - جائزة ومشروعة على وجه التخصيص ، وهذا مما لا يرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً ، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد وهو : عدم الاستعانة بغير اللّه ، وانّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة باللّه بل تكون بحيث تعد استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

وبتعبير آخر : أنّ الآيات تريد أن تقول : بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمد منه كل معين وناصر ، قدرته وتأثيره ، ليس إلاّ اللّه سبحانه ، ولكنه - مع ذلك - أقام هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمره ، استمداد الفرع من الأصل ، ولذلك تكون الاستعانة بها كالاستعانة باللّه ، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين :

( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (1).

ص: 568


1- آل عمران : 126.

( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (1).

( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2).

هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل ، وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والأسباب :

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) (3).

( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتّقْوَى ) (4).

( مَا مَكّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة ) (5).

( وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (6).

ومفتاح حل التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه :

إنّ في الكون مؤثراً تاماً ، ومستقلاً واحداً غير معتمد على غيره لا في وجوده ولا في فعله وهو اللّه سبحانه.

وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة - في وجودها وفعلها - إليه ، وهي تؤدي ما تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته ، ولو لم يعط تلك العوامل ما أعطاها من القدرة ، ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أية قدرة على شيء.

ص: 569


1- الحمد : 4.
2- الأنفال : 10.
3- البقرة : 45.
4- المائدة : 2.
5- الكهف : 95.
6- الأنفال : 72.

فالمعين الحقيقي في كل المراحل - على هذا النحو تماماً - هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً ، لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة باللّه وحده ، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقل ( أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية ) ، ومعلوم أنّ استعانة - كهذه - لا تنافي حصر الاستعانة باللّه سبحانه لسببين :

أوّلاً : لأنّّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى ، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي : ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات ، وبدون الاعتماد على غيرها ، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه إنّما هي على نحو آخر ، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية ، لا بالذات ، وبنحو الاستقلال ، فإذا كانت الاستعانة - على النحو الأوّل - خاصة باللّه تعالى ، فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً : أنّ استعانة - كهذه - غير منفكة عن الاستعانة باللّه ، بل هي عين الاستعانة به تعالى ، وليس في نظر الموحّد ( الذي يرى أنّ الكون كله من فعل اللّه ومستند إليه ) مناص من هذا.

وممّا سبق يتبيَّن لك أيها القارئ الكريم ما في كلام ابن تيمية من الإشكال ، إذ يقول :

أمّا من أقرّ بما ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع من شفاعته صلی اللّه علیه و آله والتوسّل به ونحو ذلك ، ولكن قال : لا يدعى إلاّ اللّه وإنّ الأُمور التي لا يقدر عليها إلاّ اللّه فلا تطلب إلاّ منه ، مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك ، فهذا مصيب في ذلك ، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين

ص: 570

أيضاً ، كما قال تعالى :

( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إِلاَّ اللّه ) (1).

وقال : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2).

وكما قال تعالى : ( يا أَيُّها النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ ) (3).

وكما قال تعالى : ( وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (4).

وقال : ( ألاّ تَنْصُرُوه فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَروا ثَانِي اثنِين إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (5). (6)

فقد غفل ابن تيمية عن أنّ بعض هذه الأُمور يمكن طلبها من غير اللّه مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغير في تحقيقها ، وهذا لا ينافي طلبها من اللّه مع الاعتقاد باستقلاله وغناه عمن سواه في تحقيقها.

نعم لا تقع هذه الاستعانة مفيدة إلاّ إذا ثبتت قدرة غير اللّه سبحانه على إنجاز الطلب ، ولكنّه خارج عن محط بحثنا ، فإنّ البحث مركز على كون هذا العمل شركاً أو لا ، وأما كون المستعان قادراً أو لا فالبحث عنه خارج عن هدفنا.

ص: 571


1- آل عمران : 135.
2- القصص : 56.
3- فاطر : 3.
4- آل عمران : 126.
5- التوبة : 40.
6- مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية الرسالة الثانية عشرة : 482.

وربّما يتوهم أنّها لا تنفع أيضاً إلاّ إذا ثبتت مأذونية الغير من قبله سبحانه في الإعانة ، كما يتوقف على ذلك جواز أصل طلب العون ، وإن كان غير شرك.

ولكنه مدفوع ، بأنّ إعطاء القدرة دليل على المأذونية في أعمالها في الجملة ، إذ لا معنى لأن يعطيه اللّه القدرة ويمنعه عن الأعمال مطلقاً ، أو يعطيه القدرة ويمنع الغير عن طلب أعمالها.

ويكفي في الجواز ، كون الأصل في فعل العباد ، الجواز والإباحة ، دون الحظر والمنع إلاّ أن ينطبق على العمل أحد العناوين المحرمة في الشرع.

وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصور للاستعانة بالأرواح إلاّ صورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك ، فقال :

ومن هنا تعلمون : انّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم ، وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر اللّه معرضون (1).

ولا يخفى عدم صحته إذ الاستعانة بغير اللّه ( كالاستعانة بالعوامل الطبيعية ) على نوعين :

أحدهما عين التوحيد والآخر موجب للشرك ، أحدهما مذكر باللّه والآخر مبعد عن اللّه.

إنّ حد التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية إنّما هو الاستقلال وعدم الاستقلال ، هو الغنى والفقر ، هو الأصالة وعدم الأصالة.

ص: 572


1- تفسير المنار : 1 / 59.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلة المستندة إلى اللّه ، التي لا تعمل ولا تؤثر إلاّ بإذنه تعالى ليس فقط غير موجبة للغفلة عن اللّه ، بل هو خير موجه ، ومذكر باللّه ، إذ معناها : انقطاع كل الأسباب وانتهاء كل العلل إليه.

ومع هذا كيف يقول صاحب المنار : « أُولئك عن ذكر اللّه معرضون » ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل - في هذا المجال - نص كلمات عبده دون زيادة ونقصان ، وختم المسألة بذلك ، وأخذ بظاهر الحصر في ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) غافلاً عن حقيقة الآية وعن الآيات الأُخرى المتعرضة لمسألة الاستعانة. (1)

نقد نظر ثالث

وهناك رأي آخر يتوسط بين الرأيين وهو أنّه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبيعية في الحوائج الحيوية ، ولا تجوز الاستعانة بالأسباب غير العادية إلاّ إذا كان بصورة التوسل والاستشفاع إلى اللّه سبحانه.

وهذا القول وإن كانت عليه مسحة من الحق ولمسة من الصدق إلاّ أنّه ليس عينه.

فإنّ المنع عن الاستعانة بالأسباب غير العادية لماذا ؟ إن كان لأجل كونه مستلزماً للشرك ، فالمفروض عدمه ، إذ المستعين إنّما يستعين ، باعتقاد أنّ المستعان إنّما يعين بالقدرة المعطاة له من اللّه سبحانه ، ويعملها بإذنه ومشيئته ، وطلب

ص: 573


1- راجع تفسير شلتوت : 36 - 39.

العون مع هذا الاعتقاد لا يستلزم الشرك ، ومع فرضه فأي فرق بين الممنوع ( طلب العون ) والمجاز وهو التوسل والاستشفاع ؟

وإن كان المنع لأجل عدم وجود القدرة فيهم على الإعانة ، فهو مناقشة ، وهو في الصغرى خارج عن موضوع بحثنا ، فإنّ البحث إنّما هو على فرض قدرتهم.

وإن كان المنع ، لأجل كون الأصل في فعل المكلّف ، هو المنع حتى يثبت الجواز ، فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم يمنع عنه دليل قاطع ، وعدم ورود تلك الاستعانة في الأدعية وغيرها على فرض صحته لا يدل على المنع.

ولو كان المنع لأجل أنّ قوله سبحانه : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) شامل لهذه الاستعانة التي لا تنفك عن الاستعانة به سبحانه كما أوضحناه ، فلا يمكن تخصيصه بالتوسل والاستشفاع ، لأنّ لسانه آب عن التخصيص وغير قابل له.

4. هل دعوة الصالحين عبادة لهم ؟

تبيّن من البحوث السابقة أنّ طلب الحاجة من غير اللّه مع الاعتقاد بأنّه لا يملك شيئاً من شؤون المقام الالوهي ، ولم يفوض إليه شيء ، بل لو قام بشيء لا يقوم به إلاّ بإذن اللّه سبحانه ، لا يكون شركاً.

وبقي في هذا المجال مطلب آخر وهو : انّ القرآن الكريم نهى - في موارد متعددة - عن دعوة غير اللّه سبحانه غير أنّ الوهابية استنتجت من هذه الآيات مساوقة الدعوة للعبادة.

وإليك فيما يأتي الآيات المتضمّنة ، بل المصرحة بهذا المطلب :

ص: 574

( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (1).

( لَهُ دَعْوَةَ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبونَ لَهُمْ بِشَيءٍ ) (2).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (3).

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (4).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) (5).

( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ) (6).

( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ ) (7).

( ولاَ تَدْعُ مِنْ دِونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) (8).

( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ) (9).

( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) (10).

ص: 575


1- الجن : 18.
2- الرعد : 14.
3- الأعراف : 197.
4- الأعراف : 194.
5- فاطر : 13.
6- الإسراء : 56.
7- الإسراء : 57.
8- يونس : 106.
9- فاطر : 14.
10- الأحقاف : 5.

فقد جعل دعاء الغير - في هذه الآيات - مساوياً مع دعاء اللّه ويستنتج من ذلك أنّ دعاء الغير عبادة له ، ومن هذه الآيات يستنتج الوهابيون كون دعوة الأولياء والصالحين - بعد وفاتهم - عبادة للمدعو.

وملخص كلامهم : أنّ من قال متوسّلاً : يا محمد ، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو.

يقول الصنعاني في هذا الصدد :

وقد سمّى اللّه الدعاء : عبادة بقوله ( إِدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشيء ، أو قال : اشفع لي إلى اللّه في حاجتي ، أو استشفع بك إلى اللّه في حاجتي أو نحو ذلك ، أو قال : اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك ، فقد دعا ذلك النبي والصالح والدعاء عبادة بل مخّها ، فيكون قد عبد غير اللّه ، وصار مشركاً ، إذ لا يتم التوحيد إلاّ بتوحيده تعالى في الإلهية باعتقاد أنّ لا خالق ولا رازق غيره ، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات وعباد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد اللّه في العبادة (1).

* * *

ولكن لا مرية في أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب : النداء لطلب الحاجة ، فلا يتحقّق مفهوم الدعوة إلاّ بطلب الحاجة ، ولو استعملت في مورد في مطلق النداء ولم يكن معه طلب حاجة ، فإنّما هو لأجل أنّ المنادي يطلب توجّه المنادى إلى نفسه ، بينما تعني لفظة العبادة معنى آخر ( وهو الخضوع النابع من الاعتقاد بالإلوهية والربوبية على ما مر تفصيله ) (2) ، ولا يمكن اعتبار اللفظتين

ص: 576


1- تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب : 272 - 274.
2- راجع ص 455 - 468 من كتابنا هذا

مترادفتين ، ومشتركتين في المفاد والمعنى بأن يكون معنى الدعاء هو العبادة لأسباب عديدة هي :

أوّلاً : انّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً مثل :

( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ) (1).

فهل يمكن أن نقول إنّ مراد نوح علیه السلام هو أنّه عبد قومه ليلاً ونهاراً ؟!

وأيضاً مثل قوله تعالى حاكياً عن الشيطان قوله :

( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (2).

فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد أتباعه ؟ في حين أنّ العبادة - لو صحت وافترضت - فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.

ومثل هاتين الآيتين ما يأتي من الآيات :

( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) (3).

( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ ) (4).

( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَسْمَعُوا ) (5).

ص: 577


1- نوح 5.
2- إبراهيم : 22.
3- غافر : 41.
4- الأعراف : 193.
5- الأعراف : 198.

( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (1).

( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) (2).

ففي هذه الآيات وأمثالها استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة ، ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين ، ولذلك فلو دعا أحد ولياً أو نبياً أو رجلاً صالحاً ، فإنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له ، لأنّ الدعاء أعم من العبادة وغيرها (3).

ثانياً : أنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات ( المذكورة في مطلع البحث هذا ) ليس هو مطلق النداء ، بل نداء خاص يمكن أن يكون - مآلاً - مرادفاً للفظ العبادة.

لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصوّرون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض شؤون المقام الالوهي ، ويعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في التصرف والفعل.

ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أي نوع من القول والعمل أمام مخلوق باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه رباً أو مالكاً لبعض الشؤون الإلهية ، يكون عبادة.

ص: 578


1- المؤمنون : 73.
2- آل عمران : 61.
3- النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه : ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة ، وأمّا في العبادة الفعلية المجردة عن الذكر كالركوع والسجود فتصدق العبادة ، لأنّها تقترن مع الاعتقاد بالوهية المسجود له ولا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي. ويصدق كلا المفهومين: «الدعاء والعبادة» في أذكار الصلاة، لأنها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بالوهية المدعو.

لا شك أنّ خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت بوصف أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحق الشفاعة ، وباعتقاد أنّها آلهة مستقلة في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، ومن البديهي أنّ أية دعوة لهذه الموجودات وغيرها مع هذه الشروط ، عبادة لا محالة.

وتدل طائفة من الآيات : على أنّ دعوة الوثنيين كانت مصحوبة بالاعتقاد بالوهية الأصنام أو مالكيتها لمقام الشفاعة والمغفرة ، وإليك بعضها :

( فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (1).

ففي هذه الآية يتضح جلياً بأنّهم كانوا يعبدونها متصوّرين ومعتقدين بأنّها تغنيهم من شيء كما يمكن للإله الحقيقي أن يفعل ذلك.

( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ) (2).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) (3).

( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ) (4).

فالآيات المذكورة ( في مطلع هذا الفصل ) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً ، إذ الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بإلوهية ، ولا مالكية لشيء ولا استغناء ، واستقلاله في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، بل لأجل أنّ المدعو عبد من عباد اللّه المكرمين ، وأنّه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوة ، أو الإمامة ، ولأنّه وعد المتوسّلون به بقبول أدعيتهم ، وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا اللّه عن طريقه ، كما

ص: 579


1- هود : 101.
2- الزخرف : 86.
3- فاطر : 13.
4- الإسراء : 56.

ورد في حق النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (1).

ثالثاً : يمكن أن يقال أنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات هو القسم الخاص منه ، أعني ما كان ملازماً للعبادة لا بمعنى أنّ الدعاء مستعمل في مفهوم العبادة ابتداء ، بل بمعنى أنّها مستعملة في معناها الحقيقي ، غير أنّها لما كانت في موارد الآيات مقرونة باعتقاد الدعاة بالوهيتهم يكون المنهي عنه ذلك القسم من الدعوة لا مطلقاً ، وتكون عقيدة الدعاة في حق المدعوين قرينة متصلة على أنّ المقصود ذلك القسم المعين لا جميع أقسامها ومن المعلوم أنّ الدعاء مع هذه العقيدة يكون مصداقاً للعبادة.

والدليل على أنّ المراد من الدعوة في هذه الآيات هو القسم الملازم للعبادة أنّه ربّما وردت في إحدى الآيتين ذاتي مضمون واحد لفظة الدعوة ووردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء ، مثل قوله :

( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعاً ) (2).

بينما يقول في الآية الأُخرى وهي :

( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُنا وَلاَ يَضُرُّنَا ) (3).

ويقول أيضاً في الآية 12 من سورة فاطر :

ص: 580


1- النساء : 64.
2- المائدة : 76.
3- الأنعام : 71.

( والَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) .

ففي هذه الآية وما قبلها استعملت لفظة « تدعون وندعوا » في حين استعملت في الآية الأُولى لفظة « تعبدون ».

ونظير ما سبق قوله سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) . (1).

هذا وقد ترد كلا اللفظتين في آية واحدة وتستعملان في معنى واحد :

( قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2).

وقوله سبحانه : ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي اسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عَبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرينَ ) (3).

والآية وما تقدمها ظاهرتان في أنّ المراد من الدعوة هو العبادة لا مطلق النداء وطلب الحاجة ، وذاك ليس بمعنى استعمال الدعاء ابتداء في معنى العبادة حتى يكون الاستعمال مجازياً بل إنّما استعملت في معناها الحقيقي ، أعني : الدعاء ، ولكن لمّا كان الدعاء مقروناً باعتقاد الداعي بالوهية المدعو صار المراد منه - بالمآل العبادة ، وقد تقدمت تلك النكتة آنفاً.

ويؤيد ما ذكرناه ما ورد في دعاء سيد الساجدين مشيراً إلى مفاد الآية المتقدمة حيث يقول :

« وسميت دعاءك عبادة ، وتركه استكباراً ، وتوعّدت على تركه دخول جهنم

ص: 581


1- العنكبوت : 17.
2- الأنعام : 56.
3- غافر : 60.

داخرين » (1).

وإنا لنطلب من القارئ الكريم أن يراجع بنفسه مادة الدعوة في المعجم المفهرس ، فسيرى ورود مضمون واحد تارة بلفظ العبادة ، وأُخرى بلفظ الدعاء والدعوة.

وهذا هو أوضح دليل على أنّ المقصود من الدعوة في الآيات المذكورة ( في مطلع هذا الفصل ) هو العبادة وليس مطلق النداء.

هذا والقارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة وأُريد منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآيات أمّا وردت حول خالق الكون الذي يعترف جميع الموحدين بإلوهيته وربوبيته ومالكيته ، أو وردت في مورد الأوثان التي كان عبدتها يتصورون إلوهيتها وأنّها مالكة لمقام الشفاعة ، وفي هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي هو الدعاء مجرداً عن تلك العقيدة لمن أعجب العجب.

سؤال وجواب

إلى هنا تبيَّن أنّ دعوة العباد الصالحين بأي شكل كان ، سواء أكان لأجل التوسل والاستشفاع أم لأجل طلب الحاجة وإنجازها ليست عبادة ، ولا تشملها الآيات الناهية عن الدعوة بتاتاً غير أنّه ينطرح هنا سؤال ، وهو : انّه إذا كان غيره سبحانه لا يملك من قطمير ولا يملك كشف الضر والتحويل ، فما فائدة هذه الدعوة ، إذ قال سبحانه :

( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ) (2).

ص: 582


1- الصحيفة السجادية ، الدعاء : 49.
2- الإسراء : 56.

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) ؟ (1).

والجواب : انّ البحث في هذا الفصل مركز على تمييز العبادة عن غيرها ، وأمّا كون الدعوة مفيدة أو لا ، فخارج عن موضوع بحثنا ، أضف إلى ذلك أنّ الآيات التي استدل بها تهدف إلى موضوع آخر لا يرتبط بالمقام.

ملخّص البحث

إنّ هذه الآيات راجعة إلى أصنام العرب الخشبية والمعدنية والحجرية ويتضح ذلك من سياق الآيات ، هذا أوّلاً ، وثانياً أنّ الهدف من نفي المالكية عن غير اللّه ليس هو مطلقها ، بل المراد المالكية المناسبة لمقامه سبحانه ، أعني : المالكية المستقلة ، ونفي هذه المالكية عن غيره سبحانه لا يدل على انتفاء ما يستند إليه سبحانه ، عنهم ، ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (2) والمراد من الفقر هنا هو الفقر الذاتي ولا ينافي القدرة المكتسبة والفعالة بإذنه سبحانه.

والدليل على أنّ العرب كانوا يعتقدون في أصنامهم القدرة المستقلة قوله سبحانه : ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً ) (3).

وقوله سبحانه : ( ويَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماوَاتِ والأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (4).

ص: 583


1- فاطر : 13.
2- فاطر : 15.
3- المائدة : 76.
4- النحل : 73.

وعلى ذلك فلو قال سبحانه لا يملكون عن اللّه كشف الضر ولا تحويلاً فالمقصود هو نفي تلك المالكية لا الأعم منها ومن المكتسبة.

البحث مركز على معرفة التوحيد في العبادة

قد ثبت بحمد اللّه أنّ طلب الشفاء والشفاعة والعون من عباد اللّه الصالحين ليست عبادة لهم ، وأمّا أنّهم قادرون على الإجابة أم لا ، مأذونون في الإعانة من قبله سبحانه أو لا ، أو أنّ هذا الطلب جائز في الشرع أو لا وإن لم يكن شركاً ؟ أو غير ذلك من الأسئلة ، فكلّها خارجة عن محط البحث الذي هو التعرف على معايير التوحيد والشرك ، وتطلب أجوبة تلك الأسئلة من مظانها.

نعم كفانا في الإجابة عليها ما كتبه أعلام السنّة والشيعة في هذا المقام ، فراجع « الدرر السنية » للسيد أحمد زيني دحلان المكي ، و « كشف الارتياب » للعلامة الأمين العاملي ، و « التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية » للعلاّمة المعاصر محمد الفقي من علماء الأزهر الشريف ، فقد تكفّلت هذه الكتب الإجابة عليها ، ولم تبق لأي مشكك مجالاً للتشكيك ، شكر اللّه مساعيهم.

ص: 584

10

عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي

اشارة

إنّ الوقوف على عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي يسلط أضواء على البحث الحاضر ، فإليك بعض عقائد الوثنيين من أصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص والحرنانية والدهرية ، والتفصيل يطلب من مواضعه.

1. أصحاب الهياكل

وكانوا يقولون : إنّ الإنسان ليس في مستوى عبادة اللّه والاتصال المباشر به ، بل لابد له من واسطة ، فيتوجه إليه ويتقرب به ، وحيث إنّ الأرواح لم تكن في متناول أيديهم ، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، وكانوا يتقربون إلى هذه الهياكل تقرباً إلى الروحانيات ، ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى البارئ تعالى ، لاعتقادهم بأنّ الهياكل أبدان الروحانيات.

وكانوا يقومون بمراسيم خاصة لدى عبادة هذه الهياكل ، فيعملون الخواتيم على صورها وهيئتها وصنعتها ، ويلبسون اللباس الخاص به في ساعات مخصوصة

ص: 585

من اليوم ، ويبخرون ببخوره الخاص ، ويعبدون كل واحد من تلك السيارات في وقت معين ، ثم يسألون حاجتهم منها ، ويسمّونها : « أرباباً » « آلهة » واللّه هو رب الأرباب وإله الآلهة (1).

2. أصحاب الأشخاص

وكان هؤلاء يشتركون مع الفريق السابق - في بعض العقائد - إلاّ أنّهم كانوا يعبدون أشكال السيارات بدل السيارات نفسها ، لأنّ لها طلوعاً وأُفولاً وظهوراً بالليل وخفاء بالنهار ، ولهذا صنعوا لها صوراً ثابتة على مثالها ، ويقولون : نعكف عليها ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرّب إلى الروحانيات ، ونتقرّب بالروحانيات إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فنعبدهم ( إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) (2).

3. عقائد العرب الجاهلية

قليل من العرب من كان يتديّن بالدهرية فقالوا بالطبيعة المحيية ، والدهر المفني وكانت الحياة - في نظرهم - تتألف من الطبائع والعناصر المحسوسة في العالم السفلي ، فيقصرون الحياة والموت على تركبها وتحلّلها ، فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر ، ولكن أغلبهم كانوا يقرّون بالخالق وحدوث الخلق ، وينكرون البعث والإعادة وإرسال الرسل من جانب اللّه (3).

ومنهم من كان يعبد الملائكة والجن ويعتبرونها بنات لله سبحانه ، وصنف منهم كانوا من الصابئة الذين يعبدون الكواكب.

ومنهم من كان ينكر الخالق ، وحدوث الخلق والبعث وإرسال الرسل ولكن

ص: 586


1- الملل والنحل : 2 / 244.
2- الملل والنحل : 2 / 244.
3- الملل والنحل : 2 / 244.

كلا الفريقين كانوا يعبدون الأصنام ويعتبرونها مالكة لمقام الشفاعة عند اللّه.

ومن العرب من كان يتديّن باليهودية أو بالنصرانية ، وكانت المدينة محط الأُولى ونجران محط الثانية.

وأمّا الطوائف المسيحية الثلاث التي كانت تختلف فيما بينها في السيد المسيح وروح القدس والأب ، فكانت عبارة عن : الملكانية والنسطورية واليعقوبية.

وكانت هذه الطوائف رغم اختلافاتها تشترك في عبادة المسيح الذي لم يكن غير رسول.

وفي الآيات المتعرضة لذكر احتجاج إبراهيم ، إشارة إلى عقائد عبدة الكواكب والأجرام السماوية (1).

كما أنّه وردت في بيان عقائد المسيحيّين آيات (2).

والآيات التي استنكر فيها القرآن ، الوثنية - بشدة وعنف - ترتبط بعرب الجاهلية الذين كانوا يعتنقون عقائد مختلفة إذ كان أكثرهم يعبد الأصنام باعتقاد أنّها الشفعاء وأنّها آلهة صغار ، ومن هذه الآيات - على سبيل المثال - :

( وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كَافِرُونَ )(3) .

( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنفسِهِمْ ) (4).

ص: 587


1- راجع الفصل الثالث ، والفصل الخامس : 285 - 302.
2- راجع الفصل الثالث ، والفصل الخامس : 285 - 302.
3- الأنبياء : 37.
4- الأنبياء : 43.

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (1).

( أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) (2).

إلى من تشير هذه الآيات ؟

إنّ الهدف الأساسي في هذه الآيات ونظائرها هو : النهي عن دعوة الفرق الوثنية ، التي كانت تتخذ الأصنام شريكة لله في بعض لتدبير أو مالكة للشفاعة على الأقل فكان ما يقومون به من خضوع واستغاثة واستشفاع بهذه الأصنام باعتبار أنّها آلهة صغار ، فوّض إليها جوانب من تدبير الكون وشؤون الدنيا والآخرة.

فأي ارتباط لهذه الآيات بالاستغاثة بالأرواح الطاهرة مع أنّ المستغيث بها لا يتجاوز عن الاعتقاد بكونها عباد اللّه الصالحين.

فالمقصود من قوله سبحانه : ( وإِنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً ) (3) ، وما شابهها مما تقدم في أوّل البحث هو الدعوة العبادية التي كان المشركون يقومون بها أمام اللات والعزى ومناة أو الأجرام الفلكية والملائكة والجن ، وكأنّ الآية تريد أن تقول :

فلا تعبدوا مع اللّه أحداً.

فلو نهى القرآن الكريم عن إشراك غير اللّه معه سبحانه في العبادة ، فأي ربط لهذه المسألة بمسألة دعوة الصالحين وطلب الحاجة منهم مما يقدرون عليها

ص: 588


1- الأنعام : 100.
2- النجم : 20 - 21.
3- الجنّ : 18.

بإذن اللّه واقداره :

فإذا قال القرآن الكريم :

( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) (1).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ) (2).

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (3).

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (4).

( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ) (5).

( وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ) (6).

وما سواها من الآيات مما يوجد في القرآن بوفرة ، فكل هذه الآيات مرتبطة بالدعوة التي تكون عبادة للأصنام والكواكب والملائكة والجن ، باعتبار أنّها آلهة صغار وباعتبار أنَّها معبودات ومدبّرة للكون وشفعاء تامي الاختيار ، ولا مرية في أنّ أية دعوة تكون هكذا ، تكون مصطبغة - لا محالة - بصبغة العبادة ، فأي ربط لهذه الآيات بدعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم مع الاعتقاد بأنّهم لا يقدرون على شيء بدون الإذن الإلهي ، ومع الاعتقاد بأنّهم لا يملكون أي مقام إلهي وربوبي وتدبير ، وما شابههما ؟ فهل يمكن قياس الدعوتين بالأُخرى وبينهما بون شاسع ؟

إنّ أوضح دليل على التباين بين هاتين الدعوتين هو أنّ الوهابيين يعتقدون بأنّ مثل هذا الطلب من الأنبياء الصالحين شرك حرام بعد وفاتهم ، وجائز مشروع

ص: 589


1- الرعد : 14.
2- الأعراف : 197.
3- الأعراف : 194.
4- فاطر : 13.
5- الأنعام : 71.
6- يونس : 106.

حال حياتهم ، وقد أثبتنا - فيما سبق - أنّ الموت والحياة غير مؤثرين - مطلقاً - في ماهية العمل ، وفي جوازه وعدم جوازه.

ومما سبق تبين ما في فتح المجيد ، إذ قال :

وقوله : ( أو يدعو غيره ) : اعلم أنّ الدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة ، ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة ، ويراد به مجموعهما.

فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر ، ولهذا أنكر اللّه على من يدعو أحداً من دونه ممّن لا يملك ضرّاً ولا نفعاً ، كقوله تعالى : ( قُل أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً واللّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيم ) (1) وقوله : ( قُل أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا ولا يَضُرُّنَا ونُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلى الهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدى وَأُمِرْنَا لِنُسَلِّمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ ) (2) ، وقال : ( ولاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنْ الظَّالِمِينَ ) (3).

قال شيخ الإسلام [ ابن تيمية ] : فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة قال اللّه تعالى : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ ) (4).

ص: 590


1- المائدة : 76.
2- الأنعام : 71.
3- يونس : 106.
4- الأعراف : 55.

وقال تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّهِ أَو أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين * بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَونَ ما تُشْرِكُونَ ) (1).

وقال تعالى : ( وَأَنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (2).

وقال تعالى : ( لَهُ دعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلى الماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلاّ في ضَلال ) (3).

وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر ، وهو يتضمن دعاء العبادة ، لأنّ السائل أخلص سؤاله لله ، وذلك من أفضل العبادات ، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه طالب من اللّه في المعنى فيكون داعياً عابداً.

فتبيّن بهذا من قول شيخ الإسلام أنّ دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، كما أنّ دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة (4).

فمن هذا البحث الضافي حول الدعوتين وكون إحداهما مسألة عبادية ، والأُخرى مسألة غير عبادية ، تتضح أُمور :

الأوّل : كيف استفاد ابن تيمية من الآية : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخِفْيَةً ) والآية : ( وانّ المَساجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) إنّ طلب الحاجة من أحد تكون دعوة عبادة للمدعو.

ص: 591


1- الأنعام : 40 - 41.
2- الجنّ : 18.
3- الرعد : 14.
4- فتح المجيد : 166.

فإذا كانت لفظة « ادعوا » في قوله سبحانه : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ) ولفظة ( لا تَدْعُوا ) في قوله سبحانه ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ ) بمعنى المناداة ، فكيف تكون الدعوة الطلبية مستلزمة للدعوة العبادية ؟

إنّ هاتين الآيتين - على فرض دلالتهما - ( ولا دلالة لهما ) لا تدلان على أكثر من النهي عن دعوة غير اللّه ، وأمّا أنّ دعوته تكون مستلزمة لعبادته فلا يدل ظاهر الآية عليه أبداً ، إذ أنّ النهي عن الشيء ليس دليلاً على كون المنهي عنه مصداقاً للعبادة.

الثاني : انّ الدعوة الطلبية إنّما تستلزم الدعوة العبادية إذا اعتقد الداعي بإلوهية المدعو على مراتبها ، ففي هذه الموارد تستلزم الدعوة الطلبية ، الدعوة العبادية ، بل هي الدعوة العبادية عينها ، وليست مستلزمة لها ، وتكون مثل هذه الدعوة عبادة لا أنّها مسلتزمة للعبادة.

ولكن إذا دعا الداعي أحداً ، مجرّداً عن الاعتقاد المذكور ، فلا تكون دعوت - حينئذ - عبادة له.

ثالثاً : من الغريب جداً أنّ تصح الاستغاثة بالأحياء وتكون مشروعة - على الإطلاق - غافلاً عن أنّه لو كان مطلق الاستغاثة بغير اللّه ( حتى إذا لم تكن مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أو مالكية المستغاث ) شركاً لما كان لموت المدعو وحياته أيُّ أثر في هذا القسم.

وما ورد عن النبي الأكرم من أنّ الدعاء مخ العبادة ، فالمراد هو الدعوة الخاصة ، أعني : ما إذا كانت مصحوبة بالاعتقادبإلوهية المدعو.

وبتعبير آخر ، أنّ المقصود بالدعاء في الحديث المذكور إنّما هو دعاء اللّه ، فيكون دعاء اللّه مخ العبادة.

ص: 592

فأيّ ربط لهذا الحديث بدعوة الصالحين التي لا تكون مقرونة بأيّ شيء من الاعتقاد بإلوهية المدعو ؟!!

نعم يبقى هنا سؤال وهو أنّ دعوة الغير وإن لم تكن عبادة له على ما أوضحناه ، ولكنها أمر محرّم بحكم هذه الآيات ، فدعوة الصالحين من الأموات من الدعوات المحرّمة ، لأنّها دعوة غيره سبحانه ، ودعوة الغير منهية عنه ، نعم لا تشمل الآيات دعوة الأحياء لأنّه أمر جائز بالضرورة ، فيستنتج منها حرمة دعوة الصلحاء الماضين وإن لم يكن شركاً.

والجواب عنه واضح بعد الاحاطة بما ذكرناه ، لأنّ الآيات ناظرة إلى دعوة خاصّة صادرة من المشركين ، وهي دعوة آلهتهم وأربابهم المزعومة ، والنهي عن هذه الدعوة المخصوصة لا توجب حرمة جميع الدعوات حتى فيما لم تكن بهذه المنزلة.

وأوضح دليل على ما ذكرناه هو ما اعترف به السائل من عدم شمول الخطابات لدعوة الأحياء وطلب الحاجة منهم ، فإنّ خروج هذا القسم ليس خروجاً عن حكم الآيات حتى يكون تخصيصاً ، بل خروج عن موضوعها وعدم شمولها له من أوّل الأمر ، وليس الوجه لخروجه عن الآيات إلاّ ما ذكرناه من أنّ الآيات ناظرة إلى الدعوة التي كان المشركون يقومون بها طيلة حياتهم ، وهي دعوة الأصنام والأوثان بما هي آلهة ، بما هم يملكون لهم النفع والضر والشفاعة والغفران ، وهذا الملاك ليس بموجود في دعوة الصلحاء.

ولأجل هذه العقيدة في حق الآلهة يقول سبحانه في الإله الذي صنعه السامري : ( هذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ) (1).

ص: 593


1- طه : 88 - 89.

ومما يدل على ما ذكرناه هو تكرار كلمة « من دونه » في الآيات ، فإنّها ليست لتعميم كل دعوة متوجهة إلى غيره سبحانه ، حتى نحتاج إلى إخراج بعض الأقسام ، أعني : دعوة الأحياء لطلب الحوائج ، أو دعوة الأموات لا لطلب الحاجة ، بل للتوسل والاستشفاع ، بل جيء به لتبيين خصوصية هذه الدعوة ، وهي دعوة الغير بظن أنّه يقوم بالفعل مستقلاً من دون اللّه كما هو المزعوم للمشركين في آلهتهم.

وأمّا طلب الحاجة ممّن لا يقوم ( في زعم الداعي ) إلاّ بأمره سبحانه ومشيئته بحيث لا تكون دعوته منفكة عن دعوة اللّه سبحانه فلا يصدق عليه قوله تعالى : ( والَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ بِشَيْءٍ ) (1).

وغيره من الآيات.

بناء المساجد على القبور

قد سبق (2) منا أنّ التبرّك بآثار الأولياء وعباد اللّه الصالحين خصوصاً التبرك بآثار النبي كان أمراً رائجاً بين المسلمين ، وعلى ذلك فبناء المساجد على القبور بعنوان التبرّك ممّا لا إشكال فيه ، هذا ، ويظهر من بعض الآيات أنّ أهل الشرائع السماوية كانوا يبنون المساجد على قبور أوليائهم أو عندها ، ولأجل ذلك لما كشف أمر أصحاب الكهف تنازع الواقفون على آثارهم ، فمنهم من قال وهم المشركون : ( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) (3) ، وقال الآخرون وهم المسلمون : ( لَنَتَّخِذَنَّ

ص: 594


1- الرعد : 14.
2- من كتابنا هذا ص 535.
3- الكهف : 21.

عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) (1).

قال الزمخشري في تفسير قوله : ( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ) : أي ابنوا على باب كهفهم لئلاّ يتطرّق إليهم الناس ضنّاً بتربتهم ومحافظة عليها ، كما حفظت تربة رسول اللّه بالحظيرة.

وقال في تفسير قوله : ( قَالَ الَّذِينَ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ، أي قال المسلمون وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم : لنتخذنّ على باب الكهف مسجداً ، يصلي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم (2).

وقال في تفسير الجلالين : فقالوا - أي الكفّار - : ابنوا عليهم أيّ حولهم بنياناً يسترهم ، ربّهم أعلم بهم ، قال الذين غلبوا على أمرهم : أمر الفتية وهم المؤمنون : لنتخذن عليهم - حولهم - مسجداً يصلّى فيه (3).

وعلى الجملة : فقد اتفق المفسرون على أنّ القائل ببناء المسجد على قبورهم كان هم المسلمون ، ولم ينقل القرآن هذه الكلمة منهم إلاّ لنقتدي بهم ونتّخذهم في ذلك أُسوة.

ولو كان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولياء أمراً محرماً لتعرض عند نقل قولهم بالرد والنقد لئلا يضل الجاهل.

وأمّا ما روي عن النبي من قوله : « لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (4) ، فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبياء واتخاذها قبلة في

ص: 595


1- الكهف : 21.
2- الكشاف : 2 / 254.
3- تفسير الجلالين : 2 / 3.
4- صحيح البخاري : 2 / 111 ، كتاب الجنائز.

الصلاة وغيرها ، والمسلمون بريئون من ذلك ، وقد أوضحه القسطلاني في كتابه « إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ».

اقتراح على كتّاب الوهابية

إنّ كثيراً من كتّابهم خلطوا في البحث بين العناوين التالية : الشرك ، البدعة ، المحرم.

فتجب عليهم الدقة في تطبيق هذه العناوين على أفعال المسلمين فربّما يكون شيء محرماً ولا يكون بدعة ، وربما يكون محرماً وبدعة ولا يكون شركاً ، فليس كل حرام بدعة ، وليس كل بدعة شركاً ، غير أنّهم لا يميّزون بين هاتيك العناوين ويطلقون على كل حرام - في زعمهم - شركاً وبدعة.

وفي الختام نذكّر القارئ أنّ التوسع المشهود في هذا الفصل لم يكن إلاّ لتوضيح الحقيقة والإصحار بها مع التحفظ على الأدب الإسلامي في نقل الكلمات ونقدها ، فإن صدر هناك شيء فلم يكن ذلك إلاّ لأجل الصراحة في القول لا للقسوة في الحجاج ، وإلاّ فيجمعنا التآخي في اللّه والدين : ( إنَّما المُؤْمِنُونَ إخوَة ) (1) فنحن كما قال شاعر الأهرام :

إنا لتجمعنا العقيدة أمة *** ويضمنا دين الهدى أتباعاً

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا *** مهما ذهبنا في الهوى أشياعاً

بقيت هنا أبحاث طفيفة ملأت كتب الوهابية :

1. التوسّل إلى اللّه بالأنبياء.

ص: 596


1- الملك : 14.

2. الإقسام على اللّه بمخلوق ، أو بحق مخلوق ، ونحوه مثل أن تقول : أقسم عليك بفلان ، أو بحقه.

3. الحلف بغير اللّه ، الذي ملأ القرآن ذلك الحلف كما في سورة الشمس ، فقد ورد في القرآن قرابة أربعين حلفاً بغير اللّه ، وقد نبهنا آنفاً أنّ ورود شيء في القرآن يدل على جوازه وكونه أُسوة.

4. النحر والذبح باسمه سبحانه وإهداء الثواب إلى الأموات.

5. بناء القبور وعقد القباب فوقها.

6. الدعاء والصلاة عند قبر النبي والإسراج عنده.

7. شدّ الرحال لزيارة القبور.

ونرجئ البحث عن هذه العناوين إلى محل آخر ، وقد أوضحنا حالها في بعض تآليفنا.

على أنّنا لا نحب أن نعبّر عن هذه الطائفة بالوهابية غير أنّ اشتهارهم بهذا واستعمالهم هذه الكلمة في حقّهم سوّغ لنا هذا الأمر ، كيف ، وقد نشرت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة كتاباً باسم « الحركة الوهابية » ، طبع عام 1396 ه رداً على مقال للدكتور محمد البهي.

ص: 597

ص: 598

الفصل العاشر: اللّه والتوحيد في التقنين والتشريع

اشارة

ص: 599

التوحيد في التقنين والتشريع

1. حاجة المجتمع إلى القانون.

2. شرائط المشرّع.

3. لا تتوفر هذه الشروط إلاّ في اللّه.

4. الآيات الدالة على التوحيد في التشريع.

5. الصنف الأوّل الدال على عدم جواز التشريع لغير اللّه.

6. الصنف الثاني الدال على تقريع من يحلون حرامه ويحرمون حلاله.

7. إجابة على سؤال.

8. الصنف الثالث الدال على أنّ الأنبياء بعثوا مع نظم كاملة للحياة.

9. ما هي معاني الشريعة والملة والدين ؟

10. الصنف الرابع الدال على المنع من التحاكم إلى الطاغوت.

11. الصنف الخامس الآيات التي تذم النصارى على إعطاء الأحبار حق التشريع.

12. الصنف السادس الآيات الحاثّة على اتّباع الرسول.

13. ماذا يراد من الشرك في التشريع ؟

14. سؤال واجابة.

15. الشيعة وفكرة حق التشريع للنبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام .

ص: 600

1. حاجة المجتمع إلى القانون.

2. شرائط المشرّع.

3. لا تتوفر هذه الشروط إلاّ في اللّه.

إنّ اتساع الحياة الاجتماعية للبشر على وجه الأرض من جانب ، وغياب العيش الفردي في الكهوف والغابات والبراري شيئاً فشيئاً من جانب آخر ، يكشف عن أنّ الإنسان ميّال بطبعه إلى النمط الاجتماعي من الحياة ، ليتمكن بالتعاون مع أبناء نوعه من التفوّق على المشكلات والمصاعب.

ومن جهة أُخرى لما كان الإنسان أنانياً بطبعه مشدوداً إلى « حب الذات » وهو من الغرائز الأصيلة فيه ، فهو يريد - بمقتضى هذه الغريزة - حصر كل ّشيء لنفسه ، وإذا يخضع للقوانين والنظم فلأنّه يرى في خضوعه للنظام ضماناً لمصالحه الشخصيه ، ولأجل هذاإذا وجد فرصة للتمرّد عليه ولم يجده مخالفاً لمصالحه يتمرّد عليه بحرص وولع.

ولذلك اتفق العقلاء على لزوم وجود ما ينظم العلاقات البشرية ، حتى يتسنّى تكوين مجتمع إنساني صحيح يستطيع في ظله جميع البشر من استيفاء حقوقهم ، ومعرفة واجباتهم وفي الحياة الاجتماعية ليقوموا بها دونما تجاوز أو عدوان ، غير أنّه يجب علينا أن نعرف من هو الذي يقوم بهذا الواجب الأساسي.

فنقول : بما أنّ المقنّن يريد أن يقود المجتمع البشري نحو الكمال المنشود ،

ص: 601

ويعيّن في ضوء ذلك واجبات الأشخاص تجاه بعضهم وتجاه أنفسهم ويضمن حقوقهم ، ويقيّض لهم سعادتهم المادية والمعنوية ، يجب أن يتوفر فيه أمران أساسيان :

1. أن يعرف الإنسان بعامّة خصوصياته ، ويكون واقفاً على أسرار الكائن البشري وعارفاً بأُموره الروحية والجسمية بنحو دقيق ، كالطبيب الذي لا يمكن أن يقوم بواجبه إلاّ بعد أن يتعرف على أحوال المريض وأوضاعه معرفة جيدة دقيقة ليتسنّى له معالجة المريض بنحو صحيح.

وبعبارة أُخرى : أنّ المقنّن يجب أن يكون ملمّاً جيداً بعلم النفس الإنسانية ، وعلم الاجتماع محيطاً بهما ، واقفاً على حقائقهما ، لتوقف غرض التشريع على ذلك ، وبالجملة يجب أن يكون واقفاً على الأحوال الفردية والاجتماعية.

2. يجب أن يكون منزّهاً عن الهوى وعن أي نوع من حب الذات والنفعية ، لأنّ حب الذات حجاب غليظ يحول دون رؤية المشرع للواقع ، ويغطي على بصره وبصيرته.

لأنّ المرء مهما كان عادلاً ومنصفاً ربما يقع بصورة لا شعورية في شباك « الهوى » ويتأثر بغريزة « حب الذات » وينحرف تحت ضغط « النفعية » عن صراط العدل المستقيم.

ويجب أن نرى الآن فيمن يتوفر هذان الشرطان بنحو كامل ؟

لا ريب إذا كان يتعين على المقنن أن يكون ذا معرفة كاملة بالإنسان ، فلا ريب أنّه لا يوجد هناك من يعرف حقيقة النفس الإنسانية واحتياجاتها بكاملها سوى اللّه خالق الإنسان.

ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة إذ قال :

ص: 602

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (1).

فاللّه الذي خلق جميع ذرات هذا العالم وركّب أجزاءه ولاءم بين مختلفاته ، هو الذي يعلم - علماً تاماً - أسرار ما خلق ، وهو الذي يعلم ما يصلح النفس الإنسانية وما يفسدها ، أحسن من غيره.

وهو بعلمه المطلق وإحاطته الواسعة أدرى من غيره بعلاقات الأفراد ، وأبعادها وآثارها ، ويعرف العناصر الصالحة لإقامة مجتمع صالح سعيد ، فهو أدرى من غيره بالقوانين التي تليق بالمجتمع الإنساني وتسعده ، هذا بالنسبة إلى الشرط الأوّل.

* * *

وأمّا الشرط الثاني ، أعني : تجرّد المشرّع عن أيّ نوع من أنواع الهوى والنفعية ، فلابد من الاعتراف بأنّه لا أحد هناك يتصف بهذه الصفة غيره سبحانه ، فهو الموجود الوحيد الذي لا نفع له في المجتمع الإنساني ليخشى عليه ويحرص على حفظه وصيانته عند سن القوانين.

فهو الذي تنزّه عن الغرائز ، في حين يتصف جميع أبناء البشر بحب الذات - التي تعتبر من أخطر آفات التشريع الصحيح - فهم مشدودون إليها رغم سعيهم للتخلّص من مخالبها ، ومتأثرون بها مهما حاولوا عدم الخضوع لسلطانها.

وقد أشار جان جاك روسو إلى هذه الحقيقة بقوله :

لاكتشاف أفضل القوانين المفيدة للشعوب لابد من وجود عقل يرى جميع الشهوات البشرية ، ولكن لا يجد في ذاته ميلاً نحوها ، عقل لا يرتبط بالطبيعة ولا

ص: 603


1- الملك : 14.

يخضع لضغوطها ، ولكنه يعرفها تمام المعرفة ، عقل لا ترتبط سعادته بنا ، ولكنه مستعد لأن يعيننا في سعادتنا (1).

على هذا الأساس لا توجد في الإسلام أيّة سلطة تشريعية ، لا فردية ولا جماعية ، ولا يكون هناك مشرِّع إلاّ اللّه وحده.

وأمّا المجتهدون والفقهاء فهم في الحقيقة ليسوا إلاّ متخصصين في معرفة القانون ، وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها ، وبالتالي تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها في بعض المجالات.

فمن مراجعة الآيات القرآنية يثبت أنّ حق التشريع خاص باللّه فقط ، ولا يحق لأحد - في النظام التوحيدي - أن يفرض رأيه على الآخرين فرداً كان أو مجتمعاً ، وأن يدعوا الناس إلى الخضوع لها والأخذ بها.

فالناس جميعاً - في النظام التوحيدي - متساوون كأسنان المشط ، كما قال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله :

« الناس كأسنان المشط » (2).

فلا فضل لأحد على أحد ، ولا امتياز.

إنّ الإسلام كما لم يسمح لأحد بأن يختص بوضع القوانين دون سواه وحارب تلك الفكرة ، كذلك حارب كل الطبقيات السائدة في الأنظمة الطاغوتية التي تضع بعض الطبقات فوق القوانين ، فالجميع سواسية أمام القانون ، كما عبّر عن ذلك الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله إذ قال :

ص: 604


1- العقد الاجتماعي.
2- حديث مشهور.

« الناس أمام الحق سواء » (1).

ففي الأنظمة الطاغوتية نجد الأُمراء والحكام والملوك وحواشيهم ومن يدور في فلكهم ، يعفون أنفسهم من الضرائب والرسوم ، وكأنّهم بحاجة إلى الشفقة والعطف والمعونة - رغم امتلاكهم لأضخم الثروات - في حين يتحتم على أفراد الشعب حتى الضعفاء أن يتحملوا تلك الرسوم الثقيلة والضرائب الباهظة ، لا على الحاجات المهمة فقط ، بل حتى على الإبرة والخيط التي يستوردونها من الخارج ليكسوا عريهم ، ويقوا أبدانهم برد الشتاء ، وحر الصيف.

هذه هي خصائص النظم الطاغوتية ، وهي تماماً على العكس من النظام الإسلامي التوحيدي الذي لا يقرّ أيَّ امتياز لأحد على آخر ، أو لطبقة على أُخرى ، ولا يعمل إلاّ بميزان العدل والمساواة.

ومن الطبيعي أنّ هذه العدالة والمساواة في النظام الإسلامي ليستا ناشئتين إلاّ من تنزّه المشرّع ( أي اللّه )عن الهوى والنفعية وحب الذات التي يخضع لها مشرّعو القوانين والنظم البشرية.

الآيات الدالّة على التوحيد في التقنين

اشارة

إنّ الآيات التي تعتبر حق التقنين خاصّاً باللّه تعالى ، والتي لا تأذن لأحد بأن يتعرّض لهذا المقام ، كائناً من كان ، تقع على أصناف ، إليك بيانها :

الصنف الأوّل

تدل الآيتان التاليتان على أنّه لا يحق لأحد غير اللّه أن يسن القوانين ، معلّلة

ص: 605


1- حديث مشهور.

بأنّ مثل هذا الحق إنّما هو لمن يملك أزمّة الحياة البشرية برمّتها ، الذي هو نوع من السلطة عليهم ، وليس هو إلاّ اللّه تعالى دون سواه ، قال سبحانه :

( مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1).

لقد وردت جملة ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) في آيتين من سورة يوسف ، إحداهما الآية السابقة ، والأُخرى في قوله تعالى :

( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) (2).

غير أنّ المقصود من حصر الحاكمية باللّه سبحانه في الآية الأُولى هو الحاكمية التشريعية ، كما أنّ المراد من حصرها به في الآية الثانية هو الحاكمية التكوينية.

والدليل على ذلك هو مضامين الآيتين ، فالآية الأُولى تهدف إلى أنّه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرّم ويحل سوى اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك قال - بعد قوله - ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) : ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) ، فكأنّ أحداً يسأل عن أنّه إذا كان الحكم مختصاً به سبحانه والتشريع خاصّاً به ، فماذا أمر اللّه في مورد العبادة ؟ فأجاب على الفور ( أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) .

ص: 606


1- يوسف : 40.
2- يوسف : 67.

وأمّا الآية الثانية ، فهي تهدف إلى أنّ يعقوب لا يملك لأبنائه أمراً ولا يضمن لهم في صفحة الوجود شيئاً ، فأُمور الكون كلّها بيده ، ولابد من التوكّل عليه رغم معرفة أسباب الظفر بالمطلوب ، ولأجل ذلك بعد ما عرفهم أسباب الظفر بقوله : ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) عاد يذكّرهم بأنّه لا يضمن - مع ذلك - لهم شيئاً بقوله : ( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إن الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) .

وأوضح دليل على كون المراد من الحكم هو الحكم التكويني أمره بإيكال الأُمور إليه في مجاري الحياة بقوله : ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) .

وعلى الجملة فالآية الأُولى من الآيتين صريحة في اختصاص التشريع باللّه سبحانه ، لا يتردد في مضمونها من له إلمام بمعارف القرآن.

ويقرب من هذه الآية قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (1).

فإنّ المفسرين فسّروا الأمر هنا بالأمر التشريعي ، قال الطبرسي : إنّما فصل بين الخلق والأمر ، لأنّ فائدتهما مختلفة لأنّه يريد بالخلق أنّ له الاختراع ، وبالأمر أنّ له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ويفعل بهم بما شاء (2).

ص: 607


1- الأعراف : 54.
2- مجمع البيان : 4 / 428 وهذه الآيات كما دلت على حصر التشريع باللّه سبحانه كذلك تدلّ على حصر الحاكمية باللّه سبحانه وسيوافيك بيان دلالة الآية على حصر الحاكمية باللّه سبحانه ولفظ « الحكم » والأمر في الآيتين أعم من التشريع والحاكمية.

ويمكن أن يقال إنّ المراد منه هو الأعم من الأمر التكويني والتشريعي بقرينة ( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) فإنّ المراد من لفظة بأمره بقرينة التسخير هو الأمر التكويني ، وعلى ذلك يمكن أن يراد من قوله : ( لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الأعم من تدبير العالم بالأوامر التكوينية وتدبير المجتمع بالأوامر التشريعية.

الصنف الثاني

اشارة

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤمِنْ قُلُوبهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤتوهُ فَاحْذَرُوا وَمن يرد اللّه فِتْنَته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَم يَرِد اللّه أَنْ يطهر قُلوبهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَة عَذابٌ عَظِيم ) .

( سَمّاعُونَ لِلكذب أَكّالُونَ للسُّحتِ فَإِنْ جاؤوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَو أَعْرِض عَنْهُمْ وَإِنْ تعرض عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللّه يُحِبُّ المُقْسِطين ) .

( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوراةُ فِيها حُكْمُ اللّه ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنين ) .

( إِنّا أَنْزَلْنا التَّوراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم ُبِها النبِيُّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذينَ هادُوا والرَّبّانيُّون والأَحبارُ بِما استُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّه وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوا النّاسَ وَاخْشَونِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

ص: 608

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعينَ بِالعينِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذنَ بِالأُذنِ وَالسنَّ بالسنِّ وَالجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعَيسى ابن مَرْيَم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مَنَ التَّوراةِ وَآتَيْناهُ الإِنْجِيلَ فيهِ هدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوراةِ وَهُدىً وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقين ) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانْجِيل بِما أَنْزل اللّه فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (1).

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُون * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (2).

ولو تأمل القارئ الكريم في مضامين هذه الآيات لتبيّن له بوضوح أنّ اللّه تعالى منذ أن بعث الرسل والأنبياء لم يأذن لأحد في أن يشرّع لنفسه ولا لغيره قانوناً لقصور علم البشر ، وض آلة معلوماته ، ولذلك أنزل في كل عصر أفضل ما يناسبه

ص: 609


1- المائدة : 41 - 47.
2- المائدة : 48 - 50.

من الأحكام والقوانين.

فقوله : ( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) إشارة إلى أنّهم يخالفون ما قرر اللّه لهم من الأحكام.

وقوله : ( أَكّالُونَ لِلْسُّحْتِ ) يُراد منه أنَّهم كانوا يحرمون حلال اللّه ويحلّون ما حرمه.

وأبلغ من كل ذلك قوله : ( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ) .

وقوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) .

وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

وقوله : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها انَّ النَّفْسَ ... ) .

وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

وقوله : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيل بِما أَنْزَل اللّه فِيهِ ) .

وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) .

فهذه المقاطع توضح لنا أنّ ممنوعية التقنين على البشر لم تكن في الإسلام فحسب ، بل كانت في كل الشرائع السماوية والماضية ، وإن حق التقنين حق منحصر باللّه فقط ، فهو من شأنه وفعله تعالى خاصة ، ولم يفوّض هذا الحق إلى أحد أبداً ، أليس هذا القرآن يصف كل من يستبدل النظام الإلهي بغيره ، بالكفر تارة ، وبالظلم أُخرى ، وبالفسق ثالثة.

فهم كافرون ، لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد والإنكار والجحود.

وهم ظالمون ، لأنّهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص باللّه إلى غيره.

ص: 610

وهم فاسقون ، لأنّهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة اللّه.

ثم هل هناك عبارة أصرح في انحصار حق التقنين في اللّه وانتفائه عن غيره ، من قوله تعالى :

أ. ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ ) .

ب. ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) .

وهذا المنهاج والشرعة هو نظام الحياة لكل الأُمم ، لكل أُمّة حسب استعدادها وحسب حاجتها.

وحيث لا يمكن للنظام الإلهي أن يكون ناقصاً وعاجزاً ليكمل عن طريق النظام البشري ، لذلك ليست هناك حاجة مطلقاً إلى النظام البشري مع وجود النظام الإلهي والقانون الربّاني.

ج. ثم يعود القرآن مرة أُخرى يؤكد بقاطعية ، أنّ أي اتباع لغير أحكام اللّه ما هو إلاّ اتباع للهوى ، والهوس إذ يقول :

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) .

د. وبالتالي يعتبر القرآن كلَّ حكم وتشريع لا ينبع عن الوحي ( حكماً جاهلياً ) فيقول بصراحة متناهية :

( أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) .

إجابة عن سؤال

يمكن أن يقال إنّ الرجوع إلى غير الحكم الإلهي إنّما لا يجوز إذا كان هناك حكم إلهي ، أمّا إذا لم يكن هناك حكم لله في مورد من الموارد ، فلم لا يجوز حينئذ

ص: 611

لفرد أو لشورى أن يسن قانوناً ، ويجعل حكماً لكيلا تقف حركة الأُمّة ، ولا يتعرقل تقدمها ؟

إنّ السؤال إنّما يتوجّه إذا وجد مورد مثلما قاله ، غير أنّ كون المنهاج إلهياً يوجب كونه في غاية الكمال والجامعية ولذلك لا مجال لتدخّل أيِّ أحد في أمر التشريع وبعبارة أُخرى : انّ القرآن يقسم القوانين الحاكمة على البشر على قسمين : إلهي وجاهلي ، وبما أنّ كل ما كان من صنع الفكر البشري لم يكن إلهياً ، فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة الهامة الإمام محمد بن علي الباقر علیه السلام ، إذ قال :

« الحكم حكمان : حكم اللّه ، وحكم أهل الجاهلية ، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم أهل الجاهلية » (1).

* * *

إنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه مبيّناً لكل ما يحتاج إليه البشر في تنظيم حياته ومعيشته ، إذ يقول :

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (2).

وفي آية أُخرى يجعل بيانه وتوضيح مقاصده على عاتق الوحي ، قال سبحانه : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبْعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) . (3)

وفي آية أُخرى يعتبر القرآن ، النبي الأكرم مبيّناً له ، لا مقتصراً على القراءة ،

ص: 612


1- وسائل الشيعة : 18 / 18 ، كتاب القضاء.
2- النحل : 89.
3- القيامة : 18 - 19.

كما يقول :

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

إنّ للنبي - بحكم هذه الآية والآيات الأُخر - وظيفتين :

الأُولى : تلاوة القرآن وقراءته على الناس حسبما نزل به الروح الأمين على قلبه ، قال سبحانه : ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث ) (2) ، وقوله سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (3).

الثانية : بيان أهدافه ومقاصده ، ويشير إليه قوله تعالى : ( لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) ، ولا منافاة بين أن يكون بيان القرآن على عاتق الوحي ، كما يفيده قوله : ( ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) وبين أن يكون بيانه من وظيفة النبي ، لأنّ ما يبينّه الرسول مستند إلى الوحي والتعليم الإلهي.

كما أنّه لا منافاة بين أن يكون النبي مبيّناً لمقاصد القرآن ، وأن تكون طائفة من الآيات معلومة عند أهل اللسان ، مع قطع النظر عن بيان النبي صلی اللّه علیه و آله ، كيف لا ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ، قال سبحانه : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (4) ، وقال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (5) ، وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ) (6).

نعم لا منافاة بينهما لأنّ القرآن مشتمل بالضرورة على المجملات في كثير من

ص: 613


1- النحل : 44.
2- الإسراء : 106.
3- القيامة : 16 - 19.
4- النحل : 103.
5- الشعراء : 193 - 195.
6- القمر : 17.

آيات الأحكام ، فما هو المبين راجع إلى غير هذه المجملات كالصلاة والصوم وغيرهما ممّا بيّنها الرسول بأعماله وأقواله ، وقال : صلّوا كما رأيتموني أُصلّي - مثلاً - كما أنّه لا منافاة بين أن يكون بعد من أبعاد آية واحدة واضحاً جليّاً في حين يكون البعد الآخر منه خفيّاً محتاجاً إلى بيان الرسول وخلفائه - صلوات اللّه عليهم -.

وبذلك يظهر أنّه لا منافاة بين هذه الطوائف من الآيات التي نقلنا نماذج منها.

إذا وقفت على ذلك تعرف أنّ ما ورد عن النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله حجّة ملزمة واجبة الاتّباع بحكم كونه مبيّناً للقرآن ، لأنّه يرجع إلى بيان الأحكام التي وردت أُصولها وكليّاتها في القرآن كالآيات المرتبطة بالعبادات والمعاملات والسياسات.

يبقى أن نعرف أنّ أقوال الأئمّة المعصومين مأخوذة - بحكم حديث الثقلين (1) وحديث سفينة نوح (2) - من النبي صلی اللّه علیه و آله ومنتهية إليه.

وبملاحظة هذه الأُمور كلّها يتضح موضع القرآن وأقوال الرسول وأهل بيته المعصومين ، ويتجلّى لنا موقعهم في النظام الإسلامي.

هذا مضافاً إلى أنّ ما يدل على حجية قول النبي صلی اللّه علیه و آله لا ينحصر في ما ذكرنا ، بل هناك آيات أُخرى تشهد بحجية قول النبي وفعله ، كقوله تعالى :

( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (3).

( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (4).

وغيرها من الآيات التي تدارسها المحققون في مبحث العصمة.

ص: 614


1- حديث الثقلين هو : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي » وهو مشهور.
2- حديث السفينة هو : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » وهو مشهور أيضاً.
3- النجم : 3 و 4.
4- الحشر : 7.

الصنف الثالث

اشارة

إنّ الآيات في هذا الصنف تدل - بجلاء تام - على أنّ الأنبياء عامة ورسول الإسلام خاصة بعثوا مع نظام إلهي.

وإليك فيما يلي الآيات المرتبطة بهذا الصنف :

( إِنَّ هذَا القُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) (1).

إنّ المقصود ب ( لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) هو شريعة الإسلام التي ذكرت في آية أُخرى بلفظة « الشريعة » ، إذ قال اللّه سبحانه :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ) (2).

كما أنّ لفظة « أقوم » التي هي صيغة التفضيل من « القائم » كناية عن صحة أحكام القرآن واستقامتها قاطبة ، بحيث تنطبق مع الطبيعة ، وتكون معها على وفاق كامل.

إنّ أحكام الإسلام توفر للإنسان السعادة والحياة الكريمة ، وتسوقه إلى الكمال في حين لا يصدق مثل هذا بالنسبة إلى النظم البشرية.

فهي رغم كونها مفيدة للبشر من بعض النواحي ، إلاّ أنّها مضرة به وبحياته من جهات أُخرى هامة ، وعديدة.

وتؤكد هذه الحقيقة آيات أُخرى مثل قوله تعالى :

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (3).

ص: 615


1- الإسراء : 9.
2- الجاثية : 18.
3- الأنعام : 161.

في هذه الآية ذكر الإسلام أُصولاً وفروعاً بقوله :

1. ديناً قيماً.

2. ملّة إبراهيم.

وفي آية أُخرى عبّر عن أحكام الإسلام بلفظة الشريعة ، إذ يقول :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

في هذه الآية يتراءى للقارئ أمران :

1. أنّ النبي الأكرم أُرسل مع شريعة لتربية الناس وهدايتهم ، وإيصالهم إلى ذرى الكمال.

وحيث إنّ الشريعة تعني الطريقة ، فلابد للطريقة ، من هدف يقصد ، ومقصود يراد ، وغاية تطلب ، وما ذاك إلاّ الكمال الإنساني المنشود ، اللائق بالإنسان أكرم المخلوقات.

2. أنّ اتّباع الأحكام غير الإلهية وغير المستمدة من الوحي الإلهي - مهما كانت الأدمغة التي صنعتها - ليس إلاّ اتباع للهوى.

ومن ذلك يتضح لنا موضوع ( التوحيد في التقنين والتشريع ) فإنّ حق التقنين مختص باللّه سبحانه ومسلوب من المجتمع البشري ، وعلى ذلك فلو أشركنا في هذا الحق أحداً غير اللّه لعدلنا عن جادة التوحيد.

ثم إنّ الآية التالية تؤكد مضمون هذا الصنّف وتؤيده ، إذ تقول :

( لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ

ص: 616


1- الجاثية : 18.

إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

والمنسك الوارد في الآية ليس إلاّ الشريعة الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى على كل أُمّة حسب احتياجاتها وظروفها ، ثم كان يحدث فيها التغيير مع مرور الزمن وتقدّم الأُمم وتوسع نطاق حاجاتها وتكاملها ، حتى أكملها اللّه وأتّمها في نهاية المطاف ، وإن كان كل شريعة منها كاملة بالنسبة إلى الظروف والأُمم التي أُرسلت إليها.

ما هي معاني : الدين ، الشريعة ، الملّة ؟

حيث وردت في الآية 161 من سورة الأنعام لفظة الدين والملّة - كما لاحظنا - يجدره بنا أن نوضح الفرق بين هاتين اللفظتين ولفظة الشريعة.

إنّ الدين حسب اصطلاح القرآن هو الطريقة الإلهية العامّة التي تشمل كل أبناء البشر في كل زمان ومكان ولا تقبل أيَّ تغيير وتحويل مع مرور الزمن وتطور الأجيال ، ويجب على كل أبناء البشر اتباعها ، وهي تعرض على البشرية في كل أدوار التاريخ بنحو واحد دونما تناقض وتباين.

ولأجل ذلك نجد القرآن لا يستعمل لفظة الدين بصيغة الجمع مطلقاً ، فلا يقول : « الأديان » وإنّما يذكره بصيغة المفرد ، كما يقول :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلاَمُ ) (2).

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (3).

ص: 617


1- الحج : 67.
2- آل عمران : 19.
3- آل عمران : 85.

في حين أنّ « الشريعة » تعني مجموعة التعاليم الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن ينالها التغيير مع مرور الزمن وتطور المجتمعات وتكامل الأُمم ، ولذلك لا يضير استعمال هذه اللفظة في صورة الجمع فيقال « شرائع » وقد صرح القرآن بتعدّد الشريعة.

فهو رغم تصريحه بوحدة الدين - كما مر في الآية السابقة - يخبر عن وجود شريعة لكل أُمّة ويكشف بذلك عن تعدد الشريعة ، إذ يقول :

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) (1).

وعلى هذا فإنّ البشرية دُعيت في الحقيقة إلى دين واحد وهو الإسلام الذي كان متحد الأُصول في كل الأدوار والأزمنة ، وكانت الشرائع في كل زمن وظرف طريقاً للوصول إلى الدين الواحد ولم تكن الشرائع إلاّ طرقاً للأُمم والأقوام ، لكل قوم حسب مقتضيات عصره ومدى احتياجه.

وأمّا الملّة ، فهي بمعنى السنن التي بها تتقوّم الحياة البشرية وتستقيم ، تلك السنن التي أودع في مفهومها « الأخذ والاقتباس من الغير ».

ولذلك يضيف القرآن الكريم هذه العبارة - لدى استعمالها - إلى الرسول والأقوام ، إذ يقول - مثلاً - : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (2).

( إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ ) (3).

وعلى هذا تكون الملّة والشريعة متحدتين معنى ومفاداً ، مع فارق واحد ، هو

ص: 618


1- المائدة : 48.
2- البقرة : 135.
3- يوسف : 37.

أنّ الملّة تضاف إلى غير اللّه ، فيقال « ملّة محمد » و « ملّة إبراهيم » ، ولا تضاف إلى اللّه تعالى فلا يقال ملّة اللّه.

الصنف الرابع

في هذا الصنف نجد الآيات تحذر من التحاكم إلى الطغاة والأخذ بقوانينهم ، كما يقول :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعْيداً ) . (1)

بل انّ القرآن يحذر المجتمع الإسلامي أساساً من أيِّ ركون إلى النظم الطاغوتية والابتعاد عن سنن اللّه وشرائعه ، إذ يقول :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن باللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لهَا واللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (2).

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

ص: 619


1- النساء : 59 - 60.
2- البقرة : 256 - 257.

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ لَعَنَهُمُ اللّه وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) (1).

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (2).

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللّهِ لَهُمُ البُشْرَى ) (3).

أجل انّ القرآن - كما رأيت - يحذر من الركون إلى الطاغوت والميل إليه ، فضلاً عن طاعته وتسليم المقدّرات إليه.

إنّ هذه الحقيقة تتجلّى من ملاحظة الآيتين الأُوليين ، المذكورتين في مطلع هذا الصنف ، فالآية الأُولى تأمر باتّباع اللّه ورسوله وأُولي الأمر في المجتمع الإسلامي ، وأنّه إذا حدث حادث يجب ردّه إلى اللّه والرسول لا إلى غيرهم ، ثم يندد بالذين يتحاكمون إلى الطاغوت رغم ادّعائهم الإيمان بالكتب السماوية.

ويا للأسف هل سلك مجتمعنا الإسلامي - في القرن الأخير - غير هذا الطريق الوبي ؟ وهل اتبع غير الأنظمة البشرية ، وحل مشكلاته ومنازعاته إلاّ وفق القوانين الطاغوتية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان ؟

ويمكن أن يسأل : أنّ القوانين الإسلامية بين ثابت وأبدي لا يقبل التغيير مع تطوّر الظروف وبين متغير ومتطوّر ، فما هو موقف السلطة التشريعية تجاه القسم الثاني ؟

أمّا الجواب : فنقول : إنّ التغيّر والتطوّر ليس في جوهر القانون وصلبه ، وإنّما هو في شكله وصورته ، والذي يجب صيانته وحفظه إنّما هو جوهره وصلبه ، لا

ص: 620


1- النساء : 51 - 52.
2- النحل : 36.
3- الزمر : 17.

عنوانه وصورته ، فبالنسبة لروابط الحكومة الإسلامية وعلاقتها مع الأجانب - مثلاً - لا يمكن اتخاذ نظر واحد غير متغيّر.

فقد توجب بعض الظروف أن تتعامل الحكومة الإسلامية مع الأجانب وتوسّع الروابط السياسية والثقافية والتجارية معها ، وربما أوجبت ظروف أُخرى أن تقطع هذه العلاقات أو تحرمها إلى أمد ، أو تحددها على الأقل ، غير أنّ هذا التغيير والتبدّل إنّما هو في شكل هذا القانون الحاكم على العلاقات وفي كيفية التطبيق والتنفيذ لا في أصل القانون وحقيقته ، لأنّ على الحاكم الإسلامي أن يصون مصالح الأُمّة الإسلامية ، ويحفظ مكانتها العالية ، ولا يسمح لأن تقع تحت سيطرة الكفار والمستعمرين ، وهذا القانون هو ما يصرح به القرآن ، إذ يقول :

( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرينَ عَلَى المُؤْمِنينَ سَبِيلاً ) (1).

وتدل الآيات والأحاديث الأُخرى على أنّ هذا القانون لا يقبل التغيّر والتبدّل أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ صيانة الكيان الإسلامي قد تكون في قطع الروابط وقد تكون في إقامتها مع الآخرين.

وأنت إذا لاحظت الآيتين التاليتين تقف على أنّ أساس السياسة الإسلامية مع الدول الأُخرى مذكور فيهما بوضوح قال سبحانه :

( لا يَنْهَاكُمْ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللّهَ عَنِ الذَّينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ) (2).

ص: 621


1- النساء : 141.
2- الممتحنة : 8 - 9.

وحاصل الآيتين : أنّ اللّه سبحانه ينهى عن إيجاد العلاقات الدبلوماسية مع الأُمم المحاربة للإسلام والمسلمين الذين أخرجوهم عن أوطانهم وظاهروا على عدوانهم.

وأمّا الأُمم المسالمة مع الحكومة الإسلامية فلا ضير في إقامة العلاقات معها وبذل البر والقسط إليهم.

قل لي بربك ، هل يمكن أن نعتبر عمل حكومة مصر « لا شعبها » عملاً إسلامياً منطبقاً مع الموازين الإسلامية التي جاء بها القرآن ؟

أو ما أخرجت إسرائيل الأُمّة الإسلامية من وطنها السليب فلسطين ؟!

أو ما ظاهرت على إخراجهم ، وانتزعت منهم حقوقهم المشروعة وشرّدتهم شرّ تشريد ، وفرّقتهم شر تفريق ؟!

* * *

وهكذا الأمر في مسألة تقوية بنية الدفاع الإسلامي فإنّ هناك أصلاً كليّاً بيّنه القرآن على هذا الصعيد ، إذ قال :

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) (1).

فهذا القانون الذي يقرر ضرورة التفوق العسكري الإسلامي على جميع الجيوش العالمية قانون لا يتبدل ولا يقبل التغيير ، غاية ما في الباب أنّ طريقة تطبيقه هي التي تقبل التغيير حسب الأدوار المختلفة.

ففي ما مضى كان الجيش الإسلامي يتسلّح بالرماح والسهام والسيوف ويتخذ من هذه الأسلحة ما كان يضمن له التفوق والغلبة ، غير أنّ تطبيق هذا

ص: 622


1- الأنفال : 60.

القانون في هذا العصر يقتضي تسليح الجيش الإسلامي بأحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً ، وقوّة وتفوقاً ، في كل المجالات البرية والجوية والبحرية.

وخلاصة القول : إنّ زمام التشريع الإلهي ليس في أيدي الناس حتى هذا القسم من القوانين الأساسية التي ينبغي أن تساير تطور الحياة البشرية ، فهي ثابتة روحاً وجوهراً ، متغيرة تطبيقاً وشكلاً حسب ما تقتضي الظروف المتجددة.

ومع الإمعان في هذين المثالين والموردين يتضح حكم الموارد الأُخرى من القوانين المتغيرة :

الصنف الخامس

اشارة

وهي الآيات التي تذم اليهود والنصارى لاتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه ، كقوله تعالى :

( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ ) (1).

كيف كانوا يتخذون رهبانهم وأحبارهم أرباباً ، هل كانوا يعبدونهم ؟ كلا ، بل كانوا يعطونهم حق التشريع الذي هو من الشؤون الإلهية ، فإذا أحل الرهبان والأحبار لهم شيئاً أو حرّموا اتّبعوهم في ذلك.

أخرج الكليني ، عن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير قول اللّه جل وعزّ ( اتَّخذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) :

« واللّه ما صاموا لهم ، ولا صلّوا لهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم

ص: 623


1- التوبة : 31.
2- التوبة : 31.

حلالاً فاتّبعوهم » (1).

وروى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : « يا عدي اطرح هذا الربق من عنقك » قال : فطرحته ، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً ) حتى فرغ منها ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : « أليس يحرّمون ما أحله اللّه فتحرمونه ، ويحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه ؟ » قال : فقلت : بلى ، قال : « فتلك عبادة » (2).

وفي حديث آخر :

« أمّا واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون » (3).

الصنف السادس

تحثّ آيات هذا الصنف على أن لا يتقدّم المؤمنون على اللّه ورسوله واتّباعه على ما يأمر وينهى ، إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (4).

وقد ورد في المأثور أنّه صلی اللّه علیه و آله أمر بالإفطار في السفر غير أنّ بعضهم تمرّدوا عليه فسماهم رسول اللّه عصاة (5).

ص: 624


1- أُصول الكافي : 1 / 53 وقد روى العلاّمة البحراني في تفسيره البرهان أحاديث جمة بهذا المضمون فراجع : 2 / 120.
2- أُصول الكافي : 1 / 53 وقد روى العلاّمة البحراني في تفسيره البرهان أحاديث جمة بهذا المضمون فراجع : 2 / 120.
3- البرهان : 2 / 121.
4- الحجرات : 1.
5- وسائل الشيعة : 4 / 125 باب وجوب الإفطار في السفر.

ولأجل هذا يستنكر القرآن الكريم بشدة - في هذه السورة اتباع طلب النبي صلی اللّه علیه و آله - لآراء الناس ومشتهياتهم فيقول :

( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لََعَنِتُّم ) (1).

أي لأصابكم بسبب ذلك العنت والنصب.

وهنا يمكن أن ندرك عمق ما قاله الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام ، إذ قال :

« لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد من قبلي ، ألا وإنّ الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل » (2).

ماذا يراد من الشرك في التشريع ؟

إذا وقفت على مضامين هذه الآيات وعرفت أنّ اللّه تعالى لم يعط زمام التشريع لأحد من عباده ، تقف على أنّ العدول عنه عدول عن جادة التوحيد وتورط في الشرك.

إنّ التقنين والتشريع من الأفعال الإلهية التي يقوم سبحانه بها حسب ، فلو أنّ أحداً اعتقد بأنّ غير اللّه يملك هذا الحق إلى جانب اللّه وإنّ الحبر اليهودي أو الراهب النصراني مثلاً أو من يشاكلهما له الحق في أن يسن للناس القوانين ، ويعين من لدن نفسه لهم الحلال والحرام ، فإنّه اتخذ سوى اللّه ربّاً ، وبذلك نسب فعل اللّه إلى غيره ، وتجاوز حد التوحيد بتعميم هذا الحق على غيره سبحانه ، وكان بذلك مشركاً.

ص: 625


1- الحجرات : 7.
2- نهج البلاغة الكلمات القصار : الرقم 120.

فلو اعتقد أحد بأنّ لغيره سبحانه حق التقنين وأنّ بيده زمام التحليل والتحريم ومصير العباد في حياتهم الاجتماعية والفردية فقد اتخذه ربّاً أي مالكاً لما يرجع إلى عاجل العباد وآجلهم ، فلو خضع مع هذا الاعتقاد أمامه صار خضوعه عبادة ، وعمله شركاً.

ولأجل هذا نجد القرآن يقول : إنّ اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ، إذ معنى الربوبية في هذا المورد هو امتلاك الأمر وامتلاك زمام الاختيار في التحليل والتحريم ، في حين أنّ اللّه سبحانه لم يعط لأحد مثل هذا الاختيار.

سؤال وإجابة

إذا ثبت أنّ زمام التشريع بيده سبحانه دون سواه فكيف يفسر ما ورد في الأحاديث من :

1. انّ اللّه فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، ليكون المجموع عشر ركعات ، فأضاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الركعتين ركعتين ، وإلى المغرب ركعة.

2. انّ اللّه فرض في السنة صوم شهر رمضان وسنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صوم شعبان وثلاثة أيام من كلِّ شهر.

3. انّ اللّه حرم الخمر بعينها وحرم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسكر من كل شراب.

4. انّ اللّه فرض الفرائض في الإرث ولم يقسم للجد شيئاً ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أطعمه السدس. (1) ؟

ص: 626


1- أُصول الكافي : 1 / 266 ، الحديث 4.

يمكن أن يقال : انّ اللّه سبحانه أدّب رسوله فأحسن تأديبه وعلّمه مصالح الأحكام ومفاسدها وأوقفه على ملاكاتها ومناطاتها ، ولما كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد كامنة في متعلّقاتها ، وكان النبي بتعليم منه سبحانه واقفاً على المصالح والمفاسد على اختلاف درجاتها ومراتبها كان له أن ينص على أحكامه سبحانه من طريق الوقوف على عللها وملاكاتها ، ولا يكون الاهتداء إلى أحكامه سبحانه من طريق التعرّف على عللها بأقصر من الطرق الأُخر التي يقف بها النبي على حلاله وحرامه ، وإلى هذا يشير الإمام أمير المؤمنين علیه السلام بقوله :

« عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل » (1).

غير أنّ اهتداءه صلی اللّه علیه و آله إلى الأحكام وتنصيصه بها من هذا الطريق قليل جداً لا يتجاوز عما ذكرناه ، وبذلك يعلم حال الأئمّة المعصومين علیهم السلام في هذا المورد.

وقد يجاب عنه أنّ عمل الرسول لم يكن في هاتيك الموارد سوى مجرّد طلب وقد نفذ اللّه طلبه ، لا أنّه قام بنفسه بتشريع وتقنين ، ويشير إلى ذلك قوله : « فأجاز اللّه عزّ وجل له ذلك ».

ولو أنّ النبي كان يمتلك زمام التشريع وكان قد فوّض إليه أمر التقنين - على نحو ما تفيده كلمة التفويض (2) - إذن لما احتاج إلى إذنه وإجازته المجدّدة ، ولما كان للجملة المذكورة أي معنى.

* * *

ص: 627


1- نهج البلاغة : الخطبة 234 طبعة محمد عبده.
2- أي أنّ اللّه فوض هذا الحق إلى رسول اللّه واعتزل هو ليفعل النبي ما يشاء.

قد تبيّن من هذا البحث الضافي أنّه لا مكان للسلطة التشريعية بمفهومها الشائع في ظل النظام الإسلامي ، فليس لأحد ولا لجماعة حق في سن القانون ، غير أنّه يبقى هناك سؤال ، وهو : ماذا يخلف هذه السلطة في الحكومة الإسلامية ؟ نقول يخلفها جهازان :

1. فريق الإفتاء ، وهم المجتهدون الذين يستنبطون الأحكام الشرعية عن الأدلّة وهؤلاء الجماعة يستكشفون الأحكام ببركة الأدلة وليست لآرائهم وأفكارهم من دون الاستناد إلى إحدى الأدلة الشرعية أيّة قيمة.

2. فريق الشورى ، ووظيفته تخطيط شؤون البلاد في الاقتصاد والسياسة والعمران على ضوء القوانين الإسلامية.

وأمّا تفصيل عمل هذين الفريقين فموكول إلى الجزء الثاني من كتابنا ، الذي يتضمن البحث عن شؤون النبوة وقيادة النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

الشيعة وفكرة حق التشريع للأئمّة

نشر الكاتب إبراهيم السليمان الجهمان مقالاً في مجلة « الدعوة » تحت عنوان « مزاعم طائفة الشيعة » جاء فيه بأكاذيب وافتراءات على هذه الطائفة هم برآء منها ، وممّا جاء فيه : أنّ الشيعة تزعم أنّ للأئمّة حق التشريع والنسخ ( أي نسخ الأحكام ).

إن هذا إلاّ افتراء وكذب ألصقه بهم هذا الكاتب غير المكترث بما يقول ، ونحن نرشد - هنا - القارئ الكريم إلى عقيدة الشيعة في حق أئمتهم بنقل ما تواتر عن إمامهم الخامس أبي جعفر الباقر علیه السلام حيث قال مخاطباً لجابر :

« يا جابر أنّا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدثكم

ص: 628

بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم ».

وفي رواية أُخرى : « ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول اللّه وأُصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ».

وفي رواية محمد بن شريح عن الصادق علیه السلام :

« واللّه ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ، ولا نقول إلاّ ما قال ربنا ».

وفي رواية عنه علیه السلام :

« مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول اللّه ، لسنا نقول برأينا من شيء » (1).

إلى غير ذلك من الأحاديث المتضافرة عنهم وكلّها تفيد أنّ علومهم وأحاديثهم مأخوذة عن نبيهم وجدهم الأطهر.

غير أنّا لا نريد أن نؤاخذ بالمثل ، ولا نريد أن نعكر الصفو ، فإنّ ما نسبه إلى تلك الطائفة أولى بأن ينسب إلى غيرهم فإنّ منهم من يعد الصحابة ممن حق لهم التشريع !!

يقول مؤلّف « السنّة قبل التدوين » : انّه تطلق السنّة أحياناً على ما عمل أصحاب رسول اللّه وإن لم يكن في القرآن ، أو في المأثور عنه ، وقد كان يفرق بعض المحدثين فيرى الحديث هو ما ينقل عن النبي والسنّة ما كان عليه العمل المأثور في الصدر الأوّل ، وعلى ذلك يحمل قول عبد الرحمن بن مهدي : لم أر أحداً قط أعلم بالسنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنّة من حماد بن زيد ، وقوله : سفيان الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنّة ، والأوزاعي إمام في السنّة وليس بإمام في الحديث ، ومالك إمام فيهما ، ومن أبرز ما ثبت في السنّة بهذا المعنى سنّة

ص: 629


1- راجع جامع أحاديث الشيعة ، المقدمة : 1 / 17.

الصحابة في الخمر ، وتضمين الصناع ، ويحتج بذلك بقوله : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.

وبما قال علي بن أبي طالب بعد ما جلد الشارب أربعين جلدة : « كف ، جلد رسول اللّه أربعين ، وأبو بكر أربعين وكملها عمر ثمانين ، وكل سنّة ».

وقال ابن قيم الجوزية ، في توجيه الحديث الأوّل : فقرن سنّة خلفائه بسنته ، وأمر باتّباعها كما أمر باتّباع سنَّته ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنّوه للأُمّة وإن لم يتقدّم من بينهم فيه شيء وإلاّ كان ذلك سنَّته (1).

وهذه الروايات تدل على أنّ للصحابة سنة كسنّة النبي وآراءهم وفتاواهم حجة كحديث رسول اللّه ، فعندهم سنَّة أبي بكر ، سنَّة عمر ، وسنَّة علي.

وما أتفه ما رواه السيوطي في « تاريخ الخلفاء » قال : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصاحباه ، فهو دين نأخذ به وننتهي إليه وما سنَّ سواهما فإنّا نرجئه (2).

وفي محاورة ثعلبة بن أبي مالك القرضي مع عبد الملك بن مروان : وليست سنّة أحب إلي من سنّة عمر وقد أخّر صلاته إلى مزدلفة (3).

ومنهم من يجعل قول الصحابي حجة ، من دون تسميته سنّة ، فقد نقل الشيخ أبو زهرة عن ابن القيم انّه استدل على حجية آرائهم بنحو ستة وأربعين وجهاً.

ص: 630


1- السنّة قبل التدوين : 18 ، راجع أعلام الموقعين : 4 / 140.
2- تاريخ الخلفاء : 160.
3- طبقات ابن سعد : 5 / 172.

نعم خالف الشوكاني في المقام وجاء بالحق حيث قال : والحق أنّ قول الصحابي ليس بحجة ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبينا محمداً وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجة من دين اللّه بغيرهما فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت ، وأثبت شرعاً لم يأمر اللّه به (1).

وما ذكره الشوكاني حق والحق أحق أن يتّبع وقال سبحانه : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ ) (2).

وقال سبحانه : ( ءَاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (3).

إنّ حق التشريع من حقوقه سبحانه لم يعطه لأحد حسب مفاد هذه الآيات ولم يشرك فيه أحداً غير أنّ بعض أهل السنّة قد جانب الحق وأثبته للأُمراء ، وراء الصحابة يسمّونه « صوافي الأُمراء ».

فعن المسيب بن رافع قال : إذا كان الشيء من القضاء وليس في الكتاب ولا في السنّة سمّي « صوافي الأُمراء » فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق (4).

وعن هشام بن عروة قال : ما سمعت أبي يقول في شيء قط برأيه ، قال : ربما سئل عن الشيء فيقول هذا من خالص السلطان (5).

ص: 631


1- راجع ص : 231 - 239 كتاب بحوث مع أهل السنّة والسلفية.
2- النحل : 116.
3- يونس : 59.
4- جامع بيان العلم : 2 / 174.
5- جامع بيان العلم : 2 / 147.

وبالاسناد عن أبي هرمز قال : أدركت أهل المدينة ما فيها الكتاب والسنّة والأمر ينزل فينظر فيه السلطان (1).

هذا وذاك بل وغيره من الكلمات تفيد - بصراحة - أنّ الصحابة والأُمراء لهم حق التشريع والتقنين ، وأنّ آراءهم ونظرياتهم تعدّ أحكاماً إلهية - حسب منطق أهل السنّة - وعلى ذلك فرعوا حجية القياس والرأي للعلماء قائلين بأنّا أمرنا بطاعة أُولي الأمر بمقتضى قوله : ( أَطِيْعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) ، فيدخل في هذه الاطاعة ما قالوه بقياس أو رأي (2).

ولقد أشبع الكلام في المقام العلاّمة الحجّة السيد مهدي الروحاني في كتابه القيّم « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه.

وقد عد الأُستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه « مصادر التشريع الإسلامي » في ما لا نص فيه ، من الأدلة : إجماع أهل المدينة ، وقول الصحابي ، وإجماع أهل الكوفة ، وإجماع الخلفاء الأربعة. فراجع ص 109 واقرأ ما فيه ثم أقض في التهمة التي ألصقها الجهمان بالشيعة ، وأنّ أي طائفة أحرى بهذه النسبة.

ص: 632


1- المصدر السابق.
2- لا يخفى ما في هذا الاستدلال من الوهن والضعف.

الفصل الحادي عشر: اللّه والتوحيد في الطاعة

اشارة

ص: 633

اللّه والتوحيد في الطاعة

1. انحصار حق الطاعة في اللّه.

2. الطوائف التي وجب طاعتها بإذن اللّه.

3. الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

4. وظائف الرسول.

5. أُولو الأمر.

6. الوالدان.

7. محدودية إطاعتهما.

ص: 634

انحصار حق الطاعة في اللّه سبحانه

تعتبر مسألة التوحيد في الطاعة من أهم مسائله والمراد منه الاعتقاد بأنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه تعالى ، فهو وحده الذي يجب أن يُطاع وتمتثل أوامره ، وأمّا طاعة غيره فإنّما تجوز إذا كانت بإذنه وأمره وإلاّ تكون محرمة ، ووجه ذلك هو أنّ الطاعة من شؤون المالكية والمملوكية ، ومن فروع الربوبية والمربوبية ، فالمالك للوجود بأسره ورب الكون الذي منه وإليه كل شؤوننا هو الذي يجب أن يُطاع دون سواه ، ولا تعني الطاعة - في الحقيقة - سوى أن نضع ما وهبنا من آلاء ونعم بما في ذلك « وجودنا » و « إرادتنا » - في الموضع الذي يرضاه ولا ريب أنّ المروق من هذه الطاعة لا يكون إلاّ ظلماً تقبّحه العقول السليمة ، وتنفر منه الطباع المستقيمة.

وبعبارة أوضح : أنّ التوحيد في الطاعة يعد في الحقيقة من شؤون التوحيد في الأفعال.

فعندما نعتقد بأنّه ليس للكون إلاّ خالق ومنعم واحد وأنّ وجود العالم مستمد من ذلك الخالق المنعم ، في هذه الصورة يتعين بالضرورة أن نعترف بأنّه ليس في الوجود سوى مطاع واحد هو الذي تجب طاعته دون غيره ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إِلَى اللّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (1).

ص: 635


1- فاطر : 15.

ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم يطرح مسألة الطاعة لله وحده مشعراً بانحصارها فيه ، إذ قال :

( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأنْفُسِكُمْ ) (1).

وتقرب من ذلك الآية التالية حيث تمدح فريقاً من المؤمنين بأنّهم يسمعون أوامر اللّه ويطيعونها مشعرة بانحصار الطاعة فيه سبحانه إذ تقول :

( وَقَالُوا سَمِعْنَا وََأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ) . (2)

وفي آية ثالثة تصرح بأنّ النبي لا يُطاع إلاّ بإذنه سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (3).

فهذه الآية تفيد - بوضوح - أنّ طاعة النبي فرع لطاعة اللّه ، وأنّها في طول طاعته تعالى وليس في عرضها ومصافها ، بمعنى أنّها ليست واجبة بذاتها وأنّ النبي ليس مطاعاً بذاته ، فلو لم يأمر بها لما وجبت طاعته ولما كان مطاعاً.

وفي آية رابعة تعد طاعة النبي طاعة اللّه نفسه ، إذ تقول :

( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهُ ) (4).

فإذا كان هذا حال النبي فحال غيره أوضح ، فتلخص أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه سبحانه وأمّا إطاعة غيره فإنّما تجب بأمر من تجب طاعته بالذات.

ص: 636


1- التغابن : 16.
2- البقرة : 285.
3- النساء : 64.
4- النساء : 80.

الذين تجب طاعتهم بأمره

اشارة

يصرح القرآن الكريم بوجوب طاعة طوائف خاصة بإذنه وأمره ، وفي مقدّمتهم النبي الأكرم ثم أُولو الأمر من المؤمنين ثم الوالدان.

ولمّا كان البحث عن المطاع الثاني يرتبط بمباحث الحكومة والولاية التي تأتي في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، لذلك نرجئ البحث عنه إلى ذلك الجزء ، ونخص البحث في هذا الفصل بالأوّل والثالث فنقول :

1. الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله

اشارة

إنّ النبي الأعظم صلی اللّه علیه و آله ممّن افترض اللّه طاعته والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه ، وهذه حقيقة صرحت بها الآيات التالية مضافاً إلى الآيات التي مر ذكرها عليك :

وهذه الآيات هي :

( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَولَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ ) (1).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (2).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ) (3).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) (4).

ص: 637


1- آل عمران : 32.
2- النساء : 59.
3- المائدة : 92.
4- الأنفال : 1.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَولَّوا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (1).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) (2).

( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) (3).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) (4).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ واللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (5).

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ ) (6).

وقد ورد لزوم طاعة النبي في آيات أُخرى في صورة التسوية ، بين طاعة اللّه وطاعة الرسول مثل قوله : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) (7).

( مَنْ يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (8).

( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ) (9).

ص: 638


1- الأنفال : 20.
2- الأنفال : 46.
3- النور : 54.
4- محمد : 33.
5- المجادلة : 13.
6- التغابن : 12.
7- النساء : 69.
8- النساء : 80.
9- النور : 52.

( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (1).

( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) (2).

( وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ ) (3).

( وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (4).

ثم يعود القرآن فيصف معصية الرسول بالكفر ، لأنّ رد الرسول والتمرّد عليه رد على اللّه وتمرّد عليه ، إذ يقول :

( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ ) (5).

وعلى هذا الأساس يعتبر القرآن تكذيب النبي بمنزلة التكذيب لله والجحد لآياته سبحانه ، إذ يقول :

( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللّه يَجْحَدُونَ ) (6).

وعلى هذا يعتبر تكذيب القرآن ، وتكذيب النبي بل وتكذيب أي شخص أو شيء مرتبط باللّه ارتباطاً مسلماً ، تكذيباً لله تعالى ، في الحقيقة.

ص: 639


1- الأحزاب : 71.
2- الفتح : 17.
3- التوبة : 71.
4- الأحزاب : 33.
5- آل عمران : 32.
6- الأنعام : 33.
ما هو المراد من إطاعة النبي ؟

إنّ النبي الأعظم بما هو نبي ورسول كان يتحمل من جانبه سبحانه أُموراً ووظائف هامة تنبع من صميم نبوته ورسالته ونشير إلى أهمها :

الأوّل : تلاوة وتعليم الآيات القرآنية ، التي كان ينزل بها أمين الوحي جبرائيل ، على قلبه الشريف ، تلك الآيات التي كانت تتضمن الأوامر والنواهي الإلهية ، مثل أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وما شابه ذلك.

الثاني : إبلاغ الأحكام والأوامر والنواهي بالبيان الشخصي ، والمراد من البيان الشخصي هو « الأحاديث » والألفاظ التي يكون إنشاؤها من النبي نفسه ، فيما يكون معانيها من جانب اللّه تعالى ، وهو ما يطلق عليه « الحديث النبوي » حسب ما اصطلح عليه.

ولم يكن للنبي في إبلاغه لرسالات ربه من شأن - سواء أكان عن طريق تلاوة القرآن أم عن طريق أحاديثه - إلاّ كونه رسولاً ومبلغاً لأوامره ونواهيه سبحانه.

وإذا ما وجدنا القرآن الكريم يصف النبي بأنّه : « الشاهد والبشير والنذير » وما شابه ذلك ، فإنّ تلك الأوصاف ليست ناظرة إلاّ إلى هذه الوظائف التي ما كان للنبي فيها من دور إلاّ دور المبلغ حسب.

الثالث : أعمال الولاية الإلهية الموهوبة له من اللّه سبحانه بقوله : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) ومن الواضح أنّ إعمالها يحتاج إلى إصدار أوامر ونواهي إلى المؤمنين ، ولا ينجح النبي في هذا المقام إلاّ أن يكون مطاعاً بين أُمّته.

ص: 640


1- الأحزاب : 6.

وهذا كما لو أمر بتجييش الجيش ، والنفر إلى الجهاد ، ومكافحة الظالمين إلى غير ذلك ممّا يتقوّم به إصلاح المجتمع ، ولأجل ذلك عد اللّه سبحانه مخالفة النبي معصية ربما توجب الخروج عن الدين.

وما ورد من الآيات الدالة على لزوم طاعة النبي ناظرة إلى هذا القسم من الأوامر الناشئة من هذا المقام ، إنّ مقام النبي في هذه الصورة هو مقام القائد الذي يأمر من يكون تحت قيادته وإمرته أو ينهاه ، وليس مقام الإبلاغ المحض الذي ليس له شأن سوى إبلاغ أحكامه سبحانه.

قد تقتضي المصالح الإسلامية - مثلاً - أن يدفع المسلمون - عدا الحقوق المالية الواجبة عليهم - مبالغ إضافية في سبيل المصالح الإسلامية ، أو قد يطّلع النبي صلی اللّه علیه و آله على ظلم رجل لزوجته ، ويرى في استمرار العلاقة الزوجية بينهما حرجاً لا يطاق وعسراً لا يتحمّل ، وفي مثل هذه الصور يأمر النبي صلی اللّه علیه و آله بدفع الضرائب الخاصة للدولة الإسلامية وإطلاق سراح الزوجة حسماً لمادة الفساد ، ويجب على المؤمنين إطاعته ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) (1).

ففي هذه الآية التي تتحدّث عن معصية اللّه والرسول ليس المقصود هو معصية الرسول بما هو مبلغ لرسالات اللّه وأحكامه ، إذ ليس في هذه الحالة للرسول الأعظم أي أمر ونهي حتى تعد مخالفته مخالفة للرسول ، بل هو في هذه الحالة ليس إلاّ مبلغاً ومنبّئاً ورسولاً بين اللّه وعباده.

إنّ معصية الرسول إنّما تتحقّق إذا كانت الأوامر صادرة عن موقع القيادة

ص: 641


1- الأحزاب : 36.

والإمرة ، وعند ذلك يعد الأمر والنهي أمراً ، ونهياً له وتعد المخالفة مخالفة له.

والعجب أنّ صاحب المنار حصر إطاعة النبي في مورد الأحكام التي أمر اللّه رسوله أن يبلغها عنه حيث قال : قضت سنَّة اللّه بأن يبلغ عنه شرعه للناس رسل منهم وتكفل عصمتهم في التبليغ ، ولذلك وجب أن يطاعوا في ما يبيّنون من الدين والشرع.

مثال ذلك أنّ اللّه تعالى هو الذي شرع لنا عبادة الصلاة وأمرنا بها ، ولكنّه لم يبيّن لنا في الكتاب كيفيتها وعدد ركعاتها ولا ركوعها ولا سجودها ولا تحديد أوقاتها ، فبيّنها الرسول بأمره تعالى إيّاه بذلك في مثل قوله : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1).

فهذا البيان بإرشاد من اللّه تعالى فاتّباعه لا ينافي التوحيد ولا كون الشارع هو اللّه وحده (2).

وضعف هذا الكلام ظاهر ، إذ ليس للنبي الأكرم في هذا المضمار أي أمر ولا نهي ، وإنّما هو مجرد مبلِّغ أو مذكِّر وليس له عليهم أية سلطة وسيطرة ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( فَذَكِّر إِنَّمَا أَنْت مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (3).

نعم في مجال الحاكمية التي يحتل النبي صلی اللّه علیه و آله فيها دست الحكومة ، يكون له الأمر والنهي.

ص: 642


1- النحل : 44.
2- راجع تفسير المنار : 5 / 180.
3- الغاشية : 21 - 22.

2. أُولو الأمر

إنّ الفريق الثاني الذي أوجب اللّه طاعتهم علينا من سمّاهم اللّه سبحانه بأُولي الأمر ويكون لهم بالتالي مقام الآمرية والقيادة في المجتمع الإسلامي ، حيث قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُوْلي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأْوِيلاً ) . (1)

وبما أنّ التعرف على أُولي الأمر في المجتمع الإسلامي أنسب بمباحث القيادة والحكم نرجئ البحث عنه إلى الجزء الثاني الذي يتكفّل بتحليل مباحث النبوة في الكتاب العزيز ، ونبحث عنه عند البحث عن الرسول الخاتم والنبي القائد.

3. الوالدان

اتّفق المسلمون - اقتداء بالكتاب العزيز - على حرمة مخالفة الوالدين مستندين إلى قوله سبحانه :

( وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَانا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) (2).

إذ لو كانت لفظة ( أُفٍ ) التي توجب انزعاجهما محرّمة ، فمن الأولى أن

ص: 643


1- النساء : 59.
2- الإسراء : 23.

تكون مخالفتهما في سائر الأُمور التي توجب انزعاجهما بكثرة حراماً أيضاً ، نعم إطاعتهما وإن شئت قل : حرمة مخالفتهما محددة بما إذا لم يأمرا بالشرك ، بل بما إذا لم يأمرا بما فيه معصية اللّه.

لأنّ القرآن لمّا نهى عن طاعة أمر المسرفين في قوله : ( وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ ) (1) ، وعن طاعة الآثم والمكذِّب والغافل في قوله : ( وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (2) ، وقوله سبحانه : ( فَلاَ تُطِعِ المُكَّذِبِينَ ) (3) ، وقوله سبحانه : ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (4) ، وجب علينا أن لا نطيع أمر من يأمر بمخالفة اللّه ومعصيته ، فإنّ ذلك يشبه أمر من أغفل اللّه قلبه أو صار من المكذبين والمسرفين ، سواء في ذلك الوالدان وغيرهما ، وبذلك تكون دائرة الإطاعة أضيق مما سبق فتتحدد الإطاعة عندئذ بما لم تكن دعوتهما دعوة إلى معصية اللّه ومخالفته - على الإطلاق -.

لقد دعا القرآن الكريم المجتمع البشري إلى تكريم مقام الوالدين واحترامهما ، وإطاعتهما ، ولكنّه ذكّر - في نفس الوقت - بنقطة مهمة وجديرة بالاهتمام وهي : أنّ محبة الأبناء لآبائهم وأُمّهاتهم يجب أن لا تكون محبة عمياء ، ولا أن تكون طاعتهم لهم طاعة غير محسوبة تسبب في الخروج عن حدود العدالة.

فإنّ على الأبناء أن لا يكتموا الشهادة الحقّة حتى لو كانت ضد آبائهم وأُمهاتهم لو كانوا ظالمين حقاً.

ص: 644


1- الشعراء : 151.
2- الإنسان : 24.
3- القلم : 7.
4- الكهف : 28.

فها هو القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) (1).

فلو دعا أحد الوالدين ولده إلى الشرك ، وجب أن يقاومهما ، فلا تجرّه مودته وعاطفته إلى اختيار الباطل ، ولا ينساق وراء ما دعا إليه الأبوان بدافع المحبة ، كما يقول القرآن الكريم :

( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (2).

( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (3).

ولقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام إلى حق إطاعة الوالدين المحدود ، في عبارة مقتضبة له ، إذ قال :

« فحق الوالد على الولد أن يطيعه - أي الولد يطيع والده - في كل شيء إلاّ في معصية اللّه » (4).

ص: 645


1- النساء : 135.
2- لقمان : 15.
3- العنكبوت : 8.
4- نهج البلاغة : الكلمات القصار : رقم 399.

ص: 646

الفصل الثاني عشر: اللّه والتوحيد في الحاكمية

اشارة

ص: 647

اللّه وانحصار حق الحاكمية فيه

1. انحصار حق الحاكمية فيه سبحانه.

2. الآثار السيئة لفقدان القائد.

3. الاقتداء بسيرة النبي صلی اللّه علیه و آله .

4. الولاية والحاكمية لله سبحانه.

5. الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة.

6. كلمة أخيرة.

ص: 648

الحكومة ضرورة اجتماعية

بالرغم من تصوّر البعض بأنّ « الحرية » وقيام « السلطة الحكومية » أمران متناقضان لا يجتمعان أبداً وأنّ صيانة الحرية الفردية تقتضي - بالضرورة - أن تحذف « الحكومة والدولة » من قاموس الحياة البشرية.

وبالرغم من تصوّر أنّ الدول والحكومات هي ما تتألف - دائماً - من الأقوياء ، وتراعي حقوقهم ومصالحهم على حساب حقوق الضعفاء ومصالحهم.

وكذا بالرغم من تصوّر أنّ الإنسان طيب ذاتاً وأنّه مخلوق عاقل وعالم فلا حاجة إذن إلى وجود دولة تنظم أُموره وتدبّر شؤونه وتحفظ مصالحه.

على الرغم من جميع تلك التصوّرات والمزاعم التي تكشف عن نوع من السفسطة والسذاجة ولا تنتج سوى الفوضى والهرج والمرج فإنّ ضرورة وجود حكومة في حياة البشر في غاية الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل وبرهان أبداً.

إنّ الضرورة تقضي بقيام دولة تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية وتسعى في تنظيم الطاقات وتنمية المواهب ، وتوقف أبناء المجتمع على واجباتهم ، وتجري القوانين الإلهية أو البشرية.

ولأجل هذا اعتبر جماعة من الفلاسفة والعلماء الكبار ، ( كإفلاطون وأرسطوا وابن خلدون وغيرهم (1) ، وجود الدولة ضرورة حيوية لا بد منها.

ص: 649


1- مقدمة ابن خلدون : 41 - 42.

ولم يشذ عن ذلك إلاّ ماركس الذي اعتبر وجود الدولة أمراً ضرورياً ما دام هناك وجود للصراع الطبقي ، أما مع انتشار الشيوعية واستقرار النظام الشيوعي في العالم كله فلا حاجة إليها.

غير أنّ ماركس نظر إلى الحياة البشرية من زاوية واحدة هي زاوية « الصراع الطبقي » في حين أنّ للحياة البشرية زوايا أُخرى لو نظر إليها ماركس ، وطالعها بموضوعية ودقة ، لما حكم بعدم الحاجة إلى الدولة ، ولما دعا إلى زوالها حتى بعد انتشار الشيوعية - حسب نظره -.

لأنّ سبب النزاع والاختلاف بين أفراد البشر لا ينحصر في الصراع الطبقي فقط بحيث لو زال هذا الصراع لأصبحت الأرض جنة عدن ، بل هناك الغرائز البشرية كغريزة حب الجاه ، وحب الذات ، وغيرها من الغرائز غير المهذبة ، هي أيضاً منشأ الصراع والاختلاف بين البشر إلى جانب « الصراع الطبقي ».

ثم على فرض أن لا يكون هناك صراع طبقي فضرورة وجود الحكومة لأجل إدارة المجتمع من زاوية للقيام بحوائجها الاجتماعية أمر لا مناص منه.

فالمجتمع الذي زال فيه الصراع الطبقي لا يشذ عن سائر المجتمعات في احتياجه إلى من يدير أُموره من تأمين سكنه وصحته وتعليمه وتربيته ومواصلاته البرية والبحرية والجوية ، والفصل في خصوماته في ما لا يرجع إلى الأُمور الطبقية إلى غير ذلك من الشؤون التي لا مناص منها لإقامة المجتمع مما يحتاج إلى المؤسسات ، وإدارة شؤونها.

فلابد من مؤسسات تقوم كل واحدة منها بناحية من هذه الأُمور وتنظيمها ولا نعني من الحكومة إلاّ هذا.

ص: 650

وعلى أي حال فلابد من دولة توقف الناس على وظائفهم القانونية ، وتعاقب المخالفين المتجاوزين ، وتعيد الحقوق المهضمومة إلى ذويها ، وتصون النظام والانضباط الاجتماعي الذي يمثل قاعدة السعادة ورمز بقاء المدنية ، وأساس استمرار الحضارة وسبب تقدم البشرية في المجالات المادية والمعنوية.

وخلاصة القول : إنّ حفظ النظام الاجتماعي والحضارة الإنسانية وتعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ، ومالهم وما عليهم من الحقوق ، ورفع أي نزاع وتصارع في حياة الجماعة أُمور تحتاج إلى : مرجع قوي يقوم بهذه المهام الضخمة ، وهذا الواجب الإنساني الشريف ويحفظ بالتالي أساس الحضارة الذي هو حفظ النظام الاجتماعي وصيانته من التقهقر والانحطاط.

إنّ حقيقة الإسلام ليست إلاّ سلسلة من « الأُصول والفروع » المنزلة من جانب اللّه والتي كلَّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدعوة الناس إليها وتطبيقها على الحياة في الظروف المناسبة ، ولكن حيث إنّ تطبيق طائفة من الأحكام التي تكفل استقرار النظام في المجتمع لم يكن ممكناً دون تشكيل حكومة وقيام دولة ، لذلك أقدم النبي صلی اللّه علیه و آله بحكم العقل ، وبحكم ما كان له من الولاية المعطاة له من قبل اللّه ، على تشكيل دولة.

على أنّ الحكومة ليست بذاتها هدف الإسلام بل الهدف هو تنفيذ الأحكام والقوانين وضمان الأهداف الإسلامية العليا ، وحيث إنّ هذه الأُمور لا تتحقق دون أجهزة سياسية ، وسلطات حكومية لذلك قام النبي صلی اللّه علیه و آله بنفسه بمهمة تشكيل مثل هذه الدولة وتأسيس مثل هذه الحكومة.

والخلاصة : أنّ إجراء حد السرقة والزنا على السارق والزاني ، وتنفيذ سائر الحدود والعقوبات ، ومعالجة مشاكل المسلمين ، وتسوية نزاعاتهم في الأُمور المالية

ص: 651

والحقوقية ، ومنع الاحتكار والغلاء ، وجمع الضرائب المالية الإسلامية وتوسيع رقعة انتشار الإسلام ، ورفع الاحتياجات الأُخرى في المجتمع الإسلامي وغيرها ، لا يمكن أن تتحقق دون وجود أمير جامع وزعيم حازم وبدون حكومة ، وزعامة مقبولة لدى الأُمّة.

وحيث يتوجب على المسلمين الآن أن يطبقوا الأحكام الإسلامية بحذافيرها من جانب ، وحيث إنّ تطبيقها على الوجه الصحيح لا يمكن دون تأسيس سلطة يخضع لها الجميع من جانب آخر ، لهذا كله يتحتم أن تكون لهم أجهزة سياسية وتشكيلات حكومية ، في إطار التعاليم والقيم الإسلامية ليستطيعوا بها أن يتقدّموا - في كل عصر - جنباً إلى جنب مع المتطلبات المستحدثة والاحتياجات المتجدّدة.

لقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام إلى ضرورة تكوين مثل هذه الحكومة بل إلى ضرورة وجود حاكم ما مرجحاً الحاكم الجائر على الفوضى الاجتماعية والهرج والمرج الذي يستتبعه عدم وجود حاكم ، وأشار في نفس الوقت إلى أنّ الحكومة في منطق الإسلام ليست هي الهدف ، بل هي وسيلة لاستقرار حياة كريمة آمنة حتى يتمتع كل فرد بحقوقه العادلة.

لقد أشار الإمام علي إلى أنّ الدولة - في نظر الإسلام - وسيلة لحفظ النظام الاقتصادي والأمن والدفاع وأخذ حقوق المستضعفين من الأقوياء المستكبرين ، إذ يقول :

« إنّه لابد للناس من أمير ، بر أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ اللّه فيها الأجل ، ويجمع الفيء ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي ».

وفي رواية أُخرى قال :

ص: 652

« أمّا الإمرة البرة فيعمل فيها التقي ، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي ، إلى أن تنقطع مدته ، وتدركه منيته » (1).

وعلى هذا البيان يكون وجود الدولة ضرورة اجتماعية لا مناص منها.

أضف إلى ذلك أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كلّف بعد رجوعه من حجة الوداع في غدير خم بأن ينصّب علياً خليفة من بعده لإمرة المسلمين ، من جانب اللّه ، وكان الأمر الإلهي مصدراً بقوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (2).

ثم يجسد اللّه أهمية هذا الموضوع وخطورته القصوى بأنّ عدم إبلاغ ما أُوحي إليه في أمر الخلافة يساوي عدم إبلاغ الشريعة رأساً ، إذ قال تعالى :

( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (3).

إنّ هذه الآية كما تدلّ على مقام الإمام وعظيم مكانته تكشف - كذلك - عن أهمية مقام الإمامة وخطورة قيادة المجتمع ، لأنّه بسبب الإمام القائد تشرق أشعة العدالة على المجتمع البشري ولا تغيب ، وهو الذي بسببه تبقى التعاليم الإلهية حية مصانة من كل تحريف ، وبسببه تصل البشرية إلى شواطئ السعادة المادية والمعنوية على السواء.

الآثار السيئة لفقدان القائد

لقد بلغ الإسلام في حرب أحد أخطر مراحله ، حيث عمد العدو إلى بث

ص: 653


1- نهج البلاغة : الخطبة 39.
2- المائدة : 67.
3- المائدة : 66.

الشائعات عن مقتل النبي صلی اللّه علیه و آله ، وفي هذه اللحظة الحساسة التي شعر المسلمون فيها بفقدان الزعيم والقائد ، خطرت في أذهان البعض فكرة العودة إلى الجاهلية والارتداد على الأعقاب ، وراح هذا البعض يقول : لِمَ نحارب وقد مات رسول اللّه ، فنزل القرآن يوبّخ من لهج بهذه الكلمة ، وقال :

( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (1).

ولو أنّ شائعة مقتل النبي لم تكذب بظهوره صلی اللّه علیه و آله عند أصحابه ، لآل نظام المسلمين إلى التمزّق حتماً ، ولانتهى الأمر بمقتل فريق وفرار آخرين في أسوأ نكسة عرفها التاريخ ، فهل من الصحيح أن تهمل مسألة القيادة وهي بهذه الدرجة من الخطورة والأهمية في حياة الشعوب ؟

وهل من الصحيح أن لا يقدم المسلمون على إيجادها لتنظيم حياتهم لكي يستتب الأمن والسلام ؟

الاقتداء بسيرة النبي صلی اللّه علیه و آله

كان الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذا بعث سرية إلى الجهاد عيّن أُمراء متعددين لتلك السرية يتوالون على قيادتها ، لكي لا تبقى دون آمر إذا أُصيب أحدهم ، فتصبح كالقطيع بلا راع تنال الذئاب من أطرافها ، وتتخطفها أيدي المخاطر من جوانبها.

ولمّا كان القرآن الكريم يأمرنا باتّباع سيرة الرسول والاقتداء به وجعله قدوة وأُسوة ، فيقول :

ص: 654


1- آل عمران : 144.

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ) (1).

توجب علينا أن نجعل حياة النبي وفعله أُسوة لنا حتى في موضوع تأسيس الدولة.

ولقد أدرك المسلمون - بعد وفاة النبي - ضرورة وجود قائد للأُمّة ، وإمام للمسلمين ، فاتفقوا على وجود زعيم لهم بعد وفاة نبيهم ، فصاروا فرقتين : فرقة تزعم أنّ حل هذه المشكلة بيد الأُمّة وأنّ لها تنصيب من يشغل هذه المنصة ، في حين أنّ فريقاً آخر راح يستمد من نصوص النبي ويقول إنّ النبي قد سد هذا الفراغ ولم يهمل أمر الخلافة والقيادة ، وعين القائد والخليفة من بعده ، وبالتالي لم يكن بين المسلمين واحد ينكر ضرورة وجود الأمير والقائد.

وانطلاقاً من الأهمية التي تكمن في تأثير الحكومة في إصلاح أمر الناس عاجلاً وآجلاً قال الإمام الصادق علیه السلام في حديث مقتضب له :

« لا يستغني أهل كل بلد من ثلاثة ، يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خيّر مطاع ، وطبيب بصير ثقة » (2).

كما صرح الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام بهذه الفريضة الدينية في إحدى خطبه ، إذ قال :

« والواجب في حكم اللّه والإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم ، أو حرام الدم أن

ص: 655


1- الأحزاب : 21.
2- تحف العقول : 237.

لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم ، عفيفاً عالماً ، ورعاً ، عارفاً بالقضاء والسنّة ، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم يحفظ أطرافهم ، ويجبي فيئهم ، ويقيم حجتهم ، ويجبي صدقاتهم ».

يبقى أن نعرف أنّ هذا القانون الكلي الذي يذكره الإمام علي يرتبط بالفترة التي لم يسد هذا الفراغ من جانب اللّه ، وتنصيب النبي الأعظم ، إذ لو كان القائد معيناً من جانبه سبحانه لانتفى التكليف بانتخاب الإمام ، قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) (1).

وعلى كل حال فالضرورة قاضية بلزوم وجود قائد للناس يتحمل أعباء الحكومة ، ويتصدى لأُمور الزعامة ، وإدارة المجتمع ، حسب الطرق الصحيحة.

الولاية والحاكمية لله سبحانه

لقد أثبت البحث السابق لزوم وجود الحكومة في المجتمع البشري بالمعنى الجامع بين السلطة التشريعية التي لها حق التشريع والتقنين ، والسلطة التنفيذية التي لها حق تنفيذ الأحكام والمقررات ، والسلطة القضائية التي لها حق القضاء وفصل الخصومات بين الناس.

ومن المعلوم جداً أنّ إعمال الحاكمية في المجتمع لا ينفك عن التصرف في النفوس والأموال وتنظيم الحريات من غير فرق بين أن تكون الحكومة بيد الفرد أو المجتمع.

ص: 656


1- الأحزاب : 36.

لكن التسلط على الأموال والنفوس وإيجاد أي محدودية مشروعة بين الأُمّة يحتاج إلى ولاية بالنسبة ، إلى المسلّط عليهم ، ولولا ذلك لعدّ التصرف تصرفاً عدوانياً.

ولا نعني بالولاية هنا ولاية الولي بالنسبة إلى الأيتام والقصّر والغيب ، بل المقصود هو الولاية التي يحق معها أن يتصرف في شؤون المجتمع نفوساً وأموالاً وينظم أُمورهم ويعمّر بلادهم ويؤمن مجتمعهم ، بالسلطات الثلاث ولولا ذلك لصار النظام طاغوتياً يحكم في المجتمع من كان غالباً وقاهراً فيجب علينا أن نعرف من له الولاية أصالة على العباد والبلاد.

وبما أنّ جميع الناس سواسية أمام اللّه ، والكل مخلوق ومحتاج إليه لا يملك شيئاً حتى وجوده وفعله وفكره ، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات والأصالة ، بل الولاية لله المالك الحقيقي للإنسان والكون والواهب له وجوده وحياته كما يقول سبحانه :

( هُنَالِكَ الولاَيَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) (1). (2)

فقد ظهر من هذا البيان أنّ المقصود من حصر الحاكمية في اللّه هو حصر جذور الحاكمية وعللها المستتبعة لها ، وهي الولاية فيه ، فبما أنّ الولاية على العباد منحصرة في خالقهم فالحاكمية بمعنى الولاية منحصرة فيه سبحانه أيضاً ، فلا يجوز لأحد أن يتولّى الحكومة إلاّ أن يكون مأذوناً ممن له الولاية الحقيقية وإلاّ

ص: 657


1- الكهف : 44.
2- مجمع البيان : 3 / 472. والاستدلال بالآية على انحصار الولاية في اللّه سبحانه متفرع على أن يكون اسم الإشارة ( هنالك ) إشارة إلى الوقت الذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن في هذه الدنيا وأن تكون الولاية بمعنى تولّي الأُمور فهو الذي يتولّى أمر عباده ، وللأمين الطبرسي تحقيق حول كلمة الولاية في الآية فراجع.

أصبحت حكومته حكومة جور وعدوان.

ولا نعني من عنوان « انحصار حق الحاكمية في اللّه » حصر الإمرة في اللّه بأن يتولّي هو سبحانه الإمرة على العباد ، كما سيتضح ذلك ، فإنّ للأنبياء والصلحاء وكل مأذون من قبله سبحانه أن يتولى الإمرة من جانب اللّه ، بل المراد أنّ الولاية وحق الحكومة بالأصالة حق لله سبحانه وإنّما يتصدى غيره بإذنه ، وذلك مثل قوله : ( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) ، أي بيده أمر الشفاعة من تعيين الشافع والمشفوع له ، ومثله المقام فإنّ بيده زمام الحكومة ، فهو يعين الحاكم ويعين له وظائفه وكيفية حكمه.

وعلى هذا فالحاكمية خاصة باللّه تعالى ومنحصرة فيه ، وهي من إحدى مراتب التوحيد.

ولقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله :

( إِنِ الحُكْمُ إلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

إنّ المراد من الحكم في جملة ( إِنِ الحُكْمُ ) هو الحاكمية القانونية التي تنبعث من الولاية الحقيقية المنبعثة من خالقيته ومالكيته سبحانه لا الحاكمية التكوينية بمعنى التصرف في الكون بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة ، وقد أوضحنا مفاد الآية في الفصل العاشر فراجع ص 606.

نعم لا داعي لأن نحصر لفظة « الحكم » التي لها معنى وسيع في خصوص

ص: 658


1- الزمر : 44.
2- يوسف : 40.

« القضاء » أو في خصوص « التشريع والتقنين » ، بل الحكم في هذه الآية ذو مدلول أوسع يكون « القضاء » من إحدى شؤونه ، وما ذلك المعنى إلاّ السلطة والإمرة والحاكمية بمفهومها الوسيع التي تقوم بالسلطات الثلاث.

هذا وفي مقدور القارئ الكريم أن يستظهر هذه الحقيقة ، ونعني : انحصار الحاكمية في اللّه تعالى ، من آيات أُخرى أيضاً غير ما ذكرناه في مطلع هذا المبحث ، مثل قوله :

( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلِينَ ) (1).

( أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) (2).

( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3).

الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة

إنّ اختصاص حق الحاكمية باللّه سبحانه ليس بمعنى قيامه بإدارة البلاد وإقرار النظام وممارسة الإمرة وفصل الخصومة إلى غير ذلك مما يدور عليه أمر الحكومة ، فإنّ ذلك غير معقول ولا محتمل ، بل المراد أنّ من يمثّل مقام الإمرة في المجتمع البشري يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأُمور والتصرف في النفوس والأموال وأن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ، ومنبثقة منها ، ولولا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة ولا دليل.

وإن شئت قلت : إنّ المقصود هو حصر الولاية التي تنبعث منها الحاكمية

ص: 659


1- الأنعام : 57.
2- الأنعام : 62.
3- القصص : 70.

في اللّه سبحانه ، لا حصر الإمرة والتصدي لنظام البلاد وإقرار الأمن في المجتمع البشري ، إلى غير ذلك من الشؤون.

نعم لا مناص في إعمال الولاية لله سبحانه من تنصيب من يباشر إدارة البلاد ، إذ تستحيل ممارسة الحكم لله بصورة مباشرة.

ولأجل ذلك نجد أُمّة كبيرة من جنس البشر تولّوا منصة الولاية من جانب اللّه سبحانه وإذنه الخاص يديرون شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان ، وفي ذلك يخاطب اللّه نبيه داود ويقول :

( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (1).

إنّ الآية وإن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء ولكن نفوذ قضائه في زمانه كان ناشئاً عن ولايته وحاكميته الواسعة التي تشمل الحكم والإمرة بحيث يكون نفوذ القضاء من لوازمها وفروعها ، فهو سبحانه لم ينصبه للقضاء فحسب ، بل أعطى له الحكومة الواسعة بأبعادها ، لأنّ نفوذ حكم القاضي غير ممكن من دون أن تكون له سلطة وحاكمية ، ولم يكن القضاء في تلكم الأعصار منفصلاً عن سائر شؤون الحكومة كما هو الرائج في عصرنا وقد كان داود علیه السلام يتمتع بسلطة تامة واسعة تشمل التنفيذية والتشريعية - بمعنى بيان الأحكام عن طريق الوحي - والقضائية إذ يقول عنه القرآن :

( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرضُ ) (2).

ص: 660


1- ص : 26.
2- البقرة : 251.

فتحصل من ذلك أنّ استخلاف اللّه لداود كان بمعنى إعطائه حق الحاكمية على الناس بمفهومها الواسع.

وبذلك اتضح الفرق بين قولنا حصر الحاكمية في اللّه سبحانه وبين ما كان يردّده الخوارج شعاراً ضد علي علیه السلام حيث كانوا يقولون : « لا حكم إلاّ لله لا لك ولا لأصحابك ».

فهؤلاء كانوا يريدون نفي أيَّة إمرة في الأرض بتاتاً لا من جانب اللّه ولا من جانب الناس ، وبذلك نهضوا في وجه إمرة علي ، وقد ردّ الإمام عليهم بقوله :

« كلمة حق يراد بها باطل ! نعم لا حكم إلاّ لله ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلاّ لله » (1).

أي أنّهم ينفون أن يكون في الأرض أمير على الناس من جانب اللّه سبحانه.

كلمة أخيرة

أثبت البحثان السابقان أنّ الحكومة ضرورة يتوقف نظام الحياة عليها ، كما أثبتا من جانب آخر أنّ الحكومة بما أنّها تلازم التصرف في الأموال والأنفس وتلازم تحديد الحريات ، لذلك لابد أن تكون ناشئة من ولاية ثبت أنّها لا توجد إلاّ في اللّه سبحانه ، وحده.

ولمّا كان يمتنع عليه سبحانه أن يباشر هذه الحكومة ، فلابد أن يتصدّى لها من ينصبه اللّه تعالى لذلك فرداً كان أو جماعة ، وهذا ما ينبغي بحثه ومعالجته في البحوث التي تتكفل بيان طريقة الحكم ونظام الحكومة في الإسلام ، والتي أبدى فيه المفكرون آراء مختلفة.

ص: 661


1- نهج البلاغة ، الخطبة 40.

ففي تلك البحوث سنبحث هل يجب أن يكون الحاكم الإسلامي منصوباً من جانب اللّه سبحانه ؟ أو أنّ تعيينه ترك إلى اختيار الناس وانتخابهم ؟ أو أنّ هناك رأياً ثالثاً يقول : إذا كان هناك حاكم منصوب من جانب اللّه فعلى الناس اتّباعه ؟ أمّا عندما لا يكون هناك من عيّنه اللّه بخصوصه للحكومة ، فعلى الأُمّة أن تختار - وفق الموازين الإسلامية للقيادة - من تجده صالحاً للإمرة والحاكمية ، وتقوم هي بتأسيس الدولة بسلطاتها الثلاث.

ولمّا كان الرسول الأعظم وأُولو الأمر من المؤمنين حسب تنصيصه سبحانه في قوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) (1) يمثلون تلك القيادة الإسلامية والحكومة الإلهية خصّصنا الجزء الثاني لدراسة كيفية الحكم والولاية في الإسلام.

ومن اللّه نسأل التوفيق ، وآخر دعوانا أنّ الحمد لله رب العالمين.

ص: 662


1- النساء : 59.

فهرس المحتويات

العنوان / الصفحة

مقدمة المؤلف القرآن كتاب القرون والأجيال ... 5

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز ... 7

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي ... 8

مراتب التوحيد ... 13

1. التوحيد في الذات ... 13

2. التوحيد في الصفات ... 13

3. التوحيد في الأفعال ... 14

4. التوحيد في العبادة ... 18

التوحيد في الولاية ... 21

التوحيد في الحاكمية ... 21

التوحيد في الطاعة ... 22

التوحيد في التقنين ... 23

ص: 663

العنوان / الصفحة

الفصل الأوّل

اللّه والفطرة

هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية ... 31

اعترافات علماء الاجتماع وأصالة التديّن ... 34

هل وجود اللّه سبحانه أمر بديهي ؟ ... 38

الإنسان يبحث عن اللّه فطرياً ... 40

تعاليم الدين بأُصولها أُمور فطرية ... 41

تجلّي الفطرة عند الشدائد ... 44

هل وحدانية اللّه أمر فطري وإن لم يكن الاعتقاد بذاته فطرياً ؟ ... 47

ما هو الفرق بين التوحيد الفطري الاستدلالي ؟ ... 50

كيف نميّز الفطري عن غير الفطري ؟ ... 51

علائم الفطرية الأربع ... 53

البحث عن اللّه ظاهرة عالمية ... 54

الفطرة هي الهادية إلى اللّه دون التعليم البشري ... 55

الشعور الديني ليس وليد العوامل المحيطية ... 56

الدعايات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله ... 57

البعد الرابع أو غريزة التدين ... 58

سلوك الماركسيين تجاه مبادئهم ... 61

المعنى الآخر لفطرية الإيمان باللّه ... 65

الفطرة في الأحاديث ... 67

ص: 664

العنوان / الصفحة

الفصل الثاني

اللّه وعالم الذر

استعراض الآيات أوّلاً ... 77

نقاط جديرة بالاهتمام ... 77

آراء العلماء حول الميثاق في عالم الذر ... 81

النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث ... 81

انتقادات على هذه النظرية ... 82

النظرية الثانية ... 86

إشكالات على هذه النظرية ... 91

النظرية الثالثة ... 93

أسئلة حول هذه النظرية ... 100

النظرية الرابعة ... 103

بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية ... 104

الفصل الثالث

اللّه وبراهين وجوده في القرآن

كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى ... 113

دليل الفطرة ... 114

برهان الحدوث ... 114

برهان الإمكان ... 114

برهان الحركة ... 116

ص: 665

العنوان / الصفحة

برهان النظم ... 117

برهان محاسبة الاحتمالات ... 117

برهان التوازن والضبط ... 119

الهداية الإلهية في عالم الحيوان ... 120

برهان الصدِّيقين ... 121

براهين أُخرى ... 123

التوحيد الاستدلالي في القرآن الكريم ... 124

1. برهان الفقر والإمكان ... 129

2. الأُفول والغروب يدلّ على وجود مسخّر ... 139

3. خلق السماوات والأرض دليل على وجود الخالق ... 152

4. برهان الإمكان ... 157

5. برهان امتناع الدور ... 157

6. برهان حاجة المصنوع إلى الصانع ... 157

7 و 8. تركيب الخلايا البشرية العجيبة ونمو النباتات وتساقط المطر وخلقة الأشجار تشهد بوجود خالقها 166

9. اجتماع شرائط الحياة على النسق الموجود يبطل نظرية المصادفة ... 174

10. دلائل وجود اللّه في الآفاق والأنفس ... 187

11. برهان الصدّيقين : معرفة اللّه عن طريق معرفة الوجود ... 193

12. آيات اللّه في عالم الطبيعة ... 205

13. الحيوانات والهداية الإلهية ... 212

ص: 666

العنوان / الصفحة

الفصل الرابع

اللّه وسريان معرفته في العالم كلّه

الكون بأسره تسجد لله وتسبّح بحمده ... 229

ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟ ... 233

بيان حقيقة سجود الكائنات ... 235

ما المراد بالسجود الطوعي والإكراهي ؟ ... 236

الحمد والتسبيح الكونيّ كيف ؟ ... 238

آراء المفسرين في تسبيح الكائنات ... 243

النظريات الأربع ... 244

القرآن وسريان الشعور في عموم الموجودات ... 252

القرآن وسريان الشعور في الجمادات ... 255

البرهان العقلي على هذا الرأي ... 261

سريان الشعور والعلم الحديث ... 263

الفصل الخامس

اللّه والتوحيد الذاتي

وانّه لا نظير ولا مثيل له

التوحيد في الذات ... 267

شهادة اللّه على وحدانيته سبحانه ... 273

إجابة عن سؤال ... 274

وجود اللّه غير متناه ... 277

ص: 667

العنوان / الصفحة

عوامل المحدودية منتفية في ذاته تعالى ... 278

اللامحدود لا يتعدّد ... 279

أحاديث أئمّة أهل البيت حول وحدانية اللّه ... 283

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث ... 285

كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية ؟ ... 287

رأي القرآن في التثليث ... 288

الآثار المسيح البشرية ... 292

اللّه سبحانه واتخاذ الولد ... 293

القرآن ومعبودية المسيح ... 300

التثليث في نظر العقل ... 303

هل يمكن أن يكون شيء واحد وثلاثة في آن واحد ؟ ... 305

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟! ... 306

الفصل السادس

اللّه وبساطة ذاته تعالى وعينية صفاته لذاته

التوحيد الذاتي وبساطة الذات ... 311

ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي ... 314

ذاته منزّهة عن التركيب العقلي ... 314

صفات اللّه عين ذاته ... 315

نظرية الأشاعرة في الصفات ... 320

الدليل على وحدة الصفات مع الذات ... 320

ص: 668

العنوان / الصفحة

هو الغني المطلق ... 323

هو اللّه الأحد ... 324

الفصل السابع

اللّه والتوحيد في الأفعال

1. التوحيد في الخالقية

التوحيد في الخالقية ... 333

عقيدة المعتزلة في العلل والأسباب ... 334

نقد هذا العقيدة ... 335

مذهب الأشعري في العلل الطبيعية ... 339

نقد هذا المذهب ... 339

مذهب أئمة أهل البيت ( الأمر بين الأمرين ) ... 345

التوحيد في الخالقية من شعب التوحيد الافعالي ... 346

ما هو معنى الخالقية من شعب التوحيد الأفعالي ... 350

لماذا يؤكد القرآن على التوحيد في الخالقية ... 355

ما معنى كون المسيح خالقاً للطير ؟ ... 358

التوحيد في الخالقية يؤكد الاختيار ... 360

كيف تعلّقت الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن الفاعل ؟ ... 362

تحليل عن الشرور ... 367

الشر أمر نسبي ... 370

ص: 669

العنوان / الصفحة

الفصل الثامن

اللّه والتوحيد الافعالي

2. التوحيد في التدبير والربوبية

وجود الشرك في التدبير بين الوثنيّين ... 379

هل للرب معان مختلفة ؟ ... 386

القرآن لا يعترف بمدبِّر سواه ... 396

التدبير لا ينفك عن الخلق والإيجاد ... 399

وحدة النظام دليل على وحدة المدبِّر ... 400

ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟ ... 404

وحدة المدبِّر في العالم ... 410

ما معنى الآية التي تنسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى الإنسان وفي الوقت نفسه تنسبها إلى اللّه 415

الفصل التاسع

التوحيد في العبادة

دوافع الشرك في العبادة ... 427

هل العبادة هي مطلق الخضوع ؟ ... 442

هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟ ... 451

التعاريف الثلاثة للعبادة ... 455

الشيعة الإمامية وتهمة التفويض ... 469

ما هو معنى الإلوهية وما هو ملاكها ؟ ... 487

ص: 670

العنوان / الصفحة

هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية غير المستقلة موجب للشرك ؟ ... 497

هل التوسل بالأسباب غير الطبيعية يعد شركاً ؟ ... 515

هل الحياة والموت تعدّان حداً للتوحيد والشرك ؟ ... 525

هل تعظيم أولياء اللّه والتبرك بآثارهم أحياءً وأمواتاً شرك ؟ ... 535

هل قدرة المستغاث وعجزه من حدود التوحيد والشرك ؟ ... 541

هل طلب الأُمور الخارقة للعادة شرك وملازم للاعتقاد بالوهية المسؤول ؟ ... 546

هل يكون طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة من الصالحين ودعوتهم شركاً ... 550

عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي ... 585

الفصل العاشر

اللّه والتوحيد في التقنين والتشريع

حاجة المجتمع إلى القانون ... 601

شرائط المشرّع. لا تتوفر هذه الشروط إلا في اللّه ... 601

الآيات الدالّة على التوحيد في التشريع ... 605

الصنف الأوّل الدال على عدم جواز التشريع لغير اللّه ... 605

الصنف الثاني الدال على تقريع من يُحلُّون حرامه ويحرمون حلاله ... 608

الصنف الثالث الدال على أنّ الأنبياء بعثوا مع نُظُم كاملة للحياة ... 615

ص: 671

العنوان / الصفحة

ما هي معاني الدين ، الشريعة ، الملّة والدين ؟ ... 617

الصنف الرابع الدال على المنع من التحاكم إلى الطاغوت ... 619

الصنف الخامس الآيات التي تذم النصارى على إعطاء الأخبار حق التشريع ... 623

الصنف السادس الآات الحاثة على التباع الرسول ... 624

ماذا يراد من الشرك في التشريع ؟ ... 625

الشيعة وفكرة حق التشريع للنبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ... 628

الفصل الحادي عشر

اللّه والتوحيد في الطاعة

انحصار حق الطاعة في اللّه ... 635

الطوائف التي وجب طاعتها بإذن اللّه ، الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ... 637

أُولو الأمر. الوالدان ... 643

الفصل الثاني عشر

اللّه والتوحيد في الحاكمية

الحكومة ضرورة اجتماعية ... 649

الآثار السيئة لفقدان القائد ... 653

الاقتداء بسيرة النبي صلی اللّه علیه و آله ... 654

الولاية والحاكمية لله سبحانه ... 656

الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة ... 659

كلمة أخيرة ... 661

فهرس المحتويات ... 663

ص: 672

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.