المؤلف : الشيخ عبد اللّه الحسن
الجزء : 1
المجموعة : من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية سنة الطبع : 1421
مناظرات في العقائد و الأحكام
الجزء الأول
تأليف وتحقيق: الشيخ عبد اللّه الحسن
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 1
مناظرات في العقائد
الجزء الأول
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى:
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت: 33 وقال تعالى:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق: 37
ص: 3
مناظرات في العقائد و الأحكام
الجزء الأول
تأليف وتحقيق: الشيخ عبد اللّه الحسن
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 4
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1428ه - 2007 م
يطلب من:
لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة ط1 - ص.ب: برج البراجنة - بعبدا - 2020 1017 - هاتف: 009611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 00963116470124 محمول: 0096394356584
إيران - قم - خ سمية - 16 متری عباس آباد بلاك 24 تلفاكس: 7738855 - 0098251
البريد الإلكتروني Email: mnmnmn3@hotmail.com
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 5
إلى المنتظر لإقامة الأمت والعوج والمرتجى لإزالة الجور والعدوان.
إلى المدخر لتجديد الفرائض والسنن والمتخير لإعادة الملة والشريعة.
إلى معز الأولياء ومذل الأعداء وجامع الكلمة على التقوى وباب اللّه الذي منه يؤتى.
إلى صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدى ومؤلف شمل الصلاح والرضا.
إلى الحجة بن الحسن المهدي... الذي يملأ الدنيا قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.
بين يديك سيدي هذا المجهود الضئيل راجيا القبول.
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) سورة يوسف 88 آية 18
عبداللّه الحسن
ص: 6
تقديم بقلم فضيلة العلامة المحقق الكبير البحاثة الشيخ باقر شريف القرشي - حفظه اللّه تعالى -
إن الطاقات العلمية الهائلة التي فجرها الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله قد استوعبت جميع لغات الأرض، وامتدت موجاتها المشرقة إلى جميع مناحي الفكر الإنساني، والتي كان منها المناظرات الواقعة بين العلماء في مختلف القضايا العلمية والمذهبية، وكثير منها لا يخلو من الابداع، وهي تحكي قوة الدليل، وروعة الاحتجاج عند بعض، ووهن الدليل وضعفه عند الطرف الآخر.
وقد كان العصر العباسي مسرحا للاحتجاجات والمناظرات في المسائل الكلامية والفلسفية، وقد شهدت أروقة البلاط العباسي أيام الرشيد والمأمون ألوانا ممتعة من المناظرات التي أقامها الخلفاء ووزراؤهم، وفي طليعتها ما تذهب إليه الشيعة في أمر الإمامة بالنص لا بالانتخاب، وأن الإمام معصوم من الخطأ، ومحيط بجميع ما تحتاج إليه الأمة في شؤونها الإدارية والاقتصادية والسياسية، وأنه لا بد أن يكون أعلم أهل زمانه، وكل هذه الأمور كانت موضع جدل وأخذ ورد بين علماء الشيعة وعلماء السنة.
وكان جمع تلك المناظرات في كتاب أو في موسوعة، ضرورة ملحة لا تستغني عنه المكتبة الإسلامية لأنها تلقي الأضواء على الحياة الفكرية
ص: 7
والمذهبية في تلك العصور... وقد انبرى الأستاذ الفاضل الشيخ عبد اللّه الحسن إلى جمعها وتحقيقها في كتابه (مناظرات في الإمامة).
ومضافا لذلك، فقد عرض المؤلف في كتابه الحديث (مناظرات في العقائد والأحكام) إلى إبراز القيم الأصيلة، والمثل العليا التي تؤمن بها الشيعة، وما أثير حولها من شبه وأوهام، قد فندها علماء الإمامية بصورة موضوعية، وأبرزوا زيفها، وأنها لا ميزان لها في البحوث العلمية.
وإني أثني على هذه الفكرة، وأبارك له هذا الجهد الخلاق متمنيا له التوفيق، وأن يتحف المكتبة الإسلامية بالمزيد من البحوث التي تنفع الناس، والتوفيق بيده تعالى يهبه للصالحين من عباده.
باقر شريف القرشي النجف الأشرف 16 / ربيع الأول 1416 ه
ص: 8
الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد:
قد يحسب المرء أن ما خالف رأيه عقيدة وفكرا - نتيجة لتراكم القناعات الموروثة أو لغيرها من الأسباب - أنه باطل أو شاذ لا يعول عليه، وهذا خطأ محض، إذ يجب (1) أن تمحص آراء الطرف الآخر لاحتمال أن يكون الصواب معه، ولولا ذلك لما عدل أحد إلى الحق بعد الاهتداء إليه.
وإذا كان من الصعب على المرء أن ينسى ما اعتقده أو يتناساه إذا ما ثبت بطلانه، فإن في تاريخ الإسلام العقائدي ما يثبت أن هناك صفوة من رجاله تركوا ما اعتقدوا به بعد انكشاف الحق، إما بدراسة مختلف الآراء والنظريات في بطون الكتب والأسفار وعرضها على المعايير العلمية الدقيقة، أو عن طريق حوار علمي يتناول الموضوع المعني من جميع جوانبه للكشف عن غوامضه ومن ثم اتباع الحق فإنه أحق أن يتبع قال الحق تعالى: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * (2)، ومن هنا تدخل المناظرة كسبيل مختصر يوفر الطريق الآمن للوصول إلى المحجة الواضحة، غير أن هذا منوط بطلب الحق لا الجدل والمراء والمكابرة.
ولما كان للمناظرة مثل هذه الأهمية البالغة لمعرفة الحق، ولما فيها من
ص: 9
تأصيل أيضا على صعيد التراث الإسلامي، والذي يمثل أفكار وآراء علماء ورجال الإسلام قديما وحديثا على مختلف مذاهبهم ومشاربهم، وكل منهم يدعم فكرته ورأيه بالدليل والبرهان، وحينها تمحص الآراء وتنقح الأفكار، إذا ما التزم فيها بالموضوعية والصراحة الحقة، وبالتالي تؤدي إلى إظهار الحق واتباعه ونبذ الباطل واجتنابه - فقد وجدت نفسي شغوفا بجمع ما تيسر منها، وتحقيقها تحقيقا علميا معضدا بمصادر المتناظرين، وهذا ما سيجده القارئ الكريم وشيكا في مناظراتنا هذه التي تناولت جل عقائد الشيعة وأحكامهم.
وحيث إنه قد ثبت عند الشيعة الإمامية بالدليل القطعي - الذي لا شك فيه - وجوب التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) ووجوب الاهتداء بهديهم والسير على طريقتهم، كما أمر بذلك النبي (صلى اللّه عليه وآله) إذ هم المنبع الصافي والمعين الذي لا ينضب، والامتداد الطبيعي لرسالته - لهذا أخذت الشيعة الإمامية عقائدها وأحكامها الشرعية منهم، واستمدت من فكرهم الثقافة الإسلامية، وقد انعكس ذلك في مؤلفاتهم ومقالاتهم، وظهر بشكل واضح على سلوكهم، وتناولوا بالبحث كل ما يتصل بالأصول والفروع والتفسير والأخلاق، كبحثهم في مسائل التوحيد والنبوة والإمامة وشؤونها ونحو ذلك، كما بحثوا أيضا مسائل الأحكام الشرعية، والمختلف فيها كمسألة الجمع بين الصلاتين، والسجود على التربة الحسينية، وزيارة القبور، والمتعة، وعشرات غيرها من المسائل التي أثبتوا شرعيتها بالأدلة الشرعية والعقلية.
ومن البداهة أن يرى كل من المتناظرين صحة ما يعتقده أصولا وفروعا، ولما كان الحق واحدا فلا بد حينئذ أن يكون حليفا لأحدهما دون الآخر، ومن هنا فالعقل يحكم بضرورة مقابلة ما اختلفت فيه المذاهب الإسلامية، لتنقيح
ص: 10
الصحيح من غيره، والتعرف على الحق واتباعه، والذي يحقق للعبد الأمن من الضرر الأخروي، ولذلك كانت المسائل الخلافية محط نظر جميع علماء المذاهب الإسلامية ومفكريهم للتعرف عليها، ومن ثم مناقشتها والمناظرة فيها، ثم الحكم عليها بعد ذلك إما بالتأييد - وإن كان على خلاف ما يراه سابقا - إذا ما اقتنع بالدليل كما تسنى ذلك لبعضهم -، وإما بالتفنيد إذا استطاع أن يقيم الدليل والبرهان على بطلانها وفسادها.
ومن هنا قلما تجد مسألة لم تقع عرضة للأخذ والرد، في ما بين المذاهب الإسلامية، وحتى في المذهب الواحد أيضا، حرصا منهم على معرفة ما هو الصحيح من الباطل، ولذا شكلت هذه المناظرات والمحاورات موسوعة علمية خصبة ينبغي الاهتمام والاعتناء بها، إذ هي غنية بالأدلة العلمية والحقائق التاريخية، التي لا يزال بعضها مجهولا عند كثير من الباحثين فضلا عن غيرهم، أضف إلى ذلك أن كثيرا منها يعد من التراث الإسلامي الذي ينبغي المحافظة عليه وإعداده في المكتبة الإسلامية.
وامتدادا لموسوعة المناظرات التي ابتدأتها بإعداد وتحقيق ما تعلق منها بالإمامة والخلافة بعنوان (مناظرات في الإمامة) فقد أعددت في هذا الكتاب المناظرات التي جرت في العقائد والأحكام الشرعية وغيرها من المسائل المهمة، التي دارت بين علماء الشيعة الإمامية وسائر علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، كما حوت أيضا جملة من مناظرات أئمة أهل البيت - صلوات اللّه عليهم - القيمة والتي ينبغي النظر فيها بتأمل للاستفادة منها بالشكل المناسب ولا أدعي استيفاء كل ما صدر من المناظرات في هذا الموضوع، إذ ربما فاتني منها الكثير، غير أني آمل أن يكون عملي هذا قد شغل فراغا في المكتبة الإسلامية.
ص: 11
وقد جعلت هذه المناظرات في جزئين، فقد حوى الجزء الأول المناظرات في العقائد وما يرتبط بها من المعارف الإسلامية، كما حوى الجزء الثاني المناظرات في الأحكام الشرعية وما يرتبط بها من المسائل الأخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المناظرات قد تتداخل في كلا الأمرين، إذ قد تلحظ تارة من ناحية عقائدية وأخرى من ناحية شرعية، فإذا لوحظت المسألة من ناحية الاعتقاد بها وكانت من الضروريات أو المسلمات التي قام الدليل عليها فهي من العقائد التي يجب عقد القلب عليها، وتارة تلحظ من حيث ارتباطها بأحد الأحكام الخمسة الشرعية فتكون مسألة فرعية مرتبطة بفعل المكلف نفسه، وقد ألحقت كل مناظرة بما يناسبها ويغلب عليها في أحد القسمين، إذ أن بعضها لا يخلو من تشابه ومفارقات، كما إني قدمت مناظرات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على غيرهم في كل باب.
ومما أود التنبيه عليه، هو أن الاستفادة من هذه المناظرات، وما يتعلق بها من مسائل تخص الشيعة الإمامية، إنما تتم بالوجه الأكمل بربطها بما زخرت به المكتبة الشيعية من ذخائر التراث الإسلامي الخاص بمسائل العقائد والكلام، المبسوطة في ذلك أو المختصرة ك: الشافي، وتلخيصه، وكشف المراد، ونهج الحق، وحق اليقين في معرفة أصول الدين، وأصل الشيعة وأصولها، وعقائد الإمامية، وغيرها من عشرات الكتب التي لا يستغني عنها كل باحث في خصوص هذا الموضوع، أو في ما يتعلق بمسائل الأحكام الشرعية الرجوع إلى ما في المكتبة الشيعية من الكتب المبسوطة في الفقه، ك: كتاب المبسوط للشيخ الطوسي، والتذكرة، وشرائع الإسلام، وجواهر الكلام، ومستمسك العروة الوثقى، وكتاب مسائل فقهية للسيد شرف الدين، حيث اعتنى فيه بوجه خاص
ص: 12
لمعالجة بعض الفروع الفقهية الخلافية بين الطائفة الإمامية وغيرها من المذاهب الإسلامية.
كما أنه من الضروري بمكان لكل باحث عن الحقيقة والمعرفة في خصوص التعرف على عقائد وأفكار الشيعة الإمامية أن يبحثها بنفسه، ويطلع عليها من كتب ومصادر الإمامية المعتمدة الموثوقة عندهم، لا من كتب ومصادر غيرهم أو ما كتبه عنهم خصومهم، كما هو الظاهر في أكثر ما تناولته الأقلام الحديثة من بعض الكتاب والباحثين، إذ من الضروري أن يتحلى الباحث بأمانة النقل والتثبت التام قبل الحكم في أي مسألة والتأكد من فهمها فهما صحيحا، فإن مما منيت به الشيعة الإمامية أنهم أسئ فهمهم واستغل الحاقدون ذلك في الكيد بهم والوقيعة فيهم على غير بينة وبرهان، إذ ليس كل ما ينسب إليهم هو من معتقدهم ومعتبرا عندهم، وليس من الحق والإنصاف أن تدان طائفة بما ينسبه إليها غيرها، ولا بما يقوله الشواذ الذين لا وزن لكلمتهم ولا حيثية لهم، بل الصحيح أن تؤاخذ بما هو متفق عليه عند علمائهم، أو ما هو متسالم عليه عندهم.
ولذا خفيت على كثير من الباحثين والمحققين فضلا عن غيرهم حقيقة مبادئ وفكر المذهب الشيعي، وما ذلك إلا لعدم التثبت التام الدقيق والدراسة المستوعبة، وقد حذر القرآن الكريم من مغبة اتباع هذا النحو، قال تعالى: * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) * (1)، كما حذرنا من الاعتماد على الظن فقال
ص: 13
تعالى: * (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) * (1)، والعاقل المنصف لا يأنف من اتباع الحق، فإن الحكمة ضالة المؤمن، * (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) * (2)، وأملي أن يتابع القارئ الكريم معي هذه المناظرات ففيها من الحق ما يسمع الصم، ومن النور ما يراه البصير، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه، والصلاة على نبيه المختار وآله الأطهار، ما طلع بدر الدجى، وسطعت شمس النهار، إنه نعم المولى ونعم النصير.
في يوم الجمعة المصادف ميلاد الإمام الحجة بن الحسن (عليه السلام) 15 / 8 / 1414 ه
ص: 14
ص: 15
ص: 16
روى ابن عساكر - بسنده - عن الحرث، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟
قال (عليه السلام): طريق مظلم لا تسلكه!!
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟
قال (عليه السلام): بحر عميق لا تلجه.
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟
قال (عليه السلام): سر اللّه قد خفي عليك فلا تلجه.
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟
قال (عليه السلام): سر اللّه قد خفي عليك فلا تفشه.
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟
قال (عليه السلام): أيها السائل إذا اللّه خلقك لما شاء أو لما شئت؟
قال: بل لما شاء.
قال: فيستعملك كما شاء أو كما شئت؟
قال: بل كما شاء.
قال (عليه السلام): فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟
ص: 17
قال: بل كما شاء.
قال (عليه السلام): أيها السائل ألست تسأل ربك العافية؟
قال: نعم.
قال (عليه السلام): فمن أي شئ تسأله العافية، أمن البلاء الذي ابتلاك به غيره؟
قال: من البلاء الذي ابتلاني به.
قال (عليه السلام): أيها السائل تقول: لا حول ولا قوة إلا بمن؟
قال: إلا باللّه العلي العظيم.
قال (عليه السلام): أفتعلم ما تفسيرها؟
قال: تعلمني مما علمك اللّه يا أمير المؤمنين؟
قال (عليه السلام): إن تفسيرها، لا تقدر على طاعة اللّه، ولا يكون له قوة في معصية في الأمرين جميعا إلا باللّه.
أيها السائل ألك مع اللّه مشيئة (1) أو فوق اللّه مشيئة، أو دون اللّه مشيئة؟ فإن قلت، إن لك دون اللّه مشيئة فقد اكتفيت بها عن مشيئة اللّه، وإن زعمت أن لك فوق اللّه مشيئة فقد ادعيت أن قوتك ومشيئتك غالبتان على قوة اللّه ومشيئته، وإن زعمت أن لك مع اللّه مشيئة فقد ادعيت مع اللّه شركا في مشيئته.
أيها السائل إن اللّه يشج ويداوي، فمنه الداء ومنه الدواء (2)، أعقلت عن اللّه أمره.
ص: 18
قال: نعم.
قال علي (عليه السلام): الآن أسلم أخوكم، فقوموا فصافحوه.
ثم قال علي (عليه السلام): لو أن عندي رجلا من القدرية لأخذت برقبته ثم لا أزال أجأها حتى أقطعها، فإنهم يهود هذه الأمة ونصاراها ومجوسها. (1)
ص: 19
قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: وأخبرني الشيخ أدام اللّه عزه مرسلا عن عمرو بن وهب اليماني قال: حدثني عمرو بن سعد عن محمد بن جابر عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال شيخ من أهل الشام حضر صفين مع أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد انصرافهم من صفين: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من اللّه وقدر؟ قال: نعم يا أخا أهل الشام، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئا، ولا هبطنا واديا، ولا علونا تلعة، إلا بقضاء من اللّه وقدر. (1)
ص: 20
فقال الشامي: عند اللّه تعالى أحتسب عنائي إذا يا أمير المؤمنين، وما أظن
ص: 21
أن لي أجرا في سعيي إذا كان اللّه قضاه علي وقدره لي.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن اللّه قد أعظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، ولا عليها مجبرين.
فقال الشامي: فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟! فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من اللّه عز وجل والنهي منه، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسئ، ولا المسئ أولى بعقوبة المذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية (1) هذه الأمة
ص: 22
ومجوسها (1) إن اللّه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلف يسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يطع مكرها، ولم يعص مغلوبا، ولم يكلف عسيرا، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزل الكتب على العباد عبثا * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * (2).
قال الشامي: فما القضاء والقدر اللذان كان مسيرنا بهما وعنهما؟ قال: الأمر من اللّه تعالى في ذلك والحكم منه ثم تلا: (وكان أمر اللّه قدرا مقدورا) (3).
فقام الشامي مسرورا فرحا لما سمع هذا المقال وقال: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فرج اللّه عنك وأنشأ يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا *** جزاك ربك عنا فيه إحسانا
نفى الشكوك مقال منك متضح *** وزاد ذا العلم والإيمان إيقانا
فلن أرى عاذرا في فعل فاحشة *** ما كنت راكبها ظلما وعدوانا
ص: 23
كلا ولا قائلا يوما لداهية *** أرداه فيها لدينا غير شيطانا
ولا أراد ولا شاء الفسوق لنا *** قبل البيان لنا ظلما وعدوانا
نفسي الفداء لخير الخلق كلهم *** بعد النبي علي الخير مولانا
أخي النبي ومولى المؤمنين معا *** وأول الناس تصديقا وإيمانا
وبعل بنت رسول اللّه سيدنا *** أكرم به وبها سرا وإعلانا (1)
ص: 24
ص: 25
ص: 26
المناظرة الثالثة: مناظرة الإمام الكاظم (عليه السلام) مع أبي حنيفة (1) في أن المعصية من فعل العبد
قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: وأخبرني الشيخ أيده اللّه أيضا قال: قال أبو حنيفة: دخلت المدينة فأتيت جعفر بن محمد (عليه السلام) فسلمت عليه وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى (عليه السلام) في دهليز قاعدا في مكتب له وهو صبي صغير السن فقلت له: يا غلام، أين يحدث الغريب عندكم إذا أراد ذلك؟ فنظر إلي ثم قال: يا شيخ اجتنب شطوط الأنهار، ومسقط الثمار، وفيئ النزال، وأفنية الدور، والطرق النافذة، والمساجد، وارفع وضع بعد ذلك
ص: 27
حيث شئت.
قال: فلما سمعت هذا القول منه، نبل في عيني وعظم في قلبي، فقلت له:
جعلت فداك، ممن المعصية؟ فنظر إلي نظرا ازدراني به ثم قال: اجلس حتى أخبرك، فجلست بين يديه.
فقال: إن المعصية لا بد من أن تكون من العبد أو من خالقه أو منهما جميعا، فإن كانت من اللّه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، وإليه توجه النهي، وله حق الثواب، وعليه العقاب، ووجبت له الجنة والنار.
قال أبو حنيفة: فلما سمعت ذلك، قلت: * (ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم) * (1).
قال الشيخ أيده اللّه: وفي ذلك يقول الشاعر:
لم تخل أفعالنا اللاتي يذم بها *** إحدى ثلاث معان حين نأتيها
إما تفرد بارينا بصنعتها *** فيسقط اللوم عنا حين ننشيها
أو كان يشركنا فيها فيلحقه *** ما سوف يلحقنا من لائم فيها
أو لم يكن لإلهي في جنايتها *** ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها (2)
ص: 28
المناظرة الرابعة مناظرة الكراجكي (1) مع بعضهم في المعصية
قال الشيخ الكراجكي - أعلى اللّه مقامه -: وقد كنت أوردت هذه المسألة في مجلس بعض الرؤساء مستظرفا له بها، وعنده جمع من الناس، فقال رجل ممن كان في المجلس يميل إلى الجبر: إن كان هذه المسألة لا حيلة للمجبرة فيها، فعليكم أنتم أيضا مسألة لهم أخرى، لا خلاص لكم مما يلزمكم منها.
فقلت: وما هي؟
قال: يقال لكم إذا كان اللّه تعالى لا يشاء المعصية، وإبليس يشاؤها، ثم وقعت معصية من المعاصي، فقد لزم من هذا أن تكون مشيئة إبليس غلبت مشيئة
ص: 29
رب العالمين.
فقلت: إنما تصح الغلبة عند الضعف وعدم القدرة، ولو كنا نقول: إن اللّه تعالى لا يقدر أن يجبر العبد على الطاعة، ويضطره إليها، ويحيل بينه وبين المعصية بالقسر والإلجاء إلى غيرها، لزمنا ما ذكرت، وإلا بخلاف ذلك، وعندنا أن اللّه تعالى يقدر أن يجبر عباده، ويضطرهم، ويحيل بينهم وبين ما اختاروه، فليس يلزمنا ما ذكرتم من الغلبة.
وقد أبان اللّه تعالى فقال: * (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) * (1)، وقال تعالى: * (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) * (2)، وإنما لم يفعل ذلك، لما فيه من الخروج عن سنن التكليف، وبطلان استحقاق العباد للمدح والذم، فتأمل ما ذكرت تجده صحيحا.
فلم يأت بحرف بعد هذا (3).
ص: 30
ص: 31
ص: 32
روي عن الحسن بن محمد النوفلي أنه قال: قدم سليمان المروزي (1)
ص: 33
متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له: إن ابن عمي علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) قدم علي من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.
فقال سليمان: يا أمير المؤمنين، إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الانتقاص عليه.
ص: 34
قال المأمون: إنما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.
فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين اجمع بيني وبينه وخلني والذم.
فوجه المأمون إلى الرضا (عليه السلام) فقال: إنه قدم إلينا رجل من أهل مرو، وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت.
فنهض (عليه السلام) للوضوء وقال لنا: تقدموني، وعمران الصابي معنا فصرنا إلى الباب، فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون فلما سلمت قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه اللّه تعالى؟ قلت: خلفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إن عمران مولاك معي وهو على الباب.
فقال: ومن عمران؟
قلت: الصابي الذي أسلم على يدك.
قال: فليدخل فدخل فرحب به المأمون ثم قال له: يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم.
قال: الحمد لله الذي شرفني بكم يا أمير المؤمنين.
فقال له المأمون: يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان.
قال عمران: يا أمير المؤمنين، إنه يزعم واحد خراسان في النظر، وينكر البداء.
قال: فلم لا تناظروه؟
ص: 35
قال عمران: ذلك إليه.
فدخل الرضا (عليه السلام) فقال: في أي شئ كنتم؟
قال عمران: يا ابن رسول اللّه هذا سليمان المروزي.
فقال له سليمان: أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟
فقال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتج بها على نظرائي من أهل النظر.
قال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟
قال: وما أنكرت من البداء يا سليمان، واللّه عز وجل يقول: * (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) * (1) ويقول عز وجل: * (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) * (2) ويقول: * (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) * (3) ويقول عز وجل: * (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) * (4) ويقول: * (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) * (5) ويقول عز وجل: * (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) * (6) ويقول عز وجل: * (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) * (7).
ص: 36
قال سليمان: هل رويت فيه من آبائك شيئا؟ قال: نعم رويت عن أبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: إن لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلما علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبينا يعلمونه.
قال سليمان: أحب أن تنزعه لي من كتاب اللّه عز وجل.
قال: قول اللّه عز وجل لنبيه (صلى اللّه عليه وآله): * (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) * (1) أراد هلاكهم، ثم بدا لله تعالى فقال: * (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) * (2).
قال سليمان: زدني جعلت فداك.
قال الرضا: لقد أخبرني أبي عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: إن اللّه عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه أن أخبر فلانا الملك: أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا اللّه الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال: يا رب، أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللّه عز وجل إلى ذلك النبي أن أئت فلانا الملك، فأعلمه أني قد أنسيت في أجله وزدت في عمره إلى خمس عشرة سنة، فقال ذلك النبي (عليه السلام): يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط، فأوحى اللّه عز وجل إليه: إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك، واللّه لا يسئل عما يفعل.
ثم التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب.
قال: أعوذ باللّه من ذلك، وما قالت اليهود؟
ص: 37
قال: قالت اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) (1) يعنون أن اللّه تعالى قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا، فقال اللّه عز وجل: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (2) ولقد سمعت قوما سألوا أبي موسى بن جعفر (عليه السلام) عن البداء، فقال: وما ينكر الناس من البداء، وأن يقف اللّه قوما يرجيهم لأمره.
قال سليمان: ألا تخبرني عن (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (3) في أي شئ أنزلت؟ قال: يا سليمان، ليلة القدر يقدر اللّه عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم.
قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني.
قال الرضا (عليه السلام): إن من الأمور أمورا موقوفة عند اللّه عز وجل يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، يا سليمان إن عليا (عليه السلام) كان يقول: العلم علمان فعلم علمه اللّه وملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء.
قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين، لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء اللّه.
ص: 38
فقال المأمون: يا سليمان، سل أبا الحسن عما بدا لك، وعليك بحسن الاستماع والإنصاف.
قال سليمان: يا سيدي أسألك؟ قال الرضا (عليه السلام): سل عما بدا لك.
قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة، مثل حي وسميع وبصير وقدير.
قال الرضا (عليه السلام): إنما قلتم: حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنه سميع بصير، فهذا دليل على أنهما ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير.
قال سليمان: فإنه لم يزل مريدا.
قال (عليه السلام): يا سليمان فإرادته غيره.
قال: نعم.
قال: فقد أثبت معه شيئا غيره لم يزل.
قال سليمان: ما أثبت.
قال الرضا (عليه السلام): أهي محدثة؟ قال سليمان: لا، ما هي محدثة.
فصاح به المأمون وقال: يا سليمان، مثله يعايى أو يكابر؟ عليك بالإنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر؟ ثم قال: كلمه يا أبا الحسن فإنه متكلم خراسان، فأعاد عليه المسألة.
ص: 39
فقال: هي محدثة يا سليمان، فإن الشئ إذا لم يكن أزليا كان محدثا، وإذا لم يكم محدثا كان أزليا.
قال سليمان: إرادته منه كما أن سمعه وبصره وعلمه منه.
قال الرضا (عليه السلام): فأراد نفسه؟ قال: لا.
قال: فليس المريد مثل السميع البصير؟ قال سليمان: إنما أراد نفسه وعلم نفسه.
قال الرضا (عليه السلام): ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئا، وأراد أن يكون حيا أو سميعا أو بصيرا أو قديرا؟ قال: نعم.
قال الرضا (عليه السلام): أفبإرادته كان ذلك؟ قال سليمان: نعم.
قال الرضا (عليه السلام): فليس لقولك أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى، إذا لم يكن ذلك بإرادته.
قال سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته.
فضحك المأمون ومن حوله، وضحك الرضا (عليه السلام)، ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان، فقال: يا سليمان فقد حال عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف اللّه عز وجل به فانقطع.
ثم قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان أسألك عن مسألة.
ص: 40
قال: سل جعلت فداك.
قال: أخبرني عنك وعن أصحابك، تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون، أو بما لا تفقهون ولا تعرفون؟
قال: بل بما نفقه ونعلم.
قال الرضا (عليه السلام): فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة، وأن المريد قبل الإرادة، وأن الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم أن الإرادة والمريد شئ واحد.
قال: جعلت فداك ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون.
قال الرضا (عليه السلام): فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر، إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل، فلم يحر جوابا.
ثم قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان، هل يعلم اللّه جميع ما في الجنة والنار؟
قال سليمان: نعم.
قال: أفيكون ما علم اللّه تعالى أنه يكون من ذلك؟
قال: نعم.
قال: فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ إلا كان، أيزيدهم أو يطويه عنهم؟
قال سليمان: بل يزيدهم.
قال: فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون.
قال: جعلت فداك، فالمريد لا غاية له.
قال: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما، إذا لم يعرف غاية ذلك،
ص: 41
وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون تعالى اللّه عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.
قال سليمان: إنما قلت: لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأن اللّه عز وجل وصفهما بالخلود وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا.
قال الرضا (عليه السلام): ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال اللّه عز وجل في كتابه: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (1) وقال لأهل الجنة: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (2) وقال عز وجل: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) (3) فهو عز وجل يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا ليس يخلف مكانه؟
قال: بلى.
قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟
قال سليمان: لا.
قال: فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم؟
قال سليمان: بلى يقطعه عنهم ولا يزيدهم.
قال الرضا (عليه السلام): إذا يبيد فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف
ص: 42
الكتاب، لأن اللّه عز وجل يقول: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (1) ويقول عز وجل: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (2) ويقول عز وجل: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (3) ويقول عز وجل: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (4) ويقول عز وجل:
(وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) (5).
فلم يحر جوابا؟! ثم قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان، ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعل؟ قال: بلى هي فعل.
قال (عليه السلام): فهي محدثة لأن الفعل كله محدث.
قال: ليست بفعل.
قال: فمعه غيره لم يزل.
قال سليمان: الإرادة هي الإنشاء.
قال: يا سليمان، هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: إن كل ما خلق اللّه عز وجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابة إرادة اللّه، وإن إرادة اللّه تحيى وتموت وتذهب وتأكل وتشرب
ص: 43
وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك، فيبرأ منها ويعاد بها، وهذا حدها.
قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا (عليه السلام): قد رجعت إلى هذا ثانية، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع؟
قال سليمان: لا.
قال الرضا (عليه السلام): فكيف نفيتموه؟
قلتم: لم يرد، ومرة قلتم: أراد وليست بمفعول له.
قال سليمان: إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم.
قال الرضا (عليه السلام): ليس ذلك سواء، لأن نفي المعلوم ليس كنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون، لأن الشئ إذا لم يرد لم تكن إرادة، فقد يكون العلم ثابتا، وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيرا وإن لم يكن المبصر، وقد يكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم.
قال سليمان: إنها مصنوعة.
قال: فهي محدثة ليست كالسمع والبصر، لأن السمع والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة.
قال سليمان: إنها صفة من صفاته لم تزل.
قال: فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل، لأن صفته لم تزل.
قال سليمان: لا لأنه لم يفعلها.
ص: 44
قال الرضا (عليه السلام): يا خراساني، ما أكثر غلطك! أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء؟
قال سليمان: لا.
قال: فإذا لم تكن بإرادته ولا مشيئته ولا أمره ولا بالمباشرة فكيف يكون ذلك؟ تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
فلم يحر جوابا؟!
ثم قال الرضا (عليه السلام): ألا تخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) (1).
يعني بذلك أنه يحدث إرادة.
قال له: نعم.
قال (عليه السلام): فإذا حدث إرادة كان قولك إن الإرادة هي هو أو شئ منه باطلا، لأنه لا يكون أن يحدث نفسه، ولا يتغير عن حالة تعالى اللّه عن ذلك.
قال سليمان: إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة.
قال: فما عنى به؟
قال: عنى فعل الشئ.
قال الرضا (عليه السلام): ويلك كم تردد في هذه المسألة؟ وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة لأن فعل الشئ محدث.
قال: فليس لها معنى.
ص: 45
قال الرضا (عليه السلام): قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم إن اللّه عز وجل لم يزل مريدا.
قال سليمان: إنما عنيت أنها فعل من اللّه تعالى لم يزل.
قال: ألا تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولا وقديما وحديثا في حالة واحدة؟ فلم يحر جوابا؟! قال الرضا (عليه السلام): لا بأس أتمم مسألتك.
قال سليمان: قلت إن الإرادة صفة من صفاته.
قال: كم تردد علي أنها صفة من صفاته فصفته محدثة أو لم تزل؟ قال سليمان: محدثة.
قال الرضا (عليه السلام): اللّه أكبر فالإرادة محدثة وإن كانت صفة من صفاته لم تزل.
فلم يرد شيئا.
قال الرضا (عليه السلام): إنما لم يزل لم يكن مفعولا.
قال سليمان: ليس الأشياء إرادة، ولم يرد شيئا.
قال الرضا (عليه السلام): وسوست يا سليمان، فقد فعل وخلق ما لم يزل خلقه وفعله، وهذه صفة من لا يدري ما فعل، تعالى اللّه عن ذلك.
قال سليمان: يا سيدي فقد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم.
قال المأمون: ويلك يا سليمان، كم هذا الغلط والتردد؟ اقطع هذا وخذ في
ص: 46
غيره، إذ لست تقوى على غير هذا الرد.
قال الرضا (عليه السلام): دعه يا أمير المؤمنين، لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجة، تكلم يا سليمان.
قال: قد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا (عليه السلام): لا بأس أخبرني عن معنى هذه أمعنى واحد أم معان مختلفة؟
قال سليمان: معنى واحد.
قال الرضا (عليه السلام): فمعنى الإرادات كلها معنى واحد؟
قال سليمان: نعم.
قال الرضا (عليه السلام): فإن كان معناها معنى واحدا كانت إرادة القيام إرادة القعود، وإرادة الحياة إرادة الموت، إذا كانت إرادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضا ولم يخالف بعضها بعضا وكانت شيئا واحدا.
قال سليمان: إن معناها مختلف.
قال (عليه السلام): فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها؟
قال سليمان: بل هو الإرادة.
قال الرضا (عليه السلام): فالمريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة.
قال: يا سيدي ليس الإرادة المريد.
قال: فالإرادة محدثة وإلا فمعه غيره، افهم وزد في مسألتك.
قال سليمان: بل هي اسم من أسمائه.
ص: 47
قال الرضا (عليه السلام): هل سمى نفسه بذلك؟ قال سليمان: لا، لم يسم نفسه بذلك.
قال الرضا (عليه السلام): فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه.
قال: قد وصف نفسه بأنه مريد.
قال الرضا (عليه السلام): ليس صفته نفسه أنه مريد إخبار عن أنه إرادة ولا إخبار عن أن الإرادة اسم من أسمائه.
قال سليمان: لأن إرادته علمه.
قال الرضا (عليه السلام): يا جاهل، فإذا علم الشئ فقد أراده؟ قال سليمان: أجل.
فقال: فإذا لم يرده لم يعلمه.
قال سليمان: أجل.
قال: من أين قلت ذاك؟ وما الدليل على إرادته علمه؟ وقد يعلم ما لا يريده أبدا، وذلك قوله عز وجل: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (1) فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبدا؟
قال سليمان: لأنه قد فرغ من الأمر، فليس يزيد فيه شيئا.
قال الرضا (عليه السلام): هذا قول اليهود، فكيف قال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (2)؟
ص: 48
قال سليمان: إنما عنى بذلك أنه قادر عليه.
قال: أفيعد ما لا يفي به، فكيف قال: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) (1) وقال عز وجل: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (2) وقد فرغ من الأمر.
فلم يحر جوابا؟!
قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان، هل يعلم أن إنسانا يكون، ولا يريد أن يخلق إنسانا أبدا، وأن إنسانا يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم.
قال سليمان: نعم.
قال الرضا (عليه السلام): فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون، أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون؟
قال: يعلم أنهما يكونان جميعا.
قال الرضا (عليه السلام): إذا يعلم أن إنسانا حي ميت قائم قاعد أعمى بصير في حالة واحدة، وهذا هو المحال.
قال: جعلت فداك، فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر؟ قال: لا بأس، فأيهما يكون الذي أراد أن يكون أو الذي لم يرد أن يكون؟
قال سليمان: الذي أراد أن يكون.
فضحك الرضا (عليه السلام) والمأمون وأصحاب المقالات.
ص: 49
قال الرضا (عليه السلام): غلطت وتركت قولك: إنه يعلم أن إنسانا يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم، وأنه يخلق خلقا وأنه لا يريد أن يخلقهم، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون.
قال سليمان: فإنما قولي أن الإرادة ليست هو ولا غيره.
قال الرضا (عليه السلام): يا جاهل، إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها غيره وإذا قلت:
ليست هي غيره فقد جعلتها هو.
قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشئ؟
قال: نعم.
قال سليمان: فإن ذلك إثبات للشئ.
قال الرضا (عليه السلام): أحلت، لأن الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن، ويحسن الخياطة وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشئ وإن لم يصنعه أبدا، ثم قال له (عليه السلام): يا سليمان هل تعلم أنه واحد لا شئ معه؟
قال: نعم.
قال الرضا (عليه السلام): فيكون ذلك إثباتا للشئ؟
قال سليمان: ليس يعلم أنه واحد لا شئ معه.
قال الرضا (عليه السلام): أفتعلم أنت ذاك؟
قال: نعم.
قال: فأنت يا سليمان أعلم منه إذا.
قال: سليمان: المسألة محال.
ص: 50
قال: محال عندك أنه واحد لا شئ معه، وأنه حي سميع بصير حكيم قادر؟
قال: نعم.
قال: فكيف أخبر عز وجل: أنه واحد حي سميع بصير حكيم قادر عليم خبير وهو لا يعلم ذلك، وهذا رد ما قال وتكذيبه، تعالى اللّه عن ذلك.
ثم قال له الرضا (عليه السلام): فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشئ قبل أن يصنعه فإنما هو متحير، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
قال سليمان: فإن الإرادة القدرة.
قال الرضا (عليه السلام): وهو عز وجل يقدر على ما لا يريده أبدا ولا بد من ذلك، لأنه قال تبارك وتعالى: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (1) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته.
فانقطع سليمان.
فقال المأمون عند ذلك: يا سليمان، هذا أعلم هاشمي، ثم تفرق القوم (2).
ص: 51
إعلم - أيدك اللّه تعالى - أن أصحابنا دون المتكلمين يقولون بالبداء، ولهم في نصرة القول به كلام، ومعهم فيه آثار.
وقد استشنع ذلك منهم مخالفوهم، وشنع عليهم به مناظروهم، وإنما استشنعوه لظنهم أنه يؤدي إلى القول بأن اللّه تعالى علم في البداء ما لم يكن يعلم، فإذا قدر الناصر للبداء على الاحتراز من هذا الموضع فقد أحسن، ولم يبق عليه أكثر من إطلاق اللفظ، وقد قلنا إن ذلك قد ورد به السمع، وقد اتفق لي فيه كلام مع أحد المعتزلة بمصر، أنا أحكيه، لتقف عليه.
كنت سألت معتزليا، حضرت معه مجلسا، فيه قوم من أهل العلم، فقلت له: لم أنكرت القول بالبداء؟ وزعمت أنه لا يجوز على اللّه تعالى.
فقال: لأنه يقتضي ظهور أمر لله سبحانه كان عنه مستورا، وفي هذا أنه قد تجدد له العلم بما لم يكن به عالما.
فقلت له: أبن لنا من أين علمت أنه يوجب ذلك، وتقتضيه، ليسع الكلام معك فيه؟ فقال: هذا هو معنى البداء، والتعارف يقضي بيننا، ولسنا نشك أن البداء هو الظهور، ولا يبدو للآمر إلا لظهور شئ تجدد من علم أو ظن لم يكن معه من قبل.
ص: 52
وبيان ذلك: أن طبيبا لو وصف لعليل أن يشرب في وقته شراب الورد، حتى إذا أخذ العليل القدح بيده ليشرب ما أمره به، قال له الطبيب في الحال: صبه ولا تشربه، وعليك بشرب النيلوفر (1) بدله، فلسنا نشك في أن الطبيب قد استدرك الأمر وظهر له من حال العليل ما لم يكن عالما به من قبل، فغير عليه الأمر لما تجدد له من العلم، ولولا ذلك لم يكن معنى لهذا الاختلاف.
فقلت له: هذا مما في الشاهد وهو من البداء، فيجوز عندك أن يكون في البداء قسم غير هذا؟ فقال: لا أعلم في الشاهد غير هذا القسم، ولا أرى أنه يجوز في البداء قسم غيره ولا يعلم.
فقلت له: ما تقول في رجل له عبد، أراد أن يختبر حاله وطاعته من معصيته، ونشاطه من كسله، فقال له في يوم شديد البرد: سر لوقتك هذا إلى مدينة كذا، لتقبض مالا لي بها، فأحسن العبد لسيده الطاعة، وقدم المبادرة، ولم يحتج بحجة، فلما رأى سيده مسارعته، وعرف شهامته ونهضته، شكره على ذلك، وقال له: أقم على حالك، فقد عرفت أنك موضع للصنيعة، وأهل للتعويل عليك في الأمور العظيمة، أيجوز عندك هذا؟ وإن جاز فهل هذا داخل في البداء أم لا؟
فقال: هذا مستعمل ورأينا في الشاهد، وقد بدا فيه للسيد، وليس هو قسما ثانيا، بل هو بعينه الأول، هو الذي لا يجوز على اللّه عز وجل.
ص: 53
فقلت له: لم جعلت الجمع بينهما من حيث ذكرت أولى من التفرقة بينهما، من حيث كان أحدهما مريدا لإتمام قبل أن يبدو له فيه فينهى عنه، وهو الطبيب، والآخر غير مريد لإتمامه على كل وجه، وهو سيد العبد، بل كيف لم تفرق بينهما من حيث أن الطبيب لم يجز قط أن يقع منه اختلاف الأمر إلا لتجدد علم له لم يكن، وسيد العبد يجوز أن يقع منه النهي بعد الأمر من غير أن يتجدد له علم، ويكون عالما بنهضته في الحالين، ومسارعته إلى ما أحب، وإنما أمره بذلك ليعلم الحاضرون حسن طاعته، ومبادرته إلى أمره، وأنه ممن يجب اصطفاؤه، والإحسان إليه، والتعويل في الأمور عليه.
قال: فإذا سلمت لك الفرق بينهما، فما تنكر أن يكون دالا على أن مثالك الذي أتيت به غير داخل في البداء؟ قلت: أنكرت ذلك من قبل أن البداء عندنا جميعا نهي الآمر عما أمر به قبل وقوعه في وقته، وإذا كان هذا هو الحد المراعى فهو موجود في مثالنا، وقد أجمع العقلاء أيضا على أن السيد فيه قد بدا له فيما أمر به عبده.
قال: فإذا دخل القسمان في البداء، فما الذي تجيز على اللّه تعالى منهما؟ فقلت أقربهما إلى قصة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وأشبههما لما أمر اللّه تعالى في المنام بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، فلما سارع إلى المأمور راضيا بالمقدور، وأسلما جميعا صابرين، وتله للجبين، نهاه اللّه عن الذبح بعد متقدم الأمر، وأحسن الثناء عليهما، وضاعف لهما الأجر.
وهذا نظير ما مثلت من أمر السيد وعبده، وهو النهي عن المأمور به قبل وقوع فعله.
ص: 54
قال: فمن سلم لك أن إبراهيم (عليه السلام) مأمور بذلك من قبل اللّه سبحانه؟
قلت: سلمه لي من يقر بأن منامات الأنبياء (عليهم السلام) صادقة، ويعترف بأنها وحي اللّه في الحقيقة، وسلمه لي من يؤمن بالقرآن، ويصدق ما فيه من الأخبار.
وقد تضمن الخبر عن إسماعيل أنه قال لأبيه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (1)، وقول اللّه تعالى لإبراهيم: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) وثناؤه عليه، حيث قال: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (2). وليس بمحسن من امتثل غير أمر اللّه تعالى في ذبح ولده، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه.
قال: فإني لا أسمي هذا بداء.
فقلت له: ما المانع لك من ذلك، أتوجه الحجة عليك به، أم مخالفته للمثال المتقدم ذكره؟ فقال: يمنعني من أن أسميه البداء، أن البداء لا يكشف إلا عن متجدد علم لمن بدا له، وظهوره له بعد ستره، وليس في قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ما يكشف عن تجدد علم اللّه سبحانه، ولا يجوز ذلك عليه، فلهذا قلت إنه ليس ببداء.
فقلت له: هذا خلاف ما سلمته لنا من قبل، وأقررت به، من أن سيد العبد يجوز أن يأمره بما ذكرناه، ثم يمنعه مما أمره به وينهاه، مع علمه بأنه يطيعه في الحالين لغرضه في كشف أمره للحاضرين.
ص: 55
ثم يقال لك: ما تنكر من إطلاق اللفظ بالابتداء في قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، لأنها كشفت لهما عن علم متجدد، ظهر لهما، كان ظنهما سواه، وهو إزالة هذا التكليف بعد تعلقه، والنهي عن الذبح بعد الأمر به.
قال: أفتقول إن اللّه تعالى أراد الذبح لما أمر به أم لم يرده؟
واعلم أنك إن قلت: إنه لم يرده دخلت في مذاهب المجبرة، لقولك إن اللّه تعالى أمر بما لا يريده.
وكذلك إن قلت: إنه أراده دخلت في مذهبهم أيضا، من حيث أنه نهى عما أراده، فما خلاصك من هذا؟
فقلت له: هذه شبهة يقرب أمرها، والجواب عنها لازم لنا جميعا، لتصديقنا بالقصة، وإقرارنا بها.
وجوابي فيها أن الذبح في الحقيقة هو تفرقة الأجزاء، ثم قد تسمى الأفعال التي في مقدمات الذبح، مثل القصد، والإضجاع، وأخذ الشفرة، ووضعها على الحلق، ونحو ذلك، ذبحا مجازا واتساعا.
ونظير ذلك أن الحاج في الحقيقة هو زائر بيت اللّه تعالى، على منهاج ما قررته الشريعة، من الإحرام، والطواف، والسعي، وقد يقال لمن شرع في حوائجه لسفره في حجة من قبل أن يتوجه إليه، أنه حاج اتساعا ومجازا.
فأقول: إن مراد اللّه تعالى فيما أمر به لخليله إبراهيم (عليه السلام) من ذبح ولده، إنما كان مقدمات الذبح، من الاعتقاد أولا والقصد، ثم الاضطجاع للذبح، ترك الشفرة على الحلق، وهذه الأفعال الشاقة التي ليس بعدها غير الإتمام بتفرقة أجزاء الحلق.
ص: 56
وعبر عن ذلك بلفظ الذبح، ليصح من إبراهيم (عليه السلام) الاعتقاد له، والصبر على المضض فيه، الذي يستحق جزيل الثواب عليه، ولو فسر له في الأمر المراد على التعيين لما صح منه الاعتقاد للذبح، ولا كان ما أمر به شاقا، يستحق عليه الثناء، والمدح، وعظيم الأجر، والذي نهى اللّه تعالى عنه هو الذبح في الحقيقة، وهو الذي لم يبق غيره، ولم تتعلق الإرادة قط به، فقد صح بهذا أن اللّه تعالى لم يأمر بما لا يريد، ولا نهى عما أراد، والحمد لله.
قال الخصم: فقد انتهى قولك إلى أن الذي أمر به غير الذي نهى عنه، وليس هذا هو البداء.
فقلت له: أما في ابتداء الأمر فما ظن إبراهيم (عليه السلام) إلا أن المراد هو الحقيقة، وكذلك كان ظن ولده إسماعيل (عليه السلام)، فلما انكشفت بالنهي لهما ما علماه مما كان ظنهما سواه، كان ظاهره بداء، لمشابهته لحال من يأمر بالشئ، وينهى عنه بعينه في وقته، وليستسلمه على ظاهر الأمر دون باطنه.
فلم يرد على ما ذكرت شيئا، وهذا الذي اتفق لي من الكلام في البداء (1).
ص: 57
ص: 58
ص: 59
ص: 60
المناظرة السابعة مناظرة البهلول (1) مع أبي حنيفة في ثلاث مسائل
روي في بعض الكتب إن البهلول أتى إلى المسجد يوما وأبو حنيفة يقرر
ص: 61
للناس علومه، فقال في جملة كلامه: أن جعفر بن محمد (الصادق (عليه السلام)) تكلم في مسائل، ما يعجبني كلامه فيها:
الأولى، يقول: إن اللّه سبحانه موجود، لكنه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهل يكون موجود لا يرى؟ ما هذه إلا تناقض.
الثانية، إنه قال: إن الشيطان يعذب في النار مع أن الشيطان خلق من النار، فكيف يعذب الشئ بما خلق منه؟!
الثالثة، إنه يقول: إن أفعال العباد مستندة إليهم مع أن الآيات دالة على أنه تعالى فاعل كل شئ!
فلما سمعه بهلول أخذ مداة وضرب بها رأسه وشجه، وصار الدم يسيل على وجهه ولحيته، فبادر إلى الخليفة يشكو من بهلول!!
فلما أحضر بهلول وسئل عن السبب؟ قال للخليفة: إن هذا الرجل غلط جعفر بن محمد (عليهما السلام) في ثلاث مسائل:
الأولى: إن أبا حنيفة يزعم أن الأفعال كلها لا فاعل لها إلا اللّه، فهذه الشجة من اللّه تعالى، وما تقصيري؟!
الثانية: إنه يقول: كل شئ موجود لا بد أن يرى؟! فهذا الوجع في رأسه موجود، مع أنه لا يرى؟!
الثالثة: إنه مخلوق من التراب، وهذه المداة من التراب، وهو يقول: إن الجنس لا يعذب بجنسه، فكيف يتألم من هذه المداة؟
فأعجب الخليفة كلامه، وتخلص من شجة أبي حنيفة (1).
ص: 62
المناظرة الثامنة مناظرة التيجاني (1) مع أحد العلماء في الجبر
قلت لبعض علمائنا بعد استعراض كل هذه المسائل (2): إن القرآن يكذب هذه المزاعم، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن! قال تعالى في شأن الزواج:
(فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) (3) فهذا يدل على حرية الاختيار، وفي شأن الطلاق: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (4) وهو أيضا اختيار، وفي الزنا قال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (5) وهو أيضا دليل الاختيار، وفي الخمر قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ
ص: 63
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (1) وهي أيضا تنهى بمعنى الاختيار.
أما قتل النفس فقد قال فيها: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (2) وقال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (3) فهذه أيضا تفيد الاختيار في القتل.
وحتى بخصوص الأكل والشرب فقد رسم لنا حدودا فقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (4) فهذه أيضا بالاختيار.
فكيف يا سيدي بعد هذه الأدلة القرآنية تقولون بأن كل شئ من اللّه، والعبد مسير في كل أفعاله؟؟.
أجابني: بأن اللّه سبحانه هو وحده الذي يتصرف في الكون واستدل بقوله:
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (5).
قلت: لا خلاف بيننا في مشيئة اللّه سبحانه، وإذا شاء اللّه أن يفعل شيئا، فليس بإمكان الإنس والجن ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته! وإنما اختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم أم من اللّه؟؟ أجابني: لكم دينكم ولي ديني، وأغلق باب النقاش بذلك، هذه هي في أغلب الأحيان حجة علمائنا.
ص: 64
وأذكر أني رجعت إليه بعد يومين وقلت له: إذا كان اعتقادك أن اللّه هو الذي يفعل كل شئ، وليس للعباد أن يختاروا أي شئ، فلماذا لا تقول في الخلافة نفس القول، وأن اللّه سبحانه هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة؟
فقال: نعم أقول بذلك، لأن اللّه هو الذي اختار أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي (عليه السلام)، ولو شاء اللّه أن يكون علي هو الخليفة الأول ما كان الجن والإنس بقادرين على منع ذلك. (1)
ص: 65
قلت: الآن وقعت.
قال: كيف وقعت؟
قلت: إما أن تقول بأن اللّه اختار الخلفاء الراشدين الأربعة، ثم بعد ذلك ترك الأمر للناس يختارون من شاؤوا.
وإما أن تقول: بأن اللّه لم يترك للناس الاختيار، وإنما يختار هو كل الخلفاء من وفاة الرسول إلى قيام الساعة؟
أجاب: أقول بالثاني (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ...) (1).
قلت: إذا فكل انحراف وكل ضلالة وكل جريمة وقعت في الإسلام بسبب الملوك والأمراء فهي من اللّه، لأنه هو الذي أمر هؤلاء على رقاب المسلمين؟
أجاب: وهو كذلك، ومن الصالحين من قرأ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) (2) أي جعلناهم أمراء.
قلت متعجبا: إذا فقتل علي (عليه السلام) على يد ابن ملجم، وقتل الحسين بن علي (عليه السلام) أراده اللّه؟؟
فقال منتصرا: نعم طبعا - ألم تسمع قول الرسول لعلي: «أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتل هذه، وأشار إلى رأسه ولحيته (3) كرم اللّه
ص: 66
وجهه».
وكذلك سيدنا الحسين (عليه السلام) قد علم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بمقتله في كربلاء، وحدث أم سلمة بذلك (1)، كما علم بأن سيدنا الحسن سيصلح اللّه به فرقتين عظيمتين من المسلمين (2)، فكل شئ مسطر ومكتوب في الأزل، وليس للإنسان مفر، وبهذا أنت الذي وقعت لا أنا.
سكت قليلا أنظر إليه وهو مزهو بهذا الكلام، وظن أنه أفحمني بالدليل، كيف لي أن أقنعه بأن علم اللّه بالشئ لا يفيد حتما بأنه هو الذي قدره وأجبر الناس عليه، وأنا أعلم مسبقا بأن فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية.
وسألته من جديد: إذا فكل الرؤساء والملوك قديما وحديثا والذين يحاربون الإسلام والمسلمين نصبهم اللّه؟!
قال: نعم بدون شك.
قلت: حتى الاستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من اللّه!؟
قال: بلى، لما جاء الوقت المعلوم خرجت فرنسا من تلك الأقطار.
قلت: سبحان اللّه! فكيف كنت تدافع سابقا عن نظرية أهل السنة بأن
ص: 67
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مات وترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاؤون؟ قال: نعم، ولا زلت على ذلك، وسأبقى على ذلك إن شاء اللّه! قلت: فكيف توفق بين القولين: اختيار اللّه واختيار الناس بالشورى؟
قال: بما أن المسلمين اختاروا أبا بكر فقد اختاره اللّه! قلت: أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلهم على اختيار الخليفة؟
قال: أستغفر اللّه، ليس هناك وحي بعد محمد (صلى اللّه عليه وآله) (والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا وإنما هي تهمة ألصقها بهم أعداؤهم).
قلت: دعنا من الشيعة، وأقنعنا بما عندك! كيف علمت بأن اللّه اختار أبا بكر؟
قال: لو أراد اللّه خلاف ذلك لما تمكن المسلمون، ولا العالمون خلاف ما يريده اللّه تعالى.
عرفت حينئذ أن هؤلاء لا يفكرون، ولا يتدبرون القرآن، وعلى رأيهم سوف لن تستقيم أية نظرية فلسفية أو علمية (1).
ص: 68
ص: 69
ص: 70
دخلت غرفة المعلمين في ساعة محددة، ووجدت أن الوضع قد اختلف هذه المرة، فقد كان ثلاثة من مدرسي الدين واللغة العربية جالسين إلى جانب مدرسنا، وقد أضفت الوجوه العابسة والملامح الغاضبة صمتا مطلقا، زاد من الرهبة التي تسود جو الغرفة.
دخلت الغرفة متوكلا على اللّه وواثقا بنصرة أهل البيت (عليهم السلام).
قدم لي الأستاذ سائر المدرسين وابتسم قائلا: لقد أطلعتهم على قضية نقاشنا، ورأوا من المصلحة المشاركة في هذا اللقاء.
واصلت حديث الأسبوع الماضي بتقديم مسرد يتضمن أسماء التفاسير والمفسرين الذين ذكروا أن الآية المذكورة نزلت بشأن علي (عليه السلام).
فجأة صاح أحد المدرسين بحدة وقد بدأ الغضب ظاهرا عليه: لكن العلامة الكبير ابن تيمية لا يقر بمثل هذا التفسير للآية على الإطلاق، وهو يخطئ الشيعة!
قلت: إن لم تكن له نوايا سيئة، ولا يضمر العداء لأهل البيت (عليهم السلام)، فهو
ص: 71
مخطئ في هذا المجال قطعا، فهل من الممكن أن يكون جميع العلماء الكبار والمحققون المتعمقون وأكابر مفسري القرآن الكريم الذين يجمعون كلهم على قضية واحدة مخطئين، وابن تيمية وحده على صواب؟ ثم إننا نرد على كل اعتراض من خلال الاستدلال بالقرآن والسنة، وأنتم أيضا اعرضوا مؤاخذاتكم فإن عجزت عن الإجابة عليها يحق لكم حينئذ إدخال ابن تيمية في الحديث، فما معنى أن تحشره في الحديث بدون أي مقدمات؟ دهش من شدة جرأتي، والتفت إلى أستاذنا وهو مضطرب وقال: أنا أتعجب منك كيف تصغي لكلام طفل؟! وتجعل اعتقادك ألعوبة بيد الشيعة؟ أحب أن أنبهك إلى أن هؤلاء لديهم مصحف خاص اسمه «مصحف فاطمة (عليها السلام)» (1)، وهم لا يعترفون بالخلفاء، وحتى أن لهم رأي آخر في
ص: 72
الرسول (صلى اللّه عليه وآله) نفسه، فهم يعتقدون أن جبرائيل أخطأ - والعياذ باللّه - حين نزل على الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وإنما كان يجب أن ينزل على علي (1)، وهم يرفعون عليا إلى مرتبة الألوهية، وهم... وأخذ ينسب التهم والأكاذيب والافتراءات إلى الشيعة.
أيد الشخصان الآخران كلامه، وأخذا يرددان أقواله بأسلوب أهدأ.
لم يداخلني أي ذعر من هذا الموقف، لأنهم لم يكونوا قادرين على إبداء أي رد فعل سوى الكلام، وشعرت من جانب آخر بالبهجة لأنهم لم يدخلوا في النقاش بالمنطق والاستدلال، وإنما انتهجوا أسلوب العربدة والصياح للتغلب علي، ولهذا أصغيت لثرثرته وكلامه الفارغ، وبقيت أتربص الفرصة لأهجم.
كان أستاذنا في غاية الاستياء والقلق كما يبدو على ظاهره، والتفت إليهم قائلا: لم تخبروني أنكم تبغون العراك وإلا لما دعوتكم، فما الداعي للصياح؟ أنظروا ولاحظوا كيف أن هذا الطفل، وهو في نظري أستاذ، كيف يرد عليكم؟ فلماذا تريدون إسكاته بالإهانة والاستخفاف؟ هذا الأسلوب غير صائب للبحث والنقاش، كان من المقرر أن تدخلوا هذا اللقاء بمودة وأن تناقشوا برزانة وبرهان، ولكن مع الأسف هاجمتموه بشراسة، وتريدون الاستيلاء على زمام الموقف بدون استثمار الوقت.
ص: 73
قلت: يا أستاذ دعهم يتحدثون فإني أراهم محقين في بعض أقوالهم.
أخذتهم الدهشة بغته وظلوا يترقبون مني مواصلة الحديث.
استأنفت حديثي قائلا: الحق معه، فإن إلهنا غير إلهكم!! ونبينا غير نبيكم!! وقرآننا غير قرآنكم!! وإمامنا وخليفتنا غير خليفتكم!! التفت المعلم - الذي لم أكن أعرف اسمه وقد بان على وجهه الغضب - إلى أستاذنا وقال: ألم أقل لكم أن لهؤلاء دينا آخر، وحتى عقيدتهم باللّه تختلف عن عقيدتنا!! ها هو قد اعترف بلسانه.
هؤلاء - وبطبيعة الحال - لا يزيلون اللثام عن واقع معتقداتهم بهذه السهولة بل يتمسكون بالتقية، ولكن يبدو أنه قد وضع التقية جانبا.
قلت: نلتزم التقية في المواطن التي تتعرض فيها النفس للخطر، وهي أمر مرغوب فيه من وجهة نظر القرآن والعقل والنقل، وليس الآن مجال الخوض فيها، ولكنني سأبرهن لكم في محله أن التقية حكم إسلامي صحيح تماما ويتطابق مع موازين القرآن والسنة والعقل، ولكننا الآن بصدد موضوع آخر.
قال لي الأستاذ: واصل حديثك الأصلي، ماذا تقول في اللّه والقرآن والرسول؟
ونعتقد أنه لا يراه أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه لا هيئة له ولا شكل.
قال موسى (عليه السلام): رب أرني أنظر إليك، (قَالَ لَنْ تَرَانِي) (1)، و «لن» هنا تفيد التأبيد، ثم أوحى إليه: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) (2).
فدك الجبل لما تجلى ربه، وخر موسى على الأرض صعقا، إننا نعتقد أنه لا يتسنى لأحد الوقوف على حقيقة اللّه حتى وأن جمع علوم الأولين والآخرين، وأن اللّه تعالى لا يحده شئ فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأن كل من يبغي إدراكه - تعالى - بوهمه وخياله، فهو لا يدرك سواهما شئ.
أما أنتم أيها الإخوة الأعزاء من أبناء السنة، فعقيدتكم في هذا المجال تغاير نص القرآن تماما، لأنه تعالى ينفي إمكان رؤيته بالمرة، ولكنكم تعتقدون أنه يكشف عن ساقه للمؤمنين يوم القيامة، وأن فيها علامة خاصة (3).
أنتم تصورتم أن اللّه جسم (4)، وأي جسم! يضحك ويمشي (5)، وله يدان
ص: 75
ورجلان (1)!! وينزل كل ليلة من السماء إلى الدنيا (2)!! وفي يوم القيامة حين تطلب جهنم من اللّه ملأها، لأن فيها متسعا من المكان، يضع رجله فيها فتمتلئ وتقول: قط قط قط » (3).
باللّه عليكم ما هذه الجرأة على اللّه، وما بذاك تريدون؟ فهل تجوز مثل هذه السخرية باللّه جلت عظمته؟! ما بالكم لو سمعت الأمم الأخرى بمثل هذا الكلام، ألا يمقتون اللّه ورسوله والإسلام؟! ما الذي يدفعكم إلى وصف اللّه بأنه جسم متحرك له عواطف ذاتية وصفات مادية؟! فإن كان هذا تصوركم عن اللّه، سوف لا يكون رأيكم بالرسول (صلى اللّه عليه وآله) والقرآن أحسن حالا مما وصفتم به اللّه تعالى.
وخلاصة القول: هو إني واصلت الحديث وبكل جرأة وإقدام، حتى أني تعجبت لذلك فيما بعد، وأيقنت أن ذلك كان مني بإلهام وتسديد من اللّه تعالى.
وفجأة قطع أحد الحاضرين من هؤلاء - وكان كلامي قد بهته - قائلا لي: هل أنت تمزح عندما تنسب ذلك إلينا؟
قلت: عذرا، إن كل ما ذكرته مسطور في صحيح البخاري، وهو الكتاب الذي ترون له المنزلة بعد القرآن، ولا يأتيه الخطأ والباطل وتحسبونه سند السنة،
ص: 76
وتأخذون عنه الأحكام، وتعتقدون أن كل ما بين دفتيه صحيح مائة بالمائة بلا زيادة أو نقصان! وأنا الآن لا أستحضر أرقام تلك الصفحات، ولكني سأتيكم غدا بتفاصيل ذلك مع أرقام صفحاتها.
قال آخر: كيف لنا أن نعلم بأن كلامك ينطبق على ما في صحيح البخاري؟ فربما إنك لم تستوعب ما فيه بنحو صحيح، أو لعلك تسخر منا!
قال الأستاذ: كونوا على ثقة بأن كلامه صحيح من غير شك، وأن ما قاله موجود قطعا في صحيح البخاري، لقد كان كلامه حتى الآن قائما على الاستدلال والمنطق، وهو اليوم لا يقول هذا اعتباطا.
قلت: يا أستاذ، أرجو السماح لي بمواصلة كلامي لأجل استثمار الوقت على أفضل ما يكون.
قال: تفضل تكلم.
قلت: لقد تحدثت عن اللّه تعالى بإشارة إجمالية، وإلا فكل واحدة من هذه النقاط وردت في رواية مفصلة وطويلة في صحيح البخاري، مما لا يحضرني الآن رواية جميعها، لكن أشير إلى رواية واحدة منها فقط على سبيل المثال، وليعلم الإخوة إنني لم آت بهذا الكلام من عندي، بل ورد كل ما أقوله في صحيح البخاري والصحاح الأخرى عند أبناء السنة.
نقل أبو سعيد الخدري رواية طويلة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول فيها:
«... سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه!
ص: 77
فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ». (1) أليس هذا هو اللّه الذي يصف ذاته في القرآن الكريم بالقول: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (2).
كلا، قسما باللّه، هذا إله غيره صاغته أوهام وتصورات الرواة الكاذبين، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، وفي صحيح البخاري رواية منكرة منقولة عن أبي هريرة، تثير الدهشة والسخرية حقا، ولا أدري كيف تعولون على صحيح البخاري مع وجود هذه الروايات فيه؟ ينقل بشأن النبي موسى (عليه السلام) رواية عجيبة فيها إهانة له بل وفيها أكبر استهانة باللّه عز شأنه.
يقول أبو هريرة: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه أدر فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره، يقول: ثوبي يا حجر! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقال: واللّه ما بموسى من بأس وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا، فقال أبو هريرة: واللّه إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر» (3).
وأنا هنا لا أبغي التعليق على هذا الخبر ولكن أيها السادة المحترمون! هل حقا أن هذا الكتاب هو الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ وعلى كل حال فإن المواضيع في هذا المجال كثيرة، وبما أن الوقت لا يسمح، فإني أود تناول موضوعين أو ثلاثة مواضيع أخرى.
ص: 78
هذه عقيدتنا باللّه تعالى، ولا بأس بعقد مقارنة بين نبينا ونبيكم في الفصل اللاحق!.
نبينا محمد بن عبد اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أفضل وأسمى وأكمل إنسان خلقه اللّه تعالى، هو خيرة الأنبياء وسيدهم، وقدوة الأولين والآخرين، وأشرف الخلائق والكائنات أجمعين، فهو العبد الذي اصطفاه اللّه وخلق لأجله جميع الكائنات، وقال عنه كما ورد في الحديث القدسي: «لولاك ما خلقت الأفلاك» (1)، وهو الذي بلغ مرتبة (دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (2) وهي المرتبة التي لم يبلغها نبي مرسل ولا ملك مقرب، وهي المرتبة التي تركه جبرئيل الأمين مع علو منزلته في هذا «الدنو» لوحده ولم يستطع مرافقته، وقال: إنه لو اقترب قيد أنملة لاحترق، وهو من وصفه اللّه بأنه (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (3)، وقال فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4).
ص: 79
هو النور الساطع في عالم الوجود الذي أرسل بشيرا للصالحين ونذيرا للمفسدين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (1).
ونحن نذهب إلى أبعد من ذلك حيث نعتقد بأنه النبي الذي جعلت له النبوة من يوم خلقة آدم، بل أول ما خلق اللّه نوره، وأنه كان نبيا في وقت كان فيه آدم بين الماء والطين، فقد ورد عنه صلوات اللّه عليه وآله أنه قال: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (2)، وهو معصوم من جميع الأخطاء والذنوب صغيرها وكبيرها، ومن الزلل والنسيان، ومن ينسب إليه الهذيان والنسيان خصمه القرآن، وقوله مخالف لكلام اللّه الذي وصف به الرسول (صلى اللّه عليه وآله): (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (3).
وإذا اعتبرناه كسائر من يخطأ وينسى من الناس نكون قد أسأنا إليه أيما إساءة، إذ لم نعرفه حق معرفته، وإن اعتبرنا أنفسنا أتباعا له، فهل يمكن أن يكون مبعوثا عن اللّه ثم يسهو أو يهذي، نعوذ باللّه؟ إن الحديث عن رسول اللّه ليس بالأمر اليسير، وهو الذي خضعت له رقاب الملائكة المقربين، وباهى خالق الكون بخلقه العظيم، فإن كل ما نقوله في وصفه ليس إلا بمثابة القطرة في البحر، وإننا لم نعرفه قط كما ينبغي.
ص: 80
قال علي (عليه السلام) في وصف هذا الإنسان الفذ، وصفوة الوجود، ووسيط رب العالمين: «إن اللّه تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلى اللّه عليه وآله) قبل أن يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن يخلق آدم ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وداود وسليمان... وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم» (1).
هذه هي عقيدتنا بالنبي الكريم، وأما عقيدة البعض فهي الهبوط به إلى أدنى من مستوى الإنسان العادي، والاستهانة به ونسبة الكذب واللّهو والنسيان والهذيان إليه، وهذا واللّه لا ينطبق على نبينا، الذي: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (2)، والذي وجوده رحمة إلاهية ممتدة ظلالها على الخلائق إلى يوم الحشر.
قال أحد الحاضرين - وكان شخصا هادئا نسبيا - بلهجة تنم عن الشكوى والتذمر: نحن أيضا نعتقد بمثل هذه الصفات للرسول (صلى اللّه عليه وآله)، ولا نقول في وصفه بهذا الهراء أبدا، ولكن هل لك أن تخبرنا من أين جئت بهذا الكلام؟ فمن ذا الذي يصف الرسول (صلى اللّه عليه وآله) - والعياذ باللّه - بالجهل؟ قلت: من المؤسف أن الوقت ضيق، وليس أمامي سوى الإشارة إلى بعض الموارد، إن النبي عندكم يأتيه النسيان أثناء الصلاة فيصلي ركعتين بدل الأربع! (3) وينام في المسجد، وبعد الاستيقاظ يصلي بلا وضوء (4).
ص: 81
ويسب شخصا من غير ذنب أو جريرة ارتكبها (1). ويجنب في شهر رمضان، ويقضي صلاة الفجر (2)، وأن النسيان يستولي عليه إلى حد ينسى حتى القرآن، وأنه سمع في أحد الأيام رجلا يقرأ القرآن في المسجد، فيقول: رحمه اللّه ذكرني بآيات كنت قد حذفتها من هذه السورة وتلك!!
(ورويتم أنه) يهذي من شدة المرض إلى حد يقول فيه عمر بن الخطاب: إنه يهجر، فقد قال ابن عباس: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقالوا: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يهجر» (3).
والأكثر من هذا أنكم تصفون النبي بأنه شخص لا يمنعه الحياء من أن يقول لرجل سأله عمن يجامع ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ -: إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل (4).
قسما باللّه نحن لا نرتضي لمثل الرسول (صلى اللّه عليه وآله) أن يكون إنسانا عاديا، فما بالك بتلك المرتبة الرفيعة.
فجأة تعالت صيحات الاحتجاج: ما هذا الكلام الذي تقوله؟ ومتى كانت لنا مثل هذه المعتقدات؟ إنك بقولك هذا تسئ إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) و...؟
ص: 82
قلت: إهدأوا، فإني لا أسئ إلى الرسول، بل إن عمر بن الخطاب خليفة المسلمين هو الذي وصفه بالهجر، أن صحيحي مسلم والبخاري هما اللذان يتحدثان عنه بمثل هذا الكلام، فأمامكم خياران إما التخلي عن صحاحكم وإما الاعتراف بسوء موقفكم إزاء الرسول (صلى اللّه عليه وآله).
أليس هذا البخاري هو الذي نقل عن عائشة أنها قالت: «إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، والنبي (صلى اللّه عليه وآله) متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن وجهه وقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد....» (1).
أنتم تصفون الرسول - والعياذ باللّه - بعدم الحياء، فقد ورد عن عائشة أنها قالت: «كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في بيتي، كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وسوى ثيابه، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» (2).
وكتبكم حافلة بمثل هذه الافتراءات على الرسول! فهل تريدون دعوة الناس إلى الإسلام وإلى القرآن بمثل هذا الرسول؟ أي تفكير هذا؟ وما هذا السلوك الخاطئ حيال أكمل إنسان على الأرض؟
ص: 83
دق جرس الدرس - وللأسف - قبل أن أنهي كلامي، وقد رأيتهم بهتوا والكلمات قد جفت على شفاههم فصاروا يتمنون من اللّه أن ينتهي كلامي بأي نحو ممكن وينفض اللقاء، ولكن بقي في نفسي شئ إلى اليوم وهو أنني لم أستطع التنفيس أكثر عما في قلبي (1).
ص: 84
وأهم ما يذكر في هذا الموضوع عند الطرفين هي رؤية اللّه تعالى، فقد أثبتها أهل السنة والجماعة لكل المؤمنين في الآخرة، وعندما نقرأ صحاح السنة والجماعة كالبخاري ومسلم مثلا نجد روايات كثيرة تؤكد الرؤية حقيقة لا مجازا (1)، بل نجد فيها تشبيها لله سبحانه، وأنه يضحك (2) ويأتي ويمشي وينزل إلى سماء الدنيا (3) بل ويكشف عن ساقه التي بها علامة يعرف بها (4) ويضع رجله في جهنم فتمتلئ وتقول قط قط (5) إلى غير ذلك من الأشياء والأوصاف التي يتنزه اللّه جل وعلا عن أمثالها.
وأذكر أنني مررت بمدينة لامو في كينيا (6) بشرق إفريقيا، ووجدت إماما من الوهابية يحاضر المصلين داخل المسجد ويقول لهم: بأن لله يدين ورجلين
ص: 85
وعينين ووجها، ولما استنكرت عليه ذلك! قام يستدل بآيات من القرآن قائلا:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ...) (1) وقال أيضا: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا...) (2) وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ...) (3) قلت: يا أخي، كل هذه الآيات التي أدليت بها وغيرها إنما هي مجاز وليست حقيقة!
أجاب قائلا: كل القرآن حقيقة وليس فيه مجاز!!
قلت: إذن ما هو تفسيركم للآية التي تقول: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى...) (4)، فهل تحملون هذه الآية على المعنى الحقيقي؟ فكل أعمى في الدنيا يكون أعمى في الآخرة؟
أجاب الشيخ: نحن نتكلم عن يد اللّه وعين اللّه ووجه اللّه، ولا دخل لنا في العميان!
قلت: دعنا من العميان، فما هو تفسيركم في الآية التي ذكرتها: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ...) ؟
التفت إلى الحاضرين وقال لهم: هل فيكم من لم يفهم هذه الآية، إنها واضحة جلية كقوله سبحانه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (5).
ص: 86
قلت: أنت زدت الطين بلة! يا أخي نحن إنما اختلفنا في القرآن، ادعيت أنت بأن القرآن ليس فيه مجاز وكله حقيقة! وادعيت أنا بأن في القرآن مجازا وبالخصوص الآيات التي فيها تجسيم لله تعالى أو تشبيه، وإذا أصررت على رأيك فيلزمك أن تقول، بأن كل شئ هالك إلا وجهه، معناه يداه ورجلاه وكل جسمه يفنى ويهلك ولا يبقى منه إلا الوجه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا! ثم التفت إلى الحاضرين قائلا: فهل ترضون بهذا التفسير؟
سكت الجميع ولم يتكلم شيخهم المحاضر بكلمة فودعتهم وخرجت داعيا لهم بالهداية والتوفيق.
نعم هذه عقيدتهم في اللّه في صحاحهم وفي محاضراتهم، ولأقول إن بعض علمائنا ينكر ذلك ولكن الأغلبية يؤمنون برؤية اللّه سبحانه في الآخرة، وأنهم سوف يرونه كما يرون القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب، ويستدلون بالآية (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (1). (2)
وبمجرد اطلاعك على عقيدة الشيعة الإمامية في هذا الصدد (3) يرتاح ضميرك، ويسلم عقلك بقبول تأويل الآيات القرآنية التي فيها تجسيم أو تشبيه لله تعالى وحملها على المجاز والاستعارة، لا على الحقيقة ولا على ظواهر الألفاظ، كما توهمه البعض.
ص: 87
يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا الصدد: «لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود...» (1).
ويقول الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في الرد على المشبهة: «وكل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم...» (2).
ويكفينا في هذا رد اللّه سبحانه في محكم كتابه قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (3) وقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (4) وقوله لرسوله وكليمه موسى (عليه السلام) لما طلب رؤيته: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) (5) ولن «الزمخشرية» (6) تفيد التأبيد كما يقول النحاة.
كل ذلك دليل قاطع على صحة أقوال الشيعة الذين يعتمدون فيها على
ص: 88
أقوال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) معدن العلم وموضع الرسالة، ومن أورثهم اللّه علم الكتاب.
ومن أراد التوسع في هذا البحث فما عليه إلا الرجوع إلى الكتب المفصلة لهذا الموضوع ككتاب «كلمة حول الرؤية» للسيد شرف الدين صاحب المراجعات (1).
ص: 89
الجامعي: في موارد عديدة من القرآن، منها الآية 143 من سورة الأعراف، إذ دعى موسى ربه قائلا: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، وخاطبه اللّه قائلا: (لَنْ تَرَانِي) .
فالسؤال: إن الذات المقدسة لله تعالى، ليست بجسم، ولا مكان لها، وغير قابلة للرؤية، فلماذا سأل النبي موسى (عليه السلام) هذا السؤال، مع أنه كان من أنبياء أولي العزم؟ فضلا عن قبح هذا السؤال لو صدر من إنسان عادي.
عالم الدين: يحتمل أن يكون طلب موسى (عليه السلام)، مشاهدة اللّه بعين القلب، لا المشاهدة بالعين، وكان الغرض من طلبه هذا، الحضور والشهود الكامل الفكري والروحي، فيعني إلهي اجعل قلبي مملوءا باليقين، حتى كأني أراك، وكثيرا ما يستعمل لفظ الرؤية في هذا السياق، كقولنا: إني أرى في نفسي القدرة على فعل ذلك العمل، مع أن القدرة، ليست قابلة للرؤية، فالمراد أن هذه الحالة واضحة في نفسي.
الجامعي: هذا التفسير خلاف ظاهر الآية، لأن الظاهر من لفظ «أرني» هو الرؤية بالعين، كما أن جواب اللّه سبحانه قائلا: (لَنْ تَرَانِي) ، يفهم منه أن طلب موسى (عليه السلام) كان المشاهدة بالعين، ولو كان المشاهدة الباطنية، بالشهود الكامل
ص: 90
الروحي والفكري، لما كان جواب اللّه لطلب موسى (عليه السلام) بالنفي، لأن اللّه يهدي هذا النوع من الشهود لأوليائه المرسلين.
عالم الدين: لو فرضنا أن طلب موسى (عليه السلام) هو رؤية الذات الإلهية المقدسة، حسب ما يقتضيه ظاهر العبارة، ولو أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ هذه الحادثة، لتبين أن طلب موسى (عليه السلام) كان من لسان قومه، بعد أن تعرض للضغوط من قبلهم.
وتوضيحه: أنه بعد هلاك فرعون ومن اتبعه ونجاة بني إسرائيل، ظهرت مواقف أخرى بين موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، منها أن جماعة من بني إسرائيل أصروا على موسى (عليه السلام) برؤية اللّه سبحانه، وإلا فلن يؤمنوا به، وأخيرا اضطر موسى أن يختار سبعين نفرا من بني إسرائيل، وأخذهم إلى الوادي المقدس (طور) (1)، وهناك طلب من الحضرة الربوبية هذا الطلب.
فأوحى اللّه إلى موسى (عليه السلام): (لَنْ تَرَانِي) (2) وبهذا الجواب اتضح لبني
ص: 91
إسرائيل كل شئ، لذلك يكون طلب موسى (عليه السلام) من لسان قومه نتيجة لإصرارهم وضغطهم عليه، وحينما أرسل اللّه الزلزلة والصاعقة إلى المرافقين لموسى والبالغ عددهم سبعين نفرا وهلاكهم، قال موسى (عليه السلام) مخاطبا ربه: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) (1).
فأجابه اللّه تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (2).
فالتجلي الإلهي على الجبل، لأجل رؤية الآثار الإلهية، كأمواج الصاعقة الشديدة، التي أدت إلى تلاشي الجبل، مما أدى إلى دهشة موسى (عليه السلام) وأصحابه، فاللّه سبحانه بهذه القدرة، أراد أن يفهم أصحاب موسى بعجزهم عن تحمل إحدى آثاره، فكيف النظر إلى الذات الإلهية المقدسة؟ فأنتم أعجز من رؤيته بالعين، التي هي جسم مادي، في حين أن اللّه مجرد مطلق.
وبهذا التجلي الإلهي، رأى أصحاب موسى (عليه السلام) اللّه تعالى بعين القلب، وأدركوا عدم قابليتهم على رؤيته بالعين المادية، وكانت توبة موسى (عليه السلام)، كطلبه الرؤية نيابة عن قومه، ولأجل رفع الشبهة، كان من اللازم على موسى (عليه السلام) أن يظهر إيمانه ليعلم أصحابه أنه لم يطلب طلبا مخالفا لإيمانه مطلقا، بل عرض هذا الطلب كممثل عنهم.
الجامعي: أشكرك على توضيحاتك، لقد اقتنعت، وأرجو بهذه
ص: 92
التوضيحات المنطقية، أن تحل بقية الشبهات، لدي هناك شبهة أخرى وبعون اللّه سوف أطرحها عليكم في الجلسة القادمة.
عالم الدين: من اللطيف، أن أغلب مفسري السنة، في ذيل تفسير «آية الكرسي» 255 من سورة البقرة، قد ذكروا طلبا لموسى (عليه السلام) شبيها بهذا الطلب، وإليك خلاصته: رأى موسى (عليه السلام) الملائكة في عالم النوم، فسألهم، هل اللّه ينام؟ فأوحى اللّه لملائكته، بأن لا تجعلوا موسى (عليه السلام) ينام، فأيقظت الملائكة موسى (عليه السلام) ثلاث مرات من نومه وكانوا يراقبوه حتى لا ينام، فحينما أحس موسى بالتعب الشديد والاحتياج المبرم للنوم، أعطي بيد موسى قنينتين مملوءتين بالماء على أن يحمل في كل يد قنينة مملوءة بالماء طبقا للوحي الإلهي، فلما تركوه ولم يراقبوه سقطت القنينتين من يديه وانكسرتا.
فأوحى اللّه إلى موسى (عليه السلام): بقدرتي جعلت السماوات والأرض، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا (1).
وهنا يطرح هذا السؤال، كيف يسأل موسى (عليه السلام) الملائكة هذا السؤال مع أنه رسول اللّه، ويعلم أن اللّه لا يكون في معرض العوارض الجسمية، كالنوم.
فأجاب الفخر الرازي عن هذا السؤال: « على فرض صحة الرواية، لا بد من القول أن سؤال موسى (عليه السلام) كان من لسان قومه الجهلة (2).
وبعبارة أوضح: تعرض موسى (عليه السلام) تحت ضغط وإصرار قومه الجهلة،
ص: 93
وسأل اللّه هذا السؤال، حتى أظهر اللّه آثارا أدت إلى هداية قومه، وكسر القناني من يد موسى (عليه السلام)، وإن كانت حادثة بسيطة، ولكن لأجل تفهيم العوام، فهي حادثة عميقة وجالبة وكاملة.
ويمكن القول أيضا، عن وجود أفراد من قوم موسى (عليه السلام) أبرزوا هذا النوع من التشكيك والسؤال، وقام موسى (عليه السلام) لأجل هدايتهم، أن يطرح تلك الأسئلة على اللّه سبحانه وتعالى، ليكون جواب اللّه سبحانه منقذا قومه من الضلالة. (1)
ص: 94
ص: 95
ص: 96
المناظرة الثانية عشر: مناظرة الإمام الباقر (عليه السلام) مع هشام بن عبد الملك (1) في حال الناس يوم القيامة
روي عن عبد الرحمن بن عبد الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك، فدخل المسجد الحرام متكيا على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) جالس في المسجد فقال له سالم: يا أمير المؤمنين! هذا محمد بن علي بن الحسين.
فقال له هشام: المفتون به أهل العراق؟
قال: نعم.
قال: إذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام): يحشر الناس على مثل قرصة البر النقي، فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب.
ص: 97
قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به، فقال: اللّه أكبر اذهب إليه فقل له: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟! فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فهم في النار أشغل، ولم يشغلوا عن أن قالوا:
(أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) (1).
فسكت هشام لا يرجع كلاما (2).
ص: 98
كبقاء اللّه، ومحال أن يبقوا كذلك؟ فقال هشام: إن أهل الجنة يبقون بمبق لهم، واللّه يبقى بلا مبق، وليس هو كذلك.
فقال: محال أن يبقوا للأبد.
قال: قال: ما يصيرون؟
قال: يدركهم الخمود.
قال: فبلغك أن في الجنة ما تشتهي الأنفس (1)
2 - قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) فصلت: 31(2)؟
قال: نعم.
قال: فإن اشتهوا أو سألوا ربهم بقاء الأبد.
قال: إن اللّه تعالى لا يلهمهم ذلك.
قال: فلو أن رجلا من أهل الجنة نظر إلى ثمرة على شجرة، فمد يده ليأخذها فتدلت إليه الشجرة والثمار، ثم حانت منه لفتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها، فمد يده اليسرى ليأخذها فأدركه الخمود، ويداه متعلقتان بشجرتين، فارتفعت الأشجار وبقي هو مصلوبا، فبلغك أن في الجنة
ص: 100
مصلوبين؟!
قال: هذا محال!
قال: فالذي أتيت به أمحل منه، أن يكون قوم قد خلقوا وعاشوا، فأدخلوا الجنان، تموتهم فيها يا جاهل (1).
ص: 101
قال الشيخ الكراجكي - أعلى اللّه مقامه -: حضرت في سنة ثماني عشرة وأربعمائة مجلسا، فيه جماعة ممن يحب استماع الكلام، ومطلع نفسه فيه إلى السؤال، فسألني أحدهم، فقال: كيف يصح لكم القول بالعدل، والاعتقاد بأن اللّه تعالى لا يجوز عليه الظلم؟ مع قولكم أنه سبحانه يعذب الكافر في يوم القيامة بنار الأبد، عذابا متصلا غير منقطع، وما وجه الحكمة والعدل في ذلك؟
وقد علمنا أن هذا الكافر وقع منه كفره في مدة متناهية، وأوقات محصورة، وهي مائة سنة في المثل، وأقل وأكثر، فكيف جاز في العدل عذابه أكثر من زمان كفره؟
وألا زعمتم أن عذابه متناه كعمره، ليستمر القول بالعدل، وتزول مناقضتكم لما تنفون عن اللّه تعالى من الظلم.
الجواب:
فقلت له: سألت فافهم الجواب، اعلم أن الحكمة لما اقتضت الخلق والتكليف، وجب أن يرغب العبد فيما أمره به من الإيمان بغاية الترغيب، ويزجره عما نهى عنه في الكفر بغاية التخويف والترهيب، ليكون ذلك أدعى له
ص: 102
إلى فعل المأمور به، وأزجر له عن ارتكاب المنهي عنه.
وليس غاية الترغيب إلا الوعد بالنعيم الدائم المقيم، ولا يكون غاية التخويف والترهيب، إلا التوعيد بالعذاب الخالد الأليم، وخلف الخبر كذب، والكذب لا يجوز على الحكيم، فبان بهذا الوجه، أن تخليد الكافر في العذاب الدائم، ليس بخارج عن الحكمة، والقول به مناقض للأدلة.
فقال صاحب المجلس: قد أتيت في جوابك بالصحيح الواضح، غير أنا نظن بقية في السؤال، تطلع نفوسنا إلى أن نسمع عنها الجواب، وهي: أن الحال أفضت إلى ما ينفر منه العقل، وهو أن عذاب أوقات غير محصورة، يكون مستحقا على ذنوب مدة متناهية محصورة.
فقلت له: أجل، إن الحال قد أفضت إلى أن الهالك على كفره، يعذب بعذاب تقدير زمانه أضعاف زمان عمره، وهذا هو السؤال بعينه، وفي مراعاة ما أجبت به عنه بيان أن العقل لا يشهد به، ولا ينفر منه، على أنني آت بزيادة في الجواب مقنعة في هذا الباب.
فأقول: إن المعاصي تتعاظم في نفوسنا على قدر نعم المعصي بها، ولذلك عظم عقوق الولد لوالده لعظم إحسان الوالد عليه، وجلت جناية العبد على سيده، لجليل إنعام السيد عليه، فلما كانت نعم اللّه تعالى أعظم قدرا، وأجل أثرا من أن توفى بشكر، أو تحصى بحصر، وهي الغاية في الإنعام، الموافق لمصالح الأنفس والأجسام، كان المستحق على الكفر به، وجحده إحسانه ونعمه، هو غاية الآلام، وغايتها هو الخلود في النار.
فقال رجل ينتمي إلى الفقه كان حاضرا: قد أجاب صاحبنا الشافعي عن هذه المسألة بجوابين، هما أجلى وأبين مما ذكرت.
ص: 103
قال له السائل: وما هما؟
قال: أما أحدهما فهو أن اللّه سبحانه، كما ينعم في القيامة على من وقعت منه الطاعة في مدة متناهية بنعيم لا آخر له ولا غاية، وجب قياسا على ذلك أن يعذب من وقعت منه المعصية في زمان محصور متناه، بعذاب دائم غير منقض ولا متناه.
قال: والجواب الآخر، أنه خلد الكفار في النار لعلمه أنهم لو بقوا أبدا لكانوا كفارا. (1)
فاستحسن السائل هذين الجوابين منه استحسانا مفرطا، إما لمغايظتي بذلك، أو لمطابقتهما ركاكة فهمه.
فقال صاحب المجلس: ما تقول في هذين الجوابين؟
فقلت: اعفني من الكلام، فقد مضى في هذه المسألة ما فيه كفاية.
فأقسم علي وناشدني.
فقلت: إن المعهود من الشافعي والمحفوظ منه كلامه في الفقه وقياسه في الشرع، أما أصول العبادات والكلام في العقليات فلم تكن من صناعته، ولو كانت له في ذلك بضاعة لاشتهرت، إذ لم يكن خامل الذكر، فمن نسب إليه الكلام فيما لا يعلمه على طريق القياس والجواب، فقد سبه، من حيث أن فساد هذين
ص: 104
الجوابين لا يكاد يخفى عمن له أدنى تحصيل.
أما الأول منهما وهو: مماثلته بيت إدامة الثواب والعقاب، فإنه خطأ في العقل والقياس، وذلك أن مبتدئ النعم المتصلة في تقدير زمان أكثر من زمان الطاعة، إن لم يكن ما يفعله مستحقا، كان تفضلا، ولا يقال للمتفضل المحسن: لم تفضلت وأحسنت، ولا للجواد المنعم، لم جدت وأنعمت.
وليس كذلك المعذب على المعصية في تقدير زمان زائد على زمانها، لأن ذلك إن لم يكن مستحقا كان ظلما، تعالى اللّه عن الظلم، فالمطالبة بعلة المماثلة بين الموضعين لازمة، والمسألة مع هذا الجواب عما يوجب التخليد قائمة. والعقلاء مجمعون على أن من أعطى زيدا على فعله أكثر من مقدار أجره، فليس له - قياسا على ذلك - أن يعاقب عمرا على ذنبه بأضعاف ما يجب في جرمه.
وأما جوابه الثاني فهو وإن كان ذكره بعض الناس، لاحق بالأول في السقوط، لأنه لو كان تعذيب اللّه عز وجل للكافر بعذاب الأبد، إنما هو لأنه علم منه أنه لو بقي أبدا كافرا، لكان إنما عذبه على تقدير كفر لم يفعله، وهذا هو الظلم في الحقيقة، الذي يجب تنزيه اللّه تعالى عنه، لأن العبد لم يفعل الكفر إلا مدة محصورة (1).
ص: 105
وقد اقتضى هذا الجواب أن تعذيبه الزائد على مدة كفره هو عذاب على ما لم يفعله، ولو جاز ذلك لجاز أن يبتدئ خلقا، ثم يعذبه من غير أن يبقيه ويقدره، ويكلفه، إذا علم منه أنه إذا أبقاه، وأقدره، وكلفه، كان كافرا جاحدا لأنعمه، وقد أجمع أهل العدل على أن ذلك لا يجوز منه سبحانه، وهو كالأول بعينه في العذاب، للعلم بالكفر قبل وجوده، لا على ما فعله وأحدثه، وقبحها يشهد العقل به ويدل عليه، تعالى اللّه عن إضافة القبيح إليه.
فعلم أنه لا يعتبر في الجواب عن هذا السؤال بما أورده هذا الحاكي عن الشافعي، وأن المصير إلى ما قدمناه من الجواب عنه أولى، والحمد لله.
فلما سمع المتفقه طعني فيما أورده، وقولي إن الشافعي ليس من أهل العلم بهذه الصناعة، ولا له فيها بضاعة، ظهرت إمارات الغضب في وجهه، وتعذر عليه نصرة ما جاء به، كما تعذر عليه وعلى غيره ممن حضر القدح فيما كنت أجبت به، فتعمد لقطع ما كنا فيه بحديث ابتداه لا يليق بالمجلس ولا يقتضيه.
فبينا نحن كذلك إذ حضر رجل، كانوا يصفونه بالمعرفة، وينسبونه إلى الاصطلاح بالفلسفة، فلما استقر به المجلس، حكوا له السؤال، وبعض ما جرى فيه من الكلام.
فقال الرجل: هذا سؤال يلزم الكلام فيه، ويجب على من أقر بالشريعة، طلب جواب صحيح عنه، يعتمد عليه.
ص: 106
ثم سألوني الرجوع إلى الكلام والإعادة لما سلف لي من الجواب، ليسمع ذلك الرجل الحاضر.
فقلت له: ألا سألتم الفقيه إعادة ما كان أورده لعله أن يرضى هذا الشيخ إذا سمعه، وعنيت بالفقيه، الحاكي عن الشافعي؟
قالوا: قد تبين لنا فساد ما أجاب به، ولا حاجة بنا إلى إشغال الزمان بإعادته.
قلت: فأنا مجيبكم إلى الكلام، وسالك غير الطريقة الأولى في الجواب، لعل ذلك أن يكون أسرع لزوال اللبس، وأقرب إلى سكون النفس، إن وجدت منكم مع الاستماع حسن إنصاف.
قالوا: نحن مستمعون لك غير جاحدين لحق يظهر في كلامك.
فقلت: كان السؤال عن وجه العدل والحكمة في تعذيب اللّه عز وجل لمن مات وهو كافر بالعذاب الدائم، الذي تقدير زمانه لا ينحصر، وقد وقع من العبد كفره في مبلغ عمره المتناهي.
والجواب عن ذلك:
أن العذاب المجازى به على المعصية، كائنة ما كانت، لا كلام بيننا في استحقاقه، وإنما الكلام في اتصاله وانقطاعه، فلا يخلو المعتبر في ذلك أن يكون هو الزمان الذي وقعت المعصية فيه ومقداره وتناهيه، أو المعصية في نفسها وعظمها من صغرها.
فلو كانت مدة هي المعتبرة، وكانت يجب تناهي العذاب لأجل تناهيها في نفسها، لوجب أن يكون تقدير زمان العقاب عليها بحسبها وقدرها، حتى لا
ص: 107
يتجاوزها ولا يزيد عليها.
وهذا حكم يقضي الشاهد بخلافه، ويجمع العقلاء على فساده، فكم قد رأينا فيما بيننا معصية قد وقعت في مدة قصيرة، كان المستحق من العقاب عليها يحتاج إلى أضعاف تلك المدة، ورأينا معصيتين، تماثل في القدر زمانهما، واختلف زمان العقاب المستحق عليهما، كعبد شتم سيده، فاستحق من الأدب على ذلك أضعاف ما يستحقه إذا شتم عبدا مثله، وإن كان زمان الشتمين متماثلا.
فالمستحق عليهما من الأدب والعقاب يقع في زمان غير متماثل، ولو لم يكن في هذا حجة إلا ما نشاهده من هجران الوالد أياما كثيرة لولده على فعل، وقع في ساعة واحدة منه، مع تصويب كافة العقلاء للوالد في فعله، بل لو لم يكن فيه إلا جواز حبس السيد فيما بيننا لعبده زمانا طويلا على خطيئته.
وكذلك الإمام العادل لمن يرى من رعيته، لكان فيه كفاية في وضح الدلالة، وليس يدفع الشاهد إلا مكابر معاند، فعلم مما ذكرناه أنه لا يعتبر فيما يستحق على المعصية بقدر زمانها، ولا يجب أن يماثل وقت الجزاء عليها لوقتها، ووجب أن يكون المرجع إليها نفسها، فبعظمها يعظم المستحق عليها، سواء أطال الزمان أو قصر، اتصل أم انقطع، وجد فكان محققا، أو عدم فكان مقدرا، والحمد لله.
فلما سمع القوم مني هذا الكلام، وتأملوا ما تضمنه من الإفصاح والبيان، وتمثيلي بالمتعارف من الشاهد والعيان، لم يسعهم غير الإقرار للحق والإذعان والتسليم في جواب السؤال لما أوجبه الدليل والبرهان، والحمد لله الموفق للصواب، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين.
زيادة في المسألة:
ص: 108
وقد احتج من نصر الجواب الثاني المنسوب إلى الشافعي بقول اللّه تعالى:
(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1)، وجعل ذلك دلالة على أنه عذبهم بعذاب الأبد، لعلمه بذلك من حالهم، وليس في هذه الآية دلالة على ما ظن، وإنما هي مبنية على باطن أمرهم، ومكذبة لهم فيما يكون في القيامة من قولهم، وما قبل الآية تتضمن وصف ذلك من حالهم، وهو قوله تعالى سبحانه:
(إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (2)، فقال اللّه سبحانه: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (3).
هذا: لما تمنوا الرجوع إلى دار التكليف، وليس فيه إخبار بأنه عذبهم لما علمه منهم أن لو أعادهم، حسبنا اللّه ونعم الوكيل (4).
ص: 109
ص: 110
ص: 111
ص: 112
المناظرة الخامسة عشر مناظرة ابن حازم
المناظرة الخامسة عشر مناظرة ابن حازم (1) مع بعضهم في أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم روي عن صفوان بن يحيى عن أبي حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إني ناظرت قوما (2) فقلت: ألستم تعلمون أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) هو الحجة من اللّه على الخلق، فحين ذهب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من كان الحجة بعده؟
ص: 113
فقالوا: القرآن.
فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم فيها المرجي والحروري والزنديق الذي لا يؤمن حتى يغلب الرجل خصمه، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، ما قال فيه من شئ كان حقا.
قلت: فمن قيم القرآن؟
قالوا: قد كان عبد اللّه بن مسعود وفلان وفلان وفلان يعلم.
قلت: كله؟
قالوا: لا.
فلم أجد أحدا يقال: إنه يعرف ذلك كله إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإذا كان الشئ بين القوم، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، فأشهد أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان قيم القرآن، وكانت طاعته مفروضة، وكان حجة بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على الناس كلهم، وإنه (عليه السلام) ما قال في القرآن فهو حق.
فقال - يعني الإمام الصادق (عليه السلام) -: رحمك اللّه.
فقبلت رأسه، وقلت: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حجة من بعده، وإن الحجة من بعد علي (عليه السلام) الحسن بن علي (عليه السلام)، وأشهد على الحسن بن علي (عليه السلام) أنه كان الحجة وأن طاعته مفترضة.
فقال: رحمك اللّه.
فقبلت رأسه، وقلت: أشهد على الحسن بن علي (عليه السلام) إنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده، كما ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأبوه، وأن الحجة بعد الحسن (عليه السلام)
ص: 114
الحسين بن علي (عليه السلام)، وكانت طاعته مفترضة.
فقال: رحمك اللّه.
فقبلت رأسه، وقلت: وأشهد على الحسين بن علي (عليه السلام) إنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده، وأن الحجة من بعد علي بن الحسين (عليه السلام)، وكانت طاعته مفترضة.
فقال: رحمك اللّه.
فقبلت رأسه، وقلت: وأشهد على علي بن الحسين (عليه السلام) إنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده، وأن الحجة من بعد محمد بن علي أبو جعفر (عليه السلام)، وكانت طاعته مفترضة.
فقال: رحمك اللّه.
قلت: أصلحك اللّه أعطني رأسك، فقبلت رأسه، فضحك.
فقلت: أصلحك اللّه قد علمت أن أباك (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك من بعده كما ترك أبوه، فأشهد باللّه أنك أنت الحجة من بعده، وأن طاعتك مفترضة.
فقال: كف رحمك اللّه.
قلت: أعطني رأسك أقبله، فضحك!
قال (عليه السلام) سلني عما شئت؟ فلا أنكرك بعد اليوم أبدا (1).
ص: 115
المناظرة السادسة عشر: مناظرة الشيخ معتصم سيد أحمد السوداني مع الشيخ أحمد الأمين في صيانة القرآن عن التحريف (1) قال الشيخ معتصم السوداني - في معرض كلامه عما جرى له مع بعض أولئك الذين ينالون من الشيعة -: وجرى حوار بيني وبين شيخهم - أحمد الأمين - وطلبت منه العقلانية وترك الاستهتار والتهجم دون جدوى، وبعدما طفح الكيل وازداد تعنتهم وتعصبهم ذهبت إلى مسجدهم وصليت خلفه صلاة الظهر، وبعد الانتهاء من الصلاة سألته: هل تعرضت لك يوما طوال هذه المدة، التي تسب فيها الشيعة وتكفرهم بمكبرات الصوت؟!
قال: لا.
قلت: أو تدري ما السبب؟!
قال: لا أدري.
قلت: إن كلامك تهجم وجهل، وتعرض لشخصيتي، فخفت أن أعترض
ص: 116
عليك فيكون ذلك دفاعا عن نفسي، وليس دفاعا عن الحق، والآن أطلب منك مناظرة علمية ومنهجية أمام الجميع حتى ينكشف الحق.
قال: لا مانع عندي.
قلت: إذا حدد محاور المناظرة.
قال: تحريف القرآن، وعدالة الصحابة.
قلت: حسنا، ولكن هناك أمران ضروريان لا بد من مناقشتهما، وهما صفات اللّه، والنبوة في اعتقادكم ورواياتكم.
قال: لا.
قلت: ولم؟
قال: أنا أحدد المحاور، فإذا طلبت منك - أنا - المناظرة، يكون الحق لك في تحديد المحاور.
قلت: لا خلاف... متى موعدنا؟
قال: اليوم، بعد صلاة المغرب - ظنا منه أنه سيرهبني بهذا الموعد القريب - فأظهرت موافقتي بكل سرور، وخرجت من المسجد.
وبعد أداء صلاة المغرب، بدأت المناظرة، فبدأ شيخهم - أحمد الأمين - الحديث كعادته يتهجم ويتهم الشيعة بالقول بتحريف القرآن، وكان يمسك في يده كتاب (الخطوط العريضة لمحب الدين).
وبعد الفراغ من حديثه، ابتدأت حديثي، وقمت بالرد على كل ما افتراه من اتهامات بالتفصيل، وبرأت الشيعة تماما من القول بتحريف القرآن، وبعد ذلك، قلت له كما قيل: ترون التبنة في أعين غيركم، ولا ترون الخشبة في أعينكم، فإن الروايات التي احتوتها كتب الحديث عند السنة ظاهرة في اتهام القرآن الكريم
ص: 117
بالتحريف، فنسبة القول بالتحريف إلى السنة أقرب منها إلى الشيعة. وذكرت ما يقارب عشرين رواية مع ذكر المصدر ورقم الصفحة من صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، مثال:
أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن أبي بن كعب قال: كم تقرأون سورة الأحزاب؟ قال: بضعا وسبعين آية، قال: لقد قرأتها مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مثل البقرة أو أكثر منها، وإن فيها آية الرجم (1).
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب، قال: إن اللّه بعث محمدا (صلى اللّه عليه وآله) بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللّه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه... إلى أن يقول: ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: (أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم) (2).
وروى مسلم في صحيحه، قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة، وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمر، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات
ص: 118
فأنسيتها، غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) (1).
وفي أثناء ذكري لهذه الروايات، لاحظت أن الشيخ حملق عينيه وفتح فاه وظهرت الحيرة والدهشة على وجهه، فما أن توقفت عن الكلام حتى أخذ يقول:
أنا لم أسمع بذلك وأنا لم أر ذلك، وأطالبك أن تحضر هذه المصادر أمامي.
قلت: قبل قليل كنت تتهجم على الشيعة وتتهمهم بالتحريف، فلماذا لم تحضر كتبهم التي لم ترها في حياتك كلها، فأنت ملزم بإحضار مصادرك وهذه مكتبتك، فيها البخاري ومسلم وكتب الحديث، أحضرها حتى أخرج لك هذه الروايات منها، وعندما لم يجد مخرجا قفز إلى موضوع آخر، وهو أن الشيعة تقول بالتقية فكيف نصدق كلامهم؟!
وهرج ومرج، حتى قام أحدهم وأذن لصلاة العشاء، وبعد الصلاة تواعدنا أن نكمل المناظرة في الأيام القادمة، على أن نختار في كل يوم موضوعا نتناظر حوله... ولما جاء الغد كنت جالسا أمام منزلنا في الصباح فمر الشيخ وسلم علي بكل احترام وقال: إن هذه المباحث لا يفهمها العامة، فمن الأفضل أن نتحاور ونتناظر أنا وأنت على انفراد.
قلت: أوافق، لكن بشرط أن تترك التهجم على الشيعة، وفيما بعد لم نسمع له تهجما على الشيعة.. (2)
ص: 119
المناظرة السابعة عشر مناظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الزبير (1) في حديث العشرة المبشرة بالجنة عن سليم بن قيس الهلالي قال: لما التقى أمير المؤمنين (عليه السلام) أهل البصرة
ص: 120
يوم الجمل نادى الزبير: يا أبا عبد اللّه أخرج إلي؟ فخرج الزبير ومعه طلحة، فقال لهما: واللّه إنكما لتعلمان، وأولوا العلم من آل محمد، وعائشة بنت أبي بكر، أن كل أصحاب الجمل ملعونون على لسان محمد (صلى اللّه عليه وآله)، وقد خاب من افترى!! قالا له: كيف نكون ملعونين، ونحن أصحاب بدر وأهل الجنة؟! فقال لهما علي (عليه السلام): لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم؟! فقال له الزبير: أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي: أنه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: «عشرة من قريش في الجنة» (1) فقال له علي (عليه السلام): سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته؟
فقال له الزبير: أفتراه كذب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
فقال له علي (عليه السلام): لست أخبرك بشئ حتى تسميهم؟!
ص: 121
قال الزبير: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل.
فقال له علي (عليه السلام): عددت تسعة فمن العاشر؟
قال له: أنت.
فقال له علي (عليه السلام): قد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فأنا به من الجاحدين الكافرين.
قال له الزبير: أفتراه كذب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ قال (عليه السلام): ما أراه كذب، ولكنه واللّه، اليقين... الخ (1).
ومما روي في محاورتهما أيضا يوم الجمل ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي بسنده عن عبد السلام - رجل من حية - قال: خلا علي (عليه السلام) بالزبير يوم الجمل فقال: أنشدك اللّه؟ هل سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وأنت لاوي يدي سقيفة بني فلان: لتقاتلنه وأنت ظالم له؟ ثم لينصرن عليك؟!
ثم قال: قد سمعته لا جرم، لا أقاتلك!
ومن طريق آخر بسنده عن أبي جرو المازني قال: سمعت عليا (عليه السلام) وهو ناشد الزبير، فقال: أنشدك اللّه يا زبير، أما سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: إنك تقاتلني وأنت ظالم؟!
قال: بلى، ولكني نسيت (2).
ص: 122
وفي رواية أخرى قال له: نشدتك اللّه! أتذكر يوم مررت بي ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) متكئ على يدك، وهو جاء من بني عوف، فسلم علي وضحك في وجهي، فضحكت إليه، لم أزده على ذلك، فقلت: لا يترك ابن أبي طالب يا رسول اللّه زهوه! فقال لك: مه إنه ليس بذي زهو، أما إنك ستقاتله وأنت له ظالم!!
فاسترجع الزبير وقال: لقد كان ذلك، ولكن الدهر أنسانيه، ولأنصرفن عنك، فرجع. (1)
وفي رواية ثالثة عن أبي مخنف في كتاب الجمل، قال: برز علي (عليه السلام) يوم الجمل، ونادى بالزبير: يا أبا عبد اللّه، مرارا، فخرج الزبير فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما، فقال له علي (عليه السلام): إنما دعوتك لأذكرك حديثا قاله لي ولك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي، فقال لك: أتحبه؟ قلت: وما لي لا أحبه وهو أخي وابن خالي! فقال: أما إنك ستحاربه وأنت ظالم له!
فاسترجع الزبير، وقال: أذكرتني ما أنسانيه الدهر، ورجع إلى صفوفه.
فقال له عبد اللّه ابنه: لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به!
فقال: أذكرني علي (عليه السلام) حديثا أنسانيه الدهر، فلا أحاربه أبدا، وإني لراجع وتارككم منذ اليوم.
فقال له عبد اللّه: ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب، إنها لسيوف حداد، تحملها فتية أنجاد.
ص: 123
فقال الزبير: ويلك! أتهيجني على حربه، أما إني قد حلفت ألا أحاربه!
قال: كفر عن يمينك، لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت، وما كنت جبانا؟!
فقال الزبير: غلامي مكحول حر، كفارة عن يميني (1) ثم انصل سنان رمحه، وحمل على عسكر علي (عليه السلام) برمح لا سنان له.
فقال علي (عليه السلام): أفرجوا له، فإنه مخرج، ثم عاد إلى أصحابه، ثم حمل ثانية، ثم ثالثة، ثم قال لابنه: أجبنا ويلك ترى!
فقال: لقد أعذرت.
قال أبو مخنف: لما أذكر علي (عليه السلام) الزبير بما أذكره به ورجع الزبير، قال:
نادى علي بأمر لست أنكره *** وكان عمر أبيك الخير مذ حين
فقلت حسبك من عذل أبا حسن *** بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني
ترك الأمور التي تخشى مغبتها *** واللّه أمثل في الدنيا وفي الدين
فاخترت عارا على نار مؤججة *** أنى يقوم لها خلق من الطين
قال: لما خرج علي (عليه السلام) لطلب الزبير، خرج حاسرا، وخرج إليه الزبير
ص: 124
دارعا مدججا، فقال للزبير: يا أبا عبد اللّه، قد لعمري أعددت سلاحا، وحبذا! فهل أعددت عند اللّه عذرا؟!
فقال الزبير: إن مردنا إلى اللّه؟
قال علي (عليه السلام): (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (1)، ثم أذكره الخبر، فلما كر الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما، رجع علي (عليه السلام) إلى أصحابه جدلا مسرورا، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، تبرز إلى الزبير حاسرا، وهو شاك في السلاح، وأنت تعرف شجاعته!
قال: إنه ليس بقاتلي، إنما يقتلني رجل خامل الذكر، ضئيل النسب غيلة في غير مأقط (2) حرب، ولا معركة رجال، ويل أمه أشقى البشر، ليودن أن أمه هبلت به! أما إنه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن (3).
ص: 125
روي أن المأمون بعدما تزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر (عليه السلام)، كان في مجلس وعنده أبو جعفر (عليه السلام) ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة.
فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول اللّه في الخبر الذي روي: أنه نزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقال: يا محمد! إن اللّه عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض. (1)
فقال أبو جعفر (عليه السلام): لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب اللّه عز وجل وسنتي، فما
ص: 126
وافق كتاب اللّه وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب اللّه وسنتي فلا تأخذوا به (1) وليس يوافق هذا الخبر كتاب اللّه، قال اللّه تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (2) فاللّه عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره؟ هذا مستحيل في العقول!
ثم قال يحيى بن أكثم: وقد روي: أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء (3).
فقال (عليه السلام): وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا اللّه قط، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا باللّه عز وجل وإن أسلما بعد الشرك، فكان أكثر أيامهما الشرك باللّه فمحال أن يشبههما بهما.
قال يحيى: وقد روي أيضا: أنهما سيدا كهول أهل الجنة (4) فما تقول فيه؟
ص: 127
فقال (عليه السلام): وهذا الخبر محال أيضا، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبانا ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في الحسن والحسين (عليهما السلام) بأنهما سيدا شباب أهل الجنة. (1)
فقال يحيى بن أكثم: وروي: أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة. (2)
فقال (عليه السلام): وهذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة اللّه المقربين، وآدم ومحمد (صلى اللّه عليه وآله) وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ
ص: 128
بنور عمر؟! فقال يحيى بن أكثم: وقد روي: أن السكينة تنطق على لسان عمر. (1)
فقال (عليه السلام): لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر، فقال - على رأس المنبر -: «إن لي شيطانا يعتريني، فإذا ملت فسددوني» (2).
فقال يحيى: قد روي أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: «لو لم أبعث لبعث عمر». (3)
ص: 129
فقال (عليه السلام): كتاب اللّه أصدق من هذا الحديث، يقول اللّه في كتابه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) (1) فقد أخذ اللّه ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، وكل الأنبياء (عليهم السلام) لم يشركوا باللّه طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك باللّه، وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): بعثت وآدم بين الروح والجسد (2).
فقال يحيى بن أكثم: وقد روي أيضا أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: ما احتبس عني
ص: 130
الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب. (1) فقال (عليه السلام): وهذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي (صلى اللّه عليه وآله) في نبوته، قال اللّه تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) (2) فكيف يمكن أن تنتقل النبوة مما اصطفاه اللّه تعالى إلى من أشرك به.
قال يحيى: روي أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: لو نزل العذاب لما نجى منه إلا عمر (3).
فقال (عليه السلام) وهذا محال أيضا، لأن اللّه تعالى يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (4) فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وما داموا يستغفرون اللّه (5).
ص: 131
ص: 132
ص: 133
ص: 134
روي عن أبي محمد الحسن العسكري (عليهما السلام) أنه قال: كان علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) جالسا في مجلسه، فقال يوما في مجلسه: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لما أمر بالمسير إلى تبوك، أمر بأن يخلف عليا بالمدينة، فقال علي (عليه السلام): يا رسول اللّه! ما كنت أحب أن أتخلف عنك في شئ من أمورك، وأن أغيب عن مشاهدتك والنظر إلى هديك وسمتك.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): يا علي! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1)، تقيم يا علي وإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول اللّه، ولك مثل أجور كل من خرج مع رسول اللّه موقنا طائعا، وإن لك على اللّه يا علي لمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله، بأن يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأض التي نسير عليها، والأرض التي تكون أنت عليها، ويقوي بصرك حتى تشاهد محمدا وأصحابه في سائر أحوالك وأحوالهم، فلا يفوتك الأنس من رؤيته ورؤية أصحابه، ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة.
ص: 135
فقام رجل من مجلس زين العابدين (عليه السلام) لما ذكر هذا، وقال له: يا بن رسول اللّه! كيف يكون هذا لعلي؟ إنما يكون هذا للأنبياء لا لغيرهم.
فقال زين العابدين (عليه السلام): هذا هو معجزة لمحمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا لغيره، لأن اللّه تعالى إنما رفعه بدعاء محمد، وزاد في نور بصره أيضا بدعاء محمد، حتى شاهد ما شاهد وأدرك ما أدرك.
ثم قال له الباقر (عليه السلام): يا عبد اللّه! ما أكثر ظلم كثير من هذه الأمة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأقل إنصافهم له؟! يمنعون عليا ما يعطونه ساير الصحابة، وعلي أفضلهم، فكيف يمنع منزلة يعطونها غيره؟!
قيل: وكيف ذاك يا بن رسول اللّه؟
قال: لأنكم تتولون محبي أبي بكر بن أبي قحافة، وتبرؤون من أعدائه كائنا من كان، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب، وتتبرؤون من أعادئه كائنا من كان، وتتولون عثمان بن عفان، وتتبرؤون من أعادئه كائنا من كان، حتى إذا صار إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قالوا: نتولى محبيه، ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم!! فكيف يجوز هذا لهم، ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول في علي (عليه السلام): اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله » (1) أفترونه لا يعادي من عاداه؟! ولا يخذل من يخذله؟! ليس هذا بإنصاف (2)!!
ص: 136
ثم أخرى: أنهم إذا ذكر لهم ما اختص اللّه به عليا (عليه السلام) بدعاء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وكرامته على ربه تعالى جحدوه، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة،
ص: 137
فما الذي منع عليا (عليه السلام) ما جعله لسائر أصحاب رسول اللّه؟ هذا عمر بن الخطاب، إذا قيل لهم: إنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية (1) الجبل! عجبت الصحابة وقالوا: ما هذا الكلام الذي في هذه الخطبة؟ فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا: ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل؟
فقال: اعلموا أني وأنا أخطب إذ رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزو الكافرين بنهاوند، وعليهم سعد بن أبي وقاص، ففتح اللّه لي الأستار والحجب، وقوي بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك، وقد جاء بعض الكفار ليدور خلف سارية، وسائر من معه من المسلمين، فيحيطوا بهم فيقتلوهم، فقلت: يا سارية الجبل، ليلتجئ إليه، فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به، ثم يقاتلوا، ومنح اللّه إخوانكم المؤمنين أكناف الكافرين، وفتح اللّه عليهم بلادهم، فاحفظوا هذا الوقت، فسيرد عليكم الخبر بذلك، وكان بين المدينة ونهاوند مسيرة أكثر من خمسين يوما.
قال الباقر (عليه السلام): فإذا كان مثل هذا لعمر، فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)؟! ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون (2).
ص: 138
الكليني: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن داود اليعقوبي، عن عيسى بن عبد اللّه العلوي، قال:
وحدثني الأسيدي ومحمد بن مبشر أن عبد اللّه بن نافع الأزرق كان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحدا تبلغني إليه المطايا، يخصمني أن عليا قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم، لرحلت إليه.
فقيل له: ولا ولده؟
فقال: أفي ولده عالم؟
فقيل له: هذا أول جهلك، وهم يخلون من عالم؟!
قال: فمن عالمهم اليوم؟
قيل: محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام).
قال: فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة، فاستأذن على أبي جعفر (عليه السلام).
فقيل له: هذا عبد اللّه بن نافع.
فقال: وما يصنع بي وهو يبرء مني ومن أبي طرفي النهار.
ص: 139
فقال له أبو بصير الكوفي: جعلت فداك إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحدا تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليا (عليه السلام) قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أتراه جاءني مناظرا؟ قال: نعم.
قال: يا غلام اخرج فحط رحله وقل له: إذا كان الغد فأتنا.
قال: فلما أصبح عبد اللّه بن نافع غدا في صناديد أصحابه، وبعث أبو جعفر (عليه السلام) إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم خرج إلى الناس في ثوبين ممغرين، وأقبل على الناس كأنه فلقة قمر، فقال: الحمد لله محيث الحيث، ومكيف الكيف، ومؤين الأين، الحمد لله الذي (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) إلى آخر الآية (1) - وأشهد أن لا إله إلا اللّه [وحده لا شريك له] وأشهد أن محمدا (صلى اللّه عليه وآله) عبده ورسوله، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته، واختصنا بولايته، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فليقم وليتحدث؟
قال: فقام الناس فسردوا تلك المناقب.
فقال عبد اللّه: أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين - حتى انتهوا في المناقب إلى حديث خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى
ص: 140
يفتح اللّه على يديه (1).
فقال أبو جعفر (عليه السلام): ما تقول في هذا الحديث؟
فقال: هو حق لا شك فيه، ولكن أحدث الكفر بعد.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن اللّه عز وجل أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال ابن ناقع: أعد علي؟! فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن اللّه جل ذكره أحب علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم أحبه، وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال: إن قلت: لا، كفرت. قال: فقال: قد علم.
قال: فأحبه اللّه على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟ فقال: على أن يعمل بطاعته.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فقم مخصوما.
فقام وهو يقول: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (2)، واللّه أعلم حيث يجعل رسالته. (3)
ص: 141
عن الريان بن الصلت (1) قال: حضر الرضا (عليه السلام) مجلس المأمون بمرو (2) وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان.
فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (3).
فقالت العلماء: أراد اللّه عز وجل بذلك الأمة كلها.
ص: 142
فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟
فقال الرضا (عليه السلام): لا أقول كما قالوا ولكني أقول: أراد اللّه عز وجل بذلك العترة الطاهرة (1).
فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟
فقال الرضا (عليه السلام): إنه لو أراد الأمة لكانت أجمعها في الجنة لقول اللّه عز وجل: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (2)، ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عز وجل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (3) الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.
فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟
فقال الرضا (عليه السلام): الذين وصفهم اللّه في كتابه فقال عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (4) وهم الذين قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلموهم
ص: 143
فإنهم أعلم منكم (1).
قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة أهم الآل أم غير الآل؟
فقال الرضا (عليه السلام): هم الآل.
فقالت العلماء: فهذا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يؤثر عنه أنه قال: أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لا يمكن دفعه، (آل محمد أمته).
فقال أبو الحسن (عليه السلام): أخبروني فهل تحرم الصدقة على الآل؟
فقالوا: نعم.
قال: فتحرم على الأمة.
قالوا: لا.
قال: هذا فرق بين الآل والأمة، ويحكم أين يذهب بكم؟ أضربتم عن الذكر صفحا أم أنتم قوم مسرفون؟ أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم؟
قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟
فقال من قول اللّه عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي
ص: 144
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (1) فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين، أما علمتم أن نوحا حين سأل ربه عز وجل: (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (2) وذلك - أن اللّه عز وجل وعده أن ينجيه وأهله فقال ربه عز وجل:
(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (3).
فقال المأمون: هل فضل اللّه العترة على سائر الناس؟
فقال أبو الحسن: إن اللّه عز وجل أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه.
فقال له المأمون: وأين ذلك من كتاب اللّه؟
فقال له الرضا (عليه السلام): في قول اللّه عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (4).
وقال عز وجل في موضع آخر: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (5) ثم
ص: 145
رد المخاطبة في أثر هذه إلى سائر المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (1) يعني الذي قرنهم بالكتاب والحكمة وحسدوا عليهما فقوله عز وجل: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين فالملك هنا هو الطاعة لهم.
فقالت العلماء: فأخبرنا هل فسر اللّه عز وجل الاصطفاء في الكتاب؟
فقال الرضا - عليه السلام -: فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موطنا وموضعا.
فأول ذلك قوله عز وجل: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (2) ورهطك
ص: 146
المخلصين هكذا في قراءة أبي بن كعب وهي ثابتة في مصحف عبد اللّه بن مسعود، وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال حين عنى اللّه عز وجل بذلك الإنذار فذكره لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فهذه واحدة.
والآية الثانية في الاصطفاء قوله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) وهذا الفضل الذي لا يجهله أحد إلا معاند ضال لأنه فضل بعد طهارة تنتظر، فهذه الثانية.
وأما الثالثة فحين ميز اللّه الطاهرين من خلقه فأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز وجل: يا محمد (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (2) فبرز النبي (صلى اللّه عليه وآله) عليا والحسن
ص: 147
والحسين وفاطمة - صلوات اللّه عليهم - وقرن أنفسهم بنفسه فهل تدرون ما معنى قوله: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) ؟
قالت العلماء: عنى به نفسه.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): لقد غلطتم إنما عنى بها علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومما يدل على ذلك قول النبي (صلى اللّه عليه وآله) حين قال: لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي (1) يعني علي بن أبي طالب - عليه السلام - وعنى بالأبناء الحسن والحسين (عليهما السلام) وعنى بالنساء فاطمة (عليها السلام) فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق، إذ جعل نفس علي (عليه السلام) كنفسه، فهذه الثالثة.
وأما الرابعة فإخراجه (صلى اللّه عليه وآله) الناس من مسجده ما خلا العترة حتى تكلم الناس في ذلك، وتكلم العباس فقال: يا رسول اللّه تركت عليا وأخرجتنا، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): ما أنا تركته وأخرجتكم ولكن اللّه عز وجل تركه وأخرجكم (2) وفي هذا تبيان قوله (صلى اللّه عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أنت مني بمنزلة هارون من موسى (3).
ص: 148
قالت العلماء: وأين هذا من القرآن؟
قال أبو الحسن: أوجدكم في ذلك قرآنا وأقرأه عليكم.
قالوا: هات.
قال: قول اللّه عز وجل: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (1) ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى وفيها أيضا منزلة علي (عليه السلام) من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ومع هذا دليل واضح في قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حين قال: ألا إن هذا المسجد لا يحل لجنب إلا لمحمد (صلى اللّه عليه وآله) (2).
قالت العلماء: يا أبا الحسن هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معاشر أهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقال: ومن ينكر لنا ذلك ورسول اللّه يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها (3)؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلا معاند والحمد لله عز وجل على ذلك، فهذه الرابعة.
ص: 149
والآية الخامسة قول اللّه عز وجل: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (1) خصوصية خصهم اللّه العزيز الجبار بها واصطفاهم على الأمة فلما نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: ادعوا لي فاطمة، فدعيت له فقال: يا فاطمة قالت: لبيك يا رسول اللّه فقال: هذه فدك مما هي لم يوجف عليه بالخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين وقد جعلتها لك لما أمرني اللّه تعالى به فخذيها لك ولولدك (2)، فهذه الخامسة.
والآية السادسة قول اللّه عز وجل: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (3) وهذه خصوصية للنبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم وذلك أن اللّه عز وجل حكى في ذكر نوح في كتابه: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ
ص: 150
وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) (1) وحكى عز وجل عن هود أنه قال: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (1) وقال عز وجل لنبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله): قل: يا محمد (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ولم يفرض اللّه تعالى مودتهم إلا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا.
وأخرى أن يكون الرجل وادا للرجل فيكون بعض أهل بيته عدوا له فلا يسلم له قلب الرجل، فأحب اللّه عز وجل أن لا يكون في قلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على المؤمنين شئ ففرض عليهم اللّه مودة ذوي القربى، فمن أخذ بها أحب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأحب أهل بيته لم يستطع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يبغضه، ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته فعلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يبغضه، لأنه قد ترك فريضة من فرائض اللّه عز وجل فأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟ فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية على نبيه (صلى اللّه عليه وآله): (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (2)، فقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في أصحابه فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إن اللّه عز وجل قد فرض لي عليكم فرضا فهل أنتم مؤدوه؟ فلم يجبه أحد فقال: يا أيها الناس إنه ليس بذهب ولا فضة ولا مأكول ولا مشروب فقالوا: هات إذا فتلا عليهم هذه الآية فقالوا: أما هذه فنعم فما وفى بها أكثرهم.
وما بعث اللّه عز وجل نبيا إلا أوحى إليه أن لا يسأل قومه أجرا لأن اللّه عز وجل يوفيه أجر الأنبياء ومحمد (صلى اللّه عليه وآله) فرض اللّه عز وجل مودة طاعته ومودة قرابته
ص: 151
على أمته وأمره أن يجعل أجره فيهم ليؤدوه في قرابته بمعرفة فضلهم الذي أوجب اللّه عز وجل لهم فإن المودة إنما تكون على قدر معرفة الفضل، فلما أوجب اللّه تعالى ثقل ذلك لثقل وجوب الطاعة فتمسك بها قوم قد أخذ اللّه ميثاقهم على الوفا وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك فصرفوه عن حده الذي حده اللّه عز وجل فقالوا: القرابة هم العرب كلهم وأهل دعوته.
فعلى أي الحالتين كان فقد علمنا أن المودة هي القرابة فأقربهم من النبي (صلى اللّه عليه وآله) أولاهم بالمودة وكلما قربت القرابة كانت المودة على قدرها، وما أنصفوا نبي اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في حيطته ورأفته وما من اللّه به على أمته مما تعجز الألسن عن وصف الشكر عليه: أن لا يؤذوه في ذريته وأهل بيته وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس حفظا لرسول اللّه فيهم، والذين فرض اللّه تعالى مودتهم ووعد الجزاء عليها، فما وفى أحد بها فهذه المودة لا يأتي بها أحد مؤمنا مخلصا إلا استوجب الجنة لقول اللّه عز وجل في هذه الآية: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (1) مفسرا ومبينا (2).
ثم قال أبو الحسن (عليه السلام): حدثني أبي عن جدي عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول اللّه فقالوا: إن لك يا رسول اللّه مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا مأجورا، أعط ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج قال: فأنزل اللّه عز
ص: 152
وجل عليه الروح الأمين فقال: يا محمد (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني أن تودوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده إن هو إلا شئ افتراه في مجلسه! وكان ذلك من قولهم عظيما فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (1) فبعث عليهم النبي (صلى اللّه عليه وآله) فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي واللّه يا رسول اللّه لقد قال بعضنا كلاما غليظا كرهناه، فتلا عليهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الآية، فبكوا واشتد بكاؤهم فأنزل عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (2) فهذه السادسة.
وأما الآية السابعة فقول اللّه عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (3) قالوا: يا رسول اللّه قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال: تقولون: اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد (4).
ص: 153
فهل بينكم معاشر الناس في هذا خلاف؟
فقالوا: لا.
فقال المأمون: هذا مما لا خلاف فيه أصلا وعليه إجماع الأمة فهل عندك في الآل شئ أوضح من هذا في القرآن؟ فقال أبو الحسن: نعم، أخبروني عن قول اللّه عز وجل: (يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (1) فمن عنى بقوله يس؟
قالت العلماء: يس محمد (صلى اللّه عليه وآله) لم يشك فيه أحد قال أبو الحسن: فإن اللّه عز وجل أعطى محمدا وآل محمد من ذلك فضلا لا يبلغ أحد كنه وصفه إلا من عقله، وذلك أن اللّه عز وجل لم يسلم على أحد إلا على الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - فقال تبارك وتعالى: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) (2) وقال: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (3) وقال: (سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) (4) ولم يقل: سلام على آل نوح ولم يقل: سلام على آل إبراهيم ولا قال: سلام على آل موسى وهارون وقال عز وجل: (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) (5) يعني آل محمد (6) - صلوات اللّه عليهم -.
فقال المأمون: لقد علمت أن في معدن النبوة شرح هذا وبيانه فهذه السابعة.
ص: 154
وأما الثامنة فقول اللّه عز وجل: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) (1) فقرن سهم ذي القربى بسهمه وبسهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فهذا فضل أيضا بين الآل والأمة لأن اللّه تعالى جعلهم في حيز وجعل الناس في حيز دون ذلك، ورضي لهم ما رضي لنفسه واصطفاهم فيه فبدأ بنفسه ثم ثنى برسوله ثم بذي القربى فكل ما كان من الفئ والغنيمة وغير ذلك مما رضيه عز وجل لنفسه فرضيه لهم فقال وقوله الحق: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) فهذا تأكيد مؤكد وأثر قائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب اللّه الناطق الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2).
وأما قوله (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) (3) فإن اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من الغنائم ولم يكن له فيها نصيب، وكذلك المسكين إذا انقطعت مسكنته لم يكن له نصيب من المغنم ولا يحل له أخذه، وسهم ذي القربى قائم إلى يوم القيامة فيهم للغني والفقير منهم لأنه لا أحد أغنى من اللّه عز وجل ولا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فجعل لنفسه منها سهما ولرسوله (صلى اللّه عليه وآله) فما رضيه لنفسه ولرسوله (صلى اللّه عليه وآله) رضيه لهم، وكذلك الفئ ما رضيه منه لنفسه ولنبيه (صلى اللّه عليه وآله) رضيه لذي القربى كما أجراهم في الغنيمة،
ص: 155
فبدأ بنفسه جل جلاله ثم برسوله ثم بهم، وقرن سهمهم بسهم اللّه وسهم رسوله (صلى اللّه عليه وآله) وكذلك في الطاعة قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) فبدأ بنفسه ثم برسوله ثم بأهل بيته، كذلك آية الولاية:
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (2) فجعل طاعتهم مع طاعة الرسول مقرونة بطاعته، كذلك ولا يتهم مع ولاية الرسول مقرونة بطاعته كما جعل سهمهم مع سهم الرسول مقرونا بسهمه في الغنيمة والفئ فتبارك اللّه وتعالى ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت، فلما جاءت قصة الصدقة نزه نفسه ورسوله ونزه أهل بيته فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ) (3) فهل تجد في شئ من ذلك أنه سمى لنفسه أو لرسوله أو لذي القربى لأنه لما نزه نفسه عن الصدقة ونزه رسوله ونزه أهل بيته لا بل حرم عليهم لأن الصدقة محرمة على محمد وآله وهي أوساخ أيدي الناس لا يحل لهم لأنهم طهروا من كل دنس ووسخ فلما طهرهم اللّه عز
ص: 156
وجل واصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه وكره لهم ما كره لنفسه عز وجل فهذه الثامنة.
وأما التاسعة فنحن أهل الذكر الذين قال اللّه عز وجل: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (1) فنحن أهل الذكر فاسألونا إن كنتم لا تعلمون.
فقالت العلماء: إنما عنى اللّه بذلك اليهود والنصارى.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): سبحان اللّه! وهل يجوز ذلك؟ إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون: إنه أفضل من دين الإسلام. فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): نعم، الذكر رسول اللّه ونحن أهله وذلك بين في كتاب اللّه عز وجل حيث يقول في سورة الطلاق: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) (2) فالذكر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) (3) ونحن أهله فهذه التاسعة.
وأما العاشرة فقول اللّه عز وجل في آية التحريم: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
ص: 157
وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) (1) فأخبروني هل تصلح ابنتي وابنة ابني وما تناسل من صلبي لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يتزوجها لو كان حيا؟
قالوا: لا.
قال: فأخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوجها لو كان حيا؟
قالوا: نعم.
قال: ففي هذا بيان لأني أنا من آله، ولستم من آله، ولو كنتم من آله لحرم عليه بناتكم كما حرم عليه بناتي لأني من آله وأنتم من أمته، فهذا فرق بين الآل والأمة لأن الآل منه، والأمة إذا لم تكن من الآل فليست منه فهذه العاشرة.
وأما الحادية عشرة فقول اللّه عز وجل في سورة المؤمن حكاية عن قول رجل مؤمن من آل فرعون: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (2) إلى تمام الآية، فكان ابن خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه ولم يضفه إليه بدينه، وكذلك خصصنا نحن إذ كنا من آل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بولادتنا منه وعممنا الناس بالدين فهذا فرق بين الآل والأمة فهذه الحادية عشرة.
وأما الثانية عشرة فقوله عز وجل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (3) فخصنا اللّه تبارك وتعالى بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع الأمة بإقامة الصلاة ثم خصصنا من دون الأمة فكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يجئ إلى باب علي
ص: 158
وفاطمة (عليهما السلام) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات فيقول: الصلاة رحمكم اللّه، وما أكرم اللّه أحدا من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصصنا من دون جميع أهل بيتهم.
فقال المأمون والعلماء: جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيرا فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلا عندكم (1).
ص: 159
قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: وحدثني الشيخ أدام اللّه عزه أيضا قال المأمون للرضا (عليه السلام): أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يدل عليها القرآن.
قال: فقال له الرضا (عليه السلام): فضيلته في المباهلة قال اللّه جل جلاله: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (1) فدعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) فكانا ابنيه ودعا فاطمة (عليها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءه، ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان نفسه بحكم اللّه عز وجل وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق اللّه سبحانه أجل من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بحكم اللّه عز وجل.
قال: فقال له المأمون: أليس قد ذكر اللّه الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول
ص: 160
اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ابنته وحدها فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما ذكرت من الفضل.
قال: فقال له الرضا (عليه السلام): ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين، وذلك أن الداعي إنما يكون داعيا لغيره، كما يكون الآمر آمرا لغيره، ولا يصح أن يكون داعيا لنفسه في الحقيقة، كما لا يكون آمرا لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) رجلا في المباهلة إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد ثبت أنه نفسه التي عناها اللّه تعالى في كتابه، وجعل حكمه ذلك في تنزيله.
قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال (1).
ص: 161
حكى صاحب المجالس عن الشيخ الأجل المتكلم محمد بن جرير بن رستم الطبري إنه روى في كتاب الإيضاح أن البهلول كان مارا في بعض أزقة البصرة فرأى جماعة يسرعون في المشي أمامه فقال لرجل منهم: هؤلاء البهائم الشاردون بلا راع إلى أين يذهبون؟!
فقال له ذلك الرجل من باب المزاح: يطلبون الماء والكلأ!!
فقال له البهلول: كيف ذلك مع قلة الحمى والمنع الشديد، واللّه لقد كان العلف كثيرا رخيصا ولكنهم أحرقوه بالنار، ثم أنشد هذه الأبيات:
برئت إلى اللّه من ظالم *** لسبط النبي أبي القاسم
ودنت إلهي بحب الوصي *** وحب النبي أبي فاطم
وذلك حرز من النائبات *** ومن كل متهم غاشم
بهم أرتجي الفوز يوم المعاد * وأنجو غدا من لظى ضارم
فلما سمعوا كلامه رجعوا إليه، وقالوا له: إنهم ذاهبون إلى مجلس والي البصرة محمد بن سليمان ابن عم الرشيد.
فقال: لأي شئ تذهبون إليه؟
فقالوا: إن عمرو بن عطاء العدوي من أولاد عمر بن الخطاب، ومن علماء
ص: 162
الزمان حضر مجلسه، ونريد تحقيق حاله ومعرفة مبلغ فضله وكماله، وإن كنت تذهب معنا لتناظره كان ذلك حسنا!
فقال لهم بهلول: ويلكم، مجادلة العاصي توجب زيادة جرأته على العصيان، ويمكن أن توقع أصحاب البصيرة في الشبهة، ولا شك في وجود اللّه تعالى، ولا شبهة في الحق ولا التباس، فإذا كنتم من أهل المعرفة تقنعون بما أخذتم من أهل العرفان.
فلما يئسوا منه ذهبوا إلى مجلس محمد بن سليمان، وحكوا له ما جرى لهم مع البهلول، فأمر غلمانه بإحضاره فأحضروه، فلما وصل إلى قرب دار محمد بن سليمان، قام عمرو بن عطاء العدوي واستأذن محمد بن سليمان في مناظرة بهلول؟ فإذن له.
فلما وصل بهلول إلى الدار قال: السلام على من اتبع الهدى وتجنب الضلالة والغوى.
فقال عمرو بن عطاء: السلام على المسلمين، إجلس يا بهلول؟
فقال بهلول: أتأمرني بشئ لا مدخل لك فيه، وتتقدم فيه على رجل فضله عليك ظاهر، ومثلك في هذا الباب مثل رجل طفيلي على خوان رجل آخر ويريد أن يمتن على الناس ويعطيهم من هذا الخوان!!
فبقي عمرو بن عطاء مبهوتا لا يحير جوابا!!
فحينئذ قال محمد بن سليمان لعمرو بن عطاء: كنت تريد أن تناظره، وهو في حديث الورود جعلك ساكتا مبهوتا!
فقال بهلول: أيها الأمير هذا الأمر ليس صعبا عند اللّه تعالى، أما قرأت قوله
ص: 163
تعالى: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1).
ثم قال محمد بن سليمان للبهلول: المجلس مجلسي وقد أذنت لك في الجلوس!
فدعا له بهلول فقال: عمر اللّه مجلسك، وأسبغ نعمه عليك، وأوضح برهان الحق لديك، وأراك الحق حقا، وأعانك على اتباعه، وأراك الباطل باطلا، وأعانك على اجتنابه.
فقال عمرو بن عطاء: يا بهلول التزم طريق الحق وابتعد عن الهزل، وتكلم كلاما حسنا!؟
فقال بهلول: ويلك! هل يوجد كلام أحسن من هذا الكلام الإلهي؟ وهل يوجد كلام جدي غيره؟ فأنت تكلم كلاما تقيا، ولا تشر إلى عيوب الناس قبل أن تنظر في عيب نفسك!
فقال عمرو بن عطاء: أنت ترى نفسك من مشهوري زمانك، وتدعي الاطلاع على المعارف، فأريد إما أن تسألني أو أسألك؟
فقال بهلول: لا أحب أن أكون سائلا ولا مسؤولا!!
فقال العدوي: لماذا؟
قال: لأني إذا سألتك عن شئ لا تعلمه؟ لا تقدر أن تجيبني عنه، وإذا سألتني تسألني بطريق أهل التعنت والعناد؟ فيختلط الحق بالباطل، والذين هم كذلك نهى اللّه تعالى عن مجالستهم بقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
ص: 164
فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (1).
فقال العدوي: إن كنت من أهل الإيمان، فقل لي ما هو الإيمان؟
فقال بهلول: قال مولاي جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل الجوارح والأركان. (2)
فقال العدوي: تقول إن إمامك الصادق! فيظهر من هذا إنه في زمانه لم يكن صادق غيره؟
فقال بهلول: هو كذلك (3)، ومع ذلك فهذا يجري عليك فإن سمي أبا بكر الصديق، فهل في زمانه لم يكن صديق غيره؟!
فقال العدوي: بلى، لم يكن غيره؟
فقال بهلول: كلامك هذا رد على الكتاب والسنة، أما الكتاب: فلأن اللّه تعالى جعل من آمن باللّه ورسوله صديقا، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
ص: 165
أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (1)، وأما السنة فلأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قال لبعض أصحابه: إذا فعلت الخير كنت صديقا (2).
فقال العدوي: إن أبا بكر سمي صديقا لأنه أول رجل صدق الرسول (صلى اللّه عليه وآله).
فقال بهلول: مع أن الأولوية ممنوعة، تخصيصه بذلك خطأ في اللغة، وردا على الآية المذكورة؟!
فترك العدوي هذه الجهة وجعل ينتقل معه من غصن إلى غصن إلى أن قال لبهلول: من إمامك؟
قال: إمامي من أوجب الرسول (صلى اللّه عليه وآله) له على الخلق الولاء، وتكاملت فيه الخيرات، وتنزه عن الأخلاق الدنيات، ذلك إمامي وإمام البريات.
فقال له العدوي: ويلك إذا لا ترى أن إمامك هارون الرشيد؟
فقال البهلول: أنت لأي شئ ترى أن أمير المؤمنين خال من هذه الصفات والمحامد، واللّه إني لا أظن إلا أنك عدو لأمير المؤمنين، مخالف له في الباطن وتظهر الاعتقاد بخلافته، وأقسم باللّه لو بلغه هذا الخبر لأدبك تأديبا بليغا.
فضحك عند ذلك محمد بن سليمان! وقال لعمرو بن عطاء: واللّه لقد ضيعك بهلول، وجعلك لا شئ، وأوقعك في الورطة التي أردت أن توقعه فيها، وما أحسن بالإنسان أن يبتعد عما لا يحسنه، وما أقبح به أن يدخل في شئ يعلم أنه
ص: 166
ليس من أهله، ثم أمر بعض غلمانه فأخذ بيد عمرو بن عطاء وأخرجه من المجلس!
وقال لبهلول: ما الفضل إلا فيك، وما العقل إلا عندك، والمجنون من سماك مجنونا، يا بهلول، أخبرني: أيهما أفضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) أو أبو بكر؟
فقال بهلول: أصلح اللّه الأمير: إن عليا من النبي (صلى اللّه عليه وآله) كالصنو من الصنو، والعضد من الذراع، وأبو بكر ليس منه، ولا يوازيه في فضله إلا مثله، ولكل فاضل فضله!
ثم قال محمد بن سليمان لبهلول: أخبرني أولاد علي أحق بالخلافة أو أولاد العباس؟
فرأى بهلول أن المقام حرج! فسكت خوفا من محمد!
فقال له محمد: لم لا تتكلم؟
فقال بهلول: أين للمجانين قوة تمييز وتحقيق هذه الأمور (1)؟!
ص: 167
المناظرة الرابعة والعشرون: مناظرة الصاحب بن عباد (1) وفي مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)
ص: 168
1 قالت: أبا القاسم استخففت بالغزل *** فقلت: ما ذاك من همي ولا شغلي
2 قالت: أريد اعتذارا منك تظهره *** فقلت: عذرا وما أخشى من العذل
3 قالت: ألح على تكرير مسألتي *** فقلت: ما أنا عن رأيي بذي حول
4 قالت: أريد رشادا منك أتبعه *** فقلت: سمعا فإن الرشد من قبلي
5 قالت: ابنه فإني جد سامعة *** فقلت: كيف اجتماع الشيب والغزل
6 قالت: وكيف اقتضاك الشيب ترك هوى *** فقلت: في الشيب إدناء من الأجل
ص: 169
7 قالت: فما اخترت من دين تفوز به *** فقلت: إني شيعي ومعتزلي (1)
8 قالت: أقلدت أم قد دنت عن نظر *** فقلت: كلا فإني واحد الجدل
9 قالت: فكيف عرفت الحق هات به *** فقلت: بالفكر في الأقوال والعلل
10 قالت: فهل هذه الأجسام محدثة *** فقلت: جدا وإن رمت الدليل سلي
11 قالت: أريد دليلا فيه مختصرا *** فقلت: أن ليس فيها غير منتقل
(في صفات الباري عز وجل)
12 قالت: فهل صانع تدعو إليه أجب *** فقلت: لا بد قولا غير ذي ميل
ص: 170
13 قالت: فهل من دليل فيه تذكره *** فقلت: بيت بلا بان من الخطل
14 قالت: فهل هو ذو شبه وذو مثل *** فقلت: قد جل عن شبه وعن مثل
15 قالت: أبن لي أجسم ذاك أم عرض *** فقلت: بل خالق الجنسين فانتقلي
16 قالت: وما ضر لو أثبته جسدا *** فقلت: لا توجد الأجسام في الأزل
17 قالت: فقل لي أبالأبصار ندركه *** فقلت: جل عن الإدراك بالمقل
18 قالت: ولم ذا وهل شئ يغيبه *** فقلت: ما هو محجوب فيظهر لي
19 قالت: لعل حجابا عنك يستره *** فقلت: أخبرت عن شخص وعن طلل
20 قالت: فما القول في القرآن سقه لنا *** فقلت: ذاك كلام اللّه أين تلي
21 قالت: فأين دليل الخلق فيه أبن *** فقلت: تركيبه من أحرف الجمل
22 قالت: فأعمالنا من ذا يكونها *** فقلت: نحن مقالا صين عن خلل
23 قالت: ولم لا يكون اللّه خالقها *** فقلت: لو كن خلقا لم يكن عملي
ص: 171
24 قالت: أيلزم نفسا فوق طاقتها *** فقلت: حاشاه هذا فعل ذي خبل
25 قالت: يشاء معاصينا ويؤثرها *** فقلت: لو شاءها لم نخش من زلل
(في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام))
26 قالت: فمن صاحب الدين الحنيف أجب *** فقلت: أحمد خير السادة الرسل
27 قالت: فهل معجز وافى الرسول به *** فقلت: القرآن وقد أعيا على الأول
28 قالت: فمن بعده يصفى الولاء له *** فقلت: الوصي الذي أربى على زحل
29 قالت: فهل أحد في الفضل يقدمه *** فقلت: هل هضبة ترقى على جبل
30 قالت: فمن أول الأقوام صدقه *** فقلت: من لم يصر يوما إلى هبل
31 قالت: فمن بات من فوق الفراش فدى *** فقلت: أثبت خلق اللّه في الوهل
32 قالت: فمن ذا الذي أخاه عن مقة *** فقلت: من حاز رد الشمس في الطفل
33 قالت: فمن زوج الزهراء فاطمة *** فقلت: أفضل من حاف ومنتعل
ص: 172
34 قالت: فمن والد السبطين إذ فرعا *** فقلت: سابق أهل السبق في مهل
35 قالت: فمن فاز في بدر بمفخرها *** فقلت: أضرب خلق اللّه للقلل
36 قالت: فمن ساد يوم الروع في أحد *** فقلت: من هالهم بأسا ولم يهل
37 قالت: فمن فارس الأحزاب يفرسها *** فقلت: قاتل عمرو الضيغم البطل
38 قالت: فخيبر من ذا هد معقلها *** فقلت: سائق أهل الكفر في عقل
39 قالت: فيوم حنين من برى وفرى *** فقلت: حاصد أهل الشرك في عجل
40 قالت: فمن صاحب الرايات يحملها *** فقلت: من حيط عن غش وعن وغل
41 قالت: براءة من أدى قوارعها *** فقلت: من صين عن ختل وعن دغل
42 قالت: فمن ذا دعي للطير يأكله *** فقلت: أقرب مرضي ومنتحل
43 قالت: فمن راكع زكى بخاتمه *** فقلت: أطعنهم مذ كان بالأسل
44 قالت: ففيمن أتى في (هل أتى) شرف *** فقلت: أبذل خلق اللّه للنفل
ص: 173
45 قالت: فمن تلوه يوم الكساء أجب *** فقلت: أنجب مكسو ومشتمل
46 قالت: فمن باهل الطهر النبي به *** فقلت: تاليه في حل ومرتحل
47 قالت: فمن ذا قسيم النار يسهمها *** فقلت: من رأيه أذكى من الشعل
48 قالت: فمن شبه هارون لنعرفه *** فقلت: من لم يحل يوما ولم يزل
49 قالت: فمن ذا غدا باب المدينة قل *** فقلت: من سألوه العلم لم يسل
50 قالت: فمن ساد في يوم الغدير أبن *** فقلت: من صار للإسلام خير ولي
51 قالت: فمن قاتل الأقوام إذ نكثوا *** فقلت: تفسيره في وقعة الجمل
52 قالت: فمن حارب الأنجاس إذ قسطوا *** فقلت: صفين تبدي صفحة العمل
53 قالت: فمن قارع الأرجاس إذ مرقوا *** فقلت: معناه يوم النهروان جلي
54 قالت: فمن صاحب الحوض الشريف غدا *** فقلت: من بيته في أشرف الحلل
ص: 174
55 قالت: فمن ذا لواء الحمد يحمله *** فقلت: من لم يكن في الروع بالوكل (1)
56 قالت: أكل الذي قد قلت في رجل *** فقلت: كل الذي قد قلت في رجل
57 قالت: ومن هو هذا المرء (2) سم (3) لنا * فقلت: ذاك أمير المؤمنين علي
58 قالت: معاوية الطاغي أتلعنه *** فقلت: لعنته أحلى من العسل
59 قالت: تكفره فيما أتى وعتا *** فقلت: أي وإله السهل والجبل
60 قالت: أهل لك من نظم لنرويه *** فقلت: إن جوابي فيه حي هل
61 قالت: فأمل على هذا الفتى عجلا *** فقلت: هذا ولم ألبث ولم أتل
62 قالت: أمبتدها في القول مرتجلا *** فقلت: ما قلت شعرا غير مرتجل
63 قالت: أتيت ابن عباد بمعجزة *** فقلت: لا تعجبي فالشعر من خولي
ص: 175
64 قالت: فهل منشد ترضى لينشدها *** فقلت: ابن صالح النحرير ينشد لي (1)
ص: 176
اعلموا - أيدكم اللّه - أن المخالفين لشدة عداوتهم لأمير المؤمنين ألقوا شبهة موهوا بها على المستضعفين، وجعلوا لها طريقا، يسلكها من يروم نفي الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
وذلك أنهم قالوا: إنما يصح الإسلام ممن كان كافرا، فأما من لم يك قط ذا كفر ولا ضلال، فلا يجوز أن يقال أنه أسلم، وإذا كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يكفر قط، فلا يصح القول بأنه أسلم.
وهذا ملعنة من النصاب لا تخفى على أولي الألباب، يتشبثون بها إلى القدح في أمير المؤمنين (عليه السلام)، والراحة من أن يسمعوا القول بأنه أسلم قبل سائر الناس، وقد تعدتهم هذه الشبهة، فصارت في مستضعفي الشيعة، ومن لا خبرة له بالنظر والأدلة، حتى إني رأيت جماعة منهم يقولون هذا المقال، ويستعظمون القول بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أسلم أتم استعظام.
وقد نبهتهم على أن هذه الشبهة مدسوسة عليهم، وأن أعداءهم ألقوها بينهم، فمنهم من قبل ما أقول، ومنهم من أصر على ما يقول.
وقد كنت اجتمعت بأحد الناصرين لهذه الشبهة من الشيعة، فقلت له:
ص: 177
أتقول إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مسلم؟
فقال: لا يسعني غير ذلك.
فقلت له: أفتقول إنه يكون مسلما من لم يسلم؟
فقال: إن قلت بأنه أسلم، لزمني الإقرار بأنه قبل إسلامه لم يكن مسلما، ولكني أقول: إنه ولد مسلما مؤمنا.
فقلت: هذا كقولك إنه ولد حيا قادرا، وهو يؤديك إلى أن اللّه تعالى خلق فيه الإسلام والإيمان، كما خلق فيه القدرة والحياة، ويدخل بك في مذهب أهل الجبر، ويبطل عليك القول بفضيلة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الإسلام، وما يستحق عليه من الأجر.
فاختر لنفسك: إما القول بأن إسلامه وإيمانه فعل اللّه سبحانه، وأنه ولد مسلما ومؤمنا، وإن ساقك إلى ما ذكرناه.
وإما القول بأن اللّه تعالى أوجده حيا قادرا ثم آتاه عقلا، وكلفه بعد هذا، فأطاع، وفعل ما أمر به مما يستحق جزيل الأجر على فعله، فإسلامه وإيمانه من أفعاله الواقعة بحسب قصده وإيثاره، وإن أدراك في وجوده قبل فعله إلى ما وصفناه.
فحيره هذا الكلام، ولم يجد فيه حيلة من جواب.
ومما يجب أن يكلم به في هذه المسألة أهل الخلاف، أن يقال لهم: لم زعمتم أنه لم يسلم إلا من كان كافرا؟
فإن قالوا: لأن من صح منه وقوع الإسلام فهو قبله عار منه، وإذا عري منه كان على ضده، وضده الكفر.
ص: 178
قيل لهم: لم زعمتم أنه إذا عري منه كان على ضده؟ وما أنكرتم من أن يخلو منهما، فلا يكون على أحدهما؟
فإن قالوا: إن ترك الدخول في الإسلام هو ضده، لأنه لا يصح اجتماع الترك والدخول، فمتى كان تاركا كان كافرا، لأن معه الضد.
قيل لهم: إنما يلزم ما ذكرتم، متى وجدت شريعة الإسلام، ولزم العمل بها، وعلم العبد وجوبها عليه بعد وجودها، فأما إذا لم يكن نزل به الوحي، ولا لزم المكلف منها أمر ولا نهي، فإلزامكم الكفر جهل وغي.
فإن قالوا: قد سمعناكم تقولون: إن الوحي لما نزل على النبي (صلى اللّه عليه وآله) بتبليغ الإسلام دعا إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يجبه عند الدعاء، وقال له: أجلني الليلة، وتعدون هذا له فضيلة، وفيه أنه قد ترك الدخول في الإسلام بعد وجوده.
قلنا: هو كذلك، لكنه قبل علمه بوجوبه، وهذه المدة التي سأل فيها الإنظار هي زمان مهلة النظر، التي أباحها اللّه تعالى للمستدل، ولو مات قبل اعتقاد الحق لم يكن على غلط، وهكذا رأيناكم تفسرون قول إبراهيم (عليه السلام) لما (رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (1)، إلى تمام قصته (عليه السلام).
وقوله: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (2)، وتقولون: إن هذا منه كان استدلالا، وهي في زمان مهلة النظر التي وقع عقيبها العلم بالحق.
فإن قالوا: فما تقولون في أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل الإسلام؟ وهل كان على
ص: 179
شئ من الاعتقادات؟
قيل لهم: الذي نقول فيه أنه كان في صغره عاقلا مميزا، وكان في الاعتقاد على مثل ما كان عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قبل الإسلام، من استعماله عقله، والمعرفة باللّه تعالى وحده، وإن ذلك حصل من تنبيه الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وتحريك خاطره إليه، وحصل للرسول من ألطاف اللّه تعالى، التي حركت خواطره إلى الإسلام والاعتبار، ولم يكن منهما من سجد لوثن، ولا دان بشرع متقدم.
فأما الأمور الشرعية فلم تكن حاصلة لهما، فلما بعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لزم أمير المؤمنين (عليه السلام) الإقرار به، والتصديق له، وأخذ الشرع منه.
وإنما قال له: أجلني الليلة ليعتبر فيقع له العلم واليقين مع اعتقاد التصديق لرسول رب العالمين، فلما ثبت له ذلك أقر بالشهادتين، مجددا للإقرار باللّه سبحانه، وشاهدا ببعثة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
فإن قالوا: فأنتم إذا تقولون إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أسلم؟ وهذا أعظم من الأولى.
قيل لهم: إن العظيم في العقول هو الانصراف من هذا القول، فإن لم تفهموا فيه حجة العقل فما تصنعون في دليل السمع، وقد قال اللّه عز وجل لنبيه (صلى اللّه عليه وآله): (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (1) وقوله سبحانه:
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (2)، وقوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
ص: 180
وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (1).
ونظير ذلك كثير في القرآن، فكيف يصح هذا الإسلام من الرسول ولم يكن قط كافرا، وهل بعد هذا البيان شك يعترض عاقلا؟؟
ثم يقال لهم: إذا كان لا يسلم إلا من كان كافرا، فما تقولون في إسلام إبراهيم الخليل (عليه السلام) ولم يكن قط كافرا، ولا عبد وثنا، حين (قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (2).
فقد تبين لكم - أيها الأخوة ثبتكم اللّه على الإيمان - ما تضمنه هذا الفصل من البيان عن صحة إسلام أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأنا أتكلم بعد هذا على الذين قالوا إنه (عليه السلام) قد أسلم، ولكن لم يكن السابق الأول، وزعمهم أن المتقدم على جميع الناس أبو بكر (3).
ص: 181
ص: 182
ص: 183
ص: 184
عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك (1) من أخرج وكيل فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) منها.
ص: 185
فجاءت فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت: لم تمنعني ميراثي من أبي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وأخرجت وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بأمر اللّه تعالى؟
فقال: هاتي على ذلك بشهود، فجاءت بأم أيمن (1)، فقالت له أم أيمن: لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، أنشدك باللّه ألست تعلم أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «أم أيمن امرأة من أهل الجنة» (2).
فقال: بلى.
ص: 186
قالت: « فاشهد: أن اللّه عز وجل أوحى إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله):
(فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (1) فجعل فدكا لها طعمة بأمر اللّه (2).
فجاء علي (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتابا ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة (عليها السلام) ادعت في فدك، وشهدت لها أم أيمن وعلي (عليه السلام)، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزقه (3)، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي.
فلما كان بعد ذلك جاء علي (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ وقد ملكته في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
فقال أبو بكر: هذا فئ للمسلمين، فإن أقامت شهودا أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) جعله لها وإلا فلا حق لها فيه.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين.
قال: لا.
ص: 187
قال: فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟
قال: إياك أسأل البينة.
قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها؟ وقد ملكته في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وبعده، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهودا، كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟
فسكت أبو بكر فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك، فإنا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلا فهو فئ للمسلمين، لا حق لك ولا لفاطمة (عليها السلام) فيه.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب اللّه؟
قال: نعم.
قال: أخبرني عن قول اللّه عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) فيمن نزلت (2)؟ فينا أم في غيرنا؟
ص: 188
قال: بل فيكم.
قال: فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بفاحشة ما كنت صانعا؟
قال: كنت أقيم عليها الحد، كما أقيمه على نساء المسلمين.
قال: إذن كنت عند اللّه من الكافرين.
قال: ولم؟
قال: لأنك كنت رددت شهادة اللّه لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم اللّه وحكم رسوله، أن جعل لها فدكا قد قبضته في حياته، ثم قبلت شهادة إعرابي بائل على عقبيه، عليها، وأخذت منها فدكا، وزعمت أنه فئ للمسلمين، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» (1) فرددت قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): البينة على من ادعى، واليمين على من ادعى عليه!
قال: فدمدم الناس وأنكروا، ونظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: صدق واللّه علي بن أبي طالب (عليه السلام)! ورجع إلى منزله.
قال: ثم دخلت فاطمة المسجد وطافت بقبر أبيها وهي تقول:
ص: 189
قد كان بعدك أنباء وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا *** فغاب عنا فكل الخير محتجب
وكنت بدرا ونورا يستضاء به *** عليك ينزل من ذي العزة الكتب
تجهمتنا رجال واستخف بنا *** إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت *** منا العيون بتهمال لها سكب (1)
ص: 190
قال أبو زيد عمر بن شبه النميري البصري (المتوفى سنة 262 ه) في كتابه تأريخ المدينة المنورة: حدثنا سويد بن سعيد، والحسن بن عثمان، قالا: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مما أفاء اللّه على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وفاطمة (عليها السلام) حينئذ تطلب صدقة النبي (صلى اللّه عليه وآله) بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.
فقال أبو بكر: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: لا نورث، ما تركناه صدقة (1)، إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني لا أغير شيئا من صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولأعملن فيها بما عمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة (عليها السلام) منها شيئا.
فوجدت فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر في ذلك، فهجرته، فلم تكلمه حتى
ص: 191
توفيت، وعاشت بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي (عليه السلام) ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها علي (عليه السلام). (1)
وفي رواية، إنها (عليها السلام) قالت له: يا أبا بكر أترثك بناتك، ولا ترث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بناته؟
فقال لها: هو ذاك.
وفي أخرى، إنها (عليها السلام) قالت له: من يرثك إذا مت؟
قال: ولدي وأهلي.
قالت: فما لك ترث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) دوننا؟
قال: يا بنت رسول اللّه! ما ورثت أباك دارا ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة.
قالت: بلى، سهم اللّه الذي جعله لنا، وصافيتنا التي بفدك.
فقال أبو بكر: سمعت النبي (صلى اللّه عليه وآله) يقول: إنما هي طعمة أطعمنا اللّه، فإذا مت كانت بين المسلمين.
وفي رابعة، إنها قالت (عليها السلام): إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أعطاني فدك.
فقال لها: هل لك على هذا بينة؟
فجاءت بعلي (عليه السلام) فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن فقالت: أليس تشهد أني من أهل الجنة؟
ص: 192
قال: بلى.
قالت: فأشهد أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أعطاها فدك.
فقال أبو بكر: فبرجل وامرأة تستحقينها أو تستحقين بها القضية. (1) وفي رواية خامسة - كما عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام): انطلقي فاطلبي ميراثك من أبيك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فجاءت إلى أبي بكر، فقالت: أعطني ميراثي من أبي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ (قال): قال: النبي (صلى اللّه عليه وآله) لا يورث.
فقالت: ألم يرث سليمان داود؟ فغضب وقال: النبي (صلى اللّه عليه وآله) لا يورث.
فقالت (عليها السلام): ألم يقل زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (2).
فقال: النبي (صلى اللّه عليه وآله) لا يورث.
فقالت (عليها السلام): ألم يقل: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) (3).
ص: 193
فقال: النبي لا يورث. (1)
وفي رواية سليم بن قيس عن ابن عياش في حديث له... قال: ثم إن فاطمة (عليها السلام) بلغها أن أبا بكر قبض فدكا فخرجت في نساء بني هاشم حتى دخلت على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر تريد أن تأخذ مني أرضا جعلها لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وتصدق بها علي من الوجيف الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب؟ أما كان قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): المرء يحفظ في ولده؟ وقد علمت أنه (صلى اللّه عليه وآله) لم يترك لولده شيئا غيرها؟!
فلما سمع أبو بكر مقالتها والنسوة معها دعى بدواة ليكتب به لها، فدخل عمر، فقال: يا خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا تكتب لها حتى تقيم البينة بما تدعي؟!
فقالت فاطمة (عليها السلام): نعم، أقيم البينة.
قال: من؟
قالت: علي وأم أيمن.
فقال عمر: ولا تقبل شهادة امرأة أعجمية لا تفصح، وأما علي فيجر النار إلى قرصه؟!
فرجعت فاطمة (عليها السلام) وقد دخلها من الغيظ ما لا يوصف (2).
وفي رواية الثقفي قال: جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر فقالت: إن أبي أعطاني فدك، وعلي يشهد لي وأم أيمن.
قال: ما كنت لتقولين على أبيك إلا الحق، قد أعطيتكها، ودعى بصحيفة من
ص: 194
أدم فكتب لها فيها.
فخرجت فلقيت عمر، فقال: من أين جئت يا فاطمة؟
قالت: جئت من عند أبي بكر، أخبرته أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أعطاني فدك وأن عليا وأم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها وكتب بها لي، فأخذ عمر منها الكتاب، ثم رجع إلى أبي بكر فقال: أعطيت فاطمة فدك وكتبت بها لها؟
قال: نعم.
فقال: إن عليا يجر إلى نفسه وأم أيمن امرأة!! وبصق في الكتاب فمحاه وخرقه (1).
وفي رواية ابن طيفور (المتوفى سنة 380 ه) قال: وحدثني عبد اللّه بن أحمد العبدي عن الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع أبا بكر يومئذ يقول لفاطمة (عليها السلام): يا ابنة رسول اللّه لقد كان صلى اللّه عليه وآله وسلم بالمؤمنين رؤوفا رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما، وإذا عزوناه كان أباك دون النساء، وأخا ابن عمك دون الرجال، أثره على كل حميم، وساعده على الأمر العظيم، لا يحبكم إلا العظيم السعادة، ولا يبغضكم إلا الردي الولادة، وأنتم عترة اللّه الطيبون، وخيرة اللّه المنتجبون على الآخرة أدلتنا، وباب الجنة لسالكنا.
وأما منعك ما سألت فلا ذلك لي؟! وأما فدك وما جعل لك أبوك، فإن منعتك فأنا ظالم!
وأما الميراث فقد تعلمين أنه صلى اللّه عليه وآله قال: لا نورث ما أبقيناه صدقة؟
ص: 195
قالت (عليها السلام): إن اللّه يقول عن نبي من أنبيائه: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (1) وقال: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (2) فهذان نبيان؟ وقد علمت أن النبوة لا تورث، وإنما يورث ما دونها؟!
فما لي أمنع إرث أبي؟ أأنزل اللّه في الكتاب إلا فاطمة بنت محمد (صلى اللّه عليه وآله)، فتدلني عليه!
قفال: يا بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنت عين الحجة، ومنطق الرسالة، لا يد لي بجوابك ولا أدفعك عن صوابك!.. (3)
وذكر ابن قتيبة خبر دخول الشيخين على فاطمة (عليها السلام) وذلك بعد تفاقم الأمر، قال: فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة (عليها السلام) فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا، فاستأذنا على فاطمة (عليها السلام) فلم تأذن لهما، فأتيا عليا (عليه السلام) فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط! فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام.
فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول اللّه، واللّه إن قرابة رسول اللّه أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، إلا أني سمعت أباك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: لا نورث، ما تركناه فهو صدقة.
فقالت: أرايتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) تعرفانه وتفعلان
ص: 196
به؟
قالا: نعم.
فقالت: نشدتكما اللّه ألم تسمعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرض فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني.
قالا: نعم، سمعناه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
قالت: فإني أشهد اللّه وملائكته أنكما أسخطتماني، وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى اللّه عليه وآله) لأشكونكما إليه.
فقال أبو بكر: أنا عائذ باللّه تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: واللّه، لأدعون اللّه عليك في كل صلاة أصليها.
ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي...
قال: فلم يبايع علي كرم اللّه وجهه حتى ماتت فاطمة (عليها السلام)، ولم تمكث بعد أبيها إلا خمسا وسبعين ليلة. (1)
ص: 197
قال ابن شاذان في الإيضاح: وروى شريك بن عبد اللّه في حديث رفعه: إن عائشة وحفصة أتتا عثمان حين نقص أمهات المؤمنين ما كان يعطيهن عمر، فسألتاه أن يعطيهما ما فرض لهما عمر! فقال: لا واللّه ما ذاك لكما عندي.
فقالتا له: فأتنا ميراثنا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من حيطانه (1)؟
ص: 198
وكان عثمان متكئا، فجلس، وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) جالسا عنده، فقال: ستعلم فاطمة (عليها السلام) أنى ابن عم لها اليوم، ثم قال: ألستما اللتين شهدتما عند أبي بكر، ولفقتما معكما أعرابيا يتطهر ببوله، مالك بن الحويرث بن الحدثان (1)، فشهدتم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة (2)، (حتى منعتما فاطمة ميراثها، وأبطلتما حقها، فكيف تطلبين اليوم ميراثا من النبي (صلى اللّه عليه وآله))؟!
فإن كنتما شهدتما بحق فقد أجزت شهادتكما على أنفسكما، وإن كنتما شهدتما بباطل، فعلى من شهد بالباطل لعنه اللّه والملائكة والناس أجمعين.
فقالتا: يا نعثل (3)، واللّه لقد شبهك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بنعثل اليهودي!!
ص: 199
فقال لهما: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) (1) فخرجتا من عنده... (2)
ص: 200
روي أنه لما رد عمر بن عبد العزيز (1) فدكا على ولد فاطمة (عليها السلام) اجتمع عنده
ص: 201
قريش ومشايخ أهل الشام من علماء السوء، وقالوا له: نقمت على الرجلين فعلهما، وطعنت عليهما، ونسبتهما إلى الظلم والغصب؟!
فقال: قد صح عندي وعندكم، إن فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ادعت فدكا، وكانت في يدها، وما كانت لتكذب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، مع شهادة علي (عليه السلام) (1) وأم أيمن وأم سلمة، وفاطمة (عليها السلام) عندي صادقة فيما تدعي، وإن لم تقم البينة، وهي سيدة نساء الجنة، فأنا اليوم أرد على ورثتها، وأتقرب بذلك إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) يشفعون لي يوم القيامة، ولو كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمة (عليها السلام) كنت أصدقها على دعوتها، فسلمها إلى الباقر (عليه السلام) (2).
ص: 202
وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي رواية أخرى تناسب المقام في رد عمر بن عبد العزيز فدكا، وهي: قال: قال أبو المقدام - هشام ابن زياد مولى آل عثمان -:
فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز، وعاتبوه فيه، وقالوا له: هجنت فعل الشيخين؟!
وخرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة، فلما عاتبوه على فعله!!
قال: إنكم جهلتم وعلمت، ونسيتم وذكرت، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم، حدثني عن أبيه، عن جده أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني، ويرضيني ما أرضاها (1)، وإن فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر، ثم صار أمرها إلى مروان، فوهبها لعبد العزيز أبي، فورثتها أنا وإخوتي عنه، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها، فمن بائع وواهب حتى استجمعت لي، فرأيت أن أردها على ولد فاطمة (عليها السلام).
قالوا: فإن أبيت إلا هذا فامسك الأصل، واقسم الغلة، ففعل (2).
ص: 203
المناظرة الثلاثون: مناظرة فضال بن الحسن (1) مع أبي حنيفة في مسألة الدفن عند النبي (صلى اللّه عليه وآله) وميراث الزهراء (عليها السلام)
روي أنه مر فضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة وهو في جمع كثير، يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه.
فقال - لصاحب كان معه -: واللّه لا أبرح حتى أخجل أبا حنيفة.
فقال صاحبه الذي كان معه: إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله، وظهرت حجته.
قال: مه! هل رأيت حجة ضال علت على حجة مؤمن؟! ثم دنا منه فسلم عليه، فردها، ورد القوم السلام بأجمعهم.
فقال: يا أبا حنيفة! إن أخا لي يقول: إن خير الناس بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنا أقول: أبو بكر خير الناس وبعده عمر، فما تقول أنت رحمك اللّه؟
ص: 204
فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كفى بمكانهما من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كرما وفخرا، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة تريد أوضح من هذا؟
فقال له فضال: إني قلت ذلك لأخي، فقال: واللّه لئن كان الموضع لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لقد أساءا وما أحسنا، إذ رجعا في هبتهما ونسيا عهدهما.
فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له: لم يكن له ولا لهما خاصة، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.
فقال له فضال: قد قلت له ذلك فقال: أنت تعلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) مات عن تسع نساء، ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن، ثم نظرنا في تسع الثمن، فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول اللّه وفاطمة بنته تمنع الميراث؟!
فقال أبو حنيفة: يا قوم! نحوه عني فإنه رافضي (1) خبيث (2).
ص: 205
المناظرة الحادية والثلاثون: مناظرة الشيخ المفيد (1) مع علي بن عيسى الرماني (2) في أمر فدك
قال الشريف المرتضى - أعلى اللّه مقامه -: ومن حكايات الشيخ - المفيد - وكلامه، قال الشيخ أيده اللّه: حضرت مجلسا لبعض الرؤساء، وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء، فالتفت أبو الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلا
ص: 206
من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شئ يتعلق بالحكم في فدك ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باضطرار أن أبا بكر قال لفاطمة (عليها السلام) عند مطالبتها له بالميراث:
سمعت رسول اللّه يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث (1) فسلمت (عليها السلام) لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة (عليها السلام) أن تصبر على المنكر وتترك المعروف وتسلم الباطل، لا سيما وأنتم تقولون إن عليا (عليه السلام) كان حاضرا في المجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين فلم ينكره أحد من الأمة ولا علمنا أن واحدا رد على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.
فاعترضه الرجل الإمامي بما روي عن فاطمة (عليها السلام) من ردها عليه وإنكارها لروايته وخطبتها في ذلك واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.
فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شئ تختص أنت وأصحابك به، والذي ذكرته من الحكم عليها شئ عليه الإجماع وبه حاصل علم الاضطرار، فلو كان ما تدعونه من خلافه حقا لارتفع معه الخلاف وحصل عليه الإجماع كما حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الأمر كذلك دل على بطلانه، فكلمه الإمامي بكلام لم أرتضه، وتكرر منهما جميعا.
فأشار صاحب المجلس إلي لأخذ الكلام فأحس بذلك علي بن عيسى فقال لي: إنني قد جعلت نفسي أن لا أتكلم في مسألة واحدة مع نفسين في
ص: 207
مجلس واحد، فأمسكت عنه وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل.
ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن أنني أريد شيئا غير المسألة الماضية وأنني لا أكسر شرطه.
فقال: لست أدري أي شئ تريد بهذا الكلام، فأبن لي عن غرضك لأتكلم عليه.
فقلت: لم آتك بكلام مشكل ولا خاطبتك بغير العربية! وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه ولم يله عنه، اللّهم إلا أن تريد أن أبين لك عن غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن يلزمني في حكم النظر والذي استخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره، أتقول إن الشئ إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه، أو قد يكون حقا وإن اختلفت العقلاء فيه.
فقال: ليس يكون الشئ باطلا من حيث اختلف الناس فيه، ولا يذهب إلى ذلك عاقل.
فقلت له: فما أنكرت إلا أن تكون فاطمة (عليها السلام) قد أنكرت على أبي بكر حكمه وردت عليه في خبره واحتجت عليه في بطلان قضائه واستشهدت بالقرآن (1) على ما جاء الأثر به ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقا
ص: 208
ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعاه بل قد يكون صدقا وإن اختلف فيه على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.
فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد عليه الآن معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) من أنه لا يورث (1)، وصوابه فيما حكم به ما جاء به الخبر عن علي (عليه السلام) أنه قال: ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، ولو لم يكن صادقا أمينا عادلا لما عدل عن استحلافه ولا صدقه في روايته ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتلال الذي اعتمدته بدأ
ص: 209
ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه وأحلتنا على شئ لا نعرفه ولا سمعناه وإنما بينا الكلام على الاعتلال الذي حضرناه ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك على استينافه من الكلام، وأنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الأخبار أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا تصححه بل تشهد بفساده وكذب رواته وإنما يرويه آحاد من العامة ويسلمه من دان بأبي بكر خاصة فإن لزم الشيعة أمرا بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، هذا على شرط الإنصاف وحقيقة النظر والعدل فيه فيجب أن يصير إلى اعتقاد ضلالة كل ما روت الشيعة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) وعن علي والأئمة من ذريته (عليهم السلام) ما يوجب ضلالتهم فإن لم تقبل ذلك ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك، فكيف استجزت إلزامهم الإقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الإنصاف، على أن أقرب الأمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الإجماع أو يضم إليه دليل يقوم مقام الإجماع في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله.
مع أني أسلمه لك تسليم جدل وأبين لك أنك لم توف الدليل حقه ولا اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبر أن يكون كاذبا في جميع الأخبار، ولا من شرط من صدق في شئ أن يصدق في كل الأخبار، وقد وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه ولا نكذبهم فيما صدقوا فيه لأجل كذبهم في الأمور الأخر، ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد في مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره، وإذا كان ذلك كذلك فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في
ص: 210
الميراث، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه (عليه السلام) شاركه في سماعه من النبي (صلى اللّه عليه وآله) فكان حفظه له عينه يغنيه عن استحلافه ويدله على صدقه فيما أخبر به ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره، على أن الذي رواه أبو بكر عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) شئ يدل على صحته العقل ويشهد بصوابه القرآن فكان تصديق أمير المؤمنين (عليه السلام) له من حيث العقل والقرآن لا من جهة روايته عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه، وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال: سمعت رسول اللّه يقول: ما من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين ثم يعترف به ويستغفر اللّه عز وجل منه إلا غفر اللّه له (1) وهذا شئ نطق به القرآن، قال اللّه تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (2) وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (3) والعقل يدل على قبول التوبة، وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به وكان ذكره لأبي بكر خاصة لأنه لم يحدثه بحديث غير هذا فصدقه لما ذكرناه وأخبر عن تصديقه بما وصفناه ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت ولا لتصويبه في الأحكام كلها على ما قدمت بما شرحناه.
فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه على الخبر وإنما جعلته توطئة للاعتماد وطولت الكلام فيه وأطنبت في معناه، والذي أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بايع أبا بكر وأخذ
ص: 211
عطاءه وصلى خلفه ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر ظالما لفاطمة (عليها السلام) لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين (عليه السلام) إماما ينتهي في طاعته إلى ما وصفت.
فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول وتدارك فائت وتلاف فارط وتذكر ما كان منسيا وإن عملنا على هذا انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل فيها والتحير وخرج الأمر عن حده وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل ومناظرة وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعه عندما يظهر من وهن معتمداتك بأنك لم تردها ولكنك وطأت بها، فخبرني الآن هل هذا الذي ذكرته أخيرا هو توطئة أو عماد، فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا كلمناك عليه، مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة لأن كل كلام اعتل به معتل ففسد فقد انهدم ما بناه عليه، ووضح فساد مبناه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما تقدم بأنه توطئة لا معنى له، ولكننا نتجاوز هذا الباب ونقول لك ما أنكرت على من قال لك إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بايع الرجل دعوى عرية عن برهان لا فرق بينها وبين قولك إنه كان مصيبا فيما حكم به على فاطمة (عليها السلام) فدل على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بايع على ما ادعيت ثم ابن عليه.
فإما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر ولا تنفع، وقولك إنه (عليه السلام) صلى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك؟ فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالأولى تضر من اعتمد عليها أيضا ولا تنفع.
وأما قولك إنه أخذ العطاء فالأمر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك
ص: 212
دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه؟ أوليس تعلم أن خصومك يقولون في ذلك إنه أخذ بعض حقه ولم يحل له الامتناع من أخذه لأن في ذلك تضييعا لماله وقد نهى اللّه تعالى عن التضييع وأكل الأموال بالباطل، وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت بعينه حجة في إمامة معاوية.
فقال: وجدت الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر وغيرهم من المهاجرين والأنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن (عليه السلام) وأخذوا منه العطاء وصلوا خلفه الفرائض ولم ينكروا عليه بيد ولا لسان، فكلما جعلته إسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته حذو النعل بالنعل.
فلم يأت بشئ تجب حكايته. (1)
ص: 213
المناظرة الثانية والثلاثون مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي (1) مع علي بن الفارقي وبعضهم في أمر فدك
يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أمر فدك: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة (عليها السلام) صادقة؟
قال: نعم.
قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟
فتبسم، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال:
لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ، لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود.
ص: 214
وهذا كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (1).
وقال لي علوي من الحلة (2) يعرف بعلي بن مهنأ، ذكي ذو فضائل: ما تظن قصد أبي بكر وعمر بمنع فاطمة (عليها السلام) فدك؟
قلت: ما قصدا؟
قال: أرادا ألا يظهرا لعلي (عليه السلام) - وقد اغتصباه الخلافة - رقة ولينا وخذلانا، ولا يرى عندهما خورا، فأتبعا القرح بالقرح.
وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل (3):
وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير!
فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدا، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة (عليها السلام) عنها إلا ألا يتقوى علي (عليه السلام) بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا أتبعا ذلك
ص: 215
بمنع فاطمة وعلي (عليهما السلام) وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة (1).
ص: 216
قال ابن أبي الحديد: قرأت على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي رحمه اللّه، هذا الخبر (1) فقال: أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد! أما كان يقتضي التكريم والإحسان أن يطيب قلب فاطمة (عليها السلام) بفدك، ويستوهب لها من المسلمين، أتقصر منزلتها عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عن منزلة زينب أختها، وهي سيدة نساء العالمين! هذا إذا لم يثبت لها حق، لا بالنحلة ولا بالإرث؟
فقلت له: فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق
ص: 217
المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم.
فقال: وفداء أبي العاص بن الربيع قد صار حقا من حقوق المسلمين، وقد أخذه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) منهم.
فقلت: رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) صاحب الشريعة، والحكم حكمه، وليس أبو بكر كذلك.
فقال: ما قلت: هلا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة (عليها السلام)، وإنما قلت: هلا استنزل المسلمين عنه واستوهبه منهم لها، كما استوهب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) المسلمين فداء أبي العاص!
أتراه لو قال: هذه بنت نبيكم قد حضرت تطلب هذه النخلات، أفتطيبون عنها نفسا، أكانوا منعوها ذلك؟
فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو هذا، قال: إنهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرم، وإن كان ما أتياه حسنا في الدين! (1)
قال ابن أبي الحديد: وهذا الخبر أيضا قرأته (2) على النقيب أبي جعفر (رحمه اللّه).
فقال: إذا كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أباح دم هبار بن الأسود لأنه روع زينب
ص: 218
فألقت ذا بطنها، فظهر الحال أنه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة (عليها السلام) حتى ألقت ذا بطنها.
فقلت: أروي عنك ما يقوله قوم أن فاطمة (عليها السلام) روعت فألقت المحسن.
فقال: لا تروه عني، ولا ترو عني بطلانه، فإني متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عندي فيه. (1)
ص: 219
المناظرة الرابعة والثلاثون: مناظرة نظام العلماء التبريزي (1) مع بعض المدنيين في علة دفن الزهراء (عليها السلام) ليلا
قال نظام العلماء التبريزي في كتابه الشهاب الثاقب: إني تحدثت مع رجل من إخواننا السنة في المدينة المنورة، فسألته قائلا: لما دفنت الزهراء (عليها السلام) ليلا، ولم يعملوا لها تشييعا عظيما، وهي ابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
فقال لي المدني: لقد صار للزهراء (عليها السلام) يوم وفاتها تشييع عظيم!
قال: فقلت له: أسألك عن نافع (2) - وهو - من القراء، كم حضر تشييعه يوم وفاته.
قال: لا أدري؟ ولكن ما يزيد على خمسمائة إنسان.
ص: 220
قال: فقلت له: وهل معروف موضع قبره أم لا؟
قال: نعم، مدفون في البقيع، وقبره معلوم.
فقلت له: فإذا كانت الزهراء (عليها السلام) قد صار لها تشييع عظيم، وحضرها الآلاف من أهل المدينة، فكيف لم يعلموا موضع قبرها ومحل دفنها؟
قال: لا أدري، بل أنت قل لي ما السبب؟
قال نظام العلماء: فقلت له: إن سببه، لأنها هي أوصت بدفنها ليلا، وعدم إخبار الناس بوفاتها.
قال المدني: وما سبب ذلك؟
قلت: لأن الرجلين كانا قد ظلماها بعد أبيها وأغضباها، فسخطت عليهما، فأوصت بعدم إخبارهما بوفاتها، لئلا يحضرا تشييعها ودفنها والصلاة عليها (1)،
ص: 221
ولا يمكن منع الرجلين وحدهما من حضورهما، فأوصت بدفنها ليلا، وإخفاء قبرها، احتجاجا على موقفهما منها بعد أبيها (صلى اللّه عليه وآله). (1)
ص: 222
ذهبت في عام ألف وثلاثمائة واثنين وتسعين للتسليم على إمام الحرم النبوي الشيخ عبد العزيز بن صالح في بيته، فقلت له بعد التسليم والتحيات اللازمة: ما يقول شيخنا في معنى الرواية الواردة في صحيح البخاري في المجلد الخامس عن عائشة، جاءت فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عند أبي بكر فطلبت منه ميراث أبيها فمنعها ميراث أبيها فقال: أنا سمعت من أبيك قال (صلى اللّه عليه وآله): نحن معاشر الأنبياء ما تركناه صدقة، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا من فدك، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى اللّه عليه وآله) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجهة في حياة فاطمة (عليها السلام)، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس (1)... إلخ.
فقلت للشيخ: قبل مجئ فاطمة (عليها السلام) عند أبي بكر هل كانت عالمة بأنها لم ترث من أبيها، فلم جاءت عند أبي بكر، وإن كانت لم تعلم برأي أبيها بأنها لم ترث لم لم تقبل قول أبي بكر بعدما قال أبو بكر: أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قال: نحن
ص: 223
معاشر الأنبياء لا نورث (1) بل كذبته عملا حيث أنها هجرته فلم تكلمه حتى ماتت، فإن كان أبو بكر صادقا في نسبة الرواية إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فلازمه رد الصديقة الطاهرة التي شهد القرآن بتطهيرها من الأرجاس في آية: (إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) (2) قول أبيها الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله)، فهل ترضى نفس المسلم نسبة رد قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله) أبي الصديقة الطاهرة، فلازم عدم قبول الصديقة الطاهرة قول أبي بكر في نسبة الرواية إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) عدم صدور الكلام، أعني نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة من الرسول (صلى اللّه عليه وآله).
وأيضا حينما اشتد مرض الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قال عمر: حسبنا كتاب اللّه (3) ولا نحتاج إلى كتابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) الوصية، من جهة أن الرسول أراد تعيين أوصيائه كما في فتح الباري (4) في شرح صحيح البخاري، لكن حينما تطالب الصديقة
ص: 224
بإرث أبيها مع أنها تحتج بآيات الإرث مثل آية (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (1) وآية (رب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (2)، أبو بكر يستدل على عدم الإرث بقول الرسول، مع أن عمر قال: حسبنا كتاب اللّه، أي لا نحتاج إلى قول الرسول.
وقلت للشيخ: لازم هذا الكلام أعني (فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته) غضب فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر، وأيضا لأي علة دفنها علي بالليل، ولم يؤذن بها أبا بكر يصلي عليها؟
فقال الشيخ: يمكن أن يكون لأجل تعجيل تجهيز الميت.
قلت: إن بيت أبي بكر كان قريبا من بيت فاطمة (عليها السلام) لكنها ما طابت نفسها حضوره لدفن جثمانها، ولازم الجمع بين هذه الرواية، والرواية التي وردت في فضيلة فاطمة (عليها السلام) في باب فضائل الصحابة من المجلد الخامس من صحيح البخاري عن مسور بن مخرمة أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني (3)، هو أنه أغضب أبو بكر الرسول الأعظم من جهة أنه أغضب فاطمة (عليها السلام) من جهة منع ميراث أبيها، وغضب الرسول (صلى اللّه عليه وآله) غضب اللّه، لأن القرآن يقول (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (4). (5)
ص: 225
قال الشيخ: لأي علة تجيئون إلى قبر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) وتقولون: السلام عليك أيتها المظلومة، من ظلم فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت الرسول (صلى اللّه عليه وآله)؟!
قلت: قضية الظلم على فاطمة الزهراء (عليها السلام) مذكورة في كتبكم!!
قال: أي كتاب؟
قلت: كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري، راجع الورقة الثالثة عشر من الكتاب.
قال: غير موجود عندي.
قلت: أشتري لك من السوق، فذهبت إلى السوق واشتريت الكتاب وجئت إلى الهيئة، وقلت للشيخ: طالع الورثة الثالثة عشر، وفيها يذكر كيف كانت بيعة علي كرم اللّه وجهه، ثم يقول: إن أبا بكر تفقد قوما تخلفوا عن بيعته، وهم مجتمعون في دار علي، فبعث عمر وقنفذ مرات إلى بيت علي (عليه السلام) فقال: أجب خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال علي (عليه السلام): لا أعلم لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خليفة غيري! قالوا:
ص: 226
لتخرجن للبيعة وإلا أحرقنا البيت ومن فيه، قيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة! قال: وإن (1)، وفي ذيل الورقة يقول: لما اشتد مرض أبي بكر قال: يا ليتني لم أفعل أشياء، وذكر منها التعرض لبيت علي، ولو أعلن علي الحرب. (2)
قلت: يا شيخ، انظر إلى كلام أبي بكر وإنه كيف يتأسف للتعرض لبيت علي (عليه السلام) عند الموت.
قال الشيخ: لكن صاحب هذا الكتاب يميل إلى الشيعة.
قلت: كل من يقول الحق فهو يميل إلى الشيعة. (3)
ص: 227
سألني سائل فقال: من أفضل فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أم مريم بنت عمران (عليها السلام)؟ قلت: وما يعنيك من هذا، وماذا يفيدك، فإن لكل فضلها - صلوات اللّه وسلامه عليها -.
قال: أحب أن أعلم ذلك، لأن اللّه ذكر مريم في القرآن، ولم يذكر فاطمة (عليها السلام).
قلت: إن اللّه قص في القرآن أخبار الماضين، فذكر الأنبياء، وبعض الصلحاء، وذكر الملوك وذكر بعض من هم على شاكلتهم من المتمردين.
كذلك ذكر من النساء الصالحات امرأة إبراهيم، وامرأة فرعون، ومريم بنت عمران، ولم يذكر أحدا ممن كان في عصر النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلا ما ذكره من قصة زيد بن حارثة مع زوجته، وذلك لحكم شرعي كان (صلى اللّه عليه وآله) مكلفا بتطبيقه عمليا بنفسه.
قال: وهل تظن أني أقنع منك بهذا، وألتزم السكوت عما سألتك عنه، إنني أحمق لو فعلت ذلك.
قلت: أنت أحمق بسؤالك، ولأنك أحمق لست تقتنع بما قلته لك، ولكن
ص: 228
قبل الشروع في أيهما أفضل، لا بد من تقديم مقدمة تمهيدا للبحث.
قال: فهات.
قلت: إن الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله) بعثه اللّه تعالى لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وليعرفهم ما كانوا يجهلون، فأورد فيه من الأمثال والقصص ما فيه معتبر للعاقل، فيتحصل بذلك فوائد:
منها: الدلالة على صحة الرسالة المحمدية، حيث إنه (صلى اللّه عليه وآله) لم يقرأ كتابا، ولم يختلف إلى معلم، بل كان أجيرا راعيا، فمن أين له معرفة هذه القصص التي يجهلها أهل التاريخ؟ ومن أين له بهذه القوانين والنظم الأخلاقية والاجتماعية التي قلبت العالم رأسا على عقب، وحولت الناس من همجية الجاهلية، ووحشية العصبية، إلى سعة العدل والإنصاف والمساواة، وجعلتهم بعد العداوة والبغضاء إخوانا.
ومنها: الترغيب في الأعمال الصالحة والصبر عليها مهما كان العمل فيها شاقا، والعناء شديدا، فإن من نظر في أحوال الأنبياء والصلحاء، وما عانوا من المشقات، وقاسوا من المحن، ليجد أن النصر والفلاح كان لهم أخيرا، وآبوا بحسن العاقبة، وباء غيرهم بالخسران.
ومنها: التحذير من بأس اللّه وانتقامه، وتأييد ذلك بما حصل في الأمم السالفة من أنواع العقوبات.
والذي يبعث إلى الناس إنما يخبر عمن تقدمه قبلا، وعن قصصهم وأخبارهم، لا أن يحدث عن تاريخ ولادته وقصة حياته، وأحوال أهله وأولاده، فإن ذلك معلوم عند المعاصرين له، فحديثه عن كل هذا إنما يكون من قبيل تحصيل الحاصل، فلا معنى له إذا.
ص: 229
ومريم كانت ممن تقدم البعثة، وفي قصتها شبه وأحوال غريبة، فيحسن الحديث عنها لإزالة الشبهة، ورد الأمر إلى حقيقته، وفاطمة (عليها السلام) لم تكن كذلك، ولا حصلت معها أي شبهة.
وقد ذكر في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (1)، «اصطفاك»: أي اختارك، وألطف لك، حتى تفرغت لعبادته واتباع مرضاته، وقيل: اصطفاك لولادة المسيح.. عن الزجاج، «وطهرك»، بالإيمان عن الكفر، وبالطاعة عن المعصية.. عن الحسن وسعيد بن جبير، وقيل: طهرك من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء من الحيض والنفاس، حتى صرت صالحة لخدمة المسجد، عن الزجاج.
وقيل: طهرك من الأخلاق الذميمة، والطبائع الردية، (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) ، أي على نساء زمانك، لأن فاطمة بنت رسول اللّه - صلى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها - سيدة نساء العالمين، وهو قول أبي جعفر (عليه السلام).
وروي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين، وقال أبو جعفر (عليه السلام): معنى الآية: اصطفاك من ذرية الأنبياء، وطهرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسى (عليه السلام) من غير فحل، وخرج بهذا من أن يكون تكريرا، إذ يكون الاصطفاء على معنيين مختلفين، (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي اعبديه، وأخلصي له العبادة... عن سعيد بن جبير، وقيل: معناه: أديمي الطاعة له... عن قتادة، وقيل: أطيلي القيام في الصلاة.. عن مجاهد، (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي كما يعمل الساجدون والراكعون، لا أن
ص: 230
يكون ذلك أمرا لها بأن تعمل السجود والركوع معهم في الجماعة، وقدم السجود على الركوع، لأن الواو لا توجب الترتيب، فإنها في الأشياء المتغايرة نظيرة التثنية في المتماثلة، وإنما توجب الجمع والاشتراك، وقيل: معناه: واسجدي لله شكرا واركعي، أي وصلي مع المصلين، وقيل: معناه: صلي في الجماعة... عن الجبائي (1).
قال الرجل: أليس إطلاق «العالمين» يدفع كونها مصطفاة على نساء عالم عصرها.
قلت: الظاهر ما ذكرت، ولكن قد تقدم - عن مجمع البيان - أن الاصطفاء يكون على معنيين مختلفين، فالاصطفاء المطلق: معناه الاختيار، وهو يفيد معنى التسليم، والاصطفاء المتعدي بعلى أيضا معناه الاختيار ولكنه يفيد معنى التقديم، إذا نستطيع القول بأن اصطفاءها على نساء العالمين هو تقديم لها عليهن.
ولكن هذا التقديم هل هو من جميع الجهات، أو من بعضها، فإن كان من جميع الجهات فلا مشاحة في فضلها، هي أفضل من الجميع، فاطمة فمن دونها، وإن كان هذا التقديم من بعض الجهات، فلنا فيه نظر.
ظاهر الآيات التي تتعرض لقصة مريم تفيد التبعيض، فبعد آية بعد هذه الآية يقول: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ...) (2) الخ، وفي سورة الأنبياء: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا
ص: 231
فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (1)، وفي سورة التحريم:
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا...) (2) الخ، ونصوص هذه الآيات لم تشتمل إلا على شئ واحد، اختصت به من بين سائر النساء، وهو ولادة المسيح العجيبة منها من غير ملامسة ذكر، فإذا لا وجه لاصطفائها وتقديمها على نساء العالمين إلا هذا الوجه.
وأما غير ذلك مما اشتملت عليه الآيات، كالتطهير والتصديق بكلمات اللّه وكتبه، وكلام الملائكة معها والقنوت وغير ذلك، فلا يختص فيها، بل يوجد عند غيرها كما يوجد عندها.
وكذلك نداء الملائكة، وأمرهم لها بالقنوت والسجود والركوع، إنما هو أمر لها بالشكر وتعليم لها إياه، وتوجيه كيف تكون العبادة.
فمريم مصطفاة على نساء العالمين لأمر خاص، وهذا الأمر الخاص إنما كان لإزالة شبهة كانت في عصر مريم (عليها السلام) وهو رد دعوى الماديين بقدم العالم، وإنكارهم بدء الخليقة.
وإن لفاطمة (عليها السلام) من الفضل عليها استعانة النبي (صلى اللّه عليه وآله) بها لدفع الشبهة الحاصلة، من جراء ولادتها للمسيح، وقولهم إنه ابن اللّه، فقد جعلوها زوجة لله، تعالى اللّه عن ذلك، ومريم اتهمت بالسوء، فوجب حينئذ ذكر اسمها، والشهادة لها بالبراءة والطهارة والعصمة، ولولا شهادة القرآن لها بذلك لما استطاع أحد إثبات براءتها وطهارة نفسها.
قال: إني مقتنع بهذا الذي ذكرت، ولكن هل من دليل غير هذا يكون
ص: 232
كالشاهد له.
قلت: إن في قوله عز وجل: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (1)، ما يعطي أن اللّه عز وجل لا يختار لرسالته إلا من علم منه الإخلاص له والاجتهاد في مرضاته، وعدم الهم بمعصيته كما ورد في بعض الأخبار أنه أوحى إلى موسى (عليه السلام): يا موسى أتدري لماذا اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ فقال: لا يا رب، فقال: إني نظرت في قلوب عبادي فلم أجد أحدا أذل إلي نفسا منك (2)، وعلى هذا فالأنبياء هم أفضل الخلق وأشرفهم، وكل نبي فلا بد أن يكون أشرف أهل زمانه، فهو سيد أهل زمانه، وحيث إن محمدا (صلى اللّه عليه وآله) هو سيد النبيين، فذريته أشرف من ذراري الأنبياء السابقين، وأمته من الأمم الماضين.
وإن اللّه عز وجل اختار مريم ليجعلها وابنها آية، وإن الذي حصلت لتصديقه الآية أو حصلت على يده الآية، لهو أفضل من الآية، فإن كانت المعجزات آيات، فأصحاب المعجزات آيات أعظم من الآيات، وإذا كان محمد (صلى اللّه عليه وآله) أشرف من أولي العزم، ومنهم عيسى (عليه السلام) ففاطمة (عليها السلام) أشرف من جميع نساء الأمم، ومنهم مريم (عليها السلام)، ومريم شرفت بعيسى، ففاطمة محاطة بالشرف من جميع نواحيها، أبوها النبي الأعظم، وأمها ساعدت ذلك النبي الأكبر، والإسلام لم يقم إلا بمال خديجة (عليها السلام) وسيف علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبعلها سيد الوصيين، وولداها سيدا شباب أهل الجنة، وهي سيدة نساء العالمين، وأم الأئمة الميامين.
إن في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
ص: 233
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)») (1)، دلالة هي أعظم الدلالات على شرفها العظيم وفضلها العميم، فالرجس، معناه: كل نجاسة حسية ومعنوية فهو يشمل كل ما يتعلق بذلك، ولو أنها باطلة، وإن ما اتهمت به مريم وإن كان كذبا وإفكا وزورا ولكن الناس قالوا: وإن الشاعر العربي يقول:
قد قيل ذلك إن صدقا وإن كذبا *** فما اعتذارك من قول إذا قيلا (2)
وإن مريم طهرها اللّه، ولكن لم يذكر المصدر مؤكدا له، كما أكد التطهير بالمصدر في الآية الكريمة.
ولو أكد ذلك لمريم، بأن يقول: وطهرك تطهيرا، لما استطاع أحد أن ينسب إليها شيئا من القبيح.
وفي حديث عن النبي (صلى اللّه عليه وآله): علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (3)، وفي رواية أفضل من أنبياء بني إسرائيل، فإذا كان العلماء في هذه الأمة أفضل من الأنبياء وليس العلماء بالمعصومين، فلم لا تكون فاطمة (عليها السلام) أفضل، وهي الطاهرة الزكية النقية المعصومة، وفي هذا كفاية لمن تدبر، والحمد لله رب العالمين (4).
ص: 234
ص: 235
ص: 236
المناظرة الثامنة والثلاثون: مناظرة أبي الجارود مع بعضهم في أن الحسن والحسين (عليهما السلام) ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وكلام الإمام الباقر (عليه السلام) له في ذلك (1)
روي عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا الجارود!
ما يقولون في الحسن والحسين (عليهما السلام)؟
قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟
ص: 237
قال: قلت: بقول اللّه في عيسى بن مريم (عليهما السلام): (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (1) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم.
قال: فأي شئ قالوا لكم؟
قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب.
قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟
قال: قلت: احتججنا عليهم بقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) (2).
ثم قال: فأي شئ قالوا؟
قال: قلت: قالوا: قد يكون في كلام العرب ابني رجل من واحد، فيقول أبناءنا وإنما هما ابن واحد.
قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): واللّه يا أبا الجارود! لأعطينكها من كتاب اللّه آية تسميهما أنهما لصلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا يردها إلا كافر.
قال: قلت: جعلت فداك وأين؟
قال: قال: حيث قال اللّه تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ - إلى قوله - وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) (3) فسلهم يا
ص: 238
أبا الجارود هل يحل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا: نعم، فكذبوا واللّه، وإن قالوا: لا، فهما واللّه ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لصلبه، وما حرمن عليه إلا للصلب. (1)
ص: 239
قال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة: وحدث أبو أحمد هاني بن محمد العبدي، قال: حدثني أبو محمد، رفعه إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر، خليفتان يجبى إليهما الخراج؟
فقلت: يا أمير المؤمنين! أعيذك باللّه أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، كما علم ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
فقال: قد أذنت لك.
فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: إن الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت، فناولني يدك جعلني اللّه فداك.
قال: ادن مني! فدنوت منه، فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني وقال: إجلس يا موسى! فليس عليك بأس، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه، فرجعت إلي نفسي، فقال: صدقت وصدق جدك (صلى اللّه عليه وآله) لقد تحرك
ص: 240
دمي واضطربت عروقي حتى غلبت علي الرقة وفاضت عيناي، وأنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، لم أسأل عنها أحدا، فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني عنك أنك لم تكذب قط، فأصدقني فيما أسألك مما في قلبي.
فقلت: ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت أمنتني.
قال: لك الأمان إن أصدقتني، وتركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.
فقلت: ليسأل أمير المؤمنين عما يشاء.
قال: أخبرني لم فضلتم علينا، ونحن وأنتم من شجرة واحدة، وبنو عبد المطلب ونحن وأنت واحد، إنا بنو عباس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقرابتهما منه سواء؟
فقلت: نحن أقرب.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لأن عبد اللّه وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد اللّه ولا من أم أبي طالب.
قال: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلى اللّه عليه وآله) والعم يحجب ابن العم (1)، وقبض
ص: 241
ص: 242
ص: 243
ص: 244
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمه حي؟ فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة، ويسألني عن كل باب سواه يريده.
فقال: لا، أو تجيب.
فقلت: فآمني.
قال: قد آمنتك قبل الكلام.
فقلت: إن في قول علي بن أبي طالب (عليه السلام): إنه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة، إلا أن تيما وعديا وبني أمية قالوا: العم والد، رأيا منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ومن قال بقول علي (عليه السلام) من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي (عليه السلام)، وقد حكم به، وقد ولاه أمير المؤمنين فأمر بإحضاره
ص: 245
وإحضار من يقول بخلاف قوله، منهم: سفيان الثوري، وإبراهيم المدني، والفضيل بن عياض، فشهدوا أنه قول علي (عليه السلام) في هذه المسألة، فقال لهم فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز: لم لا تفتون وقد قضى به نوح بن دراج؟ فقالوا: جسر وجبنا، وقد أمضى أمير المؤمنين (عليه السلام) قضيته بقول قدماء العامة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: أقضاكم علي (1) وكذلك عمر بن الخطاب قال: علي أقضانا (2) وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي (صلى اللّه عليه وآله) أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء.
قال: زدني يا موسى!
قلت: المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك؟
فقال: لا بأس به.
فقلت: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم يورث من لم يهاجر، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.
فقال: ما حجتك فيه؟
قلت: قول اللّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (3) وإن عمي العباس لم يهاجر.
ص: 246
فقال لي: إني أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا، أم أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟
فقلت: اللّهم لا، وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين.
ثم قال لي: لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ويقولوا لكم: يا بني رسول اللّه! وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي (صلى اللّه عليه وآله) جدكم من قبل أمكم؟ (1)
فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟
ص: 247
فقال: سبحان اللّه! ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.
فقلت له: لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه.
فقال: ولم؟
فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك. (1) فقال: أحسنت يا موسى! ثم قال: كيف قلتم إنا ذرية النبي (صلى اللّه عليه وآله) والنبي لم يعقب، وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنت ولد الابنة ولا يكون لها عقب له.
قلت: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه، إلا أعفيتني عن هذه المسألة.
فقال: لا، أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم، كذا أنهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه
ص: 248
بحجة من كتاب اللّه، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ ألف ولا واو إلا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (1) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: تأذن لي في الجواب؟
قال: هات.
فقلت: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (2) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟
فقال: ليس لعيسى أب.
فقلت: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك الحقنا بذراري النبي (صلى اللّه عليه وآله) من قبل أمنا فاطمة (عليها السلام)، أزيدك يا أمير المؤمنين؟
قال: هات.
قلت: قول اللّه عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (3) ولم يدع أحد أنه أدخل النبي (صلى اللّه عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن
ص: 249
والحسين، فأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، على أن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمد! إن هذه لهي المواساة من علي قال: لأنه مني وأنا منه.
فقال جبرئيل: «وأنا منكما يا رسول اللّه» ثم قال:
لا سيف إلا ذو الفقار *** ولا فتى إلا علي (1) فكان كما مدح اللّه عز وجل به خليله (عليه السلام) إذ يقول: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (2) إنا نفتخر بقول جبرئيل أنه منا.
فقال: أحسنت يا موسى! إرفع إلينا حوائجك.
فقلت له: إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده (صلى اللّه عليه وآله) وإلى عياله.
فقال: ننظر إن شاء اللّه. (3)
وروي أنه لما حج الرشيد ونزل في المدينة، اجتمع إليه بنو هاشم وبقايا
ص: 250
المهاجرين والأنصار ووجوه الناس، وكان في الناس الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام).
فقال لهم الرشيد: قوموا إلى زيارة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال: ثم نهض معتمدا على يد أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) حتى انتهى إلى قبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فوقف ثم قال: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا بن عم، افتخارا! على قبائل العرب الذين حضروا معه، واستطالة عليهم بالنسب؟!
قال: فنزع أبو الحسن موسى (عليه السلام) يده من يده ثم تقدم، فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا أبة.
قال: فتغير لون الرشيد ثم قال: يا أبا الحسن، إن هذا لهو الفخر الجسيم. (1)
ص: 251
قال السيد المرتضى (1) - عليه الرحمة - وحدثني الشيخ - المفيد - أدام اللّه
ص: 252
عزه، قال: روي أنه لما سار المأمون إلى خراسان وكان معه الإمام الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، فبينا هما يسيران، إذ قال له المأمون: يا أبا الحسن إني فكرت في شئ، فسنح لي الفكر الصواب فيه، إني فكرت في أ مرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية.
فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لهذا الكلام جوابا، فإن شئت ذكرته لك وإن شئت أمسكت.
فقال له المأمون: لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه.
قال له الرضا (عليه السلام): أنشدك اللّه يا أمير المؤمنين، لو أن اللّه تعالى بعث محمدا (صلى اللّه عليه وآله) فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، فخطب إليك ابنتك أكنت تزوجه إياها؟
فقال: يا سبحان اللّه، وهل أحد يرغب عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
فقال له الرضا (عليه السلام): أفتراه كان يحل له أن يخطب ابنتي (1)؟
قال: فسكت المأمون هنيئة، ثم قال: أنتم واللّه أمس برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) رحما.
ص: 253
قال الشيخ - أدام اللّه عزه -: وإنما المعنى لهذا الكلام أن ولد العباس يحلون لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كما يحل له البعداء في النسب منه، وأن ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام) ومن أمامة بنت زينب ابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يحرمن عليه، لأنهن من ولده في الحقيقة فالولد ألصق بالوالد وأقرب وأحرز للفضل من ولد العم بلا ارتياب بين أهل الدين، فكيف يصح مع ذلك أن يتساووا في الفضل بقرابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فنبهه الرضا (عليه السلام) على هذا المعنى وأوضحه له (1).
ص: 254
جالسا مستوفزا، قال: يا شعبي هذا يوم أضحى، وقد أردت أن أضحي برجل من أهل العراق، وأحببت أن تسمع قوله، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.
فقلت: أيها الأمير، لو ترى أن تستن بسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وتضحي بما أمر أن يضحي به، وتفعل فعله، وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره.
فقال: يا شعبي، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه، لكذبه على اللّه وعلى رسوله، وإدخاله الشبهة في الإسلام.
قلت: أفيرى الأمير أن يعفيني من ذلك؟
قال: لا بد منه.
ثم أمر بنطع فبسط، وبالسياف فأحضر، وقال: أحضروا الشيخ، فأتوه به، فإذا هو يحيى بن يعمر (1)، فأغممت غما شديدا، فقلت في نفسي: وأي شئ
ص: 256
يقوله يحيى مما يوجب قتله؟
فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق؟
قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء أهل العراق.
قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسن والحسين (عليهما السلام) من ذرية رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)
قال: ما أنا زاعم ذلك، بل قائل بحق.
قال: وبأي حق قلت؟
قال: بكتاب اللّه عز وجل.
فنظر إلي الحجاج، وقال: إسمع ما يقول، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب اللّه عز وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ فجعلت أفكر في ذلك، فلم أجد في القرآن شيئا يدل على ذلك.
وفكر الحجاج مليا ثم قال ليحيى: لعلك تريد قول اللّه عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (1) وأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خرج للمباهلة ومعه علي وفاطمة والحسن
ص: 257
والحسين (1) (عليهم السلام).
قال الشعبي: فكأنما أهدى لقلبي سرورا، وقلت في نفسي: قد خلص يحيى، وكان الحجاج حافظا للقرآن.
فقال له يحيى: واللّه، إنها لحجة في ذلك بليغة، ولكن ليس منها أحتج لما قلت.
فاصفر وجه الحجاج، وأطرق مليا ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال: إن جئت من كتاب اللّه بغيرها في ذلك، فلك عشرة آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حل من دمك.
قال: نعم.
قال الشعبي: فغمني قوله فقلت: أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه، ويتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه، فإن جاءه بعد هذا بشئ لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو.
فقال يحيى للحجاج: قول اللّه عز وجل (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) (2) من عنى بذلك؟
قال الحجاج: إبراهيم (عليه السلام).
قال: فداود وسليمان من ذريته؟
ص: 258
قال: نعم.
قال يحيى: ومن نص اللّه عليه بعد هذا أنه من ذريته؟
فقرأ يحيى: (وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (1).
قال يحيى: ومن؟
قال: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) (2).
قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذرية إبراهيم (عليه السلام)، ولا أب له؟
قال: من قبل أمه مريم (عليها السلام).
قال يحيى: فمن أقرب: مريم من إبراهيم (عليه السلام) أم فاطمة (عليها السلام) من محمد (صلى اللّه عليه وآله)؟ وعيسى من إبراهيم، أم الحسن والحسين (عليهما السلام) من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
قال الشعبي: فكأنما ألقمه حجرا.
فقال: أطلقوه قبحه اللّه، وادفعوا إليه عشرة آلاف درهم لا بارك اللّه له فيها.
ثم أقبل علي فقال: قد كان رأيك صوابا ولكنا أبيناه، ودعا بجزور فنحره وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه، وما تكلم بكلمة حتى افترقنا ولم يزل مما احتج به يحيى بن يعمر واجما (3).
ص: 259
ص: 260
ص: 261
ص: 262
يقول السيد محمد جواد المهري في مذكراته المدرسية: بعد بضع ساعات وعندما حان وقت لقائنا، دخلت غرفة المعلمين بهلع وحذر، فلما وجدت الأستاذ في مكانه كالمعتاد شعرت بالارتياح، وبعد ما حييته رد الجواب وحدثته بما دار بيني وبين المدير، فبدأ عليه الاستياء والضجر، وقال بدهشة وحيرة:
كنت راغبا بالحوار والحديث أكثر من هذا، وأود معرفة رأيكم بشأن عدة قضايا فقهية مختلف فيها، وأريد معرفة آراء علماء وفقهاء الشيعة في ما يخص التقية، ومصحف فاطمة، والسجود على التربة، والجمع بين الصلاتين، والكثير من المواضيع الأخرى، ولكن من الأفضل في ظل هذا الوضع الذي استجد أن نطوي ملف المواضيع السابقة، إلى حين توفر الفرصة المناسبة في المستقبل لنواصل الحوار الممتع بإذن اللّه، وإلا فأنني آمل الاطلاع على آراء الشيعة بشأن القضايا المختلفة من خلال التحقيق في كتبهم.
عبرت له عن أسفي عما حصل ووعدته عقد لقاء أو لقائين آخرين لمواصلة حوارنا من أجل إنهاء موضوع الخلافة وأوصياء الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فوافق على هذا الرأي. واصلت بحثنا السابق على الرغم من استيائنا لما حصل.
ص: 263
فقلت: كان موضوعنا يدور حول أهل البيت (عليهم السلام) الذين أوصى بهم الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في مواقف شتى، وأمر أمته بالرجوع إليهم واتباعهم وطاعتهم، وأن لا يتخلفوا عنهم فيهلكوا، وتبين أن أهل البيت هم علي وفاطمة والحسنان (عليهم السلام)، وليس المراد زوجات الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ولا غيرهن.
وهنا سأل الأستاذ: أليس سائر أئمتكم من أهل البيت (عليهم السلام)؟
قلت: إنهم ليسوا سوى أهل البيت (عليهم السلام)، هم آل الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وأوصياؤه وخلفاؤه بالحق، لهم الحكومة والإمامة على أمة محمد إلى يوم القيامة، وهم وإن كانوا في الظاهر تحت كبت الحكومات الغاصبة الجائرة في عهودهم، إلا أنهم كانوا أئمة عصرهم وخلفاءه، وكان يجب على الناس - استنادا إلى أمر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) - طاعتهم واتباعهم والانصياع لأوامرهم كالانصياع لأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وقد كان لهم بطبيعة الحال أتباع أوفياء في كل عصر، لم يتخلفوا عنهم لحظة تحت أسوء الظروف السياسية، ويتمسكون بأوامرهم الشرعية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
وقد حدد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أهل بيته بعلي وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) لأن هؤلاء فقط هم الذين كانوا في زمنه، وإلا فإن أهل البيت أو آل محمد يشمل جميع الأئمة الذين يفتخر الشيعة بالانتماء إليهم، ولم يتخلفوا لحظة عن اتباعهم امتثالا لأمر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فيهم.
ومثلما أوصى الرسول لعلي (عليه السلام)، فقد أوصى لأبناء علي أيضا، وهذا ما لم يشر إليه أبناء العامة في هذه الروايات بالكامل إلا بعض المنصفين منهم، مثل مؤلف كتاب «ينابيع المودة» (رحمه اللّه)، لقد حدد الرسول الأئمة والأوصياء بعده بإثني عشر خليفة وإماما، وهذا ما بلغ حد التواتر في كتب الفريقين، فإن فكرة الأئمة أو
ص: 264
الخلفاء الاثني عشر لا تنطبق إلا على عقيدة الشيعة، الذين يعتقدون باثني عشر إماما.
الأستاذ: هل يمكنك ذكر الروايات التي تصفها بالمتواترة؟
قلت: لقد دونت بعض هذه الروايات احتياطا مع اختلافها في الألفاظ وجلبتها معي، لأني كنت أعلم أن بحثنا سيتناول أوصياء الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وهي كالتالي:
1 - «الأئمة من بعدي اثنا عشر، من أهل بيتي» (1).
تلاحظ في هذا الحديث أن الرسول جاء بكلمة «الأئمة» وبعبارة «أهل بيتي»، حيث يتبين أن الأئمة من بعده هم أهل بيته، وأهل بيته كما ثبت لدينا هم علي وفاطمة وابناهما (عليهم السلام).
2 - «يملك هذه الأمة اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل» (2).
وردت أكثر روايات السنة في هذا الموضوع تحت عنوان: «نقباء بني إسرائيل»، ووردت في بعضها عبارة: «عدة أصحاب موسى»، وهي إشارة إلى الآية الشريفة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) (3).
ويفهم من هذه الآية - كما تلاحظون - أن اللّه هو الذي بعث النقباء الاثنا عشر إلى بني إسرائيل، ومن الطبيعي أن أولئك النقباء كانوا أنبياء، ولكن بما أن
ص: 265
نبينا (صلى اللّه عليه وآله) هو خاتم الأنبياء، لهذا فإن النقباء - الأئمة (عليهم السلام) - من بعده ليسوا أنبياء، وإن كانوا في مصاف الأنبياء، بل ويفوقونهم من حيث الفضيلة والعصمة ووجوب الاتباع.
الأستاذ: في الحقيقة كنت أرغب خوض البحث في قضية الغلو والمبالغة عندكم أنتم الشيعة (1) بشأن علي وأبنائه، فكيف تعتبرون أئمتكم أفضل من الأنبياء؟ (2)
ص: 266
ص: 267
قلت: لو أنك قرأت الروايات الواردة عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بحقهم، واعتقدت بهم لوصلت إلى النتيجة نفسها، فثمة موارد يعتبر فيها الرسول (صلى اللّه عليه وآله) علماء أمته أفضل من أنبياء بني إسرائيل، ولا شك أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين اصطفاهم اللّه لخلافة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، أفضل من العلماء (1).
3 - «لا تزال أمتي على الحق ظاهرين، حتى يكون عليهم اثنا عشر أميرا كلهم من قريش» (2).
4 - «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (3).
ص: 268
وقد وردت نظير هذه العبارات التي سقناها في أكثر من أربعين سندا معتبرا في كتب السنة، وهي تدلل في جميع الأحوال على امتداد خط النبوة على يد اثني عشر إماما من قريش إلى يوم القيامة، وهذا الامتداد في خط النبوة والإمامة باق إلى يوم القيامة، ولا ينطبق مطلقا إلا على عقيدة الشيعة.
وورد في كتاب «ينابيع المودة» صراحة، أن هؤلاء الخلفاء الاثني عشر هم من بني هاشم، «بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من بني هاشم» (1)، وجاءت في بعض المصادر كما نقل، عبارة «من أهل بيتي»، روى الحافظ إبراهيم الحمويني عن ابن عباس أن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه وآله) قال: « إن خلفائي وأوصيائي وحجج اللّه على الخلق بعدي لاثنا عشر، أولهم أخي وآخرهم ولدي.
قيل: يا رسول اللّه، ومن أخوك؟
قال: علي بن أبي طالب.
قيل: فمن ولدك؟
قال: المهدي، الذي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما » (2).
ومن جهة أخرى نقل الخطيب الخوارزمي عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: « من أحب أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي، فليتول علي بن أبي طالب، وذريته الطاهرين، أئمة الهدى ومصابيح الدجى من بعده،
ص: 269
فإنهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة » (1).
وجاء في روايات كثيرة في كتب السنة أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وصف وبين الأئمة بعد علي بن أبي طالب (عليه السلام) بصفة «خلفائي» أو «أوصيائي» أو «سادات أمتي» أو «حجج اللّه على خلقه بعدي» أو «الأئمة الراشدين من ذريتي» وتدل بأجمعها على إمامة وخلافة هؤلاء الاثني عشر، الذين أولهم علي وآخرهم المهدي صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
الأستاذ: ذكرت مصادر الروايات التي تبين عدد خلفاء الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ولم يأت ذكر لصحيح البخاري وصحيح مسلم، فهل يحتوي هذان الكتابان على مثل هذه الروايات أو لا؟
قلت: أولا: ليس من الضروري أن تكون جميع الروايات في هذين الكتابين، ألا تكفي كل كتب الحديث والتفسير التي ذكرت؟ ثم إنه قد يكون للشك في مثل هذه الرواية - إذا كانت في كتاب أو كتابين ولها سند واحد أو سندان لا أكثر - مجال، لكنها وردت في كتب كثيرة وبأكثر من أربعين سندا، ونقلت بعبارات مختلفة، فهي إذن في حد التواتر وفي الحد القطعي، ولا يبقى مجال للشك فيها.
ثانيا: إن هذه الروايات وردت أيضا في صحيحي البخاري ومسلم، وقد دونتها وسأشير إليها الآن، ويبدو أن سؤالك قد جاء في محله.
نقل البخاري في صحيحه عن جابر بن سمرة أنه قال: سمعت رسول
ص: 270
اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: «يكون اثنا عشر أميرا»، فقال: كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال:
«كلهم من قريش» (1).
وجاءت في صحيح مسلم، كتاب الإمارة، روايتان بهذا المضمون:
1 - «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثني عشر خليفة كلهم من قريش».
2 - «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثني عشر رجلا» (2).
الأستاذ: لم يأت شئ في هذين الكتابين يشير إلى أنهم من أهل البيت، أو من أبناء علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، فمن أين تستدل على أنهم هم أئمة الشيعة الاثني عشر لا غيرهم؟ قلت: إذن من يكونوا؟ الأستاذ: لا أدري ماذا قال علماء السنة الكبار في هذه الآية؟ فهل تعاملوا معها كتعاملهم مع سائر الأحاديث الأخرى التي نقلوها بأنفسهم ومروا عليها مرور الكرام، أم أنهم عرضوا رأيهم فيها؟ وعلى كل حال فبعد الخلفاء الراشدين، والحسن والحسين، عرف بعض خلفاء بني أمية كعمر بن عبد العزيز، وبعض خلفاء بني العباس بالعدالة، فلعلهم هم المقصودون.
قلت: أولا: إن كان الأمر كما ذكرت لانقطع تسلسل الخلفاء، فهل يمكن احتساب شخصين من البداية، وشخصين من الوسط، وشخصين من النهاية، وإهمال الآخرين؟ ثم إنه باستثناء عمر بن عبد العزيز الذي كان أفضل نسبيا من
ص: 271
سائر خلفاء بني أمية، ماذا يمكن أن يشاهد في هؤلاء الخلفاء سوى الظلم والجور على عباد اللّه، والتبذير في بيت المال، وارتكاب المحرمات، وشرب الخمر، والمجاهرة بالفساد؟
والتأريخ حافل بشتى صور الظلم والاضطهاد والقتل والتعذيب والفساد الذي ارتكبه خلفاء بني أمية وبني العباس، ويؤسفني أن الوقت لا يسمح لي بالحديث عن هذا الموضوع أكثر، وإلا فإن أمثلة ظلمهم وجورهم بحد من الكثرة، بحيث سودت صفحات كتب السنة كما سودت صفحات التاريخ.
ثانيا: من الجدير بالذكر أن الكثير من علماء السنة الذين أوردوا هذه الروايات سعوا إلى جعلها تتطابق بشكل أو بآخر على حكام بني أمية وبني العباس، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك حتى جعلوها تنطبق على السلاطين العثمانيين، فأصبحت عارية عن الحقيقة، بل وتثير السخرية والاستهزاء.
ويكفي أن نشير على سبيل المثال إلى ما قاله المفكر السني الكبير جلال الدين السيوطي في هذا الصدد: «وجد من الاثني عشر خليفة الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران أحدهما المهدي لأنه من آل بيت محمد (صلى اللّه عليه وآله)» (1).
هل يمكن العثور على تحليل يثير السخرية أكثر من هذا؟ وكيف ذكر الحسن (عليه السلام) ولم يذكر الحسين (عليه السلام)؟ ثم كيف أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) يجعل عليا (عليه السلام) خليفة
ص: 272
له، ويجعل العدو اللدود - أعني معاوية - في قبال علي (عليه السلام)، ومعاوية هو الذي أراق كل تلك الدماء ظلما، وارتكب كل تلك الجرائم، خليفة له؟
لا ينقضي تعجبي من السيوطي مع سعة علمه كيف يعتبر معاوية من خلفاء الرسول، ويتجاهل سبط رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مع علو مقامه ومرتبته؟
وكيف يعد معاوية من الخلفاء وهو الذي فرض سب علي (عليه السلام) علنا، وقتل أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الأوفياء، ونصب ابنه شارب الخمر خليفة على المسلمين، ولا يعد الحسين بن علي (عليه السلام) خليفة، وهو الذي قال الرسول (صلى اللّه عليه وآله) عنه وعن أخيه: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (1)، «الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا» (2)؟
ويكون معاوية الذي لعنه الرسول (صلى اللّه عليه وآله) عدة مرات علانية (3) وأمر بقتله، خليفة، ولا يحسب لأبناء علي (عليه السلام) الذين أذعن العالم بأسره لعظمتهم، وإيمانهم وتقواهم ومكانتهم، وأرغموا الصديق والعدو على تقديرهم وإجلالهم، أي حساب!
الأستاذ: ومتى أمر الرسول بقتل معاوية؟
قلت: في قوله (صلى اللّه عليه وآله): «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» (4).
ص: 273
يا أستاذ، إن مساوئ ومثالب ومفاسد معاوية بحد من الكثرة بحيث لا تستلزم البيان، ويكفي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لما رآه مقبلا هو وعمرو بن العاص رفع يديه إلى السماء وقال: «اللّهم أركسهما ركسا ودعهما إلى النار دعا» (1).
هذا مضافا إلى ما أشار الرسول (صلى اللّه عليه وآله) إليه في بعض المواقف إلى الفتن التي ستقوم بعده، وأمر الناس صراحة في مثل هذه الموارد بالتمسك بعلي وأبنائه (عليهم السلام).
قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): « ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب (2) فإنه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وفاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل » (3).
واستجابة لأمر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فقد تمسكنا في جميع الفتن بعلي وآل علي، الذين تخلفوا عنه، ونحن على ثقة أن النجاة والفلاح لأتباع وشيعة علي (عليه السلام)، لكن
ص: 274
ولم يرجعوا إليه - وهو فاروق الأمة بالنص الصريح الوارد عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - ماذا سيكون جوابهم غدا أمام اللّه؟
إن من يعتبر معاوية خليفة لا بد وأن يطيعه، ومن يطيعه يسب عليا بالنتيجة، وهو من قال عنه الرسول (صلى اللّه عليه وآله): «من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب اللّه» (1).
فكيف يوالي إخواننا السنة معاوية، ويدعون في الوقت نفسه موالاة علي (عليه السلام)؟ أليس من المحال الجمع بين النقيضين؟
وإذا ما تجاوزنا هذا، فما هو قولكم في سائر الخلفاء الاثني عشر؟ كيف يمكن تحديد الخلفاء الحقيقيين الاثني عشر للرسول (صلى اللّه عليه وآله) من بين كل هؤلاء الذين هم في الظاهر خلفاء للرسول (عليه السلام)؟ وهنا يجب الرجوع إلى صديق الأمة الأكبر وفاروق الحق من الباطل ألا وهو علي (عليه السلام).
وعلى كل حال فإذا كانت الكتب الروائية السنية قد ذكرت عدد الأئمة فقط، أو نقلت في بعض الموارد أسماءهم بالتفصيل أو بالإيجاز، فإن كتبنا نحن الشيعة قد ذكرت الأسماء المباركة للأئمة الاثني عشر نقلا عن لسان الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وعن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو مما لا شك فيه.
أنا آسف لأن الوقت قد انتهى وإلا لقرأت لك آية من القرآن تبين الأئمة الاثني عشر، ولكن نتركها إلى اللقاء القادم الذي سيكون آخر لقاء بيننا.
ص: 275
الأستاذ: تقول آية من القرآن؟!
قلت: نعم، وهل هذا أمر عجيب؟
الأستاذ: لا بد أنك تقصد قرآن الشيعة، لا القرآن المتداول؟
قلت: يا أستاذ، نحن لا نقبل بغير القرآن الموجود الذي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) (1)، ومثل هذه القضايا لم تأت في القرآن بوضوح وصراحة، وتستلزم مزيدا من الدراسة الجادة والدقيقة، وكن على ثقة حتى لو أن أسماء الأئمة الاثني عشر وردت في القرآن صراحة لتجاهلوها، ولأنكروها كما فعلوا مع سنة الرسول (عليه السلام).
الأستاذ: إذن فأنتم تأولونه؟
قلت: بل هو تصريح أوضح من التأويل، انتظر هنيهة ليتضح لك ذلك في اللقاء القادم بإذن اللّه.
الأستاذ: إلى اللقاء.
قلت: في أمان اللّه حتى اللقاء القادم (2).
ص: 276
الطالب: جاء أحد أساتذة الشريعة في الأردن واسمه الدكتور خالد نوفل إلى الكلية للتدريس، وإني كنت من طلاب هذه الكلية، ومعتقدا بمذهب الشيعة، وأحضر درسه، فأراه يستغل الفرص المناسبة للطعن في الشيعة وينسب إليهم أمورا لا أساس لها، فوقع يوما حوار بيني وبينه حول خلفاء النبي (صلى اللّه عليه وآله) الذي جاء عدد من الروايات إنهم اثني عشر خليفة، فاسمعوا حوارنا ثم اقضوا بيننا، ثم انظروا أينا أقوى حجة، إليكم الحوار:
الأستاذ: لا يوجد في كتب الحديث مثل هذا الحديث قاله النبي (صلى اللّه عليه وآله) إن عدد الخلفاء اثني عشر خليفة، بل إن هذا الحديث اختلقته أنت من نفسك.
الطالب: بل جاء هذا الحديث في الكتب المعتمدة لأهل السنة وصحاحهم وفي مواضيع عديدة، وبتعابير مختلفة وعلى سبيل المثال.
ورد في كتب الحديث عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: «الخلفاء بعدي اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل كلهم من قريش» (1).
ص: 277
فعليه جاء هذا الحديث في مستنداتكم وكتبكم، التي هي موضع اعتمادكم وثقتكم.
الأستاذ: لو سلمنا بصحة هذا الحديث فمن هم هؤلاء الاثني عشرة نفر في رأيكم:
الطالب: هناك عشرات بل مئات الروايات التي تذكر أسماءهم، وهم عبارة عن: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الحسن بن علي (عليه السلام)، الحسين بن علي (عليه السلام)، علي بن الحسين «زين العابدين» (عليه السلام)، محمد بن علي «الباقر» (عليه السلام)، جعفر بن محمد «الصادق» (عليه السلام)، موسى بن جعفر «الكاظم» (عليه السلام)، علي بن موسى «الرضا» (عليه السلام)، محمد بن علي «الجواد» (عليه السلام)، علي بن محمد «الهادي» (عليه السلام)، الحسن بن علي «العسكري» (عليه السلام)، الحجة بن الحسن، إمام الزمان المهدي (عليه السلام).
الأستاذ: هل إن المهدي لا زال حيا؟
الطالب: نعم، إنه حي، ولأجل أمور لا نعلمها فهو غائب عن أنظارنا، وعندما تتوفر الأرضية الصالحة في العالم يخرج من وراء ستار الغيب، ويمسك بزمام قيادة العالم.
الأستاذ: متى ولد المهدي (عليه السلام)؟
الطالب: ولد الإمام المهدي (عليه السلام) في سنة 255 هجري قمري، وقد مضى من عمره الشريف حتى الآن 1158 ه ق.
الأستاذ: كيف يمكن للإنسان أن يعمر أكثر من ألف سنة، والحد الطبيعي لعمر الإنسان هو مأة سنة.
الطالب: نحن مسلمون ونعتقد بالقدرة الإلهية، وليس هناك مانع مع اقتضاء مشيئة اللّه، أن يعمر ألف سنة.
ص: 278
الأستاذ: آمنا بقدرة اللّه، ولكن هذا شئ خارج عن سنة اللّه في الخلق.
الطالب: أنتم تصدقون بالقرآن كما نحن نصدق، قول اللّه في الآية 14 من سورة العنكبوت: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) ، ويستفاد من الآية الكريمة أن نوحا (عليه السلام) لبث في قومه 950 سنة قبل الطوفان، فعليه، إنه سبحانه وتعالى قادر أن يمن على الإنسان بهذا العمر وأكثر منه.
وأخبر النبي الأكرم (صلى اللّه عليه وآله) في موارد عديدة عن مجئ الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بعنوان إمام وحجة لله يملأ الأرض قسطا وعدلا، وبهذا المعنى جاءت مئات بل أكثر من ألف رواية عن طريق الشيعة والسنة لا يعتريها الشك والشبهة ولا يمكن لأحد أن ينكرها، إليك نموذجا منها: قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): «المهدي من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا» (1).
وعندما وصل الحديث هاهنا بين الأستاذ والأدلة المنطقية للطالب، وكونها من مستندات وصحاح أهل السنة، أختار الأستاذ السكوت، فاستغل الطالب الفرصة فقال: نرجع إلى صلب الموضوع، هل صدقتم أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «الخلفاء بعدي اثنا عشر...»؟ وسألتني عنهم فذكرتهم لكم، والآن إني أسألك من هم في رأيكم؟
الأستاذ: إن هؤلاء الخلفاء الذين ذكرهم النبي (صلى اللّه عليه وآله) أربعة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليه السلام)، ثم الحسن (عليه السلام) ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، ويحتمل المهدي العباسي ثالث خلفاء بني العباس، وكذا يحتمل الطاهر العباسي، الخلاصة في رأينا إن هؤلاء اثني عشرة خليفة غير معنونين،
ص: 279
وأقوال علمائنا في هذه المسألة مختلفة ومتضاربة.
الطالب: قال النبي (صلى اللّه عليه وآله) في حديث الثقلين الذي يرويه الفريقان وجميع المسلمين: «إني تركت فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي...» (1).
ومن الواضح، أن أبا بكر وعمر وعثمان وأمثال ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والمهدي العباسي ليسوا من عترة وأهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فعليه لماذا نغدو في تشخيص الخلفاء الاثني عشر بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حيارى، وحديث الثقلين يصرح أنهم عترة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ويصدق في عقيدة الشيعة من الإمام علي (عليه السلام) إلى الإمام المهدي (عليه السلام).
الأستاذ: أمهلني لكي أطالع أكثر في هذه المسألة، والآن لا أجد جوابا قانعا وشافيا لك.
الطالب: حسنا، أرجو لك أن تتوفق بمطالعاتك وتحقيقاتك، وأن تتعرف على الخلفاء بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ولكن بعد فترة التقى الطالب بالأستاذ، فأعلن الأستاذ أنه لم يستطع أن يعثر على شئ دقيق حول هؤلاء الخلفاء في عقيدة أهل السنة.
سأل أحد الطلبة أستاذ المعارف الإسلامية لأهل السنة قائلا: هل تؤمن بأن خلفاء رسول اللّه (عليهم السلام) اثنا عشرة نفرا وكلهم من قريش.
الأستاذ: نعم، لقد وردت روايات معتبرة في كتبنا تدل على ذلك.
ص: 280
الطالب: من هم هؤلاء الخلفاء؟
الأستاذ: عبارة عن: 1 - أبو بكر 2 - عمر 3 - عثمان 4 - علي (عليه السلام) 5 - معاوية 6 - يزيد بن معاوية.
الطالب: كيف يمكن اعتبار يزيد خليفة لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، مع كونه شاربا للخمر، والسبب في إيجاد واقعة كربلاء الدموية، وقتل الحسين (عليه السلام) مع أصحابه وأهل بيته؟!
ثم قال الطالب للأستاذ: اذكر بقية الخلفاء.
فبقي الأستاذ حائرا لا يستطيع الجواب، وقد بدل موضوع الكلام وقال: أنتم الشيعة تسبون أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وآله) وتذكرونهم بسوء.
الطالب: نحن لا نذكر جميع أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بالسوء، فأنتم تقولون بعدالة الأصحاب قاطبة، ونحن نقول ليس كذلك، وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن المنافقين في عصر النبي (صلى اللّه عليه وآله) فإذا قلنا بعدالة جميع الصحابة، فعلينا أن نطرح شطرا مهما من القرآن الكريم الذي نزل في المنافقين.
الأستاذ: هل أنت تشهد بإنك راضي عن أبي بكر وعمر وعثمان.
الطالب: إني أشهد بأني راض عن كل من رضى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) عنه، وكل من سخط عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) إني ساخط عليه (1).
ص: 281
المناظرة التي وقعت بيننا مع عدة من العلماء والمدرسين في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، قلت: ورد في صحيح مسلم في أول المجلد السادس باب (إن الناس تبع لقريش والخلافة في قريش) يذكر عدة من الروايات إن الخلافة تكون في قريش ما بقي من الناس اثنان (1)، ومضمون هذه الروايات لا ينطبق إلا على مذهب الإمامية الجعفرية لأنهم يقولون: إن الإمامة والوصاية بعد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) إلى يوم القيامة تكون في قريش، وهم أوصياء الرسول المعنيين على لسانه كما في الروايات الواردة في صحيح مسلم.
وقلت للشيخ عبد اللّه وعدة من المدرسين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: ما تقولون في معنى الروايات الواردة في الجزء السادس من صحيح مسلم في أول الجزء: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (2)؟
حدثنا أحمد بن عبد اللّه بن يونس، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه قال: قال عبد اللّه: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي من الناس اثنان (3)، وكذا رواه في البخاري (4).
ص: 282
وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى اللّه عليه وآله) فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش (1).
وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلى اللّه عليه وآله) يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، ثم تكلم النبي (صلى اللّه عليه وآله) بكلمة خفيت علي، فسألت أبي: ماذا قال الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ؟ فقال: كلهم من قريش. (2)
حدثنا هداب بن خالد الأزدي، حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش (3)، وبمضمونها روايات أخرى. (4)
حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا حاتم عن المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشئ سمعته من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال: فكتب إلي: سمعت من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يوم جمعة، عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدين قائما
ص: 283
حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. (1)
قلت للعلماء بعد ذكر الروايات: ما معنى هذه الروايات؟ وما معنى الرواية الأولى: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان؟
إن هذا الباب والروايات لا ينطبق إلا على مذهب الشيعة الجعفرية، فإنهم يقولون بإمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وهو من قريش، ثم بعده ابنه الحسن (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده ابنه الثاني الحسين (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده علي بن الحسين (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده جعفر بن المحمد الصادق (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده موسى بن جعفر (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده علي بن موسى (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده علي بن محمد النقي (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده الحسن العسكري (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده محمد بن الحسن صاحب الزمان (عليه السلام)، وهو من قريش، وهو الآن حي مرزوق... وهم الاثنا عشر المعنيون بقول الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وإن كان المراد غير هذا فبينوا معنى الروايات الواردة في هذا الباب.
فقال واحد من المدرسين: الأول منهم أبو بكر، الثاني عمر، الثالث عثمان، الرابع علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الخامس معاوية، السادس يزيد بن معاوية.
قلت: يزيد بن معاوية شارب الخمر جهرا، ثم قلت: فمن الباقي الوارد في الرواية، فما استطاعوا عد البقية. (2)
ص: 284
ص: 285
ص: 286
عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول اللّه أليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟
قال: بلى.
قال: فما معنى قول اللّه عز وجل: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (1).
فقال (عليه السلام): إن اللّه تبارك وتعالى قال لآدم: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ - وأشار لهما إلى شجرة الحنطة - فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (2) ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها، لما أن وسوس لهما الشيطان وقال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) (3) وإنما ينهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا
ص: 287
مِنَ الْخَالِدِينَ ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (1) ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) (2) فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلما اجتباه اللّه تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال اللّه عز وجل: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (3) وقال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (4).
فقال له المأمون: فما معنى قول اللّه عز وجل: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) (5)؟
فقال له الرضا (عليه السلام): إن حواء ولدت لآدم خمسمائة بطن ذكرا وأنثى وإن آدم (عليه السلام) وحواء عاهدا اللّه عز وجل ودعواه وقالا: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) (6) من النسل خلقا سويا بريا من الزمانة والتامة وكان ما آتاهما صنفين صنفا ذكرانا وصنفا إناثا، فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما ولم يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل، قال اللّه تبارك
ص: 288
وتعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (1).
فقال المأمون: أشهد أنك ابن رسول اللّه حقا فأخبرني عن قول اللّه عز وجل في حق إبراهيم (عليه السلام): (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) (2).
فقال الرضا (عليه السلام): إن إبراهيم (عليه السلام) وقع إلى ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) فرأى الزهرة، قال: (هَذَا رَبِّي) على الإنكار والاستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ) الكوكب (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (3) لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القدم (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) (4) على الإنكار والاستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (5) يقول: لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين فلما أصبح و (رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار (فَلَمَّا أَفَلَتْ) قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (6) وإنما أراد إبراهيم (عليه السلام) بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنما تحق العبادة لخالقها وخالق
ص: 289
السماوات والأرض، وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه اللّه تعالى وآتاه كما قال اللّه عز وجل: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (1).
فقال المأمون: لله درك يا بن رسول اللّه فأخبرني عن قول إبراهيم (عليه السلام):
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (2).
قال الرضا (عليه السلام): إن اللّه تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته، فوقع في نفس إبراهيم أنه ذلك الخليل فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على الخلة (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (3) فأخذ إبراهيم (عليه السلام) نسرا وطاووسا وبطا وديكا، فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله وكانت عشرة منهن جزء وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حبا وماء فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان، وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى إبراهيم (عليه السلام) عن مناقيرهن فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب، وقلن: يا نبي اللّه أحييتنا أحياك اللّه، فقال إبراهيم: بل اللّه يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير.
قال المأمون: بارك اللّه فيك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه عز وجل:
ص: 290
(فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) (1).
قال الرضا (عليه السلام): إن موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (2) فقضى موسى على العدو، وبحكم اللّه تعالى ذكره فوكزه فمات (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعل موسى (عليه السلام) من قتله، إنه - يعني الشيطان - عدو مضل مبين.
فقال المأمون: فما معنى قول موسى: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (3).
قال: يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلونني (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (4) قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (5) بل أجاهد في سبيلك بهذه القوة حتى رضى فأصبح موسى (عليه السلام) في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر قال له موسى إنك لغوي مبين قتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأودبنك وأراد أن يبطش به (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ
ص: 291
لَهُمَا) وهو من شيعته (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (1).
قال المأمون: جزاك اللّه عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن فما معنى قول موسى لفرعون: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (2).
قال الرضا (عليه السلام): إن فرعون قال لموسى لما أتاه: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (3) بي، قال موسى: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (4) وقد قال اللّه عز وجل لنبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله):
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (5) يقول: ألم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) (6) يعني عند قومك فهدى، أي هداهم إلى معرفتك (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (7) يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا.
قال المأمون: بارك اللّه فيك يا بن رسول اللّه فما معنى قول اللّه عز وجل: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) (8) كيف يجوز أن يكون كلم اللّه موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أن اللّه تبارك
ص: 292
وتعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟
فقال الرضا (عليه السلام): إن كليم اللّه موسى بن عمران (عليه السلام) علم أن اللّه تعالى أعز أن يرى بالأبصار، ولكنه لما كلمه اللّه عز وجل وقربه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أن اللّه عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) حتى نستمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمأة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفا، ثم اختار منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربهم فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل اللّه تعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن اللّه عز وجل أحدثه في الشجرة وجعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) بأن هذا الذي سمعناه كلام اللّه (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث اللّه عز وجل عليهم صاعقة، فأخذتهم بظلمهم فماتوا.
فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت به فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة اللّه عز وجل إياك، فأحياهم اللّه وبعثهم معه، فقالوا: إنك لو سألت اللّه أن يريك ننظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته، فقال موسى: يا قوم إن اللّه تعالى لا يرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى: يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم، فأوصى اللّه تعالى إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ) وهو يهوي (فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
ص: 293
لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (1) يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي وأنا أول المؤمنين منهم بأنك لا ترى.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (2).
فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم لها كما همت به، لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه، وقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (3).
فقال الرضا (عليه السلام): ذاك يونس بن متى (عليه السلام) ذهب مغاضبا لقومه، فظن بمعنى استيقن أن لن نقدر عليه، أي لن نضيق عليه رزقه، ومنه قوله عز وجل: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (4) أي ضيق وقتر (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (5) بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت، فاستجاب اللّه له وقال عز وجل: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي
ص: 294
بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (1).
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) (2).
فقال الرضا (عليه السلام): يقول اللّه عز وجل: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم، وظن قومهم، أن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه عز وجل:
(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (3).
قال الرضا (عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لأنهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاثمائة وستين صنما، فلما جاءهم (صلى اللّه عليه وآله) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) (4) فلما فتح اللّه عز وجل على نبيه (صلى اللّه عليه وآله) مكة قال له: يا محمد (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) - مكة - (فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (5) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد اللّه فيما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم، وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد
ص: 295
عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه عز وجل:
(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (1)؟ فقال الرضا (عليه السلام): هذا ما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب اللّه عز وجل بذلك نبيه وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (2) وقوله عز وجل: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (3).
قال: صدقت يا بن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (4).
قال الرضا (عليه السلام): إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده، فرأى امرأته تغتسل فقال لها: سبحان الذي خلقك، وإنما أراد بذلك تنزيه الباري عز وجل عن قول من زعم أن الملائكة بنات اللّه فقال اللّه عز وجل: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) (5) فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله) لما رآها تغتسل: سبحان الذي خلقك أن يتخذ له ولدا يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال، فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته
ص: 296
بمجئ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقوله لها: سبحان الذي خلقك، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها فجاء إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) وقال له: يا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إن امرأتي في خلقها سوء وإني أريد طلاقها، فقال له النبي (صلى اللّه عليه وآله):
(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) (1) وقد كان اللّه عز وجل عرفه عدد أزواجه وأن تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد، وخشي الناس أن يقولوا: إن محمدا يقول لمولاه: إن امرأتك ستكون لي زوجة يعيبونه بذلك، فأنزل اللّه عز وجل: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) يعني بالإسلام وأنعمت عليه يعني بالعتق (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (2) ثم إن زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه، فزوجها اللّه عز وجل من نبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله) وأنزل بذلك قرآنا فقال عز وجل: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) (3) ثم علم اللّه عز وجل أن المنافقين سيعيبونه بتزوجها فأنزل اللّه تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ) (4).
فقال المأمون: لقد شفيت صدري يا بن رسول اللّه، وأوضحت لي ما كان ملتبسا علي، فجزاك اللّه عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا (5).
ص: 297
قال أبو الصلت الهروي: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا، قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول اللّه أتقول بعصمة الأنبياء؟
قال: نعم
قال: فما تعمل في قول اللّه عز وجل: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (1) وفي قوله عز وجل: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (2) وفي قوله عز وجل في يوسف (عليه السلام): (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) (3) وفي قوله عز وجل في داود (عليه السلام): (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) (4) وقوله تعالى في نبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله): (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) (5)
فقال الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق اللّه ولا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش،
ص: 298
ولا تتأول كتاب اللّه برأيك فإن اللّه عز وجل قد قال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ) (1).
وأما قوله عز وجل في آدم: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) فإن اللّه عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته تجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر اللّه، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (2).
وأما قوله عز وجل: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) إنما ظن بمعنى استيقن أن اللّه لن يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول اللّه عز وجل: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (3) أي ضيق عليه رزقه، ولو ظن أن اللّه لا يقدر عليه لكان قد كفر.
وأما قوله عز وجل في يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله فصرف اللّه عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عز وجل: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (4) يعني القتل والزنا.
وأما داود (عليه السلام) فما يقول من قبلكم فيه؟
فقال علي بن محمد بن الجهم يقولون: إن داود (عليه السلام) كان في محرابه يصلي
ص: 299
فتصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من طيور فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا فتزوج داود بامرأته.
قال: فضرب الرضا (عليه السلام) بيده على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا من أنبياء اللّه إلى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل.
فقال: يا بن رسول اللّه فما كان خطيئته؟
فقال: ويحك إن داود إنما ظن أن ما خلق اللّه عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث اللّه عز وجل إليه الملكين فتسورا في المحراب فقالا: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (1) فعجل داود (عليه السلام) على المدعى عليه فقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) (2) فلم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع اللّه عز وجل يقول: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
ص: 300
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) (1) إلى آخر الآية.
فقال: يا بن رسول اللّه فما قصته مع أوريا؟
فقال الرضا - عليه السلام -: إن المرأة في أيام داود (عليه السلام) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا وأول من أباح اللّه له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود (عليه السلام) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها منه فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا.
وأما محمد (صلى اللّه عليه وآله) وقول اللّه عز وجل: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (2) فإن اللّه عز وجل عرف نبيه (صلى اللّه عليه وآله) أسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين، وإحداهن من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، فقال اللّه عز وجل: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) يعني في نفسك وإن اللّه عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم (عليه السلام) وزينب من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بقوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) الآية، وفاطمة من علي (عليهما السلام).
قال: فبكى علي بن محمد بن الجهم فقال: يا بن رسول اللّه، أنا تائب إلى اللّه عز وجل من أن أنطق في أنبياء اللّه (عليهم السلام) بعد يومي هذا إلا بما ذكرته (3).
ص: 301
المناظرة السابعة والأربعون: مناظرة ابن أبي عمير (1) مع هشام بن الحكم في العصمة
قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: حدثنا محمد بن علي بن ماجيلويه قال: حدثني علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير قال: ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام (عليه السلام)، فإني سألته يوما عن الإمام أهو معصوم؟
فقال: نعم.
قلت له: فما صفة العصمة فيه وبأي شئ تعرف؟
ص: 302
فقال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه ولا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منفية عنه لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا، وهي تحت خاتمه لأنه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص، ولا يجوز أن يكون حسودا لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه وليس فوقه أحد فكيف يحسد من دونه، ولا يجوز أن يغضب لشئ من أمور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله عز وجل، فإن اللّه فرض عليه إقامة الحدود، وأن لا تأخذه في اللّه لومة لائم، ولا رأفة في دينه حتى يقيم حدود اللّه، ولا يجوز له أن يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة لأن اللّه عز وجل قد حبب إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا.
فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح، وطعاما طيبا لطعام مر، وثوبا لينا لثوب خشن، ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية (1)؟
ص: 303
قال الشيخ الصدوق (رحمه اللّه): ومن كلام الشيخ - أدام اللّه عزه -: قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي: ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال، وذلك أنهم زعموا أن قول اللّه سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) مع ما في ظاهر الآية من أنها نزلت في أزواج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وذلك أنك إذا تأملت الآية من أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة، ولم نجد لمن ادعوها له ذكرا.
فقال الشيخ - أيده اللّه - له: أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج ودفع ما عليه الإجماع والاتفاق، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الآية من القرآن قد يأتي أولها في شئ وآخرها في غيره، ووسطها في معنى وأولها في سواه، وليس
ص: 304
طريق الاتفاق في معنى إحاطة وصف الكلام بالآي وقد نقل المخالف (1) والموافق أن هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة - رضي اللّه تعالى عنها - ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في البيت ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقد جللهم بعباءة خيبرية وقال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأنزل اللّه عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2) فتلاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقالت أم سلمة - رضي اللّه عنها -: يا رسول اللّه، ألست من أهل بيتك؟ فقال لها: إنك إلى خير، ولم يقل إنك من أهل بيتي.
حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الآية فقال: سلوا عنها عائشة، فقالت عائشة: إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة فاسألوها عنها فإنها أعلم بها مني، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة ولا أصحاب الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه، وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم، مع أن اللّه سبحانه قد دل على صحة ذلك بمتضمن الآية حيث يقو جل وعلا: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) وإذهاب الرجس لا يكون إلا بالعصمة من الذنوب لأن الذنوب من أرجس الرجس، والخبر عن الإرادة هنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون الإرادة التي يكون بها لفظ الأمر لا سيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة، وأفرق بين الخبر عن الإرادة هاهنا والخبر عن الإرادة في قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (3) وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
ص: 305
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (1) إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى، إذ الإرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها فلما خص اللّه أهل البيت (عليهم السلام) بإرادة إذهاب الرجس عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه.
وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن، مع أن من عرف شيئا من اللسان وأصله لا يرتكب هذا القول ولا توهم صحته وذلك أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع المؤنث بالنون وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ولا وضع علامة المذكر على المؤنث ولا استعملوا ذلك في حقيقة ولا مجاز، ولما وجدنا اللّه سبحانه قد بدأ في هذه الآية بخطاب النساء فأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) إلى قوله: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (2) ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج، فقال: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) (3) فدل ذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد (عليهم السلام) بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة
ص: 306
وجليل الفضيلة، وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل غير النساء وذكر ليس برجل فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذا كان في الجمع ذكر، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه فمن جاء فيه الأثر على ما بيناه (1).
ص: 307
المناظرة التاسعة الأربعون: مناظرة السيد محمد تقي الحكيم (1) مع أكابر علماء مؤتمر البحوث الإسلامية في عصمة أهل البيت (عليهم السلام) الحديث الذي أداره مندوب الإيمان مع سماحة العلامة الكبير السيد محمد تقي الحكيم عميد كلية الفقه بالوكالة، على أثر عودته من القاهرة بعد حضوره مؤتمر البحوث الإسلامية.
س - في الندوات التي حضرتموها في مصر وأثيرت معكم، فيها أحاديث
ص: 308
حول التشيع، ذكرتم عدة مواضيع أحب الكثير من قراء (الإيمان) الوقوف على طبيعة ما أثير حولها من حديث، ومنها ما يتصل بعصمة أهل البيت فهل تتذكرون أين دار الحديث عنها وكيف؟
ج - إن الذي أتذكره أن أهم الأحاديث التي دارت حولها كانت في الإسكندرية (1)، وفي ندوة الأمناء في القاهرة (2)، في الأمسية التي اعتادت إحياءها في ليلة الأحد من كل أسبوع، حيث يحضرها شيخ الأمناء الأستاذ أمين الخولي وتلامذته لمناقشة بعض القضايا، وقد دعينا من قبل بعض الإخوان المصريين لحضورها، واقتصر الحديث عند حضورنا أو كاد على قضايا التشيع، وأخذ منها حديث العصمة وقتا كبيرا، وقد صحبنا إليها من الإخوان المصريين واللبنانيين العلامة الكبير الشيخ محمود أبو رية، والدكتور حامد حفني داود، والأستاذ الشيخ عبد الفتاح بركة، والأستاذ الشيخ عبد الحميد الحر.
ص: 309
وطبيعة الحديث الذي دار في الإسكندرية وفي ندوة الأمناء وغيرها كان متشابه الخطوط بحكم وحدة الموضوع وتشابه الأسئلة، لذلك أوثر أن أعطي خلاصة لكل ما دار فيها، مع ضم بعضه إلى بعض، دون حاجة إلى تكرار الحديث بعد ذلك عنها.
وكان ممن حضر ندوة الإسكندرية من أعضاء المؤتمر بعض العلماء الجزائريين والسودانيين والليبيين والمصريين والأردنيين والصوماليين.
وكان مبعث الحديث عنها، السؤال الذي وجهه فضيلة الشيخ الجيلالي الفارسي مندوب الجزائر، وهو من أكابر العلماء الذين التقيتهم في المؤتمر، ومن أوسعهم معرفة في الشؤون العقائدية، وقد وهب ملكة بيانية قل نظيرها فيمن رأيت.
قال الشيخ الجزائري - وهو يمهد للسؤال -: يسرني أن أحظى بشرف التعرف على إخوان من علماء الشيعة، طالما تشوقت إلى لقاء أمثالهم للاتصال بهم، ومعرفة واقع ما يبلغنا عن عقائدهم، فإذا سمحتم بتوجيه بعض الأسئلة عن جملة مما يبلغنا عن الشيعة لإقرارها، أو تصحيح أفكارنا عنها أكون شاكرا.
قلت: يسرني ذلك، وأرجو أن أكون صريحا في الجواب عليها، ولك علي أن لا أتطفل على الدخول فيما لا أملك القول فيه، وأرجع معك - إذا شئت - فيما أجهله إلى من هم أكثر مني تخصصا في مبادئ التشيع، من أساتذة معاهد النجف ومراجع الأمة فيها.
فأومأ برأسه - شاكرا - ثم بدأ الحديث بهذا السؤال: هل من الصحيح ما يبلغنا عن إخواننا الشيعة من أنهم ينسبون العصمة إلى أهل البيت (عليهم السلام) كالنبي (صلى اللّه عليه وآله) على حد سواء.
ص: 310
قلت - وقد تركزت علي عيون الملتفين حول مائدة الطعام، وكنا على المائدة، وقد أهمهم فيما يبدو هذا السؤال، وربما كان فيهم من يحاول توجيهه ويتحاشى الإحراج -: نعم نؤمن بذلك.
قال: وقد بدا على صوته شئ من التهدج والاستنكار: وكيف وما هي أدلتكم على ذلك؟!
قلت - مبتسما، وقد أوشكنا على الانتهاء من الطعام -: لا أظنك يا سيدي تكتفي مني بالجواب الإجمالي على مثل هذه المسألة الدقيقة، ومثلك من لا يكتفي بهذا الجواب، أفلا ترى أن نؤجل الحديث عنها إلى جلسة أطول، ليتسع فيها مجال الحديث.
قال: معك حق.
ونهضنا عن المائدة، وقبل أن نتفرق قال: ألا نذهب إلى (كافتريا) الفندق لنأخذ كوبا من الشاي، ونتمتع بمنظر البحر الجميل؟ وكانت المقهى مطلة عليه وجميلة جدا، وقبل أن يسمع الجواب أخذ بيدي وتبعنا بقية الإخوان، وتحلقنا حول مائدة مستديرة فيها، وطلبوا لنا الشاي، ثم التفت إلي وقال: إن في هذا المكان الهادئ الجميل متسعا للحديث، وبخاصة وأن أمامنا من الوقت عدة ساعات لم يسبق أن شغلت بموعد من قبل إخواننا المضيفين، وإنما تركوا لنا فيها حرية قضائها كيف نشاء.
قلت - وقد رفعت كوب الشاي إلى فمي -: إن الاستدلال على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) لا يمكن أن يستوفى بجلسة واحدة، مهما طال أمدها، لكثرة ما ساقوه عليها من الأدلة التي استغرق بحثها لدى بعض المؤلفين مئات الصفحات، وكتب فيها عشرات المؤلفات، ولكن نأخذ منها ما يتسع له الوقت أخذا بقاعدة الميسور،
ص: 311
ولكم جميعا حرية المناقشة فيما نعرضه من أدلة، وأظن أن صدورنا جميعا مما تتسع لها للموضوعية التي أعهدها في إخواني العلماء.
وإذا سمحت - يا سيدي السائل - وجهت إليك ببعض الأسئلة تمهيدا للجواب - عسى أن نتفق على الأوليات - ماذا تريد من كلمة العصمة التي أثبتها للنبي (صلى اللّه عليه وآله) واستكثرتها على أهل البيت (عليهم السلام) كما تنطوي عليه صيغة سؤالك؟
قال: أريد بالعصمة استحالة صدور الخطأ أو السهو أو النسيان أو الكذب أو أي ذنب عليه ما دام في مقام التبليغ.
قلت: طبعا تريد بالاستحالة هنا الاستحالة العادية لا العقلية.
قال: طبعا.
قلت: ولكن الشيعة يا سيدي - أو جل علمائهم على الأقل - يوسعون في مفهومها إلى غير مقام التشريع، وربما أوضحنا وجهة نظرهم في ثنايا الحديث، ولا يهم الفصل فعلا في هذه التوسعة، إذ يكفينا لسد حاجتنا الفعلية أن نؤمن بها في خصوص مقام التبليغ.
ولكن، هل تسمح لي بسؤال آخر: ما هي الضرورة التي تدعو إلى الإيمان بعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله) حتى بهذا المقدار؟ قال: الإيمان بالعصمة هو الذي يولد اليقين بكون ما يأتي به إنما هو من عند اللّه عز وجل، ومع تجويز الكذب والسهو والنسيان والغفلة عليه لا يبقى موضع ليقين في حكاية ما يبلغه عن الواقع، ومع دخول التشكيك يسقط اعتبار النبوة من الأساس.
قلت - واسمحوا لي أن استطرد قليلا بهذا السؤال -: وهل كان يفرق الرأي
ص: 312
العام في صدر الإسلام بين نوعين من السهو والكذب، مثلا أحدهما يقع في غير مجالات التشريع فيسوغونه، والآخر في مجالاته فيحضرونه عليه، وهل كان حكم العقل لديهم واضحا في التفرقة إلى هذه الدرجة؟!
قال أحدهم: وماذا تريد بهذا الكلام؟!
قلت: أريد أن أكتشف - من اطمئنانهم - وهو ما كان واقعا فعلا - إلى جميع ما يبلغه النبي (صلى اللّه عليه وآله) انسجام واقعه السلوكي في مختلف مجالاته - تشريعية وغير تشريعية - فهو لا يكذب ولا يسهو ولا يغفل ولا ينسى في جميع المجالات، وإلا لما أمكن اطمئنانهم إليه في مقام التشريع، وهم يرونه عرضة لجميع هذه المفارقات في غير مقامه، فالاطمئنان - وهو حالة نفسية - لا يمكن أن يفرق بين نوعين من الأحداث المتشابهة، فينبعث عن أحدهما ولا ينبعث عن الآخر، وكذلك العلم واليقين، فإيمان الشيعة بتعميم مفهوم العصمة إلى مختلف المجالات هو الذي ينسجم مع الواقع النفسي لنوع الناس، وعلى هذا الواقع يبتني حكم العقل بلزوم العصمة، لأن الغرض منها تحصيل اليقين بكل ما يأتي به، ولا يحصل اليقين من شخص يراه مجتمعه عرضة للوقوع في أمثال تلكم المفارقات، على أن إثبات ذلك كما قلنا ليس له تلك الأهمية بالنسبة إلينا فعلا، وحسبنا أن نتفق على هذا الجزء من العصمة - أعني امتناع صدور الكذب والسهو والغفلة وغيرها من منافيات العصمة عليه في مقام التشريع - فهو يكفينا في مجال التمهيد للجواب عن عصمة أهل البيت.
وسؤال آخر: ما هي مصادر التشريع التي تؤمنون بها؟
قال: كثيرة وأهمها الكتاب والسنة.
قلت: أما الكتاب فهو ليس موضعا لحديث، لأنه جمع ودون وحفظ على
ص: 313
عهد النبي (صلى اللّه عليه وآله) وعقيدة المسلمين جميعا أن ما بين الدفتين هو الكتاب المنزل قرآنا لم يزد ولم ينقص فيه، فجعله مصدرا تشريعيا يرجع إليه في كل زمان ومكان أمر طبيعي جدا، ولكن ماذا يراد بالسنة؟
قال: السنة هي قول النبي (صلى اللّه عليه وآله) وفعله وتقريره.
قلت: وهذا ما تعتقده الشيعة أيضا، ولكن هل أستطيع أن أسألك عن أسلوبه (صلى اللّه عليه وآله) في التبليغ كيف كان، وهل كان يعتمد القرائن المنفصلة، كاستعمال المخصصات والمقيدات لعموماته ومطلقاته، والناسخ لبعض ما انتهى أمد مصلحته من أحكامه.
قال: طبعا: وما أكثر ما يأتي العام في الشريعة، ثم يأتي بعد ذلك مخصصه ويأتي المطلق ثم يقيد بعد ذلك، وهكذا.
قلت: وهذا ما نعتقده أيضا، وهي الطريقة التي يعتمدها الناس في أساليب تفاهمهم، ولو كانت له طريقة خاصة تخالف ما ألفوه لوصلت إلينا عادته وطريقته في التبليغ كيف كانت؟ أكان يجمع الناس جميعا عندما يريد أن يقول أو يفعل أو يقر أمرا يتصل بشؤون التشريع؟ وهل من الممكن له ذلك؟ وإذا أمكن أن نتصوره عندما يريد أن يبلغ من طريق القول، فهل يمكننا تصوره عند الفعل أو الإقرار؟ أي إذا أراد أن يفعل شيئا، أو يقر جمع الناس كلهم، ففعل ما يريد فعله أو أقر ما يريد إقراره أمام الجميع، ستقول بالطبع: لا، وإنما كان يبلغ على الطرق المتعارفة، كأن يصدر الحكم أمام فرد أو فردين، وهؤلاء يكونون الواسطة في التبليغ، وعلى من لم يحضر أن يفحص عما يجد من الأحكام.
وهنا ذكرت مضمون كلام لابن حزم، أوثر الآن أن أنقله هنا بنصه لقيمته يقول ابن حزم وهو يتناول هذه الناحية من التشريع: ولا خلاف بين كل ذي علم
ص: 314
بشئ من أخبار الدنيا، مؤمنهم وكافرهم، أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) كان بالمدينة وأصحابه رضي اللّه عنهم مشاغيل في المعاش، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز، وأنه (صلى اللّه عليه وآله) كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وأن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره (صلى اللّه عليه وآله) بنقل من حضره، وهم واحد أو اثنان ويقول أيضا: «وبالضرورة نعلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة هذا ما لا شك فيه، لكنه (صلى اللّه عليه وآله) كان يقتصر على من بحضرته ويرى أن الحجة بمن يحضره قائمة على من غاب، هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم» (1).
ثم قلت: وإذا كان حساب السنة هو هذا، سواء من حيث الاعتماد على القرائن المنفصلة، أو من حيث أسلوب تبليغها، وهي لم تدون على عهده أو عهود الخلفاء من بعده، فهل يمكن اعتبارها مصدرا تشريعيا يجب الرجوع إليه؟
قال أحدهم: ولم، ألم يجعلها القرآن من مصادر التشريع؟ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (2) (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (3) الآية.
قلت: لا أشك في ذلك، ومن ينكر حجيتها فهو ليس بمسلم، لإنكاره أهم الضروريات الإسلامية، ولكن أسألك ماذا يصنع من يحتاج إلى معرفة حكم لم يجده في كتاب اللّه.
قال: يرجع إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) لاستفساره عنه.
قلت: وبعد وفاته.
ص: 315
قال: يرجع إلى صحابته.
قلت: هب أنه وجد عاما عند أحد الصحابة، واحتمل أن يكون له مخصص عند غيره، أو وجد حكما واحتمل نسخه، أو مطلقا واحتمل تقييده، فماذا يصنع إذ ذاك؟
قال: عليه الفحص من قبل بقية الصحابة.
قلت: كيف؟ والصحابة مشتتون أيظل هذا السائل - وافترضه ممن دخل الإسلام جديدا - يبحث عنهم حتى يستوعبهم فحصا، وفيهم من هو في الحدود يحمي الثغور، وفيهم الحكام والولاة في البلاد المفتوحة بعيدا عن الحجاز، وفيهم المشتتون في قرى الحجاز وأريافها، وربما أنهى عمره قبل أن يصل إلى ما يريد؟!
وبعد عصر الصحابة ماذا يصنع الناس.
قال: يرجعون إلى من أخذ عن الصحابة من التابعين!
قلت: إذا امتنع استيعاب الفحص عن الصحابة مع قلتهم نسبيا، فهل يمكن ذلك بالنسبة إلى من أخذ عنهم، وهم أضعاف مضاعفة، وكثير منهم مجهول، وإذا جاز ذلك في عصر التابعين، فهل يجوز في العصور المتأخرة عنهم وكيف؟
ألا ترى معي - يا سيدي - أنه ليس من الطبيعي أن يفرض على الأمة - أية أمة - مصدر تشريعي يلزمون بالأخذ به، وهو غير مجموع ومدون ومحدد المفاهيم ليمكن أن تقوم الحجة به عليهم.
ثم هل يمكن لأية دولة متحضرة أن تعتبر تصرفات أحد حكامها قولا وفعلا وتقريرا في مدى حياته قانونا يجب الرجوع إليه إلى جنب أحد قوانينها المدونة، مع أن هذه الأقوال والأفعال والتقريرات لا تقع إلا أمام أفراد محدودين وغير معروفين تفصيلا، ولا الأحاديث التي جرت أمامهم معروفة، وهم لم
ص: 316
يجمعوها بدورهم ولم ينسقوها، كأن يضعوا إلى جنب العمومات قرائن التخصيص مثلا وهكذا.
قال: وكيف نلائم إذن، بين اعتقادنا بلزوم الرجوع إليها، وبين الواقع الذي تذكره؟
قلت: الصور المتصورة في المسألة أربعة، نعرضها ونختار أكثرها ملاءمة للواقع العقلي والتأريخي.
الأولى: أن نسقط السنة عن الحجية ونكتفي بالكتاب، وفي هذا محق للإسلام من أساسه، وأظن أن إخواني العلماء يؤمنون معي أن الكتاب وحده لا ينهض ببيان حكم واحد بجميع ما له من خصوصيات، فضلا على استيعاب جميع الأحكام، بكل ما لها من أجزاء وشرائط.
الثانية: أن نحمل النبي (صلى اللّه عليه وآله) - وحاشاه - مسؤولية التفريط برسالته بتعريضها للضياع عندما لم يدونها، أو يأمر الصحابة بالتدوين والتنسيق.
الثالثة: أن نحاشي النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن تعمد التفريط ونرميه بعدم العلم، وحاشاه بما ينتج عن إهماله التدوين من مفارقات، أيسرها ضياع كثير من الأحكام الشرعية، نتيجة موت قسم من الصحابة حملة السنة، أو نسيانهم أو غفلتهم - وهم غير معصومين بالاتفاق - وهكذا، هذا بالإضافة إلى ما يسببه الفحص عن الأحكام من قبل المحتاجين إليها من المكلفين، من عسر وحرج بسبب تشتت الصحابة وتشتت رواتهم بعد ذلك، إن لم يكن متعذرا أحيانا.
الرابعة: أن نفترض له جمعها وتنسيقها وإيداعها عند شخص مسؤول عنها، عالم بجميع خصائصها ليسلمها إلى من يحتاج إليها من المسلمين، ثم يورثها من بعده لمن يقوى على القيام بها من بعده، كما ورثها هو، حتى تستوعب من قبل
ص: 317
المسلمين تدوينا، ويسهل الاعتماد عليها من قبلهم، ولو بالطرق الاجتهادية.
فإذا اعتبرنا السنة - بحكم الضرورة - من مصادر التشريع، ونزهنا النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن الجهل والتفريط برسالته، تعين الأخذ بالفرض الرابع.
ومن هنا نعلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) ما كان مسوقا بدوافع عاطفية، وهو يؤكد ويحث ويلزم بالرجوع إلى أهل بيته، بأمثال هذه النصوص، «إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق» (1). «إن مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر له» (2) «إني تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما» (3).
وقوله في تحذيرهم، وهو يمهد لإعلان النص على الإمام يوم الغدير: «كأني دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: إن اللّه عز وجل مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه» (4).
وقوله - (صلى اللّه عليه وآله) في خصوص الإمام علي (عليه السلام) -: «علي باب علمي، ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي» (5).
ص: 318
وقال له: «أنت أخي ووارثي، قال: وما أرث منك؟ قال (صلى اللّه عليه وآله): ما ورث الأنبياء من قبلي» (1).
وفي رواية كنز العمال «ما ورث الأنبياء من قبلي، كتاب ربهم وسنة نبيهم» (2).
قال أحدهم - وقد قطع علي سلسلة الكلام والتوسع برواية الأحاديث -: نحن لا ننكر علم أهل البيت أو الإمام علي، ولا لزوم محبتهم والتمسك بهم، بل نحن أكثر تمسكا بهم منكم، وإنما حديثنا في ثبوت العصمة لهم!!
قلت: صحيح أن حديثنا كان عن العصمة وليس عن العلم، وما أظن أننا بعدنا عن الحديث لو تركتموني أتم الكلام وأربط بين حلقاته وما أدري ما دخل المفاضلة هنا، والتماس أكثرنا تمسكا بأهل البيت، والحديث ليس مسوقا لهذه الناحية العاطفية!
وهنا التفت أكثرهم إلى القائل بنظرة عتب، ثم التفتوا إلي وقالوا: تفضل فاستمر بالحديث.
قلت: فإذا كنتم قد اكتفيتم بهذا المقدار من الأحاديث - وفيها فعلا بعض الكفاية لما نريد - فإني أحب أن أعود إلى السؤال الأول الذي وجهناه في بداية الحديث ما هو السر في التزامنا بعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله)
قال: أحدهم: سد فجوات الشك في أن ما يأتي به النبي (صلى اللّه عليه وآله) من قول أو فعل أو تقرير فإنما هو من اللّه عز وجل، لا مجال فيه لرأي أو شبهة أو سهو أو
ص: 319
غفلة أو تعمد كذب.
قلت: فإذا افترضنا أن أهل البيت (عليه السلام) كانوا هم الأمناء على السنة وهم ورثتها بمقتضى هذه الأحاديث، ونحن مأمورون بالرجوع إليهم باعتبارهم الورثة لها، أفلا ترون أن الباعث الذي دعانا إلى الالتزام بعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله) ما يزال قائما بالنسبة إليهم، وهو سد فجوات الشك في أن ما يؤدون إنما هو السنة الموروثة، لا آراؤهم الخاصة، ولا ما ينتجه الخطأ والنسيان والسهو وتعمد الكذب.
وإن شئتم أن تقولوا: إن فكرة الإمامة امتدادا لفكرة النبوة وبقاء لها باستثناء ما يتصل بعوالم الاتصال بالسماء من طريق الوحي، فإذا احتاجت النبوة لأداء أغراضها - بحكم العقل - إلى تحصينها بالعصمة، احتاجتها الإمامة لنفس السبب ما دامت الإمامة امتدادا لها من حيث أداء الوظائف العامة كاملة، وأهمها تبليغ السنة وإيصالها إلى الناس.
على أنا في غنى عن هذا النوع من الاستدلال بالعودة بكم إلى مضمون نفس هذه الأحاديث، ليكون استدلالنا بالسنة نفسها على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) بدلا من دليل العقل، ولنختر من هذه الأحاديث ما فيه تعميم لجميع أهل البيت (عليهم السلام) كحديث السفينة أو الثقلين، والأفضل أن نتحدث عن:
للتسالم على صحته عند جل المسلمين، ولوفرة رواته بل ثبوت تواتره، وحسبه أن تصل طرقه لدى الشيعة إلى اثنين وثمانين طريقا، ولدى السنة إلى تسعة وثلاثين (1) وما أظن أن حديثا من الأحاديث التي ادعي تواترها بلغ من
ص: 320
وفرة الرواة ما بلغه هذا الحديث.
ثم ما أظن أن كتب الحديث والتأريخ والتفسير على اختلافها قد عنيت بمثل ما عنيت بهذا الحديث، حتى بلغت الكتب التي روته في مختلف العصور المئات وألفت فيه رسائل مستقلة (1).
والظاهر أن سر هذه العناية البالغة بهذا الحديث هو عناية النبي (صلى اللّه عليه وآله) واهتمامه البالغ به، فقد صدع به في حجة الوداع بعرفة، وفي غدير خم، وبعد انصرافه من الطائف، وفي الحجرة قبيل وفاته، وهكذا.
قال أحدهم: وما نصنع بحديث (وسنتي) لو أخذنا بحديث الثقلين، ولماذا تقدم حديث الثقلين عليه، وهو معارض له.
قلت: إنما نقدم حديث الثقلين لأنه حديث متواتر، ولا أقل من شهرته وصحة طرقه، وعناية الصحاح والمسانيد به، بينما لم يرو حديث وسنتي إلا أفراد محدودون، ورواياتهم لم تخضع لشرائط الاعتبار، لوقوع الإرسال فيها.
وعلى فرض صحتها، فأين موقع المعارضة بين الحديثين، وليس لها منشأ إلا توهم التدافع بين مفهوميهما، وهما لا يخرجان على كونهما من مفهومي العدد واللقب، وكلاهما ليسا بحجة في دفع الزائد، فأي محذور في أن يخلف الكتاب والسنة والعترة، وهو ما يقتضيه الجمع العرفي بينهما. على أن أحدهما يرجع إلى الآخر، لما سبق أن قلنا من أن أهل البيت لا
ص: 321
يأتون بغير السنة، لأنهم ورثتها والمسؤولون عن تبليغها، وكلام أئمة أهل البيت (عليهم السلام) صريح في ذلك، وما أكثر ما تردد مضمون هذا الكلام على السنة قائلهم: حديثي هو حديث أبي، وحديث أبي هو حديث جدي رسول اللّه، فحديثنا واحد (1).
ورواية السنة لا يمكن الأخذ بها على ظاهرها، لامتناع جعل مصدر تشريعي تسأل الأمة على اختلاف عصورها عن العمل به، وهو لم يدون ولم ينسق على عهده، ولا العهود القريبة منه، لما في ذلك من التفريط بالرسالة وتعجيز المكلفين دون أداء وظائفها كما سبق شرحه.
فالظاهر أن الحديثين يعضد بعضهما بعضا، ويؤديان - بعد الجمع بينهما - وظيفة واحدة، مرجعها إلزام المسلمين بالرجع إلى السنة المودعة لدى أهل البيت (عليهم السلام)، وعدم جواز إغفالهم لها.
قال أحدهم: ومعنى ذلك أنكم لا تأخذون بغير روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وتلقون بأحاديث أهل السنة، ولا تعتمدونها؟!
قلت: يا أخي ومن قال ذلك؟! إن السنة حجة على كل حال، ثبتت من طريق أهل البيت (عليهم السلام) أو من طرق غيرهم، شريطة أن تشتمل على ما يوجب الاطمئنان بالصدور، ولكن أهل البيت (عليهم السلام) معصومون عن الخطأ في أدائها،
ص: 322
ومستوعبون لكل ما يتصل بها، بحكم هذه الأحاديث التي مرت عليك.
قال: المعروف عنكم أنكم لا تأخذون بأحاديث غير الإمامية، ولا تعتمدونها!!
قلت: لا أعرف مصدرا لهذا القول، كيف وفي كتب الدراية ما يسمى بالحديث الموثق (1) وهو ما كان في طريقه غير إمامي، واعتماد الموثقات عندنا أشهر من أن يتحدث عنه، وحسبك أن تفتح أي كتاب فقهي شيعي لترى مدى الاعتماد عليه، وما أكثر ما اعتمد فقهاء الشيعة على الأحاديث النبوية التي لم يقع في طريقها إمامي واحد إذا ثبتت لديهم وثاقتها، والمقياس في الاعتماد على الحديث عندهم حصول الاطمئنان لديهم بصدوره عن المعصوم نبيا كان أو إماما، من أي طريق حصل، ومزية أهل البيت (عليهم السلام) - كما قلنا - استيعابهم لكل ما يتصل بالسنة وعصمتهم في أدائها.
وبتعبير أدل إن الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) قاطع للعذر وموقر للحجة، فإذا حصلت الحجة من غير طريقهم لزم الأخذ بها، نعم إذا تعارض كلام أهل البيت (عليهم السلام) مع غيرهم قدم كلام أهل البيت (عليهم السلام)، نقدم كلام المعصوم على غيره للقطع بحجتيه بحكم أدلة العصمة، والشك - على الأقل - في حجية معارضه،
ص: 323
والشك في الحجية من أسباب القطع بعدمها، لما ذكر وقرب في الأصول من أن القطع مقوم للحجية، فمع الشك فيها يقطع بعدمها، لعدم توفر عنصر العلم فيها.
قال: وحديث الثقلين أين موقع دلالته من العصمة، وفي أي موقع من فقراته وجدتم ذلك؟
قلت: إن جل فقرات الحديث تدل عليها.
منها: اعتبارهم في الحديث قرناء للكتاب «إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وعترتي» (1) وحيث أن الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكذلك قرناؤه.
ومنها: جعل العصمة للأمة بالتمسك بهم عن الضلالة «ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي» وفاقد الشئ لا يعطيه، بداهة، وهنا أحب أن أقف قليلا عند هذه الفقرة، لأنبه على ما سبق أن أشرنا إليه من أن الاكتفاء بأحدهما عن الآخر - أعني الكتاب والعترة - لا يكفي في توفير الحجة القاطعة غالبا، حيث اعتبرت العاصمية على الإطلاق للتمسك بهما معا لا بأحدهما، بل وجدت في الضمير العائد على الموصول فيما إن تمسكتم كناية عن تكوينهما وحدة، لا تتحقق المعذرية أو المنجزية في الجميع إلا بها.
والفقرة الثالثة وهي قوله: «ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض» فإنها من أدل ما يمكن أن يساق في هذا المجال عن العصمة.
قال: أحدهم وكيف؟
قلت: أسألك إذا صدر الذنب من العبد، أو سها عن أحد الأحكام، مثلا،
ص: 324
فهل هو متفق في حالة سهوه أو عصيانه مع الكتاب، أو مفترق عنه.
قال: بل هو مفترق، لأن الالتقاء لا يكون إلا مع التوافق والانسجام بين الحكم المتبني في الكتاب، والسلوك الذي صدر عنه، ومع المخالفة - مهما كان شأنها - لانسجام بينها ولا وفاق.
قلت: وأضيف إلى ما تفضلتم به أن السهو والغفلة وإن أوجبا لأصحابهما المعذرية شرعا، إلا أنهما لا يمنعاه من صدق الافتراق، لأن الافتراق المعنوي كالافتراق الحسي، مداره ابتعاد أحدهما عن الآخر، فالشخص الذي يقسر على ترك صديقه والابتعاد عنه يصدق عليه الافتراق عنه، وإن كان معذورا في مفارقته، وهكذا من يخالف الكتاب.
وإذا صح هذا، عدنا إلى تذكر ما سبق أن اتفقنا عليه، من مفهوم العصمة التي أوجبناها للنبي (صلى اللّه عليه وآله) بحكم العقل، وهي استحالة صدور الكذب أو الخطأ أو السهو عليه، في مقام التبليغ، لنسأل على ضوئه هل يجوز وقوع افتراق العترة عن الكتاب لأي سبب كان، وقد أخبر النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن عدم وقوعه بمفاد لن التأبيدية «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».
قال: أحدهم وما في ذلك من محذور؟ قلت: أليس في تجويز وقوع الافتراق عليهما تجويز للكذب أو السهو على الرسول (صلى اللّه عليه وآله) الذي أخبر عن عدم الافتراق - وهو في معرض التبليغ لإلزامه (صلى اللّه عليه وآله) بالتمسك بهما، وهو ما سبق أن اتفقنا على منافاته لعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله)، فأهل البيت (عليهم السلام) إذن بمقتضى هذا الحديث معصومون، وبخاصة فقرته الأخيرة.
ص: 325
وما يقال عن هذا الحديث يقال عن حديث السفينة (1) وباب حطة (2) والكثير من نظائرهما.
والواقع يا سيدي أن هذه الأحاديث وأمثالها مما ورد في أهل البيت (عليهم السلام) كانت مبعث حيرة ومعاناة لي في التماس بواعثها، عندما حاولت أكثر من مرة أن أتحلل من رواسب العقيدة، التي درجت عليها في أهل البيت (عليهم السلام)، وأخضعها للمقاييس المنطقية التي أفهمها.
وكان أكثر ما يقف أمامي ويلح علي في طلب التفسير هو اختصاص النبي (صلى اللّه عليه وآله) هذه اللمة من بين أمته، بل من بين أهل بيته بالذات، وفيهم أعمامه وأولاد عمه، ليؤكد كل هذا التأكيد على لزوم اتباعهم والتمسك بهم بالخصوص، ويعتبرهم أعدال الكتاب تارة، وسفن النجاة أخرى، والعروة الوثقى (3) ثالثة، والأمان لأهل الأرض من الاختلاف (4) رابعة، ويختصهم بالتطهير من الرجس، ولا يكتفي دون أن يؤكد ذلك بمختلف صور التأكيد، ويتخذ شتى المحاولات لإبعاد كل من يحتمل في حقه شبهة المشاركة، حتى يبلغ به الحال أن يبعد زوجته أم سلمة - وهي من هي في مقامها من الإيمان والتقوى - عن المشاركة في الدخول تحت الكساء الذي طرحه عليهم، وهو يتلو: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (5) ثم لا يكتفي أيضا دون أن يقف
ص: 326
في كل يوم على باب علي وفاطمة (عليهما السلام) في أوقات الصلوات، ليرفع صوته بتلاوته لهذه الآية، وقد أحصيت عليه تسعة أشهر (1) وهو يكررها دون انقطاع.
إلى عشرات، بل مئات، من أمثال هذه الأحاديث التي ينهى بعضها عن مخالفتهم، ويحذر من عدائهم وبغضهم، ويلزم باتباعهم وأخذ العلم عنهم، « فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (2).
والصور العقلية التي تصورتها في مجالات التفسير ثلاثة، نعرضها لنختار أمثلها وأكثرها اتساقا، مع ما اتفقنا عليه من إثبات العصمة للنبي (صلى اللّه عليه وآله) بالمفهوم الذي حررناه في بداية الحديث.
أولاها: الإجمال في كلامه وعدم إعطائه أية دلالة تشريعية، وهذا ما تأباه صراحة النصوص بلزوم اتباعهم والتمسك بهم، والتعلم منهم وإثبات العصمة لهم، وقد مرت نماذج منها قبل قليل، وهي ليست موضعا لنقاش.
الثانية: أن نسلم الدلالة التشريعية، إلا أننا لا نسلم صدورها عن اللّه عز وجل، بل نعتبرها صادرة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله)، لأسباب عاطفية محضة اقتضتها علقته القريبة بهذا النفر من أهل بيته (عليهم السلام).
وهذا النوع من الحمل مما تأباه أدلة العصمة، لأن دخول العاطفة وتحكمها في مجالات التشريع مما يهير فكرة العصمة من أساسها، وأي ذنب أعظم من أن يفتري على اللّه عز وجل ما لم يقله، مجاراة لعواطفه وميوله وحاشاه.
ص: 327
على أن هذا النوع من الإغراق في العاطفة تجاه نفر معين، مع وجود غيرهم من أهل بيته (عليهم السلام) لو كان له ما يبرره في الواقع النفسي، فليس هناك ما يبرر التعبير عنه - بهذه الأساليب - لمجافاته، لما عرف به النبي (صلى اللّه عليه وآله) من الخلق العظيم، وهل من الخلق أن يجحف في إبراز عاطفته تجاه نفر معين، ليس فيهم ما يميزهم عن سائر أقربائه، وفيهم من هو أكبر منهم، كالعباس مثلا، أليس في هذا النوع من إبراز العاطفة تحد لهم لا مبرر له، وهو لا يصدر من أقل الناس عادة.
الثالثة: أن نسلم دلالتها التشريعية ونعود بها إلى أسبابها المنطقية، وأهمها ما توقروا عليه من العلم والعصمة، وهذه المحاولات التأكيدية كان مبعثها تركيز هذا المعنى في النفوس وترويضها لتقبله...
فإذا امتنع الفرض الأول لصراحة النصوص، وامتنع الثاني لأدلة العصمة في النبي (صلى اللّه عليه وآله) تعين الأخذ بالفرض الثالث والتعبد به.
قال أحدهم: وهل كانت هذه الصفات - أعني العلم والعصمة - واضحة لدى معاصريهم، أي أن واقعهم التأريخي هل ينسجم مع ما يفهم من هذه النصوص.
قلت: هذا أهم سؤال يمكن أن يوجه - يا أخي - لأنه يفتح أمامنا مجال التطوير في الإجابة على أمثال هذا النوع من الاستدلال.
فقد كان نوع الباحثين في الشؤون العقائدية، عندما يريدون أن يتحدثوا أو يستدلوا على أية مسألة من مسائل الفكر التي ترتبط بشؤون العقيدة فإنما يتحدثون عما يجب أن يكون ولا يفكرون فيما هو كائن، وإذا فكروا فيه فإنما يفكرون في إخضاع ما هو كائن لما يجب أن يكون.
ولست أعرف فيهم من حاول تقييم أدلته على أساس من عرضها على
ص: 328
الواقع المحسوس - فيما يكون له واقع محسوس منها، ويلتمسون مدى انسجامها معه، ثم ينطلقون من وراء ما ينتهون إليه إلى الحكم على صحة الدليل وعدمه.
وقد كانت لي محاولة - عندما كنت مدرسا لمادة التأريخ الإسلامي - في كلية الفقه - أن أجعل من وسائل النقد المضموني لبعض الأحاديث عرضها على طبيعة زمنها، ثم بيئتها، ثم الشخص الذي قيلت فيه، فإن انسجمت معها جميعا أمنت بصحتها، إذا لم يكن في أسانيدها ما يوجب التوقف.
وكأنك - يا أخي - تريد أن تشير إلى نفس هذا المقياس في إيمانك بهذه الأحاديث.
ومثل أدلة عصمة أهل البيت (عليهم السلام) آيات وأحاديث إذا كان فيها مجال لتردد ما من قبل بعض من عاصروا ولادتها، حيث أنها افترضت في الأئمة واقعا لم يخضع إذ ذاك لتجربة كاملة، فهي أشبه بالتحدث عن عوالم الغيب، فلا يقتضي أن يظل التردد قائما بعد أن أخذ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) واقعا تاريخيا عرضهم في مختلف مجالات السلوك والمعرفة، وبوسع الباحث أن يقطع تردده بدراسة سيرهم، والحكم لهم أو عليهم، على ضوء ما ينتهي إليه.
والشئ الذي وددت التنبيه عليه أن التأريخ لم يكن في يوم ما ملكا لهم ولشيعتهم وأتباعهم يسيرونه كيفما يريدون، وإنما كان - كشأنه في أي عصر - ملكا للفئة الحاكمة تسيره كيف ما تريد.
ونحن نعلم أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يشكلون في جميع أدوار حياتهم جبهة المعارضة للسلطة الزمنية، المعارضة الشريفة التي لا يمكن أن تهادن على منكر تراه، كما لا تبخل في إرسال كلمة معروف في مشورة أو سلوك.
ص: 329
وكانت السلطة تعلم منهم ذلك وتحسب له حسابه وربما حسبت له أكثر من حسابه، فاتخذت له الحيطة الكاملة، وكثيرا ما تستبد بها الأوهام والظنون فتوسع في تخيلاتها إلى أن هذا البيت ما يزال يعد عدته للعمل على الاستيلاء على السلطة والنهوض بالحكم، وهم يعلمون أن الحكم حق من حقوقه المفروضة.
وكان من وسائل الحيطة التي اتخذتها السلطات على اختلافها محاربة شيعتهم وأتباعهم، وضرب نطاق الحصار الاقتصادي عليهم، ومنع وصول الحقوق والأموال إليهم جهد ما يستطيعون، وجعل العيون والرقباء لإحصاء حتى عدد أنفاسهم، وربما توسعوا فحملوا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلى عواصمهم ليكونوا تحت الرقابة المباشرة، وقد يدخلونهم السجن، ليحولوا بينهم وبين ما يتخيلونه من نشاط وقد أنهت حياة أكثرهم بالاغتيال والقتل.
وبالبداهة إن فكرة العصمة والأعلمية كانتا من أهم الركائز لفكرة التشيع منذ وجد التشيع لأهل البيت (عليهم السلام) وكان أهل البيت أنفسهم يصرحون بذلك، ومن الطبيعي أن يبعث هذا النوع من التصريح الحزم واليقظة في مدوني التأريخ لتسليط الأضواء على كل ما يتصل بحياتهم الخاصة أو العامة، العثور على شئ من التناقضات بين واقعهم، وما يدعون، لتكون أهم وثيقة بيد السلطة للإجهاز بها على جبهة المعارضة والقضاء عليها بسهولة، وما أيسر الاختلاق لو كان هناك مجال لتزيد واختلاق، ولكن التأريخ - وهو ملك أيديكم فعلا وبوسعكم تتبع أحداثه لم يحتفل - فيما قرأت منه - بتسجيل حادثة واحدة على أحد من أئمة أهل البيت «الاثني عشر (عليهم السلام)» تتنافى مع دعوى العصمة أو الأعلمية.
وهناك شئ - وددت التنبيه عليه - وقد سبق أن نبهت عليه في مبحث سنة
ص: 330
أهل البيت (عليهم السلام) من كتاب «الأصول العامة للفقه المقارن» (1) التمست تفسيره الطبيعي فلم أعثر عليه، وعسى أن يعثر سادتي على تفسير طبيعي له - وهو تولي بعض الأئمة منصب الإمامة وهم صغار السن، بل كان بعضهم لا يزيد على العشر سنوات حين توليه لمنصبها الخطير.
ونحن نعلم أن ابن ثمان أو عشر مثلا مهما بالغنا في إعطائه صفة النبوغ والعبقرية، وأحطناه بالبيئة الصالحة والتربية السليمة، فإننا لا نستطيع أن نوفر له صفة الاستيعاب لمختلف مجالات المعرفة، وهي المدعاة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أو صفة العصمة عن ارتكاب كل ما يتنافى مع أحكام الشريعة مهما كانت المغريات، لاستحالة أن يتسع الوقت لذلك، ولقصورنا نحن عن مجالات الاستيعاب.
وقد تولى الإمامان الجواد والهادي (عليهما السلام) الإمامة وهما ابنا ثمان، وكانت المعارضة في عهدهما للحكم على أشدها، حتى اضطرت المأمون أن يظهر التنازل عن الحكم للإمام الرضا (عليه السلام) والد الجواد، حتى إذا أبى عليه ألزمه بقبول ولاية العهد كسبا لعواطف الملايين من شيعته، ثم عمد إليه بعد ذلك فقتله بالسم لئلا ينتهي الحكم إليه.
وكانت أقصر الطرق وأيسرها للقضاء على المعارضة لو كان هناك مجال أن يعمد الحكام إلى هذين الإمامين الصغيرين فيعرضونهما إلى شئ من الامتحان العسير في بعض وسائل المعرفة أو السلوك، ثم يعلنون أمام الرأي العام عن سخف الشيعة التي ما تزال تؤمن بفكرة الإمام المعصوم، وقد ولت عليها أئمة صغارا هم
ص: 331
بهذا المستوى من المعرفة (1) أو الانحراف والعياذ باللّه.
ص: 332
وأظن أن القضاء على فكرة التشيع بإعلان فضيحتهم من هذه الطريق أجدى على الحكام من تعريض أنفسهم لحرب قد يكونون هم من ضحاياها.
وهؤلاء الأئمة لو كانوا في زوايا تحجبهم عن أعين النظار، وكان لا يمكن الوصول إليهم إلا من طريق أتباعهم لأمكن أن يبالغوا في إضفاء المناقبية عليهم، كما هو الشأن في بعض أئمة الإسماعيلية والباطنية، فكيف وهم مصرحون بعقائدهم ومبادئهم وسلوكهم أمام الرأي العام، وبمرأى من السلطة ومسمعها، وما لنا نطيل ونحن نعلم أن دعوى استيعاب المعرفة لا يمكن أن يثبت عليها إنسان متعارف مهما كان له من العلم والسن، لأن مجالاتها أوسع من أن يحيط بها عمرنا الطبيعي، والامتحان كفيل بإحباط كل دعوى من هذا القبيل، ومثلها دعوى العصمة بل أشد منها لتحكم كثير من العوامل اللاشعورية - وهي غير منطقية في سلوك الإنسان.
وهاتان الدعويان كانتا شعارا لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم منذ عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ولم نسمع بتسجيل حادثة واحدة تتعارض مع طبيعة ما ادعياه فيهما.
وما أكثر ما حفل التأريخ بتعريض هؤلاء الأئمة كبارا وصغارا لأشق أنواع الامتحان من قبل السلطة وأقطاب مخالفيهم من العلماء، وبخاصة مع الإمام الجواد مستغلين صغر سنه.
وما رأيك بأمثال يحيى بن أكثم - ومن هو من أكابر علماء عصره - عندما
ص: 333
يأمره الخليفة بإعداد أعقد المسائل وأخفاها، ثم يتعرض بها لطفل لا يتجاوز عمره العشر، فهل ينتظر أن يخرج الطفل معافى من هذا الامتحان؟ إقرأ بعض هذه المحاورات في الصواعق المحرقة (1) لابن حجر وغيرها (2)، وانظر تصاغر السائل فيها أمام هذا الطفل الصغير والتماس تفسيرها الطبيعي.
قال أحدهم: أتظن أن هذا غير طبيعي، وعيسى بن مريم (عليه السلام) كان أصغر منه عندما بعث نبيا، والقرآن صريح في ذلك؟!
قلت: يا سيدي وهذا ما تقول به الشيعة، ولكن بعثة عيسى (عليه السلام) وهو بهذه السن هل تملك تفسيرها الطبيعي.
الحقيقة يا سيدي - أن قضايا الدين لا تخضع دائما للمتعارف من المقاييس، فمن آمن بالدين آمن بكل ما يأتي به من شؤون الغيب، وإن خرج على ما لديه من تجارب ومقاييس.
وأخبار العصمة والأعلمية - بعد ثبوتها بالضرورة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) فإنها تصلح أن تكون من أعظم دلائل النبوة لصدقها في الأخبار عن عوالم الغيب، وبخاصة لأمثالنا من الناس الذين أدركوا صدقها وتحققت لديهم مضامينها، بعد أن أخذ أهل البيت (عليهم السلام) واقعا تاريخيا محسا لدى الجميع، رسمت أمثال هذه الأحاديث أهم خطوطه عندما قالت: « إني تركت فيكم الثقلين ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض » (3).
ص: 334
ثم قلت - وقد أوشكت الشمس أن تغرب -: لقد أخذت من أوقاتكم كثيرا، وأفسدت عليكم نزهتكم في الإسكندرية لكثرة كلامي، فاسمحوا لي أن نؤجل الحديث في بقية الأدلة على العصمة إلى جلسة أخرى إن أمرتم.
قال أحدهم: بالعكس، لقد كانت هذه الجلسة من أثرى ما مر علينا من جلسات، لما دار فيها من حوار علمي مفيد.
قلت: ولكن لي سؤال أحببت أن أوجهه إلى الأخوين الجزائري والصومالي، هل فيما سمعتم من عقائد إخوانكم ما لا يسر سماعه، أو قل ما يتنافى من مبادئ الإسلام؟
قالوا: كلا، إنما هو من الإسلام وضمن إطاره العام، والخلاف فيه لا يتجاوز الخلاف في كل مسألة اجتهادية تقع ضمن نطاق تعاليمه المقدسة.
قلت: هذا يكفينا فعلا، ولا يضرنا بعد ذلك أن نختلف، ولكم بعد هذا أن تتأملوا في نتائج ما انتهى إليه الحديث وتواجهونا بملاحظاتكم عليه في جلسة أخرى إن رأيتم فيه ما يوجب ذلك.
قال أحدهم: دعنا نتأمل.
وافترقنا ونحن أكثر إلفة واحتراما لبعضنا من ذي قبل (1).
ص: 335
مندوب الإيمان.
س - في المواضيع التي ذكرتم أنها أثيرت معكم من قبل العلماء الذين التقيتموهم هناك ما يتعلق بالشيعة والخلافة، وبما أن لهذا الموضوع ارتباطا قويا بما نشر في العدد السابق عن الشيعة والعصمة، فهل ترون أن نثير التحدث فيه لنربط بين حلقات هذه الأحاديث الحساسة.
ج - لا مانع لدي شريطة أن لا نثقل على القراء، كما أثقلنا عليهم في الحديث الماضي.
مندوب الإيمان.
س - بالعكس إن القراء رحبوا بهذه الأحاديث ترحيبا منقطع النظير، ولدينا كتب تشكر المجلة على اهتمامها باستقصاء كل ما دار في الندوات من أحاديث، وهم في أشد الشوق لمواصلة نشرها، وما أكثر ما تلقيت كلمات الحث والمطالبة والتشجيع من قبلهم، والآن هل تتذكرون أين جرى الحديث حول الشيعة والخلافة ومع من من أعلام الفكر هناك؟
ص: 336
ج - جرى هذا الحديث في أكثر من ندوة - وكان له في ندوتي الإسكندرية والقاهرة - وهما اللتان سبق التحدث عنهما في موضوعنا السابق - مجال واسع.
وهناك جملة من الأعلام شاركوا في الحديث عنهما، وبخاصة بعض من شهدوا الندوتين، ونحن نجمع - كما صنعنا في الحديث الماضي - جملة ما دار من أحاديث عنها سواء ما وقع منها في الندوتين المذكورتين، أم غيرهما ملتزمين نفس الخطة التي سلكناها في الحديث الماضي.
س - هل تتذكرون كيف بدأ الحديث عن هذا الموضوع؟!
ج - بدأ الحديث فيما أتذكر في بعض الندوات عندما وجه إلي أحد الأعلام هذا السؤال الهام: إذا كان في الأدلة التي ذكرتموها ما ينهض بإثبات العصمة لأهل البيت (عليهم السلام)، فليس فيها ما يثبت الإمامة بمفهومها العام الذي يتسع لخلافة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وتخطئة من لم يعطهم هذا الحق، وأي محذور في أن نؤمن بالفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فنعطي حق التشريع للأئمة المعصومين (عليهم السلام) مثلا، وحق التنفيذ لغيرهم، ممن تختارهم الأمة لإدارة شؤونها العامة.
س - وماذا كان جوابكم على هذا السؤال؟
ج - قلت للسائل: إن سؤالك هذا مما يثير أمامنا عدة تساؤلات، أظن أننا إذا قدر لنا أن نوفق للإجابة عليها فستتضح وجهة نظر الشيعة في هذه المسألة، وربما تجمعت هذه الأسئلة حول سؤالين رئيسين:
يتعلق أولهما في طبيعة الحكم في الإسلام، وهل فيها ما يسيغ الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؟ وعلى تقدير الفصل في هذه المسألة فهل هناك ما يلزم بإضفاء صفة العصمة على رأس الحكم، وما هي الأسباب الداعية إلى ذلك؟ وهذه الأسئلة كما ترون إنما تتعلق فيما يجب أن تكون عليه طبيعة الحكم
ص: 337
من وجهة عقلية في التشريعات الإسلامية.
وثانيهما: يتعلق في طبيعة ما هو كائن وهو التساؤل عن واقع ما صدر عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) وهل كان منسجما مع ما ننتهي إليه في الإجابة على الأسئلة السابقة؟ ولماذا لم يتقبله كثير من المسلمين إذ ذاك؟
أما الجواب على السؤال الأول: فإن الذي أعتقده أن طبيعة الحكم في الإسلام تختلف جذريا عما عليه طبيعة الحكم في الأنظمة الأخرى غير السماوية.
فإذا أمكن فصل السلطتين عن بعضهما في الأنظمة الحديثة وبخاصة الديمقراطية منها، فإن ذلك غير ممكن بالنسبة إلى الإسلام، بل إذا أمكن تصوره في الإسلام نفسه - بعد استكمال تشريعاته وتدوينها - فإن ذلك لا يمكن تصوره بالنسبة إليه في الفترة التي نؤرخ لها، وهي أشبه بما يسمى في عرف الثورات الحديثة بفترات الانتقال.
قال أحدهم: وكيف؟
قلت: هذا واضح، لأن الإسلام لا يعترف بوجود شخصية فردية أو جماعية لها حق التشريع في مقابل ما تأتي به السماء من أنظمة وقوانين لاستئثار السماء في ذلك كله، وحضرها ذلك على البشر جمعاء (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (1).
وإذا عرفنا أن اللّه جعل لكل حادثة حكما ولم يغفل في تشريعاته شيئا مما يحتاج إلى حكم من أفعال العباد إلا وشرع له حكمه الخاص، كما هو فحوى ما
ص: 338
ورد في ذلك من حديث، اتضح لنا انعدام السلطة التشريعية في الدستور الإسلامي وحصرها في اللّه عز وجل، والاقتصار على السلطة التنفيذية لتلكم الأنظمة والقوانين السماوية فيمن يدرك هذه الأنظمة ويعرفها معرفة تامة من رسول وغيره.
وهذا بخلاف الدساتير الوضعية، لإمكان فصلهما فيها، وذلك بإعطاء حق التشريع، مثلا للبرلمانات أو مجالس الثورة، وحق التنفيذ لمجلس الوزراء، وعلى أن رأس الحكم فيها لا بد وأن يستقطب السلطتين معا، برجوعهما إليه لتوقف تحقيقهما على مصادقته وإقراره.
وهنا أود أن أسأل: ألا تعتقدون معي أن وظيفة رأس الدولة هي حماية الدستور وما يتفرع عليه، من أنظمة دولته وقوانينها الخاصة، والعمل على سلامة تطبيقها على جميع المواطنين؟
قال أحدهم: طبعا.
قلت: ألا ترون أن طبيعة الحماية تستدعي إحاطة الحامي بواقع ما يحميه، والتوفر على معرفة كل ما يتصل به، وإلا لما أمكن تصور معنى للحماية بدون ذلك، إذ لا معنى لحماية المجهول من التجاوز عليه، وهو غير محدد له، فحامي الدستور مثلا كيف يمكن له حمايته ككل إذا كان يجهله كلا أو بعضا، وما يدريه تجاوز بعضهم على بعض، ما يجهل منه ما دام مجهولا لديه.
قال: بالطبع.
قلت: فحامي الإسلام إذن يجب أن يكون محيطا بكل ما يتصل بأنظمته وقوانينه.
قال: وما يمنع أن يكون ذلك متوفرا في غير أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟
ص: 339
قلت: إن الذي يمنع عنه هو ما سبق التحدث فيه مفصلا في المحاورة السابقة، حيث تساءلنا - ونحن نتحدث عن عصمة أهل البيت (عليهم السلام) - عن مصادر المعرفة لحقائق الإسلام في عصر الصحابة، وانتهينا إلى أنهما الكتاب والسنة، وقلنا: إن الكتاب - وإن دون على عهد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وحفظ - إلا أنه لم يحط بجميع خصائص التشريع، ومن هنا احتجنا إلى السنة لبيان ما أجمل فيه، والتعرض لمختلف القيود والشرائط والموانع المعتبرة في أحكامه، مما لم يتعرض لها بشئ من التفصيل ثم التعرف على الأحكام التي لم يذكرها الكتاب العزيز.
وقلنا: إن السنة لم تدون على عهده ولم يلزم هو بتدوينها وتنسيقها بضم القيود إلى مطلقاتها والمخصصات إلى عموماتها، فالإحاطة بها وبكل ما يتصل في شؤونها تكاد تكون ممتنعة لدى غير أهل البيت (عليهم السلام) حيث أودعها (صلى اللّه عليه وآله) لديهم وألزم بالرجوع إليهم بأمثال أحاديث الباب والثقلين كما سبقت الإشارة إليه.
على أني لا أعرف أحدا من الصحابة قد ادعى لنفسه المعرفة المستوعبة سواء منهم الخلفاء أم غيرهم، بل رأيت فيهم من يحتاج إلى أن يدل على معنى آية في كتاب اللّه، ومن يجمع الصحابة لاستشارتهم في حكم من الأحكام يجهل واقعه، وما أكثر ما أرسل الخليفة عمر قولته المشهورة لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبو الحسن. (1)
قال أحدهم: ألا ترى أن هذا منتهى الحرص والمحافظة على أحكام الشريعة من قبل هؤلاء الخلفاء، وإلا لما كانت أية ضرورة للاستفسار من قبل الإمام والصحابة عما يجهلون من أحكام.
ص: 340
قلت: إن الذي يبدو لي أننا نسينا مواقع النقض من كلامنا، فالفحص والحرص على تطبيق ما يعلم من الأحكام بعد العثور عليها لا ينافيان الجهل أحيانا، وقد قلنا إن حماية المجهول لا يمكن تصورها مطلقا.
والسؤال في بعض الأحيان عما يجهل من الأحكام لا يعني السؤال في جميع الأحيان، ولا استيعاب كل ما يتصل بأحكام الشريعة، وكيف ندفع احتمال السهو والغفلة، وحمل الصحة لتصرفات الآخرين، مما يوجب عدم الفحص عنها.
ومن أراد من السادة الأعلام أن يتتبع ما صدر عن الخلفاء من الأحكام التي لا تلتقي مع النصوص - كتابا وسنة - فليرجع إلى أمثال كتاب الحجة شرف الدين (النص والاجتهاد) و (الغدير) للحجة الأميني ليعرف مدى ما استدرك عليهم المعاصرون لهم من الصحابة وغيرهم في ذلك كله.
قال أحدهم: إن ما ذكرتموه لا يفرض أكثر من ضرورة توفر صفة العلم في الحماة، لا العصمة كما افترضتموها لهم.
قلت: هذا صحيح، لو كان عنصر الحماية لا يحتاج إلى أكثر من العلم، أما إذا ضممنا إليه - لضمان وجودها واستمرارها - ضرورة تمثل المسؤول لواقعها تمثلا نفسيا يأبى عليه التنكر لها مهما كانت البواعث له، احتجنا إلى العصمة.
قال أحدهم: وماذا يعني هذا الكلام؟
قلت: إن الذي أعنيه أن لا يختلف الشخص - الذي يقوم بدور الحماية - في واقعه النفسي عنه في واقعه العقلي، أي أن لا يحمل في أعماقه من الرواسب ما يتنافى مع طبيعة الرسالة التي آمن بها عقليا، لئلا تستأثر بعض الرواسب في توجيهه الوجهة المعاكسة في حالات غفلة الرقيب، أو تخديره بغضب أو غيره.
وأنتم ولا شك تعلمون أن الإسلام جاء بثورة مستوعبة لمختلف أبعاد
ص: 341
الإنسان، وقد شنها حربا لا هوادة فيها على جملة ما كان سائدا في عصره من مفارقات، وإن الكثير ممن عاشوا تلكم المفارقات هم الذين اعتنقوا الإسلام وناضلوا ودافعوا عنه، وأكثرهم كانوا قد اعتنقوه ببواعث عقلية لا تمت إلى الواقع النفسي بصلة.
ولكن الرسالة - أية رسالة - لا يمكن أن تأتي من بداية ثورتها على جذور ما قامت عليه من مفارقات، وبخاصة ما ترسب منها في أعماق الإنسان، بل هي تحتاج إلى أن تمر بأجيال يتخفف كل جيل لاحق من رواسب جيله السابق، بعد تعويضه بماجد من قيم ومفاهيم نتيجة لقيام الثورة الرسالية الجديدة، ووظيفة الرسالة في بداية أمرها كبت تلكم الرواسب المعاكسة بإعطاء طاقة جديدة للضمير، أو الأنا ليمنع من تسربها إلى الشعور، والاستئثار بكل مجالات السلوك، وإلا فإن استئصالها لا يمكن أن يتم بعد أن أخذت مكانها بين عوالم اللا شعور.
ومن هنا كنا نرى بروز الكثير من الرواسب إذا تخدر الضمير، أو وقف تأثيره بفعل من بعض العوامل النفسية كالغضب مثلا، وهنا ذكرت مضمون كلام لأحمد أمين يحسن أن نرجع إلى نصه في فجر الإسلام.
مندوب الإيمان - ثم تناول السيد كتاب فجر الإسلام من أحد رفوف المكتبة واستخرج منه ص 97 وقرأ فيها ما يلي «وبعد فإلى أي حد تأثر العرب بالإسلام، وهل أمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام، ألحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء».
«فالنزاع بين القديم والجديد والدين الموروث والحديث يستمر طويلا، ويحل الجديد محل القديم تدريجا، وقل أن يتلاشى بتاتا».
« وهذا ما كان بين الجاهلية والإسلام فقد كانت النزعات الجاهلية تظهر
ص: 342
من حين إلى حين، وتحارب نزعات الإسلام، وظل الشأن كذلك أمدا بعيدا ولنقص طرفا من مظاهر هذا النزاع ».
«جاء الإسلام يدعو إلى محو التعصب للقبيلة والتعصب للجنس، ويدعو إلى أن الناس جميعا سواء (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1) وفي الحديث» المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم «(2)، وخطب النبي (صلى اللّه عليه وآله) في خطبة الوداع» يا أيها الناس إن اللّه تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وفخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى (3)، وروى مسلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: «من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل قتل قتلة جاهلية» (4) وآخى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بين المهاجرين والأنصار بعد ما كان بين المكيين والمدنيين من عداء ».
« ومع كل هذه التعاليم لم تمت نزعة العصبية، وكانت تظهر بقوة إذا بدا ما يهيجها، أنظر إلى ما روي في غزوة بني المصطلق أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خرج في جماعة من المهاجرين والأنصار فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فكان بينهما قتال إلى أن صرخ يا معشر الأنصار، وصرخ المهاجر يا معشر المهاجرين، فبلغ ذلك النبي (صلى اللّه عليه وآله) فقال: ما لكم ولدعوة الجاهلية، فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): دعوها فإنها منتنة، فقال عبد اللّه بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها
ص: 343
الأذل «(1).» أفلست ترى أن نزاعا تافها، لسبب تافه هيج النفوس ودعاهم إلى النزعة الجاهلية وتذكر العصبية المكية والمدينة ».
ومن يتصفح التأريخ يجد المئات من الشواهد أمثال ما ذكره الدكتور أحمد أمين، ولعل أهم نقاط الضعف التي أجهز بها الخليفة أبو بكر على الأنصار في سقيفة بني ساعدة هو إثارة هذه النزعة في أعماقهم، عندما ذكرهم بالقتلى والجراح التي لا تداوى ما بينهم في الجاهلية، وكان قد خدرها الإسلام عندما ألف بين قلوبهم، ولقد ذكرت هنا مضمون حديث رواه الجاحظ يحسن أن نعود إلى نصه ففيه أعظم الدلالة على صدق ما ذكره الدكتور أحمد أمين.
وهنا تناول السيد كتاب البيان والتبيين واستخرج ص 181 من جزئه الثالث وقرأ فيها عيسى بن نذير قال: قال أبو بكر: نحن أهل اللّه، وأقرب الناس بيتا من بيت اللّه: وأمسهم رحما برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عند الخزرج، وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى، وجراح لا تداوى، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويجرحه الأنصاري ».
قال ابن دأب فرماهم واللّه بالمسكتة. (2)
وكان من نتائج تأثير هذه الخطبة التي دللت على مدى ما يملكه الخليفة من خبرة بالواقع النفسي أن حولت ذلك الواقع الذي أبعده الإسلام إلى أعماق
ص: 344
اللا شعور، بفضل تأليفه بينهم إلى واقع شعوري متجسد يعمل عمله في الفرقة بينهم، وهكذا أجهز عليهم من أقرب نقطة ضعف، وحملهم على التسابق إلى بيعته خشية أن يستأثر بالخلافة أحد الفريقين، وكان أسرع الفريقين إليها أبناء الأوس لأن المرشح الوحيد للأنصار إذ ذاك كان سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج كما تعلمون.
فإذا صح هذا من وجهة نفسية عدنا إلى ما سبق أن قلناه من أن عنصر الحماية الذي يجب توفره في رأس الدولة يستدعي أن لا يحمل رأس الدولة في أعماقه أية رأسية على خلاف المفاهيم الثورية الحديثة، وإلا لكانت الرسالة هي أو بعض مفاهيمها عرضة للتصدع متى استأثر الباعث اللاشعوري في توجيه صاحبه الوجهة المعاكسة.
وضمان هذه الناحية موقوف على أن يتولى دور الحماية شخص لا يملك أية راسبة في أعماقه على خلاف هذه المفاهيم الثورية، بالإضافة إلى إيمانه العقلي بكل ما صدعت به من أفكار وأحكام.
قال أحدهم: وكيف يتهيأ مثل ذلك الشخص ليقوم بهذا الدور، وهل في المسلمين إذ ذاك شخص لم يعش فترة من حياته في الجاهلية ليتولى دور الحماية كما تريدون.
قلت: يا سيدي - إذا كانت الفكرة سليمة فإن على الإسلام أن يهئ مثل ذلك الشخص إذا كان يريد لنفسه ضمان التطبيق السليم، وأنتم تعلمون أن قيمة الرسالة لا تبرز بمجرد التشريع، وما قيمة تشريع لا يضمن له تطبيق سليم يتمشى مع الأهداف الأساسية التي تبرر وجوده، وتقديم آلاف الضحايا في سبيل تركيز ذلك الوجود.
ص: 345
قال أحدهم: إن هذا صحيح جدا ولكن على الصعيد النظري فحسب، لما فيه من طوبائية تتجافى مع الواقع العملي لنوع الناس.
قلت: قد يكون ذلك كما تقولون لو كانت الرسالة غير سماوية، وكانت المخططات لها من صنع بشر عادي يكون معرضا للخضوع للعوامل الذاتية في تصرفاته ولا أقل من خطئه واشتباهه.
أما وأن الرسالة سماوية ومخططها هو اللّه عز وجل فليس هناك ما يمنع من وضع مخطط لتهيئة مثل أولئك الأشخاص وإيداع ذلك إلى النبي لتنشئتهم وفق ذلك المخطط.
على أن دعوى الطوبائية لا أفهم لها دلالة في أمثال هذه المواضع مع إدراكنا لدور التربية السليمة في بناء الأشخاص وفق المفاهيم التي يراد لها التطبيق، ونحن نعرف أن الشخص الذي يربى على أسس معينة لمفاهيم وقيم خاصة، إذا أبعد عن كل ما يتجافى مع تلكم المفاهيم منذ صغره يكاد يستحيل عليه أن يصدر في تصرفاته عما يخالفها، وأمامنا في واقعنا المعاش كثير من القيم الحضارية السائدة في بعض البلدان المتحضرة كالدول الأسكندنافية مثلا لا يمكن لأهلها أن يخرجوا عليها، وبعض هذه القيم انتزعت من واقع مفاهيمنا الإسلامية كالصدق والأمانة وغيرهما.
على أن الذي يكفينا الآن - ونحن نتحدث عما يجب أن يكون - هو اعترافنا بصحة هذه الفكرة على الصعيد النظري لننتقل بعد ذلك إلى دراسة ما هو كائن ثم نرى مدى انسجامه مع هذا الواقع الذي انتهينا إليه.
وأول ما يلفت نظرنا ونحن نستعرض هذا الجانب أن نرى في بعض تصرفات النبي (صلى اللّه عليه وآله) ما يبحث عن تفسير ما دامت تصرفاته - بحكم رسالته -
ص: 346
تصرفات كلها هادفة.
وأول ما يبحث عن التفسير احتضانه للإمام علي (عليه السلام) من بداية حياته والإشراف على تربيته بنفسه وهو صبي، ثم وضع مخطط لإبعاده عن جميع الأجواء المعاشة إذ ذاك لأمثاله من صبيان قريش، يقول الإمام علي (عليه السلام) وهو يتحدث في نهجه الخالد عن لون تربيته في هذه الفترة: «وضعني في حجره - يعني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة حراء (1)، فأراه ولا يراه غيري» (2).
وهذه الخطوط التي رسمها الإمام لأسلوب تربيته على يد النبي (صلى اللّه عليه وآله) ليست طبيعية لو لم يكن الهدف منها أسمى من وجهها البارز، فهي تريد له الإبعاد عن جميع الأجواء التي كانت سائدة إذ ذاك، مع بنائه على لون من السلوك يختلف عنها في جملة ما له من خطوط، فهو (صلى اللّه عليه وآله) يرفع في كل يوم من أخلاقه علما ويأمره بالاقتداء به، ولا يكتفي بذلك دون أن يصحبه حتى لمواقع تحنثه وعبادته في غار
ص: 347
حراء، فليس غريبا بعد ذلك أن لا يكون لهذا الصبي من الرواسب الجاهلية ما يتجافى مع الأسس الجديدة التي رسمها النبي (صلى اللّه عليه وآله) للسلوك، وأكد منها الإسلام بعد ذلك في جملة ما جاء به من تشريعات.
ومن هنا كان من الطبيعي جدا أن يكون هذا الصبي أسرع الناس إلى الإيمان بالرسالة التي أرسل بها صاحبه لملاءمتها لواقعه النفسي، ولقد تظافرت جملة من الروايات على تسجيل هذا الواقع ومنها ما أثر عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: «لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي غيره» (1) ومن مأثور ما نقل عن الإمام نفسه قوله في إحدى خطبه: «اللّهم لا أعرف أن عبدا لك من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك ثلاث مرات، لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعا» (2) ثم شده النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى هذه الرسالة شدا، ومكنها من نفسه عقيدة، يفنى من أجلها ويعيش.
وفناؤه في الدفاع عنها وعن صاحبها وهو في مكة أشهر من أن يتحدث عنه.
والعقيدة متى تمكنت من أعماق صاحبها ولم يكن لها في نفسه ما يزاحمها من الرواسب المعاكسة استحال عليه عادة الخروج على تعاليمها، أو التخلف عما تدعو إليه وتتطلبه من تضحيات، وهو معنى العصمة الذي نريده ونذهب إليه.
ونجاح هذا الجانب من الإعداد على يد النبي (صلى اللّه عليه وآله) هو الذي أوجب أن يؤهله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (1) للخلافة من عبده ويعد النفوس لتقبل ذلك
ص: 348
مبكرا، وأول نص وصل إلينا في هذا الشأن ما روي على لسان غير واحد من المؤرخين قوله (صلى اللّه عليه وآله) لعشيرته الأقربين وقد أمر بإنذارهم، وقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا قال علي (عليه السلام): فقلت: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا «يقول الراوي» فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي « (1).
ثم توالت بعد ذلك التصريحات منه (صلى اللّه عليه وآله): «لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب» (2) وقوله لعلي «ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (3) إلى عشرات أمثالها بالإضافة إلى نوع من التصريحات يتخذ طابع الملاشاة لجميع الفوارق بينه وبين الإمام، إلا ما يتصل بالنبوة فهو نفسه في آية المباهلة، وهو الذي يؤدي عنه، لأنه منه كما في حديث براءة، وحديث «إن عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي، لا يؤدي عني إلا أنا أو علي» (4).
والنص الذي اتخذ طابع البلاغ العام هو نص الغدير، وكان بعد عودته من
ص: 349
حجة الوداع وقد صوره ابن عباس ورسم أجواءه بقوله «لما أمر اللّه رسوله أن يقوم بعلي فيقول له ما قال» فقال: يا ربي إن قومي حديثو عهد بجاهلية، ثم مضى بحجه فلما أقبل راجعا ونزل بغدير خم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...) (1) الآية فأخذ بعضد علي فقال: أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: اللّهم من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وانصر من نصره، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه » (2).
ومن هنا يتضح أن اختيار النبي (صلى اللّه عليه وآله) لعلي ما كان وليد الصدفة، وإنما كان وليد إعداد وتهيئة ذات جذور عميقة، تقتضيها طبيعة الحماية للمبادئ الثورية التي أنزلت من السماء لهدم أمة وبنائها من جديد، وعلي هو الوحيد الذي كان إذ ذاك لا يحمل في رواسبه مخلفات الجاهلية بفضل احتضان النبي (صلى اللّه عليه وآله) له من صغره، وإبعاده عن جميع أجوائها المعاكسة، بما هيأ له من وسائل التربية السليمة.
فالفكرة إذن سليمة وليس فيها شئ من الطوبائية كما نتخيل، ويصدقها واقع الإمام علي (عليه السلام) وسلوكه المنسجم معها داخل الحكم وخارجه، كما يصدقها واقع خلفائه من أهل البيت الذين أعد لهم الإمام نفس الأسلوب الذي اتخذه النبي (صلى اللّه عليه وآله) في تربيته الخاصة، وقد سبق في أحاديثنا عن العصمة والتماسها في واقعهم التأريخي ما يلقي الأضواء على ذلك.
قال أحدهم: إن الذي يقف دون تقبل هذه الفكرة وما اعتضدت به من
ص: 350
نصوص هو موقف الصحابة منها ومن نظائرها، أتراهم لم يدركوا هذا الواقع الذي تقوله الشيعة أم أدركوه ولم يتقيدوا بالأخذ بمدلوله مع شدة علاقتهم به (صلى اللّه عليه وآله) وحرصهم على الأخذ بتعاليمه أليس في هذا الكلام شئ من الطعن في الصحابة.
قلت: إذا سمحت لي يا سيدي أن أتحدث بشئ من الصراحة سألتك عن رأيك في الصحابة، وهل إنكم تنسبونهم إلى العصمة كما يعتقد الشيعة في أئمتهم.
قال: لا، إنهم ليسوا بمعصومين ولكنهم لا يتعمدون المعصية لأنهم عدول، والمسألة هنا لا تحتمل الخطأ مع هذه النصوص.
قلت: ورأيك هذا هل ينطبق على الجميع أم أنهم يختلفون من حيث المستوى الإيماني باختلاف مدة الصحبة، وشدة الارتباط بالمفاهيم الجديدة وعدمه.
قال: ماذا تقصد بهذا الكلام؟
قلت: أقصد التساؤل عما إذا كان اعتقادكم قائما على التساوي بين من دخل الإسلام من بداية البعثة واعتنق مبادئه ودافع عنها، وبين من أسلم عام الفتح مثلا.
قال: أما من حيث عدم تعمد المعصية فنعم، وأما من حيث التفاوت في المنازل القريبة فلا.
قلت: إذن تعتقدون أن الصحبة ولو كانت لفترة يسيرة كافية لإحداث ملكة العدالة في نفوس أصحابها.
قال: نعم.
قلت: ولكن النصوص صريحة في خلاف ذلك، فإن كثيرا من آيات الكتاب العزيز نسبت النفاق إلى بعضهم أمثال قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
ص: 351
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (1) وقوله عز اسمه: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (2) إلى أمثالها من الآيات.
فهل كان هؤلاء من الصحابة أو من غيرهم، وأين ذهبوا بعد وفاته (صلى اللّه عليه وآله) وهل عينهم التاريخ بأسمائهم لنخرجهم من قائمة الحساب! على أن التاريخ حافل بتجاوز بعض الصحابة على البعض، ونيل بعضهم من البعض، فهل كان هؤلاء كلهم على حق.
قال أحدهم: ما بال الشيعة لا يتركون الطعن في الصحابة، والتجاوز عليهم أحيانا.
قلت: يا أخي لا تقل هكذا، فنحن لسنا في موضع استفزاز أو إثارة عواطف، وليست المسألة مسألة شيعة وسنة، وإنما هي مسألة واقع تترتب عليه ممرات في مجالات العمل والسلوك.
إن عيب الشيعة يا سيدي أنهم لا يستطيعون أن يجمعوا الصيف والشتاء على سطح واحد، فالصحابة لديهم مختلفون في المستوى، وفي أعمال بعضهم ما لا يعرفون له وجها، وهم وإن وجدوا في الصحبة فضلا لأصحابها لا يعادله فضل، إلا أنه الفضل الذي لا يعفي صاحبه من المسؤولية.
ولكن ما رأيك لو قال لك أحد الشيعة - ولو على طريق الاستفزاز أو الدعابة -: إن أول من فتح باب الطعن في الصحابة هم السنة لا الشيعة، فماذا
ص: 352
يكون جوابك على هذا الأمر؟
قال: وكيف.
قلت: أسألك: هل هناك أعظم من رمي المسلم بالارتداد؟
قال: لا.
قلت: إن البخاري - وهو من أقدم من ألفوا في الحديث - عقد بابا في صحيحه لأخبار الحوض، حشده بالكثير من الروايات التي تنسب إليهم أو إلى بعضهم الارتداد اقرأها مفصلة في هذا الباب. (1)
قال: إنا لا نمنع وجود مرتدين أمثال من حاربهم أبو بكر لردتهم.
قلت: ولكن بعض هذه الروايات لا تستثني منهم إلا مثل همل النعم، كناية عن القلة وتنسب الارتداد إلى الأكثر، ثم ذكرت مضمون رواية لأبي هريرة ويحسن أن نعود إلى نصها.
مندوب الإيمان: وهنا أخرج الجزء الثامن من البخاري وقرأ فيه « حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح حدثنا أبي قال: حدثني هلال عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم فقلت: أين قال: إلى النار واللّه قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم قلت: أين قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم » (2).
ص: 353
إن الذي يبدو لي يا سيدي أن أسلافنا كانوا أوسع أفقا منا وأقرب إلى الموضوعية عندما حشدوا كل ما عثروا عليه من الأحاديث التي اطمأنوا إلى صدورها وتركوا للباحثين أمر تمحيصها، ولم يجعلوا رواسبهم مقياسا لما يروون وما يتركون، وكان محدثوا الشيعة والسنة سواء من هذه الناحية، فليس من الإنصاف أن نحمل الجميع مسؤولية رأي لم يصرحوا جميعا بتبنيه، وحجتنا في ذلك مجرد العثور على رواية في كتاب للسنة أو الشيعة تتعلق في الصحابة أو غيرهم ويستشم منها الطعن مثلا.
قال أحدهم: وقد وجه بنظرة عتاب إلى المعترض - لقد أبعدتنا عن صميم الموضوع، فالسؤال الذي سبق أن أثرناه حول موقف الصحابة من هذه النصوص ما يزال قائما، أترى أن الصحابة وفيهم مثل أبي بكر وعمر لم يدركوا هذا الواقع الذي أدركه الشيعة، وفهموه من هذه النصوص أم أدركوه وانحرفوا عنه جميعا.
قلت: إن الذي أدعيه - يا سيدي - إن الصحابة جميعا فهموه - كنص - بالمستوى الذي فهمه الشيعة، إلا أن موقفهم منه كان مختلفا جدا، وهم ينقسمون في هذا الأمر إلى أقسام ثلاثة، وليس في أحد هذه المواقف تشكيك بالنص.
القسم الأول: وهو الذي يشكل الأكثرية وقوامه مسلمة الفتح من قريش وبعض المنافقين الذين أشارت إليهم الآيات السالفة، كان للرواسب التي عرضها الدكتور أحمد أمين في حديثه السابق موقع كبير من نفوسهم، ومثل هؤلاء لا يسهل عليهم تقبل خلافة الإمام علي (عليه السلام) بالذات، لأمور عدة أهمها اعتقادهم أن الخلافة إذا دخلت هذا البيت فلن تخرج منه بعد ذلك، وفي هذا ما فيه من قتل لطموح من يرى لنفسه أهلية الحكم، وبخاصة من زعماء القبائل الذين كانوا ينفسون على هذا البيت مكانته الجديدة التي ارتفع رصيدها بالإسلام، والنزعة
ص: 354
القبيلية ما تزال متحكمة في أعماق الأكثر، وقد رأيتم فيما سبق أن حادثة بسيطة كادت أن تثير حربا بين المهاجرين والأنصار بباعث من هذه النزعة، ومن هنا انطلق شعار «وسعوها في قريش تتسع» (1) وقد عكست هذا الواقع محاورة للخليفة عمر مع عبد اللّه بن عباس يذكرها ابن الأثير في جزئه الثاني، ويحسن أن نقف على ما يتصل منها بطبيعة موضوعنا.
يقول ابن عباس - من حديث فقال يعني عمر: « يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (صلى اللّه عليه وآله): فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أدر فأمير المؤمنين يدريني.
فقال: عمر كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت.
فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي بالكلام، وتمط عني الغضب تكلمت؟
قال: تكلم.
قلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشا اختارت لأنفسها حين اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.
وأما قولك: إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن اللّه عز وجل وصف قوما بالكراهة فقال (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (2) . (3)
ص: 355
فهذه المحاورة - ولها نظائر - تعكس موقف قريش من النص وتخوفها من تطبيقه، ووقوفها دون ذلك رغم علمهم بأنه مما أنزله اللّه كما يبدو من حديث ابن عباس.
وهذا الإصرار من قبل قريش على الوقوف دونه هو الذي فتح منفذ الاجتهاد أمام الخليفتين أبي بكر وعمر وسعد بن عبادة وأضرابهم، وهم الذين يشكلون (القسم الثاني) في أن يتداركوا الأمر كل من زاويته، فسعد جمع الأنصار لترشيح نفسه، أو التماس مرشح للخلافة منهم - بعد أن أحس بخطر ما تريده قريش - وقد خشي من تغلبهم على الأمر، وعداؤهم لواتريهم من الأنصار معروف.
وعمر أصر على اختيار أبي بكر، لاعتقاده بأنه أفضل العناصر التي لا يمكن أن تجمع الكلمة إلا عليه ما دامت قريش لا تجتمع على علي (عليه السلام).
أما القسم الثالث ويتمثل بأمثال سلمان وعمار وأبي ذر والزبير والمقداد وبني هاشم، فقد ظلوا مصرين على ضرورة تطبيق النص واختيار علي (عليه السلام) للخلافة إلى اللحظة الأخيرة، فالمسلمون إذن ما كانوا ليشكوا في النص على علي (عليه السلام) أو لا يرونه، إلا أن قريشا لا تريد أن تجمع النبوة والخلافة في بيت، والأنصار يخشون من تمرد قريش وغلبتهم، والخليفتين وجملة من الصحابة كانوا يخشون من تفرق الكلمة عن الإمام وهكذا.
قال أستاذ كبير في الندوة: إن الذي أراه أن الحق في الخلافة إنما هو للإمام علي (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) من بعده، وأن الخلافة لو وصلت إلى الإمام بعد النبي بلا
ص: 356
فصل لما انتهت بعد ذلك إلى أمثال يزيد بن معاوية والوليد من الأمويين.
ولانتهى الإسلام إلى غير ما انتهى إليه اليوم، ولكن ما رأيكم وقد انتهى عصر الأئمة، ولم يعد فعلا مجال لعودتهم للحكم أن نسدل الستار على الماضي ونتناساه، ونعود إخوانا يجمعنا كتاب اللّه وسنة نبيه (صلى اللّه عليه وآله) دون أن نسمع كلمة تفرقة أو خصام من أجل عقيدة.
قلت: إن هذه الدعوة هادفة وسليمة جدا، ولكن لمن لم يكن للماضي علاقة بحاضره، أما والشيعة تعتقد بضرورة الرجوع إلى الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ورثة السنة النبوية فإن حاضرها لم ينقطع عن ماضيها، بل هي مضطرة للتشبث به وعلى الأخص فيما يتعلق بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) ولكن ما رأيكم أن نضيف إلى ما ذكرتم ضرورة الرجوع إلى السنة الموروثة لدى أهل البيت (عليهم السلام) والتي ألزم بها النبي (صلى اللّه عليه وآله) بحديث الثقلين بالإضافة إلى ما صح من غير طريقهم، ويكون ذلك موضعا لاتفاق الكلمة ووحدتها، مع ما في ذلك من الحيطة للدين كما تعلمون.
قال أحدهم: وكيف يمكن الاتفاق مع الشيعة، وهم يؤمنون بأن لهم قرآنا يختلف عن قرآن أهل السنة.
مندوب الإيمان: وبماذا أجبتم على هذا الاستفزاز؟
ج - إن جوابي عليه مما لا يتسع له الحديث في جلستنا هذه ولعلنا نتحدث عنه في جلسة قادمة إن شاء اللّه. (1)
ص: 357
ص: 358
ص: 359
ص: 360
روي عن ثابت بن دينار الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن عبد اللّه بن عباس، أنه سأله رجل فقال له: يا بن عم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، أخبرني عن أبي طالب، هل كان مسلما؟
فقال: وكيف لم يكن مسلما، وهو القائل:
وقد علموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل (1)
إن أبا طالب كان مثله كمثل أصحاب الكهف (2) حين أسروا الإيمان، وأظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرتين (3).
ص: 361
يقول السيد محمد جواد المهري في معرض حديثه عن أيام دراسته في مدرسة الدعية بالكويت في عام 1968 م: في الصف الأول الثانوي كانت لي نقاشات مع معلم مادة الدين، ولكن بما أنني كنت قد دخلت ذلك الجو توا إضافة إلى كون المعلم شيخا حاد الطباع لم تتمخض عن نقاشاتنا المتفرقة أية نتيجة إيجابية ناهيك عن امتناعه عن الخوض في المواضيع المثيرة للاختلاف بعد التفاته إلى وجودي، ومع هذا كانت لي معه أحيانا نقاشات غلبته فيها.
مثلا سأله أحد التلاميذ يوما: لماذا تأخذ الماء في كفك عند الوضوء وتسكبه من الرسغ إلى المرفق بينما يسكبه أتباع أحد المذاهب الإسلامية من المرفق إلى الأسفل؟
نفخ الأستاذ لغديه متظاهرا أنه صاحب الحق وقال: الأيدي عادة مليئة بالشعر، وإذا سكب الماء من الأعلى إلى الأسفل قد لا يصل إلى ما تحت الشعر، ولكن إذا سكب من الرسغ إلى الأعلى فالماء يصل إلى ما تحت الشعر قطعا، وهذا أقرب إلى الاحتياط.
نهضت على الفور وقلت: اسمح لي يا سيدي! إذن إذا أردت الغسل وجب وضع الرأس على الأرض ورفع الأرجل في الهواء لأن جسم الإنسان ملئ بالشعر، واستنادا إلى الرأي الذي عرضته يجب أن يصل الماء إلى تحت الشعر!!
ص: 362
ارتفع فجأة صوت ضحكات الطلاب، فقال الأستاذ الذي وجد نفسه في وضع محرج للغاية بلهجة عنيفة: لا تناقش عبثا!! فأنت لا زلت أصغر من أن تعطي رأيك في القضايا الفقهية!! وأجلسني بكلامه هذا! إلا أن الطلاب لم يقنعوا أبدا.
وعلى كل حال انقضت السنة الأولى من الثانوية ودخلت في السنة الثانية، كان سني قد ازداد ومطالعتي قد كثرت في هذا المجال خلال العطلة الصيفية، فأصبحت أكثر استعدادا للمواجهة.
ومن حسن الصدف أن مدرس مادة الدين كان شابا إلى حد ما وحسن الأخلاق، كنا في أول درس من مادة الدين حين دخل الأستاذ وكان شابا يدعى «عمر الشريف».
وبدأ الحديث عن موضوع الهداية في الإسلام، وضمن حديثه تفسير الآية الشريفة: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (1)، قال: إن هذه الآية نزلت في أبي طالب عم الرسول (صلى اللّه عليه وآله) حيث حضر عند رأسه وهو في اللحظات الأخيرة من حياته وكلما طلب منه التلفظ بالشهادتين، أبى حتى مات كافرا!! فتأثر النبي (صلى اللّه عليه وآله) لأن عمه الذي يحبه يموت كافرا، لكن اللّه تعالى أوحى إليه هذه الآية.
الهداية هبة إلهية يمنحها اللّه لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء، فلا تحاول هداية عمك!
اضطرم الغضب في نفسي وما عادت لي طاقة على الصبر، فنهضت بغضب وبدون استئذان وصحت: أستاذ! لا بد وأنكم تعتبرون أبا طالب، هذا الرجل المؤمن، كافرا وتأولون بشأنه هذه الآية لأنه والد علي (عليه السلام)، ليس من الإنصاف اتهام شخص قضى عمره في خدمة الإسلام وقدم كل هذا العون للنبي (صلى اللّه عليه وآله)
ص: 363
وللمسلمين بمثل هذه التهمة، واعتباره كافرا مع كونه موحدا حقيقيا وإنسانا كاملا، فمن ذا الذي دافع عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) يوم هب جميع كفار قريش لمحاربته ومحاصرته اقتصاديا، غير أبي طالب (عليه السلام)؟
ابتسم الأستاذ قائلا:
أولا: ليس من الصحيح اتهامنا بمثل هذه التهمة، فنحن نرى عليا من أفضل الناس وأخلصهم، ونعتبره على كل حال أحد خلفاء الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، فنحن إذن لا عداوة لنا معه حتى نعتبر أباه كافرا، ثم إنه كان شخصا عطوفا وكثير المحبة لمحمد (صلى اللّه عليه وآله)، ولهذا السبب كان يدافع عنه حتى وإن لم يؤمن بدينه، وهذا الطرح لا ينطوي على أية مشكلة.
قلت: بل ينطوي على مشكلة كبرى، فالرسول (صلى اللّه عليه وآله) أساسا لا يمكنه التعويل على كافر، أو أن يحظى بحمايته على ذلك النطاق الواسع، ألم تقرأوا قوله تعالى في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1).
قال: هذه الآية تعني اليهود والنصارى.
قلت: الواقع أن اليهود والنصارى أهل كتاب، فإن لم يكن تعالى قد أباح له موالاة أهل الكتاب والاستعانة بهم، فهو لا يجيز قطعا اتخاذ مشركي قريش حماة لنا، فضلا عن هذا فقد جاءت في القرآن آية أخرى تنهى عن هذه العلاقات العائلية، وتحذر من موالاة الآباء والإخوة - فما بالك بالأعمام - إذا كانوا كفارا، أو إيجاد صلات وثيقة معهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ
ص: 364
أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1).
بل إن اللّه عز وجل قد نهى المسلمين في ما يربو على الثلاثين موضع عن إيجاد علاقات مع الكفار، فما بالك باتخاذهم حماة وأنصارا، هل يجوز أن يعصي الرسول - وهو مبلغ آيات اللّه - أوضح أحكام اللّه ويعصي ربه جهارا؟
وإذا ما تجاوزنا هذا فثمة أدلة جمة على إيمان أبي طالب، ولعلي لا أستطيع الآن إحصاءها بأجمعها، ولكن حسبنا ما جاء في الكثير من أشعاره، التي يقر فيها برسول اللّه ونبوته، ويصرح بإيمانه باللّه على الرغم من أنه كان يعيش في وضع لا يسمح له بالتجاهر برأيه إلى هذا الحد.
دهش الأستاذ من هذه الآيات القرآنية التي بدا وكأنها لم تطرق سمعه من قبل وتقلب لون وجهه من حال إلى حال وقال:
إذا كنت تبغي النقاش فالصف ليس موضعا للنقاش، والصف لا يختص بك حتى تكون أنت المتحدث الوحيد فيه وتستحوذ على وقت نيف وثلاثين من الطلاب! تعال إلى غرفتنا (غرفة المعلمين) للمناظرة في وقت الفرصة.
قلت: لا ينبغي هذا! فإما أنك لا تتحدث في القضايا التي تثير الاختلاف، وإما أنك إذا تحدثت بها ينبغي أن تتوقع ردا عليها، فأنا اليوم إن لم أدافع عن أبي طالب، هذا الإنسان الموحد الطاهر فسيعتقد هؤلاء الطلاب فيه كعقيدتك فيه، وسأخزى يوم القيامة أمام اللّه ورسوله.
إنني مستعد لمناظرتك حيثما شئت وفي أي موضوع من المواضيع
ص: 365
العقائدية، ولكن إذا سمح لي الطلاب اليوم بقراءة بيتين من الشعر لأبي طالب (عليه السلام) لكي لا تهتز عقيدتهم فيه.
وفي الحال أيدني الطلاب، وقالوا: يا أستاذ! الحق معه، دعه يدافع عما يعتقد به.
اضطر الأستاذ للصمت وبقي ينتظر.
كنت متجها بكل مشاعري إلى أبي طالب، فاستعنت به وبربه لأكون قادرا على أداء حق سيد مكة ومولاها في أول اجتماع عام وبحضور الكثير من المستمعين، وليتسنى لي الدفاع عن هذه الشخصية المفترى عليها في تاريخ الرسالة.
فقلت: يا أستاذي! ويا أصدقائي! لم يكن أبو طالب بالذي يعتريه أدنى شك بنبوة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، إذ أن له قصائد كثيرة يمدح فيها الرسول ويشهد برسالته فهو بعد أن أخبر قريش بأن صحيفتكم قد أكلتها الديدان ولم يبق منها سوى اسم اللّه، وهذا ما أخبرني به ابن أخي محمد، وإذا لم تصدقوا فاذهبوا واستخرجوها من داخل الكعبة، فإن كان قول محمد هذا صحيحا عودوا إلى رشدكم وآمنوا له، وإن يك كاذبا أسلمته لكم فإن شئتم عاقبتموه أو قتلتموه.
قالوا: رضينا بهذا! فذهبوا وجاءوا بالصحيفة ووجدوا كلام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) صدق.
لكن من ختم اللّه على قلبه وألقى على بصره وعلى سمعه غشاوة لا يعي الحق، ومن الطبيعي أن يتجاهل هذه المعجزة الكبرى، ومن هنا قالوا لأبي طالب: هذا أيضا سحر آخر مما يأتيه ابن أخيك، وهكذا انغمسوا في ضلالهم.
دنا أبو طالب من بيت اللّه وتعلق بأستار الكعبة وقال: « اللّهم انصرنا على القوم الظالمين فقد قطعوا رحمنا وانتهكوا حرمتنا ».
ص: 366
ثم أنشد قصيدة طويلة غراء لا أستظهر منها حاليا - وللأسف - سوى بيتين، وأنصح الأخوة بالذهاب إلى مكتبة المدرسة بعد انتهاء هذا الدرس واستخراجها من كتب التاريخ ومطالعتها.
نهض أحدهم قائلا: في أي كتاب وردت مثل هذه القصة؟ قلت: قصة الصحيفة معروفة وذكرتها كل كتب التاريخ ويمكنك مراجعة تاريخ اليعقوبي، وسيرة ابن هشام، وتاريخ ابن كثير، وطبقات ابن سعد، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وهي بأجمعها من الكتب المعتبرة عند أبناء السنة، وعلى كل حال فقد قال أبو طالب في تلك القصيدة الغراء:
ألا أن خير الناس نفسا ووالدا *** إذا عد سادات البرية أحمد
نبي الإله والكريم بأصله *** وأخلاقه وهو الرشيد المؤيد
ألا يكفي أن أبا طالب يعتبر الرسول «نبي الإله»؟ أليست هذه شهادة برسالة ونبوة محمد (صلى اللّه عليه وآله)؟ هذا فضلا عن بيتين من الشعر يصرح فيهما بنبوة محمد (صلى اللّه عليه وآله) وقد أوردهما البخاري في «التاريخ الصغير»، وابن عساكر في تاريخه، وابن حجر في «الإصابة» وفيهما يمدح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بالقول:
لقد أكرم اللّه النبي محمدا *** فأكرم خلق اللّه في الناس أحمد
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد (1) * ظاهر هذين البيتين وباطنهما واضح وصريح، وفيهما دلالة على عظمة شأن أبي طالب ووفرة علمه وعلو منزلته.
قال الأستاذ: هذا البيت ينسب لحسان بن ثابت.
ص: 367
قلت: إنه أخذ هذا البيت عن أبي طالب وضمنه في قصيدته في مدح الرسول، وإذا ما تجاوزنا كل هذا، هناك أيضا قصة استسقاء أبي طالب وعبد المطلب واستعانتهما بالرسول وهو لا زال طفلا، وهي قصة مشهورة، وهذا دليل واضح على إيمانهما له بالنبوة والرسالة الخاتمة من قبل أن تعرض قضية رسالته، فهما كانا يعلمان منذ اليوم الأول ما لهذا الطفل من منزلة وقرب عند اللّه. كانت قد مرت على الناس سنتان لا ينزل عليهم الغيث، وأتت عليهم مجاعة، فأخذ أبو طالب هذا الطفل وتوجه به إلى الكعبة وقسم على اللّه به وقال: «اللّهم بحق هذا الطفل أنزل علينا غيث رحمتك».
لم تمض ساعة إلا وغمامة سوداء قد غطت سماء مكة وأمطرت عليهم مطرا غزيرا حتى خافوا أن يجرف السيل بيت اللّه.
لما تذكر أبو طالب هذه القصة، قال في مدح الرسول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير هائل (1) لم أكن قد أتممت كلامي حتى وجدت الصف كله مصغيا لأشعار أبي طالب ذات المغزى العميق، وهناك رن الجرس فجأة معلنا انتهاء الدرس، وتنفس المدرس الصعداء، ومع هذا فحينما خرجت من الصف التفت إلي باحترام وقال:
إنني لأشعر بالارتياح لوجود طالب مثلك بين طلابي له مثل هذه المعرفة بمواضيع العقيدة والتاريخ ويستدل بهذه الطريقة الحسنة، وإني لأفتخر بطالب
ص: 368
مثلك، ولكن اعلم إن لجميع هذا الكلام ردود.
قلت: إني على استعداد لمواجهة أي رد أو انتقاد، ولدي جواب على جميع الاعتراضات، وإذا لم تقنع فإني مستعد للكلام معك ثانية.
قال: طبعا كلامك عن أبي طالب شيق جدا وينطوي على أمور جديدة بالنسبة لي، ولكن نفس أولئك الذين نقلت عنهم تلك الأبيات لأبي طالب يعتبرونه كافرا!
قلت: إن كان هناك من يرى الحق ويدوس عليه، فلا يعني هذا إنك تتبعه على باطله.
قال: تريد أن تقول إن هؤلاء جميعا حاربوا الحق، وأنتم وحدكم دافعتهم عنه؟ ما هذا الكلام يا عزيزي!
قلت: يا أستاذ! إن قول الحق مر، وليس بإمكان كل واحد تحمل هذه المرارة، ثم إنني لا شأن لي بما في كلامهم من تناقضات، بل كنت أبغي فقط الاستشهاد من كتبكم على إيمان أبي طالب ليتضح إنه كان مؤمنا تمام الإيمان، وإذا بقي هناك من ينكر إيمانه يتبين أيضا أنه مخدوع!!
قال: تقول إن فيها تناقضات، هل يمكنك البرهنة على ذلك؟
قلت: الأدلة على ذلك كثيرة! وهذا الدليل كاف بحد ذاته، فأنت تلاحظ مع كثرة الأشعار التي ينقلونها عن أبي طالب في مدح الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، يصورون وبكل جرأة أن هذا الرجل الإلهي كافر، أليس هذا تناقضا؟
قال: أنت تعلم طبعا أن أبا طالب كان يحب محمدا كثيرا، وكان يدافع عنه طوال مدة حياته معه، فما هو المانع في أن يبعث البهجة في نفس ابن أخيه بالأشعار ليقلل إلى حد ما من ألم المصائب التي كانت تترى عليه؟
قلت: يا أستاذ إن المدح والثناء شئ آخر غير الشهادة بالنبوة، فهو هنا
ص: 369
لا يثني عليه وكفى! وإنما يشهد له بالنبوة أيضا في مواقف مختلفة، وليس ثمة مجال للكناية والتورية، وفضلا عن هذا ألم يعلن النبي (صلى اللّه عليه وآله) حرمة زواج المسلمات بالكفار؟ والكل يعلم أن فاطمة بنت أسد كانت من أوائل المسلمات، ومع هذا بقيت مع أبي طالب حتى النهاية ولم يفرقها الرسول عن زوجها.
قال: إن لديك اطلاعا واسعا، ولدي عدة قضايا أود معرفة رأيك فيها، لكن الوقت لا يسمح الآن، أرجو أن يكون لنا من بعد هذا لقاءات منفصلة نتباحث فيها بشكل مفصل، إلى اللقاء.
- في أمان اللّه.
انقضى ذلك اليوم وعدت إلى الدار وحدثت والدي المرحوم بما جرى، فابتهج ودعا لي ثم قال: يا بني إن إيمان أبي طالب كإيمان مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه في عهد النبي موسى (عليه السلام).
أبو طالب كان قد آمن بالرسول منذ البداية وإلا لم يكن ليدافع عنه إلى هذا الحد، بيد أن الرسول ما كان مباحا له وفقا لأمر اللّه باتخاذه نصيرا له، ولا حتى أن يلقي إليه بالمحبة.
أما أشعار أبي طالب في مدح الرسول صراحة واعترافه بنبوته فكثيرة، وهي منقولة في كتب السنة، ويمكنك مراجعة كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» من تأليف الشيخ عبد اللّه الخنيزي، واكتب شيئا من تلك الأشعار وخذها إلى أستاذك، ويكفي أبا طالب أنه كان يذب عن الرسول علانية في جميع المواقف والمراحل منذ بداية الدعوة حين جمع الرسول أقرباءه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (1) وحتى آخر حياته، وكان يقف بوجه كفار قريش ويحامي عن
ص: 370
الرسول بكل ما أوتي من قوة، فإن لم يكن قد آمن برسالة الرسول فما كان الدافع من وراء حمايته له بهذه الصورة؟ ألم يكن أبو لهب عم الرسول وكان يحاربه؟ ومنذ الاجتماع الأول الذي جمع فيه الرسول أقاربه ودعاهم - بعد تناول الطعام - إلى الإسلام نهض أبو لهب مستنكرا دعوته فصاح به أبو طالب غاضبا: «أسكت يا أعور ما أنت وهذا، ثم قال: لا يقومن أحد، قال: فجلسوا ثم قال للنبي (صلى اللّه عليه وآله): قم يا سيدي فتكلم بما تحب، وبلغ رسالة ربك، فإنك الصادق المصدق» (1).
أي كافر هذا الذي يدافع عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة وينبري للذود عن ابن أخيه بيده ولسانه ويحميه من قرابته الكافر، حتى يبلغ رسالة ربه بسهولة، وناصره في شعبه، هو وكل أتباعه يوم كانت كل قريش تحاربه؟! فإن كان شخص كهذا كافرا فأنا أيضا كافر.
شكرت أبي وذهبت لمطالعة كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» ووجدت أن المؤلف قد بذل جهدا شاقا ودافع عن أبي طالب حق الدفاع، ولكن العلامة الأميني كان قد سبقه إلى البحث في سيرة ومواقف أبي طالب على امتداد سبعين صفحة من المجلد السابع من كتابه «الغدير»، وهو بحث شيق وثمين.
وعلى كل حال لا بأس بذكر عدة أبيات شعرية أخرى له لغرض إكمال هذه المقالة إلى حد ما، ولكي لا تبقى لدى القارئ أدنى شبهة وليبلغ كل ذي حق حقه.
نقل الحاكم في «المستدرك» أن أبا طالب بعث أبياتا من الشعر للنجاشي حاكم الحبشة يدعوه فيها إلى الإحسان إلى مهاجري الحبشة، وجاء فيها:
ليعلم خيار الناس أن محمدا *** وزير لموسى والمسيح بن مريم
ص: 371
أتانا بالهدى مثل ما أتيا به *** فكل بأمر اللّه يهدي ويعصم (1) وجاء في أبيات أخرى يخاطب بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله):
واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد دعوت وكنت ثم أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا (2) وله أيضا قصيدة لامية طويلة في مدح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقر في عدة أبيات منها بنبوته ورسالته، نقل منها ابن هشام أربعة وتسعين بيتا (3)، وابن كثير اثنين وتسعين بيتا (4)، وصيغت هذه القصيدة على غرار المعلقات السبعة، وهي في غاية البلاغة والفصاحة ونظمها في وقت هبت فيه قريش كلها لمحاربة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وكانوا يطردون عنه المسلمين بقوة الحراب.
وقد أشاد القسطلاني بفصاحة وبلاغة هذه القصيدة وذكر أنها تضم مائة وعشرة أبيات (5)، ولو لم يكن منهجنا الاختصار لنقلنا هذه القصيدة هنا، ولكن تكفي الإشارة إليها ليرتدع أصحاب الآراء المنحرفة الباطلة عن انتهاك قدسية هذه الشخصية الجليلة، ولكي لا يتهموا هذا المؤمن - الطاهر السريرة وأول
ص: 372
المدافعين عن الإسلام - بالكفر، وأن يتوبوا إلى اللّه من سوء القول فيه.
كان أبو طالب سباقا في ميدان الجهاد والاستقامة في عهد الجاهلية الأسود وفي ظلمات أبناء قريش.
كان أبو طالب كوكبا زاهرا يقتبس نوره الساطع من الشمس المحمدية المتألقة، وكان صوته المدوي في البطحاء صدى لصيحة النبي في نداء «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه».
كان أبو طالب شخصية انطلقت عقيدة الإسلام التحررية تحت ظل بريق سيفه البتار، وصدى أشعاره المثيرة ودفاعه المتواصل، فأضاء ظلمة مكة بنوره الباهر.
كان أبو طالب تابعا مطيعا لمحمد (صلى اللّه عليه وآله)، وكان حبه لصاحب الرسالة يسري في أعماق روحه وجسده، وظل يسير في طريق المحبة حتى اللحظة التي بلغ فيها مرحلة اليقين، ورفعته يد الغيب الإلهية إلى أعلى عليين، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) باكيا في رثائه: «يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا فجزاك اللّه عني خيرا» (1).
قال اليعقوبي في تاريخه: « ولما قيل لرسول اللّه إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات » (2) ثم دعا له بالخير، وعظم موت أبي طالب على ابن أخيه حتى سمى ذلك العام عام الحزن، فهل يبكي الرسول هكذا على موت
ص: 373
كافر - والعياذ باللّه -؟
وهل يعطف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على كافر، ويبدي له المحبة أكثر من سائر المؤمنين، ويجزع على فقده مع ما أمر به من الغلظة مع الكفار والرأفة بالمؤمنين؟
أعيدوا كتابة التأريخ وامحوا هذه البقع المخزية من صفحاته، كفى انسياقا وراء الأسلاف الأراذل الذين دفعهم بغض وصي رسول اللّه إلى اتهام أبيه الجليل بتهمة الإلحاد، فيما تاريخ الإسلام حافل بنداءاته الإسلامية، وكان ناصرا مخلصا للرسول سلام اللّه وصلواته عليه وعلى محبيه، واللعن الدائم على أعدائه إلا من انساقوا في هذا الطريق جهلا، وإذا أدركوا الحق اتبعوه، وعوضوا عما سلف منهم بالتوبة والإنابة إلى سبيل الهداية وإلى الصراط المستقيم. (1)
ص: 374
قال أحد أبناء أهل السنة في شأن إيمان أبي طالب (عليه السلام) الأب الكريم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): اختلفت الروايات في كتبنا الرئيسية حول إيمان أبي طالب (عليه السلام)، فطائفة من الروايات وردت في تعظيمه ومدحه، وطائفة أخرى وردت في ذمه والطعن به.
فقلت: اتفق علماء الشيعة، تبعا لأئمتهم المعصومين (عليهم السلام)، والذين هم عترة النبي (صلى اللّه عليه وآله) على أن أبا طالب (عليه السلام) كان شخصا لائقا مؤمنا ومجاهدا في سبيل اللّه.
- فقال -: إذا كان كذلك، فلماذا وردت روايات كثيرة في عدم إيمانه؟
- فقلت -: ذنب أبي طالب هو أنه والد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد بذل الأعداء الحاقدون على ابنه الوصي (عليه السلام)، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان مبالغ طائلة من بيت مال المسلمين، لعناصر باعوا دينهم بدنياهم وضمائرهم لأهوائهم، لافتعال الأحاديث والروايات المجعولة الكاذبة لتشويه شخصية الإمام علي (عليه السلام) (1)، حتى وصل بهم الحد إلى أنهم نقلوا عن أبي هريرة أنه قال: « إنه
ص: 375
يشهد باللّه أن عليا أحدث بعد الرسول فاستوجب لعن الملائكة والناس أجمعين » (1).
فمع وجود هؤلاء الأراذل في عصر معاوية والخلفاء الأخرين من بني أمية، فمن الطبيعي أن تظهر روايات مفتعلة كثيرة في شرك أبي طالب (عليه السلام) حتى بذلوا الكثير من الجهود والطاقات في ذمه، ولم يبذلوا واحدا من ألف منها في أبي سفيان الذي كان يمثل رأس الشرك، ويمتلك طينة خبيثة، وصفحات سوداء في التأريخ.
فعليه، نشأت جذور تهمة الشرك لأبي طالب (عليه السلام) من دافع سياسي استغلها معاوية لمصالحه الشخصية.
- فقال -: نقرأ في الآية 26 من سورة الأنعام قوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) قال بعض المفسرين: إن المراد من الآية المباركة: «إن طائفة من الناس كانوا يدافعون عن النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وفي نفس الوقت يرفضون الإيمان به ويبتعدون عنه»، فهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب (عليه السلام) لأنه دافع عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في مقابل المشركين، مع تحاشيه عن الإيمان به.
- فقلت -: أولا، أن معنى الآية مخالف لما قلتم تماما.
ثانيا: لو سلمنا لقولكم، فما هو الدليل على أن المراد منها أو شمولها لأبي طالب؟!
- فقال -: حجتنا هي رواية سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس، أنه قال: « هذه الآية، نزلت في شأن أبي طالب (عليه السلام) إذ منع الناس عن التعرض عن التعرض للرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله مع عدم اتباعه له صلى اللّه عليه وآله (2).
ص: 376
- فقلت -: أضطر في جوابكم أن أشير إلى أمور:
1 - أن معنى الآية ليس كما فسرتم، بل مع الأخذ بنظر الاعتبار ما قبل الآية وما بعدها، فقد نزلت في شأن الكفار المعاندين، ظاهر معنى الآية هكذا، «أن الكفار كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في حين أنهم كانوا يعرضون عنه» (1) ولم تتطرق الآية إلى مسألة الدفاع عن النبي (صلى اللّه عليه وآله).
2 - جملة «ينئون» بمعنى الابتعاد، والحال كان أبو طالب من أقرب الناس إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) ولم يبتعد عنه طرفة عين.
3 - أما رواية سفيان الثوري التي نقلها ابن عباس وأنه قال أن الآية نازلة في شأن أبي طالب (عليه السلام) مخدوشة من عدة جهات:
ألف - إن سفيان الثوري من الكذابين وغير الموثقين بإقرار الكبار من علماء أهل السنة (2).
نقل عن «ابن المبارك» أن سفيان كان يدلس، أي كان يظهر الحق باطلا، والباطل حقا (3) زورا وبهتانا، والراوي الأخر لهذه الرواية هو «حبيب بن أبي ثابت» الذي كان يدلس أيضا، طبقا لقول ابن حيان (4)، إضافة إلى أن هذه الرواية مرسلة، بمعنى أن سلسلة الرواة بين حبيب وابن عباس محذوفة غير متصلة.
ب - كان ابن عباس من الشخصيات الإسلامية المرموقة والمعروفة التي تعتقد بإيمان أبي طالب فكيف يمكن أن ينقل مثل هذه الرواية؟! عندئذ يمكن أن
ص: 377
نفسر الآية بهذا النحو: «إن الكفار كان يمنعون الناس من اتباع النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وهم أيضا كانوا يبتعدون عنه».
ج - الرواية المذكورة تقول: أن هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب (عليه السلام) فحسب، مع أن كلمة «ينهون» و «ينئون» جاءت بصيغة الجمع.
فطبقا لتفسير البعض، إن الآية المذكورة تشمل أعمام النبي (صلى اللّه عليه وآله) حيث كانوا عشرة منهم مؤمنين، وهم الحمزة والعباس وأبو طالب، فلا يشملهم مراد الآية المذكورة.
وبعبارة أوضح: كان النبي (صلى اللّه عليه وآله) يبتعد عن المشركين أمثال: أبي لهب الذي كان أحد أعمامه (صلى اللّه عليه وآله)، وأما أبو طالب فكان يرتبط بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) بصلة وثيقة إلى آخر لحظة من حياته الشريفة، وسمى (صلى اللّه عليه وآله) سنة وفاته «عام الحزن» وقال في تشييع جثمانه الطاهر: «وا أبتاه، واحزناه عليك كنت عندك بمنزلة العين من الحدقة، والروح من الجسد» (1)، فهل من الإنصاف أن يقال في حق النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه كان يمدح ويعظم المشرك، ويظهر الحزن لوفاته، مع أن كثيرا من الآيات القرآنية تذم المشركين وتأمر بالإعراض عنهم؟! (2)
ص: 378
المناظرة التي وقعت بيني وبين الشيخ عبد اللّه بن جحش رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة فقال: لأي جهة تروحون لزيارة عبد المطلب (1)، مع أنه مات في زمن الفترة قبل بعثة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، ولأي علة
ص: 379
تذهبون لزيارة أبي طالب مع أنه كان مشركا، ولا تجوز زيارة المشرك؟
قلت له: هل ترضى لنفسك أن تنسب عبد المطلب الذي دعا على قوم أبرهة حينما جاؤوا مع الفيل لهدم الكعبة فدعا عبد المطلب عليهم حتى أرسل اللّه بسبب دعائه طيرا أبابيل فأهلكهم في وادي محسر (1) قريبا من منى، فإذا كان عبد المطلب على رأيكم مشركا كيف يدعو على قوم أبرهة وكيف يستجيب دعائه في هلاكهم، مع أن سورة الفيل في القرآن الكريم وشأن نزولها في قوم أبرهة ودعاء عبد المطلب يعرفه كل واحد، وكذلك فهناك أحاديث كثيرة وردت في إسلام عبد المطلب وأبي طالب (عليهما السلام).
فمنها: عن مولانا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: واللّه ما عبد أبي وجدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط، قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به (2). (3)
ص: 380
وأما إسلام أبي طالب (عليه السلام) مجمع عليه بين الإمامية، وقد قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في أوائل المقالات: اتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عز وجل وأجمعوا على أن أبا طالب مات مؤمنا، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد. (1)
وقال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في التبيان عن أبي عبد اللّه وأبي جعفر (عليهما السلام) إن أبا طالب كان مسلما، وعليه إجماع الإمامية (2)، وادعى الإجماع على إسلامه جمع كثير من علماء الشيعة.
وروى المفيد (قدس سره) بإسناد يرفعه لما مات أبو طالب أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فآذنه بموته فتوجع توجعا عظيما وحزن حزنا شديدا، ثم قال لأمير المؤمنين: إمض يا علي، فتول غسله وتحنيطه وتكفينه، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل ذلك أمير المؤمنين، فلما رفعه على السرير اعترضه النبي (صلى اللّه عليه وآله) فرق وحزن فقال: وصلت رحما وجزيت خيرا يا عم، فلقد ربيت وكفلت صغيرا، ونصرت وآزرت كبيرا، ثم أقبل على الناس وقال: أما واللّه لاشفعن لعمي شفاعة يعجب منها أهل الثقلين. (3)
ص: 381
وعن الإمام السجاد زين العابدين (عليه السلام) أنه سئل عن أبي طالب أكان مؤمنا؟ فقال: نعم، فقيل له: إن هاهنا قوما يزعمون أنه كان كافرا؟ فقال (عليه السلام): واعجبا كل العجب أيطعنون على أبي طالب أو على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقد نهاه اللّه تعالى أن يقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن، ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي اللّه تعالى عنها من المؤمنات السابقات، فإنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب (رضي اللّه عنه). (1)
وقال عبد الرحمن بن كثير: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إن الناس يزعمون أن أبا طالب في ضحضاح من نار! فقال: كذبوا، ما بهذا نزل جبرئيل على النبي (صلى اللّه عليه وآله)، قلت: وبما نزل؟ قال: أتى جبرئيل في بعض ما كان عليه فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرتين، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فآتاه اللّه أجره مرتين، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من اللّه تعالى بالجنة، ثم قال: كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب، فقال: يا محمد أخرج من مكة فما لك بها ناصر بعد أبي طالب (2).
والأشعار الدالة على إسلام أبي طالب - التي قالها في مدح الرسول (صلى اللّه عليه وآله) - كثيرة منها:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا *** نبيا كموسى خط في أول الكتب
ومنها:
ص: 382
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا (1)
وأخرج ابن سعد في طبقاته (2) عن عبد اللّه بن أبي رافع عن علي (عليه السلام) قال: أخبرت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بموت أبي طالب فبكى، ثم قال: إذهب فغسله وكفنه وواره، غفر اللّه له ورحمه.
وقال اليعقوبي في تاريخه (3) قيل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إن أبا طالب قد مات! عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات، ثم قال: يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا، فجزاك اللّه عني خيرا، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلت رحما وجزيت خيرا.
فبعد ما ورد من الأخبار والآثار الكثيرة التي يعجز الإنسان عن إحصائها، هل يرضى المسلم نسبة الكفر والشرك إلى أبي طالب الذي حامى عن الرسول في جميع الأحوال، ولولاه لقتله المشركون، وكان هو الحامي للرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وحين مات أبو طالب بكى عليه الرسول (صلى اللّه عليه وآله) (4)، وصلى عليه ودفنه عند قبر جده
ص: 383
عبد المطلب، وجاء إلى زيارة قبره مكررا حينما كان في مكة، وهل يجوز على رأيكم أن يفعل النبي (صلى اللّه عليه وآله) كل هذا لإنسان مشرك؟ حاشاه وظني أن نسبة الشرك إلى أبي طالب (عليه السلام) جاءت من جهة المعاندة لابنه علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث أنهم ما وجدوا منقصة لعلي (عليه السلام) إلا نسبة الشرك إلى أبيه أبي طالب (عليه السلام). (1)
ص: 384
ص: 385
ص: 386
حدث لي أثناء إقامتي في الشام لقاء مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوطي، وهو من علماء الشام، وله إجازة في علم الحديث.
وقد تم هذا اللقاء من غير إعداد مني، وإنما كان من طريق الصدفة..
كان لي أحد الأصدقاء السودانيين اسمه عادل، تعرفت عليه في منطقة السيدة زينب (عليها السلام) وقد أنار اللّه قلبه بنور أهل البيت (عليهم السلام) وتشيع لهم، وامتاز هذا الأخ بصفات حميدة قل ما تجدها في غيره، فكان خلوقا متدينا ورعا، وقد أجبرته الظروف على العمل في إحدى المزارع في منطقة تسمى العادلية - 9 كم تقريبا جنوب السيدة زينب (عليها السلام)، وكان بجوار المزرعة التي يعمل بها مزرعة أخرى لرجل كبير السن متدين يكنى بأبي سليمان.
فعندما عرف هذا الجار أن السوداني الذي يعمل بجواره شيعي، جاء إليه وتحدث معه، قال: يا أخي، السودانيون سنة طيبون... من أين لك بالتشيع؟! هل في أسرتك أحد شيعي؟
قال عادل: لا، ولكن الدين والقناعة لا تبتني على تقليد المجتمع والأسرة.
قال: إن الشيعة يكذبون ويخدعون العامة.
قال عادل: أنا لم أر منهم ذلك.
قال: بلى نحن نعرفهم جيدا.
ص: 387
قال عادل: يا حاج، هل تؤمن بالبخاري ومسلم وصحاح السنة؟
قال: نعم.
قال عادل: إن الشيعة يستدلون على أي عقيدة يؤمنون بها من هذه المصادر، فضلا عن مصادرهم.
قال: إنهم يكذبون، ولهم بخاري ومسلم محرف.
قال عادل: إنهم لم يلزموني بكتاب مخصص، بل طلبوا مني أن أبحث في أي مكتبة في العالم العربي.
قال: هذا كذب، وأنا من واجبي أن أردك مرة أخرى إلى السنة، «وإن يهدي بك اللّه رجل واحد خير لك مما طلعت عليه الشمس» (1).
قال عادل: نحن طالبي حق وهدى، نميل مع الدليل حيثما مال.
قال: إني سأحضر لك أكبر عالم في دمشق، وهو العلامة عبد القادر الأرنؤوطي، عالم جليل، ومحدث حافظ، وقد حاول الشيعة إغراءه بالملايين حتى يصبح معهم، لكنه رفض...
وافق - الأخ - عادل على هذا الطرح، وقال له أبو سليمان: موعدنا يوم الاثنين أنت وكل السودانيين الذين تأثروا بالفكر الشيعي.
جاء إلي عادل، وأخبرني بما حدث، وطلب مني أن أذهب معه... وبفرحة شديدة قبلت هذا العرض، وتواعدت معه يوم الاثنين بتاريخ 8 صفر 1417 من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، في تمام الساعة 12 ظهرا.
وكان يوما شديد الحر، تقابلنا في الموعد، وانطلقنا إلى المزرعة مع ثلاثة
ص: 388
من السودانيين، وبعد وصولنا كان الأخ عادل في استقبالنا في مزرعة خضراء تحفها الأشجار المثمرة من الخوخ والتفاح والتوت وغيرها من الفواكه التي لا توجد عندنا في السودان.
وبعدها أخذنا نحث الخطى إلى مزرعة جاره السني، فاستقبلنا بحفاوة بالغة، وبعد قليل من الاستجمام في ذلك المكان الذي تحيط به الخضرة من كل حدب، قمت إلى صلاة الظهر، وفي أثناء الصلاة، جاءت قافلة في مقدمتها سيارة تحمل الشيخ الأرنؤوطي، وقد امتلأ المكان بالناس وخارج المبنى بالسيارات، وعلت الدهشة وجوه أصحابي السودانيين من هيبة هذا المقام، لأنهم لم يتصوروا أن الأمر بهذا الحجم، وبعدما استقر كل واحد في مكانه، اخترت مكانا بجوار الشيخ.
وبعد إجراء التعريف بين الجميع، تحدث صاحب المزرعة مع الشيخ قائلا: إن هؤلاء إخواننا من السودان، وقد تأثروا بالتشيع في السيدة زينب (عليها السلام)، وبينهم واحد شيعي يعمل في المزرعة التي بجوارنا.
قال الشيخ: أين هذا الشيعي؟ قالوا له: ذهب إلى مزرعته وسيرجع بعد قليل.
قال: إذن نؤخر الحديث إلى رجوعه..
... ذهب إليه أحد السودانيين وأحضره إلى المجلس، وقد استغل الشيخ هذه الفرصة، بقراءة أحاديث كثيرة يحفظها عن ظهر قلب، وكان موضوعها أفضلية بعض البلدان على بعض، وخاصة الشام ودمشق، وقد أخذ هذا الموضوع حوالي نصف ساعة - وهو موضوع لا جدوى فيه -، وقد تعجبت منه كثيرا كيف لا يستغل هذا الظرف، وقد أعاره الجميع عقولهم بحديث يستفيدون منه في دينهم ودنياهم،
ص: 389
ثم قال: إن دين اللّه لا يؤخذ بالحسب والنسب، وقد جعل اللّه شرعه لكل الناس، فبأي حق نأخذ ديننا من أهل البيت (عليهم السلام)؟! وقد أمرنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بالتمسك بكتاب اللّه وسنته، وهو حديث صحيح لا يستطيع أحد تضعيفه، ولا يوجد عندنا طريق آخر غير هذا الطريق وضرب بيده على ظهر عادل وقال له: يا ابني، لا يغرنك كلام الشيعة.
استوقفته قائلا: سماحة الشيخ، نحن باحثون عن الحق، وقد اختلط علينا الأمر، وجئنا كي نستفيد منك عندما عرفنا أنك عالم جليل ومحدث وحافظ.
قال: نعم.
قلت: من البديهيات، التي لا يتغافل عنها إلا أعمى أن المسلمين قد تقسموا إلى طوائف ومذاهب متعددة، وكل فرقة تدعي أنها الحق وغيرها باطل، فكيف يتسنى لي، وأنا مكلف بشرع اللّه أن أعرف الحق من بين هذه الخطوط المتناقضة؟! هل أراد اللّه لنا أن نكون متفرقين، أم أراد أن نكون على ملة واحدة، ندين اللّه بتشريع واحد؟! وإذا كان نعم، ما هي الضمانة التي تركها اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) لنا لكي تحصن الأمة من الضلالة؟
مع العلم أن أول ما وقع الخلاف بين المسلمين كان بعد وفاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مباشرة، فليس جائز في حق الرسول أن يترك أمته من غير هدى يسترشدون به.
قال الشيخ: إن الضمانة التي تركها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لتمنع الأمة من الاختلاف قوله (صلى اللّه عليه وآله): إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب اللّه وسنتي (1).
ص: 390
قلت: لقد ذكرت قبل قليل، في معرض كلامك قد يكون هناك حديث لا أصل له، أي غير مذكور في كتب الحديث.
قال: نعم.
قلت له: هذا الحديث لا أصل له في الصحاح الستة، فكيف تقول به، وأنت رجل محدث؟
.... هنا، شبت ناره، وأخذ يصرخ قائلا: ماذا تقصد، هل تريد أن تضعف هذا الحديث.
تعجبت من هذه الطريقة، وعن سبب هيجانه مع أنني لم أقل شيئا.
فقلت: مهلا، إن سؤالي واحد ومحدد، هل يوجد هذا الحديث في الصحاح الستة؟
قال: الصحاح ليست ستة، وكتب الحديث كثيرة، وإن هذا الحديث يوجد في كتاب الموطأ للإمام مالك (1).
قلت - متوجها إلى الحضور -: حسنا، قد اعترف الشيخ أن هذا الحديث، لا وجود له في الصحاح الستة، ويوجد في موطأ مالك..
فقاطعني - بلهجة شديدة - قائلا: شو، الموطأ مو كتاب حديث؟
قلت: الموطأ كتاب حديث، ولكن حديث: كتاب اللّه وسنتي مرفوع في الموطأ من غير سند، مع العلم أن كل أحاديث الموطأ مسندة.
ص: 391
هنا صرخ الشيخ بعدما سقطت حجته، وأخذ يضربني بيده ويهزني شمالا ويمينا: أنت تريد أن تضعف الحديث، وأنت من حتى تضعفه... حتى خرج عن حدود المعقول، وأخذ الجميع يندهش من حركاته وتصرفه هذا.
قلت: يا شيخ! هنا مقام مناقشة ودليل، وهذا الأسلوب الغريب الذي تتبعه لا يجدي، وقد جلست أنا مع الكثير من علماء الشيعة، ولم أر مثل هذا الأسلوب أبدا، قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (1)... وبعد هذا، هدأ قليلا من ثورته.
قلت: أسألك يا شيخ: هل رواية مالك لحديث كتاب اللّه وسنتي، في الموطأ، ضعيفة أم صحيحة؟!
قال - بتحسر شديد -: ضعيفة.
قلت: فلماذا إذن، قلت: أن الحديث في الموطأ، وأنت تعلم أنه ضعيف؟ قال - رافعا صوته -: إن للحديث طرق أخرى.
قلت للحضور: قد تنازل الشيخ عن رواية الموطأ، وقال: إن للحديث طرق أخرى، فلنسمع منه هذه الطرق.
... هنا أحس الشيخ بالهزيمة والخجل، لأن ليس للحديث طرق صحيحة، وفي هذه الأثناء، تحدث أحد الجلوس، فوكزني الشيخ بيده، وقال لي وهو مشيرا إلى المتحدث: إسمع له والتفت، يريد بذلك الهروب من السؤال المحرج الذي وجهته له.
أحسست منه هذا، ولكني أصررت وقلت: أسمعنا يا شيخ الطرق الأخرى
ص: 392
للحديث؟؟
قال - بلهجة منكسرة -: لا أحفظها، وسوف أكتبها لك.
قلت: سبحان اللّه!، أنت تحفظ كل هذه الأحاديث، في فضل البلدان والمناطق، ولا تحفظ طريق أهم الأحاديث، وهو مرتكز أهل السنة والجماعة، والذي يعصم الأمة عن الضلالة كما قلت... فظل ساكتا.
وعندما أحس الحضور بخجله، قال لي أحدهم: ماذا تريد من الشيخ وقد وعدك أن يكتبها لك، قلت: أنا أقرب لك الطريق، إن هذا الحديث يوجد أيضا في سيرة ابن هشام (1) من غير سند.
قال الشيخ الأرنؤوطي: إن سيرة ابن هشام، كتاب سيرة وليس حديث.
قلت: إذن تضعف هذه الرواية.
قال: نعم.
قلت: كفيتني مؤونة النقاش فيها.
وواصلت كلامي قائلا: ويوجد أيضا في كتاب الإلماع للقاضي عياض (2)، وفي كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (3)... هل تأخذ بهذه الروايات؟
قال: لا.
قلت: إذن، حديث كتاب اللّه وسنتي، ضعيف بشهادة الشيخ، ولم يبقى أمامنا إلا ضمانة واحدة تمنع الأمة من الاختلاف، وهي حديث متواتر عن رسول
ص: 393
اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقد روته كتب الحديث السنية، والصحاح الستة ما عدا البخاري وهو قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، فإن العليم الخبير، أنبئني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. كما في رواية أحمد بن حنبل (1)، ولا مناص لمؤمن يريد الإسلام الذي أمر اللّه به ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) غير هذا الطريق، وهو طريق أهل البيت المطهرين في القرآن الكريم من الرجس والمعاصي، وذكرت مجموعة من فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، والشيخ ساكت لم يتفوه بكلمة طوال هذه المدة - على غير عادته - فقد كان يقاطع حديثي بين كلمة وأخرى.
وعندما رأى مريدوه الانكسار في شيخهم، أصبحوا يهرجون ويمرجون.
قلت: كفى دجلا ونفاقا، ومراوغة عن الحق، إلى متى هذا التنكر؟!! والحق واضحة آياته، ظاهرة بيناته، وقد أقمت عليكم الحجة، بأن لا دين من غير الكتاب والعترة الطاهرة من آل محمد (صلى اللّه عليه وآله).
وظل الشيخ ساكتا ولم يرد علي كلمة واحدة. فقام منتفضا قائلا: أنا أريد أن أذهب، وأنني مرتبط بدرس، مع العلم أنه كان مدعوا لطعام الغذاء!!.
أصر عليه صاحب المنزل بالبقاء، وبعد إحضار طعام الغداء، هدأ المجلس، ولم يتفوه الشيخ بكلمة واحدة في أي موضوع كان، طيلة جلسة الغداء، وقد كان فيما سبق هو صاحب المجلس والحديث أولا!...
هكذا مصير كل من يراوغ ويخفي الحقائق، فلا بد أن ينكشف أمام الملأ.. (2)
ص: 394
بعد تبادل التحية والسلام مع الأستاذ، بدأت الحديث بالشكل التالي:
يا حضرة الأستاذ، كنا قد اتفقنا على مطالعة ودراسة الآيات النازلة في ولاية علي وأهل بيته (عليهم السلام)، وقد بحثنا في ما سبق آية منها، وهي آية الولاية، وأريد الآن أن أنقل لك حديثا مشهورا ومتواترا جدا، يكفي لوحده لإثبات خلافة علي (عليه السلام) بلا منازع.
هذا الحديث الشريف هو الذي أشرنا إليه في ما سبق مرة أو مرتين أثناء حوارنا، ويعرف بحديث الثقلين، وهو موضع إجماع العلماء والأكابر من السنة والشيعة، ونقله أكابر السنة في صحاحهم ومسانيدهم، قال ابن حجر في الصواعق المحرقة: «ولهذا الحديث طرق كثيرة عن نيف وعشرين صحابيا» (1).
ونقل أحمد بن حنبل في مسنده ما يلي: « قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه عز وجل وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأن اللطيف الخبير
ص: 395
أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروني بم تخلفوني فيهما » (1).
وأورده مسلم أيضا في صحيحه. (2) دهش الأستاذ وقطع حديثي بغتة وقال: تمهل! هذه الرواية التي تقول أنها مشهورة ومتواترة جدا لم نسمع بها بهذه الصورة، بل سمعنا أنه قال: «كتاب اللّه وسنتي». نعم! هذه الرواية مشهورة بكلمة «سنتي» لا «عترتي»!
قلت: يا أستاذ، وهل لديك ما يثبت صحة هذا الكلام أو لا؟ فأنا كنت أترقب مثل هذا الاعتراض، لأن هذه الرواية:
أولا: جاءت في المسانيد والصحاح المختلفة - كما ذكرت آنفا - بعبارة «عترتي أهل بيتي»، إلا أن الأيدي الخفية برزت هنا مرة أخرى وحرفت هذه الرواية، ووضعت كلمة السنة بدل أهل البيت (عليهم السلام)، ولا أدري هل هذا عداء لأهل البيت أو هو شئ آخر لا أفقه اسمه، ولا أدري ما أسميه!؟ هب أن شخصا أو شخصين أو عشرة أشخاص نقلوا هذه الرواية بكلمة «سنتي» ولكن ماذا عساها أن تكون في قبالة سيل الروايات التي جاءت بصيغة «عترتي أهل بيتي»؟
ولو أنك صبرت حتى أنقل لك نص الرواية مع عدد من الأسانيد الصحيحة والقطعية لكان أفضل، وأنا أعطيك الحق في هذا لأنك لم تنقل هذه الرواية من المسانيد الأصلية بل من الكتب المطبوعة حديثا، والتي تدرس حتى في المدارس، فإن رأيت هذا الاعتراض في موضعه فمن الأفضل - مع فائق الاعتذار - بحث الروايات المختلفة لكتبكم من مصادرها الأصلية حتى تقف على هذه التحريفات.
ص: 396
وقد سمعت أن الجامع الأزهر استحدث مؤخرا قسما خصصه لدراسة التحريف والتلاعب في المصادر الأصلية للحديث والسنة، ولعلهم يوقعون التحريف حتى في صحيحي البخاري ومسلم مع ما لهما من شهرة.
الأستاذ: لا علم لي بالقسم المذكور في الجامع الأزهر، ولعل هذا نوع من الافتراء والتهمة لا أكثر، هذا مع أنا لا نجهل كتبنا إلى هذا الحد الذي تقوله فإن هذه الرواية منقولة في مستدرك الحاكم، وقد نصت صراحة على «كتاب اللّه وسنتي»، وأنت تعلم أن كتاب المستدرك للحاكم من الكتب الصحيحة والمعتبرة عند السنة، وإن نقل الآخرون فإنما نقلوا عنه، لا بمعنى أنهم حرفوا.
قلت: أعتذر إن كنت قد أغضبتك، فقضية جامع الأزهر مثلما ذكرتها لك سماعية، وليس لدي معلومات دقيقة عنها، طبعا أحد علماء الأزهر واسمه «محمود أبو ريه» هو من كبار علماء السنة في مصر، وله كتب تحقيقية كثيرة، وهو الذي ذكر هذا الموضوع لأحد أقاربي، وأرجو أن لا يكون صحيحا، وإنه لمن دواعي السرور أن تعرف سند هذه الرواية.
طبعا أنا أدرك سعة معلوماتك وعمق معرفتك، ومن الطبيعي إننا ننقب في الكتب السنية أكثر منكم بحثا عن الروايات، لأننا مضطرون لأجل مناظرة أهل السنة للبحث في كتبهم، ولكننا مع هذا نعتقد بوجوب بذلكم المزيد من الدراسة والدقة في كتبكم، فالرواية التي نتحدث عنها قد رأيت (متنها) في المستدرك بلفظة «سنتي» (1).
ووردت في صحيح مسلم (2) الذي يعد أكثر اعتبارا وأهمية من مستدرك
ص: 397
الحاكم بعبارة «أهل بيتي»، وهذه العبارة وردت في مصادر أخرى أيضا، ولم ترد كلمة «سنتي» إلا في مستدرك الحاكم، إذن فالإجماع على «أهل بيتي» وهذه الرواية يجب أن تذكر وتطبع في الكتب بدلا من الرواية التي وردت فيها كلمة سنتي.
أؤكد هنا ثانية، أن بعض الأيدي تستهدف حذف الروايات المتعلقة بأهل البيت (عليهم السلام) ولكنها لم تحقق هدفها طبعا، لأن العصر عصر التقدم والدراسة ولا يمكن إرغام الناس على اتباع هذا الدين أو ذلك المذهب: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (1).
نعود إلى ذكر الرواية وسندها القطعي في الكتب المعتبرة جهد الإمكان جاء في صحيح مسلم - كما ذكرنا - عن زيد بن أرقم أنه قال: « قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد اللّه وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين كتاب اللّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به، فحث على كتاب اللّه ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي (2)، أذكركم اللّه في أهل بيتي » (3).
ص: 398
وجاء في سنن الترمذي بسنده الصحيح عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: « يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » (1).
ونقل الترمذي بعد هذه الرواية عن زيد بن أرقم رواية بالنص التالي: « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروني كيف تخلفوني فيهما » (2).
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر أضيفت الجملة التالية - عن الطبراني -: « فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم » (3).
ونقل الحاكم في الجزء الثالث من المستدرك هذه الرواية نفسها بمزيد من التفصيل، وقال في ختامها أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال ثلاث مرات: « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ «قالوا: نعم، يا رسول اللّه، قال:» فمن كنت مولاه فعلي مولاه » (4)، وجاءت أيضا في كنز العمال نقلا عن ابن جرير وبسنده عن أبي الطفيل (5)، ونقل النسائي في خصائصه هذا الحديث نفسه ضمن حديث غدير خم
ص: 399
عن زيد بن أرقم (1).
كانت هذه بعض الأسانيد المعروفة لهذا الحديث الذي ورد أيضا في مواضع متعددة من كتب الحديث الأخرى التي ليس الآن وقت بحثها، وعلى العموم بلغت هذه الرواية حد التواتر عند السنة والشيعة، وأعتقد أن هذا الحديث كاف وحده لإثبات أحقية اتباع أهل البيت (عليهم السلام)، ويضئ كالشمس الساطعة في ظلمة العالم المعاصر، ويفتح سبيل الهداية أمام الباحثين عن الحقيقة، ويجلي الحق ويظهره.
تعالوا وانظروا إلى هذه الرواية بقلب نقي، على أن تحرروا أنفسكم مسبقا من كل ألوان التعصب المذهبي وغير المذهبي، وتغاضوا عن معتقدات الآباء والأجداد، ولا تأخذوها بنظر الاعتبار في إزاء الحق، وتأملوا هذا الحديث المقدس بنظرة عميقة وفكروا فيه حتى تصلوا إلى النتيجة التي تخرجكم من التيه والضياع، وترشدكم إلى الطريق الذي اختاره لكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأمركم به.
لم يشأ رسول اللّه الذي شملت رأفته ورحمته الأمة أن يرحل عنها إلا وقد هداها إلى سبيل الحق، وكيف له أن يتركهم بلا وصية، وبدون تعيين الخليفة والوصي؟
أراد الرسول في هذه الوصية أن يبين لأصحابه أنهم إذا شاءوا مواصلة السير على طريق الهداية فعليهم بالتمسك بميراثيه، وهما القرآن والعترة لكي لا يضلوا بعده أبدا، وأراد أن يوضح للأجيال القادمة أن الحق لا يمكن بلوغه إلا عبر هذين الثقلين.
فإذا شئتم النجاة في منعطفات هذه الحياة الحافلة بالفتن فاعتصموا بهذه
ص: 400
التركة، التي خلفها لكم الرسول وهي القرآن والعترة، وإذا أردتم إرتقاء البناء الشامخ للحق والحقيقة، وصعود قمة الإيمان فلا بد لكم ومن غير شك بسلم متين يمكن التعويل عليه، وإلا فسوف تزل أقدامكم في الخطوة الأولى وتسقطون في وادي الهلكة وهاوية الضلالة.
نعم، إذا أردتم معرفة الأحكام الإلهية بكل اطمئنان، وإدراك معاني القرآن فاستعينوا بمفسريه الحقيقيين، وبأهل الذكر، وبالخلفاء الحقيقيين للرسول وتمسكوا بهم، ولا تسلكوا وديان الضلالة من غير دليل.
وإذا أردتم أن تبقوا إلى الأبد في مأمن من الانحراف والزيغ، فعليكم بمعرفة كنه كتاب اللّه، وتوجهوا إلى من لديهم علم الكتاب وهم سفينة النجاة، وإياكم والإعراض عنهم أو التقدم عليهم أو الانفصال عنهم، فهم عدل القرآن والمعصومون عن الخطأ والنسيان.
ألم يذكرهم الرسول إلى جانب القرآن؟ ألم يطهرهم الرحمن من كل رجس ونجس؟ أليسوا هم أجر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قبال مشقة إبلاغ الرسالة؟ ألم يعلن الرسول إلى الناس ما جاء من الوحي بحقهم، وهو قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ؟ (1)
وهل تصدق المودة بمجرد الادعاء؟ وهل المودة إلا الاتباع الصادق؟ ولم لا؟ وهل هناك ثقل ثالث؟ إذن ليس من خليفة للرسول إلا القرآن وأهل البيت (عليهم السلام)، ولو تمسكنا بهما فهو الفلاح، وإلا فإن أي طريق آخر لا يقود سوى إلى الهاوية، الكتاب والعترة محك التمييز بين الأنصار الأوفياء والمنافقين.
ص: 401
ولم يكن اعتباطا قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» (1).
الكتاب والعترة مع بعضهما مفتاح الفلاح، لأن العترة هم اللسان الناطق للقرآن، وأنى لنا لولاها من إدراك معاني القرآن العميقة وتشخيص محكمه من متشابهه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ؟
إن الكتاب والعترة يستطيعان سوية إنقاذنا من الضلالة في هذا العالم المتلاطم الذي يعرض كل شخص فيه رأيا واجتهادا، ويعتبر نفسه مبينا للقرآن، وهم في ما بينهم مختلفون، وكل هؤلاء الأئمة الذين ناصروا خلفاء الجور من بني أمية وبني العباس لأجل أهوائهم ونزواتهم، ودسوا كل هذه الروايات الكاذبة والإسرائيليات في السنة النبوية المطهرة إرضاء للحكام، كيف يمكن التعويل عليهم؟ فحينما يكون عليا (عليه السلام) كيف يمكن الانقياد لمعاوية؟ وعندما يكون هناك حق، كيف يجوز التمسك بالباطل؟
كفى غفلة! وكفى غيابا عن الذات! وكفى تجاهلا لوصية الرسول (عليه السلام)! كيف ندعي اتباع الرسول محمد (صلى اللّه عليه وآله) ونحن نأتي ما تأمر به أهواؤنا النفسية؟ فنقبل بعض الأحكام وننكر بعضها، عسى اللّه أن لا يشملنا بمفاد الآية الشريفة التي تقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (2).
ص: 402
فالكفار كانوا يفرقون بين الرسل، ونحن نفرق بين أقوال رسولنا، ومع أن اللّه ورسوله إذا أرادا أمرا، فلا مجال للتأخير والتأويل، بل تجب الطاعة التامة ولا ينبغي أن نأتي برأي من عندنا، ولكن مع كل الأسف نلاحظ أن كلام الرسول يعارض أحيانا إلى حد اتهامه بأنه يهجر.
دققوا النظر في هذه الرواية التي نتحدث عنها، فقد وردت في أكثر المصادر عبارة «وعترتي أهل بيتي»، ومع هذا لا نجد اليوم في كتب السنة سوى «وسنتي».
وهذا ليس تناقضا بل تحريفا، وهذه معارضة واضحة وصريحة من أهل السنة لإجماع علماء الحديث.
غط الأستاذ في تفكير عميق، ثم رفع رأسه وقال: مع كل هذه المصادر التي ذكرتها لا يبقى ثمة مجال للتأويل، فإنه من الواضح أن هناك غرضا وراء استبدال كلمة «عترتي» بكلمة «سنتي». وربما يكون هناك شخص اقترف مثل هذا العمل عمدا أو جهلا، ثم تابعه آلاف الناس على ذلك.
وعلى كل حال فالحق معك، ولكن يتبادر هنا سؤال إلى الذهن وهو: من هم أهل بيت الرسول؟ هل هم الأئمة الذين تعتقدون بهم، أم يشمل هذا المفهوم آخرين غيرهم؟ ولا يفوتني التذكير هنا بأن الآية الشريفة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) قد وردت بين الآيات التي تتحدث عن نساء النبي، فهل نساء النبي من أهل البيت أم لا؟
أوكلت الإجابة عن هذه الأسئلة إلى اللقاء التالي بسبب تأخر الوقت (2).
ص: 403
ص: 404
ص: 405
ص: 406
عن الحسن بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة.
فسأله بعضهم فقال له: يا بن رسول اللّه بأي شئ تصح الإمامة لمدعيها؟
قال: بالنص والدليل.
قال له: فدلالة الإمام فيم هي؟
قال: في العلم واستجابة الدعوة.
قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟
قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس.
قال (عليه السلام) له: أما بلغك قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله) «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه» (1).
قال: بلى.
قال: وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور اللّه على قدر إيمانه ومبلغ
ص: 407
استبصاره وعلمه وقد جمع اللّه في الأئمة منا ما فرقه في جميع المؤمنين.
وقال عز وجل في محكم كتابه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (1) فأول المتوسمين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ثم أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده ثم الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين (عليهم السلام) إلى يوم القيامة.
قال: فنظر إليه المأمون فقال له: يا أبا الحسن زدنا ما جعل اللّه لكم أهل البيت.
فقال الرضا (عليه السلام): إن اللّه عز وجل قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك لم تكن مع أحد ممن كان مضى إلا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وهي مع الأئمة منا تسددهم وتوفقهم وهو عمود من نور بيننا وبين اللّه عز وجل.
قال له المأمون: يا أبا الحسن، بلغني أن قوما يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد؟ فقال الرضا (عليه السلام): حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا ترفعوني فوق حقي فإن اللّه تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا (2).
قال اللّه تبارك وتعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (3).
ص: 408
قال علي (عليه السلام): يهلك في اثنان ولا ذنب لي، محب مفرط ومبغض مفرط، وأنا أبرأ إلى اللّه تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم (عليه السلام) من النصارى (1).
قال اللّه تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (2). وقال عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (3). وقال عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) (4). ومعناه أنهما كانا يتغوطان، فمن ادعى للأنبياء ربوبية وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة فنحن منه براء في الدنيا والآخرة.
فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة؟
فقال الرضا (عليه السلام): إنها لحق كانت في الأمم السالفة ونطق بها القرآن (5)، وقد
ص: 409
قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (1).
قال (عليه السلام): إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم (عليه السلام) فصلى خلفه، وقال (صلى اللّه عليه وآله): إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا (2)، فطوبى للغرباء (3) قيل: يا رسول اللّه ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يرجع الحق إلى أهله.
فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في القائلين بالتناسخ (4)؟
ص: 410
فقال الرضا (عليه السلام): من قال بالتناسخ فهو كافر باللّه العظيم مكذب بالجنة والنار (1).
قال المأمون: ما تقول في المسوخ؟
قال الرضا (عليه السلام): إن أولئك قوم غضب اللّه عليهم فمسخهم فعاشوا ثلاثة أيام ثم ماتوا ولم يتناسلوا، فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك مما وقع عليهم اسم المسوخية فهو مثل ما لا يحل أكلها والانتفاع بها.
قال المأمون: لا أبقاني اللّه بعدك يا أبا الحسن فواللّه ما يوجد العلم الصحيح إلا عند أهل البيت وإليك انتهت علوم آبائك فجزاك اللّه عن الإسلام وأهله خيرا.
قال الحسن بن الجهم: فلما قام الرضا (عليه السلام) تبعته فانصرف إلى منزله فدخلت عليه وقلت له: يا بن رسول اللّه الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك.
فقال (عليه السلام): يا بن الجهم لا يغرنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني، فإنه سيقتلني بالسم، وهو ظالم لي، إني أعرف ذلك بعهد معهود إلي من آبائي عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فاكتم هذا ما دمت حيا.
قال الحسن بن الجهم: فما حدثت أحدا بهذا الحديث إلى أن مضى (عليه السلام) بطوس مقتولا بالسم ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي في القبة التي فيها قبر هارون الرشيد إلى جانبه (2).
ص: 411
إن الإله الذي لا شئ يشبهه *** آتاكم الملك للدنيا وللدين
آتاكم اللّه ملكا لا زوال له *** حتى يقاد إليكم صاحب الصين
وصاحب الهند مأخوذ برمته *** وصاحب الترك محبوس على هون (1) حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور، فقال سوار: هذا واللّه يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، واللّه إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم، وإنه لينطوي في عداوتكم.
فقال السيد: واللّه إنه لكاذب، وإنني في مديحك لصادق، ولكنه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال، وإن انقطاعي ومودتي لكم أهل البيت لمعرق لي فيها عن أبوي، وإن هذا وقومه لأعداؤكم في الجاهلية والإسلام، وقد أنزل اللّه عز وجل على نبيه - عليه وآله السلام - في أهل بيت هذا: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (2). (3)
فقال المنصور: صدقت.
فقال سوار: يا أمير المؤمنين إنه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب والوقيعة فيهما.
فقال السيد: أما قوله بأني أقول بالرجعة فإن قولي في ذلك على ما قال اللّه
ص: 413
تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (1)، وقد قال في موضع آخر: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (2)، فعلمت أن هاهنا حشرين (3) أحدهما عام والآخر خاص، وقال سبحانه : (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (4)، (5) وقال اللّه تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) (6) وقال اللّه تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (7).
ص: 414
فهذا كتاب اللّه عز وجل، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) «يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة» (1)، وقال (صلى اللّه عليه وآله): «لم يجر في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في أمتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف» (2)، وقال حذيفة: «واللّه ما أبعد أن يمسخ اللّه كثيرا من هذه الأمة قردة وخنازير» (3).
فالرجعة التي نذهب إليها هي ما نطق به القرآن وجاءت به السنة، وإنني لأعتقد أن اللّه تعالى يرد هذا - يعني سوارا - إلى الدنيا كلبا، أو قردا أو خنزيرا، أو ذرة، فإنه واللّه متجبر متكبر كافر.
قال: فضحك المنصور وأنشد السيد يقول:
جاثيت سوارا أبا شملة *** عند الإمام الحاكم العادل
فقال قولا خطلا كله *** عند الورى الحافي والناعل
ما ذب عما قلت من وصمة *** في أهله بل لج في الباطل
وبان للمنصور صدقي كما *** قد بان كذب الأنوك الجاهل
يبغض ذا العرش ومن يصطفي *** من رسله بالنير الفاضل
ويشنأ الحبر الجواد الذي *** فضل بالفضل على الفاضل
ويعتدي بالحكم في معشر *** أدوا حقوق الرسل للراسل
ص: 415
فبين اللّه تزاويقه *** فصار مثل الهائم الهائل (1) قال: فقال المنصور: كف عنه.
فقال السيد: يا أمير المؤمنين، البادي أظلم، يكف عني حتى أكف عنه.
فقال المنصور لسوار: تكلم بكلام فيه نصفة، كف عنه حتى لا يهجوك (2).
ص: 416
ومن كلام الشيخ أدام اللّه عزه في الرجعة وجواب سؤال فيها سأله المخالفون.
قال الشيخ: سأل بعض المعتزلة شيخا من أصحابنا الإمامية وأنا حاضر في مجلس قد ضم جماعة كثيرة من أهل النظر والمتفقهة فقال له: إذا كان من قولك أن اللّه جل اسمه يرد الأموات إلى دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم (1) (عليه السلام) ليشفي
ص: 417
ص: 418
المؤمنين كما زعمتم من الكافرين وينتقم لهم منهم، كما فعل ببني إسرائيل فيما ذكرتم، حتى تتعلقون بقوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) (1) فخبرني ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر وعبد الرحمان بن ملجم ويرجعوا عن كفرهم وضلالهم، ويصيروا في تلك الحال إلى طاعة الإمام (عليه السلام)، فيجب عليك ولايتهم، والقطع بالثواب لهم؟ وهذا نقض مذاهب الشيعة.
فقال الشيخ المسؤول: القول في الرجعة إنما قبلته من طريق التوقيف وليس للنظر فيه مجال، وأنا لا أجيب عن هذا السؤال، لأنه لا نص عندي فيه، وليس يجوز أن أتكلف من غير جهة النص الجواب، فشنع السائل وجماعة المعتزلة عليه بالعجز والانقطاع.
ص: 419
وقال الشيخ أدام اللّه عزه: فأقول أنا أبين في هذا السؤال جوابين:
أحدهما: أن العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممن ذكره السائل، لأنه يكون إذ ذاك قادرا عليه ومتمكنا منه، لكن السمع الوارد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) بالقطع عليهم بالخلود في النار، والتدين بلعنهم، والبراءة منهم إلى آخر الزمان منع من الشك في حالهم، وأوجب القطع على سوء اختيارهم، فجروا في هذا الباب مجرى فرعون وهامان وقارون، ومجرى من قطع اللّه عز اسمه على خلوده في النار، ودل بالقطع على أنهم لا يختارون أبدا الإيمان ممن قال اللّه تعالى في جملتهم: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (1) يريد إلا أن يلجئهم اللّه، والذين قال اللّه تعالى فيهم: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (2) ثم قال جل من قائل في تفصيلهم وهو يوجه القول إلى إبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (3).
وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (4) وقوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) (5) فقطع عليه بالنار، وأمن من انتقاله إلى ما يوجب له الثواب، وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما توهموه على هذا الجواب.
ص: 420
والجواب الآخر: أن اللّه سبحانه إذا رد الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم يقبل لهم توبة، وجروا في ذلك مجرى فرعون لما أدركه الغرق (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (1)، قال اللّه سبحانه:
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (2) فرد اللّه عليه إيمانه، ولم ينفعه في تلك الحال ندمه وإقلاعه (3)، وكأهل الآخرة الذين لا تقبل لهم توبة ولا ينفعهم ندم، لأنهم كالملجئين إذ ذاك إلى الفعل، ولأن الحكمة تمنع من قبول التوبة أبدا، وتوجب اختصاص بعض الأوقات بقبولها دون بعض.
ص: 421
وهذا هو الجواب الصحيح على مذهب أهل الإمامة، وقد جاءت به آثار متظاهرة عن آل محمد (عليهم السلام) حتى روي عنهم في قوله سبحانه: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (1) فقالوا: إن هذه الآية هو القائم (2) (عليه السلام)، فإذا ظهر لن تقبل توبة المخالف، وهذا يسقط ما اعتمده السائل.
سؤال - فإن قالوا في هذا الجواب: ما أنكرتم أن يكون اللّه سبحانه على ما أصلتموه قد أغرى عباده بالعصيان، وأباحهم الهرج والمرج والطغيان، لأنهم إذا
ص: 422
كانوا يقدرون على الكفر وأنواع الضلال وقد يئسوا من قبول التوبة، لم يدعهم داع إلى الكف عما في طباعهم، ولا انزجروا عن فعل قبيح يصلون به إلى النفع العاجل، ومن وصف اللّه سبحانه بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب فقد أعظم الفرية عليه؟
جواب - قيل لهم: ليس الأمر على ما ظننتموه، وذلك أن الدواعي لهم إلى المعاصي ترتفع إذ ذاك ولا يحصل لهم داع إلى قبيح على وجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، لأنهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب إلى وقت الرجعة على خلاف أئمتهم (عليهم السلام)، ويعلمون في الحال أنهم معذبون على ما سبق لهم من العصيان، وأنهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب، ولا يكون لهم عند ذلك طبع يدعوهم إلى ما يتزايد عليهم به العذاب، بل تتوفر لهم دواعي الطباع والخواطر كلها إلى إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان، وإن لزمنا هذا السؤال لزم جميع أهل الإسلام مثله في أهل الآخرة، وحالهم في إبطال توبتهم وكون توبتهم غير مقبولة منهم، فمهما أجاب به الموحدون لمن ألزمهم ذلك، فهو جوابنا بعينه.
سؤال آخر - وإن سألوا على المذهب الأول والجواب المتقدم فقالوا: كيف يتوهم من القوم الإقامة على العناد، والإصرار على الخلاف، وقد عاينوا فيما يزعمون عقاب القبور، وحل بهم عند الرجعة العذاب على ما يعلمون مما زعمتم أنهم مقيمون عليه، وكيف يصح أن تدعوهم الدواعي إلى ذلك، ويخطر لهم في فعله الخواطر، وما أنكرتم أن تكونوا في هذه الدعوى مكابرين؟
الجواب - قيل لهم: يصح ذلك على مذهب من أجاب بما حكيناه من أصحابنا بأن نقول: إن جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في
ص: 423
استحسان الخلاف، لأن القوم يظنون أنهم إنما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم، وليلوا الدنيا كما كانوا يظنون أن ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطا منهم، وإذا حل بهم العقاب ثانية توهموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أن ذلك ليس من طريق الاستحقاق، وأنه من اللّه تعالى، لكنه كما تكون الدول وكما حل بالأنبياء.
ولأصحاب هذا الجواب أن يقولوا: ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب من كفر قوم موسى وعبادتهم العجل، وقد شاهدوا منه الآيات، وعاينوا ما حل بفرعون وملئه على الخلاف، ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرك على خلاف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتى به القرآن، ويشهدون معجزاته وآياته - عليه وآله السلام -، ويجدون مخبرات أخباره على حقائقها من قوله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (1) وقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (2)، وقوله: (ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (3) وما حل بهم من العقاب بسيفه - عليه وآله السلام - وهلاك كل من توعده بالهلاك، هذا وفيمن أظهر الإيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلى أهل الشرك والضلال.
على أن هذا السؤال لا يسوغ لأصحاب المعارف من المعتزلة، لأنهم يزعمون أن أكثر المخالفين على الأنبياء كانوا من أهل العناد، وأن جمهور المظهرين للجهل باللّه يعرفونه على الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم، ولكنهم في
ص: 424
الخلاف على اللجاجة والعناد، فلا يمنع أن يكون الحكم في الرجعة وأهلها على هذا الوصف الذي حكيناه، وقد قال اللّه تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (1).
فأخبر سبحانه أن أهل العقاب لو ردهم اللّه تعالى إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والعناد، مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الأهوال، وما ذاقوا من أليم العذاب (2).
ص: 425
ص: 426
ص: 427
ص: 428
روي عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبة لا بد منها، يرتاب فيها كل مبطل.
قلت له: ولم جعلت فداك؟
قال: لأمر لا يؤذن لي في كشفه لكم.
قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟
قال: وجه الحكمة في غيبته، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج اللّه (1) تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره (2)، كما لم
ص: 429
ص: 430
ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام)، من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما.
يا بن الفضل! إن هذا الأمر أمر من اللّه، وسر من سر اللّه، وغيب من غيب اللّه، ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف (1).
ص: 431
قال الشريف المرتضى عليه الرحمة: ومن حكايات الشيخ أدام اللّه عزه وكلامه في الغيبة - قال الشيخ أيده اللّه: قال لي شيخ من حذاق المعتزلة وأهل التدين بمذهبه منهم: أريد أن أسألك عن مسألة كانت خطرت ببالي، وسألت عنها جماعة ممن لقيت من متكلمي الإمامية بخراسان وفارس والعراق فلم يجيبوا فيها بجواب مقنع!
فقلت: سل على اسم اللّه إن شئت.
فقال: خبرني عن الإمام الغائب عندكم أهو في تقية منك؟ كما هو في تقية من أعدائه؟ أم هو في تقية من أعدائه خاصة؟
فقلت له: الإمام عندي في تقية من أعدائه لا محالة، وهو أيضا في تقية من كثير من الجاهلين به، ممن لا يعرفه ولا سمع به فيعاديه أو يواليه، هذا على غالب الظن والعرف، ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن يعتقد إمامته الآن، فأما أنا فإنه لا تقية عليه مني بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة والحمد لله.
فقال: هذا واللّه جواب طريف لم أسمعه من أحد قبلك، فأحب أن تفصل لي وجوهه وكيف صار في تقية ممن لا يعرفه، وفي تقية من جماعة تعتقد إمامته
ص: 432
الآن، وليس هو في تقية منك إذ عرفك؟
فقلت له: أما تقيته من أعدائه فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك، وأما تقيته ممن لا يعرفه فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال، وذلك أنه ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين أمور:
إما أن يسفكوا دمه بأنفسهم لينالوا بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان ويحوزوا به المال والرئاسة، أو يسعوا به إلى من يحل هذا الفعل به، أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه، فيكون في ذلك عطبه وفي عطبه وهلاكه عظيم الفساد، وإنما غلب في الظن ذلك لأن الجاهل لحقه ليس يكون معه المعرفة التي تمنعه من السعي على دمه، ولا يعتقد في الكف عنه ما يعتقده المتدين بولايته، وهو يرى الدنيا مقبلة إلى من أوقع الضرر به، فلم يبعد منه ما وصفناه بل قرب وبعد منه خلافه.
وأما وجه تقيته من بعض من يعتقد إمامته الآن، فإن المعتقدين بذلك ليسوا بمعصومين من الغلط ولا مأمونا عليهم الخطأ، بل ليس مأمونا عليهم العناد والارتداد، فلا ينكر أن يكون المعلوم منهم أنه لو ظهر لهم الإمام (عليه السلام) أو عرفوا مكانه أن تدعوهم دواعي الشيطان إلى الإغراء به والسعي عليه والإخبار بمكانه، طمعا في العاجلة ورغبة فيها وإيثارا لها على الآجلة، كما دعت دواعي الشيطان أمم الأنبياء إلى الارتداد عن شرائعهم حتى غيرها جماعة منهم وبدلها أكثرهم، كما عاند قوم موسى نبيهم وإمامهم هارون وارتدوا عن شرعه الذي جاء به هو وأخوه موسى (عليهما السلام) واتبعوا السامري، فلم يلتفتوا إلى أمر هارون ونهيه، ولا فكروا في وعظه وزجره، وإذا كان ذلك على ما وصفت لم ينكر أن تكون هذه حال جماعة من منتحلي الحق في هذا الزمان لارتفاع العصمة عنهم.
وأما حكمي لنفسي فإنه ليس يخصني، لأنه يعم كل من شاركني في المعنى
ص: 433
الذي من أجله حكمت، وإنما خصصت نفسي بالذكر لأنني لا أعرف غيري عينا على اليقين مشاركا لي في الباطن فادخله معي في الذكر، والمعنى الذي من أجله نفيت أن يكون صاحب الأمر (عليه السلام) متقيا مني عند المعرفة بحالي لأنني أعلم أنني عارف باللّه عز وجل وبرسوله (صلى اللّه عليه وآله) وبالأئمة أجمعين (عليهم السلام)، وهذه المعرفة تمنعني من إيقاع كفر غير مغفور والسعي على دم الإمام (عليه السلام)، بل إخافته عندي كفر غير مغفور، وإذا كنت على ثقة تعصمني من ذلك إلى ما أذهب إليه في الموافاة فقد أمنت أن يكون الإمام في تقية مني أو ممن شاركني فيما وصفت من إخواني، وإذا تحقق أمورنا على ما ذكرت فلا يكون في تقية مني بعد معرفته أني على حقيقة المعرفة، إذ التقية إنما هي الخوف على نفس والإخافة للإمام لا تقع من عارف باللّه عز وجل على ما قدمت
فقال: فكأنك إنما جوزت تقية الإمام من أهل النفاق من الشيعة، فأما المعتقدون للتشيع ظاهرا وباطنا فحالهم كحالك، وهذا يؤدي إلى المناقضة لأن المنافق ليس بمعتقد للتشيع في الحقيقة، وأنت قد أجزت ذلك على بعض الشيعة في الحقيقة فكيف يكون هذا؟
فقلت له: ليس الأمر كما ظننت، وذلك أن جماعة من معتقدي التشيع عندي غير عارفين في الحقيقة، وإنما يعتقدون الديانة على ظاهر القول بالتقليد والاسترسال دون النظر في الأدلة والعمل على الحجة، ومن كان بهذه المنزلة لم يحصل له الثواب الدائم المستحق للمعرفة المانع بدلالة الخبر به عن إيقاع كفر من صاحبه فيستحق به الخلود في الجحيم فتأمل ذلك.
قال: فقد اعترض الآن ها هنا سؤال في غير الغيبة احتاج إلى معرفة جوابك عنه ثم أرجع إلى المسألة في الغيبة، خبرني عن هؤلاء المقلدين من الشيعة
ص: 434
الإمامية أنهم كفار يستحقون الخلود بالنار؟ فإن قلت ذلك فليس في الجنة من الشيعة الإمامية إذا غيرك لأنا لا نعرف أحدا منهم على تحقيق النظر سواك، بل إن كان فيهم فلعلهم لا يكونون عشرين نفسا في الدنيا كلها، وهذا ما أظنك تذهب إليه، وإن قلت: إنهم ليسوا بكفار وهم يعتقدون التشيع ظاهرا وباطنا فهم مثلك، وهذا مبطل لما قدمت؟!
فقلت له: لست أقول إن جميع المقلدة كفار، لأن فيهم جماعة لم يكلفوا المعرفة ولا النظر في الأدلة، لنقصان عقولهم عن الحد الذي به يجب تكليف ذلك، وإن كانوا مكلفين عندي للقول والعمل، وهذا مذهبي في جماعة من أهل السواد والنواحي الغامضة والبوادي والأعراب والعجم والعامة، فهؤلاء إذا قالوا وعملوا كان ثوابهم على ذلك كعوض الأطفال والبهائم والمجانين، وكان ما يقع منهم من عصيان يستحقون عليه العقاب في الدنيا وفي يوم المآب طول زمان الحساب، أو في النار أحقابا، ثم يخرجون إلى محل الثواب، وجماعة من المقلدة عندي كفار لأن فيهم من القوة على الاستدلال ما يصلون به إلى المعارف فإذا انصرفوا عن النظر في طرقها فقد استحقوا الخلود في النار.
فأما قولك: إنه ليس في الدنيا أحد من الشيعة ينظر حق النظر إلا عشرون نفسا أو نحوهم، فإنه لو كنت صادقا في هذا المقال ما منع أن يكون جمهور الشيعة عارفين، لأن طرق المعرفة قريبة يصل إليها كل من استعمل عقله وإن لم يكن يتمكن من العبارة عن ذلك ويسهل عليه الجدل ويكون من أهل التحقيق في النظر، وليس عدم الحذق في الجدل وإحاطة العلم بحدوده، والمعرفة بغوامض الكلام ودقيقه، ولطيف القول في المسألة دليلا على الجهل باللّه عز وجل.
فقال: ليس أرى أن أصل معك الكلام في هذا الباب الآن، لأن الغرض هو
ص: 435
القول في الغيبة، ولكن لما تعلق بمذهب غريب أحببت أن أقف عليه وأنا أعود إلى مسألتي الأولى وأكلمك في هذا المذهب بعد هذا يوما آخر، أخبرني الآن إذا لم يكن الإمام في تقية منك فما باله لا يظهر لك فيعرفك نفسه بالمشاهدة، ويريك معجزة، ويبين لك كثيرا من المشكلات، ويؤنسك بقربه ويعظم قدرك بقصده ويشرفك بمكانه، إذا كان قد أمن منك الإغراء به وتيقن ولايتك له ظاهرة وباطنة؟
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنني لا أقول لك إن الإمام (عليه السلام) يعلم السرائر وإنه مما لا يخفى عليه الضمائر، فتكون قد أخذت رهني، أنه يعلم من ما أعرفه من نفسي، وإذا لم يكن ذلك مذهبي، وكنت أقول إنه يعلم الظواهر كما يعلم البشر، وإن علم باطنا فبإعلام اللّه عز وجل له خاصة على لسان نبيه (صلى اللّه عليه وآله) بما أودعه آباؤه (عليهم السلام) من النصوص على ذلك أو بالمنام الذي يصدق ولا يخلف أبدا، أو لسبب أذكره غير هذا، فقد سقط سؤالك من أصله لأن الإمام إذا فقد علم ذلك من جهة اللّه عز وجل أجاز علي ما يجيزه على غيري ممن ذكرت، فأوجبت الحكمة تقيته مني - وإنما تقيته مني - على الشرط الذي ذكرت آنفا، ولم أقطع على حصوله لا محالة، ولم أقل إن اللّه عز وجل قد اطلع الإمام على باطني وعرفه حقيقة حالي قطعا فتفرع الكلام عليه، على أنني لو قطعت على ذلك لكان لترك ظهوره لي وتعرفه إلي وجه واضح غير التقية.
وهو أنه (عليه السلام) قد علم أنني وجميع من شاركني في المعرفة لا يزول عن معرفته، ولا يرجع عن اعتقاد إمامته، ولا يرتاب في أمره ما دام غائبا وعلم أن اعتقادنا ذلك من جهة الاستدلال، ومع عدم ظهوره لحواسنا أصلح لنا في تعاظم الثواب وعلو المنزلة باكتساب الأعمال، إذ كان ما يقع من العمل بالمشاق الشديدة
ص: 436
أعظم ثوابا مما يقع بالسهولة مع الراحة، فلما علم (عليه السلام) ذلك من حالنا وجب عليه الاستتار عنا، لنصل إلى معرفته وطاعته على حد يكسبنا من المثوبة أكثر مما يكسبنا العلم به والطاعة له مع المشاهدة وارتفاع الشبهة التي تكون في حالة الغيبة والخواطر، وهذا ضد ما ظننت، مع أن أصلك في اللطف يؤيد ما ذكرناه ويوجب ذلك، وإن علم أن الكفر يكون مع الغيبة والإيمان مع الظهور، لأنك تقول: إنه لا يجب على اللّه تعالى فعل اللطف الذي يعلم أن العبد إن فعل الطاعة مع عدمه كانت أشرف منها إذا فعلها معه، فكذلك يمنع الإمام من الظهور إذا علم أن الطاعة للإمام تكون غيبته أشرف منها عند ظهوره، وليس يكفر القوم به في كلا الحالين، وهذا بين لا إشكال فيه، فلما ورد عليه الجواب سكت هنيئة.
ثم قال: هذا لعمري جواب يستمر على الأصول التي ذكرتها والحق أولى ما استعمل.
فقلت له: أنا أجيبك بعد هذا الجواب بجواب آخر أظنه مما قد سمعته لأنظر كلامك عليه.
فقال: هات ذلك، فإني أحب أن أستوف ما في هذه المسألة.
فقلت له: إن قلت إن الإمام في تقية مني وفي تقية ممن خالفني ما يكون كلامك عليه؟ قال: أفتطلق أنه في تقية منك كما هو في تقية ممن خالفك.
قلت: لا.
قال: فما الفرق بين القولين؟
قلت: الفرق بينهما أنني إذا قلت إنه في تقية مني كما هو في تقية ممن
ص: 437
خالفني، أو همت أن خوفه مني على حد خوفه من عدوه، وأن الذي يحذره مني هو الذي يحذره منه أو مثله في القبح، فإذا قلت: إنه يتقي مني وممن خالفني ارتفع هذا الإيهام.
قال: فمن أي وجه أتقى منك؟ ومن أي وجه أتقى من عدوه فصل لي الأمرين حتى أعرفهما.
فقلت له: تقيته من عدوه هي لأجل خوفه من ظلمه له وقصده الإضرار به وحذره من سعيه على دمه، وتقيته مني لأجل خوفه من إذاعتي على سبيل السهو أو للتجمل والتشرف بمعرفته بالمشاهدة، أو على التقية مني بمن أوعزه إليه من إخواني في الظاهر فيعقبه ذلك ضررا عليه، فبان الفرق بين الأمرين.
فقال: ما أنكرت أن يكون هذا يوجب المساواة بينك وبين عدوه، لأنه ليس يثق بك كما لا يثق بعدوه.
فقلت له: قد بينت الفرق وأوضحته، وهذا سؤال بين قد سلف جوابه وتكراره لا فائدة فيه على أنني أقلبه عليك.
فأقول لك: أليس قد هرب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من أعدائه واستتر عنهم في الغار خوفا على نفسه منهم.
قال: بلى.
قلت له: فهل عرف عمر بن الخطاب حال هربه ومستقره ومكانه كما عرف ذلك أبو بكر لكونه معه.
قال: لا أدري.
قلت: فهب عرف عمر ذلك، أعرف ذلك جميع أصحابه والمؤمنين به؟
ص: 438
قال: لا.
قلت: فأي فرق كان بين أصحابه الذين لم يعلموا بهربه ولا عرفوا بمكانه وبين أعدائه الذين هرب منهم، وهلا أبانهم من المشركين بإيقافهم على أمره؟ ولم ستر ذلك عنهم كما ستره عن أعدائه؟ وما أنكرت أن يكون لا فرق بين أوليائه وأعدائه وأن يكون قد سوى بينهم في الخوف منهم والتقية، وإلا فما الفضل بين الأمرين، فلم يأت بشئ أكثر من أنه جعل يومي إلى معتمدي في الفرق بينما الزم ولم يأت به على وجهه، وعلم من نفسه العجز عن ذلك.
قال الشريف أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي واستزدت الشيخ - أدام اللّه عزه - على هذا الفصل من هذا المجلس حيث اعتل بأن غيبة الإمام (عليه السلام) عن أوليائه إنما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منه على وجه يكون به أشرف منها عند مشاهدته.
فقلت له: فكيف يكون حال هؤلاء الأولياء عند ظهوره (عليه السلام) أليس يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة ثوابهم؟
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه -: ليس في ذلك منع لهم من اللطف على ما ذكرت، من قبل أنه لا ينكر أن يعلم اللّه سبحانه وتعالى منهم أنه لو أدام ستره عنهم وإباحة الغيبة في ذلك الزمان بدلا من الظهور لفسق هؤلاء الأولياء فسقا يستحقون به من العقاب ما لا يفي أضعاف ما يفوتهم من الثواب فأظهره سبحانه لهذه العلة، وكان ما يقتطعهم به عنه من العذاب أرد عليهم وأنفع لهم مما كانوا يكتسبونه من فضل الثواب على ما تقدم به الكلام.
قال الشيخ أيده اللّه: ووجه آخر وهو: أنه لا يستحيل أن يكون اللّه تعالى قد علم من حال كثير من أعداء الإمام (عليه السلام) أنهم يؤمنون عند ظهوره ويعترفون بالحق
ص: 439
عند مشاهدته ويسلمون له الأمر، وأنه إن لم يظهر في ذلك الزمان أقاموا على كفرهم، وازدادوا طغيانا بزيادة الشبهة عليهم فوجب في حكمته تعالى إظهاره لعموم الصلاح، ولو أباحه الغيبة لكان قد خص بالصلاح ومنع من اللطف في ترك الكفر، وليس يجوز على مذهبنا في الأصلح أن يخص اللّه تعالى بالصلاح، ولا يجوز أيضا أن يفعل لطفا في اكتساب بعض خلقه منافع تزيد على منافعه إذ كان في فعل ذلك اللطف رفع لطفه لجماعة في ترك القبح والانصراف عن الكفر به سبحانه، والاستخفاف بحقوق أوليائه (عليهم السلام)، لأن الأصل والمدار على إنقاذ العباد من المهالك وزجرهم من القبائح، وليس الغرض زيادتهم في المنافع خاصة إذ كان الاقتطاع بالألطاف عما يوجب دوام العقاب أولى من فعل اللطف فيما يستزاد به من الثواب، لأنه ليس يجب على اللّه تعالى أن يفعل بعبده ما يصل معه إلى نفع يمنعه من أضعافه من النفع، وكذلك لا يجب عليه أن يفعل اللطف له في النفع بما يمنع غيره من أضعاف ذلك النفع، وهو إذا سلبه هذا اللطف لم يستدرجه به إلى فعل القبيح، ومتى فعله حال بين غيره وبين منافعه ومنعه من لطف ما ينصرف به عن القبيح، وإذا كان الأمر على ما بيناه كان هذان الفصلان يسقطان هذه الزيادة (1).
ص: 440
قال الشريف المرتضى عليه الرحمة: سئل الشيخ - أيده اللّه - فقيل له: أليس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قد ظهر قبل استتاره ودعا إلى نفسه قبل هجرته، وكانت ولادته معروفة ونسبه مشهورا وداره معلومة، هذا مع الخبر عنه في الكتب الأولى والبشارة به في صحف إبراهيم وموسى (عليهما السلام) وإدراك قريش وأهل الكتاب علاماته ومشاهداتهم لدلائل نبوته وأعلام عواقبه، فكيف لم يخف مع ذلك على نفسه ولا أمر اللّه أباه بستر ولادته، وفرض عليه إخفاء أمره كما زعمتم أنه فرض ذلك على أبي الإمام لما كان المنتظر عندكم من بين الأئمة والمشار إليه بالقيام بالسيف دون آبائه، فأوجب ذلك على ما ادعيتموه واعتللتم به في الفرق بين آبائه وبينه في الظهور على خبره وكتم ولادته والستر عن الأنام شخصه، وهل قولكم في الغيبة مع ما وصفناه من حال النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلا فاسد متناقض؟
جواب: - يقال إن المصلحة لا تكون من جهة القياس، ولا تعرف أيضا بالتوهم، ولا يتوصل إليها بالنظائر والأمثال، وإنما تعلم من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر العالم بالعواقب الذي لا تخفى عليه السرائر، فليس ننكر أن يكون اللّه سبحانه قد علم من حال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، مع جميع ما شرحتم أنه لا يقدم
ص: 441
عليه أحد ولا يؤثر ذلك منه، إما لخوف من الإقدام على ذلك، أو لشك فيما قد سمعوه من وصفه، أو لشبهة عرضت لهم في الرأي فيه، فتدبير اللّه سبحانه له في الظهور على خلاف تدبير الإمام المنتظر لاختلاف الحالين.
ويدل على ما بيناه ويوضح عما ذكرناه أنه لم يتعرض أحد من عبدة الأوثان، ولا أهل الكتاب ولا أحد من ملوك العرب والفرس مع ما قد اتصل بهم من البشارة بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) لأحد من آباء الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بالإخافة، ولا لاستبراء واحدة من أمهاته لمعرفة الحمل به، ولا قصدوا الإضرار به في حال الولادة ولا طول زمانه إلى أن صدع بالرسالة.
ولا خلاف أن الملوك من ولد العباس لم يزالوا على الإخافة لآباء الإمام وخاصة ما جرى من أبي جعفر المنصور مع الصادق (عليه السلام)، وما صنعه هارون بأبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) حتى هلك في حبسه ببغداد، وما قصد المتوكل بأبي الحسن العسكري (عليه السلام) جد الإمام حتى أشخصه من الحجاز فحبسه عنده بسر من رأى، وكذلك جرى أمر أبي محمد الحسن (عليه السلام) بعد أبيه إلى أن قبضه اللّه تعالى.
ثم كان من أمر المعتمد بعد وفاة أبي محمد (عليه السلام) ما لم يخف على أحد من حبسه لجواريه والمسائلة عن حالهن في الحمل، واستبراء أمرهن عندما اتفقت كلمة الإمامية على أن القائم هو ابن الحسن (عليه السلام) فظن المعتمد أنه يظفر به فيقتله ويزيل طمعهم في ذلك، فلم يتمكن من مراده وبقي بعض جواري أبي محمد (عليه السلام) في الحبس أشهرا كثيرة، فدل بذلك على الفرق بين حال النبي (صلى اللّه عليه وآله) في مولده وبين الإمام (عليه السلام) على ما قدمناه بما ذكرناه وشرحناه.
وشئ آخر وهو أن الخوف قد كان مأمونا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من بني هاشم وبني عبد المطلب وجميع أهل بيته وأقاربه، لأن الشرف المتوقع له بالنبوة
ص: 442
كان شرفهم والمنزلة التي تحصل له بذلك فهي تختص بهم، وعلمهم بهذه الحال يبعثهم على صيانته وحفظه وكلائته ليبلغ الرتبة التي يرجونها له فينالون بها أعلى المنازل ويملكون بها جميع العالم.
وأما البعداء منهم في النسب فيعجزون عن إيقاع الضرر به لموضع أهل بيته ومنعهم منه وعلمهم بحالهم وأنهم أمنع العرب جانبا وأشدهم بأسا وأعزهم عشيرة، فيصدهم ذلك عن التعرض له ويمنع من خطوره ببالهم، وهذا فصل بين حال النبي (صلى اللّه عليه وآله) فيما يوجب ظهوره مع انتشار ذكره والبشارة به، وبين الإمام فيما يجوز استتاره وكتم أمر ولادته، وهذا بين لمن تدبره.
وشئ آخر وهو أن ملوك العجم في زمان مولد النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم يكونوا يكرهون مجئ نبي يدعو إلى شرع مستأنف، ولا يخافون بمجيئه على أنفسهم ولا على ملكهم، لأنهم كانوا ينوون الإيمان به والاتباع له، وقد كانت اليهود تستفتح به على العرب وترجو ظهوره كما قال اللّه عز وجل: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (1) وإنما حصل للقوم الخلاف عليه والإباء له بنية تجددت لهم عند مبعثه.
ولم يجر أمر الإمام المنتظر (عليه السلام) هذا المجرى بل المعلوم من حال جميع ملوك زمان مولده ومولد آبائه، خلاف ذلك من اعتقادهم فيمن ظهر منهم يدعو إلى إمامة نفسه أو يدعو إليه داع سفك دمه واستئصال أهله وعشيرته، وهذا أيضا فرق بين الأمرين.
وشئ آخر وهو أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مكث ثلاث عشرة سنة يدعو بمكة إلى دينه والاعتراف بالوحدانية وبنبوته، ويسفه من خالفه ويضللهم ويسب آلهتهم،
ص: 443
فلم يقدم أحد منهم على قتله ولا رام ذلك ولا استقام لهم نفيه عن بلادهم ولا حبسه ولا منعه من دعوته، ونحن نعلم علما يقينا لا يتخالجنا فيه الشك بأنه لو ظن أحد من ملوك هذه الأزمان ببعض آل أبي طالب أنه يحدث نفسه بادعاء الإمامة بعد مدة طويلة، لسفك دمه دون أن يعلم ذلك ويتحققه فضلا عن أن يراه ويجده.
وقد علم أهل العلم كافة أن أكثر من حبس في السجون من ولد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقتل بالغيلة إنما فعل به ذلك على الظنة والتهمة دون اليقين والحقيقة، ولو لم يكن أحد منهم حل به ذلك إلا موسى بن جعفر (عليهما السلام) لكان كافيا، ومن تأمل هذه الأمور وعرفها وفكر فيما ذكرناه وتبينه انكشف له الفرق بين النبي وبين الإمام فيما سأل عنه هؤلاء القوم ولم يتخالجه فيه ارتياب واللّه الموفق للصواب.
وبهذا النحو يجب أن يجاب من سأل فقال: أليس الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قد ظهر في أول أمره وعرفت العامة والخاصة وجوده ثم استتر بعد ذلك عند الخوف على نفسه، فقد كان يجب أن يكون تدبير الإمام في ظهوره واستتاره كذلك، مع أن الاتفاقات ليس عليها قياس، والألطاف والمصالح تختلف في أنفسها ولا تدرك حقائقها إلا بسمع يرد عن عالم الخفيات، جلت عظمته فلا يجب أن نسلك في معرفتها طريق الاعتبار.
وليس يستتر هذا الباب إلا على من قل علمه بالنظر وبعد عنه الصواب واللّه نستهدي إلى سبيل الرشاد (1).
ص: 444
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وصلى اللّه على محمد وآله وسلم تسليما.
سأل سائل الشيخ المفيد (رحمه اللّه) فقال: ما الدليل على وجود الإمام صاحب الغيبة (عليه السلام)، فقد اختلف الناس في وجوده اختلافا ظاهرا؟ فقال له الشيخ: الدليل على ذلك إنا وجدنا الشيعة الإمامية فرقة قد طبقت الأرض شرقا وغربا، مختلفي الآراء والهمم، متباعدي الديار لا يتعارفون، متدينين بتحريم الكذب، عالمين بقبحه، ينقلون نقلا متواترا عن أئمتهم (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: إن الثاني عشر يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون (1) ويحكون أن الغيبة تقع على ما هي عليه، فليس تخلوا هذه الأخبار أن تكون صدقا أو كذبا، فإن كانت صدقا فقد صح ما نقول، وإن كانت كذبا استحال ذلك، لأنه لو جاز على الإمامية وهم على ما هم عليه، لجاز على سائر المسلمين في نقلهم معجزات النبي (صلى اللّه عليه وآله) مثل ذلك، ولجاز على سائر الأمم والفرق مثله، حتى
ص: 445
لا يصح خبر في الدنيا، وكان ذلك إبطال الشرائع كلها.
قال السائل: فلعل قوما تواطئوا في الأصل فوضعوا هذه الأخبار ونقلتها الشيعة وتدينت بها، وهي غير عالمة بالأصل كيف كان.
قال له الشيخ رضي اللّه عنه: أول ما في هذا إنه طعن في جميع الأخبار، لأن قائلا لو قال للمسلمين في نقلهم لمعجزات النبي (صلى اللّه عليه وآله): لعلها في الأصل موضوعة، ولعل قوما تواطئوا عليها فنقلها من لا يعلم حالها في الأصل، وهذا طريق إلى إبطال الشرائع، وأيضا فلو كان الأمر على ما ذكره السائل لظهر وانتشر على ألسن المخالفين - مع طلبهم لعيوبهم وطلب الحيلة في كسر مذاهبهم - وكان ذلك أظهر وأشهر مما يخفى، وفي عدم العلم بذلك ما يدل على بطلان هذه المعارضة.
قال: فأرنا طرق هذه الأخبار، وما وجهها ووجه دلالتها؟
قال: الأول ما في هذا الخبر الذي روته العامة والخاصة، وهو خبر كميل ابن زياد قال: دخلت على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وهو ينكث في الأرض فقلت له: يا مولاي ما لك تنكث الأرض أرغبة فيها؟
فقال: واللّه ما رغبت فيها ساعة قط، ولكني أفكر في التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، هو الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملأت ظلما وجورا، تكون له غيبة يرتاب فيها المبطلون، يا كميل بن زياد، لا بد لله في أرضه من حجة، إما ظاهر مشهور شخصه، وإما باطن مغمور لكيلا تبطل حجج اللّه (1). والخبر طويل وإنما اقتصرنا على موضع الدلالة.
ص: 446
وما روي عن الباقر (عليه السلام): إن الشيعة قالت له يوما: أنت صاحبنا الذي يقوم بالسيف؟
قال: ليست بصاحبكم، انظروا من خفيت ولادته فيقول قوم: ولد، ويقول قوم: ما ولد، فهو صاحبكم (1).
وما روي عن الصادق (عليه السلام) إنه قال: كيف بكم إذا التفتم يمينا فلم تروا أحدا، والتفتم شمالا فلم تروا أحدا، واستولت أقوام بني عبد المطلب، ورجع عن هذا الأمر كثير ممن يعتقده، يمسي أحدكم مؤمنا ويصبح كافرا، فاللّه اللّه في أديانكم هناك فانتظروا الفرج.
وما روي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، إنه قال: إذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن فالرابع هو القائم صلوات اللّه عليه وعليهم (2).
ولو ذهبنا إلى ما روي في هذا المعنى لطال به الشرح، وهذا السيد ابن محمد الحميري يقول في قصيدة له قبل الغيبة بخمسين ومائة سنة:
وكذا روينا عن وصي محمد *** وما كان فيما قاله بالمتكذب
بأن ولي الأمر يفقد لا يرى *** ستيرا كفعل الخائف المترقب
فيقسم أموال الفقيد كأنما *** تغيبه تحت الصفيح المنصب
فيمكث حينا ثم ينبع نبعة *** كنبعة درى من الأرض يوهب
له غيبة لا بد من أن يغيبها *** فصلى عليه اللّه من متغيب (3)
ص: 447
فانظروا رحمكم اللّه قول السيد هذا القول وهو (الغيبة) كيف وقع له أن يقوله لولا أن سمعه من أئمته، وأئمته سمعوه من النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وإلا فهل يجوز لقائل أن يقول قولا فيقع كما قال ما يخرم منه حرف؟! عصمنا اللّه وإياكم من الهوى، وبه نستعين، وعليه نتوكل (1).
قال السائل: فقد كان يجب أن ينقل هذه الأخبار مع الشيعة غيرهم.
فقال له: هذا غير لازم ولا واجب، ولو وجب وجب أن لا يصح خبر لا ينقله المؤالف والمخالف وبطلت الأخبار كلها.
فقال السائل: فإذا كان الإمام (عليه السلام) غائبا طول هذه المدة لا ينتفع به، فما الفرق بين وجوده وعدمه (2).
قال له: إن اللّه سبحانه إذا نصب دليلا وحجة على سائر خلقه فأخافه الظالمون كانت الحجة على من أخافه لا على اللّه سبحانه، ولو أعدمه اللّه كانت الحجة على اللّه لا على الظالمين، وهذا الفرق بين جوده وعدمه.
قال السائل: ألا رفعه اللّه إلى السماء فإذا آن قيامه أنزله؟
فقال له: ليس هو حجة على أهل السماء، إنما هو حجة على أهل الأرض، والحجة لا تكون إلا بين المحجوجين به، وأيضا فقد كان هذا لا يمتنع في العقل لولا الأخبار الواردة أن الأرض لا تخلو من حجة، فلهذا لم يجز كونه في السماء وأوجبنا كونه في الأرض وباللّه التوفيق.
ص: 448
فقام إنسان من المعتزلة وقال للشيخ المفيد: كيف يجوز ذلك منك وأنت نظار منهم قائل بالعدل والتوحيد، وقائل بأحكام العقول، تعتقد إمامة رجل ما صحت ولادته دون إمامته، ولا وجوده دون عدمه، وقد تطاولت السنون حتى أن المعتقد منكم يقول إن له مند ولد خمسا وأربعين ومائة سنة (1)، فهل يجوز هذا في عقل أو سمع؟
قال له الشيخ: قد قلت فافهم، اعلم: إن الدلالة عندنا قامت على أن الأرض لا تخلو من حجة. (2)
قال السائل: مسلم لك ذلك ثم آيش؟
قال له الشيخ: ثم إن الحجة على صفات، ومن لا يكون عليها لم تكن فيه.
قال له السائل: هذا عندي، ولم أر في ولد العباس، ولا في ولد علي، ولا في قريش قاطبة من هو بتلك الصفات، فعلمت بدليل العقل أن الحجة غيرهم، ولو غاب ألف سنة، وهذا كلام جيد في معناه إذا تفكرت فيه، لأنه إذا قامت الدلالة بأن الأرض لا تخلو من حجة، وإن الحجة لا يكون إلا معصوما من الخطأ والزلل، لا يجوز عليه ما يجوز على الأمة، وكانت المنازعة فيه لا في الغيبة، فإذا سلم ذلك كانت الحجة لازمة في الغيبة (3).
ص: 449
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الشيخ المفيد رضي اللّه عنه: حضرت مجلس رئيس من الرؤساء، فجرى كلام في الإمامة، فانتهى إلى القول في الغيبة.
فقال صاحب المجلس: أليست الشيعة تروي عن جعفر بن محمد (عليه السلام): أنه لو اجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لوجب عليه الخروج بالسيف (1)؟
فقلت: قد روي هذا الحديث.
قال: أولسنا نعلم يقينا أن الشيعة في هذا الوقت أضعاف عدة أهل بدر، فكيف يجوز للإمام الغيبة مع الرواية التي ذكرناها؟
ص: 450
فقلت له: إن الشيعة وإن كانت في وقتنا كثيرا عددها، حتى تزيد على عدة أهل بدر أضعافا مضاعفة، فإن الجماعة التي عدتهم عدة أهل بدر إذا اجتمعت، فلم يسع الإمام التقية ووجب عليه الظهور، لم تجتمع في هذا الوقت، ولا حصلت في هذا الزمان بصفتها وشروطها، وذلك إنه يجب أن يكون هؤلاء القوم معلوم من حالهم الشجاعة، والصبر على اللقاء، والإخلاص في الجهاد، إيثار الآخرة على الدنيا، ونقاء السرائر من العيوب، وصحة العقول، وإنهم لا يهنون ولا ينتظرون عند اللقاء، ويكون العلم من اللّه تعالى بعموم المصلحة في ظهورهم بالسيف، وليس كل الشيعة بهذه الصفة، ولو علم اللّه تعالى أن في جملتهم العدد المذكور على ما شرطناه لظهر الإمام (عليه السلام) لا محالة، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين، لكن المعلوم خلاف ما وصفناه، فلذلك ساغ للإمام الغيبة على ما ذكرناه.
قال: ومن أين لنا أن شروط القوم على ما ذكرت، وإن كانت شروطهم هذه، فمن أين لنا أن الأمر كما وصفت؟
فقلت: إذا ثبت وجوب الإمامة وصحت الغيبة لم يكن لنا طريق إلى تصحيح الخبر إلا بما شرحناه، فمن حيث قامت دلائل الإمامة والعصمة وصدق الخبر حكمنا بما ذكرناه.
ثم قلت: ونظير هذا الأمر ومثاله ما علمناه من جهاد النبي (صلى اللّه عليه وآله) أهل بدر بالعدد اليسير الذين كانوا معه، وأكثرهم أعزل راجل، ثم قعد عليه وآله السلام في عام الحديبية ومعه من أصحابه أضعاف أهل بدر في العدد، وقد علمنا أنه (صلى اللّه عليه وآله) مصيبا في الأمرين جميعا، وأنه لو كان المعلوم من أصحابه في عام الحديبية ما كان المعلوم منهم في حال بدر لما وسعه القعود والمهادنة، ولوجب عليه الجهاد كما وجب عليه قبل ذلك، ولو وجب عليه ما تركه لما ذكرناه من العلم بصوابه
ص: 451
وعصمته على ما بيناه.
فقال: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان يوحى إليه فيعلم بالوحي العواقب، ويعرف الفرق من صواب التدبير وخطأه بمعرفة ما يكون، فمن قال في علم الإمام بما ذكرت؟ وما طريق معرفته بذلك؟
فقلت له: الإمام عندنا معهود إليه، موقف على ما يأتي وما يذكر، منصوب له أمارات تدله على العواقب في التدبيرات والصالح في الأفعال، وإنما حصل له العهد بذلك عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) الذي يوحى إليه ويطلع على علم السماء، ولو لم نذكر هذا الباب واقتصرنا على أنه متعبد في ذلك بغلبة الظن وما يظهر له من الصلاح لكفى وأغنى، وقام مقام الإظهار على التحقيق كائنا ما كان بلا ارتياب، لا سيما على مذهب المخالفين في الاجتهاد. وقولهم في رأي النبي (صلى اللّه عليه وآله) وإن كان المذهب ما قدمناه.
فقال: لم لا يظهر الإمام وإن أدى ظهوره إلى قتله فيكون البرهان له والحجة في إمامته أوضح، ويزول الشك في وجوده بلا ارتياب؟
فقلت: إنه لا يجب ذلك عليه (عليه السلام)، كما لا يجب على اللّه تعالى معاجلة العصاة بالنقمات وإظهار الآيات في كل وقت متتابعات، وإن كنا نعلم أنه لو عاجل العصاة لكان البرهان على قدرته أوضح، والأمر في نهيه أوكد، والحجة في قبح خلافه أبين، ولكان بذلك الخلق عن معاصيه أزجر، وإن لم يجب ذلك عليه ولا في حكمته وتدبيره لعلمه بالمصلحة فيه على التفضيل، فالقول في الباب الأول مثله على أنه لا معنى لظهور الإمام في وقت يحيط العلم فيه بأن ظهوره منه فساد، وإنه لا يؤول إلى إصلاح، وإنما يكون ذلك حكمة وصوابا إذا كانت عاقبته الصلاح، ولو علم (عليه السلام) إن في ظهوره صلاحا في الدين مع مقامه في العالم أو هلاكه
ص: 452
وهلاك جميع شيعته وأنصاره لما أبقاه طرفة عين، ولا فتر عن المسارعة إلى مرضاة اللّه جل اسمه، لكن الدليل على عصمته كاشف عن معرفته لرد هذه الحال عند ظهوره في هذا الزمان بما قدمناه من ذكر العهد إليه، ونصب الدلائل والحد والرسم المذكورين له في الأفعال.
فقال: لعمري، إن هذه الأجوبة على الأصول المقررة لأهل الإمامة مستمرة، والمنازع فيها - بعد تسليم الأصول - لا ينال شيئا ولا يظفر بطائل.
فقلت: من العجب إنا والمعتزلة نوجب الإمامة، ونحكم بالحاجة إليها في كل زمان، ونقطع بخطأ من أوجب الاستغناء عنها في حال بعد النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وهم دائما يشنعون علينا بالقول في الغيبة، ومرور الزمان بغير ظهور إمام، وهم أنفسهم يعترفون بأنهم لا إمام لهم بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا الزمان، ولا يرجون إقامة إمام في قرب هذا من الأوان، فعلى كل حال نحن أعذر في القول بالغيبة، وأولى بالصواب عند الموازنة للأصل الثابت من وجوب الإمام، ولدفع الحاجة إليها في كل أوان.
فقال: هؤلاء القوم وإن قالوا بالحاجة إلى الإمام فعذرهم واضح في بطلان الأحكام لعدم غيبة الإمام الذي يقوم بالأحكام، وأنتم تقولون أن أئمتكم (عليهم السلام) قد كانوا ظاهرين إلى وقت زمان الغيبة عندكم، فما عذركم في ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.
فقلت له: إن هؤلاء القوم وإن اعتصموا في تضييع الحدود والأحكام بعد الأئمة الذين يقومون بها في الزمان، فإنهم يعترفون بأن في كل زمان طائفة منهم من أهل الحل والعقد قد جعل إليهم إقامة الإمام الذي يقوم بالحدود وتنفيذ الأحكام، فما عذرهم عن كفهم عن إقامة الإمام وهم موجودون معروفو الأعيان،
ص: 453
فإن وجب عليهم لوجودهم ظاهرين في كل زمان إقامة الإمام المنفذ للأحكام، وعانوا ترك ذلك في طول هذه المدة عاصين ضالين عن طريق الرشاد كان لنا بذلك عليهم ولن يقولوا بهذا أبدا، وإن كان لهم عذر في ترك إقامة الإمام، وإن كانوا في كل وقت موجودين، فذلك العذر لأئمتنا (عليهم السلام) في ترك إقامة الحدود وإن كانوا موجودين في كل زمان، على أن عذر أئمتنا (عليهم السلام) في ترك إقامة الأحكام أوضح وأظهر من عذر المعتزلة في ترك نصب الإمام، لأنا نعلم يقينا بلا ارتياب أن كثيرا من أهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قد شردوا عن أوطانهم، وسفكت دماؤهم، والزم الباقون منهم الخوف على التوهم عليهم أنهم يرون الخروج بالسيف، وأنهم ممن (ترجع) إليهم الأحكام، ولم ير أحد من المعتزلة ولا الحشوية سفك دمه، ولا شرد عن وطنه، ولا خيف على التوهم عليه، والتحقيق منه أنه يرى في قعود الأئمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هؤلاء القوم يصرحون في المجالس بأنهم أصحاب الاختيار، وإن إليهم الحل والعقد والإنكار على الطاعة، وإن من مذهبهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا لازما على اعتقادهم، وهم مع ذلك آمنون من السلطان، غير خائفين من نكيره عليهم من هذا المقال.
فبان بذلك أنه لا عذر لهم في ترك إقامة الإمام، وإن العذر الواضح الذي لا شبهة فيه، حاصل لأئمتنا (عليهم السلام) من ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، لما بيناه من حالهم ووصفناه، وهذا واضح، فلم يأت بشئ، ولله الحمد ولرسوله وآله الصلاة والسلام واللّه الموفق للصواب. (1)
ص: 454
المناظرة الخامسة والستون مناظرة الشيخ الصدوق (1) مع ملحد عند ركن الدولة في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) ولقد كلمني بعض الملحدين في مجلس الأمير السعيد ركن الدولة (رضي اللّه عنه) فقال لي: وجب على إمامكم أن يخرج فقد كاد أهل الروم يغلبون المسلمين.
فقلت له: إن أهل الكفر كانوا في أيام نبينا (صلى اللّه عليه وآله) أكثر عددا منهم اليوم، وقد
ص: 455
أسر (صلى اللّه عليه وآله) أمره وكتمه أربعين سنة بأمر اللّه جل ذكره، وبعد ذلك أظهره لمن وثق به وكتمه ثلاث سنين عمن لم يثق به، ثم آل الأمر إلى أن تعاقدوا على هجرانه وهجران جميع بني هاشم والمحامين عليه لأجله، فخرجوا إلى الشعب وبقوا فيه ثلاث سنين فلو أن قائلا قال في تلك السنين: لم لا يخرج محمد (صلى اللّه عليه وآله) فإنه واجب عليه الخروج لغلبة المشركين على المسلمين؟ ما كان يكون جوابنا له إلا أنه (صلى اللّه عليه وآله) بأمر اللّه تعالى ذكره خرج إلى الشعب حين خرج وبإذنه غاب ومتى أمره بالظهور والخروج خرج وظهر.
لأن النبي (صلى اللّه عليه وآله) بقي في الشعب هذه المدة حتى أوحى عز وجل إليه أنه قد بعث أرضة على الصحيفة المكتوبة بين قريش في هجران النبي (صلى اللّه عليه وآله) وجميع بني هاشم، المختومة بأربعين خاتما، المعدلة عند زمعة بن الأسود فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها اسم اللّه عز وجل، فقام أبو طالب فدخل مكة، فلما رأته قريش قدروا أنه قد جاء ليسلم إليهم النبي (صلى اللّه عليه وآله) حتى يقتلوه أو يرجعوه عن نبوته، فاستقبلوه وعظموه فلما جلس قال لهم: يا معشر قريش إن ابن أخي محمد لم أجرب عليه كذبا قط، وإنه قد أخبرني أن ربه أوحى إليه أنه قد بعث على الصحيفة المكتوبة بينكم الأرضة، فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها من أسماء اللّه عز وجل، فأخرجوا الصحيفة وفكوها فوجدوها كما قال، فآمن بعض وبقي بعض على كفره، ورجع النبي (صلى اللّه عليه وآله) وبنو هاشم إلى مكة (1)، هكذا الإمام (عليه السلام) إذا أذن اللّه له في الخروج خرج.
ص: 456
وشئ آخر وهو أن اللّه تعالى ذكره أقدر على أعدائه الكفار من الإمام، فلو أن قائلا قال: لم يمهل اللّه أعداءه ولا يبيدهم وهم يكفرون به ويشركون؟ لكان جوابنا له أن اللّه تعالى ذكره لا يخاف الفوت فيعاجلهم بالعقوبة، و (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (1). ولا يقال له: لم ولا وكيف، وهكذا إظهار الإمام إلى اللّه الذي غيبه فمتى أراده أذن فيه فظهر.
فقال الملحد: لست أؤمن بإمام لا أراه، ولا تلزمني حجته ما لم أره.
فقلت له: يجب أن تقول: إنه لا تلزمك حجة اللّه تعالى ذكره لأنك لا تراه، ولا تلزمك حجة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) لأنك لم تره.
فقال للأمير السعيد ركن الدولة (رضي اللّه عنه): أيها الأمير راع ما يقول هذا الشيخ فإنه يقول: إن الإمام إنما غاب ولا يرى لأن اللّه عز وجل لا يرى.
فقال له الأمير (رحمه اللّه): لقد وضعت كلامه غير موضعه وتقولت عليه، وهذا انقطاع منك وإقرار بالعجز.
وهذا سبيل جميع المجادلين لنا في أمر صاحب زماننا (عليه السلام) ما يلفظون في دفع ذلك وجحوده إلا بالهذيان والوساوس والخرافات المموهة (2).
ص: 457
المناظرة السادسة والستون مناظرة ابن طاووس (1) مع بعض أهل الخلاف في أمر بعض الصحابة والرجعة والمتعة وغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)
يقول ابن طاووس - عليه الرحمة -: ولقد جمعني وبعض أهل الخلاف مجلس منفرد فقلت لهم: ما الذي تأخذون على الإمامية، عرفوني به بغير تقية
ص: 458
لأذكر ما عندي، وفيه غلقنا باب الموضع الذي كنا ساكنيه؟ فقالوا: نأخذ عليهم تعرضهم بالصحابة، ونأخذ عليهم القول بالرجعة، والقول بالمتعة، ونأخذ عليهم حديث المهدي (عليه السلام) وأنه حي مع تطاول زمان غيبته؟ فقلت لهم: أما ما ذكرتم من تعرض من أشرتم إليه بذم بعض الصحابة، فأنتم تعلمون أن كثيرا من الصحابة استحل بعضهم دماء بعض في حرب طلحة والزبير وعائشة لمولانا علي (عليه السلام) وفي حرب معاوية له أيضا، واستباحوا أعراض بعضهم لبعض حتى لعن بعضهم بعضا على منابر الإسلام، فأولئك هم الذين طرقوا سبيل الناس للطعن عليهم، وبهم اقتدى من ذمهم ونسب القبيح إليهم، فإن كان لهم عذر في الذي عملوه من استحلال الدماء وإباحة الأعراض، فالذين اقتدوا بهم أعذر وأبعد من أن تنسبوهم إلى سوء التعصب والإعراض، فوافقوا على ذلك.
وقلت لهم: وأما حديث ما أخذتم عليه من القول بالرجعة، فأنتم تروون أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: إنه يجري في أمته ما جرى في الأمم السابقة (1) وهذا القرآن يتضمن (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (2) فشهد جل جلاله أنه قد أحيا الموتى في الدنيا وهي رجعة، فينبغي أن يكون في هذه الأمة مثل ذلك، فوافقوا على ذلك.
فقلت لهم: وأما أخذكم عليهم بالقول بالمتعة فأنتم أحوجتم الشيعة إلى
ص: 459
صحة الحكم بها، لأنكم رويتم في صحاحكم عن جابر (1) بن عبد اللّه الأنصاري، وعبد اللّه بن عباس (2)، وعبد اللّه بن مسعود (3)، وسلمة بن الأكوع (4)، وعمران بن الحصين (5) وأنس بن مالك، وهم من أعيان الصحابة (6) أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) مات ولم يحرمها، فلما رأت الشيعة أن رجالكم وصحاح كتبكم قد صدقت رجالكم، ورواتهم أخذوا بالمجمع عليه وتركوا ما انفردتم به، فوافقوا على ذلك.
ص: 460
وقلت لهم: وأما ما أخذتم عليهم من طول غيبة المهدي (عليه السلام) فأنتم تعلمون، أنه لو حضر رجل وقال: أنا أمشي على الماء ببغداد فإنه يجتمع لمشاهدته، لعل من يقدر على ذلك منهم فإذا مشى على الماء وتعجب الناس منه فجاء آخر قبل أن يتفرقوا، وقال أيضا: أنا أمشي على الماء فإن التعجب منه يكون أقل من ذلك فمشى على الماء فإن بعض الحاضرين ربما يتفرقون ويقل تعجبهم، فإذا جاء ثالث وقال: أنا أيضا أمشي على الماء فربما لا يقف للنظر إليه إلا قليل فإذا مشى على الماء سقط التعجب من ذلك، فإن جاء رابع وذكر أنه يمشي أيضا على الماء فربما لا يبقى أحد ينظر إليه ولا يتعجب منه وهذه حالة المهدي (عليه السلام) لأنكم رويتم أن إدريس (عليه السلام) حي (1) موجود في السماء منذ زمانه إلى الآن، ورويتم أن الخضر (عليه السلام) حي موجود منذ زمان موسى (عليه السلام) أو قبله إلى الآن (2) ورويتم أن عيسى حي موجود (3) في السماء وأنه يرجع إلى الأرض (4) مع المهدي (عليه السلام) فهذه ثلاثة نفر من البشر قد طالت أعمارهم، وسقط التعجب بهم من طول أعمارهم، فهلا كان لمحمد بن عبد اللّه - صلوات اللّه عليه وآله - أسوة بواحد منهم أن يكون من عترته
ص: 461
آية لله جل جلاله في أمته بطول عمر واحد من ذريته فقد ذكرتم ورويتم في صفته: أنه يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت جورا وظلما (1)، ولو فكرتم (لعرفتم أن تصديقكم وشهادتكم أنه يملأ الأرض بالعدل شرقا وغربا وبعدا وقربا أعجب من طول بقائه، وأقرب إلى أن يكون ملحوظا بكرامات اللّه (2) جل جلاله لأوليائه، وقد شهدتم أيضا له أن عيسى بن مريم النبي المعظم (عليهما السلام) يصلي خلفه (3) مقتديا به في صلواته وتبعا له ومنصورا به في حروبه وغزواته، وهذا أيضا أعظم مقاما مما استبعدتموه من طول حياته فوافقوا على ذلك، وفي حكاية الكلام زيادة فاطلب من الطرائف وغيرها (4).
ص: 462
وقد كان سألني بعض من يذكر أنه معتقد لإمامته فقال: قد عرضت لي شبهة في غيبته.
فقلت: ما هي؟
فقال: أما كان يمكن أن يلقى أحدا من شيعته ويزيل الخلاف عنهم في العقائد، ويتعلق بدين جده محمد (صلى اللّه عليه وآله) وشريعته، واشترط علي أن لا أجيبه بالأجوبة المسطورة في الكتب، وذكر أنه ما أزال الشبهة منه ما وقف عليه، ولا ما سمعه من الأعذار المذكورة.
فقلت له: أيهما أقدر على إزالة الخلاف بين العباد، وأيما أعظم وأبلغ في الرحمة والعدل والإرفاد، أليس اللّه جل جلاله؟
فقال: بلى.
فقلت له: فما منع اللّه جل جلاله أن يزيل الخلاف بين الأمم أجمعين، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وهو أقدر على تدبير ذلك بطرق لا يحيط بها علم الآدميين، أفليس أن ذلك لعذر يقتضيه عدله وفضله على اليقين؟
فقال: بلى.
ص: 463
فقلت له: فعذر نائبه (عليه السلام) هو عذره على التفصيل، لأنه ما يفعل فعلا إلا ما يوافق رضاه على التمام.
فوافق وزالت الشبهة، وعرف صدق ما أورده اللّه جل جلاله على لساني من الكلام (1).
ص: 464
ذهبت إلى دائرة الأمر بالمعروف عند الشيخ سيف رئيس الهيئة وقلت:
مكتوب بمسجد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) المهدي محمد (عليه السلام)، فقلت: من محمد المهدي؟ قال: مكتوب بالأحجار؟
قلت: نعم مكتوب بالأحجار وسط المسجد قبال باب المجيدي.
فقال: يقولون صاحب الزمان.
قلت: وأنت ما تقول في حقه؟
قال: أنا ما أعرفه.
قلت: مذكور في كتبكم نحوا من خمسين رواية أنه هو الثاني عشر من أوصياء الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وأنه هو الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.
قال: ليست الروايات في الكتب المعتبرة.
قلت: أنا أحضرها لك.
قال: ليس بلازم.
قلت: أنا أستدل بالآيات الشريفة من القرآن.
ص: 465
قال: أية آية؟
قلت: آية أربع وخمسين من سورة النور: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) . فالآية تدل على أن الخلافة ستكون للذين آمنوا وعملوا الصالحات، والخلافة تكون في جميع الأرض لمن كان خائفا، ويمكن الخلافة والدين لشخص تكون هذه صفته.
فقال الشيخ: هذه الآية بالنسبة إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) حيث كان خائفا بمكة، ثم جاء المدينة فصار مستقرا.
قلت: أنا أستدل بآية أخرى.
قال: أية آية؟
قلت: آية مائة وأربعة من سورة الأنبياء: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) . والمهدي الحجة بن الحسن من أحد عباد اللّه الصالحين الذين يرثون الأرض.
قال: الشيعة تقول أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو النبي (صلى اللّه عليه وآله).
قلت: لعن اللّه كل شيعي يعتقد ذلك، وكل من يفتري على الشيعة بالقول بأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو النبي (صلى اللّه عليه وآله)، لأن الشيعة تقرأ في كل يوم هذه الآية من سورة الأحزاب آية تسع وثلاثين: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) ويعلم بأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) خاتم النبيين، لكن الشيعة تقول بأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بعد رجوعه من مكة في عام حجة الوداع أقام بالجمعة وصرح بأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصيه ووارثه
ص: 466
ومولى كل مؤمن ومؤمنة في يوم الغدير، ومسجد الغدير الآن معروف عندكم مذكور في كتبكم مثل: وفاء الوفاء (1) وتاريخ المدينة المنورة.
ثم قال: أنتم تقولون: المهدي هو الغائب في السرداب.
قلت: إنا لا نقول أنه غائب في السرداب، بل نقول غائب عن الأنظار، وهو حي مرزوق.
قال: كيف يكون طول عمره؟
قلت: أما قرأت القرآن حيث يقول بالنسبة لنوح (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) (2) وبالنسبة إلى عيسى بن مريم يقول: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (3).
قال: أنتم تقولون المهدي هو المرفوع إلى السماء.
قلت: لا، لكن نقول اللّه الذي هو قادر على أن يبقي عيسى بن مريم مدة طويلة، قادر على أن يبقى المهدي الحجة بن الحسن (عليه السلام) مدة طويلة.
قال الشيخ رئيس الهيئة: لا تتكلم معي، لا تتباحث معي، فلقد تزلزلت عقيدتي (4).
ص: 467
وردت روايات مختلفة وبعبارات شتى في شأن القضايا التي تتعلق بالإمام المهدي (عليه السلام)، والتحاق 313 نفر من أصحابه إليه عند ظهوره من مكة المكرمة، إمام العصر (عليه السلام) أيضا في انتظار تكامل عدتهم، وهؤلاء الأصحاب هم السابقون الأولون لبيعة الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وبحضورهم يعلن الإمام (عليه السلام) عن الخروج، ويبدأ الخروج بشكل مراحل، فهؤلاء الأصحاب هم حملة ألوية الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وولاته على الكرة الأرضية بأسرها.
وهذه المناظرة حدثت بين أحد الباحثين عن الحقيقة مع أحد المحققين الإسلاميين في شأن هذه المسألة.
الباحث: تفضل علينا بذكر حديث ورد في عدد أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام)، وأنهم 313 نفر.
المحقق: ورد هذا الحديث بعبارات مختلفة، بل لا ينحصر بحديث واحد، هناك عدة أحاديث واردة في هذا الشأن، تحكي عن (313) نفر من أصحاب الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، بل يدعي التواتر المعنوي لهذا الحديث، وبعبارة أخرى، إن أصل المعنى في شأن أصحاب الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) إلى حد يوجب العلم والقطع به، لأنه لا يمكن تواطؤ هذا العدد الهائل من الرواة على الكذب فيه.
ص: 468
الباحث: فأرجو من سماحتكم أن تذكروا لنا حديثا أو حديثين من تلك الأحاديث الكثيرة المتواترة في أصحاب إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وكما يقول المثل: ما لا يدرك كله لا يترك كله.
المحقق: ورد في تفسير الآية 80 من سورة هود (عليه السلام) قال لوط لقومه المعاندين: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، عن صالح بن سعيد عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قال (عليه السلام): القوة القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، والركن الشديد ثلاثمائة وثلاثة عشر أصحابه » (1).
وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لكأني أنظر إليهم مصعدين من نجف الكوفة ثلاث مأة وبضعة عشر رجلا كأن قلوبهم زبر الحديد...» (2).
الباحث: هل، لم يتكامل هذا العدد من أصحاب الإمام (عليه السلام) حتى الآن ليلتحقوا به، ويحل زمن ظهور إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وتنجو البشرية من هذه الويلات؟
المحقق: تذكر لنا الروايات إن لهؤلاء الأصحاب مميزات، فمع التأمل في هذه المميزات يتضح لنا أن البشرية في عصر الغيبة تفتقد لمثل هؤلاء الأفراد.
الباحث: ما هي هذه المميزات؟
المحقق: على سبيل المثال: نقرأ في رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام)، يذكر القائم في خبر طويل إلى أن يقول: « ثم يخرج إلى مكة والناس يجتمعون بها، فيقوم رجل منه فينادي: أيها الناس هذا طلبتكم قد جاءكم، يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال: فيقومون، ثم يقوم هو بنفسه، فيقول (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف): أيها
ص: 469
الناس أنا فلان بن فلان أنا ابن نبي اللّه، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
فيقومون إليه ليقتلوه، فيقوم ثلاثمائة أو ينيف ثلاثمأة فيمنعونه منه خمسون من أهل الكوفة، وسائرهم من أفناء الناس لا يعرف بعضهم بعضا، اجتمعوا على غير ميعاد » (1).
ووردت روايات عديدة في أوصافهم منها: «يجمعهم اللّه بمكة قزعا كقزع الخريف» (2).
بمعنى: أنهم يحضرون عند القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في مكة كالبرق الخاطف، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «وكأني أنظر إلى القائم على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا عدة أهل بدر، وهم أصحاب الأولوية، وهم حكام اللّه في أرضه على خلقه» (3).
نفهم من هذا الحديث، يجب أن يكون أصحاب الإمام القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) على مستوى عال من العلم والكمال والشجاعة وسائر القيم والفضائل والصفات الإسلامية الحميدة، مثلا لو قسمنا الكرة الأرضية إلى 313 ولاية، فيكون كل واحد منهم لائقا وكفوء وقائدا لرفع راية هذه الولاية، وهل تملك اليوم الكرة الأرضية هذا العدد من القواد، وبهذه الخصوصيات والمميزات حتى يستطيع كل واحد منهم أن يتولى ولاية في حكومة الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
الباحث: الآن فهمت الموضوع، ليس اليوم على الكرة الأرضية بأسرها 313 رجلا بهذه المميزات، فيجب أن نسعى لإيجاد الأرضية الصالحة الصلبة، تمد جذورها القوية إلى جميع الجهات حتى تستعد الدنيا لاستقبال الإمام
ص: 470
المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) عند ظهوره كما احتاج النبي (صلى اللّه عليه وآله) لتحقيق أهداف رسالته المقدسة إلى تربية الكوادر المؤمنة والعالمة والشجاعة والمدبرة في الأمور السياسية، وكذلك الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بحاجة إلى هذه الكوادر الرسالية وبهذه المميزات، فأود أن أسمع أيضا من مميزات هؤلاء الأصحاب.
المحقق: نقرأ في الآية 148 من سورة البقرة: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال بعد ذكر الآية الشريفة: «يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا، وهم واللّه الأمة المعدودة، يجتمعون واللّه عن ساعة واحدة قزعا كقزع الخريف» (1).
ومن مميزاتهم: أنهم يأتون من البلاد النائية إلى مكة، كما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل إلى أن قال: «فيجمع اللّه تعالى عسكره في ليلة واحدة وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أقاص الأرض» (2).
وينتظرهم الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في «ذي طوى» (3) يبعد عن مكة فرسخا واحدا، حتى يلتحقون به في جانب الكعبة، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن القائم يهبط من ثنية ذي طوى في عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، حتى يسند ظهره إلى الحجر ويهز الراية الغالبة» (4).
ص: 471
وهؤلاء الأصحاب أول من يبايعه (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
«فيكون أول من يبايعه جبرئيل، ثم الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا» (1).
فترعاهم الإمدادات الغيبية العظيمة، ويد اللّه وعنايته فوق رأس الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وأصحابه كما ورد حديث في هذا الشأن عن الإمام السجاد (عليه السلام)، عن أبي خالد الكابلي قال: قال لي علي بن الحسين (عليه السلام): «يا أبا خالد لتأتين فتن إلي...» إلى أن قال: «كأني بصاحبكم قد علا فوق نجفكم بظهر كوفان في ثلاثمائة وبضعه عشر رجلا، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وإسرافيل أمامه، معه راية رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قد نشرها لا يهوي بها إلى قوم إلا أهلكهم اللّه» (2).
الباحث: لماذا تنطق الأحاديث عن الرجال فقط في ركب الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) دون النساء؟
المحقق: علة ذكر الرجال دون النساء يرجع إلى بداية ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وهي مرحلة عصيبة فيها الجهاد والحرب والدفاع عن الإسلام، فتقتضي حضور الرجال في هذه الميادين، وللنساء دور خلف ميادين الجهاد والدفاع عن الإمام المهدي (عليه السلام).
وأشارت بعض الروايات الواردة في موضوع 313 رجلا من خواص الإمام (عليه السلام) إلى دور النساء وحضورهن أيضا، منها:
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ويجئ واللّه ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا فيهم خمسون امرأة، يجتمعون بمكة على غير ميعاد قزعا كقزع الخريف» (3).
وعن المفضل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: « يكن مع القائم (عليه السلام) ثلاث عشرة
ص: 472
امرأة «قلت: وما يصنع بهن؟ قال (عليه السلام):» يداوين الجرحى، ويقمن على المرضى كما كان مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) » (1).
الباحث: فهذه العدة من الرجال والنساء، مع عظمة قيام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) العالمية، أليس قليلا؟ المحقق: هؤلاء الركب الأول الذين يلتحقون بالإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) عند ظهوره، ثم مع مرور الزمن يتكاثر المؤمنون حوله ويزدادون عددا وقوة، وبعبارة أخرى: يعتبر هؤلاء خواص الإمام (عليه السلام)، ويشكلون النواة المركزية لمقر حكومته العالمية كما ورد في الرواية.
جاء في فصل الخطاب عن الشيخ محي الدين بن العربي في ذكر المهدي (عليه السلام) قال: «يكون معه ثلاثمائة وستون رجلا من رجال اللّه الكاملين يبايعونه بين الركن والمقام... وله رجال يقيمون دعوته وينصرونه، هم الوزراء يحملون أثقال المملكة» (2).
وأيضا قال: «يفتحون مدينة الروم بالتكبير، فيكبرون التكبيرة الأولى فيسقط ثلثها، ويكبرون التكبيرة الثانية فيسقط الثلث الثاني من السور، ويكبرون التكبيرة الثالثة فيسقط الثالث فيفتحونها من غير سيف» (3).
وفي رواية أخرى: عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إذا ظهر القائم ودخل الكوفة بعث اللّه تعالى من ظهر الكوفة سبعين ألف صديق، فيكونون من أصحابه وأنصاره ويرد السواد إلى أهله، وهم أهله» (4).
ص: 473
ولإتمام هذه المناظرة، وبما أنه خاتمة الكتاب ألفت أنظاركم إلى مطالب لطيفة وأزينها بهذه الأحاديث:
1 - عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ينادى باسم القائم - صلوات اللّه عليه - في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي (عليه السلام)» (1).
2 - عن علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) قال: «إذا قام قائمنا أذهب اللّه عز وجل عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا، ويكونون حكام الأرض وسنامها» (2).
3 - عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): «فإذا وقع أمرنا وخرج مهدينا (عليه السلام) كان أحدهم أجرى من الليث، وأمضى من السنان، ويطأ عدونا بقدميه، ويقتله بكفيه» (3).
4 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ليعدن أحدكم لخروج القائم ولو سهما» (4).
5 - عن عبد العظيم الحسني قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى (عليه السلام): من حديث طويل قال (عليه السلام): «ويذل له كل صعب» (5). (6)
ص: 474
ص: 475
ص: 476
ومن كلام الشيخ - أدام اللّه عزه - أيضا في دار الشريف أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن طاهر (رحمه اللّه)، وحضر رجل من المتفقهة يعرف بالورثاني وهو من فهمائهم، فقال له الورثاني: أليس من مذهبك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان معصوما من الخطأ، مبرأ من الزلل، مأمونا عليه من السهو والغلط، كاملا بنفسه غنيا عن رعيته.
فقال له الشيخ - أيده اللّه -: بلى كذلك كان (صلى اللّه عليه وآله).
قال له: فما تصنع في قول اللّه جل جلاله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (1) أليس قد أمره اللّه بالاستعانة بهم في الرأي وأفقره إليهم، فكيف يصح لك ما ادعيت مع ظاهر القرآن وما فعل النبي (صلى اللّه عليه وآله).
فقال له الشيخ - أدام اللّه عزه -: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لم يشاور أصحابه لفقر منه إلى آرائهم ولحاجة دعته إلى مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت، بل لأمر آخر أنا أذكره لك بعد الإيضاح عما أخبرتك به، وذلك أنا قد علمنا أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان معصوما من الكبائر والصغائر وإن خالفت أنت في عصمته من الصغائر، وكان أكمل الخلق باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأيا وأوفرهم عقلا وأكملهم تدبيرا، وكانت المواد بينه وبين اللّه سبحانه متصلة والملائكة تتواتر عليه بالتوفيق
ص: 477
من اللّه عز وجل، والتهذيب والإنباء له عن المصالح، وإذا كان بهذه الصفات لم يصح أن يدعو داع إلى اقتباس الرأي من رعيته، لأنه ليس أحد منهم إلا وهو دونه في سائر ما عددناه، وإنما يستشير الحكيم غيره على طريق الاستفادة والاستعانة برأيه إذا تيقن أنه أحسن رأيا منه وأجود تدبيرا وأكمل عقلا أو ظن ذلك، فأما إذا أحاط علما بأنه دونه فيما وصفناه لم يكن للاستعانة في تدبيره برأيه معنى، لأن الكامل لا يفتقر إلى الناقص فيما يحتاج فيه إلى الكمال، كما لا يفتقر العالم إلى الجاهل فيما يحتاج فيه إلى العلم، والآية بينة يدل متضمنها على ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (1) فعلق وقوع الفعل بعزمه دون رأيهم ومشورتهم، ولو كان إنما أمره بمشورتهم للاستقفاء برأيهم لقال له: فإذا شاروا عليك فاعمل، وإذا اجتمع رأيهم على شئ فأمضه، فكان تعلق فعله بالمشورة دون العزم الذي يختص به، فلما جاء الذكر بما تلوناه سقط ما توهمته، فأما وجه دعائهم إلى المشورة عليه (صلى اللّه عليه وآله) فإن اللّه أمره أن يتألفهم بمشورتهم، ويعلمهم بما يصنعونه عند عزماتهم، ليتأدبوا بآداب اللّه عز وجل، فاستشارهم لذلك لا للحاجة إلى آرائهم، على أن ها هنا وجها آخر بينا وهو:
إن اللّه سبحانه أعلمه أن في أمته من يبتغي له الغوائل ويتربص به الدوائر، ويسر خلافه ويبطن مقته ويسعى في هدم أمره ويناقضه في دينه، ولم يعرفه بأعيانهم ولا دله عليهم بأسمائهم، فقال عز اسمه: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (2) وقال جل اسمه: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ
ص: 478
يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (1) وقال تبارك اسمه: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (2) وقال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (3) وقال عز من قائل: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (4) وقال جل جلاله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) (5) وقال تعالى: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (6) ثم قال سبحانه بعد أن أنبأه عنهم في الجملة: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (7) فدله عليهم بمقالهم وجعل الطريق إلى معرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن قولهم.
ثم أمره بمشورتهم ليصل بما يظهر منهم إلى علم باطنهم، فإن الناصح تبدو نصيحته في مشورته، والغاش المنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم (صلى اللّه عليه وآله) لذلك، ولأن اللّه جل جلاله جعل مشورتهم الطريق إلى معرفتهم، ألا ترى أنهم لما أشاروا ببدر عليه (صلى اللّه عليه وآله) في الأسرى فصدرت مشورتهم عن نيات مشوبة في نصيحته فكشف اللّه تعالى ذلك له وذمهم عليه وأبان عن إدغالهم فيه، فقال جل
ص: 479
وتعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1) فوجه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم وأبان لرسوله (صلى اللّه عليه وآله) عن حالهم، فيعلم أن المشورة لهم لم تكن للفقر إلى آرائهم وإنما كانت لما ذكرناه.
فقال شيخ من القوم يعرف بالجراحي وكان حاضرا: يا سبحان اللّه! أترى أن أبا بكر وعمر كانا من أهل النفاق؟ كلا ما نظن أنك أيدك اللّه تطلق هذا، وما رأينا أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) استشار ببدر غيرهما، فإن كانا هما من المنافقين فهذا ما لا نصبر عليه ولا نقوى على استماعه، وإن لم يكونا من جملة أهل النفاق فاعتمد على الوجه الأول، وهو أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أراد أن يتألفهم بالمشورة ويعلمهم كيف يصنعون في أمورهم.
فقال له الشيخ - أدام اللّه عزه -: ليس هذا من الحجاج أيها الشيخ في شئ وإنما هو استكبار واستعظام معدول به عن الحجة والبرهان، ولم نذكر إنسانا بعينه وإنما أتينا بمجمل من القول ففصله الشيخ وكان غنيا عن تفصيله.
فصاح الورثاني وأعلى صوته بالصياح يقول: الصحابة أجل قدرا من أن يكونوا من أهل النفاق وسيما الصديق والفاروق، وأخذ في كلام نحو هذا من كلام السوقة والعامة وأهل الشغب والفتن.
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه -: دع عنك الضجيج وتخلص مما أوردته عليه من البرهان واحتل لنفسك وللقوم فقد بان الحق وزهق الباطل بأهون سعي والحمد لله (2).
ص: 480
المناظرة الحادية والسبعون مناظرة (1) مع بعض فضلاء حلب في أمر الصحابة
تكميل جميل وقد بحثت نحو هذا البحث مع بعض فضلاء حلب فتشيع وكان في دغدغة من سب الشيعة بعض الصحابة.
فقلت له: إني لا أسب أحدا منهم ولا أجوزه، والذين يسبون بعضهم ليس السب عندهم من شروط الإيمان، ولو أن مؤمنا لم يسب إبليس والكفار والمنافقين لم يكن ذلك نقصا في إيمانه، نعم لعن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) عندهم من مكملات الإيمان ولو بسبيل الإجمال، فلعن أعداءهم وتبرأ منهم واستمرت دغدغته في تخصيص السب.
فقلت له: أنا أبين لك عذرهم ودليلهم الذي يعتمدونه في جواز سب من يسبونه، ما تقول في الذين قتلوا عثمان؟ وما تقول في طلحة والزبير وعائشة الذين خرجوا على علي وقتل في حربهم نحو ستة عشر ألفا كلهم من الأنصار والمهاجرين وتابعيهم؟
وكذا معاوية لما خرج على علي (عليه السلام) قتل في حربه نحو سبعين ألفا من الأنصار والمهاجرين والتابعين.
ص: 481
فقال: مذهبنا أن ذلك كله كان بالاجتهاد، وهم غير مؤاخذين بل يثابون.
فقلت: إذا جاز الاجتهاد في قتال أخي النبي (صلى اللّه عليه وآله) ووصيه خليفة المسلمين إجماعا، وجاز في قتل عثمان والأنصار والمهاجرين والتابعين جاز في سب بعضهم، مع أن السب إنما هو دعاء والباري إن شاء اللّه لم يقبله، وليس مثل سفك دماء الأنصار والمهاجرين وتابعيهم، وهذا معاوية سفك دماء الأنصار والمهاجرين وسن السب على علي (عليه السلام) وأهل بيته الممدوحين بنص القرآن ونص الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، واستمر ذلك في زمن بني أمية ثمانين سنة، ولم ينقص ذلك من شأنه عندكم، وكذا الشيعة اجتهدوا في سب من اعتقدوا ضلاله لأمور رووها من طرق مخالفيهم وطرقهم، بحيث أفادهم علما يقينا في جواز سبهم فهؤلاء غير مأثومين وإن فرضنا أنهم مخطئون.
فقال: ماذا يروون من ذلك؟
قلت: أشياء كثيرة لا يمكن إنكارها نقلها الفريقان منها تخلف أبي بكر وعمر عن جيش أسامة وقد قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): لعن اللّه من تخلف عن جيش أسامة (1).
فقال: إنما تخلف باجتهاد وشفقة على المسلمين.
فقلت: يقولون هذا خطأ محض لأن الاجتهاد إنما يجوز فيما لا نص فيه وقد قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (2)
ص: 482
فاجتهادهما رد على اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) وهل يتصور عاقل أنهما كانا أعلم من اللّه ورسوله بصلاح المسلمين؟ هذا عمى عن الحق وتلبيس بالشبهات!!
ومنها: منع أبي بكر فاطمة (عليها السلام) من إرثها بحديث تفرد بروايته وليس صريحا بمدعاه، وهو مخالف للقرآن، وقالت له: أفي كتاب اللّه ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئتم شيئا إدا (1)، وإن صح ما رواه يكون النبي (صلى اللّه عليه وآله) قد قصر في تبليغ الرسالة حيث لم ينذر إلا أبا بكر فقط، ولم ينذر أهل بيته وعشيرته كالعباس وولده عبد اللّه، وعلي وفاطمة (عليهما السلام) وهما أولى بالإنذار لقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (2) ومنعها فدك التي أنحلها إياها أبوها وتصرفت فيها في حياته، وشهد لها علي والحسنان وأم أيمن، فرد شهادتهم (3) وهم مطهرون بنص القرآن، فماتت مغضبة عليه (4) وعلى عمر، وأوصت ألا يصليا عليها، وأن تدفن ليلا (5)، وقد قال أبوها (صلى اللّه عليه وآله): فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني (6) ومن آذى رسول اللّه فقد آذى اللّه وقد قال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
ص: 483
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (1).
ومنها: منع عمر النبي (صلى اللّه عليه وآله) من الكتاب الذي أراد أن يكتبه قبل موته وأخبر أننا لا نضل بعده أبدا، - وقال -: دعوه فإنه يهجر (2) حسبنا كتاب ربنا، وهذا رد على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، ولو خاطب أحدنا مثله بذاك لعد مسيئا للأدب فما ظنك بسيد المرسلين ومنعه من هذا الكتاب الذي كان فيه هداية أمته إلى يوم القيامة.
ومن المشهور وصرح عمر به في بعض مجالسه أنه ما منعه من مكاتبته وساعده بعضهم، إلا خوفا من أن ينص على ابن عمه (3) فيزول عنه ما كان قرره
ص: 484
من الطمع في الملك، وكان عبد اللّه بن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب نبينا (1).
ومنها أنه كان يقول: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما (2) وهذا رد صريح على اللّه ورسوله، روى البخاري في صحيحه
ص: 485
عن عمران بن حصين قال: أنزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ولم ينزل قرآن بحرمتها ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء قال أبو عبد اللّه البخاري: يعني عمر. (1) ومنها: أن عثمان ولى أمر المسلمين أقاربه من بني أمية الفساق لمحض القرابة بعد أن نهاه الصحابة حتى أظهروا القتل وشرب الخمر (2) وأنواع المناكير
ص: 486
وضرب عبد اللّه بن مسعود (1) شيخ القراء حتى كسر بعض أضلاعه، وضرب عمار (2) بن ياسر حتى حدث به فتق، ونفى أبا ذر (3) مع عظم شأنهم وتقدمهم في الإسلام، وما ذاك إلا أنهم كانوا ينكرون عليه (4) بعض منكراته، ورد طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الحكم (5) وابنه إلى المدينة وكان النبي (صلى اللّه عليه وآله) قد أخرجهما منها، وكان قد سأل أبا بكر وعمر في أيام خلافتهما بردهما فلم يقبلا، وكانت عائشة من أكبر الباعثين على قتله وتقول: اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا (6)، ونعثل اسم يهودي كانت
ص: 487
تشبهه به، وكانت تخرج قميص رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - وتقول: هذا قميص رسول اللّه - لم يبل وقد أبلى نعثل سنته (1)، فعند ذلك ثار الصحابة وغيرهم عليه وقتلوه.
.... والعجب أن عائشة كانت من أكبر الباعثين على قتله، ولما قتل وصار الأمر إلى علي (عليه السلام) خرجت تطالب بدمه (2) ولما قدمت البصرة خرج إليها أبو الأسود الدؤلي (3) فقال: يا أم المؤمنين، لم جئت؟ قالت: أطالب بدم عثمان،
ص: 488
فقال: أنت لست ولية دمه، أولياء دمه في الشام (1)، وأيضا الذين قتلوه ليسوا في البصرة، وإنما هم في المدينة، وأمثال ذلك مما ورد في كل واحد بخصوصه مما نقله أهل السنة وغيرهم لو ذكرناه لطال.
وأما ما ورد في الصحاح الستة وغيرها من قبائح الصحابة بقول مطلق فكثير جدا، فمنه حديث الحوض، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين يعني مسلم والبخاري في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك قال: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي رؤوسهم اختلجوا فأقول أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ورواه أيضا في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر والمعنى متفق وفي آخره إنه لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (2).
ورواه أيضا في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه وفي آخره زيادة (فأقول: سحقا لمن غير
ص: 489
بعدي).
ورواه أيضا في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة وفي آخره زيادة (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)، وروي مثل ذلك في مسند عائشة بعدة طرق، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر من عدة طرق، ومن مسند أم سلمة من عدة طرق، ومن مسند سعيد بن المسيب من عدة طرق، فهذا وأمثاله كثير، ذم من الرسول لهم ثابت في صحاحكم قد بلغ حد التواتر، وهو غير ما يدعونه من ميل كثير منهم إلى الحياة الدنيا وطلب الملك والرئاسة، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) وآذوهم، وقد ورد في قتل الملوك أبناءهم وقتل أبنائهم لهم ما يقرب من ذلك، وأظهر من ذلك القرآن فقد أخبر بفرارهم (1) من الزحف وهو من أكبر الكبائر قال اللّه تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) إلى قوله: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (2) كانوا أكثر من عشرة آلاف فلم يتخلف معه إلا علي والعباس وابنه الفضل وربيعة وأبو سفيان وهما ابنا الحرث بن عبد المطلب وأسامة بن زيد وعبيدة بن أم أيمن (3) والباقون كلهم أسلموا نبيهم إلى القتل، ولم يخشوا العار ولا النار، ولم يستحيوا من اللّه ولا من رسوله، وهما يشاهدانهم فكيف يستبعد منهم ميلهم إلى الدنيا بعده وطلب الملك، وقد أخبر
ص: 490
النبي (صلى اللّه عليه وآله) بذلك في حديث الحوض.
وقد فر أبو بكر وعمر في عدة مواطن أخر مثل أحد (1) وخيبر (2) كلها متفق عليها بين أهل النقل، ومثل ذلك في القبح بل أقبح ما أخبر عنه بقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) (3)، روى البخاري (4) بسنده إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي (صلى اللّه عليه وآله) فثار الناس إلا اثني عشر رجلا، فأنزل اللّه: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) ففي رواية أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) كان يخطب، وفي أخرى أنه كان قائما في الصلاة، وكانوا إذا أقبلت عير استقبلوها بالطبل والتصفيق وهو المراد باللّهو.
فهذا نص القرآن الذي لا يمكن إنكاره، فإذا كان هذا حالهم وسوء أدبهم
ص: 491
وعدم اعتنائهم بنبيهم وبسماع خطبته وصلاة الجمعة معه، وهما واجبان وهو يشاهدهم ويعلم بهم لأجل تفرج على عير وسماع الطبل ولهو، فهل يبعد منهم أن يخالفوا أمره طلبا للملك والرئاسة بعد وفاته، فليعتبر العاقل فإن في ذلك معتبرا، وأيم اللّه إن بعض المشايخ والوعاظ لو كان مقبلا على أصحابه يعظهم ويخوفهم فسمعوا بلهو أو طبل لاستحوا وهابوا أن يخرجوا لأجل أمر مباح، وإن لم يكن في خروجهم ترك واجب، فما ظنك بمثل سيد المرسلين وسماع خطبته وصلاة الجمعة معه والخروج وهو يشاهدهم أو في الصلاة لأجل تفرج على عير وسماع لهو؟ وعند التحقيق هذا أقبح من فرارهم من الزحف لأن الفرار وإن كان كبيرة، لكن فيه بقاء نفس وأما هذا ففيه من قلة الحياء الجرأة على اللّه وعلى رسوله ما لا يمكن حده ويكفي من ذلك ترجيح التفرج على العير وسماع الطبل واللّهو على سماع خطبة النبي وصلاة الجمعة معه الواجبين فاعتبروا يا أولي الأبصار.
فهل يستبعد ممن هذا شأنه في حياة نبيه وهو يشاهده ميله بعد ذلك إلى الملك والرئاسة وارتكاب إثم لذلك، فهذا وأمثاله وهي كثيرة، عذر الشيعة في سبهم بعض الصحابة الذي ثبت عندهم أنهم فعلوا مثل ذلك وهو عندهم عذر واضح، ولهم مع ذلك كتب مدونة مطولة مشهورة تحتوي على أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تجوز لهم سب من يسبونه، وقد نقل جميع ذلك أهل السنة ولكن يغمضون العين عنه أو يتأولونه بما لا يفيد، ويقولون إنه ما ذكرناه وأمثاله فإن كان كافيا في جواز سبهم فلا لوم، وإلا فغاية الأمر أن يكونوا مجتهدين مخطئين مثل بعض الصحابة والتابعين.
وهذا معاوية وبنو أمية لعنوا عليا (1) ثمانين سنة (2) ولم يفعل شيئا من ذلك،
ص: 492
فلا لوم علينا في السب بعد أن رأينا مثل هذه الأمور بعضها في القرآن، وبعضها في كتب أهل السنة منقولة مصححة، وأما حقائق الأمور فهي موكولة إلى اللّه تعالى وهو يحكم بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
ص: 493
تنبيه نبيه يقضي على جملة ما تكلمنا فيه، لا شك ولا ريب أن لنا مرجعا إلى اللّه وأننا هنا مسؤولون كما ذكر في كتابه المجيد، فإذا قال الباري جل وعز: لم اتبعتم أهل البيت (عليهم السلام) ولم تتبعوا أبا حنيفة؟ قلنا: لأنك طهرتهم في كتابك وجعلت ودهم أجر الرسالة، وأمرنا رسولك المبلغ عنك الذي لا ينطق عن الهوى باتباعهم، وهم أقرب الناس إليه وأعلمهم بسنته وفي بيوتهم نزل الوحي، وقد أجمع الكل على علمهم وطهارتهم، ولم تأمرنا في كتابك ولا على لسان نبيك ولا قام الدليل على وجوب اتباع غيرهم.
وليت شعري إذا سألكم الباري بمثل ذلك هل يكون جوابكم سوى أنه مجتهد؟ فيقول الباري: أهل بيت نبيي أيضا كانوا مجتهدين، فما وجه العدول عنهم بعدما أخبرتكم أنهم مطهرون، وخبركم رسولي أن المتمسك بهم وبكتابي لن يضل أبدا، ولم آمركم ولا رسولي باتباع غيرهم، فلا يكون العدول عنهم إلا للتعصب من أوائلكم واتباع للهوى وميل إلى الحياة، وركون منكم إلى التقليد المألوف، ولا شبهة أن الحق ثقيل، واتباعه يحتاج إلى مزيد إنصاف وترك للهوى والتقليد المألوفين، اللّهم اكفنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ووفقنا للعلم والعمل بما تحبه وترضاه إنك قريب مجيب.
تمت في سنة خمس وتسعين وتسعمائة على يد أفقر عباد اللّه صالح بن محمد بن عبد الإله السلامي غفر اللّه ذنوبهما آمين رب العالمين.
ص: 494
المناظرة الثانية والسبعون: مناظرة أبي جعفر العلوي البصري مع أحد الفقهاء في إيراده لكلام الجويني (1) في أمر الصحابة بكتاب كتبه أحد الزيدية قال ابن أبي الحديد المعتزلي: وحضرت عند النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد، وعنده جماعة، وأحدهم يقرأ في الأغاني لأبي الفرج، فمر ذكر المغيرة بن شعبة (2) وخاض القوم، فذمه بعضهم، وأثنى عليه بعضهم، وأمسك عنه آخرون.
فقال بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على رأي
ص: 495
الأشعري: الواجب الكف والإمساك عن الصحابة، وعما شجر بينهم، فقد قال أبو المعالي الجويني: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) نهى عن ذلك، وقال: «إياكم وما شجر بين صحابتي»، وقال: «دعوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه» (1)، وقال: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم» (2) (3)،
ص: 496
وقال: «خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه» (1)، وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة وعلى التابعين، وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «وما يدريك لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (2)، وقد روي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين، فقال: تلك دماء طهر اللّه منها أسيافنا، فلا نلطخ بها ألسنتنا.
ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها، فلا يليق بنا أن نخوض فيها، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فيه، ومن المروءة أن يحفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في عائشة زوجته، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده.
ص: 497
ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه! وأي ثواب في اللعنة والبراءة! إن اللّه تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصيا ولا آثما، وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة أستغفر اللّه كان خيرا له.
ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة، وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم! أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشؤونه التي تجري بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه! وقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) صهرا لمعاوية، وأخته أم حبيبة تحته، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها.
وكيف يجوز أن يلعن من جعل اللّه تعالى بينه وبين رسوله مودة! أليس المفسرون كلهم قالوا: هذه الآية أنزلت في أبي سفيان وآله، وهي قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (1)! فكان ذلك مصاهرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أبا سفيان وتزويجه ابنته، على أن جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت، وما كان القوم إلا كبني أم واحدة، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع.
فقال أبو جعفر (رحمه اللّه): قد كنت منذ أيام علقت بخطي كلاما وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى نقضا وردا على أبي المعالي الجويني فيما اختاره لنفسه من هذا الرأي، وأنا أخرجه إليكم لأستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا
ص: 498
الفقيه، إني أجد ألما يمنعني من الإطالة في الحديث، لا سيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم.
ثم أخرج من بين كتبه كراسا قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون، وأنا أذكر ها هنا خلاصته.
قال: لولا أن اللّه تعالى أوجب معاداة أعدائه، كما أوجب موالاة أوليائه، وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها، أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه:
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (1)، وبقوله تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) (2) وبقوله سبحانه: (لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (3) ولإجماع المسلمين على أن اللّه تعالى فرض عداوة أعدائه، وولاية أوليائه، وعلى أن البغض في اللّه واجب، والحب في اللّه واجب - لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين، ولا البراءة منه، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا.
ولو ظننا أن اللّه عز وجل يعذرنا إذا قلنا: يا رب غاب أمرهم عنا، فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى، لاعتمدنا على هذا العذر، وواليناهم، ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا: إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي - صلى اللّه عليه وآله - وموالاة من صدقه، ومعاداة من عصاه
ص: 499
وجحده، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية غدا: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (1)! فأما لفظة اللعن فقد أمر اللّه تعالى بها، وأوجبها، ألا ترى إلى قوله: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (2)، فهو إخبار معناه الأمر، كقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) (3)، وقد لعن اللّه تعالى العاصين بقوله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ) (4)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (5)، وقوله: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) (6)، وقال اللّه تعالى لإبليس: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) (7) وقال: (إن اللّه لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا) (8).
فأما قول من يقول: «أي ثواب في اللعن! وإن اللّه تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ وأنه لو جعل مكان لعن اللّه فلانا، اللّهم اغفر لي لكان خيرا له، ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك»، فكلام جاهل لا يدري ما يقول، اللعن طاعة، ويستحق عليها الثواب إذا فعلت
ص: 500
على وجهها، وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفي اللّه، لا في العصبية والهوى، ألا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفي الولد، ونطق بها القرآن، وهو أن يقول الزوج في الخامسة: (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (1) فلو لم يكن اللّه تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وأنه قد تعبدهم بها، لما جعلها من معالم الشرع، ولما كررها في كثير من كتابه العزيز، ولما قال في حق القائل: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) (2)، وليس المراد من قوله: «ولعنه» إلا الأمر لنا بأن نلعنه، ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه، لأن اللّه تعالى لعنه، أفيلعن اللّه تعالى إنسانا ولا يكون لنا أن نلعنه! هذا ما لا يسوغ في العقل، كما لا يجوز أن يمدح اللّه إنسانا إلا ولنا أن نمدحه، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه، وقال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) (3) وقال: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (4)، وقال عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (5).
وكيف يقول القائل: إن اللّه تعالى لا يقول للمكلف: لم لم تلعن؟ ألا يعلم هذا القائل أن اللّه تعالى أمر بولاية أوليائه، وأمر بعداوة أعدائه، فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري! ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بأن يقال له: تلفظ بكلمة الشهادتين، ثم قل: برئت من كل دين يخالف دين الإسلام، فلا بد من البراءة، لأن بها يتم العمل! ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:
ص: 501
تود عدوي ثم تزعم أنني *** صديقك، إن الرأي عنك لعازب
فمودة العدو خروج عن ولاية الولي، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة، لأنه لا يجوز أن يكون الإنسان في درجة متوسطة مع أعداء اللّه تعالى وعصاته بألا يودهم ولا يبرأ منهم بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة.
وأما قوله: لو جعل عوض اللعنة أستغفر اللّه لكان خيرا له، فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه، لأنه يكون عاصيا لله تعالى، مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب اللّه تعالى عليه البراءة منه، وإظهار البراءة، والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الآخر، وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس، فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ، على أن الفرق بينه وبين ترك لعنه رؤوس الضلال في هذه الأمة كمعاوية والمغيرة وأمثالهما، أن أحدا من المسلمين لا يورث عنده الإمساك عن لعن إبليس شبهة في أمر إبليس، والإمساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم، وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب، فلهذا لم يكن الإمساك عن لعن إبليس نظيرا للإمساك عن أمر هؤلاء.
قال: ثم يقال للمخالفين: أرأيتم لو قال قائل: قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، فليس ينبغي أن نخوض في قصتهما، ولا أن نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما، هل كان هذا إلا كقولكم: قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة ابن شعبة وأضرابهما، فليس لخوضنا في قصتهم معنى!
ص: 502
وبعد، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية (1) وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه، وقد غاب عنكم! وبرئتم من قتله، ولعنتموهم! وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه فإنكم لعنتموه وفسقتموه، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر علي والحسن والحسين (عليهم السلام) ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقه وحقوقهما! وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم، ولعن ظالم علي والحسن والحسين (عليهم السلام) تكلفا! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها، ومن القائل لها: يا حميراء، أو إنما هي حميراء، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة (عليها السلام) وما جرى لها بعد وفاة أبيها (صلى اللّه عليه وآله).
فإن قلتم: إن بيت فاطمة (عليها السلام) إنما دخل، وسترها إنما كشف، حفظا لنظام الإسلام، وكيلا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة.
قيل لكم: وكذلك ستر عائشة إنما كشف، وهودجها إنما هتك، لأنها نشرت حبل الطاعة، وشقت عصا المسلمين، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول
ص: 503
علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير (1)، فإذا جاز دخول بيت فاطمة (عليها السلام) لأمر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار، والبراءة من فاعله، ومن أوكد عرا الإيمان، وصار كشف بيت فاطمة (عليها السلام) والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها، وتهددها بالتحريق (2) من أوكد عرا الدين، وأثبت دعائم الإسلام، ومما أعز اللّه به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة، والحرمتان واحدة، والستران واحد، وما نحب أن نقول لكم: إن حرمة فاطمة أعظم، ومكانها أرفع، وصيانتها لأجل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أولى، فإنها بضعة (3) منه، وجزء من لحمه ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنما هي وصلة مستعارة، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة، وكما يملك رق الأمة بالبيع والشراء، ولهذا قال الفرضيون: أسباب التوارث ثلاثة: سبب، ونسب، وولاء، فالنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء: ولاء العتق، فجعلوا النكاح خارجا عن النسب، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين.
وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة (عليها السلام)، وقد أجمع المسلمون كلهم - من يحبها ومن لا يحبها منهم - أنها سيدة نساء العالمين (4).
ص: 504
قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في زوجته، وحفظ أم حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في أهل بيته (عليهم السلام)، ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في صهره وابن عمه عثمان بن عفان، وقد قتلوهم ولعنوهم، ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة، منهم عائشة كانت تقول: اقتلوا نعثلا، لعن اللّه نعثلا (1)، ومنهم عبد اللّه بن مسعود، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب (2) وابنيه حسنا وحسينا (عليهم السلام) وهم أحياء يرزقون بالعراق، وهو يلعنهم بالشام على المنابر، ويقنت عليهم في الصلوات، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة (3) وهو حي، وبرئا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام، ولعن عمر خالد بن الوليد (4) لما قتل مالك بن نويرة، وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.
قال: ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن، لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم، فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبي وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين (عليه السلام)، وأن يحفظ معاوية فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة (5) وقاتل الحسين، ومخيف المسجد الحرام بمكة، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد اللّه ابنه قاتل
ص: 505
الهرمزان، والمحارب عليا (عليه السلام) في صفين.
قال: على أنه لو كان الإمساك عن عداوة من عادى اللّه من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف، ولكن محبة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يضع أحدهم محبته لصاحبه موضع العصبية، وإنما أوجب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) محبة أصحابه لطاعتهم لله، فإذا عصوا اللّه وتركوا ما أوجب محبتهم، فليس عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبتهم، ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم، فلقد كان (صلى اللّه عليه وآله) يحب أن يعادي أعداء اللّه ولو كانوا عترته، كما يحب أن يوالي أولياء اللّه ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه.
والشاهد على ذلك إجماع الأمة على أن اللّه تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وإن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو الذي أمر بذلك ودعا إليه وذلك أنه (صلى اللّه عليه وآله) قد أوجب قطع يد السارق وضرب القاذف، وجلد البكر إذا زنى، وإن كان من المهاجرين أو الأنصار، ألا ترى أنه قال: لو سرقت فاطمة لقطعتها (1)، فهذه ابنته، الجارية مجرى نفسه، لم يحابها في دين اللّه، ولا راقبها في حدود اللّه، وقد جلد أصحاب الإفك (2)، ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر.
قال: وبعد، فلو كان محل أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) محل من لا يعادى إذا عصى اللّه سبحانه ولا يذكر بالقبيح، بل يجب أن يراقب لأجل اسم الصحبة، ويغضى عن عيوبه وذنوبه، لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن
ص: 506
لما اتبع هواه، فانسلخ مما أوتي من الآيات وغوى، قال سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (1)، ولكان ينبغي أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب موسى هذا المحل، لأن هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل اللّه سبحانه.
قال: ولو كانت الصحابة عند أنفسها بهذه المنزلة، لعلمت ذلك من حال أنفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وإذا قدرت أفعال بعضهم ببعض دلتك على أن القصة كانت على خلاف ما قد سبق إلى قلوب الناس اليوم، هذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت، وجميع من كان مع علي (عليه السلام) من المهاجرين والأنصار، لم يروا أن يتغافلوا عن طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم، لم يروا أن يمسكوا عن علي (عليه السلام) حتى قصدوا له كما يقصد للمتغلبين في زماننا.
وهذا معاوية وعمرو لم يريا عليا بالعين التي يرى بها العامي صديقه أو جاره، ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ولعنه ولعن أولاده وكل من كان حيا من أهله، وقتل أصحابه، وقد لعنهما هو أيضا في الصلوات المفروضات، ولعن معهما أبا الأعور السلمي، وأبا موسى الأشعري، وكلاهما من الصحابة، وهذا سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد اللّه بن عمر، وحسان بن ثابت، وأنس بن مالك، لم يروا أن يقلدوا عليا (عليه السلام) في حرب طلحة، ولا طلحة في حرب علي، وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين، لأنهم زعموا أنهم قد خافوا أن يكون علي قد غلط وزل في حربهما، وخافوا أن يكونا قد غلطا وزلا في حرب علي (عليه السلام).
ص: 507
وهذا عثمان قد نفى أبا ذر (1) إلى الربذة (2) كما يفعل بأهل الخنا والريب، وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما - بزعمهما - منه ما وعظاه لأجله، ثم فعل بهما عثمان ما تناهى إليكم، ثم فعل القوم بعثمان ما قد علمتم وعلم الناس كلهم.
وهذا عمر يقول في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو: ها إني ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم، وزعم أنه وأبو بكر كانا يقولان: إن عليا والعباس في قصة الميراث زعما هما كاذبين ظالمين فاجرين، وما رأينا عليا والعباس اعتذرا ولا تنصلا، ولا نقل أحد من أصحاب الحديث ذلك، ولا رأينا أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنكروا عليهما ما حكاه عمر عنهما، ونسبه إليهما، ولا أنكروا أيضا على عمر قوله في أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إنهم يريدون إضلال الناس ويهمون به، ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار (3) ولا كسر ضلع ابن مسعود (4)، ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان، كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة، ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما يعتقده العامة فيها، اللّهم إلا أن يزعموا أنهم أعرف بحق القوم منهم،
ص: 508
وهذا علي وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة يكذبون الرواية: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (1)، ويقولون، إنها مختلقة.
قالوا: وكيف كان النبي (صلى اللّه عليه وآله) يعرف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا ونحن الورثة، ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه، وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنهم النفر الذين توفي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وهو عنهم راض، ثم يأمر بضرب أعناقهم (2) إن أخروا فصل حال الإمامة، هذا بعد أن ثلبهم، وقال في حقهم ما لو سمعته العامة اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان، ثم شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه، فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضا فعمر بن الخطاب أرفض الناس وإمام الروافض كلهم، ثم ما شاع واشتهر من قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى اللّه شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (3)، وهذا طعن في العقد، وقدح في البيعة الأصلية.
ثم ما نقل عنه من ذكر أبي بكر في صلاته، وقوله عن عبد الرحمن ابنه: دويبة سوء ولهو خير من أبيه، ثم عمر القائل في سعد بن عبادة، وهو رئيس الأنصار وسيدها: اقتلوا سعدا، قتل اللّه سعدا (4)، اقتلوه فإنه منافق. وقد شتم أبا
ص: 509
هريرة وطعن في روايته (1)، وشتم خالد بن الوليد (2) وطعن في دينه، وحكم بفسقه وبوجوب قتله، وخون عمرو بن العاص (3) ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفئ واقتطاعه، وكان سريعا إلى المساءة، كثير الجبه والشتم والسب لكل أحد، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه أو يده، ولذلك أبغضوه وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها، فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة! إما أن يكون عمر مخطئا، وإما أن تكون العامة على الخطأ!
فإن قالوا: عمر ما شتم ولا ضرب، ولا أساء إلا إلى عاص مستحق لذلك، قيل لهم: فكأنا نحن نقول: إنا نريد أن نبرأ ونعادي من لا يستحق البراءة والمعاداة، كلا ما قلنا هذا ولا يقول هذا مسلم ولا عاقل.
وإنما غرضنا الذي إليه نجري بكلامنا هذا أن نوضح أن الصحابة قوم من الناس لهم ما للناس، وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم من المسلمين كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات، فقربت اعتقاداتهم من الضرورة، ونحن لم نشاهد ذلك، فكانت عقائدنا محض النظر والفكر، وبعرضية الشبه والشكوك، فمعاصينا أخف لأنا أعذر.
ثم نعود إلى ما كنا فيه فنقول: وهذه عائشة أم المؤمنين، خرجت بقميص
ص: 510
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقالت للناس: هذا قميص رسول اللّه لم يبل، وعثمان قد أبلى سنته (1)، ثم تقول: اقتلوا نعثلا، قتل اللّه نعثلا، ثم لم ترض بذلك حتى قالت: أشهد أن عثمان جيفة على الصراط غدا. فمن الناس من يقول: روت في ذلك خبرا، ومن الناس من يقول: هو موقوف عليها، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقا. ثم قد حصر عثمان، حصرته أعيان الصحابة، فما كان أحد ينكر ذلك، ولا يعظمه ولا يسعى في إزالته، وإنما أنكروا على ما أنكر على المحاصرين له، وهو رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ثم من أشرافهم، ثم هو أقرب إليه من أبي بكر وعمر، وهو مع ذلك إمام المسلمين، والمختار منهم للخلافة، وللإمام حق على رعيته عظيم، فإن كان القوم قد أصابوا فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها به العامة، وإن كانوا ما أصابوا فهذا هو الذي نقول، من أن الخطأ جائز على آحاد الصحابة، كما يجوز على آحادنا اليوم. ولسنا نقدح في الإجماع، ولا ندعي إجماعا حقيقيا على قتل عثمان، وإنما نقول: إن كثيرا من المسلمين فعلوا ذلك والخصم يسلم أن ذلك كان خطأ ومعصية، فقد سلم أن الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي، وهو المطلوب.
وهذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة، ادعي عليه الزنا، وشهد عليه قوم بذلك (2)، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال: هذا محال وباطل لأن هذا صحابي من صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا يجوز عليه الزنا، وهلا أنكر عمر على الشهود وقال لهم:
ص: 511
ويحكم هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك، فإن اللّه تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأوجب الستر عليهم! وهلا تركتموه لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في قوله «دعوا لي أصحابي»، ما رأينا عمر إلا قد انتصب لسماع الدعوى، وإقامة الشهادة، وأقبل يقول للمغيرة: يا مغيرة، ذهب ربعك، يا مغيرة، ذهب نصفك، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك، حتى اضطرب الرابع، فجلد الثلاثة. وهلا قال المغيرة لعمر: كيف تسمع في قول هؤلاء، وليسوا من الصحابة، وأنا من الصحابة، ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1)! ما رأيناه قال ذلك، بل استسلم لحكم اللّه تعالى. وها هنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل، قدامة بن مظعون، لما شرب الخمر في أيام عمر، فأقام عليه الحد، وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر، والمشهود لهم بالجنة، فلم يرد عمر الشهادة، ولا درأ عنه الحد لعلة أنه بدري، ولا قال: قد نهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ذكر مساوئ الصحابة، وقد ضرب عمر أيضا ابنه حدا فمات (2)، وكان ممن عاصر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحد عليه.
وهذا علي (عليه السلام) يقول: ما حدثني أحد بحديث عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إلا استحلفته عليه (3)، أليس هذا اتهاما لهم بالكذب! وما استثنى أحدا من المسلمين إلا أبا بكر على ما ورد في الخبر، وقد صرح غير مرة بتكذيب أبي هريرة، وقال: لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقال أبو بكر في مرضه الذي
ص: 512
مات فيه: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أعلن علي الحرب (1) فندم، والندم لا يكون إلا عن ذنب.
ثم ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي (عليه السلام) عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة، فإن كان مصيبا فأبو بكر على الخطأ في انتصابه في الخلافة، وإن كان أبو بكر مصيبا فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد.
ثم قال أبو بكر في مرض موته أيضا للصحابة: فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم لذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له، لما رأيتم الدنيا قد جاءت، أما واللّه لتتخذن ستائر الديباج، ونضائد الحرير (2).
أليس هذا طعنا في الصحابة، وتصريحا بأنه قد نسبهم إلى الحسد لعمر، لما نص عليه بالعهد! ولقد قال له طلحة لما ذكر عمر الأمر: ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده، وقد وليت عليهم فظا غليظا! فقال أبو بكر: أجلسوني، باللّه تخوفني! إذا سألني قلت: وليت عليهم خير أهلك (3)، ثم شتمه بكلام كثير منقول، فهل قول طلحة إلا طعن في عمر، وهل قول أبي بكر إلا طعن في طلحة!
ثم الذي كان بين أبي بن كعب وعبد اللّه بن مسعود من السباب حتى نفى كل واحد منهما الآخر عن أبيه، وكلمة أبي بن كعب مشهورة منقولة: ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم، وقوله: ألا هلك أهل العقيدة، واللّه ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس.
ص: 513
ثم قول عبد الرحمن بن عوف: ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان: يا منافق، وقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي: وقوله: اللّهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك فافعل به وافعل.
وقال عثمان لعلي (عليه السلام) في كلام دار بينهما: أبو بكر وعمر خير منك، فقال علي: كذبت، أنا خير منك ومنهما، عبدت اللّه قبلهما، وعبدته بعدهما (1).
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قال: كنت عند عروة بن الزبير، فتذاكرنا كم أقام النبي بمكة بعد الوحي؟ فقال عروة: أقام عشرا، فقلت: كان ابن عباس يقول: ثلاث عشرة، فقال: كذب ابن عباس.
وقال ابن عباس: المتعة حلال، فقال له جبير بن مطعم: كان عمر ينهى عنها، فقال: يا عدي نفسه، من ها هنا ضللتم، أحدثكم عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وتحدثني عن عمر!
وجاء في الخبر عن علي (عليه السلام)، لولا ما فعل عمر بن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي (2)، وقيل: ما زنى إلا شفا، أي قليلا.
فأما سب بعضهم بعضا وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية فأكثر من
ص: 514
أن يحصى، مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه القول في الفرائض: إن شاء - أو قال: من شاء - باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث!
ومثل قول أبي بن كعب في القرآن: لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب.
وقال علي (عليه السلام) في أمهات الأولاد وهو على المنبر: كان رأيي ورأي عمر ألا يبعن، وأنا أرى الآن بيعهن، فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، وكان أبو بكر يرى التسوية في قسم الغنائم، وخالفه عمر وأنكر فعله.
وأنكرت عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وقالت: فروج يصقع مع الديكة.
وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف، وسفهوا رأيه حتى قيل: إنه تاب من ذلك عند موته، واختلفوا في حد شارب الخمر حتى خطأ بعضهم بعضا.
وروى بعض الصحابة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار، والفرس (1)، فأنكرت عائشة ذلك، وكذبت الراوي وقالت: إنه إنما قال (صلى اللّه عليه وآله) ذلك حكاية عن غيره (2).
ص: 515
وروى بعض الصحابة عنه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: التاجر فاجر، فأنكرت عائشة ذلك، وكذبت الراوي وقالت: إنما قاله (عليه السلام) في تاجر دلس.
وأنكر قوم من الأنصار رواية أبي بكر: «الأئمة من قريش» (1) ونسبوه إلى افتعال هذه الكلمة.
وكان أبو بكر يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة كبلال وصهيب ونحوهما، قد روي ذلك في عدة قضايا.
وقيل لابن عباس: إن عبد اللّه بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، فقال: كذب عدو اللّه! أخبرني أبي بن كعب، قال: خطبنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وذكر كذا، بكلام يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل.
وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ينهى عن ذلك، فقال معاوية: أما أنا فلا أرى به بأسا، فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية! أخبره عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وهو يخبرني عن رأيه! واللّه لا أساكنك بأرض أبدا.
وطعن ابن عباس في أبي هريرة، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الإناء حتى يتوضأ»، وقال: فما نصنع بالمهراس (2)! وقال علي (عليه السلام) لعمر وقد أفتاه الصحابة في مسألة وأجمعوا عليها: إن كانوا راقبوك فقد غشوك، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا.
ص: 516
وقال ابن عباس: ألا يتقي اللّه زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا! وقالت عائشة: أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أحبط جهاده مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
وأنكرت الصحابة على أبي موسى قوله: إن النوم لا ينقض الوضوء، ونسبته إلى الغفلة وقلة التحصيل، وكذلك أنكرت على أبي طلحة الأنصاري قوله: إن أكل البرد لا يفطر، وهزئت به ونسبته إلى الجهل.
وسمع عمر، عبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد، فصعد المنبر وقال: إذا اختلف اثنان من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع رجلين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت.
وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة، وعلي (عليه السلام) يأمر بها، فقلت: إن بينكما لشرا، فقال علي (عليه السلام): ليس بيننا إلا الخير، ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين.
قال هذا المتكلم: وكيف يصح أن يقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1)، لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى، وأن يكون أهل العراق أيضا على هدى، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتديا، وقد صح الخبر الصحيح أنه قال له: «تقتلك الفئة الباغية» (2)، وقال
ص: 517
في القرآن: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (1)، فدل على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي، مفارقة لأمر اللّه، ومن يفارق أمر اللّه لا يكون مهتديا.
وكان يجب أن يكون بسر بن أرطأة الذي ذبح ولدي عبيد اللّه بن عباس الصغيرين (2) مهتديا، لأن بسرا من الصحابة أيضا، وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليا أدبار الصلاة وولديه مهتديين، وقد كان في الصحابة من يزني ومن يشرب الخمر كأبي محجن الثقفي، ومن يرتد عن الإسلام كطليحة ابن خويلد، فيجب أن يكون كل من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتديا.
ص: 518
قال: وإنما هذا من موضوعات متعصبة الأموية، فإن لهم من ينصرهم بلسانه، وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.
وكذا القول في الحديث الآخر، وهو قوله: «القرن الذي أنا فيه»، ومما يدل على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، وهو أحد القرون التي ذكرها في النص، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين، وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه والمنتصبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد، وأريقت الدماء الحرام، وقتل المسلمون، وسبي الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجاج. وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرا كلها لا خير فيها، ولا في رؤسائها وأمرائها، والناس برؤسائهم وأمرائهم، والقرن خمسون سنة، فكيف يصح هذا الخبر.
قال: فأما ما ورد في القرآن من قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (1)، وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (2).
وقول النبي (صلى اللّه عليه وآله): إن اللّه اطلع على أهل بدر، إن كان الخبر صحيحا فكله مشروط بسلامة العاقبة، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفا غير معصوم بأنه لا عقاب عليه، فليفعل ما شاء.
قال هذا المتكلم: ومن أنصف وتأمل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا، يجوز
ص: 519
عليهم ما يجوز علينا، ولا فرق بيننا وبينهم إلا بالصحبة لا غير، فإن لها منزلة وشرفا ولكن لا إلى حد يمتنع على كل من رأى الرسول أو صحبه يوما أو شهرا أو أكثر من ذلك أن يخطئ ويزل، ولو كان هذا صحيحا ما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء، بل كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من أول يوم يعلم كذب أهل الإفك، لأنها زوجته، وصحبتها له آكد من صحبة غيرها، وصفوان بن المعطل أيضا كان من الصحابة، فكان ينبغي ألا يضيق صدر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولا يحمل ذلك الهم والغم الشديدين اللذين حملهما ويقول: صفوان من الصحابة، وعائشة من الصحابة، والمعصية عليهما ممتنعة.
وأمثال هذا كثير، وأكثر من الكثير، لمن أراد أن يستقرئ أحوال القوم، وقد كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم مثل هذا القول، وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك.
قال: ومن الذي يجترئ على القول بأن أصحاب محمد لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول اللّه تعالى للذي شرفوا برؤيته: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (1) بعد قوله: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (2) وبعد قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (3)، إلا من لا فهم له ولا نظر معه، ولا تمييز عنده.
قال: ومن أحب أن ينظر إلى اختلاف الصحابة، وطعن بعضهم في بعض
ص: 520
ورد بعضهم على بعض، وما رد به التابعون عليهم واعترضوا به أقوالهم، واختلاف التابعين أيضا فيما بينهم، وقدح بعضهم في بعض، فلينظر في كتاب النظام (1)، قال الجاحظ: كان النظام أشد الناس إنكارا على الرافضة، لطعنهم على الصحابة، حتى إذا ذكر الفتيا وتنقل الصحابة فيها، وقضاياهم بالأمور المختلفة، وقول من استعمل الرأي في دين اللّه، انتظم مطاعن الرافضة وغيرها، وزاد عليها، وقال في الصحابة أضعاف قولها.
قال: وقال بعض رؤساء المعتزلة: غلط أبي حنيفة في الأحكام عظيم، لأنه أضل خلقا، وغلط حماد (2) أعظم من غلط أبي حنيفة، لأن حمادا أصل أبي حنيفة الذي منه تفرع، وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حماد، لأنه أصل حماد وغلط علقمة (3) والأسود (4) أعظم من غلط إبراهيم لأنهما أصله الذي عليه اعتمد، وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا، لأنه أول من بدر إلى وضع الأديان برأيه، وهو الذي قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فمني.
قال: واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة (5) بخراسان حيث كان مع الرشيد بن المهدي، فسألوه كتابه الذي صنفه على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي، فقال: لست على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب، وإنما كتبته على علقمة والأسود وعبد اللّه بن مسعود لأنهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة.
ص: 521
قال: وكان بعض المعتزلة أيضا إذا ذكر ابن عباس استصغره وقال: صاحب الذؤابة يقول في دين اللّه برأيه.
وذكر الجاحظ في كتابه المعروف «بكتاب التوحيد» أن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: ولم يكن علي (عليه السلام) يوثقه في الرواية، بل يتهمه، ويقدح فيه، وكذلك عمر وعائشة (1).
وكان الجاحظ يفسق عمر بن عبد العزيز ويستهزئ به ويكفره، وعمر بن عبد العزيز وإن لم يكن من الصحابة فأكثر العامة يرى له من الفضل ما يراه لواحد من الصحابة.
وكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد من الصحابة عدل، ومن جملة الصحابة الحكم بن أبي العاص! وكفاك به عدوا مبغضا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)! ومن الصحابة الوليد بن عقبة الفاسق بنص الكتاب، ومنهم حبيب بن مسلمة الذي فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية، وبسر بن أبي أرطأة عدو اللّه وعدو رسوله، وفي الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم الناس، وقال كثير من المسلمين: مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولم يعرفه اللّه سبحانه كل المنافقين بأعيانهم، وإنما كان يعرف قوما منهم، ولم يعلم بهم أحدا إلا حذيفة فيما زعموا، فكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد ممن صحب رسول اللّه أو رآه أو عاصره عدل مأمون، لا يقع منه خطأ ولا معصية، ومن الذي يمكنه أن يتحجر واسعا كهذا التحجر، أو يحكم هذا الحكم!
قال: والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون على معاصي الأنبياء، ويثبتون أنهم عصوا اللّه تعالى، وينكرون على من ينكر ذلك، ويطعنون
ص: 522
فيه، ويقولون: قدري معتزلي، وربما قالوا: ملحد مخالف لنص الكتاب، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب، فتارة يقولون: إن يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة، وتارة يقولون: إن داود قتل أوريا لينكح امرأته، وتارة يقولون: إن رسول اللّه كان كافرا ضالا قبل النبوة، وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر.
فأما قدحهم في آدم (عليه السلام)، وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من يذكر ذلك فهو دأبهم وديدنهم، فإذا تكلم واحد في عمرو بن العاص أو في معاوية وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح، احمرت وجوههم، وطالت أعناقهم، وتخازرت أعينهم، وقالوا: مبتدع رافضي، يسب الصحابة، ويشتم السلف، فإن قالوا: إنما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب، قيل لهم: فاتبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب، فإنه تعالى قال: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (1)، وقال: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (2)، وقال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (3).
ثم يسألون عن بيعة علي (عليه السلام) هل هي صحيحة لازمة لكل الناس؟ فلا بد من «بلى»، فيقال لهم: فإذا خرج على الإمام الحق خارج أليس يجب على المسلمين قتاله حتى يعود إلى الطاعة؟ فهل يكون هذا القتال إلا البراءة التي نذكرها لأنه لا فرق بين الأمرين، وإنما برئنا منهم لأنا لسنا في زمانهم، فيمكننا أن
ص: 523
نقاتل بأيدينا، فقصارى أمرنا الآن أن نبرأ منهم ونلعنهم، وليكون ذلك عوضا عن القتال الذي لا سبيل لنا إليه.
قال هذا المتكلم: على أن النظام وأصحابه ذهبوا إلى أنه لا حجة في الإجماع، وأنه يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ والمعصية، وعلى الفسق، بل على الردة، وله كتاب موضوع في الإجماع يطعن فيه في أدلة الفقهاء، ويقول: إنها ألفاظ غير صريحة في كون الإجماع حجة، نحو قوله: (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (1) وقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (2) وقوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (3).
وأما الخبر الذي صورته: «لا تجتمع أمتي على الخطأ» (4) فخبر واحد، وأمثل دليل للفقهاء قولهم: إن الهمم المختلفة، والآراء المتباينة، إذا كان أربابها كثيرة عظيمة، فإنه يستحيل اجتماعهم على الخطأ، وهذا باطل باليهود والنصارى وغيرهم من فرق الضلال.
هذه خلاصة ما كان النقيب أبو جعفر علقه بخطه من الجزء الذي أقرأناه (5).
ص: 524
قال الشيخ محمد الاشتهاردي: أذكر التقيت مرة بأحد علماء الشافعية، وكان ضليعا في فهم الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، فبدأ اعتراضه على الشيعة بهذا السؤال:
إن الشيعة يطعنون ويسبون أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وهذا خلاف ما نص به القرآن الكريم، لأن بنص القرآن الكريم أن اللّه سبحانه راض عنهم، فالذي يقع مورد رضى اللّه لا يجوز لعنه وسبه، والآية التي نزلت بهذا الشأن هي الآية 18 من سورة الفتح حيث يقول اللّه سبحانه (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) .
نزلت هذه الآية الشريفة في شهر ذي الحجة من السنة السادسة من الهجرة عندما أراد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يخرج من المدينة إلى مكة معتمرا مع ألفي وأربعمائة من المسلمين فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير و...
ولما بلغ بعسفان قرب مكة، علمت قريش بمسيرة النبي (صلى اللّه عليه وآله) فخرجوا ليمنعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) والمسلمين من الدخول إلى مكة، فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن
ص: 525
يسلكوا طريقا يوصلهم إلى الحديبية لاحتواءها على الماء والأشجار ويهبطوا فيها، وكانت الحديبية تبعد عن مكة عشرون كيلومترا، وليعلم ما يكون أمره مع قريش.
ثم أرسل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عثمانا إلى مكة وأشراف قريش فيذاكرهم حول مجئ النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وبعد فترة بلغ أن عثمان قد قتل، قال (صلى اللّه عليه وآله): لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. (1)
وبايع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) المسلمين، أن يدافعوا عن الإسلام إلى آخر لحظة، ولم يمضي وقت حتى رجع عثمان سالما، وأرعبت هذه البيعة قريشا فأرسلوا سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقالوا له: أئت محمدا فصالحه، فكان صلح الحديبية، وقالوا: أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة (2).
فعندها نزلت الآية 181 من سورة الفتح، ورضى اللّه عن الذين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، إذا فالأصحاب الذين رضي اللّه عنهم لا يجوز الطعن فيهم!! فقلت: أولا: إن هذه الآية المباركة تنحصر بالذين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ولا تشمل الآخرين.
ثانيا: إن هذه الآية لا تشمل المنافقين الذين حضروا البيعة أمثال: عبد اللّه بن أبي، وأوس بن خولي و... لأن جملة «رضى اللّه عن المؤمنين» أخرجتهم عن كونهم مؤمنين.
ثالثا: الآية المذكورة تشير إلى الذين كانوا في زمن البيعة ورضي اللّه عنهم،
ص: 526
وليس معناها أن اللّه رضي عنهم إلى الأبد.
وبهذا الدليل نقرأ في الآية العاشرة من هذه السورة المباركة: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) ، فدلت الآية على احتمال أن ينكث بعض الصحابة الحاضرين للبيعة بيعتهم، كما حصل بعد ذلك من قبل بعضهم، فعليه إن آية الرضوان لا تدل على الرضا الأبدي عن الذين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، بل يحتمل أمران، فريق يبقي بيعته، وفريق ينكث بيعته. (1)
ص: 527
قال السيد علي البطحائي: ذهبت مع عدد من الأصدقاء إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وأهدينا لعلمائها عدة من كتب الشيعة، واتصلنا بعميد الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز ثم بعد السلام وإهداء التحيات قال الشيخ: صحابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) كلهم عدول وجاهدوا في سبيل اللّه.
قلت: على ما تقول، لا يبقى مورد لثلث القرآن، لأن الآيات الراجعة إلى المنافقين كثيرة، إن صحابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) مثل سائر الناس، فيهم الطيب وغير الطيب والعادل والفاسق.
ثم ذهب الشيخ، وجاء عدد من العلماء والمدرسين من الجامعة الإسلامية للبحث والمناظرة، فسألت عن واحد منهم - اسمه الشيخ عبد اللّه - ما تقولون في هذه الرواية الواردة في صحيح البخاري في المجلد الأول وفي المجلد التاسع عن ابن عباس لما اشتد بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) وجعه، قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) غلبه الوجع، وعندنا كتاب اللّه حسبنا، وكثر اللغط فقال الرسول (صلى اللّه عليه وآله): قوموا عني لا ينبغي عند نبي تنازع، فخرج ابن عباس
ص: 528
يقول: إن الرزية كل الرزية مال حال بين رسول اللّه وبين كتابته. (1)
قلت للعلماء: أي شئ يريد أن يكتب نبي الرحمة، وما معنى قول عمر: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) غلبه الوجع، هل معناه أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ليست له مشاعر ولا يفهم شيئا، وإذا كان كذلك، هل تطيب نفس إنسان أن يقول في شخص الرسول الأعظم الذي يقول القرآن في حقه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (2) أنه غلبه الوجع وليست له مشاعر.
قال الشيخ عبد اللّه - واحد من المدرسين في الجامعة الإسلامية -: أن معنى قول عمر أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في شدة المرض لا تزاحموه حتى يصحو ويكتب الوصية.
قلت: هذا المعنى ينافي كلمة (فاختلفوا) في الرواية، وكلمة (وكثر اللغط) وقول الرسول (صلى اللّه عليه وآله): (قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع)، لأن الظاهر أنه وقع النزاع في محضر الرسول وإذا كان معنى قوله: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في شدة المرض لا تزاحموه ما كان يقع التنازع والقيل والقال والاختلاف في محضر الرسول، وأيضا فما معنى قول ابن عباس (رضي اللّه عنه): إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه وبين كتابته، وما معنى تأسف ابن عباس إلا من جهة حيلولة عمر بين الرسول والكتابة.
ثم قلت للشيخ عبد اللّه: أنا وأنت جئنا من لندن؟! لا نعرف معاني اللغة
ص: 529
العربية فلنذهب عند الحمالين والبقالين من أهل المدينة نسأل معنى الرواية منهم.
قال: بحمد اللّه أنت عالم ديني تعرف كل شئ، ثم قال لي: أنت أكملت إيمانك من أصول الكافي؟
قلت: أنا أكملت إيماني من صحيح البخاري من أمثال هذه الرواية، مضافا إلى أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) طلب منهم الإتيان بكتاب يكتب لهم، لا أن الناس طلبوا منه (صلى اللّه عليه وآله) الكتابة. (1)
ص: 530
الأستاذ الشيعي: نحن نعتقد، أن الإمامة والخلافة هي نيابة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في زعامة ورئاسة الدين والدنيا، لأن خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) والقائم بمقامه لا بد أن يسعى نحو ترسيخ ونشر أحكام الإسلام وصيانته للشريعة المقدسة، والقضاء على شتى أنواع الفتن والمفاسد، وإقامة حدود اللّه، ولا يليق هذا المقام الشريف لكل أحد، سوى الذين يمتلكون القيم الإسلامية العالية، من التقوى، والجهاد والعلم والهجرة والزهد، والسيرة الحسنة، والحنكة السياسية، والعدالة والشجاعة، وسعة الصدر، وعلو الهمة، والأخلاق الفاضلة، وهذه الفضائل لا يمتلكها سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبشهادة التاريخ والروايات المستفيضة من علماء الفريقين.
الأستاذ السني: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم» (1).
إذن بأي فرد من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) اقتدينا فقد اهتدينا.
الأستاذ الشيعي: مع غض النظر عن سند هذا الحديث، فهو مجعول وساقط عن الاعتبار، لوجود عدة أدلة قاطعة وأن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم ينطق به، ولم يتفوه به.
ص: 531
الأستاذ السني: بأي دليل؟
الأستاذ الشيعي: أدلة نفي هذا الحديث كثيرة. منها:
1 - عندما يضل المسافرون في الليل جادتهم الأصلية، فهناك ملايين من النجوم من السماء، ولو اختاروا أيا منها حسب أهوائهم لما اهتدوا أبدا، بل إن النجوم التي تهدي إلى جادة الصواب هي نجوم خاصة، ومعروفة تتميز عن بقية النجوم، وعلى ضوئها يعثر المسافرون في الليل على مرادهم وطريقهم.
2 - هذا الحديث يتناقض مع عشرات الأحاديث، مثل حديث الثقلين، وحديث الخلفاء الاثني عشر من قريش، وحديث «عليكم بالأئمة من أهل بيتي»، وحديث «أهل بيتي كالنجوم»، وحديث السفينة: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح...»، وحديث «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف» (1).
فضلا عن أن الحديث المذكور أعلاه قد نقلته طائفة خاصة من المسلمين، أما الأحاديث المخالفة له فقد نقلتها جميع طوائف المسلمين.
3 - الحوادث الواقعة بعد رحلة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بين الأصحاب واختلافهم، لا تتلائم مع الحديث المذكور، لأن ارتداد بعض الأصحاب، وطعن بعضهم البعض كطعن أكثر الصحابة في خلافة عثمان الذي انتهى إلى قتله.
كما أن هذا الحديث لا يتلائم مع لعن بعض الصحابة بعضا، كأمر معاوية بسب علي (عليه السلام) (2)، وكذلك لا يتلائم مع قتال الصحابة بعضهم بعضا، كما حارب
ص: 532
طلحة والزبير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في حرب الجمل، ومعاوية في صفين، وكما لا يتلائم بصدور بعض الذنوب الكبيرة من الصحابة مثل الزنا وشرب الخمر والسرقة حيث أقيمت حدود على بعضهم، أمثال (الوليد بن عقبة، والمغيرة بن شعبة...).
وعلى سبيل المثال: إن عليا (عليه السلام) ومعاوية كانا من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقاتل بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا، فكيف يمكن مع اعتبار الحديث المذكور، إذا اقتدينا بأيهما اهتدينا؟
وهل الاقتداء ب «بسر بن أرطأة» الذي كان من أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وآله)، والذي سفك دماء الآلاف من الأبرياء من المسلمين، سبب الهداية؟، وهل الاقتداء بالمنافقين الذين عاصروا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مع كثرتهم في المدينة سبب الهداية؟ وهل الاقتداء بمروان بن الحكم الذي قتل طلحة سبب الهداية؟ وهل الاقتداء بالحكم أبي مروان الذي كان من الأصحاب، وكان يستهزء بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) سبب الهداية؟
فالعمل بالحديث المذكور المختلق «أصحابي كالنجوم» مع ما نلمسه من الواقع الخارجي، ويحكيه التاريخ لنا أمر مضحك وغريب!!
الأستاذ السني: المقصود من الأصحاب، الأصحاب الحقيقيين المخلصين للنبي (صلى اللّه عليه وآله)، لا المنافقين والكاذبين.
الأستاذ الشيعي: إن كنت تقصد أمثال: سلمان وأبو ذر، ومقداد، وعمار دون سواهم، مع اعتبارك غيرهم، بقي الأشكال والاختلاف بيننا مستحكما،
ص: 533
والأفضل التمسك بتلك الأحاديث التي تخلو من الإشكال، والواضحة كحديث الثقلين، وحديث السفينة، الواردة في إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وعلى هذا الأساس جاء في الروايات: أنه عندما قصد سلمان المدائن التقى بالأشعث وجرير، وكانا يجهلانه، لكن سرعان ما عرف نفسه، قائلا: «أنا سلمان، من صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)»، ثم قال: «إعلما، إنما صاحبه من دخل معه الجنة» (1)، وبعبارة أوضح: إن الصحابي هو الذي يسير على نهج النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى آخر لحظة من حياته الإيمانية، ولا يستبدله بمنهج آخر، ولا ينحرف عن الأحكام الإلهية قط (2).
ص: 534
قال الدكتور التيجاني: كنت يوما في العاصمة التونسية (1) داخل مسجد عظيم من مساجدها، وبعد أداء فريضة الصلاة جلس الإمام وسط حلقة من المصلين وبدأ درسه بالتنديد والتكفير لأولئك الذين يشتمون أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وآله) واسترسل في حديثه قائلا:
إياكم من الذين يتكلمون في أعراض الصحابة بدعوى البحث العلمي والوصول لمعرفة الحق، فأولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، إنهم يريدون تشكيك الناس في دينهم، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «إذا وصل بكم الحديث إلى أصحابي فأمسكوا، فواللّه لو أنفقتم مثل أحد ذهبا لما بلغتم معشار أحدهم» (2).
وقاطعه أحد المستبصرين كان يصحبني قائلا: هذا الحديث غير صحيح وهو مكذوب على رسول اللّه!
ص: 535
وثارت ثائرة الإمام وبعض الحاضرين والتفتوا إلينا منكرين مشمئزين، فتداركت الموقف متلطفا مع الإمام وقلت له: يا سيدي الشيخ الجليل، ما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في القرآن قوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (1).
وما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في صحيح البخاري (2) وفي صحيح مسلم (3) قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لأصحابه: « سيؤخذ بكم يوم القيامة إلى ذات الشمال، فأقول: إلى أين؟ فيقال: إلى النار واللّه، فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي، ولا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم » (4).
وكان الجميع يستمعون إلي في صمت رهيب، وسألني بعضهم: إن كنت واثقا من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري؟
وأجبتهم: نعم كوثوقي بأن اللّه واحد لا شريك له، ومحمدا عبده ورسوله.
ولما عرف الإمام تأثيري في الحاضرين من خلال حفظي للأحاديث التي رويتها قال في هدوء: نحن قرأنا على مشايخنا رحمهم اللّه تعالى بأن الفتنة نائمة فلعن اللّه من أيقظها.
فقلت: يا سيدي الفتنة عمرها ما نامت، ولكنا نحن النائمون، والذي
ص: 536
يستيقظ منا ويفتح عينيه ليعرف الحق تتهمونه بأنه أيقظ الفتنة، وعلى كل حال فإن المسلمين مطالبون باتباع كتاب اللّه وسنة رسوله (صلى اللّه عليه وآله)، لا بما يقوله مشايخنا الذين يترضون على معاوية ويزيد وابن العاص.
وقاطعني الإمام قائلا: وهل أنت لا تترضى عن سيدنا معاوية، كاتب الوحي؟
قلت: هذا موضوع يطول شرحه، وإذا أردت معرفة رأيي في ذلك، فأنا أهديك كتابي «ثم اهتديت» (1) لعله يوقظك من نومك ويفتح عينيك على بعض الحقائق وتقبل الإمام كلامي وهديتي بشئ من التردد، ولكنه وبعد شهر واحد كتب إلي رسالة لطيفة يحمد اللّه فيها أن هداه إلى صراطه المستقيم وأظهر ولاء وتعلقا بأهل البيت (عليهم السلام) وطلبت منه نشر رسالته في الطبعة الثالثة لما فيها من معاني الود وصفاء الروح التي متى ما عرفت الحق تعلقت به وهي تعبر عن حقيقة أكثر أهل السنة الذين يميلون إلى الحق بمجرد رفع الستار.
ولكنه طلب مني كتم الرسالة وعدم نشرها، لأنه لا بد له من الوقت الكافي حتى يقنع المجموعة التي تصلي خلفه، وهو يحبذ أن تكون دعوته سلمية بدون هرج ومرج حسب تعبيره (2).
ص: 537
ص: 538
ص: 539
ص: 540
قال الدكتور التيجاني في رسالته التي أرسلها إلى السيد أبي الحسن الندوي العالم الهندي - معتذرا له عن عدم زيارته له في الهند -:
سيدي العزيز قدمت إلى الهند في زيارة قصيرة، وكان أملي أن التقي بحضرتكم لما أسمعه عنكم، ولما أعلمه بأنكم المشار إليه بين أهل السنة والجماعة عندكم، ولكن عاقني عن ذلك بعد المسافة وضيق الوقت، واكتفيت بزيارة مدينة بومباي وبونة وجبل بور وبعض المدن الأخرى في كوجراتي، وتألمت كثيرا لما شاهدته في الهند من عداوة وبغضاء بين أهل السنة والجماعة وإخوانهم المسلمين من الشيعة.
وقد كنت أسمع بأنهم يتحاربون ويتقاتلون أحيانا، وتسفك دماء بريئة من الطرفين باسم الإسلام، ولم أكن أصدق، معتقدا بأنه مبالغة في التشويه، ولكن ما شاهدته وما سمعته خلال زيارتي يبعث حقا على الحيرة والاستغراب، وأيقنت بأن هناك نوايا خسيسة ومؤامرات خطيرة تحاك ضد الإسلام والمسلمين، للقضاء عليهم جميعا سنة وشيعة، ومما زاد يقيني وضوحا وعلمي رسوخا تلك المقابلة التي دارت بيني وبين مجموعة من علماء أهل السنة يتقدمهم الشيخ
ص: 541
عزيز الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية، وكان اللقاء في مسجدهم ب «بومباي» وبدعوة منهم.
وما أن حللت بينهم حتى بدأ الازدراء والتهكم والسب واللعن لشيعة آل البيت (عليهم السلام) وقد أرادوا بذلك استفزازي وإثارتي، لعلمهم مسبقا بأني قد ألفت كتابا يدعو للتمسك بمذهب أهل البيت - سلام اللّه عليهم - ولكني فهمت قصدهم، وتمالكت أعصابي وابتسمت لهم قائلا: أنا ضيف عندكم وأنتم الذين دعوتموني فجئتكم مسرعا ملبيا، فهل دعوتموني لتسبوني وتشتموني، وهل هذه هي الأخلاق التي علمكم إياها الإسلام؟؟
فأجابوني بكل صلافة، بأني لم أكن يوما في حياتي مسلما لأنني شيعي، والشيعة ليسوا من الإسلام في شئ، وأقسموا على ذلك.
قلت: اتقوا اللّه يا إخوتي، فربنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة، والشيعة يوحدون اللّه ويعملون بالإسلام اقتداءا بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون بيت اللّه الحرام، فكيف يجوز لكم تكفيرهم؟؟
أجابوني: أنتم لا تؤمنون بالقرآن، أنتم منافقون تعملون بالتقية، وإمامكم قال: التقية ديني ودين آبائي (1)، وأنتم فرقة يهودية أسسها عبد اللّه بن سبأ اليهودي (2).
ص: 542
ص: 543
قلت لهم مبتسما: دعونا من الشيعة، وتكلموا معي أنا شخصيا، فقد كنت مالكيا مثلكم، واقتنعت بعد بحث طويل بأن أهل البيت (عليهم السلام) هم أحق وأولى بالاتباع، فهل عندكم حجة تجادلوني بها، أو تسألوني ما هو دليلي وحجتي عسى أن نفهم بعضنا بعضا؟
قالوا: أهل البيت هم نساء النبي (صلى اللّه عليه وآله) وأنت لا تعرف من القرآن شيئا
قلت: فإن صحيح البخاري وصحيح مسلم يفيدان غير ما ذكرتم!
قالوا: كل ما في البخاري ومسلم، وكتب السنة الأخرى من حجج تحتجون بها هي من وضع الشيعة دسوها في كتبنا.
ص: 544
أجبتهم ضاحكا: إذا كان الشيعة وصلوا للدس في كتبكم وفي صحاحكم فلا عبرة ولا قيمة لها ولا لمذهبكم القائم عليها!!
فسكتوا وأفحموا، ولكن أحدهم عمد إلى التهريج والإثارة من جديد فقال: من لا يؤمن بخلافة الخلفاء الراشدين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي (عليه السلام) وسيدنا معاوية وسيدنا يزيد فليس بمسلم!
ودهشت لهذا الكلام، الذي ما سمعت مثله في حياتي، وهو تكفير من لا يعتقد بخلافة معاوية وابنه يزيد، وقلت في نفسي: معقول أن يترضى المسلمون على أبي بكر وعمر وعثمان فهذا أمر طبيعي، أما على يزيد فلم أسمع ذلك إلا في الهند، والتفت إليهم جميعا أسألهم: أتوافقون هذا على رأيه! فأجابوا كلهم: نعم.
وعند ذلك عرفت بأن لا فائدة في مواصلة الكلام، وفهمت بأنهم إنما يريدون إثارتي حتى ينتقموا مني، وربما يقتلوني بدعوى سب الصحابة فمن يدري؟
ورأيت في أعينهم شرا، وطلبت من مرافقي الذي جاء بي إليهم أن يخرجني فورا، فأخرجني وهو يتحسر ويعتذر إلي على ما وقع، وهذا الشخص البرئ الذي كان يرمي من وراء هذا اللقاء أن يتعرف على الحقيقة هو الشاب المهذب شرف الدين صاحب المكتبة والمطبعة الإسلامية في «بومباي» فهو شاهد على كل ما دار بيننا من هذه المحاورة المذكورة، ولم يخف استياءه من هؤلاء الذين كان يعتقد بأنهم من أكبر العلماء (1).
ص: 545
المناظرة الثامنة والسبعون: مناظرة الدكتور التيجاني مع السيد الخوئي (قدس سره) في الافتراء المنسوب إلى الشيعة أن جبرئيل أعطى الرسالة النبي (صلى اللّه عليه وآله) بدل علي (1) (عليه السلام)
ص: 546
يقول الدكتور التيجاني في لقائه مع السيد الخوئي (قدس سره): ودخل السيد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار، وقام الصبيان وقمت معهم، وتقدموا من «السيد» يقبلون يده، وبقيت مستمرا في مكاني، ما إن جلس «السيد» حتى جلس الجميع وبدأ يحييهم بقوله: «مساكم اللّه بالخير» يقولها لكل واحد منهم، فيجيبه بالمثل حتى وصل دوري فأجبت كما سمعت، بعدها أشار علي صديقي الذي تكلم مع «السيد» همسا، بأن أدنو من «السيد» وأجلسني على يمينه وبعد التحية قال لي صديقي: احك للسيد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس.
فقلت: يا أخي، كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا وهناك، والمهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة، وعندي بعض الأسئلة أريد الجواب عنها
ص: 547
بصراحة.
فألح علي صديق وأصر على أن أروي «للسيد» ما هو اعتقادنا في الشيعة، قلت: الشيعة عندنا هم أشد على الإسلام من اليهود والنصارى، لأن هؤلاء يعبدون اللّه ويؤمنون برسالة موسى (عليه السلام)، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون عليا ويقدسونه، ومنهم فرقة يعبدون اللّه ولكنهم ينزلون عليا بمنزلة رسول اللّه، ورويت قصة جبريل كيف أنه خان الأمانة حسب ما يقولون، وبدلا من أداء الرسالة إلى علي، أداها إلى محمد (صلى اللّه عليه وآله).
أطرق «السيد» رأسه هنيئة، ثم نظر إلي وقال: نحن نشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله الطيبين الطاهرين -، وما علي إلا عبد من عبيد اللّه، والتفت إلى بقية الجالسين قائلا ومشيرا إلي: انظروا إلى هؤلاء الأبرياء كيف تغلطهم الإشاعات الكاذبة، وهذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر من ذلك من أشخاص آخرين، فلا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، ثم التفت إلي وقال: هل قرأت القرآن؟
قلت: حفظت نصفه ولم أتخط العاشرة من عمري.
قال: هل تعرف أن كل الفرق الإسلامية على اختلاف مذاهبها متفقة على القرآن الكريم، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم.
قلت: نعم هذا أعرفه.
قال: إذا، ألم تقرأ قول اللّه سبحانه وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (1).
ص: 548
وقوله أيضا: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (1).
وقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (2)
قلت: بلى أعرف هذه الآيات
قال: فأين هو علي (عليه السلام)؟ إذا كان قرآننا يقول بأن محمدا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فمن أين جاءت هذه الفرية؟ سكت ولم أجد جوابا.
وأضاف يقول: وأما خيانة جبرئيل «حاشاه» فهذه أقبح من الأولى، لأن محمدا كان عمره أربعين سنة عندما أرسل اللّه سبحانه إليه جبرئيل (عليه السلام)، ولم يكن علي (عليه السلام) إلا صبيا صغيرا عمره ست أو سبع سنوات، فكيف يا ترى يخطئ جبرئيل ولا يفرق بين محمد الرجل وعلي الصبي؟.
ثم سكت طويلا، بينما بقيت أفكر في أقواله وأنا مطرق أحلل وأتذوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي وأزال غشاوة عن بصري، وتساءلت في داخلي كيف لم نحلل نحن بهذا المنطق.
أضاف «السيد الخوئي» يقول: وأزيدك بأن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق الإسلامية الأخرى التي تقول بعصمة الأنبياء والأئمة، فإذا كان أئمتنا - سلام اللّه عليهم - معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا، فكيف بجبرئيل وهو ملك مقرب سماه رب العزة ب «الروح الأمين».
قلت: فمن أين جاءت هذه الدعايات؟!
ص: 549
قال: من أعداء الإسلام، الذين يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض، وإلا فالمسلمون إخوة سواء كانوا شيعة أم سنة، فهم يعبدون اللّه وحده لا يشركون به شيئا وقرآنهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، ولا يختلف الشيعة عن السنة، إلا في الأمور الفقهية، كما يختلف أئمة المذاهب السنية أنفسهم في ما بينهم، فمالك يخالف أبا حنيفة، وهذا يخالف الشافعي وهكذا...
قلت: إذا كل ما يحكى عنكم هو محض افتراء؟
قال: أنت بحمد اللّه عاقل، وتفهم الأمور وقد رأيت بلاد الشيعة وتجولت في أوساطهم فهل رأيت أو سمعت شيئا من تلك الأكاذيب؟
قلت: لا، لم أسمع ولم أر إلا الخير (1).
ص: 550
الصورة
ص: 551
الصورة
ص: 552
الصورة
ص: 553
الصورة
ص: 554
الصورة
ص: 555
الصورة
ص: 556
الصورة
ص: 557
الصورة
ص: 558
الصورة
ص: 559
الصورة
ص: 560
الصورة
ص: 561
الصورة
ص: 562
الصورة
ص: 563
المؤلف : الشيخ عبد اللّه الحسن
الجزء : 2
المجموعة : من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
مناظرات في العقائد والأحكام
الجزء الثاني
تأليف وتحقيق: عبد اللّه الحسن
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 1
ص: 2
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال تعالى:
«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ».
فصلت: 33
وقال تعالى:
«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».
ق: 37
مناظرات في الأحكام
الجزء الثاني
ص: 3
مناظرات في الأحكام
ص: 4
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1428ه - 2007 م
يطلب من:
لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة ط1 - ص.ب: برج البراجنة - بعبدا - 2020 1017 - هاتف: 009611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 00963116470124 محمول: 0096394356584
إيران - قم - خ سمية - 16 متری عباس آباد بلاك 24 تلفاكس: 7738855 - 0098251
البريد الإلكتروني Email: mnmnmn3@hotmail.com
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 5
ص: 6
قال الشيخ الكراجكي طيب اللّه ثراه: ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، فلما رفع الصادق (عليه السلام) يده من أكله قال: الحمد لله رب العالمين، اللّهم هذا منك، ومن رسولك (صلى اللّه عليه وآله).
فقال أبو حنيفة: يا أبا عبد اللّه، أجعلت مع اللّه شريكا؟
فقال له: ويلك، فإن اللّه تعالى يقول في كتابه: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) (1)، ويقول في موضع آخر: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) (2) (3).
فقال أبو حنيفة: واللّه، لكأني ما قرأتهما قط من كتاب اللّه ولا سمعتهما إلا
ص: 7
في هذا الوقت!
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): بلى، قد قرأتهما وسمعتهما، ولكن اللّه تعالى أنزل فيك وفي أشباهك: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (1) وقال: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (2) (3).
ص: 8
المناظرة الثانية: مناظرة سلطان الواعظين (1) مع الحافظ محمد رشيد في حكم التوسل قال سلطان الواعظين في حديثه مع الحافظ في حكم التوسل بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام):
الحافظ: لا ينحصر الدليل على كفركم وشرككم في هذه الرواية حتى تؤولها وتخلص منها، بل في كل الأدعية الواردة في كتبكم نجد أثر الكفر
ص: 9
والشرك، من قبيل: طلب حاجاتكم من أئمتكم من غير أن تتوجهوا إلى اللّه رب العالمين، وهذا أكبر دليل على الكفر والشرك!!
قلت: ما كنت أظنك أن تتبع أسلافك إلى هذا الحد، فتغمض عينيك، وتتكلم من غير تحقيق بكل ما تكلموا، فإن هذا الكلام في غاية السخافة، وبعيد عن الإنصاف والحقيقة، فإما أنك لا تدري ما تقول أو أنك لا تعرف معنى الكفر والشرك!!
الحافظ: إن كلامي في غاية الوضوح، ولا أظنه يحتاج إلى توضيح، فإنه من البديهة أن من أقر بوجود اللّه عز وجل واعتقد أنه هو الخالق والرازق، وأن لا مؤثر في الوجود إلا هو، لا يتوجه إلى غيره في طلب حاجة، وإذا توجه فقد أشرك باللّه العظيم.
والشيعة كما نشاهدهم ونقرأ كتبهم لا يتوجهون إلى اللّه أبدا، بل دائما يطلبون حوائجهم من أئمتهم بغير أن يذكروا اللّه سبحانه، حتى نشاهد فقراءهم والسائلين الناس في الأسواق ذكرهم: يا علي ويا حسين، ولم أسمع من أحدهم حتى مرة يقول: يا اللّه!! وهذا كله دليل على أن الشيعة مشركون، فإنهم لا يذكرون اللّه تعالى عند حوائجهم ولا يطلبون منه قضاءها، وإنما يذكرون غير اللّه ويطلبون حوائجهم من غيره سبحانه!
قلت: لا أدري.. هل أنت جاهل بالحقيقة ولا تعرف مذهب الشيعة؟! أم إنك تعرف وتحرف، وتسلك طريق اللجاج والعناد؟! لكن أرجو أن لا تكون كذلك، فإن من شرائط العالم العامل: الإنصاف، وفي الحديث الشريف: إن العالم
ص: 10
بلا عمل كشجرة بلا ثمر. (1) ولما نسبت إلينا الشرك في حديثك كرارا والعياذ باللّه! وأردت بهذه الدلائل العامية التافهة أن تثبت كلامك السخيف الواهي، وتكفر الشيعة الموحدين المخلصين في توحيد اللّه عز وجل غاية الخلوص، والمؤمنين بما جاء به خاتم الأنبياء (صلى اللّه عليه وآله)، فإذا كان هذا التكرار والإصرار في تكفيرنا بحضورنا فكيف هو في غيابنا؟!
واعلم أن أعداء الإسلام الذين يريدون تضعيف المسلمين وتفريقهم حتى يستولوا على ثرواتهم الطبيعية ويغصبوا أراضيهم، فهم فرحون بكلامكم هذا، ويتخذوه وسيلة لضرب المسلمين بعضهم ببعض، كما أنني أجد الآن في هذا المجلس بعض العوام الحاضرين من أتباعكم قد تأثروا بكلامكم، فبدؤا ينظرون إلينا نظر شزر، حاقدين علينا باعتقادهم أننا كفار فيجب قتلنا ونهب أموالنا!!
وفي الجانب الآخر، انظر إلى الشيعة الجالسين، وقد ظهرت على وجوههم علائم الغضب، وهم غير راضين من كلامك هذا، ونسبة الشرك والكفر إليهم، فيعتقدون أنك مفتر كذاب، وأنك رجل مغرض، وعن الحق معرض، لأنهم متيقنون ببراءة أنفسهم مما قلت فيهم ونسبت إليهم.
والآن لكي تتنور أفكار الحاضرين بنور الحقيقة واليقين، ولكي تتبدد عن
ص: 11
أذهانهم ظلمات الجهل وشبهات المغرضين، أتكلم للحاضرين باختصار موجز عن الشرك ومعناه، وأقدم لكم حصيلة تحقيق علمائنا الأعلام، أمثال: العلامة الحلي، والمحقق الطوسي، والعلامة المجلسي رضوان اللّه عليهم، وهم استخرجوها واستنبطوها من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث المروية عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) وعترته الهادية سلام اللّه عليهم.
نواب: إن انعقاد هذا المجلس كان لتفهيم العوام وإثبات الحق أمامهم، كما قلت سابقا، فأرجوكم أن تراعوا جانبهم في حديثكم، وأن تتكلموا بشكل نفهمه نحن العوام.
قلت: حضرة النواب! إنني دائما أراعي هذا الموضوع، لا في هذا المجلس فحسب، بل في جميع مجالسي ومحاضراتي ومحاوراتي العلمية والكلامية، فإني دائما أتحدث بشكل يفهمه الخاص والعام، لأن الغرض من إقامة هذه المجالس وانعقادها - كما قلتم - هو تعليم الجهلاء وتفهيم الغافلين، وهذا لا يتحقق إلا بالبيان الواضح والحديث السهل البسيط الذي يفهمه عامة الناس، والأنبياء كلهم كانوا كذلك، فقد روي عن خاتم الأنبياء وسيدهم (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم. (1)
إن الحاصل من الآيات القرآنية، والأحاديث المروية، والتحقيقات العلمية، أن الشرك على قسمين، وغيرهما فروع لهذين، وهما: الشرك الجلي، أي: الظاهر، والآخر: الشرك الخفي، أي: المستتر.
ص: 12
أما الشرك الظاهري، فهو عبارة عن: اتخاذ الإنسان شريكا لله عز وجل، في الذات أو الصفات أو الأفعال أو العبادات.
أ - الشرك في الذات، وهو: أن يشرك مع اللّه سبحانه وتعالى في ذاته أو توحيده، كالثنوية وهم المجوس، اعتقدوا بمبدأين: النور والظلمة.
وكذلك النصارى... فقد اعتقدوا بالأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وقالوا: إن لكل واحد منهم قدرة وتأثيرا مستقلا عن القسمين الآخرين، ومع هذا فهم جميعا يشكلون المبدأ الأول والوجود الواجب، أي: اللّه، فتعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا.
واللّه عز وجل رد هذه العقيدة الباطلة في سورة المائدة، الآية 73، بقوله:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) وبعبارة أخرى: فالنصارى يعتقدون: أن الألوهية مشتركة بين الأقانيم الثلاثة، وهي:
جمع أقنيم - بالسريانية - ومعناها بالعربية: الوجود.
وقد أثبت فلاسفة الإسلام بطلان هذه النظرية عقلا، وأن الاتحاد لا يمكن سواء في ذات اللّه تبارك وتعالى أو في غير ذاته عز وجل.
ب - الشرك في الصفات... وهو: أن يعتقد بأن صفات الباري عز وجل، كعلمه وحكمته وقدرته وحياته هي أشياء زائدة على ذاته سبحانه، وهي أيضا قديمة كذاته جل وعلا، فحينئذ يلزم تعدد القديم وهو شرك، والقائلون بهذا هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري، وكثير من علمائكم التزموا بل اعتقدوا به وكتبوه في كتبهم، مثل: ابن حزم وابن رشد وغيرهما، وهذا هو شرك الصفات... لأنهم جعلوا لذات الباري جل وعلا قرناء
ص: 13
في القدم والأزلية وجعلوا الذات مركبا، والحال أن ذات الباري سبحانه بسيط لا ذات أجزاء، وصفاته عين ذاته.
ومثاله تقريبا للأذهان - ولا مناقشة في الأمثال -:
هل حلاوة السكر شئ غير السكر؟ وهل دهنية السمن شئ غير السمن؟ فالسكر ذاته حلو، أي: كله.
والسمن ذاته دهن، أي: كله.
وحيث لا يمكن التفريق بين السكر وحلاوته، وبين السمن ودهنه، كذلك صفات اللّه سبحانه، فإنها عين ذاته، بحيث لا يمكن التفريق بينها وبين ذاته عز وجل، فكلمة: «اللّه» التي تطلق على ذات الربوبية مستجمعة لجميع صفاته، فاللّه يعني: عالم، حي، قادر، حكيم... إلى آخر صفاته الجلالية والجمالية والكمالية.
ج - الشرك في الأفعال... وهو الاعتقاد بأن لبعض الأشخاص أثرا استقلاليا في الأفعال الربوبية والتدابير الإلهية كالخلق والرزق أو يعتقدون أن لبعض الأشياء أثرا استقلاليا في الكون، كالنجوم، أو يعتقدون بأن اللّه عز وجل بعد ما خلق الخلائق بقدرته، وفوض تدبير الأمور وإدارة الكون إلى بعض الأشخاص، كاعتقاد المفوضة، وقد مرت روايات أئمة الشيعة في لعنهم وتكفيرهم، وكاليهود الذين قال اللّه تعالى في ذمهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (1).
ص: 14
د - الشرك في العبادات.. وهو أن الإنسان أثناء عبادته يتوجه إلى غير اللّه سبحانه، أو لم تكن نيته خالصة لله تعالى، كأن يرائي أو يريد جلب انتباه الآخرين إلى نفسه أو ينذر لغير اللّه عز وجل..!! فكل عمل تلزم فيه نية القربة إلى اللّه سبحانه، ولكن العامل حين العمل إذا نواه لغير اللّه أو أشرك فيه مع اللّه غيره، فهو شرك.. واللّه عز وجل يمنع من ذلك في القرآن الكريم إذ يقول: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (1).
الحافظ: استنادا إلى هذا الكلام الذي صدر منكم الآن فأنتم مشركون، لأنكم قلتم: إن من نذر لغير اللّه فهو مشرك، والشيعة ينذرون لأئمتهم وأبناء أئمتهم. (2)
ص: 15
قلت: العقل السليم والمنطق الصحيح يقضيان بأن أحدا لو أراد أن يعرف عقائد قوم، فيجب أن لا ينظر إلى أقوال وأفعال جهالهم، وإنما ينظر إلى مقال وأفعال علماء القوم.
وأنتم إذا أردتم التحقيق عن الشيعة ومعتقداتهم، فعليكم أن تنظروا إلى كتب علمائهم ومحققيهم، فتعرفوا الشيعة من خلال أقوال فقهائهم وأعمالهم.
فإذا شاهدتم بعض العوام منا قد نذر - نذرا على غير طبق الشرخ الحنيف جهلا بالمسألة ويكفيه صيغة النذر الصحيحة الشرعية -، فلا تحسبوه من معتقدات الشيعة، فإن في كل مذهب وملة يوجد هناك عوام يجهلون مسائل دينهم، وهذا ليس عندنا فحسب.
وأنتم إذا لم تكونوا مغرضين، ولم تكونوا بصدد خلق المعائب والأباطيل
ص: 16
على الشيعة، فراجعوا كتب فقهائهم وانظروا إلى سيرة المؤمنين منهم العارفين للمسائل الدينية، فإن التوحيد الخالص والمصفى من كل شائبة لا يكون إلا عند الشيعة الإمامية.
وأرجو منكم أن تراجعوا كتابي: شرح اللمعة (1)، وشرائع الإسلام (2)، وأي كتاب آخر يضم المسائل الفقهية، وحتى الرسائل العملية لفقهائنا المعاصرين، وهم مراجع الشيعة في مسائل دينهم.
راجعوا في هذه الكتب «باب النذر» فتجدون إجماع فقهائنا: إن النذر عمل عبادي يجب فيه شرطان:
الأول: نية القربة، أنه ينذر قربة إلى اللّه تعالى وخالصا لوجهه سبحانه.
والثاني: إجراء صيغة النذر بهذا الشكل: لله أن أفعل كذا وكذا، أو: أترك كذا وكذا » فيذكر بدل الجملة الأخيرة، نذره إيجابا كان أو سلبا، فإذا تعذر عليه إجراء الصيغة باللغة العربية أو صعب عليه ذلك، فيترجم مفهومه إلى لغته ويجريه بلسانه.
وأما إذا نوى النذر لغير اللّه سبحانه أو أشرك معه آخر، سواء كان نبيا أو إماما أو غيره، فالنذر باطل.
فيجب على العلماء أن يعلموا الجاهلين ويبينوا لهم كل مسائل الدين، ومنها مسائل النذر، فالنذر يكون لله وحده لا شريك له.
ولكن الناذر يكون مخيرا في تعيين مصرف النذر، فمثلا: له أن يقول: لله علي نذر أن أذبح شاة عند مرقد النبي (صلى اللّه عليه وآله) أو عند مرقد الإمام علي (عليه السلام) أو غيرهما
ص: 17
أو يقول: لله علي نذر أن أذبح شاة وأطعم لحمها السادة الشرفاء، أو الفقراء، أو العلماء... إلى آخره.
أو يقول: لله علي نذر أن أعطي ثوبا لفلان، بالتعيين، أو لعالم، على غير تعيين.
فكل هذه الصيغ في النذر صحيحة، ولكن إذا لم يذكر اللّه كأن يقول: نذرت للنبي أو الإمام أو الفقيه أو الفقير أو اليتيم... إلى آخره، كل هذه الصيغ باطلة غير صحيحة.
وكذلك إذا ذكر اللّه سبحانه مع آخر... كأن يقول: نذرت لله وللنبي، أو نذرت لله ولفلان... فهو باطل غير صحيح وكان آثما إن كان عالما بالمسألة، وإن كان جاهلا بالمسألة فنذره باطل وهو غير آثم.
فالواجب علينا وعلى كل فقيه وعالم أن يبلغ مسائل الدين ويكتب أحكامه الإلهية ويعرضها على العوام ليتعلموا ويعملوا بها.
ويجب على العوام أيضا استماع المسائل الدينية وتعلمها والعمل بها، فإذا ما تعلموا ولم يعملوا بتكاليفهم كما ينبغي، فالإشكال يرد عليهم لا على دينهم ومذهبهم.
وكم من أهل السنة والجماعة يشربون الخمر ويلعبون القمار ويرتكبون الفاحشة، فهل هذا دليل على أن مذهبهم يجيز لهم تلك المعاصي والذنوب؟! وهل الإشكال يرد على مذهبهم، أم عليهم؟!
أما القسم الثاني من الشرك، فهو الخفي، ويتحقق في نية الرياء والسمعة في
ص: 18
العبادات، فقد ورد في الخبر: أن من صلى أو صام أو حج.. وهو يريد بذلك أن يمدحه الناس فقد أشرك في عمله. (1) وفي الخبر المروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) أنه قال: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به رحمة (2) اللّه والدار الآخرة ثم أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا. (3) وروي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: اتقوا الشرك الأصغر، فقالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللّه؟ قال: الرياء والسمعة. (4) وروي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، فإن الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء (5)، ثم قال (صلى اللّه عليه وآله): من صلى أو صام أو تصدق أو حج للرياء فقد أشرك باللّه.
فالواجب في الصلاة وغيرها من العبادات أن تكون النية فيها خالصة لوجه اللّه وقربة إلى اللّه وحده، بأن يتوجه الإنسان في حين عمله العبادي إلى ربه عز وجل، ويتكلم معه وحده، ويركز ذهنه، ويوجه قلبه إلى الذات الموصوفة بالصفات التي ذكرناها، وذلك هو اللّه لا إله إلا هو.
وأكتفي بهذا المقدار، وأظن بأن الحق قد انكشف للحاضرين المحترمين،
ص: 19
بالخصوص المشايخ والعلماء في المجلس، فأرجو أن لا ينسبوا الشرك إلى الشيعة بعد هذا، ولا يموهوا الحقيقة على العوام.
تبسم الشيخ عبد السلام ضاحكا وقال: وهل بقي عندكم شئ في هذا المضمار، فاكتفيتم بهذا المقدار؟! فالرجاء إن بقي عندكم شئ في الموضوع فبينوه للحاضرين.
قلت: هناك قسم آخر جعلوه من أقسام الشرك، ولكنه مغفور، وهو:
وهو الذي يتحقق في أكثر الناس من غير التفات، فإنهم يتخذون الوسائط والأسباب للوصول إلى أغراضهم وتحقيق آمالهم، أو إنهم يخشون بعض الناس ويخافون من بعض الأسباب في الإحالة دون حوائجهم وآمالهم، فهذا نوع من الشرك، ولكنه معفو عنه.
والمقصود من الشرك في الأسباب: أن الإنسان يعتقد بأن الأسباب مؤثرة في الأشياء والأمور الجارية، مثلا: يعتقد أن الشمس مؤثرة في نمو النباتات، فإذا كان اعتقاده أن هذا الأثر من الشمس بالذات من غير إرادة اللّه تعالى فهو شرك.
وإذا كان يعتقد أن الأثر يصدر من اللّه القادر القاهر فهو المؤثر والشمس سبب في ذلك، فهو ليس بشرك، بل هو حقيقة التوحيد، وهو من نوع التفكر في آيات اللّه وقدرته سبحانه.
وهكذا بالنسبة إلى كل الأسباب والمسببات، فالتاجر في تجارته، والزارع في زراعته، والصانع في صناعته، والطبيب في طبابته، وغيرهم، إذا كان ينظر إلى أدوات مهنته، وأسباب صنعته وآثارها، نظرا استقلاليا، وأن الآثار الصادرة من
ص: 20
تلك الأسباب والأدوات تصدر بالاستقلال من غير إرادة اللّه تعالى، فهو شرك، وإن كان ينظر إلى الأسباب والأدوات نظرا آليا فيعتقد أنها آلات، واللّه تعالى هو الذي جعل فيها تلك الآثار، فلا مؤثر في الوجود إلا اللّه، فهو ليس شركا بل التوحيد بعينه.
بعد أن بينا أقسام الشرك وأنواعه، فأسألكم: أي أقسام الشرك تنسبوه إلى الشيعة؟!
ومن أي شيعي عالم أو عامي سمعتم أنه يشرك باللّه سبحانه في ذاته أو صفاته وأفعاله؟!
وهل وجدتم في كتب الشيعة الإمامية والأخبار المروية عن أئمتهم (عليهم السلام) ما يدل على الشرك بالتفصيل الذي مر؟!
الحافظ: كل هذا البيان صحيح، ونحن نشكركم على ذلك، ولكنكم إذا دققتم النظر في معتقداتكم بالنسبة لأئمتكم، ستصدقونني لو قلت إنكم تطلبون الحوائج منهم، وتتوسلون بهم في نيل مقاصدكم وتحقيق مطالبكم، وهذا شرك! لأنا لا نحتاج إلى واسطة بيننا وبين ربنا، بل في أي وقت أحببنا أن نتوجه إلى اللّه تعالى ونطلب حاجاتنا منه فهو قريب وسميع مجيب.
قلت: أتعجب منك كثيرا! لأنك عالم متفكر، ولكنك متأثر بكلام أسلافك من غير تحقيق، وكأنك كنت نائما حينما كنت أبين أنواع الشرك! فبعد ذلك التفصيل كله، تتفوه بهذا الكلام السخيف وتقول: بأن طلب الحاجة من الأئمة شرك!!
ص: 21
فإذا كان طلب الحاجة من المخلوقين شرك، فكل الناس مشركون!
فإذا كانت الاستعانة بالآخرين في قضاء الحوائج شرك، فلماذا كان الأنبياء يستعينون بالناس في بعض حوائجهم.
اقرأوا القرآن الكريم بتدبر وتفكر حتى تنكشف لكم الحقيقة، راجعوا قصة سليمان (عليه السلام) في سورة النمل، الآيات 38 - 40: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ...).
من الواضح أن الإتيان بعرش بلقيس من ذلك المكان البعيد، بأقل من لمحة البصر، لم يكن هينا وليس من عمل الإنسان العاجز الذي لا حول له ولا قوة، فهو عمل جبار خارق للعادة، وسليمان مع علمه بأن هذا العمل لا يمكن إلا بقدرة اللّه تعالى وبقوة إلهية، ومع ذلك ما دعا اللّه سبحانه في تلك الحاجة ولم يطلبها من ربه عز وجل، بل أرادها من المخلوقين، واستعان عليها بجلسائه العاجزين.
فهذا دليل على أن الاستعانة بالآخرين في الوصول إلى مرادهم، وطلب الحوائج من الناس، لا ينافي التوحيد، وليس بشرك كما تزعمون، فإن اللّه سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار أسباب ومسببات، وعالم العلل والمعلولات.
وحيث إن الشرك أمر قلبي، فإذا طلب الإنسان حاجته من آخر، أو استعان في تحقق مراده والوصول إلى مقصوده بمن لا يعتقد بألوهيته ولا يجعله شريكا للباري، وإنما يعتقد أنه مخلوق لله عز وجل، وهو إنسان مثله، إلا أن اللّه عز وجل خلقه قويا وقادرا بحيث يتمكن من إعانته في تحقق مراده وقضاء
ص: 22
حاجته، فلا يكون شركا.
وهذا أمر دائر بين المسلمين جميعا، يعمل به المؤمنون عامة، وهناك كثير من الناس يقصدون زيدا وبكرا ويقضون ساعات على أبوابهم ليطلبوا منهم حوائجهم ويستعينوا بهم في أمورهم، من غير أن يذكروا اللّه تعالى.
فالمريض يذهب عند الطبيب ويتوسل به ويستغيث به ويريد منه معالجة مرضه، فهل هذا شرك؟!
والغريق وسط الأمواج يستغيث بالناس ويستعين بهم في إنقاذه من الغرق والموت، من غير أن يذكر اللّه عز وجل، هل هذا شرك؟!
وإذا ظلم جبار إنسانا، فذهب المظلوم إلى الحاكم وقال: أيها الحاكم، أعني في إحقاق حقي، فليس لي سواك ولا أرجو أحدا غيرك في دفع الظلم عني، فهل هذا شرك؟! وهل هذا المظلوم مشرك؟!
وإذا تسلق لص الجدار وأراد أن يتعدى على إنسان فيسرق أمواله ويهتك عرضه، فصعد صاحب الدار السطح واستغاث بالناس وطلب منهم أن يدفعوا عنه السوء، وهو في تلك الحالة لم يذكر اللّه تعالى فهل هو مشرك؟!
لا أظن أن هناك عاقلا ينسب هؤلاء إلى الشرك، ومن ينسبهم إلى الشرك فهو: إما جاهل بمعنى الشرك أو مغرض!!
فأيها السادة الحاضرون أنصفوا، وأيها العلماء احكموا ولا تغالطوا في الموضوع!!
الشيعة كلهم متفقون على أن أحدا لو اعتقد بإلوهية النبي (صلى اللّه عليه وآله) أو
ص: 23
الأئمة (عليهم السلام)، أو جعلهم شركاء لله سبحانه في صفاته وأفعاله، فهو مشرك ونجس يجب الاجتناب والابتعاد عنه.
وأما قولهم: يا علي أدركني، أو: يا حسين أعني، وما إلى ذلك، فليس معناه: يا علي أنت اللّه أدركني! أو: يا حسين أنت اللّه فأعني! بل لأن اللّه عز وجل جعل الدنيا دار وسائل وأسباب، وأبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فنعتقد أن النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وآله هم وسيلة النجاة في الشدائد، فنتوسل بهم إلى اللّه سبحانه. (1)
ص: 24
الحافظ: لماذا لا تطلبون حوائجكم من اللّه تعالى بغير واسطة؟! فاطلبوا منه بالاستقلال لا بالوسائل؟!
قلت: إن توجهنا إلى اللّه عز وجل في طلب الحوائج ودفع الهموم والغموم هو بالاستقلال، ولكنا نتوسل بالنبي وآله الطيبين صلوات اللّه عليهم أجمعين ليشفعوا لنا عند اللّه سبحانه في قضاء حوائجنا، ونتوسل بهم إلى اللّه تعالى ليكشف عنا همومنا وغمومنا، ومستندنا في هذا الاعتقاد هو القرآن الحكيم إذ يقول: («يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)») (1).
آل محمد (صلى اللّه عليه وآله) هم الوسيلة (2)
نحن الشيعة نعتقد بأن اللّه عز وجل هو القاضي للحوائج، وأن آل محمد (صلى اللّه عليه وآله) لا يحلون مشكلا ولا يقضون حاجة لأحد إلا بإذن اللّه وإرادته سبحانه، وهم (عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (3) فهم واسطة الفيض والفياض هو اللّه رب العالمين.
الحافظ: بأي دليل تقولون أن المراد من الوسيلة في الآية الكريمة آل
ص: 25
محمد (صلى اللّه عليه وآله)؟
قلت: لقد روى ذلك كبار علمائكم منهم: الحافظ أبو نعيم، في: «نزول القرآن في علي» والحافظ أبو بكر الشيرازي في «ما نزل من القرآن في علي» والإمام الثعلبي في تفسيره للآية الكريمة، وغير أولئك رووا عن النبي (صلى اللّه عليه وآله): أن المراد من الوسيلة في الآية الشريفة: عترة الرسول وأهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين. (1)
ونقل ابن أبي الحديد المعتزلي - وهو من أشهر وأكبر علمائكم - في «شرح نهج البلاغة» تحت عنوان: ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك، الفصل الأول، ذكر خطبة فاطمة (عليها السلام).
قالت: واحمدوا اللّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه... (2)
ومن جملة الأحاديث المعتبرة، التي نستدل بها على التمسك والتوسل بآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) ومتابعتهم: حديث الثقلين، وهو حديث صحيح أجمع عليه الفريقان، وقد بلغ حد التواتر.
قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (3)؟!
ص: 26
الحافظ: أظن أنكم قد أخطأتم حين قلتم: إن هذا الحديث صحيح ومتواتر! لأنه غير معتبر ومجهول عند كبار علمائنا! فهذا شيخنا الكبير محمد بن إسماعيل البخاري، وهو إمام علماء الحديث عند أهل السنة والجماعة، لم يذكر حديث الثقلين في صحيحه الذي يعد عندنا بعد القرآن الكريم أصح الكتب! قلت: إن عدم ذكر البخاري لحديث الثقلين لا يدل على ضعفه، فإن البخاري واحد، ولكن الذين ذكروا هذا الحديث وعدوه صحيحا موثقا، هم عشرات العلماء والمحدثين منكم، فهذا ابن حجر المكي مع شدة تعصبه فإنه يقول في كتابه الصواعق المحرقة، آخر الفصل الأول، الباب الحادي عشر، الآية الرابعة بعد ما نقل أخبارا وأقوالا حول حديث الثقلين يقول: إعلم أن لحديث التمسك بالثقلين طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا... إلى آخره (1). وقد نقل الحديث عن الترمذي وأحمد بن حنبل والطبراني ومسلم... إلى آخره.
وأما قولكم أن حديث الثقلين صحيح، لأن البخاري لم ينقله في صحيحه! فإن هذا الاستدلال مردود عند العلماء والعقلاء! فالبخاري إن لم ينقل هذا الحديث الشريف، فقد نقله عدد كبير من مشاهير علمائكم، منهم: مسلم بن الحجاج الذي يساوي البخاري عند أهل السنة والجماعة، وقد نقله في صحيحه، وكذلك نقله سائر أصحاب الصحاح الستة غير البخاري.
فإذا لم تعتمدوا إلا على صحيح البخاري، فاعلنوا بأن صحيح البخاري وحده صحيح، وسائر الصحاح غير مقبولة لدينا لعدم صحتها، وأن أهل السنة
ص: 27
والجماعة مستندة إلى ما جاء في صحيح البخاري فحسب!
وإذا كنتم تعتقدون غير هذا، وتعتمدون على الصحاح الستة فيجب أن تقبلوا الأخبار والروايات المنقولة فيها حتى إذا لم ينقلها البخاري لسبب ما.
الحافظ: لم يكن أي سبب في عدم نقله لبعض الأخبار سوى أنه كان كثير الاحتياط في النقل، وكان دقيقا في الروايات، فالتي لم ينقلها البخاري إما لضعف في السند، أو لأن العقل يأبى قبولها وصحتها.
قلت: قديما قالوا: حب الشئ يعمي ويصم! وأنتم لشدة حبكم للبخاري تغالون فيه وتقولون إنه كان دقيقا ومحتاطا، وإن الأخبار التي رواها في صحيحه كلها معتبرة وقوية، وهي كالوحي المنزل! والحال أن في رواة صحيح البخاري أشخاصا وضاعين وكذابين وهم مردودون وغير معتبرين عند كثير من العلماء والمحققين في علم الرجال.
الحافظ: إن كلامكم هذا مردود عند جميع العلماء، وإنه إهانة لمقام العلم ومرتبة رجال الحديث وخاصة الإمام البخاري، وإنه تحامل بغيض على كل أهل السنة والجماعة!
قلت: إن كنتم تحسبون الانتقاد العلمي تحاملا بغيضا وإهانة، فكثير من كبار علمائكم، أهانوكم وأهانوا أهل مذهبهم، قبلنا!
لأن كثيرا من مشاهير علمائكم المحققين نقحوا الصحاح، وخاصة صحيحي البخاري ومسلم، وميزوا بين السقيم والسليم، والغث والسمين، وأعلنوا أن رجال الصحاح وحتى صحيحي البخاري ومسلم، كثير منهم وضاعين، وجعالين للحديث.
ص: 28
وأنا أنصحكم أن لا تعجلوا ولا تتسرعوا في إصدار الحكم علينا في ما نقوله عنكم، بل راجعوا كتب الجرح والتعديل التي كتبها علماؤكم المحققون وطالعوها بدقة وتدبر بعيدا عن التعصب والمغالاة في شأن أصحاب الصحاح، سواء البخاري وغيره، حتى تعرفوا الحقائق.
راجعوا: كتاب «اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة» للعلامة السيوطي، و «ميزان الاعتدال» و «تلخيص المستدرك» للعلامة الذهبي، و «تذكرة الموضوعات» لابن الجوزي، و «تاريخ بغداد» لأبي بكر الخطيب البغدادي، وسائر الكتب التي كتبها علماؤكم في علم الرجال وتعريف الرواة. (1)
راجعوا فيها أحوال: أبي هريرة، وعكرمة الخارجي، ومحمد بن عبدة السمرقندي، ومحمد بن بيان، وإبراهيم بن مهدي الأبلي، وبنوس بن أحمد الواسطي، ومحمد بن خالد الحبلي، وأحمد بن محمد اليماني، وعبد اللّه بن واقد الحراني، وأبي داود سليمان بن عمرو، وعمران بن حطان، وغيرهم ممن
ص: 29
روى عنهم البخاري وأصحاب الصحاح، حتى تعرفوا آراء علمائكم ومحققيكم في أولئك، وقد نسبوهم إلى الوضع والكذب وجعل الأحاديث، لتنكشف لكم الحقائق، ولا تغالوا بعد ذلك في صحة ما نقله البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الصحاح!
وأنت أيها الحافظ! إن كنت تقرأ وتطالع هذه الكتب التي ذكرتها - وهي لعلمائكم - لما قلت: إن البخاري ما نقل حديث الثقلين في صحيحه إلا لاحتياطه في النقل.
هل النقل السليم يقبل أن عالما محتاطا، وإماما محققا، ينقل روايات وأحاديث موضوعة من رواة كذابين يأبى كل ذي عقل قبولها، بل يستهزئ بها كل عاقل ذي شعور وإيمان، كالروايات التي مرت أن موسى ضرب عزرائيل على وجهه حتى فقأ عينه فشكاه إلى ربه (1)... إلى آخره، أو أن الحجر أخذ ملابس موسى وهرب فلحقه موسى عريانا!! وبنو إسرائيل ينظرون إلى نبيهم وهو مكشوف العورة (2)!؟... إلى آخره!!
ألم تكن هذه الخزعبلات والخرافات من الأخبار الموضوعة؟! وهل في نظركم أن نقل هذه الموهومات في صحيحه كان من باب الاحتياط في النقل والتدقيق في الرواية؟!
نجد في صحيحي البخاري ومسلم أخبارا تخالف الاحتياط والحمية الإسلامية ويأباها كل مؤمن غيور!
ص: 30
منها: ما نقله البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة عن عائشة، قالت: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت رسول اللّه وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفده، حتى إذا مللت، قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي. (1)
باللّه عليكم أيها الحاضرون! انصفوا، هل يرضى أحدكم أن ينسب إليه هذه النسبة الفظيعة والعمل المخزي؟!
إذا قال قائل لجناب الحافظ: بأنا سمعنا أنك حملت زوجتك على ظهرك، وكان خدها على خدك وجئت في الملأ العام لتنظر إلى جماعة كانوا يلعبون، ثم كنت تقول لزوجتك: حسبك؟ وهي تقول لك: نعم، ثم إن زوجتك كانت تحدث الرجال بهذا الموضوع.
باللّه عليكم أيها الحاضرون! هل الحافظ يرضى بذلك؟! وهل غيرته تسمح لأحد أن يتكلم بهذه الأراجيف؟!
وإذا سمعت هذا الخبر من إنسان ظاهر الصلاح، هل ينبغي لك أن تنقله للآخرين؟!
وإذا نقلته، ألا يعترض عليك الحافظ ويقول: بأن جاهلا إذا حدثك بخبر كهذا، ولكن - أنت العاقل - لماذا تنقله بين الناس؟!
أليس العقلاء يؤيدونه على اعتراضه عليك؟! فقايسوا هذا الموضوع مع الرواية التي مر ذكرها في صحيحي مسلم والبخاري، فإن كان الأخير - كما
ص: 31
تزعمون - دقيقا ومحتاطا في النقل، وكان عارفا وعالما بأصول الحديث - على فرض أنه سمع هكذا خبر - فهل ينبغي ويحق له أن ينقله في صحيحه، ويجعله خبرا صادقا ومعتبرا؟!
والأعجب... أن العامة، ومنهم جناب الحافظ، يعتقدون أن صحيح البخاري هو أصح الكتب بعد القرآن الحكيم!!
«احتياطات البخاري»
« احتياطات البخاري (1) »
إن احتياطات البخاري لم تكن في محلها، بل كانت خلافا لأصول الاحتياط، كما ذكرنا سابقا بعض الروايات التي نقلها في صحيحه، إن العقل
ص: 32
والإيمان يحتمان ويؤكدان على عدم نقلها، فكان من الاحتياط بل الواجب أن لا يذكرها، ولكنه كان يحتاط فلا ينقل الأخبار التي تتضمن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) أو تبين فضائله ومناقبه ومناقب أبنائه الميامين، عترة النبي الصادق الأمين (صلى اللّه عليه وآله)!!
نعم، كان يحتاط! بل يمتنع في نقل تلك الروايات حتى لا يستدل بها العلماء المنصفون على إمامة علي (عليه السلام) وأحقيته بالخلافة، فلو قايسنا صحيح البخاري مع غيره من الصحاح الستة لعرفنا هذا الموضوع بوضوح، فإنه لم ينقل خبرا ربما يستفاد منه في خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإمامته، ولو كان الخبر مؤيدا بالقرآن ومتواترا ومنقولا في سائر الصحاح ومجاميع أهل الحديث، وحتى لو كان مجمعا على صحته كخبر الغدير، ونزول الآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...) (1).
وكخبر التصدق بالخاتم، ونزول الآية الكريمة: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (2).
وخبر الإنذار، ونزول الآية الكريمة: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (3).
وخبر المؤاخاة، وحديث السفينة، وحديث باب حطة، وغيرها من الأحاديث التي تثبت بها ولاية أبي الحسن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإطاعة أهل البيت (عليهم السلام)، فإن البخاري احتاط في نقل هذه الأخبار المجمع عليها ولم يذكرها في صحيحه!!
ص: 33
والآن لا بد لي أن أذكر لكم بعض كتبكم المعتبرة عندكم، التي ذكرت وروت حديث الثقلين عن النبي (صلى اللّه عليه وآله)، حتى تعرفوا أن البخاري لم ينقل هذا الحديث الشريف من باب الاحتياط، لأن كبار علمائكم ومشاهيرهم نقلوا هذا الحديث، منهم: مسلم بن الحجاج، الذي لا يقل صحيحه عن صحيح البخاري في الاعتبار والوثوق عند أهل السنة والجماعة والترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل في مسنده، وغيرهم (1) رووا بطرقهم وبإسنادهم عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، من تمسك بهما فقد نجا، ومن تخلف عنهما فقد هلك، وفي بعضها: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا.
فبهذا المستند الحكيم والدليل القويم لا بد لنا أن نتمسك بالقرآن الكريم وبأهل البيت (عليهم السلام).
الشيخ عبد السلام: إن صالح بن موسى بن عبد اللّه بن إسحاق بن طلحة بن عبد اللّه القرشي التيمي الطلحي روى بسنده عن أبي هريرة أن النبي قال: إني قد خلفت فيكم ثنتين: كتاب اللّه وسنتي (2)... إلى آخره.
قلت: أيؤخذ بخبر فرد طالح ضعيف مردود عند أصحاب الجرح والتعديل والذين كتبوا في أحوال الرجال والرواة، مثل: الذهبي ويحيى والإمام النسائي والبخاري وابن عدي، وغيرهم، الذين ردوه ولم يعتمدوا رواياته، أيؤخذ بقول هذا ويترك قول هذا الجمع الغفير والجمهور الكثير من علمائكم المشاهير؟! وهم
ص: 34
رووا بأسنادهم كما مر أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: كتاب اللّه وعترتي، ولم يقل: «وسنتي».
هذا من باب النقل.
وأما العقل: فلأن السنة النبوية والأحاديث المروية عنه (صلى اللّه عليه وآله) أيضا بحاجة إلى من يبينها ويفسرها كالكتاب الحكيم، فلذا قال (صلى اللّه عليه وآله): وعترتي... لأن العترة هم الذين يبينون للأمة ما تشابه من الكتاب، ويوضحون الحديث والسنة الشريفة، لأنهم أهل بيت الوحي، وأهل بيت النبوة، وأهل البيت أدرى بما في البيت.
وإن من دلائلنا المحكمة في التوسل بأهل البيت (عليهم السلام) الحديث النبوي الشريف: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك» وهو حديث معتبر صحيح متفق ومجمع عليه، وكما يخطر الآن ببالي، أن أكثر من مائة من كبار علمائكم ومحدثيكم أثبتوا هذا الحديث في كتبهم (1).
وذكر غير هؤلاء من أعاظم علمائكم بأسانيدهم وطرقهم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك، أو: غرق، أو: هوى، والعبارات شتى، ولعل النبي (صلى اللّه عليه وآله) قاله كرارا وبعبارات شتى.
وقد أشار الإمام محمد بن إدريس الشافعي إلى صحة هذا الحديث الشريف في أبيات له نقلها العلامة العجيلي في «ذخيرة المآل»:
ص: 35
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم *** مذاهبهم في أبحر الغي والجهل
ركبت على اسم اللّه في سفن النجا *** وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حبل اللّه وهو ولاؤهم *** كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل
إذا افترقت في الدين سبعون فرقة *** ونيفا على ما جاء في واضح النقل
ولم يك ناج منهم غير فرقة *** فقل لي بها يا ذا الرجاحة والعقل
أفي الفرقة الهلاك آل محمد *** أم الفرقة اللاتي نجت منهم قل لي
فإن قلت في الناجين فالقول واحد *** وإن قلت في الهلاك حفت عن العدل
إذا كان مولى القوم منهم فإنني *** رضيت بهم لا زال في ظلهم ظلي
رضيت عليا لي إماما ونسله *** وأنت من الباقين في أوسع الحل (1) فلا يخفى على من أمعن ونظر في هذه الأبيات لعرف تصريح الشافعي وهو
ص: 36
إمام أهل السنة والجماعة، بأن آل محمد (صلى اللّه عليه وآله) ومن تمسك بهم، هم الفرقة الناجية وغيرهم هالكون، وفي وادي الضلالة تائهون!! فحسب أمر النبي الكريم (صلى اللّه عليه وآله) وهو كما قال اللّه الحكيم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (1).
الشيعة يتمسكون بآل محمد الأطهار وعترته الأبرار، ويتوسلون بهم إلى اللّه سبحانه، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فقد خطر الآن ببالي، بأن الناس إذا كانوا لا يحتاجون إلى وسيلة للتقرب إلى ربهم عز وجل والاستغاثة به، وإنه من توسل بأحد إلى اللّه تعالى فقد أشرك.
فلماذا كان عمر بن الخطاب - وهو الفاروق عندكم - يتوسل ببعض الناس إلى اللّه سبحانه في حالات الشدة والاضطرار؟!
الحافظ: حاشا الفاروق عمر من هذا العمل، إنه غير ممكن!! وإني لأول مرة أسمع هذه الفرية على الخليفة! فلا بد أن تبينوا لنا مصدر هذا القول حتى نعرف صحته وسقمه.
قلت: كما ورد في كتبكم المعتبرة: أن الفاروق كان في الشدائد يتوسل إلى اللّه سبحانه بأهل بيت النبي (صلى اللّه عليه وآله) وعترته الطاهرة (عليهم السلام)، وقد تكرر منه هذا العمل في أيام خلافته عدة مرات، ولكني أشير إلى اثنين منها حسب اقتضاء المجلس:
1 - نقل ابن حجر في كتابه الصواعق بعد الآية (الرابعة عشر) في المقصد الخامس قال: وأخرج البخاري أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس وقال: اللّهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا محمد (صلى اللّه عليه وآله) إذا قحطنا فتسقينا، وإنا
ص: 37
نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. (1)
قال ابن حجر: وفي تاريخ دمشق (2): إن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا، فقال عمر: لأستسقين غدا بمن يسقيني اللّه به، فلما أصبح غدا للعباس فدق عليه الباب، فقال: من؟ قال: عمر. قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي اللّه بك، قال: اقعد.
فأرسل إلى بني هاشم أن تطهروا والبسوا من صالح ثيابكم، فأتوه، فأخرج طيبا فطيبهم، ثم خرج وعلي (عليه السلام) أمامه بين يديه والحسن (عليه السلام) عن يمينه، والحسين (عليه السلام) عن يساره، وبنو هاشم خلف ظهره.
فقال: يا عمر! لا تخلط بنا غيرنا، ثم أتى المصلى فوقف، فحمد اللّه وأثنى عليه، وقال: اللّهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا، فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا، اللّهم فكما تفضلت في أوله، تفضل علينا في آخره.
قال جابر: فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا.
فقال العباس: أنا المسقى، ابن المسقى خمس مرات، وأشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرات فسقي (3).
ص: 38
2 - في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قال: وروى عبد اللّه بن مسعود:
إن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالعباس، فقال: اللّهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وقفية آبائه وكبر رجاله، فإنك قلت وقولك الحق: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ...) (1) فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللّهم نبيك في عمه، فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين.
ثم أقبل على الناس فقال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) (2) إلى آخره، انتهى نقل ابن أبي الحديد. (3) فهذا عمر الخليفة، يتوسل ويتقرب بعم (4) النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى اللّه سبحانه، وما
ص: 39
ص: 40
اعترض عليه أحد من الصحابة، ولا يعترض اليوم أحد منكم على عمله، بل تحسبون أعماله حجة فتقتدون به، ولكنكم تعارضون الشيعة لتوسلهم بآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) وعترته، وتنسبون عملهم إلى الكفر والشرك، والعياذ باللّه!!
فإذا كان التوسل بآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) والاستشفاع بعترته الهادية عند اللّه عز وجل، شرك على حسب رواياتكم فإن الخليفة الفاروق يكون مشركا، وإذا تدفعون عنه الشرك والكفر، ولا تقبلون نسبته إليه، بل تصححون عمله وتدعون المسلمين إلى الاقتداء به، فعمل الشيعة وتوسلهم بآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) أيضا ليس بشرك، بل حسن صحيح.
وعلى هذا يجب عليكم أن تستغفروا ربكم من هذه الافتراءات والاتهامات التي تنسبونها لشيعة آل محمد (صلى اللّه عليه وآله) وتكفرونهم وتقولون إنهم مشركون.
ويجب عليكم أن تنبهوا جميع أتباعكم وعوامكم الجاهلين على أنكم كنتم مخطئين في اعتقادكم بالنسبة للشيعة، فهم ليسوا بمشركين، بل هم مؤمنون وموحدون حقا.
أيها الحاضرون الكرام والعلماء الأعلام! إذا كان عمر الفاروق مع شأنه ومقامه الذي تعتقدون به له عند اللّه سبحانه، وأهل المدينة، مع وجود الصحابة (1)
ص: 41
الكرام فيهم، دعاؤهم لا يستجاب إلا أن يتوسلوا بآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) ويجعلوهم الواسطة والوسيلة بينهم وبين اللّه عز وجل حتى يجيب دعوتهم ويسقيهم من رحمته، فكيف بنا؟! وهل يجيب اللّه سبحانه دعوتنا من غير واسطة وبلا وسيلة ؟!
فآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) وعترته في كل زمان هم وسائل التقرب إلى اللّه تعالى، وبهم - أي: بسببهم وبشفاعتهم ودعائهم - يرحم اللّه عباده.
فهم ليسوا مستقلين في قضاء الحوائج وكفاية المهام، وإنما اللّه سبحانه هو القاضي للحاجات والكافي للمهمات، وآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) عباد صالحون وأئمة مقربون، لهم جاه عظيم عند ربهم، وهم شفعاء وجهاء عند اللّه عز جل، منحهم مقام الشفاعة بفضله وكرمه، فقد قال سبحانه: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (1).
هذا هو اعتقادنا في النبي (صلى اللّه عليه وآله) وعترته الهادية آله المنتجبين الطيبين الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين... (2)
ص: 42
قال بعض الآمرين بالمعروف: لأي علة تجيئون عند القبور، وتطلبون الحاجة من أهل القبور؟
قلت: أخي، إنا لا نطلب الحاجة من أهل القبور، بل نطلب الحاجة من اللّه عند قبور أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم أقرب الخلق إلى اللّه عز وجل، وعندهم ميراث النبوة، فنجعلهم شفعاء لقضاء حوائجنا.
قال: طلب الحاجة من جهة جعلهم شفعاء إلى اللّه لا يجوز أيضا.
قلت: يجوز، لأن القرآن في سورة يوسف يقول - بالنسبة إلى أبناء يعقوب لما ألقوا أخاهم يوسف في البئر وفعلوا ما فعلوا وندموا من فعلهم -: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا) (1) لأن أباهم يعقوب كان مقربا عند اللّه وما فعل ذنبا قط، ولكنهم كانوا مذنبين، فجعلوا أباهم شفيعا لحط ذنوبهم، ويقول القرآن أيضا: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (2).
ص: 43
إن قلت: إن هذا الخصوصية كانت في زمن حياة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) دون زمن الممات.
قلنا: لا فرق بين زمن الحياة والممات بالنسبة إلى كونهم شفعاء الخلائق، بعد ما يقول القرآن: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (1).
قال الشيخ حسين - أحد أعضاء هيئة الآمرين بالمعروف في المدينة المنورة عند قبور الأئمة في البقيع -: لأي علة تقعدون عند المقابر، والقعود عند المقابر حرام؟
قلت: أخي، القعود في المسجد الحرام في حجر إسماعيل على رأيكم أيضا حرام، لأن في حجر إسماعيل مقبرة إسماعيل ومقبرة أم إسماعيل هاجر، ومشحون من قبور الأنبياء على ما ذكرتم في مناسككم، وعلة حرمة الطواف في حجر إسماعيل من جهة أن الطواف يوجب أن توطأ قبور الأنبياء، فعلى رأيكم جميع أرباب المذاهب يفعلون المحرم، لأنهم يقعدون في حجر إسماعيل.
وورد في صحيح البخاري - الذي هو في الإتقان عندكم مثل القرآن - رواية عن أبي عبد الرحمن عن علي (عليه السلام) قال: كنا في جنازة في بقيع الفرقد فأتانا النبي (صلى اللّه عليه وآله) فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار (2).
ص: 44
قلت: رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقعد في البقيع، لكن أنتم تمنعون عن القعود، فعلى رأيكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فعل محرما.
قال بعض أعضاء هيئة الآمرين بالمعروف: لأي علة تصلون عند المقابر، والصلاة عند المقابر حرام؟ ومكتوب على لوحة من حديد في البقيع: إن الصلاة عند المقابر لا تجيزها الشريعة الإسلامية؟
قلت: إذا كانت الصلاة عند المقابر حراما، فالصلاة في حجر إسماعيل أيضا حرام، لأن في حجر إسماعيل مقبرة إسماعيل وأمه هاجر وهو مشحون من قبور الأنبياء، مع أن جميع أرباب المذاهب يصلون في حجر إسماعيل بل يتبركون بها.
وفي صحيح البخاري في المجلد الأول في أبواب الدفن والمقابر أن عمر بن الخطاب رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال عمر: القبر، القبر، ولم يأمره بالإعادة؟ (1) فعلى رأي الخليفة عمر بن الخطاب تكون الصلاة عند المقابر صحيحة، لكن أنتم تمنعون الصلاة عند المقابر، وذلك لأن عمر بن الخطاب لم يأمر أنس بإعادة الصلاة.
وورد في المجلد الثاني من صحيح البخاري (2) أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) صلى في البقيع في يوم عيد الأضحى ركعتين، فقال بعد ما صلى: إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا.
فرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يصلي في البقيع لكن أنتم تمنعون الصلاة وتقولون: إن
ص: 45
الصلاة عند المقابر لا تجيزه الشريعة، إن كان المراد بالشريعة الإسلامية الشريعة المحمدية فصاحب الرسالة هو صلى في البقيع صلاة عيد الأضحى، والبقيع كان مقبرة عند وروده بالمدينة المنورة، وإلى الآن فعند الرسول ومن يتابعه الصلاة عند المقابر لا بأس بها، لكن أنتم تمنعون عن الصلاة على خلاف رأي الرسول (صلى اللّه عليه وآله) والصحابة (1).
ص: 46
ص: 47
ص: 48
النبي (صلى اللّه عليه وآله) وهي يومئذ بمكة، فقالت لها: يا بنت أبي أمية! إنك أول ظعينة هاجرت مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وأنت كبيرة أمهات المؤمنين، وقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقسم لنا بين بيتك، وقد خبرت أن القوم استتابوا عثمان بن عفان حتى إذا تاب وثبوا عليه فقتلوه، وقد أخبرني عبد اللّه بن عامر أن بالبصرة مائة ألف سيف يقتل فيها بعضهم بعضا، فهل لك، أن تسيري بنا إلى البصرة، لعل اللّه تبارك وتعالى أن يصلح هذا الأمر على أيدينا؟
قال: فقالت لها أم سلمة رحمة اللّه عليها: يا بنت أبي بكر! بدم عثمان تطلبين! واللّه لقد كنت من أشد الناس عليه، وما كنت تسميه إلا نعثلا (1)، فما لك ودم عثمان؟ وعثمان رجل من عبد مناف وأنت امرأة من بني تيم بن مرة، ويحك يا عائشة! أعلى علي وابن عم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) تخرجين، وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟
(إنك سدة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بين أمته وحجابك مضروب على حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، ومكنك خفرتك فلا تضحيها، اللّه اللّه من وراء هذه الآية! قد علم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مكانك، فلو أراد أن يعهد إليك لفعل، بل نهاك عن الفرطة في البلاد، إن عمود الدين لا يقام بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن صدع، حماديات النساء، غض الأطراف، وخف الأعطاف، وقصر الوهازة، وضم
ص: 50
الذيول، ما كنت قاتلة لو أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عارضك ببعض الفلوات، ناصة قلوصا من منهل إلى آخر! قد هتكت صداقته، وتركت حرمته وعهدته، إن بعين اللّه مهواك، وعلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) تردين، واللّه لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي: أدخلي الفردوس، لاستحييت أن ألقى محمدا (صلى اللّه عليه وآله) هاتكة حجابا قد ستره علي، اجعلي حصنك بيتك، وقاعة البيت قبرك، حتى تلقينه، وأنت على ذلك أطوع ما تكونين لله لزمته، وأنصر ما تكونين للدين ما جلست عنه.
فقالت لها عائشة: ما أعرفني بوعضك، وأقبلني لنصحك، ولنعم المسير مسير فزعت إليه، وأنا بين سائرة أو متأخرة، فإن أقعد فعن غير حرج، وإن أسر فإلى ما لا بد من الازدياد منه) (1).
ثم جعلت أم سلمة رضوان اللّه عليها تذكر عائشة فضائل علي (عليه السلام) فقالت لها: (وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أفأذكرك؟
قالت: نعم.
قالت: أتذكرين يوم أقبل (صلى اللّه عليه وآله) ونحن معه، حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال، خلا بعلي يناجيه، فأطال، فأردت أن تهجمين عليهما، فنهيتك، فعصيتيني، فهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية.
ص: 51
فقلت: ما شأنك؟
فقلت: إني هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلت لعلي (عليه السلام): ليس لي من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا بن أبي طالب ويومي! فأقبل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) علي، وهو غضبان محمر الوجه، فقال (صلى اللّه عليه وآله): ارجعي وراءك، واللّه لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان، فرجعت نادمة ساخطة!
قالت عائشة: نعم أذكر ذلك.
قالت: وأذكرك أيضا، كنت أنا وأنت مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأنت تغسلين رأسه، وأنا أحيس له حيسا، وكان الحيس (1) يعجبه، فرفع رأسه، وقال (صلى اللّه عليه وآله): يا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأذنب (2)، تنبحها كلاب الحوأب (3)، فتكون
ص: 52
ناكبة على الصراط! فرفعت يدي من الحيس، فقلت: أعوذ باللّه وبرسوله من ذلك، ثم ضرب على ظهرك، وقال (صلى اللّه عليه وآله): إياك أن تكونيها، ثم قال: يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها يا حميراء، أما أنا فقد أنذرتك، قالت عائشة: نعم، أذكر هذا .
قالت: وأذكرك أيضا، كنت أنا وأنت مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في سفر له، وكان علي (عليه السلام) يتعاهد نعلي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحادثانه فيما أراد، ثم قالا: يا رسول اللّه، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعا؟ فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه، كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا، فلما خرجنا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قلت له، وكنت أجرأ عليه منا! من كنت يا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مستخلفا عليهم؟ فقال (صلى اللّه عليه وآله): خاصف النعل، فنظرنا فلم نر أحدا إلا عليا (عليه السلام).
فقالت: فأي خروج تخرجين بعد هذا؟
فقالت: إنما أخرج للإصلاح بين الناس، وأرجو فيه الأجر إن شاء اللّه.
فقالت: أنت ورأيك!) (1).
ص: 53
وعبد اللّه بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله، فصاح بأم سلمة وقال: يا بنت أبي أمية! إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير.
بنت أبي أمية! إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير.
فقالت أم سلمة: واللّه لتوردنها ثم لا تصدرنها أنت ولا أبوك! أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) حي، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة؟
فقال عبد اللّه بن الزبير: ما سمعنا هذا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ساعة قط!
فقالت أم سلمة رضوان اللّه عليها: إن لم تكن أنت سمعته فقد سمعته خالتك عائشة، وها هي فاسألها! فقد سمعته (صلى اللّه عليه وآله) يقول: علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني، أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟
فقالت عائشة: اللّهم نعم!
قالت أم سلمة رضوان اللّه عليها: فاتقي اللّه يا عائشة في نفسك، واحذري ما حذرك اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله)، ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب، ولا يغرنك الزبير وطلحة فإنهما لا يغنيان عنك من اللّه شيئا.
قال: فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها، ثم إنها بعثت إلى حفصة فسألتها أن تخرج معها إلى البصرة، فأجابتها حفصة (1) إلى ذلك (2).
وفي بعض الأخبار: وخرجت، فخرج رسولها فنادى في الناس: من أراد
ص: 54
أن يخرج فليخرج فإن أم المؤمنين غير خارجة! فدخل عليها عبد اللّه بن الزبير فنفث في أذنها وقلبها في الذروة، فخرج رسولها فنادى: من أراد أن يسير فليسر فإن أم المؤمنين خارجة، فلما كان من ندمها أنشأت أم سلمة تقول:
لو أن معتصما من زلة أحد *** كانت لعائشة العتبي على الناس
كم سنة لرسول اللّه تاركة *** وتلو أي من القرآن مدراس
قد ينزع اللّه من ناس عقولهم *** حتى يكون الذي يقضي على الناس
فيرحم اللّه أم المؤمنين لقد *** كانت تبدل إيحاشا بإيناس (1)
فقالت لها عائشة: شتمتيني يا أخت!!
فقالت لها أم سلمة: ولكن الفتنة إذا أقبلت غضت عيني البصير، وإذا أدبرت أبصرها العاقل والجاهل. (2)
ص: 55
قال السيد علي البطحائي: وقع البحث حول محاربة معاوية في صفين مع إمام المسلمين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فقلت للشيخ وأعضاء الهيئة: ألم يحارب معاوية، علي بن أبي طالب (عليه السلام) في صفين؟ معاوية كان مع الحق أو علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان مع الحق، أو كلاهما كانا مع الباطل.
فقال واحد من أعضاء الهيئة اسمه عبد اللّه بن صالح: كان معاوية خال المؤمنين وكاتب الوحي.
قلت: الساعة لسنا بصدد أن معاوية خال المؤمنين أو كاتب الوحي، بل في مقام أن علي بن أبي طالب كان مع الحق أو معاوية؟
قال الشيخ: أنت المحاسب لمعاوية؟
قلت: ما أنا المحاسب، المحاسب هو اللّه لكن أنا أحاسبه على كتاب اللّه، لأن القرآن يقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (1).
ص: 56
فاللازم مقاتلة معاوية حتى يفئ إلى أمر اللّه، وسؤالي من أعضاء الهيئة والرئيس أن معاوية كان مع الحق أو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قال رئيس الهيئة: لا شك ولا ريب أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان مع الحق والحق يدور معه.
قلت: فظهر أن معاوية كان مع الباطل وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) كان مع الحق، فمحاربة معاوية علي بن أبي طالب كان من أي جهة؟
قال معاوية: كان يطالب بدم ابن عمه عثمان.
قلت: عثمان قتله علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟
قال: لا، قتله أهل مصر. (1) قلت: فاللازم أن يطلب بدمه من أهل مصر لا من علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قال الشيخ: القرآن يقول: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
ص: 57
سُلْطَانًا) (1).
قلت: ما المراد بولي الدم؟ قال: وارث المال.
قلت: وارث مال عثمان ابنه لا معاوية، وأيضا حينما قتل عثمان كان علي بن أبي طالب نازلا المدينة أو لا؟ قال: كان نازلا بالمدينة.
قلت: إذا كان نازلا بالمدينة فكل المسلمين من أهل الحل والعقد يعرفون بأنه تقاعد عن مقاتلي عثمان، فلم بايعوه؟
وعلى كل حال محاربة معاوية مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما كانت من جهة قتل عثمان، بل من جهة أنه رأى حكومته في معرض المخاطرة فتشبث بأن عثمان قتل مظلوما، مع أنه حين هجم على عثمان، أهل المدينة تقاعدوا عن نصرته (2).
ص: 58
ص: 59
ص: 60
قال الحاكم أبو سعد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي (المتوفى سنة 494 ه) في معرض حديثه عن معاوية في كتابه (رسالة إبليس):
وأنكرت المعتزلة (1) ذلك أشد الإنكار، وقالوا: معاوية باغ ضال، فمرة ضللوه لخروجه على إمام المسلمين، وقتل عمار بن ياسر سيد أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومرة كفروه بإلحاق زياد بأبيه مع نفي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عنه إياه وادعاء أبيه، وقتل حجر بن عدي (2) صبرا، وأمره حتى سم الحسن (عليه السلام)، ثم تغلب على الدنيا فأظهر الظلم والعناد ومذاهب الإلحاد، وقال النبي (صلى اللّه عليه وآله): معاوية في تابوت من نار (3)، وقال: إذا رأيتم معاوية على منبري
ص: 61
فاقتلوه (1)، وقد لعنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في قنوته (2)، وقال النبي (صلى اللّه عليه وآله) لعمار:
تقتلك الفئة الباغية (3) فقتله معاوية (4).
ثم جرى على طريقته السفيانية، فقتل يزيد (5) - لعنه اللّه - حسينا (عليه السلام)
ص: 62
وشيعته وسبعة عشر من أهل بيته، وسلط على الناس أهل بيت زياد، ومات سكران، وتبعهما المروانية فأظهر الوليد الإلحاد، وقتل هشام زيد بن علي (عليه السلام)، ومات مروان الحمار وهو زنديق، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال اللّه دولا، وعباد اللّه خولا، ودين اللّه دغلا (1)، وذكروا أن الشجرة الملعونة في القرآن هم بنو مروان (2)، وأن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لعنهم.
إلى أن قال: اجتمع يوما في ناد ناس فجرى ذكر معاوية فمدحه بعض مشايخنا، فقال: هو إمام من الأئمة!!
فقال معتزلي وقال: أتقول له وقد فعل وفعل..... يعد معايبه، ونحن ساكتون، ثم أنشأ يقول:
قالت: تحب معاوية؟ *** قلت: اسكتي يا زانية
قالت: أسأت جوابنا *** فأعدت قولي ثانية
أحب من شتم الوصي *** أخا النبي علانية؟
ص: 63
فعلى يزيد لعنة *** وعلى أبيه ثمانية (1)
ثم قال: قيل لأعرابي أتحب معاوية؟
قال: وجدت معه أربعة (2) إن قلت معها أتحبه؟ لتكفر!!
قيل: وما هي؟
قال: قاتل أبوه النبي (صلى اللّه عليه وآله) مرارا، وقاتل هو وصيه، وقتل ابنه يزيد الحسين بن علي (عليه السلام)، وأخرجت أمه هند كبد عم النبي (صلى اللّه عليه وآله) حمزة؟
فقال من حضر: لعن اللّه معاوية. (3)
ص: 64
المناظرة السابعة: مناظرة السيد عبد اللّه الشيرازي (1) (قدس سره) مع بعض العلماء في حكم لعن معاوية ويزيد
قال السيد عبد اللّه الشيرازي (قدس سره): كان معنا عدد كبير من إخواننا أبناء العامة في محل نزولنا بالمدينة المنورة والذي كان معروفا آنذاك ب «بستان الصفا» حين
ص: 65
حل شهر محرم الحرام وقرب موعد عاشوراء الحسين (عليه السلام) رغبنا في إقامة مجلس عزائه - سلام اللّه عليه - ولما كان الجانب الذي كان يسكنه أولئك النفر من أبناء العامة واسعا بحيث يفي للغرض عرضنا عليهم الفكرة فاستجابوا بخير وأقمنا المأتم الحسيني، وذات يوم أثناء اجتماعنا مع إخوتنا السنة وفيهم بعض العلماء ورجال الفضل، تداولنا الحديث عن فضائل علي (عليه السلام) ومقاماته، فصدقوا ونقلوا الأحاديث الكثيرة في ذلك عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) مثل قوله: «يا علي لحمك لحمي ودمك دمي» (1) وما ورد أن «المحب لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) محب للنبي ومبغضه مبغضه» (2) حتى انجر الكلام بيني وبينهم إلى لعن معاوية، قالوا: لا يجوز!
ص: 66
قلت: ولعن يزيد؟
قالوا: جائز، فإنه قتل الحسين (عليه السلام).
قلت: لا بد أن يكون مقتضى مذهبكم هو عدم جواز لعن يزيد، وجواز لعن معاوية.
أما جواز لعن معاوية فبمقتضى ما ذكرتم من قول النبي (صلى اللّه عليه وآله) في حق علي (عليه السلام) وقوله: «اللّهم عاد من عاداه» (1) ومن المسلم أن معاوية بن أبي سفيان عادى عليا أكثر مما يتصور إلى آخر عمره، ولم يتب وأمر بسبه (عليه السلام) في جميع الأمصار، ولم يرفع عنه السب إلى آخر عمره (2).
وأما عدم جواز لعن يزيد فبمقتضى تمامية البيعة له من المسلمين وصيرورته خليفة ومن أولي الأمر، وعندكم إطاعة ولي الأمر واجبة بمقتضى الآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
ص: 67
مِنْكُمْ ) (1) فمتابعة يزيد وامتثال أمره حتى بالحرب مع الحسين (عليه السلام) وقتله كان واجبا على المسلمين!! وعلى مذاقكم أنه (عليه السلام) خارج على إمام زمانه، ولذا أشاعوا في ذلك الوقت أنه خارجي، وعند ورود أهله وعياله أسارى إلى الشام كانوا يقولون بأنهن أهل بيت الخارجي.
قالوا: كيف يمكن القول بعدم جواز لعن يزيد وعدم جواز سبه، مع أنه فعل ما فعل بالحسين (عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته؟
قلت: إن كنتم تلتزمون بجواز لعن يزيد فهذا يدل على أن المقصود من أولي الأمر في الآية الشريفة ليس كل من ولي الأمر ولو بالقوة والسيف كائنا من كان، وإلا كيف يجوز لعنه؟ بل لا بد وأن يكون المقصود الولي الذي عينه اللّه تبارك وتعالى وأعطاه الولاية، ولا بد من تعيينه من اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) وقد بينه اللّه تبارك وتعالى في الكتاب وبينه النبي (صلى اللّه عليه وآله) في السنة، وهذا لا يتم إلا على مذهب الشيعة والإمامية.
فقال واحد منهم: لا بد في الجواب عن هذا الحديث من المراجعة إلى من هو أعلم منا.
حين تصدق بخاتمه الشريف - وهو راكع - على السائل، ولا يكون المقصود من الولي: المحب لمنافاته مع كلمة «إنما» الدالة على الحصر، كما ذكر في مبحث الكلام مفصلا، وبينه أيضا في قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (1) عرف اللّه تبارك وتعالى أن وصف الولي لا بد أن يكون من شأنه رفع الجهل وحصول العلم للسائلين والمستفتين ومن المعلوم أنه ما كان ولا يكون كذلك غير علي والأئمة من ولده (عليهم السلام) ولذا كان يرجع الخليفة الثاني في المشكلات إلى علي (2) (عليه السلام)، ولم يكن يدعي أبو بكر هذا المطلب، بل صرح ابن حجر وغيره في كتبهم أنه كان يقول: أما في باب الفرائض فارجعوا إلى فلان، وفي باب قراءة القرآن فارجعوا إلى فلان - إلى آخر ما يذكرونه - أما أنا فلتقسيم الأموال وإعطائها لكم.
فإذا كان هذا حال الخليفتين الأولين، فكيف حال من بعدهما من الخلفاء الأمويين والعباسيين، وفي زماننا هذا الملوك والسلاطين والأمراء على المسلمين، وكلهم يدعون ولاية الأمر، ويتمسكون هم وأتباعهم بالآية الشريفة في وجوب إطاعتهم ولزوم إنفاذ أمرهم؟
والإيراد المهم والإشكال الأعظم على هذا الأساس أنه عند اختلاف الولاة وتعددهم مثل زماننا هذا، من هو ولي الأمر الذي تجب إطاعته؟ ومن هو الإمام
ص: 69
الذي قال النبي (صلى اللّه عليه وآله) في الحديث المسلم بين الفريقين «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (1) ونحن لسنا فعلا في مقام بيان هذا المطلب تفصيلا ونكتفي بهذا المقدار، والعاقل تكفيه الإشارة (2).
ص: 70
ص: 71
ص: 72
قال السيد محمد جواد المهري: لم يعقد لقاء يوم الأربعاء بسبب غيابي في ذلك اليوم، وفي يوم الأحد وبعد أسبوع من ذلك البحث المثير في موضوع الثقلين، بدأنا لقاءنا بذكر اسم اللّه تعالى.
قلت: يا أستاذ، أريد التحدث اليوم عن أهل البيت ومعرفتهم، أوتعلم أن معرفة أهل البيت (عليهم السلام) تنجي الإنسان من نار جهنم، وأن محبتهم جواز على الصراط (1).
نقل الحافظ الحمويني عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) هذه الرواية التي يقول فيها: «معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب» (2).
يا أستاذي الكريم، آل محمد شجرة النبوة، ومهبط الرحمة على الأئمة، وموضع نزول الملائكة، أهل البيت هم الشجرة المباركة التي (أَصْلُهَا ثَابِتٌ
ص: 73
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (1).
نقل السيوطي في الدر المنثور بعد ذكره لآية التطهير، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: «نحن أهل بيت طهرهم اللّه، من شجرة النبوة، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وبيت الرحمة ومعدن العلم» (2).
وجاء أيضا نظير هذا الكلام على لسان علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة: حيث يقول: «نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة» (3).
وجاء عنه في خطبة أخرى: «عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر» (4).
يا أستاذ، أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين تذكرهم في جميع الصلوات الواجبة بعد ذكر اسم الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وتصلي عليهم، ألا تقول في تشهد الصلاة: «اللّهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم».
والبخاري مع كل ما يبديه من عداء وبغض لأهل بيت العصمة والطهارة، ينقل بعد تفسيره للآية: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...) (5) أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: صلوا علي هكذا: « اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما
ص: 74
صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللّهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد » (1).
وهم الذين نظم بحقهم الشافعي - زعيم أحد المذاهب السنية - أشعارا كثيرة ومن جملتها البيتين المشهورين التاليين:
يا آل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له (2)
قال الأستاذ: جاء في الشعر الذي نسبته إلى الشافعي أن محبة أهل البيت وجبت في القرآن، ففي أية آية جاءت؟
قلت: هذان البيتان من الشعر مشهوران ومعروفان جدا، ومن جملة من نقلهما الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (3)، وأما الآية التي ورد فيها ذلك فهي قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (4).
ص: 75
الأستاذ: ومن هم قرابة الرسول؟ فإن الآية جاءت مطلقة، ولا بد أنها تشمل أزواج الرسول أيضا؟!
قلت: أبدا! لأن الرسول، وهو مفسر القرآن ومبين أحكامه، قد حصرهم في أربعة أشخاص، فقد نقل الطبراني، وابن مردويه، والثعلبي، وأحمد بن حنبل، وأبو نعيم، وابن المغازلي وكثيرون غيرهم، عن ابن عباس أنه قال: «لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما» (1).
بل ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، فقد روى الحافظ الكنجي في الكفاية عن الحافظ أبي نعيم، رواية مثيرة، وهي: «قال جابر بن عبد اللّه: جاء أعرابي إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) فقال: يا محمد، اعرض علي الإسلام، فقال (صلى اللّه عليه وآله): تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، قال: تسألني عليه أجرا؟ قال: لا، إلا المودة في القربى. قال: قرابتي أو قرابتك؟ قال: قرابتي. قال: هات أبايعك، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرابتك لعنة اللّه، فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله): آمين!» (2).
وللفخر الرازي في تفسيره بيان لطيف يقول فيه: «وأنا أقول آل محمد (صلى اللّه عليه وآله) هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعليا والحسن والحسين (عليهما السلام) كان التعلق بينهم وبين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أشد التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل» (3).
ص: 76
ونذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إنهم صراط اللّه المستقيم، الذي ندعو اللّه في سورة الحمد ليهدينا إليه (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (1).
وجاء في ذخائر العقبى عن رسول اللّه أنه قال: «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة، وأغصانها في الدنيا، فمن تمسك بنا اتخذ إلى ربه سبيلا» (2).
ونقل الثعلبي في «الكشف والبيان» عند تفسيره لمعنى (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) عن مسلم بن حيان أنه قال: سمعت عن أبي بريدة أنه كان يقول: «هو صراط محمد وآل محمد».
ونذهب إلى أبعد من هذا، فقد نقل الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن عدة طرق عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: «إن اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتى، وخلقني من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ عنها هوى، ولو أن عبدا عبد اللّه بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام ثم لم يدرك صحبتنا أكبه اللّه على منخريه في النار، ثم تلا: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)» (3). (4) يا أستاذ، نقل الطبراني في معجمه الأوسط عن الإمام الحسين (عليه السلام)، أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: « الزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي اللّه عز وجل وهو يودنا
ص: 77
دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده، لا ينفع عبدا عمله إلا بمعرفة حقنا » (1).
ونقل الحاكم في مستدركه عن ابن عباس أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «لو أن رجلا صفن بين الركن والمقام، صلى وصام ثم لقي اللّه وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار» (2).
يا أستاذ، أهل البيت هم الذين من تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم ولم يؤمن بولايتهم هلك، فقد نقل الحاكم في المستدرك بسنده عن حنش الكناني قال: رأيت أبا ذر متعلق بباب الكعبة، وهو ينادي: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، لقد سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق» (3).
وقال الحاكم في ختام هذا الحديث: سند هذه الرواية صحيح، ونقل الحاكم أيضا عن ابن عباس أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (4).
ص: 78
يا أستاذ، أهل البيت هم الذين اصطفاهم اللّه وقال فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1)، ويستفاد من هذه الآية المباركة أن أهل البيت معصومون من الخطأ والمعصية، لأن اللّه اصطفاهم من بين عباده وطهرهم تطهيرا.
الأستاذ: هذه الآية لا يفهم من ظاهرها الاختصاص بمن ذكرت، لأنها وردت بين الآيات التي تتحدث عن نساء النبي (صلى اللّه عليه وآله)، ولو لاحظت ما قبل وما بعد هذه الآية لاتضح لك أن جميع تلك الآيات تتحدث عن أزواج الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وهذه الآية وردت في سياقها.
قلت: حينما كان الحديث عن أزواج الرسول جاءت الآيات بصيغة الجمع المؤنث مثل: «إن اتقيتن، فلا تخضعن، ولا تبرجن، وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة».
ولكن هنا اختلفت صيغة الخطاب وجاء بصيغة الجمع المذكر، وأمثال هذه الموارد كثيرة في القرآن، وهذا المورد ليس أمرا استثنائيا، ويكفيك مراجعة آية إكمال الدين - التي أشرنا إليها أيضا في ما سبق - لترى أن آية بمثل هذه الأهمية وردت بين آيات تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، انظر الآية الثالثة من سورة المائدة حيث يقول تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
ص: 79
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
يبدو أن هذا الموضوع المهم جدا جملة اعتراضية لا صلة لها بأول الآية وآخرها، وكأن اللّه أخفى هذا الموضوع المهم بين هذه الآيات ليلفت إليه الأنظار بعد الدراسة والدقة الكافية.
وفضلا عن هذا فقد أزال رسول اللّه هذا الإبهام، حتى لا يحمل الناس ما في هذا الأمر على ما قبله وما بعده، حيث استمر النبي (صلى اللّه عليه وآله) بعد نزول هذه الآية - التي لها قصة مثيرة وطويلة - يمر على دار علي وفاطمة (عليها السلام) مدة ستة أشهر قبل ذهابه إلى الصلاة ويخاطبهما بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الصلاة يرحمكم اللّه. (1) وإذا كنت تتذكر أننا نقلنا في البحث السالف عن صحيح مسلم أن الراوي سأل زيد بن أرقم فقال: «من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا وأيم اللّه إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته: أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» (2).
ناهيك عن هذا، فإنك لو نظرت إلى مبحث آية التيمم في صحيحي البخاري ومسلم لثبت لك أن عائشة - إحدى زوجات الرسول - من أسرة أبي بكر لا من أهل بيت الرسول (3).
يا أستاذ، أهل بيت الرسول هم الذين قال فيهم صلوات اللّه عليه وآله: « من
ص: 80
سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (1).
يا أستاذ، هذه الرواية وحدها واللّه كافية لإبلاغنا بوجوب موالاة أهل البيت، فلماذا يحاول البعض تجاهل هذه الحقيقة والتغافل عن كل هذه الفضيلة؟ ألا يرغب هؤلاء بنيل شفاعة محمد (صلى اللّه عليه وآله)؟ وهل من الممكن أن يؤدي المرء بعض الواجبات ويذر بعضها الآخر، كما يروق له ثم يأمل دخول جنان الخلد؟
يا أستاذ، أهل البيت هم الذين من يأتي بابهم لا يرد خائبا، وكل ما يقال في مدحهم لا مبالغة فيه، وهم نفس رسول اللّه وروحه، وهم الذين من أنكر حقهم، فكأنما - واللّه - أنكر حق اللّه، وكل من أبغضهم جزاؤه جهنم له فيها عذاب أليم (2).
ص: 81
يقول الدكتور التيجاني: تحدثت يوما مع صديقي ورجوته وأقسمت عليه أن يجيبني بصراحة، وكان الحوار التالي:
أنتم تنزلون عليا - رضي اللّه عنه وكرم اللّه وجهه - منزلة الأنبياء (عليهم السلام)، لأني ما سمعت أحدا منكم يذكره إلا ويقول «عليه السلام».
قال: فعلا نحن عندما نذكر أمير المؤمنين أو أحد الأئمة من بنيه نقول عليه السلام، فهذا لا يعني أنهم أنبياء، ولكنهم ذرية الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وعترته الذين أمرنا اللّه بالصلاة عليهم في محكم تنزيله، وعلى هذا يجوز أن نقول: عليهم الصلاة والسلام أيضا.
قلت: لا يا أخي، نحن لا نعترف بالصلاة والسلام إلا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) والأنبياء الذين سبقوه، ولا دخل لعلي وأولاده في ذلك - رضي اللّه عنهم -.
قال: أنا أطلب منك وأرجوك أن تقرأ كثيرا حتى تعرف الحقيقة.
قلت: أي الكتب أقرأ يا أخي؟ ألست أنت الذي قلت: بأن كتب أحمد أمين ليست حجة على الشيعة، كذلك كتب الشيعة ليست حجة علينا ولا نعتمد عليها، ألا ترى أن كتب النصارى التي يعتمدونها تذكر أن عيسى (عليه السلام) قال: « إني
ص: 82
ابن اللّه » في حين أن القرآن الكريم - وهو أصدق القائلين - يقول على لسان عيسى بن مريم:
(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (1).
قال: حسنا قلت: لقد قلت ذلك، والذي أريده منك هو هذا، أعني استعمال العقل والمنطق والاستدلال بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة ما دمنا مسلمين، ولو كان الحديث مع يهودي أو نصراني لكان الاستدلال بغير هذا.
قلت: إذا، في أي كتاب سأعرف الحقيقة، وكل مؤلف وكل فرقة وكل مذهب يدعي أنه على الحق.
قال: سأعطيك الآن دليلا ملموسا، لا يختلف فيه المسلمون بشتى مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه!.
قلت: وقل ربي زدني علما.
قال: هل قرأت تفسير الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (2).
فقد أجمع المفسرون سنة وشيعة على أن الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية، جاؤوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقالوا: يا رسول اللّه، عرفنا كيف نسلم عليك، ولم نعرف كيف نصلي عليك! فقال: قولوا اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد (3) ولا تصلوا علي الصلاة البتراء، قالوا: وما الصلاة البتراء يا رسول اللّه؟ قال: أن تقولوا: اللّهم صل
ص: 83
على محمد وتصمتوا (1)، وأن اللّه كامل ولا يقبل إلا الكامل.
ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول اللّه فكانوا يصلون عليه الصلاة الكاملة، حتى قال الإمام الشافعي في حقهم:
يا آل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له (2) كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلى قلبي ويجد في نفسي صدى إيجابيا، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب، ولكن لا أذكر في أي كتاب بالضبط، واعترفت له بأننا عندما نصلي على النبي نصلي على آله وصحبه أجمعين، ولكن لا نفرد عليا بالسلام كما يقول الشيعة.
قال: فما رأيك في البخاري؟ أهو من الشيعة؟
قلت: إمام جليل من أئمة أهل السنة والجماعة، وكتابه أصح الكتب بعد كتاب اللّه.
عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي يريدها، وأعطاني لأقرأ فيه: حدثنا فلان عن فلان عن علي (عليه السلام)، ولم أصدق عيني واستغربت حتى أنني شككت أن يكون ذلك هو صحيح
ص: 84
البخاري، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف!
ولما أحس صديقي بشكي أخذ مني الكتاب وأخرج لي صفحة أخرى فيها: حدثنا علي بن الحسين (عليهما السلام)، فما كان جوابي بعدها إلا أن قلت: سبحان اللّه واقتنع مني بهذا الجواب وتركني وخرج، وبقيت أفكر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثبت في طبعة الكتاب فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر.
يا إلهي، لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجة ملموسة من أصح الكتب عندنا، والبخاري ليس شيعيا قطعا، وهو من أئمة أهل السنة ومحدثيهم، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم علي (عليه السلام)، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلها تتبعها حقائق أخرى لا أحب الاعتراف بها، وقد انهزمت أمام صديقي مرتين، فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني وسلمت بأن موسى الكاظم (عليه السلام) أولى منه، وسلمت أيضا بأن عليا (عليه السلام) هو أهل لذلك، ولكني لا أريد هزيمة أخرى، وأنا الذي كنت منذ أيام قلائل عالما في مصر أفخر بنفسي ويمجدني علماء الأزهر الشريف، أجد نفسي اليوم مهزوما مغلوبا ومع من؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنهم على خطأ، فقد تعودت على أن كلمة «شيعة» هي مسبة.
إنه الكبرياء وحب الذات، إنها الأنانية واللجاج والعصبية، إلهي ألهمني رشدي، وأعني على تقبل الحقيقة ولو كانت مرة.
اللّهم افتح بصري وبصيرتي، واهدني إلى صراطك المستقيم، واجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللّهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردد هذه الدعوات، فقال مبتسما: هدانا
ص: 85
اللّه وإياكم وجميع المسلمين، وقد قال في محكم كتابه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (1).
والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة، واللّه سبحانه يهدي إلى الحق كل من بحث عن الحق (2).
ص: 86
ص: 87
ص: 88
كنت يوما في الروضة النبوية المقدسة قرب الشباك الشريف فجاء أحد من أهل الفضل والعلماء الساكنين في قم، وأغفل المأمور الواقف بجانب الشباك المقدس، المانع من تقبيل الناس، وقبل الضريح ثم مضى لشأنه، فالتفت المأمور الذي كان من هيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ثم أقبل إلي وقال باحترام: يا سيد، لم لا تمنع أصحابك من التقبيل؟ هذا حديد من إسطنبول (1).
قلت: أتقبلون الحجر الأسود؟
قال: نعم.
قلت: ذاك أيضا حجر، فإذا كان هذا شركا فذاك أيضا شرك.
قال: لا، إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قبله.
قلت: افرض أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قبله، إذا كان تقبيل الجسم بقصد التيمن والتبرك
ص: 89
شركا، فلا فرق بين صدوره من النبي (صلى اللّه عليه وآله) أو غيره.
قال: قبله النبي (صلى اللّه عليه وآله) لأنه نزل من الجنة (1).
ص: 90
قلت: نعم معلوم أنه نزل من الجنة لكن - والعياذ باللّه - هل اللّه حل فيه حتى يجوز تقبيله ويصير معبودا؟ أليس لأنه لما نزل من الجنة صار شريفا، وأن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قبله وأمر بتقبيله لأجل شرافته لكونه من أجزاء الجنة.
قال: نعم.
قلت: شرافة الجنة وأجزاؤها لا تكون إلا من جهة وجود النبي (صلى اللّه عليه وآله).
قال: نعم.
قلت: صارت الجنة وأجزاؤها ذات شرافة لأجل وجود النبي (صلى اللّه عليه وآله) ويجوز تقبيل الشئ الذي يعد جزءا من الجنة تيمنا وتبركا، فهذا الحديد وإن كان من إسطنبول إلا أنه لأجل مجاورته لقبر النبي (صلى اللّه عليه وآله) صار شريفا يجوز تقبيله تبركا وتيمنا.
أقول: يا للعجب جلد المصحف لا يكون إلا من أجزاء حيوان يأكل العلوفة في البر والصحراء، وفي ذلك الوقت لا احترام له ولا يحرم تنجيسه وهتكه، لكن بعد ما صار جلدا للقرآن يصير محترما ويحرم هتكه ويتبرك به، والمتداول بين المسلمين من الصدر الأول إلى زماننا هذا تقبيله تيمنا وتبركا، واحتراما أو محبة، كتقبيل الوالد ابنه، ولم يقل أحد بأنه شرك وحرام، وتقبيل المسلمين قبر النبي (صلى اللّه عليه وآله) وضريحه وقبور الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) وضرائحهم المقدسة (عليهم السلام) من هذا الباب ولا يرتبط بالشرك أصلا (1).
ص: 91
قال رئيس هيئة الأمرين بالمعروف الشيخ سيف إمام مسجد الغمامة بالمدينة: لأي علة تقبلون شبابيك الحديد في حرم الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، والتقبيل شرك؟ قلت: لأي علة تقبلون أنتم الحجر الأسود وجميع الشيعة وأهل السنة كلهم يقبلون الحجر الأسود؟ لأي علة تقبلون جلد القرآن، وأنت ألا تقبل ولدك؟ ألا تقبل زوجتك؟ فأنت إذن مشرك، وفي كل ليلة وكل ويوم يشرك الإنسان مائة مرة.
قال رئيس الهيئة: الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله) مات، والميت لا يضر ولا ينفع، فأي شئ تريدون من قبر الرسول؟
قلت: الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله) ما مات، لأن القرآن يقول: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (1) والروايات الواردة في أن حرمته ميتا كحرمته حيا كثيرة.
قال: هذه الحياة غير الحياة التي نحن فيها.
قلت: أي حياة تقولون بها، نحن نقول بها، وأنت إذا مات أبوك ألا تذهب
ص: 92
إلى قبره وتطلب المغفرة له؟
قال: نعم.
قلت: يا شيخ، إنا ما رأينا الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في زمن حياته، والساعة نجئ لزيارة قبره الشريف ونتبرك به.
قال: لأي علة تصيحون عند القبور، والصياح عند القبور حرام؟
قلت: الصياح عند القبور ليس بحرام، بالأخص عند قبر الرسول الأعظم والأئمة المعصومين، لأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) صاحا على حمزة سيد الشهداء (عليه السلام).
قال: الخليفة الثاني عمر نهى عن الصياح عند القبور.
قلت: لا نعتني بقول عمر بعد فعل الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) عند قبر حمزة (عليه السلام).
قال الشيخ رئيس الهيئة: لأي علة تصلون للنبي (صلى اللّه عليه وآله) صلاة الزيارة، والصلاة لغير اللّه شرك؟
قلت: إنا لا نصلي للنبي (صلى اللّه عليه وآله) بل نصلي لله، ونهدي ثوابها إلى روح الرسول (صلى اللّه عليه وآله).
قال: الصلاة عند القبور شرك؟
قلت: فعليه، الصلاة في المسجد الحرام أيضا شرك، لأن في حجر إسماعيل قبر هاجر وقبر إسماعيل وقبور بعض الأنبياء على ما نقله الفريقان (1)،
ص: 93
فعلى ما قلت تكون الصلاة في حجر إسماعيل شركا، والحال أن أرباب جميع المذاهب، الحنفي والحنبلي والمالكي والشافعي وغيرهم يصلون في حجر إسماعيل (1)، فلا تكون الصلاة عند القبور شركا.
سألت رئيس الهيئة عن الأسماء المكتوبة على جدران مسجد الرسول: أبو بكر وعمر، وطلحة، والزبير وعلي بن أبي طالب (عليه السلام).. إلى آخر العشرة الذين تقولون بأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بشرهم بأنهم من أهل الجنة، وتسمونهم بالعشرة المبشرة بالجنة (2).. كيف يحارب رجل من أهل الجنة مع رجل من أهل الجنة؟ أما حارب طلحة والزبير بزعامة عائشة في الجمل بالبصرة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمام المسلمين الذي بايعه أهل الحل والعقد، مع أنكم تقولون بأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بشر علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأنه من أهل الجنة (3) وطلحة والزبير بشرهما بأنهما من أهل
ص: 94
الجنة، مع أن القرآن يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) (1) فحديث العشرة المبشرة مخالف للقرآن، فاللازم ضربه على الجدار، لأن القرآن يقول بالنسبة إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله): (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (2)، فحديث العشرة المبشرة كذب محض، ويكون الحق إما مع علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، وإما مع طلحة والزبير، وعلى رأسهم عائشة أم المؤمنين، وكل المسلمين يعترفون بأن الحق مع علي (عليه السلام) لأنه إمام المسلمين بإجماع أهل الحل والعقد.
لكن الشيخ رئيس الهيئة قال: بأن الجماعة المذكورة يعني علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وطلحة والزبير وعائشة كلهم مجتهدون.
قلت: الاجتهاد على خلاف القرآن لا يجوز، فاقرؤا أيها القراء الكرام واحكموا بما هو مفاد العقل والوجدان السليم. (3)
ص: 95
ص: 96
ص: 97
ص: 98
العالم الشيعي: لماذا خربت تلك الأبنية؟ - يعني الأبنية التي في البقيع - لماذا هذه الإهانة وعدم الاحترام؟
السني: هل تقبل كلام الإمام علي (عليه السلام)؟
العالم الشيعي: نعم، هو أول إمام لنا، وخليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بلا منازع.
السني: ورد في كتبنا المعتبرة: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قال: يحيى أخبرنا، وقال الآخران، حدثنا: وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب (عليه السلام): ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته. (1) العالم الشيعي: هذا الحديث، مخدوش من حيث السند والدلالة ومرفوض، أما سندا، فلوجود 1 - وكيع 2 - سفيان 3 - حبيب بن أبي ثابت 4 - أبي وائل، الذين لم يوثقوا من طرف أهل الحديث.
فمثلا قال أحمد بن حنبل حول «وكيع»: « أنه أخطأ في خمس مائة
ص: 99
حديث » (1).
وأما «سفيان الثوري»، فقد نقل ابن المبارك: «أن سفيان الثوري كان يدلس في الحديث، ويخجل مني حين يراني» (2)، والتدليس: هو أن يظهر الباطل بصورة الحق، وأما «حبيب بن أبي ثابت»، فقد نقل عن ابن حيان أنه كان يدلس في الحديث (3).
وأما «أبي وائل» فقيل عنه: «إنه كان من النواصب، ومن جملة الذين انحرفوا عن الإمام علي (عليه السلام)» (4).
كما ينبغي التوجه إلى أن جميع كتب الصحاح الستة لأهل السنة، قد نقلت عن «أبي الهياج» فقط هذا الحديث، مما يعتبر مؤشرا على أنه لم يكن من أهل الحديث، ولم يكن مورد اعتماد، فالحديث المذكور لا يعتمد عليه سندا.
وأما دلالة ومحتوى:
أ - أن الاصطلاح اللغوي لكلمة «مشرف» في الحديث المذكور، بمعنى المكان المرتفع المسلط على مكان آخر أدنى منه، فلا يشمل كل شئ مرتفع.
ب - وأما الاصطلاح اللغوي ل «سويته»، بمعنى التساوي والاستقامة، لذلك، لا يكون معنى الحديث هو هدم كل قبر عال، إضافة إلى أن مساواة القبر مع الأرض خلاف للسنة الإسلامية، لأن جميع فقهاء الإسلام قد أفتوا باستحباب
ص: 100
رفع القبر عن الأرض ولو شبرا (1).
ويطرأ احتمال آخر هو أن المراد من «سويته» تساوي سطح القبر وعدم جعله محدبا كتحدب ظهر البعير، كما فهم هذا المعنى علماء كبار من أهل السنة، كمسلم في صحيحه، والترمذي والنسائي في سننهما.
فالنتيجة: إنه توجد ثلاث احتمالات: 1 - هدم بناء القبر وخرابه 2 - مساواة سطح القبر مع الأرض 3 - أن يكون سطح القبر مسطحا لا محدبا، والاحتمال الأول والثاني غير صحيح، والاحتمال الثالث هو الصحيح.
لذلك، لا يدل الحديث المذكور على هدم بناء القبور، ونضيف أيضا: لو كان الإمام علي (عليه السلام) يقول بهدم أبنية القبور، فلماذا لم يهدم أبنية قبور أولياء اللّه والأنبياء (عليهم السلام) في البيت المقدس، في عصر خلافته، ولم ينقل لنا التأريخ شواهد كهذه.
السني: أريد أن أطرح سؤالا؟ هل يوجد دليل في القرآن يصرح بلزوم بناء الأبنية والأضرحة المجللة والعظيمة على قبور أولياء اللّه؟
العالم الشيعي: أولا: ليس من المفروض أن يذكر كل شئ في القرآن، حتى المستحبات وإلا لبلغ حجم القرآن أضعاف ما عليه الآن.
وثانيا: هناك إشارات إلى هذا الموضوع، في القرآن، فمثلا الآية 32 من سورة الحج (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، أن اصطلاح «شعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة أو الآية، وليس المنظور في هذ الآية وجود اللّه، لأن العالم بأكمله، آيات وجود اللّه سبحانه، بل المنظور (معالم
ص: 101
دين اللّه) (1).
فكل ما له ارتباط بدين اللّه، فاحترامه يوجب القرب الإلهي، فنقول: أن قبور الأنبياء والأئمة وأولياء اللّه (عليهم السلام) تعتبر معالم لدين اللّه، فلو بنيت تلك القبور بنحو جميل ومجلل وفخم، كان دليلا على احترام شعائر اللّه، ويكون عملا محبوبا لدى اللّه طبقا للقرآن، وأشارت الآية (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (2).
إن المودة والتقرب لأهل بيت النبي (صلى اللّه عليه وآله) هي أجر للرسالة، فيكون بناء قبور أهل بيته بنحو مجلل لائق بهم، إحدى أسباب التقرب وإظهار الحب لأهل بيت النبي (صلى اللّه عليه وآله)، لا أنها فعل محرم.
فمثلا، لو وضعنا القرآن الكريم في مكان غير مناسب، على التراب وفي معرض المطر والرياح، ألا يعتبر ذلك إهانة للقرآن؟ وإذا لم يعتبر إهانة أليس من الأفضل أن نغلفه ونضعه في مكان مناسب بعيدا عن الغبار والنجاسة؟ السني: هذا الكلام يقع مورد قبول في المجامع العرفية، أما في القرآن فلا يوجد دليل صريح على ذلك.
العالم الشيعي: جاء في القرآن في قصة أصحاب الكهف: إنهم التجأوا إلى الغار وغطوا في نوم عميق، فحينما عثر الناس عليهم وهم بهذه الصورة، تنازعوا فيما بينهم، فقال بعض: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)، وقال بعض آخر: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) (3).
ص: 102
فالقرآن ينقل كلا النظرين، من دون انتقاد لهما، فلو كان كلا النظرين، أو أحدهما، حراما وغير صحيح، لتعرض قطعا لانتقاد القرآن، وعلى أية حال فكلا النظرين، يدلان على نوع من الاحترام لقبور أولياء اللّه، والآيات الثلاث المذكورة 1 - آية تعظيم الشعائر 2 - آية المودة 3 - النظران المذكوران في قبور أصحاب الكهف، تدل على جواز بل استحباب بناء قبور أولياء اللّه بصورة فخمة (1).
ص: 103
نقل أحد علماء الشيعة إنه وقع حوار في مجلس بينه وبين رئيس دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حول زيارة مرقدي (1) عبد المطلب، وأبي طالب عليهما رضوان اللّه.
فقال: لماذا تقوم الشيعة بزيارة مرقديهما؟
قلت: هل في ذلك من بأس؟
الرئيس: كان عبد المطلب يعيش في زمن «الفترة» إذ توفي عبد المطلب والنبي (صلى اللّه عليه وآله) لم يبلغ الثامنة من عمره الشريف، ولم يبعث من قبل اللّه لمقام النبوة، ولم يكن دين التوحيد قد ظهر في ذلك العصر، فلماذا تقومون بزيارة قبره؟!
ص: 104
وأما أبو طالب فقد مات مشركا - والعياذ باللّه - ولا يجوز زيارة المشركين؟
قلت: أما في شأن «عبد المطلب»، فهل هناك أحد من المسلمين يذهب إلى شركه؟
بل كان عبد المطلب في عصره موحدا على دين جده إبراهيم (عليه السلام)، أو كان من أوصياء النبي عيسى (عليه السلام)، وقد ذكرت في كتب السنة، حادثة جيش أبرهة الذي جاء ليهدم الكعبة كما أشارت إليها سورة الفيل، وكيفية هلاكهم عندما ذهب عبد المطلب ليرجع نياقه من عند أبرهة.
قال له أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مئتي بعير أهبها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟
فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه.
ثم ذهب إلى الكعبة وتمسك بأذيالها ودعا هناك بعدة أبيات شعرية:
لا هم (1)، إن العبد يمنع *** رحله فامنع حلالك (2)
لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم غدوا (3) محالك (4)
إن كنت تاركهم وقب *** لتنا ، فاقر ما بدا لك (5)
ص: 105
فاستجاب اللّه عز وجل دعاءه، وأرسل على جيش أبرهة طيورا أبابيل، فأهلكتهم، ونزلت سورة الفيل بشأنهم.
وورد في روايات الشيعة عن الإمام علي (عليه السلام) إنه قال: عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يقول: واللّه ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط، قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم (عليه السلام) متمسكين به » (1).
وأما في شأن أبي طالب رضوان اللّه عليه.
أولا: فبإجماع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وعلماء الشيعة، أنه توفي مسلما ومؤمنا، نقل ابن أبي الحديد - أحد أبرز علماء السنة - عن الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين بن علي (عليه السلام) « أنه سئل عن أبي طالب أكان مؤمنا؟
فقال (عليه السلام): نعم.
فقيل له: إن هاهنا قوما يزعمون أنه كافر.
فقال (عليه السلام): واعجبا كل العجب، أيطعنون على أبي طالب (عليه السلام)، أو على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ وقد نهاه اللّه تعالى أن يقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن، ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد - رضي اللّه تعالى عنها - من المؤمنات السابقات، فإنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب (رضي اللّه عنه) » (2).
ثانيا: نقل الرواة وكثير من علماء أهل السنة، أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال لعقيل بن
ص: 106
أبي طالب: إني أحبك حبين، حبا لقرابتك مني، وحبا لما كنت أعلم من حب عمي أبي طالب إياك (1)، فهذا الحديث عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) خير دليل، وشاهد صدق على إيمان أبي طالب، وإلا لما كان النبي (صلى اللّه عليه وآله) يحب عقيلا لأجل ذلك، إذ لا خير في حب الكافر.
وبعبارة أوضح: مع الأسف الشديد، أن الإخوة من أهل السنة ونتيجة اتباعهم اللاواعي لأسلافهم نقلوا عدم إيمان أبي طالب (عليه السلام) حين وفاته جيلا بعد جيل، مع غفلتهم الكاملة بالنسبة إلى كتبهم ومتونهم، إذ تحتوي على العشرات بل المئات من الروايات والشواهد القطعية على إيمانه، أما علة إصرار المتعصبين على شرك أبي طالب (عليه السلام)، هي عدائهم لابنه العظيم الإمام علي (عليه السلام)، ونشأت هذه الفكرة العدائية منذ عصر الأمويين ثم شاعت واستمرت إلى يومنا هذا.
وأقسم، أنه لو لم يكن أبو طالب والدا لعلي (عليه السلام) لكان عندهم من المؤمنين الشرفاء، من أعمام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وللقبوه بمؤمن قريش.
التقيت مع ابن العلامة الأميني (قدس سره) صاحب كتاب «الغدير» ودار الحوار عن أبي طالب (عليه السلام) فقال: عندما كنا في النجف الأشرف سمعت أن أحد علماء مصر ويدعى «أحمد خيري» بدأ بتأليف كتاب عن حياة أبي طالب (عليه السلام)، فكتبت له رسالة وطلبت منه عدم نشره حتى ننشر المجلد السابع من كتاب الغدير لأنه كان تحت الطبع.
وعندما خرج المجلد السابع من المطبعة اختص قسم منه بحياة أبي
ص: 107
طالب (عليه السلام)، أرسلت نسخة منه إليه، وبعد فترة قصيرة وصلتني رسالة منه وقد كتب فيها بعد تشكره وتقديره لنا: وصلني كتابكم الغدير، وقد هدم بصورة عامة جميع أفكاري السابقة عن أبي طالب (عليه السلام)، وقلب أساس ما كتبت عنه، وخلق عندي فكرة جديدة، وختم الرسالة بهذه العبارة: إن جهاد أبي طالب، وحمايته عن الإسلام إلى حد جعله سهيما لإيمان جميع المسلمين في العالم، وهم مدينون له.
الرئيس: إذا كان إيمانه بهذا الوضوح، فلماذا اختلف علماؤنا فيه، وقد صرح بعضهم بكفره؟ وما هي علة ذلك؟
قلت: كما مرت الإشارة آنفا، أن الحقيقة تكمن في عداء بني أمية لعلي (عليه السلام) خصوصا في عهد حكومة معاوية فأشاعوا سبه في أرجاء البلاد الإسلامية، حتى في قنوتهم وصلواتهم وقد سبوه على منابرهم، قرابة ثمانين عاما، فتحركت عناصر مشبوهة ومناوئة بوضع الأحاديث والروايات المفتعلة، في كفر أبي طالب (عليه السلام) حتى يعرف عليا (عليه السلام) بأنه ابن كافر، وتعلم أن هذه الروايات المفتعلة وجدت طريقها إلى كتبكم وصحاحكم، وشوهت أفكاركم، وإلا فإن إيمان أبي طالب (عليه السلام) أوضح من الشمس في رابعة النهار.
وعلة أخرى هي: أن أبا طالب (عليه السلام) اتخذ أسلوب التقية والاحتياط في الدفاع عن الإسلام، حتى يتمكن من حماية النبي (صلى اللّه عليه وآله)، ولو أظهر إسلامه علنا عند قريش لما كان بمقدوره أبدا الدفاع عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في السنوات الأولى من البعثة الشريفة.
ولذا ورد في روايات عديدة، أن مثل أبي طالب كمثل «مؤمن آل فرعون» أو «أصحاب الكهف» فإنه كتم إيمانه لحماية أفضل الأديان.
ص: 108
عن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه (عليهم السلام) في حديث طويل: إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إني قد أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سرا، وشيعة تنصرك علانية، فأما التي تنصرك سرا فسيدهم وأفضلهم عمك أبو طالب، وأما التي تنصرك علانية فسيدهم وأفضلهم ابنه علي بن أبي طالب، ثم قال: وإن أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه » (1).
فواضح لأهل البصيرة أن هاتين الطائفتين وقفتا موقفا بطوليا مشرفا في الدفاع عن الإسلام، والجهاد الخفي لا يقل أهمية عن الجهاد العلني (2).
ص: 109
ص: 110
ص: 111
ص: 112
المناظرة الرابعة عشر: مناظرة الشيخ الأنطاكي (1) مع بعضهم في حكم السجود على التربة الحسينية وإقامة العزاء في يوم الرابع عشر من شهر محرم الحرام سنة 1374 هجرية أتاني جماعة من علماء السنة وبعضهم زملائي في الأزهر حاملين علي حقدا في صدورهم لأخذي بمذهب أهل البيت وتركي مذهب السنة، ودار البحث بيننا طويلا يقرب حوالي عشر ساعات تقريبا وذلك في كثير من المسائل.
ومنها: انتقادهم على الشيعة بأنهم يسجدون على التربة الحسينية فهم مشركون، وإجراؤهم التعازي على الإمام الحسين (عليه السلام) وهو بدعة؟!
ص: 113
فقلت لهم: كلاهما أمر محبوب محبذ إليه من الشارع المقدس، أما قولكم: إن الشيعة يسجدون على التربة الحسينية فهم مشركون! هذا غير صحيح لأن السجود على التربة لا يكون شركا، لأن الشيعة تسجد على التربة لا لها، وإن كانت الشيعة تعتقد على حسب مدعاكم وزعمكم - على الفرض المحال - أن التربة هي أو في جوفها شئ يسجدون لأجلها، فكان اللازم السجود لها لا السجود عليها، لأن الشخص لا يسجد على معبوده، لأن السجود يجب أن يكون للمعبود وهو اللّه يعني تكون الغاية من السجود والخضوع هو اللّه سبحانه، أما السجود على اللّه فهو كفر محض، فسجود الشيعة على التربة ليس شركا!
فأجابني أحدهم وهو أعلمهم قائلا: أحسنت يا فضيلة الشيخ على هذا التحليل اللطيف، ولنا أن نسألك ما سبب إصرار الشيعة على السجود على التربة، ولم لا تسجدون على سائر الأشياء كما تسجدون على التربة؟
فأجبته: ذلك عملا بالحديث المتفق عليه بالإجماع جميع فرق المسلمين وهو قوله (صلى اللّه عليه وآله): جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1)، فالتراب الخالص هو الذي يجوز السجود عليه باتفاق جميع طوائف المسلمين، ولذلك نسجد دائما على التراب الذي اتفق المسلمون جميعا على صحة السجود عليه.
فسألني: وكيف اتفق المسلمون عليه؟
فأجبته: أول ما جاء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إلى المدينة وأمر ببناء مسجد فيها، هل كان المسجد مفروشا بفرش؟
ص: 114
فأجابني: كلا لم يكن مفروشا.
قلت: فعلى أي شئ كان يسجد النبي (صلى اللّه عليه وآله) والمسلمون؟
أجابني: على أرض المسجد المفروشة بالتراب.
قلت: ومن بعد النبي في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) هل كان المسجد مفروشا بفرش؟
فأجابني أيضا: كلا.
قلت: فعلى أي شئ كان المسلمون يسجدون في صلواتهم في المسجد؟ أجابني: على أرض مفروشة بالتراب.
فقلت: إذن جميع صلوات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كانت على الأرض وكان يسجد على التراب، وكذلك المسلمون في زمانه وبعده كانوا يسجدون على التراب، فالسجود على التراب صحيح قطعا، ومعاشر الشيعة إذ تسجد على التراب تأسيا برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فتكون صلواتهم صحيحة قطعا.
فأورد علي: بأن الشيعة لم لا تسجد على غير التربة التي يحملونها معهم من سائر مواضع الأرض أو غيرها من التراب؟
فأجبته: أولا: أن الشيعة تجوز السجود على كل أرض سواء في ذلك المتحجر منها أو التراب
ثانيا: حيث إنه يشترط في محل السجود الطهارة من النجاسة، فلا يجوز السجود على أرض نجسة، أو تراب غير طاهر، لذلك يحملون معهم قطعة من الطين الجاف الطاهر تفصيا عن السجود على ما لا يعلم طهارته من نجاسته، مع العلم أنهم يجوزون السجود على تراب أو أرض لا يعلم بنجاسته
ص: 115
فأورد علي: إن كانت الشيعة يريدون بذلك السجود على التراب الطاهر الخالص فلم لا يحملون معهم ترابا يسجدون عليه؟
فأجبته: حيث إن حمل التراب يوجب وسخ الثياب لأنه أينما وضع من الثوب فلا بد أن يوسخه، لذلك نمزجه بشئ من الماء ثم ندعه ليجف حتى لا يوجب حمله وسخ الثوب.
ثم أن السجود على قطعة من الطين الجاف أكثر دلالة على الخضوع (1) والتواضع لله، فإن السجود هو غاية الخضوع، ولذا لا يجوز السجود لغير اللّه سبحانه، فإذا كان الهدف من السجود هو الخضوع لله، فكلما كان مظهر السجود أكثر في الخضوع لا شك أنه يكون أحسن ومن أجل ذلك استحب أن يكون موضع السجود أخفض من موضع اليدين والرجلين، لأن ذلك أكثر دلالة على الخضوع لله تعالى.
وكذلك يستحب أن يعفر الأنف بالتراب في حال السجدة (2) لأن ذلك أشد دلالة على التواضع والخضوع لله تعالى، ولذلك فالسجود على الأرض أو على قطعة من الطين الجاف أحسن من السجود على غير هما مما يجوز السجود عليه، لأن في ذلك وضع أشرف مواضع الجسد، وهو الجبهة على الأرض
ص: 116
خضوعا لله تعالى وتصاغرا أمام عظمته.
أما أن يضع الإنسان في حال السجدة جبهته على سجاد ثمين، أو على معادن كالذهب والفضة وأمثالهما أو على ثوب غالي القيمة، فذلك مما يقلل من الخضوع والتواضع وربما أدى إلى عدم التصاغر أمام اللّه العظيم.
إذن فهل يمكن أن يعتبر السجود على ما يزيد من تواضع الإنسان أمام ربه شركا وكفرا!؟ والسجود على ما يذهب بالخضوع لله تعالى تقربا من اللّه؟! إن ذلك إلا قول زور.
ثم سألني: فما هذه الكلمات المكتوبة على التربة التي تسجد الشيعة عليها؟ فأجبته.
أولا: إنه ليس جميع أقسام التربة مكتوبا عليها شئ، فإن هناك كثيرا من التربات ليس عليها حرف واحد.
وثانيا: المكتوب على بعضها سبحان ربي الأعلى وبحمده، رمزا لذكر السجود، وعلى بعضها إن هذه التربة متخذة من تراب أرض كربلاء المقدسة، باللّه عليك أسأل من فضيلتك هل في ذلك بأس؟ وهل يعد ذلك شركا؟ أو هل ذلك يخرج التربة عن كونها ترابا جائز السجود عليه؟! فأجابني كلا!
ثم سألني: ما هذه الخصوصية في تربة أرض كربلاء، حيث إن أكثر الشيعة مقيدون بالسجود عليها مهما أمكن؟
قلت: السر في ذلك أنه ورد في الحديث الشريف: السجود على تربة أبي عبد اللّه (عليه السلام) يخرق الحجب السبع (1)، يعني أن السجود عليها يوجب قبول الصلاة
ص: 117
وصعودها إلى السماء، وما ذلك إلا لإدراك أفضلية ليست في تربة غير كربلاء المقدسة
فأورد علي: هل السجود على تربة الحسين (عليه السلام) تجعل الصلاة مقبولة عند اللّه تعالى ولو كانت الصلاة باطلة؟
فأجبته: إن الشيعة تقول: بأن الصلاة الفاقدة لشرط من شرائط الصحة باطلة غير مقبولة، ولكن الصلاة الجامعة لجميع شرائط الصحة قد تكون مقبولة عند اللّه تعالى وقد تكون غير مقبولة، أي لا يثاب عليها، فإذا كانت الصلاة الصحيحة على تربة الحسين (عليه السلام) قبلت ويثاب عليها، فالصحة شئ والقبول شئ آخر.
فسألني: وهل أرض كربلاء المقدسة أشرف من جميع بقاع الأرض (1) حتى أرض مكة المعظمة والمدينة، حتى يكون السجود عليها أفضل؟ (2)
ص: 118
فقلت: وما المانع من ذلك؟
قال: إن تربة مكة التي لم تزل منذ نزول آدم (عليه السلام) إلى أرض مكة، وأرض المدينة المنورة التي تحتضن جسد الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله) تكونان في المنزلة دون منزلة كربلاء؟! قال: هذا أمر غريب، وهل الحسين بن علي (عليه السلام) أفضل من جده الرسول (صلى اللّه عليه وآله)؟
قلت: كلا إن عظمة الحسين من عظمة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وشرف الحسين من شرف الرسول، ومكانة الحسين عند اللّه تعالى إنما هي لأجل أنه إمام سار على دين جده الرسول (صلى اللّه عليه وآله) حتى استشهد في ذلك، لا.. ليست منزلة الحسين إلا جزءا من منزلة الرسول، ولكن حيث إن الحسين (عليه السلام) قتل هو وأهل بيته وأنصاره في سبيل إقامة الإسلام وإرساء قواعده، وحفظها عن تلاعب متبعي الشهوات عوضه اللّه تعالى باستشهاده ثلاثة أمور:
ص: 119
الأول: استجابة الدعاء تحت قبته.
الثاني: الأئمة من ذريته.
الثالث: الشفاء في تربته (1).
فعظم اللّه تعالى تربته لأنه قتل في سبيل اللّه أفجع قتلة وقتل معه أولاده وإخوته وأصحابه وسبي حريمه، وغير ذلك من المصائب التي نزلت به من أجل الدين، فهل في ذلك مانع؟ أم هل في تفضيل تربة كربلاء على سائر بقاع الأرض حتى على أرض المدينة معناه أن الحسين (عليه السلام) أفضل من جده الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بل الأمر بالعكس فتعظيم تربة الحسين تعظيم للحسين، وتعظيم الحسين (عليه السلام) تعظيم لله ولجده رسول اللّه (عليه السلام).
فقام أحدهم عن مجلسه وعليه آثار البشاشة والسرور فحمدني كثيرا وطلب مني بعض مؤلفات الشيعة بعد أن قال: مولاي إفاداتك هذا صحيح، وإني كنت أتخيل أن الشيعة يفضلون الحسين (عليه السلام) حتى على جده رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، والآن عرفت الحقيقة وأشكرك على هذه المناظرة اللطيفة والإلفاتات الطيبة التي زودتنا بها، وسوف أحمل معي أبدا قطعة من أرض كربلاء المقدسة لأسجد عليها أينما صليت، كما أني سأدع السجود على غير التراب ومخصوصا التربة الحسينية
ثم قلت: وأما قولك: إجراء الشيعة التعازي على الإمام الحسين (عليه السلام) هو بدعة فهذا كلام باطل فاسد! ولا أدري لماذا تنقمون على الشيعة بإقامتهم
ص: 120
التعازي على شهيد الحق والإنسانية الإمام بن الإمام حفيد الرسول وسلالة الزهراء البتول سيد الشهداء الإمام أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) في مصابه العظيم الذي زلزلت لها أظلة العرش مع أظلة الخلائق والحادثة المروعة التي لم يسبقها في العالم الإسلامي ولا في غيره سابق ولا يلحقها لاحق، إذ أنه جلل عم خطبه العظيم جميع الأمة الإسلامية حتى الجن والطير والوحش راجع كتب المقاتل تعرف (1)، وبعضكم يعترض على الشيعة بأن الحسين (عليه السلام) قتل منذ زمن بعيد يربو على 13 قرنا، فأي فائدة في البكاء عليه واللطم على الصدور والضرب بالسلاسل بحيث يسيل الدم.
فاعلموا أن عمل الشيعة هذا هو عين الصواب أولا: لو أنهم لم يستمروا على إقامة ذكرى سيد الشهداء لأنكرتموه كما أنكرتم يوم الغدير، وحديثه المشهور المعترف به المؤالف والمخالف فرواه أكثر من مائة وثمانين صحابيا، فيهم البدري وغيره ومن التابعين أكثر فأكثر، فالشيعة لم يأتوا بشئ إذا.
ثانيا: الشيعة اقتفوا أثر أئمتهم في ذكرى أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام)، فلو وقفتم على كتب الشيعة لما أوردتم علينا نقدا، وألفت نظركم إلى كتاب مقدمة المجالس الفاخرة للإمام شرف الدين، وإقناع اللائم على إقامة المآتم للإمام السيد محسن الأمين العاملي - رحمهما اللّه - ففيهما من الحجج ما يقنع الجميع وانظروا أيضا إلى ص 576 من مصابيح الجنان للحجة السيد الكاشاني إذ قال فيه: ينبغي للمسلمين إذا دخل شهر المحرم أن يستشعروا الحزن والكآبة، وأن يعقدوا المجالس والمآتم لذكرى ما جرى على سيد الشهداء وأهل بيته والصفوة من أصحابه من الظلم والعدوان، وهو أمر مندوب إليه ومرغب فيه، على أن في
ص: 121
ذلك تعظيما لشعائر اللّه تعالى، وامتثالا لأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) واقتداء بالأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ويدل عليه ما ورد عن الرضا (عليه السلام) وهو الإمام الثامن من أوصياء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: كان أبي - وهو الكاظم، الإمام السابع من أوصياء الرسول (صلى اللّه عليه وآله) -: إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلى اللّه عليه (1)، ويستفاد منه رجحان كل ما له دخل في الحزن والكآبة (2) من غير أن يشتمل على فعل محرم ثم قال: ويستحب البكاء وإجراء التعازي على سيد الشهداء وإسالة الدموع عليه لا سيما في العشر الأول من المحرم، فإن البكاء عليه من الأمور الحسنة المندوبة، ومن موجبات السعادة الأبدية والزلفى إلى المهيمن سبحانه، ويكفي في رجحانه الأحاديث المعتبرة المروية عن الحجج الطاهرة وهي كثيرة جدا نحيلك على مظانها (3).
ص: 122
إلى أن قال: وأما الذين يعيبون الشيعة بذلك فلا يعبأ بقولهم إذ إنهم حائدون عن جادة الإنصاف، وقاسطون عن طريق الصواب، مع هذه النصوص الكثيرة المتواترة الواردة عن الأئمة السلف خاصة عن أئمة العترة الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام) وهم أحد الثقلين الذين لا يضل المتمسك بهما على أن في ذلك من المواساة لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ووصيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وابنته الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام).
وقد اتفقت الطوائف الإسلامية على اختلاف مذاهبها على جواز التفجع لفقد الأحبة والعظماء جرت عليها سيرتهم العملية وإجماعهم وكان عليه السلف وتشهد بذلك الموسوعات الضخمة المشحونة بأقوالهم وأفعالهم سواء في ذلك الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم من سائر المسلمين، فمن راجع كتبهم يجد نصوصهم في هذا المورد بكثرة مدهشة.
فنحن إذ نجد الأدلة النقلية والعقلية متوفرة، نجدد ذكرى مصاب سيد الشهداء وريحانة الرسول الإمام الحسين (عليه السلام) غير مكترثين بالتقولات الشاذة التي لا وزن لها، راجين بذلك من اللّه الثواب ومن رسوله الشفاعة يوم الحساب، إنتهى ما جاء في مصابيح الجنان للكاشاني.
ثم أيها الإخوان إن الشيعة مقتدون بسلفهم الصالح إذ جاء في حديث معتبر مأثور أن عليا زين العابدين بن الحسين (عليه السلام) لما عاد من أسره هو ومن معه من
ص: 123
أسارى أهل البيت (عليهم السلام) من دمشق جعلوا طريقهم على العراق ولما وصلوا كربلاء أخذ هو ومن معه في البكاء يندبون الحسين (عليه السلام).
فأي بأس على الشيعة في أمثال هذه الأعمال المقدسة المحبوبة عند اللّه ورسوله والصفوة من آله؟
لكن البأس كل البأس والنقد الشديد موجه عليكم، وهو أنكم أخذتم ببدعة يزيد بن معاوية الطليق ابن الطليق، إذ أنه جعل في كل سنة في العشر الأول من المحرم عيدا يقيم فيه الأفراح وينصب الزينة، وتقام المهرجانات ويسميه عيد النصر والفوز، وأشفعه ببدعة أخرى تدل على خسته ودنائته فإنه قد أتى بمومسة تشبه في صفتها جدته هند بنت عتبة فيجمع الأخساء من بني شجرته الملعونة ويأتي بآلة الطرب والخمر وكل ما يلزمه من الأشياء وتعزف الموسيقى....
فأي الفريقين أحق بالأمن يا مسلمون؟! فدعوا الشيعة وشأنهم! فإنهم هم الفرقة - الناجية - التي عناها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من الثلاث والسبعين فرقة (1)، لذلك اعتنقنا هذا المذهب الشريف وتركنا المذهب السني.
ولما وصلت إلى هنا شكرني جميع من في المجلس، ثم قالوا: كنا لا ندري أن مذهب الشيعة هكذا، بل كنا نسمع عنهم بأنهم ليسوا على حق، بل هم كفرة فجرة مشركون.
فقلت: لا، إنما هو كما أخبرتكم، وستعرفون مذهب الشيعة بعد وقوفكم على كتبها، والذنب ذنبكم في تقصيركم عن الوقوف على مؤلفات الشيعة، ولماذا ثم إني أبين أن هذه التهم الموجهة إلى الشيعة الأبرار تبعة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وخدنة
ص: 124
أمير المؤمنين علي وذريته العترة الطاهرة (عليهم السلام) ليس لها واقع، وإنما هي أكذوبات بحتة اختلقتها عليهم الآثمون من أعداء المسلمين المسمين أنفسهم بالمسلمين، فعليكم أن تتحروا الحقيقة دائما، ولا تعتنوا بكل ما تسمعون ضد الشيعة دون أن تبحثوا عن واقعه وحقيقته، وهذا ما أرجوه منكم.
ثم قاموا وودعوني جميعهم، وذهب كل منهم إلى محله بعد أن جاؤوا غضابا، فرجعوا فرحين مسرورين، وأخيرا بلغني من بعض من أثق به أن بعضهم اعتنق المذهب الشريف مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والحمد لله على هذه النعمة الكبرى، وهي ولاية أهل البيت (عليهم السلام) (1).
ص: 125
قال السيد عبد اللّه الشيرازي - رحمه اللّه تعالى -: كنت يوما جالسا في الروضة النبوية المطهرة بعد الفراغ من فريضة الصبح، قرب المنبر مشغولا بقراءة القرآن وكان المصحف بيدي، فجاء رجل شيعي ووقف على يساري وكبر للصلاة، وكان على يميني رجلان من أهل العلم مصريان - على الظاهر - متكئان على الأسطوانة، فأدخل المصلي يده في جيبه بعد تكبيرة الإحرام لإخراج التربة أو الحجر للسجود عليه.
فقال أحدهما للآخر: انظر إلى هذا العجمي يريد أن يسجد على الحجر، فلما هوى المصلي للسجود بعد ركوعه، حمل عليه أحدهما ليختطف ما في يده، لكني أمسكت على يده قبل وصولها إلى المصلي، وقلت: لماذا تبطل صلاة الرجل المسلم، وهو يصلي مقابل قبر النبي (صلى اللّه عليه وآله)؟
قال: يريد أن يسجد على الحجر.
قلت: وأي بأس في ذلك؟ وأنا أيضا أسجد على الحجر.
قال: كيف؟
قلت: هو جعفري وأنا جعفري، وهذا هو الصحيح على مذهبنا، ثم قلت:
ص: 126
هل تعرف جعفر بن محمد (عليه السلام)؟
قال: نعم.
قلت: هو من أهل البيت؟
قال: نعم.
قلت: هو رئيس مذهبنا، ويقول لا يجوز السجود على الفراش أو السجاد، ويقول: لا بد أن يكون السجود على أجزاء الأرض (1).
فسكت قليلا، ثم قال: الدين واحد، والصلاة واحدة.
قلت: إذا كان الدين واحدا والصلاة واحدة فكيف تصلون أنتم أهل السنة في حال القيام على أربعة أشكال من جهة التكتف، فالمالكية يصلون مرسلين الأيادي، والحنفية يتكتفون، والشافعية نحوا ثالثا، والحنبلية نحوا رابعا، مع أن الدين واحد، والصلاة التي صلاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كانت نحوا واحدا، ولقنته الجواب، وقلت: غير أنكم تقولون إن أبا حنيفة هكذا قال، والشافعي هكذا، والمالكي هكذا، والحنبلي هكذا، وصورت له بيدي صور الحالات الأربع.
ص: 127
قال: نعم.
قلت: جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) رئيس مذهبنا الذي اعترفت بأنه من أهل البيت، وأهل البيت أدرى بما في البيت، لم يكن أقل من أبي حنيفة، ومن هؤلاء علمنا أنه لا بد أن يكون السجود على أجزاء الأرض، ولا يجوز السجود على الصوف والقطن (1)، وهذا الاختلاف بيننا وبينكم لا يكون إلا مثل الاختلاف بين أنفسكم في كيفية الصلاة من جهة التكتف وغيرها من سائر الاختلافات بينكم في الفروع ولا يرتبط بالأصول، ولا يكون مربوطا بالشرك أصلا.
فصدقني الجالسون من أهل السنة، حتى صاحب هذا الشخص الذي كان جالسا إلى جانبه، ولما وجدت الجو مناسبا بعد تصديقه كلامي حملت عليه بالكلام الحاد، وقلت: أما تستحي من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) تبطل صلاة رجل مسلم يصلي عند قبره - صلوات اللّه عليه وآله - بمقتضى مذهبه، وهو مذهب أهل بيت صاحب هذا القبر، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ولا يكون قولهم ومذهبهم إلا قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ومذهبه.
فحمل الجالسون عليه أيضا بالكلام الخشن، واعتذروا مني من اعتقادهم بأن السجود على التربة أو الحجر شرك من الشيعة.
ص: 128
أقول: لا يكاد ينقضي تعجبي من أن علماءهم كيف أشربوا في قلوب عوامهم أن السجود على التربة الحسينية أو الحجر أو الخشب من سائر أجزاء الأرض شرك باللّه (1)، مع أنه في حال السجود يذكرون اللّه تعالى بالتحميد والعلو، وكثيرا ما في حال السجود عليها، يقولون: لا إله إلا اللّه، أليس السجود على الحجر الذي هو جزء - من - الأرض مثل السجدة على نفس الأرض، أو السجدة على الفراش، أو الحصير أو السجاد؟ فإذا سجد على الأرض أو الحصير أو السجاد، هل يكون ذلك بمعنى أنه عبدها؟ فليكن السجود على الحجر مثل السجود عليها!
وأعجب من أصل الموضوع أن لسان أكثرهم عربي، وهم أعرف بمعاني اللغة وخصوصيات معاني الألفاظ، فكيف غفلوا أو تجاهلوا عن الفرق بين السجود عليه، والسجود له؟ والسجدة على شئ سواء كان أرضا أو حجرا أو فراشا يحتاج تحقق العبادة معه إلى شئ آخر حتى يكون هو المعبود، ولا يكون نفس المسجود عليه معبودا، وهل رأى أحد وثنيا أو صنميا في مقام العبادة يضع
ص: 129
الصنم على الأرض ويسجد عليه؟ لا واللّه، بل يجعلون الأصنام في مقابلهم ويسجدون على الأرض ويخرون عليها تخضعا وتخشعا لها، فحينئذ المعبود هل هو الصنم أو ما سجد عليه من الأرض أو الحجر أو الشئ الذي سجد عليه ووقع تحت جبهته بلا اختيار ولا التفات أو معهما؟ فيا ليت كان في البين ثالث عارف باللغة يحكم بين الفريقين، هل السجود لله على أجزاء الأرض عبادة لها وشرك باللّه، أويكون مثل السجدة على نفس الأرض والمعبود في كليهما هو اللّه الواحد؟ وإن كان بحمد اللّه الحاكم موجودا وهو اللغة.
فنرجو - من اللّه - أن يتنبه العلماء والفضلاء منهم إلى هذه النقطة، إن لم يكن تجاهلا، وينبهوا عوامهم إلى عدم نسبة الشرك إلى الشيعة، لسجودهم على أجزاء الأرض من التربة الحسينية أو الحجر أو الخشب (1).
ص: 130
دعانا الشريف شاهين - أحد شرفاء المدينة المنورة آنذاك - إلى داره لتناول طعام الغذاء في اليوم السابع أو الثامن من شهر محرم الحرام، وعندما كنا متهيئين للصلاة جماعة في بستان الصفا كعادتنا، إذ جاء رجل من قبل مدير الشرطة، بأن أرسل شخصا - من قبلي إلى دائرة الشرطة - فأرسلت الشيخ صادق الطريحي البزاز - الذي هو ساكن في كربلاء - وشخصا آخر مع الموظف واشتغلنا بالصلاة.
وبعد الفراغ من الفريضة ذهبنا إلى دار الشريف، ورجعا من دائرة الشرطة، وقالا: قد أخذوا الالتزام منا في الشرطة بالنيابة عنك أن تترك المجلس وتأمر الشيعة بترك مجالس عزاء الحسين (عليه السلام) التي كانت تنعقد في تلك الأيام - في المدينة المنورة -، بمناسبة أيام عاشوراء، سواء في ذلك مجلسنا ومجلس سائر العراقيين والإيرانيين في الأمكنة المتعددة.
وكان من بين المدعوين رجل عظيم الشأن يحترمه الشريف صاحب الدار وغيره، وعرفه الشريف لنا بأنه من أقرباء جلالة الملك ابن سعود، وكان رجلا من أصحاب الفضيلة وأهل العلم، فجرى الكلام بيننا حول مطالب متعددة حتى وصل الكلام إلى الحديث السابق ذكره في شفاعة فاطمة سيدة النساء (عليها السلام)
ص: 131
للباكين على ولدها الحسين (عليه السلام)، وذكرت له سماعي الحديث (1) مرتين من علماء أبناء أهل السنة والجماعة مرة في بغداد قبل عشرين سنة، ومرة قبل ليالي قليلة في الحرم الشريف.
قال: نعم، إن هذا الحديث صحيح لا ننكره.
قلت له: من المسلم في التواريخ والأحاديث أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لما رجع من أحد، ورأى أن لكل واحد من الشهداء نائحات وباكيات فأمر (صلى اللّه عليه وآله) نساء بني هاشم أن يجتمعن لحمزة سيد الشهداء (2) (عليه السلام).
قال: نعم صحيح، بل سمعت أن المتداول في المدينة المنورة إلى الآن في الرثاء والنياح على الأموات، أولا ينحن ويبكين على حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) ثم ينحن ويبكين على موتاهن (3).
ص: 132
قلت: أسأل منكم، هل كان الحسين بن علي (عليهما السلام) أحب وأعز عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أم حمزة؟
قال: الحسين (عليه السلام) يقينا.
قلت: فهل لو كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حيا بعد شهادة الحسين (عليه السلام) وقتله كان يقيم مجلس العزاء والبكاء عليه؟
قال: بلى.
هنا قال الشيخ صادق الطريحي البزاز وقد كان جالسا وسط المجلس: فلم منعتمونا من مجالسنا، ومن القراءة والبكاء على الحسين (عليه السلام)؟
قال: من منعكم؟
قال: الساعة رجعنا من دائرة الشرطة، وأخذوا منا الالتزام من طرف سماحة السيد بأن يترك الشيعة جميع مجالس العزاء والقراءة على الحسين (عليه السلام).
قال: إن هذا المنع من غير مبرر، ثم قال: أذهب عصرا إلى الوالي، وأقول له أن يرفع المنع، وأرسل الشريف شاهين إليكم يبلغكم المطلب، فجاء الشريف
ص: 133
عصرا ليبلغنا بإلغاء المنع، وأصبحت الشيعة هناك - بحمد اللّه - في سعة من جهة إقامة مجالس عزاء الحسين (1) (عليه السلام).
ص: 134
ص: 135
ص: 136
قال السيد الشيرازي (قدس سره): دخلت ذات ليلة الحرم الشريف، ومعي بعض الحجاج فلما وصلت قبال دار علي (عليه السلام) قابلني شخص معمم بعمامة صفراء، ومعه رجل فسألني: من أي مكان أنتم؟
قلت: من النجف.
قال: النجف من بلاد إيران؟
قلت: لا، من بلاد العراق، فيه مرقد أمير المؤمنين سيدنا علي (عليه السلام) بالقرب من كربلاء، حيث هناك مرقد الإمام الحسين (عليه السلام).
قال الرجل الذي كان معه: هذا السيد أحمد عالم وخطيب بفلسطين.
ثم قال الخطيب: لنا حديث مضبوط حول سيدنا الحسين (عليه السلام) فقرأ الحديث بهذا المضمون: أنه إذا قامت القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يا أهل المحشر، غضوا أبصاركم فإنها تريد أن تجوز فاطمة بنت محمد (صلى اللّه عليه وآله)، فتأتي فاطمة (عليها السلام) وعلى رأسها ثوب الحسين (عليه السلام) مخضب بالدماء فتأخذ بقائمة العرش، وتقول: اللّهم احكم بيني وبين قتلة ولدي الحسين (عليه السلام)، فيدخل تعالى قتلة
ص: 137
الحسين (عليه السلام) في النار (1)، ثم دعا للمسلمين، وتوادعنا.
ص: 138
ثم توجهت إلى قبر النبي (صلى اللّه عليه وآله) للزيارة ولما وصلت قرب القبر الشريف تذكرت أني سمعت هذا الحديث في بغداد قبل ما يقرب من عشرين سنة من أحد علماء العامة على المنبر بعد صلاة الجماعة، حيث كنا عازمين مع عدة من الفضلاء والطلاب لزيارة قبر علي بن محمد السمري، الذي هو أحد النواب الأربع لصاحب العصر الإمام الحجة عجل اللّه فرجه، فلما وردنا في الجامع الذي كان القبر في جانب منه رأينا العالم على المنبر مشغولا بالوعظ بعد فراغهم من أداء الفريضة، وكان بيده كراسا يقرأ منه غالبا، فجلسنا للاستماع حتى نزور القبر بعد تفرق الجماعة وسهولة الطريق، ففي ضمن حديثه على المنبر انجر الكلام
ص: 139
إلى أهمية مقام الحسين (عليه السلام) وذكر شيئا كثيرا في حقه (عليه السلام) حتى وصل إلى نقل الحديث المذكور مع ذكر جملة أخرى، وهي أن فاطمة (عليها السلام) بعد ذلك تقول: اللّهم اقبل شفاعتي فيمن بكى على ولدي الحسين (عليه السلام) فيقبل اللّه شفاعتها (1)، ويدخل الباكين على الحسين (عليه السلام) في الجنة.
فتأسفت نهاية الأسف، أني نسيت أن أسأل منه أنه هل يكون للحديث جزء آخر أم لا؟
فاشتغلت بالزيارة والأعمال المندوبة، وفي طريق خروجي من الحرم الشريف وإذا بي رأيت الخطيب المذكور مع صاحبه جالسين عند بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) من طرف الروضة، والوقت قريب من الساعة الثالثة ليلا، فلما صرت على مقربة منه سلمت عليه، ونهض إلي وأردت أن أسأل منه: هل أنه للحديث جزء آخر؟
فسبقني وقال: نسيت أن للحديث جزء آخر فقرأ جملة الشفاعة، وكان أحد أفراد هيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر واقفا على الشباك، فناديته فقلت: إجلس واستمع وقلت للسيد الخطيب: أعد الحديث فأعاده، فقلت له: هذا ليس من الشيعة، بل من علمائكم، هو كذا وكذا في فلسطين.
فلما سمعه ولم يكن قادرا على تكذيبه، قال: ولو سلم، لكن هذه الشفاعة والفضل ليست للمخالفين، وأشار إلى الشيعة، يعني شفاعة فاطمة (عليها السلام) والدخول للجنة ليست للشيعة المخالفين.
قلت: دعنا عن أن المخالفين نحن أم أنتم، دعنا عن أنه نحن الباكون على
ص: 140
الحسين أم أنتم، دعنا عن أنه نحن ندخل الجنة ببركة البكاء على الحسين (عليه السلام) وشفاعة فاطمة (عليها السلام) أم أنتم؟ إن مقصودي هو أن هذا الحديث يدل على أن البكاء على الحسين (عليه السلام) ليس بدعة كما تزعمون، فسكت.
ثم جاء عدة من الناس ليخرجوا من الحرم الشريف فناديتهم، قلت: سيدنا إقرأ الحديث، فقرأ مكررا حتى اجتمع حوله ما يقرب من خمسين من المصريين وغيرهم من الحجاج، بعضهم مصدق للحديث، وبعضهم من المتحيرين فيه، وبعض من المحاجين معه!
إلا أنه قال لهم جميعا: بأن هذا الحديث من الأحاديث المسلمة (1).
ص: 141
سألني رجل من أهل فلسطين: ما هو الفرق بيننا وبينكم؟
قلت: لا أدري، لأني لا أعلم ماذا تعتقدون.
قال: فإننا مسلمون، ونعتقد بدين الإسلام.
قلت: ليس كل من ادعى الإسلام صار مسلما، فإن للمسلم شروط وقوانين لا بد له من الالتزام بها، ونحن يا هذا نعتقد أن الدين عند اللّه الإسلام، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ونصلي الخمس، ونصوم شهر رمضان ونؤدي الزكاة ونحج البيت، ونتوجه نحو قبلة المسلمين، فإذا كنت ملتزما بهذا فأنت مسلم، ولا فرق بيننا وبينكم.
قال: أوه، أتراك تخرجنا عن الإسلام، ألم تعلم أننا نعتقد بكل ما ذكرته؟ قلت: هذا الجواب من نوع سؤالك، وقد كنت معتقدا ذلك بكم، لظني أنكم مسلمون، ولما سألتني ما الفرق بيننا وبينكم حصل عندي الشك في إسلاميتك.
قال: إني مسلم صحيح، وأعتقد بهذا كله، ولكني منذ اختلطت بكم وعاشرتكم وجدت من الشعائر عندكم ما لا يتفق مع العقل والدين.
قلت: قل مسلم، واترك دعوى الصحة جانبا، فليس كل مدع صادقا.
ص: 142
قال: ومن أين لك العلم بأني غير صادق، ولا يعلم ما في القلوب إلا اللّه؟
قلت: دعواك الصحة من غير سبق تأكيد عليها آثار الريب والشك في ذلك عندي، ولكن تستطيع إثبات صحة إسلامك بإسدائك النصيحة لأخيك المسلم، فإن نبي الإسلام قال: الدين النصيحة (1).
قال: وما تعني بالنصيحة؟ قلت: إنك تذكر أن لدنيا شعائر لا تتفق مع العقل والدين، وإني أقول كما قال عمر بن الخطاب: رحم اللّه امرءا هداني إلى عيوبي، فإن رأيت يا هذا، هداك اللّه، أن تبين لي هذه الشعائر الفاسدة فلعل اللّه يهديني بك من الضلالة إن كان كما زعمت.
قال: هي قضية العاشوراء، وإقامة عزاء الحسين في كل عام.
فاستفزني الضحك من قلة حيائه، وقلت له: صدق اللّه حيث يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) (2). الآية، لقد غرني رواؤك، وخدعني شكلك - بادئ الأمر - حتى تكلمت فتغير رأيي فيك.
فقال: وما ذاك؟
قلت: ألم يبلغك ما رواه علماؤكم عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما (3)، وقال اللّه عز وجل
ص: 143
لنبيه : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (1). فهل مودة القربى لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) هي السرور بما يحزنه، والفرح بما يسوؤه، وهل محبة الرسول شماتته بما يصيبه، ويحك أما علمت أن الحسين (عليه السلام) هو قرة عين الرسول، وثمرة مهجته كان يركبه ظهره، ويحمله على عنقه ويقبله في نحره ويقول: حسين مني وأنا من حسين أحب اللّه من أحب حسينا (2)، وقد وردت الروايات المتكاثرة أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) بكى عليه، وحدث عن شهادته ولعن قاتله كما ذكر ذلك ابن عساكر (3) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنس وأبي أمامة وأم سلمة وعائشة وزينب بنت جحش وأم الفضل زوجة العباس وسعيد بن جهمان ومحمد بن صالح وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار وغير هؤلاء.
تدعي الإسلام ومحبة الرسول ولا تواسيه في مصيبته وتشاركه في أحزانه، لا بل أنت تريد مشاركة يزيد وأتباعه باتخاذهم يوم قتل الحسين عيدا، وجعلهم إياه يوم فرح وسرور وتوسعة على العيال، ولكن لا ألومك لأنك لا تعرف القيم ولا تقدر الحقوق.
قال: ومم تأكدت إني لا أعرف القيم ولا أقدر الحقوق؟
قلت: أليس قد جرت العادة بإقامة الذكرى لعظماء الرجال، وذكر مآثرهم،
ص: 144
وأحوالهم وذكر سيرهم، لترغيب الشعوب في اقتفاء آثارهم، والسير على طريقهم ليكونوا عظماء مثلهم.
قال: بلى.
قلت: فما أنكرت من إقامة ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) في كل عام ليقتدي به الناس في المكارم، ويسلكوا نهجه للإنسانية الحقة والرجولة الصحيحة، فيبذلوا النفس والنفيس في سبيل الحرية، وليتعلموا منه إباء الضيم وعزة النفس حيث الشرف كل الشرف، وحيث الفخار، وحيث العلاء، كما قال - صلوات اللّه عليه - من جملة كلام له: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى اللّه لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام (1).
وقوله عليه السلام:
وإن تكن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل امرئ بالسيف في اللّه أفضل (2)
أو ما علمت أن الحسين (عليه السلام) كان يمثل شعور شعب حي مرهق بالظلم، معني بالاستبداد من أمراء فسقة، شأنهم محق الحق بالقوة، وسحق المعنويات بالماديات، عروا من الأخلاق، وخلوا من المعارف، فمرقوا من الدين مروق السهم من الرمية، وراحوا - باسم الدين - يردون الناس عن الدين القهقرى، ولكن
ص: 145
رمز الفضيلة، ومثال الحق والإخلاص، سيد أهل الإباء، الإمام أبا عبد اللّه الحسين (عليه السلام) نهض نهضته المباركة لينقذ الحق من براثن الباطل يدافع عن عقيدته، عن حجته، عن مبادئه، عن شريعته، عن أمته، عن أولئك المستضعفين..
قدم نفسه قربانا في سبيل الحق، لا يلتمس أجرا ولا يطلب مالا ولا نوالا، ولا جاها ولا بالتماس من صديق، أو مخافة من عدو، بل غيرة على الدين وانتصارا للحق:
قضى ابن علي والحفاظ كلاهما *** فلست ترى ما عشت نهضة سيد (1)
أما علمت أن قتل الحسين (عليه السلام) كان بعثة ثانية للشريعة الغراء، وإشراقا آخر لذلك النور البهي الإلهي، بعد أن مات الشعور الإسلامي السامي من النفوس أو كاد، وغلت الأيدي وكمت الأفواه، ولم يعد أحد يشعر بالمسؤولية عن مظلمة أخيه، ولذلك لكثرة المظالم، وغشم الأمراء، لقد قام في وجه الجور والفجور، وثار على المنكر والبغي، فقاتل وذهب شهيدا، لقد قتل، ولكنه المنصور، فقد خفف الويلات عن المسلمين، وذلك بتخفيف غلواء الحاكمين، وشل حركات المعتدين، حيث أسفر الصبح لذي عينين، وظهر للناس ما اقترفته تلك الطغمة وما اجترحته من آثام، فتنبه الأحرار إلى أن الشرف في التضحية، وفي الموت تكون الحياة، بل الموت أفضل من حياة تنافي الإيمان والكرامة، وتناقض الوجدان والشهامة، وخير للإنسان أن يموت من أن يعيش - كالنعم السائمة - متحجر الفكر لا يدري ما الكرامة.
وإذا لم يكن من الموت بد *** فمن العجز أن تعيش جبانا
ص: 146
سيما والحسين سبط الرسول الأعظم، والقيم على حكم الكتاب.
ووجد صرح الدين تنهار وأركانه تتداعى، وناداه منادي الواجب - من داخل الضمير - حي على الجهاد، وهيا لقمع الطغيان، فقد بلغ السيل الزبى، وشعر بعظم المسؤولية فنهض منتصرا للفضيلة، ثائرا للكرامة، صادعا بالحق داعيا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، هذا وإن سلاحه الصبر وحسن اليقين ولسان الحال يقول:
إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي فيا سيوف خذيني (1)
قال: إن الأخبار كلها تنص على أن الحسين لم يكن لديه أنصار، وإنه خرج هاربا من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، خوفا من إلزامه بالبيعة ليزيد (2)، مع أنه لو بايع بقي على مكانته وجاهه، وسلم من محنة القتل ومن سبي الحريم، فنهضته إنما كانت عنادا للسلطان (3)، وإلقاء باليد إلى التهلكة، وقد نهى اللّه عن
ص: 147
ذلك، فقال: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1).
قلت: لا ألومك على تأويلك الآية بهذا المعنى، حيث علمت مقدرتك الفكرية، وثبت عندي ما أنت فيه من القصور.
قال: وهل لديك معنى للإلقاء في التهلكة غير ما ذكرته.
قلت: نعم، وفيه وجوه، ومنها: إن الحسين (عليه السلام) وهو وارث علم النبي (صلى اللّه عليه وآله) وسبطه، وإليه معاد الناس في معرفة أحكام الشريعة، وهو المنظور إليه، والمقتدى به في القول والفعل، لو سلم ليزيد ووضع يده في يده - مع اتصاف يزيد برذائل الأخلاق، وتجاهره بالفسق، واستباحة المحرمات، لكان هذا يحط من قدر الحسين العالي، ومكانته السامية، ومقامه الأعلى ومحله الأرقى، وكان لا يذكر إذا ذكر عظماء الرجال؟ وهذا هو بعينه الإلقاء باليد إلى التهلكة، قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء (2)
ومنها: إن الناس ترضى عن يزيد وعن أعماله، بل إنهم يتخذون عمل يزيد قدوة لهم، فيعم الفساد، وتنطمس رسوم الشريعة المحمدية الغراء، وفي موت الشريعة موت لصاحب الشريعة، وهو جده الرسول، وموت للحسين (عليه السلام) الذي هو الوارث للشريعة والقيم عليها، وهذا هو بعينه الألقاء باليد إلى التهلكة.
ص: 148
ومنها: إن سكوت الحسين (عليه السلام) وعدم غضبه لله موجب إما لغضب اللّه عليه وإما لحرمانه من الأجر، وهذا هو الإلقاء باليد إلى التهلكة.
وقد تعبد اللّه قوما بهذا الحكم فقال: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) (1).
ومنها: أن الحسين (عليه السلام) لم يكن أمينا على نفسه لو بايع، فقد كانت نيتهم إلقاء القبض عليه ثم يقتلونه صبرا، وذكر أصحاب المقاتل أن يزيد أرسل إلى مكة ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية ليغتالوا الحسين على أية حال كان، ولو في جوف البيت الحرام (2)، وفي مقتل الخوارزمي أن الحسين (عليه السلام) كتب إلى عبد اللّه بن جعفر الطيار: فواللّه يا بن العم، لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني، وواللّه ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في يوم السبت (3).
إذن الحسين (عليه السلام) لا يرضى أن يقتل صبرا، قتلة الذل والصغار، وهو بعينه الإلقاء باليد إلى التهلكة، فهو - صلوات اللّه عليه - يؤثر أن يموت ميتة العز والشرف لا ميتة الذل والصغار، إنه ليرى الموت بين مشتجر العوالي وبوارق الصفاح هو بعينه الحياة، وهو بعينه الخلود، ولقد وصل إلى الهدف ونال ما أمل، انظر إليه بعين صحيحة، وتأمله بقلب واع، ألا ترى - على مر العصور والأجيال -
ص: 149
يذكر الحسين (عليه السلام) فتعبق الطيوب والعطور، ويذكر أعداؤه فيفوح الدفر والنتن، وأن الحسين (عليه السلام) لكما قيل فيه:
رأى أن ظهر الذل أخشن مركبا *** من الموت حيث الموت منه بمرصد
فآثر أن يسعى على جمرة الوغى *** برجل ولا يعطي المقادة عن يد (1)
ونهضة الحسين (عليه السلام) كشفت ما عليه القوم من سوء النويا للدين ولأهله، فإذا لم يرعوا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حرمة بولده، فأحرى بهم أن لا يراعوا له حرمة في نفسه، لو كان موجودا أو بيدهم سلطان.
واعلم أن بقتل الحسين (عليه السلام) تنبه المؤمنون، وثار الحق على الباطل، وأقدم الأحرار على التضحية، فلو لم تكن تضحية الحسين (عليه السلام) هي عين الصواب لم يقتد به عظماء الرجال في ذلك الوقت، أمثال أبناء الزبير والمختار وآل المهلب، وغيرهم ممن آثروا الموت على الحياة، ولم يعطوا الطاعة لقوم لم يجدوهم أكفاء لهم شرفا ومكانة، ولو لم يقتل الحسين (عليه السلام) بقيت الأيدي مكتوفة، والأفواه مكمومة، والمؤمنون يقتلون تحت كل حجر ومدر.
قال: إني أجد في هذه المعاني روحا من الحقيقة، ولكن الذي أنتقد عليه هو ما يحصل في مجالس التعزية من السباب لبعض الصحابة، وما يحصل من الأعمال الشبيهة التي تسئ إلى الأخلاق والمعنويات، كضرب السيوف والسلاسل وإركاب النساء على الجمال مما لا ضرورة إليه.
قلت: قد قلنا سابقا إن الغرض من إقامة العزاء إنما هو تجديد لذكرى هذا الرجل العظيم، وحيث للناس أن يقتدوا به في علو الهمة والشمم والإباء وعزة
ص: 150
النفس، والمحافظة على الدين مهما كلف الأمر، ولو أدى إلى إزهاق النفوس والأرواح.
وأما سب الصحابة فإن هذا محض افتراء، نعم لا نتحرج أن نقول: اللّهم ألعن من ظلم محمدا وآل محمدا، لأن ظالم محمد (صلى اللّه عليه وآله) يجب لعنه، لأنه رد على اللّه برده على رسول اللّه، وظالم آل محمد يجب لعنه، لأنه لم يوف الرسول أجر الرسالة، وهو مودته في قرباه، قال اللّه عز وجل: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (1) وظالم آل محمد مؤذ لرسول اللّه في عترته، وهذا ملعون في كتاب اللّه، قال اللّه عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (2).
فنحن بقولنا: اللّهم العن ظالم محمد وآل محمد نلعن من لعنه اللّه في كتابه، وأنتم كذلك تقولون، واللعنة تعرف أهلها، وقد عاشرتمونا مدة طويلة فهل اطلعت على شئ غير هذا؟
قال: معاذ اللّه، ولكن يقال إنكم تسبون الصحابة.
قلت له: ويحك، لا يطلب أثر بعد عين، نحن غير خائفين منكم لنتقيكم، ولا لكم ذلك السلطان وتلك القوة، وأنت وحدك بين ظهرانينا لك أكثر من خمس وعشرين سنة، أما كان الأجدر في هذه المدة الطويلة أن يغلط واحد منا ولو غلطة واحدة، هذا لو كان الأمر كما تدعيه، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما أضمر
ص: 151
أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه (1) وهذا أنت تعترف أنه لم يظهر لك من ذلك أي أثر، ومع هذا فقد تركت المشاهدات التي أحسستها ولمستها وتتبعت إشاعات أهل الأراجيف، ومن شأنهم الأرجاف وإلقاء بذور الشقاق، والتفرقة بين المسلمين لقاء دريهمات يتقاضونها من أعداء الدين والإسلام.
ولنعم ما قال سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): بين الحق والباطل أربع أصابع، ثم وضع أربع أصابعه بين عينه وأذنه فقال: ما رأيته بعينك فهو الحق، وقد تسمع بأذنيك باطلا كثيرا (2).
وأنا أفيدك، أن هذا الذي ادعيت سماة من جملة ذلك الباطل الكثير الذي لا حقيقة له، وبرهانا أنك مع ضعفك وأنت مقيم بين الشيعة وفي محيط شيعي لم يغلط أحد منهم أمامك غلطة واحدة تذكره طيلة خمسة وعشرين عاما.
فقال: صدقت، وإن الذي تذكره لأبين من الشمس وأوضح من النهار.
قلت: وأما أعمال الشبيه، فلأن جل الناس أميون، وليس كلهم يقرأ السيرة، بل ولا كلهم يفهم ما يقوله القارئ، وأعمال الشبيه رواية تمثيلية تمثل الواقعة ليعرفها الجاهل - شاهد عيان - مع المحافظة على النواميس الأخلاقية، فيتحصل لديه، معرفة كرامة هؤلاء ولؤم أولئك.
ص: 152
..... واعلم أن أعظم المصائب هي مصيبة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وهي التي يجب أن تقدم على كل مصيبة، وأن المسلم ليجدر به أن يحزن لحزن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ويفرح لفرحه، ومن لا يحزن لحزن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ويفرح لفرحه فليس بمسلم.
قال: هذا صحيح، ولكن هذه المصيبة مر عليها أربعة عشر قرنا، ومن العوائد أن مدة بقاء الحزن لغاية أربعين يوما، ولو تعاظم الأمر فإلى الحول، فما معنى هذا التجديد دائما، وقد مر عليها عشرات المئات من الأعوام.
فقلت له:
لقد أسمعت لو ناديت حيا *** ولكن لا حياة لمن تنادي
أنا أتكلم، وأنت لا تفهم، أما علمت أن مصيبة كل بقدره، وإذا كان محمد (صلى اللّه عليه وآله)، هو سيد الكائنات فلا جرم أن مصيبته أعظم من جميع الكائنات، أوما علمت أن محمدا (صلى اللّه عليه وآله) له الفضل كل الفضل على جميع المسلمين، من أول بعثته إلى يوم القيامة، فيجب على كل مسلم أن يشاطر الرسول همومه، ويؤدي له الحق من الحزن لحزنه وإقامة المآتم لولده.
بربك خبرني لو أن الحسين (عليه السلام) قتل في حياة جده هل كان الرسول (صلى اللّه عليه وآله) يحزن لقتله أم يفرح؟
قال: بل كان يحزن، بالطبع.
قلت له: الآن ثبت عندي أنك غير مسلم.
قال: ولماذا وصمتني بهذه الوصمة، أما هو حرام عليك؟
قلت: لي الحق في ذلك، لأنك تعتقد أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) يحزن لقتله فيما لو كان حيا، ويقعد لإقامة العزاء، ثم إنكم تجعلون يوم قتله عيدا، وتتباركون به،
ص: 153
وتستعملون الزينة فيه والدهن والكحل والتوسعة على العيال، وتستحبون صومه، لأنه يوم بركة كما تزعمون عنادا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وشماتة به.
هذا مع اعترافكم - كما في صحيح البخاري (1) - أن اليهود كانت تجعله عيدا، وأن اليهود والعرب في الجاهلية كانوا يصومونه، فأراكم في هذا قد قلدتم اليهود وأعراب الجاهلية، ورغبتم عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وتركتم سنته وقد قال: من رغب عن سنتي فليس مني (2)، اعترفتم أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لما فرض عليه صيام شهر رمضان ترك صوم يوم عاشوراء (3)، وأنتم تصومونه خلافا عليه، كأنكم أعلم من الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بموارد الطاعات، أو أنكم أحرص على مرضاة اللّه منه.
قال: إني لا أعترف بهذا أبدا.
قلت: هذا صحيح البخاري موجود، وقمت لآتيه به، فقال: لا حاجة بنا إليه، ولست أكذبك فيما تقول إنه موجود فيه.
قلت له: وصح أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لما رجع من غزوة أحد وسمع نساء المهاجرين والأنصار ينحن على قتلاهن دمعت عيناه وقال: ولكن حمزة لا بواكي له (4)، فذهب جابر بن عبد اللّه وجماعة من الأنصار وأمر والنساء أن لا تنوح على قتلاها حتى ينحن على حمزة (عليه السلام)، وجئن إلى دار رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ونحن على حمزة (عليه السلام) وندبنه حتى طاب قلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولم ينكر ذلك.
ص: 154
والولد - بلا شك - أعز من العم، فإذا لم يطب قلب النبي (صلى اللّه عليه وآله) حتى أقيم العزاء على عمه حمزة (عليه السلام)، وسماه سيد الشهداء، فبالأحرى أن يكون ذلك منه لولده الحسين (عليه السلام) وارث علمه وحكمته، وخليفة اللّه في الأرض من بعد جده وأبيه وأخيه (عليهم السلام).
وأما إركاب النساء على الجمال: فهذا ما لا نقره ولا نرضى به، نعم إذا كن غير مكشوفات ولا يعرفن فلا بأس بذلك، لأن ذلك - كما قدمنا - تمثيل للواقعة أمام الجاهل، فما أنكرت علينا إلا حبنا لأهل بيت الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ومولاتنا حفظا لمودة الرسول في قرباه، وإحياءنا ذكرهم، وأخذنا بهديهم، ونحن لا يضرنا إنكار المنكر إذا كان عملنا يرضي اللّه ورسوله.
علي نحت القوافي من معادنها *** وما علي إذا لم تفهم البقر (1)
ص: 155
يقول الدكتور التيجاني في لقاءه مع السيد الصدر (قدس سره): سألت السيد الصدر عن الإمام علي (عليه السلام)، لماذا يشهدون له في الأذان بأنه ولي اللّه؟!
فأجاب قائلا: إن أمير المؤمنين عليا - سلام اللّه عليه - هو عبد من عبيد اللّه، الذين اصطفاهم اللّه وشرفهم ليواصلوا حمل أعباء الرسالة بعد أنبيائه، وهؤلاء هم أوصياء الأنبياء، فلكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) هو وصي محمد (صلى اللّه عليه وآله)، ونحن نفضله على سائر الصحابة بما فضله اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) ولنا في ذلك أدلة عقلية ونقلية من القرآن والسنة، وهذه الأدلة لا يمكن أن يتطرق إليها الشك لأنها متواترة وصحيحة من طرقنا وحتى من طرق أهل السنة والجماعة، وقد ألف في ذلك علماؤنا العديد من الكتب، ولما كان الحكم الأموي يقوم على طمس هذه الحقيقة ومحاربة أمير المؤمنين علي وأبنائه (عليهم السلام) وقتلهم، ووصل بهم الأمر إلى سبه ولعنه على منابر المسلمين وحمل الناس على ذلك بالقهر والقوة، فكانت شيعته وأتباعه - رضي اللّه عنهم - يشهدون أنه ولي اللّه، ولا يمكن للمسلم أن يسب ولي اللّه، وذلك تحديا منهم للسلطة الغاشمة حتى تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وحتى تكون حافزا تاريخيا لكل المسلمين عبر الأجيال
ص: 156
فيعرفون حقيقة علي (عليه السلام) وباطل أعدائه.
ودأب فقهاؤنا على الشهادة لعلي (عليه السلام) بالولاية في الأذان والإقامة استحبابا، لا بنية أنها جزء من الأذان أو الإقامة، فإذا نوى المؤذن أو المقيم أنها جزء بطل أذانه وإقامته.
والمستحبات في العبادات والمعاملات لا تحصى لكثرتها، والمسلم يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها، وقد ورد على سبيل المثال أنه يذكر استحبابا بعد شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، بأن يقول المسلم، وأشهد أن الجنة حق والنار حق وأن اللّه يبعث من في القبور (1).
قلت: إن علماءنا علمونا: أن أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبو بكر الصديق، ثم سيدنا عمر الفاروق، ثم سيدنا عثمان، ثم سيدنا علي (عليه السلام)؟
سكت السيد قليلا، ثم أجابني: لهم أن يقولوا ما يشاؤون، ولكن هيهات أن يثبتوا ذلك بالأدلة الشرعية، ثم أن هذا القول يخالف صريح ما ورد في كتبهم الصحيحة المعتبرة، فقد جاء فيها، أن أفضل الناس أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ولا وجود لعلي (عليه السلام) بل جعلوه من سوقة الناس، وإنما ذكره المتأخرون استحبابا لذكر الخلفاء الراشدين.
سألته بعد ذلك عن التربة التي يسجدون عليها والتي يسمونها ب «التربة الحسينية».
ص: 157
أجاب قائلا: يجب أن يعرف قبل كل شئ أننا نسجد على التراب، ولا نسجد للتراب، كما يتوهم البعض الذين يشهرون بالشيعة، فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده، والثابت عندنا وعند أهل السنة أيضا أن أفضل السجود على الأرض أو ما أنبتت الأرض من غير المأكول، ولا يصح السجود على غير ذلك، وقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يفترش التراب وقد اتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها، وعلم أصحابه - رضوان اللّه عليهم - فكانوا يسجدون على الأرض، وعلى الحصى، ونهاهم أن يسجد أحدهم على طرف ثوبه، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا.
وقد اتخذ الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين (عليهما السلام) تربة من قبر أبيه أبي عبد اللّه (عليه السلام) باعتبارها تربة زكية طاهرة (1) سالت عليها دماء سيد الشهداء، واستمر على ذلك شيعته إلى يوم الناس هذا، فنحن لا نقول بأن السجود لا يصح إلا عليها، بل نقول بأن السجود يصح على أي تربة أو حجرة طاهرة، كما يصح على الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك.
قلت: على ذكر سيدنا الحسين (عليه السلام) لماذا يبكي الشيعة ويلطمون ويضربون أنفسهم حتى تسيل الدماء؟! وهذا محرم في الإسلام، فقد قال (صلى اللّه عليه وآله): «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» (2).
ص: 158
أجاب السيد قائلا: الحديث صحيح لا شك فيه، ولكنه لا ينطبق على مأتم أبي عبد اللّه (عليه السلام)، فالذي ينادي بثأر الحسين، ويمشي على درب الحسين، دعوته ليست دعوى جاهلية، ثم إن الشيعة بشر فيهم العالم وفيهم الجاهل ولديهم عواطف، فإذا كانت عواطفهم تطغى عليهم في ذكرى استشهاد أبي عبد اللّه (عليه السلام) وما جرى عليه وعلى أهله وأصحابه من قتل وهتك وسبي، فهم مأجورون لأن نواياهم كلها في سبيل اللّه، واللّه سبحانه وتعالى يعطي العباد على قدر نواياهم.
وقد قرأت منذ أسبوع التقارير الرسمية للحكومة المصرية بمناسبة موت جمال عبد الناصر، تقول هذه التقارير الرسمية بأنه سجل أكثر من ثماني حالات انتحارية قتل أصحابها أنفسهم عند سماع النبأ، فمنهم من رمى نفسه من أعلى العمارة ومنهم من ألقى بنفسه تحت القطار وغير ذلك، وأما المجروحون والمصابون فكثيرون، وهذه أمثلة أذكرها للعواطف التي تطغى على أصحابها.
وإذا كان الناس - وهم مسلمون بلا شك - يقتلون أنفسهم من أجل موت جمال عبد الناصر وقد مات موتا طبيعيا، فليس من حقنا - بناء على مثل هذا - أن نحكم على أهل السنة بأنهم مخطئون؟!
وليس لإخواننا من أهل السنة أن يحكموا على إخوانهم من الشيعة بأنهم مخطئون في بكائهم على سيد الشهداء (عليه السلام)، وقد عاشوا محنة الحسين (عليه السلام) وما زالوا يعيشونها حتى اليوم، وقد بكى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) نفسه على ابنه الحسين (عليه السلام) وبكى جبريل لبكائه.
قلت: ولماذا يزخرف الشيعة قبور أوليائهم بالذهب والفضة، وهو محرم في الإسلام؟
أجاب السيد الصدر: ليس ذلك منحصرا بالشيعة، ولا هو حرام فها هي
ص: 159
مساجد إخواننا من أهل السنة سواء في العراق أو في مصر أو في تركيا أو غيرها من البلاد الإسلامية مزخرفة بالذهب والفضة، وكذلك مسجد رسول اللّه في المدينة المنورة، وبيت اللّه الحرام في مكة المكرمة، الذي يكسى في كل عام بحلة ذهبية جديدة يصرف فيها الملايين، فليس ذلك منحصرا بالشيعة.
قلت: إن بعض العلماء يقولون: إن التمسح بالقبور، ودعوة الصالحين، والتبرك بهم، شرك باللّه، فما هو رأيكم؟
أجاب السيد محمد باقر الصدر: إذا كان التمسح بالقبور، ودعوة أصحابها بنية أنهم يضرون وينفعون، فهذا شرك، لا شك فيه: وإنما المسلمون موحدون ويعلمون أن اللّه وحده هو الضار والنافع، وإنما يدعون الأولياء والأئمة (عليهم السلام) ليكونوا وسيلتهم إليه سبحانه وهذا ليس بشرك، والمسلمون سنة وشيعة متفقون على ذلك من زمن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) إلى هذا اليوم....
وإن السيد شرف الدين من علماء الشيعة لما حج بيت اللّه الحرام... كان من جملة العلماء المدعوين إلى قصر الملك لتهنئته بعيد الأضحى كما جرت العادة هناك، ولما وصل الدور إليه وصافح الملك قدم إليه هدية وكانت مصحفا ملفوفا في جلد، فأخذه الملك وقبله ووضعه على جبهته تعظيما له وتشريفا.
فقال له السيد شرف الدين عندئذ: أيها الملك لماذا تقبل الجلد وتعظمه وهو جلد ماعز؟
أجاب الملك، أنا قصدت القرآن الكريم الذي بداخله ولم أقصد تعظيم الجلد!
فقال السيد شرف الدين عند ذلك: أحسنت أيها الملك، فكذلك نفعل نحن عندما نقبل شباك الحجرة النبوية أو بابها، فنحن نعلم أنه حديد لا يضر ولا ينفع،
ص: 160
ولكننا نقصد ما وراء الحديد وما وراء الأخشاب، نحن نقصد بذلك تعظيم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، كما قصدت أنت القرآن بتقبيلك جلد الماعز الذي يغلفه.
فكبر الحاضرون إعجابا له وقالوا: صدقت، واضطر الملك وقتها إلى السماح للحجاج أن يتبركوا بآثار الرسول (صلى اللّه عليه وآله).
وسألته عن الطرق الصوفية فأجابني بإيجاز: بأن فيها ما هو إيجابي وفيها ما هو سلبي، فالإيجابي منها تربية النفس وحملها على شظف العيش والزهد في ملذات الدنيا الفانية، والسمو بها إلى عالم الأرواح الزكية، أما السلبي منها، فهو الانزواء والهروب من واقع الحياة، وحصر ذكر اللّه في الأعداد اللفظية وغير ذلك، والإسلام - كما هو معلوم - يقر الإيجابيات ويطرح السلبيات، ويحق لنا أن نقول بأن مبادئ الإسلام وتعاليمه كلها إيجابية (1).
ص: 161
ص: 162
ص: 163
ص: 164
سأل بعض أهل مجلس الشيخ أبي عبد اللّه، محمد بن محمد بن النعمان رضي اللّه عنه، أبا جعفر المعروف بالنسفي العراقي (1).
فقال له: ما فرض اللّه تعالى من الوضوء في الرجلين؟
فقال: غسلهما.
فقال: ما الدليل على ذلك؟
فقال: قول النبي (صلى اللّه عليه وآله) وقد توضأ، فغسل وجهه، وغسل ذراعيه، ومسح برأسه وغسل رجليه، وقال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به (2).
ص: 165
فقال له السائل: ما أنكرت على من قال: إنه لا حجة لك في الخبر، لأنه من أخبار الآحاد، لا يوجب علما ولا عملا.
فقال له أبو جعفر: أخبار الآحاد عندي موجبة للعمل، وإن لم تكن موجبة للعلم، وأنا إنما أبني الكلام على أصلي دون أصل المخالف، وتردد الكلام بينه وبين السائل في هذا المعنى ترددا يسيرا.
فقال الشيخ أبو عبد اللّه رضي اللّه عنه: أنا أسلم لك العمل بأخبار الآحاد تسليم نظر، وإن كنت لا أعتقد ذلك، استظهارا في الحجة، وأبين أنه لا دليل لك في الخبر الذي تعلقت به، على ما تذهب إليه من فرض غسل الرجلين في الوضوء.
وذلك: إن قول النبي (صلى اللّه عليه وآله) إن صح عنه -: «هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به» مختص الحكم بذلك الوضوء، الذي أشار إليه بقوله: «هذا» دون ما عداه من غيره، أو فعل نفسه؟
فالحكم بإيجاب ذلك، في أفعال غيره وأفعال نفسه، لمن بعد، حكم جائز لا حجة عليه.
فلم يبين أبو جعفر معنى هذا الكلام، وقال - على ظن منه خلاف المراد فيه -: الوضوء اسم للجنس المشروع منه، والتعلق بحكمه على العموم حقيقة لا مجاز.
فقال له الشيخ: هذا كلام من لم يتأمل معنى ما أوردته عليه، وليس العبارة بالوضوء، عن جنس مشروع يمنع مما ألزمتك في التعلق بقول النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وثبت
ص: 166
أن حكمك به على كل وضوء يحدث ليس بمأخوذ من حقيقة الكلام، وإنما هو دعوى لا تثبت إلا ببرهان بناء في الخبر، ويكون خارجا عنه.
وذلك: أن قول النبي (صلى اللّه عليه وآله): «هذا» لا يقع على معدوم، ولا الإشارة به إلا إلى موجود، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، وجب أن يختص حكمه بنفس ذلك الوضوء الذي أشار إليه النبي (صلى اللّه عليه وآله)، ويكون المراد بالصلاة المذكورة معه ما يقام به دون ما عداها، فمن أين يخرج منه أن ما سوى هذا الوضوء مما يتجدد بفعل النبي (صلى اللّه عليه وآله)؟ أو يكون وضوءا لغيره؟ فحكمه حكمه؟ بقياس عليه، أو بحجة تعقل، أو بمفهوم اللفظ، وإذا لم يكن للقياس في هذا مجال، ولا للعقل فيه مدخل، ولم يفده اللفظ، لم يبق إلا الاقتراح فيه، والدعوى له بغير البرهان.
فقال أبو جعفر: قد ثبت أنه إذا كان حكم وضوء النبي (صلى اللّه عليه وآله) ذلك، وأن اللّه تعالى لا يقبل صلاته إلا به، وجب أن يكون حكم غيره كحكمه فيه، إذ ليس في الأمة من يفرق بين الأمرين، فزعم أن للنبي (صلى اللّه عليه وآله) وضوءا على انفراده، وللأمة وضوء على حياله.
فقال الشيخ: هذا ذهاب عن وجه الكلام الذي أوردناه عليك، مع استئنافك إياه، وانتقالك عما كنت معتمدا عليه في الخبر، ويكفي الخصم من خصمه، والنظر أن يضطره إلى الانتقال عن معتمده إلى غيره، وإظهار الرغبة إلى سواه.
والذي بعد فإن الذي طالبناك به هو أن يكون قوله (صلى اللّه عليه وآله): «هذا وضوء» إشارة إلى ذلك الشئ الواقع دون غيره من أمثاله.
ولم نسلم لك أن المراد به كل وضوء يحدثه النبي (صلى اللّه عليه وآله) في مستقبل الأوقات فيبنى الكلام على ذلك، ويستدل على مذهبك فيه بما خرجته من الإجماع، فيجب أن تأتي بفصل مما ألزمناك، وإلا فالكلام عليك متوجه مع انتقالك من
ص: 167
دليل إلى دليل للاضطرار دون الاختيار.
فقال: هذا لا معنى له، لأنه لم يكن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في حال من الأحوال، قد أمر بوضوء لا يقبل اللّه صلاته إلا به، ثم نقل عنه إلى غيره، وإذا ثبت أن العبادة له كانت بوضوء استمر على الأحوال والأوقات، لم يلزم ما أدخلت علي من الكلام.
فقال الشيخ رحمه اللّه: وهذا أيضا مما لم يتأمل، وسبق إلى وهمك منه ما لم نقصده في الإلزام، وذلك إنا لم نرد بما ذكرناه في تخصيص وضوء النبي (صلى اللّه عليه وآله) الواقع منه في تلك الحال ما قدرت من أنه كان مفروضا عليه غسل الرجلين للوضوء دون ما سواه، وإنما أوردنا ذلك على التقدير.
فما أنكرت أن يكون غسل النبي (صلى اللّه عليه وآله) رجليه في ذلك الوضوء لإماطة نجس كان بهما، ففعل ذلك لما ذكرناه، دون إقامة فرض الوضوء للصلاة على انفراده مما سميناه، فيكون قوله (صلى اللّه عليه وآله) حينئذ: «هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به» مختصا بذلك الوضوء الذي دخل فيه فرض إماطة النجاسة عن الرجلين، دون ما عداه، وهذا خلاف ظنك الذي أطلت فيه الكلام.
فقال أبو جعفر: هذا أيضا غير لازم، إماطة (1) النجاسة لا يطلق عليها وضوء شرعي، وقول النبي (صلى اللّه عليه وآله): «هذا وضوء» لفظ شرعي يخص نوع الوضوء دون ما عداه.
فقال له: الأمر كما وصفت من أنه لا يطلق لفظ الوضوء إذا انفرد ذلك مما سواه، لكنه ما أنكرت أن يطلق ذلك على الوضوء المشروع إذا فعل في جملته إماطة نجاسة عن الجسد أو الابعاض، ولو لم تمط في حال الوضوء أو معه،
ص: 168
ووقعت على الانفراد لم يطلق عليها ذلك، فيكون للاتصال من الحكم ما لا يكون للانفصال، ويكون الإشارة بقوله: «هذا وضوء» إلى أكثر الأفعال التي وقعت مما هي وضوء في نفسه، وإن يتخللها ما لا يسمى على الانفراد وضوءا، وهذا معروف في لغة العرب لا يتناكره منهم اثنان.
ألا ترى أنه يسمون الشئ باسم مجاوره، يستعيرون فيه اسم ما دخل في جملته، ويعبرون عنه بحقيقة اللفظ منه وإن تخلل أجزاءه ما ليس منه، ولا خلاف مع هذا بينهم أن السمات قد تطلق على الأشياء بحكم الأغلب، ويحكم عليها بالغلبة، وإن كان فيها ما ليس من الأغلب، وهذا يبين عن وجه الكلام عليك، وأنك ذهبت عنه مذهبا بعيدا.
فقال: لو جاز أن يعبر عن إماطة النجاسة عن الرجل بالوضوء، لجاز أن يعبر عن إماطتها عن الثوب بذلك، ويعبر عن السترة في الصلاة بذلك، ويعبر عن التوجه والقبلة بالوضوء، لأن الصلاة لا تتم إلا بذلك كما لا تتم إلا بإماطة النجاسة عن القدمين وغيرهما من الجسد، وهذا ما لا يقوله أحد.
فقال الشيخ رضي اللّه عنه: هذا أيضا كلام على غير ما اعتمدناه، ولو تأملت ما ذكرناه لأغناك عن تكلف هذا الخطاب، وذلك أنا لم نقل أن إماطة النجاسة عن القدمين بغسلهما يقال لهما وضوء، ولا حكمنا أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قصد ذلك بقوله: «هذا وضوء» ولا عناه، وإنما قلنا إنه عنى الوضوء المشروع مع دخول ما ليس من جنسه ونوعه.
وليس كذلك غسل الثوب، لأنه لا يدخل في جملة الوضوء، ولا يتخلل أجزاء الفعل منه، ولو اتفق دخوله بالعرض، وتخلل أجزاء الفعل منه لا سيما على أصلك في ترك موالاة الوضوء، لم يجز أن يعبر عن الوضوء وعنه جميعا بالعبارة
ص: 169
عن الوضوء المطلق، كما عبر بذلك عن غسل الرجلين، لما ذكرناه في الفرض من قبل أن لفظ الوضوء في اللغة إنما هو موضوع على تنظيف الجسد، وتحسينه دون غيره، ولذلك قيل: فلان وضئ الوجه، ولم يقولوا: فلان وضئ الثوب، وإن كان الثوب في نفسه حسنا.
فلا ينكر استعمال العبارة فيما ليس بوضوء شرعي مع الوضوء الشرعي، بما وضعت له عبارة الوضوء في الأصل، من التحسين للجسد، والتنظيف له.
بل لو استعملت هذه العبارة في تنظيف الجسد المفرد من الوضوء الشرعي لكانت جارية على الأصل من اللغة، فكيف إذا وضعت في موضوع الشرع واللغة، وقصد بها ما هي موضوعة له في الشريعة، مع ما تخلله مما يطلق عليه في اللغة، فأما السترة في الصلاة، والتوجه، والقبلة، والنية فليس من هذا في شئ لأمرين:
أحدهما: أن كل واحد من هذه لا يتخلل أجزاء الوضوء.
والثاني: أنه مما لا يطلق عليه هذه العبارة مجاز اللغة.
فاقتضى بعض الحاضرين الموافقة لأبي جعفر على الانتقال.
فقال الشيخ رحمه اللّه: أما الانتقال من أبي جعفر فكثير في هذا المجلس، وأصل الانتقال منه تركه الخبر جانبا إلى الاستدلال من مقتضى الخبر، فليسأل عن التعلق بالظاهر منه بعد اعتماده، ثم تركه جانبا إلى غيره.
فقال أبو جعفر: ليس هذا نقلة عندي، لأنني إنما صرت إلى ما صرت إليه عند الزيادة على ما لم يرد في السؤال الأول.
فقال الشيخ رضي اللّه عنه: سواء انتقلت بالزيادة أو بغيرها، فقد خرجت عن حد النظر، وأظهرت الرغبة عما كنت عليه لضعفه عندك، ولجأت إلى غيره.
ص: 170
وبعد: فكيف نقلتك الزيادة التي تدعيها؟ وإنما طولت بوجه البرهان من الخبر فرمته، فلما لم تجد إليه سبيلا عدلت إلى سواه، وهو أنك جعلت قول النبي (صلى اللّه عليه وآله): «هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلا به» حكما ساريا علي، فلما بينا بطلان ذلك جعلته خاصا للنبي (صلى اللّه عليه وآله) في وضوء بعينه.
فإن كنت أجبت السائل عن مسألة عامة فاعتمادك - على خاص - الجواب باطل، وإن كنت أجبته عن خاص من سؤاله، فقد عدلت عما اقتضاه السؤال بالاتفاق.
فقال أبو جعفر: ليس لأحد أن يمنع المجيب عن سؤال عام بجواب خاص ودليل مختص، ولا يعنته بذلك، إذا بنى كلامه فيما يسري إلى العموم عليه.
فقال الشيخ رحمه اللّه: فهذا لو بدأت به أولا كانت لك حجة شبهة وإن سقطت، ولكنك لم تفعل ذلك، بل أجبت بجواب عام، فقلت: فرض اللّه في الأرجل على العموم الغسل، ثم دللت على ذلك عند نفسك بظاهر لفظ النبي (صلى اللّه عليه وآله) (فإن) ذلك طعنا في دليلك، فركنت إلى التعويل على وضوء واحد للنبي (صلى اللّه عليه وآله)، وضممت إلى ذلك الإجماع بحسب ما توهمت من إلزامنا لك، فبينا لك خلافه.
وبعد، فما الفرق بينك وبين من سئل عن مسألة في شئ مخصوص فأجاب عن غيره؟ ثم دل على شئ سوى ما أجاب به، واعتمد في ذلك؟
فإن قال: إنما فعلت ذلك لأبني عليه ما يكون جوابا للسؤال فلم يأت بفصل يذكر.
ثم قال الشيخ رضي اللّه عنه: وفرغنا من الكلام على خبرك، ونحن نقابلك بالأخبار التي رواها أصحابك في نقيضه، لنستوي في الكلام معك من هذا الوجه
ص: 171
أيضا فما تصنع فيما رواه أصحاب الحديث عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه: «قام على سباطة (1) قوم قائما، ثم استدعى ماء، فجاءه بعض أصحابه بأداوة فيها ماء، فاستبرأ، وغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه، ومسح برجليه وهي في النعلين» (2).
وكيف تجمع بين هذا الحديث، وبين مذهبك في أن من لم يغسل رجليه في الوضوء لم يقبل اللّه صلاته حسب ما رويته في حديثك؟
بل كيف تصنع فيما رواه أصحاب الحديث في نفس حديثك: «إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) توضأ بالماء ثلاثا ثم غسل رجليه وقال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به».
فقال أبو جعفر: هذان الحديثان لا أعرفهما هكذا، وإنما روينا أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) بال في سباطة قوم ثم توضأ.
وروينا أنه توضأ بالماء ثلاثا وقال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليلي إبراهيم» (3).
فقال له الشيخ رحمه اللّه: ينبغي لك أن تنصف وترضى لغيرك بما ترضاه لنفسك، نحن سلمنا حديثك وما رويناه قط، ولا صححه أحد منا، ثم كلمناك عليه، وقابلناك بأخبار رواها شيوخك، فدفعتها بألواح، وقد كان يسعنا دفع حديثك في أول الأمر، ومطالبتك بالحجة على صحته، فلم نفعل.
ص: 172
فيجب إذا كنت تعمل بأخبار الآحاد أن تنقاد إلى ما تقتضيه، ولا تلجأ في إطراح العمل بها، إلى القول بإنك لا تعرفها، فيسقط بذلك عن خصمك قبول ما ترويه إذا لم يعرفه، وهذا إسقاط لنفس احتجاجك، واجتناب لأصله.
فقال أبو جعفر: الحديث في أنه توضأ بالماء ثلاثا فلا أعرفه إلا فيما رويته أنا، وأما الرواية عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه توضأ ومسح على رجليه، فقد ثبتت، لكنها لم تزد على الرواية بأنه بال.
وليس يمتنع أن يتوضأ الإنسان وضوءا يمسح فيه رجليه، ويكون وضوءه ذلك عن غير حدث، كما روينا عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه توضأ ومسح على رجليه، وقال: «هذا وضوء من لم يحدث» (1).
فقال الشيخ رحمة اللّه عليه: طالبناك بالإنصاف في أخبار الآحاد التي رواها أصحابك، لاحتجاجك بها، لا سيما مع تدينك بإيجاب العمل بها، وأريناك أن دفاعك لها يبطل احتجاجك على خصومك، وقد مر عليه، فأجبنا إلى ذلك، ثم قبلت أخبارا رويتها أنت من ذلك، ودفعت ما رويناه، وهذا رجوع إلى الأول في التحكم والمناقضة.
وبعد فإن أكثر الذي رويته عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في مسح الرجلين يكفي في الحجة عليك، وتأولك له بأنه وضوء عن غير حدث يقابله أن غسل النبي (صلى اللّه عليه وآله)
ص: 173
رجليه في ذلك الوضوء إنما كان لرفع النجس، فيقابل التأويلان ويتكافأ الاحتجاج بالحديثين.
فأما روايته عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو حجة عليك لا لك، وذلك أن قوله (عليه السلام) وقد مسح رجليه: «هذا وضوء من لم يحدث» يفيد الخبر عن إحداث الغسل الذي لم يأت به كتاب، بل جاء بنقيضه، ولم تأت به سنة، فصار الفاعل له بدلا من المسح المفروض محدثا بدعة في الدين، ولو لم يكن المراد فيه ما ذكرناه على القطع لكفى أن يكون محتملا له، لأن الحدث غير مذكور في اللفظ، وإنما هو مقدر في التأويل، فكأنكم تقولون أن المضمر: لم يحدث ما ينقض الوضوء، والمقدر عندنا فيه: من لم يحدث غير مشروع في الوضوء.
وبقي عليك الحديث الذي روي أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) توضأ فمسح على رجليه ولم يفصل فارتج عليه الكلام في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «هذا وضوء من لم يحدث» ولجلج فيه، ولم يدر ما يقول، فأضرب عن ذكره صفحا وقال: فأنا أقبل الحديث أيضا أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قام فتوضأ ومسح على رجليه وهما في النعلين، فأقول: إنهما كانا في جوربين، والجوربان في النعلين، كما أقول في القراءة بالخفض: إنها تفيد مسح الخفين إذا كانت الرجلان فيهما.
فقال الشيخ رضي اللّه عنه: هذا كلام بعيد من الصواب، متعسف في تأويل الأخبار، وذلك أن الراوي لم يذكر جوربين ولا خفين، فلا يجب أن يدخل في الحديث ما ليس فيه، كما أنا لما سلمنا حديثك لم ننقض منه ما تضمنه، ولم تزد فيه شيئا يسهل سبيل دفاعك عن الاحتجاج به، ولو قلنا كما قلت إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) توضأ ومسح على رجليه وقال: هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلا به، ثم غسلهما بعد ذلك لكنا في صورتك وحالك في الزيادة في الأخبار، بل لو قلنا أنه غسل رجليه
ص: 174
أولا ثم استأنف الوضوء، وإن لم يرو ذلك الراوي لكان كقولك إن كان في رجليه جوربان لم يذكرهما الراوي، وكنا نحن أولى بالتأويل الذي ذكرناه منك، وفاق أفعال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ظواهر القرآن، وتأولك أنت أقواله، وحملك فعاله على نقيض القرآن، والزيادة في ألفاظ الأخبار ما لم يذكره أحد بحال، على أنه لا يعبر بالجوربين عن الرجلين، ولا بالخفين عنهما في حقيقة اللغة، ولا في مجازها، ولم يرو ذلك أعجمي، فيكون لك تعلق به، بل رواه عربي فصيح اللسان، فبطل أيضا حملك الخبر عليه حسب ما بيناه.
فترك الكلام على ذلك كله، وقال: العرب تقول لمن داس شيئا برجله وفيها جورب أو خف: قد داس فلان برجله كذا وكذا، وهذه العامة كلها على ما ذكرناه لا يمتري فيه منهم اثنان.
فقال الشيخ: ليس مثالك بنظير لدعواك، وبينهما عند أهل العقول واللغة أعظم الفرقان، وذلك أن الدائس برجله وهي في الجورب أو الخف معد فعل رجله إلى الدوس، وليس الماسح على الخف والجورب معديا فعله إلى الرجل بالمسح على الاتفاق، فأي نسبة بين ذلك وبين ما تأولت به الخبر على غير مفهوم اللسان؟
فقال أبو جعفر: واللّه ما أدري ما التعدي والاعتماد، وهذا من كلام المتكلمين، وانقطع الكلام على إخباره عن نفسه بأنه لم يفهم غرض الكلام.
قال الشيخ رحمه اللّه: وقلت بعد انفصال المجلس لبعض أصحابنا في حل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: هذا وضوء من لم يحدث، زيادة لم أوردها على الخصم، لأنني لم أوثر اتفاقه عليها في الحال، ولم يكن لي فقر إليها في الحجاج، وهي معتمدة في برهان الحق - والمنة لله - وذلك أن قوله (عليه السلام) وقد توضأ فغسل
ص: 175
وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه: هذا وضوء من لم يحدث، لا يجوز حمله إلا على الوجه الذي ذكرناه، في حكم الوضوء المشروع، الذي لم يحدث فيه ما ليس بمشروع من قبل أنه لو كان على ما تأوله للخصوص من أنه أراد به وضوء من لم يحدث ما يوجب الوضوء، لكان لمن لم يجب عليه الوضوء وضوء مخصوص لا يتعدى إلى غيره، كما أن لمن توضأ - عن حدث - وضوءا مخصوصا لا يجوز تعديه إلى سواه.
ولما أجمعوا على أن له أن يتعدى ذلك إلى غسل الرجلين، ويكون وضوءا لمن لم يحدث، كما يكون المسح وضوءا له، بطل تأويلهم إذ ما يختص لا يقع غيره موقعه، وفي إجماعهم على ما بيناه من أن من لم يحدث ليس له وضوء بعينه مشروع بطلان ما تعلقوا به في تأويل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودليل صحة ما ذكرناه منه.
والحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا (1).
ص: 176
المناظرة الحادية والعشرون: مناظرة (1) للشيخ الكراجكي في حكم مسح الرجلين في الوضوء
رسالة كتبتها إلى أحد الإخوان وسميتها بالقول المبين عن وجوب مسح الرجلين.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد رسوله خاتم النبيين وآله الطاهرين.
سألت يا أخي - أيدك اللّه تعالى - في أن أورد لك من القول في مسح الرجلين ما يتبين لك به وجوبه وصحة مذهبنا فيه وصوابه، وأنا أجيبك إلى ما سألت، وأورد مختصرا نطلب ما طلبت بعون اللّه وتوفيقه.
إعلم أن فرض الرجلين عندنا في الوضوء هو المسح دون الغسل، ومن غسل فلم يؤد الفرض، وقد وافقنا على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، كابن عباس (2) (رضي اللّه عنه)، وعكرمة (3) وأنس، وأبي العالية، والشعبي وغيرهم.
ص: 177
ودليلنا على أن فرضهما المسح قول اللّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ...) (1).
فتضمنت الآية جملتين، صرح فيهما بحكمين، بدأ في الجملة الأولى بغسل الوجوه، ثم عطفت الأيدي عليها، فوجب لها من الحكم بحقيقة العطف مثل حكمها.
ثم بدأ في الجملة الثانية بمسح الرؤوس، ثم عطف الأرجل عليها، فوجب أن يكون لها من الحكم بحقيقة العطف مثل حكمها، حسبما اقتضاه العطف في الجملة التي قبلها. (2)
ولو جاز أن يخالف في الجملة الثانية بين حكم الرؤوس والأرجل المعطوفة عليها، لجاز أن يخالف في الجملة الأولى بين حكم الوجوه والأيدي المعطوفة عليها، فلما كان هذا غير جائز كان الآخر مثله، فعلم وجوب حمل كل عضو معطوف في جملة على ما قبله، وفيه كفاية لمن تأمله.
فإن قال قائل: إنا نجد أكثر القراء يقرأون الآية بنصب الأرجل، فيكون الأرجل في قراءتهم معطوفة على الأيدي، وذلك موجب للغسل.
ص: 178
قيل له: أما الذين قرأوه بالنصب من السبعة فليسوا بأكثر من الذين قرأوا بالجر، بل هم مساوون لهم في العدد.
وذلك إن ابن كثير (1)، وأبا بكر (2)، وحمزة (3) عن عاصم (4) قرأوا أرجلكم بالجر، وابن عامر (5)، والكسائي (6)، وحفصا (7)، عن عاصم، قرأوا وأرجلكم بالنصب.
وقد ذكر العلماء بالعربية أن العطف من حقه أن يكون على أقرب مذكور دون أبعده، هذا هو الأصل، وما سواه عندهم تعسف وانصراف عن حقيقة الكلام إلى التجوز، من غير ضرورة تلجئ إلى ذلك.
وفيه إيقاع للبس، وربما صرف المعنى عن مراد القائل، ألا ترى أن رئيسا لو أقبل على صاحب له، فقال له: أكرم زيدا وعمرا، واضرب بكرا وخالدا، كان
ص: 179
الواجب على الصاحب أن يميز بين الجملتين من الكلام، ويعلم أنه ابتداء في كل واحدة منهما ابتدأ عطف باقي الجملة عليه، دون غير، وأن بكرا في الجملة الثانية معطوف على خالد، كما أن عمرا في الجملة الأولى معطوف على زيد.
ولو ذهب هذا المأمور إلى أن بكرا معطوف على عمر، لكان قد انصرف عن الحقيقة ومفهوم الكلام في ظاهره، وتعسف تعسفا صرف به الأمر عن مراد الآمر به، فأداه ذلك إلى إكرام من أمر بضربه.
ووجه آخر، وهو أن القراءة بنصب الأرجل غير موجبة أن تكون معطوفة على الأيدي، بل تكون معطوفة على الرؤوس في المعنى دون اللفظ، لأن موضع الرؤوس نصب، لوقوع الفعل الذي هو المسح، وإنما انجرت بعارض وهو الباء، والعطف على الموضع دون اللفظ جائز مستعمل في لغة العرب، ألا تراهم يقولون:
مررت بزيد وعمرا، ولست بقائم ولا قاعدا، قال الشاعر:
معاوي إننا بشر فاسحج *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والنصب في هذه الأمثلة كلها إنما هو العطف على الموضع دون اللفظ، فيكون على هذا من قرأ الآية بنصب الأرجل، كمن قرأها بجرها، وهي في القرآن جميعا معطوفة على الرؤوس التي هي أقرب إليها في الذكر من الأيدي، ويخرج ذلك عن طريق التعسف، ويجب المسح بهما جميعا والحمد لله.
وشئ آخر وهو: أن حمل الأرجل في النصب على أن تكون معطوفة على الرؤوس أولى من حملها على أن تكون معطوفة على الأيدي، وذلك أن الآية قد قرئت بالجر والنصب معا، والجر موجب للمسح، لأنه عطف على الرؤوس، فمن جعل النصب إنما هو لعطف الأرجل على الأيدي، أوجب الغسل وأبطل القراءة بالجر الموجب للمسح، ومن جعل النصب إنما هو لعطف الأرجل
ص: 180
على موضع الرؤوس، أوجب المسح الذي أوجبه الجر، فكان مستعملا للقرائتين جميعا غير مبطل لشئ منهما، ومن استعملهما فهو أسعد ممن استعمل أحدهما.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون استعمال القرائتين إنما هو بغسل الرجلين وهو أحوط في الدين، وذلك أن الغسل يأتي على المسح ويزيد عليه، فالمسح داخل فيه، فمن غسل فكأنما مسح وغسل، وليس كذلك من مسح، لأن الغسل غير داخل في المسح.
قلنا: هذا غير صحيح، لأن الغسل والمسح فعلان، كل واحد منهما غير الآخر، وليس بداخل فيه، ولا قائم مقامه في معناه الذي يقتضيه.
ويتبين ذلك أن الماسح كأنه قيل له: اقتصر فيما تتناوله من الماء على ما يندى به العضو الممسوح، والغاسل كأنه قيل له: لا تقتصر على هذا القدر، بل تناول من الماء ما يسيل ويجري على العضو المغسول.
فقد تبين أن لكل واحد من الفعلين كيفية يتميز بها عن الآخر، ولولا ذلك لكان من غسل رأسه فقد أتى على مسحه، ومن اغتسل للجمعة فقد أتى على وضوئه، هذا مع إجماع أهل اللغة والشرع على أن المسح لا يسمى غسلا، والغسل لا يسمى مسحا.
فإن قيل: لم زعمتم ذلك؟ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قوله سبحانه: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (1) إلى أنه أراد غسل سوقها وأعناقها، فسمى الغسل مسحا.
قلنا: ليس هذا مجمعا عليه في تفسير الآية، وقد ذهب قوم إلى أنه أراد
ص: 181
المسح بعينه.
وقال أبو عبيدة (1) والفراء (2) وغيرهما أنه أراد بالمسح الضرب.
وبعد فإن من قال إنه أراد بالمسح الغسل لا يخالف في أن تسمية الغسل مسحا مجازا واستعارة، وليس هو على الحقيقة، ولا يجوز لنا أن نصرف كلام اللّه تعالى عن حقائق ظاهره إلا بحجة صارفة.
فإن قال: ما تنكرون من أن يكون جر الأرجل في القراءة إنما هو لأجل المجاورة لا للنسق، فإن العرب قد تعرب الاسم بإعراب ما جاوره، كقولهم: (جحر ضب خرب)، فجروا خربا لمجاورته لضب، وإن كان في الحقيقة صفة للجحر لا للضب، فتكون كذلك الأرجل إنما جرت لمجاورتها في الذكر لمجرور وهو الرؤوس، قال امرؤ القيس:
كأن ثبيرا في عرانين وبله *** كبير أناس في بجاد مزمل (3)
ص: 182
فجر مزملا لمجاورته لبجاد، وإن كان من صفات الكبير، لا من صفات البجاد، فتكون الأرجل على هذا مغسولة وإن كانت مجرورة.
قلنا: هذا باطل من وجوه، أولها: اتفاق أهل العربية على أن الإعراب بالمجاورة شاذ نادر لا يقاس عليه، وإنما ورد مسموعا في مواضع لا يتعداها إلى غيرها، وما هذا سبيله فلا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجئ إليه.
وثانيها: أن المجاورة لا يكون معها حرف عطف، وهذا ما ليس فيه بين العلماء خلاف.
وفي وجود واو العطف في قوله تعالى (وأرجلكم) دلالة على بطلان دخول المجاورة فيه وصحة العطف.
وثالثها: أن الإعراب بالجوار إنما يكون بحيث ترتفع الشبهة عن الكلام، ولا يعترض اللبس في معناه، ألا ترى أن الشبهة زائلة، والعلم حاصل في قولهم (جحر ضب خرب) بأن خربا صفة للجحر دون الضب.
وكذلك ما أنشد في قوله (مزمل) وأنه من صفات الكبير دون البجاد، وليس هكذا الآية، لأن الأرجل يصح أن فرضها المسح كما يصح أن يكون الغسل، فاللبس مع المجاورة فيها قائم، والعلم بالمراد منها مرتفع، فبان بما ذكرناه أن الجر فيها ليس هو بالمجاورة والحمد لله.
فإن قيل: كيف ادعيتم أن المجاورة لا تجوز مع واو العطف؟ وقد قال اللّه
ص: 183
عز وجل: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ ، وَأَبَارِيقَ) (1) ثم قال:
(وَحُورٌ عِينٌ) (2) فخفضهن بالمجاورة، لأنهن يطفن ولا يطاف بهن.
قلنا: أول ما في هذا أن القراء لم يجمعوا على جر (حور عين)، بل أكثر السبعة يرى أن الصواب فيها الرفع، وهم نافع، وابن كثير، وعاصم في رواية أبي عمرو، وابن عامر، وإنما قرأها بالجر حمزة والكسائي، وفي رواية المفضل عن عاصم، وقد حكى عن أبي عبيدة أنه كان ينصب، فيقرأ (وحورا عينا).
ثم إن للجر فيها وجها صحيحا غير المجاورة، وهو أنه لما تقدم قوله تعالى:
(أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (3) عطف (بحور عين) على (جنات النعيم)، فكأنه قال: هم في جنات النعيم، وفي مقارنة أو معاشرة حور عين، وحذف المضاف (4).
وهذا وجه حسن، وقد ذكره أبو علي الفارسي (5) في كتاب (الحجة في القرآن) واقتصر عليه دون ما سواه، ولو كان للجر بالمجاورة فيه وجه لذكره.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن تكون القراءة بالجر موجبة للمسح إلا أنه متعلق بالخفين لا بالرجلين، وأن تكون القراءة بالنصب موجبة للغسل المتعلق بالرجلين
ص: 184
بأعيانهما، فيكون للآية قراءتان مفيدة لكلا الأمرين؟
قلنا: أنكرنا ذلك لأنه انصراف عن ظاهر القرآن والتلاوة إلى التجوز والاستعارة من غير أن تدعو إليه ضرورة، ولا أوجبته دلالة، وذلك خطأ لا محالة.
والظاهر يتضمن ذكر الأرجل بأعيانها، فوجب أن يكون المسح متعلقا بها دون غيرها، كما أنه يتضمن ذكر الرؤوس، وكان الواجب المسح بها أنفسها دون أغيارها، ولا خلاف في أن الخفاف لا يعبر عنها بالأرجل، كما أن العمائم لا يعبر عنها بالرؤوس، ولا البراقع بالوجوه، فوجب أن يكون الغرض متعلقا بنفس المذكور دون غيره على جميع الوجوه.
ولو شاع سوى ذلك في الأرجل حتى تكون هي المذكورة والمراد من سواها، لشاع نظيره في الوجوه والرؤوس، ولجاز أيضا أن يكون قوله سبحانه:
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ) (1) محمولا على غير الأبعاض المذكورة.
ولا خلاف في أن هذه الآية دالة بظاهرها على قطع الأيدي والأرجل بأعيانها، وأنه لا يجوز أن ينصرف عن دليل التلاوة وظاهرها، فكذلك آية الطهارة لأنها مثلها.
فإن قيل: إن عطف الأرجل على الأيدي أولى من عطفها على الرؤوس لأجل أن الأرجل محدودة كاليدين، وعطف المحدود على المحدود أشبه بترتيب الكلام.
ص: 185
قلنا: لو كان ذلك صحيحا لم يجز عطف الأيدي وهي محدودة على الوجوه وهي غير محدودة في وجود ذلك، وصحة اتفاق الوجوه والأيدي في الحكم مع اختلافهما في التحديد دلالة على صحة عطف الأرجل على الرؤوس، واتفاقهما في الحكم وإن اختلفا في التحديد.
على أن هذا أشبه بترتيب الكلام مما ذكره الخصم، لأن اللّه تعالى ذكر عضوا ممسوحا غير محدود، وهو الرأس، وعطفه عليه من الأرجل بممسوح محدود، فتقابلت الجملتان من حيث عطف فيهما مغسول محدود على مغسول غير محدود وممسوح محدود على ممسوح غير محدود.
فأما من ذهب إلى التخيير وقال: أنا مخير في أن أمسح الرجلين وأغسلهما، لأن القراءتين تدل على الأمرين كليهما، مثل الحسن البصري، والجبائي، ومحمد ابن جرير الطبري ومن وافقهم، فيسقط قولهم بما قدمناه من أن القراءتين لا يصح أن تدلا إلا على المسح، وأنه لا حجة لمن ذهب إلى الغسل، وإذا وجب المسح بطل التخيير.
وقد احتج الخصوم لمذهبهم من طريق القياس، فقالوا: إن الأرجل عضو يجب فيه الدية، أمرنا بإيصال الماء إليه، فوجب أن يكون مغسولا كاليدين.
وهذا احتجاج باطل، وقياس فاسد، لأن الرأس عضو يجب فيه الدية، وقد أمرنا بإيصال الماء إليه، وهو مع ذلك ممسوح، ولو تركنا والقياس، لكان لنا منه حجة، هي أولى من حجتهم، وهي أن الأرجل عضو من أعضاء الطهارة الصغرى، يسقط حكمه في التيمم، فوجب أن يكون فرضه المسح دليله القياس على الرأس.
فإن قالوا: هذا ينتقض عليكم بالجنب، لأن غسل جميع بدنه وأعضائه
ص: 186
يسقط في التيمم وفرضه مع ذلك الغسل.
قلنا: وقد احترزنا من هذا بقولنا إن الأرجل عضو من أعضاء الطهارة الصغرى، فلا يلزمنا بالجنب نقض على هذا.
فإن قال قائل: فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه توضأ، فغسل وجهه وذراعيه، ثم مسح رأسه وغسل رجليه، وقال: هذا وضوء الأنبياء من قبلي، هذا الذي لا تقبل الصلاة إلا به؟
قيل: هذا الخبر الذي مختلط من وجهين رواهما أصحابك.
أحدهما: أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) توضأ مرة مرة، وقال: هذا الذي لا يقبل اللّه صلاة إلا به (1) ولم يأت في الخبر كيفية الوضوء.
والآخر، أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) غسل وجهه ثلاثا، ويديه ثلاثا، ومسح رأسه، وغسل رجليه إلى الكعبين، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي (2) ولم يقل: لم يقبل اللّه صلاة إلا به، فخلطت في روايتك أحد الخبرين بالآخر، لبعدك من معرفة الأثر.
وبعد فلو كانت الرواية على ما أوردته لم يكن لك فيها حجة، لأن الخبر إذا خالف ما دل عليه القرآن وجب اطراحه والمصير إلى القرآن دونه.
ولو سلمنا لك باللفظ الذي تذكره بعينه، كان لنا أن نقول: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله)
ص: 187
مسح رجليه في وضوئه ثم غسلهما بعد المسح لتنظيف أو تبريد أو نحو ذلك مما ليس هو داخلا في الوضوء، فذكر الراوي الغسل ولم يذكر المسح الذي كان قبله، إما لأنه لم يشعر به بعدم تأمله، أو لنسيان اعتراضه، أو لظنه أن المسح لا حكم له، وأن الحكم للغسل الذي بعده، أو لغير ذلك من الأسباب، وليس هذا بمحال.
فإن قال: فقد روي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: ويل للأعقاب من النار (1)، فلو كان ترك غسل العقب في الوضوء جائزا لما توعد على ترك غسله.
قلنا: ليس في هذا الخبر ذكر مسح ولا غسل فيتعلق به، ولا فيه أيضا ذكر وضوء فنورده لنحتج به، وليس فيه أكثر من قوله: ويل للأعقاب من النار.
فإن قال: قد روي أنه رآها تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار. (2) قيل: له: وليس لك في هذا أيضا حجة، ولا فيه ذكر لوضوء في طهارة، وبعد فيجوز أن يكون رأى قوما غسلوا أرجلهم في الوضوء عوضا عن مسحها، ورأى أعقابهم يلوح عليها الماء، فقال: ويل للأعقاب من النار.
ويجوز أيضا أن يكون رأى قوما اغتسلوا من جنابة ولم يغمس الماء جميع
ص: 188
أرجلهم، ولاحت أعقابهم بغير ماء، فقال: ويل للأعقاب من النار.
ويمكن أيضا أن يكون ذلك في الوضوء لقوم من طغام العرب مخصوصين، كانوا يمشون حفاة، فتشقق أعقابهم، فيداوونها بالبول على قديم عادتهم، ثم يتوضأون ولا يغسلون أرجلهم قبل الوضوء من آثار النجس، فتوعدهم النبي (صلى اللّه عليه وآله) بما قال: وكل هذا في حيز الإمكان.
ثم يقال: له: وقد قابل ما رويت أخبار، هي أصح وأثبت في النظر، والمصير إليها أولى لموافقة ظاهرها لكتاب اللّه تعالى.
فمنها: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قام بحيث يراه أصحابه، ثم توضأ، فغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه ورجليه. (1) ومنها: أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال للناس في الرحبة: ألا أدلكم على وضوء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ قالوا: بلى.
فدعا بقعب فيه ماء، فغسل وجهه وذراعيه، ومسح على رأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث حدثا. (2)
فإن قال الخصم: ما مراده بقوله: وضوء من لم يحدث حدثا؟ وهل هذا إلا دليل على أنه قد كان على وضوء قبله؟
قيل له: مراده بذلك أنه الوضوء الصحيح الذي كان يتوضأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وليس هو وضوء من غير وأحدث في الشريعة ما ليس منها.
ويدل على صحة هذا التأويل وفساد ما توهمه الخصم أنه قصد أن يريهم
ص: 189
فرضا يعولون عليه، ويتقيدون به فيه، ولو كان على وضوء قبل ذلك، لكان لم يعلمهم الفرض الذي هم أحوج إليه.
ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: ما نزل القرآن إلا بالمسح (1)، ولا يجوز أن يكون أراد بذلك إلا مسح الرجلين، لأن مسح الرؤوس لا خلاف فيه.
ومنه قول ابن عباس (رحمه اللّه): نزل القرآن بغسلين ومسحين (2).
ومن ذلك إجماع آل محمد (عليهم السلام) على مسح الرجلين دون غسلهما، وهم الأئمة والقدوة في الدين، لا يفارقون كتاب اللّه عز وجل، إلى يوم القيامة (3) وفيما أوردناه كفاية والحمد لله.
فإن قال قائل: فلم ذهبتم في مسح الرأس والرجلين إلى التبعيض؟
قيل له: لما دل عليه من ذلك كتاب اللّه سبحانه وسنة نبيه (صلى اللّه عليه وآله)، أما دليل مسح بعض الرأس فقول اللّه تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) (4) فأدخل الباء التي هي علامة التبعيض، وهي التي تدخل على الكلام مع استغنائه في إفادة المعنى عنها، فتكون زائدة، لأنه لو قال: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) لكان الكلام صحيحا، ووجب مسح جميع الرأس، فلما دخلت الباء التي لم يفتقر الفعل في تعديته إليها
ص: 190
أفادت التبعيض.
وأما دليل مسح بعض الأرجل، فعطفها على الرؤوس، والمعطوف يجب أن يشارك المعطوف عليه في حكمه.
وأما شاهد ذلك من السنة فما روي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) توضأ ومسح بناصيته ولم يمسح الكل.
ومن الحجة على وجوب التبعيض في مسح الرؤوس والأرجل إجماع أهل البيت (عليهم السلام) على ذلك وروايتهم إياه عن رسول اللّه جدهم، وهم أخبر بمذهبه.
فإن قال قائل: ما الكعبان عندكم اللذان تمسحون عليهما؟
قيل له: العظمان النابتان في ظهر القدمين عند عقد الشراك، وقد وافقنا على ذلك محمد بن الحسن (1) دون من سواه.
دليلنا ما رواه أبان بن عثمان عن ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ألا أحكي لك وضوء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ثم انتهى إلى أن قال: فمسح رأسه وقدميه، ثم وضع يده على ظهر القدم. (2)
ص: 191
ص: 192
ص: 193
ص: 194
المناظرة الثانية والعشرون: مناظرة التيجاني مع السيد الصدر (قدس سره) في حكم الجمع بين الصلاتين (1) قال الدكتور التيجاني في معرض حديثه عن مسألة جواز الجمع بين الصلاتين: وأنا أتذكر بأن أول صلاة جمعت فيها بين الظهر والعصر كانت بإمامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر - عليه رضوان اللّه (1) - إذ كنت أنا في النجف أفرق
ص: 195
بين الظهر والعصر، حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي خرجت فيه مع السيد محمد باقر الصدر من بيته إلى المسجد الذي يؤم فيه مقلديه الذين احترموني وتركوا لي مكانا خلفه بالضبط، ولما انتهت صلاة الظهر وأقيمت صلاة العصر، حدثتني نفسي بالانسحاب، ولكن بقيت لسببين أولهما هيبة السيد الصدر وخشوعه في الصلاة حتى تمنيت أن تطول، وثانيهما وجودي في ذلك المكان، وأنا أقرب المصلين إليه، وأحسست بقوة قاهرة تشدني إليه.
ولما فرغنا من أداء فريضة العصر وانهال عليه الناس يسألونه بقيت خلفه أسمع الأسئلة والإجابة عليها إلا ما كان خفيا، ثم أخذني معه إلى بيته للغذاء وهناك وجدت نفسي ضيف الشرف، واغتنمت فرصة ذلك المجلس وسألته عن الجمع بين الصلاتين؟
- سيدي! أيمكن للمسلم أن يجمع بين الفريضتين في حالة الضرورة؟
قال: يمكن له أن يجمع بين الفريضتين في جميع الحالات وبدون ضرورة.
قلت: وما هي حجتكم؟ قال: لأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) جمع بين الفريضتين في المدينة في غير سفر ولا
ص: 196
خوف ولا مطر ولا ضرورة، وإنها فقط لدفع الحرج عنا، وهذا بحمد اللّه ثابت عندنا من طريق الأئمة الأطهار (1) وثابت أيضا عندكم.
- استغربت كيف يكون ثابتا عندنا ولم أسمع به قبل ذلك اليوم، ولا رأيت أحدا من أهل السنة والجماعة يعمل به، بل بالعكس يقولون ببطلان الصلاة إذا وقعت حتى دقيقة قبل الأذان، فكيف بمن يصليها قبل ساعات مع الظهر، أو يصلي صلاة العشاء مع المغرب، فهذا يبدو عندنا منكرا وباطلا!!
وفهم السيد محمد باقر الصدر حيرتي واستغرابي، وهمس إلى بعض الحاضرين فقام مسرعا وجاءه بكتابين عرفت بأنهما صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكلف السيد الصدر ذلك الطالب بأن يطلعني على الأحاديث التي تتعلق بالجمع بين الفريضتين، وقرأت بنفسي في صحيح البخاري (2) كيف جمع النبي (صلى اللّه عليه وآله) فريضة الظهر والعصر وكذلك فريضة المغرب والعشاء كما قرأت في صحيح مسلم (3) بابا كاملا في الجمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوف؟ ولا مطر ولا سفر.
ولم أخف تعجبي ودهشتي، وإن كان الشك داخلني بأن البخاري ومسلم اللذين عندهم قد يكونان محرفين، وأخفيت في نفسي أن أراجع هذين الكتابين في تونس.
وسألني السيد محمد باقر الصدر عن رأيي بعد هذا الدليل؟
ص: 197
قلت: أنتم على الحق، وأنتم صادقون في ما تقولون، وبودي أن أسألكم سؤالا آخر.
قال: تفضل.
قلت: هل يجوز الجمع بين الصلوات الأربع كما يفعل كثير من الناس عندنا لما يرجعوا في الليل يصلون الظهر والعصر والمغرب والعشاء قضاء؟
قال: هذا لا يجوز.
قلت: إنك قلت لي فيما سبق. بأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فرق وجمع، وبذلك فهمنا مواقيت الصلاة التي ارتضاها اللّه سبحانه.
قال: إن لفريضتي الظهر والعصر وقتا مشتركا، ويبتدئ من زوال الشمس إلى الغروب، ولفريضتي المغرب والعشاء أيضا وقت مشترك، ويبتدئ من غروب الشمس إلى منتصف الليل، ولفريضة الصبح وقت واحد يبتدئ من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، فمن خالف هذه المواقيت يكون خالف الآية الكريمة (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (1) فلا يمكن لنا مثلا أن نصلي الصبح قبل الفجر، ولا بعد شروق الشمس، إذا كما لا يمكن لنا أن نصلي فريضتي الظهر والعصر قبل الزوال أو بعد الغروب، كما لا يجوز لنا أن نصلي فريضتي المغرب والعشاء قبل الغروب، ولا بعد منتصف الليل.
وشكرت السيد محمد باقر الصدر، وإن كنت اقتنعت بكل أقواله، غير أني لم أجمع بين الفريضتين بعد مغادرته، إلا عندما رجعت إلى تونس وانهمكت في البحث واستبصرت.
هذه قصتي مع الشهيد الصدر (رحمه اللّه) في خصوص الجمع بين الفريضتين أرويها
ص: 198
ليتبين إخواني من أهل السنة والجماعة أولا، كيف تكون أخلاق العلماء الذين تواضعوا حتى كانوا بحق ورثة الأنبياء في العلم والأخلاق.
وثانيا: كيف نجهل ما في صحاحنا، ونشنع على غيرنا بأمور نعتقد نحن بصحتها، وقد وردت في صحاحنا:
فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (1) عن ابن عباس قال: صلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في المدينة مقيما غير مسافر سبعا وثمانيا.
وأخرج الإمام مالك في الموطأ (2) عن ابن عباس قال: صلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، في غير خوف ولا سفر.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه (3) في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، قال: عن ابن عباس قال: صلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، في غير خوف ولا سفر.
كما أخرج عن ابن عباس أيضا قال: جمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة في غير خوف ولا مطر، قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته (4).
ومما يدلك أخي القارئ أن هذه السنة النبوية كانت مشهورة لدى الصحابة ويعملون بها، ما رواه مسلم أيضا في صحيحه (5) في نفس الباب قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل
ص: 199
الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وفي رواية أخرى (1) قال ابن عباس للرجل: لا أم لك! أتعلمنا بالصلاة؟ وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه (2) في باب وقت المغرب قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال: صلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) سبعا جميعا وثمانيا جميعا.
كما أخرج البخاري في صحيحه في باب وقت العصر، عن سهل بن حنيف قال سمعت أبا أمامة يقول: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم، ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر وهذه صلاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) التي كنا نصلي معه. (3) ومع وضوح هذه الأحاديث فإنك لا تزال تجد من يشنع بذلك على الشيعة، وقد حدث ذلك مرة في تونس، فقد قام الإمام عندنا في مدينة قفصة ليشنع علينا ويشهر بنا وسط المصلين قائلا: أرأيتم هذا الدين الذي جاؤوا به، إنهم بعد صلاة الظهر يقومون ويصلون العصر، إنه دين جديد ليس هو دين محمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، هؤلاء يخالفون القرآن الذي يقول: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
ص: 200
كِتَابًا مَوْقُوتًا) (1) وما ترك شيئا إلا وشتم به المستبصرين.
وجاءني أحد المستبصرين، وهو شاب على درجة كبيرة من الثقافة، وحكى لي ما قاله الإمام بألم ومرارة، فأعطيته صحيح البخاري وصحيح مسلم وطلبت منه أن يطلعه على صحة الجمع، وهو من سنة النبي (صلى اللّه عليه وآله)، لأنني لا أريد الجدال معه، فقد سبق لي أن جادلته بالتي هي أحسن فقابلني بالشتم والسب والتهم الباطلة، والمهم أن صديقي لم ينقطع من الصلاة خلفه، فبعد انتهاء الصلاة جلس الإمام كعادته للدرس فتقدم إليه صديقي بالسؤال عن الجمع بين الفريضتين؟
فقال: إنها من بدع الشيعة.
فقال له صديقي: ولكنها ثابتة في صحيح البخاري ومسلم.
فقال له: غير صحيح، فأخرج له صحيح البخاري وصحيح مسلم وأعطاه فقرأ باب الجمع بين الصلاتين.
يقول صديقي: فلما صدمته الحقيقة أمام المصلين الذين يستمعون لدروسه، أغلق الكتب وأرجعها إلي قائلا: هذه خاصة برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وحتى تصبح أنت رسول اللّه فبإمكانك أن تصليها.
يقول هذا الصديق: فعرفت أنه جاهل متعصب، وأقسمت من يومها أن لا أصلي خلفه، بعد ذلك طلبت من صديقي بأن يرجع إليه ليطلعه على أن ابن عباس كان يصلي تلك الصلاة، وكذلك أنس بن مالك، وكثير من الصحابة، فلماذا يريد هو تخصيصها برسول اللّه، أو لم يكن لنا في رسول اللّه أسوة حسنة؟ ولكن صديقي اعتذر لي قائلا: لا داعي لذلك، وإنه لا يقتنع ولو جاءه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
ص: 201
وإنه والحمد لله بعد أن عرف كثير من الشباب هذه الحقيقة، وهي الجمع بين الصلاتين، رجع أغلبهم إلى الصلاة بعد تركها، لأنهم كانوا يعانون من فوات الصلاة في وقتها، ويجمعون الأوقات الأربعة في الليل فتمل قلوبهم، وأدركوا الحكمة في الجمع بين الفريضتين، لأن كل الموظفين والطلبة وعامة الناس يقدرون على أداء الصلوات في أوقاتها وهم مطمئنون، وفهموا قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، كي لا أحرج أمتي (1).
ص: 202
المناظرة الثالثة والعشرون مناظرة السيد أحمد الفالي (1) مع الأستاذ جمال (2) في حكم الجمع بين الصلاتين يقول الحجة السيد أحمد الفالي: إنه في شهر محرم الحرام سنة 1394 من الهجرة النبوية كنت في «ضاحية عبد اللّه السالم» وهي منطقة من مناطق الكويت الحديثة ضيفا عند من بيني وبينه معرفة، وقرابة.
فعند دلوك الشمس قمت إلى الصلاة فصليت الظهر، وبعد دقائق وتعقيبات مختصرة قمت إلى صلاة العصر، ولما فرغت منها واشتغلت بالتعقيبات قال لي شاب من أبناء صاحب الضيافة واسمه «جمال»: مولانا لم قدمت صلاة العصر
ص: 203
على وقتها، وجمعت بينها وبين الظهر؟
قلت: متى وقتها؟
قال: الوقت الذي يقيمونها فيه أهل السنة.
قلت: لا يا حبيبي ليس كما زعمت، بل وقت العصر بعد الظهر، فمن صلى الظهر بعد دلوك الشمس لا مانع له من صلاة العصر.
فقال «الفتى»: إني أظن أن طريقة أهل السنة هي الصواب، ولكل صلاة وقت معين عينه الشرع الإسلامي، وذلك كما يصلي أهل السنة في الأوقات الخمسة المعينة، والشيعة مشتبهون.
قلت: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (1) فأت بالبرهان.
فقال: إن أهل السنة حضرا وسفرا يؤخرون صلاة العصر، وكذلك العشاء إلى وقت معين، وعمل الأكثرية مقدم عقلا، وهم الأكثرية وخمسة أضعاف الشيعة، وطريقتهم هذه تتصل إلى طريقة المسلمين في الصدر الأول، فهي دليل على أنها الطريقة الإسلامية لا غيرها...
قلت: وأما تقدم عمل الأكثرية وكذلك قولها ورأيها لا دليل عليه لا عقلا ولا شرعا، ولو كانت الأكثرية - بما هي - دليلا على الحق والحقيقة لكان الشرك حقا والكفر حقيقة، والتوحيد باطلا.
أما تعلم يا حبيبي، أن أهل الشرك والكفر في كل عصر وزمان أما كانوا أضعاف وأضعاف وأضعاف من أهل التوحيد والإيمان، أما قرأت في كتاب اللّه الحكيم حكاية قوم نوح (عليه السلام) أنه سلام اللّه عليه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين
ص: 204
عاما، وفي هذه المدة الكثيرة الطويلة كان يدعوهم إلى اللّه وتوحيده وإلى ترك الشرك والأوثان والأصنام، فلم يقبل دعوته ولم يؤمن به إلا قليل - ثمانون أو أقل من ذلك - وخليل الرحمن إبراهيم مع ما رأى منه النمروديون المعجزات الباهرات فما آمن به إلا زوجته - سارى - وأحد أقربائه لوط (عليه السلام).
والمشهور عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة... وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة... والذي نفس محمد (صلى اللّه عليه وآله) بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار (1).
وأيضا فيه عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة... وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة (2)، إن هذا الحديث متفق عليه ومقبول لدى الفريقين..
وكم في كتاب اللّه الحكيم من مذمة الأكثرية ومدحة الأقلية، كقوله تعالى:
(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (3) (وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (4)
ص: 205
(يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (1) (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (2) (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (3) (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (4).
وغير هذه من الآيات الذامة للأكثرية والمادحة للأقلية، ولا شك ولا ريب لدى أولي الألباب، وذوي العقول السليمة، ورجال الفكر، أن الإسلام هو اليوم دين البشرية، والنظام الذي هو كافل لسعادة الإنسانية جمعاء وهو نظامه الوحيد، ومع ذلك نسبة المؤمنين به إلى النفوس البشرية كنسبة الأحجار الكريمة إلى صخور الجبال.
فعمل الأكثرية بما هو عمل الأكثرية لا أنه لا يدل على صحة طريقتها فحسب بل بالدلالة على الضد أقرب.
دعينا إلى الغذاء فتركنا القيل والقال، وبعد الفراغ من الأكل رجعنا إلى ما كنا فيه، وقلت للفتى: حبيبي يا جمال، لدى البحث والمناظرة في مسألة بين الاثنين إن كانت المسألة من أصول الدين فعلى المثبت لها أن يقيم بالدليل العقلي والبرهان المنطقي، وإن كانت من فروع الدين فعلى المثبت لها أن يأتي بدلائل شرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل.
وأهل السنة ليس لهم دليل على ما عينوه من الوقت لصلاتي العصر
ص: 206
والعشاء من الأدلة الشرعية.
وأما قولك: وطريقة أهل السنة تتصل بطريقة مسلمي صدر الإسلام.. فليس بصواب فإنها لو كانت كذلك لما كانت مذاهبهم مختلفة ومتعددة ومتهافتة، ولامرية أن طريقة الإسلام المحمدي لم تكن إلا واحدة..
وأما الشيعة الإثنا عشرية إن ادعوا أن طريقتهم هي الطريقة الإسلامية المحمدية فصحيح، لأن طريقتهم مأخوذة من أهل البيت (عليهم السلام)، وأهل البيت أدرى بما في البيت، والشيعة بنص الرسول الأكرم (صلى اللّه عليه وآله) لن يضلوا أبدا إذ قال (صلى اللّه عليه وآله) كرارا: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا (1) ولا شك أن بين الفرق الإسلامية الكثيرة الفرقة التي متمسكة بالثقلين هي الشيعة الإثنا عشرية فقط.
وبنص النبي الأعظم (صلى اللّه عليه وآله) الشيعة هم الفائزون، مسندا عن أم سلمة قالت: ما تذكرون من شيعة علي، وهم الفائزون يوم القيامة (2)، وفي تاريخ دمشق لابن عساكر مسندا عن أم سلمة، قالت: سمعت النبي (صلى اللّه عليه وآله) يقول: إن عليا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة (3)، والسيوطي في الدر المنثور قال: وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: كنا عند النبي (صلى اللّه عليه وآله) فأقبل علي (عليه السلام) فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله): والذي نفسي بيده أن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (4)... وفيه أيضا:
ص: 207
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لعلي (عليه السلام): هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، وفيه أيضا: وأخرج ابن مردويه عن علي (عليه السلام) قال: قال لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): ألم تسمع قول اللّه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين. (1)
وشواهد التنزيل للحافظ الحسكاني بسنده عن علي (عليه السلام) قال: حدثني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأنا مسنده إلى صدري فقال (صلى اللّه عليه وآله): يا علي أما تسمع قول اللّه عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) هم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غراء محجلين. (2)
وفيه أيضا بسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت «إن الذين آمنوا...» قال النبي (صلى اللّه عليه وآله) لعلي (عليه السلام): هو أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضابا مقمحين (3)، وفيه أيضا عن أبي برزة الأسلمي (4)، وكذلك عن جابر بن عبد اللّه (5) والطبري في تفسيره (6) عن أبي الجارود عن محمد بن علي.
ص: 208
والصواعق المحرقة (1) قال: أخرج الحافظ جمال الدين الذرندي عن ابن عباس: إن هذه الآية لما نزلت قال (صلى اللّه عليه وآله) لعلي (عليه السلام): هو أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين... الحديث، والشبلنجي في نور الأبصار (2).
فقولك: والشيعة مشتبهون ليس بصواب، ومذهب الشيعة هو الحق والصواب.
فقال الفتى: مولانا ما الدليل على جواز الجمع بين الصلاتين؟ قلت: الدليل على ذلك كتاب اللّه عز وجل، وسنة رسوله (صلى اللّه عليه وآله) وأما الكتاب فقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (3) هذه الآية الكريمة في بيان وجوب الفرائض الخمسة وأوقاتها، فمن زوال الشمس - الظهر - إلى منتصف الليل فرض اللّه على عباده أربع فرائض، اثنتان منها وهما الظهر والعصر وقتهما من زوال الشمس إلى غروبها إلا أن الظهر قبل العصر، واثنتان منها وهما المغرب والعشاء وقتهما عند غروب الشمس إلى منتصف الليل إلا أن المغرب قبل العشاء، وقرآن الفجر وقت فريضة الصبح وهو من الفجر الصادق إلى طلوع الشمس..
وقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (4) إن طرفي النهار هما الصباح والمساء، وزلفا من الليل هي الأقرب إلى النهار المنطبقة على وقت المغرب والعشاء، فالآيات المحكمات كلها تأمر بالفرائض الخمسة في
ص: 209
ثلاثة أوقات - عند زوال الشمس إلى غروبها للظهر والعصر، وعند الغروب إلى انتصاف الليل للمغرب والعشاء، ومن الفجر الصادق إلى طلوع الشمس لصلاة الصبح وليس في الآيات البينات أقل إشارة إلى وقت خاص معين لصلاتي العصر والعشاء، نعم الظهر مقدم على العصر والمغرب مقدم على العشاء، والخلاف لا يجوز، فيعلم من الآيات البينات أن الأوقات الثلاثة ظرف لإداء الفرائض الخمسة..
وأما دليل جواز الجمع من السنة النبوية فعمل النبي (صلى اللّه عليه وآله) فإنه (صلى اللّه عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء سفرا، وحضرا كما في الصحاح والسنن ففي سنن النسائي المشروح بشرح السيوطي بسنده عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما (1).
وأيضا بسنده عن معاذ بن جبل أنهم خرجوا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عام تبوك فكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء... وفيه أيضا أن عبد اللّه بن عمر جمع بين صلاتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقال: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إذا حضر أحدكم الأمر الذي يخاف فوته فليصل هذه الصلاة.
وفيه أيضا بسنده عن ابن عباس قال: صليت مع النبي (صلى اللّه عليه وآله) بالمدينة ثمانيا جميعا وسبعا جميعا، أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء، وفيه أيضا بسنده عن جابر بن زيد أن ابن عباس أنه صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شئ، والمغرب والعشاء ليس بينهما شئ.. (2)
ص: 210
وفيه أيضا بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا من غير خوف ولا سفر، وأيضا بسنده عن ابن عباس أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) كان يصلي بالمدينة يجمع بين الصلاتين بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، قيل له: لم؟ قال: لئلا يكون على أمته حرج (1).
وعارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
وفي الباب عن أبي هريرة: قال أبو عيسى - الترمذي -: حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه، رواه جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعبد اللّه بن شقيق العقيلي، وقد روي عن ابن عباس عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) غير هذا.
وقال في الشرح: قال علماؤنا: الجمع بين الصلاتين في المطر والمرض رخصة، وقال أبو حنيفة: بدعة.. وهذا باطل، بل الجمع سنة، روى ابن عباس بالجمع وهو صحيح من غير خوف ولا سفر (2).. انتهى.
فالحق مع الدليل والبرهان لا مع عمل الأكثرية، فاعلم يا حبيبي يا جمال، أن طريق الشيعة الإثنى عشرية مرجح ولهم الحجة البالغة ولله الحمد والمنة..
فالجمع الذي عليه شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يدل عليه كتاب اللّه الحكيم وسنة
ص: 211
رسوله الرؤوف الرحيم ومنهاج العترة الطاهرين المعصومين، ودين الإسلام سهل سمح لا حرج فيه، والجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بحال أهل المشاغل والمكاسب والحرف والصنايع والعمال أوفق وأحسن ولهم أسهل وأروح كما أشار إلى ذلك ابن عباس بقوله: لئلا يكون على أمته حرج.
فقال الفتى: أحسنت يا مولاي، فجزاك اللّه خيرا، لقد أوضحت الحق وكشفت عن وجه الحقيقة (1).
ص: 212
يقول السيد مصطفى مرتضى العاملي: كنت يوما في مخيم الرشيدية في رأس العين مع بعض الإخوان من أهل فلسطين، فقال لي رجل منهم: لقد رأيت حال الشيعة وسبرت أخلاقهم وعاداتهم فوجدتهم متمسكين بالدين الإسلامي كل التمسك، ولم أجد ما يعابون به سوى شئ واحد.
فقلت: وما هذا الشئ الذي تعيبهم به؟
قال: إنهم يجمعون بين الصلاتين.
قلت: وهل من حرج عليهم في ذلك، بعد ما صرحوا بأن النبي (صلى اللّه عليه وآله) جمع وفرق.
قال: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) إنما جمع في السفر.
قلت له: قد صح عندكم ورويتم في كتبكم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) صلى الظهر ثمانيا والعشاء سبعا، من غير خوف ولا سفر ولا مطر ولا حرب ولا عذر من الأعذار (1)، وقيل لابن عمر: لماذا فعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ذلك؟ فقال: لئلا يضيق على أمته (2)
ص: 213
فإذا كانت الشيعة تفعل ما فعله رسول اللّه فلا يجوز عيبهم والتشنيع عليهم، فإنكم بذلك تعيبون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وتشنعون عليه.
قال: الحق معكم، وإني أستغفر اللّه مما فرط، ولكن أيهما أفضل: الجمع أم التفريق؟
قلت: لا أدري.
قال: يجب أن تدري.
قلت: هذا لا يخصني، ولا يجب علي معرفته، فإن الشارع هو اللّه، واللّه لا يسأل عما يفعل، والمبلغ عنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ورسول اللّه أعرف بما جاء به، ومثلي يجب عليه التسليم فقط.
قال: فإني سألت أحد مشايخ الشيعة عن ذلك، وقال لي: إن التفريق أفضل، وأدلك عليه إذا شئت، هو الشيخ حسن شمس الدين من حنويه.
قلت: إن الشيخ هو أجل قدرا من أن يعطيك الجواب هكذا على مثل هذا السؤال.
قال: بلى واللّه لقد سألته وأجابني هكذا.
قلت: لعلك لم تفهم معنى كلامه.
قال: بلى واللّه لقد فهمت، وهو ما قلته لك.
قلت: كلا ليس الأمر كذلك، وإني أستطيع أن أعرفك ما قاله الشيخ لك.
قال: وما الذي تظنه قال حيث لم تصدق قولي.
قلت: إني لم أكذبك، وإنما قلت: إنك لم تفهم معنى كلامه، وعلى كل حال
ص: 214
إن صح أنه أجابك، فإنه يقول لك: حيث ثبت أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فعل الأمرين علمنا بتساوي الفضلين، لأنه لا يعقل أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ترك الأفضل وعمل ما هو دونه في الرتبة، لأنه (صلى اللّه عليه وآله) ما عرض عليه أمران إلا واختار أشدهما عليه ليزداد أجره بزيادة المشقة، ونحن الآن مخيرون بين الجمع والتفريق، ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فعل الأمرين، فهما في الفضل سواء، فلا حرج علينا في أي الفعلين التزمنا.
ثم قلت له: لنفرض جدلا أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لم يجمع بين الصلاتين إلا لعذر كالمطر والسفر والحرب وغيرهما من الأعذار.
فتهلل وجهه، وقال: والأمر كذلك.
قلت له: فقد صح أنه جمع، والجمع كان لعذر.
فقال: نعم.
قلت: إن كان العذر يبيح الجمع بين الصلاتين، فما المانع من الجمع بين الصلوات الخمس، فيصليها كلها دفعة واحدة في وقت واحد.
قال: أن الصلاة لا تجوز قبل دخول الوقت، ولو أداها المكلف قبل وقتها لم يسقط الوجوب بعد دخوله، وكذا لا يجوز تأخيرها عن وقتها مع الاختيار.
قلت: أن الجمع بين صلاتين يقتضي إما تأخير أولاهن عن وقتها أو تقديم الثانية عليه، وعلى أي الوجهين فإن إحدى الصلاتين وقعت في غير وقتها، لأن وقتيهما متغايران بزعمك.
قال: إن الجمع بين الظهر والعصر فيه شئ من التسامح، وذلك لقرب الوقتين بعضهما من البعض.
قلت: هذا التسامح هل كان من الرسول (صلى اللّه عليه وآله) خاصة أم عن أمر اللّه تعالى، فإن زعمت أنه من الرسول كذبك اللّه عز وجل لأنه وصف الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بأنه (وَمَا
ص: 215
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (1) وإن قلت: إنه من اللّه، دل على اتحاد الوقتين، قل ما شئت فإن الحق معنا.
قال: ومشروعية الجمع إن كانت لقرب الوقتين بعضهما من بعض فلم لم يجمع بين العصر والمغرب، فإن القرب بين وقتهما كالقرب بين وقتي الظهر والعصر، وكالقرب بين وقتي المغرب والعشاء، بل يجب على هذا القياس أن تجمع بي الأربع صلوات في وقت واحد؟!
قال: لقد أشكل علي الأمر، وليس في وسعي الجواب.
قلت: تزعمون أن الجمع بين الصلاتين كان لعذر، فلا يخلو الأمر أن يكون صلى إحدى الصلاتين في غير وقتها، ولم يسقط وجوبها عند دخول الوقت، فتركها عمدا، فتشهد عليه بقلة الدين ووضع الشئ في غير محله، فتكون قد كفرت، وأنت تدعي الإسلام، وإما أن يكون الوقت مشتركا كما تزعم الشيعة، فيكون (صلى اللّه عليه وآله) صلى الصلاتين في وقتهما، وهو ما عليه الشيعة، والسلام.
قال الرجل: أشهد أن الحق معكم، وأن من نازعكم واعترضكم متعد مبطل.
قلت: أزيدك بيانا، أن المصلحة الإنسانية تقتضي الجمع أكثر من التفريق، وذلك أن الناس ليس كلهم مترفا حتى أنه يفرغ نفسه لمراعاة الأوقات، بل غالب الناس أهل كد وأصحاب أعمال، ولا يمكن للعامل أن يوقت لكل صلاة وقتا، لأن صاحب العمل لا يسره التعطيل ونقص الشغل، كذلك لا تساعده الظروف، ولعله ينسى الصلاة في بعض الأوقات، حيث يغلب عليه التعب، أو لا يمكنه صاحب العمل من التفرغ لكل صلاة، فإذا جمع بين الصلاتين سلم من كل هذه المحذورات.
ص: 216
قال: صدقت، هذا صحيح.
قلت: وانظر في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (1)، أتراه ذكر غير ثلاثة أوقات، وانظر في قوله عقيب هذا بلا فصل: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ) (2)، ألم تكن صلاة الليل واجبة لو لم يقل: (نافلة لك).
قال: بلى واللّه، ولكن لو جمعت الآية الأولى إلى قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (3)، لكان المجموع خمس صلوات.
فقلت: لشد ما غلطت، بل كان المجموع ستة، لأن الأولى دلت على ثلاثة أوقات، ودلت الثانية على ثلاثة أوقات أيضا.
قال: إن قوله: (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) يدلان على وقت واحد.
قلت: أو ما علمت أن من أول الفجر إلى ركود الشمس في دائرة نصف النهار يسمى صباحا، ومن الدلوك وهو زوال الشمس عن دائرة نصف النهار إلى الغروب يسمى مساء، وأن المراد بطرفي النهار الصباح والمساء، فكما دل الغسق والزلفى من الليل على وقت واحد كذلك يدل الفجر والطرف الأول من النهار على وقت واحد، ويدل الدلوك والطرف الثاني على وقت واحد.
فسكت الرجل ولم يحر جوابا.
وفي اليوم الثاني ذهبت إلى حنويه وأخبرت الشيخ حسن بما حصل،
ص: 217
وطالبته بما أجاب به الرجل.
فقال: لم يكن الأمر هكذا، وإنما صلى الرجل معنا صلاة المغرب، وبعد الفراغ قال: أراك جمعت بين الصلاتين؟
فقلت له: جوابك يأتي بعد الآن.
ثم لم يمض نصف ساعة وإذا جميع الحضور غلب عليهم النوم، فقلت له: هذا جواب سؤالك، أترى هؤلاء لو لم يصلوا العشاء مع صلاة المغرب ألم يكن سيفوت الكثير منهم الصلاة، ولو نبههم أحد هل يحصل منهم التوجه إلى الصلاة والإقبال عليها كما يجب؟
فقال لي: صدقت.
والحمد لله رب العالمين (1).
ص: 218
ص: 219
ص: 220
يقول الدكتور التيجاني: وقد عمل بالتقية الصحابة الكرام في عهد الحكام الظالمين، أمثال معاوية الذي كان يقتل كل من امتنع عن لعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقصة حجر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة (1) وأمثال يزيد وابن زياد والحجاج وعبد الملك بن مروان وأضرابهم، ولو شئت جمع الشواهد على عمل الصحابة بالتقية (2) لاستوجب كتابا كاملا، ولكن ما أوردته من أدلة أهل
ص: 221
السنة والجماعة كاف بحمد اللّه.
ولا أترك هذه الفرصة تفوت لأروي قصة طريفة وقعت لي شخصيا مع عالم من علماء أهل السنة، التقينا في الطائرة وكنا من المدعوين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنة، وكان من دعاة الوحدة، وأعجبت به غير أنه ساءني قوله: بأن على الشيعة الآن أن تترك بعض
ص: 222
المعتقدات التي تسبب اختلاف المسلمين والطعن على بعضهم البعض.
وسألته مثل ماذا؟
وأجاب على الفور: مثل المتعة والتقية، وحاولت جهدي إقناعه بأن المتعة هي زواج مشروع، والتقية رخصة من اللّه، ولكنه أصر على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلتي، مدعيا أن ما أوردته كله صحيح، ولكن يجب تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين، واستغربت منه هذا المنطق الذي يأمر بترك أحكام اللّه من أجل وحدة المسلمين، وقلت له مجاملة: لو توقفت وحدة المسلمين على هذا الأمر لكنت أول من أجاب.
ونزلنا في مطار لندن وكنت أمشي خلفه ولما تقدمنا إلى شرطة المطار سئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا؟ فأجابهم: بأنه جاء للمعالجة، وادعيت أنا بأني جئت لزيارة بعض أصدقائي، ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة استلام الحقائب، عند ذلك همست له: أرأيت كيف أن التقية صالحة في كل زمان؟
قال: كيف؟
قلت: لأننا كذبنا على الشرطة، أنا بقولي: جئت لزيارة أصدقائي، وأنت بقولك: جئت للعلاج، في حين أننا قدمنا للمؤتمر.
ابتسم، وعرف بأنه كذب على مسمع مني فقال: أليس في المؤتمرات الإسلامية علاج لنفوسنا؟ ضحكت قائلا: أوليس فيها زيارة لإخواننا (1)؟
ص: 223
ص: 224
ص: 225
ص: 226
المناظرة السادسة والعشرون: مناظرة ابن عباس مع ابن الزبير (1) في حكم المتعة
خطب ابن الزبير بمكة المكرمة على المنبر وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر فقال: إن ها هنا رجلا قد أعمى اللّه قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة النساء حلال (2) من اللّه ورسوله، ويفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت
ص: 227
ص: 228
مال البصرة بالأمس، وترك المسلمين بها يرتضخون النوى، وكيف ألومه في ذلك، وقد قاتل أم المؤمنين وحواري رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ومن وقاه بيده؟؟ فقال ابن عباس لقائده سعد بن جبير بن هشام مولى بني أسد بن خزيمة:
استقبل بي وجه ابن الزبير، وارفع من صدري، وكان ابن عباس قد كف بصره فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير، وأقام قامته فحسر عن ذراعيه، ثم قال: يا بن الزبير:
قد أنصفت القارة من راماها *** إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها *** حتى تصير حرضا دعواها
يا ابن الزبير: أما العمى فإن اللّه تعالى يقول: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (1)، وأما فتاي في القملة والنملة فإن فيها حكمين لا تعلمهما أنت ولا أصحابك، وأما حملي المال فإنه كان مالا جبيناه فأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب اللّه فأخذناها بحقنا.
وأما المتعة (2) فسل أمك أسماء (3) إذا نزلت عن بردى عوسجة، وأما قتالنا
ص: 229
أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك، فانطلق أبوك وخالك (1) إلى حجاب مده اللّه عليها فهتكاه عنها، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، فما أنصفا اللّه ولا محمدا من أنفسهما، أن أبرزا زوجة نبيه (صلى اللّه عليه وآله) وصانا حلائلهما.
وأما قتالنا إياكم فإنا لقيناكم زحفا، فإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم منا، وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا، وأيم اللّه لولا مكان صفية فيكم، ومكان خديجة فينا، لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظما إلا كسرته.
فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن بردي عوسجة؟
فقالت: ألم أنهك عن ابن عباس وعن بني هاشم فإنهم كعم الجواب إذا بدهوا.
فقال: بلى، وعصيتك.
فقالت: يا بني، احذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها فإياك وإياه آخر الدهر.
فقال أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي:
ص: 230
يا ابن الزبير لقد لاقيت بائقة *** من البوائق فالطف لطف محتال
لاقيته هاشميا طاب منبته *** في مغرسيه كريم العم والخال
ما زال يقرع عنك العظم مقتدرا *** على الجواب بصوت مسمع عال
حتى رأيتك مثل الكلب منجحرا *** خلف الغبيط وكنت الباذخ العالي
إن ابن عباس المعروف حكمته *** خير الأنام له حال من الحال
عيرته «المتعة» المتبوع سنتها *** وبالقتال وقد عيرت بالمال
لما رماك على رسل بأسهمه *** جرت عليك بسيف الحال والبال
فاحتز مقولك الأعلى بشفرته *** حزا وحيا بلا قيل ولا قال
وأعلم بأنك إن عاودت غيبته *** عادت عليك مخاز ذات أذيال (1)
وقد ذكر الراغب الأصفهاني: أن عبد اللّه بن الزبير عير عبد اللّه بن عباس بتحليله المتعة فقال له: سل أمك كيف سطعت المجامر (2) بينها وبين أبيك؟
فسألها، فقالت: ما ولدتك إلا في المتعة (3).
ص: 231
المناظرة السابعة والعشرون: مناظرة شيخ من أهل البصرة مع يحيى بن أكثم (1) في حكم المتعة
قال يحيى بن أكثم لشيخ البصرة: بمن اقتديت في جواز المتعة؟
فقال: بعمر بن الخطاب.
فقال له: كيف وعمر كان أشد الناس فيها!؟
قال: لأن الخبر الصحيح أنه صعد إلى المنبر، فقال: إن اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) قد أحلا لكما متعتين، وإني محرمهما عليكم أو أعاقب عليهما (2)، فقبلنا شهادته (3)
ص: 232
ولم نقبل تحريمه (1).
ص: 233
قال الشيخ - أدام اللّه عزه -: حضرت دار بعض قواد الدولة وكان بالحضرة شيخ من الإسماعيلية يعرف بابن لؤلؤ، فسألني: ما الدليل على إباحة المتعة؟ فقلت له: الدليل على ذلك قول اللّه جل جلاله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (1)، فأحل جل اسمه نكاح المتعة بصريح لفظها وبذكر أوصافه من الأجر عليها، والتراضي بعد الفرض له من الازدياد في الأجل وزيادة الأجر فيها.
فقال: ما أنكرت أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (2)، فحظر اللّه تعالى النكاح إلا لزوجة أو ملك يمين، وإذا لم تكن المتعة زوجة ولا ملك يمين فقد سقط قول من أحلها.
ص: 234
فقلت له: قد أخطأت في هذه المعارضة من وجهين:
أحدهما: أنك ادعيت أن المستمتع بها ليست بزوجة، ومخالفك يدفعك عن ذلك ويعتبرها زوجة في الحقيقة
والثاني: أن سورة المؤمنين مكية وسورة النساء مدنية، والمكي متقدم للمدني، فكيف يكون ناسخا له وهو متأخر عنه وهذه غفلة شديدة!
فقال: لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ويقع بها الطلاق، وفي إجماع الشيعة على أنها غير وارثة ولا مطلقة دليل على فساد هذا القول.
فقلت له: وهذا أيضا غلط منك في الديانة، وذلك أن الزوجة لم يجب لها الميراث ويقع بها الطلاق من حيث كانت زوجة فقط وإنما حصل لها ذلك بصفة تزيد على الزوجية، والدليل على ذلك أن الأمة إذا كانت زوجة لم ترث، والقاتلة لا ترث، والذمية لا ترث، والأمة المبيعة تبين بغير طلاق، والملاعنة تبين أيضا بغير طلاق، وكذلك المختلعة، والمرتد عنها زوجها، والمرضعة قبل الفطام بما يوجب التحريم من لبن الأم، والزوجة تبين بغير طلاق، وكل ما عددناه زوجات في الحقيقة، فبطل ما توهمت فلم يأت بشئ.
فقال صاحب الدار وهو رجل أعجمي لا معرفة له بالفقه وإنما يعرف الظواهر: أنا أسألك في هذا الباب عن مسألة، خبرني هل تزوج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) متعة أو تزوج أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
فقلت له: لم يأت بذلك خبر ولا علمته.
فقال: لو كان في المتعة خير ما تركها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام).
فقلت له: أيها القائل ليس كل ما لم يفعله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان محرما، وذلك
ص: 235
أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) كافة لم يتزوجوا بالإماء، ولا نكحوا الكتابيات، ولا خالعوا، ولا تزوجوا بالزنج، ولا نكحوا السند، ولا اتجروا إلى الأمصار، ولا جلسوا باعة للتجار، وليس ذلك كله محرما ولا منه شئ محظور، إلا ما خصت به الشيعة دون مخالفيها من القول في نكاح الكتابيات.
فقال: فدع هذا، خبرني عن رجل ورد من قم يريد الحج فدخل إلى مدينة السلام فاستمتع بها بامرأة ثم انقضى أجلها، فتركها وخرج إلى الحج وكانت حاملا منه ولم يعلم بحالها، فحج ومضى إلى بلده وعاد بعد عشرين سنة وقد ولدت بنتا وشبت، ثم عاد إلى مدينة السلام فوجد فيها تلك الابنة فاستمتع بها وهو لا يعلم، أليس يكون قد نكح ابنته وهذا فظيع جدا.
فقلت له: إن أوجب هذا الذي ذكر القائل تحريم المتعة وتقبيحها أوجب تحريم نكاح الميراث وكل نكاح وتقبيحه، وذلك أنه قد يتفق في مثل ما وصف وجعله طريقا إلى حظر المتعة، وذلك أنه لا يمنع أن يخرج رجل من أهل السنة وأصحاب أحمد بن حنبل من خوارزم قاصدا للحج فينزل مدينة السلام، ويحتاج إلى النكاح فيستدعي امرأة من جيرانه حنبلية سنية فيسألها أن تلتمس له امرأة ينكحها، فتدله على امرأة شابة ستيرة ثيب لا ولي لها فيرغب فيها، وتجعل المرأة أمرها إلى إمام المحلة وصاحب مسجدها، فيحضر رجلين ممن يصليا معه ويعقد عليها النكاح للخوارزمي السني الذي لا يرى المتعة ويدخل بالمرأة ويقيم معها إلى وقت رحيل الحج إلى مكة، فيستدعي الشيخ الذي عقد عليه النكاح فيطلقها بحضرته ويعطيهم عدتها وما يجب عليه من نفقتها، ثم يخرج فيحج وينصرف من مكة على طريق البصرة ويرجع إلى بلده، وقد كانت المرأة حاملا وهو لا يعلم فيقيم عشرين سنة، ثم يعود إلى مدينة السلام للحج فينزل في تلك المحلة بعينها،
ص: 236
ويسأل عن العجوز فيفقدها لموتها، فيسأل عن غيرها، فتأتيه قرابة لها أو نظيرة لها في الدلالة فتذكر له جارية هي ابنة المتوفاة بعينها، فيرغب فيها ويعقد عليها، كما عقد على أمها بولي وشاهدين، ثم يدخل بها فيكون قد وطئ ابنته، فيجب على القائل أن يحرم - لهذا الذي ذكرناه - كل نكاح.
فاعترض الشيخ السائل أولا فقال: عندنا أنه يجب على هذا الرجل أن يوصي إلى جيرانه باعتبار حالها وهذا يسقط هذه الشناعة.
فقلت له: إن كان هذا عندكم واجبا فعندنا أوجب منه وأشد لزوما: أن يوصي المستمتع ثقة من إخوانه في البلد باعتبار حال المستمتع بها، فإن لم يجد أخا أوصى قوما من أهل البلد، وذكر أنها كانت زوجته ولم يذكر المتعة وهذا شرط عندنا فقد سقط أيضا ما توهمه.
ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت له: إن أمرنا مع هؤلاء المتفقهة عجيب، وذلك أنهم مطبقون على تبعيدنا في نكاح المتعة، مع إجماعهم على أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قد كان أذن فيها، وأنها عملت على عهده، ومع ظاهر كتاب اللّه عز وجل في تحليلها، وإجماع آل محمد (عليهم السلام) على إباحتها، والاتفاق على أن عمر حرمها في أيامه، مع إقراره بأنها كانت حلالا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فلو كنا على ضلالة فيها لكنا في ذلك على شبهة تمنع ما يعتقده المخالف فينا من الضلال والبراءة منا، وليس فيمن خالفنا إلا من يقول في النكاح وغيره بضد القرآن، وخلاف الإجماع، ونقض شرع الإسلام، والمنكر في الطباع، وعند ذوي المروات، ولا يرجع في ذلك إلى شبهة تسوغ له في قوله، وهم معه يتولى بعضهم بعضا، ويعظم بعضهم بعضا وليس ذلك إلا لاختصاص قولنا بآل محمد (عليهم السلام)، فلعداوتهم لهم رمونا عن قوس واحد.
ص: 237
هذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت يقول: لو أن رجلا عقد على أمه عقدة النكاح، وهو يعلم أنها أمه، ثم وطئها لسقط عنه الحد، ولحق به الولد (1).
وكذلك قوله في الأخت والبنت، وكذلك سائر المحرمات، ويزعم أن هذا نكاح شبهة أوجبت سقوط الحد.
ويقول: لو أن رجلا استأجر غسالة أو خياطة أو خبازة أو غير ذلك من أصحاب الصناعات، ثم وثب عليها فوطئها وحملت منه سقط عنه الحد، ولحق به الولد (2).
ويقول: إذا لف الرجل على إحليله حريرة ثم أولجه في قبل امرأة ليست له بمحرم له حتى ينزل، لم يكن زانيا ولا وجب عليه الحد.
ويقول: إن الرجل إذا لاط بغلام فأوقب لم يجب عليه الحد (3)، ولكن يردع بالكلام الغليظ والأدب بالخفقة بالنعل والخفقتين وما أشبه ذلك.
ويقول: إن شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق (4)، وهو سنة، وتحريمه بدعة.
وقال الشافعي: إذا فجر الرجل بامرأة فحملت منه فولدت بنتا، فإنه يحل للفاجر أن يتزوج بهذه الابنة ويطأها ويولدها لا حرج عليه في ذلك (5)، فأحل
ص: 238
نكاح البنات.
وقال: لو أن رجلا اشترى أخته من الرضاعة، ووطئها لما وجب عليه الحد (1)، وكان يجيز سماع الغناء بالقصب وأشباهه (2).
وقال مالك بن أنس: إن وطئ النساء في أحشاشهن حلال طلق، وكان يرى سماع الغناء بالدف وأشباهه من الملاهي، ويزعم أن ذلك سنة في العرسات والولائم.
وقال داود بن علي الأصفهاني: إن الجمع بين الأختين في ملك اليمين حلال طلق (3)، والجمع بين الأم والابنة غير محظور.
فاقتسم هؤلاء الفجور وكل منكر فيما بينهم واستحلوه، ولم ينكر بعضهم على بعض، مع أن الكتاب والسنة والإجماع تشهد بضلالهم في ذلك، ثم عظموا أمر المتعة، والقرآن شاهد بتحليلها، والسنة والإجماع يشهدان بذلك، فيعلم أنهم ليسوا من أهل الدين، ولكنهم من أهل العصبية والعداوة لآل الرسول (صلى اللّه عليه وآله).
فاستعظم صاحب المجلس ذلك وأنكره وأظهر البراءة من معتقديه، وسهل عليه أمر المتعة والقول بها (4).
ص: 239
التاسعة والعشرون: مناظرة الشيخ المفيد مع أبي القاسم الداركي (1) في حكم المتعة
قال الشيخ المفيد - عليه الرحمة -: وقد كنت استدللت بالآية التي قدمت تلاوتها على تحليل المتعة في مجلس كان صاحبه رئيس زمانه، فاعترضني أبو القاسم الداركي.
فقال: ما أنكرت أن يكون المراد بقوله تعالى: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (2) إنما أراد به نكاح الدوام وأشار بالاستمتاع إلى الالتذاذ، دون نكاح المتعة الذي تذهب إليه.
فقلت له: إن الاستمتاع وإن كان في الأصل هو الالتذاذ فإنه إذا علق بذكر النكاح وأطلق بغير تقييد لم يرد به إلا نكاح المتعة خاصة، لكونه علما عليها في
ص: 240
الشريعة وتعارف أهلها، ألا ترى أنه لو قال قائل: نكحت أمس امرأة متعة، أو هذه المرأة نكاحي لها، أو عقدي عليها للمتعة، أو أن فلانا يستحل نكاح المتعة، لما فهم من قوله إلا النكاح الذي يذهب إليه الشيعة خاصة، وإن كانت المتعة قد تكون بوطئ الإماء والحرائر على الدوام، كما أن الوطئ في اللغة هو وطئ القدم ومماسة باطنه للشئ على سبيل الاعتماد.
ولو قال قائل: وطئت جاريتي، ومن وطئ امرأة غيره فهو زان، وفلان يطأ امرأته وهي حائض، لم يعقل من ذلك مطلقا على أصل الشريعة إلا النكاح دون وطئ القدم، وكذلك الغائط الذي هو الشئ المحوط، وقيل هو الشئ المنهبط، ولو قال قائل: هل يجوز أن آتي الغائط ثم لا أتوضأ وأصلي أو قال: فلان أتى الغائط ولم يستبرئ لم يفهم قوله إلا الحدث الذي يجب منه الوضوء وأشباه ذلك مما قد قرر في الشريعة، وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد ثبت أن إطلاق لفظ نكاح المتعة لا يقع إلا على النكاح الذي ذكرناه، وإن كان الاستمتاع في أصل اللغة هو الالتذاذ كما قدمناه.
فاعترض القاضي أبو محمد بن معروف فقال: هذا الاستدلال يوجب عليك أن لا يكون اللّه تعالى أحل بهذه الآية غير نكاح المتعة لأنها لا تتضمن سواه، وفي الإجماع على انتظامها تحليل نكاح الدوام دليل على بطلان ما اعتمدته.
فقلت له: ليس يدخل هذا الكلام على أصل الاستدلال، ولا يتضمن معتمدي ما ألزمنيه القاضي فيه، وذلك أن قوله سبحانه: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) (1) يتضمن تحليل المناكح المخالفة للسفاح في الجملة، ويدخل فيه نكاح الدوام من الحرائر والإماء، ثم
ص: 241
يختص نكاح المتعة بقوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (1) ويجري ذلك مجرى قول القائل: وقد حرم اللّه عليك نساء بأعيانهن، وأحل لكم ما عداهن فإن استمتعت منهن فالحكم فيه كذا وكذا، وإن نكحت الدوام فالحكم فيه كيت وكيت، فيذكر فيه المحللات في الجملة وتبين له حكم نكاح بعضهن كما ذكرهن له، ثم بين له أحكام نكاحهن كلهن، فما أعلمه زاد علي شيئا (2).
ص: 242
قال الشيخ المفيد - أدام اللّه عزه -: قد كنت حضرت مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن القاسم المحمدي وحضره أبو القاسم الداركي، فسأله بعض الشيعة عن الدلالة على تحريم نكاح المتعة عنده فاستدل بقول اللّه تعالى:
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (1)، قال: والمتعة باتفاق الشيعة ليست بزوجة ولا بملك يمين، فبطل أن تكون حلالا.
فقال له السائل: ما أنكرت أن تكون زوجة، وما حكيته عن الشيعة في إنكار ذلك لا أصل له.
فقال له: لو كانت زوجة لكانت وارثة لأن الاتفاق حاصل، على أن كل زوجة فهي وارثة وموروثة، إلا ما أخرجه الدليل في الأمة والذمية والقاتلة.
فنازعه السائل في هذه الدعوى، وقال: ما أنكرت أن تكون المتعة أيضا زوجة تجري مجرى الذمية والرق والقاتلة في خروجها عن استحقاق الميراث، وضايقه في هذه المطالبة، فلما طال الكلام بينهما في هذه النكتة تردد وقال:
ص: 243
الدليل على أنها ليست بزوجة أن القاصد إلى الاستمتاع بها إذا قال لها: تمتعيني نفسك، فأنعمت له، حصلت متعة ليس بينها وبينه ميراث ولا يلحقها الطلاق، وإذا قال لها: زوجيني نفسك فأنعمت حصلت زوجية يقع بها الطلاق ويثبت بينها وبينه الميراث، فلو كانت المتعة زوجة ما اختلف حكمها باختلاف الألفاظ ولا وقع الفرق بين أحكامها بتغاير الكلام، ولوجب أن يقع الاستمتاع في العقد بلفظ التزويج ويقع التزويج بلفظ الاستمتاع.
قال: وهذا باطل بإجماع الشيعة وما هم عليه في الاتفاق، فلم يدر السائل ما يقول له لعدم فقهه وضعف بصيرته بأصل المذهب.
فقال الشيخ المفيد (رضي اللّه عنه): فقلت للداركي: لم زعمت أن الأحكام قد تتغير باختلاف ما ذكرت في الكلام، وما أنكرت أن يكون العقد عليه بلفظ الزوجية، وأن يكون لفظ الزوجية يقوم مقام لفظ الاستمتاع، فهل تجد لما ادعيت في هذين الأمرين برهانا وعليه دليلا أو فيه بيان، وبعد فكيف استجزت أن تدعي إجماع الشيعة على ما ذكرت ولم يسمع ذلك أحد منهم ولا قرأت له في كتاب، ونحن معك في المجلس نفتي بأنه لا فرق بين اللفظين في باب العقد للنكاح، سواء كان نكاح الدوام أو نكاح الاستمتاع وإنما الفصل بين النكاحين في اللفظ من جهة الكلام ذكر الأجل في نكاح الاستمتاع وترك ذكره في نكاح الميراث، فلو قال: تمتعيني نفسك ولم يذكر الأجل لوقع نكاح الميراث، ولا ينحل إلا بالطلاق، ولو قال: تزوجيني إلى أجل كذا، فأنعمت به لوقع نكاح استمتاع، وهذا ما ليس فيه بين الشيعة خلاف.
فلم يرد شيئا تجب حكايته وظهر عليه بحمد اللّه (1).
ص: 244
قال السيد عبد اللّه الشيرازي (قدس سره): ذهبت يوما إلى مكتبة قرب باب السلام، وتناولت مصحفا بقصد الشراء، وكانت هناك مجموعة من محلات بيع الكتب، فوقفت بجانب حانوت صراف، كان رجل من أهل الفضل جالسا فيه، ففتحت القرآن كي أرى خطه، فظن أني أريد أن أتفأل فقال: يا سيد لا تتفأل بالقرآن.
قلت: لا أريد أن أتفأل، بل أريد أن أرى كيفية خطه.
ثم قال: تفضل، فجلست وبعد أن تبادلنا التحية سألني عن أشياء:
سألني أولا: ما تقولون في هذا الحديث الذي مضمونه أنه قال النبي (صلى اللّه عليه وآله):
«لو كان نبي غيري لكان عمر» (1).
ص: 245
قلت: هذا كذب محض، ولم يصدر من النبي (صلى اللّه عليه وآله).
قال: كيف؟
قلت: ما تقولون في حديث المنزلة؟ وهل هو مسلم بيننا وبينكم؟ وهو أنه قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي من بعدي» (1).
قال: نعم هو حديث مسلم.
قلت: هذا الحديث يدل بالدلالة اللفظية - ولو كانت التزامية - على أنه لو كان نبي غير محمد (صلى اللّه عليه وآله) لكان عليا (عليه السلام)، فيدور الأمر بين كذب هذا الحديث، وكذب الحديث المذكور بشأن عمر، ولكن المفروض أن حديث المنزلة مسلم بيننا وبينكم، فيثبت أن ما ذكرتموه كذب وحديث مجعول، فبهت وسكت.
ثم قال: هل أنتم الشيعة تتمتعون بالنساء وتجوزون المتعة؟
قلت: نعم، نتمتع بهن ونجوزها.
قال: بأي دليل؟
قلت: بالخبر المروي عن عمر، وهو قوله: «متعتان كانتا في زمن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) محللتان وأنا أحرمهما» (2)، فنفس هذا الخبر - بغض النظر عن الأدلة المسلمة الأخرى - يدل على أن المتعة كانت في زمن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حلالا وهو حرمها، فأنا أسأل منك: ما الذي دعا عمر إلى أن يحرمها؟ هل صار نبيا بعد وفاة رسول
ص: 246
اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فأمره اللّه تعالى أن يحرمها؟ أو هل كان ينزل عليه الوحي؟ فلماذا حرمها؟ مع أن حلال محمد (صلى اللّه عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة؟ أليس هذا إلا من البدعة في الدين وقد قال (صلى اللّه عليه وآله): «كل بدعة ضلالة، والضلالة في النار» (1) فبأي وجه يتبع المسلم بدعة عمر، ولا يتمتع بالنساء، ويلتزم بحرمتها، ولا يقتفي سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
فبهت وسكت (2).
ص: 247
ص: 248
ص: 249
ص: 250
المناظرة الثانية والثلاثون: مناظرة مؤمن الطاق (1) مع أبي حنيفة في حكم الطلاق ثلاثا
عن ابن أبي عمير قال: قال أبو حنيفة لأبي جعفر مؤمن الطاق: ما تقول في الطلاق الثلاث؟ قال: أعلى خلاف الكتاب والسنة؟ قال نعم.
ص: 251
قال أبو جعفر: لا يجوز ذلك (1).
قال أبو حنيفة: ولم لا يجوز ذلك؟
قال: لأن التزويج عقد عقد بالطاعة فلا يحل بالمعصية، وإذا لم يجز التزويج بجهة المعصية لم يجز الطلاق بجهة المعصية، وفي إجازة ذلك طعن على اللّه عز وجل فيما أمر به وعلى رسوله فيما سن، لأنه إذا كان العمل بخلافهما فلا معنى لهما، وفي قولنا من شذ عنهما رد إليهما وهو صاغر.
قال أبو حنيفة: قد جوز العلماء ذلك.
قال أبو جعفر: ليس العلماء الذين جوزوا للعبد العمل بالمعصية، واستعمال سنه الشيطان في دين اللّه، ولا عالم أكبر من الكتاب والسنة، فلم تجوزون للعبد الجمع بين ما فرق اللّه من الطلاق الثلاث في وقت واحد، ولا تجوزون له الجمع بين ما فرق اللّه من الصلوات الخمس؟ وفي تجويز ذلك تعطيل الكتاب وهدم السنة، وقد قال اللّه جل وعز: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (2).
ما تقول يا أبا حنيفة في رجل قال: إنه طلق امرأته على سنة الشيطان؟
أيجوز له ذلك الطلاق؟
ص: 252
قال أبو حنيفة: فقد خالف السنة، وبانت منه امرأته، وعصى ربه.
قال أبو جعفر: فهو كما قلنا، إذا خالف سنة اللّه عمل بسنة الشيطان، ومن أمضى بسنته فهو على ملته ليس له في دين اللّه نصيب.
قال أبو حنيفة: هذا عمر بن الخطاب، وهو من أفضل أئمة المسلمين، قال:
إن اللّه جل ثناؤه جعل لكم في الطلاق أناة فاستعجلتموه، وأجزنا لكم ما استعجلتموه (1).
قال أبو جعفر: إن عمر كان لا يعرف أحكام الدين.
قال أبو حنيفة: وكيف ذلك؟
قال أبو جعفر: ما أقول فيه ما تنكره، أما أول ذلك فإنه قال: لا يصلي الجنب حتى يجد الماء (2) ولو سنة! والأمة على خلاف ذلك، وأتاه أبو كيف العائذي فقال: يا أمير المؤمنين إني غبت فقدمت وقد تزوجت امرأتي، فقال: إن كان قد دخل بها فهو أحق بها، وإن لم يكن دخل بها فأنت أولى بها (3)، وهذا حكم لا يعرف، والأمة على خلافه.
وقضى في رجل غاب عن أهله أربع سنين أنها تتزوج إن شاءت (4)، والأمة
ص: 253
على خلاف ذلك، إنها لا تتزوج أبدا حتى تقوم البينة أنه مات أو طلقها، وأنه قتل سبعة نفر من أهل اليمن برجل واحد، وقال: لولا ما عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، والأمة على خلافه، وأتي بامرأة حبلى شهدوا عليها بالفاحشة فأمر برجمها، فقال له علي (عليه السلام): إن كان لك السبيل عليها فما سبيلك على ما في بطنها؟ فقال: لولا علي لهلك عمر (1).
وأتي بمجنونة قد زنت فأمر برجمها، فقال له علي (عليه السلام): أما علمت أن القلم قد رفع عنها حتى تصح؟ فقال: لولا علي لهلك عمر (2)، وإنه لم يدر الكلالة فسأل النبي (صلى اللّه عليه وآله) عنها فأخبره بها فلم يفهم عنه، فسأل ابنته حفصة أن تسأل النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن الكلالة فسألته، فقال لها: أبوك أمرك بهذا؟ قالت: نعم، فقال لها: إن أباك لا يفهمها حتى يموت (3)! فمن لم يعرف الكلالة كيف يعرف أحكام الدين؟ (4)
ص: 254
ومن كلام الشيخ أدام اللّه عزه في الطلاق، قال الشيخ: حضرت يوما عند صديقنا أبي الهذيل سبيع بن المنبه المختاري (رحمه اللّه) وألحقه بأوليائه الطاهرين (عليهم السلام)، وحضر عنده الشيخان أبو طاهر وأبو الحسن الجوهريان، والشريف أبو محمد بن المأمون، فقال لي أحد الشيخين: ما تقول في طلاق الحامل إذا وقع الرجل منه ثلاثا في مجلس واحد؟
فقال الشيخ أيده اللّه: فقلت: إذا أوقعه بحضور مسلمين عدلين وقعت منه واحدة لا أكثر من ذلك.
فسكت الجوهري هنيئة ثم قال: كنت أظن أنكم لا توقعون شيئا منه بتة.
فقال أبو محمد بن المأمون للشيخ أدام اللّه عزه: أتقولون إنه يقع منه واحده؟
فقال الشيخ أيده اللّه: نعم إذا كان بشرط الشهود.
فأظهر تعجبا من ذلك، وقال: ما الدليل على أن الذي يقع بها واحدة وهو قد تلفظ بالثلاث.
قال الشيخ أيده اللّه: فقلت له الدلالة على ذلك من كتاب اللّه عز وجل، ومن
ص: 255
سنة نبيه (صلى اللّه عليه وآله)، ومن إجماع المسلمين، ومن قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن قول ابن عباس (رحمه اللّه)، ومن قول عمر بن الخطاب.
فازداد الرجل تعجبا لما سمع هذا الكلام، وقال: أحب أن تفصل لنا ذلك وتشرحه على البيان.
قال الشيخ: أما كتاب اللّه تعالى فقد تقرر أنه نزل بلسان العرب وعلى مذاهبها في الكلام، قال اللّه سبحانه: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (1)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (2)، ثم قال سبحانه في آية الطلاق: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (3)، فكانت الثالثة في قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
ووجدنا المطلق إذا قال لامرأته: أنت طالق، أتى بلفظ واحد يتضمن تطليقة واحدة، فإذا قال عقيب هذا اللفظ ثلاثا، لم يخل من أن تكون إشارته إلى طلاق وقع فيما سلف ثلاث مرات، أو إلى طلاق يكون في المستقبل ثلاثا، أو إلى الحال، فإن كان أخبر عن الماضي فلم يقع الطلاق إذا باللفظ الذي أورده في الحال، وإنما أخبر عن أمر كان، وإن كان أخبر عن المستقبل فيجب أن لا يقع بها طلاق حتى يأتي الوقت، ثم يطلقها ثلاثا على مفهوم اللفظ والكلام، وليس هذان القسمان مما جرى الحكم عليهما ولا تضمنهما المقال فلم يبق إلا أنه أخبر عن الحال، وذلك كذب ولغو بلا ارتياب، لأن الواحدة لا تكون أبدا ثلاثا، فلأجل ذلك حكمنا عليه بتطليقة واحدة من حيث تضمنه اللفظ الذي أورده، وأسقطنا ما
ص: 256
لغا فيه، وأطرحناه إذ كان على مفهوم اللغة التي نطق بها القرآن فاسدا، وكان مضادا لأحكام الكتاب.
وأما السنة فإن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: كلما لم يكن على أمرنا هذا فهو رد (1).
وقال (صلى اللّه عليه وآله): ما وافق الكتاب فخذوه وما لم يوافقه فاطرحوه (2) وقد بينا أن المرة لا تكون مرتين أبدا، وأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فأوجب السنة إبطال الطلاق الثلاث.
وأما إجماع الأمة فإنهم مطبقون على أن كل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل، وقد تقدم وصف خلاف الطلاق الثلاث للكتاب والسنة، فحصل الإجماع على بطلانه.
وأما قول أمير المؤمنين (عليه السلام): فإنه قد تظافر عنه بالخبر المستفيض، أنه قال: إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس واحد فإنهن ذوات أزواج (3).
وأما قول ابن عباس فإنه يقول: ألا تعجبون من قوم يحلون المرأة لرجل وهي تحرم عليه، ويحرمونها على آخر وهي تحل له، فقالوا: يا ابن عباس ومن هؤلاء القوم؟
قال: هم الذين يقولون للمطلق ثلاثا في مجلس: قد حرمت عليك امرأتك.
وأما قول عمر بن الخطاب: فلا خلاف أنه رفع إليه رجل قد طلق امرأته
ص: 257
ثلاثا، فأوجع رأسه ثم ردها إليه، وبعد ذلك رفع إليه رجل وقد طلق كالأول فأبانها منه، فقيل له في اختلاف حكمه في الرجلين! فقال: قد أردت أن أحمله على كتاب اللّه عز اسمه، ولكنني خشيت أن يتتابع فيه السكران والغيران، فاعترف بأن المطلقة ثلاثا ترد إلى زوجها على حكم الكتاب، لأنه إنما أبانها منه بالرأي والاستحسان، فعلمنا من قوله على ما وافق القرآن، ورغبنا عما ذهب إليه من جهة الرأي فلم ينطق أحد من الجماعة بحرف، وأنشأوا حديثا آخر تشاغلوا به (1).
ص: 258
ص: 259
ص: 260
الجامعي: سمعنا كرارا، أن الإسلام يؤكد على عدم جعل صداق المرأة باهظا، حتى قال الرسول (صلى اللّه عليه وآله): شؤم المرأة غلاء مهرها (1)، وقال (صلى اللّه عليه وآله): أفضل نساء أمتي أصبحهن وجها وأقلهن مهرا (2)، ولكن ذكر في القرآن موضعين، جعل فيهما زيادة المهر مطلوبا.
عالم الدين: في أي موضع من القرآن ذكر ذلك؟ الجامعي: الموضع الأول، في الآية 20 من سورة النساء نقرأ: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا). ولفظ «قنطار» بمعنى المال الكثير، الذي يشمل الآلاف من الدنانير، فجاء في هذه الآية، لفظ «القنطار» ولم ينتقدها، بل أكد على عدم أخذ شئ منه، لذلك يكون أخذ الصداق الكثير أمرا مطلوبا، وإلا لما كان القرآن قد ذكره.
على هذا الأساس، جاء في الروايات، أن عمر بن الخطاب في عصر خلافته، عندما رأى أن المهور باهظة الثمن، صعد المنبر وانتقد الناس واعترض
ص: 261
عليهم، وقال: أيها الناس لا تغلو في مهور النساء - وحذرهم - وأن لا يزيد على أربعين أوقية - أربعمائة درهم - فمن زاد أقمت الحد عليه، وألقيت الزيادة في بيت المال، فقامت إليه امرأة وقالت: أتمنعنا؟ ما ذلك لك.
قال عمر: نعم.
قالت: لأن اللّه يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) (1) بل تبذل لها كاملة.
فأقر عمر قولها واستغفر اللّه وقال: كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال (2).
عالم الدين: إن للآية المذكورة شأن نزول، وهو أنه هناك كانت رسوم جاهلية قبل الإسلام، فمن أراد أن يطلق زوجته السابقة، ويتزوج زواجا جديدا، ويهرب من مهرها، يتهمها في شرفها، ويضغط عليها، لتطلق نفسها وتهب له مهرها، وبهذا المهر يتخذ لنفسه زوجة جديدة.
فالآية المذكورة تتهجم على هذا العمل السئ وتقبحه، وتقول: لو كان المهر بقدر قنطار أي «مالا كثيرا»، لا تأخذوا شيئا منه بالإجبار، فنظر الإسلام أن لا تجعل المهور غالية، ولكن لو ترك هذا العمل الصالح، وجعل المهر باهظا فبعد العقد، وبدون رضى المرأة، لا يجوز التقليل منه، فالآية المذكورة لا تعارض جعل المهور خفيفة المؤنة.
ص: 262
وأما قصة عمر مع تلك السيدة، فلا بد من القول أن جواب السيدة كان صحيحا، لأن عمر قال: كل من جعل المهر أكثر من 400 درهم، أخذ الإضافة منه وألحقها ببيت المال، فالسيدة المذكورة بقراءتها للآية، قالت لعمر، بعد العقد لا يحق لك ذلك، وقد خضع عمر لقولها.
النتيجة: أن هناك استحبابا وتأكيدا في الإسلام على جعل المهر قليل عند العقد، ولكن لو تركت هذه السنة الشريفة وجعل المهر باهظ الثمن، فلا يجوز الأخذ منه إلا برضى المرأة.
الجامعي: أشكرك على توضيحاتك، لقد كانت منطقية ومقنعة، ألآن أحب أن أطرح الموضع الآخر.
عالم الدين: تفضل.
الجامعي: جاء في القرآن، في قصة موسى (عليه السلام) وشعيب (عليه السلام)، حينما تخلص موسى (عليه السلام) من أذى الفراعنة، وجاء إلى مدينة «مدين» في مصر، وأخيرا دخل بيت شعيب (عليه السلام)، فقال له شعيب (عليه السلام): (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (1).
فوافق موسى على اقتراح شعيب (عليه السلام)، ومن الواضح أن العمل ثمان سنوات، هو مهر ثقيل، وقد وافق عليه كلا النبيين (عليهما السلام)، وقد نقله القرآن دون أن ينتقده، فيكون دليلا على مطلوبية العقد بالمهر الثقيل.
عالم الدين: في قصة موسى (عليه السلام) وشعيب (عليه السلام)، لا بد أن نشير أن زواج موسى
ص: 263
(عليه السلام) مع بنت شعيب (عليه السلام) لم يكن زواجا عاديا، بل كان مقدمة لبقاء موسى (عليه السلام) بجانب شعيب (عليه السلام)، لكسب العلم والكمال من هذا العارف الكبير سنوات طويلة، إضافة إلى أن موسى (عليه السلام) وإن عمل لسنوات طويلة لأجل دفع الصداق، ولكن شعيب (عليه السلام) أخذ على عاتقه تأمين الحياة المعاشية لموسى (عليه السلام) وزوجته، ولو طرحناها من السنوات الطويلة لعمل موسى (عليه السلام)، فلا يبقى مبلغا كبيرا، فيحتسب ذلك المبلغ الضئيل كصداق لزوجته، وهذا المبلغ الباهظ في الظاهر هو ما أقدم عليه شعيب (عليه السلام) كمقدمة لبناء الجانب المادي والمعنوي في حياة موسى (عليه السلام) مع وساطته وقبول ابنته، وبعبارة أوضح، إن شعيب (عليه السلام) وإن أخذ مهرا ثقيلا ظاهرا، ولكن أراد بذلك أن يخرج موسى (عليه السلام) من وحشة الوحدة وضغط الحياة، فيكون هدفه في النتيجة تسهيل حياة موسى (عليه السلام) لا الضغط عليه، كما قال: وما أريد أن أشق عليك).
الجامعي: أشكرك على بياناتك اللطيفة، وفي الحقيقة أن شعيب (عليه السلام) باتخاذه ذلك الأسلوب الذكي، والتدبير العقلائي، قدم لموسى (عليه السلام) خدمة كبيرة. (1)
ص: 264
ص: 265
ص: 266
قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه): وجدت بخط بعض الأفاضل نقلا من خط الشهيد رفع اللّه درجته قال: قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت جئت إلى حجام بمنى ليحلق رأسي، فقال: ادن ميامنك، واستقبل القبلة، وسم اللّه، فتعلمت منه ثلاث خصال لم تكن عندي، فقلت له: مملوك أنت أم حر؟
فقال: مملوك.
قلت: لمن؟
قال: لجعفر بن محمد العلوي (عليه السلام).
قلت: أشاهد هو أم غائب؟
قال: شاهد.
فصرت إلى بابه واستأذنت عليه فحجبني، وجاء قوم من أهل الكوفة فاستأذنوا فأذن لهم، فدخلت معهم، فلما صرت عنده قلت له: يا بن رسول اللّه لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وآله)، فإني تركت بها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم.
فقال (عليه السلام): لا يقبلون مني.
ص: 267
فقلت: ومن لا يقبل منك وأنت ابن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
فقال (عليه السلام): أنت ممن لم تقبل مني، دخلت داري بغير إذني، وجلست بغير أمري، وتكلمت بغير رأيي، وقد بلغني أنك تقول بالقياس.
قلت: نعم به أقول.
قال (عليه السلام): ويحك يا نعمان أول من قاس اللّه تعالى إبليس حين أمره بالسجود لآدم (عليه السلام) وقال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (1)، أيما أكبر يا نعمان القتل أو الزنا؟
قلت: القتل.
قال (عليه السلام): فلم جعل اللّه في القتل شاهدين، وفي الزنا أربعة؟ أينقاس لك هذا؟
قلت: لا.
قال (عليه السلام): فأيما أكبر البول أو المني؟
قلت: البول.
قال (عليه السلام): فلم أمر اللّه في البول بالوضوء، وفي المني بالغسل؟ أينقاس لك هذا؟
قلت: لا.
قال (عليه السلام): فأيما أكبر الصلاة أو الصيام؟
قلت: الصلاة.
قال (عليه السلام): فلم وجب على الحائض أن تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟
ص: 268
أينقاس لك هذا؟
قلت: لا.
قال (عليه السلام): فأيما أضعف المرأة أم الرجل؟
قلت: المرأة.
قال (عليه السلام): فلم جعل اللّه تعالى في الميراث للرجل سهمين، وللمرأة سهما، أينقاس لك هذا؟
قلت: لا.
قال (عليه السلام): فلم حكم اللّه تعالى فيمن سرق عشرة دراهم بالقطع، وإذا قطع رجل يد رجل فعليه ديتها خمسة آلاف درهم؟ أينقاس لك هذا؟
قلت: لا.
قال (عليه السلام): وقد بلغني أنك تفسر آية في كتاب اللّه، وهي: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (1)، أنه الطعام الطيب، والماء البارد في اليوم الصائف (2).
ص: 269
قلت: نعم.
قال (عليه السلام) له: دعاك رجل وأطعمك طعاما طيبا، وأسقاك ماء باردا، ثم امتن عليك به ما كنت تنسبه إليه؟
قلت: إلى البخل.
قال (عليه السلام): أفيبخل اللّه تعالى؟
قلت: فما هو؟
قال (عليه السلام): حبنا أهل البيت (1).
ص: 270
المناظرة السادسة والثلاثون: مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر الباقلاني (1) وبعض المعتزلة في حكم القياس
قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: ومن كلام الشيخ أدام اللّه عزه أيضا في إبطال القياس: سئل الشيخ أيده اللّه في مجلس لبعض القضاة، وكان فيه جمع كثير من الفقهاء والمتكلمين، فقيل له: ما الدليل على إبطال القياس في الأحكام الشرعية؟
فقال الشيخ أدام اللّه عزه: الدليل على ذلك أنني وجدت الحكم الذي تزعم خصومي أنه أصل يقاس عليه ويستخرج منه الفرع، قد كان جائزا من اللّه سبحانه التعبد في الحادثة، التي هو حكمها بخالقه مع كون الحادثة على حقيقتها وبجميع صفاتها، فلو كان القياس صحيحا لما جاز في العقول التعبد في الحادثة بخلاف حكمها، إلا مع اختلاف حالها وتغير الوصف عليها، وفي جواز ذلك على ما
ص: 271
وصفناه دليل على إبطال القياس في الشرعيات.
فلم يفهم السائل معنى هذا الكلام ولا عرفه، والتبس على الجماعة كلها طريقه، ولم يلح لأحد منهم ولا فطن به، وخلط السائل وعارض على غير ما سلف، فوافقه الشيخ أدام اللّه عزه على عدم فهمه للكلام وكرره عليه لم يحصل له معناه.
قال الشيخ أيده اللّه: فاضطررت إلى كشفه على وجه لا يخفى على الجماعة، فقلت: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) نص على تحريم التفاضل في البر، فكان النص في ذلك أصلا زعمتم أيها القايسون أن الحكم بتحريم التفاضل في الأرز مقيسا عليه وأنه الفرع له، وقد علمنا أن في العقل يجوز إن كان يتعبد القديم سبحانه وتعالى بإباحة التفضل في البر، وهو على جميع صفاته بدلا من تعبده بحظره فيه، فلو كان الحكم بالحظر لعلة في البر أو صفة هو عليها لاستحال ارتفاع الحظر إلا بعد ارتفاع العلة أو الوصف، وفي تقديرنا وجوده على جميع الصفات والمعاني التي يكون عليها مع الحظر عند الإباحة دليل على بطلان القياس فيه، ألا ترى أنه لما كان وصف المتحرك إنما لزمه لوجود الحركة، أو لقطعه المكانين استحال توهم حصول السكون له في الحقيقة مع وجود الحركة، أو قطعة للمكانين، وهذا بين لمن تدبره فلم يأت القوم بشئ يجب حكايته.
قال: الشيخ أدام اللّه عزه: ثم جرى هذا الاستدلال في مجلس آخر فاعترض بعض المعتزلة فقال: ما أنكرت على من قال لك: إن هذا الدليل إنما هو على من زعم أن الشرعيات علل موجبة كعلل العقليات، وليس في الفقهاء من يذهب إلى ذلك، وإنما يذهبون إلى أنها سمات وعلامات غير موجبة لكنها دالة على الحكم، ومنبئة عنه، وإذا كانت سمات وعلامات لم يمتنع من تقدير خلاف
ص: 272
الحكم على الحادثة مع كونها على صفاتها، وذلك مسقط لما اعتمدت عليه.
قال الشيخ أيده اللّه: فقلت له: ليس مناقضة الفقهاء الذين أومأت إليهم حجة علي فيما اعتمدته، وقد ثبت أن حقيقة القياس هو حمل الشئ على نظيره في الحكم بالعلة الموجبة له في صاحبه، فإذا وضع هؤلاء القوم هذه السمة على غير الحقيقة فأخطأوا لم يخل خطأهم بموضع الاعتماد، مع أن الذي قدمته يفسد هذا الاعتراض أيضا، وذلك أن السمة والعلامة إذا كانت تدل على حكم من الأحكام فمحال وجودها، وهي لا تدل لأن الدليل لا يصح أن يخرج عن حقيقته، فيكون تارة دليلا وتارة ليس بدليل، وإذا كنتم تزعمون أن العلامة هي صفة من صفات المحكوم عليه بالحكم الذي ورد به النص، فقد جرت مجرى العلة في استحالة وجودها مع عدم مدلولها، كما يستحيل وجود العلة مع عدم معلولها، وليس بين الأمرين فصل.
فخلط هذا الرجل تخليطا بينا ثم ثاب إليه فكره، فقال: هذه السمات عندنا سمعية طارئة على الحوادث، ولسنا نعلمها عقلا ولا اضطرارا وإنما نعلمها سمعا وبدليل السمع، وعندنا مع ذلك أن العلل السمعية والأدلة السمعية قد تخرج أحيانا عن مدلولها ومعلولها، وهي كالأخبار العامة التي تدل على استيعاب الجنس بإطلاقها، ثم تكون خاصة عند قرائنها، وهذا فرق بين الأمور العقلية والسمعية.
قال الشيخ أيده اللّه: فقلت له: إن كانت هذه السمات سمعية طارئة على الحوادث، وليست من صفاتها اللازمة لها، وإنما هي معان متجددة فيجب أن يكون الطريق إليها السمع خاصة دون العقل والاستنباط، لأنها حينئذ تجري مجرى الأسماء التي هي الألقاب، فلا يصل عاقل إلى حقائقها إلا بالسمع الوارد بها، ولو كان ورد بها سمع لبطل القياس، لأنه كان حينئذ يكون نصا على الحمل،
ص: 273
كقول اقطعوا زيدا فقد سرق من حرز، وإنما استحق القطع لأنه سرق من حرز لا لغير ذلك من شئ يضاد هذا الفعل أو يقاربه، وهذا نص على قطع كل سارق من حرز إذا كان التقييد فيه على ما بيناه.
فإن كنتم تذهبون في القياس إلى ما ذكرناه فالخلاف بيننا وبينكم في الاسم دون المعنى، والمطالبة لكم بعده بالنصوص الواردة في سائر ما استعملتم فيه القياس، فإن ثبت لكم زال المراء بيننا وبينكم، وإن لم يثبت علمتم أنكم إنما تدفعون عن مذاهبكم بغير أصل معتمد، ولا برهان يلجأ إليه.
فقال: لسنا نقول إن النص قد ورد في الأصول حسبما ذكرت، وإنما ندرك السمات بضرب من الاستخراج والتأمل.
قال الشيخ أيده اللّه: فقلت: هذا هو الذي يعجز عنه كل أحد إلا أن يلجأ إلى استخراج عقلي، وقد أفسدنا ذلك فيما سلف، والآن فإن كنت صادقا فتعاط ذلك، فإن قدرت عليه أقررنا لك بالقياس الذي أنكرناه، وإن عجزت عنه بأن ما حكمناه به عليك من دفاعك عن الأصل المعروف.
فقال: لا يلزمني ذكر طريق الاستخراج، وجعل يضجع في الكلام، وبان عجزه.
فقال أبو بكر بن الباقلاني: لسنا نقول هذه العلامات مقطوع بها، ولا معلومة فنذكر طريق استخراجها، ولكن الذي أذهب إليه وهو مذهب هذا الشيخ، وأومأ إلى الأول القول بغلبة الظن في ذلك، فما غلب في ظني عملت عليه وجعلته سمة وعلامة، وإن غلب في ظن غيري سواه وعمل عليه أصاب ولم يخطئ، وكل مجتهد مصيب فهل معك شئ على هذا المذهب؟
فقلت: هذا أضعف من جميع ما سلف وأوهن، وذلك أنه إذا لم يكن لله تعالى
ص: 274
دليل على المعنى ولا السمة وإنما تعبدك على ما زعمت بالعمل على غلبة الظن، فلا بد أن يجعل لغلبة الظن سببا، وإلا لم يحصل ذلك في الظن ولم يكن لغلبته طريق، وهب أنا سلمنا لك التعبد بغلبة الظن في الشريعة، ما الدليل على أنه قد يغلب فيما زعمت؟ وما السبب الموجب له أرناه؟ فإنا نطالبك به كما طالبنا هذا الرجل بجهة الاستخراج للسمة؟
والعلة السمعية كما وصف فإن أوجدتنا ذلك ساغ لك، وإن لم توجدناه بطل ما اعتمدت عليه.
فقال: أسباب غلبة الظن معروفة وهي كالرجل الذي يغلب في ظنه إن سلك هذا الطريق نجا وإن سلك غيره هلك، وإن أتجر في ضرب من المتاجر ربح، وإن أتجر في غيره خسر، وإن ركب إلى ضيعة والسماء متغيمة مطر، وإن ركب وهي مصحية سلم، وإن شرب هذا الدواء انتفع، وإن عدل إلى غيره استضر، وما أشبه ذلك، ومن خالفني في أسباب غلبة الظن قبح كلامه.
فقلت له: إن هذا الذي أوردته لا نسبة بينه وبين الشريعة وأحكامها، وذلك أنه ليس شئ منه إلا وللخلق فيه عادة وبه معرفة، فإنما يغلب ظنونهم حسب عاداتهم، وإمارات ذلك ظاهرة لهم، والعقلاء يشتركون في أكثرها وما اختلفوا فيه فلاختلاف عاداتهم خاصة، وأما الشريعة فلا عادة فيها ولا إمارة من درية ومشاهدة، لأن النصوص قد جاءت فيها باختلاف المتفق في صورته وظاهر معناه، واتفاق المختلف في الحكم، وليس للعقول في رفع حكم منها وإيجابه مجال، وإذا لم يك فيها عادة بطل غلبة الظن فيها.
ألا ترى أنه من لا عادة له بالتجارة ولا سمع بعادة الناس فيها، لا يصح أن يغلب ظنه في نوع منها بربح أو خسران، ومن لا معرفة له بالطرقات ولا بأغيارها،
ص: 275
ولا له عادة في ذلك ولا سمع بعادة أهلها، فليس يغلب ظنه بالسلامة في طريق دون طريق.
ولو قدرنا وجود من لا عادة له بالمطر، ولا سمع بالعادة فيه، لم يصح أن يغلب في ظنه مجئ المطر عند الغيم دون الصحو، وإذا كان الأمر كما بيناه وكان الاتفاق حاصلا على أنه لا عادة في الشريعة للخلق بطل ما ادعيت من غلبة الظن، وقمت مقام الأول في الاقتصار على الدعوى.
فقال: هذا الآن رد على الفقهاء كلهم وتكذيب لهم فيما يدعونه من غلبة الظن ومن صار إلى تكذيب الفقهاء كلهم قبحت مناظرته.
فقلت له: ليس كل الفقهاء يذهب مذهبك في الاعتماد في المعاني والعلل على غلبة الظن، بل أكثرهم يزعم أنه يصل إلى ذلك بالاستدلال والنظر، فليس كلامنا ردا على الجماعة وإنما هو رد عليك وعلى فرقتك خاصة، فإن كنت تقشعر من ذلك فما ناظرناك إلا له، ولا خالفناك إلا من أجله، مع أن الدليل إذا أكذب أكذب الجماعة فلا حرج علينا في ذلك ولا لوم، بل اللوم لهم إذا صاروا إلى ما تدل الدلائل على بطلانه وتشهد بفساده.
وليس قولي: إنكم معشر المتفقهة تدعون غلبة الظن، وليس الأمر كذلك بأعجب من قولك وفرقتك إن الشيعة والمعتزلة وأكثر المرجئة، وجمهور الخوارج فيما يدعون العلم به من مذهبهم في التوحيد والعدل مبطلون كاذبون مغرورون، وإنهم في دعواهم العلم بذلك جاهلون، فأي شناعة تلزم فيما وصفت به أصحابك مع الدليل الكاشف عن ذلك، فلم يأت بشئ (1).
ص: 276
يقول الشيخ الكراجكي - عليه الرحمة -: جرى في القياس مع رجل من فقهاء العامة، اجتمعت معه بدار العلم في القاهرة، سألني هذا الرجل بمحضر جماعة من أهل العلم، فقال: ما تقول في القياس، وهل تستجيزه في مذهبك، أم ترى أنه غير جائز؟؟
فقلت له: القياس قياسان: قياس في العقليات، وقياس في السمعيات.
فأما القياس في العقليات فجائز صحيح، وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل.
قال: فهل يتفق حدهما أم يختلف؟
قلت: الواجب أن يكون حدهما واحدا غير مختلف.
قال: فما هو؟
قلت: القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس، هذا هو الحد الشامل لكل قياس، وله بعد هذا شرائط لا بد منها، ولا يقاس شئ على شئ إلا بعلة تجتمع بينهما.
قال: فإذا كان الحد شاملا للقياسين فلا فرق إذا بين القياس الذي أجزته،
ص: 277
والقياس الذي أحلته؟!
قلت: بل بينهما فروق، وإن شمل الحد.
قال: وما هي؟
قلت: منها أن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الإيجاب، وليست علة القياس في السمعيات عند من يستعمله كذلك، بل يقولون هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار.
ومنها: أن العلة في العقليات لا تكون إلا معلومة، وهي عندهم في السمعيات مظنونة وغير معلومة.
ومنها: أنها في العقليات لا تكون إلا شيئا واحدا، وهي في السمعيات قد تكون مجموع أشياء، فهذه بعض الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.
قال: فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز؟
قلت: الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى، ولذلك اختلف حكمها في المتفق الصور، واتفق في المختلف، وورد الحظر لشئ والإباحة لمثله، بل ورد الحكم في الأمر العظيم صغيرا، وفي الصغير بالإضافة إليه عظيما، واختلف كل الاختلاف الخارج عن مقتضى القياس.
وإذا كان هذا سبيل المشروعات، علم أنه لا طريق إلى معرفة شئ من أحكامها إلا من قبل المطلع على السرائر، العالم بمصالح العباد، وإنه ليس للقائسين فيه مجال.
فقال أحد الحاضرين: فمثل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف
ص: 278
المبائن للقياس.
قلت: هو عند الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال، ولكني أورد منه طرفا لموضع السؤال.
فمنه أن اللّه عز وجل أوجب الغسل من المني ولم يوجبه من البول والغائط، وليس هو بأنجس منهما، وأكثر العامة يروون أنه طاهر، وألزم الحائض قضاء ما تركته من الصيام، وأسقط عنها قضاء ما تركته من الصلاة، وهي أوكد من الصيام، وفرض في الزكاة أن يخرج من الأربعين شاة، شاة، ولم يفرض في الثمانين شاتين، بل فرضها بعد كمال المائة والعشرين، وهذا خارج عن القياس.
ونهانا عن التحريش بين بهيمتين، وأباحنا إطلاق البهيمة على ما هو أضعف منها في الصيد، وجعل للرجل أن يطأ من الإماء ما ملكته يمينه، ولم يجعل للمرأة أن تمكن من نفسها من ملكته يمينها، وأوجب الحد على من رمى غيره بفجور، وأسقطه عن من رمى بالكفر، وهو أعظم من الفجور.
وأوجب قتل القاتل بشهادة رجلين، وحظر جلد الزاني الذي يشهد بالزنا عليه، إلا أن يشهد بذلك أربعة شهود، وهذا كله خارج عن القياس.
وقد ذكروا عن ربيعة بن عبدا الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب، فقلت: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل.
قلت: كم في إصبعين؟
قال: عشرون.
قلت: كم في ثلاث؟
ص: 279
قال: ثلاثون.
قلت: كم في أربع؟
قال: عشرون.
قلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟
فقال سعيد: أعرابي أنت؟
قلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم.
قال: هي السنة يا بن أخ (1).
ونحو ذلك مما لو ذهبت إلى استقصائه لطال الخطاب، وفيما أوردته كفاية لذوي الألباب.
قال السائل: فإذا كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحا، ولم يكن في الضرورات التي هي أصولها مستمرا ولا صحيحا، فما تنكرون أن يكون كذلك الحكم في السمعيات، فيكون القياس في فروعها المسكوت عنها صحيحا، وإن لم يكن في أصول المنطوق بها مستمرا ولا صحيحا؟
ص: 280
فقلت: أنكرت ذلك من قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف القياس مما ذكرناه، فوجب أن يكون ما تفرع عنها جاريا مجراها.
ولسنا نجد أصول المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس، وإنما امتنع القياس فيها، لأنها أصول لا أصول لها، فوضح الفرق بينهما.
ومما يبين لك ذلك أيضا أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت فيه أصول الشرعيات، وليس بجائز أن يتعبد بخلاف أصول العقليات التي هي الضرورات، فلا طريق إلى الجمع بينهما.
قال: فما تنكرون على من زعم أن اللّه تعالى فرق لنا بين الأصول في السمعيات وفروعها، فنص لنا على الأصول وعرفنا بها، وأمرنا بقياس الفروع عليها، ضربا من التعبد والتكليف، ليستحق عليه الأجر والثواب.
قلت: هذا مما لا يصح أن يكلفه اللّه تعالى للعباد، لأن القياس لا بد فيه من استخراج علة يحمل عليها الفروع على الأصول، ليماثل بينهما في الحكم.
والأحكام الشرعية لو كانت مما توجبه العلل، لم يجز في المشروعات النسخ، وفي جواز ذلك في العقل دلالة على أنها لا تثبت بالعلل.
وقد قدمنا القول بأن علل القائسين مظنونة، والظنون غير موصلة إلى إثبات ما تعلق بمصالح الخلق، ولا مؤدية إلى العلم بمراد اللّه تعالى من الحكم.
ولو فرضنا (1) جواز تكليف العباد القياس في السمعيات، لم يكن بد من ورود السمع بذلك في القرآن أو في صحيح الأخبار، وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن اللّه تعالى لم يكلفه خلقه.
ص: 281
قال: فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الأخبار، قال اللّه عز وجل:
(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (1)، فأوجب الاعتبار، وهو الاستدلال والقياس، وقال: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (2)، فأوجب بالمماثلة المقايسة، وروي أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لما أرسل معاذا إلى اليمن، قال له: بماذا تقضي؟ قال: بكتاب اللّه.
قال: فإن لم تجد في كتاب اللّه؟
قال: بسنة رسول اللّه.
قال: إن لم تجد في سنة رسول اللّه؟
قال: أجتهد رأيي.
فقال (صلى اللّه عليه وآله): الحمد لله الذي وفق رسول اللّه لما يرضاه اللّه ورسوله.
وروي عن الحسن بن علي (عليهما السلام) أنه سئل فقيل له: بماذا كان يحكم أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال: بكتاب اللّه، فإن لم يجد فسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فإن لم يجد، رجم فأصاب.
وهذا كله دليل على صحة القياس، والأخذ بالاجتهاد والظن والرأي.
فقلت له: أما قول اللّه عز وجل: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (3)، فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف، لأنه تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على
ص: 282
أنفسهم في تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ما يستدل به على حق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأن اللّه أمده بالتوفيق ونصره، وخذل عدوه، وأمر الناس باعتبار ذلك ليزدادوا بصيرة في الإيمان.
وليس هذا بقياس في المشروعات، ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الأحكام.
وأما قوله سبحانه: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (1)، فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس، وإنما تعبد اللّه سبحانه عباده بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علماه من نص اللّه تعالى.
ولو كان حكمهما قياسا لكانا إذا حكما في جزاء النعامة بالبدنة قد قاسا، مع وجود النص بذلك، فيجب أن يتأمل هذا.
وأما الخبران اللذان أوردتهما فهما من أخبار الآحاد، التي لا يثبت بهما الأصول المعلومة في العبادات، على أن رواة خبر معاذ مجهولون، وهم في لفظه أيضا مختلفون.
ومنهم من روى أنه لما قال: اجتهد رأيي قال له (صلى اللّه عليه وآله): لا أحب إلى (أن) أكتب إليك.
ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لاحتمل أن يكون معنى قوله: أجتهد رأيي، أني أجتهد حتى أجد حكم اللّه تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة.
وأما ما رويته عن الحسن (عليه السلام) من حكم أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه -
ص: 283
ففيه تصحيف ممن رواه، والخبر المعروف أنه قال: فإن لم يجد في السنة زجر فأصاب، يعني بذلك القرعة بالسهام، وهو مأخوذ من الزجر والفأل.
والقرعة عندنا من الأحكام المنصوص عليها (1)، وليست بداخلة في باب القياس، فقد تبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الآيات والأخبار.
فقال أحد الحاضرين: إذا لم يثبت للقائسين نص في إيجاب القياس، فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن ولا أخبار، فقد تساويا في هذه الحال.
فقلت له: قد قدمت من الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعيات، وما يستغنى به متأمله عن إيراد ما سواه.
ثم إن الأمر بخلاف ما ظننت، وقد تناصرت الأدلة بحظر القياس من القرآن وثابت الأخبار، قال اللّه عز وجل: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (2) ولسنا نشك في أن الحكم بالقياس حكم بغير التنزيل، قال: اللّه عز وجل: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) (3) ومستخرج الحكم في الحادثة بالقياس لا يصح له أن يضيفه إلى اللّه ولا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وإذا لم يصح إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره، وهو المحلل والمحرم في الشرع بقول من عنده، وكذب وصفه بلسانه، فقال سبحانه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
ص: 284
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (1) ونحن نعلم أن القائس معول على الظن دون العلم، والظن مناف للعلم، ألا ترى أنهما لا يجتمعان في الشئ الواحد، وهذا من القرآن كاف في إفساد القياس.
وأما المروي في ذلك من الأخبار فمنه قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي، قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام».
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إياكم والقياس في الأحكام، فإنه أول من قاس إبليس».
وقال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) « إياكم وتقحم المهالك باتباع الهوى والمقاييس، قد جعل اللّه تعالى للقرآن أهلا، أغناكم بهم عن جميع الخلائق، لا علم إلا ما أمروا به، قال اللّه تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (2)، إيانا عنى (3).
وجميع أهل البيت (عليهم السلام) أفتوا بتحريم القياس، وروي عن سلمان الفارسي (رحمه اللّه) أنه قال: «ما هلكت أمة حتى قاست في دينها»، وكان ابن مسعود يقول: «هلك القائسون»، وفي هذا القدر من الأخبار غنى عن الإطالة والإكثار.
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال: إن أمر بني إسرائيل لم يزل معتدلا، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فأضلوهم.
ص: 285
قال ابن عيينة: فما زال أمر الناس مستقيما حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة، وأبو حنيفة بالكوفة، وعثمان البني بالبصرة، وأفتوا الناس، وفتنوهم، فنظرنا فإذا هم أولاد سبايا الأمم.
فحار الخصم والحاضرون مما أوردت، ولم يأت أحد منهم بحرف زائد على ما ذكرت والحمد لله (1).
ص: 286
ص: 287
ص: 288
قال الشيخ الكراجكي - عليه الرحمة - في كتابه كنز الفوائد: جرى لشيخنا المفيد أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان - رضوان اللّه عليه - مع بعض خصومه في قولهم: «إن كل مجتهد مصيب».
قال شيخنا المفيد (رضي اللّه عنه): كنت أقبلت في مجلس على جماعة من متفقهة العامة، فقلت لهم: إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ الاختلاف، يحظر عليكم المناظرة، ويمنعكم من الفحص والمباحثة، واجتماعكم على المناظرة يناقض أصولكم في الاجتهاد، وتسويغ الاختلاف.
فإما أن تكونوا مع حكم أصولكم، فيجب أن ترفعوا النظر فيما بينكم، وتلزموا الصمت.
وإما أن تختاروا المناظرة، وتؤثروها على المتاركة، فيجب أن تهجروا القول بالاجتهاد، وتتركوا مذاهبكم في الرأي، وجواز الاختلاف، ولا بد من ذلك ما أنصفتم وعرفتم طريق الاستدلال.
فقال أحد القوم: لم زعمت أن الأمر كما وصفت، ومن أين وجب ذلك؟
قال شيخنا (رحمه اللّه): فقلت له: علي البيان عن ذلك، والبرهان عليه حتى لا
ص: 289
(يحتج) على أحد من العقلاء، أليس من قولكم أن اللّه تعالى سوغ خلقه (1) الاختلاف في الأحكام للتوسعة عليهم، ودفع الحرج عنهم رحمة منه لهم، ورفقا بهم، وأنه لو ألزمهم الاتفاق في الأحكام، وحظر عليهم الاختلاف لكان مضيقا عليهم، (معنتا) لهم، واللّه يتعالى عن ذلك، حتى (أكدتم) هذا المقال بما رويتموه عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة» (2)، وحملتم معنى هذا الكلام منه على وفاق ما ذهبتم إليه في تسويغ الاختلاف.
قال: بلى، فما الذي يلزمنا على هذا المقال؟
قال شيخنا (رحمه اللّه): قلت له: فخبرني الآن عن موضع المناظرة، أليس إنما هو التماس الموافقة، ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال إلى موضع الحجة، وتتغير له عن الإقامة على ضد ما دل عليه البرهان؟
قال: لا، ليس هذا موضوع المناظرة، وإنما موضوعها لإقامة الحجة والإبانة عن رجحان المقالة فقط.
قال الشيخ: فقلت له: وما الغرض في إقامة الحجة والبرهان على الرجحان، وما الذي يجرانه إلى ذلك، والمعنى الملتمس به، أهو تبعيد الخصم من موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حججها، أم الدعوة إليها بذلك، واللطف في الاجتذاب إليها به؟؟
فإن قلت: إن الغرض للمحتج التبعيد عن قوله بإيضاح الحجة عليه، والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه؟ قلت: قولا يرغب عنه كل عاقل، ولا يحتاج معه لتهافته إلى كسره.
ص: 290
وإن قلت: إن الموضح عن مذهبه بالبرهان داع إليه بذلك، والدال عليه بالحجج البينات يجتذب بها إلى اعتقاده ضرب بهذا القول - وهو الحق الذي لا شبهة فيه - إلى ما أردناه، من أن موضوع المناظرة إنما هو للموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة.
وإذا كان ذلك كذلك، فلو حصل الغرض في المناظرة وما أجرى بها عليه لارتفعت الرحمة، وسقطت التوسعة، وعدم الرفق من اللّه تعالى بعباده، ووجب في (1) صفة العنت والتضييق، وذلك ضلال من قائله، فلا بد على أصلكم في الاختلاف من تحريم النظر والحجاج، وإلا فمتى صح ذلك، وكان أولى من تركه فقد بطل قولكم في الاجتهاد، وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.
فاعترض رجل آخر في ناحية المجلس فقال: ليس الغرض في المناظرة الدعوة إلى الاتفاق، وإنما الغرض فيها إقامة الغرض من الاجتهاد.
فقال له الشيخ (رحمه اللّه): هذا الكلام كلام صاحبك بعينه في معناه، وأنتما جميعا حائدان عن التحقيق والصواب، وذلك أنه لا بد في فرض الاجتهاد من غرض، ولا بد لفعل النظر من معقول.
فإن كان الغرض في أداء الفرض بالاجتهاد، البيان عن موضع الرجحان، فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق والإيناس بالحجة إلى المقال.
وإن كان الغرض فيه التعمية والإلغاز فذلك محال، لوجود المناظر مجتهدا في البيان التحسين لمقاله بالترجيح له على قول خصمه في الصواب.
وإن كان معقول فعل النظر ومفهوم غرض صاحبه، الذب عن نحلته والتنفير عن خلافها، والتحسين لها، والتقبيح لضدها، والترجيح لها على غيرها، وكنا نعلم
ص: 291
ضرورة أن فاعل ذلك لا يفعله للتبعيد من قوله، وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه، فقد ثبت بما قلناه.
ولو كان الدال على قوله الموضح بالحجج عن صوابه، المجتهد في تحسينه وتشييده، غير قاصد بذلك إلى الدعاء إليه، ولا مزيد للاتفاق عليه، لكان المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه ووهنه داعيا بذلك إلى اعتقاده، ومرغبا به إلى المصير إليه.
ولو كان ذلك كذلك لكان إلزام الشئ مدحا له، والمدح له ذما له، والترغيب في الشئ ترهيبا عنه، والترهيب عن الشئ ترغيبا فيه، والأمر به نهيا عنه، والنهي عنه أمرا به، والتحذير منه إيناسا به، وهذا ما لا يذهب إليه سليم.
فبطل ذلك ما توهموه، ووضح ما ذكرناه في تناقض نحلتهم على ما بيناه، واللّه نسأل التوفيق.
قال شيخنا (رحمه اللّه): ثم عدلت إلى صاحب المجلس فقلت له: لو سلم هؤلاء من المناقضة التي ذكرناها - ولن يسلموا أبدا من اللّه - لما سلموا من الخلاف على اللّه فيما أمر به، والرد للنص في كتابه، والخروج عن مفهوم أحكامه بما ذهبوا إليه من حسن الاختلاف وجوازه في الأحكام، قال: اللّه عز وجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1).
فنهى اللّه تعالى نهيا عاما ظاهرا، وحذر منه وزجر عنه، وتوعد على فعله بالعقاب، وهذا مناف لجواز الاختلاف، وقال سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (2) فنهى عن التفرق، وأمر الكافة بالاجتماع، وهذا يبطل قول
ص: 292
مسوغ الاختلاف، وقال سبحانه: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (1)، فاستثنى المرحومين من المختلفين، ودل على أن المختلفين قد خرجوا بالاختلاف عن الرحمة، لاختصاص من خرج عن صفتهم بالرحمة، ولولا ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل، وهذا بين لمن تأمله.
قال: صاحب المجلس: أرى هذا الكلام كله يتوجه على من قال: إن كل مجتهد مصيب، فما تقول فيمن قال: إن الحق في واحد ولم يسوغ الاختلاف؟ قال الشيخ (رحمه اللّه): فقلت له: القائل بأن الحق في واحد، وإن كان مصيبا فيما قال على هذا المعنى خاصة، فإنه يلزمه المناقضة بقوله: إن المخطئ للحق معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه، واعتماده في ذلك على أنه لو أوخذ به للحقه العنت والتضييق، فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الأولين فيما عليهم من المناقضة، ولزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة، وإن كان القائلون بإصابة المجتهدين الحقة، يزيدون عليه في المناقضة وتهافت المقالة، بقول الواحد لخصمه قد أخطأت الحكم، مع شهادته له بصوابه فيما فعله مما به أخطأ الحكم عنده، فهو شاهد بصوابه وخطئه في الإصابة، معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافه، مأجور على مباينته، وهذه مقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها، وتكشف عن قبح باطنها بظاهرها، وباللّه التوفيق.
ذكروا أن هذا الكلام جرى في مجلس الشيخ أبي الفتح عبيد اللّه بن فارس قبل أن يتولى الوزارة (2).
ص: 293
المناظرة التاسعة والثلاثون: مناظرة الشيخ سليمان البحراني (1) مع بعض فضلاء العامة في حكم فتح باب الاجتهاد
قال الشيخ سليمان عليه الرحمة: جري بيني وبين بعض فضلاء العامة كلام، في قولهم أن زمان الاجتهاد قد انقطع، وأنه ليس لأحد أن يفتي في هذه الأعصار وما قبلها بغير المذاهب الأربعة، وإن كان له سند معتد به من النصوص كما ذكره ابن الصلاح.
فقلت: ما دليلهم على ذلك فتعلق بالإجماع؟ فعرفته ما في التعلق به من
ص: 294
القصور، وأريته ما حكاه جماعة منهم عن أبي حامد الغزالي من القدح في ذلك، ودعواه الاجتهاد المطلق ورجوعه عن تقليد الشافعي، ومناظرته مع سعد المهنى من أعلام أهل عصره في ذلك مشهورة، وفي كتاب تذكرة دولة شاهي مذكورة (1).
وأيضا فقد نص إمامكم الشافعي! على أنه متى صح عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) شئ على خلاف ما أفتى به ترك قوله، وعمل بالنص مطلقا، وما هذا إلا نص في خلاف ما قالوه.
قال الشيخ صلاح الدين العلائي الشافعي في المذهب في قواعد المذهب ثبت عن الشافعي من وجوه متعددة صحيحة أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقولوا بسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ودعوا قولي. (2)
ص: 295
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم سنة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خلاف قولي فخذوا بها، ودعوا قولي، فإني أقول بها، وقال أيضا: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. (1)
وهذا المعنى ثابت عنه بألفاظ كثيرة متعددة (2)، قال ابن الصلاح: فعمل بذلك كثير من أئمة أصحابنا، فكان من ظفر منهم بمسألة فيها حديث ومذهب الشافعي بخلافه عمل بالحديث، ولم يتفق ذلك إلا نادرا.
ونقل سلوك ذلك المسلك عن أبي يعقوب البونطي، وأبي القاسم الداركي، وأبي الحسن الكنا الطبري، ثم قال: وليس هذا بالهين! فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما رآه من الحديث، ثم نقل عن ابن الصلاح إنه قال: من وجد من الشافعيين حديثا يخالف مذهب الشافعي! نظر فإن كملت آلات الاجتهاد فيه، إما مطلقا أو في ذلك الحديث، وإن لم تكمل ألته ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابا شافيا فلينظر هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل؟ فإن وجده فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث ويكون ذلك عذرا له عند اللّه تعالى في ترك مذهب إمامه في ذلك، انتهى.
وإذا كان الأمر على هذه الحال فأين الإجماع على ما ذكروه؟! فسكت، ولم يأت بمقنع (3).
ص: 296
قال سلطان الواعظين في معرض حديثه عن وجوب التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) وفتح باب الاجتهاد: فقال النواب: لقد قررت في الليلة الماضية أن تحدثنا عن مقام أئمتكم واعتقادكم في حقهم، لأنا نحب أن نعرف ما هو الاختلاف بيننا وبينكم حول الأئمة (عليهم السلام).
قلت: لا مانع لدي من ذلك إذا سمح العلماء الأعلام والحاضرون الكرام.
الحافظ - وهو منخطف اللون -: لا مانع لدينا أيضا.
قلت: إن العلماء في المجلس يعرفون إن لكلمة الإمام معان عديدة في اللغة، منها: المقتدى، فإمام الجماعة هو الذي تقتدي به جماعة المصلين وتتابعه في أفعال الصلاة كالقيام والقعود والركوع والسجود.
وأئمة المذاهب الأربعة هم فقهاء بينوا لأتباعهم أحكام الإسلام ومسائل الدين، وهم اجتهدوا فيها واستنبطوها من القرآن والسنة الشريفة بالقياس والاستحسانات العقلية، فلذلك لما نطالع كتبهم نرى في آرائهم وأقوالهم، في
ص: 297
الأصول والفروع، اختلافا كثيرا.
ويوجد مثل الأئمة الأربعة في كل دين ومذهب، وحتى في مذهب الشيعة، وهم العلماء الفقهاء الذين يرجع إليهم الناس في أمور دينهم، ويعملون بأقوالهم ويقلدونهم في الأحكام الشرعية والمسائل الدينية، ومقام هؤلاء المراجع عندنا كمقام الأئمة الأربعة عندكم، وهم في هذا العصر الذي غاب فيها عن الأنظار الإمام المعصوم المنصوص عليه من النبي (صلى اللّه عليه وآله)، يستنبطون الأحكام الشرعية ويستخرجون المسائل الدينية على أساس القرآن والسنة والإجماع والعقل، فيفتون بها، وللعوام أن يتبعوهم ويقلدونهم، وفي اصطلاح مذهبنا نسميهم: مراجع الدين، والواحد منهم: المرجع الديني.
سد باب الاجتهاد عند العامة (1) كان الأئمة الأربعة حسب زعمكم فقهاء أصحاب رأي وفتوى في المسائل الدينية ومستندهم: الكتاب والسنة والقياس.
ص: 298
فهنا سؤال يطرح نفسه وهو: إن الفقهاء وأصحاب الرأي والفتوى عددهم أكثر من أربعة، وأكثر من أربعين، وأكثر من أربعمائة، وأكثر... وكانوا قبل الأئمة الأربعة وبعدهم، وكثير منهم كانوا معاصرين للأئمة الأربعة، فلماذا انحصرت المذاهب في أربعة؟!
ولماذا اعترفتم بأربعة من الفقهاء وفضلتموهم على غيرهم وجعلتموهم أئمة؟! من أين جاء هذا الحصر؟! ولماذا هذا الجمود؟!
نحن وأنتم نعتقد أن الإسلام قد نسخ الأديان التي جاءت قبله، ولا يأتي
ص: 299
دين بعده، فهو دين الناس إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ...) (1).
فكيف يمكن لهذا الدين الحنيف أن يساير الزمن والعلم في الاختراعات والاكتشافات والصناعات المتطورة، ولكل منها مسائل مستحدثة تتطلب إجابات علمية.
فإذا أغفلنا باب الاجتهاد ولم نسمح للفقهاء أن يبدوا رأيهم ويظهروا نظرهم - كما فعلتم أنتم بعد الأئمة الأربعة - فمن يجيب على المسائل المستحدثة؟! وكم ظهر بينكم بعد الأئمة الأربعة فقهاء أفقه منهم، ولكنكم ما أخذتم بأقوالهم وما عملتم بآرائهم! فلماذا ترجحون أولئك الأربعة على غيرهم من الفقهاء والعلماء، لا سيما على الأفقه والأعلم منهم؟! أليس هذا ترجيح بلا مرجح، وهو قبيح عند العقلاء؟!
ولكن في مذهبنا نعتقد: أن في مثل هذا الزمان وبما أن الإمام المعصوم غائب عن الأبصار، فباب الاجتهاد مفتوح غير مغلق، والرأي غير محتكر، بل كل صاحب رأي حر في إظهار رأيه، شريطة أن يكون مستندا إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع أو العقل، وعلى العوام أن يرجعوا إليهم في أخذ الأحكام ومسائل الإسلام.
والإمام الثاني عشر، وهو المهدي المنتظر، آخر أئمتنا المعصومين (عليهم السلام)، أمر بذلك قبل أن يغيب عن الأبصار... فقال: من كان من الفقهاء حافظا لدينه،
ص: 300
صائنا لنفسه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه - أي ربه - فللعوام أن يقلدوه. (1)
لذلك يجب عند الشيعة، على كل من بلغ سن الرشد والبلوغ الشرعي، ولم يكن مجتهدا فقيها، يجب عليه أن يقلد أحد الفقهاء الأحياء الحاوين لتلك الشرائط التي اشترطها الإمام المعصوم (عليه السلام)، ولا يجوز عندنا تقليد الفقيه الميت ابتداء، والعجيب أنكم تتهمون الشيعة بأنهم يعبدون الأموات لزيارتهم القبور!!
ليت شعري هل زيارة القبور عبادة الأموات، أم عبادة الأموات هي اعتقادكم بأن كل من لم يتبع الأئمة الأربعة في الأحكام، ولم يلتزم برأي الأشعري أو المعتزلي في أصول الدين؟!
مع العلم أن أئمة المذاهب الأربعة، وأبا الحسن الأشعري والمعتزلي، ما كانوا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولم يدركوا صحبته، فبأي دليل تحصرون الإسلام في رأي هؤلاء الستة؟! أليس هذا العمل منكم بدعة في الدين؟!
الحافظ: لقد ثبت عندنا أن الأئمة الأربعة حازوا درجة الاجتهاد، وتوصلوا إلى الفقه وإبداء الرأي في الأحكام، وهم كانوا على زهد وعدالة وتقوى، فلزم علينا وعلى جميع المسلمين متابعتهم والأخذ بقولهم؟
قلت: إن الأمور التي ذكرتها لا تصير سببا لانحصار الدين في أقوالهم وأرائهم وإلزام المسلمين بالأخذ منهم فقط إلى يوم القيامة، لأن هذه الصفات متوفرة في علماء وفقهاء آخرين منكم أيضا.
ولو قلتم بانحصار هذه الصفات في الأئمة الأربعة فقد أسأتم الظن في سائر علمائكم الأعلام، بل أهنتموهم وهتكتم حرمتهم ولا سيما أصحاب الصحاح
ص: 301
منهم!!
ثم إن إلزام المسلمين وإجبارهم على أي شئ يجب أن يكون مستندا إلى نص من القرآن الحكيم أو حديث النبي الكريم (صلى اللّه عليه وآله)، وأنتم تجبرون المسلمين وتلزمونهم على أخذ أحكام دينهم من أحد الأئمة الأربعة من غير استناد إلى اللّه ورسوله، فعملكم هذا لا يكون إلا تحكما.
من الذي حصر المذاهب في أربعة (1)
لقد سبق زعمكم أن التشيع مذهب سياسي، ولا أساس له في الدين
ص: 302
ونحن أثبتنا وهن هذا الكلام وبطلانه، بنقل الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة
ص: 303
التي يذكر النبي (صلى اللّه عليه وآله) فيها شيعة علي (عليه السلام) بالفوز والفلاح ويعدهم الجنة.
وأثبتنا أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) هو مؤسس مذهب الشيعة، وهو واضع أساسه، وهو الذي سمى موالي الإمام علي (عليه السلام) وأتباعه بالشيعة، حتى صار هذا الاسم علما لهم في حياته (صلى اللّه عليه وآله)، واستندنا في كل ذلك على الروايات المعتبرة المروية في كتبكم، المقبولة لديكم، والتي تعتمدون عليها كلكم.
فإن كنتم لا تعلمون أساس التزامكم بالمذاهب الأربعة وانحصار الإسلام الحنيف فيها كما تزعمون فراجعوا التاريخ وطالعوه بدقة وتحقيق حتى تعرفوا إنما وجدت المذاهب الأربعة بدواع سياسية (1)، وكان الهدف منها ابتعاد المسلمين عن أهل البيت (عليهم السلام) وغلق مدرستهم العلمية!
هذا ما كان يبتغيه السلطان الظالم الغاصب الذي تسموه: «الخليفة» لأن الخلفاء كانوا يرون أهل البيت (عليهم السلام) منافسين لهم في الحكم والسلطة، فهم يحكمون الناس بالقوة والقهر والسوط والسيف، ولكن الناس يميلون إلى أهل البيت (عليهم السلام) بالرغبة والمحبة قربة إلى اللّه تعالى فيطيعونهم ويأخذون بأقوالهم ويتبعونهم في مسائل الحلال والحرام، وكل أحكام الإسلام.
فأهل البيت (عليهم السلام) هم أصحاب السلطة الشرعية والحكومة الروحية المهيمنة على النفوس والقلوب عند الناس، فلأجل القضاء على هذه الحالة - التي جعلت الخلفاء في حذر وخوف دائم، وسلبت منهم النوم والراحة - بادروا إلى تأسيس المذاهب الأربعة، واعترفت السلطات الحكومية والجهات السياسية بها دون غيرها، وأعطتها الطابع الرسمي، وحاربت سواها بكل قوة وقسوة.
ص: 304
وأصدرت قرارات رسمية تأمر الناس بالأخذ بقول أحد الأئمة الأربعة، وأمرت القضاة أن يحكموا على رأي أحدهم ويتركوا أقوال الفقهاء الآخرين، هكذا انحصر الإسلام بالمذاهب الأربعة، وإلى هذا اليوم أنتم أيضا تسيرون على تلك القرارات؟!
والعجيب أنكم ترفضون كل مسلم مؤمن يعمل بالأحكام الدينية على غير رأي الأئمة الأربعة، حتى إذا كان يعمل برأي الإمام علي بن أبي طالب والعترة الهادية (عليهم السلام) كمذهب الشيعة الإمامية.
فإن الشيعة سائرون على منهج أهل البيت والخط الذي رسمه النبي (صلى اللّه عليه وآله)، فيأخذون دينهم من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي تربى في حجر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وهو باب علمه، وقد أمر النبي (صلى اللّه عليه وآله) المسلمين بمتابعته والأخذ منه، والأئمة الأربعة بعد لم يخلقوا، فقد جاؤوا بعد رسول اللّه بعهد طويل، مائة عام أو أكثر، مع ذلك تزعمون أنكم على حق والشيعة على باطل!!
أما قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا (1)؟!
فانظروا وفكروا.. من المتمسك بالثقلين، نحن أم أنتم؟!
أما قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى - وفي رواية: هلك (2) - فمن المتخلف عنهم، نحن أم أنتم.
هل الأئمة الأربعة من أهل البيت (عليهم السلام)؟! أم الإمام علي (عليه السلام)، والحسن
ص: 305
والحسين (عليهما السلام) ريحانتا النبي (صلى اللّه عليه وآله) وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة؟!
أما قال النبي (صلى اللّه عليه وآله) فيهما: فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (1)؟!
ثم يقول ابن حجر في «تنبيه» له على الحديث: سمى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) القرآن وعترته.. ثقلين، لأن الثقل: كل نفيس خطير مصون وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية، ولذا حث (صلى اللّه عليه وآله) على الاقتداء والتمسك بهم والتعلم منهم.
وقيل سميا ثقلين: لثقل وجوب رعاية حقوقهما، ثم الذين وقع الحث عليهم منهم، إنما هم العارفون بكتاب اللّه وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى ورود الحوض، ويؤيده الخبر السابق: ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
وتميزوا بذلك عن بقية العلماء، لأن اللّه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وشرفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مر بعضها.. إلى آخر ما قاله ابن حجر. (2)
وما لي لا أتعجب منه ومن أمثاله وما أكثرهم في علمائكم! فإنه مع إذعانه وإقراره بأن أهل البيت (عليهم السلام) يجب أن يقدموا على من سواهم، ويجب أن تأخذ الأمة منهم أحكام دينها ومسائلها الشرعية، لكنه قدم أبا الحسن الأشعري عليهم وأخذ منه أصول دينه، وقدم الأئمة الأربعة، وأخذ أحكام الشريعة المقدسة منهم لا من أهل البيت (عليهم السلام)!!
ص: 306
وهذا نابع من العناد والتعصب واللجاج، أعاذنا اللّه تعالى منها.
ثم أسألك أيها الحافظ، إذا كان الواقع كما زعمت أن الأئمة الأربعة كانوا على زهد وعدالة وتقوى، فكيف كفر بعضهم بعضا، ورمى بعضهم الآخر بالفسق!! الحافظ - وقد تغير لونه ولاح الغضب في وجهه وصاح -: لا نسمح لكم أن تتهجموا على أئمتنا وعلمائنا إلى هذا الحد، أنا أعلن أن كلامك هذا كذب وافتراء على أئمة المسلمين، وهو من أباطيل علمائكم، أما علماؤنا فكلهم أجمعوا على وجوب احترام الأئمة الأربعة وتعظيمهم، ولم يكتبوا فيهم سوى ما يحكي جلالة شأنهم وعظيم مقامهم.
قلت: يظهر أن جنابك لا تطالع حتى كتبكم المعتبرة، أو تتجاهل عن مثل هذه المواضيع فيها، وإلا فإن كبار علمائكم كتبوا في رد الأئمة الأربعة، وفسق بعضهم الآخر بل كفر بعضهم بعضهم الآخر!!
الحافظ: نحن لا نقبل كلامك، بل هو مجرد ادعاء، ولو كنت صادقا في ما تزعم فاذكر لنا أسماء العلماء وكتبهم وما كتبوا حتى نعرف ذلك!
قلت: أصحاب أبي حنيفة وابن حزم وغيرهم يطعنون في الإمامين مالك والشافعي.
وأصحاب الشافعي، مثل: إمام الحرمين، والإمام الغزالي وغيرهما يطعنون في أبي حنيفة ومالك.
فما تقول أنت أيها الحافظ، عن الإمام الشافعي وأبي حامد الغزالي وجار اللّه الزمخشري؟!
الحافظ: إنهم من كبار علمائنا وفقهائنا، وكلهم ثقات عدول يعتمد عليهم
ص: 307
ويصلى خلفهم.
قلت: جاء في كتبكم عن الإمام الشافعي أنه قال: ما ولد في الإسلام أشأم من أبي حنيفة. (1) وقال أيضا: نظرت في كتب أصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة، فعددت منها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنة! (2) وقال الإمام الغزالي في كتابه «المنخول في علم الأصول»: فأما أبو حنيفة فقد قلب الشريعة ظهرا لبطن، وشوش مسلكها، وغير نظامها (3).
ثم أردف جميع قواعد الشريعة بأصل هدم به شرع محمد المصطفى (4) (صلى اللّه عليه وآله)،... ومن فعل شيئا من هذا مستحلا كفر، ومن فعله غير مستحل فسق.
ويستمر بالطعن في أبي حنيفة بالتفصيل إلى أن قال: إن أبا حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، يلحن في الكلام ولا يعرف اللغة والنحو ولا يعرف الأحاديث،
ص: 308
ولذا كان يعمل بالقياس في الفقه، وأول من قاس إبليس. انتهى كلام الغزالي. (1)
وأما جار اللّه الزمخشري صاحب تفسير «الكشاف» وهو يعد من ثقات علمائكم وأشهر المفسرين عندكم، قال في كتابه «ربيع الأبرار»: قال يوسف بن أسباط: رد أبو حنيفة على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أربعمائة حديث أو أكثر! (2)
وحكي عن يوسف أيضا: أن أبا حنيفة كان يقول: لو أدركني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لأخذ بكثير من قولي!! (3)
وقال ابن الجوزي في «المنتظم» اتفق الكل على الطعن فيه - أي: في أبي حنيفة - والطعن من ثلاث جهات:
1 - قال بعض: إنه ضعيف العقيدة، متزلزل فيها.
2 - وقال بعض: إنه ضعيف في ضبط الرواية وحفظها.
3 - وقال آخرون: إنه صاحب رأي وقياس، وإن رأيه غالبا مخالف للأحاديث الصحاح. انتهى كلام ابن الجوزي. (4)
والكلام من هذا النوع كثير في كتبكم حول الأئمة الأربعة، وأنا لا أحب أن أخوض هذا البحث، وما أردت أن أتكلم بما تكلمت، ولكنك أحرجتني بكلامك حيث قلت: إن علماء الشيعة يكذبون على علمائنا وأئمتنا فأردت أن أثبت لك وللحاضرين أن كلام علماء الشيعة مستدل وصحيح ولا يصدر إلا عن الواقع
ص: 309
والحقيقة، ولكن كلامك أيها الحافظ عار من الصحة والواقع، وإذا أردت أن تعرف المطاعن كلها حول الأئمة الأربعة، فراجع كتاب «المنخول في علم الأصول» للغزالي، وكتاب «النكت الشريفة» للشافعي، وكتاب «ربيع الأبرار» للزمخشري، وكتاب «المنتظم» لابن الجوزي.. حتى تشاهد كيف يطعن بعضهم البعض إلى حد التكفير والتفسيق!!
ولكن لو تراجع كتب الشيعة الإمامية حول الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) لرأيت إجماع العلماء والفقهاء والمحدثين والمؤرخين على تقديسهم وعظم شأنهم وجلال مقامهم وعصمتهم (سلام اللّه عليهم).
لأننا نعتقد أن الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) كلهم خريجو جامعة واحدة، وهم أخذوا علمهم من منبع ومنهل واحد، وهو منبع الوحي ومنهل الرسالة، فلم يفتوا إلا على أساس كتاب اللّه تعالى والسنة الصحيحة التي ورثوها من جدهم خاتم النبيين وسيد المرسلين (صلى اللّه عليه وآله) عن طريق الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، وحاشا أئمتنا (عليهم السلام) أن يفتوا على أساس الرأي والقياس، ولذا لا تجد أي اختلاف في ما بينوه، لأنهم كلهم ينقلون عن ذلك المنبع الصافي الزلال: «روى جدنا عن جبرئيل عن الباري» (1). (2)
ص: 310
من ضمن ما ذكره مندوب الإيمان في محاورته مع السيد محمد تقي الحكيم عن طبيعة الحديث في الجلسة الختامية للمؤتمر الإسلامي، هو: ما يتعلق بموضوع فتح باب الاجتهاد، وما دار حوله من الأخذ والرد مع بعض العلماء هناك، وإليك نص الحوار في ذلك:
مندوب الإيمان، س - هل اطلعتم على مقررات المؤتمر قبل نشرها، وما هو دوركم في المشاركة في صياغتها؟
ج - نعم سمعتها في الجلسة الختامية، ولم يكن لي أي دور في المشاركة في وصفها أو إقرارها، لعدم حضوري من بداية المؤتمر، وصياغتها إنما تعود إلى أعضاء المجمع بعد انتزاع أفكارها من مجموع ما ألقي في المؤتمر، وبما أني لم أحضر كل ما دار في المؤتمر، فلم أجد لنفسي أي مسوغ للدخول في حديثها نقضا أو إبراما.
س - ما هي أهم هذه المقررات في نظركم؟
ج - أهمها في اعتقادي الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد المطلق، لما فيه من
ص: 311
إعادة الثقة إلى نفوس العلماء وفسح المجال أمامهم، لإعمال تجاربهم في مجالات المعرفة، بدلا من الوقوف عند تجارب السالفين، التي لم يعد الكثير منها ملائما لما تقتضيه الحجة القائمة ولا لطبيعة الزمن.
س - وباب الاجتهاد ألم يكن مفتوحا من قبل؟
ج - المفتوح منه عند أرباب المذاهب الأربعة هو خصوص الاجتهاد المذهبي، أي المقيد ضمن مذهب معين، وفحواه حصر نطاق الاجتهاد في أعلى مراتبه باستنباط الفروع الفقهية، دون النظر في الأصول، لاعتبارهم أن الاجتهاد في أصول الفقه هو حق إمام المذهب، وعليهم إن يقلدوه فيها، ولكن الشيعة أخذوا بالاجتهاد المطلق، أي الاجتهاد في الفروع والأصول من قديم، وظل بابه مفتوحا عندهم إلى اليوم.
س - وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ألم يخططوا لشيعتهم أصولهم التي يستنبطون منها، فلماذا اعتبر اجتهادهم مطلقا واجتهاد غيرهم مقيدا؟
ج - للجواب على هذا السؤال - وقد وجه إلينا نظيره هناك - فإن علينا أن نحدد وظيفة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهل نعطيهم صفة الاجتهاد كغيرهم من أرباب المذاهب أو لا، إن الذي قامت عليه الأدلة أن الأئمة ليسوا بمجتهدين، وإنما هم مبلغون عن النبي (صلى اللّه عليه وآله)، فما يخططونه من الأصول فإنما هو من تخطيط الإسلام نفسه.
وإن شئت أن تقول أنهم (عليهم السلام) من أصول التشريع الذي أنهى إلى حجيته اجتهاد العلماء، لا أنهم مخططون للأصول، فحسابهم من حيث التبليغ حساب النبي (صلى اللّه عليه وآله) مع فارق الوحي فقط.
س - كيف استقبل نبأ فتح باب الاجتهاد بين العلماء في القاهرة؟
ص: 312
ج - الذين قدر لنا الاجتماع بهم من الأعلام كانوا منقسمين على أنفسهم، فمنهم من استقبله برحابة صدر، ومنهم من لم نجد الترحيب الكافي لديه، وكمثل على ذلك قمنا بزيارة لمكتبة الأزهر، وكان في إدارة مدير المكتبة بعض العلماء من الأزهريين، فاستكثر أحدهم فتح باب الاجتهاد، وحمل على دعاته حملة فيها الشئ الكثير من العنف، وتجاوب معه جل الحاضرين.
فالتفت إلى مدير المكتبة وهو فضيلة الشيخ أبي الوفا المراغي، وقلت له: كم يوجد في مكتبتكم هذه من الكتب؟ قال: مائة وعشرون ألفا.
قلت: وكم كان منها في عهد أبي حنيفة مثلا.
قال: القليل نسبيا.
قلت: ومفاهيم أبي حنيفة في المجالات التشريعية هل وصلت إلينا ضمن ما وصل من كتب التشريع أو لا؟ ثم المفاهيم التي جدت عليها من قبل تلامذته وغيرهم من أنداده من المجتهدين هل وصلت إلينا أيضا؟
قال: بلى.
قلت: أمن المنطق - فيما ترون - أن نقول لشخص يملك من مصادر التشريع أضعاف ما يملكه السابقون، ويملك كل ما يملكونه من تجارب، بالإضافة إلى ما جد عليها من تجارب العلماء في أكثر من عشرة قرون، إن هؤلاء من السابقين أعلم منك فلا يسوغ لك أن تفكر في مقابل ما يقولون - مع اتضاح جملة من المفارقات لديه - في نتائج ما انتهوا إليه، وكيف يكون السابق أعلم مع ضالة تجاربه بالنسبة إلى لاحقيه؟!
قال أحدهم: والقصور فينا ماذا نصنع به.
ص: 313
قلت: يا أخي، وأين موضع القصور فينا أترى أن اللّه عز وجل جعل الطاقات المبدعة وقفا على عصر دون عصر، أليس في هذا النوع من التشكيك في إمكاناتنا قتل للمواهب التي أودعها اللّه في النفوس.
قال: ألا ترى أن الإشكال نفسه يرد عليكم في الأخذ عن أئمتكم (عليهم السلام)، وهم ممن عاشوا في تلكم القصور.
قلت: إن الإشكال وارد علينا لو قال أئمتنا أن ما نأتي به من أحكام فإنما هو من نتائج اجتهاداتنا، أما وأنهم يصرحون بأن قول أحدهم إنما هو قول النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وهو قول جبرئيل عن اللّه (1)، وقامت الأدلة لدينا على صدق هذه الدعوى، فإن هذا الإشكال فيما أرى لا موضع له، نعم لو كنا نتقيد في نطاق اجتهادات العلماء السابقين أمثال الشيخ المفيد والطوسي لكان حسابنا نفس هذا الحساب (2).
ص: 314
الصورة
ص: 315
الصورة
ص: 316
الصورة
ص: 317
الصورة
ص: 318
الصورة
ص: 319
الصورة
ص: 320
الصورة
ص: 321
الصورة
ص: 322
الصورة
ص: 323
الصورة
ص: 324
الصورة
ص: 325
الصورة
ص: 326
الصورة
ص: 327
الصورة
ص: 328
الصورة
ص: 329
الصورة
ص: 330
الصورة
ص: 331
الصورة
ص: 332
الصورة
ص: 333
الصورة
ص: 334
الصورة
ص: 335
الصورة
ص: 336
الصورة
ص: 337
الصورة
ص: 338
الصورة
ص: 339
الصورة
ص: 340
الصورة
ص: 341
الصورة
ص: 342
الصورة
ص: 343
الصورة
ص: 344
الصورة
ص: 345
الصورة
ص: 346
الصورة
ص: 347
الصورة
ص: 348
الصورة
ص: 349
الصورة
ص: 350
الصورة
ص: 351
الصورة
ص: 352
الصورة
ص: 353
الصورة
ص: 354
الصورة
ص: 355
الصورة
ص: 356
الصورة
ص: 357
الصورة
ص: 358
الصورة
ص: 359
الصورة
ص: 360
الصورة
ص: 361
الصورة
ص: 362
الصورة
ص: 363
الصورة
ص: 364
الصورة
ص: 365
الصورة
ص: 366
الصورة
ص: 367
الصورة
ص: 368
الصورة
ص: 369
الصورة
ص: 370
الصورة
ص: 371
الصورة
ص: 372
الصورة
ص: 373
الصورة
ص: 374
الصورة
ص: 375
الصورة
ص: 376
الصورة
ص: 377
الصورة
ص: 378
الصورة
ص: 379
الصورة
ص: 380
الصورة
ص: 381
الصورة
ص: 382
الصورة
ص: 383
الصورة
ص: 384
الصورة
ص: 385
الصورة
ص: 386
الصورة
ص: 387
الصورة
ص: 388
الصورة
ص: 389
الصورة
ص: 390
الصورة
ص: 391
الصورة
ص: 392
الصورة
ص: 393
الصورة
ص: 394
الصورة
ص: 395
الصورة
ص: 396
الصورة
ص: 397
الصورة
ص: 398
الصورة
ص: 399
الصورة
ص: 400
الصورة
ص: 401
الصورة
ص: 402
الصورة
ص: 403
الصورة
ص: 404
الصورة
ص: 405
الصورة
ص: 406
الصورة
ص: 407
الصورة
ص: 408
الصورة
ص: 409
الصورة
ص: 410
الصورة
ص: 411
الصورة
ص: 412
الصورة
ص: 413
الصورة
ص: 414
الصورة
ص: 415
الصورة
ص: 416
الصورة
ص: 417
الصورة
ص: 418
الصورة
ص: 419
الصورة
ص: 420
الصورة
ص: 421
الصورة
ص: 422
الصورة
ص: 423
الصورة
ص: 424
الصورة
ص: 425
الصورة
ص: 426
الصورة
ص: 427
الصورة
ص: 428
الصورة
ص: 429
الصورة
ص: 430
الصورة
ص: 431
الصورة
ص: 432
الصورة
ص: 433
الصورة
ص: 434
الصورة
ص: 435
الصورة
ص: 436
الصورة
ص: 437
الصورة
ص: 438
الصورة
ص: 439
الصورة
ص: 440
الصورة
ص: 441
الصورة
ص: 442
الصورة
ص: 443
الصورة
ص: 444
الصورة
ص: 445
الصورة
ص: 446
الصورة
ص: 447
الصورة
ص: 448
الصورة
ص: 449
الصورة
ص: 450
الصورة
ص: 451
الصورة
ص: 452
الصورة
ص: 453
الصورة
ص: 454
الصورة
ص: 455
الصورة
ص: 456
الصورة
ص: 457
الصورة
ص: 458
الصورة
ص: 459
الصورة
ص: 460
الصورة
ص: 461
الصورة
ص: 462
الصورة
ص: 463
الصورة
ص: 464
الصورة
ص: 465
الصورة
ص: 466
الصورة
ص: 467
الصورة
ص: 468
الصورة
ص: 469
الصورة
ص: 470
الصورة
ص: 471
الصورة
ص: 472
الصورة
ص: 473
الصورة
ص: 474
الصورة
ص: 475
الصورة
ص: 476
الصورة
ص: 477
الصورة
ص: 478
الصورة
ص: 479
الصورة
ص: 480
الصورة
ص: 481
الصورة
ص: 482
الصورة
ص: 483
الصورة
ص: 484
الصورة
ص: 485
الصورة
ص: 486
الصورة
ص: 487
الصورة
ص: 488
الصورة
ص: 489
الصورة
ص: 490
الصورة
ص: 491
الصورة
ص: 492
الصورة
ص: 493
الصورة
ص: 494
الصورة
ص: 495
الصورة
ص: 496
الصورة
ص: 497
الصورة
ص: 498
الصورة
ص: 499
الصورة
ص: 500
الصورة
ص: 501
الصورة
ص: 502
الصورة
ص: 503
الصورة
ص: 504
الصورة
ص: 505
الصورة
ص: 506
الصورة
ص: 507
الصورة
ص: 508
الصورة
ص: 509
المؤلف: الشيخ عبد اللّه الحسن
المحقق: الشيخ عبد اللّه الحسن
الناشر: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1428 ه.ق
الصفحات: 584
نسخة غير مصححة
المكتبة الإسلامية
مناظرات في الإمامة
الجزء الثالث
ص: 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
صَدَقَ اللَّهُ العَلِيُّ العَظِيم
ص: 2
مناظرات في الإمامة
الجزء الثالث
تأليف و تحقيق: الشيخ عبداللّه الحسن
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1428ه - 2007 م
يطلب من:
لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة ط1 - ص.ب: برج البراجنة - بعبدا - 2020 1017 - هاتف: 009611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 00963116470124 محمول: 0096394356584
إيران - قم - خ سمية - 16 متری عباس آباد بلاك 24 تلفاكس: 7738855 - 0098251
البريد الإلكتروني Email: mnmnmn3@hotmail.com
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 4
إِلَى مَنْ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ، اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانصُر مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ.
اِلَى مَنْ أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - مَحَلَّ هَارُونَ مِن مُوسَى ، فَقَالَ : أَنتَ مِنِّى بِمَنزَلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى ، اِلَّا اَنَّهُ لَا نَبِّيَّ بَعدِي. إِلَى مَنْ زَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ - ابْنَتَهُ سَيِّدَةَ نِسَاءِ العَالَمِينَ ، وَأَحَلَّ لَهُ مِن مَسجِدِهِ مَا حَلَّ لَهُ ، وَسَدَّ الْأَبْوَابَ اِلَّا بَابَهُ وَاَودَعَهُ عِلمَهُ وَحِكمَتَهُ ، فَقَالَ : أَنَا مَدْيَنَةُ العِلمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا ، فَمَنْ أَرَادَ الحِكَمَةَ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا .
إِلَيكَ يَا سَيِّدِي اَمِيرَ المُؤمِنِينَ أُهدِي هَذَا المَجهُودَ المُتَواضِعَ رَاجِياً القَبُولَ وَالشَّفَاعَةَ فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلَا بَنُونَ اِلَّا مَن اَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ.
«يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» سورة يوسف 88.
عبد اللّه الحسين
ص: 5
ص: 6
لقد أتحفنا الأديب اللامع والشاعر المبدع الأخ الأستاذ فرات الأسدي بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور كتابنا فشكرا له على ما جادت به قريحته.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الأخ العزيز الحسن - رعاه اللّه -.
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
أقدم لكم مع الاعتذار ، الأبيات التي كنت وعدتكم بها لكتابكم الكريم ، وقد تطرقت فيها إلى القطيف وبعض مناطقها ثم إلى كتابكم فأرجو القبول.
أخوكم : فرات الأسدي
لأفق به ناعسات الضفاف *** يهدهدها البحر .. حسرى غوافي
يمد إلى حسنها كفه *** فتشهق بالوجد سمر المرافي
ويهتز نخل الهوى والشراع *** ما مل من لجة في الطواف
- كأن لم أطرز على مثله *** دموعي ذاهلة في المنافي
ولم أتذكر بهن الفرات *** مناديل دامعة الارتجاف
ترد إلى فرحتي لونها .. *** وتحملني عبر ذكرى زفاف
زفاف الدم المر في كربلاء *** وزغردة الجرح رهن انتزاف
ونخل الجنوب بأعذاقه *** تدلى الردى ، رائع الاصطفاف! -
... وتصدح أغنية حلوة *** يرقرقها لهب في الشغاف
فتصبو القلوب إلى جمرها *** وتهوي عليها سكارى سلاف
ويندى على كأسها دمها *** وما دمها غير خمر القطاف
به روحها ثمر والدنان *** مفاتنها .. نهبا لارتشافي!
* * *
لأفق به ناعسات الضفاف *** كتبت ، وحبر الوريد القوافي
إلى اليوم في جانحيه النبوغ *** ترف قوادمه والخوافي
ص: 7
ويصطاف بالشمس نوتيها *** وباللؤلؤ الرطب أي اصطياف
تحضنه للوصي الولاء *** وللناكثين القلا والتجافي
وما راعه أن هوج الرياح *** ستأتي له بالسنين العجاف
وأن اللظى شجر علقم *** ستورقه عاقرات الفيافي
بل انثال للنبع يروي الظماء *** وينهل سلساله وهو صافي
* * *
وحيث رعى وده ماجد *** بآبائه ، طاهر في النطاف
على العلم معتكف لا يحول *** فبورك منه طويل اعتكاف
وبورك في يده مزبر *** أبان من الحق أجلى صحاف
وسطر في حيدر مصحفا *** سيطرب سمع الموالي المصافي
ويقرع سمع الخصوم اللدود *** بصوت جرئ جهير الهتاف
يناظر بالحجج الدامغات *** ويروي عن القوم كل اعتراف
بأن الأمامة نص جلي *** وحق علي بها غير خافي
وأبناءه الطاهرين الهداة *** ليس بتفضيلهم من خلاف
إليهم يشير الدليل الصريح *** وعنهم بكل (صحيح) يوافي
فيارب بارك بهم علقتي *** وأحسن لهم أوبتي وانصرافي
وأما تاريخ طبع الكتاب فهو :
أيها الكاتب الذي *** هو للمرتضى ولي
لك فيما جمعته *** خير نص به جلي
ناظر الخصم واثقا *** بكتاب ومقول
وإذا ما ظفرت في *** الرأي منه بمقتل
قل له الحق تاريخه : - *** سل بخ بخ يا علي
1415 ه-
فرات الأسدي
6/ جمادى الثانية / 1415
ص: 8
ولقد أتحفنا كذلك الأديب خادم أهل البيت الخطيب الشيخ محمد باقر الأيرواني النجفي دام عزه بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور الكتاب فشكراً له على ما تفضل به.
في كتاب المناظرات نظرنا *** نظرة الشوق بدءه وختامه
فوجدناه جامعا للمغازي *** من بحوث دقيقة باستدامه
وعن السنة المصادر تبدو *** واضحات صريحة بصرامه
ذاك أن النبي لم يوص إلا *** لعلي واللّه أعلى مقامه
وإذا الخصم قد تجاوز ظلما *** فلقد باء وزره وأثامه
إنما الأمر والخلافة خصت *** لقرين الزهراء رمز الكرامة
هل سواه قد كان آمن قبلا *** أسبق الناس معلنا إسلامه
هل أتى (هل أتى) لشخص سواه *** ومن الرب قد حباه وسامه
حبه واجب وفرض أكيد *** وهو للمؤمنين أجلى علامه
حربه حرب أحمد ويقينا *** سلمه سلمه ليوم القيامة
قل لمن أنكر الحقيقة زورا *** وإلى الحق قد ألد خصامه
لا تكن حاقدا على الحق واتبع *** منهج الحق كي تنال السلامه
إن تجاهلت فالحساب عسير *** لك ويل الوبال ثم الملامة
هذه كتبكم تصرح جهرا *** فلراوي الحديث فافهم كلامه
لا تكن كالذي عنادا وبغضا *** ضد آل الرسول سل حسامه
ودعاه نكران فضل علي *** دون جدوى فجد يرمي سهامه
ألزم النفس بالخلاف جحودا *** ليس للجاحدين إلا الندامة
فاقبل النصح من وفي نصوح *** إنما النصح من وفاء الشهامه
كن مع المرتضى بقلب سليم *** وعن الفكر فاطرح أوهامه
فاز بالنصر من يعي ويراعي *** سر إرشاد نفسه اللوامه
دربنا المستقيم للحق يهدي *** وعلى الحق والهدى الاستقامة
من كتاب المناظرات تزود *** تجد الرشد إن أردت اغتنامه
هو نعم الكتاب أقسمت حقا *** وبه الكاتب استثار اهتمامه
فاز في النشأتين وعيا وسعيا *** وبحبل الولاء نال اعتصامه
وسيحظى بالخير والنصر دوما *** كلما للوصي أبدى التزامه
ولمن رام خير دنيا وأخرى *** فبنهج الهدى ينال مرامه
ويقينا أرخت : يبقى بطيب *** لعلي إثبات حق الأمامة
1415 ه-
محمد باقر الايرواني النجفي
ص: 9
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيد خلقه وخاتم أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
1 - طلب إلي أن أقدم لكتاب (مناظرات في الأمامة) في ظروف لم تكن تحملني على هذا النوع من العمل الفكري إن لم تكن تعوقني ، واللّه سبحانه هو المرجو في السراء والضراء وبه المعاذ والملاذ في الشدة والرخاء ، قلت هذا كي يغفر لي القارئ الكريم إن لم يجد في تقديمي هذا كل ما كان يأمل أن يقرأ حول الكتاب وموضوعه.
ولا يعنيني هنا أن أتكلم عن مدلول (المناظرة) لغويا بعد أن اصطلح عليها على أن تؤدي معنى الجدل الكلامي المباشر ، القائم على المواجهة واستماع كل من المتجادلين كلام الاخر والرد عليه في محضر المواجهة ، فتكون قسما من أقسام (الرد) و (النقض).
2 - وإذا كان أول خلاف وقع بين الأمة الخلاف في الأمامة والأمام ، وإذا كان الجدل والنقاش وعرض وجهات النظر ، والرد على الرأي المخالف من طريق الكلام والمواجهة أسبق وقوعا من الرد كتابة وتأليفا - وهذا واضح - فبهذا تكون (المناظرة) والجدل عن طريق الحوار قد سبقت سائر أنواع الجدل والنقاش الفكري سبقا زمنيا ، فلابد لنا من القول بأن المناظرة حول الأمامة قد سبقت كل مناظرة كلامية تدور حول الصراع الفكري الذي حدث بين المسلمين في شتى نقاط الخلاف العقائدي والمذهبي بينهم.
وإن كانت المناظرة حول الأمامة والخلافة في أشكالها الأول قد تأطرت بإطار (الاحتجاج) من المعارضين على الفائزين في الصراع السياسي حول قيادة الأمة ، وقد أعطي لها هذا العنوان : (الاحتجاج) إلا أنه لا يخرجها عن شمول عنوان (المناظرة) لها ، فإن الاحتجاج في نفسه هو نوع من أنواع المناظرة ، ويعتمد على إدلاء الحجج واعتماد الأدلة والاعتبارات المناسبة لتصحيح المعارضة وعدم الخضوع لموقف الفئة الحاكمة أو التي تحاول أن تكسب الحكم ، ولا تسلب من الخصم إمكانية الدفاع عن نفسه وعن وجهات نظره ونقض حجج من يحتج عليه.
بل وإن الغلبة في الحجة والفوز في الخصومة الكلامية إن كانتا في جانب المعارضين ، فإن ذلك يدل دلالة أقوى وآكد على أن الحق معهم ، إذ أن خصومهم الذين يعتزون عليهم بما كسبوه من القدرة السياسية والعسكرية لا يأنفون أن يدلوا بحججهم ونقض حجج معارضيهم ، فإن سكتوا هنا أمام معارضيهم ، فستكون له دلالة أقوى من سكوت أحد المتناظرين.
ومن الواضح الذي لا يخفى على أحد ، لا هو ولا الأسباب والعوامل الموجبة له ، أن المناظرات
ص: 10
حول الأمامة تشكل القسم الأكبر والأوسع من المناظرات الكلامية لعلماء الأمامية ومتكلميهم أعلى اللّه درجتهم ورضي عنهم وأرضاهم.
3 - وهذا الكتاب أول محاولة مستوعبة تجمع كل صورة من صور المناظرة حول الأمامة ، أمكن للمؤلف - حفظه اللّه - أن يصل إليها ، وشيخنا الطبرسي رحمه اللّه وإن كان قد سبقه إليه في كتابه الشهير (الاحتجاج) لكنه لم يخص موضوع كتابه بالأمامة وحدها ، وقد انتهى به إلى عصره وهو القرن السادس ، وقد نظم المؤلف مادة الكتاب حسب التسلسل الزمني ، وهذه حسنة أخرى.
والمناظرة حيث أنها تقوم على الحوار المباشر بين المتناظرين وجها لوجه ، فلا يكون أحدهما هو المدلي بحجته والداخل إلى مجلس القضاء وحده كي يقال : من كان في مثل حاله سيكون هو الفائز بحجته والمنتصر على خصمه الغائب عنه ، وهذه بعض السمات الخاصة للمناظرات والتي تمتاز بها عن بقية أنواع النقاش والرد.
هناك شكل آخر من أشكال المناظرة اصطلح عليه بعنوان (الرد) و (النقض) ويقوم على الاستعانة بالكتابة وتأليف الرسائل والكتب ، وإن كان هذا العنوان لا يختص به من حيث المدلول اللغوي ، وقد أكثر منه عماؤنا الأبرار أيضا وحسبك أن ترجع إلى الذريعة ج 10 ص 174 - 27 ، 354 - 751 فيما جاء بعنوان (الرد) وج 24 ص 283 - 292 ، 459 - 56 فيما جاء بعنوان : (النقض) عدا ماكان له اسم خاص ، فلم يذكر إلا حب وقوع اسمه في موقعه الخاص من سلسلة الحروف العربية.
وذا أضفنا إلى هذين القسمين قسما ثالثا لم يظهر إلا في العصور احديثة وهو المقالات التي لا تنشر إلا في الصحف والمجلات والدوريات ، ويشكل كمية ضخمة لا يستهان بها حجما وعطاء ، وأرجو أن يقيض اللّه سبحانه من يتولى جمعها أو فهرستها ، لأدركنا مدى غزارة هذا التراث الثر المعطاء الذي لا يسعنا أن نفرط به.
وقد أحسن المؤلف صنعا حينما نظم هذه المناظرات حسب التسلسل الزمني لوقوعها ، وبهذا مكن الدارسين من متابعة دراستها للكشف عن نقاط القوة والضعف فيها وفي خلفياتها من حيث قدرة المتناظرين وضعفهما ، وازدهار الثقافة الدينية والتمكن العلمي وضمورهما ، حسب مختلف العصور ، واللّه سبحانه أسأل أن يجعل عمله هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يوفقه إلى أن تكون أعماله الاتية - سواء التي ترجع إلى كتابه هذا أو إلى غيره - أوسع وأكمل ، إنه نعم المولى ونعم النصير.
محمد رضا الجعفري
3 / 11 / 1414 ه
ص: 11
تفضل علينا المحقق الكبير آية اللّه الشيخ محمد الغروي دامت تأييداته بهذه الكلمة القيمة بمناسبة صدور كتابنا هذا ، فجزاه اللّه خير الجزاء وشكر اللّه سعيه الدؤوب لإحياءه مآثر أهل البيت عليهم السّلام الخالدة :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ، والصلاة والسّلام على محمد رسول اللّه وآله آل اللّه. واللعن الدائم على أعدائهم أعداء اللّه إلى يوم لقاء اللّه.
أمامك عزيزي القارىء الكريم كتاب كريم لو وزن بأوزان ثقيلة لرجح عليها ، ألا وهو : (مناظرات في الإمامة) محاورات فكريّة حرّة في حديث الإمامة من صدر الإسلام إلى يومنا هذا.
بهذا الاسم المبارك أسماه مؤلّفه ومحقّقه أحد حسنات العصر الشيخ عبد اللّه الحسن ، وإذ أبارك له هذه الحسنة الجارية أشعر أنّها نور في الدرب لمن حضر ، وللأجيال القادمة عبر العصور.
قد يقال : ليس من الجميل المناظرة في الإمامة بعد أن أصبحت في ذمّة التأريخ ، ومسألة تاريخية بحتة ، فترى مؤلّف كتاب (فجر الإسلام) في مقدمة (تاريخ القرآن) لأبي عبد اللّه الزنجاني يناقش ، ويرشد إلى حلّ له ، أو لغيره ممّن تسمعه.
يقول في المقدمة مقرّضا ، مناقشا : (... ويعجب المؤرخ أن يرى النزاع يبلغ هذا المبلغ بين فئتين يجمعهما الإعتقاد بأن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه ، وأن المؤمنين إخوة ، ولئن ساغ في العقل أن يقتتلوا أيّام كان هناك نزاع ، فعلى الخلافة من هو أحق [بها] منها ومن يتولاّها ، فليس يسوغ بحال من الأحوال أن يقتتلوا على خلاف أصبح في ذمة التأريخ ، لا يستطيع القتال والنزاع أن يعيده إلى الوجود ، بل أن أصبحت الخلافة نفسها مسألة تاريخية بحتة ، وليس للمسلمين خليفة فعليّ يضم كلمتهم ويجمع شتاتهم ، وأصبح الخلاف خلافا في التاريخ وخلافا في الإجتهاد ، ولو لا ألاعيب السياسة واستغفال الماكرين لعقول العامة ، واحتفاظ أرباب الشهوات والمطامع تجاههم وسلطانهم لا نمحى الخلاف بين الشيعي والسنّي ، ولأصبحوا بنعمة اللّه إخوانا ولتعاونوا على جلب المصالح ودرء المفاسد لجميعهم ، ولنظر بعضهم إلى بعض كما ينظر حنفي إلى مالكي ومالكي إلى شافعي.
وأظنّ أنّ الوقت قد حان لأن يفكّر عقلاء الطائفتين في سبيل الوئام ويعملوا على إحياء عوامل الألفة ، وإماتة الخصام ، ويتركوا للعلماء البحث حرّا في التأريخ ،
ص: 12
ويتلقوا النتائج بصدر رحب كما يتلقّون النتائج في أي بحث علميّ وتاريخيّ ، وتبعة هذا الخلاف تقع على رؤساء الطائفتين ، ففي يدهم تقليله كما في يدهم إشعاله وإنماؤه) المصدر ص 9 - 10.
وفي كتاب السيد مرتضى العسكري المسمّى (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) ص 5 - 6 ، ما يلي بهذا الشأن :
(... ثانيا : يعترض الباحث فيما إذا وفّق إلى ترويض نفسه ، وتذليل العقبة الآنفة الذكر عقبة أخرى بعدها ، وهي الخوف من تأثير نشر هذه الدراسات على وحدة كلمة المسلمين ...
وهل يجوز لمن يغار على مصالح المسلمين أن يبحث اليوم في الماضي السحيق ، وينشر منه ما يوجب النقد والرد ، ويثير الحفيظة وينتج النفرة؟! وإذا كان ذلك مما لا يستسيغه أحد فليمتنع الجميع عن البحث والتحقيق كي لا يسبّب ذلك عقم جهود المصلحين ، ويؤدي بالمسلمين إلى ما لا يحمد عقباه؟!
أمّا نحن فلا نرى هذا ، فإنّنا حين ندعوا اللّه مخلصين أن يوفّق المسلمين لتلبية نداء المصلحين بنبذ الحزازات وتوحيد الكلمة ، لا نريد ذلك على حساب العلم والمعرفة ، ونعتقد أنّ المصلحين أنفسهم أيضا لا يريدونها كذلك ؛ فإنّ المصلحين الغيارى يدعون الى الاجتماع حول صعيد الإسلام ، والإسلام ليس برأي سياسي دولي ، وإنّما هو إيمان وعقيدة ، وهما لا يتأتّيان من كتم الحقيقة ، بل إنّهما ينتجان من بحث وتحقيق ونقد علميّ خالص ، على أن لا ينبعث ذلك من هوى النفس بدافع الحب والبغض ، وإنّ هذا لهو ما يدعو إليه المصلحون ، ونسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا إلى الإلتزام بهذا الطريق السّوي ، وهو الموفق إلى الصواب ...
والحق الصحيح أنّ السعي لتقريب المسلمين بعضهم من بعض ، والجهاد في سبيل إعادة حياة إسلاميّة ، والقيام بالبحث والتحقيق في تاريخ الإسلام ، وحديث نبيّه صلّى اللّه عليه وآله لا ينافي بعضهم الآخر ، وإنّما يتمّم بعضهم بعضا ؛ فإنّه لا يتمكن من إقامة مجتمع اسلامي دون جمع الكلمة ، وبلا فهم لقرآنه وحديث نبيّه وتأريخه ، كما لا يتأتى التآخي الصحيح دون الإيمان بوجوب إعادة حياة إسلامية ، وإلاّ فعلى م يجتمع المسلمون؟ وما الذي يوحّد كلمتهم؟ ولا يتأتّى التآخي أيضا دون ترويض المسلمين أنفسهم على سماع آرآء بعضهم ومناقشاتها مناقشة من يطلب الحق ليتبعه ، ليصدق عليهم قول اللّه سبحانه : ( فَبَشِّرْ عِبٰادِ * اَلَّذِينَ
ص: 13
يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (1) وهذا ما ندعوا إليه ، ونسأل اللّه أن يوفّقنا وجميع إخواننا المسلمين إلى الإهتداء بهذا القول الكريم).
ولو لا الحسن والقبح العقليّان ، وأنّهما أصلان ثابتان في العقول ، لما كان لمدح اللّه وتبشيره العباد المستمعين القول المتّبعين أحسنه موضع ، وليس استماع القول واتباع أحسنه ، ومنه الإمامة مسألة تاريخية ، أو هي في ذمّة التأريخ على حدّ تعبير أحمد أمين ، وهو بين أمرين :
إمّا أن يردّ رغبة القرآن حسن الاستماع واتباع الأحسن إطلاقا ، ومنه المناظرة حول الإمامة ولا سبيل إليه ، وإمّا القبول ، فهلم واستمع قول أوّل واضع للغة العربية والعروض الخليل بن أحمد في عليّ عليه السّلام : (استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه دليل أنه إمام الكل - كتاب التأسيس ص 150) (جاء العيان فألوى بالأسانيد - مجمع الأمثال 1 / 19 ، حرف الجيم) وكفى بالقرآن والعيان سندا وبيانا ، وقول ابن أبي الحديد المعتزلي في فضائله ، قال :
فأمّا فضائله عليه السّلام ؛ فإنّها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد : رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر ، والقمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر ، فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز ، مقصّر عن الغاية ، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك... شرح النهج 1 / 16 - 30.
الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه.
2 جمادى الأولى 1416 ه
محمد الغروي
ص: 14
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم الى يوم الدين.
وبعد :
فإن مسألة الخلافة بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هي أهم المسائل التي دارت عليها رحى الخلاف بين المسلمين قديما «وحديثا» ، واحتدم فيها الصراع الفكري بينهم وكانت النتيجة الطبيعية لذلك الصراع انقسام الأمة الأسلامية إلى فرق متعددة (1) إلا أن أبرز هذه الفرق فرقتان :
السنة الأشاعرة والشيعة الأمامية وإن كانت هناك فرق أخرى برزت في فترات من التاريخ كالمعتزلة وغيرها ولسنا في مقام التصدي لاستعراض أدلة كل فريق وتقييمها فإن مجاله علم الكلام وإنما نشير إجمالا إلى رأي ذينك الفريقين :
فذهبت العامة إلى أن الخلافة لا نص عليها بل هي موكولة إلى الأمة ، فهي التي تختار الخليفة بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، واختلفوا في كيفية انعقادها بين قائل بالبيعة ، وقائل بالشورى ، وآخر بالأجماع حتى صرح بعضهم بانعقادها بشخصين (2)
ص: 15
وبعضهم صرّح أنها تنعقد أيضاً بالقهر والغلبة (1).
وأما الأمامية فذهبت إلى أن الخلافة لا تكون إلا بالنص انطلاقا من نظرتها الخاصة في مسألة الخلافة باعتبارها منصبا إلهيا وأمره ليس بيد البشر ، وترى لزوم توفر مواصفات معينة في خليفة النبي - صلى اللّه عليه وآله - من قبيل نزاهة الباطن ، التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.
فتؤكد من هذا المنطلق أنه يجب (2) على اللّه تعالى أن يختار للأمة خليفة للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لتناط به مسؤولية الأمة بعده مباشرة ، ويعينه من خلال نص النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عليه بكل صراحة ووضوح.
ومن هذا المنطلق تحركت الشيعة الأمامية لأثبات نظريتها في الأمامة ووضعت النقاط على الحروف وساقت الكثير من الأدلة والبراهين العقلية والنقلية من خلال الايات القرآنية والأحاديث النبوية المتفق عليها عند جمهور المسلمين لأثبات الأمرين معا :
الأمر الاول : أن الخلافة والأمامة منصب إلهي وعهد رباني لا يناله إلا ذو حظ عظيم يمتاز عن سائر أفراد الأمة بعلمه الجم وفضائله الفائقة وعصمته ونزاهة باطنه. الأمر الثاني : أنه بالفعل تم التعيين بأمر من اللّه تعالى ، وبنص صريح وواضح جلي في مواقف عديدة ومناسبات كثيرة من النبي - صلى اللّه عليه
ص: 16
وآله وسلم - على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - ابتداء بالأنذار يوم الدار وانتهاء بالساعات الأخيرة من حياة النبي - صلى اللّه عليه وآله - فكان لا يدع فرصة يمكنه الأشارة فيها أو التصريح بإمامة علي - عليه السلام - من بعده إلا وبين فيها أمر الأمامة والأمام من بعده ، ولعل أبرز تلك المناسبات قضية الغدير وهي أشهر من أن تذكر ، ولا يختلف في تواترها أحد من المسلمين وإن اختلفوا في دلالة الولاية المنصوص عليها في هذا الحديث المتواتر ، وقد أثبت علماؤنا دلالتها على الأولى بالتصرف.
وانطلاقا من هذا الامر أخذت الشيعة الأمامية تحتج لأحقية أمير المؤمنين - عليه السلام - وأبنائه الأحد عشر - عليهم السلام - في الخلافة ، - مستخدمين في ذلك البراهين النقلية والعقلية - وأثبتوا ذلك في مؤلفاتهم الكثيرة (1) في هذا الشأن قديما وحديثا ، وفي خطبهم وشعرهم وأدبهم فإن أدب الغدير ، وأدب الأمامة والخلافة يحتل جانبا كبيرا من الأدب الاسلامي خصوصا في القرون الأولى.
ومن أقدم تلك الاحتجاجات التي بدأت منذ الساعات الأولى من ارتحال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، المحاورات والمناظرات حول هذه المسألة التي كانت تدور بين الحين والاخر واستمرت مع التأريخ وتطورت فيها أساليب النقاش ووسائل الأثبات مع اختلاف المناسبات.
ومما لا يخفى أن أسلوب المناظرة من أحسن الأساليب إقناعا ، ومن أسهلها استيعابا ، وأوقعها في النفس ، حيث يتفاعل معها الأدراك من خلال
ص: 17
الأخذ والرد ، ويستفيد منها عامة الناس مع اختلاف مستوياتهم الفكرية.
ومن ناحية أخرى ان طرح موضوع الخلافة كمسألة علمية في اطار المناظرات والتي احتوت على كثير من الحقائق التاريخية والعلمية مما يؤدي الى عمق اكثر في التعرف على نظريات وادلة كل من المذاهب الاسلامية في شؤون الخلافة الاسلامية وخصوصا الشيعة الأمامية والوقوف على نظرياتها في هذه المسألة.
ومن هنا رأيت ان أجمع بعض تلك المحاورات والمناظرات التي جرت في مسألة الخلافة بالذات ، والتي أثبتوا فيها بالأدلة دلالة النصوص المتظافرة على خلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - ، مع احتوائها لكثير من الاستدلالات المختلفة المتنوعة ، كما أضفت إليها بعض المناظرات المخطوطة في هذا الباب وقد اعتمدت في إخراجها على المصادر الموثوقة والمعتمدة مع تخريج مصادرها من كتب الجمهور.
وسيلاحظ القارئ الكريم لهذه المناظرات أن وسائل الأثبات في بعضها مرتكزة على الايات الشريفة ، والنصوص المأثورة عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - المتفق عليها بين الفريقين ، وأخرى على الشواهد والوقائع التاريخية ، وتارة يستدل من خلال بعض الممارسات والمقارنة بينها وبين ممارسات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في نظائر تلك الوقائع ، كما أن للأدلة العقلية دورا كبيرا في هذا المجال.
وسيلاحظ أيضا أن بعض الاستدلالات بالايات أو الأحاديث أو غيرهما قد تكررت في بعض المناظرات ، إلا أن المتأمل فيها يجد أن كل مناظر له أسلوبه الخاص المتميز في الاستدلال ، وربما تناول فيها جانبا أغفله الاخر ، وإن تكررت فيها نفس النصوص.
ص: 18
وقد آثرنا في فهرسة وترتيب المناظرات الاعتماد على التسلسل التاريخي لوقوعها ، ليتسنى للقارئ الكريم الاطلاع على سيرها في حقل الأمامة في أحقاب زمنية متوالية ، ابتداء من الصدر الأول وإلى وقتنا الحاضر.
وبالأمكان الوقوف - من خلال هذا التسلسل لهذه المناظرات - على وسائل الاستدلال لدى الطرفين عبر عصورها المختلفة ، ومدى تطورها.
وهذا الكتاب ليس هو الأول في هذا الباب بل هناك الكتب الكثيرة التي حوت مثل هذه المناظرات والمحاورات مثل : كتاب الفصول المختارة للشيخ المفيد - أعلى اللّه مقامه - وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي - أعلى اللّه مقامه - ، فقد جمع فيه مناظرات واحتجاجات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والزهراء والأئمة - عليهم السلام - مع اليهود والنصارى والزنادقة والملاحدة ومع مختلف المذاهب ، والبحار للشيخ المجلسي - أعلى اللّه مقامه - في بعض أجزائه ، والمراجعات للسيد شرف الدين - قدس اللّه سره - ، والغدير للأميني - طاب ثراه - في الجزء الأول ، وغيرها.
إلا أننا اقتصرنا في هذا الكتاب على المناظرات التي جرت بشأن الخلافة والأمامة فقط ، كما مرت الأشارة إليه آنفا.
هذا وباب المناظرات في الخلافة باب لا يسع استيفاؤه ولا يمكن استيعابه ، وعسى أن يكون فيما ذكرناه كفاية لمن طلب الحق في هذا المجال.
وقد رأيت من الضرورة بمكان أن أصدر الكتاب - بمناسبة موضوعه - ببيان لحكم المناظرة في الشريعة الأسلامية وآدابها وتاريخها
ص: 19
في الخلافة ومتى بدأت.
وأخيراً أرجو من القارئ الكريم أن تكون قراءته بدقة وتمعن بالغين ، وبكل موضوعية بعيداً عن التعصب ، ومما لا يخفى على كل باحث أن ترك التعصب وتحكيم العقل يؤدي إلى رؤية الحقيقة بأجلى مظاهرها وأصدق معانيها ، هذا والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
واللّه تعالى أسأل في هذه الظروف العصيبة أن يلم شمل المسلمين جميعا ويوحد كلمتهم على الحق ليكونوا يدا» واحدة على أعدائهم قال تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) وقال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2) ولا يفوتني أن أقدم جزيل الشكر والامتنان لكل من ساهم في مراجعة وإبراز هذا الكتاب راجياً لهم التوفيق ، وإياه تعالى أسأل أن ينفع بهذه المناظرات إخواني المؤمنين ويجعلها ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم ، واللّه من وراء القصد والهادي الى سواء السبيل ، وصلى اللّه على محمد واله الطيبين الطاهرين.
عبد اللّه الحسن
يوم الجمعة 29 / 11 / 1413 ه
ص: 20
عرفت المناظرة أو المجادلة في الفلسفة اليونانية باسم : (طوبيقا) ، وهي إحدى الصناعات الخمس المهمة التي ينقسم إليها القياس المنطقي ، ويتوقف فهم هذه الصناعة على مقدمات ومبادئ أساسية لاغنى عنها من يروم الدفاع عما يراه جديراً بالدفاع عنه لشتى الأغراض ، سواء أكان ذلك في مجال العقيدة أم لم يكن.
على أن رجوع طالب المناظرة أو الجدل إلى المصادر الأولية للوقوف على مقدمات ومبادئ هذه الصناعة قد لا يخلو من صعوبة ، لما اكتنف تلك المصادر من غموض في العبارة ، وإجمال يتيه معه المبتدئ في خضم الأساليب المنطقية التي لم يعتدها من قبل ، ولهذا ننصح بالرجوع إلى ما كتبه الشيخ محمد رضا المظفر - رحمه اللّه - في كتابه المنطق ، إذ فيه مادة غنية مبسطة تغني عن الرجوع إلى غيره في تحصيل أوليات المناظرة فيما يتعلق بصناعة الجدل.
ومن المهم أن نشير في هذا التمهيد إلى أن القياسات الجدلية ، - التي ينبغي معرفتها في مقام المناظرة أو المجادلة - تهدف بالدرجة الأساس إلى تحصيل ما يفحم به الخصم عند المناظرة ، وقطع حجته والظهور عليه بين السامعين ، سواء أكان ذلك حقاً أم باطلاً ، إذ ليس الغرض من القياسات الجدلية هو الحق أو الباطل ، وإن كان أحدهما داخلا في طلب ما يفحم به
ص: 21
الخصم ، إلا أنه لم يكن مراداً ومقصوداً بعينه (1).
وهذا ما يفهم من تعريف الجدل أيضاً ، إذ لم يذكر في التعريف أي شرط يقيد معناه بالدفاع عن الحق مثلاً ، ولهذا قالوا : الجدل (صناعة علمية يقتدر معها على إقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد ، وعلى محافظة أي وضع يتفق ، على وجه لا تتوجه عليه مناقضة بحسب الأمكان) (2).
ومن هنا كان لا بد من بيان رأي شريعتنا الغراء في المناظرة ما دامت رحاها تدور على إثبات صحة الاراء والأفكار التي يدعيها كل من الطرفين المتناظرين بغض النظر عن موافقة تلك الاراء أو مخالفتها لشريعة الأسلام ، وذلك بحسب التقسيم التالي للمناظرة.
ص: 22
تناول القرآن الكريم في العديد من الايات الشريفة ، وكذلك السنة المطهرة في جملة من الأحاديث ، موضوع المناظرة والجدل تارة بالتأييد وأخرى بالتفنيد ومن هنا يمكن القول بأن المناظرة بحسب نظرة الشريعة الإسلامية تنقسم إلى قسمين وهما :
القسم الأول : المناظرة المشروعة.
القسم الثاني : المناظرة غير المشروعة.
لقد شرع القرآن الكريم المناظرة وجعل لها حدود وضوابط وأكد على ضرورتها وأهميتها ، وذلك في كثير من آيات الذكر الحكيم ، وهذا ما يصور لقارئ القرآن الكريم احتلال المناظرة جانبا «حيويا» في حياة سائر الأديان ، إذ ما من رسول أو نبي إلا وقد ناظر قومه وحاججهم وجادلهم في إثبات صحة ما يدعوهم إليه.
ومما يزيد الأمر وضوحاً هو أن اللّه تعالى قد أمر رسوله الكريم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بمجادلة المشركين ودعوتهم إلى الحق ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، فقال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (1).
ص: 23
كما أمر تعالى بمجادلة أهل الكتاب عن طريق الحكمة والموعظة لما في ذلك من إلانة قلوبهم وانصياعهم إلى الحق ، فقال تعالى : ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. ) (1).
لأن الغلظة في المناظرة والجدل لا تزيد الطرف الاخر إلا نفوراً ، وعناداً ، وتعصباً ، وتمسكاً بالباطل كما أوضحه تعالى في قوله الكريم : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ .. ) (2).
وهذا ما يكشف عن أسلوب المناظرة النبوية ، فهو الأسلوب الأمثل الذي يجب مراعاته بين المتناظرين.
ومن الأدلة والشواهد القرآنية التي تبين مشروعية المناظرة في الأسلام ، قوله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3).
وهنا يلاحظ ما في جواب من أنكر الأحياء بعد الأماتة ، وما فيه من أدلة عظيمة ، وأسلوب رائع يأخذ بمجامع القلوب ويسوقها طوعا إلى الأذعان والتصديق ، ومنه ينكشف مدى تأثير الدليل وطريقة عرضه ، إذ بهما يخلق من الطرف الاخر إنسانا سلس الانقياد.
ص: 24
ولم يقتصر هذا الأمر على مناظرات نبينا - صلى اللّه عليه وآله - مع مشركي مكة ومجادلتهم بالتي هي أحسن ، وإنما كان ذلك الأسلوب من المناظرة والجدل متبعا من قبل الأنبياء - عليهم السلام - مع مشركي أقوامهم كما في قصة إبراهيم - عليه السلام - مع نمرود كما في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).
ومثله أيضاً ما جاء في محاجة قومه له - عليه السلام - وجوابه لهم كما في قوله تعالى : ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ - إلى قوله - فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (2).
ومثله أيضاً ما جاء في محاجته - عليه السلام - لقومه حينما كسر أصنامهم وقد ألزمهم بالحجة والعقل والرجوع إلى وجدانهم وعقولهم ، كما في قوله تعالى : ( قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (3).
ومنها مجادلة نوح - عليه السلام - لقومه الذين ركبوا رؤوسهم عنادا وازدادوا غيا وفسادا ، حيث قالوا له وهو يجادلهم في اللّه تعالى : ( يَا نُوحُ
ص: 25
قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ) (1).
ومن هنا يتبين أن المناظرة أو الجدل لو لم تكن مشروعة لما أمر اللّه تعالى بها أنبياءه - عليهم السلام - ، في حين أن القرآن الكريم يزخر بمحاججات الأنبياء لأقوامهم لا سيما نبينا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وهو القدوة الحسنة والمثل الأعلى الذي لا ينتهي حديث عظمته ، ولا تزيده الدهور إلا سناءا وعلوا.
هذا هو موقف القرآن الكريم من المناظرة المشروعة بشكل موجز ، والذي يمكن أن تكون خلاصته : أن ينظر كل من المتناظرين بعين الاعتبار إلى الاخر ، ولا يستهين بآرائه وإن كانت مخالفة للحق في بداية الأمر وان لا ينسب أراءه الى محض الباطل حتى ولو كان كذلك في نظره لاحظ قوله تبارك وتعالى : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) (2) حيث ان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، يجمل اجمالا الضلالة بين الفريقين تمهيدا للجو الملائم للمناظرة الصحيحة بهدف الوصول الى الحقيقة ولا يفاجأهم مباشرة بتفنيد مزاعمهم جملة وتفصيلا رغم انها كانت محض الباطل في اعتقاده - صلى اللّه عليه وآله - ، ثم عليه أن يسوق الدليل الذي يعرفه المقابل نفسه ، وأن يعرض الدليل بالطريقة الهادئة مقرونا بالحكمة والموعظة الحسنة ، على أن يكون مراده تحصيل الحق ، وإلا ستكون المناظرة غير مشروعة كما سيأتي الحديث عنها في محله.
أما موقف السنة المطهرة من المناظرة ، فهو لا يختلف عن حكم القرآن ، فكلاهما - القرآن والسنة - صنوان لمشرع واحد ، قال تعالى : ( وَمَا
ص: 26
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (1).
ومما ورد من الأدلة والشواهد على مشروعية المناظرة من السنة الشريفة :
منها : ما روي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : (نحن المجادلون في دين اللّه على لسان سبعين نبيا) (2).
ومنها : ما روي من مناظرات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مع أهل الاديان وغيرهم ، ومما يروى بهذا الصدد من اجتماع أهل خمسة أديان وفرق - وهم اليهود - والنصارى ، والدهرية ، والثنوية ، ومشركوا العرب - عند النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، واحتجاج كل فريق منهم لدعواه وجواب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لهم وإبطاله لمزاعمهم. (3)
كما أن المتتبع لسيرة الأئمة - عليهم السلام - يجد أمثلة كثيرة جدا في مناظراتهم واحتجاجاتهم مع خصومهم ، كما وردت عنهم - عليهم السلام - أخبار كثيرة بشأن مجادلة الخصوم وإقناعهم ، وكانوا - عليهم السلام - يأمرون بعض أصحابهم بذلك ممن يتوسمون فيه القدرة على مقارعة الحجة بالحجة ، كما هو المشهور في موقف الأمام الصادق - عليه السلام - من هشام بن الحكم وثلة من أصحابه الذين كانوا بالمرصاد في تصديهم للزنادقة والملحدين والمخالفين في المسائل الاعتقادية كالمجبرة والمفوضة والمجسمة وغيرها من المذاهب الأخرى.
كما كانت لمسائل الأمامة الحصة الكبرى في مناظرات هؤلاء
ص: 27
الأصحاب وغيرهم مع خصومهم ، كما سيبينه كتابنا هذا : مناظرات في الأمامة.
وفيما يلي نذكر بعض الروايات عن أهل بيت النبوة - عليهم السلام - الدالة على ما أسلفناه :
منها : رواية الشيخ المفيد بإسناده عن الأمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر - عليهما السلام - قال : من أعاننا بلسانه على عدونا أنطقه اللّه بحجته يوم موقفه بين يديه عز وجل (1).
ومنها : قول الصادق - عليه السلام - : حاجوا الناس بكلامي ، فإن حاجوكم فأنا المحجوج (2).
ومنها : ما رواه ثقة الأسلام في الكافي (3) من مناظرة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد ، حتى أن الأمام الصادق - عليه السلام - أحب أن يسمع من هشام نفسه ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد ، كما ستأتي مفصلة في هذا الكتاب.
ومع هذا كله فقد تخيل بعض المخالفين أن المناظرة محرمة في رأي أهل البيت - عليهم السلام - ، وأن ما يفعله الشيعة يخالف أمر أئمتهم.
يقول الشريف المرتضى (رحمه اللّه) : قلت للشيخ أبي عبد اللّه أدام اللّه عزه : إن المعتزلة والحشوية يزعمون أن الذي نستعمله من المناظرة شئ يخالف أصول الأمامية ويخرج عن إجماعهم لأن القوم لا يرون المناظرة دينا وينهون عنها ويروون عن أئمتهم تبديع فاعلها وذم مستعملها ، فهل معك رواية عن أهل البيت - عليهم السلام - في صحتها أم تعتمد على
ص: 28
حجج العقول ولا تلتفت إلى من خالفها وإن كان عليه إجماع العصابة؟
فقال : أخطأت المعتزلة والحشوية فيما ادعوه علينا من خلاف جماعة أهل مذهبنا في استعمال المناظرة وأخطأ من ادعى ذلك من الأمامية أيضا وتجاهل ، لأن فقهاء الامامية ورؤساءهم في علم الدين كانوا يستعملون المناظرة ويدينون بصحتها وتلقى ذلك عنهم الخلف ودانوا به ، وقد أشبعت القول في هذا الباب وذكرت أسماء المعروفين بالنظر وكتبهم ومدائح الأئمة لهم في كتابي الكامل في علوم الدين ، وكتاب الأركان في دعائم الدين ، وأنا أروي لك في هذا الوقت حديثا من جملة ما أوردت في ذلك إن شاء اللّه.
أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد (بسنده) عن أبي عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد - عليهما السلام - قال : قال لي : خاصموهم وبينوا لهم الهدى الذي أنتم عليه ، وبينوا لهم ضلالهم وباهلوهم في علي - عليه السلام - (1).
إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد التي تنص على مشروعية المناظرة على أن التوسع في إيراد الشواهد والأدلة على مشروعية المناظرة قد يكون على حساب مادة الكتاب ، إذ فيه الشئ الكثير الذي لا يمكن بموجبه إنكار مشروعية المناظرة في الإسلام ، زيادة على ما كتب من كتب إسلامية في هذا المجال بعض المناظرات التي وقعت بين علماء المسلمين في جوانب شتى من العقيدة وغيرها ، ولعل في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي - أعلى اللّه مقامه - خير دليل على ذلك.
ص: 29
وأما ما هو غير مشروع من المناظرة فقد سبق وأن ألمحنا الى أن القرآن الكريم بين ضوابط المناظرة المشروعة وحدد معالمها ، ووضعها في إطارها الصحيح ، وذلك بعبارة جامعة مانعة وهي أن تكون الدعوة فيها إلى الحق وهو ما عبر عنه تعالى ب (سبيل اللّه) وأن تكون بالحكمة والموعظة والمجادلة الحسنة كما في قوله عز شأنه : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1).
وحيث إن القرآن الكريم وضع الضوابط والمقاييس للمناظرة المشروعة فإذا تخلف عنها ما هو شرط أو شطر خرجت المناظرة عن كونها مشروعة وذلك فيما إذا كانت لأثبات باطل أو للغلبة على الحق أو كانت عن غير علم ، ونحو ذلك فهذه المناظرة هي التي لا يرضاها اللّه تعالى ولا يقرها حتى لأنبيائه ومن هذه المناظرات غير المشروعة مناظرات ومجادلات أهل الكتاب والمشركين والمنافقين مع نبينا محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وكذا مجادلات الأمم السابقة مع أنبيائهم - عليهم السلام - وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النحو من المناظرات والمجادلات غير المشروعة في مواضع شتى منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :
1 - قوله تعالى : ( وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) (2).
2 - قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
ص: 30
شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ) (1).
3 - قوله تعالى : ( يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ ) (2).
4 - قوله تعالى : ( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) (3).
5 - قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) (4).
6 - قوله تعالى : ( فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (5).
إلى غير ذلك من الايات الكثيرة الأخرى الناهية عن مثل هذه المجادلات التي لا يبتغى من ورائها إلا الباطل.
فهي إما أن تكون مجادلة في حق قد تبين ، وإما أن تكون لأماتة الحق ونصرة الباطل ، وإما أن تكون عن جهل وما يستتبعه من عناد وإصرار على الباطل ، وإما أن تكون بغير هذا وذاك من الدواعي الأخرى التي لا يقرها دين ولا يؤيدها وجدان ، وحري بالمسلم أن يتبع الحق فالحق أحق بأن يتبع من أي طريق كان.
ص: 31
لكي تكون المناظرة ناجحة وبناءة هادفة ، ولكي يخرج الطرفان منها بفائدة ونتيجة مثمرة ، يحسن بهما أن يتبعا آداب المناظرة التي تشير إليها الاية الكريمة : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) وفيما يلي نذكر أهم الاداب التي ينبغي مراعاتها في المناظرة وهي :
1 - أن يكون (المناظر) في طلب الحق كمنشد ضالة يكون شاكرا متى وجدها ، ولا يفرق بين أن يظهر على يده أو على يد غيره ، فيرى رفيقه معينا لا خصيما ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق ، كما لو أخذ طريقا في طلب ضالة فنبهه غيره على ضالته في طريق آخر ، والحق ضالة المؤمن يطلبه كذلك ، فحقه إذا ظهر الحق على لسان خصمه أن يفرح به ويشكره ، لا أنه يخجله ويسود وجهه ويزيل لونه ، ويجتهد في مجاهدته ومدافعته جهده.
2 - أن لا يمنع معينه من الانتقال من دليل إلى دليل ، ومن سؤال إلى سؤال ، بل يمكنه من إيراد ما يحضره ويخرج من كلامه ما يحتاج إليه في إصابة الحق ، فإن وجده في جملته أو استلزمه وإن كان غافلا عن اللزوم فليقبله ويحمد اللّه تعالى ، فإن الغرض إصابة الحق ، وإن كان في كلام متهافت إذا حصل منه المطلوب.
ص: 32
فأما قوله : «هذا لا يلزمني فقد تركت كلامك الأول وليس لك ذلك» ونحو ذلك من أراجيف المناظرين ، فهو محض العناد والخروج عن نهج السداد.
وكثيراً ما ترى المناظرات في المحافل تنقضي بمحض المجادلات حتى يطلب المعترض الدليل عليه ويمنع المدعي ما هو عالم به ، وينقضي المجلس على ذلك الأنكار والأصرار على العناد ، وذلك عين الفساد ، والخيانة للشرع المطهر ، والدخول في ذم من كتم علمه.
3 - أن يقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره كيف اتفق لا ظهور صوابه وغزارة علمه ، وصحة نظره ، فإن ذلك مراء قد عرفت ما فيه من القبائح والنهي الأكيد.
ومن آيات هذا القصد أن لا يوقعها إلا مع رجاء التأثير ، فأما إذا علم عدم قبول المناظر للحق وأنه لا يرجع عن رأيه وإن تبين له خطأه فمناظرته غير جائزة لترتب الافات وعدم حصول الغاية المطلوبة منها.
4 - أن يناظر في واقعة مهمة ، أو في مسألة قريبة من الوقوع ، وأن يهتم بمثل ذلك ، والمهم أن يبين الحق ولا يطول الكلام زيادة عما يحتاج إليه في تحقيق الحق.
ولا يغتر بأن المناظرة في تلك المسائل النادرة توجب رياضة الفكر وملكة الاستدلال والتحقيق ، كما يتفق ذلك كثيرا لقاصدي حظ النفوس من إظهار المعرفة فيتناظرون في التعريفات وما تشتمل عليه من النقوض والتزييفات وفي المغالطات ونحوها ، ولو اختبر حالهم حق الاختبار
ص: 33
لوجد مقصدهم على غير ذلك الاعتبار (1).
5 - أن يتخير الألفاظ الجزلة الفخمة ، ويتجنب العبارات الركيكة العامية ، ويتقي التمتمة والغلط في الألفاظ والأسلوب.
6 - أن يكون متمكنا من إيراد الأمثال والشواهد من الشعر ، والنصوص الدينية ، والفلسفية ، والعلمية ، وكلمات العظماء ، والحوادث الصغيرة الملائمة - وذلك عند الحاجة طبعا - بل ينبغي أن يكثر من ذلك ما وجد إليه سبيلا وذلك يعينه على تحقيق مقصوده وهدفه ، والمثل الواحد قد يفعل في النفوس ما لا تفعله الحجج المنطقية من الانصياع إليه والتسليم به.
7 - أن يتجنب عبارة الشتم واللعن ، والسخرية والاستهزاء ، ونحو ذلك مما يثير عواطف الغير ويوقظ الحقد والشحناء ، فإن هذا يفسد الغرض من المجادلة التي يجب أن تكون بالتي هي أحسن.
8 - ألا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف ، فإن هذا لا يكسبه إلا ضعفا ، ولا يكون إلا دليلا على الشعور بالمغلوبية ، بل يجب عليه أن يلقي الكلام قوي الأداء لا يشعر بالتردد والارتباك والضعف والانهيار ، وإن أداه بصوت منخفض هادئ فإن تأثير هذا الأسلوب أعظم بكثير من تأثير أسلوب الصياح والصراخ.
9 - أن يتواضع في خطاب خصمه ، ويتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم ، والكلمات النابية القبيحة.
10 - أن يتظاهر بالأصغاء الكامل لخصمه ، ولا يبدأ بالكلام إلا من حيث ينتهي من بيان مقصوده ، فإن الاستباق إلى الكلام سوالا وجوابا قبل
ص: 34
أن يتم خصمه كلامه يربك على الطرفين سير المحادثة ، ويعقد البحث من جهة ، ويثير غضب الخصم من جهة أخرى.
11 - أن يتجنب - حد الأمكان - مجادلة طالب الرياء والسمعة ومؤثر الغلبة والعناد ومدعي القوة والعظمة فإن هذا من جهة يعديه بمرضه فينساق بالأخير مقهورا إلى أن يكون شبيها به في هذا المرض ، ومن جهة أخرى لا يستطيع مع مثل هذا الشخص أن يتوصل إلى نتيجة مرضية في المجادلة (1).
12 - أن يكون مطلعا على أفكار وآراء خصمه من كتبه ومصادره لا من كتبه ومصادره هو.
13 - أن يكون هاضما للفكرة التي يريد طرحها ومحيطا بها تماما ، ومقتنعا بها ، لكي يتمكن من إقناع خصمه.
14 - وينبغي أن يختار الكلام المناسب للزمان والمكان فإن لهما تأثيرا كبيرا في النفوس ، ومن هنا قيل في المثل المشهور : لكل مقام مقال.
15 - أن يخاطب خصمه بكلام مفهوم مراعيا مقدار فهمه ، ومستواه الفكري ، بأسلوب حسن ومنطق سديد.
ص: 35
قد يتصور البعض أن تاريخ الاحتجاج والمناظرة في الأمامة وإثبات حق أمير المؤمنين - عليه السلام - يعود إلى زمان متأخر ، وبالتحديد إلى ظهور علم الكلام بين الشيعة ، وهذا ما دعاني لأثبات ما يؤكد أن تلك المناظرات والاحتجاجات كانت منذ اليوم الأول لتسلم الخلافة بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مباشرة إثر أحداث السقيفة التي غيرت مجرى التاريخ ، كما اعتبر ذلك النزاع أول نزاع حدث بين المسلمين بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (1) في الإمامة.
وأول من فتح باب الاحتجاج والمناظرة - في هذا الأمر - هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - صاحب الحق الذي ثبت له بالنصوص الشرعية ، كما أن للزهراء والحسن والحسين - عليهم السلام - وبني هاشم وجملة من الصحابة الدور الكبير في ذلك ، وكتب التاريخ والحديث والسيرة زاخرة باحتجاجاتهم ومناظراتهم في هذا الأمر ، وفيما يلي نذكر بعضا من احتجاجاتهم :
الذي يراجع كتب الحديث والسيرة - في خصوص هذا الشأن - يجد كثيرا من احتجاجاته ومناشداته - عليه السلام - في الخلافة ، وكذلك من
ص: 36
يراجع نهج البلاغة يجد كثيرا من الخطب والكلمات التي تكشف عن مدى تأثره - عليه السلام - ، ويجد تلك النفس التي ملؤها الحسرة والتأسف كل ذلك بسبب ما حصل من القوم في حقه.
فقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم ، واستنجد واستصرخ ، حيث ساموه الحضور والبيعة ، وأنه قال وهو يشير إلى القبر : ( ياابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (1) ، وأنه قال : واجعفراه! ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا حمزة لي اليوم! (2)
وفيما يلي نذكر بعض خطبه واحتجاجاته في الخلافة ، وبعض النصوص التي تكشف عن موقفه تجاههم :
1 - روي أن عليا - عليه السلام - أتي به إلى أبي بكر وهو يقول :
أنا عبد اللّه ، وأخو رسوله ، فقيل له بايع أبا بكر.
فقال : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الأمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول اللّه حيا وميتا ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع.
فقال له علي : احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردد عليك
ص: 37
غداً ، ثم قال : واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. - إلى أن قال لهم - :
اللّه اللّه يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به ، لأنا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ، أما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، واللّه إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل اللّه ، فتزدادوا من الحق بعدا (1).
2 - لما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء على العامة ، خرج علي - عليه السلام - فقال : أفسدت علينا أمورنا ، ولم تستشر ، ولم ترع لنا حقا.
فقال أبو بكر : بلى ، ولكني خشيت الفتنة (2).
3 - قوله - عليه السلام - : واعجبا أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة.
قال الشريف الرضي - رحمه اللّه - : وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو :
ص: 38
فإن كنت باشورى ملكت امورهم *** فكيف بهذا والمسشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك اولى بالنبي واقرب (1)
4 - قوله - عليه السلام : اللّهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قد قطعوا رحمي ، وأكفئوا إنائي ، واجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى من غيري ، وقالوا : ألا أن في الحق أن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مت متاسفا.
فنطرت فإذا ليس لي رافد ، ولا داب ولا داب ولا مساعد ، إلا مساعد ، الا أهل بيتي ، فضننت بهم عن المنية ، فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشجا ، وصبرت من كظم الغيظ على امر من العلقم ، والم للقلب من وخز
ص: 39
الشفار (1).
5 - قوله - عليه السلام - : أما بعد ، فإن اللّه سبحانه بعث محمدا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نذيرا للعالمين ، ومهيمنا على المرسلين ، فلما مضى - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الأسلام يدعون إلى محق دين محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فخشيت إن لم أنصر الأسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما ، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه (2).
6 - قال - عليه السلام - في خطبته الشقشقية :
أما واللّه لقد تقمصها فلان ، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن
ص: 40
حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ثم تمثل بقول الاعشى :
شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر
فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لاخر بعد وفاته ، لشدما تشطرا ضرعيها! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر اللّه بخبطٍ وشماسٍ ، وتلوّنٍ واعتراض ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر! لكني أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الاخر لصهره ، مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الأبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته! .... الخ الخطبة (1).
7 - ومن خطبة له - عليه السلام - يقول : وقدر قال قائل : انك على هذا
ص: 41
الأمر يا بن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخص وأقرب ، وإنما طلبت حقا لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه ، فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به؟
اللّهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هولي ، ثم قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه ... الخ الخطبة (1).
8 - سأله بعض أصحابه : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟
فقال - عليه السلام - : يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين ، ترسل في غير سدد ، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة ، وقد استعلمت فاعلم :
أما الاستبداد علينا بهذا المقام ، ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نوطا ، فإنها كانت أثرة (2) شحت
ص: 42
عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم اللّه والمعود إليه يوم القيامة.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته *** ولكن حديثا ما حديث الرواحل (1)
9 - ومن خطبة له - عليه السلام - قال : حتى إذا قبض اللّه رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، رجع قوم على الأعقاب (2) ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج (3) ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب (4) الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص (5) أساسه ، فبنوه في غير موضعه ، معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين (6).
ص: 43
10 - ومن خطبة له - عليه السلام - قال : أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا (1)؟ كذبا وبغيا علينا أن رفعنا اللّه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم ... الخ (2).
11 - قوله - عليه السلام - : اللّهم فاجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي ، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول ، وسابقتي في الأسلام إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن اللّه يعرفه ، والحمد لله على كل حال (3).
12 - قوله - عليه السلام - : إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الأبل وإن طال السرى.
13 - قوله - عليه السلام - : مازلت مظلوما منذ قبض اللّه رسوله حتى يوم الناس هذا.
14 - قوله - عليه السلام - : اللّهم أخز قريشا فإنها منعتني حقي ، وغصبتني أمري.
15 - قوله - عليه السلام - : فجزى قريشا عني الجوازي ، فإنهم
ص: 44
ظلموني حقي ، واغتصبوني سلطان ابن أمي.
16 - قوله - عليه السلام - وقد سمع صارخا ينادي : أنا مظلوم ، فقال : هلم فلنصرخ معا ، فإني مازلت مظلوما.
17 - قوله عليه السلام : اللّهم إني استعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي وغصبوني إرثي.
18 - قوله - عليه السلام - : مازلت مستأثرا علي ، مدفوعا عما أستحقه وأستوجبه.
19 - قوله - عليه السلام - : لقد ظلمت (1) عدد الحجر والمدر (2).
20 - ومن خطبة له - عليه السلام - بعد البيعة له قال : لا يقاس بآل محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من هذه الأمة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الان إذ رجع الحق إلى أهله (3) ، ونقل إلى منتقله (4).
21 - قوله - عليه السلام - : فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي
ص: 45
فضننت بهم عن الموت ، واغطيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم وعلي أمر من طعم العلقم (1).
22 - قوله - عليه السلام - : اللّهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ضروبا من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحلت بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة علي ، اللّهم احفظ حسنا وحسينا ، ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حيا ، فإذا توفيتني فأنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شئ شهيد (2).
23 - قوله - عليه السلام - : أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك من بعدي (3).
24 - قوله - عليه السلام - : قال لي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك ، وإلا فألصق كلكلك بالأرض ، فلما تفرقوا عني جررت على المكروه ذيلي ، وأغضيت على القذى جفني ، وألصقت بالأرض كلكلي (4).
25 - عن أنس بن مالك ، قال : كنا مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله
ص: 46
وسلم - ، وعلي بن ابي طالب معنا ، فمررنا بحديقة ، فقال علي : يا رسول اللّه ، ألا ترى ما أحسن هذه الحديقة!.
فقال : إن حديقتك في الجنة أحسن منها ، حتى مررنا بسبع حدائق ، يقول علي ما قال : ويجيبه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بما أجابه ، ثم إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقف ، فوقفنا ، فوضع رأسه على رأس علي وبكى.
فقال علي - عليه السلام - : ما يبكيك يا رسول اللّه؟
قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني.
فقال : يا رسول اللّه ، أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم.
قال : بل تصبر.
قال : فإن صبرت؟
قال : تلاقي جهدا.
قال : أفي سلامة من ديني؟
قال : نعم.
قال : فإذا لا أبالي (1).
26 - ومن احتجاجاته الشديدة قوله - عليه السلام - : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم (2).
27 - قوله - عليه السلام - : لما عزموا على بيعة عثمان : لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ، وواللّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة ، التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما
ص: 47
تنافستموه من زخرفه وزبرجه (1).
28 - قوله - عليه السلام - : فإنه لما قبض اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، قلنا : نحن أهله وورثته وعترته ، وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الأمرة لغيرنا وصرنا سوقة ، يطمع فينا الضعيف ، ويتعزز علينا الذليل ، فبكت الأعين منا لذلك ، وخشيت الصدور ، وجزعت النفوس ، وأيم اللّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ، ويبور الدين ، لكنا على غير ما كنا لهم عليه ... الخ (2).
29 - قوله - عليه السلام - في خطبته عند مسيره للبصرة :
إن اللّه لما قبض نبيه ، استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثوا عهد بالأسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقل خلف ، فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء ، واللّه ولي تمحيص سيئاتهم ، والعفو عن هفواتهم ... الخ (3).
30 - قوله - عليه السلام - : لا يعاب المرء بتأخير حقه ، إنما يعاب من أخذ ما ليس له. (4)
ص: 48
31 - قوله - عليه السلام - : كنت في أيام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كجزء من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ينظر إلي كما ينظر إلى الكواكب في أفق السماء ، ثم غض الدهر مني ، فقرن بي فلان وفلان ، ثم قرنت بخمسة أمثلهم عثمان ، فقلت : واذ فراه! ثم لم يرض الدهر لي بذلك ، حتى أرذلني ، فجعلني نظيرا لابن هند وابن النابغة! لقد استنت الفصال حتى القرعى (1).
32 - قوله - عليه السلام - : كل حقد حقدته قريش على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أظهرته في وستظهره في ولدي من بعدي ، مالي ولقريش! إنما وترتهم بأمر اللّه وأمر رسوله ، أفهذا جزاء من أطاع اللّه ورسوله إن كانوا مسلمين (2).
33 - قال له قائل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت لو كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ترك ولدا ذكرا قد بلغ الحلم ، وآنس منه الرشد ، أكانت
ص: 49
العرب تسلم إليه أمرها؟
قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ، إن العرب كرهت أمر محمد - صلى اللّه عليه وآله - وحسدته على ما آتاه اللّه من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها وأجمعت مذ كان حيا على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته ... إلى آخر كلامه - عليه السلام - (1).
34 - قال محمد بن حرب : لما توفي النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وجرى في السقيفة ما جرى تمثل علي - عليه السلام - :
وأصبح أقوام يقولون ما اشتهوا *** ويطغون لما غال زيدا غوائله (2)
35 - قال عاصم بن قتادة : لقي علي - عليه السلام - عمر ، فقال له علي : أنشدك اللّه هل استخلفك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
قال : لا.
قال : فكيف تصنع أنت وصاحبك؟!!
قال : أما صاحبي فقد مضى لسبيله ، وأما أنا فسأخلعها من عنقي إلى عنقك.
فقال : جذع اللّه أنف من ينقذك منها! لا ولكن جعلني اللّه علما فإذا قمت فمن خالفني ضل. (3)
36 - عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال : كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا - عليه السلام - يقول :
ص: 50
بايع الناس أبا بكر وأنا واللّه أولى بالأمر منه وأحق به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف ، ثم بايع الناس عمر وأنا واللّه أولى بالأمر منه وأحق به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف ، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان؟!!! إذا لا أسمع ولا أطيع وإن عمر جعلني من خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا عليهم في الصلاح ولا يعرفونه لي كلنا فيه شرع سواء وأيم اللّه لو أشاء أن أتكلم ثم لا يستطيع عربيهم ولا عجميهم ولا معاهد منهم ولا المشرك رد خصلة منها لفعلت (1).
إلى غير ذلك من احتجاجاته - عليه السلام - في شأن الخلافة ، وناهيك عن احتجاجاته ومناشداته بحديث الغدير في مواطن كثيرة منها في مسجد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بعد وفاته ، ويوم الشورى ، وأيام عثمان ، ويوم الرحبة ، ويوم الجمل ، وفي الكوفة ، ويوم صفين ، ومواطن أخرى (2).
1 - فمن خطبة لها حينما عدنها نساء المهاجرين والأنصار ، قالت : ويحهم أنى زحزحوها - أي الخلافة - عن رواسي الرسالة؟! وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين ، الطبن بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا واللّه نكير سيفه ، وشدة
ص: 51
وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات اللّه ، وتاللّه لو تكافأ واعلى زمام نبذه إليه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لاعتقله وسار بهم سيرا سجحا لا يكلم خشاشه ، ولا يتتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفتاه ، ولا يترنم جانباه ، ولأصدرهم بطانة ونصح لهم سرا وإعلانا ، غير متحل منهم بطائل إلا بغمر الناهل ، وردعة سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون ، ألا هلم واستمع وما عشت أراك الدهر عجبا ، وإن تعجب ، فقد أعجبك الحادث ، إلى أي لجأ لجأوا؟ وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا واللّه الذنابا بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ... إلى آخر الخطبة (2).
2 - ومن خطبة لها - عليها السلام - لما منعوها فدكا قالت :
فلما اختار اللّه لنبيه دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهر فيكم حسكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللعزة فيه ملاحظين ، ثم
ص: 52
استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير مشربكم ، هذا والعهد قريب والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة (1) ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (2) فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنى تؤفكون! وكتاب اللّه بين أظهركم ، أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا ، ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (3) ... إلى آخر الخطبة (4).
1 - لما رأى الحسن - عليه السلام - أبا بكر وهو يخطب على المنبر قال له : انزل عن منبر أبي.
فقال أبو بكر : صدقت واللّه إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي (5).
ص: 53
2 - احتجاجه على معاوية في الأمامة قال - عليه السلام - :
نحن نقول أهل البيت : إن الأئمة منا ، وإن الخلافة لا تصلح إلا فينا ، وإن اللّه جعلنا أهلها في كتابه وسنة نبيه ، وإن العلم فينا ونحن أهله ، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره ، وإنه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وبخط علي - عليه السلام - بيده وزعم قوم : أنهم أولى بذلك منا حتى أنت يا بن هند تدعي ذلك ... إلى آخر احتجاجه عليه السلام (1).
1 - روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فقال له الحسين - عليه السلام - من ناحية المسجد : انزل عن منبر أبي رسول اللّه ، لا منبر أبيك ، فقال له عمر : فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي (2).
1 - احتج على أبي بكر إذ قال له في كلام دار بينهما (3) :
فإن كنت برسول اللّه طلبت ، فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين
ص: 54
طلبت ، فنحن منهم متقدمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنما يجب لك ، فما وجب إذ كنا كارهين ... إلى آخر احتجاجه (1).
2 - قال اليعقوبي في تاريخه في خبر سقيفة بني ساعدة : وجاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم وقال : يا معشر بني هاشم ، بويع أبو بكر. فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال العباس : فعلوها ، ورب الكعبة (2)؟!!
1 - فمن احتجاج له على قريش قال فيه : يا معشر قريش ، وخصوصا يا بني تيم ، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة ، ونحن أهلها دونكم ، ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا ، حسدا منهم لنا ، وحقدا علينا ، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه (3).
2 - وقال أيضا لما بلغه نبأ بيعة أبي بكر : يا معشر قريش إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولى بها منكم (4).
ص: 55
لابن عباس - رضي اللّه عنه - الكثير من الاحتجاجات والمناظرات في أحقية أمير المؤمنين - عليه السلام - بالخلافة ، سوف تأتي في طيات هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
1 - احتجاج سلمان المحمدي - يوم بويع أبو بكر - قال - رضي اللّه عنه - :
أصبتم ذا السن منكم وأخطأتم أهل بيت نبيكم ، لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان ولأكلتموها رغدا (1).
2 - احتجاج سلمان المحمدي - رضي اللّه عنه - بعد وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما ترك القوم أمير المؤمنين - عليه السلام -.
ومن جملة ما قال في احتجاجه : أما واللّه لتركبن طبقا عن طبق ، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (2) ، أما والذي نفس سلمان بيده ، لو وليتموها عليا لأكلتم من فوقكم ، ومن تحت أقدامكم (3) ، ولو دعوتم
ص: 56
الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي اللّه ، ولا طاش لكم سهم من فرائض اللّه ، ولا اختلف اثنان في حكم اللّه ، ولكن أبيتم فوليتموها غيره ، فأبشروا بالبلايا واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.
عليكم بآل محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة ، عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - فواللّه لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين ، مرارا جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ، ويؤكده علينا ، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه؟! وقد حسد هابيل قابيل فقتله ... إلى آخر احتجاجه (1).
1 - قال ابن لهيعة : لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأبو ذر غائب ، وقدم وقد ولي أبو بكر ، فقال : أصبتم قناعه ، وتركتم قرابه ، لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان (2).
2 - روي أن أبا ذر كان يقول في عهد عثمان وقد كان واقفا بباب المسجد : وعلي بن أبي طالب وصي محمد ووارث علمه ، أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها أما لو قدمتم من قدم اللّه وأخرتم من أخر اللّه ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم ، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم ، ولما عال ولي اللّه ولاطاش سهم من فرائض اللّه ، ولا اختلف
ص: 57
اثنان في حكم اللّه إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب اللّه وسنة نبيه ، فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (1) ، (2).
احتجاج المقداد :
1 - من احتجاج له لما بويع عثمان ، روى بعضهم قال : دخلت مسجد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كانت الدنيا له فسلبها ، وهو يقول : واعجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين ... (3).
2 - عن المعروف بن سويد ، قال : كنت بالمدينة أيام بويع عثمان ، فرأيت رجلا في المسجد جالسا وهو يصفق بإحدى يديه على الأخرى ، والناس حوله ويقول : واعجبا من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، ونجوم الأرض ونور البلاد ، واللّه إن فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أولى منه بالحق ، ولا أقضى بالعدل ، ولا آمر بالمعروف ، ولا أنهى عن المنكر.
فسألت عنه فقيل : هذا المقداد ، فتقدمت إليه وقلت : أصلحك اللّه من الرجل الذي تذكره؟ فقال : ابن عم نبيك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
قال : فلبثت ما شاء اللّه ، ثم أني لقيت أبا ذر - رحمه اللّه - فحدثته ما قال
ص: 58
المقداد.
فقال : صدق.
قلت : فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم؟
قال : أبى ذلك قومهم.
قلت : فما يمنعكم أن تعينوهم؟
قال : مه لا تقل هذا ، إياكم والفرقة والاختلاف.
قال : فسكت عنه ثم كان من الأمر بعد ما كان (1).
قال علي بن سليمان النوفلي : سمعت أبيا يقول : ذكر سعد بن عبادة يوما عليا بعد يوم السقيفة ، فذكر أمرا من أمره نسيه أبو الحسن ، يوجب ولايته ، فقال له ابنه قيس بن سعد : أنت سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب - عليه السلام - ثم تطلب الخلافة ، ويقول أصحابك منا أمير ومنكم أمير! لاكلمتك واللّه من رأسي بعد هذا كلمة أبدا. (2)
وسوف يأتي احتجاجه على معاوية في شأن الخلافة ودفاعه عن أمير المؤمنين - عليه السلام -.
لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان وهو
ص: 59
يقول : أما واللّه إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ، يالعبد مناف ، فيم أبو بكر من أمركم! أين المستضاف؟ أين الأذلان! - يعني عليا والعباس - ، ما بال هذا في أقل حي من قريش ، ثم قال لعلي : ابسط يدك أبايعك ، فو اللّه إن شئت لأملأنها على أبي فضيل - يعني أبا بكر - خيلا ورجالا ، فامتنع عليه علي - عليه السلام - ، فلما يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس :
ولا يقيم على ضيم يراد به *** إلا الأذلان ، عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد (1).
ونكتفي بهذا القدر من الاحتجاجات مع الأحالة إلى بقية المناظرات الأخرى في أصل هذا الكتاب لما في بعضها من السبق الزماني الذي يعود إلى عصر صدر الأسلام.
وبعد كل هذه الشواهد والبراهين التي مرت عليك نستكشف أن مسألة الاحتجاج والمناظرة في أحقية أمير المؤمنين - عليه السلام - وإثبات ذلك بالنصوص الشرعية وغيرها تعود إلى الصدر الأول من الإسلام ، وهكذا استمرت عبر العصور المختلفة وإلى يومنا هذا.
ص: 60
مناظرة العباس (1) بن عبد المطلب (رحمه اللّه) مع أبي بكر وعمر
قال البراء بن عازب من حديث له في أمر الخلافة :
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، حتى دخلوا على العباس بن عبد المطلب في الليلة الثانية من وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.
قال : فتكلم أبو بكر فحمد اللّه جل وعز وأثنى عليه ثم قال : إن اللّه بعث لكم محمدا نبيا ، وللمؤمنين وليا ، فمن اللّه عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، وترك للناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولأمورهم راعيا ، فتوليت ذلك وما أخاف بعون اللّه وهنا ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا باللّه ، غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني فيقول بخلاف قول العامة ، فيتخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع ، وخطبه البديع ، فإما دخلتم مع فيما اجتمعوا عليه ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد
ص: 61
جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك ، إذ كنت عم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإن كان الناس أيضا قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا بهذا الأمر عنكما.
فقال عمر (1) : إي واللّه ، واخرى ، يا بني هاشم على رسلكم فإن رسول اللّه منا ومنكم ، ولم نأتكم لحاجة منا إليكم ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون ، فيتفاقم الخطب بكم فانظروا لأنفسكم وللعامة.
فتكلم العباس فقال : إن اللّه ابتعث محمدا - صلى عليه وآله وسلم - كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا ، فإن كنت برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - طلبت هذا الأمر فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، ما تقدمنا في أمرك ولا تشاورنا ولا تؤامرنا ، ولا نحب لك ذلك إذ كنا من المؤمنين وكنا لك من الكارهين!!
وأما قولك أن تجعل لي في هذا الأمر نصيبا ، فإن كان هذا الأمر لك خاصة ، فأمسك عليك فلسنا محتاجين إليك ، وإن كان حق المؤمنين فليس لك أن تحكم في حقهم ، وإن كان حقنا فإنا لا نرضى منك ببعضه دون بعض ، وأما قولك يا عمر إن رسول اللّه منا ومنكم ، فإن رسول اللّه شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها فنحن أولى به منكم؟!
وأما قولك إنا نخاف تفاقم الخي ب بلكم بهذا الذي فعلتموه أوائل
ص: 62
ذلك واللّه المستعان (1). فخرجوا من عنده وأنشأ العباس يقول (2) :
ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفاً *** عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعلم الناس بالاثار والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن *** جبريل عون له بالغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم *** وليس في الناس ما فيه من الحسن
من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه *** ها أن بيعتكم من أول الفتن (3)
ص: 63
عن طارق بن شهاب قال : لما قدم عمر الشام لقيه أساقفتها ورؤساؤها وقد تقدمه العباس بن عبد المطلب على فرس ، وكان العباس جميلا بهيا فجعلوا يقولون : هذا أمير المؤمنين ، ويقولون له : السلام عليك يا أمير المؤمنين فيقول : لست بأمير المؤمنين وأمير المؤمنين ورائي وأنا واللّه أولى بالأمر منه ، فسمعه عمر فقال : ما هذا يا أبا الفضل؟
قال : هو الذي سمعت.
فقال : لكن أنا وإياك قد خلفنا بالمدينة من هو أولى بها مني ومنك.
قال العباس : ومن هو؟
فقال : على بن أبي طالب.
قال : فما الذي منعك وصاحبك أن تقدماه؟
فقال : خشية أن يتوارثها عقبكم إلى يوم القيامة ، وكرهنا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة.
قال له العباس : من حسدنا فاءنما يحسد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - (1).
ص: 64
عليه ، ثم شرب من جر (1) كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، وطفق يحمد اللّه ، يكرر ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبد اللّه؟
قلت : من المسجد.
قال : كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر.
قلت : خلفته يلعب مع أترابه.
قال : لم أعن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت.
قلت : خلفته يمتح بالغرب (2) على نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن.
قال : عبد اللّه ، عليك دماء البدن إن كتمتنيها؟ هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟
قلت : نعم.
قال : أيزعم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نص عليه؟
قلت : نعم وأزيدك ، سألت أبي عما يدعيه ، فقال : صدق.
فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في أمره ذرو (3) من قول لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه (4) فمنعت من ذلك (5) إشفاقا
ص: 66
وحيطة على الأسلام! لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا؟
ولو وليها لا نتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أني علمت ما في نفسه ، فأمسك ، وأبى اللّه إلا إمضاء ما حتم (1).
ص: 67
يقول ابن عباس :
إني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة ، يده في يدي.
فقال : يابن عباس ، ما أظن صاحبك إلا مظلوما ، فقلت في نفسي : واللّه لا يسبقني بها.
فقلت : يا أمير المؤمنين ، فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ، ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف ، فلحقته.
فقال لي : يابن عباس ، ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه.
فقلت في نفسي : هذه شر من الأولى ، فقلت : واللّه ما استصغره اللّه حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (1).
ص: 68
قال : فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه (1).
ص: 69
قال ابن عباس :
كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فقال : أما واللّه يا بني عبد المطلب؟ لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي : لا أقالني اللّه إن أقلته.
فقلت : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟ وأنت وصاحبك وثبتما وأفرغتما الأمر منا دون الناس.
فقال : إليكم يا بني عبد المطلب؟ أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب.
فتأخرت وتقدم هنيهة.
فقال : سر لا سرت ، وقال : أعد على كلامك.
فقلت : إنما ذكرت شيئا فرددت عليه جوابه ولو سكت سكتنا.
فقال : إنا واللّه ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوة ولكن استصغرناه ، وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.
قال : فأردت أن أقول : كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره ، أفتستصغره أنت وصاحبك؟
فقال : لا جرم ، فكيف ترى؟ واللّه ما نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه (1).
ص: 70
قال عبد اللّه بن عمر :
كنت عند أبي يوما ، وعنده نفر من الناس ، فجرى ذكر الشعر ، فقال : من أشعر العرب؟
فقالوا : فلان وفلان ، فطلع عبد اللّه بن عباس ، فسلم وجلس ، فقال عمر : قد جاءكم الخبير ، من أشعر الناس يا عبد اللّه؟
قال : زهير بن أبى سلمى.
قال : فأنشدني مما تستجيده له.
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه مدح قوما من غطفان ، يقال لهم بنو سنان ، فقال :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم *** قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم *** طابوا وطاب من الاولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا ، جن إذا فزعوا *** مرزؤون بها ليل إذ جهدوا
محسدون على ما كان من نعم *** لا ينزع اللّه منهم ماله حسدوا
فقال عمر : واللّه لقد أحسن ، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم ، لقرابتهم من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
فقال ابن عباس : وفقك اللّه يا أمير المؤمنين ، فلم تزل موفقا.
فقال : يابن عباس ، أتدري ما منع الناس منكم؟
ص: 71
قال : لا يا أمير المؤمنين.
قال : لكني أدري.
قال : ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فيجخفوا جخفا (1) ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.
فقال ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟
قال : قل ما تشاء.
قال : أما قول أمير المؤمنين : إن قريشا كرهت ، فإن اللّه تعالى قال لقوم : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (2).
واما قولك : (إنا كنا نجخف) ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الذي قال اللّه تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3) ، وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (4).
وأما قولك : «فإن قريشا اختارت» ، فإن اللّه تعالى يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (5) وقد علمت يا أمير المؤمنين أن اللّه اختار من خلقه لذلك من اختار (6) ، فلو نظرت قريش من حيث نظر
ص: 72
اللّه لها لوفقت وأصابت قريش.
فقال عمر : على رسلك يابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول ، وحقدا عليها لا يحول. فقال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين؟ لا تنسب هاشما إلى الغش ، فإن قلوبهم من قلب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الذي طهره اللّه وزكاه ، وهم أهل البيت الذين قال اللّه تعالى لهم : ( إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (1).
وأما قولك : (حقدا) فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، ويراه في يد غيره.
فقال عمر : أما أنت يا بن عباس ، فقد بلغني عنك كلام أكره أن
ص: 73
أخبرك به ، فتزول منزلتك عندي.
قال : وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به ، فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقا فإن منزلتي لا تزول به.
قال : بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا الأمر منك حسدا وظلما.
قال : أما قولك يا أمير المؤمنين : (حسدا) ، فقد حسد إبليس آدم ، فأخرجه من الجنة ، فنحن بنو آدم المحسود.
وأما قولك : (ظلما) فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو!
ثم قال : يأمير المؤمنين ، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -! فنحن أحق برسول اللّه من سائر قريش.
فقال له عمر : قم الان فارجع إلى منزلك ، فقام ، فلما ولى هتف به عمر : أيها المنصرف ، إني على ما كان منك لراع حقك!
فالتفت ابن عباس فقال : إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ، ثم مضى.
فقال عمر لجلسائه : واها لا بن عباس ، ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه! (1).
ص: 74
عن ابن عباس قال :
مرّ عمر بعلى - عليه السلام - ، وأنا معه بفناء داره فسلم عليه.
فقال له على - عليه السلام - : أين تريد؟
قال : البقيع.
قال : أفلا تصل صاحبك ويقوم معك.
قال : بلى.
فقال لي علي - عليه السلام - : قم معه ، فقمت فمشيت إلى جانبه ، فشبك أصابعه في أصابعي ، ومشينا قليلا ، حتى إذا خلفنا البقيع.
قال لي : يابن عباس ، أما واللّه إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلا أنا خفناه على اثنين.
قال ابن عباس : فجاء بكلام لم أجد بدا من مسألته عنه.
فقلت : ما هما يا أمير المؤمنين؟
قال : خفناه على حداثة سنه ، وحبه بني عبد المطلب (1).
ص: 75
قال ابن عباس :
كنت عند عمر ، فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت.
فقلت : ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد!
قال : إي واللّه يا بن عباس! إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الامر بعدي ، ثم قال : لعلك ترى صاحبك لها أهلا!
قلت : وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه!
قال : صدقت ، ولكنه امرؤ فيه دعابة.
قلت : فأين أنت عن طلحة!
قال : ذو البأو (1) وبإصبعه المقطوعة!
قلت : فعبد الرحمن؟
قال : رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته.
قلت : فالزبير؟
قال : شكس لقس (2) يلاطم في النقيع في صاع من بر!
قلت : فسعد بن أبي وقاص؟
ص: 76
قال : صاحب سلاح ومقنب (1).
قلت : فعثمان؟
قال : أوه! ثلاثا ، واللّه لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ، ثم لتنهض العرب إليه.
ثم قال : يا بن عباس ، إنه لا يصلح لهذا الاءمر إلا خصف العقدة ، قليل الغرة ، لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، ثم يكون شديدا من غير عنف ، لينا من غير ضعف ، سخيا من غير سرف ، ممسكا من غير وكف (2).
قال : ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيئة ، وقال : أجرؤهم واللّه إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك! أما إن ولي أمرهم حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم (3).
ص: 77
ومن كلام دار بينهما ، قال له عثمان : إني أنشدك يا بن عباس الأسلام والرحم ، فقد واللّه غلبت وابتليت بكم ، واللّه لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني ، وكنت أحد أعوانكم عليه ، إذا واللّه لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي ، ولقد علمت أن الأمر لكم ، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم ، فو اللّه ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه؟!
قال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين ، فإنا ننشدك اللّه والأسلام والرحم ، مثل ما نشدتنا ، أن تطمع فينا وفيك عدوا ، وتشمت بنا وبك حسودا! إن أمرك إليك ما كان قولا ، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك ، وإنا واللّه لنخالفن إن خولفنا ، ولننازعن إن نوزعنا ، وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا!
فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد واللّه عرفته ، وبغي قد واللّه علمته ، فاللّه بيننا وبين قومنا!
وأما قولك : إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه؟ فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا وإنا لأهل الفضل وأهل القدر ، وما فضل فاضل إلا بفضلنا ، ولا سبق سابق إلا بسبقنا ، ولولا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى ، ولا قصدوا من جور ... الخ (1).
ص: 78
مناظرة عبد اللّه بن عباس - رضي اللّه عنهما - مع الحرورية (1)
قال عبد اللّه بن عباس : لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دارهم وكانوا ستة آلاف.
فقلت لعلي - عليه السلام - : يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر ، لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم.
قال : إني أخاف عليك.
قلت : كلا.
قال : فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائلون ، فسلمت عليهم.
فقالوا : مرحبا بك يابن عباس ، فما جاء بك؟
ص: 79
قلت لهم : أتيتكم من عند أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وصهره ، وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد ، لأبلغكم ما يقولون ، وأخبرهم بما تقولون.
قلت : أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وابن عمه؟
قالوا : ثلاث.
قلت : ما هن؟
قالوا : أما إحداهن ، فإنه حكم الرجال في أمر اللّه ، وقال اللّه تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (1) ، ما شأن الرجال والحكم؟!
فقلت : هذه واحدة.
قالوا : وأما الثانية ، فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فإن كانوا كفارا سلبهم ، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم (2).
قلت : هذه اثنتان ، فما الثالثة؟
قالوا : إنه محى نفسه عن أمير المؤمنين ، فهو أمير الكافرين.
قلت : هل عندكم شئ غير هذا؟
قالوا : حسبنا هذا.
قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب اللّه ومن سنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ما يرد قولكم ، أترضون؟
قالوا : نعم.
ص: 80
قلت : أما قولكم حكم الرجال في أمر اللّه ، فأنا أقرأ عليكم في كتاب اللّه أن قد صير اللّه حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم ، فأمر اللّه الرجال أن يحكموا فيه ، قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (1) الاية ، فأنشدتكم باللّه تعالى : أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل؟ أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم ، وأنت تعلمون أن اللّه تعالى لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال؟
قالوا : بل هذا أفضل.
وفي المرأة وزوجها قال اللّه عزوجل : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) (2) الاية ، فنشدتكم باللّه حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في امرأة؟ أخرجت من هذه؟
قالوا : نعم.
قلت : وأما قولكم : قاتل ولم يسب ولم يغنم ، أفتسبون أمكم عائشة ، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها ، وهي أمكم؟ فإن قلتم : إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها ، فقد كفرتم ، ولأن قلتم : ليست بأمنا ، فقد كفرتم ، لأن اللّه تعالى يقول : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (3). فأنتم تدورون بين ضلالتين ، فأتوا منهما بمخرج؟
قلت : فخرجت من هذه؟
ص: 81
قالوا : نعم.
وأما قولكم : محى اسمه من أمير المؤمنين ، فأنا آتيكم بمن ترضون ، وأراكم قد سمعتم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي - عليه السلام - : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فقال المشركون : لا واللّه ، ما نعلم أنك رسول اللّه ، لو نعلم أنك رسول اللّه لأطعناك ، فاكتب محمد بن عبد اللّه ، فقال رسول - اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - : امح يا علي (رسول اللّه) اللّهم إنك تعلم أني رسولك ، امح يا علي واكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه. فواللّه لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خير من علي ، وقد محا نفسه ، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة؟ (1).
خرجت من هذه؟
قالوا : نعم.
فرجع منهم ألفان ، وخرج سائرهم ، فقتلوا على ضلالتهم ، فقتلهم المهاجرون والأنصار (2).
ص: 82
حضر عبد اللّه بن عباس مجلس معاوية بن أبي سفيان فأقبل عليه معاوية.
فقال : يابن عباس إنكم تريدون أن تحرزوا الأمامة كما اختصصتم بالنبوة ، واللّه لا يجتمعان أبدا ، إن حجتكم في الخلافة مشتبهة على الناس ، إنكم تقولون : نحن أهل بيت النبي - صلى اللّه عليه وآله - فما بال خلافة النبوة في غيرنا؟
وهذه شبهة لأنها تشبه الحق وبها مسحة من العدل ، وليس الأمر كما تظنون ، إن الخلافة تتقلب في أحياء قريش برضا العامة ، وشورى الخاصة ولسنا نجد الناس يقولون : ليت بني هاشم ولونا ، ولو ولونا كان خيرا لنا في دنيانا وأخرانا ، ولو كنتم زهدتم فيها أمس كما تقولون ، ما قاتلتم عليها اليوم ، واللّه لو ملكتموها يا بني هاشم لما كانت ريح عاد ولا صاعقة ثمود بأهلك للناس منكم.
فقال ابن عباس - رحمه اللّه - : أما قولك يا معاوية : إنا نحتج بالنبوة في استحقاق الخلافة ، فهو واللّه كذلك ، فإن لم تستحق الخلافة بالنبوة ، فبم تستحق؟
وأما قولك : إن الخلافة والنبوة لا يجتمعان لأحد ، فأين قول اللّه عزوجل : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
ص: 83
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) (1) فالكتاب هو النبوة ، والحكمة هي السنة ، والملك هو الخلافة ، فنحن آل إبراهيم ، والحكم بذلك جار فينا إلى يوم القيامة.
وأما دعواك على حجتنا أنها مشتبهة ، فليس كذلك ، وحجتنا أضوأ من الشمس وأنور من القمر ، كتاب اللّه معنا ، وسنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله - فينا ، وإنك لتعلم ذلك ، ولكن ثنى عطفك وصعرك (2) قتلنا أخاك وجدك وخالك وعمك ، فلا تبك على أعظم حائلة وأرواح في النار هالكة ، ولا تغضبوا لدماء أراقها الشرك ، وأحلها الكفر ، ووضعها الدين.
وأما ترك تقديم الناس لنا فيما خلا ، وعدولهم عن الأجماع علينا ، فما حرموا منا أعظم مما حرمنا منهم ، وكل أمر إذا حصل حاصله ثبت حقه ، وزال باطله.
وأما افتخارك بالملك الزائل ، الذي توصلت إليه بالمحال الباطل ، فقد ملك فرعون من قبلك فأهلكه اللّه ، وما تملكون يوما يا بني أمية الا
ص: 84
ونملك بعدكم يومين ، ولا شهرا إلا شهرين ، ولا حولا إلا ملكنا حولين.
وأما قولك : إنا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد وصاعقة ثمود ، فقول اللّه يكذبك في ذلك قال اللّه عزوجل : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) فنحن أهل بيته الأدنون ، وظاهر العذاب بتملكك رقاب المسلمين ظاهر للعيان ، وسيكون من بعدك تملك ولدك وولد أبيك أهلك للخلق من الريح العقيم ، ثم ينتقم اللّه بأوليائه ، وتكون العاقبة للمتقين (2).
ص: 85
مناظرة محمد بن أبي بكر (1) مع معاوية
لما صرف علي - عليه السلام - قيس بن سعد بن عبادة عن مصر ، وجه مكانه محمد بن أبي بكر ، فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتابا فيه : من محمد بن أبي بكر ، إلى الغاوي معاوية بن صخر ، أما بعد ، فإن اللّه بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه ، ولا ضعف في قوته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم غويّاً ورشيداً ، وشقيّاً
ص: 86
وسعيدا ، ثم اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمدا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فانتخبه بعلمه ، واصطفاه برسالته ، وائتمنه على وحيه ، وبعثه رسولا ومبشرا ونذيرا ووكيلا فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب - عليه السلام - صدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، ووقاه بنفسه كل هول ، وحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع ، حتى برز سابقا لا نظير له فيمن اتبعه ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو ، أصدق الناس نية ، وأفضل الناس ذرية ، وخير الناس زوجة ، وأفضل الناس ابن عم ، أخوه الشاري بنفسه يوم مؤتة ، وعمه سيد الشهداء يوم أحد ، وأبوه (1) الذاب عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعن حوزته ،
ص: 87
ص: 88
وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الغوائل ، وتجهدان في إطفاء نور اللّه ، تجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتؤلبان عليه القبائل ، وعلى ذلك مات أبوك ، وعليه خلفته ، والشهيد عليك من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق ، والشاهد لعلي - مع فضله المبين القديم - أنصاره الذين معه وهم الذين ذكرهم اللّه بفضلهم ، وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار ، وهم معه كتائب وعصائب ، يرون الحق في اتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف يالك الويل! تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ووصيه وأبو ولده ، أول الناس له اتباعا ، وأقربهم به عهدا ، يخبره بسره ، ويطلعه على أمره ، وأنت عدوه وابن
ص: 89
عدوه ، فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك ، وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا ، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمنت كيده ، ويئست من روحه ، فهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور ، والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب إليه معاوية : من معاوية بن صخر ، إلى الزاري على أبيه محمد ابن أبي بكر ، أما بعد : فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما اللّه أهله في عظمته وقدرته وسلطانه ، وما اصطفى به رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، مع كلام كثير لك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه ، وقرابته إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومواساته إياه في كل هول وخوف ، فكان احتجاجك علي وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فأحمد ربا صرف هذا الفضل عنك ، وجعله لغيرك ، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازما لنا مبرورا علينا ، فلما اختار اللّه لنبيه - عليه الصلاة والسلام - ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأبلج حجته ، وقبضه اللّه إليه - صلوات اللّه عليه - ، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه ، وخالفه على أمره ، على ذلك اتفقا واتسقا.
ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما ، وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، ثم إنه بايع لهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضهما اللّه.
ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بسيرهما ، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصى من أهل المعاصي ، فطلبتما له الغوائل ،
ص: 90
وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه منا كما ، فخذ حذرك يابن أبي بكر ، وقس شبرك بفترك ، يقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال بحلمه ، لا يلين عن قسر قناته ، ولا يدرك ذو مقال أناته أبوك مهدمهاده ، وبنى لملكه وساده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبد به ونحن شركاؤه ، ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولسلمنا إليه ، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله ، فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك ، والسلام على من أناب (1).
ص: 91
مناظرة عبد اللّه بن جعفر (1) مع معاوية بن أبي سفيان
قال عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب : كنت عند معاوية ومعنا الحسن والحسين - عليهما السلام - وعنده عبد اللّه بن عباس فالتفت إلي معاوية فقال : يا عبد اللّه ما أشد تعظيمك للحسن والحسين - عليهما السلام -؟! وما هما بخير منك ولا أبوهما خير من أبيك ، ولو لا أن فاطمة بنت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لقلت ما أمك أسماء بنت عميس بدونها.
فقلت : واللّه إنك لقليل العلم بهما وبأبيهما وبامهما ، بل واللّه لهما خير مني ، وأبوهما خير من أبي ، وأمهما خير من أمي.
ص: 92
يا معاوية ، إنك لغافل عما سمعته أنا من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - يقول فيهما وفي أبيهما وأمهما ، قد حفظته ووعيته ورويته.
قال : هات يا ابن جعفر فو اللّه ما أنت بكذاب ولا متهم؟
فقلت : إنه أعظم مما في نفسك.
قال : وإن كان أعظم من أحد وحراء جميعا ، فلست أبالي إذا قتل اللّه صاحبك ، وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله ، فحدثنا فما نبالي بما قلتم ولا يضرنا ما عدمتم.
قلت : سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وقد سئل عن هذه الاية : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (1).
فقال : إني رأيت اثني عشر رجلا من أئمة الضلالة يصعدون منبري وينزلون ، يردون أمتي على أدبارهم القهقرى (2) وسمعته يقول : إن بني
ص: 93
أبي العاص إذا بلغوا خمسة عشر رجلا جعلوا كتاب اللّه دخلا ، وعباد اللّه خولا ، ومال اللّه دولا (1).
يا معاوية إني سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - يقول على المنبر وأنا بين يديه وعمر بن أبي سلمة ، وأسامة بن زيد ، وسعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر ، والمقداد ، والزبير بن العوام ، وهو يقول : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلنا : بلى. يا رسول اللّه ، قال : أليس أزواجي أمهاتكم؟!
قلنا : بلى يا رسول اللّه.
قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، أولى به من نفسه ، وضرب بيده على منكب علي فقال : اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه (2) ، أيها الناس ،
ص: 94
أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معي أمر ، وعلي من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معه أمر ، ثم ابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معه أمر ، ثم عاد فقال : أيها الناس ، إذا أنا استشهدت فعلي أولى بكم من أنفسكم ، فإذا استشهد علي فابني الحسن أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، فإذا استشهد الحسن فابني الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، فإذا استشهد الحسين فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر ، ثم أقبل علي - عليه السلام - فقال : يا علي ، إنك ستدركه فأقرأه مني السلام ، فإذا استشهد فابني محمد أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، وستدركه أنت يا حسين فأقرأه مني السلام ، ثم يكون في عقب محمد رجال ، واحد بعد واحد ، وليس منهم أحد إلا وهو أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر ، كلهم هادون مهتدون (1).
ص: 95
ص: 96
(الى أن قال) : فقال معاوية : يابن جعفر ، لقد تكلمت بعظيم ولئن كان ما تقول حقا لقد هلكت أمة محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من المهاجرين والأنصار غيركم أهل البيت وأولياءكم وأنصاركم؟
فقلت : واللّه إن الذي قلت حق سمعته من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال معاوية : يا حسن ويا حسين ويا بن عباس ما يقول ابن جعفر؟!
فقال ابن عباس : إن كنت لا تؤمن بالذي قال فأرسل إلى الذين
ص: 97
سماهم فاسألهم عن ذلك.
فأرسل معاوية إلى عمر بن أبي سلمة ، وإلى أسامة بن زيد فسألهما ، فشهدا أن الذي قال ابن جعفر قد سمعناه من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كما سمعه.
فقال معاوية : يابن جعفر قد سمعناه في الحسن والحسين وفي أبيهما ، فما سمعت في أمهما؟! - ومعاوية كالمستهزئ والمنكر!
فقلت : سمعت من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : ليس في جنة عدن منزل أشرف ولا أفضل ولا أقرب إلى عرش ربي من منزلي ، ومعي ثلاثة عشر من أهل بيتي أخي علي وابنتي فاطمه وأبناي الحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين ، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، هداة مهتدون ، وأنا المبلغ عن اللّه ، وهم المبلغون عني ، وهم حجج اللّه على خلقه ، وشهداؤه في أرضه ، وخزانه على علمه ، ومعادن حكمته ، من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم عصى اللّه ، لا تبقى الأرض طرفة عين (إلا) ببقائهم ، ولا تصلح إلا بهم ، يخبرون الأمة بأمر دينهم ، حلالهم وحرامهم ، يدلونهم على رضا ربهم ، وينهونهم عن سخطه ، بأمر واحد ونهي واحد ، ليس فيهم اختلاف ولا فرقة ولا تنازع ، يأخذ آخرهم عن أولهم إملائي وخط أخي علي بيده ، يتوارثونه إلى يوم القيامة ، أهل الأرض كلهم في غمرة وغفلة وتيهة وحيرة غيرهم وغير شيعتهم وأوليائهم ، لا يحتاجون إلى أحد من الأمة في شئ من أمر دينهم ، والأمة تحتاج إليهم ، هم الذين عنى اللّه في كتابه وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسول اللّه ، فقال : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
ص: 98
مِنْكُمْ ) (1).
فأقبل معاوية على الحسن والحسين وابن عباس والفضل بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد ، فقال : كلكم على ما قال ابن جعفر؟!
قالوا : نعم.
قال : يا بني عبد المطلب إنكم لتدعون أمرا عظيما وتحتجون بحجج قوية ، إن كانت حقا! وإنكم لتضمرون على أمر تسرونه والناس عنه في غفلة عمياء ، ولئن كان ما يقولون حقا لقد هلكت الأمة ، وارتدت عن دينها ، وتركت عهد نبينا غيركم أهل البيت ، ومن قال بقولكم ، فأولئك في الناس قليل.
فقلت : يا معاوية إن اللّه تبارك وتعالى يقول : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2).
ويقول : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (3). ويقول : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) (4). ويقول لنوح - عليه السلام - : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (5).
ص: 99
يا معاوية ، المؤمنون في الناس قليل ، وإن أمر بني اسرائيل أعجب حيث قالت السحرة لفرعون : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا ) (1). فآمنوا بموسى وصدقوه واتبعوه ، فسار بهم وبمن تبعه من بني اسرائيل ، فأقطعهم البحر وأراهم الأعاجيب ، وهم يصدقون به وبالتوراة ، يقرون له بدينه ، فمر بهم على قوم يعبدون أصناما لهم فقالوا : ( يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) (2). ثم اتخذوا العجل فعكفوا عليه جميعا غير هارون وأهل بيته.
وقال لهم السامري : ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) (3). وقال لهم بعد ذلك : ( ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) (4). فكان من جوابهم ما قص اللّه في كتابه : ( إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) (5) قال موسى عليه السلام : ( رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (6).
فاحتذت هذه الأمة ذلك المثال سواء ، وقد كانت فضائل وسوابق مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومنازل منه قريبة ، مقرين بدين محمد والقرآن ، حتى فارقهم نبيهم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاختلفوا وتفرقوا وتحاسدوا وخالفوا إمامهم ووليهم ، حتى لم يبق منهم على ما عاهدوا عليه نبيهم ، غير صاحبنا الذي هو من نبينا - صلى اللّه عليه وآله
ص: 100
وسلم - بمنزلة هارون من موسى ، ونفر قليل لقوا اللّه عزوجل على دينهم وإيمانهم ، ورجع الاخرون القهقرى على أدبارهم كما فعل أصحاب موسى - عليه السلام - باتخاذهم العجل وعبادتهم إياه ، وزعمهم أنه ربهم ، وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته.
ونبينا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد نصب لأمته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير خم (1) وفي غير موطن ، واحتج عليهم به وأمرهم بطاعته ، وأخبرهم أنه منه بمنزلة هارون من موسى (2) ، وأنه ولي كل مؤمن بعده ، وأنه كل من كان وليه ، فعلي وليه ، ومن كان أولى به من نفسه فعلي أولي به ، وأنه خليفته فيهم ووصيه ، وأن من أطاعه أطاع اللّه ومن عصاه عصى اللّه ، ومن والاه والى اللّه ، ومن عاداه عادى اللّه ، فأنكروه
ص: 101
وجهلوه وتولوا غيره!!
يا معاوية أما علمت أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حين بعث إلى مؤتة أمر عليهم جعفر بن أبي طالب ، ثم قال إن هلك جعفر فزيد ابن حارثة ، فإن هلك زيد فعبد اللّه بن رواحة ، ولم يرض لهم أن يختاروا لأنفسهم.
أفكان يترك أمته لا يبين لهم خليفته فيهم؟! بلى واللّه ، ما تركهم في عمياء ولا شبهة ، بل ركب القوم ما ركبوا بعد نبيهم ، وكذبوا على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فهلكوا وهلك من شايعهم ، وضلوا وضل من تابعهم ، فبعدا للقوم الظالمين.
فقال معاوية : يابن عباس إنك لتتفوه بعظيم! والاجتماع عندنا خير من الاختلاف ، وقد علمت أن الأمة لم تستقم على صاحبك.
فقال ابن عباس : إني سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها (1) ، وإن هذه الأمة اجتمعت على أمور كثيرة ليس بينها اختلاف ولا منازعة ولا فرقة شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، والصلوات الخمس ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت ، وأشياء كثيرة من طاعة اللّه ونهي اللّه ، مثل : تحريم الزنا ، والسرقة ، وقطع الأرحام ، والكذب ، والخيانة ، واختلفت في شيئين :
أحدهما : اقتتلت عليه وتفرقت فيه وصارت فرقا ، يلعن بعضها بعضاً ويبرأ بعضها من بعض.
ص: 102
والثاني : لم تقتتل عليه ولم تتفرق فيه ، ووسع بعضهم فيه لبعض ، وهو كتاب اللّه وسنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وما يحدث زعمت أنه ليس في كتاب اللّه ولا سنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
وأما الذي اختلفت فيه وتفرقت وتبرأت بعضها من بعض ، فالملك والخلافة ، زعمت أنها أحق بهما من أهل بيت نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فمن أخذ بما ليس فيه - بين أهل القبلة - أختلاف ورد علم ما اختلفوا فيه إلى اللّه سلم ونجا من النار ، ولم يسأله اللّه عما أشكل عليه من الخصلتين اللتين اختلف فيهما ، ومن وفقه اللّه ومن عليه ونور قلبه وعرفه ولاة الأمر ومعدن العلم أين هو ، فعرف ذلك كان سعيدا ولله وليا ، وكان نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : رحم اللّه عبدا قال حقا فغنم أو سكت فلم يتكلم (1).
فالأئمة من أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومنزل الكتاب ، ومهبط الوحي ومختلف الملائكة ، لا تصلح إلا فيها ، لأن اللّه خصها وجعلها أهلا في كتابه على لسان نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فالعلم فيهم وهم أهله وهو عندهم كله بحذافيره ، باطنه وظاهره ، ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه.
يا معاوية إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمرته إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - أني أريد أن أكتب القرآن في مصحف فابعث الينا ما كتبت من القرآن.
فقال : تضرب واللّه عنقي قبل أن تصل إليه.
ص: 103
قلت : ولم؟!
قال : إن اللّه يقول : ( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (1). يعني لا يناله كله إلا المطهرون ، إيانا عنى ، نحن الذين أذهب اللّه عنا الرجس وطهرنا تطهيرا (2) ، وقال : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (3).
ص: 104
فنحن الذين اصطفانا اللّه من عباده ، ونحن صفوة اللّه ولنا ضرب الامثال وعلينا نزل الوحي.
فغضب عمر وقال : ان إبن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم غيره ، فمن كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتنا به ، فكان إذا جاء رجل بقرآن فقرأه ومعه آخر كتبه ، وإلا لم يكتبه.
فمن قال - يا معاوية - : إنه ضاع من القرآن شئ فقد كذب ، هو عند أهله مجموع.
ثم أمر عمر قضاته وولاته فقال : اجتهدوا رأيكم ، واتبعوا ما ترون أنه الحق ، فلم يزل هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة فكان علي بن أبي طالب - عليه السلام - يخبرهم بما يحتج به عليهم ، وكان عماله وقضاته يحكمون في شئ واحد بقضايا مختلفة فيجيزها لهم ، لأن اللّه لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب ، وزعم كل صنف من أهل القبلة أنهم معدن العلم والخلافة دونهم ، فباللّه نستعين على من جحدهم حقهم ، وسن للناس ما يحتج به مثلك عليهم ، ثم قاموا فخرجوا (1).
ص: 105
مناظرة قيس بن سعد (1) وابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان
قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - وبعد ما مات الحسن - عليه السلام - ، فاستقبله أهل المدينة ، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار ، فسأل عن
ص: 106
ذلك فقيل : إنهم محتاجون ليست لهم دواب.
فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال : يا معشر الأنصار ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟
فقال قيس وكان سيد الأنصار وابن سيدهم : أقعدنا يا أمير المؤمنين أن لم تكن لنا دواب.
قال معاوية فأين النواضح؟
فقال قيس : أفنيناها يوم بدر ويوم أحد وما بعدهما في مشاهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حين ضربناك وأباك على الأسلام حتى ظهر أمر اللّه وأنتم كارهون.
قال معاوية : اللّهم غفرا.
قال قيس : أما إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : سترون بعدي أثرة (1).
ثم قال : يا معاوية تعيرنا بنواضحنا ، واللّه لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور اللّه ، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثم دخلت أنت وأبوك كرها في الأسلام الذي ضربناكم عليه.
فقال معاوية : كأنك تمن علينا بنصرتك إيانا ، فلله ولقريش بذلك المن والطول ، ألستم تمنون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول اللّه
ص: 107
وهو من قريش ، وهو ابن عمنا ومنا ، فلنا المن والطول أن جعلكم اللّه أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.
فقال قيس : إن اللّه بعث محمدا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة ، وإلى الجن والأنس ، والأحمر والأسود والأبيض ، اختاره لنبوته واختصه برسالته ، فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأبو طالب يذب عنه ، ويمنعه ويحول بين كفار قريش وبين أن يردعوه أو يؤذوه ، فأمره أن يبلغ رسالة ربه ، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى ، حتى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه بمؤازرته ، فآزره ونصره وجعل نفسه دونه في كل شديدة ، وكل ضيق ، وكل خوف ، واختص اللّه بذلك عليا - عليه السلام - من بين قريش ، وأكرمه من بين جميع العرب والعجم.
فجمع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - جميع بني عبد المطلب ، فيهم أبو طالب ، وأبو لهب وهم يومئذ أربعون رجلا ، فدعاهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وخادمه علي - عليه السلام - ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حجر عمه أبي طالب.
فقال أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي ، وولي كل مؤمن بعدي؟ فسكت القوم حتى أعادها ثلاثا.
فقال علي - عليه السلام - : أنا يا رسول اللّه عليك - فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه.
وقال : اللّهم املا جوفه علما وفهما وحكما ، ثم قال لأبي طالب : يا أبا
ص: 108
طالب اسمع الان لابنك وأطع (1) ، فقد جعله اللّه من نبيه بمنزلة هارون من موسى واخى - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بين علي وبين نفسه (2).
فلم يدع قيس شيئا من مناقبه الا ذكرها واحتج بها.
وقال : منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين ، اختصه اللّه بذلك من بين الناس ، ومنهم حمزة سيد الشهداء ، ومنهم فاطمة سيدة نساء اهل الجنة ، فإذا وضعت من قريش رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأهل بيته منكم.
لقد قبض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاجتمعت الأنصار إلى أبي ، ثم قالوا نبايع سعدا (3) فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته - عليهم السلام - وخاصومنا بحقه وقرابته ، فما يعدوا قريش أن يكونوا ظلموا الانصار وظلموا آل محمد - عليهم السلام - ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي - عليه السلام - وولده من بعده.
فغضب معاوية وقال : يا بن سعد عمن أخذت هذا ، وعمن رويته ،
ص: 109
وعمّن سمعته ، أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟!
فقال قيس : سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي ، وأعظم عليَّ حقاً من أبي.
قال : مَن؟
قال : علي بن أبي طالب - عليه السلام - عالم هذه الامة وصدّيقها الّذي أنزل اللّه فيه : ( قُل كفى باللّه شهيداً بيني وبينكم ومَن عنده علم الكتاب ) (1) فلم يدع آية نزلت في عليّ إلّا ذكرها.
ص: 110
قال معاوية : فإن صديقها أبو بكر ، وفاروقها عمر ، والذي عنده علم الكتاب عبد اللّه بن سلام.
قال قيس : أحق هذه الاسماء وأولى بها الذي أنزل اللّه فيه : ( أفمن كان علي بينه من ربه ويتوله شاهد منه ) (1) والذي نصبه رسول اللّه - صلى
ص: 111
اللّه عليه وآله وسلم - بغدير خم فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه (1) وفي غزوة تبوك أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي (2).
وكان معاوية يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة إلى عماله ، إلا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي وأهل بيته ، وقامت الخطباء في كل كورة (3) ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب - عليه السلام - والبراءة منه والوقيعة في أهل بيته - عليهم السلام - واللعن لهم بما ليس فيهم (4) - عليهم السلام -.
ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا إليه غير عبد اللّه ابن العباس.
فقال له : يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي اياكم يوم صفين ، يابن عباس إن عمي عثمان قتل مظلوما.
قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما (5) فسلم الأمر إلى
ص: 112
ولده وهذا ابنه.
قال : إن عمر قتله مشرك.
قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟
قال : قتله المسلمون.
قال : فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلا بحق.
قال : فإنا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك يابن عباس وأربع على نفسك (1).
قال : فتنهانا عن قراءة القرآن؟
قال : لا.
قال : فتنهانا عن تأويله؟
قال : نعم.
قال : فنقرأه ولا نسأل عما عنى اللّه به؟
قال : نعم.
قال : فأيما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟
قال : العمل به.
قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا؟
قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
قال : أنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط واليهود والنصارى والمجوس؟!!
ص: 113
قال : فقد عدلتنا بهم.
قال : لعمري ما أعدلك بهم ، إلا إذا نهيت الأمة أن يعبدو اللّه بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي ، أو حلال وحرام ، أو ناسخ أو منسوخ ، أو عام أو خاص ، أو معكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.
قال معاوية : فاقرؤا القرآن ولا ترووا شيئا مما أنزل اللّه فيكم وما قال رسول اللّه وارووا ما سوى ذلك.
قال ابن عباس : قال اللّه تعالي في القرآن ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1).
قال معاوية : يابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك وإن كنت لا بد فاعلا فليكن سرا ولا تسمعه أحدا علانية ثم رجع الى منزله (2)
ص: 114
مناظرة أروى (1) بنت الحارث بن عبد المطلب
مع معاوية روى ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك ، قال : دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة ، فلما راها قال : مرحبا بك يا عمه.
ص: 115
قالت : كيف أنت يا بن أخي ، لقد كفرت بعدي بالنعمة إسأت لابن عمك الصحبة ، وتسميت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك ، بغير بلاء كان منك ، ولا من آبائك في الاسلام ، ولقد كفرتم بما جاء به محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فأتعس اللّه منكم الجدود ، وأصعر منكم الخدود حتى رد اللّه الحق إلى أهله ، وكانت كلمة اللّه هي العليا ، ونبينا محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو المنصور على من ناواه ولو كره المشركون ، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظا ونصيبا وقدرا ، حتى قبض اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مغفورا ذنبه مرفوعا درجته ، شريفا عند اللّه مرضيا ، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ، يستحيون نساءهم ، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى (1) ، حيث يقول : ( أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (2) ولم يجمع بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لنا شمل ولم يسهل لنا وعر وغايتنا الجنة وغايتكم النار.
ص: 116
قال عمرو بن العاص : أيتها العجوز الضالة ، أقصري من قولك ، وغضي من طرفك.
قالت : ومن أنت لا أم لك؟
قال : عمرو بن العاص.
قالت : يا بن اللخناء النابغة ، أتكلمني أربع على ظلعك ، واعن بشأن نفسك فواللّه ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ، ولا كريم منصبها ، ولقد ادعاك ستة من قريش ، كل يزعم أنه أبوك ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر (أي فاجر) فأتم بهم فإنك بهم أشبه.
فقال مروان الحكم : أيتها العجوز الضاله ، ساخ بصرك مع ذهاب عقلك ، فلا يجوز شهادتك.
قالت : يا بني ، أتتكلم فواللّه لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم وإنك لشبهه في رزقه عينيك وحمرة شعرك مع قصر قامته وظاهر دمامته ، ولقد رأيت الحكم ماد القامة ، طاهر الأمة سبط الشعر ، وما بينكما قرابة ألا كقرابة الفرس الضامر من الاتان المقرب ، فاسأل أمك عما ذكرك لك فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.
ثم التفتت إلى معاوية فقالت : واللّه ما عرضني لهؤلاء غيرك وإن أمك للقائلة في يوم أحد في قتل حمزة - رحمة اللّه عليه - :
نحن جزيناكم بيوم بدر *** والحرب يوم الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر *** أبي وعمي وأخي وصهري
شفيت وحشي غليل صدري *** شفيت نفسي وقضيت نذري
فشكر وحشي علي عمري *** حتى تغيب أعظمي في قبري
فأجبتها :
ص: 117
يا بنت رقاع عظيم الكفر *** خزيت في بدر وغير بدر
صبحك اللّه قبيل الفجر *** بالهاشميين الطول الزهر
بكل قطاع حسام يفري *** حمزة ليثي وعلي صقري
إذ رام شبيب وابوك غدري *** أعطيت وحشي ضمير الصدر
هتك وحشي حجاب الستر *** ما للبغايا بعدها من فخر
فقال معاوية لمروان وعمرو ويلكما أنتما عرضتماني لها واسمعتماني ما أكره ، ثم قال لها : يا عمة اقصدي قصد حاجتك ودعي عنك أساطير النساء.
قالت : تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار والفي دينار.
قال : ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟
قالت : أشتري بها عينا خرخارة في أرض خوارة تكون لولد الحارث بن المطلب.
قال : نعم الموضع وضعتها ، فما تضيعين بألفي دينار؟
قالت : أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.
قال : نعم الموضع وضعتها ، فما تصنعين بألفي دينار؟
قالت : أستعين بها على عسر المدينة وزيارة بيت اللّه الحرام.
قال : نعم الموضع وضعتها ، هي لك نعم وكرامة ، ثم قال : أما واللّه لو كان علي ما أمر لك بها.
قالت : صدقت إن عليا أدى الامانة ، وعمل بأمر اللّه ، وأخذ به ، وأنت ضيعت أمانتك ، وخنت اللله في ماله ، فأعطيت مال اللّه من لا يستحقه ، وقد فرض اللّه في كتابه الحقوق لأهلها وبيئها ، فلم تأخذ بها ودعانا (أي علي) إلى أخذ حقنا الذي فرض اللّه لنا فشغل بحر بك عن وضع الأمور
ص: 118
مواضعها ، وما سألتك من ما لك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا ولا نرى أخذ شئ وغير حقنا ، أتذكر عليا فض اللّه فاك وأجهد بلاءك ، ثم علا يكاؤها وقالت :
ألا يا عين ويحك أسعدينا *** ألا وابكي أمير المومنينا
رزينا خير من ركب المطايا *** وفارسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال أو احتذاها *** ومن قرأ المثاني والمثينا
إذا استقبلت وجه أبي حسن *** رأيت البدر راع الناظرينا
ولا واللّه لا أنسي عليا *** وحسن صلاته في الراكعينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا *** بخير الناس طرا أجمعينا
فأمر معاوية لها بستة آلاف ، وقال لها : يا عمة أنفقي هذه في ما تحبين ، فإذا احتجتيني فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك ومعونتك إن شاء اللّه (1).
ص: 119
مناظرة دارمية الحجونية (1) مع معاوية
روى سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه ، قال :
حج معاوية ، فسأل عن امرأة من بني كنانة تنزل بالحجون (2) ، يقال لها : دارمية الحجونية ، وكانت سوداء كثيرة اللحم ، فاخبر بسلامتها ، فبعث إليها فجئ بها.
فقال : ما حالك يا ابنة حام؟
فقالت : لست لحام إن عبتني ، أنا امرأة من بني كنانة.
قال : صدقت ، أتدرين لِمَ بعثت إليك؟
قال : لا يعلم الغيب إلا اللّه.
قال : بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني ، وواليته وعاديتني؟
قالت : أو تعفيني؟
قال : لا إعفيك.
قالت : أما إذ أبيت ، فإني أحببت عليا على عدله في الرعية ، وقسمه
ص: 120
بالسوية ، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر ، وطلبتك (1) ما ليس لك بحق وواليت عليا على ما عقد له رسولا اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الولاء (2) ، وحبه المساكين وإعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفكك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك بالهوى.
قال : فلذلك انتفخ بطنك ، وعطم ثدياك ، وربت عجيزتك.
قالت : يا هذا ، بهند (3) واللّه كان يضرب المثل في ذلك لابي.
قال يا معاوية : يا هذه أربعي (4) ، فإنا لم نقل إلا خيرا ، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها ، وإذا عظم ثدياها تروى (5) رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت.
قال لها : يا هذه هل رأيت عليا؟
قالت : إي واللّه.
قال : فكيف رأيته؟
قالت : رأيته واللّه لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.
قال : فهل سمعت كلامه؟
قالت : نعم واللّه ، فكان يجلو القلب من الغمى ، كما يجلو الزيت صدأ الطست.
ص: 121
قال : صدقت ، فهل لك من حاجة؟
قالت : أو نفعل إذا سألتك؟
قال : نعم.
قالت : تُعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها.
قال : تصنعين بها ماذا؟
قالت : أغذوا بإلبانها الصغار ، وأستحيي بها الكبار ، وأكتسب بها المكارم ، وأصلح بها بين العشائر.
قال : فإن أعطيتك ذلك ، فهل أحُلّ عندك محلّ عليّ بن أبي طالب؟
قال : ماء ولا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان ، وفتى ولا كمالك (1) ، يا سبحان اللّه ، أو دونه (2) فأنشأ معاوية يقول :
إذا لم أعد بالحلم مني عليكم *** فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد *** جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال : أما واللّه لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا.
قالت : لا واللّه ، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (3).
ص: 122
ذكروا أن رجلا من همذان يقال له برد قدم على معاوية ، فسمع عمرا يقع في علي - عليه السلام - ، فقال له : يا عمرو ، إن أشياخنا سمعوا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه (1) ، فحق ذلك أم باطل؟
فقال عمرو : حق ، وأنا أزيدك أنه ليس أحد من صحابة رسول اللّه له مناقب مثل مناقب علي (2) ، ففزع الفتي؟!
ص: 123
فقال عمرو : إنه أفسدها بأمره في عثمان.
فقال برد : هل أمر أو قتل؟
قال : لا ، ولكنه آوي ومنع.
قال : فهل بايعه الناس عليها؟
قال : نعم.
قال : فما أخرجك من بيعته؟
قال : اتهامي إياه في عثمان (1).
قال له : وأنت أيضا قد اتهمت.
قال : صدقت ، فيها خرجت إلى فلسطين.
فرجع الفتي إلي قومه ، فقال : إنا أتينا قوما أخذنا الحجة عليهم من أفواههم ، علي على الحق فاتبعوه (2).
ص: 124
مناظرة حرة (1) بنت حليمة السعدية مع الحجاج بن يوسف الثقفي
لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي ، فمثلت بين يديه.
قال لها : أنت حرة بنت حليمة السعدية؟
قالت له : فراسة من غير مؤمن!
فقال لها : اللّه جاء بك فقد قيل عنك : إنك تفضلين عليا على أبي بكر وعمر وعثمان.
فقالت : لقد كذب الذي قال : إني أفضله على هؤلاء خاصة.
قال : وعلى من غير هؤلاء؟
قالت : أفضله على آدم ونوع ولوط وإبراهيم وداود وسليمان وعيسى بن مريم - عليهم السلام -
فقال لها : ويلك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة من الانبياء من أولي العزم من الرسل؟ إن لم تأتيني ببيان ما قالت ، ضربت عنقك.
فقالت : ما أنا مفضلته على هؤلاء الانبياء ، ولكن اللّه عزوجل فضله عليهم في القرآن بقوله عزوجل في حق آدم : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ
ص: 125
فَغَوَى ) (1) ، وقال في حق علي : ( وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) (2).
فقال : أحسن ت يا حرة ، فبم تفضلينه على نوح ولوط؟
فقالت : اللّه عزوجل فضله عليهما بقوله : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (3) وعلي بن أبي طالب كان ملاكه تحت سدرة المنتهى (4). زوجته بنت محمد فاطمة الزهراء التي يرضي اللّه تعالى لرضاها ويسخط لسخطها (5).
فقال الحجاج : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على أبي الانبياء إبراهيم
ص: 126
خليل اللّه؟
فقالت : اللّه عزوجل فضله بقوله : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (1) ومؤلاى أمير المؤمنين قال قولا لا يختلف فيه أحد من المسلمين : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا (2) ، وهذه كلمة ما قالها أحد قبله ولا بعده.
فقال : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على موسى كليم اللّه؟
قالت : يقول اللّه عزوجل : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) (3) وعلي بن أبي طالب - عليه السلام - بات على فراش رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يخف حتى أنزل اللّه تعالى في حقه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) (4).
قال الحجاج : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على داود وسليمان - عليهما السلام -؟
قالت : اللّه تعالى فضله عليهما بقوله عزوجل : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (5).
ص: 127
قال لها : في أي شئ كانت حكومته؟
قالت : في رجلين رجل كان له كرم والاخر له غنم ، فنفشت الغنم بالكرم فرعته فاحتكما إلى داود - عليه السلام - فقال : تباع الغنم وينفق ثمنها على الكرم حتى يعود إلى ما كان عليه ، فقال له ولده : لا يا أبة بل يؤخذ من لبنها وصوفها ، قال اللّه تعالى : ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) (1).
وإنَّ مولانا أمير المؤمنين عليا - عليه السلام - قال : سلوني عما فوق العرش ، سلوني عما تحت العرش (2) ، سلوني قبل أن تفقدوني (3) ، وإنه - عليه السلام - دخل على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوم فتح خيبر فقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - للحاضرين : أفضلكم وأعلمكم وأقضاكم علي (4).
فقال لها : أحسنت فبم تفضلينه على سليمان؟
فقالت : اللّه تعالى فضله عليه بقوله تعالى : ( رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) (5) ومولانا أمير المؤمنين علي - عليه السلام -
ص: 128
قال : طلقتك يا دنيا ثلاثا لا حاجة لي فيك (1) ، فعند ذلك أنزل اللّه تعالى فيه : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ) (2).
فقال : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على عيسى بن مريم - عليه السلام -؟
قالت : اللّه تعالى عزوجل فضله بقوله تعالى : ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) (3) الاية. فأخر الحكومة إلى يوم القيامة ، وعلي ابن أبي طالب لما ادعوا النصيرية (4) فيه ما ادعوه ، قتلهم (5) ولم يؤخر حكومتهم ، فهذه كانت فضائله لم تعد بفضائل غيره.
قال : أحسنت يا حرة خرجت من جوابك ، ولو لا ذلك لكان ذلك ، ثم أجازها وأعطاها وسرحها سراحا حسنا رحمة اللّه عليها (6).
ص: 129
مناظرة الحسن البصري (1) مع الحجاج
قال عامر الشعبي : قدمنا على الحجاج البصرة ، وقدم عليه قراء أهل المدينة ، فدخلنا عليه في يوم صائف شديد الحر ، فقال للحسن : مرحبا بأبي سعيد ، إلي - وذكر كلاما - ثم ذكر الحجاج عليا - عليه السلام - فنال منه ، وقلنا قولا مقاربا له فرقا من شره ، والحسن ساكت عاض على إبهامه ، فقال : يا أبا سعيد مالي أراك ساكتا؟
فقال : ما عسيت أن أقول.
قال : أخبرني برأيك في أبي تراب؟
قال : أفي علي؟ سمعت اللّه يقول : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) (2) فعلي ممن هدى اللّه ، ومن أهل الأيمان.
وأقول : إنه ابن عم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وختنه على ابنته ،
ص: 130
أحب الناس إليه (1) ، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من اللّه ، ولا تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحصرها عنه ، ولا يحول بينها وبينه.
ونقول : إنه إن كانت لعلي ذنوب فاللّه حسيبه واللّه ما أجد قولا أعدل فيه من هذا القول.
قال الشعبي : فبسر الحجاج وجهه ، وقام عن السرير مغضبا ، وخرجنا (2).
ص: 131
مناظرة أبان بن عياش (1) مع الحسن البصري
روى أبان بن عياش ، قال : سألت الحسن البصري عن علي - عليه السلام -.
فقال : ما أقول فيه! كانت له السابقة ، والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة ، إن عليا كان في أمره عليا ، رحم اللّه عليا ، وصلى عليه!
فقلت : يا أبا سعيد ، أتقول : (صلى عليه) لغير النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم!
فقال : ترحم على المسلمين إذا ذكروا ، وصل على النبي وآله وعلى خير آله.
ص: 132
فقلت : أهو خير من حمزة وجعفر؟
قال : نعم.
قلت : وخير من فاطمة وابنيها؟
قال : نعم ، واللّه إنه خير آل محمد كلهم ، ومن يشك أنه خير منهم ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (وأبوهما خير منهما) (1)! ولم يجر عليه اسم شرك ، ولا شرب خمر ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لفاطمة - عليها السلام - : (زوجتك خير أمتي) (2) ، فلو كان في أمته خير منه لاستثناه ، ولقد آخى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بين أصحابه ، فآخى بين علي ونفسه ، فرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خير الناس نفسا ، وخيرهم أخا.
فقلت : يا أبا سعيد ، فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟
فقال : يا بن أخي ، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة ، ولو لا ذلك لسالت بي الخشب (3).
ص: 133
مناظرة رجل من بني هاشم مع عمر بن عبد العزيز الأموي (1)
بينا عمر بن عبد العزيز جالسا في مجلسه ، دخل حاجبه ومعه امرأة أدماء (2) طويلة حسنة الجسم والقامة ، ورجلان متعلقان بها ، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر ، فدفعوا إليه الكتاب ، ففضه فإذا فيه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم : إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، من ميمون بن مهران ، سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته ، أما بعد ، فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور ، وعجزت عنه الأوساع (3) ، وهربنا بأنفسنا عنه ، ووكلناه إلى عالمه ، لقول اللّه عز وجل : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (4) وهذه المرأة والرجلان أحدهما زوجها والاخر أبوها ، وإن أباها يا أمير المؤمنين زعم أن زوجها حلف بطلاقها أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خير
ص: 134
هذه (1) الامة وأولاها برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وإنه يزعم أن ابنته طلقت منه ، وأنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهرا ، وهو يعلم أنها حرام عليه كأمه ، وإن الزوج يقول له : كذبت وأثمت ، لقد بر قسمي ، وصدقت مقالتي ، وإنها امرأتي على رغم أنفك ، وغيظ قلبك ، فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك.
فسألت الرجل عن يمينه ، فقال : نعم ، قد كان ذلك ، وقد حلفت بطلاقها أن عليا خير هذه الأمة وأولاها برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، عرفه من عرفه ، وأنكره من أنكره ، فليغضب من غضب ، وليرض من رضي ، وتسامع الناس بذلك ، فاجتمعوا له ، وإن كانت الألسن مجتمعة فالقلوب شتى ، وقد علمت يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم ، وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة ، فأحجمنا عن الحكم لتحكم بما أراك اللّه وإنهما تعلقا بها ، وأقسم أبوها ألا يدعها معه ، وأقسم زوجها ألا يفارقها ولو ضربت عنقه إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه ، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين ، أحسن اللّه توفيقك
ص: 135
وأرشدك!
وكتب في أسفل الكتاب :
إذا ما المشكلات وردن يوما *** فحارت في تأملها العيون
وضاق القوم ذرعا عن نباها *** فأنت لها أبا حفص أمين
لأنك قد حويت العلم طرا *** وأحكمك التجارب والشئون
وخلفك الإله على الرعايا *** فحظك فيهم الحظ الثمين
قال : فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية وأفخاذ قريش ، ثم قال لأبي المرأة : ما تقول أيها الشيخ؟
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا الرجل زوجته ابنتي ، وجهزتها إليه بأحسن ما يجهز به مثلها ، حتى إذا أملت خيره ، ورجوت صلاحه ، حلف بطلاقها كاذبا ، ثم أراد الأقامة معها.
فقال له عمر : يا شيخ ، لعله لم يطلق امرأته ، فكيف حلف؟
قال الشيخ : سبحان اللّه! الذي حلف عليه لأبين حنثا وأوضح كذبا من أن يختلج في صدري منه شك ، مع سني وعلمي ، لأنه زعم أن عليا خير هذه الأمة وإلا فامرأته طالق ثلاثا.
فقال للزوج : ما تقول؟ أهكذا حلفت؟
قال : نعم.
فقيل : إنه لما قال : نعم ، كاد المجلس يرتج بأهله ، وبنو أمية ينظرون إليه شزرا ، إلا أنهم لم ينطقوا بشئ ، كل ينظر إلى وجه عمر.
فأكبَّ عمر مليا ينكت الأرض بيده والقوم صامتون ينظرون ما يقوله ، ثم رفع رأسه وقال :
إذا ولي الحكومة بين قوم *** أصاب الحق والتمس السدادا
ص: 136
وما خير الإمام إذا تعدى *** خلاف الحق واجتنب الرشادا
ثم قال للقوم : ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا.
فقال : سبحان اللّه! قولوا.
فقال رجل من بني أمية : هذا حكم في فرج ، ولسنا نجترئ على القول فيه ، وأنت عالم بالقول ، مؤتمن لهم وعليهم ، قل ما عندك ، فإن القول ما لم يكن يحق باطلا ويبطل حقا جائز علي في مجلسي.
قال : لا أقول شيئا ، فالتفت إلى رجل من بني هاشم من ولد عقيل بن أبي طالب ، فقال له : ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي؟
فاغتنمها ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن جعلت قولي حكما ، أو حكمي جائزا قلت ، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي ، وأبقى للمودة. قال : قل وقولك حكم ، وحكمك ماض.
فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا : ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلى غيرنا ، ونحن من لحمتك وأولي رحمك!
فقال عمر : اسكتوا أعجزا ولؤما! عرضت ذلك عليكم آنفا فما انتدبتم له.
قالوا : لأنك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي ، ولا حكمتنا كما حكمته.
فقال عمر : إن كان أصاب وأخطأتم ، وحزم وعجزتم ، وأبصر وعميتم ، فما ذنب عمر ، لا أبا لكم! أتدرون ما مثلكم؟
قالوا : لا ندري.
قال : ليكن العقيلي يدري ، ثم قال : ما تقول يارجل؟
قال : نعم يا أمير المؤمنين ، كما قال الأول :
دعيتم إلى أمر فلما عجزتم *** تناوله من لا يداخله عجز
ص: 137
فلما رأيتم ذاك أبدت نفوسكم *** نداما وهل يغني من الحذر الحرز
فقال عمر : أحسنت وأصبت ، فقل ما سألتك عنه.
قال : يا أمير المؤمنين ، بر قسمه ، ولم تطلق امرأته. قال : وأنى علمت ذاك؟
قال : نشدتك اللّه يا أمير المؤمنين ، ألم تعلم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال لفاطمة - عليها السلام - وهو عندها في بيتها عائد لها : يا بنية ، ما علتك؟
قالت : الوعك يا أبتاه - وكان علي - عليه السلام - غائبا في بعض حوائج النبي - صلى اللّه عليه وآله -.
فقال لها : أتشتهين شيئا؟
قالت : نعم أشتهي عنبا ، وأنا أعلم أنه عزيز ، وليس وقت عنب.
فقال - صلى اللّه عليه وآله - : إن اللّه قادر على أن يجيئنا به ، ثم قال : اللّهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة.
فطرق علي الباب ، ودخل ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه.
فقال له النبي - صلى اللّه عليه وآله - : ما هذا يا علي؟
قال : عنب التمسته لفاطمة - عليها السلام -.
فقال : اللّه أكبر اللّه أكبر ، اللّهم كما سررتني بأن خصصت عليا بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيتي ، ثم قال : كلي على اسم اللّه يا بنية.
فأكلت ، وما خرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حتى استقلت وبرأت.
فقال عمر : صدقت وبررت ، أشهد لقد سمعته ووعيته ، يا رجل ، خذ بيد امرأتك فإن عرض بك أبوها فاهشم أنفه. ثم قال : يا بني عبد
ص: 138
مناف ، واللّه ما نجهل ما يعلم غيرنا ، ولا بنا عمى في ديننا ، ولكنا كما قال الأول :
تصيدت الدنيا رجا لابفخها *** فلم يدركوا خيرا بل استقبحوا الشرا
وأعماهم حب الغنى وأصمهم *** فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا
قيل : فكأنما ألقم بني أمية حجرا ، ومضى الرجل بامرأته.
وكتب عمر إلى ميمون بن مهران :
عليك سلام ، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإني قد فهمت كتابك ، وورد الرجلان والمرأة ، وقد صدق اللّه يمين الزوج ، وأبر قسمه ، وأثبته على نكاحه ، فاستيقن ذلك ، واعمل عليه ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته (1).
ص: 139
مناظرة هشام بن الحكم (1) مع بعض المتكلمين في مجلس الرشيد
قال هارون الرشيد لجعفر بن يحيى البرمكي : إني أحب أن أسمع كلام المتكلمين من حيث لا يعلمون بمكاني فيحتجون عن بعض ما يريدون ، فأمر جعفر المتكلمين فأحضروا داره ، وصار هارون في مجلس
ص: 140
يسمع كلامهم ، وأرخى بينه وبين المتكلّمين ستراً ، فاجتمع المتكلّمون وغص المجلس بأهله ينتظرون هشام بن الحكم ، فدخل عليهم هشام وعليه قميص إلى الركبة وسراويل إلى نصف الساق ، فسلم على الجميع ولم يخص جعفرا بشئ.
فقال له رجل من القوم : لم فضلت عليا على أبي بكر ، واللّه يقول : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1).
فقال هشام : فأخبرني عن حزنه في ذلك الوقت أكان لله رضا أم غير رضا؟ فسكت!
فقال هشام : إن زعمت أنه كان لله رضا فلم نهاه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فقال : (لا تحزن)؟ أنهاه عن طاعة اللّه ورضاه؟ وإن زعمت أنه كان لله غير رضا فلم تفتخر بشئ كان لله غير رضا؟ وقد علمت ما قال اللّه تبارك وتعالى حين قال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
ولكنّكم قلتم وقلنا وقالت العامة : الجنة اشتاقت إلى أربعة نفر : إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري (3). فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الذبين عن الاسلام أربعة نفر : علي بن
ص: 141
أبي طالب - عليه السلام - ، والزبير بن العوام ، وأبو دجانة الأنصاري ، وسلمان الفارسي ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن القراء أربعة نفر : علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وعبد اللّه بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن المطهرين من السماء أربعة نفر : علي ابن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الأبرار أربعة : علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الشهداء أربعة نفر : علي بن أبي طالب - عليه السلام - وجعفر وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
قال : فحرك هارون الستر وأمر جعفر الناس بالخروج ، فخرجوا مرعوبين ، وخرج هارون إلى المجلس.
فقال : من هذا فواللّه لقد هممت بقتله وإحراقه بالنار (1).
ص: 142
مناظرة هشام بن الحكم مع يحيى بن خالد البرمكي (1)
سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة الرشيد هشام بن الحكم فقال له : أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟
قال هشام : لا.
قال يحيى : فأخبرني عن نفسين اختصما في حكم الدين ، وتنازعا واختلفا ، هل يخلو من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما مبطلا والاخر محقا؟؟
قال هشام : لا يخلوان من ذلك ، وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب.
قال يحيى : فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث ، أيهما كان المحق من المبطل؟ إذا كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين.
ص: 143
قال هشام : قال فنظرت فإذا أنني قلت : بأن عليا - عليه السلام - كان مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي ، وإن قلت : أن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي ، ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك ، ولا أعددت لها جوابا ، فذكرت قول أبي عبد اللّه الصادق - عليه السلام - وهو يقول لي : (يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك) (1). فعلمت أني لا أخذل ، وعن لي الجواب.
فقلت له : لم يكن من أحدهما خطأ ، وكانا جميعا محقين ، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود - عليه السلام - ، حيث يقول اللّه جل اسمه : ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) الى قوله : ( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) (2). فأي الملكين كان مخطأ وأيهما كان مصيبا؟ أم تقول إنهما كانا مخطئين ، فجوابك في ذلك جوابي بعينه.
قال يحيى : لست أقول : إن الملكين أخطأ ، بل أقول : إنهما أصابا وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ، ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك ، لينبها داود - عليه السلام - على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.
قال هشام : كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته ، ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث ، ولم يكونا في ريب من أمرهما ، وإنما ذلك منهما على ما كان من الملكين.
فلم يحر يحيى جوابا ، واستحسن ذلك الرشيد (3).
ص: 144
كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة ، يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتج بعضهم على بعض.
فبلغ ذلك الرشيد ، فقال ليحيى بن خالد : يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟
فقال : يا أمير المؤمنين ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتج بعضهم على بعض ، ويعرف المحق منهم ، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.
قال له الرشيد : فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم.
قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء.
قال : فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري ، ففعل ، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم ، وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في الأمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالأمامة.
قال : فحضروا وحضر هشام ، وحضر عبد اللّه بن يزيد الأباضي
ص: 145
- وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم ، وكان يشاركه في التجارة - فلما دخل هشام سلم على عبد اللّه بن يزيد من بينهم.
فقال يحيى بن خالد لعبداللّه بن يزيد : يا عبد اللّه كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الأمامة.
فقال هشام : أيها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة ، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة ، فلاحين كانوا معنا عرفوا الحق ، ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا؟ فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.
فقال بيان وكان من الحرورية : أنا أسألك يا هشام ، أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين أكانوا مؤمنين أم كافرين؟
قال هشام : كانوا ثلاثة أصناف ، صنف مؤمنون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال.
فأما المؤمنون : فمن قال مثل قولي ، الذين قالوا : إن عليا إمام من عند اللّه ومعاوية لا يصلح لها ، فآمنوا بما قال اللّه عزوجل في علي وأقروا به.
وأما المشركون : فقوم قالوا : علي إمام ، ومعاوية يصلح لها ، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي.
وأما الضلال : فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر ، لم يعرفوا شيئا من هذا ، وهم جهال.
قال : وأصحاب معاوية ما كانوا؟
قال : كانوا ثلاثة أصناف : صنف كافرون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال.
فأما الكافرون : فالذين قالوا : إن معاوية إمام ، وعلي لا يصلح لها ،
ص: 146
فكفروا من جهتين أن جحدوا إماما من اللّه ، ونصبوا إماما ليس من اللّه.
وأما المشركون فقوم قالوا : معاوية إمام ، وعلي يصلح لها ، فأشركوإ معاوية مع علي - عليه السلام -.
وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر. فانقطع بيان عند ذلك.
فقال ضرار : فأنا أسألك يا هشام في هذا؟
فقال هشام : أخطأت.
قال : ولم؟
قال : لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي ، وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب.
قال ضرار : فسل.
قال : أتقول إن اللّه عدل لا يجور؟
قال : نعم ، هو عدل لا يجور ، تبارك وتعالى.
قال : فلو كلف اللّه المقعد المشي إلى المساجد ، والجهاد في سبيل اللّه ، وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب ، أتراه كان عادلا أم جائرا؟
قال ضرار : ما كان اللّه ليفعل ذلك.
قال هشام : قد علمنا أن اللّه لا يفعل ذلك ، ولكن على سبيل الجدل والخصومة ، أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا؟ وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه.
قال : لو فعل ذلك لكان جائرا.
قال : فأخبرني عن اللّه عزوجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه
ص: 147
لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟
قال : بلى.
قال : فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين؟ وكلفهم ما لا دليل على وجوده؟ فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب ، والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟
قال : فسكت ضرار ساعة ثم قال : لا بد من دليل ، وليس بصاحبك.
قال : فضحك هشام وقال : تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة ، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية.
قال ضرار : فإني أرجع إليك في هذا القول.
قال : هات.
قال ضرار : كيف تعقد الامامة؟
قال هشام : كما عقد اللّه النبوة.
قال : فإذا هو نبي؟
قال هشام : لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء ، والأمامة يعقدها أهل الأرض ، فعقد النبوة بالملائكة ، وعقد الأمامة بالنبي ، والعقدان جميعا بإذن اللّه عزوجل.
قال : فما الدليل على ذلك؟
قال هشام : الاضطرار في هذا.
قال ضرار : وكيف ذلك؟
قال هشام : لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه :
إما أن يكون اللّه عزوجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلم يكلفهم ولم يأمرهم ، ولم ينههم ، وصاروا
ص: 148
بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها ، أفتقول هذا يا ضرار أن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -؟
قال : لا أقول هذا.
قال هشام : فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء ، في مثل حد الرسول في العلم ، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم ، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا ، أن الناس قد استحالوا علماء ، حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد ، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟
قال : لا أقول هذا ، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال : فبقي الوجه الثالث لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ، ولا يحيف (1) ، معصوم من الذنوب ، مبرأ من الخطايا ، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد.
قال : فما الدليل عليه؟
قال هشام : ثمان دلالات أربع في نعت نسبه ، وأربع في نعت نفسه.
فأما الأربع التي في نعت نسبه : بأن يكون معروف الجنس ، معروف القبيلة ، معروف البيت ، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة ، فلم يرجنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب ، الذين منهم صاحب الملة والدعوة ، الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع ، أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه ، فتصل دعوته إلى كل بر
ص: 149
فتصل دعوته إلى بر وفاجر ، وعالم وجاهل ، ومقر ومنكر ، في شرق الأرض وغربها ، ولو جاز أن يكون الحجة من اللّه على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى علي الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد اللّه أن يكون صلاحا يكون فسادا ، ولا يجوز هذا في حكم اللّه تبارك وتعالى وعدله ، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة ، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش ، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة ، ولما كثر أهل هذا البيت ، وتشاجروا في الامامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم ، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه : أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض اللّه وسننه ، وأحكامه ، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل ، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها وأن يكون أشجع الناس ، وأن يكون أسخى الناس.
قال : من أين قلت : إنه أعلم الناس؟
قال : لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود اللّه وأحكامه وشرائعه وسننه ، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حده ، ومن وجب عليه الحد قطعه ، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به ، فيكون من حيث أراد اللّه صلاحا يقع فسادا.
ص: 150
قال : فمن أين قلت : إنه معصوم من الذنوب؟
قال : لأنه إن لم يكن معصوما من الذنوب ، دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ، ويكتم على حميمه وقريبه ، ولا يحتج اللّه عزوجل بمثل هذا على خلقه.
قال : فمن أين قلت : إنه أشجع الناس؟
قال : لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب ، وقال اللّه عزوجل : ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) (1) فإن لم يكن شجاعا فر فيبوء بغضب من اللّه ، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من اللّه حجة لله على خلقه.
قال : فمن أين قلت : إنه أسخى الناس؟
قال : لأنه خازن المسلمين ، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها ، فكان خائنا ، ولا يجوز أن يحتج اللّه على خلقه بخائن. فقال عند ذلك ضرار : فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟
فقال : صاحب العصر أمير المؤمنين - وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله -.
فقال عند ذلك : أعطانا واللّه من جراب النورة ، ويحك يا جعفر - وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا؟
قال : يا أمير المؤمنين يعني موسى بن جعفر.
قال : ما عنى بها غير أهلها ، ثم عض على شفته ، وقال : مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟! فو اللّه للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف (2).
ص: 151
عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد اللّه - عليه السلام - فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك.
فقال له أبو عبد اللّه - عليه السلام - : كلامك هذا من كلام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أو من عندك؟
فقال : من كلام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بعضه ، ومن عندي بعضه.
فقال أبو عبد اللّه : فأنت إذا شريك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -؟
قال : لا.
قال : فسمعت الوحي من اللّه تعالى؟
قال : لا.
قال : فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول اللّه؟
قال : لا.
قال : فالتفت إلي أبو عبد اللّه - عليه السلام - فقال : يا يونس هذا خصم نفسه قبل أن يتكلم.
(الى أن قال يونس) : وكنا في خيمة لأبي عبد اللّه - عليه السلام - في طرف جبل في طريق الحرم ، وذلك قبل الحج بأيام ، فأخرج أبو عبد اللّه
ص: 152
- عليه السلام - رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب ، قال : هشام ورب الكعبة.
قال : وكان شديد المحبة لأبي عبد اللّه ، فإذا هشام بن الحكم ، وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا ، فوسع له أبو عبد اللّه وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.
ثم قال للشامي : كلم هذا الغلام! يعني : هشام بن الحكم.
فقال : نعم ، ثم قال الشامي لهشام : يا غلام سلني في إمامة هذا يعني : أبا عبد اللّه - عليه السلام -؟
فغضب هشام حتى ارتعد ، ثم قال له : أخبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه ، أم خلقه لأنفسهم؟
فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه!
قال : ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟
قال : كلفهم ، وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به ، وأزاح في ذلك عللهم.
فقال له هشام : فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟
قال الشامي : هو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
قال هشام : فبعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - من؟
قال : الكتاب والسنة.
فقال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه ، حتى رفع عنا الاختلاف ، ومكننا من الاتفاق؟
فقال الشامي : نعم.
قال هشام : فلم اختلفنا نحن وأنت ، جئتنا من الشام تخالفنا ، وتزعم
ص: 153
أن الرأي طريق الدين ، وأنت مقربان الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟
فسكت الشامي كالمفكر.
فقال أبو عبد اللّه - عليه السلام - : مالك لا تتكلم؟
قال : إن قلت : إنا ما اختلفنا كابرت.
وإن قلت : إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف ، أبطلت (1) ،
ص: 154
لأنهما يحتملان الوجوه (1) ، ولكن لي عليه مثل ذلك.
فقال له أبو عبد اللّه : سله تجده مليا!
فقال الشامي لهشام : من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم؟
فقال : بل ربهم أنظر لهم.
فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ، ويرفع اختلافهم ، ويبين لهم حقهم من باطلهم؟
فقال هشام : نعم.
فقال الشامي : من هو؟
قال هشام : أما في ابتداء الشريعة ، فرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -
ص: 155
اما بعد النبي فعترته.
قال الشامي : من هو عترة النبي القائم مقامه قي حجته؟
قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله؟
قال الشامي : بل في وقتنا هذا.
قال هشام : هذا الجالس يعني : أبا عبد اللّه - عليه السلام - ، الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده.
قال الشامي : وكيف لي بعلم ذلك؟
فقال هشام : سله عما بدا لك.
قال الشامي : قطعت عذري ، فعلي السؤال.
فقال أبو عبد اللّه - عليه السلام - : أنا أكفيك المسألة يا شامي أخبرك عن مسيرك وسفرك ، خرجت يوم كذا ، وكان طريقك كذا ، ومررت على كذا ، ومر بك كذا ، فأقبل الشامي كلما وصف شيئا من أمره يقول : (صدقت واللّه).
فقال الشامي : أسلمت لله الساعة!
فقال له أبو عبد اللّه - عليه السلام - : بل امنت باللّه الساعة ، إن الأسلام قبل الأيمان وعليه يتوارثون ، ويتناكحون ، والأيمان عليه يثابون.
قال : صدقت ، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وأنك وصي الأنبياء (1)
ص: 156
مناظرة (1) هشام مع عمرو بن عبيد (2) في مسجد البصرة
عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد اللّه - عليه السلام - جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين ، ومؤمن الطاق ، وهشام بن سالم ، والطيار ، وجماعة من أصحابه ، فيهم هشام بن الحكم ، وهو شاب.
فقال أبو عبد اللّه - عليه السلام - : يا هشام!
قال : لبيك يابن رسول اللّه!
قال : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟
قال هشام : جعلت فداك يابن رسول اللّه ، اني أجلك وأستحييك ، ولا يعمل لساني بين يديك.
فقال إبو عبد اللّه - عليه السلام - : إذا أمرتكم بشئ فافعلوه!
ص: 157
قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد ، وجلوسه في مسجد البصرة ، وعظم ذلك علي ، فخرجت إليه ، ودخلت البصرة يوم الجمعة ، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتز بها من صوف وشملة مرتد بها ، والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ، ثم قلت : أيها العالم أنا رجل غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟
قال : اسأل!
قلت له : ألك عين؟
قال يا بني أي شئ هذا من السؤال ، إذا كيف تسأل عنه؟
فقلت : هذه مسألتي.
فقال : يا بني! سل وإن كانت مسألتك حمقى.
قلت : أجبني فيها.
قال : فقال لي : سل!
فقلت : ألك عين؟
قال : نعم.
قلت : قال : فما تصنع بها؟
قال : أرى بها الألوان والأشخاص.
قال : قلت : ألك أنف؟
قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أشم به الرائحة.
قال : قلت : ألك لسان؟
قال : نعم.
ص: 158
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أتكلم به.
قال : قلت : ألك أذن؟
قال : نعم.
قلت : فما تصنع بها؟
قال : أسمع بها الأصوات.
قال : قلت : ألك يدان؟
قال : نعم. قلت : فما تصنع بهما؟
قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللين من الخشن.
قال : قلت : ألك رجلان؟
قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع بهما؟
قال : أنتقل بهما من مكان إلى مكان.
قال : قلت : ألك فم؟ قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.
قال : قلت : ألك قلب؟
قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أميز به كلما ورد على هذه الجوارح.
قال : قلت : إفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
ص: 159
قال : لا.
قال : قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
قال : يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته ، ردته إلى القلب ، فتيقن بها اليقين ، وأبطل الشك.
قال : فقلت : فإنما أقام اللّه عز وجل القلب لشك الجوارح؟
قال : نعم.
قلت : لابد من القلب وإلا لم يستيقن الجوارح.
قال : نعم.
قلت : يا أبا مروان ، إن اللّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماما ، يصحح لها الصحيح ، وينفي ما شكت فيه ، ويترك هذا الخلق كله في حيرتهم ، وشكهم ، واختلافهم ، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماما لجوارحك ، ترد إليه حيرتك وشكك؟!.
قال : فسكت ولم يقل لي شيئا.
قال : ثم التفت إلي فقال لي : أنت هشام؟
قال : قلت : لا.
فقال لي : أجالسته؟
فقلت : لا.
قال : فمن أين أنت؟ قلت : من أهل الكوفة.
قال : فأنت إذا هو. ثم ضمني إليه ، وأقعدني في مجلسه ، وما نطق حتى قمت ، فضحك أبو عبد اللّه - عليه السلام - ، ثم قال : يا هشام ، من علمك هذا؟ قلت : يابن رسول اللّه جرى على لساني.
قال : يا هشام هذا واللّه مكتوب في صحف إبراهيم وموسى (1).
ص: 160
وادعائهم.
فقال هشام : لست إيانا أردت بهذا القول إنما أردت الطعن على نوح - عليه السلام - حيث لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى النجاة ليلا ونهارا ، ما آمن معه إلا قليل (1).
ص: 162
وسأل هشام بن الحكم جماعة من المتكلمين فقال : أخبروني حين بعث اللّه محمدا - صلى اللّه عليه وآله - بعثه بنعمة تامة أو بنعمة ناقصة؟
قالوا : بنعمة تامة.
قال : فأيما أتم أن يكون في أهل بيت واحد نبوة وخلافة؟ أو يكون نبوة بلا خلافة؟
قالوا : بل يكون نبوة وخلافة.
قال : فلماذا جعلتموها في غيرها ، فإذا صارت في بني هاشم ضربتم وجوههم بالسيوف ، فأفحموا (1).
ص: 163
مناظرة هشام بن الحكم مع ضرار بن عمرو الضبي (1)
دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن خالد البرمكي فقال له : يا أبا عمرو هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة؟
فقال ضرار : هلم من شئت.
فبعث إلى هشام بن الحكم ، فأحضره.
فقال : يا أبا محمد ، هذا ضرار ، وهو من قد علمت في الكلام والخلاف لك فكلمه في الأمامة.
فقال : نعم ، ثم أقبل على ضرار فقال : يا أبا عمرو : خبرني على ما تجب الولاية والبراءة أعلى الظاهر أم على الباطن؟
فقال ضرار : بل على الظاهر فإن الباطن لا يدرك إلا بالوحي.
قال هشام : صدقت ، فأخبرني الان أي الرجلين كان أذب عن وجه
ص: 164
رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بالسيف وأقتل لأعداء اللّه بين يديه وأكثر آثارا في الجهاد أعلي بن أبي طالب أو أبو بكر؟
فقال : بل علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولكن أبا بكر كان أشد يقينا.
فقال هشام : هذا هو الباطن الذي قد تركنا الكلام فيه وقد اعترفت لعلي - عليه السلام - بظاهر عمله من الولاية ، وأنه يستحق بها من الولاية ما لم يجب لأبي بكر.
فقال ضرار : هذا هو الظاهر نعم. قال له هشام : أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي لا يدفع؟!
فقال له ضرار : بلى.
فقال له هشام : ألست تعلم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1).
قال ضرار : نعم.
قال هشام : أفيجوز أن يقول هذا القول إلا وعنده في الباطن مؤمن؟ قال : لا.
قال هشام : فقد صح لعلي - عليه السلام - ظاهره وباطنه ولم يصح لصاحبك لا ظاهر ولا باطن والحمد لله (2).
ص: 165
قال ضرار لهشام بن الحكم : ألا دعا علي - عليه السلام - الناس عند وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله - إلى الائتمام به إن كان وصيا؟
قال : لم يكن واجبا عليه ، لأنه قد دعاهم إلى موالاته والائتمام به النبي - صلى اللّه عليه وآله - يوم الغدير (1) ويوم تبوك (2) وغيرهما فلم يقبلوا منه ، ولو كان ذلك جائزا لجاز على آدم أن يدعو إبليس إلى السجود له بعد إذ دعاه ربه إلى ذلك ، ثم إنه صبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (3).
ص: 166
مناظرة مؤمن الطاق (1) مع ابن أبي خدرة
عن الأعمش قال : اجتمعت الشيعة والمحكمة (2) عند أبي نعيم النخعي بالكوفة ، وأبو جعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر.
فقال ابن أبي خدرة : أنا أقرر معكم - أيتها الشيعة - أن أبا بكر أفضل من علي وجميع أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله - بأربع خصال لا يقدر على دفعها أحد من الناس ، هو ثان مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في بيته مدفون ، وهو ثاني اثنين معه في الغار ، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول اللّه - ، صلى اللّه عليه وآله - ، وهو ثاني اثنين الصّديق من الأمّة.
ص: 167
قال أبو جعفر مؤمن الطاق (رحمة اللّه عليه) : يابن أبي خدرة وأنا أقرر معك أن عليا - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله - بهذه الخصال التي وصفتها ، وأنها مثلبة لصاحبك وألزمك طاعة علي - عليه السلام - من ثلاث جهات ، من القرآن وصفا ، ومن خبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - نصا ، ومن حجة العقل اعتبارا ، ووقع الاتفاق على ابراهيم النخعي ، وعلى أبي اسحاق السبيعي ، وعلى سليمان بن مهران الأعمش.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : أخبرني يابن أبي خدرة ، عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أترك بيوته التي أضافها اللّه إليه ، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه (1) ميراثا لأهله وولده؟ أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ قل ما شئت؟ فانقطع أبن أبي خدرة لما أورد عليه ذلك ، وعرف خطأ ما فيه.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : إن تركها ميراثا لولده وأزواجه فإنه قبض عن تسع نسوة ، وإنما لعائشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن فيه صاحبك ، ولم يصبها من البيت ذراع في ذراع ، وإن كان صدقة فالبلية أطم وأعظم فإنه لم يصب له من البيت إلا ما لأدنى رجل من المسلمين ، فدخول بيت النبي - صلى اللّه عليه وآله - بغير إذنه في حياته وبعد وفاته معصية إلا لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - وولده ، فإن اللّه أحل لهم ما أحل للنبي - صلى اللّه عليه وآله -.
ثم قال : إنكم تعلمون أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أمر بسد أبواب
ص: 168
جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي (1) - عليه السلام - فسأله أبو بكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فأبى عليه ، وغضب عمه العباس من ذلك (2) فخطب النبي - صلى اللّه عليه وآله - خطبة ، وقال : إن اللّه تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا موسى وهارون وذريتهما ، وإن عليا مني هو بمنزلة هارون من موسى (3) ، وذريته كذرية هارون ، ولا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ولا يبيت فيه جنبا إلا علي وذريته - عليهم السلام - ، فقالوا بأجمعهم : كذلك كان (4).
ص: 169
قال أبو جعفر : ذهب ربع دينك يابن أبي خدرة وهذه منقبة لصاحبي ليس لأحد مثلها ومثلبة لصاحبك ، وأما قولك : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) (1) أخبرني هل أنزل اللّه سكينته على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وعلى المؤمنين في غير الغار؟
قال : ابن أبي خدرة : نعم.
قال أبو جعفر : فقد خرج صاحبك في الغار من السكينة وخصه بالحزن ومكان علي - عليه السلام - في هذه الليلة (2) على فراش النبي - صلى اللّه عليه وآله - وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في الغار.
ص: 170
فقال الناس : صدقت.
فقال أبو جعفر : يابن أبي خدرة ، ذهب نصف دينك ، وأما قولك ثاني اثنين الصديق من الأمة أوجب اللّه على صاحبك الاستغفار لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - في قوله عز وجل : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) (1) إلى آخر الاية ، والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس ، وقد قال علي - عليه السلام - على منبر البصرة : أنا الصديق الأكبر (2) آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وصدقت قبله.
قال الناس : صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق : يا بن أبي خدرة ، ذهب ثلاثة أرباع دينك ، وأما قولك في الصلاة بالناس ، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تقم له ، وإنها إلى التهمة أقرب منها إلى الفضيلة ، فلو كان ذلك بأمر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لما عزله عن تلك الصلاة بعينها ، أما علمت أنه لما تقدم أبو بكر ليصلي بالناس خرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فتقدم وصلى بالناس وعزله عنها ، ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين ، إما أن تكون حيلة وقعت منه فلما أحس النبي - صلى اللّه عليه وآله - بذلك خرج مبادرا مع علته فنحاه عنها لكي لا يحتج بعده على أمته فيكونوا في ذلك معذورين ، وإما أن يكون هو الذي أمره بذلك وكان ذلك مفوضا إليه كما
ص: 171
في قصة تبليغ براءة (1) فنزل جبرائيل - عليه السلام - وقال : لا يؤديها ألا أنت أو رجل منك ، فبعث عليا - عليه السلام - في طلبه وأخذها منه وعزله عنها وعن تبليغها ، فكذلك كانت قصة الصلاة ، وفي الحالتين هو مذموم لأنه كشف عنه ما كان مستورا عليه ، وذلك دليل واضح لأنه لا يصلح للاستخلاف بعده ، ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين.
فقال الناس : صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق : يابن أبي خدرة ذهب دينك كله وفضحت حيث مدحت.
فقال الناس لأبي جعفر : هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي - عليه السلام -.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : أما من القرآن وصفا فقوله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (2) فوجدنا عليا - عليه السلام - بهذه الصفة في القرآن في قوله عز وجل : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) - يعني في الحرب والتعب - ( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (3) فوقع الأجماع من الأمة بأن عليا - عليه السلام - أولى بهذا الأمر من غيره لأنه لم يفر عن زحف قط كما فر غيره في غير موضع.
فقال الناس : صدقت.
وأما الخبر عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - نصا فقال : إني تارك
ص: 172
فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1) وقوله - صلى اللّه عليه وآله - مثل أهل بيتى فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، ومن تقدمها مرق ، ومن لزمها لحق (2) فالمتمسك بأهل بيت
ص: 173
رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - هاد مهتد بشاهدة من الرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، والمتمسك بغيرهم ضال مضل.
قال الناس : صدقت يا أبا جعفر.
وأما من حجة العقل : فإن الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم ووجدنا الأجماع قد وقع على علي - عليه السلام - أنه كان أعلم أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وكان جميع الناس يسألونه ويحتاجون إليه ، وكان علي - عليه السلام - مستغنيا عنهم (1) هذا من الشاهد والدليل عليه من القرآن قوله عز وجل ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2) فما اتفق يوم أحسن منه ودخل في هذا الأمر عالم كثير (3).
ص: 174
مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة (1)
قال أبو حنيفة لمؤمن الطاق يوما من الأيام :
لم لم يطالب علي بن أبي طالب - عليه السلام - بحقه بعد وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إن كان له حق؟
فأجابه مؤمن الطاق فقال : خاف أن تقتله الجن كما قتلوا سعد بن عبادة (2) بسهم المغيرة بن شعبة ، وفي رواية بسهم خالد بن الوليد (3).
ص: 175
مر الفضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة ، وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه.
فقال لصاحب كان معه : واللّه لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة.
فقال صاحبه الذي كان معه : إن أبا حنيفة ممن قد علت حالته وظهرت حجته.
ص: 176
قال : مه هل رأيت حجة ضال علت على حجة مؤمن! ثم دنا منه فسلم عليه فردها ، ورد القوم السلام بأجمعهم.
فقال : يا أبا حنيفة ، إن أخا لي يقول : إن خير الناس بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - علي (1) بن أبي طالب - عليه السلام - وأنا أقول : أبو بكر خير الناس وبعده عمر فما تقول أنت رحمك اللّه؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه.
فقال : كفى بمكانهما من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - كرما وفخرا أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره ، فأي حجة تريد أوضح من هذا!.
فقال له فضال : إني قد قلت ذلك لأخي ، فقال : واللّه لئن كان الموضع لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق ، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لقد أساءا وما أحسنا إذ رجعا في هبتهما ونسيا عهدهما.
فأطرق أبو حنيفة ساعة ، ثم قال له : لم يكن له ولا لهما خاصة ، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.
فقال له فضال : قد قلت له ذلك ، فقال : أنت تعلم أن النبي - صلى اللّه
ص: 177
عليه وآله - مات عن تسع نساء ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن ، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر ، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك؟ وبعد ذلك فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وفاطمة ابنته تمنع الميراث؟
فقال أبو حنيفة : يا قوم نحوه عني فإنه رافضي خبيث (1)
ص: 178
مناظرة رجل مع أبي الهذيل العلاف (1)
حكي عن أبي الهذيل العلاف ، قال : دخلت الرقة فذكر لي أن بدير زكن رجلا مجنونا حسن الكلام ، فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالس على وسادة يسرح رأسه ولحيته ، فسلمت عليه ، فرد السلام وقال : ممن يكون الرجل؟
قال : قلت : من أهل العراق.
قال : نعم ، أهل الظرف والأدب.
قال : من أيها أنت؟
قلت : من أهل البصرة.
قال : أهل التجارب والعلم.
قال : فمن أيهم أنت؟
قلت : أبو الهذيل العلاف.
قال : المتكلم؟
ص: 179
قلت : بلى.
فوثب عن وسادته وأجلسني عليها ، ثم قال - بعد كلام جرى بيننا - : ما تقولون في الأمامة؟
قلت : أي الأمامة تريد؟
قال : من تقدمون بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله -؟
قلت : من قدم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
قال : ومن هو؟
قلت : أبا بكر.
قال لي : يا أبا الهذيل ولم قد متم أبا بكر؟
قال : قلت : لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) وتراضي الناس به جميعا (1).
ص: 180
قال : يا أبا الهذيل ، هاهنا وقعت.
أما قولك : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) ، فإني أوجدك أن أبا بكر صعد المنبر وقال : (وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم) (1) فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لا يصعده الكاذبون.
وأما قولك : أن الناس تراضوا به ، فإن أكثر الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير ، وأما المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال : لا أبايع إلا عليا ، فأمر به فكسر سيفه ، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال : يا أبا الحسن ، لو شئت لأملأنها خيلا ورجالا (2) يعني (المدينة) ، وخرج سلمان فقال بالفارسي : (كرديد ونكرديد ، وندانيد كه چه كرديد) (3) ، والمقداد وأبو ذر ، فهؤلاء المهاجرون والأنصار.
أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله :
إن لي شيطانا يعتريني (4) ، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني ، لا أقع في أشعاركم وأبشاركم ، فهو يخبركم على المنبر أني مجنون ، فو كيف يحل
ص: 181
لكم أن تولوا مجنونا؟!
وأخبرني يا أبا الهذيل ، عن قيام عمر وقوله : وددت أني شعرة في صدر أبي بكر ، ثم قام بعدها بجمعة فقال : (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة (1) وقى اللّه شرها ، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه) (2) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره ، وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله.
فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لم يستخلف (3) ، وأن أبا بكر استخلف عمر ، وأن عمر لم يستخلف ، فأرى
ص: 182
أمركم بينكم متناقضا.
وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صير هاشورى بين ستة ، وزعم أنهم من أهل الجنة فقال : (إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين ، وإن خالف ثلاثة لثلاثة ، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن عوف) (1).
فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنه (2)؟!!!
ص: 183
وأخبرني يا أبا الهذيل ، عن عمر لما طعين ، دخل عليه عبد اللّه بن عباس ، قال : فرأيته جزعا.
فقلت : يا أمير ، ما هذا الجزع؟
قال : يا بن عباس ، ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي.
قال : قلت : ولها طلحة بن عبيد اللّه.
قال : رجل له حدة ، كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - يعرفه فلا أولي أمر المسلمين حديدا.
قال : قلت : ولها زبير بن العوام.
قال : رجل بخيل ، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل ، فلا أولي أمور المسلمين بخيلا.
قال : قلت : ولها سعد بن أبي وقاص. قال : رجل صاحب فرس وقوس ، وليس من أحلاس الخلافة.
قال : قلت : ولها عبد الرحمن بن عوف.
قال : رجل ليس يحسن ان يكفي عياله.
قال : قلت : ولها عبد اللّه بن عمر.
فاستوى جالسا ، ثم قال : يا بن عباس! ما اللّه أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته؟!
ص: 184
قال ، قلت : ولّها عثمان بن عفان.
قال : واللّه لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين (1) ، ويوشك أن يقتلوه (2). قالها ثلاثا.
قال : ثم سكت لما أعرف من مغائرته لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب - عليه السلام -.
فقال : يا بن عباس اذكر صاحبك.
قال : قلت : فولها عليا.
قال : فواللّه ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه ، واللّه لئن وليته
ص: 185
ليحملنهم على المحجة العظمى (1) ، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة(2) ، فهو يقول هذا ثم صيرها شورى بين ستة فويل له من ربه!!!
قال أبو الهذيل : فو اللّه بينما هو يكلمني إذ اختلط ، وذهب عقله.
فأخبرت المأمون بقصته ، وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا ، فبعث إليه المأمون ، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صنع به ، فرد عليه ماله وضياعه وصيره نديما ، فكان المأمون يتشيع لذلك ، والحمد لله على كل حال(3) .
ص: 186
مناظرة الهيثم بن حبيب الصيرفي (1) مع ابي حنيفه
عن محمد بن نوفل قال : كنت عند الهيثم بن حبيب الصيرفي فدخل علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، فذكرنا أمير المؤمنين - عليه السلام - ، ودار بيننا كلام فيه.
فقال أبو حنيفة : قد قلت لأصحابنا : لا تقروا لهم بحديث غدير خم (2) فيخصموكم!!
فتغير وجه الهيثم بن حبيب الصيرفي وقال له : لم لا يقرون به أما هو عندك يا نعمان؟
قال : هو عندي وقد رويته.
قال : فلم لا يقرون به ، وقد حدثنا به حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل (3)
ص: 187
عن زيد بن أرقم (1) أن عليا - عليه السلام - نشد اللّه في الرحبة من سمعه؟
فقال أبو حنيفة : أفلا ترون أنه قد جرى في ذلك خوض حتى نشد علي الناس لذلك؟
فقال الهيثم : فنحن نكذب عليا أو نرد قوله؟
فقال أبو حنيفة : ما نكذب عليا ولا نرد قولا قاله ، ولكنك تعلم أن الناس قد غلا فيهم قوم.
فقال الهيثم : يقوله رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ويخطب به ونشفق نحن منه ونتقيه لغلو غال أو قول قائل؟! ثم جاء من قطع الكلام بمسألة سأل عنها ... الحديث (2).
ص: 188
مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم (1) مع ضرار
قال جاء ضرار إلى أبي الحسن علي ابن ميثم - رحمه اللّه - فقال له : يا أبا الحسن ، قد جئتك مناظرا.
فقال له أبو الحسن : وفيم تناظرني؟
فقال : في الإمامة.
فقال : ما جئتني واللّه مناظرا ولكنك جئت متحكما.
قال له ضرار : ومن أين لك ذلك؟
قال أبو الحسن : علي البيان عنه ، أنت تعلم أن المناظرة ربما انتهت إلى حد يغمض فيه الكلام فتتوجه الحجة على الخصم فيجهل ذلك أو يعاند ، وإن لم يشعر بذلك أكثر مستمعيه بل كلهم ، ولكني أدعوك إلى
ص: 189
مصنفة من القول ، وهو أن تختار أحد أمرين إما أن تقبل قولي في صاحبي وأقبل قولك في صاحبك فهذه واحدة.
قال ضرار : لا أفعل ذلك.
قال له أبو الحسن : ولم لا تفعله؟
قال : لأنني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت لي : إنه كان وصي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وأفضل من خلفه وخليفته على قومه وسيد المرسلين فلا ينفعني بعد أن قبلت ذلك منك أن صاحبي كان صديقا واختاره المسلمون إماما ، لأن الذي قبلته منك يفسد هذا علي.
قال له أبو الحسن : فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في صاحبي.
قال ضرار : وهذا لا يمكن أيضا لأني إذا قبلت قولك في صاحبي قلت لي : كان ضالا مضلا ظالما لال محمد - عليهم السلام - قعد في غير مجلسه ودفع الأمام عن حقه وكان في عصر النبي - صلى اللّه عليه وآله - منافقا فلا ينفعني قبولك قولي فيه إنه كان خيرا صالحا ، وصاحبا أمينا لأنه قد انتقض بقبولي قولك فيه بعد ذلك إنه كان ضالا مضلا.
فقال له أبو الحسن - رحمه اللّه - : فإذا كنت لا تقبل قولك في صاحبك ولا قولي فيه ولاقولك في صاحبي ، فما جئتني إلا متحكما ولم تأتني مباحثا مناظرا (1).
ص: 190
قيل لعلي بن ميثم : لم قعد علي - عليه السلام - عن قتالهم؟
قال : كما قعد هارون عن السامري وقد عبدوا العجل.
قيل : أفكان ضعيفا؟
قال : كان كهارون حيث يقول : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ) (1) ، وكنوح إذ قال : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (2) ، وكلوط إذ قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (3) ، وكموسى وهارون إذ قال موسى : ( رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ) (4).
وهذا المعنى قد أخذه من قول أمير المؤمنين لما اتصل به الخبر أنه لم ينازع الأولين.
فقال - عليه السلام - : لي بستة من الأنبياء أسوة :
اولهم خليل الرحمن إذ قال : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (5).
فإن قلتم : إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنه
ص: 191
اعتزلهم لما رأى المكروه منهم ، فالوصي أعذر.
وبلوط إذ قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (1).
فإن قلتم : إن لوطا كانت له بهم قوة ، فقد كفرتم ، وإن قلتم : لم يكن له بهم قوة ، فالوصي أعذر.
وبيوسف إذ قال : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (2).
فإن قلتم : طالب بالسجن بغير مكروه يسخط اللّه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنه دعي إلى ما يسخط اللّه ، فالوصي أعذر.
وبموسى إذ قال : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) (3).
فإن قلتم : إنه فر من غير خوف فقد كفرتم ، وإن قلتم : فر منهم لسوء أرادوه به ، فالوصي أعذر.
وبهارون إذ قال لأخيه : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (4).
فإن قلتم : لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم ، وإن قلتم : استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم ، فالوصي أعذر.
وبمحمد إذ هرب إلى الغار وخلفني على فراشه ووهبت مهجتي لله.
فان قلتم : إنه هرب من غير خوف أخافوه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب إلى الغار ، فالوصي أعذر.
فقال الناس : صدقت يا أمير المؤمنين (5).
ص: 192
سئل أبو الحسن علي بن إسماعيل بن ميثم - رحمه اللّه - فقيل له : لم صلى أمير المؤمنين - عليه السلام - خلف القوم؟
قال : جعلهم بمنزلة السواري (بمثل سواري المسجد).
قال السائل : فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان؟
قال لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة.
قال : فلم أشار على أبى بكر وعمر؟
قال : طلبا منه أن يحيى أحكام اللّه عز وجل ويكون دينه القيم كما أشار يوسف - عليه السلام - على ملك مصر نطرا منه للخلق ، ولأن الفرض والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل ، وأذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر اللّه تعالى.
قال : فلم قعد عن قتالهم؟
قال : كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه ، وقد عبدوا العجل.
قال : أفكان ضعيفا؟
قال : كان كهارون - عليه السلام - حيث يقول : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
ص: 193
اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (1) وكان كنوح - عليه السلام - ، إذ قال : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (2) ، وكان كلوط - عليه السلام - إذ قال ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (3) وكان كموسى وهارون - عليهما السلام - إذ قال موسى : ( رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ) (4).
قال : فلم قعد في الشورى (5)؟
ص: 194
قال : اقتداراً منه على الحجة (1) ، وعلماً منه بأن القوم إن ناظروه
ص: 195
وأنصفوه كان كان هو الغالب ، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه لأنه من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه أجاب ، فإن ثبت له الحجة سلم الحق إليه وأعطيه فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك الشبهة على الخلق ، وقد قال - عليه السلام - يومئذ : اليوم أدخلت في باب إنصفت فيه وصلت إلى حقي ، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره.
قال : فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟
قال : لإظهار الشهادتين وإقراره بفضل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه ، وقد عرض لوط - عليه السلام - بناته على قومه وهم كفا ليردهم عن ضلالتهم ، فقال : ( هولاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا اللّه ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ) (1) (2)
ص: 196
مناظرة المأمون (1) مع الفقهاء
عن حماد بن زيد قال : بعث إلي يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئد قاضى القضاة ، فقال : إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه (2) ما يقال له ويحسن الجواب ، فسموا من تظنونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمينا له عدة ، وذكر هو عدة ، حتي تم العدد الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبكور (3) في السحر ، وبعث إلى من لم يحضر ، فأمره بذلك فغدونا عليه قبل طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينطرنا ، فركب وركبنا معه حتى صرا إلى الباب ، فأدخلنا ، فأمرنا باصلاة فأخذنا فيها ، فلم نستتم حتى خرج الرسول ، فقال : ادخلوا فدخلنا فإذا أمير
ص: 197
المؤمنين جالس على فراشه ، وعليه سواده وطيلسانه (1) والطويلة وعمامته ، فوقفنا وسلمنا ، فرد السلام وأمر لنا بالجلوس ، فلما استقربنا المجلس انحد عن فاشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته (2) ثم أقبل علينا ، فقال : إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك ، وأما الخف فمنع من خلعه علة ، من قد عرفها منكم فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فسأعرفه بها ، ومد رجله ، وقال : انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم.
قال : فأمسكنا فقال لنا يحيى : انتهوا إلي ما أمركم به أمير المؤمنين فتنحينا فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانستنا ورجعنا ، فلما استقر بنا المجلس قال : إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة ، فمن كان به شئ من الأخبثين (3) لم ينفع بنفسه ولم يفقه ما يقول فمن أراد منكم الخلاء فهناك ، وأشار بيده ، فدعونا له ، ثم ألقى مسألة من الفقه.
فقال : يا محمد ، قل ، وليقل القوم من بعدك ، فأجابه يحيى ، ثم الذي يلي يحيى ، ثم الذي يليه ، حتي أجاب آخرنا ، في العلة وعلة وهو مطرق لا يتكلم ، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى.
فقال : يا أبا محمد ، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يرد على كل واحد منا مقالته ، ويخطئ بعضنا ويصوب بعضنا ، حتى إتى على آخرنا.
ثم قال : إني لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنني أحببت إن أنبئكم أن أمير
ص: 198
المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين اللّه به.
قلنا : فليعمل أمير المؤمنين وفقه اللّه.
فقال : إن أمير المؤمنين يدين اللّه على أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خير خلق اللّه بعد رسوله - صلى اللّه عليه وآله - وأولى الناس باخلافة (1) له.
قال إسحاق : فقلت : يا أمير المؤمنين فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة.
فقال : يا إسحاق ، اختر ، إن شئت سألتك أسالك ، وإن شئت أن تسأل فقل.
قال : يا إسحاق : فاغتنمتها منه ، فقلت : بل أسألك يا أمير المؤمنين.
قال : سل.
قلت : من أين؟
قال أمير المؤمنين : إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول اللّه وأحقهم بالخلافة بعده؟
قال : يا أسحاق ، خبرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟
قلت : بالأعمال الصالحة.
قال : صدقت.
قال : فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -
ص: 199
بأفضل من علم الفاضل على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، أيلحق به؟
قال : فأطرقت.
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل نعم ، فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة.
فقلت : أجل يا إمير المؤمنين ، لا يلحق المفضول على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الفاضل أبدا.
قال : يا إسحاق ، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل علي بن أبي طالب ، فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر ، فإن وجدت لهما من الضائل ما لعلي وحده ، فقل إنهما أفضل منه ولا واللّه ، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتها مثل فضائل علي ، فقل إنهم أفضل منه ، لا واللّه ، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بالجنة ، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه.
قال : يا إسحاق ، أي الاعمال كانت أفضل ، يوم بعث اللّه رسوله؟
قلت : الإخلاص بالشهادة.
قال : أليس السبق إلى الإسلام؟
قلت : نعم.
قال : اقرأ ذلك في كتاب اللّه تعالى يقول : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ،
ص: 200
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ، إنما عنى من سبق إلى الإسلام ، فهل علمت أحدا سبق عليا إلى الإسلام (2)؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم ، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.
قال : أخبرني إيهما أسلم قبل ، ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال.
قلت : علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة.
فقال : نعم ، فأخبرني عن إسلام علي حين إسلم : لا يخلو من أن يكون رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاما من اللّه.
قال : فأطرقت.
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل إلهاما فتقدمه على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لأن رسول اللّه لم يعرف الاسلام حتى إتاه جبرئيل عن اللّه تعالى.
قلت : أجل ، بل دعاه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى الإسلام.
ص: 201
قال : يا إسحاق فهل يخلو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حين دعاه إلى الإسلام من إن يكون دعاه بإمر اللّه أو تكلف ذلك من نفسه؟
قال : فأطرقت.
فقال : يا إسحاق ، لا تنسب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى التكلف ، فإن اللّه يقول : ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1).
قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بأمر اللّه.
قال : فهل من صفة الجبار جل ثناؤه أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟
قلت : أعوذ باللّه!
فقال : أفتراه في قياس قولك يا إسحاق : (إن عليا أسلم صبيا لا يجوز عليه الحكم) ، قد كلف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - من دعاء الصبيان ما لا يطيقون ، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بع ساعة ، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شئ ولايجوز عليهم الحكم الرسول - صلى اللّه عليه وآله - أترى هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى اللّه عز وجل؟
قلت : أعوذ باللّه.
قال : يا إسحاق ، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عليا هذ الخلق ، أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله ، ولو كان اللّه تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟
قلت : بلى.
قال : فهل بلغك أن الرسول - صلى اللّه عليه وآله - دعا أحدا من
ص: 202
الصبيان من أهله وقرابته - لئلا تقول إن عليا ابن عمه -؟
قلت : لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل.
قال : يا إسحاق ، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟
قلت : لا.
قال : فدع ما قد وضعه اللّه عنّا وعنك.
قال : ثم أيّ الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟
قلت : الجهاد في سبيل اللّه.
قال : صدقت ، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ما تجد لعلي في الجهاد؟
قال : في أي وقت؟
قال : في إي الأوقات شئت!
قلت : بدر؟
قال : لا أريد غيرها ، فهل تجد لأحد إلّا دون ما تجد لعليّ يوم بدر؟ أخبرني : كم قتلي بدر؟
قلت : نيف وستون رجلاً من المشركين.
قال : فكم قتل عليّ وحده؟
قلت : لا أدرى.
قال : ثلاثة وعشرين ، أو اثنين وعشرين (1) ، والأربعون لسائر
ص: 203
الناس.
قلت : يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في عريشه (1).
قال : يصنع ماذا؟
قلت : يُدبّر.
قال : ويحك! يدبر دون رسول اللّه أو معه شريكا ، أو افتقارا من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب اليك؟
قلت : أعوذ باللّه أن يدبر أبو بكر دون رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أو يكون معه شريكا ، أو أن يكون برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - افتقار إلى رأيه.
قال : فما الفضيلة بالعريش أذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أفضل ممن هو جالس؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، كل الجيش كان مجاهداً.
قال : صدقت ، كل مجاهد ، ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وعن الجالس ، أفضل من الجالس ، أما قرأت كتاب اللّه : ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (2).
قلت : وكان أبوبكر وعمر مجاهدين.
ص: 204
قال : فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟
قلت : نعم.
قال : فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر.
قلت : أجل.
قال : يا اسحاق ، هل تقرأ القرآن؟
قلت : نعم.
قال : اقرأ علي ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) (1) فقرأت منها حتى بلغت : ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) (2) إلى قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) (3).
قال : على رسلك ، فيمن أنزلت هذه الآيات؟
قلت : في علي (4).
ص: 205
قال : فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والاسير.
قال : إنما نطعمكم لوجه اللّه؟ وهل سمعت اللّه وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليه؟
قلت : لا.
قال : صدقت ، لان اللّه جل ثناؤه عرف سيرته يا اسحاق ، ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟
قلت : بلى يا أمير المؤمنين.
قال : أرأيت لو أن رجلا قال : واللّه ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ، ولا أدري إن كان رسول اللّه قاله أم لم يقله ، أكان عندك كافرا؟ قلت : أعوذ باللّه!
ص: 206
قال : أرأيت لو أنه قال : ما أدري هذه السورة من كتاب اللّه أم لا ، كان كافرا؟
قلت : نعم.
قال : يا اسحاق ، أرى بينهما فرقا يا إسحاق ، أتروي الحديث؟
قلت : نعم.
قال : فهل تعرف حديث الطير (1)؟
قلت : نعم.
قال : فحدثني به قال : فحدثته الحديث.
فقال : يا إسحاق ، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق ، فأما
ص: 207
الان فقد بان لي عنادك ، إنك توقن أن هذا الحديث صحيح.
قلت : نعم ، رواه من لا يمكنيي رده.
قال : أفرأيت من أيقن أن هذا الحديث صحيح ، ثم زعم أن أحدا أفضل من علي لا يخلو من إحدى ثلاثة : من أن تكون دعوة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عنده مردودة عليه ، أو أن يقول عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه ، أو أن يقول إن اللّه عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول ، فأي الثلاثة احب إليك أن تقول؟ فأطرقت ... ثم قال : يا اسحاق ، لا تقل منها شيئاً ، فإنّك إن قلت منها شيئاً استنبك (1) ، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله.
قلت : لا أعلم وإن لأبي بكر فضلاً.
قال : أجل ، لو لا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه ، فما فضله الذي قصدت له الساعة؟
قلت : قول اللّه عز وجل : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (2) فنسبه إلى صحبته.
قال : يا إسحاق ، أما لا أحملك على الوعر من طريقك ، إني وجدت اللّه تعلى نسب إلى صاحبه من رضيه ورضي عنه كافرا ، وهو قوله : ( فقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) . (3)
قلت : إن ذلك صاحب كان كافرا ، وأبو بكر مؤمن.
ص: 208
قال : فإذا جازان ينسب إلي صحبة من رضيه كافرا ، جاز أن ينسب إلى صحبة نبيه مؤمنا ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث.
قلت : يا أمير المؤمنين ، إن قدر الاية عظيم ، إن اللّه يقول : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1)!
قال : يا إسحاق ، تأبي الان الا أن أخرج إلى الاستقصاء عليك! أخبرني عن حزن أبي بكر : أكان رضا أم سخطا؟
قلت : إن ابا بكر إنما حزن من أجل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - خوفاً عليه وغماً ، أن يصل إلى رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - شئ من المكروه.
قال : ليس هذا جوابي ، إنما كان جوابي أن تقول : رضا ، أم سخط.
ص: 209
قلت : بل كان رضا لله.
قال : فكان اللّه جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهي عن رضا اللّه عز وجل وعن طاعته!
قلت : أعوذ باللّه!
قال : أو ليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا اللّه؟
قلت : لله بلى.
قال : أو لم تجد أن القرآن يشهد أن رسول اللّه على وآله - قال : (لا تحزن) نهيا له عن الحزن؟
قلت : أعوذ باللّه!
قال : يا إسحاق ، إن مذهبي الرفق بك ، لعل اللّه يردك إلى الحق ويعدل بك عن الباطل ، لكثرة ما تسعيذ به ، وحدثني عن قول اللّه : ( فأنزل اللّه سكينته عليه ) (1) من عنى بذلك ، رسول اللّه أم ابا بكر؟
قلت : بل رسول اللّه.
قال : صدقت.
قال : حدثنى عن قول اللّه عز وجل : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) (2) إلى قوله : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (3).
أتعلم من المؤمنون الذين أراد اللّه في هذا الموضع؟
قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين.
ص: 210
قال : الناس جميعا انهزموا يوما حنين ، فلم يبق مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الا سبعة نفر من بني هاشم : علي يضرب بسيفه بنى يدي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - والعباس (1) أخذ بلجام بغلة رسول اللّه ، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله في هذا الموضع علي خاصة ، ثم من حضره من بني هاشم.
قال : فمن أفضل ، من كان مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في ذلك الوقت ، أم من انهزم عنه ولم يره اللّه موضع لينزلها عليه؟
قلت : بل من أنزلت عليه السكينة.
قال : يا إسحاق ، من أفضل ، من كان معه في الغار ، أم من نام على فراشه (2) ووقاه بنفسه ، حتى تم لرسول اللّه - صلى اللّه على هو آله - ما أراد من الهجرة؟ إن اللّه تبارك وتعالى أمر روله أن يأمر عليا بالنوم على فراشه ، وأن يقي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بنفسه ، فأمره رسول اللّه - صلى اللّه - عليه وآله - بذلك ، فبكى علي - عليه السلام - فقال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : ما يبكيك يا علي ، أجزعا من الموت؟
قال : لا ، والذي بعثك بالحق يا رسول اللّه ، ولكن خوفا عليك ، أفتسلم يا رسول اللّه؟
قال : نعم.
قال : سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول اللّه - ثم أتى
ص: 211
مضجعه واضطجع ، وتسجى (1) بثوبه ، وجاء المشركون من قريش فحفوا (2) به لا يشكون أنه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف ، لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه ، وعلي يسمع ما القوم فيه من إتلاف نفسه ، ولم يدعه ذلك إلى اجرع كما جزع صاحبه في الغار ، ولم يزل علي صابرا محتسبا ، فبعث اللّه ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح ، فملما أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا : أين محمد؟
قال : وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا : فلا نراك إلا مغررا بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص ، حتى قبصه اللّه إليه.
يا إسحاق ، هل تروي حديث الولاية؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين.
قال : أروه ، ففعلت.
قال : يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يو جب لهما عليه؟
قلت : إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثه لشئ جرى بينه وبنى علي ، وأنكر ولاء على ، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (من كنت مولاه لعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه) (3).
ص: 212
قال : في أي موضع قال هذا ، أليس بعد متصرفه من حجة الوداع؟
قلت : إجل.
قال : فإن قتل زيد بن حارثة قبل الغدير (1) كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني : لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي ، أيها الناس فاعلموا ذلك ، أكنت منكرا ذلك عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟
فقلت : اللّهم نعم.
قال : يا إسحاق ، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -؟ ويحكم! لا تجعلو فقهاءكم اربابكم (2) إن اللّه جل ذكره قال في كتابه : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (3) ولم يصلوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب ، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم ، يا إسحاق ، أتروي حديث : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) (4)؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعته من صححه وجحده.
ص: 213
قال : فمن أوثق عندك ، من سمعت منه فصححه ، أو من جحده؟
قلت : من صححه.
قال : فهل يمكن أن يكون الرسول - صلى اللّه عليه وآله - مزح بهذا
قلت : اعوذ باللّه!
قال : فقال قولاً لا معنى له فلا يوقف عليه؟
قلت : أعوذ باللّه!
قال : أفما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمه؟
قلت : بلى.
قال : فعليٌّ أخورسول اللّه لأبيه وأمّه؟
قلت : لا.
قال : أو ليس هارون كان نبيّاً وعليُّ غير نبيّ؟
قال : بلى.
قال : فهذا ن الحالان معدومان في عليي وقد كانا في هارون ، فما معنى قوله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»؟
قلت له : أنما أراد أن يطلب بذلك نفس علي لما قال المنافقون : انه خلفه استثقالا له.
قال : فأراد أن يطيب نفسه بقول لا معنى له؟
قال : فأطرقت.
قال : يا إسحاق ، له معنى في كتاب اللّه بين.
قلت : ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال : قوله عز وجل حكاية عن موسى أنه قال لأخيه هارون :
ص: 214
( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (1).
قلت : يا أمير المؤمنين إن موسى خلف هارون في قومه وهو حي ، ومضى الى ربه ، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - خلف عليا كذلك حين خرج إلى غزاته.
قال : كلا ، ليس كما قلت ، أخبرني عن موسى حين خلف هارون هل كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو احد من بني إسرائيل؟
قلت : لا.
قال : أو ليس استخلفه على جماعتهم؟
قلت : نعم.
قال : فأخبرني عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حين خرج إلى غزاته ، هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان ، فأنى يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب اللّه يدل على استخلافه إياه ، لا يقدر أحد أن يحتج فيه ، ولا أعلم أحدا احتج به وأرجو أن يكون توفيقا من اللّه.
قلت : وما هو يا أمير المؤمنين؟
قال : قوله عز وجل حين حكى عن موسى قوله : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) (2) (فأنت مني يا علي بمنزلة هارون من موسى ، وزيري من أهلي ، وأخي ، شد اللّه به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبح اللّه كثيرا ، ونذكره كثيرا) ، فهل يقدر أحد يدخل في هذا شيئا غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي -
ص: 215
صلى اللّه عليه وآله - وأن يكون لا معنى له؟
قال : فطال المجلس وارتفع النهار.
فقال : يحيى بن أكثم القاضي : يا أمير المؤمنين ، قد أوضحت الحق لكم أراد اللّه به الخير ، وأثبت ما يقدر أحدا أن يدفعه.
قال إسحاق : فأقبل علينا وقال : ما تقولون؟
فقلنا : كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه اللّه.
فقال : واللّه لو لا أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال اقبلوا القول من الناس ، ما كنت لأقبل منكم القول ، اللّهم قد نصحت لهم القول ، اللّهم إني قد أخرجت الأمر من عنقي : اللّهم أني أدينك بالتقريب إليك بحب علي وولايته! (1).
ص: 216
مناظرة المأمون مع علماء العامة (1)
عن اسحاق بن حماد بن زيد ، قال : جمعنا يحيى بن أكثم القاضي ، قال : أمرني المأمون بأحضار جماعة من أهل الحديث ، وجماعة من أهل الكلام والنظر ، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلا ، ثم مضيت بهم فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لأعلمه بمكانهم ففعلوا ، فأعلمته فأمرني بإدخالهم فدخلوا فسلموا ، فحدثهم ساعة وآنسهم.
ثم قال : إني أريد ان أجعلكم بيني وبين اللّه تبارك وتعالى في يومي هذا حجة ، فمن كان حاقنا (2) ، أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته وانبسطوا وسلوا خفافكم ، وضعوا أرديتكم ، ففعلوا ما أمروا به.
فقال : أيها القوم إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند اللّه تعالى ، فاتقوا اللّه وانظروا لأنفسكم وإمامكم ، ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ، ورد الباطل على من أتى به ، وأشفقوا على أنفسكم من النار ، وتقربوا إلى اللّه تعالى برضوانه وإيثار طاعته ، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه اللّه عليه.
ص: 217
فناظروني بجميع عقولكم إني رجل أزعم : أن عليا - عليه السلام - خير البشر بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فإن كنت مصيبا فصوبوا قولي ، وإن كنت مخطئا فردوا علي ، وهلموا فإن شئتم سألتكم وإن شئتم سألتموني.
فقال له الذين يقولون بالحديث : بل نسألك.
فقال : هاتوا وقلدوا كلامكم رجلا واحدا منكم ، فإذا تكلم ، فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد ، وإن أتى بخلل فسددوه.
فقال قائل منهم : إنما نحن نزعم أن خير الناس بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أبو بكر ، من قبل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر (1) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما ، علمنا أنه لم
ص: 218
يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس.
فقال المأمون : الروايات كثيرة ولابد من أن تكون كلها حقا ، أو كلها باطلا ، أو بعضها حقا وبعضها باطلا ، فلو كانت كلها حقا كانت كلها باطلا من قبل أن بعضها ينقض بعضا ، ولو كانت كلها باطلا كان في بطلانها بطلان الدين ودروس الشريعة ، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار.
وهو أن بعضها حق وبعضها باطل ، فإذا كان كذلك فلابد من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقا كان أولى ما أعتقده وأخذ به ، وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها.
وذلك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أحكم الحكماء ، وأولى الخلق بالصدق ، وأبعد الناس من الأمر بالمحال ، وحمل الناس على التدين بالخلاف ، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مختلفين؟
فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحدا في العدد والصفة والصورة والجسم وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.
وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما ، وهذا تكليف ما لا يطاق ، لأنك إذا اقتديت بواحد خالفت الاخر.
والدليل على اختلافهما : أن أبا بكر سبا أهل الردة ، وردهم عمر أحرارا (1) ، وأشار عمر إلى أبي بكر بعزل خالد وبقتله لمالك بن
ص: 219
نويرة (1) ، فأبى أبو بكر عليه.
ص: 220
وحرم عمر المتعتين (1). ولم يفعل ذلك أبو بكر ووضع عمر ديوان العطية (2) ، ولم يفعله أبو بكر ، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر (3) ، ولهذا نظائر كثيرة.
فقال آخر من أصحاب الحديث : فإن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا (4).
ص: 221
فقال المأمون : هذا مستحيل من قبل أن رواياتكم أنه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - آخى بين أصحابه وأخر عليا ، فقال له في ذلك ، فقال : وما أخرتك إلا لنفسي (1) ، فأي الروايتين ثبتت بطلت الأخرى.
قال الاخر : إن عليا - عليه السلام - قال على المنبر : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر (2).
قال المأمون : هذا مستحيل من قبل أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لو علم أنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص (3) ، ومرة أسامة بن زيد (4).
ومما يكذب هذه الرواية قول علي - عليه السلام - لما قبض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : وأنا أولى بمجلسه وهو مني بقميصي ، ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفارا (5) ، وقوله - عليه السلام - : أنى يكونان خيرا مني وقد عبدت اللّه تعالى قبلهما وعبدته بعدهما (6).
قال آخر : فإن أبا بكر أغلق بابه ، وقال : هل من مستقبل فأقيله؟ فقال
ص: 222
علي - عليه السلام - : قدمك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فمن ذا يؤخرك (1)؟
فقال المأمون : هذا باطل من قبل أن عليا - عليه السلام - قعد عن بيعة أبي بكر (2) ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة - عليها السلام - وأنها أوصت أن تدفن ليلا لئلا يشهدا جنازتها (3).
ووجه آخر وهو أنه ان كان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - استخلفه ، فكيف كان له أن يستقيل وهو يقول للأنصار : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر (4).
قال آخر : إن عمرو بن العاص قال : يا نبي اللّه من أحب الناس إليك من النساء؟ قال : عايشة ، فقال : من الرجال؟ فقال : أبوها (5).
فقال المأمون : هذا باطل ، من قبل أنكم رويتم : أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وضع بين يديه طائر مشوي ، فقال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك فكان عليا - عليه السلام - (6) ، فأي رواياتكم تقبل؟
فقال آخر : فإن عليا - عليه السلام - قال : من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري (7).
ص: 223
قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي - عليه السلام - : أجلد الحد على من لا يجب حد عليه؟ فيكون متعديا لحدود اللّه عز وجل ، عاملا بخلاف أمره ، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية.
وقد رويتم عن إمامكم أنه قال : وليتكم ولست بخيركم (1) ، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه ، أو علي - عليه السلام - على أبي بكر مع تناقض الحديث في نفسه؟ ولابد له في قوله من أن يكون صادقا أو كاذبا ، فإن كان صادقا فأنى عرف ذلك؟
أبوحي؟ فالوحي منقطع ، أو بالتظني؟ فالمتظني متحير ، أو بالنظر فالنظر مبحث ، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم ، ويقيم حدودهم كذاب!
قال آخر : فقد جاء أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة (2).
قال المأمون : هذا الحديث محال ، لأنه لا يكون في الجنة كهل ، ويروى أن أشجعية كانت عند النبي - صلى اللّه عليه وآله - فقال : لا يدخل الجنة عجوز (3) فبكت ، فقال لها - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إن اللّه تعالى يقول : ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ، عُرُبًا أَتْرَابًا ) (4).
ص: 224
فان زعمتم أن أبا بكر ينشأ شابا إذا دخل الجنة ، فقد رويتم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال للحسن والحسين : إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والاخرين وأبوهما خير منهما (1).
قال آخر : فقد جاء أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر (2).
قال المأمون : هذا محال لأن اللّه تعالى يقول : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (3) ، وقال تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (4) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ منه ميثاقه على النبوة مبعوثا؟ ومن أخذ ميثاقا على النبوة مؤخرا؟
قال آخر : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم.
فقال : إن اللّه تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة (5).
فقال المأمون : هذا مستحيل من قبل أن اللّه تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيكون عمر في
ص: 225
الخاصة ، والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في العامة.
وليست هذه الروايات باعجب من روايتكم : أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين ، فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة (1).
وإنما قالت الشيعة : علي - عليه السلام - خير من أبي بكر ، فقلتم : عبد أبي بكر خير من الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لان السابق أفضل من المسبوق ، وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر (2) ، وألقى على لسان نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإنهن الغرانيق العلى (3) ، ففر من عمر وألقى على لسان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بزعمكم الكفار.
قال آخر : قد قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لو نزل العذاب ما
ص: 226
نجا إلا عمر بن الخطاب (1)!!
قال المأمون : هذا خلاف الكتاب أيضا ، لأن اللّه تعالى يقول لنبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (2) فجعلتم عمر مثل الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال آخر : فقد شهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة (3).
فقال المأمون : لو كان هذا كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك باللّه أمن المنافقين أنا؟
فإن كان قد قال له النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة فصدق حذيفة ولم يصدق النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فهذا على غير الأسلام.
وإن كان قد صدق النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما؟
قال الاخر : فقد قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : وضعت في كفة الميزان ووضعت أمتي في كفة أخرى فرجحت بهم ، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ، ثم عمر فرجح بهم ، ثم رفع الميزان (4).
فقال المأمون : هذا محال ، من قبل أنه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما ، فان كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنه
ص: 227
محال ، لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الامة ، وإن كانت أفعالها فلم تكن بعد فكيف ترجح بما ليس ، فأخبروني بما يتفاضل الناس؟
فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة.
قال : فأخبروني ، فمن فضل صاحبه على عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أيلحق به؟
فإن قلتم : نعم ، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهادا وحجا ، وصوما وصلاة وصدقة من أحدهم!
قالوا : صدقت لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم اديانكم في فضائل علي - عليه السلام - ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءا من أجزاء كثيرة فالقول قولكم ، وإن كانوا قد رووا في فضائل علي - عليه السلام - أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تعدوه.
قال : فأطرق القوم جميعا.
فقال المأمون : ما لكم سكتم؟
قالوا : قد استقصينا.
قال المأمون : فإني أسألكم ، خبروني أي الاعمال كان أفضل يوم بعث اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قالوا : السبق إلى الأسلام لأن اللّه تعالى يقول : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ،
ص: 228
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1).
قال : فهل علمتم أحدا أسبق من علي - عليه السلام - إلى الأسلام؟
قالوا : إنه سبق حدثا لم يجر عليه حكم ، وأبو بكر أسلم كهلا قد جرى عليه الحكم ، وبين هاتين الحالتين فرق.
قال المأمون : فخبروني عن إسلام علي - عليه السلام - أبإلهام من قبل اللّه تعالى أم بدعاء النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فإن قلتم : بإلهام فقد فضلتموه على النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لأن النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن اللّه تعالى داعيا ومعرفا.
فإن قلتم : بدعاء النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر اللّه تعالى؟
فان قلتم : من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف اللّه تعالى به نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في قوله تعالى : ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (2) وفي قوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (3).
ص: 229
وإن كان من قبل اللّه تعالى فقد أمر اللّه تعالى نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بدعاء علي - عليه السلام - من بين صبيان الناس ، وإيثاره عليهم فدعاه ثقة به ، وعلما بتأييد اللّه تعالى ، وخلة أخرى ، خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلف خلقه ما لا يطيقون؟
فإن قلتم : نعم ، فقد كفرتم ، وإن قلتم : لا ، فكيف يجوز أن يأمر نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنه وضعفه عن القبول؟!
وخلة أخرى ، هل رأيتم النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دعا أحدا من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة علي - عليه السلام -؟ فإن زعمتم أنه لم يدع غيره فهذه فضيلة لعلي - عليه السلام - على جميع صبيان الناس.
ثم قال : أي الاعمال بعد السبق إلى الأيمان؟
قالوا : الجهاد في سبيل اللّه.
قال : فهل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعلي في جميع مواقف النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الأثر؟ هذه بدر قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلا قتل علي - عليه السلام - منهم نيفا وعشرين (1) وأربعون لسائر الناس.
فقال قائل : كان أبو بكر مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في عريشة يدبرها.
فقال المأمون : لقد جئت بها عجيبة ، أكان يدبر دون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلّم - أو معه فيشركه ، أو لحاجة النبي - صلّى اللّه عليه وآله
ص: 230
وسلم - إلى رأي أبي بكر ، أي الثلاث إحب إليك أن تقول؟
فقال : أعوذ باللّه من أن أزعم أنه يدبر دون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أو يشركه ، أو بافتقار من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إليه.
قال : فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلفه عن الحرب ، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلا أفضل من المجاهدين ، واللّه عز وجل يقول : ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (1) الاية.
قال إسحق بن حماد بن زيد ، ثم قال لي اقرأ : ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) (2) ، فقرأت حتى بلغت : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) (3) ، إلى قوله : ( وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) (4).
فقال : فيمن نزلت هذه الايات؟
فقلت : في علي - عليه السلام - (5).
قال : فهل بلغك أن عليا - عليه السلام - قال : حين أطعم المسكين واليتيم والاسير : ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) (6) ، على ما وصف اللّه عز وجل في كتابه؟
ص: 231
فقلت : لا.
قال فإن اللّه تعالى عرف سريرة على - عليه السلام - ونيته فأظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره ، فهل علمت أن اللّه تعالى وصف في شئ مما وصف في الجنة ما في هذه السورة ( قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ ) (1).
قلت : لا.
قال : فهذه فضيلة أخرى ، فكيف تكون القوارير من فضة؟
فقلت : لا أدري.
قال : يريد كأنها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها ، وهذا مثل قوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : يا اسحاق رويدا شوقك بالقوارير (2) ، وعنى به نساء كأنها القوارير رقة ، وقوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحرا - أي كأنه بحر من كثرة جريه وعدوه - وكقول اللّه تعالى : ( يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (3) - أي كأنه يأتيه الموت ولو أتاه من مكان واحد مات -.
ثم قال : يا إسحاق ألست ممن يشهد أن العشرة في الجنة؟
فقلت : بلى.
قال : أرأيت لو أن رجلا. قال : ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك كافرا؟
قلت : لا.
ص: 232
قال أفرأيت لو قال ما أدري هذه السورة من القرآن أم لا أكان عندك كافرا؟
قلت : بلى.
قال : أرى فضل الرجل يتأكد ، خبروني يا إسحاق عن حديث الطائر المشوي (1) أصحيح عندك؟
قلت : بلى.
قال : بان واللّه عنادك ، لا يخلو هذا من أن يكون كما دعاه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أو يكون مردودا أو عرف اللّه الفاضل من خلقه ، وكان المفضول أحب إليه ، أو تزعم أن اللّه لم يعرف الفاضل من المفضول ، فأي الثلاث أحب إليك أن تقول به؟
قال إسحاق : فأطرقت ساعة ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين إن اللّه تعالى يقول في أبي بكر : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (2) ، فنسبه اللّه عز وجل إلى صحبة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال المأمون : سبحان اللّه ما أقل علمك باللغة والكتاب! أما يكون الكافر صاحبا للمؤمن؟ فأي فضيلة في هذا ، أما سمعت قول اللّه تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ) (3) ، فقد جعله اللّه له صاحبا ، وقال الهذلي شعرا :
ولقد غدوت وصاحبي وحشية *** تحت الرداء بصيرة بالمشرق
ص: 233
وقال الأزدي شعرا :
ولقد ذعرت الوحش فيه وصاحبي *** محض القوائم من هجان هيكل
فصير فرسه صاحبه.
وأما قوله : إن اللّه معنا ، فإن اللّه تبارك وتعالى مع البر والفاجر ، أما سمعت قوله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (1). وأما قوله : (لَا تَحْزَنْ) فأخبرني من حزن أبي بكر ، أكان طاعة أو معصية؟ فإن زعمت أنه طاعة ، فقد جعلت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ينهى عن الطاعة وهذا خلاف صفة الحكيم ، وإن زعمت أنه معصية فأي فضيلة للعاصي؟
وخبرني عن قوله تعالى : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) (2) ، على من؟
قال إسحاق : فقلت : على أبي بكر ، لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان مستغنيا عن صفة السكينة. قال : فخبرني عن قوله عز وجل : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (3) ، أتدري من المؤمنون الذين أراد اللّه تعالى في هذا الموضع؟
قال : فقلت : لا.
فقال : إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي - صلى اللّه عليه
ص: 234
وآله وسلم - إلا سبعة من بني هاشم علي - عليه السلام - يضرب بسيفه ، والعباس (1) آخذ بلجام بغلة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، والخمسة يحدقون بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خوفا من أن يناله سلاح الكفار ، حتى أعطى اللّه تبارك وتعالى رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الظفر ، وعنى بالمؤمنين في هذا الموضع عليا - عليه السلام - (2) ومن حضر من بني هاشم.
فمن كان أفضل ، أمن كان مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فنزلت السكينة على النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعليه ، أم من كان في الغار مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولم يكن أهلا لنزولها عليه ، يا إسحاق من أفضل؟ من كان مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في الغار أو من نام على مهاده وفراشه ووقاه بنفسه حتى تم للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ما عزم عليه من الهجرة؟
إن اللّه تبارك وتعالى أمر نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن يأمر عليا - عليه السلام - بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه ، فأمره بذلك ، فقال علي - عليه السلام - : أتسلم يا نبي اللّه؟
قال : سمعا وطاعة ، ثم أتى مضجعه وتسجى بثوبه (3) ، وأحدق المشركون به لا يشكون في أنه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وقد أجمعوا على أن يضربه من كل بطن من قريش رجل ضربة لئلا يطلب
ص: 235
الهاشميون بدمه ، وعلي - عليه السلام - يسمع بأمر القوم فيه من التدبير في تلف نفسه ، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار وهو مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعلي - عليه السلام - وحده فلم يزل صابرا محتسبا فبعث اللّه تعالى ملائكته تمنعه من مشركي قريش فلما أصبح قام فنظر القوم إليه ، فقالوا : أين محمد؟
قال : وما علمي به.
قالوا : فأنت غررتنا ، ثم لحق بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فلم يزل علي - عليه السلام - أفضل لما بدا منه إلا ما يزيد خيرا حتى قبضه اللّه تعالى إليه وهو محمود مغفور له.
يا إسحاق أما تروي حديث الولاية (1)؟
فقلت : نعم.
قال : اروه فرويته.
فقال : أما ترى أنه أوجب لعلي - عليه السلام - على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه؟
قلت : إن الناس يقولون إن هذا قاله بسبب زيد بن حارثة.
فقال : وأين قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هذا؟
قلت : بغدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع.
قال : فمتى قتل زيد بن حارثة؟
قلت : بمؤتة.
قال : أفليس قد كان قتل زيد بن حارثة قبل غدير خم؟
ص: 236
قلت : بلى.
قال : أخبرني لو رأيت ابنا لك أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاقبلوا ، أكنت تكره له ذلك؟
فقلت : بلى.
قال : أفتنزه ابنك عما لا يتنزه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عنه ويحكم! أجعلتم فقهاءكم أربابكم ، إن اللّه تعالى يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (1) ، واللّه ما صاموا لهم ولا صلوا لهم ، ولكنهم امروا لهم فأطيعوا.
ثم قال : أتروي قول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لعلي - عليه السلام - : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (2).
قلت : نعم.
قال : أما تعلم أن هارون أخو موسى لأبيه وأمه؟
قلت : بلى.
قال : فعلي - عليه السلام - كذلك؟
قلت : لا.
قال : وهارون نبي وليس علي كذلك ، فما المنزلة الثالثة إلا الخلافة ، وهذا كما قال المنافقون : إنه استخلفه استثقالا له ، فأراد أن يطيب نفسه.
وهذا كما حكى اللّه تعالى عن موسى - عليه السلام - حيث يقول لهارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ، وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (3).
ص: 237
فقلت : أن موسى خلف هارون في قومه وهو حي ، ثم مضى إلى ميقات ربه تعالى ، وإن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خلف عليا - عليه السلام - حين خرج إلى غزاته.
فقال : أخبرني عن موسى حين خلف هارون ، أكان معه حيث مضى إلى ميقات ربه عز وجل أحد من أصحابه؟
فقلت : نعم.
قال : أو ليس قد استخلفه على جميعهم؟
قلت : بلى.
قال : فكذلك علي - عليه السلام - خلفه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حين خرج إلى غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان ، إذ كان أكثر قومه معه وإن كان قد جعله خليفة على جميعهم.
والدليل على أنه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : على مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وهو وزير النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أيضا بهذا القول لأن موسى - عليه السلام - قد دعا اللّه تعالى ، وقال فيما دعا : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فإذا كان علي - عليه السلام - منه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بمنزلة هارون من موسى ، فهو وزيره كما كان هارون وزير موسى وهو خليفته كما كان هارون خليفة موسى - عليه السلام -.
ثم اقبل على أصحاب النظر والكلام ، فقال : أسألكم أو تسألوني؟
ص: 238
فقالوا : بل نسألك.
قال : قولوا.
فقال قائل منهم : أليست إمامة علي - عليه السلام - من قبل اللّه عز وجل ، نقل ذلك عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من نقل الفرض مثل ، الظهر أربع ركعات ، وفي مأتي درهم خمسة دراهم ، والحج إلى مكة؟
فقال : بلى.
قال : فما بالهم لم يختلفو في جميع الفروض واختلفوا في خلافة علي - عليه السلام - وحدها؟
قال المأمون : لأن جميع الفروض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ما يقع في الخلافة.
فقال آخر : ما أنكرت أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه رأفة بهم ورقة عليهم من غير أن يستخلف هو بنفسه ، فيعصى خليفته فينزل بهم العذاب؟
فقال : أنكرت ذلك من قبل أن اللّه تعالى أرأف بخلقه من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقد بعث نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إليهم وهو يعلم أن فيهم عاص ومطيع ، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله.
وعلة أخرى : ولو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم فلو أمر الكل من كان المختار؟ ولو أمر بعضنا دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة ، فإن قلت : الفقهاء ، فلابد من تحديد الفقيه وسمته.
قال آخر : فقد روي أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه تعالى حسن ، وما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح.
ص: 239
فقال : هذا القول لابد من أن يكئون يريد كل المؤمنين أو البعض ، فإن اراد الكل فهذا مفقود ، لأن الكل لا يمكن اجتماعهم ، وإن كان البعض ، فقد روى كل في صاحبه حسنا ، مثل رواية الشيعة في علي ، ورواية الحشوية (1) في غيره ، فمتى يثبت ما تريدون من الأمامة؟
قال آخر : فيجوز أن تزعم ان أصحاب محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - اخطأوا؟
قال : كيف تزعم أنهم اخطأوا واجتمعوا على ضلالة وهم لم يعلموا فرضا ولا سنة ، لأنك تزعم ان الأمامة لا فرض من اللّه تعالى ولا سنة من الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ؟
قال آخر : إن كنت تدعي لعلي - عليه السلام - من الأمامة دون غيره فهات بينتك على ما تدعي؟
فقال : ما أنا بمدع ولكني مقر ولابينة على مقر والمدعي من يزعم أن إليه التولية والعزل وأن إليه الاختيار والبينة لا تعري من أن تكون من شركائه فهم خصماء أو تكون من غيرهم ، والغير معدوم فكيف يؤتى بالبينة على هذا؟
ص: 240
قال آخر : فما كان الواجب على علي - عليه السلام - بعد مضي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال : ما فعله؟
قال : إنما وجب عليه أن يعلم الناس أنه إمام.
فقال : إن الأمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ، ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، وإنما تكون بفعل من اللّه تعالى فيه كما قال لإبراهيم - عليه السلام - : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (1) ، وكما قال تعالى لداود - عليه السلام - : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) (2) ، وكما قال عز وجل للملائكة في آدم : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (3).
فالأمام إنما يكون إماما من قبل اللّه تعالى وباختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل ، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقا للأمامة ، وإذا عمل خلافها اعتزل فيكون خليفة من قبل أفعاله.
قال آخر : فلم أوجبت الأمامة لعلي - عليه السلام - بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فقال : لخروجه من الطفولية إلى الأيمان كخروج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الطفولية إلى الأيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجة واجتنابه للشرك ، كبراءة النبي من الضلالة واجتنابه للشرك لأن الشرك ظلم ، ولا يكون الظالم أماما ولا من عبد وثنا بإجماع ، ومن شرك فقد
ص: 241
حل من اللّه تعالى محل أعدائه ، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة حتى يجئ إجماع آخر مثله ، ولأن من حكم عليه مرة ، فلا يجوز أن يكون حاكما ، فيكون الحاكم محكوما عليه ، فلا يكون حينئذ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه.
قال آخر : فلم لم يقاتل علي - عليه السلام - أبا بكر وعمر كما قاتل معاوية؟
فقال : المسألة محال لأن (لم) اقتضاء ، ولم يفعل نفي ، والنفي لا تكون له علة ، إنما العلة للأثبات ، وإنما يجب أن ينظر في أمر علي - عليه السلام - أمن قبل اللّه أم من قبل غيره فإن صح أنه من قبل اللّه تعالى فالشك في تدبيره كفر لقوله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (1) ، فأفعال الفاعل تبع لأصله ، فإن كان قيامه عن اللّه تعالى فأفعاله عنه وعلى الناس الرضا والتسليم ، وقد ترك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - القتال يوم الحديبية ، يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقوي حارب كما قال اللّه تعالى في الأول : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) (2) ، ثم قال عز وجل : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (3).
قال آخر : إذا زعمت أن إمامة علي - عليه السلام - من قبل اللّه تعالى وأنه مفترض الطاعة ، فلم لم يجز إلا التبليغ والدعاء للانبياء - عليهم
ص: 242
السلام - وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته؟
فقال : من قبل إنا لم نزعم أن عليا - عليه السلام - أمر بالتبليغ فيكون رسولا ولكنه - عليه السلام - وضع علما بين اللّه تعالى وبين خلقه ، فمن تبعه كان مطيعا ومن خالفه كان عاصيا ، فإن وجد أعوانا يتقوى بهم جاهد ، وإن لم يجد أعوانا فاللوم عليهم لا عليه ، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلا بقوة وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه ، فإذا حجوا أدوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت للائمة عليهم لا على البيت.
وقال آخر : إذا وجب أنه لابد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار ، كيف يجب بالاضطرار أنه علي - عليه السلام - دون غيره؟
فقال : من قبل أن اللّه تعالى لا يفرض مجهولا ، ولا يكون المفروض ممتنعا ، إذ المجهول ممتنع فلابد من دلالة الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على الفرض ، ليقطع العذر بين اللّه عز وجل وبين عباده ، أرأيت لو فرض اللّه تعالى على الناس صوم شهر فلم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسم بوسم ، وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد اللّه تعالى ، فيكون الناس حينئذ مستغنين عن الرسول المبين لهم وعن الأمام الناقل خبر الرسول إليهم.
وقال آخر : من أين أوجبت أن عليا - عليه السلام - كان بالغا حين دعاه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فإن الناس يزعمون أنه كان صبيا حين دعي ولم يكن جاز عليه الحكم ولا بلغ مبلغ الرجال.
فقال : من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل إليه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ليدعوه ، فإن كان كذلك فهو محتمل التكليف قوي على أداء الفرائض ، وإن كان ممن لم يرسل إليه ، فقد لزم
ص: 243
النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قول اللّه عز وجل ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1) ، وكان مع ذلك فقد كلف النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عباد اللّه ما لا يطيقون عن اللّه تبارك وتعالى ، وهذا من المحال الذي يمتنع كونه ولا يأمر به حكيم ، ولا يدل عليه الرسول تعالى اللّه عن أن يأمر بالمحال ، وجل الرسول من أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم ، فسكت القوم عند ذلك جميعا.
فقال المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي ، أفاسألكم؟
قالوا : نعم.
قال : أليس قد روت الأمة بإجماع منها أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2).
قالوا : بلى.
قال : ورووا عنه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : من عصى اللّه بمعصية صغرت أو كبرت ثم اتخذها دينا ومضى مصرا عليها ، فهو مخلد بين أطباق الجحيم؟
قالوا : بلى.
قال : فخبروني عن رجل تختاره الأمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومن قبل اللّه عز وجل ، ولم يستخلفه الرسول؟
فإن قلتم : نعم فقد كابرتم ، وإن قلتم : لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن
ص: 244
خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا كان من قبل اللّه عز وجل ، وأنكم تكذبون على نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فإنكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بدخول النار.
وخبروني : في أي قوليكم صدقتم ، أفي قولكم مضى - صلى اللّه عليه وآله - ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر ، يا خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن كونه ، إذ كان متناقضا ، وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الاخر ، فاتقوا اللّه وانظروا لأنفسكم ودعوا التقليد وتجنبوا الشبهات ، فواللّه ما يقبل اللّه تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق والريب شك وإدمان الشك كفر باللّه تعالى وصاحبه في النار.
وخبروني : هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبدا فإذا ابتاعه صار مولاه وصار المشتري عبده؟
قالوا : لا.
قال : فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهواكم واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم وليتموه ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه ، بل تأتون خليفة وتقولون إنه خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ثم إذا سخطتم عليه قتلتموه كما فعل بعثمان بن عفان؟
فقال قائل منهم : لأن الأمام وكيل المسلمين إذا رضوا عنه ولوه وإذا سخطوا عليه عزلوه.
قال : فلمن المسلمون والعباد والبلاد؟
قالوا : لله تعالى.
قال : فواللّه أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره لأن من إجماع الامة أنه من أحدث حدثا في ملك غيره فهو ضامن وليس له أن يحدث ،
ص: 245
فإن فعل فآثم غارم.
ثم قال خبروني عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هل استخلف حين مضى أم لا؟
فقالوا : لم يستخلف.
قال : فتركه ذلك هدى أم ضلال؟
قالوا : هدى.
قال : فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال؟
قالوا : قد فعلوا ذلك.
قال : فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو فترك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى ، فلم استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولم جعل عمر الأمر من بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه؟ لأنكم زعمتم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلف وأن أبا بكر استخلف وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بزعمكم ولم يستخلف كما فعل ، أبو بكر وجاء بمعنى ثالث ، فخبروني : أي ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - صوابا فقد خطأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل.
وخبروني : أيهما أفضل ما فعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بزعمكم من ترك الاستخلاف أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟
وخبروني : هل يجوز أن يكون تركه من الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هدى ، وفعله من غيره هدى فيكون هدى ضد هدى؟ فأين الضلال حينئذ؟
وخبروني : هل ولي أحد بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -
ص: 246
باختيار الصحابة منذ قبض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلى اليوم؟ فإن قلتم : لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإن قلتم : نعم ، كذبتم الأمة وأبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع ، وخبروني : عن قول اللّه عز وجل : ( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) (1) ، أصدق هذا أم كذب؟
قالوا : صدق.
قال : أفليس ما سوى اللّه لله إذ كان محدثه ومالكه؟
قالوا : نعم.
قال : ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة تفترضون طاعته وتسمونه خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأنتم استخلفتموه وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلاف محبتكم ومقتول إذا أبى الاعتزال ، ويلكم لا تفتروا على اللّه كذبا ، فتلقوا وبال ذلك غدا إذا قمتم بين يدي اللّه تعالى ، وإذا وردتم على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقد كذبتم عليه متعمدين ، وقد قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) ، ثم استقبل القبلة ورفع يديه ، وقال : اللّهم إني قد أرشدتهم ، اللّهم إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي ، اللّهم إني لم أدعهم في ريب ، ولا في شك ، اللّهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم علي - عليه السلام - على الخلق بعد نبيك محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كما أمرنا به رسولك - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون (3).
ص: 247
مناظرة ابن شاذان النيسابوري (1) مع بعضهم
قيل لأبي محمد الفضل بن شاذان النيسابوري - رحمه اللّه - ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -؟
فقال : الدليل على ذلك من كتاب اللّه عز وجل ، ومن سنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومن إجماع المسلمين.
فأما كتاب اللّه سبحانه وتعالى ، قوله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) ، فدعانا سبحانه وتعالى
ص: 248
إلى إطاعة إولى الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة اللّه ومعرفة رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فنظرنا في أقاويل الأمة فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الاية على ما يوجب كونها في علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فقال بعضهم : أولوا الأمر هم أمراء السرايا ، وقال بعضهم : هم العلماء ، وقال بعضهم : هم القوام على الناس والامرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وقال بعضهم : هم علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته - عليهم السلام -.
فسألنا الفرقة الأولى ، فقلنا لهم : أليس علي بن أبي طالب من أمراء السرايا؟
فقالوا : بلى.
فقلنا للثانية : ألم يكن علي - عليه السلام - من العلماء؟
قالوا : بلى.
وقلنا للثالثة : أليس علي - عليه السلام - قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فقالوا : بلى ، فصار أمير المؤمنين - عليه السلام - معنيا بالاية باتفاق الأمة وإجماعها ، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في إمامته - عليه السلام - والموافق عليها ، فوجب أن يكون إماما بهذه الاية لوجود الاتفاق على أنه
ص: 249
معني بها ، ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك ، وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه في البرهان.
وأما السنة : فإنا وجدنا النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - استقضى عليا - عليه السلام - على اليمن ، وأمره على الجيوش ، وولاه الأموال ، وأمره بأدائها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما ، واختاره - عليه السلام - لأداء رسالات اللّه عز وجل والأبلاغ عنه في سورة البراءة (1) ، واستخلفه عند غيبته على من خلف ، ولم نجد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - سن هذه السنن في غيره ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كما اجتمعت في علي - عليه السلام - ، وسنة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بعد موته واجبة كوجوبها في حياته.
وإنما تحتاج الأمة إلى الأمام لهذه الخصال التي ذكرناها فإذا وجدناها في رجل قد سنها الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيه كان أولى بالأمامة ممن لم يسن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيه شيئا من ذلك.
وأما الأجماع : فإن إمامته تثبت من جهته من وجوه :
منها : أنهم قد أجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - قد كان إماما ولو يوما واحدا ، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الملة ثم اختلفوا.
فقالت طائفة : كان إماما في وقت كذا دون وقت كذا ، وقالت طائفة : كان إماما بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في جميع أوقاته ، ولم تجتمع الإمة على غيره أنه كان أماما في الحقيقة عين ، والإجماع أحق
ص: 250
أن يتبع من الخلاف.
ومنها : أنهم إجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - كان يصلح للأمامة وأن الأمامة تصلح لبني هاشم ، واختلفوا في غيره ، وقالت طائفة : لم تكن تصلح لغير علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولا تصلح لغير بني هاشم ، والأجماع حق لا شبهة فيه ، والاختلاف لا حجة فيه.
ومنها : أنهم أجمعوا على أن عليا - عليه السلام - كان بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ظاهر العدالة واجبة له الولاية ، ثم اختلفوا فقال قوم : إنه كان مع ذلك معصوما من الكبائر والضلال.
وقال آخرون : لم يك معصوما ، ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر لا يشوب ظاهره الشوائب ، فحصل الأجماع على عدالته ، واختلفوا في نفي العصمة عنه.
ثم أجمعوا كلهم جميعا على أن أبا بكر لم يك معصوما واختلفوا في عدالته ، فقالت طائفة : كان عدلا ، وقالت أخرى : لم يكن عدلا لأنه أخذ ما ليس له ، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالأمامة ممن اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه. (1)
ص: 251
مناظرة الشيخ الصدوق (1) (رحمه اللّه) مع الملك ركن الدولة بن بابويه
لقد ذكر في المجلس الذي جرى بين الشيخ الأمام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي مع الملك ركن الدولة أبي علي الحسين بن بابويه الديلمي ، قيل : إنه وصف للملك المذكور حال أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، وما يقعده في المجالس وما عليه م الآثار وما يجيب عنه من المسائلو الأخبار ورجوع الإمامية
ص: 252
إليه وإلى أقواله في البلدان والأمصار.
فأحب لقاءه ومسألته فقدم إلى حاجبه البرمكي إحضاره ، فركب الحاجب إليه وأحضره إلى مجلس السلطان ، فلما دخل عليه قربه وأدناه وأكرمه ورفع مجلسه ، فلما استقر به المجلس.
قال له السلطان : أيها الشيخ الفقيه العالم ، اختلف الحاضرون في القوم الذين طعنوا فيهم الشيعة ، فقال بعضهم : يجب الطعن ، وقال بعضهم : لا يجب ولا يجوز ، فما عندك في هذا؟
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : أيها الملك ، إن اللّه تعالى لم يقبل من عباده الأقرار بتوحيده حتى ينفوا كل إله سواه ، وكل صنم عبد من دون اللّه ، ألم تر أنا أمرنا أن نقول : (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، فلا إله نفي كل إله عبد من دونه.
وقوله : إلا ، إثبات اللّه عز وجل ، وكذلك لم يقبل الأقرار بنبوة محمد نبينا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى ينفوا كل متنبئ كان في وقته ، مثل مسيلمة الكذاب ، وسجاح بنت الأسود العنسي وأشباههم ، وهكذا لا يقبل القول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلا بعد نفي كل ضد نصب للأمامة دونه.
قال الملك : هذا هو الحق ، وأخبرني أيها الشيخ بشئ جلي واضح من أمر من انتصب للأمامة دونه؟
قال الشيخ : أيها الملك ، اجتمعت الأمة على نقل خبر سورة براءة (1) ، وفيه خروج أبي بكر من الأسلام ، وفيه نزول ولاية أمير المؤمنين - عليه السلام - من السماء وعزل أبي بكر ، وفيه أنه لم يكن من النبين.
ص: 253
قال الملك : وكيف ذلك؟
فقال الشيخ - رحمه اللّه - : روى جميع أهل النقل منا ومن مخالفينا أنه لما نزلت سورة براءة على رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دعا أبا بكر فقال : يا أبا بكر خذ هذه السورة فأدها عني بالموسم بمكة ، فأخذها أبو بكر وسار ، فلما بلغ بعض الطريق هبط جبرئيل - عليه السلام - فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فدعا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمير المؤمنين - عليه السلام - وأمره أن يلحق أبا بكر ويأخذ منه سورة براءة ويؤديها عن اللّه تعالى أيام الموسم بمكة ، فلحقه أمير المؤمنين - عليه السلام - وأخذ منه سورة براءة وأداها عن اللّه تعالى.
حيث أنهم أخروا من قدمه اللّه تعالى وقدموا من أخره اللّه استهانة باللّه سبحانه ، وقد صح أن أبا بكر ليس من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لقول جبرئيل - عليه السلام - : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فإذا لم يكن من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يكن تابعا له ، قال اللّه تعالى : ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) (1) ، وإن لم يكن متبعا للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يكن محبا لله عز وجل لقوله تعالى ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (2) ، وإذا لم يكن محبا كان مبغضا وبغض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كفر.
وقد صح بنفس هذا الخبر أن عليا - عليه السلام - من النبي ، هذا مع ما رواه المخالف في تفسير قوله : ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ
ص: 254
مِنْهُ ) (1) أن الذي على بينة من ربه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والشاهد الذي يتلوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وما رواه عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : علي مني وأنا من علي (2) ، وما رواه عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لينتهين أو لأبعثن عليه رجلا نفسه نفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كمعصيتي (3).
ومما روي عن جبرئيل - عليه السلام - في غزوة أحد أنه نزل على النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فنظر إلى علي - عليه السلام - وجهاده بين يدي رسول اللّه ، فقال جبرئيل : هذه المواساة ، فقال : يا جبرئيل لأنه مني وأنا
ص: 255
منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما (1).
فكيف يصلح أيها الملك للأمامة رجل لم يأتمنه اللّه تعالى على تبليغ آيات من كتابه أن يؤديها إلى الناس أيام الموسم ، فكيف يجوز أن يكون مؤتمنا على أن يؤدي جميع دين اللّه عز وجل بعد النبي ويكون واليا عليهم وعزله اللّه عز وجل وولى عليا - عليه السلام -؟
وكيف لا يكون علي مظلوما وقد أخذوا ولايته وقد نزل بها جبرئيل من السماء؟
فقال الملك : هذا بين واضح. وكان رجل واقفا على رأس الملك يقال له : (أبو القاسم) فاستأذنه في كلامه ، فأذن له.
فقال : أيها الشيخ كيف يجوز أن تجتمع هذه الأمة على خطأ مع قول رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لا تجتمع أمتي على ضلالة (2)؟
فقال الشيخ : إن صح هذا الحديث فيجب أن تعرفه الأمة ، ومعناها أن الأمة في اللغة هي الجماعة وأقل الجماعة رجل وامرأة ، وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا ) (3) ، فسمى واحدا أمة ، قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : رحم اللّه قسا يحشر يوم القيامة أمة واحدة (4) ، فما ينكر
ص: 256
أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن كان قال هذا الحديث - عنى به عليا - عليه السلام - ومن تبعه.
فقال : عنى به الأعظم ومن هو كان أكثر عددا.
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : وجدنا الكثرة في كتاب اللّه عز وجل مذمومة والقلة مرحومة محمودة في قوله عز وجل : ( لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ) (1) ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (2) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (3) ، ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) (4) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ) (5) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (6) ، ( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) (7) ، ( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) (8) ، وقال اللّه تعالى في مدح القلة : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) (9) ، ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (10) ، ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (11). وذكر اللّه في قول موسى : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (12).
قال الملك : كيف يجوز الارتداد على العدد الكثير مع قرب العهد
ص: 257
بموت صاحب الشريعة؟
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : كيف لا يجوز الارتداد عليهم مع قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (1) ، وليس ارتدادهم ذلك بأعجب من ارتداد بني إسرائيل حين مضى موسى - عليه السلام - لميقات ربه واستخلف عليهم أخاه هارون وقال : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (2) ووعد قومه بأنه يعود إليهم بعد ثلاثين ليلة وأتمها اللّه بعشر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة ، فلم يصبر قومه إلى أن خرج فيهم السامري وصنع لهم من حليهم عجلا جسدا له خوار ، فقال لهم : هذا إلهكم وإله موسى ، واستضعفوا هارون خليفة موسى وأطاعوا السامري في عبادة العجل ، ولم يحفظوا في هارون وصية موسى به ولا خلافته عليهم ، ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3).
هذا مما قص اللّه تعالى من تمام هذه القصة ، وإذا جاز على بني إسرائيل - وهم من أمة أولي العزم - أن يرتدوا بغيبة موسى - عليه السلام - بزيادة عشر ليال حتى خالفوا وصيته وأطاعوا السامري في عبادة العجل ،
ص: 258
فكيف لا يجوز على هذه الأمة بعد موت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن تخالف وصيه وخليفته وخير الخلق بعده وتطيع سامري هذه الأمة؟ وإنما علي - عليه السلام - بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبى بعد محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما روي عن جميع أهل النقل.
فقال الملك للشيخ الفاضل : ما سمعت في المعنى كلاما أحسن من هذا ولا أبين.
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : أيها الملك زعم القائلون بإمامة سامري هذه الأمة أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مضى ولم يستخلف واستخلفوا رجلا وأقاموه ، فإن كان ما فعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على زعمهم من ترك الاستخلاف حقا فالذي أثبته القوم من الاستخلاف باطل ، وإن كان الذي أثبته الأمة من الاستخلاف صوابا فالذي فعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خطأ ، فمن لم يحكم بالخطأ عليه يحكم به على النبي - صلى اللّه عليه وآله - وعليهم.
فقال الملك : بل عليهم.
قال الشيخ (رحمه اللّه) : فكيف يجوز أن يخرج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الدنيا ولا يوصي بأمر الأمة الى أحد ، ونحن لا نرضى من عقل أكار (1) في قرية إذا مات وخلف مسحاة وفأسا لا يوصي به إلى أحد من بعده (2)؟
ص: 259
فقال الملك : القول كما يقوله المخالفون.
فقال الشيخ : وهنا حكاية أخرى ، وهي أنهم زعموا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلف فخالفوه باستخلافهم من أقاموه وخالف النبي من أقامه بالأمر ، فلما حضرته الوفاة لم يعتد بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في ترك الاستخلاف على رغمه واستخلف بعده الثاني ، والثاني لم يعتدوا به ولا بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى جعل الأمر شورى في قوم معدودين ، وأي بيان أوضح من هذا؟
فقال الملك : هذا بين واضح ، فأي شبهة ولدوها في إمامة هذا الرجل وإقامته؟
فقال الشيخ : إنهم زعموا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : قدمه للصلاة ، وهذا خير لا يضر ، وقد اختلفوا فيه ، فمنهم من روى أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال لعائشة : أمرت أباك أن يصلي بالناس ، وأن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما عرف تقدم أبي بكر خرج متكئا على علي - عليه السلام - وعلى الفضل بن العباس حتى دخل المسجد ، فنحى أبا بكر وصلى بالناس قاعدا وأبو بكر خلفه والناس كانت خلف أبي بكر (1).
ص: 260
ومنهم من روى أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - امر حفصة أن تأمر أباها أن يصلي بالناس (1) ، وهذا الخبر لا يصح لأن المهاجرين والأنصار لم يحتجوا به ولا ذكروه يوم السقيفة ، ولو صح هذا الخبر لما وجبت إمامة أبي بكر ، ولو وجبت الأمامة بالتقديم إلى الصلاة لوجب أن يكون عبد الرحمن بن عوف أولى بالأمامة ، لأنهم رووا عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه صلى خلفه ولم يختلفوا في ذلك (2) ، وكيف يلزمنا أيها الملك قبول خبر عائشة وحفصة بجرهما النفع إلى أبيهما وإلى أنفسهما ، ولا يلزمهم قبول قول فاطمة - عليها السلام - وهي سيدة نساء العالمين فيما ادعته من أمر فدك (3) ، وأن أباها نحلها إياها (4) ، مع كون فدك في يدها سنين من حياته - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مع شهادة علي والحسن والحسين - عليهم السلام - وشهادة أم أيمن لها (5)؟ وكيف يصح
ص: 261
هذا الخبر عندهم وقد رووا أن شهادة لأبيها غير جائزة (1)؟
وقولهم : إن شهادة النساء لا تجوز في عشرة دراهم ولا أقل إذا لم يكن معهن رجل (2) ، ومع قولهم : إن شهادة النساء على النصف من شهادة الرجال.
فقال الملك : قولهم في هذا غير صحيح ، والحق والصدق فيما قاله الشيخ الفاضل.
ثم قال الملك : أيها الشيخ ، لم قلت : إن الأئمة أثنا عشر ولله عز وجل مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي؟
فقال الشيخ : أيها الملك ، إن الأمامة فريضة من فرائض اللّه وما أوجب اللّه فريضة غير معدودة ، ألا ترى أن فرض الصلاة في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة ، وفرض الزكاة معلوم وهي عندنا على تسعة أشياء ، ووجوب الصوم معلوم وهو ثلاثون يوما ، وبين مناسك الحج وهي معدودة ، وكذلك تكون الأئمة عددا لا يجوز أن يقال بأكثر ولا أقل.
فقال الملك : فهل بين اللّه لذلك مجملا ، والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بين عددها في سننه لأن السنن إلى النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فقال الشيخ : نعم قد بين الفرائض والسنن كلها بأمر اللّه تعالى ، قال اللّه
ص: 262
تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1) وإن اللّه تعالى قال : ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) (2) ، ولم يبين عدد ركعاتها وبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وقال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) (3) ، ولم يبين عدد الأصناف التي تجب عليها الزكاة ، وقال اللّه تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (4) ، ولم يبين حدوده وهيئته وبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقال اللّه تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (5) ، ولم يبين مناسك الحج فبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، كذلك قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (6) ، ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (7) ، ولم يبين عدد الأئمة فبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في سننه (8) كما بين سائر الفرائض.
فقال الملك : إن أمر الأمامة لم يوافقكم عليه مخالفوكم كما وافقوكم على عدد الفرائض.
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : ليس يبطل قولنا في الأمامة بمخالفة مخالفينا ، كمإ
ص: 263
لا يبطل الاسلام ومعجزات النبي بمخالفه اليهود والنصارى والمجوس والبراهمة (1) ، ولو بطل بشئ من مخالفة المخالفين لم يثبت في العالم شئ ، لأن مامن شئ إلا وفيه خلاف.
فقال الملك : صدقت هذا هو الحق وأنتم عليه. وأولى الملك في تلك الساعة لأمير المؤمنين - عليه السلام - وسب أعداءه ومن شايعهم على ذلك ، والحمد لله رب العالمين وسلم تسليما كثيرا (2).
ص: 264
مناظرة المفيد (1) مع عمر في المنام
عن الشيخ المفيد أبي عبد اللّه محمد بن محمد النعمان - رضى اللّه عنه - قال : رأيت في المنام سنة من السنين كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقة دائرة فيها أناس كثيرة ، فقلت : ما هذا؟
فقالوا : هذه حلقة فيها رجل يعظ.
قلت : ومن هو؟
ص: 265
قالوا : عمر بن الخطاب ، ففرقت الناس ودخلت الحلقة فإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشئ لم أحصله فقطعت عليه الكلام.
وقلت : أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على فضل صاحبك أبي بكر عتيق بن ابي قحافة من قول اللّه تعالى : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) (1).
فقال : وجه الدلالة على فضل أبي بكر في هذه الاية على ستة مواضع :
الأول : أن اللّه تعالى ذكر النبي - صلى اللّه عليه وآله - وذكر أبا بكر وجعله ثانيه ، فقال : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) .
والثاني : وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما فقال : ( إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) .
والثالث : أنه اضافه إليه بذكر الصحبة فجمع بينهما بما تقتضي الرتبة فقال : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ) .
والرابع : أنه أخبر عن شفقة النبي - صلى اللّه عليه وآله - ورفقه به لموضعه عنده فقال : ( لَا تَحْزَنْ ) .
والخامس : أخبر أن اللّه معهما على حد سواء ، ناصرا لهما ودافعا عنهما فقال : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) .
والسادس : أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر لأن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لم تفارقه سكينته قط ، قال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) (2).
ص: 266
فهذه ستة مواضع تدل على فضل ابى بكر من آية الغار ، حيث لا يمكنك ولا غيرك الطعن فيها.
فقلت له : خبرتك بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه وإني بعون اللّه سأجعل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
اما قولك : إن اللّه تعالى ذكر النبي - صلى اللّه عليه وآله - وجعل ابا بكر معه ثانيه ، فهو إخبار عن العدد ، ولعمري لقد كانا اثنين ، فما في ذلك من الفضل؟! فنحن نعلم ضرورة أن مؤمنا ومؤمنا ، أو مؤمنا وكافرا ، اثنان فما أرى لك في ذلك العد طائلا تعتمده.
وأما قولك : إنه وصفهما بالاجتماع في المكان ، فإنه كالاول لأن المكان يجمع الكافر والمؤمن كما يجمع العدد المؤمنين والكفار ، وأيضا : فإن مسجد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أشرف من الغار ، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار ، وفي ذلك يقول اللّه عز وجل : ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) (1) ، وأيضا : فإن سفينة نوح - عليه السلام - قد جمعت النبي ، والشيطان ، والبهيمة ، والكلب ، والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة ، فبطل فضلان.
وأما قولك : إنه أضافه إليه بذكر الصحبة ، فإنه أضعف من الفضلين الأولين لأن اسم الصحبة تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ) (2) وأيضا : فإن اسم الصحبة يطلق على العاقل والبهيمة ، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل بلسانهم ، فقال اللّه
ص: 267
عز وجل : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) (1) أنه قد سموا الحمار صاحبا فقال الشاعر (2) :
إن الحمار مع الحمير مطية *** فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا : قد سموا الجماد مع الحي صاحبا ، فقالوا ذلك في السيف وقالوا شعرا :
زرت هندا وكان غير اختيان *** ومعي صاحب كتوم اللسان (3)
يعني : السيف ، فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر ، وبين العاقل والبهيمة ، وبين الحيوان والجماد ، فأي حجة لصاحبك فيه؟!
وأما قولك : إنه قال : ( لَا تَحْزَنْ ) فإنه وبال عليه ومنقصة له ، ودليل على خطئه لأن قوله : ( لَا تَحْزَنْ ) ، نهي وصورة النهي قول القائل : لا تفعل فلا يخلو أن يكون الحزن قد وقع من أبي بكر طاعة أو معصية ، فإن كان طاعة فالنبي - صلى اللّه عليه وآله - لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها ، وإن كانت معصية فقد نهاه النبي عنها ، وقد شهدت الاية بعصيانه بدليل أنه نهاه.
واما قولك : إنه قال : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) فإن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد أخبر أن اللّه معه ، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع ، كقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (4) وقد قيل أيضا إن أبا بكر ، قال : يا رسول اللّه حزني على علي بن ابي طالب - عليه السلام - ما كان منه ، فقال له النبي
ص: 268
- صلى اللّه عليه وآله - : ( لَا تَحْزَنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وأما قولك : إن السكينة نزلت على أبي بكر ، فإنه ترك للظاهر ، لأن الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيده اللّه بالجنود ، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) (1). فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود ، وفي هذا اخراج للنبي - صلى اللّه عليه وآله - من النبوة على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيرا ، لأن اللّه تعالى انزل السكينة على النبي في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها ، فقال في أحد الموضعين :
( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) (2) وقال في الموضع الاخر : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ) (3) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينة ، فقال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين ، فدل إخراجه من السكينة على خروجه من الأيمان ، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي (4).
ص: 269
قال السيد المرتضى - رضي اللّه عنه - في كتاب الفصول : اتفق للشيخ أبي عبد اللّه المفيد - رحمة اللّه عليه - اتفاق مع القاضي أبي بكر أحمد بن سيار في دار الشريف أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن طاهر الموسوي - رضي اللّه عنه - ، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على مائة إنسان ، وفيهم أشراف من بني علي وبني العباس ومن وجوه الناس والتجار حضروا في قضاء حق الشريف - رحمه اللّه - ، فجرى من جماعة من القوم خوض في ذكر النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - ، وتكلم الشيخ أبو عبد اللّه - أيده اللّه - في ذلك بكلام يسير على ما اقتضته الحال.
فقال له القاضي أبو بكر ابن سيار : خبرني ما النص في الحقيقة؟ وما معنى هذه اللفظة؟
فقال الشيخ : أيده اللّه - : النص هو الاظهار والأبانة ، من ذلك قولهم : فلان قد نص قلوصه (1) : إذا أبانها بالسير ، وأبرزها من جملة الأبل ، ولذلك سمي المفرش العالي (منصة) لأن الجالس عليه يبين بالظهور من الجماعة ، فلما أظهره المفرش سمي منصة على ما ذكرناه ، ومن ذلك أيضا قولهم : قد نصّ فلان مذهبه : إذا أظهره وأبانه ، ومنه قول الشاعر :
ص: 270
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش (1) *** إذا هي نصته ولا بمعطل
يريد إذا هي أظهرته ، وقد قيل : نصبته ، والمعنى في هذا يرجع إلى الأظهار ، فأما هذه اللفظة فإنها قد جعلت مستعملة في الشريعة على المعنى الذي قدمت ، ومتى أردت حد المعنى منها قلت : حقيقة النص هو القول المنبئ عن المقول فيه على سبيل الأظهار.
فقال القاضي : ما أحسن ما قلت! ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت ، فخبرني الان إذا كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد نص على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - فقد أظهر فرض طاعته ، وإذا أظهره استحال أن يكون مخفيا ، فما بالنا لا نعلمه إن كان الأمر على ما ذكرت في حد النص وحقيقته؟
فقال الشيخ - أيده اللّه - : أما الأظهار من النبي - صلى اللّه عليه وآله - فقد وقع ولم يك خافيا في حال ظهوره ، وكل من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه ولا اشتبه عليه ، وأما سؤالك عن علة فقدك العلم به الان وفي هذا الزمان فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول الشبهة عليك في طريقه ، لعدولك عن وجه النظر في الدليل المفضي بك إلى حقيقته ، ولو تأملت الحجة فيه بعين الأنصاف لعلمته ، ولو كنت حاضرا في وقت إظهار النبي - صلى اللّه عليه وآله - له لما أخللت بعلمه ، ولكن العلة في ذهابك عن اليقين فيه ما وصفناه.
فقال : وهل يجوز أن يظهر النبي - صلى اللّه عليه وآله - شيئا في زمانه فيخفى عمن ينشأ بعد وفاته حتى لا يعلمه الا بنظر ثاقب واستدلال عليه ؟
ص: 271
فقال الشيخ - أيده اللّه تعالى - : نعم يجوز ذلك ، بل لا منه لمن غاب عن المقام في علم ما كان منه إلى النظر والاستدلال ، وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار لأنه من جملة الغائبات ، غير أن الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض والظهور والصعوبة والسهولة على حسب الأسباب المعترضات في طرقه ، وربما عرى طريق ذلك من سبب فيعلم بيسير من الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار (1) ، إلا أن طريق النص حصل فيه من الشبهات للأسباب التي اعترضته ما يتعذر معها العلم به إلا بعد نظر ثاقب وطول زمان في الاستدلال (2).
فقال : فإذا كان الأمر على ما وصفت فما أنكرت أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد نص على نبي آخر معه في زمانه ، أو نبي يقوم من بعده مقامه ، وأظهر ذلك وشهره على حد ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - فذهب عنا علم ذلك كما ذهب عنا علم النص وأسبابه؟
فقال له الشيخ - أيده اللّه - : أنكرت ذلك من قبل أن العلم حاصل لي ولكل مقر بالشرع ومنكر له بكذب من ادعى ذلك على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولو كان ذلك حقا لما عم الجميع على بطلانه وكذب مدعيه ومضيفه إلى النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (3) ، ولو تعرى بعض
ص: 272
العقلاء من سامعي الأخبار عن علم ذلك لا حتجت في إفساده إلى تكلف دليل غير ما وصفت ، لكن الذي ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره فإن كان النص على الأمامة نظيره فيجب أن يعم العلم ببطلانه جميع سامعي الأخبار حتى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان ، وفي تنازع الأمة فيه واعتقاد جماعة صحته والعلم به ، واعتقاد جماعة بطلانه دليل على فرق ما بينه وبين ما عارضت به.
ثم قال له الشيخ - أدام اللّه حراسته - : ألا أنصف القاضي من نفسه والتزم ما ألزمه خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به؟ ففصل بينه وبين خصومه في قوله : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد نص على رجم الزاني وفعله ، وموضع قطع السارق وفعله ، وعلى صفة الطهارة والصلاة وحدود الصوم والحج والزكاة وفعل ذلك وبينه وكرره وشهره ، ثم التنازع موجود في ذلك ، وإنما يعلم الحق فيه وما عليه العمل من غيره بضرب من الاستدلال ، بل في قوله : إن انشقاق القمر لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - كان ظاهرا في حياته ومشهورا في عصره وزمانه ، وقد أنكر ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من أهل الملل والملحدة ، وزعموا أن ذلك من توليد أصحاب السير ومؤلفي المغازي وناقلي الاثار ، وليس يمكننا أن ندعي على من خالفنا فيما ذكرنا علم الاضطرار وإنما نعتمد على غلطهم في الاستدلال ، فما يؤمنه أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد نص على نبي من بعده وإن عرى من العلم بذلك على سبيل الاضطرار ، وبم يدفع أن يكون قد حصلت شبهات حالت بينه وبين العلم بذلك كما حصل لخصومه فيما عددناه ووصفناه ، وهذا ما لا فصل فيه.
فقال له : ليس يشبه النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - جميع
ص: 273
ما ذكرت ، لأن فرض النص عندك فرض عام ، وما وقع فيه الاختلاف فيما قدمت فروض خاصة ، ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف.
فقال الشيخ - أيده اللّه - : فقد انتقض الان جميع ما اعتمدته ، وبان فساده ، واحتجت في الاعتماد إلى غيره ، وذلك أنك جعلت موجب العلم وسبب ارتفاع الخلاف ظهور الشئ في زمان ما واشتهاره بين الملا ، ولم تضم إلى ذلك غيره ولا شرطت فيه موصوفا سواه ، فلما نقضناه عليك ووضح عندك دماره عدلت إلى التعلق بعموم الفرض وخصوصه ، ولم يك هذا جاريا فيما سلف ، والزيادة في الاعتلال انقطاع ، والانتقال من اعتماد إلى اعتماد أيضا انقطاع ، على أنه ما الذي يؤمنك أن ينص على نبي يحفظ شرعه فيكون فرض العمل به خاصا في العبادة كما كان الفرض فيما عددناه خاصا ، فهل فيها من فصل يعقل؟ فلم يأت بشئ تجب حكايته (1).
ص: 274
سأله المعروف بالكتبي فقال له : ما الدليل على فساد إمامة أبي بكر؟
فقال له : الأدلة على ذلك كثيرة ، فأنا أذكر لك منها دليلا يقرب من فهمك ، وهو أن الأمة مجتمعة على أن الأمام لا يحتاج إلى إمام ، وقد أجمعت الأمة على أن أبا بكر قال على المنبر : (وليتكم ولست بخيركم ، فإن استقمت فاتبعوني ، وإن اعوججت فقوموني) (1) ، فاعترف بحاجته إلى رعيته وفقره إليهم في تدبيره ، ولا خلاف بين ذوي العقول أن من احتاج إلى رعيته فهو إلى الأمام أحوج (2) ، وإذا ثبتت حاجة أبي بكر إلى الامام بطلت إمامته بالإجماع المنعقد على أن الإمام لا يحتاج إلى الإمام ،
ص: 275
فلم يدر الكتبي بم يعترض ، وكان بالحضره من المعتزلة رجل يعرف بعرزالة.
فقال : ما أنكرت على من قال لك : إن الأمة أيضا مجتمعة على أن القاضي لا يحتاج إلى قاض ، والأمير لا يحتاج إلى أمير ، فيجب على هذا الأصل أن يوجب عصمة الامراء ، أو يخرج من الأجماع.
فقال له الشيخ : إن سكوت الأول أحسن من كلامك هذا ، وما كنت أظن أنه يذهب عليك الخطأ في هذا الفصل ، أو تحمل نفسك عليه مع العلم بوهنه ، وذلك أنه لا إجماع في ما ذكرت ، بل الأجماع في ضده ، لأن الأمة متفقة على أن القاضي الذي هو دون الأمام يحتاج إلى قاض هو الأمام ، وذلك يسقط ما تعلقت به ، اللّهم إلا أن تكون أشرت بالأمير والقاضي إلى نفس الأمام ، فهو كما وصفت غير محتاج إلى قاض يتقدمه أو أمير عليه ، وإنما استغنى عن ذلك لعصمته وكماله ، فأين موضوع إلزامك عافاك اللّه؟ فلم يأت بشيء (1).
ص: 276
قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي (1) ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال ، وذلك أنهم زعموا أن قول اللّه عز وجل : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - (3) ، مع ما في ظاهر الاية أنها نزلت في أزواج النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وذلك أنك إذا تأملت الاية من أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة ، ولن تجد لمن ادعوها له ذكرا.
قال الشيخ - أدام اللّه عزه - : أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج ، ودفع مإ عليه الأجماع والاتفاق ، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الاية من القرآن قد
ص: 277
عليه الاجماع والاتفاق ، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الاية من القرآن قد تأتي وأولها في شئ وآخرها في غيره ، ووسطها في معنى وأولها في سواه ، وليس طريق الاتفاق في المعنى إحاطة وصف الكلام في الائي ، فقد نقل الموافق والمخالف أن هذه الاية نزلت في بيت أم سلمة - رضي اللّه عنها - ، ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في البيت ، ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - وقد جللهم بعباء خيبرية ، وقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، فأنزل اللّه عز وجل عليه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) فتلاها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
فقالت أم سلمة - رضي اللّه عنها - : يا رسول اللّه ألست من أهل بيتك؟
فقال لها : إنك إلى خير ، ولم يقل لها : إنك من أهل بيتي ، حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الاية ، قال : سلوا عنها عائشة ، فقالت عائشة : إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة فسلوها عنها فإنها أعلم بها مني ، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة وأصحاب الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه ، وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم ، مع أن اللّه سبحانه قد دل على صحة ذلك بمتضمن هذه الاية حيث يقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) وإذهاب الرجس لا يكون إلا بالعصمة من الذنوب ، لأن الذنوب من أرجس الرجس ، والخبر عن الإرادة ههنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة ، دون الإرادة التي يكون
ص: 278
بها لفظ الأمر أمرا ، لاسيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة ، وأفرق بين الخبر عن الأرادة ههنا والخبر عن الأرادة في قوله سبحانه : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ) (1) وقوله : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2) إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى ، إذ الأرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها ، فلما خص اللّه تبارك وتعالى أهل البيت - عليهم السلام - بإرادة إذهاب الرجس عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم ، وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه ، وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن ، مع أن من عرف شيئا من اللسان وأصله لم يرتكب هذا القول ولا توهم صحته ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم ، وجمع المؤنث بالنون ، وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين ، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ، ولا وضع علامة المذكر على المؤنث ، ولا استعملوا ذلك في الحقيقة ولا المجاز ، ولما وجدنا اللّه سبحانه قد بدأ في هذه الاية بخطاب النساء وأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) الى قوله : ( وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (3) فلما جاء بالميم وأسقط النون
ص: 279
علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الإول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها ، ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج فقال : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) (1) فدل بذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد - عليهم السلام - بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة وجليل الفضيلة ، وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل غير النساء ، أو ذكر ليس برجل ، فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذ كان في الجمع ذكر ، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه (2).
ص: 280
سئل (الشيخ المفيد عليه الرحمة) في مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن القاسم العلوي المحمدي ، فقيل له : ما الدليل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - كان أفضل الصحابة؟
فقال : الدليل على ذلك قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء أمير المؤمنين - عليه السلام - (1) ، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى اللّه عز وجل أعظمهم ثوابا عند اللّه تعالى ، وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه أشرفهم أعمالا وأكثرهم عبادة لله تعالى ، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الخلق كلهم سوى الرسول - صلى اللّه عليه وآله -.
فقال له السائل : ما الدليل على صحة هذا الخبر ، وما أنكرت أن يكون غير معتمد ، لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده ، وأخبار الاحاد ليست بحجة فيما يقطع على اللّه عز وجل بصوابه؟
فقال الشيخ - آدام اللّه عزه - : هذا الخبر وإن كان من أخبار الاحاد على ما ذكرت ، من أن أنس بن مالك رواه وحده فإن الأمة بأجمعها قد تلقته بالقبول ، ولم يروا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته ،
ص: 281
فصار الاجماع عليه وهو الحجة في صوابه ، ولم يخل ببرهانه كونه من أخبار الاحاد بما شرحناه ، مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - احتج به في مناقبه يوم الدار (1) ، فقال : أنشدكم اللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء أحد غيري؟
قالوا : اللّهم لا.
قال : اللّهم اشهد ، فاعترف الجميع بصحته ، ولم يك أمير المؤمنين - عليه السلام - ليحتج بباطل ، لاسيما وهو في مقام المنازعة والتوصل بفضائله إلى أعلى الرتب التي هي الأمامة والخلافة للرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، وإحاطة علمه بأن الحاضرين معه في الشورى يريدون الامر دونه ، مع قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار) (2) وإذا كان الأمر على ما وصفناه دل على صحة الخبر حسبما بيناه.
فاعترض بعض المجبرة ، فقال : إن احتجاج الشيعة برواية إنس من
ص: 282
أطرف الأشياء وذلك إنهم يعتقدون تفسيق إنس بل تكفيره ، فيقولون : إنه كتم الشهادة في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين - عليه السلام - ببلاء لا يواريه الثياب ، فبرص (1) على كبر السن ومات وهو أبرص ، فكيف يستشهد برواية الكافرين؟ (2)
فقالت المعتزلة : قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية أنسا ، وإنما جعلها الأجماع ، فهذا الذي أوردته هذيان وقد تقدم ابطاله.
فقال السائل : هب أنا سلمنا صحة الخبر ما أنكرت أن لا يفيد مإ
ص: 283
ادعيت من فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة؟ وذلك أن المعنى فيه : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي ، يريد أحب الخلق إلى اللّه عز وجل في الأكل معه ، دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله ، إذ قد يجوز أن يكون اللّه سبحانه يحب أن يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه ، ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة.
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : هذا الذي اعترضت به ساقط ، وذلك أن محبة اللّه تعالى ليست ميل الطباع ، وإنما هي الثواب ، كما أن بغضه وغضبه ليسا باهتياج الطباع ، وإنما هما العقاب ولفظ أفعل في أحب وابغض لا يتوجه إلا إلى معناهما من الثواب والعقاب ، ولا معنى على هذا الأصل لقول من زعم أن أحب الخلق إلى اللّه عز وجل يأكل مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ أفعل ، لأنه يخرج اللفظ عما ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع ، وذلك محال في صفة اللّه سبحانه.
وشئ آخر : وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه دون ما عارضت به أن لو كانت المحبة على غير معنى الثواب ، لأنه - صلى اللّه عليه وآله - قال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، وقوله : بأحب خلقك إليك كلام تام ، وبعده : يأكل معي من هذا الطائر كلام مستأنف ولا يفتقر الأول إليه ، ولو كان أراد ما ذكرت لقال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك في الأكل معي ، فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز.
وشئ آخر : وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب عليك تحميلهما اللفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلا بدليل ،
ص: 284
لانه لا يتنافي الجمع بينهما فيكون إراد بقوله : (أحب خلقك إليك) في نفسه وللأكل معي ، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك.
فقال رجل من الزيدية - كان حاضرا - للسائل : هذا الاعتراض ساقط على أصلك وأصلنا ، لانا نقول جميعا إن اللّه تعالى لا يريد المباح ، والأكل مع النبي - صلى اللّه عليه وآله - مباح وليس بفرض ولا نفل ، فيكون اللّه يحبه فضلا عن أن يكون بعضه أحب إليه من بعض ، وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم فلذلك أسقط الزيدي كلامه على اصله ، إذ كان يوافقه في الأصول على مذهب أبي هاشم.
فخلط السائل هنيئة ثم قال للشيخ - أدام اللّه عزه - : فأنا أعترض باعتراض آخر وهو : أن أقول ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا - عليه السلام - كان أفضل الخلق في يوم الطائر ، ولكن بم تدفع أن يكون قد فضله قوم من الصحابة عند اللّه تعالى بكثرة الأعمال والمعارف بعد ذلك؟ وهذا الأمر لا يعلم بالعقل ، وليس معك سمع في نفس الخبر يمنع من ذلك ، فدل على أنه - عليه السلام - أفضل من الصحابة كلهم إلى وقتنا هذا ، فإنا لم نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه.
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : هذا السؤال أوهن مما تقدم ، والجواب عنه أيسر ، وذلك أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب أعمالا زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة ، من قبل أنهم بين قائلين :
فقائل يقول : إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل من الكل في وقت الرسول - صلى اللّه عليه وآله - لم يساوه أحد بعد ذلك ، وهم : الشيعة الأمامية ، والزيدية ، وجماعة من شيوخ المعتزلة ، وجماعة من أصحاب
ص: 285
الحديث.
وقائل يقول : إنه لم يبن لأمير المؤمنين - عليه السلام - في وقت من الأوقات فضل على سائر الصحابة يقطع به على اللّه تعالى ويجزم الشهادة بصحته ، ولا بان لأحد منهم فضل عليه ، وهم : الواقفة في الأربعة من المعتزلة ، منهم : أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما.
وقائل يقول : إن أبا بكر كان أفضل من أمير المؤمنين - عليه والسلام - في وقت الرسول - صلى اللّه عليه وآله - وبعده ، وهم : جماعة من المعتزلة ، وبعض المرجئة ، وطوائف من أصحاب الحديث.
وقائل يقول : إن أمير المؤمنين - عليه السلام - خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه غيره ، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه ، وهم : الخوارج وجماعة من المعتزلة ، منهم : الأصم والجاحظ وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل القبلة ، ولم يقل أحد من الأمة إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل عند اللّه سبحانه من الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية اللّه عز وجل ولا أحدث معصية اللّه تعالى ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه ، ولا جوز ذلك فيكون معتبرا ، فإذا بطل الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط ، وكان الأجماع حجة يقوم مقام قول اللّه تعالى في صحة ما ذهبنا إليه ، فلم يأت بشئ.
وذاكرني الشيخ - أدام اللّه عزه - هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها زيادة ألحقتها ، وهي أن قال : إن الذي يسقط ما اعترض به السائل من تأويل قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - (اللّهم ائتني بأحب خلقك اليك) على المحبة للأكل معه دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في
ص: 286
إسقاطه : أن الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنه قال :
لما دعا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أن يأتيه اللّه تعالى بأحب الخلق إليه ، قلت : اللّهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون لي الفضل بذلك ، فجاء علي - عليه السلام - فرددته ، وقلت له : رسول اللّه على شغل ، فمضى ثم عاد ثانية فقال لي : استأذن على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، فقلت له : إنه على شغل ، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل ، فقال له النبي - صلى اللّه عليه وآله - : قد كنت سألت اللّه تعالى أن يأتيني بك دفعتين ، ولو أبطأت علي الثالثة لأقسمت على اللّه عز وجل أن يأتيني بك.
فلو لا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - سأل اللّه عز وجل أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده ، وكانت هذه من أجل الفضائل لما آثر أنس أن يختص بها قومه ، ولو لا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول - صلى اللّه عليه وآله - لما دافع أمير المؤمنين - عليه السلام - عن الدخول ، ليكون ذلك الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.
وشي آخر : وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتضي الفضيلة لأمير المؤمنين - عليه السلام - لما احتج به أمير المؤمنين - عليه السلام - يوم الدار ، ولا جعله شاهدا على أنه أفضل من الجماعة ، وذلك أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه المخالفون من أنه سأل ربه تعالى أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه لما أمن أمير المؤمنين - عليه السلام - من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال ، أو يشتبه ذلك على إنسان ، فلما احتج به - عليه السلام - على القوم واعتمده في البرهان دل على أنه لم يك مفهوما منه إلا فضله ، وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادعى دليلا على صحة ما ذكرناه ، وهذا بعينه
ص: 287
يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي - صلى اللّه عليه وآله - في أمير المؤمنين - عليه السلام - ما يقتضي فضله عند اللّه تعالى على الكافة وجود من هو أفضل منه في المستقبل ، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه ، ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم عنه في الفضل ، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مفيد بإطلاقه فضله - عليه السلام - ، ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشئ من الأعمال ، وهذا بين لمن تدبره (1).
ص: 288
حضر الشيخ المفيد مجلس أبي منصور بن المرزبان وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة ، فجرى كلام وخوض في شجاعة الأمام - عليه السلام -.
فقال أبو بكر بن صراما : عندي أن أبا بكر الصديق كان من شجعان العرب ومتقدميهم في الشجاعة!
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : من أين حصل ذلك عندك؟ وبأي وجه عرفته؟
فقال : الدليل على ذلك أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه ، وخالفه على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته. فقال : أما واللّه لو منعوني عقالا لقاتلتهم ، ولم يستوحش من اعتزال القوم له ، ولا ضعف ذلك نفسه ، ولا منعه من التصميم على حربهم ، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد يقصر الشجعان عنه لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له!
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : ما أنكرت على من قال لك : إنك لم تلجأ إلى معتمد عليه في هذا الباب ، وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس لصاحبها فقط ولا بادعائها ، وإنما هي شئ في الطبع يمده الاكتساب ، والطريق إليها أحد الأمرين : إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع
ص: 289
على الضمائر جلت عظمته ، فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها.
والوجه الاخر : أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله كمبارزة الأقران ، ومقاومة الشجعان ، ومنازلة الأبطال ، والصبر عند اللقاء ، وترك الفرار عند تحقق القتال ، ولا يعلم ذلك أيضا بأول وهلة (1) ، ولا بواحدة من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتفاقا ، أو على سبيل الهوج (2) والجهل بالتدبير ، وإذا كان الخبر عن اللّه سبحانه بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل الدال على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها في شئ عند أحد من أهل النظر والتحصيل؟ لاسيما ودلائل جبنه وهلعه (3) وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى التأمل ، وذلك أنه لم يبارز قط قرنا (4) ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما ، وقد شهد مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - مشاهده ، فكان لكل أحد من الصحابة أثر في الجهاد إلا له ، وفر في يوم أحد ، وانهزم في يوم خيبر ، وولى الدبر يوم التقى الجمعان ، وأسلم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في هذه المواطن مع ما كتب اللّه عز وجل عليه من الجهاد! فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لو لا أن العصبية تميل بالعبد إلى الهوى؟
ص: 290
وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا : عافاك اللّه أي دليل هذا؟ وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أن الأنسان قد يغضب فيقول : لو سامني السلطان هذا الأمر ما قبلته ، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ، ظاهر الجبن ، يصلي بنا في مسجدنا فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال : واللّه لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر!. فقال : ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره ، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل الفعل والخبر ، ووجه الدلالة فيه أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل ، ولا غبيا ناقصا ، بل كان بالأجماع من العقلاء ، وكان بالاتفاق جيد الاراء ، فلو لا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقيم القوم على خلافه فيخذلونه ، ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه فيظهر منه الخلف في قوله ، وليس يقع هذا من عاقل حكيم ، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول ، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب ، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه ، ويحض (1) المتأخرين عنه على نصرته ، ويحثهم على جهاد عدوه ، ويقوي عزمهم في معونته ، ويصرفهم عن رأيهم خذلانه ،
ص: 291
وهكذا تصنع الحكماء في تدبيراتهم ، فيظهرون من الصبر ما ليس عندهم ، ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا عواقبه ، فإن استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم وكلوا الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم ، وإن أقاموا على الخذلان واتفقوا على ترك النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف ، وقالوا : قد كانت الحال موجبة للقتال ، وكان عزمنا على ذلك تاما فلما رأينا أشياعنا وعامة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة إعفاءهم مما يكرهون ، والتدبير لهم بما يؤثرون ، وهذا أمر قد جرت به عادة الرؤساء في كل زمان ، ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند الأنام ، فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على موافقته في ذلك ، ولم يبد لهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم ، ويقوي به رأيهم ، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ المراد ، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول! كما وصفناه من حال الرؤساء في تدبيراتهم ، على أن أبا بكر لم يقسم باللّه تعالى في قتال أهل الردة بنفسه ، وإنما أقسم بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه ، وليس في يمينه باللّه سبحانه لينفذن خالدا وأصحابه ليصلوا بالحرب دليل على شجاعته في نفسه.
وشئ آخر : وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له ، ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع ما يفسد عليه رأيه حتى يقدم من القول على مالا يفي به عند سكون نفسه ، ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه ، ولا يكون وقوع ذلك منه دليلا على فساد عقله ، ووجوب إخراجه عن جملة أهل
ص: 292
التدبير ، وقد صرح بذلك الرجل في خطبة المشهورة عنه التي لا يختلف اثنان فيها ، وأصحابه خاصة يصولون بها ، ويجعلونها من مفاخره ، حيث يقول : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - خرج من الدنيا وليس أحد يطالبه بضربة سوط فما فوقها وكان - صلى اللّه عليه وآله - معصوما من الخطأ ، يأتيه الملائكة بالوحي ، فلا تكلفوني ما كنتم تكلفونه فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني ، لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم (1) فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم فيما يأتيه عند غضبه من قول وفعل ، ودلهم على الحال فيه ، فلذلك أمن من نكير المهاجرين والأنصار عليه مقاله عند غضبه مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من خلاف المخالفين عليه حتى بعثه على ذلك المقال ، فلم يأت بشئ (2).
ص: 293
سأله بعض أصحابه فقال له : إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين - عليه السلام - (1) بالسيف
ص: 294
لأنهما كانا مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في مستقره يدبران الأمر معه ولو لا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه ، فبأي شئ يدفع هذا؟
فقال له الشيخ - ادام اللّه عزه - : سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القصة أن تقلب وذلك أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب ، لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص الكتاب حيث يقول اللّه سبحانه : ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (1).
فلما رأينا الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد منعهما هذه
ص: 295
الفضيلة وإجلسهما معه ، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له لأفسدا ، إما بأن ينهزما أو يوليا الدبر ، كما صنعا في يوم أحد (1) ، وخيبر (2) ، وحنين (3) ، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم ، أو كانا لفرط ما
ص: 296
يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من الفساد الذي يعلمه اللّه تعالى ، ولعله لطف للأمة بأن أمر نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بحبسهما عن القتال.
فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما فقد ثبت أنه كان كاملا وأنهما كانا ناقصين عن كماله ، وكان معصوما وكانا غير معصومين ، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين ، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك ، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لو لا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة الدين ، والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش قول اللّه سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) (1).
فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين ، فإن كانا مؤمنين ، فقد اشترى اللّه أنفسهما منهما بالجنة ، على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما ، ولو كانا كذلك لما حال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بينهما وبين الوفاء بشرط اللّه عليهما من القتل ، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون ، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله (2).
ص: 297
وذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد اللّه - أدام اللّه عزه - ما ذكره أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي - رحمه اللّه - في كتاب (الأنصاف) حيث ذكر أن شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا وإماما ، قال : فأنشدته قول الأخطل (1) :
فما وجدت فيها قريش لأمرها *** أعف وأولى من أبيك وأمجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره *** غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم *** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
قال أبو جعفر : فأسكت الشيخ كأنما ألقم حجرا ، وجعلت أستحسن ذلك.
فقال لي الشيخ أبو عبد اللّه - أدام اللّه عزه - : قد قال لي أيضا شيخ من المعتزلة : إن الذي تدعونه من النص الجلي على أمير المؤمنين - عليه السلام - شئ حادث ، ولم يك معروفا عند متقدمي الشيعة ولا اعتمده أحد منهم وإنما بدأ به وادعاه ابن الراوندي في كتابه في الأمامة ، وناضل عليه ولم يسبقه إليه أحد ، ولو كان معروفا فيما سلف لما أخل السيد إسماعيل بن محمد (2) - رحمه اللّه - به في شعره ولا ترك ذكره في نظمه مع
ص: 298
إغراقه في ذكر فضائل أمير المؤمنين - عليه السلام - ومناقبه حتى تعلق بشاذ الحديث وأورد من الفضائل ما لا نسمع به إلا منه ، فما باله إن كنتم صادقين لم يذكر النص الجلي ولا اعتمده في شئ من مقاله وهو الأصل المعول عليه لو ثبت.
فقلت له : قد ذهب عنك أيها الشيخ مواضع مقاله في ذلك لعدولك عن العناية برواية شعر هذا الرجل ، ولو كنت ممن صرف همته إلى تصفح قصائده لعرفت ما ذهب عليك من ذلك ، وأسكنتك المعرفة به عن الاعتماد على ما اعتمدته من خلو شعره على ما وصفت في استدلالك بذلك ، وقد قال السيد إسماعيل بن محمد - رحمه اللّه - في قصيدته الرائية التي يقول في أولها :
ألا الحمد لله حمدا كثيرا *** ولي المحامد ربا غفورا
حتى انتهى إلى قوله :
وفيهم علي وصي النبي *** بمحضرهم قد دعاه أميرا
وكان الخصيص به في الحياة *** وصاهره واجتباه عشيرا (1).
ص: 299
أفلا ترى أنه قد أخبر في نظمه أن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - دعا علياً - عليه السلام - في حياته بإمرة المؤمنين واحتج بذلك فيما ذكره من مناقبه - عليه السلام - فسكت الشيخ وكان منصفاً (1).
ص: 300
مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع الرماني (1)
يروى : أنه حضر لأول مرة درس أستاذه علي بن عيسى الرماني ، فقام رجل من البصرة وسأل الرماني عن خبر الغدير والغار.
فقال له الرماني : إن حديث الغار دراية ، وخبر الغدير رواية ، والرواية لا توجب ما توجبه الدراية ، فسكت البصري ولم يكن عنده شئ.
فلما خف المجلس تقدم المفيد إلى الرماني ، ولم يكن يعرفه قبل هذا ، وسأله عمن قاتل الأمام العادل.
فقال الرماني : إنه كافر (2) ، ثم استدرك ، فقال : إنه فاسق.
ص: 301
فقال المفيد : ما تقول في علي بن ابي طالب - عليه السلام - ويوم الجمل وطلحة والزبير؟
فقال الرماني : إنهما تابا.
فقال : أما خبر الجمل فدراية ، وخبر التوبة فرواية ، فأفحم الرماني ، ولم يأت بشئ ، غير أنه قال له : كنت حاضرا عند سؤال البصري؟
قال : نعم.
ثم دخل الرماني المنزل ، وجاء برقعة مختومة ، وقال له : أوصلها إلى من اتصلت به ، وهو أبو عبد اللّه البصري المعروف (بجعل) فلما وقف عليها جعل يبتسم ، وسأل المفيد عما جرى بينهما فأعاد عليه القصة ، فقال : إنه كتب إلي بذلك وقد لقبك بالمفيد (1).
ص: 302
مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع بعض مشايخ العباسيين في سامراء (1)
حضر الشيخ أبو عبد اللّه المفيد - أيده اللّه - بسر من رأى ، واحتج عليه من العباسيين وغيرهم جمع كثير.
فقال له بعض مشايخ العباسيين : أخبرني من كان الأمام بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فقال له : كان الأمام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من حارب وسلم من سالم.
فقال له العباسي : ومن هذا الذي دعاه العباس إلى ذلك؟
فقال له الشيخ : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -
ص: 303
حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك يابن أخ أبايعك فيقول الناس : عم رسول اللّه بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان (1).
فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد : فما كان الجواب من علي؟ فقال : كان الجواب أن قال : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عهد إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني ، ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول اللّه شغل.
فقال العباسي : فقد كان العباس - رحمه اللّه - إذن على خطأ في دعائه له إلى البيعة.
فقال له الشيخ : لم يخطئ العباس فيما قصد لأنه عمل على الظاهر وكان عمل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الباطن وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه والحمد لله رب العالمين.
فقال له العباسي : فإن كان علي بن أبي طالب هو الأمام بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في الدين.
فقال له الشيخ : لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد ، وإنما أجبتك عن شئ سألت عنه ، فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع الصواب ، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي نفعا ، مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلا بد لك من تخطئة علي والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا
ص: 304
بتقدمه عليهما ، ولا عملا له ولصاحبه عملا ولا تقلدا لهما ولاية ولا راهما أبو بكر ولا عمر أهلا أن يشركاهما في شئ من أمورهما ، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب فإنه ذكر من يصلح للأمامة في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختيار فلم يذكر العباس من إحدى الطائفتين ، ولما ذكر عليا - عليه السلام - عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على الدنيا أخرى وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمن بن عوف وجعل الحق ، في حين عبد الرحمن دونه وفضله عليه.
هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله اللّه تعالى لهم وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه ، وجعله في السلاح والكراع ، فإن كنت أيها الشريف تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما الشيخين بكراهتهما لأمامتهما وتأخرهما عن بيعتهما وترى من العقد فيهما ماسنه الشيخان من أمرهما في التأخير لهما عن شريف المنازل والغض منهما والحط من أقدارهما فصر إلى ذلك فإنه الضلال بغير شبهة ، وإن كنت ترى ولايتهما والتعظيم لهما والاقتداء بهما فاسلك سبيلهما ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما ، وليس ها هنا منزلة ثالثة.
فقال العباسي عند سماع هذا الكلام : اللّهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (1).
ص: 305
قال الشيخ الكراجكي (1) - اعلى اللّه مقامه - :
سألني رجل من أهل الخلاف فقال : إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، وتناظرون على ذلك ، وترددون هذا الكلام ، وإطلاق هذا اللفظ منكم يضاد مذهبكم ، ويناقض معتقدكم ، ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل الفضل لهما ، ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه ، وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من خلال الفضل على كل حال ، لم جهلتم ذلك من معنى الكلام؟ فإن زعمتم أن لأبي
ص: 306
بكر وعمر وعثمان قسطا من الفضل يشملهم به ، يصح به القول أن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضلهم ، تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم ، وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل منهم.
فقلت له : ليس في إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.
والشيعة أعرف من خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام ، وذلك : أن التفضيل ، وإن كان كما وصفت يكون بين الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الاخر فيه ، فقد يصح أيضا فيهما إذا اختص بالفضل أحدهما ، وعرى الاخر منه ، ويكون معنى قول القائل : هذا أفضل من هذا ، أنه الفاضل دونه ، وأن الاخر لا فضل له ، وليس في هذا خروج عن لسان العرب ، ولا مخالفة لكلامها ، وكتاب اللّه تعالى يشهد به ، وأن أشعار المتقدمين يتضمنه ، قال اللّه جل اسمه : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ) (1).
يعني أنهم خير من أصحاب النار ، وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر ، ولا خير فيهم. ووصف النار في آية أخرى فقال : ( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) إلى قوله ( وَادْعُوا ثُبُورًا ) (2) ثم قال : ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً
ص: 307
وَمَصِيرًا ) (1) فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار ، ونحن نعلم أنه لا خير في النار.
وقال تعالى في آية أخرى : ( قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (2). وقال : ( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (3).
والمعنى في ذلك هين ، لأن شيئا لا يكون أهون على اللّه من شئ ، فكذلك قولنا : هذا أفضل ، يكون المراد به هذا الفاضل.
وليس بعد إيراد هذه الايات لبس في السؤال يعترض العاقل ، وقد قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من المشركين :
هجوت محمدا برا تقيا *** وعند اللّه في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفؤ *** فشركما لخيركما فداء (4).
وقد علمنا أنه لا شر في النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولا خير فيمن هجاه.
وقال غيره من الجاهلية :
خالي بنو أنس وخال سراتهم *** أوس ، فأيهما أدق وألأم
يريد فأيهما الدقيق واللئيم ، وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما على صاحبه فيهما.
ص: 308
وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (1) قول المتنبي :
أعق خليليه الصفيين لائمه.
وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الاخر صاحبه فيه ، مع كونهما خليلين صفيين ، وإنما المراد إن الذي يستحيل منهما عن الصفا ، فيصير عاقا لائمه.
والشواهد في ذلك كثيرة ، وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت ، ودلالة على أن الشيعة في قولها إن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، لم تناقض لها مذهبا ، ولا خالفت معتقدا ، وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم ، والمختص بهذا الوصف عنهم ، فتأمل ذلك تجده صحيحا ، والحمد لله.
على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق الكلام ، ويقول في الجملة : إنه - عليه السلام - بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أفضل الناس ، فسؤالك ساقط عنه ، إذ كان لا يلفظ بما ذكرته إلا على المجاز.
فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب ، ولم يزد حرفا في هذا الباب ، والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته (2).
ص: 309
مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي (1) مع أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي
قال بن أبي الحديد :
سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة ، وقت قراءتي عليه ، عن هذا الكلام ، وكان - رحمه اللّه - على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل ، فقلت له : من يعني - عليه السذم - بقوله :
ص: 310
كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين)؟ (1) ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : (كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به)؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟
فقال : يوم السقيفة.
فقلت : إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ودفع النص.
فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلى إهمال أمر الأمامة ، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيدعنها ، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث!
ثم قال : ليس يشك أحد من الناس أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان عاقلا كامل العقل ، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة (2) ، سديد الرأي ، أقام ملة ، وشرع شريعة ، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره ، وهذا
ص: 311
الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ولو بعد الأزمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر ، فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه ، حتى يدركوا ثأرهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين ، والأسلام لم يحل طبائعهم ، ولا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم ، والغرائز بحالها ، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب ، وعلى الخصوص قريشا ، وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره ، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ، ويتركه بعده وعنده ابنته ، وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ، ومحبة لهما ، ويعدل عنه في الأمر بعده ، ولا ينص عليه ولا يستخلفه ، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه! ألا يعلم هذا العاقل الكامل ، أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية ، فقد عرض دماءهم للأراقة بعده ، بل يكون هو - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو الذي قتله ، وأشاط (1) بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، وإنما يكونون مضغة للاكل ، وفريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، وتبلغ فيهم الأغراض!
فأمّا إذا جعل السلطان فيهم ، والأمر إليهم ، فإنّه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرّياسة التي يصولون بها ، ويرتدع الناس عنهم لأجلها ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم ، وأبقي في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ، ثم أهمل
ص: 312
أمر ولده وذريته من بعده ، وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم ، وواحدا منهم ، وجعل بنيه سوقة كبعض العامة ، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم ، سريعا هلاكهم ، ولوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد والترات من كل جهة ، يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد ، ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك ، وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده ، لحقنت دماء أهل بيته ، ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك ، وأبهة السلطنة ، وقوة الرئاسة ، وحرمة الأمارة!
أفترى ذهب عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هذا المعنى ، أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده! وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده ، الحبيبة إلى قلبه!
أتقول : إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة ، تتكفف الناس ، وأن يجعل عليا ، المكرم المعظم عنده ، الذي كانت حاله معه معلومة ، كأبى هريرة الدوسي ، وأنس ابن مالك الأنصاري ، يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده ، فلا يستطيع الامتناع ، وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول ، تتلظى أكباد أصحابها عليه ، ويودون أن يشربوا دمه بأفواههم ، ويأكلوا لحمه بأسنانهم ، قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم ، والعهد لم يطل ، والقروح لم تتقرف (1) ، والجروح لم تندمل (2)!
ص: 313
فقلت له : لقد أحسنت فيما قلت ، إلا أن لفظه - عليه السلام - يدل على أنه لم يكن نص عليه ، ألا تراه يقول : (ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون بالرسول نوطا) ، فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب ، فلو
ص: 314
كان عليه نص ، لقال عوض ذلك : (وأنا المنصوص علي ، المخطوب باسمي).
فقال - رحمه اللّه - : إنما أتاه من حيث يعلم ، لا من حيث يجهل ، ألا ترى أنه سأله ، فقال : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، وأنتم أحق به؟ فهو إنما سأل عن دفعهم عنه ، وهم أحق به من جهة اللحمة والعترة ، ولم يكن الأسدي يتصور النص ولا يعتقده ، ولا يخطر بباله ، لأنه لو كان هذا في نفسه ، لقال له : لم دفعك الناس عن هذا المقام ، وقد نص عليك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ ولم يقل له هذا ، وإنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة : كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به! أي باعتبار الهاشمية والقربى.
فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه ، تمهيدا للجواب ، فقال : إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - من غيرنا لأنهم استأثروا علينا ، ولو قال له : أنا المنصوص علي ، والمخطوب باسمي في حياة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لما كان قد أجابه ، لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا؟ ولا : هل نص رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بالخلافة على أحد أم لا؟ وإنما قال : لم دفعكم قومكم عن الأمر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم؟ فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه أيضا ، فلو أخذ يصرح له بالنص ، ويعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه ، واتهمه ولم يقبل قوله ، ولم ينجذب إلى تصديقه ، فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس ، أن يجيب بما لا نفرة منه ، ولا مطعن عليه فيه (1).
ص: 315
مناظرة ابن طاووس (1) مع رجل حنبلي
قال ابن طاووس في وصاياه لولده : حضرني يا ولدي محمد حفظك اللّه جل جلاله لصلاح آبائك وأطال في بقائك نقيبا ، وأتى رجلا حنبليا ، وقال : هذا صديقنا ويحب أن يكون على مذهبنا فحدثه.
فقلت له : ما تقول إذا حضرت القيامة ، وقال لك محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لأي حال تركت كافة علماء الأسلام ، واخترت أحمد ابن حنبل أماما من دونهم ، هل معك آية من كتاب بذلك أو خبر عني
ص: 316
بذالك ، فإن كان المسلمون ما كانوا يعرفون الصحيح حتى جاء أحمد ابن حنبل وصار إماما فعمن روى أحمد بن حنبل عقيدته وعلمه وإن كانوا يعرفون الصحيح وهم أصل عقيدة أحمد بن حنبل فهلا كان السلف قبله أئمة لك وله.
فقال : هذا لا جواب لي عنه لمحمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقلت له : إذا كان لا بد لك من عالم من الأمة تقلده فالزم أهل بيت نبيك - عليهم السلام - فإن أهل كل أحد أعرف بعقيدته وأسراره من الأجانب فتاب ورجع.
وقلت لبعض الحنابلة : أيما أفضل آباؤك وسلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل إلى عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، أو آباؤك وسلفك الذين كانوا بعد أحمد بن حنبل فإنه لا بد أن يقول إن سلفه المتقدمين على أحمد بن حنبل أفضل لأجل قربهم إلى الصدر الأول ومن عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقلت : إذا كان سلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل أفضل فلأي حال عدلت عن عقائدهم وعوائدهم إلى سلفك المتأخرين عن أحمد بن حنبل وما كان الأوائل حنابلة لأن أحمد بن حنبل ما كان قد ولد ولا كان مذكورا عندهم فلزمته الحجة وانكشفت له المحجة والحمد لله رب العالمين (1).
ص: 317
قال ابن طاووس في وصاياه لولده :
وحضر عندي - يا ولدي محمد رعاك اللّه جل جلاله بعنايته الألهية - بعض الزيدية وقد قال : لي إن جماعة من الأمامية يريدون مني الرجوع عن مذهبي بغير حجة وأريد أن تكشف لي عن حقيقة الأمر بما يثبت في عقلي.
قلت له : أول ما أقول أنني علوي حسني وحالي معلوم ولو وجدت طريقا إلى ثبوت عقيدة الزيدية كان ذلك نفعا ورئاسة لي دينية ودنيوية ، وأنا أكشف لك بوجه لطيف عن ضعف مذهبك بعض التكشف.
هل يقبل عقل عاقل فاضل أن سلطان العالمين ينفذ رسولا أفضل من الأولين والاخرين إلى الخلائق في المشارق والمغارب ويصدقه بالمعجزات القاهرة والايات الباهرة ثم يعكس هذا الاهتمام الهائل والتدبير الكامل ويجعل عيار اعتماد الأسلام والمسلمين على ظن ضعيف يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين.
فقال : كيف هذا؟
فقلت : لأنكم إذا بنيتم أمر الامامة أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه على الاختيار من الأمة للأمام على ظاهر عدالته وشجاعته وأمانته وسيرته وليس معكم في الاختيار له إلا غلبة الظن الذي يمكن أن يظهر خلافه لكل
ص: 318
من عمل عليه كما جرى للملائكة وهم أفضل اختيارا من بني آدم لما عارضوا اللّه جل جلاله في أنه جعل آدم خليفة وقالوا : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) (1) ، فلما كشف لهم حال آدم - عليه السلام - رجعوا عن اختيارهم لعزل آدم ، وقالوا : ( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) (2) ، وكما جرى لادم الأكل من الشجرة ، وكما جرى لموسى في اختياره سبعين رجلا من خيار قومه للميقات ، ثم قال عنهم بعد ذلك : ( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) (3) ، حيث قالوا : ( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) (4).
وكما جرى ليعقوب - عليه السلام - في اختياره أولاده لحفظ ولده يوسف ، وغيره من اختيار الأنبياء والأوصياء والأولياء وظهر لهم بعد ذلك الاختيار ضعف تلك الاراء ، فإذا كان هؤلاء المعصومون قد دخل عليهم في اختيارهم ما قد شهد به القرآن والأجماع من المسلمين فكيف يكون اختيار غيرهم ممن يعرف من نفسه أنه ما مارس أبدا خلافة ولا أمارة ولا رياسة حتى يعرف شروطها وتفصيل مباشرتها فيستصلح لها من يقوم لها وما معه إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من يختاره.
وهل يقبل عقل عاقل وفضل فاضل أن قوما ما يعرفون مباشرة ولا مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه فيكون اختيارهم لأمر لا يعرفونه حجة على من حضر وعلى من لم يحضر ، أما هذا من الغلط
ص: 319
المستنكر؟
ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير الجيوش والعساكر وتدبير البلاد وعمارة الأرضين والأصلاح لاختلاف إرادات العالمين حتى يختاروا واحدا يقوم بما يجهلونه ، إنا لله وإنا إليه راجعون ممن قلدهم في ذلك أو يقلدونه.
ومما يقال لهم : إن هؤلاء الذين يختارون الأمام للمسلمين من الذي يختارهم لهم لتعيين الأمام ومن أي المذاهب يكونون فإن مذاهب الذين يذهبون إلى اختيار الأمام مختلفة ، وكم يكون مقدار ما بلغوا إليه من العلوم حتى يختاروا عندها الأمام وكم يكون عددهم وهل يكونون من بلد واحد أو من بلاد متفرقة ، وهل يحتاجون قبل اختيارهم للأمام أن يسافروا إلى البلاد يستعلمون من فيها ممن يصلح للأمامة أو لا يصلح أو هل يحتاجون أن يراسلوا من بعد عنهم من البلاد ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الأمام للمسلمين فإن كان في بلد غير بلدهم من يصلح أو يرجح ممن هو في بلادهم يعرفونهم أم يختارون من غير كشف لما في البلاد ومن غير مراسلة لعلماء بلاد الأسلام فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذر قيام الحجة على صحته وعلى لزومه لله جل جلاله ولزومه لرسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولزومه لمن لا يكون مختارا لمن يختارونه من علماء الأسلام أفلا ترى تعذر ما ادعوه من اختيار الامام؟!
ولقد سمع مني بعض هذا الكلام شخص من أهل العلم من علم الكلام.
فقال : إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على الظنون.
فقلت له : هب أنهم يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم
ص: 320
فكيف تجاوزوا ذلك إلى التحكم على تدبير اللّه جل جلاله في عباده وبلاده والأقدام بظنونهم الضعيفة على هدم الاهتمام بثبوت أقدام النبوة الشريفة ونقل تدبيرها عن اليقين الشريف إلى الظن الضعيف ومن جعل لهم ولاية على كل من في الدنيا والدين وما حضروا معهم في اختيار الأمام ولا شاركوهم ولا أذنوا لهم من سائر بلاد الأسلام ومن وليهم علي وأنا غافل بعيد عنهم حتى يختاروا لي بظنهم الضعيف إماما ما وكلتهم فيه ولا أرضى أبدا بالاختيار منهم فهل هذا إلا ظلم هائل وجور شامل من غير رضى من يدعي وكالته ونيابة ما استنابه فيها من غير رضى من يدعي نيابته؟!
ثم قلت لهم : أنتم ما كنتم تتفكرون فساده في أول مرة لما أظهر العدل واجتمعتم عليه فلما تمكن منكم قتلكم وأخذ أموالكم وقد رأيتم ورأينا وسمعتم وسمعنا من اختيار الملوك والخلفاء والاطلاع على الغلط في الاختيار لهم وقتلهم وعزلهم وفساد تلك الاراء.
وقلت لهم : أنتم تعلمون أنه يمكن أن يكون عند وقت اختياركم لواحد من ولد فاطمة - عليها السلام - غير معصوم ولا منصوص عليه أن يكون في ذلك البلد وغيره من هو مثله أو أرجح منه ولا تعرفونه فكيف تبايعون رجلا وتقتلون أنفسكم بين يديه ولعل غيره أرجح منه وأقوم بما تريدون.
وقلت له : أنتم يا بني الحسن لعل ما منعكم من القول بإمامة أئمة بني الحسين إلا أنكم ولد الأمام الأكبر ولعلكم أبيتم أن تكونوا تبعا لولد الأمام الأصغر وما أراكم خلصتم من هذا العار لأنكم قلدتم زيدا وهو حسني فنسبتم مذهبكم إليه وفي بني الحسن والحسين - عليهما السلام - من هو
ص: 321
أفضل منه ، قبله كان عبد اللّه بن الحسن وولداه والباقر والصادق - عليهما السلام - ما يقصرون عنه ، ثم إنكم ما وجدتم له فقها أو مذهبا يقوم بالشريعة فتممتم مذهبكم بمذهب أبي حنيفة وأبو حنيفة من العوام والغلمان لجدكم ولكم ، فإذا رضيتم إماما زيديا وهو حسني مرقع مذهبه بمذهب أبي حنيفة فأنا أدلكم على الباقر والصادق وغيرهما - عليهم السلام - من بني الحسين - عليه السلام - من غير مرقعين وعلومهم كافية في أمور الدنيا والدين.
ثم قلت له : الناس يعرفون أنا كنا معشر بني هاشم رؤساء في الجاهلية والأسلام وما كنا أبدا تبعا ولا أذنابا للعوام ، فلما بعث محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وشرفنا بنبوته وشريعته نصير تبعا لغلمانه وللعوام من أمته وتعجز عناية اللّه جل جلاله به أن يكون لنا رئيس منا أي مصيبة حملتكم على ذلك وفينا من لا يحسن أبو حنيفة يجلس بين يديه ويحتاج أبو حنيفة وغيره من العلماء أن يقرؤا عليه فعرف الزيدي الحق ورجع عن مذهبه في الحال ، وقد اختصرت في المقال (1).
ص: 322
مناظرة ابن طاووس مع فقيه من المستنصرية (1)
قال ابن طاووس - عليه الرحمة - :
إني كنت في حضرة مولانا الكاظم والجواد - عليهما السلام - فحضر فقيه من المستنصرية ، كان يتردد علي قبل ذلك اليوم ، فلما رأيت وقت حضوره يحتمل المعارضة له في مذهبه ، قلت له : يا فلان ما تقول لو أن فرسا لك ضاعت منك وتوصلت في ردها إلي أو فرسا لي ضاعت مني وتوصلت في ردها إليك أما كان ذلك حسنا أو واجبا؟
فقال : بلى.
فقلت له : قد ضاع الهدى ، إما مني واما منك والمصلحة أن ننصف من أنفسنا وننظر ممن ضاع الهدى فنرده عليه.
فقال : نعم.
فقلت له : لا أحتج بما ينقله أصحابي لأنهم متهمون عندك ، ولا تحتج بما ينقله أصحابك لأنهم متهمون عندي أو على عقيدتي ، ولكن نحتج بالقرآن ، أو بالمجمع عليه من أصحابي وأصحابك ، أو بما رواه أصحابي لك وبما رواه أصحابك لي.
فقال : هذا إنصاف.
ص: 323
فقلت له : ما تقول فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحها؟
فقال : حق بغير شك.
فقلت : فهل تعرف أن مسلما روى في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه قال ما معناه : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خطبنا في (خم) فقال : أيها الناس إني بشر يوشك أن أدعى فأجيب ، وإني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي (1).
فقال : هذا صحيح.
فقلت : وتعرف أن مسلما روى في صحيحه (2) في مسند عائشة أنها روت عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه لما نزلت آية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (3) جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - فقال : هؤلاء أهل بيتي.
فقال : نعم هذا صحيح.
فقلت له : تعرف أن البخاري ومسلما رويا في صحيحيهما ، أن الأنصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة وأنهم ما نفذوا إلى أبي بكر ولا عمر ولا إلى أحد من المهاجرين حتى جاء أبو بكر وعمر وأبو عبيدة لما بلغهم في اجتماعهم ، فقال لهم أبو بكر : قد رضيت لكم إحد هذين الرجلين ، يعني عمر وأبا عبيدة ، فقال عمر : ما أتقدم عليك
ص: 324
فبايعه عمر وبايعه من الأنصار (1) وأن عليا - عليه السلام - وبني هاشم امتنعوا من المبايعة ستة أشهر (2) ، وأن البخاري ومسلما قالا فيما جمعه الحميدي من صحيحيهما : وكان لعلي - عليه السلام - وجه بين الناس في حياة فاطمة - عليها السلام - فلما ماتت فاطمة - عليها السلام - بعد ستة أشهر من وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - انصرفت وجوه الناس عن علي - عليه السلام - فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه خرج إلى مصالحة أبي بكر (3).
فقال : هذا صحيح.
فقلت له : ما تقول في بيعة تخلف عنها أهل بيت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الذين قال عنهم : أنهم الخلف من بعده وكتاب اللّه جل جلاله ، وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيهم : أذكركم اللّه في أهل بيتي (4).
وقال عنهم : انهم الذين نزلت فيهم آية الطهارة (5) ، وإنهم ما تأخروا مدة يسيرة حتى يقال : إنهم تأخروا لبعض الاشتغال ، وإنما كان التأخر للطعن في خلافة أبي بكر بغير إشكال في مدة ستة أشهر ، ولو كان الأنسان تأخر عن غضب يرد غضبه أو عن شبهة زالت شبهته بدون هذه المدة ، وإنه ما صالح أبا بكر على مقتضى حديث البخاري ومسلم إلا لما ماتت
ص: 325
فاطمة - عليها السلام - ورأى انصراف وجوه الناس عنه خرج عند ذلك الى المصالحة.
وهذه صورة حال تدل على أنه ما بايع مختارا ، وأن البخاري ومسلما رويا في هذا الحديث أنه ما بايع أحد من بني هاشم حتى بايع علي - عليه السلام -.
فقال : ما أقدم على الطعن في شئ قد عمله السلف والصحابة.
فقلت له : فهذا القرآن يشهد بأنهم عملوا في حياة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وهو يرجى ويخاف والوحي ينزل عليه بأسرارهم في حال الخوف وفي حال الأمن وحال الصحة وإلايثار عليه ما لا يقدروا ان يجحدوا الطعن عليهم به ، وإذا جاز منهم مخالفته في حياته وهو يرجى ويخاف فقد صاروا أقرب إلى مخالفته بعد وفاته وقد انقطع الرجاء والخوف منه وزال الوحي عنه.
فقال : في أي موضع من القرآن؟
فقلت : قال اللّه جل جلاله في مخالفتهم في الخوف : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) (1) ، فروى أصحاب التواريخ أنه لم يبق معه إلا ثمانية أنفس ، علي - عليه السلام - والعباس ، والفضل بن العباس ، وربيعة ، وأبو سفيان ، ابنا الحارث بن عبد المطلب ، وأسامة بن زيد ، وعبيدة بن أم أيمن وروي أيمن بن أم أيمن (2).
ص: 326
وقال اللّه جل جلاله في مخالفتهم له في الأمن : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (1) ، فذكر جماعة من المؤرخين أنه كان يخطب يوم الجمعة فبلغهم أن جمالا جاءت لبعض الصحابة مزينة فسارعوا إلى مشاهدتها وتركوه قائما ، وما كان عند الجمال شئ يرجون الانتفاع به (2).
فما ظنك بهم إذا حصلت خلافة يرجون نفعها ورئاستها ، وقال اللّه تعالى في سوء صحبتهم ما قال اللّه جل جلاله : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (3) ، ولو كانوا معذورين في سوء صحبتهم ما قال اللّه جل جلاله ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ، وقد عرفت في صحيحي مسلم والبخاري معارضتهم للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في غنيمة هو أذن لما أعطى المؤلفة قلوبهم أكثر منهم ، ومعارضتهم له لما عفى عن أهل مكة ، وتركه تغيير الكعبة وإعادتها إلى ما كانت في زمن ابراهيم - عليه السلام - خوفا من معارضتهم له (4) ومعارضتهم له لما خطب في تنزيه صفوان بن المعطل لما
ص: 327
قذف عائشة ، وأنه ما قدر أن يتم الخطبة ، أتعرف هذا جميعه في صحيحي مسلم والبخاري؟
فقال : هذا صحيح.
فقلت : وقال اللّه جل جلاله في إيثارهم عليه القليل من الدنيا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) (1) ، وقد عرفت أنهم امتنعوا من مناجاته ومحادثته لأجل التصدق برغيف وما دونه حتى تصدق علي بن أبي طالب - عليه السلام - بعشرة دراهم عن عشر دفعات ناجاه فيها ثم نسخت الاية بعد أن صارت عارا عليهم وفضيحة إلى يوم القيامة بقوله جل جلاله : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) (2)
ص: 328
فإذا حضرت يوم القيامة بين يدي اللّه جل جلاله وبين يدي رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقالا لك : كيف جاز لك أن تقلد قوما في عملهم وفعلهم وقد عرفت منهم مثل هذه الأمور الهائلة ، فأي عذر وأي حجة تبقى لك عند اللّه وعند رسوله في تقليدهم فبهت وحارحيرة عظيمة.
فقلت له : أما تعرف في صحيحي البخاري ومسلم في مسند جابر ابن سمرة وغيره أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال في عدة أحاديث : لا يزال هذا الدين عزيزا ماوليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، وفي بعض أحاديثه - عليه وآله والسلام - من الصحيحين : لايزال امر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (1).
وأمثال هذه الألفاظ كلها تتضمن هذا العدد الاثنا عشر فهل تعرف في الأسلام فرقة تعتقد هذا العدد غير الأمامية الاثني عشرية فإن كانت هذه أحاديث صحيحة كما شرطت على نفسك في تصحيح ما نقله البخاري ومسلم ، فهذه مصححة لعقيدة الأمامية وشاهدة بصدق ما رواه سلفهم وإن كانت كذبا فلأي حال رويتموها في صحاحكم.
فقال : ما أصنع بمارواه البخاري ومسلم من تزكية أبي بكر وعمر
ص: 329
وعثمان وتزكيه من تابعهم؟
فقلت له : أنت تعرف أنني شرطت عليك أن لا تحتج علي بما ينفرد به أصحابك ، وأنت أعرف أن الأنسان ولو كان من أعظم أهل العدالة وشهد لنفسه بدرهم وما دونه ما قبلت شهادته ، ولو شهد في الحال على أعظم أهل العدالة بمهما شهد من الأمور مما يقبل فيه شهادة أمثاله قبلت شهادته والبخاري ومسلم يعتقدان إمامة هؤلاء القوم ، فشهادتهم لهم شهادة بعقيدة نفوسهم ونصرة لرئاستهم ومنزلتهم.
فقال : واللّه ما بيني وبين الحق عداوة ، ما هذا إلا واضح لا شبهة فيه ، وأنا أتوب إلى اللّه تعالى بما كنت عليه من الاعتقاد ، فلما فرغ من شروط التوبة ، إذا رجل من ورائي قد أكب على يدي يقبلها ويبكي.
فقلت : من أنت؟
فقال : ما عليك اسمي ، فاجتهدت به حتى قلت : فأنت الان صديق أو صاحب حق ، فكيف يحسن لي أن لا أعرف صديقي وصاحب حق علي لأكافئه فامتنع من تعريفي اسمه.
فسألت الفقيه الذي من المستنصرية.
فقال : هذا فلان بن فلان من فقهاء النظامية (1) سهوت عن اسمه الان (2).
ص: 330
مناظرة العلامة الحلي (1) مع علماء المذاهب الأربعة بمحضر الشاه خدا بنده (2)
يقال : إن الشاه خدابنده غضب يوما على امرأته فقال لها : أنت طالق ثلاثا ، ثم ندم وجمع العلماء.
فقالوا : لابد من المحلل.
فقال : عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة أو ليس لكم هنا
ص: 331
اختلاف؟
فقالوا : لا.
فقال أحد وزرائه : إن عالما بالحلة وهو يقول ببطلان هذا الطلاق. فبعث كتابه إلى العلامة ، وأحضره ، فلما بعث إليه.
قال علماء العامة : إن له مذهبا باطلا ، ولا عقل للروافض (1) ، ولا يليق
ص: 332
بالملك أن يبعث إلى طلب رجل خفيف العقل.
قال الملك : حتى يحضر.
فلما حضر العلامة بعث الملك إلى جميع علماء المذاهب الأربعة ، وجمعهم. فلما دخل العلامة أخذ نعليه بيده ، ودخل المجلس ، وقال : السلام عليكم ، وجلس عند الملك.
فقالوا للملك : ألم نقل لك إنهم ضعفاء العقول.
قال الملك : اسألوا عنه في كل ما فعل.
ص: 333
فقالوا له : لم ما سجدت للملك وتركت الآداب؟
فقال : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان ملكا وكان يسلم عليه ، وقال اللّه تعالى : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً ) (1) ، ولا خلاف بيننا وبينكم أنه لا يجوز السجود لغير اللّه.
ثم قال له : لم جلست عند الملك؟
قال : لم يكن مكان غيره ، وكلما يقوله العلامة بالعربي كان المترجم يترجم للملك.
قالوا له : لأي شئ أخذت نعلك معك ، وهذا مما لا يليق بعاقل بل إنسان؟
قال : خفت أن يسرقه الحنفية كما سرق أبو حنيفة نعل رسول اللّه!!
فصاحت الحنفية : حاشا وكلا ، متى كان أبو حنيفة في زمان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بل كان تولده بعد المأة من وفاته - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال : فنسيت فلعله كان السارق الشافعي!!
فصاحت الشافعية كذلك ، وقالوا : كان تولد الشافعي في يوم وفاة أبي حنيفة ، وكانت نشوءه في المأتين من وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
وقال : لعله كان مالك!!
فصاحت المالكية كالأولين.
فقال : لعله كان أحمد ففعلت الحنبلية كذلك.
ص: 334
فأقبل العلامة إلى الملك ، وقال : أيها الملك علمت أن رؤساء المذاهب الأربعة لم يكن أحدهم في زمن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا الصحابة ، فهذا أحد بدعهم أنهم اختاروا من مجتهديهم هذه الأربعة ، ولو كان فيهم من كان أفضل منهم بمراتب لا يجوزون أن يجتهد بخلاف ما أفتى واحد منهم.
فقال الملك : ما كان واحد منهم في زمان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والصحابة؟!
فقال الجميع : لا.
فقال العلامة : ونحن معاشر الشيعة تابعون لأمير المؤمنين - عليه السلام - نفس رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأخيه وابن عمه ووصيه ، وعلى أي حال فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل لأنة لم يتحقق شروطه ، ومنها العدلان فهل قال الملك بمحضرهما؟
قال : لا.
ثم شرع في البحث مع العلماء حتى ألزمهم جميعا ، فتشيع الملك ، وبعث إلى البلاد والأقاليم حتى يخطبوا بالأئمة الأثني عشر - عليهم السلام - ، ويضربوا السكك على أسمائهم وينقشوها على أطراف المساجد والمشاهد منهم (1).
ومن لطائفه أنه بعد إتمام المناظرة وبيان احقية مذهب الأمامية الاثنى عشرية ، خطب الشيخ - قدس اللّه لطيفه - خطبة بليغة مشتملة على حمد اللّه والصلاة على رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والأئمة - عليهم
ص: 335
السلام - فلما استمع ذلك السيد الموصلي الذي هو من جملة المسكوتين بالمناظرة.
قال : مالدليل على جواز توجيه الصلاة على غير الأنبياء - عليهم السلام -؟
فقرأ الشيخ في جوابه - بلا انقطاع الكلام - : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1).
فقال الموصلي على طريق المكابرة : ما المصيبة التي أصاب آله حتى أنهم يستوجبون لها الصلاة؟
فقال الشيخ - رحمه اللّه - : من أشنع المصائب وأشدها أن حصل من ذراريهم مثلك الذي يرجح المنافقين الجهال المستوجبين اللعنة والنكال على آل رسول الملك المتعال.
فاستضحك الحاضرون ، وتعجبوا من بداهة جواب آية اللّه في العالمين ، وقد انشد بعض الشعراء :
إذا العلوي تابع ناصبيا *** بمذهبه فما هو من أبيه
وكان الكلب خيرا منه حقا *** لأن الكلب طبع أبيه فيه (2)
ص: 336
مناظرة أبي القاسم بن محمد الحاسمي (1) مع رفيع الدين حسين
قال الأمير السيد حسين العاملي - المعروف بالمجتهد المعاصر للسلطان شاه عباس الماضي الصفوي - في أواخر رسالته المعمولة في أحوال أهل الخلاف في النشأتين ، عند ذكر بعض المناظرات الواقعة بين الشيعة وأهل السنة هكذا :
وثانيهما : حكاية غريبة وقعت في بلدة طيبة همذان (2) بين شيعي اثنى عشري وبين سني ، رأيت في كتاب قديم يحتمل أن يمضي من تاريخ كتابته ثلاثمائة سنة نظرا إلى العادة ، وكان المسطور في الكتاب المذكور أنه وقع بين بعض من علماء الشيعة الاثنى عشرية اسمه : أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الحاسمي وبين بعض من علماء أهل السنة : رفيع
ص: 337
الدين حسين ، مصادقة ومصاحبة قديمة ، ومشاركة في الأموال ، ويتخالطان في أكثر الأحوال والأسفار ، وكل واحد منهما لا يخفي مذهبه وعقيدته عن الاخر ، وعلى سبيل الهزل ينسب أبو القاسم رفيع الدين إلى الناصبي ، وينسب رفيع الدين أبا القاسم إلى الرافضي ، وبينهما في هذه المصاحبة لا يقع مباحثة في المذهب ، إلى أن وقع الاتفاق في مسجد بلدة طيبة همذان يسمى ذلك المسجد بالمسجد العتيق ، وفي أثناء المكالمة فضل رفيع الدين حسين أبا بكر وعمر على أمير المؤمنين علي - عليه السلام - ، ورد أبو القاسم على رفيع الدين وفضل عليا - عليه السلام - على أبي بكر وعمر ، وأبو القاسم استدل على مدعاه بآيات عظيمة وأحاديث منزلة وذكر كرامات ومقامات ومعجزات وقعت منه - عليه السلام -.
ورفيع الدين يعكس القضية واستدل على تفضيل أبي بكر على علي - عليه السلام - بمخالطته ومصاحبته في الغار ، ومخاطبته بخطاب الصديق الأكبر من بين المهاجرين والأنصار ، وأيضا قال : إن أبا بكر مخصوص من بين المهاجرين والأنصار بالمصاهرة والخلافة والأمامة ، وأيضا قال رفيع الدين : الحديثان عن النبي واقعان في شأن أبي بكر أحدهما (أنت بمنزلة القميص) - الحديث ، وثانيهما (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) (1).
وأبو القاسم الشيعي بعد استماع هذا المقال من رفيع الدين ، قال لرفيع الدين : لأي وجه وسبب تفضل أبا بكر على سيد الأوصياء وسند الأولياء وحامل اللواء (2) ، وعلي إمام الأنس والجان ، وقسيم
ص: 338
الأكبر (1) ، والفاروق الأزهر (2) ، أخو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وزوج البتول ، وتعلم أيضا أنه - عليه السلام - وقت فرار الرسول إلى الغار من الظلمة وفجرة الكفار ضاجع على فراشه (3) ، وشاركه علي في حال العسر والفقر ، وسد رسول اللّه أبواب الصحابة من المسجد إلا بابه (4) ، وحمل عليا على كتفه لأجل كسر الأصنام (5) في أول الأسلام ، وزوج الحق
ص: 340
جل وعلا فاطمة بعلي في الملأ الأعلى (1) ، وقاتل - عليه السلام - مع عمرو ابن عبدود (2) ، وفتح خيبر (3) ، ولا أشرك باللّه تعالى طرفة عين بخلاف
ص: 341
ص: 342
الثلاثة ، وشبه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عليا بالأنبياء الأربعة ، حيث قال : (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى موسى في بطشه وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب) (1) ، ومع وجود هذه الفضائل والكمالات الظاهرة الباهرة ومع قرابته - عليه السلام - للرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، ورد الشمس له (2) ، كيف يعقل ويجوز
ص: 343
تفضيل أبي بكر على علي - عليه السلام -.
ولما سمع رفيع الدين هذه المقالة من أبي القاسم من تفضيله عليا - عليه السلام - على أبي بكر ، انهدم بناء خصوصيته لأبي القاسم ، وبعد اللتيا والتي قال رفيع الدين لأبي القاسم : كل رجل يجئ إلى المسجد فأي شئ يحكم من مذهبي أو مذهبك نطيع ، ولما كان عقيدة أهل همذان على أبي القاسم ظاهرا كان خائفا من هذا الشرط الذي وقع بينه وبين رفيع الدين ، لكن لكثرة المجادلة والمباحثة قبل أبو القاسم الشرط المذكور ورضي به كرها.
وبعد قرار الشرط المذكور بلا فصل جاء إلى المسجد فتى ظهر من بشرته آثار الجلالة والنجابة ومن أحواله لاح المجئ من السفر ودخل في المسجد وطاف ، ولما جاء بعد الطواف عندهما قام رفيع الدين على كمال الاضطراب والسرعة ، وبعد السلام للفتى المذكور سأله وعرض الأمر المقرر بينه وبين أبي القاسم وبالغ مبالغة كثيرة في إظهار عقيدة الفتى وأكد بالقسم وأقسمه بأن يظهر عقيدته على ما هو الواقع ، والفتى المذكور بلا توقف أنشأ هذين البيتين :
ص: 344
متى أقل مولاي أفضل منهما *** أكن للذي فضلته متنقصا
ألم ترأن السيف يزري بحده *** مقالك هذا السيف أحدى من العصا
ولما فرغ الفتى من إنشاء هذين البيتين كان أبو القاسم مع رفيع الدين قد تحيرا من فصاحته وبلاغته ، ولما أرادا تفتيش حال الفتى غاب عن نظرهما ولم يظهر أثره ، ورفيع الدين لما شاهد هذا الأمر الغريب العجيب ترك مذهبه ... واعتقد المذهب الحق الاثنى عشري.
أقول : الظاهر أن ذلك الفتى هو القائم - عليه السلام - ، وأما البيتان فهما المادة للأبيات التي قد أوردها في مثل هذا المقام الشيخ إبراهيم القطيفي (1) - المعاصر للشيخ علي
ص: 345
الكركي (1) - في أوائل إجازته (2) للسيد شريف بن السيد جمال الدين نور اللّه ابن شمس الدين محمد شاه الحسيني التستري ، إذ الظاهر أنه قد أخذها من ذينك البيتين في كلامه - عليه السلام - في تلك المحاكمة ، فتأمل والذي أورده في تلك الأجازة هكذا :
يقولون لي فضل عليا عليهم *** فلست أقول التبر أعلى من الحصا
إذا أنا فضلت الأمام عليهم *** أكن بالذي فضلته متنقصا
ألم ترأن السيف يزرى بحده *** مقالة هذا السيف أمضى من العصا (3)
ص: 346
مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي (1) مع الهروي في خراسان
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله حق حمده ، والصلوة على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
وبعد فقد سألتني أطال اللّه بقاءك عما كان بيني وبين الهروي في بلاد خراسان من المجادلات في المذهب ، وما ألزمته من الحجة.
ص: 347
فاعلم أني كنت في سنة ثمان وسبعين وثمانمائة مجاورا في مشهد الرضا - عليه السلام - ، وكان منزلي السيد الأجل ، والكهف الأظل وسيد محسن بن محمد الرضوي القمي ، وكان من أعيان أهل المشهد وساداتهم ، بارزا على أقرانه بالعلم والعمل ، وكان هو وكثير من أهل المشهد يشتغلون معي في علم الكلام والفقه ، فأقمنا على ذلك مدة ، فورد علينا من الهراة (1) خال السيد محسن ، وكان مهاجرا فيها لتحصيل العلم.
فقال : إن السبب في ورودي عليكم ما ظهر عندنا بالهراة من اسم هذا الشيخ العربي المجاور بالمشهد ، وظهور فضله بالعلم والأدب ، فقدمت لأستفيد من فوائده شيئا ، وخلفي رجل من أهل كيج ومكران (2) ولكنه من قريب سنتين متوطن الهراة ، مصاحب لعلمائها يطلبون منه فنون العلم ، وقد صار الان مبرزا في كثير من الفنون ، مثل علم النحو ، والصرف ، والمنطق ، والكلام ، والمعاني ، والبيان ، والأصول ، والفقه ، وغير ذلك ، وهو عامي المذهب.
ص: 348
وله مجادلات مع أهل المذاهب ، وقوة إلزام الخصوم في الجدل ، وقد سمع يذكر هذا الشيخ العربي فجاء لقصد زيارة الامام الرضا - عليه السلام - ، وقصد ملاقاة هذا الشيخ والجدل معه ، وها هو على الأثر يقدم غدا أو بعد غد فما أنتم قائلون؟
فأشار إلي السيد بما قال خاله مستطلعا لرأيي ، وقال : إذا قدم هذا الرجل فبالضرورة يكون ضيفا لنا لأنه قدم مع خالي وخالي ضيف لنا ، وما يحسن منا تضييف أحد المتصاحبين وترك الاخر ، فإن حصلت الضيافة التقى معك بالضرورة ، وتحصل المجادلة بينكما ، لأنه إنما أتى لهذا الغرض فما أنت قائل؟ أتحب أن تلاقيه وتجادله ، أو لا تحب ذلك فتحتال في رده عنا.
فقلت : إني أستعين باللّه على جداله ، وأرجو أن يقهره الحق بفالجه ، ويغلبه بنوره ، وقال السيد : ذلك هو مراد الأصحاب ، فلما كان بعد يوم من مجئ خال السيد قدم الهروي إلى المدرسة ، وعلم السيد وخاله بوصوله فمضينا إليه وجاء به إلى المنزل وأضافوه وعملوا وليمة احضروا فيها جميع الطلبة وجماعة من الأشراف والسادة وحصل بيني وبينه الملاقاة في منزل السيد فجادلت معه في ثلاثة مجالس :
(المجلس) الأول : كان في منزل السيد يوم الضيافة بحضور الطلبة والأشراف فكان أول ما تكلم به معي قبل البحث أن قال : يا شيخ ، ما اسمك؟
فقلت : محمد.
فقال : من أي بلاد العرب؟
ص: 349
فقلت : من بلاد هجر الموسومة بالأحساء (1) أهل العلم والدين.
فقال : أي شئ مذهبك؟
فقلت : سألتني عن الأصول أو الفروع؟
فقال : عن كليهما.
فقلت : مذهبي في الأصول كل ما قام الدليل عليه ، وأما في الفروع فلي فقه منسوب إلى أهل البيت - عليهم السلام -.
فقال : أراك أمامي المذهب.
ص: 350
فقلت : نعم ، أنا إمامي المذهب ، فما تقول؟
فقال : إن المامي يقول : إن علي بن ابي طالب - عليه السلام - إمام بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بلا فصل.
فقلت : نعم ، وأنا أقول ذلك.
فقال : أقم الدليل على دعواك.
فقلت : لا أحتاج الى إقامة دليل على ذلك.
فقال : ولم؟
فقلت : لأنك لا تنكر إمامة علي - عليه السلام - أصلا ، أنا وأنت متفقان على أنه إمام بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولكنك أنت تدعي الواسطة بينه وبين الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وأنا أنفي الواسطة ، فأنا ناف وأنت مثبت ، فإقامة الدليل عليك اللّهم إلا أن تنكر إمامة علي - عليه السلام - أصلا وتقول : إنه ليس إماما أصلا ورأسا ، فتخرق الأجماع وتلزمني إقامة الدليل حينئذ.
فقال : أعوذ باللّه ما أنكر إمامة علي - عليه السلام - ، ولكني أقول : هو الرابع بعد الثلاثة قبله.
فقلت : إذن أنت المحتاج إلى إقامة الدليل على دعواك لأني لا أوافقك على إثبات هذه الوسائط ، فضحك الأشراف والحاضرون من الطلبة ، وقالوا : إن العربي لمصيب ، والحق أحق بالا تباع ، إنك أنت المدعي وهو المنكر ، والمدعي محتاج إلى إثبات دعواه إلى البينة فألزمته الحجة.
قال : الدليل على مدعاي كثير.
فقلت : أريد واحدا لا غير.
ص: 351
فقال : الإجماع من الأمة على إمامة أبي بكر بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بلا فصل وأنت لا تنكر حجة الاجماع.
فقلت : ما تريد بالأجماع ، الأجماع الحاصل من كثرة القائل بذلك في ذلك الوقت ، أو الأجماع الحاصل من أهل الحل والعقد من يوم موت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ إن أردت الأول فلا حجة فيه ، لأن المخالف موجود ولا حجة فيها بنص القرآن لأنه تعالى يقول : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (1) ، ولم تزل الكثرة مذمومة في جميع الأمور حتى في القتال ، قال تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (2) وإن أردت الثاني فلي في إبطاله طريقان ، طريقة على مذهبي ولا تلزمك ، وهي أن الاجماع عندنا إنما يكون حجة مع دخول المعصوم فيه (3) ، فكل إجماع خال منه لا حجة فيه عندنا لجواز الخطأ على كل واحد واحد فهكذا على الكل لتركبه من الاحاد ، وأنت لا تقول بدخول المعصوم ، فالاجماع الذي تدعيه لا يكون عندنا صحيحا فلا يكون حجة وطريقة على مذهبك ، وهو أن الإجماع هو : اتفاق أهل والعقد من أمة النبي - صلى اللّه عليه وآله - على أمر من الأمور.
وهذا المعنى لا يحصل لأبي بكر يوم السقيفة ، بل كان فضلاء العرب وعلماؤهم وزهادهم وذو والأقدار أولوا الأيدي والأبصار منهم وأهل الحل والعقد غيابا لم يحضروا معهم السقيفة بالاتفاق كعلي بن أبي طالب ،
ص: 352
والعباس ، وابنه عبد اللّه بن العباس ، والزبير ، والمقداد ، وعمار ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي ، وجماعة من بني هاشم ، وغيرهم من الصحابة لأنهم كانوا مشتغلين بتجهيز النبي - صلى اللّه عليه وآله - فرأى الأنصار فرصة باشتغال بني هاشم ، فاجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة لأجالة الرأي ، وعلم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الطلقاء باجتماع الأنصار في السقيفة واختلافهم في الأمامة ، فحضروا معهم ، وكانت بينهم مجادلات ومخاصمات في الخلافة حتى قال الأنصار : منا أمير ، ومنكم أمير ، فغلبهم أبو بكر بحديث رواه فقال : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : الأئمة من قريش (1) ، فخصم الأنصار بذلك.
فقام عمر وأبو عبيدة فسبقا الأنصار على البيعة ، وصفقا على يد أبي بكر وقالا : السلام عليك يا خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فكانت البيعة الخاطئة لأبي بكر يومئذ في السقيفة (2) بالخديعة والحيلة والعجلة والغلبة والقهر ، ولهذا قال عمر : كانت بيعتي لأبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (3) ، فأين الأجماع المدعى حصوله ، وقد عرفت أن فضلاء الأصحاب وزهادهم وذدوي الأقدار والمهاجرين والأنصار لم يحضروا معهم ، ولم يبايعوا ولم يستطلعوا رأيهم ، وهل يصح من هؤلاء الأدنون من الصحابة الذين كان أكثرهم طلقا ومنافقين ومؤلفه أن يعقدوا الخلافة التي هي قائمة مقام النبوة بغير حضور
ص: 353
أولئك المشتهرين في الفضل والعلم والشرف والزهد مع أن الأجماع لا ينعقد عند الكل إلا باتفاق أهل الحل والعقد فدعوى الأجماع حينئذ على خلافته بعيدة.
فقال : ما ذكرته مسلم ، ولكن من ذكرت من الأصحاب وغيرهم بعد ذلك بايعوا ورضوا فحصل الأجماع من الكل بحيث لا يخالف في ذلك أحد وإن لم يكن إيقاعهم دفعة فإن ذلك غير شرط في الأجماع.
فقلت : إن اتفاقهم وحصول رضاهم بعد ذلك كما زعمت لا يقوم حجة لتطرق الاحتمال فيه بالأجبار والأكراه والتقية ، فإنهم لما رأوا هؤلاء العامة والرعاع الذين يميلون عند كل ناعق ولا يستضيئون بضوء العلم قد استمالهم الرجل وخدعهم وصاروا أتباعا له ، وقلدوه في أمورهم ، وقلدوا كبراءهم في اتباعه لم يمكن لهؤلاء الباقين المخالفة لهذه العوام وخافوا على أنفسهم من الخلاف عليهم والقتل فانقادوا كرها ، فلا يكون انقيادهم الحاصل بالأكراه مصححا للأجماع بل دل على عدم صحته.
فقال : ومن أين عرفت ذلك منهم حتى يكون ما ذكرت حقا؟
فقلت : قد تقرر في علم الميزان أن الاحتمال إذا قام على الدليل بطل ، واحتمال الأكراه قد قام في هذا الاجماع فيكون باطلا مع أنه قد ظهرت إمارات الأكراه في روايات كثيرة وأنا أورد لك بعضها ، منها :
الأول : ما ورد من ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (1) مع أنه عامي المذهب ، فقال : في باب فضائل عمر : إن عمر هو الذي وطأ الأمر لأبي بكر ، وقام فيه حتى أنه دفع في صدر المقداد ، وكسر سيف الزبير ،
ص: 354
وكان قد شهره عليهم وهذا غاية الأكراه.
الثاني : ما رواه أيضا (1) عن البراء بن عازب ، قال : لم أزل محبا لأهل البيت ، ولما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - أخذني ما يأخذ الواله من الحزن ، وخرجت لأنظر ما يكون من الناس فإذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة سائرين ومعهم جماعة من الطلقاء وعمر شاهر سيفه ، وكلما مر رجل من المسلمين قال له : بايع أبا بكر كما بايعه الناس فيبايع له إن شاء ذلك أو لم يشأ فأنكر عقلي ذلك الأمر فحيث اشتد الأمر جئت حتى أتيت عليا - عليه السلام - فأخبرته بخبر القوم ، وكان يسوى قبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بمسحاته فوضع المسحاة من يده ثم قرأ : ( آلم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) (2).
فقال العباس : تربت أيديكم بني هاشم إلى آخر الدهر ، وهذا دليل الأكراه بترجع علي والعباس له ، وما ظنك بامرء يدفع صدور المهاجرين ، ويكسر سيوفهم ويشهر فيه السيوف على رؤوس المسلمين كيف لا يكون إكراها لو لا عمى أفئدة! : ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (3).
ومنها : قول عمر لسعد بن عبادة الخزرجي سيد الأنصار وأميرهم لما امتنع من البيعة وهم في السقيفة لأنه كان حاضرا معهم ولم يبايع ، قال : أوطئوا سعدا واقتلوا سعدا ، قتل اللّه سعدا (4) ، وهذا عين الأكراه.
ص: 355
ومنها : ما رواه أهل الحديث ، ورواه عدة من أصحابنا ممن يوثق بنقلهم ، وتعرف عدالتهم أن أبا بكر لما صعد المنبر أول يوم جمعة قام إليه اثنا عشر رجلا ، ستة من المهاجرين ، وستة من الأنصار ، فأنكروا عليه قيامه ذلك المقام حتى أفحموه على المنبر ولم يرد جوابا ، فقام عمر ، وقال : يا ... ، إن كنت لا تقوم بحجة فلم أقمت نفسك هذا المقام ، وأخذ بيده وأنزله عن المنبر (1).
ولما كان الأسبوع الثاني جاءوا في جمع وجاء خالد بن الوليد معهم في مائة رجل وجاء معاذ بن جبل في مائة رجل شاهرين سيوفهم حتى دخلوا المسجد وكان علي - عليه السلام - فيه وجماعة من أصحابه معه ومعهم سلمان.
فقال عمر : واللّه يا أصحاب علي ، لئن ذهب رجل منكم يتكلم بالذي تكلم بالأمس لاخذن الذي فيه عيناه ، فقام سلمان الفارسي ، فقال : صدق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إنه قال : بينما أخي وابن عمي جالس في مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريدون قتله ولا شك أنتم هم ، فأهوى إليه عمر بالسيف ليضربه ، فأخذ علي - عليه السلام - بمجامع ثوبه وجذبه إلى الأرض ، وقال : يابن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددونا ، وبأجمعكم تكاثرونا؟! واللّه لولا كتاب من اللّه سبق ، وعهد من رسول اللّه تقدم لأريتكم أينا أقل عددا وأضعف ناصرا ، ثم قال لأصحابه : تفرقوا (2).
وإذا كانت الأحوال الجارية بينهم على مثل هذه الروايات دلت على
ص: 356
وقوع الكراهة وعدم تمكن هؤلاء المتخلفين عن السقيفة من ترك المبايعة ، فلا تكون بالموافقة الحاصلة منهم وإنما هي بالكراهة ، فلا تكون حجة بالأجماع.
فقال : هذه الروايات من طرقكم ، فلا تكون حجة علينا.
فقلت : سلمنا ، ولكن منها ما يكون من طرقكم كرواية ابن أبي الحديد مع أن احتمال الأكراه غير مندفع بحجة من عندكم ، والدليل قاطع فيبقى احتمال الكراهة بحاله فحينئذ لا يحصل الأجماع المدعى حصوله فلا تقوم لك الدلالة على الواسطة فأت بغيرها إن كان لك حجة قاطعة على مدعاك وإلا فاعترف ببطلانها.
فقال : هاهنا حجة.
فقلت : وما هي؟
فقال : أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - بالصلاة خلف أبي بكر في مرض موته (1) وذلك دليل على تقديمه له على سائر أصحابه لأن المقدم في الصلاة يقدم في غيرها إذ لا قائل بالفرق.
فقلت : هذه حجة ضعيفة جدا.
أما أولا : فلأنه لو كان التقديم صحيحا كما زعمت وكان مع صحته دالا على إمامته لكان ذلك نصا من النبي صلى اللّه عليه وآله بالأمامة ، ومتى حصل النص لا يحتاج معه إلى غيره فكيف وأبو بكر وأصحاب السقيفة لم يجعلوا ذلك دليلا على إمامته ، وكيف أبو بكر وعمر لم يحتجوا به على الأنصار وكيف توقفت الخلافة على المبايعة التي حصل عليهم فيها
ص: 357
الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف مع أن هذه الواقعة كانت أثبت دليلا ، وأقوى حجة لأنها نص النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، فكيف عدلوا إلى الأضعف الذي هو أحد الأمرين الأعسر ، والعاقل لا يختار الأصعب مع إنجاح الأسهل إلا لعجزه عنه.
فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا ، فكيف ما لا يكون حجة عندهم ولا عند أحد من الصحابة تجعله أنت حجة ، ومن ذلك يعلم أن قصدك المغالطة.
وأما ثانيا : فلأن التقديم في الصلاة لا يدل على الأمامة العامة لأن الخاص لا يدل على العام خصوصا على مذهبكم من جواز إمامة الفاسق في الصلاة ، وعدم اشتراط العدالة في التقديم بها ، والأمامة العامة يشترط فيها العدالة بالأجماع وأن الأمام لو فسق عندكم وجب على الامة عزله ، فكيف تجعلون ما لا يحتاج إلى العدالة حجة فيما يحتاج إليها إن هذا الاحتجاج واهي الدليل غير مسموع ولا مقبول عند العقلاء ومن له أدنى روية.
وأما ثالثا : إن هذا التقديم غير صحيح عند الكل أما عندنا فلأن المنقول أن بلالا لما جاء يعلم بوقت الصلاة كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - مغمورا بالمرض ، وكان علي - عليه السلام - مشتغلا بالرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، فقال بعضهم : علي يصلي بالناس فقالت عائشة (1) : مروا أبا بكر يصلي بالناس فظن بلال أن ذلك من أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - فجاء وأعلم أبا بكر بذلك فتقدم ، فلما كبر أفاق النبي - صلى اللّه عليه وآله -
ص: 358
فسمع التكبير ، فقال : من يصلي بالناس؟
فقيل له : أبو بكر.
فقال : أخرجوني إلى المسجد ، فقد حدثت في الأسلام فتنة ليست بهينة ، فخرج - صلى اللّه عليه وآله - يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى وصل إلى المحراب ، ونحى أبا بكر ، وصلى بالناس ، وأما عندكم فتدعون أن ذلك كان بأمر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وهي دعوى باطلة من وجوه.
الأول : أن الاتفاق واقع على أن الأمر الذي خرج إلى بلال لم يكن مشافهة من النبي - صلى اللّه عليه وآله - فقيل له : يا بلال ، قل لأبي بكر يصلي بالناس ، أو قل للناس يصلون خلف أبي بكر ، بل كان بواسطة بينهما لأن بلالا لم يحصل له الأذن في تلك الحالة بالدخول على النبي - صلى اللّه عليه وآله - لاشتغال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بالمرض وإذا كان بواسطة احتمل كذب الواسطة لأنه غير معصوم ، وإذا احتمل كذبه لم يبق في هذا الوجه حجة لاحتمال أن يكون بغير أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - ولا علمه ، ويدل على ذلك خروجه عليهم في الحال لما علم وعزل أبي بكر وتوليته الصلاة بنفسه.
الثاني : أنه لو كان ذلك بأمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - كما زعمتم لكان خروجه في الحال مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب وتوليه الصلاة بنفسه مع صدور الأمر منه أولا مناقضة صريحة لا تليق بمن لا ينطق عن الهوى لأن الاتفاق واقع على أن أبا بكر لم يتم الصلاة بالناس بل خرج النبي - صلى اللّه عليه وآله - ونحى أبا بكر عنها وأتم الصلاة بالناس رواه أهل السنة في جملة مصنفاتهم.
ص: 359
الثالث : لو سلمنا جميع ذلك لكان خروج النبي - صلى اللّه عليه وآله - وعزله له مبطلا لهذه الأمارة لأنه - عليه السلام - نسخها بعزله عنها فكيف يكون ما نسخه النبي - صلى اللّه عليه وآله - بنفسه حجة على ثبوته إن هذا لعجب بل أقول : إن عزل النبي - صلى اللّه عليه وآله - له بعد تقديمه كما زعمتم إنما كان لأظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته في التقدم في شئ فإن من لا يصلح أن يكون إماما في الصلاة مع أنها أقل المراتب عندكم لصحة تقديم الفاسق فيها كيف يصح أن يكون إماما عاما ، ورئيسا مطاعا لجميع الخلق ، وإنما كان قصده - صلى اللّه عليه وآله - إن كان هذا الأمر وقع منه - إظهار نقصه وعدم صلاحيته للتقديم على الناس ليكون حجة عليهم.
وما أشبه هذه القصة بقصة براءة (1) وعزله عنها ، وإنفاذه بالراية يوم خيبر (2) فإن ذلك كله بيان لأظهار نقصه وعدم صلاحيته لشئ من الأمور البينة وإظهار ذلك للناس يعرف ذلك من له أدنى روية ، والعجب منكم كيف تستدلون بالأمر بالصلاة التي عزل عنها ولم يتمها بالأجماع على إمامته؟ وكيف لا تستدلون على إمامة علي - عليه السلام - باستخلافه النبي - صلى اللّه عليه وآله - على المدينة في غزوة تبوك المتفق على نقلها وحصوله منه - صلى اللّه عليه وآله - لعلي - عليه السلام - وعدم عزله عنها بالاتفاق؟! فإن الاستخلاف على المدينة التي هي دار الهجرة ، وعدم الوثوق عليها لأحد إلا علي - عليه السلام - دليل على أنه القائم بالأمر بعده في جميع غيباته ومهماته وإذا ثبت استخلافه على المدينة وعدم عزله
ص: 360
عنها ثبت استخلافه على غيرها إذ لا قائل بالفرق.
ولما وصلنا في المجادلة في ذلك المجلس إلى هذا الحد حضرت مائدة السيد فانقطعت بحضورها المجادلة واشتغل جميع الحاضرين بالأكل والملا أيضا معهم واشتغلت به في جملتهم ، وعرضت لي فكرة حال الأكل في الحديث المروي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - وهو قوله - عليه السلام - : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (1).
فقلت : يا ملا إجازة.
قال : نعم.
قلت : ما تقول في هذا الحديث المروي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أهو حديث صحيح أم لا؟ وأوردت الحديث.
فقال : بل حديث صحيح متفق على صحته.
فقلت : من إمامك؟
فقال : ليس الحديث على ظاهره ، بل المراد بالأمام في الحديث القرآن ، وتقديره من مات ولم يعرف إمام زمانه الذي هو القرآن مات ميتة جاهلية.
فقلت : إذن يلزم أن يكون العلم بالقرآن واجبا عينا على كل مكلف مع أن ذلك لم يقل به أحد من العلماء.
فقال : ليس المراد القرآن كله ، بل المراد الفاتحة والسورة لأنهما
ص: 361
شرطان في صحة الصلاة ، فإنهما واجبان عينا بالإجماع فمن جهلهما يكون جاهليا.
فقلت : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أضاف الإمام إلى الزمان في الحديث وهو دليل على اختصاص أهل كل زمان بإمام يجب عليهم معرفته. ومع القول بيالفاتحة والسورة لا فائدة في هذا التخصيص حينئذ فلا يكون هذا تأويلا مطابقا لمقتضى الحديث.
فقال الأشراف والحاضرون من الطلبة : صدق الشيخ ، إن هذه الأضافة في الحديث تقتضي تخصيص أهل كل زمان بإمام يجب عليهم معرفته ، وأن من مات قبل معرفته مات جاهليا ، والتأويل بالفاتحة ينافي ذلك ، لوجوب الفاتحة على أهل كل زمان ، فانقطع ورجع.
فقال : إذن أنا وأنت سواء في ذلك في هذا الزمان.
فقلت : حاش لله ، ليس الأمر كما زعمت ، بل أنا لي إمام في زماني هذا أعتقد إمامته ، وأعرفه حق معرفته ، قامت لي الدلائل على ذلك ولست أنت كذلك فما أنا وأنت سواء.
فقال : إن إمامك الذي تعتقده أنت ونحن لا نشاهده ولا نعرف مكانه ، ولا تنتفع به في دينك ، ولا تأخذ عنه فتاويك فكان الأمر في وفيك سواء.
قلت : كلا إن الحديث لم يتضمن وجوب معرفة مكان الأمام ووجوب أخذ الفتاوى عنه ، وإنما تضمن وجوب معرفته وأنا الحمد لله قد عرفته وقامت لي الدلائل القاطعة على وجوده ووجوب إمامته واتباعه ، وأرجو في كل وقت ظهوره وملاقاته لي ولسائر الأمة وهذا هو الذي وجب علي بمقتضى الحديث لأنه لم يقل : من لم يأخذ عن إمام زمانه الفتاوى ولا قال : من لا يعرف مكان إمامه بل قال : من لا يعرف إمامه ، وأنا
ص: 362
بحمد اللّه قد عرفته ، وأنت تعتقد أن الأمام لك وأن الزمان الذي أنت فيه خال من الأمام فلست أنا وأنت سواء والحمد لله.
فقال : أنا في طلبه وتحصيل معرفته ، وقد ذكر لي أن باليمن رجلا يدعي الأمامة وأنا أريد الوصول إليه لأعرف صحة إمامته ودعواه فأتبعه.
فقلت له : إذن أنت في هذا الوقت لا إمام لك فأنت في هذا الوقت جاهل ، ثم قلت : ولا يصح لك ذلك إلا أن تترك مذهبك وترجع إلى غيره لأن هذا المدعي ليس من أهل السنة بل هو من الزيدية فإن كنت منهم صح لك ذلك وإن كنت من السنة فالسنة لا يعتقدون ذلك لأنهم لا يعتقدون وجود الأمام في كل وقت ، ولا يرجون وجوده على كل حال ، فسكت ولم يرد جوابا ، وفرغ الحاضرون من الأكل ورفعت المائدة وودعنا الحاضرون وخرجوا وتفرق أهل المجلس ، وخرج الملا في جملتهم.
المجلس الثاني :
كان يوم العيد العاشر من ذي الحجة اتفق أن السيد محسن بن محمد خرج من المنزل وكنت معه فقصدنا زيارة الأمام الرضا - عليه السلام - والأخوان في ذلك اليوم الشريف فجئنا وزرنا الأمام - عليه السلام - ، وبعد الفراغ دخلنا مدرسة السلطان شاهرخ التي هي بجنب حضرة الأمام - عليه السلام - وكان فيها جماعة من الطلبة ساكنين ، فقصدناهم فيها للسلام عليهم وزيارتهم وكان فيها رجل مدرس اسمه ملا غانم فوجدناه جالسا في المدرسة ومعه جماعة من أهل العلم والعوام من أهل المشهد وغيرهم ووجدنا الملا الهروي معهم فسلمنا على الحاضرين وجلسنا معهم فتخاوضوا في الأحاديث والحكايات والمذاكرة في العلم ، فجرى بينهم أشياء كثيرة ثم إن الملا الهروي أشار إلى بمسألة.
ص: 363
فقال : ما تقول في ولد الزنا هل تنسبه الى أبيه وأمه أم لا؟
فقلت : الذي عليه علماء أهل البيت - عليهم السلام - أنه لا يصح نسبته إلى أبيه ولا إلى أمه لأنه عندهم أنه ليس ولدا شرعيا والنسب عندهم إنما يثبت بالنكاح الصحيح ، والشبهة دون الزنا.
فقال : فيلزمكم عند انتفاء النسبة الشرعية أن لا يكون محرما فيحل له وطئ أمه وأخواته ويحل للأب وطئ ابنته وهذا لا يقول به أحد من أهل الأسلام.
فقلت : إنه ولد لغة لا شرعا ، ونحن نقول : بالتحريم المذكور من حيث اللغة ، فالتحريم عندنا يتبع اللغة وغيره من الأحكام يتبع الشرع.
فقال : هذا خبط في البحث لأنكم مرة تقولون : إنه ولد وتحكمون له بأحكام الأولاد ، ومرة تقولون : إنه غير ولد وتحكمون له بأحكام الأجانب ، وهذه مناقضة وخبط في الفتوى.
فقلت : ليس ذلك مناقضة بل أثبت له أحكام الأولاد من حيثية ، والأجانب من حيثية ، ولا استحالة في اختلاف الأحكام باختلاف الحيثيات.
فقال : وأي حاجة لكم إلى هذه التمحلات ولم تتبعوا اللغة دائما لأنه عند أهل اللغة ولد حقيقة وإنما جاء الشرع تابعا للغة.
قلت : ليس الشرع تابعا للغة دائما لأنه عند أهل اللغة ولد حقيقة كما ذكرت ، والشرع إنما جاء تابعا للغة دائما فإن الألفاظ اللغوية وإن كانت على لفظها في الاصطلاح الشرعي إلا أنها في المعاني مغايرة لها فإن الصلاة لغة الدعاء ، والزكاة لغة النمو ، وفي الشرع وإن كانت تسميتها كذلك إلا أن المعني منها غير المعنى اللغوي ، فإن الصلاة والزكاة شرعا غير الدعاء
ص: 364
والنمو ومع ذلك فإن مذهبنا مبني على الاحتياط فإن التحريم في الوطئ والنظر وما يتبع النسب من الأحكام نظرا إلى اللغة أخذا بالأحوط وموضع الوفاق وهي في النسب تتبع الشرع لأنه عين الموافق لمراد الشارع ، فلو جعلناه منتفيا في كل الأحكام لاحتمل أن يكون غير مراد الشارع فيحصل حينئذ العقاب أيضا باعتبار التولد اللغوي ، فالاحتياط التام مذهبنا والشارع قد نفاه في قوله - عليه السلام - : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر (1) ، فلو لا إسقاط حكم الزنا في ذلك لم يصح نفيه لاحتمال حصوله من الزنا دون الفراش ، فأعرض عن المجادلة في هذه المسألة ، ثم أقبل ينظر إلى كتاب كان معي ، وقال : ما هذا الكتاب الذي معك.
فقلت : هذا مصنف للشيخ جمال الدين الحسن بن المطهر الحلي من مشائخ الأمامية وعلمائهم ، يسمى بكتاب نهج الحق وكشف الصدق (2) ، يبحث فيه عن أحوال الخلاف بين الأمامية وأهل السنة ، وقد ذكر فيه حديثا ينقله عن صحيح مسلم أتحب أن أحكيه لك.
فقال : وما هذا الحديث؟
فقلت : ما تقول فيما اشتمل عليه صحيح مسلم أتنكره؟
فقال : لا بل جميع ما اشتمل عليه صحيح مسلم من الأحاديث فإني معترف بصحته.
فقلت : روى مسلم في صحيحه ، والحميدي في الجمع بين
ص: 365
الصحيحين في مسند عبد اللّه بن العباس ، قال : لما احتضر النبي - صلى اللّه عليه وآله - كان في بيته رجال ، منهم : عمر بن الخطاب ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا.
فقال عمر بن الخطاب : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد غلب عليه الوجع ، وإن الرجل ليهجر ، فاختلف الحاضرون عند النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، فبعضهم يقول : القول ما قاله النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وبعضهم يقول : القول ما قاله عمر ، فلما كثر اللغط والاختلاف قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع (1).
فقال : هذا حديث صحيح ، ولكن أي طعن على عمر فيه؟
فقلت : الطعن من وجهين :
الأول : أنه سوء أدب منه ومن الجماعة في حق النبي - صلى اللّه عليه وآله - في ردهم عليه مراده ، وعدم قبولهم أوامره ، رفع أصواتهم فوق صوت النبي - صلى اللّه عليه وآله - حتى تأذى بذلك وقال لهم : قوموا عني تبرئا منهم ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
ص: 366
فَانْتَهُوا ) (1) وقال تعالى : ( لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (2) ، وقال تعالى : ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (3) ، ومع ذلك لم يقتصر عمر على هذه الوجوه بل قابله بالشتم في وجهه وقال : بأن نبيكم ليهجر ، أي يهذي وقال تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (4).
الثاني : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لما أراد إرشادهم وحصول الألف بينهم وعدم وقوع الاختلاف والعداوة والبغضاء بكتب الكتاب الذي يكون نافيا لضلالهم أبدا بنص الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - منعه عمر وحال بينه وبين مراده وهو مأمور بتوقيره ، واتباع أوامره ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (5) ، فكيف ساغ لعمر أن يختار منع النبي - صلى اللّه عليه وآله - عن مراده مقابلا له في وجهه بحضرة أصحابه ولهذا كان عبد اللّه ابن عباس إذا ذكر هذا الحديث يبكي حتى تبل دموعه الحصى ويقول : يوم الخميس وما يوم الخميس (6) ، وكان يقول دائما : الرزية كل الرزية ما حال
ص: 367
بين رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وبين كتابه (1).
فقال : أما قولكم إن قوله : إن نبيكم ليهجر شتم ، فغير مسلم ، أما الأول فلأنه لم يقصد بهذه اللفظة ظاهرها فإن في جلالة عمر ، وعظم شأنه ما يمنعه من ذلك ولكن إنما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته ، وكان موصوفا بالخشانة وإباءة الطبع.
وأما ثانيا : فلأن قوله : إن نبيكم ليهجر ، مشتق من هجر مهاجرة ، فتكون معناه ان نبيكم ليهاجر ، وأما قولكم إنه منع النبي - صلى اللّه عليه وآله - عن كتابه ، وتقدم بين يديه ، ورده عن مراده ، فإنه اجتهاد رأيه فسوغ لمثله العمل باجتهاده فإنه لما رأى في اجتهاده أن ترك هذا الكتاب أصلح ، ساغ له المنع منه على مقتضى اجتهاده وإن كان مخطئا في ذلك الاجتهاد فإن الخطأ في ذلك غير معاقب عليه ، ولا يصح ذم فاعله لأنه أقصى تكليفه.
فقلت : هذا الجواب غير مسموع.
أما الأول : فإن قولك : إنه غير شتم ، دليل على قلة معرفتك بلغة العرب ، وعدم علمك باصطلاحاتهم في المخاطبات فإن ما هو دون هذه اللفظة عندهم شتم يقاتلون عليه ويتخاصمون ، فكيف بهذه اللفظة ، ولا ألومك على قلة معرفتك بذلك لأنك لست بعربي.
وأما قولك : فإنه لم يقصد بها ظاهرها إلى آخر الكلام ، فهو اعتراف منك بأن ظاهرها منكر وزور ونزهته عن ذلك فمن اين عرفت عدم قصده مع أنه تلفظ بها متعمدا واللفظ إذا وقع عن عمد وإرادة دل بظاهره على أنه
ص: 368
مراد المتكلم وظاهر الكلام دل على أنه منكر فادعاؤك عدم قصده يحتاج إلى دليل.
وأما قولك : إنما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته ، فإن ذلك ليس بعذر يسقط التكليف ، لأن كل مكلف فطبعه يقتضي الميل إلى الشهوة والنفور عن الحسن مع أنه مكلف بكسر الشهوة فالواجب عليه حينئذ كسر هذه الغريزية وقطع هذه العادة والأصغاء والاستماع إلى قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - والاتباع له في جميع الأحوال لأنه مكلف بذلك ، فبأي دليل ساغ له ترك ما كلف به والتنازع والرد على النبي - صلى اللّه عليه وآله - والتهجم عليه بالكلام المنكر على مقتضى طبعه ، إن ذلك لم يقع منه إلا لعدم علمه بالتكاليف ، وشدة سرعة نكرها.
وأما قولك : إن قوله إن نبيكم ليهجر مشتق من هجر مهاجرة معناه أن نبيكم يهاجر ، فقول مردود من جهة اللفظ والمعنى ، أما من جهة اللفظ فإن الاشتقاق الذي ذكرته لم يقل به أحد ، ولما وصلت في اعتراضي عليه إلى هذا الموضع أنكر عليه ذلك الملا المدرس؟
وقال : هذه اللفظة ليست من هذا الاشتقاق بل هو من هجر يهجر هجرا لا مهاجرة فإن ذلك على غير القياس ، وإذا كان معناها ذلك ما احتملت إلا الهجر الذي هو الهذيان ويرد عليك ما قاله الشيخ.
فاعترف بالخطأ في ذلك ، ثم عدت فقلت : وأما غلطك من جهة المعنى ، فإن قولك إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - ليهاجر كلام لا فائدة له لأن المهاجرة من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في تلك الحالة غير متصورة لأنه في حالة الاحتضار ولأن الهجرة قدانقطعت ومع ذلك فهو غير مطابق لمقتضى الحال.
ص: 369
وأما الثاني : فإن قولك : إنه إنما منع منه على مقتضى اجتهاده قول ضعيف جدا ، أما أولا : فلأن الاجتهاد غير سائغ في هذه المسألة.
وأما ثانيا : فلأن الاجتهاد لا يجوز مع وجود صاحب الشريعة ، فإن فرض الجميع في زمانه مع الحضور عنده التقليد لقوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (1).
وأما ثالثا : فلأن الاجتهاد لا يعارض النص كما تقرر في الأصول ، وهذا الكلام من النبي - صلى اللّه عليه وآله - نص يقتضي وجوب اتباع أمره في الأتيان بالكتاب ، فكيف يصح أن يخالف نصه وأمره ويعارض بالاجتهاد ، فإن النص يفيد القطع ، والاجتهاد لا يفيد إلا الظن ، والظن لا يعارض اليقين ، فكيف يسوغ لعمر أن يترك اليقين القطعي المتلقى ممن لا ينطق عن الهوى بوحي اللّه تعالى ويرده ويهمله ويمنع منه ، ويعمل باجتهاده إن ذلك لضلال وقلة احترام للشرع ، وهتك للتكاليف ، ومع ذلك لم يقتصر على المنع والرد حتى تكلم بالشتم وتوصل إلى المنع من أقبح الجهات بلفظ منكر صريح المنكر بظاهره وباطنه ومع ذلك تقول إن ذلك اجتهاد ، أي اجتهاد يسوغ في هذا الموضع؟ وأي قول يسمع في رد كتاب النبي - صلى اللّه عليه وآله - يحصل بذلك صلاح الأمة ، وعدم وقوع الاختلاف بينهم؟
وأما قولك : إنه رأى ترك هذا الكتاب أصلح للدين ، فقول مخالف للمعقول والمنقول لأن ما أمر به النبي - صلى اللّه عليه وآله - إما أن يكون فيه فساد أو صلاح ، ولا سبيل إلى الأول لأحد لاستلزامه الكفر ، وإذا كان
ص: 370
صلاحا علمه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عن اللّه تعالى وعلم عمر أن الترك أصلح فهل كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - واللّه تعالى يعلمان ما علمه عمر أم لا؟
فإن قلت : إنهما كانا يعلمان ما علم ، فكان الواجب عليهما العمل بالأصلح لأن فعل الأصلح واجب في الحكمة ، فكيف تركا العمل بالأصلح وعلمه عمر ، وهل كان ألطف بالخلق منهما؟
وإن قلت : إنهما لا يعلمان ، فقد أبطلت وأحلت فاختر أيهما فإنها لا تخالف المعقول والمنقول.
فقال : الذي ينبغي لذوي العقول أن لا يحملوا هذه الأشياء الواقعة بين هؤلاء الذين هم في محل التعظيم والشرف على مثل ما ذكرت ، بل ينبغي حملها على الوجه الجميل ، كما قيل إن بعض الناس سمع أعرابيا يقول مخاطبا لله عزوجل في سنة جدب :
قد كنت تسقي الغيث ما بدا لك *** أنزل علينا الغيث لا أبالك
فقال الشاهد : أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ، فأخرجها على أحسن مخرج (1).
فينبغي لمن سمع هذه اللفظة من هذا القائل وأمثاله أن يحملها على مثل ما حمل عليه لفظ الأعرابي.
وأما قولك : إن الاجتهاد لا يعارض النص ، وإن عمر لا يسوغ له الاجتهاد في هذا المحل ، فإن ذلك على حالة غير هذه الحالة فإن هذه الحالة كانت حالة الاحتضار ، والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مغلوب
ص: 371
بالمرض حتى أنه كان يغمى عليه مرة ويفيق اخرى ، فاحتمل أن يكون أمره في حال غير حالة الصحة ، فساغ له الاجتهاد والنظر حينئذ فأداه الاجتهاد إلى الحكم بأن ذلك منه حال كونه مغلوبا بالمرض.
فقلت : والذي ينبغي لأهل الدين والصلاح أن لا يحرفوا الكلم عن مواضعه ، وهذه الكلمة الخارجة من هذا القائل ليس لها محمل غير ظاهرها ، فلا يمكن حملها على غيره ، وأما حمل كلام الأعرابي على ما حمل عليه فإنه حمل ظاهر يعرفه من له أدنى روية ، ولفظة عمر لا تلقى أنت ولا غيرك لها محملا غير ظاهرها الذي شتم الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فإن كان لها محمل فاذكره ، ولكنك تقول : ينبغي أن تحمل على غير ظاهرها مع عدم وجود محمل ، كيف يتصور ذلك! فالعجب منكم كيف تحملون ظواهر الايات التي فيها عقاب الأنبياء - عليهم السلام - على ترك الأولى على ظواهرها ، وتحكمون عليهم بالمعاصي والخطأ مع دلالة العقل على وجوب تنزههم عن ذلك مع وجود المحامل لظواهر تلك الايات ، وتتركون ذلك وتحملون كلام عمر الذي ظاهره المنكر ومرتبته أقل من مراتب الأنبياء بأضعاف على غير ظواهرها ، وتمنعون من جواز حمله على ظاهره مع أنه كلام لا محمل له ، وتتركون العمل بظاهرها بغير تأويل واضح ، ولا دليل لائح ، وهلا ساويتم بينه وبين الأنبياء الذين هم في محل التعظيم ، وما ذاك إلا من قلة إنصافكم ، وكثرة تستركم للحق ، وشدة تسرعكم إلى التعمية بإيراد الشبه.
وأما قولك : إن عمر إنما عارض أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لأنه في حالة غير حالة الصحة ، ولو كان في حال الصحة لما عارضه ، فإنه كلام ردئ جدا لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أمره بالكتاب
ص: 372
لا يخلو إما أن يكون متصفا بالعقل وأن أمره صدر عن إرادة جازمة أو غير ذلك ، ولا سبيل لك إلى الثاني لقوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) (1) ، ولكن كلمة صاحبك تدل على ذلك وهي المنكر الذي نحن بصدد الاعتراض عليه ، ومن الأول يلزم وجوب اتباع أوامره ، والانقياد إلى إرادته ، وقبول أقواله لأنه واجب الطاعة في جميع الأحوال فلا يسوغ الاجتهاد حينئذ لأن الأمر الواقع عنه إيجاب لما أمر به فيكون أيضا يقتضي وجوب العمل به فالراد عليه يكون رادا لجميع الأوامر الشرعية ، وذلك على حد الشرك نعوذ باللّه.
وما أعجب حالكم تستدلون على إمامة أبي بكر بتقديم النبي - صلى اللّه عليه وآله - في مرض الموت في الصلاة وتجعلون ذلك حجة لكم في وجوب اتباعه ، وتجعلون الأمر منه بالكتاب الذي فيه هدي الأمة وعدم حصول الاختلاف بينهم محل الهذيان والهذر وتسوغون لعمر أن يمنع منه بالاجتهاد لجواز أن يكون هذرا وهذيانا في اجتهاده ، فكيف لا يحتمل الأمر في ذلك مثله ، إن هذا إلا قلة الأنصاف والخبط ، وأعجب من هذا أنكم تستدلون على خلافة عمر بأن أبا بكر نص عليه بها مع أن ذلك وقع منه في حال المرض بإجماع الكل ، فكيف لم تحمل كلام أبي بكر على الهذيان وتحمل كلام النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على ذلك؟ فهل كان أبو بكر أكمل من النبي - صلى اللّه عليه وآله - وأتم؟! وما أحسن قول بعضهم في هذا المعنى شعرا :
أوصى النبي فقال قائلهم *** قد ضل يهجر سيد البشر
ص: 373
وأرى أبا بكر أصاب فلم *** يهجر وقد أوصى إلى عمر
(الى آخر المجلس الثاني)
المجلس الثالث : يوم الجمعة يوم آخر أتى المنزل لغرض له مع السيد محسن وكنت مع السيد ولم يكن معنا أحد فخلوت معه فجلس ، وقال : إن هذا اليوم المجلس خال من الناس وأريد أن أبحث معك في هذه الخلوة.
فقلت : تكلم بما تريد.
فقال : ابحث لي عن حال الخلفاء ، وما كانت صفتهم ، وما تعتقده منهم لأناظرك في ذلك.
فقلت : أما الخليفة الأول فقد ظهر من طريقته وصفته أن توصل إلى التقديم على المسلمين ، وأخذ الخلافة من آل الرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، والتسارع إلى ذلك ، والتوصل إليه بما عرفت من الخدع والمكر والتحيل والتغلب وتحلى بحلية لم يحله اللّه بها ولا رسوله ، ويكفيك في ذلك تركه النبي - صلى اللّه عليه وآله - في حال مصيبة الموت لم يحضره ولا اشتغل بتجهيزه ، ولا عظمت عنده تلك المصيبة ، ولا جلت لديه تلك الرزية ، ولا التفت إلى ما أصاب الأسلام من الفادح العظيم ، والخطب الجسيم بموت النبي الكريم بل استغنم الفرصة باشتغال على - عليه السلام - وبني هاشم بمصيبتهم بالنبي - صلى اللّه عليه وآله - وولى هو تلك المصيبة العظيمة دبره ، ومضى إلى السقيفة لتحصيل الأمارة والمنازعة عليها ، وترك الحضور في عزاء نبيه وغسله ودفنه والصلاة عليه وتعزية أهله ، ولم يحضر هو ولا صاحبه شيئا من ذلك ، ووقوع ذلك منهم دليل على قلة احترامهم وعدم مبالاتهم بالأسلام ، وإنهم إنما ابتغوا بذلك نيل
ص: 374
الرئاسات والولايات لا للدين لأنهما ومن كان معهما في السقيفة من الأنصار وغيرهم لم يكن لهم قوة في الدين ولا عقيدة في الأسلام ، فإن كل من لم تدخل مصيبة النبي - صلى اللّه عليه وآله - في قلبه ، ولم تخشع لها جوارحه ، ولا اشتغل بها عن جميع مهماته فإنه ناقص الدين ، ضعيف الاعتقاد ، بل غير مسلم فكيف يليق بحال من هو متأهل لخلافة المسلمين والقيام مقام نبيهم أن يترك نبيه ميتا لا يحضره ولا يقوم بشئ من مهماته ، وحرمته ميتا كحرمته حيا بنص الشرع ، فالواجب عليه وعلى جميع أهل الأسلام الحضور لتلك المصيبة والاشتغال بها وتعزية بعضهم بعضا عليها حتى ينقضي عزاؤه ، ثم بعد ذلك يقومون في مهماتهم ، فلما علموا ذلك أهملوه غاية الأهمال وتسارعوا إلى المنازعة في سلطانه ، والقيام في مقامه قبل دفنه بل قبل غسله وقع ذلك منهم على ما ذكرناه مع أنه صهرهم ، ولا يليق بأحد من الناس أن يترك زوج ابنته بغير غسل ولا تكفين ولا دفن ، بل يعلم منه أنه كاره له غاية الأكراه وهذا واضح بحمد اللّه على ما هو عادة خلق اللّه ، بل يعلم منه الفرح والسرور بموته لا يشك فيه ذو لب ، ولا يحيد عنه إلا جاحد للرسول والرب ، بل وانهم شامتون بموته ومن له أدنى إنصاف يعرف ذلك.
ثم إنه لم يكفه ذلك حتى شرع في الظلم والجور فأول ظلم سنه ظلم البتول فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين التي هي من أولي القربى الذين أمر اللّه بمودتهم في محكم كتابه وجعله أجر الرسالة فقال تعالى : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، وأى قرابة أبلغ من البنوة ،
ص: 375
وقد قال في حقها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه ، ومن آذى اللّه فقد دخل النار (1). حديث اتفق عليه الفريقان.
منعها من إرث أبيها بخبر رواه وحده ولم ينقله أحد ، وهو قوله إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث (2) وهذا الحديث كذب لأن اللّه تعالى يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (3) وقال : حاكيا عن زكريا : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (4) ، وأراد إرث المال لأنه تعالى قال بعده : ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (5) لأنه لو أراد إرث النبوة لم يحتج إلى طلب كونه رضيا لأن الوارث لها لا يكون إلا كذلك ، وقال اللّه تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (6) ، وهو عام في حق النبي - صلى اللّه عليه وآله - وغيره ثم لم يقنعه ذلك حتى منعها من فدك والعوالي وقد كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قد أعطاها فاطمة - عليها السلام - لما نزل قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (7) واستغلتها فاطمة - عليها السلام - في حياة أبيها فرفع يدها عنها ،
ص: 376
فكلمته في الإرث وفيها ، فقلت : كيف ترث أباك ولا أرث أبي ، ثم قالت : وهذه نحلتي من أبي كيف تأخذها وتمنعني منها ، فطالبها بالبينة وهو غير المشروع لأن القابض منكر والبينة على المدعي ، ثم إنها أتت بعلي والحسن والحسين - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وأم أيمن شهودا على النحلة ، فرد شهادتهم عنادا للشرع ، وتبطيلا للأحكام ، وبغضا لأهل البيت - عليهم السلام - ، كل ذلك ثبت بالروايات الصحيحة لا يسع أحد إنكارها لأن ذلك قد اتفق على نقله الفريقان ، ولهذا ما ماتت إلا وهي ساخطة على صاحبيك وحلفت ألا تكلمهما ، وأوصت ألا يصليا عليها (1) ، مع قول
ص: 377
النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : يا فاطمة ، إن اللّه يسخط لسخطك ، ويرضى لرضاك (1) ومن هذا حاله مع أهل بيت - عليهم السلام - كيف يؤمن على غيرهم؟ وكيف يصح اتباعه وتقليده؟ كيف تجعله واسطة بينك وبين خالقك؟ وله احوال غير ذلك لو نروم تعدادها لا تسع الخطاب ، قل منك الجواب.
وأمّا الخليفة الثاني : فقد عرفت ما كان عليه في حياة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ثم لما ولي الخلافة أظهر البدع ، وعمل بضد الصواب ، فمنع المتعة الثابت حلها في الشرع المحمدي ، وقد أمر اللّه بها ورسوله واتفق الكل على نقلها في زمن النبي - صلى اللّه عليه وآله - وزمن أبي بكر وبرهة من خلافته ، ثم منع منها مخالفا للكتاب والسنة والأجماع ، وقام وقعد في توطئة الأمر لأبي بكر حتى توعد الناس ممن تأخر عن بيعته بالضرب والقتل ، وأراد حرق بيت فاطمة لما امتنع علي - عليه السلام - وبعض بني هاشم من البيعة (2) ، وضغطها بالباب حتى أجهضت جنينها ، وضربها قنفذ بالسوط (3) عن أمره حتى أنها ماتت وألم السياط في جسمها ، وغير ذلك من الأشياء المنكرة.
فقال : إن ذلك من روايتكم وطريقكم فلا تقوم حجة على غيركم.
ص: 378
فقلت : أما الحديث الإرث والعوالي وفدك ، فقد رواه منكم الواقدي ، وموفق بن أحمد المكي.
وأما حديث المتعة ومنع عمر لها فمشهور عندكم ، وأما حديث الإحراق وإجهاض اجنين فبعضه مروي عنكم وهو العزم على الإحراق ، رواه الطبري والواقدي.
ثم عدت فقلت : وأما الخليفة الثالث فما كان عليه من المنكرات وعمل المقبحات فمشهور ، لا يحتاج إلى بيان ، فإنه ضرب ابن مسعود ، وأحرق مصفحه (1) ونفى أبا ذر إلى الربذة (2) ، ورد الحكم بن العاص بعد نفي النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (3) وقوله - صلى اللّه عليه وآله - : لا يجاورني حيا ولا ميتا ، فمن خالف فعليه لعنة اللّه ، ثم آواه وقربه وأدناه ، ولم يكفه ذلك حتى طعن على النبي - صلى اللّه عليه وآله - في نفيه الحكم ، فقال عند وصوله المدينة : ما نفيت إلا بغيا وعدوانا ، واستعمل في ولايته أقرباءه بني أمية الفسقة المتظاهرين بالفسق وشرب الخمور ، ويكفيك في ذلك أن المسلمين أجمعوا على قتله لما أبدع في الدين وخالف ما عليه الخلفاء المتقدمين ، فقتلوه في بيته بين أهله ولم ينكر عليهم ذلك أحد من الصحابة وكان علي - عليه السلام - حاضرا في المدينة يشهد الواقعة ولو كان قتله غير جائز لوجب على علي - عليه السلام - الدفع عنه ومن حيث جاز قتله لم يصح الدفاع عنه فهو غير ... فاختر أيها شئت ، إما أن يكون علي - عليه السلام - ترك الدفع عنه مع وجوبه أو تركه لعدم جوازه.
ص: 379
فقال : يمكن أن يكون ترك الدفع تقية.
فقلت : هذا الكلام غير مسموع ، أما أولا فلأنه - عليه السلام - في تلك الحالة كثير الأتباع ، قليل الأعداء ، وجميع المسلمين يستطلعون رأيه ، ولم يكن هناك أحد ممن يعدلونه به وكان قوله مسموعا عندهم.
وأما ثانيا : فلأنه ترك بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفن فهلا كان أمر بدفنه في تلك المدة ، وما ذاك إلا أنه غير مستحق للدفن.
وأما ثالثا : فلأنه كان الخليفة بعد قتله ، فلم لا أقاد قاتليه لوارثه ، وقتلهم به مع تمكنه من ذلك.
فقال : إني أحب أن تترك البحث في هؤلاء الثلاثة إلى غيرهم من بقية الخلفاء.
فقلت له : إنهم الأساس ، فلا يصح العدول عنهم حتى يتحقق عندك ما كانوا عليه وقد أوضحت لك طريقتهم ، ثم إني أسهل عليك الطريق ، ألم تعتقد أن عليا - عليه السلام - في غاية ما يكون من الصفات المحمودة ، والعدالة المطلقة ، وأنه ليس لطاعن عليه سبيل.
فقال : بلى أعتقد ذلك وأدين اللّه به.
فقلت : ما تقول في شكايته منهم وتظلمه ونسبتهم إلى غصب حقه (1) ، والتغلب عليه ، أليس يكون قادحا لعدالتهم ، ومبطلا لخلافتهم إذ لا يصح التظلم والشكاية ممن لم يفعل معه ما يوجب ذلك.
فقال : بلى إن ثبت ذلك.
فقلت : قد نقل ذلك عن علي - عليه السلام - نقلا متواترا لا يختلف
ص: 380
فيه يكفيك فيه الوقوف على كتاب نهج البلاغة الذي شاع ذكره عند جميع العلماء والمدرسين في الخطبة الموسومة الشقشقية (1) برواية ابن عباس وغيره.
فقال : إني لم أسمعها!!
فقلت : أتحب أن أسمعها لك؟
فقال : نعم.
فقلت : ذكر السيد الرضي - رحمه اللّه - في نهج البلاغة مرفوعا إلى ابن عباس أنه قال : كنت مع علي - عليه السلام - برحبة الجامع في الكوفة ، فتذاكرنا الخلافة وتقدم من تقدم عليه فيها ، فتنفس الصعداء.
فقال : أما واللّه لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فعلمت أن الصبر على هاتي أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا ، وحكيتها له إلى آخرها.
فقال : فمن يعرف من أصحابنا أن هذه الخطبة من لفظ علي - عليه السلام -؟
فقلت : هذا عبد الحميد بن أبي الحديد قد شرح نهج البلاغة وصحح هذه الخطبة وروى أنها من كلام علي - عليه السلام - وشرحها ، (2)
ص: 381
وتكلّم على من أنكر أنها من كلام غير علي - عليه السلام - ، أو قال : إنها من لفظ السيد الرضي بكلام يعلم منه أنه من كلام علي - عليه السلام - ، وقال : إن كلام الرضي لا يقع هذا الموقع ، ولا يبلغ هذا الحد.
وقال : إن مشايخنا من المعتزلة وغيرهم قد رووا هذه الخطبة عن علي - عليه السلام - وأثبتوها في مصنفاتهم قبل أن يكون الرضي موجودا بمدة (1) ، ثم إنه لم يسعه إنكارها واعترف بصحتها ، وأنه من كلام علي - عليه السلام - ، وحمل الشكايات الواردة فيها منه - عليه السلام - من الصحابة على انه إنما شكا على ترك الأولى لأنه كان - عليه السلام - الأولى والأحق بالخلافة منهم لفضله عليهم ، فلما عدلوا عن الأفضل الأحق إلى من لا يساويه في فضل ، ولا يوازنه في شرف ، ولا يقاربه في سؤدد وعلم ، صح له أن يبث بالشكوى والتظلم على هذا الوجه لا أنه على وجه الغصب والجور.
واعترضت عليه بأن ذلك غير مسموع لأنه نسبهم إلى أخذ حقه ، وسمى فعلهم نهبا ، قال : أرى تراثي نهبا ، وعنى بتراثه الخلافة لأنها إرثه من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وهكذا شرح ابن أبي الحديد هذا اللفظ ، فقال : وعنى بالأرث هنا الخلافة لأنها إرث من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ثم إن كان العدول عن الأولى لمصلحة لم يصح من علي - عليه السلام - الشكاية منهم فيما عملوه مصلحة للمسلمين ، وإن كان لا لمصلحة كان عدولا عن الأولى لمجرد التشهي فيكون مردودا ، هذا مع أن العذر إنما يتصور على رأي من يقول بتفضيل علي - عليه السلام - على
ص: 382
الخلفاء الثلاثة وهم الأقل ، وأما المشايخ القائلون بتفضيل الثلاثة فما عذرهم مع أنهم الأكثر ، والسواد الأعظم فأحد الأمرين لازم ، إما الطعن على علي - عليه السلام - بتظلمه ممن ليس ظالما له ، وإما الطعن عليهم بأنهم أخذوا حقه ظلما.
فقال : ابن أبي الحديد ليس منا بل من الشيعة!!
فقلت له : هذا يدل على عدم اطلاعك بأحوال الرجال ، فإن ابن أبي الحديد مشهور بالاعتزال ، وهو من مشايخ المعتزلة ومشاهيرهم وله مصنفات حكى فيها مذهبه وأشعار (1) وكذلك ، فاعترف بذلك أنه معتزلي.
ثم قال : دعني حتى أتروى في هذه الخطبة ، فأخذت له نهج البلاغة وأخرجت له الخطبة منه ، فأخذ نهج البلاغة مني فطالع فيها ساعة ، ثم قال : إني لا أترك مذهبي واعتقادي في هؤلاء الثلاثة بمجرد هذه الخطبة.
فقلت : إذن أنت مكابر الحق!!
ثمّ إنه قال : فما ظنك في مثل الشيخ فخر الدين الرازي ، وأثير الدين الأبهري ، وجار اللّه العلامة الزمخشري ، وسعد الدين التفتازاني ، والسمرقندي ، والأصفهاني ، وغيرهم من العلماء المدرسين ملأت مصنفاتهم الافاق ، وشاع ذكرهم في جميع الأمصار كلهم على ضلال ، لو لا أن لهم على ما ذهبوا إليه دلائل ثابتة ، وبراهين واضحة لما ثبتوا على هذا المذهب ، ولا اعتقدوا خلافة هؤلاء الثلاثة ولكن لما ثبت عندهم بالأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة اعتقدوا ذلك وأثبتوه في مصنفاتهم وقرّروه
ص: 383
لأتّباعهم وتلاميذهم ، وإنما أخذت العلم عن مصنفاتهم فأنا لا أترك طريقهم مع اعتقادي صدقهم وعدالتهم ، واستفادتي من علومهم ، وأسلك طريق من لا أعرف صحة قوله ، ولا أعتقد عدالته ، ولا ثبت عندي علمه.
فقلت : إذن أنت مقلد لهم ، فقد خرجت عن حيز الاستدلال الذي حث اللّه عليه بقوله تعالى : ( ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وقال تعالى : ( انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (2) إلى حيز التقليد الذي ذم اللّه فاعله ووبخه بقوله : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (3) ، وقال تعالى : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ) (4) فكيف تترك الاستدلال المأمور به وترجع إلى التقليد المنهي عنه المذموم فاعله بنص الكتاب أم كيف يسوغ لك التقليد في مثل ما نحن فيه؟!
فقال : نعم ، التقليد في مثل هذه المسألة جائز لأن مسألة الأمامة ليست من أصول الدين ، بل هي عندنا من الفروع ، والفروع يصح التقليد فيها ، وأنا أقلد فيها وأترك الاستدلال.
فقلت : لا يصح ذلك ، أما أولا فلأن مسألة الأمامة ليست من الفروع ، بل هي من أعظم أصول الدين ، وأحد أركان الأيمان ، لأنها قائمة مقام النبوة في حفظ الشريعة ، وانتظام أمور العالم ، وبقاء نوع الأنسان في معاشه ومعاده ، والنبوة من الأصول اتفاقا ، فكذا القائم مقامه من غير فرق.
ص: 384
وأمّا ثانيا : فلأنا لو سلمنا أنها من الفروع لم يصح لك التقليد أيضا ، لأن التقليد في الفروع إنما يسوغ لمن لم يقدر على الاجتهاد ، ولا يتمكن من إقامة الدليل فيسوغ له التقليد حينئذ لعجزه عن الاستدلال لأن التكليف بغير المقدور قبيح ، وأما مع قدرة المكلف على الاستدلال وتمكنه منه لا يسوغ له التقليد لا في الأصول ولا في الفروع ، بل يجب عليه النظر والاستدلال بالبراهين والأمارات وأنت قادر على الاجتهاد ، متمكن من إقامة الدليل ، فلا يسوغ لك التقليد بل يجب عليك الاجتهاد والنظر في الأدلة والأمارات ، ومع ذلك فقد قام لك الدليل على بطلان خلافة هؤلاء الثلاثة فيجب عليك المصير إليه لأنه لم يعرض لك ما ينقضه أو يعارضه فكيف يسوغ لك التقليد بعد قيام الدليل ومعرفتك به وعدم حصول ما ينقضه أو يعارضه فكيف تتركه وترجع إلى التقليد.
وهذا شيء لم يقله أحد ، ولم يسوغه عالم مع أني أقول : إن كنت من المقلدين فلم رجحت تقليد هؤلاء المشائخ دون غيرهم من أمثالهم ، فإن في مذهبنا من العلماء والمصنفين والمدرسين مثل ما ذكرت وأزيد ، كالأمام المحقق نصير الدين الطوسي الذي سمي في المعقول المحقق ، وسمي فخر الدين بالمشكك ، وكذلك السيد مرتضى الموسوي الذي أفحم كل من ناظره وألزمه في جميع العلوم ، والشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي الذي سمي به لكثرة استفادة الخلق من علومه ، والشيخ أبو الفضائل الطبرسي الذي أحيا علوم القرآن في جميع البلدان ، والشيخ أبو جعفر الطوسي الذي اشتهر عند العامة والخاصة ، والشيخ جمال الدين الحلي الذي سارت مصنفاته في جميع الأمصار ، والسيد شريف الحسني الذي درس في جميع بلاد العجم ، وركن الدين الجرجاني ، ونصير الدين
ص: 385
القاشي ، وغيرهم من علماء العرب والعجم فإن مصنفاتهم قد ملأت البلدان ، وذكرهم قد شاع في جميع الأمصار ، وقد أبطلوا في مصنفاتهم جميع الأدلة التي ذكرها علماؤكم وقابلوها بالأجوبة المسكتة ، وصنفوا في الأمامة كتبا ومصنفات ضخمة وذكروا فيها أدلة كثيرة على صحة إمامة علي عليه السلام بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله - بلا فصل ، وأبطلوا إمامة غيره ، حتى أن الشيخ جمال الدين بن المطهر - قدس اللّه روحه - وضع كتابا سماه بكتاب الألفين (1) ذكر فيه ألف دليل على إمامة علي - عليه السلام - وألف دليل على إبطال إمامة غيره ، فما وجه الترجيح في تقليدك أولئك دون هؤلاء؟ فسكت ولم يجبني بشئ.
ثم قال : ابحث لي عن سيرة باقي الخلفاء من بعد علي ، واترك البحث عن المتقدمين.
فقلت : أول ما أبحث لك في معاوية وأسألك عما تعتقد به.
فقال : أعتقد أنه موحد مسلم سادس الأسلام ، وخال المؤمنين ، وأنه خليفة من خلفاء المسلمين ، لا يجوز وصمه ولا الطعن عليه بحال.
فقلت : وكيف تعتقد هذا الاعتقاد فيه مع أنه حارب عليا - عليه السلام - وقالته ، وخالف بين المسلمين حتى قتل كثيرا منهم ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : يا علي ، حربك حربي ، وسلمك سلمي (2) ، وهذا حديث اتفق عليه الكل أو تنكره أنت؟
ص: 386
فقال : لست أنكره.
فقلت : إذن حرب علي حرب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، كفر بالأجماع ، فحرب معاوية عليا كذلك بمقتضى الحديث.
فقال : إن حربه كان باجتهاده والعمل بالاجتهاد جائز بل واجب وقد أداه اجتهاده إلى المحاربة وإن كان مخطئا في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد لا لوم على صاحبه.
فقلت : لقد أبطلت وأحلت ، كيف أنت تترك الاجتهاد في الاستدلال على إثبات الخليفة بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وترجع إلى التقليد ، وتقول : إن مسألة الأمامة من الفروع التي يكفي فيها التقليد وتسوغ لمعاوية الاجتهاد في محاربة من نص النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على أن حربه مثل حربه على الأمامة مع أنه في تلك الحالة إمام واجب الاتباع بالأجماع إن هذا إلا خبط وقلة حياء في إيراد الشبهة التي تعلم أنها ليست حجة.
ثمّ قلت له : أليس علي - عليه السلام - خليفة ثابت الخلافة بعد عثمان بما عندكم بالأجماع من أهل الحل والعقد؟
فقال : بلى.
فقلت : أليس معاوية قد خالف الأجماع ، ومخالف الأجماع كافر؟ وهل يصح الاجتهاد في مسألة بعد حصول الأجماع من الأمة على خلافه وقد تقرر في الأصول أن الاجتهاد لا يعارض الأجماع فكيف ساغ لمعاوية
ص: 387
الاجتهاد المؤدي إلى الفساد والاختلاف بين أمة محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وحصول القتل العظيم ، ونهب الأموال حتى قتل في تلك الحرب عمار بن ياسر ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حقه : عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية (1) ، هذا حديث نقله كل الأمة ولما قتل قال أهل الشام : نحن الفئة الباغية بنص الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لأنا القاتلون لعمار.
فقال معاوية مجيبا لهم بالتمويه وستر الحق : إنما قتله من جاء به إلينا فأوهمهم بهذه الشبهة أن الفرقة الباغية أهل العراق ، ولما سمع ابن عباس اعتذار معاوية بما ذكره ، قال : قاتل اللّه معاوية وأبعده يلزم أن يكون رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قاتل حمزة وعبيدة وغيرهما من شهداء بدر وأحد ، لأنه هو الذي جاء بهم إلى الكفار (2) ، وكيف يعتذر لهم بهذا الاعتذار ومع ذلك فكيف يسوغ له سب علي - عليه السلام - ، وشتمه على المنابر وعلى رؤوس الأشهاد (3) ، حتى استمر على ذلك بنو أمية برهة من الزمان إلى وقت خلافة عمر بن عبد العزيز فرفعه (4) ، وكيف يسوغ له ذلك مع أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - يقول : من سب عليا فقد سبني ، ومن
ص: 388
سبّني فقد سب اللّه (1) الحديث ، وهل يصح أن يجتهد في ذلك ، فما عذره وعذر من يعتذر له عند اللّه إذا سب من مدحه اللّه تعالى.
وأوجب حقه ، ونزهه عن الخطأ ، وفضله وكان أساس الأسلام بسيفه ونظام الأمة بتدبيره ، وأحكام الشريعة بعلومه ، وقد قال فيه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : علي مع الحق والحق مع على يدور حيثما دار (2) ، حديث اتفق على نقله الكل ، ثم إني قلت : ما أظن عالما مثلك يقف على مثل هذه الأحوال ثم يتوقف ويخالطه شك في معاوية ، أليس مولانا
ص: 389
سعد الدين التفتازاني لما وقف على هذه الأحوال وتحققها تبرأ منه وسبه حتى اشتهر ذلك عنه في جميع بلاد خراسان ، فكيف تمدحه أنت أو تتوقف في وصمه؟
ثم قلت : ما تقول في يزيد؟
فقال : لا أشك أنه ملعون يجب على كل مسلم التبري منه لقتله الحسين - عليه السلام - ، بل وقتل الأنصار يوم الحرة (1) ، وضرب الكعبة بالمجانيق حتى هدمها (2) ، وحكيت له القصص.
فقال : إني لا أشك في لعنه.
فقلت : فإن خلافته مسببة من أبيه فكان العصيان والفسوق والفساد الحاصل منه كله مسببا عن أبيه فكانا نظيرين ، فإن الأب سم الحسن (3) - عليه السلام - ، والابن قتل الحسين - عليه السلام - ، فتعجب من قصة سم الحسن - عليه السلام -.
فقلت : إنها قصة ثابتة عند أهل السير والأحاديث وحكيتها له وما كان السبب فيها ، فوافق على التبري منه ولعنه.
فقلت : إن خلافته مسببة عن عثمان لأنه هو الذي استعمله على الشام فبقي متغلبا عليها ، مانعا لعلي - عليه السلام - عن التصرف فيها ، والسبب في ذلك عثمان حيث استعمل على بلاد الأسلام من يعلم فسقه
ص: 390
بل كفره حتى حصل منه الفساد ، وهتك الأسلام والمسلمين وخراب الدنيا والدين بما قد حصل بل أقول : إن قتل الحسين - عليه السلام - مسبب عن عمر بن الخطاب.
فقال : أقم لي الدليل على ذلك؟!
فقلت : الدليل واضح لأن الحق لائح فإنه لولا قصة الشورى التي ابتدعها عمر ، وتعدى في ابتداعها ، وأدخل عثمان فيها ، وجعل الأمر إلى عبد الرحمان بن عوف ، وأمر بقتل من يخالف الفريق الذي فيه عبد الرحمان لم يتوصل عثمان إلى الخلافة أصلا ولا كانت الأمة عدلت به عن علي - عليه السلام - لأنه لا يوازنه في الفضل ، ولا يماثله في سبق ، ولا يضاهيه في علم ، ولا يقاربه في سؤدد وشرف ، فكانت خلافته مسببة عن الشورى التي هي بنص عمر ، وخلافة معاوية مسببة عن عثمان لأنه جعله واليا على الشام (1) ولو لا عثمان لم يحصل لمعاوية ولاية الشام لخموله في الأسلام وكونه من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم يعرف ذلك أهل السير فخلافة يزيد التي حصل بها قتل الحسين - عليه السلام - والأنصار وهدم الكعبة بنص معاوية ومتابعة أهل الشام ، وبذله عليها الأموال فكان قتل الحسين - عليه السلام - عن عمر وأنا أروي لك حديثا يعرف منه صحة ذلك.
فقال : وما هو؟
فقلت : إن عبد اللّه بن عمر لما قتل الحسين - عليه السلام - أنكر ذلك على يزيد واستعظمه ، فكتب عبد اللّه بن عمر إلى يزيد - لعنه اللّه - :
أما بعد فقد عظمت الرزية ، وجلت المصيبة ، وحدث في الأسلام
ص: 391
حدث عظيم ، ولا يوم كيوم الحسين - عليه السلام - (1).
فكتب إليه يزيد : أما بعد ، يا أحمق فإنا جئنا إلى بيوت مجددة ، وفرش ممهدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عليها ، فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا ، وإن يكن الحق لغيرنا فأبوك أول من سن هذا ، وأستأثر بالحق على أهله ، والسلام.
فسكت عبد اللّه بن عمر عن جوابه ، وأظهر للناس عذر يزيد فيما فعله.
فقال : هذا أظلم من يزيد - يعني عبد اللّه بن عمر - فإن عمر لم يأمر بذلك ولم يعلم ان الأمر يصل إلى يزيد ولو وصل إليه لم يعلم أنه يعمل مثل هذه المناكير ، فأي ذنب كان لعمر لأنه لم ينصب معاوية ولا نص عليه فضلا عن يزيد؟
فقلت : فإن عمر وإن لم يكن قد نص على معاوية فإنه نص على الشورى (2) التي كانت سبب خلافة عثمان ، وعثمان كان سببا في تولية معاوية ، ومعاوية كان سببا في خلافة يزيد ، فيكون عمر سببا في خلافة يزيد لأن سبب السبب سبب بالضرورة.
فقال : إنه لم يكن سببا تاما بل جزء السبب.
فقلت : الحمد لله قد اعترفت أنه جزء العلة ، وجزء العلة علة لتوقف التأثير عليه ، فقد صار عمر جزء العلة التامة في قتل الحسين - عليه السلام - باعترافك ، فاعترف وسكت.
وقال : ابحث لي عن باقي الخلفاء من بني العباس.
ص: 392
فقلت له : إن البحث عن أولئك الفروع لا فائدة فيه ، بل البحث عن هذه الأصول لأن خلافة اولئك مسببة عن هؤلاء ومع ذلك فإني أقول ما تقول في هذا الأمام المدفون في أرض خراسان الذي اسمه علي بن موسى الرضا - عليه السلام - الذي أنت تزوره وتتبرك بساحته صباحا ومساء ، وتتقرب إلى اللّه بزيارته؟
فقال : وما أقول فيه إلا أنه من ذرية الرسول واجب المحبة والمودة من جميع أهل الأسلام ، وأنه من أهل اللّه وخاصته وخالصته الذين صفاهم اللّه واصطفاهم بالعلم والعمل والزهد والفضل والشرف.
فقلت : وما تقول في أبيه الأمام موسى بن جعفر - عليه السلام -؟
فقال : أقول فيه : كما قلت في ابنه.
فقلت : وما تقول في خليفة حبس الأب ودس إليه السم حتى قتله ، وخليفة قتل الابن أيضا بالسم بعد الاعتراف بفضله؟!
فقال : ومن ذاك؟
فقلت : الخليفة الأول هارون الرشيد ، حبس الأمام موسى بن جعفر - عليه السلام - في حبس السندي بن شاهك مدة من الزمان ، وأعطاه السم فدسه إليه في الحبس حتى قتله ، وقد ثبت ذلك في الأخبار الصحيحة ، والخليفة الثاني ولده المأمون قد اشتهر عند الكل أنه كان يفضل الرضا عليه السلام وعقد له ولاية العهد بعده ثم أنه بعد ذلك قتله بالسم ، ثبت ذلك عند أكثر أهل العلم ولم يخالف فيه إلا القليل.
فقال : أريد أن تريني ذلك في مصنفات العلماء.
فقلت : تريد من علمائنا أو علمائكم.
فقال : اريد من الطرفين.
ص: 393
فقلت : أما من طرقنا فكثير ، مثل : كتاب إرشاد المفيد (1) ، وكتاب عيون الأخبار لابن بابويه (2) ، وكتاب كشف الغمة للأربلي (3) وغيرها ، وبالاتفاق في بيت السيد محسن كتاب (عيون الأخبار) فأوقفته على قصة الأمام موسى الكاظم - عليه السلام - مع الرشيد وما جرى عليه من الأمور المنكرة وما قتل من بني هاشم وما خاف منهم حتى تفرقوا في البلاد ، وما حبس منهم حتى ماتوا في الحبس والأغلال ، فأنكر عليه غاية الأنكار ، وبكى لما جرى على بني هاشم واعترف بصحة قولي.
ثم قلت : فأما طرقكم فلم يحضرني الان شئ من كتبكم.
فقال السيد : بلى عندي هنا كتاب يسمى كتاب العاقبة مصنف لبعض الشافعية فلعل فيه شئ من ذلك.
فقلت : هات الكتاب ، فجاء به ففتشناه فوجدناه مشتملا على ذكر عواقب الأمور ، فجرى فيه فصل يذكر فيه عواقب الخلفاء فوقفناه على ذلك الفصل فوجدناه قد اشتمل على ذكر عواقب ذميمة وأخلاق ردية كانت لهم حتى أنه ذكر أن منهم من مات مخمورا ، ومنهم من تعشق جارية ، ومنهم من مات تحت الغناء وضرب الأوتار ، وأمثال ذلك.
فلما وقف الملا على ذلك وتحقق صحته قال : اللّهم إني أشهدك أني أتبرأ إليك من جملة هؤلاء الخلفاء من بني أمية وبني العباس وأدينك بالبراءة منهم واللعن عليهم ومن أتباعهم ، فظهر عليه الغلب.
ثم إنّا وجدنا في كتاب العاقبة حديثا يسنده إلى علي - عليه السلام -
ص: 394
وهو أنّه قال يوما وهو جالس في نفر من أصحابه : أنا أول من يجلس بين يدي اللّه يوم القيامة للخصومة مع الثلاثة (1) ، فلما رأيت هذا الحديث مسندا إلى علي - عليه السلام - قلت له : إن هذا الحديث حجة عليك.
فقال : إن صاحب الكتاب قد حمله على غير الثلاثة الذين تدعونهم ، فإنه قال : المراد بالثلاثة عتبة وشيبة والوليد الذين برزوا إلى حمزة وعبيدة يوم بدر.
فقلتُ : هذا الحمل بعيد لأن الشكوى من قبلهم بل ظاهر الحديث يقتضي أنه يشتكي من ظلامته من الثلاثة ولا يعرف له ظلامة من ثلاثة يشتكي منهم عند اللّه إلا من الثلاثة الذين أخذوا حقه ، واستأثروا بالأمر من دونه مع أن الاستحقاق كان له دونهم ، وذلك لا ئح ، ثم إني قلت : ما تقول في الحديث المروي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وهو قوله لعلي - عليه السلام - : يا أبا الحسن ، إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار ، وإن أمة عيسى - عليه السلام - افترقت اثنين وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقي أهل النار ، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقي أهل النار (2)؟
فقال : حديث صحيح.
ص: 395
فقلت : من الفرقة الناجية ، إن هي إلا أهل البيت الذين شهد اللّه لهم بالتطهير من الرجس بحكم الكتاب العزيز في قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1). فإن هذه الاية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - باتفاق الكل لما ألحفهم النبي - صلى اللّه عليه وآله - بكسائه وقال : ( اللّهم أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) (2).
إن اللّه أمره في الاستعانة بهم في الدعاء في مباهلة النصارى بنص القرآن قال اللّه تعالى : ( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (3). ولما خرج النبي - صلى اللّه عليه وآله - للمباهلة لم يخرج بأحد غيرهم باتفاق الكل فعلم أنهم المعنيون في الاية دون غيرهم.
وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : مثل أهل بيتي كمثل سفينة
ص: 396
نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق (1) فأيما الأولى بالاقتداء والاتباع؟ هل هؤلاء وأتباعهم السالكين آثارهم ، والمقتدين بأقوالهم وأفعالهم أو الجاحدين لهم الضالين عن طريقهم ، المقتدين لمن لم ينص اللّه تعالى على طهارته ولا حض على اتباعه ولا أمر نبيه بالاستعانة بدعائه ، بل أقول : الأحق بالاتباع ، والأولى بالاقتداء مذهب الأمامية ، ويدل على ذلك وجوه.
الأول : أنهم أخذوا مذهبهم عن الأئمة الذين يعتقدون عصمتهم وفضلهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم فوافقهم الخصم على ذلك فاعترف بفضلهم وعدالتهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم حتى أنهم صنفوا في فضائلهم وتعداد مناقبهم كتبا مثل كتاب ابن طلحة (2) ، وكتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول لابن المغازلي ، وكتاب أبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي المستخرج من التفاسير الاثني عشر ، وكتاب موفق بن محمد المكي ، وغيرها من الكتب ، وإذا كان الخصم مساعدا على مدح هؤلاء الأئمة الذين اعتقدوا الأمامة فيهم وليس لطاعن إليه سبيل كانوا بالاتباع أولى ممن لا يساعد الخصم على مدح أئمتهم بل طعن فيهم ببعض المثالب الشينة ، وظهرت عنهم الأعمال القبيحة رواها مجموع الأمة من يعتقد إمامتهم وغيرهم فأي الفريقين
ص: 397
حينئذ أولى بالاقتداء وأحق بالاتباع هؤلاء الذين اتفق الكل على مدح أئمتهم وتعظيمهم أو أولئك الطاعنون في أئمتهم المقدوح في عدالتهم من أتباعهم وغيرهم ، ومع ذلك مشاهدهم اليوم من تعظيم الناس كقبور هؤلاء الأئمة واجتماع العام والخاص عليها وزيارتهم لها وتبركهم بقصدها من جميع الأقطار وكونها في غاية التعظيم في قلوب جميع الخلق دليل واضح على عظم شأنهم عند اللّه تعالى ، وأنهم الأئمة الذين أوجب اللّه حقهم على خلقه ، وجعلهم حجة عليهم ، ان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نص على وجوب اتباع أهل بيته وسلوك آثارهم والاقتداء بهم وحض الناس على ذلك في روايات كثيرة من الطرفين ، ولا حاجة في إيراد الروايات الواردة في ذلك من طرق الأمامية لشهرتها عندهم.
وأمّا ما ورد من طرق الجمهور فكثير نورد بعضها من جملته في الجمع بين الصحاح الستة عنه - عليه السلام - قال : رحم اللّه عليا ، اللّهم أدر الحق معه حيثما دار (1).
وروى أحمد بن موسى بن مردويه من عدة طرق أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : الحق مع علي ، وعلي مع الحق ، لن يفترقا حتى يردا على الحوض (2).
وفي مسند أحمد بن حنبل ، عن جابر قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه
ص: 398
عليه وآله وسلم - : يا علي ، خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها ، وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله اللّه تعالى الجنة (1).
وروى عنه سعيد قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إني قد تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إلا وانهما لا يفترقان حتى يردا على الحوض (2).
وفي صحيح مسلم في موضعين ، عن زيد بن أرقم قال : خطب بنا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بين مكة والمدينة ، ثم قال بعد الوعظ : أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول اللّه ربي فأجيبه فإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما كتاب اللّه تعالى ، والثاني أهل بيتي.
وروى جار اللّه العلامة الزمخشري بإسناده قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : فاطمة مهجة قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمة من ولدها أمناء ربي ، حبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم به نجا ، ومن تخلف عنه هوى (3).
وروى الثعلبي (4) في تفسيره بأسانيد متعددة أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : أيها الناس قد تركت فيكم الثقلين إن أخذتم بهما لن
ص: 399
تضلّوا ، كتاب اللّه حبل ممدود بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي : إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ، كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض.
وكذلك في رواية موفق بن أحمد المكي وفي صحيح البخاري في موضعين بطريقين عن جابر ، وعن عيينة قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : ما يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي رواية أُخرى : لا يزال الأسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي صحيح مسلم (1) : لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي صحيح أبي داود ، والجمع بين الصحيحين ، وتفسير الترمذي ، قال : لما كرهت سارة مكان هاجر أمر اللّه إبراهيم - عليه السلام - فقال : انطلق بإسماعيل وأمه حتى تنزله البيت التهامي - يعني مكة - فإني ناشر ذريته وجاعلهم ثقلا على من كفر بي ، وجاعل منهم نبيا عظيما ومظهره على الأديان وجاعل من ذريته اثني عشر إماما عظيما.
وعن مسروق ، قال : سألت عبد اللّه بن مسعود ، فقلت له : كم عهد
ص: 400
إليكم نبيكم يكون بعده خليفة؟
فقال : إنك لحدث السن وهذا شئ ما سألني عنه أحد ، نعم عهد إلينا نبينا يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل ، والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الجمهور لو أردنا الاستقصاء لطال علينا الأمر واتسع ، وقد دلت هذه الأحاديث على الحث والأمر بالاقتداء بأهل البيت ، ووجوب اتباعهم ، والتمسك بطريقهم ، فإنهم اثنا عشر خليفة من ذرية الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا قائل بالحصر في الاثني عشر سوى الأمامية القائلين بإمامة هؤلاء المشهورين بالفضل والعلم والزهد عند أهل الاسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز إلى فريقهم ، وظهر أن مذهب القائل بإمامتهم واجب الاتباع.
إنّ أحسن الاعتقادات ، وخير المقالات ما اشتمل عليه مذهب الأمامية أصولا وفروعا ، يعرف ذلك من اطلع على أصول المذاهب ، ونظر في فروع الاعتقادات ، فإنه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشبه والتقليد يتحقق أن مذهب الامامية من بينهم أولى بالاتباع ، وأحق بالاقتداء وقد صدق فيهم قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (1) ، فإن في أصولهم من تنزيه اللّه تعالى وتعظيمه وتنزيه الأنبياء والأئمة وتعظيمهم ما لا يكون في أصول غيرهم فإنهم نزهوا اللّه عن التشبيه ، والرؤية ، والاتحاد ، والحلول ، والمعاني القديمة ، وخلق أفعال العباد ، والرضى بالكفر والفسوق ، ونسبة القبائح والسرقة إليه وكون أفعاله لا لغرض وأنه كلف ما لا يطاق.
ص: 401
واعتقدوا في الأنبياء أنهم معصومون عن الخطأ والمعاصي ، الصغائر والكبائر ، والنسيان والسهو ، من أول أعمارهم إلى آخرها ، وأن أئمتهم أيضا معصومون عن الخطايا والمعاصي ، وأنهم أعلم الخلق بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وأفضلهم ، وأكرمهم نفسا ، وأشرفهم نسبا (1).
وفي مذاهب السنة ما يخالف ذلك وينافيه فجوزوا التشبيه (2) والجهة (3) والاتحاد (4) والحلول (5) والتجسيم (6) والرؤية (7) ، والمعاني الزائدة القديمة ، وقالوا : إنه لا فاعل في الوجود إلا اللّه ، وإن جميع المعاصي والقبائح والشرور كلها بخلق اللّه وإرادته (8) وإن العباد
ص: 402
مجبورون (1) وأنه راض بالكفر والمعاصي وان أفعاله لا لغرض ، وان القبائح بخلقه وانه كلف عباده فوق ما يطيقون ، وان الأنبياء يجوز عليهم الكفر والمعاصي والخطأ والنسيان (2) ورووا في نبيهم روايات تقتضي الدناءة والخسة ورووا أنه نسي فصلى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى ذكره بعض أصحابه (3) ، وأنه دخل المحراب للصلاة بالناس جنبا ، وأنه يستمع إلى اللعب بالدفوف وغناء البغات (4) ، وأنه بال قائما (5) ... ، وغير ذلك من الأشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الناس.
وقالوا : إن الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائزوا الخطأ والمعاصي والكبائر ، وأنهم غير عالمين بما تحتاج إليه الأمة ، بل لهم الرجوع إلى الأمة والاحتياج في الفتاوى والأحكام إليهم ، وأنهم لا يحتاج إلى أن يكونوا أفضل الخلق ، ولا أشرفهم نسبا ، ولا أعلاهم محلا في الأسلام.
وأمّا الفروع فإن الأمامية لم يأخذوا بالقياس ، ولا بالرأي ، ولا بالاستحسان ، ولا اضطربوا في الفتاوى ، ولا اختلفوا في المسائل ، ولا كفر بعضهم بعضا ، ولا حرم بعضهم الاقتداء بالاخر ، لأنهم أخذوا فتاواهم وأحكامهم عن أئمتهم الذين هم ذرية الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الذين يعتقدون عصمتهم ، وأنهم أخذوا علومهم واحدا عن واحد ، وكابرا عن كابر ، وآخر عن أول إلى جدهم ، فكانت فروعهم أوثق الفروع ،
ص: 403
وشرعهم أحسن الشرائع ، ودينهم أتم الأديان فإن غيرهم أخذوا بالقياس والاستحسان والرأي ، وأسندوا رواياتهم عن الفسقة والمتعمدين للكذب ، وافترقوا أربع فرق ، كل فرقة تطعن على الأخرى ، وتتبرأ منها (1) ، ويكفرون بعضهم بعضا ، ويحللون ويحرمون عمن هو جائز الخطأ والمعاصي والكبائر.
وانقطعت عنهم مواد الأخذ عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لأنهم لم يرضوا بالاتباع لأهل بيته ووضعوا الشرع على مقتضى رأيهم وزادوا فيه ونقصوا وحرفوا وغيروا ، فأحلوا ما حرم اللّه ، وحرموا ما أحل اللّه لأنهم لم يأخذوا الحلال والحرام عن من لا يجوز عندهم كذبه وخطاؤه كالأمامية فكان حينئذ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكام شرعهم معرضة للخطأ والكذب لأنها ليست عن اللّه تعالى ، ولا عن رسوله ، يعرف ذلك من اطلع على أصولهم وفروعهم ، فإنا نجد في فتاويهم الأشياء المنكرة التي تخالف المعقول والمنقول ومن له أدنى إنصاف واطلاع بأحوال المذاهب يعرف ذلك ويتحققه ، ومصنفات الفريقين تدل على صحة ذلك ، وإذا نظر العاقل المنصف في المقالتين ، ولمح المذهبين عرف موقع مذهب الإمامية في الأسلام وأنهم أولى بالاتباع ، وأحق بالاقتداء لأنهم الفرقة الناجية بنص الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
وقد روى أبو بكر محمد بن موسى الشيرازي في كتابه المستخرج من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعدما قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة
ص: 404
ناجية ، والباقون في النار (1).
قال علي - عليه السلام - : يا رسول اللّه من الفرقة الناجية؟ قال : المتمسكون بما أنت عليه وأصحابك.
وفي الأحاديث المذكورة آنفا ما يدل على أن المتبعين لأهل البيت - عليهم السلام - ، والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية بحث الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على الاقتداء بهم ، والتمسك بما هم عليه ، وإيجاب ذلك على جميع الخلق بروايات الكل فعلمنا علما ضروريا أن أهل البيت هم الفرقة الناجية ، فكل من اقتدى بهم ، وسلك آثارهم فقد نجا ، ومن تخلف عنهم وزاغ عن طريقهم فقد هوى ، ويدل عليه الحديث المشهور المتفق على نقله : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وهذا حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن لطاعن أن يطعن فيه وأمثاله في الأحاديث كثيرة.
فقال الملا الهروي : ما ذكرته في وجوه هذه الدلالات على أن مذهب الأمامية واجب الاتباع ، وأنهم هم الفرقة الناجية يكثر على السامع بروايات الاحاد ، وأيضا فإن أهل السنة يقولون في مذهبهم من المدائح مثل ما ذكرت وأكثر ما يذمون مذاهب غيرهم بأقبح الذمائم وقد قال تعالى : ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (2).
وقال الشاعر :
كل بما عنده مستبشر فرح *** يرى السعادة فيما قال واعتقدا
وفي المثل : الكل في ريقه في فيه حلق ، ولكن الذي ينبغي لذوي
ص: 405
العقول والعلم والإنصاف في المجادلة قلة الانشغال في المدح والذم فإنه باب واسع يطول فيه المجال ، ويكثر فيه من الطرفين التعداد والمقال.
فقلت : أنت محق في ذلك ، وقد قلت الأنصاف ، ولكن ما تقول في هذه الأحاديث المروية في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني عشر من قريش أليس هي دالة على صحة مذهب الأمامية لأنهم قائلون بتخصيصها في اثني عشر من ذرية الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دون غيرهم من الفرق؟
فقال : هذه الأحاديث معارضة بأمثالها والذنب فيها على الرواة.
فقلت : إن الروايات إذا وردت من الطرفين ، وتظافرت من رجال الفريقين ، وساعد على إيرادها الخصمان صارت متواترة عند الأمة فيجب المصير إليه والترك لما ورد من الطرف الواحد وهذه الأحاديث المعارضة لهذه الأخبار المروية من الطرفين لم تروها الكل ولم يتفق على نقلها الفريقان ، بل ردها الخصم وأنكرها ، فكان حينئذ الأولى في الترجيح الواجب على السامع العمل بما اتفق على نقله ، وطرح ما اختلف فيه من المعارضة لأنه الاحتياط التام ، والأخذ بالحزم من الرأي.
ثم قلت : ومع هذا فهنا برهان واضح ، ودليل لائح موجود الان مشاهد بالأبصار ، وقد شاع في جميع الأمصار.
فقال : وما هو؟
فقلت : هذا مشهد الحسين - عليه السلام - يزوره الزوار من كل البلاد في ميقات ، وله في كل سنة ميقات ، هو أول ليلة من شهر رجب يجتمع عنده عالم كثير من الأمامية وأهل السنة وغيرهم بعمي وصم ويأتون أهل السنة يرونهم مقعدين ويضعونهم على ساحته - عليه السلام - تلك الليلة
ص: 406
فكل من خرج من أولئك العمي والصم والمقعدين من دين السنة ، وتبرأ منهم ، ونظف قلبه ، وخلص اعتقاده برئ من علته ، وصار بصيرا ماشيا بعد العمى والإقعاد ، ومن بقي على حالته فلم يبرأ مما به ، فما تقول في هذه المعجزة؟
فهل عندك في هذا طعن ، أو لك إلى القدح فيه سبيل؟ وهل ذلك دال على أن مذهب أهل السنة على الخطأ والباطل وأنه يجب على كل مكلف الخروج منه والدخول في مذهب الأمامية ، وهذا دليل واضح وبرهان لائح مشاهد بالأبصار ، لا يمكن لأحد رده ، ولا الطعن فيه.
فقال : ومن شاهد هذا ، ومن عرف صحته؟
فقال السيد محسن : إن هذا ثابت بالتواتر من الأمة إن ذلك يقع عند الحسين - عليه السلام - في كل عام ، لا ينكره إلا مكابر ولو شئت لأسمعتك هذه المعجزة ممن شاهدها ورآها أربعون رجلا وخمسون ، وأكثر من أهل الصلاح والدين.
فقال : إن صح ما ذكرتم فهو حجة قاطعة ، ودليل ظاهر ، ولما وصلت المجادلة إلى هذا الحد أذن المؤذن للصلاة ، فقمنا لصلاة الجمعة ، وتفرق المجلس ولم ألقه بعد ذلك ، وقد حكى لي السيد محسن أنه لقيه بعد مفارقته لنا بأيام وسأله عن حاله فظهر له منه أنه بقي مترددا لا مذهب له ، وأنه قال : أريد أمضي إلى الحسين - عليه السلام - لأنظر ما حكيتموه من المقعد والأعمى إذا خرجا من مذهب أهل السنة ودخلا في مذهب الأمامية.
وبعد ذلك لا نعرف ما صار إليه أمره ، وهذا ما كان بيني وبينه من المجادلة في المجالس الثلاثة التي ذكرت ، ومن المجادلة على الاستقصاء.
والحمد لله على ظهور الحق ، وزهوق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا ،
ص: 407
ونستغفر اللّه عن الزيادة والنقصان فإنه هو الغفور الرحيم المستعان.
تمت الرسالة يوم الثلاثاء حادي عشر من شهر جمادى الاخرة من سنين خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة النبوية حرره الفقير الحقير المذنب الجاني ، المحتاج إلى رحمة اللّه صالح بن محمد بن عبد الأله السلامي في بلدة إصفهان ، رحم اللّه من دعا لمالكها ولكاتبها بالغفران آمين رب العالمين ، والحمد لله رب العالمين (1).
ص: 408
مناظرة (1) مع قطب الدين عيسى
قد ورد علينا قديما إلى الشام ، سيد من سادات شيراز الصفوية ، اسمه قطب الدين عيسى ، كان قد هرب قديما مع أبيه من الشاه إسماعيل إلى الهند وكان في الطبقة العليا من الفضل ، وله مصنفات وتحقيقات شتى ، قرأت عليه جانبا من شرح التجريد وكان لقنا منصفا ، وعلم مني الميل إلى أهل البيت - عليهم السلام - وشيعتهم ، وكان يميل إلى البحث معي في المذهب ويقول : قل كل ما تعلمه من جهتهم.
فقلت له يوما : هل أوجب اللّه في كتابه أو نص رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أو أجمع أهل الأسلام أو قام دليل عقلي على وجوب اتباع الشافعي بخصوصه؟
قال : لا.
قلت : فلم اتبعته؟
قال : لأنه مجتهد وأنا مقلد! فيجب علي اتباع مجتهد.
قلت : فما تقول في الأمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - هل كان مجتهدا؟
ص: 409
فقال : كيف لا يكون ذلك وتلاميذه المجتهدون كانوا نحو أربعمائة مجتهد ، أحدهم أبو حنيفه.
قلت : فما تقول فيمن تبعه؟
قال : هو على الحق بغير شبهة ، ولكن مذهبه لم ينقل كما نقل مذهب أبي حنيفة.
فقلت له : تعني أنه لم ينقله أحد أصلا أم أهل السنة لم ينقلوه ، فإن أردت الأول لم يتمش أما أولا ، فلأنه شهادة على نفي فلا تسمع ، لأن مضمونها أني لا أعلم أن أحدا نقله ، وأما ثانيا ، فلأنه مكابرة على المتواترات المشتهرة لأن نقل أحاديثهم وآدابهم وعباداتهم ومذهبهم في فروع الفقه ومعتقداتهم بين شيعتهم أظهر من الشمس ، وقد نقلوا من ذلك ما يزيد على ما في الصحاح الست بأسانيد معتبرة ، ونقحوا رجال الأسانيد بالجرح والتعديل غاية التنقيح ، ولم يقبلوا رواية إلا من ثبت توثيقه ، ويقولون إن أئمتهم ومجتهديهم في كل عصر من لدن علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلى يومنا هذا لا يقصرون عن علماء فرقة من الفرق ، بل هم في كل زمان أعلم وأكثر مما في زمن أئمتهم الاثني عشر - صلوات اللّه وسلامه عليهم - فواضح أنه لم يماثلهم أحد في علم ولا عمل ، لأن قولهم لم يكن بظن واجتهاد وإنما كان بالعلم الحقيقي اما بنقل كل واحد عن أبيه إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإما بالكشف والألهام ، بحيث يتساوى صغيرهم وكبيرهم ، ولهذا ما روي أن أحدا منهم في صغره ولا في كبره تردد الى معلم أو استفاد من أستاذ ، ولا سئل أحدهم عن سؤال فتوقف أو تعلم أو رجع إلى كتاب أو احتاج إلى فكر ، ومن وقف على سيرهم التي نقلها مخالفوهم فضلا عن مناقبهم وفضائلهم كتبا لا تدخل
ص: 410
تحت الحصر.
وأما تلاميذهم كمحمد بن مسلم (1) وهشام بن الحكم ، وزرارة بن أعين (2) ، وجميل بن دراج (3) ، وأشباههم ، فإنهم يزيدون عن الحصر حتى كان بيت جعفر الصادق - عليه السلام - كالتجار أو السوق يزدحم حتى المستفيدون منه والاخذون عنه من كل الفرق ، وأكثر هم كانوا مجتهدين أصحاب مذاهب ، ذكرهم علماء السنة وأثنوا عليهم بالعلم والعمل بما لا مزيد عليه ، ومن طالع كتب الرجال لأهل السنة علم صدق ذلك.
وأما بعدهم فإن لهم من العلماء من لا يقصر عنهم مثل الشيخ محمد
ص: 411
الطائفة محمد بن النعمان المفيد (1) ، والشيخ أبي جعفر الطوسي (2) ، وابن البراج (3) ، والسيد المرتضى علم الهدى (4) ، وأبي القاسم جعفر بن سعيد الحلي (5) ، والشيخ سديد الدين الحلي (6) ، وولده الشيخ جمال الدين (7) ،
ص: 413
وولده فخر المحققين (1) ، ومولانا نصير الدين الطوسي (2) ، والشيخ. الشهيد (3) ، وأمثالهم ممن لا يحصرهم حد ولا عد ، ومصنفاتهم وتحقيقاتهم في العلوم العقلية والنقلية قد ملأت الخافقين ، ونقلها أهل السنة في مصنفاتهم كما لا يخفى ، ولا يدعون أن الشيعة أكثر من أهل السنة بل ولا يرضون ذلك ويجدونه نقصا في شأنهم لأنه قد صح عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال لأمته : لتركبن سنة من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (4) وهو كما قال.
والباري عزوجل قد أخبر في كتابه العزيز أن الفرقة القليلة من كل الأمم كانت هي المحقة الناجية كقوله تعالى : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا
ص: 414
قَلِيلٌ ) (1) ، ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) (2) ( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) (3) ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ ) (4) وأمثال ذلك كثير ، وعلى هذا القياس كلما كان في الدنيا أقل فهو أعز ، كالأنبياء في نوع والمعادن وهلم جرا ويقولون لا يضرنا قلتنا بل هي دليل احقيتنا.
والذي أوجب خمولنا في الجملة استيلاء أعدائنا على أئمتنا - عليهم السلام - وعلى شيعتهم لأن أعداءنا كانوا ملوك الأرض الناس على دين ملوكهم إما ظاهرا فقط ، وإما ظاهرا وباطنا ، وأكثر أئمتنا - عليهم السلام - مات قتلا بالسيف أو سما في الحبس ، وأكابر علمائنا في أكثر الأوقات كانوا خائفين مستترين بالتقية ، والملوك إنما يقبلون ويرفعون من يوافقهم في العقيدة ويعظمون محله ليضعوا من أهل البيت - عليهم السلام - وشيعتهم ، ومع كثرة أعدائنا وعظمتهم في الدنيا لم يمكنهم إخفاء نور الحق ، بل ظهر من علمائنا وشيعتهم ومصنفاتهم ما قد اشتهر وبهر ولم يضمحل نور الحق كما اضمحل باطل الخوارج والمجبرة والمعتزلة والمرجئة وأمثالهم من الفرق الكثيرة.
رجعنا إلى ما كنا بصدده ، وإن أردت أن أهل السنة لم ينقلوا مذهب جعفر الصادق - عليه السلام - فهذا ليس نقصا ولا طعنا فيما نقل عن شيعتهم ، كما أنه لا يقتضي عدم نقل الشيعة مذهب الشافعي نقصا فيه ، ولا
ص: 415
يقتضي عدم نقل الشافعية مذهب أبي حنيفة نقصا فيه ، وبالعكس.
ثم إنهم يتنزلون بالبحث ويقولون : سلمنا أن أئمتنا لم يكونوا معصومين كما ندعيه فقد كانوا مجتهدين ، لم يخالف في ذلك أحد وسلمنا أن أئمتكم الأربعة كانوا مجتهدين أيضا أبرارا ولكن لم يقم لنا دليل عقلي ولا نقلي من اللّه ولا من رسوله على وجوب التمسك بواحد منهم كما قام ذلك في أهل البيت - عليهم السلام - كما سمعته من أن المتمسك بهم وبكتاب اللّه لن يضل أبدا (1).
سلمنا أن الباري لم ينص في كتابه على طهارتهم ، ولا أمر النبي بالتمسك بهم ، فالمزية التي في أئمتكم المجوزة لاتباعكم لهم وهو الاجتهاد حاصل فيهم ، مع زيادة أخرى وهي اتفاق جميع الفرق على طهارتهم وتعففهم وغزارة علمهم ، بحيث لا يشك فيه أحد ولم يتمكن أحد من أعدائهم من الطعن عليهم بما ينقصهم ولا بطريق الكذب تقربا إلى أعدائهم مع كثرتهم وعلو شأنهم في الدنيا ، كخلفاء بني أمية وبني العباس.
وما ذاك إلا لعلم جميع الناس بطهارتهم والكاذب عليهم يعلم أنه يكذبه كل من يسمعه ، وهذه المزية لم تحصل لغيرهم ، فإن من سواهم قد طعن بعضهم على بعض ، حتى صنف بعض الشافعية كتابا سماه النكت الشريفة في الرد على أبي حنيفة ، وأثبت كفره بمخالفة السنة المطهرة بما يطول شرحه.
والحنفية والمالكية وأكثر الطوائف ويكفرون الحنابلة لقولهم
ص: 416
بالتجسيم ، ولا ريب في وجوب اتباع المتفق على عدالته وعلمه ولا يجوز العمل بالمرجوح مع إمكان العمل بالراجح ، فقد لزمكم القول بصحة مذهبنا لأرجحية أهل البيت - عليهم السلام - على غيرهم ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادة الأنصاف ولم يغلب عليه الهوى ، لأن المقتضي للنجاة عندكم تقليد المجتهد ، وهذا حاصل لنا باعترافكم ، مع ما في أهل البيت - عليهم السلام - من المرجحات التي لا يمكن إنكارها وقد بيناها ، ولا يلزمنا القول بصحة مذهبكم لأنا شرطنا في المتبع العصمة حتى يؤمن من الخطأ منه.
فنكون نحن الفرقة الناجية اجماعا ، بالدليل المسلم المقدمات عندكم ، فأي مسلم يخاف اللّه واليوم الاخر يحكم بخطأ متبع أهل البيت - عليهم السلام - لولا ظلمة اتباع الهوى والتعصب.
وكان هذا السيد لا يبعد عن الأنصاف وإنما كان يمسك عن المكابرة ويتأمل ، وكان يقول إذا كان هذا حالهم فالباري ثبتهم لأنه لا يكلف بما لا يطاق ، وقد جعل لكل مجتهد نصيبا من كرمه.
ص: 417
مناظرة يوحنا (1) مع علماء المذاهب الأربعة في بغداد
يقول يوحنا بن إسرائيل الذمي : إني كنت رجلا ذميا (2) ، متقنا للفنون العقلية ، ممتعا من العلوم النقلية ، لا يحيدني عن الحق مموهات الدلائل ، ولا يلقيني في الباطل مزخرفات العبارات ، ومنمقات الرسائل ، أنجر ينابيع التحقيق من أطواد الحلوم ، وأستخرج بالفكر الدقيق المجهول من العلوم ، أتصفح بنظر الاعتبار ومعتقد فريق فريق ، وأميز بين ذلك سواء الطريق ، والناس إذ ذاك قد مزقوا دينهم وكانوا شيعا وتمزقوا كل ممزق وتبروا قطعا ، فلهم قلوب لا يفقهون ، بها ولهم أعين لابيبصون بها ، ولهم
ص: 418
آذان لايسعمون بها ، يخبطون خبط عشواء فهم لا يبصرون ويتعسفون مهامة الضلالة فهم في ريبهم يترددون ، فبعضهم دينه صابئي ، وغيرهم مجوسي ، وهذا يهودي ، وهذا نصراني ، وآخر محمدي ، وبعض عبدوا الكواكب ، وبعض عبدوا الشمس ، وطائفة عبدوا النار ، وقوم عبدوا العجل ، وكل فرقة من هؤلاء صاروا فرقا لا تحصى.
فلما رأيت تشعب القول ، وشاهدت تناقض النقول ، طابقت المعقول بالمنقول ، وميزت الصحيح من المعلول ، وأقمت الدليل على وجوب اتباع ملة الأسلام ، والاقتداء بها إلى يوم الحساب والقيام ، فأظهرت كلمة الشهادة ، وألزمت نفسي بما فيه من العبادة ، وجمعت الكتب الأسلامية من التفاسير والأحاديث والأصول والفروع من جميع الفرق المختلفة ، وجعلت أطالعها ليلا ونهارا وأتفكر في المناقضات التي وقعت في دين الأسلام.
فقال بعضهم : إن صفات اللّه تعالى عين ذاته ، وبعض قال : لا عين ذاته ولا زائدة ، وبعض قال : إن اللّه عز وجل أراد الشر وخلقه ، وبعض نزهه عن ذلك ، وبعض جوز على الأنبياء الصغائر ، وبعض جوز الكبائر ، وبعض جوز الكفر (1) ، وبعض أوجب عصمتهم ، وبعض أوجب النص بالأمامة (2) ، وبعض أنكره ، وبعض قال : بإمامة أبي بكر وأنه أفضل ، وبعض كفره ، وبعض قال : بإمامة علي ، وبعض قال : بإلهيته ، وبعض ساق الأمامة في أولاد الحسن ، وبعض ساقها في أولاد الحسين ، وبعض وقف على
ص: 419
موسى الكاظم (1) ، وبعضهم قال : باثنى عشر إماما ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تحصى.
وكل هذه الاختلافات إنما نشأت من استبدادهم بالرأي في مقابلة النص ، واختيارهم الهوى في معارضة النفس وتحكيم العقل على من لا يحكم عليه العقل وكان الأصل فيما اختلف فيه جميع الأمم السالفة واللاحقة من الأصول شبهة إبليس ، وكان الأصل في جميع ما اختلف فيه المسلمون من الفروع مخالفة وقعت من عمر بن الخطاب لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - واستبداده برأي منه في مقابلة الأمر النبوي ، فصارت تلك الشبهة والمخالفة مبدأ كل بدعة ، ومنبع كل ضلالة.
أما شبهة إبليس فتشعبت منها سبع شبه ، فصارت في الخلائق ، وفتنت العقلاء ، وتلك الشبهات السبع مسطورة في شرح الأناجيل ، مذكورة في التوارة ، متفرقة على شكل مناظرة بين إبليس وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه.
فقال إبليس للملائكة : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق ، عالم قادر ، ولا يسأل عن قدرته ومشيئته ، وإنه مهما أراد شيئا قال له : كن فيكون ، وهو حكيم إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة.
قالت الملائكة : وما هي؟ وكم هي؟
قال إبليس : سبع.
الأول : أنه قد علم قبل خلقي أي شئ يصدر عني ، ويحصل مني ، فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
ص: 420
الثاني : إذا خلقني على مقتضي إرادته ومشيئته فلم كلفني بطاعته وأماط الحكمة في التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعته ، ولا يتضرر بمعصيته؟
الثالث : إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة ، فعرفت وأطعت ، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في طاعتي ومعرفتي؟
الرابع : إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذ لم أسجد لعنني وأخرجني من الجنة ، ما الحكمة في ذلك بعد إذ لم أرتكب قبيحا إلا قولي لا أسجد إلا لك؟
الخامس : إذ خلقني وكلفني مطلقا وخصوصا ، فلما لم أطع في السجود فلعنني وطردني ، فلم طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة وغررته بوسوستي ، فأكل من الشجرة المنهي عنها؟ ولم أخرجه معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة امتنع استخراجي لادم وبقي في الجنة؟
السادس : إذ خلقني وكلفني عموما وخصوصا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يروني ، وتؤثر فيهم وسوستي ، ولا يؤثر في حولهم ولا قوتهم ولا استطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلاهم على الفطرة دون من يغتالهم عنها فيعيشون طاهرين سالمين مطيعين كان أليق وأحرى بالحكمة؟
السابع : سلمت لهذا كله خلقني وكلفني مطلقا ومقيدا وإذ لم أطع طردني ولعنني وإذا أردت دخول الجنة مكنني وطرقني وإذ عملت عملي أخرجني ثم سلطني على بني آدم ، فلم إذ استمهلته أمهلني ، فقلت : (
ص: 421
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (1)؟ وما الحكمة في ذلك بعد إذ لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني ، وما بقي شر في العالم ، أليس ببقاء العالم على نظام الخير خير من امتزاجه بالشر؟
قال : فهذه الحجة حجتي على ما ادعيته من كل مسألة.
قال شارح الأنجيل : فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة قولوا له : أما تسليمك الأولى أني إلهك وإله الخلق فإنك غير صادق فيه ولا مخلص ، إذ لو صدقت أني إله العالمين لما احتكمت علي بلم وأنا اللّه الذي لا إله إلا هو لا أسأل عما أفعل والخلق يسألون.
قال يوحنا : وهذا الذي ذكرته من التوراة في الأنجيل مسطور على الوجه الذي ذكرته (2).
وأما المخالفة التي وقعت من عمر بن الخطاب : أنه لما مرض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - مرضه الذي توفي فيه دخل عليه جماعة من الصحابة ، وفيهم : عمر بن الخطاب ، وعرف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - رحلته من الدنيا واختلاف أمته بعده ، وضلال كثير منهم ، فقال للحاضرين : (ائتوني بدواة وبيضاء لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي.
قال عمر بن الخطاب : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، وإن الرجل ليهجر ، وعندكم القرآن حسبكم كتاب اللّه (3).
ص: 422
فلو أن عمر لم يحل بينه وبين الكتاب لكتب الكتاب ، ولو كتبه لارتفع الضلال عن الأمة ، لكن عمر منعه من الكتابة ، فكان هو السبب في وقوع الضلال ، وأنا واللّه لا أقول هذا تعصبا للرافضة ولكني أقول ما وجدته في كتب أهل السنة الصحيحة ، وهو مصرح في صحيح مسلم الذي يعتمدون عليه.
ومن الخلاف الذي جرى بين عمر وبعض الصحابة : أنه لما مرض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - مرضه الذي توفي فيه جهز جيشا إلى الروم إلى موضع يقال له : مؤتة ، وبعث فيه وجوه الصحابة مثل أبي بكر وعمر وغيرهما ، فأمر عليهم أسامة بن زيد فولاه وبرزوا عن المدينة ، فلما ثقل المرض برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - تثاقل الصحابة عن السير وتسللوا ، وبقي أبو بكر وعمر يجيئان ويتجسسان أحوال صحة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ومرضه ليلا ويذهبان إلى المعسكر نهارا ، ورسول اللّه يصيح بهم : (جهزوا جيش أسامة ، لعن اللّه المتخلف عنه) حتى قالها ثلاثا.
فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وقال قوم : لا تسع قلوبنا المفارقة (1).
ولا يخفى على العاقل قصد النبي - صلى اللّه عليه وآله - في بعث أبي
ص: 423
بكر وعمر تحت ولاية أسامة في مرضه وحثهم على المسير ، ولا يخفى أيضا مخالفتهم ورجوعهم من غير إذنه لما كان ذلك ، ولا يخفى لعن النبي - صلى اللّه عليه وآله - المتخلف عن جيش أسامة فلماذا كان؟ ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (1).
ومن الخلاف : أنه لما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال عمر : (واللّه ما مات محمد ، ولن يموت ، ومن قال إن محمدا مات قتلته بسيفي هذا ، وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم) ، فلما تلا عليه أبو بكر : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (2) رجع عمر وقال : كأني لم أسمع بهذه حتى قرأها أبو بكر (3).
ومن الخلاف الواقع في الأمامة : أنه ما سل سيف في الأسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الأمامة ، وهو أنه لما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - اشتغل علي - عليه السلام - بتجهيزه ودفنه وملازمته ذلك ومضى أبو بكر وعمر إلى سقيفة بني ساعدة ، فمد عمر يده فبايع أبا بكر وبايعه الناس ، وتخلف علي - عليه السلام - عن البيعة وعمه العباس والزبير وبنو هاشم وسعد بن عبادة الأنصاري ، ووقع الخلاف الذي سفك فيه الدماء ، ولو ترك عمر بن الخطاب الاستعجال وصبر حتى يجتمع أهل الحل والعقد ويبايعوا الأول لكان أولى ولم يحصل الخلاف لمن بعدهم في
ص: 424
الاستخلاف (1).
ومن الخلاف : أنه لما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - وفي يد فاطمة - عليها السلام - فدك متصرفة فيها من عند أبيها (2) فرفع أبو بكر يدها عنها وعزل وكلاءها ، فأتت إلى أبي بكر وطلبت ميراثها من أبيها ، فمنعها واحتج بأن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : ما تركناه يكون صدقة (3) ، واحتجت فاطمة فلم يجبها ، فولت غضبانة عليه (4) ، وهجرته فلم تكلمه
ص: 425
حتى ماتت (1) ، وفي أثنا المحاجة أذعن أبو بكر لقولها ، فكتب لها بفدك كتابا ، فلما رآه عمر مزق الكتاب (2) وكان هذا هو السبب الأعظم في الاعتراض على الصحابة والتشنيع عليهم بإيذاء فاطمة - عليها السلام - مع روايتهم أن من آذاها فقد آذى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - (3) ، وفي الحقيقة ما كان لائقا من الصحابة أن يعطي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ابنته مما أفاء اللّه عليه فينزعه أبو بكر وعمر منها مع علمهم أنها كانت تطحن الشعير بيدها ، وإنما كانت تريد بالذي ادعته من فدك صرفه للحسن والحسين - عليهما السلام - فيحرمونها ذلك ويتركونها محتاجة كئيبة حزينة ، وعثمان بن عفان يعطي مروان بن الحكم (4) طريد رسول اللّه
ص: 426
- صلى اللّه عليه وآله - مائتي مثقال من الذهب من بيت مال المسليمن ولا ينكرون عليه ولا على أبي بكر ، ولو أن عمر لم يمزق الكتاب أو انه ساعد فاطمة في دعواها ، لكان لهم أحمد عاقبة ولم تبلغ الشنيعة ما بلغت.
قال يوحنّا : ومن الخلاف الذي وقع وكان سببه عمر : الشورى (1) ، فإنه جعلها في ستة وقال : إذا افترقوا فريقين فالذي فيهم عبد الرحمن بن عوف فهم على الحق ، وعبد الرحمن لا يترك جانب عثمان كما هو معلوم حتى قال علي - عليه السلام - للعباس : يا عم عدل بها عني فياليته تركها هملا كما يزعم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - تركها ، أو كان ينص بها كما نص أبو بكر فخالف الأمرين حتى أفضت الخلافة إلى عثمان ، فطرد من آواه (2) رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، وآوى من طرده (3) رسول اللّه -
ص: 427
صلّى اللّه عليه وآله - وأحدث أمورا قتل بها وفتح بها با القتال الى يوم القيامة ، وأفضت الخلافة إلى معاوية الذي ألب عائشة وطلحة والزبير على حرب علي - عليه السلام - حتى قتل يوم الجمل ستون ألفا ، ثم حارب عليا - عليه السلام - ثمانية عشر شهرا وقتل في حربه مائة وخمسون ألفا ، وأفضت الخلافة إلى ولده يزيد فقتل الحسين - عليه السلام - بتلك الشناعة ، وحاصر عبد اللّه بن الزبير في مكة فلجأ إلى الكعبة فنصب بمكة المنجنيق ، وهدم الكعبة ، ونهب المدينة ، وأباحها لعسكره ثلاثة أيام (1).
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أنه قال : (المدينة حرم ما بين عاير إلى وعير ، من أحدث فيه حدثا فعليه لعنة اللّه) (2) ، فما ظنك بمن يقتل أولاده ، ويرفع رؤوسهم على الرماح ، ويطوف بها في البلاد جهرا ، وأفضى الأمر الى أنهم أمروا بسب علي على المنابر ألف شهر ، وطلبوا العلويين فقتلوهم وشردوهم (3) ، وأفضى الأمر إلى الوليد بن عبد الملك الذي تفأل يوما بالمصحف فظهر له قوله تعالى : ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) (4) فنصب المصحف
ص: 428
يوما فرماه بالنشاب وأنشد شعرا :
تهددني بجبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر *** فقل يا رب مزقني الوليد (1)
فإذا نظر العاقل إلى هذه امفاسد كلها لرأى أن أصلها منع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عن كتابة الكتاب ، وجعل الخل فة باختيار الناس من غير نص ممن له انص فكل اسبب من عمر بن الخطاب.
ولا يظن أحمد أني أقول هذا بعضا لعمر لا واللّه وإنما هو مسطور في كتبهم والحال كذلك فما يسعني أن أنكر شيئا مما وقع ومضى.
قال يوحنا : فلما رأيت هذه الاختلافات من كبار الصحابة الذين يذكرون مع رسول اله صلى اللّه عليه وآله - فوق المنابر عطم علي الأمر وغم علي الحال وكدت أفتتن في ديني ، فقصدت بغداد وهي قبة الإسلام لأفارض فيما رأيت من اختلاف علماء المسلمين لأنظر الحق واتبعه ، فلما اجتمعت بعلماء المذاهب الأربعة ، قلت لهم : إني رجل ذمي ، وقد هداني اللّه إلى الإسلام فأسلمت وقد أتيت إليكم لأنقل عنم معالم الدين ، وشرائع الإسلام ، والحديث ، لازداد بصيرة في ديني.
فقال كبير هم وكان حنفيا : يا يوحنا ، مذاهب الإسلام أربعة فاختر واحدا منهما ، ثم اشرع في قراءة ما تريد.
فقلت له : إني رأيت تخلفا وعلمت أن الحق منها واحد فاختارو الي ما تعلمون أنه الحق الذي كان عليه نبيكم.
قال الحنفي : إنا نعلم يقينا ما كان عليه نبيا بل نعلم أن طريقته
ص: 429
ليست خارجة من الفرق الإسلامية وكل من أربعتنا يقول إنه محق ، لكن يمكن أن مذهب أبي حنيفة أنسب المذاهب ، وأطبقها للسنة ، وأوفقها بالعقل ، وأرفعها عند الناس ، إن مذهب مختار أكثر اأمة بل مختر سلاطينها ، فعليك به تنجي.
قال يوحنّا : فصاح به إمام الشافعية وأطن أنه كان بين الشافعي واحنفي منازعات.
فقال له : اسكت لا نطقت ، واللّه لقد كذبت وتقولت ، ومن أين أنت والتمييز بين المذاهب ، وترجيح المجتهدين؟ ويلك ثكلتك أمك وأين لك وقوفا على ما قال أبو حنيفة ، وما قاسه برأيه ، فإنه المسمي بصاحب الرأي يجتهد في مقالة النص ويستحسن في دين اللّه ويعمل به حتى أوقعه رأيه الواهي في أن قال : لو عقد رجل في بلا د الهند على امرأة كانت في الروم عقدا شرعيا ، ثم أتاها بعد سنين فوجدها حاملة وبين يديها صبيان يمشون ويقول لها : ما هؤلاء؟ وتقول له : أولادك فيرافعها في ذلك ألى القاضي الحنفي فيحكم أن الأولاد من صلبه ، ويلحقونه طاهرا وباطنا ، يرثهم ويرثونه ، فيقول ذلك الرجل : وكيف هذا ولم أقربها قط؟ فيقول القاضي : يحتمل أنك أجنبت أو أن تكون أمنيت فطار منيك في قطعة فقوعت في فرج هذه المرأة(1) ، وهل هذا يا حنفي مطابق للكتاب والسنة؟
قال الحنفي : نعم إنما يلحق به لأنها فراشه والفراش يلحق ويلتحق بالعقد ولا يشترط فيه الوطي ، وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (الولد
ص: 430
للفراش وللعاهر الحجر) (1) فمنع الشالعي أن يصير فراشا بدون الوطي ، وغلب الشافعي الحنفي بالحجة.
ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو أن امرأة زوفت إلى زوجها فعشقها رجل فادعى عند قاضي الحنيفة أنه عقد عليها قبل الرجل الذي زفت إليه ، وأرشى المدعى فاسقين حتى شهدا له كذبا بدعواه ، فحكم القاضي له تحرم على زوجها الأول طاهرا وباطنا وثبتت زوجية تلك المرأة للثاني وأنها تحل عليه ظاهرا وباطنا ، وتحل منها على الشهود الذين تعمدوا الكذب في الشهادة (2)! فانظروا ايها الناس هل هذا مذهب من عرف قواعد الإسلام؟
قال الحنفي : لا اعتراض لك عندنا إن حكم القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا وهذا متفرع عليه فخصمه الشافعي ومنع أن ينفذ حكم القاضي ظاهرا وباطنا بقوله تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) (3) ولم ينزل اللّه ذلك.
ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو أن امرأة غاب عنها زوجها فانقطع خبره ، فجاء رجل فقال لها : إن زوجك قد مات فاعتدس ، فاعتدت ، ثم بعد العدة عقد عليها آخر ودخل عليها ، وجاءت منه بالأولاد ، ثم غاب الرجل الثاني وظهر حياة الرجل الأول وحضر عندها فإن جميع أولاد الرجل الثاني أولاد للرجل الأول يرثهم ويرثونه (4).
ص: 431
فيا أولي العقول ، فهل يذهب إلى هذا القول من له دراية وفطنة؟
فقال الحنفي : إنما أخذ أبو حنيفة هذا من قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (الولد للفراش وللعاهر الجر) فاتج عليه الشافعي بكون الفراض مشروطا بالدخول ، فغلبه.
ثم قال الشافعي : وإمامك أبو حنيفة قال : أيما رجل رأى امرأة مسلمة فادعى عند القاضي بأن زوجها طلقها ، وجاء بشاهدين ، شهدا له كذبا ، فحكم القاضي بطلاقها ، حرمت على زوجها ، وجاز للمدعي نكاحها ، وللشهود أيضا (1) ، وزعم أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا.
ثم قال الشافعي : وقال إمامك أبو حنيفة : إذا شهد أربعة رجال على رجل بالزنا ، فإن صدقهم سقط عنه الحدّ ، وإن كذبهم لزمه ، وثبت الحدّ (2) فاعتبروا يا اُولي الأبصار.
ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو لاط رجل بصبي وأوقبه فلا حد عليه بل بعزر (3).
وقال رسول لله - صلى اللّه عليه وآله - (من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا فاعل والمفعول) (4).
وقال أبو حنيفة : لو غصب أحد حنطة فطحنها ملكها بطحنها ، فلو أراد أن يأخذ صاحب الحنطة طحينها ويعطي الغاصب الأجرة لم يجب
ص: 432
على الغاصب إجابته وله منعه ، فإن قتل صاحب الحنطة كان دمه هدرا ، ولو قتل الغاصب قتل صاحب الحنطة به (1).
وقال أبو حنيفة : لو سرق سارق ألف دينار وسرق أخر ألفا اخر من آخر ومزجها ملك الجميع ولزمه البدل.
وقال أبو حنيفة : لو قتل المسلم والتقي العالم كافرا جاهلا قتل المسلم به واللّه يقول : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) (2).
وقال أبو حنيفة : لو اشترى أحد أمه أو أخته ونكحهما لم يكن عليه حد وإن علم وتعمد (3).
قال أبوحنيفة : لو عقد أحد على أمّه أو أخته عالماً بها أنّها أُمّه أو أخته ودخل بها لم يكن عليه حدّ لأنّ العقد شبهة (4).
وقال أبوحنيفة : لو نام جنب على طرف حوض من نبيذ فانقلب في نومه ، ووقع في الحوض ارتفعت جنابته وطهر.
قال أبو حنيفة : لا تجب النية في الوضوء (5) ، ولا في الغسل (6) ، وفي الصحيح : ( إنما الأعمال بالنيات ) (7).
ص: 433
وقال أبو حنيفة : لا تجب البسملة في الفاتحة (1) وأخرجها منها مع أن الخلفاء كتبوها في المصاحف بعد تحرير القرآن.
وقال أبو حنيفة : لو سلخ جلد الكلب الميت ودبغ طهر وإن له الشراب فيه ولبسه في الصلاة (2) ، وهذدا مخالف للنص بتنجيس العين المقتضي لتحريم الانفتاع به.
ثم قال : يا حنفي ، يجوز في مذهبك للمسلم إذا أراد الصلاة أن يتوضأ بنبيذ ، وبيدأ بغسل رجليه ، ويختم بيديه (3) ، ويلبس جلد كلب ميت مدبوغ (4) ، ويسجد علي عذرة يابسة ، ويكبر بالهندية ، ويقرأ فاتحة الكتاب بالعبرانية (5) ، ويقول بعد الفاتحة ، دو بر سبز - يعني مدهامتان - ثم يركع ولا يرفع رأسه ، ثم يسجد ويفصل بين السجدتين بمثل حد السيف وقبل السلام يتعمد خروج الريح ، فإن صلاته صحيحة ، وأن أخرج الريح ناسيا بطلت صلاته (6).
ص: 434
ثم قال : نعم يجوز هذا ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، هل يجوز التعبد بمثل هذه العبادة؟ أم يجوز لنبي أن يأمر أمته بمثل هذه العبادة افتراء على اللّه ورسوله؟!
فأفحم الحنفي وامتلأ غيظا وقال : يا شافعي اقصر فض اللّه فاك ، وأين أنت عن الأخذ على أبي حنيفة وأين مذهبك من مذهبه؟ فإنما مذهبك بمذهب المجوس أليق لأن في مذهبك يجوز للرجل أن ينكح ابنته من الزنا وأخته ، ويجوز أن يجمع بين الأختين من الزنا ويجوز أن ينكح أمه من الزنا ، وكذا عمته وخالته من الزنا (1) ، واللّه يقول : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ ) (2) وهذه صفات حقيقية لا تتغير بتغير الشرائع والأديان ، ولا تظن بيا شافعي يا أحمق أن منعهم من التوريث يخرجهم من هذه الصفات الذاتية الحقيقية ولذا تضاف إليه ، فيقال : بنته وأخته من الزنا ، وليس هذا التقييد موجبا لمجازيته كما في قولنا أخته من النسب بل لتفصيله ، وإنما التحريم شالم للذي
ص: 435
يصدق عليه الألفاظ حقيقة ومجازا اجتماعا ، فإن الجدة داخلة تحت الأم اجماعا ، وكذا بنت البنت ، ولا خلاف في تحريمها بهذه الآية ، فانظروا يا أولي الألباب هل هذا إلا مذهب المجوس ، يا خارجي.
وأما يا شافعي إمامك أباح للناس لعب الشطرنج (1) مع أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (لا يحب الشطرنج الا عابد وثن).
ص: 436
وأما يا شافعي ، إمامك أباح للناس الرقص والدف والقصب (1) ، فقبح اللّه مذهبك مذهبا ينكح فيه الرجل أمه وأخته ويلعب بالشطرنج ، ويرقص ، ويدف ، فهل هذا الظاهر الافتراء على اللّه والرسول ، وهل يلزم بهذا المذهب إلا أعمى القب واعمى عن الحق.
قال يوحنا : وطال بينهما الجدال واحتمى الحنبلي للشافعي ، واحتمى المالكي للحنفي ، ووقع النزاع بين المالكي والحنبلي ، وكان فيما وقع بينهم أن الحنبلي قال : إن مالكا أبدع في الدين بدعا أهلك اللّه عليها أمما وهو أباحها ، وهو لواط الغلام ، وأباح لواط المملوك وقد صح أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : (من لاط بغلام فاقتلوا الفاعل والمفعول) (2).
وأنا رأيت مالكيا ادعي عند القاط على آخر أنه باعه مملوكا والمملوك لا يمكنه من وطئه ، فأثبت القاضي أنه عيب في المملوك ويجوز له رده ، أفلا تستحي من اللّه يا مالكي يكون لك مذهب مثل هذا وأنت تقول مذهبي خير من مذهبك؟ وإمامك أباح لحم الكلاب فقبح اللّه مذهبك واعتقادك.
فرجع المالكي عليه وصاح به : اسكت يا مجسم يا حلولي ، يا حلولي ، يا فاسق ، بل مذهبك أولى بالقبح ، وإحرى بالتعبير ، إذ عندك إمامك أحمد بن حنبل أن اللّه جسم يجلس على العرش ، ويفضل عن العرش بأربع اصابع ، وأنه ينزل كل ليلة جمعة من سماء الدنيا على سطوح المساجد في صورة أمرد ، قطط الشعر ، له نعلان شراكهما من اللؤلؤ
ص: 437
الرطب ، راكبا على حمار له ذوائب (1).
قال يوحنا : فوقع بين الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي النزاع ، فعلت أصواتهم وأظهروا قبائحهم ومعايبهم حتى ساء كل من حضر كلامهم الذي بدا منهم ، وعاب العامة عليهم.
فقلت لهم : على رسلكم ، فواللّه قسما إني نفرت من اعتقاداتكم ، فإن كان الإسلام هذا فياويلاه ، واسوأتاه ، لكني أقسم عليكم باللّه الذي لا إله إلا هو أن تقطعوا هذا البحث وتذهبوا فإن العوام قد أنكروا عليكم.
قال يوحنا : فقاموا وتفرقوا وسكتوا أسبوعا لا يخرجون من بيوتهم ، فإذا خرجوا أنكر الناس عليهم ، ثم بعد أيام اصطلحوا واجتمعوا في المستنصرية فجلست غدا إليهم وفاوضتهم فكان فيما جرى أن قلت لهم : كنت أريد عالما من علماء الرافضة نناظره في مذهبه ، فهل عليكم أن تأتونا بواحد منهم فنبحث معه؟
فقال العماء : يا يوحنا ، الرافضة فرقة قليلة لا يستطيعون أن يتظاهروا بين المسلمين لقلتهم ، وكثرة مخالفيهم ، ولا يتظاهرون فضلا أن يستطيعوا المحاجة عندنا على مذهبهم ، فهم الأرذلون الأقلون ، ومخالفوهم الأكثرون ، فهذا مدح لهم لأن اللّه سبحانه وتعالى مدح القليل ، وذم الكثير بقوله : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2) ، ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (3) ، ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (4) ، (
ص: 438
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (1) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) (2) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (3) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ) (4) إلى غير ذلك من الآيات.
قالت العلماء : يا يوحنا حالهم أعطم من أن يوصف لأنهم لو علمنا بأحد منهم فلا نزال نتربص به الدوائر حتى نقتله لأنهم عندنا كفرة تحل عليبنا دماؤهم ، وفي علمائنا من يفتي بحل أموالهم ونسائهم.
قال يوحنا : اللّه أكبر هذا أمر عظيم ، أتراهم بما استحقوا هذا فهم ينكرون الشهادتين؟
قالوا : لا.
قال : أفهم لا يتوجهون إلى قبلة الاسلام؟
قالوا : لا.
قال : إنهم ينكرون الصلاة أم الصيام أم الحج أم الزكاة أم الجهاد؟
قالوا : لا ، بل هم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويجاهدون.
قال : إنّهم ينكرون الحشر والنشر والصراط والميزان والشفاعة؟
قالوا : لا ، بل مقرون بذلك بأبلغ وجه.
قال : أفهم يبيحيون الزنا واللواط وشرب الخمر والربا والمزامر وأنواع الملاهي؟
ص: 439
قالوا : بل يجتنبون عنها ويحرمونها.
قال يوحنا : فياللّه والعجب قوم يشهدون الشهادتين ، ويصلون إلى القبلة ، ويصومون شهر رمضان ، ويحجون البيت الحرام ، ويقولون بالحشر والنشر وتفاصيل الحساب ، كيف تباح أموالهم ودماؤهم ونساؤهم ونبيكم يقول : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا اللّه ، وأن محمدا رسولا اللّه ، فإذا قالوها عصموا مني دماء هم وأموالهم ونساءهم إلا بحق وحسابهم على اللّه) (1).
قال العلماء : يا يوحنا إنهم أبدعوا في الدين بدعا فمنها : إنهم يدعون أن عليا - عليه السلام - أفضل الناس بعد الرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ويفضلونه على الخلفاء الثلاثة (2) ، والصدر الأول أجمعوا على أن أفضل
ص: 440
الخلفاء كبيرتيم (1) قال يوحنا : أفترى إذا قال أحد : إن عليا يكون خيرا من أبي بكر وأفضل منه تكفرونه؟
قالوا : نعم لأنه خالف الإجماع.
قال يوحنا : فا تقولون في محدثكم الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه؟
قال العلماء : هو ثقة مقبول الرواية صحيح المثل.
قال يوحنا : هذا كتاب المسمى بكتاب المناقب روى فيه أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : (علي خير البشر ، ومن أبى فقد كفر) (2).
و في كتابه أيضاً يسأل حذيفة عن علي - عليه السلام - قال: «أنا خير هذه الأمة بعد نبيها، ولا يشك في ذلك إلا منافق» (3).
وفي كتابه أيضا عن سلمان ، عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أنه قال : (علي ابن أبي طالب خير من أخلفه بعدي) (4).
وفي كتابه أيضا عن أنس بن مالك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : (اخي ووزيري وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي
ص: 441
طالب) (1).
وعن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال لفاطمة : (أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما ، وإعظمهم حلما) (2).
وروي في مسند أحمد بن حنبل أيضا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك) (3) فجاء علي بن أبي طالب في حديث الطائر ، وذكر هذا الحديث النسائي والترمذي في صحيحهما (4) وهما من علماتكم.
وروى أخطب خوارزم في كتاب المناقب وهو من علمائكم عن معاذ بن جبل قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (يا علي أخصمك بالنبوة ولا بنوة بعدي وتخصم الناس بسبع فلا يحاجك أحد من قريش :
ص: 442
أنت أولهم إيمانا باللّه وأوفاهم بأمر اللّه وبعهده ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم بالرعية ، وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم يوم القيامة عند اللّه عز وجل في المزية) (1).
وقال صاحب كفاية الطالب من علمائكم : هذا حديث حسن عال رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء (2).
قال يوحنا : فيا أئمة الإسلام فهذه أحاديث صحاح روتها أئمتكم وهي مصرحة بأفضلية علي وخيرته على جميع الناس ، فما ذنب الرافضة؟ وإنما الذنب لعلمائكم والذين يروون ما ليس بحق ، ويفترون الكذب على اللّه ورسوله.
قالوا : يا يوحنا ، إنهم لم يرووا غير الحق ، ولم يفتروا بل الأحاديث لها تأويلات ومعارضات.
قال يوحنا : فأي تأويل تقبل هذه الأحاديث بالتخصيص على البشر ، فإنه نص في أنه خير من أبي بكر إلا أن تخرجوا أبا بكر من البشر ، سلمنا أن الأحاديث لا تدل ذلك فأخبروني أيهم إكثر جهادا؟
فقالوا : علي.
قال يوحنا : قال اللّه تعالى : ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (3) وهذا نص صريح.
قالوا : أبو بكر أيضا مجاهد فلا يلزم تفضيله عليه.
قال يوحنا : الجهاد الأقل إذا نسب إلى الجهاد الأكثر بالنسبة إليه
ص: 443
قعود ، وهب أنه كذلك فما مراد كم بالأفضل؟
قالوا : الذي تجتمع فيه الكمالات والفضائل الجبلية والكسبية كشرف الأصل والعلم والزهد والشجاعة والكرم وما يتفرع عليها.
قال يوحنا : فهذه الفضائل كلها لعلي - عليه السلام - بوجه هو أبلغ من حصولها لغيره.
قال يوحنا : أما شرف الأصل فهو ابن عم النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه.
وأما العم فقال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (1) وقد تقرر في العقل أن أحدا لا يستفيد من المدينة شيئا إلا إذا أخذ من الباب ، فانحصر طريق الاستفادة من النبي - صلى اللّه عليه وآله - في علي - عليه السلام - ، وهذه مرتبة عالية ، وقال - صلى اللّه عليه وآله - (أقضاكم علي) (2) وإليه تعزى كل قضية وتنتهي كل فرقة ، وتنحاد إليه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلي حلبتها ، كل من برع فيها فمنه أخذ ، وبه اقتفى ، وعلى مثاله احتذى ، وقد عرفتم أن أشرف العلوم العلم الإلهي ، ومن كلامه اقتبس ، وعنه نقل ، ومنه ابتدأ.
ص: 444
فإن المعتزلة الذين هم أهل النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن هم تلامذته ، فإن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفية (1) ، وأبو هاشم عبد اللّه تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذ علي بن أبى طالب - عليه السلام -.
وأما الاء شعريون فإنهم ينتهون إلى أبي الحسن الاءشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وهو تلميذ واصل ابن عطاء (2).
وأما الإمامية والزيدية فانتهاؤ هم إليه ظاهر.
وأما علم الفقه فهو أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فإليه يعزي نفسه.
أما مالك فأخذ الفقه عن ربيعة الرأي ، وهو أخذ عن عكرمة ، وهو أخذ عن عبد اللّه ، وهو أخذ عن علي.
وأما أبو حنيفة فعن الصادق - عليه السلام -.
وأما الشافعي فهو تلميذ مالك ، والحنبلي تلميذ الشافعي (3) ، وأما فقهاء الشيعة فرجو عهم إليه ظاهر ، وأما فقهاء الصحابة فرجو عهم إليه ظاهر كابن عباس وغيره ، وناهيكم قول عمر غير مرة : (لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر) وقوله : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن) (4) ، وقوله : (لو لا علي لهلك عمر) (5).
ص: 445
وقال الترمذي في صحيحه والبغوي عن أبي بكر قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن ابي طالب) (1).
وقال البيهقي بإسناده إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى على بن ابي طالب) (2) وهو الذي بين حد الشرب (3) ، وهو الذي أفتى في المرأة التي وضت لستة أشهر (4) ، وبقسمة الدارهم على صاحب الأرغفة (5) والأمر بشق الولد نصفى (6) ، والأمر بضرب عنق العبد ، والحاكم في ذي الرأسين (7) مبين أحكام البغاة (8) ، وهو الذي أفتى في الحامل
ص: 446
الزانية (1).
ومن العلوم علم التفسير ، وقد علم الناس حال ابن عباس فيه وكان تلميذ علي - عليه السلام - وسئل فقيل له : أين علمك من علم اين عمك؟
فقال : كبشة مطر في البحر المحيط (2).
ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة ، وعلم التصوف ، وقد علمتم أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام إليه ينتهون ، وعنده يفقون ، وقد صرح بذلك الشبلي والحنبلي وسرى السقطي وأبو زيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم ، ويكفيكم دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم وكونهم يسدونها بإسناد معنعن إليه أنه واضعها (3).
ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامع تكاد تلحق بالمعجزات ، لأن القوة البشرية لا نفي بمثل هذا الاستنباط.
فأين من هو بهذه الصفة من رجل يسألونه ما معنا (أبا) فيقول : لا أقول في كتاب اللّه برأيي ، ويقضي في ميراث بمائة قضية يغاير
ص: 447
بعضها بعضا ، ويقول : إن زغت فقوموني وإن استقمت فاتبعوني (1). وهل يقيس عاقل مثل هذا إلى من قال : سلونى قبل أن تفقدوني (2) ، سلوني عن طرق السماء فواللّه اني لأعلم لها منكم من طرق الأرض؟ وقال إن هاهنا لعلما جما ، وضرب بيده على صدره ، وقال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فقد ظهر أنه أعلم (3).
وأما الزهد فإنه سيد الزهاد ، وبد الأبدال ، وإليه تشد الرحال ، وتنقص الأحلاس ، وما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس لبسا ومأكلا.
قال عبد اللّه بن أبي رافع : دخلت على علي - عليه السلام - يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجد فيه خبزا شعيرا يابسا مرضوضا فتقدم فأكل.
فقلت : يا أمير المؤمنين فكيف تختمه وأنما هو خبز شعير؟
فقال : خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن (4). وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وبليف أخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرباس الغليظ فإن وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ولم يخيطه ، وكان يلبس الكرباس على ذراعيه حتى يبقى سدى بلا لحمة ، وكان يأتدم إذا إئتدم بالخل والملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان لإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول : لا تجلعوا بطونكم مقابر الحيوانات ، وكان مع ذلك أشد الناس قوة ، وأعظمهم يدا (5).
ص: 448
وأما العبادة فمنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة ، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير ، ومن محافظته على ورده أن بسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ليلة الهرير فيصلي عليه والسهام تقع عليه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته.
فأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم اللّه سبحانه وتعالى وإجلاله وما تضمنته من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص.
وكان زين العابدين - عليه السلام - يصلي في كل ليلة ألف ركعة ويقول : أني لي بعبادة علي - عليه السلام - (1).
وأما الشجاعة فهو ابن جلاها وطلاع ثناهايا ، نسى الناس فيها ذكر من قبله ، ومحى اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحروب مشهورة تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي ما فرقط ولا ارتاع من كتبية ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية.
وجاء في الحديث إذا ضرب واعتلا قد ، وإذا ضرب واعترض قط ، وفي الحديث : كانت ضرباته وترا (2) ، وكان المشركون إذا أبصروه في الحرب عهد بعضهم إلى بعض ، وبسيفه شيدت مباني الدين ، وثبتت دعائمه ، وتعجبت الملائكة من شدة ضرباته وحملاته.
وفي غزوة بدر الداهية العظمى على المسلمين قتل فيها صناديد قريش كالوليد بن عتبة والعاص بن سعيد ونوفل بن خويلد الذي قرن
ص: 449
أبا بكر وطلحة قبل الهجرة وعذبهما ، وقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه) (1) ولم يزل في ذلك يصرع صنديدا بعد صنديد حتى قتل نصف المقتولين فكان سبعين ، وقتل المسلمون كافة مع ثلاثة الآف من الملائكة مسومين النصف الآخر (2). وفيه نادى جبرئيل :
(لا سيف إلا ذو الفقار *** ولا فتى الا علي) (3)
ويوم أحد لما انهزم المسلمون عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - ورمي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى الأرض وضربه المشركون بالسيوف والرماح وعلي - عليه السلام - مصلت سيفه قدامه ، ونظر النبي - صلى اللّه عليه وآله - بعد إفاقته من غشوته فقال : يا علي ما فعل المسلمون؟
فقال : نقضوا العهود وولوا الدبر.
فقال : اكفني هؤلاء ، فكشفهم عنه ولم يزل يصادم كتبية بعد كتيبة وهو ينادي المسلمين حتى تجمعوا وقال جبرئيل - عليه السلام - : إن هذه لهي الموساة ، لقد عجبت الملائكة من حسن موالاة علي لك بنفسه.
فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : وما يمنعه من ذلك وهو مني
ص: 450
وأنا منه (1). ولثبات علي - عليه السلام - رجع بعض المسلمين ورجع عثمان بعد ثلاثة أيام ، فقال له النبي - صلى اللّه عليه وآله - : فقد ذهبت بها عريضة (2).
وفي غزاة الخندق إذ أحدق المشركون بالمدينة كما قال اللّه تعالى : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) (3) ، ودخل عمرو بن عبدود الخندق على المسلمين ونادى بالبراز فأحجم عنه المسلمون وبرز علي - عليه السلام - متعمما بعمامة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وبيده سيف فضربه ضربة كانت توازن عمل الثقلين إلى يوم القيامة (4) ، وأين هناك أبو بكر وعمر وعثمان.
ومن نظر غزوات الواقدي وتاريخ البلازري علم محله من رسول اللّه من الجهاد وبلاء يوم الأحزاب ، وهو يوم بني المصطلق ، ويوم قلع باب خيبر ، وفي غزاه خيبر ، وهذا باب لا يغني الإطناب فيه لشهرته.
وروى أبو بكر الأنبازي في أماليه أن عليا - عليه السلام - جلس إلى عمر في المسجد وعنده اناس ، فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى التيه والعجب.
فقال عمر : لمثله أن يتيه واللّه لولا سيفه لما قام عمود الدين ، وهو
ص: 451
بعد أقضي الأمة وذو سابقتها ، وذو شأنها.
فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين منه؟
فقال : ما كرهناه إلا على حداثة سنه ، وحبه لبني عبد المطلب ، وحمله سورة براءة إلى مكة.
ولما دعا معاوية إلى البراز لتسريح الناس من الحرب بقتل أحدهما فقال له عمرو : قد أنصفك الرجل.
فقال له معاوية : ما غششتني كلما نصحتني إلا اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطوق؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي (1).
وكانت العرب تفتخر لوقوعها في الحرب في مقابلة ، فأما قتلاه فافتخر رهطهم لأنه - عليه السلام - قتلهم وأظهر وأكثر من أن يحصى وقالت (2) في عمر بن عبدود ترثيه :
لو كان قاتل عمر وغير قاتله
بكيته أبداً ما عشت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له
قد كان يدعى أبوه بيضة البلد (3)
وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتمي ، وباسمه من مشارق الأرض ومغاربها.
وأما كرمه وسخاؤه فهو الذي كان يطوي في صيامه حتى صام طاوياً ثلاثة أيام يؤثر السؤال كل ليلة بطعامه حتى أنزل اللّه فيه : ( هَلْ أَتَى عَلَى
ص: 452
الْإِنْسَانِ ) (1) وتصدق بخاتمه في الركوع فنزلت الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (2) ، وتصدق بأربعة دراهم فأنزل اللّه فيه الآية : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ) (3) وتصدق بعشرة دراهم يوم
ص: 453
النجوى (1) فخفف اللّه سبحانه عن سائر الأمة بها ، وهو الذي كان يستسقي للنخل بيده ويتصدق بأجرته ، وفيه قال معاوية بن أبي سفيان الذي كان عدوه لمحفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس فقال ، ويحك كيف قلت؟ تقول له أبخل الناس ولو ملك بيتا من بتر وبيتا من تبن لأنفق تبره قبل تبنه (2) ، وهو الذي يقول : يا صفراء ويا بيضاء غري غيري ، بى تعرضت أم لي تشوقت ، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها (3) ، وهو الذي جاد بنفسه ليلة الفراش وفدى النبي صلى اللّه عليه وآله - حتى نزل في حقه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) (4).
قال يوحنّا : فلما سمعوا هذا الكلام لم ينكره أحد منهم ، وقالوا : صدقت إن هذا الذي قلت قرأناه من كتبنا ونقلناه عن أئمتنا لكن محبة اللّه
ص: 454
ورسوله وعنايتهما أمر وراء هذا كله ، فعسى اللّه أن يكون له عناية بأبي بكر اكثر من على فيفضله عليه.
قال يوحنا. إنا نعلم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا اللّه تعالى ، وهذا الذي قلتموه تخرص ، وقال اللّه تعالى : ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) (1) ونحن إنما نحكم بالشواهد التي لعلي - عليه السلام - على أفضليته فذكرناها.
وأما عناية اللّه به فتحصل من هذه الكمالات دليل قاطع عليها ، فأي عناية خير من أن يجعل بعد نبيه أشرف الناس نسبا ، وأعظمها حلما ، وإشجعهم قلبا ، واكثر هم جهادا وزهدا وعبادة وكرما وورعا ، وغير ذلك من الكمالات القديمية ، هذا هو العناية.
وأما محبة اللّه ورسوله فقد شهد بها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في مواضع ، منها : الموقف الذي لم ينكر وهو يوم خبير ، إذ قال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله) (2) فأعطاها عليا.
ص: 455
وروى عالمكم أخطب خوارزهم في كتاب المناقب أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : «يا علي لو أن عبدا عبد اللّه عزوجل مثلما قام نوح في قومه ، وكان له مثل جبل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل اللّه ، ومد في عمره حتى حج ألف حجة على قدميه ، ثم قتل ما بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها» (1).
ص: 456
وفي الكتاب المذكور قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (لو اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لم يخلق اللّه النار) (1) وفي كتاب الفردوس : حب علي حسنتة لا تضر معها سيئة ، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة (2).
وفي كتاب ابن خالويه عن حذيقة بن اليمان قال ، قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (من أراد أن يتصدق بفصه الياقوت التي خلق اللّه بيده ثم قال لها : كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب بعدي).
وفي مسند أحمد بن حنبل في المجلد الاول : أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أخذ بيد حسن وحسين وقال : (أحبني وأحب هذين وأحب أبا هما كان معي في درجتي يوم القيامة (3).
قال يوحنا : يا أئمة الإسلام هل بعد هذا كلام في قول اللّه تعالى ورسوله في محبته وفي تفضيله على من هو عاطل عن هذه الفضائل؟
قالت الأئمة : يا يوحنا ، الرافضة يزعمون أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أوصى باالخلافة إلي علي - عليه السلام - ونص عليه بها ، وعندنا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لم يوص إلى أحد بالخلافة.
قال يوحنا : هذا كتابكم فيه : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) (4).
وفي بخاريكم يقول : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (ما من
ص: 457
حق امرئ مسلم أن يبيت إلا وصيته تحت رأسه) (1) أفتصدقون أن نبيكم يأمر بما لا يفعل مع أن في كتابكم تقريعا للذي يأمر بما لا يفعل من قوله : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (2) فواللّه إن كان نبيكم قد مات بغير وصية فقد خالف أمر ربه ، وناقض قول نفسه ، ولم يقتد بالأنبياء الماضية من أيصائهم ألى من يقوم بالأمر من بعدهم ، على أن اللّه تعالى يقول : ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (3) لكنه حاشاه من ذلك وإنما تقولون هذا لعدم علم منكم وعناد ، فإن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن سلمان قال : يا رسول اللّه فمن وصيك؟
قال : يا سلمان من كان وصي أخي موسى - عليه السلام -؟
قال : يوشع بن نون! قال : فإن وصيي ووارثي بإسناده علي بن أبي طالب.
وفي كتاب ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : لكل نبي وصي ووارث ، وأنا وصيي ووارثي علي بن ابي طالب (4).
وهذا الإمام البغوي محيي سنة الدين ، وهو من أعاظم محدثيكم م مفسر يكم ، وقدر روى في تفسيره المسمى بمعالم التنزيل عند قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (5) ، عن علي - عليه السلام - أنه قال : لما نزلت هذه الاية أمرني رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن أجمع
ص: 458
له بني عبد المطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون ، فقال لهم بعد أن أضافهم برجل شاة وعس من لبن شبعا وريا وأنه كان أحدهم ليأكله ويشربه : يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والأخرة ، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني عليه ، ويكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟ فلم يجبه أحد.
قال علي : فقمت إليه ، وقلت : أنا أجيبك يار رسول اللّه.
فقال لي : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقاموا يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).
وهذه الرواية قد رواها أيضا أمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (2) ومحمد بن إسحاق الطبري في تاريخه (3) والخركوشي أيضا رواها ، فإن كانت كذبا فقد شهدتم على أئمتكم بأنهم يروون الكذب على اللّه ورسوله ، واللّه تعالى يقول : ( أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (4) ( الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ) (5) ، قال اللّه تعالى في كتابه : ( فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (6) وإن كان لم يكذبوا وكان الأمر على ذلك فما ذنب الرافضة؟ إذن فاتقوا اللّه يا أئمة الإسلام ، باللّه عليكم ما ذا تقولون في خبر الغدير الذي تدعيه الشيعة؟
ص: 459
قال الائمة : أجمع علماؤنا على أنه كذب مفترى.
قال يوحنا : اللّه اكبر ، فهذا إمامكم ومحدثكم أحمد بن حنبل روى في مسنده إلى البراء بن عازب قال : كنا مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في سفر فنزلنا بغدير خم (1) فنودي فينا الصلاة جامعة وكشح
ص: 460
لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تحت شجرتين ، وصلى الظهر ، وأخذ بيد على - عليه السلام - فقال : ألستم أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟
قالوا : بلى فأخذ بيد علي ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال لهم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من من نصره ، واخذل من خذله.
فقال له عمر بن الخطاب : هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ورواه في مسنده بطريق آخر وأسنده إلى أبي الطفيل ، ورواه بطريق آخر وأسنده إلى زيد بن أرقم (1) ، ورواه ابن عبد ربه في كتاب العقد (2) ، ورواه سعيد بن وهب ، وكذا الثعالبي في تفسيره (3) وأكد الخبر مما رواه من تفسير ( سأل سائل ) أن حارث بن النعمان الفهري أتى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في ملأمن من أصحابه فقال : يا محمد أمرتنا أن
ص: 461
نشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنك محمد رسول اللّه فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا ، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا ، ثم لم ترض حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا شئ منك أم من اللّه؟
فقال : واللّه الذي لا إله إلا هو ، إنه أمر من اللّه تعالى ، فولى الحارث بن النعمان وهو يقول : اللّه مأن كان ما يقول محمد - صلى اللّه عليه وآله - حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما وصل إلى راحلته حتى رمى اللّه بحجر فسقي على رأسه وخرج من دبره فخر صريعا ، فنزل : ( سأل سائل بعذاب واقع ) (1) ، فكيف يجوز منكم أن يروي أئمتكم وأنتم تقولون : إنه مكذوب غير صحيح؟
قال الأئمة : يا يوحنا قد روت أئمتنا ذلك لكن إذا رجعت إلى عقلك وفكرك علمت أنه من المحال أن ينص رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على علي بن ابي طالب الذي هو كما وصفتم م يتفق كل الصحابة على كتمان هذا النص ويتراخون عنه ، ويتفقون على إخفائه ، ويعدلون إلى أبي بكر التيمي الضعيف القليل العشيرة ، مع أن الصحابة كانوا إذا أمرهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بقلت أنفسهم فعلوا ، فكيف يصدق عاقل هذا الحال من المحال؟
قال يوحنا : لا تعجبوا من ذلك فأمه موسى - عليه السلام - كانوا ستة أضعاف أمة محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، واستخلف عليهم أخاه هارون وكان نبيهم أيضا وكانوا يحبونه أكثر من موسى ، فعدلوا عنه إلى
ص: 462
السامري ، وعكفوا على عبادة عجل جسد له خوار ، فلا يبعد من أمه محمد أن يعدلوا عن وصيه بعد موته إلى شيخ كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تزوج ابنته ، ولعله لو لم يرد القرآن بقصه عبادة اعجل لما صدقتموها.
قال الأئمة : يا يوحنا فلم لا ينازعم بل سكت عنهم وبايعهم؟
قال يوحنا : لا شك أنه لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وكان المسلمون قليلا ، واليمامة فيها مسيلمة الكذاب وتبعه ثمانون ألفا والمسلمون الذين في المدينة حشوهم منافقون ، فلو أظهر النزاع بالسيف لكان كل م نقتل علي بن أبي طالب بنيه أو أخاته كان عليه وكان الناس يومئذ قليل من لم يقتل علي من قبيلته وأصحابه وأنسابه قتيلا أو أشهر بلا خلاف بين أهل السنة ، ثم بعد جرى من طلب البيعة منهم فعند أهل السنة أنه بايع ، وعند الرافضة أنه لم يبايع ، وتاريخ الطبري (1) يدل على أنه لم يبايع ، وأنما العباس لما شاهد الفتنة صاح : بايع ابن أخي.
وأنتم تعلمون أن الخلافة لو لم تكن لعلي لما ادعاها ، ولو ادعاها بغير حق لكان مبطلا ، وانتم تروون عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : (علي مع الحق والحق مع علي) (2) ، فكيف يجوز منه أن يدعي ما ليس بحق فيكذب نبيكم يومئذ ما هذا بصحيح.
وأما تعجبكم من مخالفة بني إسرائيل نبيهم في خليفته وعدولهم إلى العجل والسامري ففيه سر عجيب إنكم رويتم أن نبيكم قال : (ستحذو
ص: 463
أمتي حذو النعل ، والقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه) (1) وقد ثبت في كتابكم أن بني إسرائيل خالفت نبيها في خليفه ، وعدلوا عنه إلى ما لا يصلح لها.
قال العلماء : يا يوحنا أفتدري أنت أن أبا بكر لا يصلح للخلافة؟
قال يوحنا : أما أنا فواللّه لم أر أبا بكر يصلح للخلافة ، ولا أنا متعصب للرافضة ، لكني نظرت الكتب الإسلامية فرأيت أن أئمتكم أعلمونا أن اللّه ورسوله أخبرني أن ابا بكر لا يصلح للخلافة.
قال الائمة : وأين ذلك؟
قال يوحنّا : رأيت في بخاريكم (2) ، وفي الجميع بين الصحاح الستة ، وفي صحيح أبي داود ، وصحيح الترمذي (3) ، ومسند أحمد بن حنبل (4) أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بعث سروة براءه مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلما بلغ ذي الحليفة (5) دعا عليا - عليه السلام - ، ثم قال له : أدرك أبا بكر وخذ الكتاب منه فاقرأه عليه م ، فلحقه بالجحفة (6) فأخذ الكتاب
ص: 464
منه ورجع أبو بكر إلى النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول اللّه أنزل في شئ؟
قال : لا ولكن جاء ني جبرئيل - عليه السلام - ، وقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
فإذا كان الأمر هكذا وأبو بكر لا يصلح لأداء آيات يسيرة عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حياته ، فكيف يصلح أن يكون خليفته بعد مماته ويؤدي عنه كله وعلمنا من ذها أن عليا - عليه السلام - يصلح أن يؤدي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فيا أيها المسلمون لم تتعامون عن الحق الصريح؟ ولم تركنون إلى هؤلاء وكم ترهبون الأهوال؟
قال الحنفي منهم : يا يوحنا واللّه انك لتنظر بعين الإنصاف ، وإن الحق لكما تقول ، وأزيدك في معنى هذا الحديث ، وهو أن اللّه تعالى أراد أن يبين للناس أن أبا بكر لا يصلح للخلافة ، فترك رسول اللّه حتى أخرج أبا بكر بسورة براءة على رؤوس الأشهاد ، ثم أمر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن يخرج عليا وراءه ويعزله عن هذا المنصب العظيم ليعلم الناس أن أبا بكر لا يصلح لها ، وأن الصالح لها علي - عليه السلام - ، فقال لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : واللّه يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك (1) ، فما تقول أنت يا مالكي؟
قال المالكي : واللّه فإنه لم يزل يختلج في خاطري أن عليا نازع أبا بكر في خلافته مدة ستة أشهر ، وكل متنازعين في الامر لا بد وأن يكون
ص: 465
أحدهما محقا ، فإن قلنا إن أبا بكر كان محقا فقد خالفنا مدلول قول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (علي مع الحق والحق مع على) (1). وهذا حديث صحيح لا خلاف فيه ، فما تقول يا حنبلي؟
قال الحنبلي : يا أصحابنا كم نتعامى عن الحق؟ واللّه أن اليقين أن أبا بكر وعمر غصبا حق علي - عليه السلام - فكانا ... الخ.
فقال له الحنفي : ولا بهذه العبارة.
فقال الحنبلي : يا حنفي تيقظ لأمرك فإن البخاري ومسلم أورادا في صحيحهما أنه لما توفي أبو بكر وجلس عمر مكانه أتى العباس وعلي إلى عمر وطلبا ميراثهما من رسول اللّه ، فغضب عمر وقال كلام يقول فيه : فلما توفي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال أبو بكر أنا ولي رسول اللّه ، فجثت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب علي هذا ميراث امرأته من أبيها.
فقال لكما أبو بكر : أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه يكون صدقة) (2) ، فرأيتماه كاذبا أثما غادرا خائنا ، ثم توفي أبو بكر فقلت : أنا ولي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من بعده وولي أبو بكر ، فجئت أنت وعلي وأنتما جميعا أمركما واحد فقلتم : الأمر لنا دونكم فقلت لكما مقالة أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا ، وقول عمر هذا لعلي - عليه السلام - كان بمحضر أنس بن مالك وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ، ولم يعتذر أمير المؤمنين علي ولا العباس عما نسب إليهما من الاعتقاد
ص: 466
الذي ذكره عمر ولا أحد من الحاضرين اعتذر إلى أبي بكر ، فيا حنفي أن كان عمر صدق فيما نسب إلى أبي بكر وإلى نفسه فمن يعتقد فيه العباس وعلي أنه كاذب آثم خائن غادر فكيف يصلح للخلافة؟ وإن عمر كان كاذبا في ذلك فكفاه ذلك.
قال يوحنا : يا أئمة الإسلام هذه الرواية هي سبب تجري الناس على أبي بكر في الطعن عليه وعلى عمر ، فإذا سمعت الرافضة أن في بخاريكم أن عمر قد شهد على نفسه أن عليا هو الذي رويتم فيه أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال في حقه : (علي مع الحق والحق مع علي) والعباس عم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - شهد على أبى بكر وعمر أنهما كاذبان آثمان خائنان فكيف لايتجرثون عليهم ويجعلون هذا مبدأ أشياء أخر.
قالت العلماء : يل يئختل إن الرافضة يطعنون في أكثر الصحابة ، وهذا هو الذي أوجب قتلهم ، إن الرافضة يطعنون في أكثر الصحابة ، وهذا هو الذي أوجب قتلهم ، إن رسول اللّه مدح الصحابة وقال : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديم اهتديتم) (1) فكيف يصح للرافضة أن يطعنوا فيهم؟
قال يوحنا : علماء الاسلام لا تقولوا هذا فمن الجائز أن يطعنوا فيهم؟ المدح لهم في زمن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وبعد رسول اللّه حصل لبعضهم الارتداد ، فإن إمامكم ومحدثكم الحميدي روى في الجمع بين الصحيحين من المتفق عليه عندكم من الحديث الستين من مسند عبد اللّه بن العباس ، قال : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ألا إنه سيجئ برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي
ص: 467
أصحابي ، فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول لهم كما قال العبد الصالح : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (2).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة عن عبد اللّه ، الحديث الحادي عشر من افراد مسلم قال : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟
قال عبد الرحمن : نكون كما أمرنا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال رسول اللّه : بل تتنافسون وتتحاسدون ، ثم تتدابرون ، ثم تتباغضون وتنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض (3).
أليس هذدا وعد بارتدادهم ، وناهيك بقوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) (4).
قالت العلماء : يا يوحنا ، هذا الذي ذكرته يدل على أن ذلك البعض أبو بكر وعمر وأتباعهما وما ندري ما الذي جرأهم على ذلك؟ ومن أين
ص: 468
جاز لهم ذلك؟
قال يوحنا : جرأهم على ذلك أئمتكم وعلماؤكم كالبخاري (1) ومسلم ، فإنهم أوردوا أنه لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أرسلت فاطمة - صلوات اللّه عليها - إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مما إفاء اللّه عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبي أبو بكر مما أقلقها وأحزنها فهجرته ولم تكلم مما وقع عليها منه من الأزدي وما زالت تتنفس حتى ماتت ، وإنها عاشت بعد أبيها ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها علي - عليه السلام - ليال سرا ولم يؤذن بها أبا بكر ، ومع هذه الشناعة روى أئمتكم في الصحيحين أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ، ويؤذني ما آذاها) (2) ، فأخذ الرافضة هذين الحديثين وركبوا منهما مقدمتين وهو : أبو بكر آذى فاطمة ، ومن آذى فاطمة فقد آذى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولا شك أن اللّه سبحانه يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) (3) ، ولو إنكار نتيجتها.
وقال يوحنا : فاختبط القوم ، وكثر بينهم النزاع لكن كان مآل كلامهم ، أن الحق في طرف الرافضة ، وكان أقربهم إلى الحق إذن إمام الشافعية ، فقال
ص: 469
لهم : أراكم تشكون أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه (1) فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.
فما المراد بإمام الزمان؟ ومن هو؟
قالوا : إمام زماننا القرآن فإنا به نقتدي.
فقال الشافعي : أخطأتم لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : الأئمة من قريش (2) ولايقال للقرآن أنه قريشي.
فقالوا : النبي إمامنا.
فقال الشافعي : أخطأتم ، لأن علماءنا لما اعترض عليهم بأن كيف يجوز لأبي بكر وعمر أن يتركا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مسجي غير مغسل ويذهبا لطلب الخلافة ، وهذا دليل على حرصهم عليها ، وهو قادح في صحة خلافتهما.
أجاب علماؤنا إنهم لمحوا أقوال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ولم يجوز واعلى أنفسهم الموت قبل تعيين الإمام ، فبادروا لتعيينه هربا من ذلك الوعيد ، فعلمنا أن ليس المراد بالإمام هنا النبي.
فقالوا للشافعي : فأنت يا شافعي؟
قال : إن كنت من قبيلتكم فلا إمام لي ، وإن كنت من قبيلة الاثني عشرية فإيامي محمد بن الحسن - عليه السلام -.
فقال العلماء : هذا واللّه أمر بعيد كيف يجوز أن يكون واحد من مدة
ص: 470
لا يعيش أحد مثله ، ولا يراه أحد هذا بعيد جدا.
فقال الشافعي : هذا الدجال من الكفرة تقولون : إنه حي وموجود ، وهو قبل المهدي والسامري كذلك ووجود إبليس لا تكرونه ، وهذا الخضر ، وهذا عيسى تقولون : إنهما حيان ، وقد رود عندكم ما يدل على التعمير في حق السعداء والأشقياء ، وهذا القرآن ينطق أن أهل الكهف نامو ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ، أفبعيد أن يعيش من ذرية محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - واحد مدة طويلة يأكل ويشرب إلا أنه لا يخبرنا أحد أنه رآه ، واستبعادكم هذا بعيد جدا.
قال يوحنا : إن نبيكم قال : ستفترق أمتي من بعدي ثلاث وسبعين ، واحدة ناجية ، واثنتان وسبعون في النار فهل تعرف الناجية من هي؟
قالوا : إنهم أهل السنة والجماعة لقول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما سئل عن الفرقة الناجية من هم؟ فقال : (الذين هم على ما أنا عليه اليوم وأصحابي) (1).
قال يوحنا : فمن أين لكم أنكم أنتم اليوم على ما كان عليه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
قالوا : ينقل ذالك الخلف عن السلف.
فقال يوحنا : فمن الذي يعتمد على نقلكم؟
قالوا : وكيف ذالك؟
ص: 471
قال : لوجهين :
الأول : أن علماءكم نقلوا كثيرا من الأحاديث التي تدل على إمامة علي - عليه السلام - وأفضليته ، وأنتم تقولون إنه مكذوب عليه ، وشهدتم على علمائكم أنهم ينقلو الكذب فربما بكون هذا يتفق أيضا كذبا ولا مرجح لكم.
الثاني : أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان يصلي كل يوم الصلوات الخمس في المسجد ولم يضبط له أنه هل كان يبسمل للحمد أم لا؟ وهل كان يعتقد وجوبها أم لا؟ وهل كان يسبل يديه أم لا؟ ولو كان يعقدهما فهل يعقدهما تحت اسره أو فوقها؟ وهل كان يمسح في الوضوء ثلاث شعرات أو ربع الرأس أم جميع الرأس؟ حتي إن أئمتكم اختلفوا ، فبعض أوجب البسملة ، وبعض استحبها ، وبعض كرهها ، وبعض أسبل يديه ، وبعض عقدها تحت السرة ، وبعض فوقها ، وبعض أوجب مسح ثلاث شعرات ، وبعض ربع الرأس ، وبعض جميعه ، فإذا كان سلفكم لم يضبط شيئا كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يفعله في اليوم والليلة مرارا متعددة ، فكيف يضبطون شيئا لم يفعله في العمر إلا مرة واحدة أو مرتين ، هذا بعيد! وكيف تقولون إن أهل السنة هم على ما كان عليه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والحال أنهم يناقض بعضهم بعضا في اعتقاداتهم ، واجتماع النقيض محال.
قال يوحنا : فأطرقوا جميعيا ، ودار الكلام بينهم ، وارتفعت الأصوات بينهم ، وقالوا : الصحيح أنا لا نعرف الفرقة الناجية من هي ، وكل منا يزعم أنه هو الناجي ، وأن غيره هو الهالك ، ويمكن أن يكون هو الهالك ، وغيره الناجي.
ص: 472
قال يوحنا هذه الرافضة الذين تزعمون أنهم ضالون يجزمون بنجاتهم ، وهلاك من سواهم ، ويستدلون على ذلك بأن اعتقادهم أوفى للحق ، وأبعد عن الشك.
قالت العلماء : يا يوحنا ، قل وأنا واللّه لا نتهمك لعلمنا أنك تجادلنا على إظهار الحق.
قال يوحنا : أنا أقول باعتقاد الشيعة أن اللّه قديم ولاقديم سواه ، وأنه واجب الوجود ، وأنه ليس بجسم. ولا في محل وهو منزه عن الحلول ، واعتقادكم أنكم تثبتون معه ثمانية قدماء هي الصفات حتى أن إمامكم الفخر الرازي شنع عليكم ، وقال : إن النصارى واليهود كفروا حيث جعلوا مع اللّه إلهين اثنين قديمين وأصحابنا أثبتوا قدماء تسعة ، وابن حنبل أحد أئمتكم قال : إن اللّه على العرش ، وإنه ينزل في صورة أمرد ، فباللّه عليكم أليس الحال كما قلت؟
قالوا : نعم.
قال يوحنا : فاعتقادهم إذا خير من اعتقادكم ، واعتقاد الشيعة إن اللّه سبحانه لا يفعل قبيحا ، ولا يخل بواجب ، وليس في فعله ظلم ، ويرضون بقضاء اللّه لأنه لا يقضي إلا بالخير ، ويعتقدون أن فعله لغرض لا لعبث ، وأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يضل أحدا من عباده ، ولا يحيل بينهم وبين عبادته ، وأنه أراد الطاعة ، ونهى عن المعصية ، وأنهم مختارون في أفعال أنفسهم ، واعتقادكم أنتم أن الفواحش كلها من اللّه - تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا - وأنه كل ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والمعصية والقتل والسرقة والزنا فإنه خلقه اللّه تعالى في فاعليه وأراده منهم وقضى عليهم به ورفع اختيارهم ، ثم يعذبهم عليه ، وأنتم لا ترضون بقضاء اللّه بل
ص: 473
إنّ اللّه تعالى لا يرضى بقضاء نفسه ، وإنه هو الذي أضل العباد وحال بينهم وبين العبادة والايمان ، وإن اللّه تعالى يقول : ( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (1) ، فاعتبروا هل اعتقادكم خير من اعتقادهم أو اعتقادهم خير من اعتقادكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون؟!
وقالت الشيعة : أنبياء اللّه معصومون من أول عمرهم إلى آخره عن الصغائر والكبائر فيما يتعلق بالوحي وغيره عمدا وخطا ، واعتقادكم انه يجوز عليهم الخطأ والنسيان ، ونسبتم ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - سهى في القرآن بما يوجب الكفر فقلتم : إنه صلى الصبح فقرأ في سورة النجم ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ) (2) تلك الغرانين العلى ، منها الشفاعة ترتجى (3) ، وهذا كفر وشرك جلي ، حتي ان بعض علماءكم صنف كتابا فيه تعداد ذنوب نسبها للأنبياء - عليهم السلام - فأجابته الشيعة عن ذلك الكتاب بكتاب سموه بتنزيه الأنبياء (4) ، فماذا تقولون أي الاعتقادين أقرب إلى الصواب ، وأدنى من الفوز؟
واعتقاد الشيعة ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يقبض حتى أوصي إلى من يقوم بأمره بعده ، وانه لم يترك أمته هملا ولم يخالف قوله تعالى ، واعتقادكم انه ترك أمته خملا ، ولم يوص إلى من يقوم بالأمر بعده ، ومن كتابكم الذي أنزل عليكم فيه وجوب الوصية ، وفي حديث
ص: 474
نبيكم وجوب الوصية ، فلزم على اعتقادكم أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمر الناس بما لا يفعله ، فأي الاعتقادين أولى بالنجاة.
واعتقاد الشيعة ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يخرج من الدنيا حتى نص بالخلافة على علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولم يترك أمته هملا فقال له يوم الدار : (أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أمره (1) وأنتم نقلتموه ونقله إمام القزاء والطبري والخركوشي وابن اسحاق.
وقال فيه يوم غدير خم : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) حتى قال له عمر : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، نقله إمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (2). قال فيه لسلمان : (إن وصييي ووارثي علي بن ابي طالب) رواه إمامكم أحمد بن حنبل (3). قال فيه (إن الأنبياء ليلة المعراج قالوا لي : بعثنا على الإقرار بنبوتك ، والولاية لعلي بن أبي طالب) ورويتموه في الثعلبي والبيان وقال فيه : (إنه يحب اللّه ورسوله) ، ورويتموه في البخاري والمسلم (4). وقال فيه (لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني) ، وعنى به علي بن ابي طالب ، وريتموه في الجمع بين الصحيحين ، وقال فيه : (أنت بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ، ورويتموه في البخاري (5). وأنزل اللّه فيه : ( هَلْ أَتَى عَلَى
ص: 475
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) (1) وأنزل فيه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (2) وإنه صاحب آية الصدقة (3) ، وضربته لعمر وبن عبد ود العامري أفضل من عمل الأمة إلى يوم القيامة (4) ، وهو أخو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وزوج ابنته ، وباب المدينة ، إمام المتقين ، ويعسوب الدين ، وقائد الغر المحجلين (5) ، حلال المشكلات ، وفكاك المعضلات ، هو الإمام بالنص الإلهي ، ثم من بعده الحسن والحسين اللذان قال فيهما النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (هذان إمامان قاما أو قعدا ، وأبو هما خير منهما) (6).
وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) (7) ، ثم علي زين العابدين ، ثم أولاد المعصومين الذين
ص: 476
خاتمهم الحجة القائم المهدي إمام الزمان - عليه السلام - الذي من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية (1) ، وأنتم رويتهم في صحاحكم عن جابر بن سمرة أنه قال : سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : (يكون بعدي اثنا عشر أميرا) وقال كلمة لم أسمعها (2) وفي بخاريكم (3) قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : (لا يزال امر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا) ثم تكلم بكلمة خفيفة خفيت على.
وفي صحيح مسلم (لا يزال امر الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (4) ، وفي الجمع بين الصحيحين والصحاح الستة ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (إن الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفه كلهم من قريش) (5).
وروى عالمكم ومحدثكم وثقتكم صاحب كفاية الطالب عن انس ابن مالك ، قال : كنت انا وابوذر وسلمان وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم عند النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إذ دخل الحسن والحسين - عليهما لسلام - فقبلهما رسول اللّه ، وقام أبو ذر فانكب عليهما ، وقبل أيديهما ، ورجع فقعد معنا ، فقلنا له سرا : يا أبا ذر رأيت شيخا من أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقوم إلى صبيين من بني هاشم فينكب عليهما ويقبلهما ويقبل أيديهما؟
ص: 477
فقال : نعم ، لو سمعتم ما سمعت لفعلتم بهما أكثر مما فعلت.
فقلنا : وما سمعت فيهما عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يا أبا ذر؟
فقال : سمعته لعلي ولهما : (واللّه لو أن عبدا صلى وصام حتى يصير كالشن البالي إذا ما نفعه صل ته ولا صومه إلا بحبكم والبراءة من عدوكم.
يا علي ، من توصل إلى اللّه بحقكم فحق على اللّه أن ل يرده خائبا.
يا علي ، من أحبكم وتمسك بكم فقد تمسك بالعروة الوثقى).
قال : ثم قام أبو ذر وخرج فتقدمنا إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فقلنا : يارسول اللّه أخبرنا أبو ذر بكيت وكيت.
فقال : صدق أبو ذر ، واللّه ما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر(1) .
ثم قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : خلقني اللّه تعالى وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق اللّه آدم بسبعة آلاف عام ، ثم نقلنا من صلبه في أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات.
قلت يا رسول اللّه : وأين كنتم؟ وعلى أي شئ شأن كنتم؟
فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : كنا أشباحا من نور تحت العرش نسبح اللّه ونقدسه.
ثم قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لما عرج بي إلى السماء وبلغت
ص: 478
إلى سدرة المنتهى ودعني جبرئيل.
فقلت : يا حبيبي جبرئيل في مثل هذا المقام تفارقني؟
فقال : يا محمد إني لا أجوز هذدا الموضع فتحترق أجنحتي ، ثمن زج بي من النور إلى النور ما شاء اللّه تعالى ، فأوحى اللّه تعالى إلى محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها وجعلتك نبيا ، ثم اطلعت ثانيا فاخترت منها عليا وجعلته وصيك ووارث علمك وإماما منبعدك ، وأخرج من أصلابكم الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي ، ولولا هم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ، ولا الجنة ولا النار ، أتحب أن تراهم؟
فقلت : نعم يا رب ، فنوديت : يا محمد ارفع رأسك ، فرفعت رأسي فإدا أنا بأنوار علي ، والحسن ، والحسن ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري - عليهم افضل الصلاة والسلام -.
فقلت : يا رب من هؤلاء ومن هذا؟
فقال سبحانه وتعالى : هؤلاء الأئمة من بعدك المطهرون من صلبك ، وهذا هو الحجة الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ويشفي صدور قوم مؤمنين.
فقلنا : بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول اللّه لقد قلت عجبا.
فقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : وأعجب من هذا أن أقواما يسمعون هذا مني ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم اللّه ويؤذونني
ص: 479
فيهم لا أنا لهم اللّه شفاعتي (1).
قال يوحنا : واعتقادكم أنتم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما مات مات على غير وصية ، ولمم ينص على خليفته ، وأن عمر بن الخطاب اختار أبا بكر وبايعه وتبعته الأمة ، وأنتم تعلمون كلكم أن أبا بكر وعمر لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تركوه بغير غسل ولا كفن وذهبا إلى سقيفة بني ساعدة فنازعا الأنصار في الخلافة ، وولي أبو بكر الخلافة ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مسجى ، ولا شك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلفه ، وأنه كان يعبد الأصنام قبل أن يسلم أربعين سنة ، واللّه تعالى يقول : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2) ومنع فاطمة إرثها من أبيها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بخبر (رواه).
قالت فاطمة : يا أبا بكر ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئا فريا ، وعارضته بقول اللّه : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (3). ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (4) ، وقال اللّه تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ) (5) ولو كان حديث أبي بكر صحيحا لم يمسك علي بن ابي طالب - عليه السلام - سيف رسولا اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بغلته وعمامته ونازع العباس عليا بعد موته فاطمة - عليها السلام - في ذلك ، ولو كان هذا
ص: 480
الحديث معروفا لم يجز لهم ذلك ، وأبو بكر منع فاطمة - عليها السلام - فدكا لأنها ادعت ذلك ، وذكرت أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نحلها إيا فلم يصدقها في ذلك مع أنها من أهل الجنة ، وأن اللّه تعالى أذهب عنها ارجس الذي هو أعم من الكذب وغيره ، واستشهدت عليا - عليه السلام - وام أيمن مع شهادة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لها بالجنة ، فقال : رجل مع رجل وامرأة ، وصدق الأزواج في ادعاء الحجرة ، ولم يجعل الحجرة صدقة فأوصت فاطمة وصية مؤكدة أن يدفنها علي ليلا حتى لا يصلي عليها أبو بكر (1).
وأبو بكر قال : أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم (2) ، فإن صدق فلا يصح له التقدم على علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وأن كذب فلا يصلح للإمامة ، ولا يحمل هذا على التواضع لجعله شيئا موجبا لفسخ الإمامة ، وحاملا له عليه.
ص: 481
وأبو بكر قال : إن لي شيطانا يعتريني ، فإذا زغت فقوموني (1). ومن يعتريه الشيطان فلا يصلح للإمامة!!
وأبو بكر قال في حقه عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ووقى اللّه المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (2) ، فتبين أن بيعته كانت خطا على غير الصواب ، وأن مثلها مما يجب المقاتلة عليها.
وأبوبكر تخلّف عن جيش أسامة وولّاه عليه، ولم يولّ النبي - صلی اللّه عليه وآله - علی علي أحداً(3).
وأبو بكر لم يوله رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عملا في زمانه قط إلا سورة براءة ، وحين ما خرج أمر اللّه تعالى رسوله بعزله وإعطاها عليا(4) .
وأبو بكر لم يكن عالما بالأحكام الشرعية ، حتى قطع يسار سارق ، وأحرق بالنار الفجأة السلمي التيمي (5) ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (لا يعذب بالنار إلا رب النار)(6) .
ولما سئل عن الكلالة لم يعرف ما يقول فيها فقال : أقول برأيي فإن كان صوابا فمن اللّه ، وإن كان خطأ فمن الشيطان.
وسألته جدة عن ميراثها ، فقال : لا أجد لك في كتاب اللّه شيئا ولا في
ص: 482
سنة محمد ، ارجعي حتى أسأل فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أعطاها السدس وكان يستفي الصحابة في كثير من الأحكام.
وأبو بكر لم يكر على خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة ، ولا في تزويج امرأته ليلة قتله من غير عدة (1).
وأبو بكر بعث إلى بيت أمير المؤمنين - عليه السلام - لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار (2) وفيه فاطمة - عليها السلام - وجماعة من بني هاشم وغيرهم فأنكروا عليه.
وأبو بكر لما صعد المنبر جاء الحسن والحسن وجماعة من بني هاشم وغيرهم وأنكروا عليه وقال له الحسن والحسين - عليها السلام - : هذا مقام جدنا ولست أهلاله (3).
وأبو بكر لما حضرته الوفاة ، قال : ياليتني تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني كنت سألت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : هل للأنصار في هذا الأمر حق؟
وقال : ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين ، وكان هو الأمير وأنا الوزير (4).
ص: 483
وأبو بكر عندكم أنه خالف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في الاستخلاف ، لأنه استخلف عمر بن الخطاب ولم يكن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولاه قط عملا إلا غزوة خيبر فرجع منهزما ، وولاه الصدقات فشا العباس فعزله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وأنكر الصحابة على أبي بكر تولية عمر حتى قال طلحة : وليت عمر فطا غليظا.
وأما عمر ، فإنه أتي إليه بامرأة زنت وهي حامل فأمر برجمها ، فقال علي - عليه السلام - : إن كان لك عليها سبيل فليس لك على حملها من سبيل ، فأمسك وقال : لو لا علي لهلك عمر (1).
وعمر شك في موت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ما مات محمد ولا يموت حتى تلا عليه أبو بكر الاية : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (2) فقال : صدقت ، وقال : كأني لم أسمعها (3).
ص: 484
وجاءوا إلى عمر بأمرة مجنونة قد زنت فأمر برجمها ، فقال له علي - عليه السلام - القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق ، فأمسك ، فقال : لو لا علي لهللك عمر (1).
وقال في خطبة له : من غالي في مهر امرأته جعلته في بيت مال المسلمين ، فقالت له امرأة : تمنعا ما أحل اللّه لنا حيث يقول : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا إتاخذونه بهتانا وإثما مبينا ) (2) فقال : كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت (3).
وكان يعطي حفصة وعائشة كل واحدة منهما مائتي ألف درهم ، وأخذ مائتي ألف درهم من بيت المال فأنكر عليه السملمون فقال : أخذته على وجه القرض (4).
ومنع الحسن والحسين - عليهما السلام - إرثهما من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومنعهما الخمس (5).
وعمر قضي في الحد بسعبين قضية وفضل في العطاء والقسمة ومنع المتعتين وقال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - حلالتان وأنا محرمها ، ومعاقب من فعلهما (6).
ص: 485
وخالف النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأبا بكر في النص وعدمه ، وجعل الخلافة في ستة نفر ، ثم ناقض نفسه وجعلها في أربعة نفر ، ثم في الثلاثة ، ثم في واحد ، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور ، ثم قال : إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالا ، وإن صاروا ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر ، وأن عبد الرحمن بن عوف لا يدل بالامر عن ابن أخته وهو عثمان ، ثم أمر بضرب عنق من تأخر عن البيعة ثلاثة أيام (1).
وعمر أيضا مزق الكتاب كتاب فاطمة - عليها السلام - وهو أنه لما طالت المنازلة بين فاطمة وأبي بكر ، رد عليها فدك والعوالي ، وكتب لها كتابا فخرجت والكتاب في يدها فلقيها عمر فسألها عن شأنها ، فقصت قصتها ، فأخذ منها الكتاب وخرقة (2) ، ودعت عليه فاطمة ، فدخل ، فدخل على أبي بكر ولامه على ذلك ، وأنفقا على منعها.
وأما عثمان بن عفان فجعل الولايات بين أقاربه ، فاستعمل الوليد أخاه لامه على الكوفة ، فشرب الخمر ، وصلى بالناس وهو سكران (3). فطرده أهل الكوفة ، فظهر منه ما ظهر.
وأعطى الاموال العظيمة أزواج بناته الاربع ، فأعطى كل واحد من أزواجهن مائة ألف مثقال من الذهب من بيت مال المسلمين ، وأعطى
ص: 486
مروان ألف ألف درهم من خمس افريقية (1).
وعثمان حمى لنفسه عن المسلمين ومنعهم عنه (2) ، ووقع منه أشياء منكرة في حق الصحابة.
وضرب ابن مسعود (3) حتى مات وأحرق مصحفه وكان ابن مسعود يطعن في عثمان ويكفره.
وضرب عمار بن ياسر صاحب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى صار به فتق (4).
واستحضر أبا ذر من الشام لهوي معاوية وضربه ونفاه إلى الربذة (5) ، مع أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان يقرب هولاء الثلاثة.
وعثمان أسقط القود - عن ابن عمر - لما قتل النوار بعد الاسلام.
وأراد أن يسقط حد الشراب عن الوليدبن عتبة الفاسق ، فاستوفى منه علي - عليه السلام - وخذلته الصحابة حتى قتل ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام ودفنونه في حش كوكب.
ص: 487
وغاب عن المسلمين يوم بدر ويوم أحد ، وعن بيعة الرضوان.
وهو كان السبب في أن معاوية حارب عليا - عليه السلام - على الخلافة ، ثم آل الامر إلى أن سب بنو أمية عليا - عليه السلام - على المنبر ، وسموا الحسن ، وقتلوا الحسين ، وشهروا أولاد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وذريته في البلاد يطاف بهم على المطايا (1) ، فآل الامر إلى الحجاج حتى إنه قتل من آل محمد اثني عشر ألفا وبني كثيرا منهم في الحيطان وهم أحياء ، وكل السبب في هذا أنهم جعلوا الامامة بالاختيار والارادة ، ولو أنهم اتبعوا النص في ذلك ولم يخالف عمربن الخطاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في قوله : «آتوني بدواة وبيضاء لاكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا»(2) ، لما حصل الخلاف وهذا الضلال.
قال يوحنا : يا علماء الدين هؤلاء الفرقة الذين يسمون الرافضة هذا اعتقادهم الذي ذكرنا ، وأنتم هذا اعتقادكم الذي قررناه ، ودلائلهم هذه التي سمعتموها ، ودلائل هذه التي نقلتموها.
فباللّه عليكم أي الفريقين أحق بالامر إن كنتم تعلمون؟
فقالوا بلسان واحد : واللّه إن الرافضة على الحق ، وإنهم المصدقون على أقوالهم ، لكن الامر جرى على ما جرى فإنه لم يزل أصحاب الحق مقهورين ، واشهد علينا يا يوحنا إنا على موالاة آل محمد ، ونتبرأ من أعدائهم ، إلا أنا نستدعي منك أن تكتم علينا أمرنا لان الناس على دين ملوكهم.
قال يوحنا : فقمت عنهم وأنا عارف بدليلي ، واثق باعتقادي بيقين
ص: 488
فلله الحمد والمنة ، ومن يهد اللّه فهو الهتد.
فسطرت هذه الرسالة لتكون هداية لمن طلب سبيل النجاة ، فمن نظر فيها بعين الانصاف أرشد إلى الصواب ، وكان بذلك مأجورا ، ومن ختم على قلبه ولسانه فلا سبيل إلى هدايته كما قال اللّه تعالى : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (1) فإن أكثر المتعصبين ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (2).
اللّهم إنا نحمدك على نعمك الجسام ، ونصلي على محمد وآله المطهرين من الاثام ، مدي الايام ، على الدوام ، إلى يوم القيامة.
إلى هنا ما وقفنا عليه من الكتاب المذكور ، ولله سبحانه الحمد والمنة (3).
ص: 489
يقول - رحمه اللّه - : حين أويت لحرارة الصيف إلى الفئ ، في مسجد من مساجد الري ، رأيت واحدا من أهل سنة (1).
وكان من دهاة أهل السنة وجدته شابا عاقلا فطنا ، ومتكلما كيسا لسنا ، فسلم علي ، وجلس لدي وتكلمنا معا فصار معي مأنوسا ، بعد ما كان من الرفضة باعتقاد مأيوسا ، حتى ما انفك مني لحظة ، ولاغفل عني نوما ولايقظة ، وكنت أنا معه كذلك ، في كل المواقف والمساك.
وقلت له ذات يوم : ايها الشاب العاقل ، والحبيب الفطن الكامل ، انت طالبي وانا مطلبوك ، وحبيبي وانا محبوبك ، لا ينبغي ان تكون في مذهب واكون انا في مذهب سواه ، مع إنا من أولى الالباب بلا اشتباه ، فلا بد أن نتكلم في المذاهب بالانصاف ولا نسلك سبيل التعصب وطريق الاعتساف ، حتى نرى بلا تعصب ونزاع ، أن مذهب أينا أحق بالاتباع ، فيصير الوداد بيننا باطنيا ومعنويا ، بعد ما كان ظاهريا ولفظيا.
فقبل وتبسم ، وقال : ما شئت تكلم.
فقلت له : أخبرني عن رجل اتفق الفريقان على اتصافه بجميع الصفات الكاملة ، واستجماعه بتمام المحاسن الفاضلة ، ما من نعوت محمودة إلا وهو مجمعها ، وما من شموس محمودة إلا وهو مطلعها ، وما من مناقب إلا وهو أبو عذرها ، وما فضائل إلا وهو مجلي مضمارها
ص: 490
وابن بجدتها ، ومن رجل اتفق فريق على اتصافه بالمحامد لكن لا بهذه الدرجة العظمى والمرتبة العليا.
واتفق فريق آخر على كونه منبع الكفر والعصيان ، ومجمع الشرك والطغيان ، أيهما أحق بكونه متبوعا في البين؟
قال : من وقع عليه الاتفاق من الفريقين.
قلت : إن كنت لابد أن ترد زوجتك وبنتك المحبوبتين إلى بلدك ودارك ، ولا يمكنك الذهاب معهما لاضطرارك ، والمفروض أن هذين الرجلين المذكورين يريدان السفر إلى بلدك ، وكل منهما يقبل ان يوصلهما إلى مقامك ومقعدك فأنت أيهما تختار لذلك؟
قال : أختار من وقع إجماع الفريقين على محاسنة في جميع المسالك.
قلت : أترضي أن تفوضهما إلى من وقع الاتفاق على محامده من فريق وعلى مثالبه من آخر ، وترفض من وقع الاجماع على فضائله من الفريقين؟
قال : كلا وحاشا إلا أن أكون معدوم العقل والفطانة ، ومسلوب البصيرة في والكياسة.
قال : لانه لو وقع الفساد من هذا الرجل الممدوح من الفريقين بالنسبة إلى أهلي لم أكن أخجل عند نفسي ولا عند العقلاء ملوما ، بل لم أكن عند أحد مذموما ، بخلاف ما لو فوضت أمرهما إلى من وقع اتفاق فريق على مدحه وإجماع آخر على ذمه فإن وقع منه فساد بالنسبة إليها ذمني العقلاء بل الجهلاء أشد الذم ، ولاموني أتم الملام ، واكون عند نفسي خجلا ، وكلما دار ذلك في خلدي أكون متحسرا ومنفعلا.
ص: 491
قال : ومن شك في ذلك فهو ممن سلب عنه المشاعر والمدارك؟!
ثم قلت : إن كنت سلطانا وغرضك إعلاء الدين نظما وبرهانا وإيصال المنافع إلى الغير وامتياز الشر من الخير ، والفساد من الصلاح ، والنكاح من السفاح ، والجائر من العادل ، والعالم من الجاهل والرفيع من الوضيع والفطيم من الرضيع والعابد من العاصي ، والأذناب من النواصي ، والأداني من الأقاصي ، والحمار من الفرس الشناصي (1) ، والبيوت من الشعر من الصياصي والعاتي من الخاشع ، والطامع من القانع ، أيمكن ذلك بلا نزاع وجدال وتسلط وقهر وغلبة وقتال؟
قال : لا!
قلت : هل يحصل التسلط والقهر والغلبة وتفريق الصفوف ، بدون مد الرماح وإشهار السيوف وإطارة السهام الثواقب وتجهيز العساكر والمقانب ، وإجالة السبوح أو البعير ، وتسديد الرأي والتدبير؟
قال : لا.
قلت : هل يحصل ذلك بلا قائد للفيالق وبدون رئيس راتق وفاتق ، وغطريف ذي كياسة ، وبطريق عارف بقواعد الرئاسة ، وأمير ذي سياسة ، وشجاع صاحب رأي متين ، ومنظم لأمور المجاهدين؟
قال : لا.
قلت : فإذا كان لك ابن متصف بسداد الرأي والتدبير ، وكان شجاعا مقداما وصاحب فطانة وكياسة ، وعارفا بقواعد السياسة ، ومستحقا للرئاسة ، ومفرقا للكتائب ، وممزقا للمقانب ، ومفينا للأعداء والأبطال ،
ص: 492
ومجدلا للأقران والأمثال ، وعالما بقواعد الحرب ، وضوابط القتل والضرب.
وكان ممن يبتغي مرضاتك ولا يتساهل في خدماتك ، ويقول بساستك ويعترف برئاستك ، لا يقول إلا ما قلت ، ولا يحكم إلا ما حكمت ولا يسلك إلا سبيلك ، ولا يرى إلا دليلك بل قد جربته في الغزوات ، ودريت أنه لا يخاف المهلكات ورأيته بذل لك الروح ، وأظهر لك الظفر والفتوح ، وعلمت أنه صاحب العزم ، وتيقنت أنه ثابت الجزم ، وعاينت استقرار سلطنتك من عضده واهتمامه ، وشاهدت جلالتك من ساعده ويده وصمصامه ، هل تجعله أميرا لعسكرك ، وأمينا لضبط أمرك؟
قال : لا شك في ذلك ، بل أجعله صاحب اختيار رعيتي وأهلي وأقاربي في كل المواقف والمسالك.
قلت : هل يمكن أن تدعه مهملا ، وتجعله عن السلطنة عاطلا ، إذا ظهرت آثار موتك ، وبلغ زمان فوتك ، ولا تجعله نائبك وخليفتك ولا تشيد أركان نيابته ، وصرح خلافته ، ما دام لك شعور ، ولا تهوى أن تكون السلطنة في سلالتك ، ولا تشتهي أن تكون الرئاسة في أعقابك؟
قال : كلا وحاشا إلا ان أكون سفيها أو مجنونا!!
قال : بل أجعله نائبي ووصيي وخليفتي ، وألتزم من أهل مملكتي ، أن يصدقوا نيابته ويعترفوا برئاسته ، ويقروا بعد وفاتي سلطته ، بل في حال حياتي لأني مأمون من مخالفته من جميع الوجوه وقاطع باستحقاقه إياها وأظهر جلالته عند العباد وأبدي سلطنته ، في البلاد ، وأسعى في إعلائه وارتفاعه ووجوب رئاسته وقبول اتباعه ، من الأداني والأقاصي ، ومن الأذناب والنواصي ، ومن المطيع والعاصي.
ص: 493
وأفوض إليه الكنوز والصياصي ، لأنه قاتل الأعداء وأهل الشقاق ، ودمر الأشقياء وأصحاب النفاق واستأصل القبائل ، وضيق على الأوغاد والأراذل ، وبذل جهده في إنجاح مأمولي ، وإسعاف مسئولي ، وأوقع نفسه في المعارك ، وصيرها معرضا للمهالك ، واختار نفسي على ذاته ، وآثر حياتي على حياته ، فإن لم أجعله وصيي ووليي وخليفتي وصفيي ، لكنت من أبخل الناس وأسفههم ، وأجهل الخلق وأبلههم ، وأرذل البرايا وأسفلهم وأحط العباد وأكسلهم.
بل إن لم أفعل ذلك لكنت أجعل أهلي وأولادي معرضا للقتل والسبي والاستيصال وأقاربي وعشائري موردا للأفناء والأعدام والاختلال ، وكنوزي عرضة للنهب ، وقصوري منصة للهدم ، لا سيما ابني الذي بذل سعيه في إعانتي ، واهتم في إعلاء درجتي ومرتبتي ، وما قصر في حمايتي ، وما أهمل في كل ما فيه إرادتي ، لأن أعقاب المقتولين ، وعشائر المستأصلين ، ينتهزون الفرصة في الكمين حتى يطلبوا الثارات والدخول ، لما ارتكز في النفوس والعقول ، من طلب ثار المقتول ، ولو بعد أزمنة طويلة وعهود متطاولة فيجعلوه عرضة للأسياف والرماح ، ويعضوه كالكلب النباح ، في الصباح والرواح فيصير مضغة للأكل وفريسة للمفترس الصائل.
قلت : فإذا كان لك خدام أجانب ، ولهم عندك منازل ومراتب فإذا حدث لك أمر من هجوم الأعداء ، وتحتاج إلى المقاتلة في الهيجاء وجهزت العساكر وأردت الجهاد ، وأقبلت على الأعادي وأهل الفساد.
فإذا احتدمت الحرب ، ووقعت صدمات الكسر والضرب ، وظهرت السيوف تعلو وترسب وتجيئ وتذهب ، والرماح تتصعد وتتصوب ،
ص: 494
والسهام تطير يمينا وشمالا وخلفا وقداما ورأوا العثير مثارا ، والجواد صاهلا ، والعسكر صائلا ، والبطل راجزا ، والمضمار متزلزلا ، والدماء فائضة ، والأبدان فيها خائضة ، والرؤوس كالحباب ، والدروع كالسحاب.
تراهم يفرون عن أعادي القتال ويجعلونك معرضا للقتل والنهب والاستئصال ويسعون في نجاتهم حبا لحياتهم ، وابنك الموصوف بين الأبطال والصفوف ، يغزو ويجعله مضربا للسيوف ، ومعرضا للسهام والحتوف ، لا يخاف من الفوت ولا يبالي بالموت ويسعى في طرد الأعداء عنك محصورا ، حتى لا تصير مقتولا أو مأسورا ، ولم يكن هذا العمل ظهر منه في واقعة واحدة ، بل في وقائع متعددة.
وفي كل هذه الوقائع أيضا فر سواه ، ولم تكن ترى في الحرب أحدا عداه ، حتى استقام أمرك بسعيه ، وقام لك عمود السلطنة بوعيه ، وكنت في مدة رئاستك ، وأزمنة سياستك ، من فرارهم في الهيجاء محروق السويدا ، ومن حينهم شديد الألم ، وعظيم الكربة والغم.
فإذا اتفق موتك ، وظهر فوتك مدوا أعناقهم نحو السلطنة وادعوا الرئاسة ، واستحقاق السياسة ، وأمروا ابنك المقدام إلى متابعتهم حتى يجعلوه من رعاياهم ، وقالوا : نحن نشيد صرح السلطنة ونحفظ المملكة ونجعل اسم السلطان مبسوطا ونراعي أولاده ، أترى إن صرت حيا أنهم صادقون في هذا القول والكلام ، بعدما ظهر منهم عدم الاهتمام ، في حال حياتك وعدم الرعاية في نجاتك ، مع كون تنظيم الأمر في ذلك الوقت أصعب وأشكل وفي هذا الزمان أسهل.
قال : لا أصدقهم في هذا القول ، بل أقول بالتسوية بين هذا القول والبول ، لأنهم في زمان كانت الأعادي أقوياء ونحن أضعف من جميع
ص: 495
الوجوه ، وكدت في أكثر الغزوات والوقائع أتوه ، ما اهتموا في تشييد صرح السلطنة ، وتعمير قصر المملكة وتنظيم أمور العباد في الأمكنة والأزمنة ، وما راعو ما يجب رعايته ، وما حفظوا ما يلزم حمايته.
فإذا انتظمت الأمور ، وعمرت البلاد والقصور ، ومن الأعادي خلت الأمكنة ، وقام عمود السلطنة انتهزوا الفرصة ليصيروا ملوكا ، ورام كل واحد منهم أن لا يسمى صعلوكا ، وذلك يدل على متابعتهم الأهواء وابتغاء الرئاسة ، وحبهم صوت النعلين واشتهائهم السياسة ، وإلا لكان ظهر منهم ما ظهر من ابني الباسل المقدام ، وقت هجوم الأعداء اللئام ، ولو ظفروا في تلك الأيام ، لما بقى لنا عين ولا أثر في الأشهر والأعوام ، ولا يستقر أمر السلطنة كما استقر بعد قمعهم ، ولا تنتظم أمور الأبرار كما انتظم بعد جمعهم ، بل استقامة أمور الدين من الجماعة والجمع بمعونة هذا الهزبر المدرع والكمي المقنع.
ثم قال : واللّه لا شك أن هذا بناء على فرضك يدل على متابعتهم الأهواء ، ومن أنكر ذلك معدود من المجانين والسفهاء!!
ثم قلت : أكان علي - عليه السلام - بين الفريقين مجمع المناقب؟
قال : كيف لا ، وهو أسد اللّه الغالب.
قلت : أكان أبو بكر ممدوحا بين أهل السنة؟
قال : نعم.
قلت : أكان محمودا عند الشيعة؟
قال : لا.
قلت : أيكون الدين أعز من الزوجة والبنت أم لا؟
قال : الدين أعز.
ص: 496
قلت : فلم فوضت دينك إلى أبي بكر ورضيت أن تفوض أهلك إلى من لا يكون ممدوح الفريقين؟ فأطرق إلى الأرض مليا.
ثم قلت : ألم يك أمير المؤمنين - عليه السلام - في غزوات المشركين فعل ما فعل كما هو مشهور ، وفي كتب الفريقين مسطور ، وألم يك أبو بكر وعمر فرا كما هو في الألسنة مذكور وفي التواريخ (1) مزبور؟
قال : نعم.
قلت : لم يسعيا في غزوات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مع كونهما مبشرين بالنعيم إن صارا مقتولين ومعززين عند اللّه ورسوله إن كانا حيين ، وحيث لم يسعيا في ذلك الزمان ، أوان ضعف الأسلام والأيمان ، وحين شوكة الشرك والكفر ، بل فرا في كل الغزوات وما خجلا عن رسول الكائنات ، علم أن طلبهم الرئاسة وابتغائهم السياسة ، كان لأجل الغرض ، بل في قلوبهم مرض ، فأطرق أيضا إلى الأرض مليا.
ثم قلت : أنت ما رضيت بأن تترك الوصية لابنك وأهلك وأولادك لئلا تخرج السلطنة عنهم ، ولا يصيرون معرضا للقتل والنهب والأسر والذلة ، فكيف يرضى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ان يموت ولا ينصب عليا - عليه السلام - خليفته وقاضي دينه ومنجز وعده ولا يجعله إمام العباد ، وسلطان البلاد ، مع علمه بغرائز العرب ، وكثرة إفسادهم في حالة الغضب.
حيث يقتلون القبائل ، لطلبهم ثارا واحدا من الأراذل ، ولا ينتهون
ص: 497
عن ابتغائهم الذحول ولو كانوا في ضنك المحول (1) ، وقد زوجه من فلذة كبده ومهجة خلده فاطمة البتول - عليها السلام - ، أيصدر ذلك من الظلوم الجهول ، فضلا عن الرسول سلطان أهل العدل والعقول ، ضرورة أن ذلك موجب لأراقة دمائهم واستئصالهم وسبب لاختلالهم وفساد أحوالهم.
مع أن اللّه تعالى أوجب مودتهم وفرض محبتهم للخلق عجما وعربا وقال : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) وأنزل في
ص: 498
حقهم آية التطهير (1) ، فأطرق إلى الأرض مليا.
قلت له : أيها الشاب الكامل والحبيب الفطن العاقل إن اللّه تعالى نهى عن أخذ التعصب والمراء ، واتباع الأمهات والاباء.
أطلب منك الأنصاف والانحراف عن مسلك الاعتساف ، أو ما قرع سمعك أن من تعود أن يصدق من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة الأنسانية؟
قال : واللّه ما قلت : حق وما نطقت : صدق ، يطابقه النقل ويحكم به بديهة العقل.
فقلت له : إن العقل شاهد صدق ودليل حق ، واللّه تعالى أنعمك به خذ ما يقتضيه ودع متابعة أبيك وأبيه لئلا تصير مستحقا للعقاب ، في يوم الحساب ، لو كان متابعة الأباء حقا والعقل معزولا لما كان أحد معذبا ومسئولا ، مع علمك بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - ما كان مسبوقا بالكفر ، وما عبد الأوثان والأصنام ، وما شرب الخمر ، وما أكل الميتة في الأيام ، وما ذبح على النصب والأزلام ، دون أبي بكر.
وما أخرج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بابه عن المسجد (2)
ص: 499
وأدخله تحت العباء وأثبت له منزلة هارون من موسى (1).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوم خيبر : لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله (2) ، وأرسله لتبليغ سورة برائة (3).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : أنا مدينة العلم وعلي بابها (4) وزوج فاطمة - عليها السلام - منه ، وسماه أمير المؤمنين (5) ويعسوب المؤمنين (6) ، وأبا تراب (7).
ص: 500
وقال له : أنت سيد العرب (1).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : علي خير البشر فمن أبى فقد كفر (2).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين (3) ، وجعله أحد الثقلين.
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إنه مع الحق والحق معه كيفما دار ، وجعل له خمس ذي القربى وما كان لأبي بكر شئ منها ، ونص عليه يوم الغدير ودعا له وقال : اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله (4) ، ونزلت فيه آية التطهير (5) ، وظهر للمباهلة (6).
ص: 501
وأكل الطائر المشوي (1) ، وسقط النجم في داره (2) ، وحرمت الصدقة عليه وعلى أهل بيته (3) ، وفرضت مودته ومودة أهل بيته (4) ، وكان ولداهما سيدي شباب أهل الجنة (5) ، وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - له : أنت قسيم الجنة والنار (6).
وقال : لحمك لحمي (7) الخ ، وما أمر اسامة عليه (8) ، وعلمه ألف باب
ص: 502
من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب (1) ، وآخاه وواساه بنفسه ونام على فراشه ليفديه بنفسه (2) ، وتصدق بخاتمه ونزلت فيه الاية (3) ، وتصدق بأربعة دراهم في الليل والنهار سرا وعلانية (4) ، وتصدق على المسكين والأسير واليتيم (5) ، ونزل فيه ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (6) وأكل مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - طعام الجنة.
وكان حامل لواء الحمد (7) دون أبي بكر ، وكتب في العرش
ص: 503
اسمه (1) - عليه السلام - وكان أستاذا لجبرئيل ، وصعد على منكب خير الأنام لكسر الأصنام (2) ، وكان نفس الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بآية أنفسنا (3) ، ورد الشمس (4) ، وأخبر بالغيب (5).
ص: 504
وكان نوره موجودا قبل ايجاد آدم (1) - عليه السلام - ، واستشفع آدم باسمه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (2).
وذكرت له الشواهد والدلائل ، فلما لقيني في الصباح ، قال : رأيت في الرؤيا كأنك كسوتني شملة بيضاء.
قلت : الحمد لله أهل العظمة والكبرياء ، جزم في اعتقاده ، ورسخ الحق في فؤاده ، ... هذه خلاصة ما جرى بيني وبينه وأقر اللّه تعالى عيني وعينه. (3)
ص: 505
هذا العظيم يعتنق الدين الاسلامي الحنيف وبالخصوص مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - وذلك عام 1353 ه.
ولد أبوان عام 1330 ه في المملكة الهستانية من أبوين مسيحيين وبعد بضع سنين دخل إحدى المدارس هناك ودام فيها ثلاث سنين ، تاقت نفسه يوما لمغادرة بلاده فقصد روسيا ، وفيها واصل دراسته ستة أعوام أخرى فلم يشاهد ثمة في المدرسة إلا المعارضة ضد الدين ، وهذا ما أوجب تركه المدرسة فعزم على مغادرة روسيا فغادرها ، فقبض عليه في الحدود الروسية الأيرانية ، وسجن تسعة عشر يوما ، فاتفق أن وجد في السجن مسلمين أحدهما شيعي فارسي ، والاخر سني تركماني. فجرى حديث إسلامي بينهم فاطلع على شئ من معتقدات الشيعة والسنة حول خلافة الأمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب - عليه السلام - فمال من حينه إلى مذهب الشيعة.
ولنستمع إليه كيف يحدثنا بما جرى له في أيام سجنه مع الرجلين المسلمين :
قال : لما كنت سجينا في روسيا مع المسلمين المذكورين ، رأيت
ص: 506
المسلم السني يتحامل على المسلم الشيعي وينسبه إلى المروق من الدين ، عجبت من ذلك وقلت في نفسي : كيف ينسبه إلى ذلك وهما سيان في العقيدة. سألت الشيعي عن سبب ذلك.
قال : إننا معاشر الأمامية نقول : بخلافة رجل - هو صهر نبينا وابن عمه - من بعد النبي محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بلا فصل وهو الأمام علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وهذا ينفي خلافته كذلك ، وهو السبب في تحامله علي ونسبته لي إلى المروق من الدين.
قال : فتوجهت إلى السني ، وقلت له : إننا في السجن الان ثمانية رجال ولو فرضنا أن لك بنتا واحدة فخطبها منك كل منا كنت تزوج أينا منها؟
أجاب : كنت أزوج أعلمكم وأكرمكم وعدد خصالا حميدة.
فأجبته : فقد أثبت بنفسك أفضلية علي - عليه السلام - على غيره من الصحابة ، إذ لم يزوج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ابنته فاطمة - عليها السلام - إلا إلى علي (1) - عليه السلام - ، مع تقدم غيره من الصحابة عليه في خطبتها (2) منه ، فلم يرد علي جوابا ، انتهى.
ص: 507
فمن ذلك الوقت عاهد ربه في نفسه ، إن خرج من السجن في يوم أضمره في نفسه أن يدخل إيران ويعتنق الدين الأسلامي وبالخصوص مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - ، وما إن حل ذلك اليوم وإذا بالأمر يصدر بإطلاق سراحه بلا سؤال ولا تحقيق.
فدخل إيران وأم خراسان مشهد الأمام الرضا - عليه السلام - وبقي شهرين أو ثلاثة أشهر أظهر فيها رغبته في اعتناق الدين الأسلامي رسميا وبالخصوص مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - وفاء بعهده ، فدخل على العلامة الحجة المغفور له الشيخ مرتضى الأشتياني واعتنق الأسلام على يديه وبالخصوص المذهب الجعفري وسماه أبا ذر كنية الصحابي الجليل جندب بن جنادة أبي ذر الغفاري - رضوان اللّه عليه - الذي ثبت حين انقلب الناس أجمع مع رفاقه الثلاثة سلمان مقداد وعمار.
وأبو ذر (أبوان) يجيد اللغة الفارسية ويتكلم باللغتين الهستانية والروسية كما أنه يقرأ ويكتب فيهما (1).
ص: 508
لطف لماذا أخذتم بمذهب الشيعة وتركتم مذهبكم وما هو السبب الداعي لكم واعتمادكم عليه وما هو دليلكم على أحقية علي - عليه السلام - من أبي بكر؟
فناظرته كثيرا ، وقد وقعت المناظرة فيما بيننا مرارا وأخيرا اقتنع الرجل.
ومن جملة المناظرة أنه سألني عن بيان الأحقية في أمر الخلافة هل أبو بكر أحق أم علي؟
فأجبته إن هذا شئ واضح جدا بأن الخلافة الحقة لأمير المؤمنين علي - عليه السلام - فور وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ثم من بعده إلى الحسن المجتبى - عليه السلام - ثم إلى الحسين الشهيد بكربلاء - عليه السلام - ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين - عليه السلا م - ، ثم إلى محمد بن علي الباقر - عليهما السلام - ، ثم إلى جعفر بن محمد الصادق - عليهما السلام - ، ثم إلى موسى بن جعفر الكاظم - عليهما السلام - ثم إلى علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - ، ثم إلى محمد بن علي الجواد - عليهما السلام - ثم إلى علي بن محمد الهادي - عليهما السلام - ، ثم إلى الحسن بن علي العسكري - عليهما السلام - ، ثم إلى الحجة بن الحسن المهدي الأمام الغائب المنتظر - عجل اللّه فرجه - (1).
ص: 510
ودليل الشيعة على ذلك الكتاب الكريم ، والسنة الثابتة عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الطرفين ، وكتبهم مليئة من الحجج والبراهين الرصينة ، ويثبتون مدعاهم من كتبكم ومؤلفاتكم ، إلا أنكم أعرضتم عن الرجوع إلى مؤلفات الشيعة والوقوف على ما فيها ، وهذا نوع من التعصب الأعمى؟
أما الكتاب :
فقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).
وأن هذه الاية نزلت في ولاية علي بلا ريب ، بأجماع الشيعة وأكثر علماء السنة في كتب التفسير كالطبري (2) ، والرازي (3) ، وابن كثير (4) ، وغيرهم (5) ، فإنهم قالوا بنزولها في علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
ومما لا يخفى على ذي مسكة بأن اللّه جل وعلا هو الذي يرسل الرسل إلى الأمم لا يتوقف أمرهم على إرضاء الناس وكذلك أمر الوصاية تكون من اللّه لا بالشورى ولا بأهل الحل والعقد ولا بالانتخاب أبدا ، لأن الوصاية ركن من أركان الدين واللّه جل وعلا لا يدع ركنا من أركان الدين إلى الامة تتجاذ به أهواؤهم كل يجر إلى قرصه.
بل لابد من أن يكون القائم بأمر اللّه بعده وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - منصوصا عليه من اللّه لا ينقص عن الرسل ولا يزيد ، معصوما
ص: 511
عن الخطأ.
فالاية نص صريح في ولاية علي (1) ، وقد أجمعت الشيعة وأكثر المفسرين من السنة أيضا أن الذي أعطى الزكاة حال الركوع هو علي بلا خلال ، فتثبت ولايته - عليه السلام - أي خلاته بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بهذه الاية.
فأورد علي حجة يدعي بها تدعيم خلافة أبي بكر.
فقال : إن أبا بكر أحق بالاخلافة ، إذ أنه أنفق أموالا كثيرة قدمها إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وزوجه ابنته ، وقام إماما في الجماعة أيام مرض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم.
فأجبته قائلا : أما إنفاق أمواله ، دعوي تحتاج إلى دليل يثبتها ، ونحن لا نعترف بهذا الانفاق ، ولا نقر به ، ثم نقول : من أين اكتسب هذه الاموال الطائلة ، ومن الذي أمره به ، ولنا أن نسألك : هل الانفاق كان في مكة أم المدينة؟ (2)
ص: 512
فإن قلت : في مكة فالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يجهز جيشا ولم يبن مسجدا ، ومن يسلم من القوم يهاجره إلى الحبشة والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - غني بمال خديجة كما يروون.
وإن قلت : بالمدينة فأبو بكر هاجر ولم يملك من المال سوى (600) درهم فترك لعياله شيئا وحمل معه ما بقي ونزل على الانصار ، فكان هو وكل من يهاجر عالة على الانصار ، ثم إن أبا بكر لم يكن من التجار بل كان تارة بزازا يبيع يوم اجتماع الناس أمتعته يحملها على كتفه ، وتارة معلم الاولاد وأخرى نجارا يصلح لمن يحتاج بابا أو مثله.
ص: 513
وأما تزويجه ابنته لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فهذا لا يلزم منه تولي أمور المسلمين به.
وأما صلاته في الجماعة إن صحت - فلا يلزم منها تولي الامامة الكبري والخلافة العظمى فصلاة الجماعة غير الخلافة.
وقد ورد أن الصحابة كان يؤم بعضهم بعضا حضرا وسفرا ، فلو كانت هذه تثبت دعواكم لصح أن يكون منهم حقيق بالخلافة ، ولو صحت لادعاها يوم السقيفة لنفسه لكنها لم تكن آنذاك بل وجدت أيام الطاغية معاوية لما صار الحديث متبحرا.
ثم حديث الجماعة جاء عن ابنته عائشة فقط ، ولا تنسى لما سمع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تكبيرة الصلاة قال : من يؤم الجماعة؟
فقالوا : أبوبكر.
قال : احملوني ، فحملوه بأبي وأمي معصبا مدثرا يتهادي بين رجلين علي والفضل حتى دخل المسجد ، فعزل أبا بكر وأم الجماعة بنفسه ، ولم يدع إبا بكر يكمل الصلاة (1) ، فلو كانت صلاة أبي بكر بإذن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسمل ، أو برضاه فلمذا خرج بنفسه - صلى اللّه عليه واله وسلم - وهو مريض وأم القوم؟
والعجب كل العجب من إخواننا أنهم يقيمون الحجة بهذه الاشياء التي لا تنهض بالدليل ، ويتناسون ما ورد في علي - عليه السلام - من الادلة التي لا يمكن عدها ، كحديث يوم الانذار إذ جمع رسول اللّه - صلى اللّه عليه واله وسلم - عشيرته الاقربين بأمر من اللّه : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
ص: 514
الْأَقْرَبِينَ ) (1) ، فجمعهم الرسو - صلى اللّه عليه وآله وسمل - وكانوا آنذاك أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون ، ووضع لهم طعاما يكفي الواحد منهم فأكلوا جميعهم حتى شبعوا وبعد أن فرغوا.
قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : يا بني هاشم من منكم يؤازرني على أمري هذا فلم يجبه أحد.
فقال علي - عليه السلام. ، أن ا يا رسو لالهل اؤازرك ، قالها ثلاثا ، وفي كل مرة يجيب علي أنا يا رسول اللّه ، فأخذ برقبته وقال : أنت وصيي وخليفتي من بعدي فاسمعواله وأطيعوا (2).
ص: 515
وحديث يوم الغدير المشهور (1). وحديث الثقلين (2) وحديث المنزلة (3) وحديث السفينة (4) وحديث باب حطة (5) ، وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها (6) وحديث المؤاخاة (7) وحديث تبليغ سورة براءة (8).
ص: 516
وسد الابواب (1) ، وقلع باب خيبر (2) ، وقتل عمر بن ود (3) ، وزوج بضعة الرسول فاطمة الزهراء - عليها السلام - ، إلى كثير وكثير من ذلك النمط مما لو أردنا جمعها لملانا المجلدات الضخمة.
أفكل هذه الروايات المتفق عليها لا تثبت خلافة علي - عليه السلام - وتلك الروايات المختلف فيها المفتعلة تثبت لابي بكر تولي منصب الرسالة وهذا شئ عجاب؟!
ثم قال لي : أنتم لا تعترفون بخلافة أبي بكر.
قلت : هذا لا نزاع فيه عندنا ، ولكن ننازع في الاحقية والاولوية ، هل كان أبو بكر أحق بها أم المؤمنين؟ هاهنا النزاع ، ولنا عندئذ نظر في هذا الامر العظيم الذي جر على الامة بلاء وفرق الامة ابتداء يوم السقيفة إلى فرقتين بل إلى أربع فرق ، فالانصار انقسموا على أنفسهم قسمين ، قسم يريد عليا - عليه السلام - وذلك بعد خراب البصرة ، والاخر استسلم وسلم الامر إلى أبي بكر ، وكذلك المهاجرون منهم من يريد أبا بكر والاخر عليا ، ثم إلى فرق تبلغ الثالثة والسبعين كل فرقة تحمل على من سواها من الفرق حملة شعواء لاهوادة فيها ، فجر الامة الاسلامية إلى نزاع دائم عنيف فكفر بعضهم بعضا ولا زالت الامة تخمر في بحور من الدماء من ذلك اليوم المشؤوم إلى يوم الناس هذا ، ثم إلى يوم يأتي اللّه بالفرج.
فالشيعة بر متهم يحكمون بما ثبت عندهم من الادلة قرآنا وسنة وتاريخا ويحتجون من كتب خصومهم السنة فضلا عن كتبهم بالخلافة
ص: 517
لعلي ولبنيه الائمة الاحد عشر - عليهم السلام - الذين تمسكت الشعية بإمامتهم.
إلى غير ذلك من الا دلت أوردتها على فضيلة فسمع واقتنع وخرج من عندنا وهو في ريب من مذهبه ، وشاكرا لنا على ما قدمناه له من الادلة ، وقد طلب مني بعض كتب الشيعة ومؤلفاتهم فأعطيته جملة منها وفيها من كتب الامام الحجة المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين (1).
ص: 518
مناظرة الشيخ الاناطكي مع رجل من أهل حمص (1)
دخل علي يوما في حلب نفران من أهل حمص أحدهما شيعي مستبصر ، والاخر سني مستهتر ، وكانت بينهما مناقشة أولوية علي - عليه السلام - بالاخلافة.
فقال لي الشيعي : يقول صاحبي هذا وهو من أهل السنة ليس هناك نص على علي - عليه السلام ، بأنه الخليفة بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بلا فصل؟!
فسألني السني : هل هناك نص صريح؟
فأجبته : نعم ، بل نصوصو صريحة في كتبكم ومصادركم ، وأحلته على تاريخ الطبري ، وابن الاثير والتفاسير أجمع وذكرت له تفسير آية ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) ، من تاريخ الكامل لابن الاثير (3) والحديث بطوله ، وقدر رواه ابن الاثير بزيادة ألفاظ على ما رواه الطبري (4) إلى أن انتهيت إلى قول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم : أيكم يا بني عبد
ص: 519
المطلب يؤازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ، وأجابه علي لما لم يجبه أحد منهم ، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه واله وسلم - : هذا أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا (1).
ثم قلت له : أيها المحترم أتطلب نصا أصرح من هذا النص؟
فقال : إذا ما صنعوا؟!.
فقهمت من قوله : ما صنعوا ، يشير إلى اجتماعهم في السقيفة وتنازعهم فيمن يختلف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمهاجرون أم أنصار.
فقلت له : هذا ما وقع؟
فقال : عجبا عجبا وانتهى الامر.
وقال قولا في هذا المقام ولا أريد ذكره ، ثم استبصر وذهب حامدا شاكرا (2).
ص: 520
في يوم السابع من شهر ذي القعدة الحرام عام 1371 ه قبيل الظهر أخبرني أحد وجهاء حلب وهو الاستاذ شعبان أبو رسول بإن أحد مشايخ الازهر (1) ، وهو علامة كبير ، ومؤلف شهير يقصد زيارتكم فمتى يأتكم؟
فقلت : يا أهلا وسهلا ، فليشرف في هذا اليوم فجائني بعد العصر ، وبعد أن أخذ بنا المجلس ، ورحبت به.
سألني قائلا : إنني قصدتك للاستفسار عن السبب الذي دعاكم على الاخذ بالمذهب الشيعي وتككم المذهب السني الشافعي؟
فأجبته بكل لطف : الدواعي كثيرة جدا ، منها : رأيت اختلاف المذاهب الاربعة فيما بينهم ، ومنها ، ومنها ، وقد أخذت أعدد له الاسباب
ص: 521
التي دعتني إلى الاخذ بالمذهب الشيعي.
ثم قلت : وأهمها أمر الخلافة العظمى التي هي السبب الاعظم في وقوع الخلاف بين المسلمين إذ لا يعقل أن الرسول الاعظم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يدع أمته بلا وصي عليهم يقوم بأمر الشريعة التي جاء بها عن اللّه كسائر الانبياء ، إذ ما من نبي إلا وله وصي أو أوصياء معصومون يقومون بشريفعته وقد ثبت عندي أن الحق مع الشيعة إذ معتقدهم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد أوصى لعلي - عليه السلام - قبل وفاته بل من بدء الدعوة وبعد أولاده الائمة الاحد عشر ، وأنهم يأخذون أحكام دينهم عنهم ، وهم أئمة معصومون في معتقدهم بأدلة خاصة بهم.
لهذا وأمثاله أخذت بهذا المذهب الشريف ، ثم أنا لم نعثر على دليل يوجب علينا الأخذ بأحد المذاهب الأربعة بل ولا مرجح أيضا غير أننا عثرنا على أدلة كثيرة توجب الأخذ بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وتقود المسلم إلى سواء السبيل.
ثم عرضت له كثيرا من الأدلة القطعية الصريحة بوجوب الأخذ بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وكله سمع يصغي إلي ، إلى أن قلت : يا فضيلة الشيخ أنت من العلماء الأفاضل فهل وجدت في كتاب اللّه وسنة الرسول دليلا ترشدك إلى الاخذ بأحد المذاهب الأربعة ، فأجابني : كلا.
ثم قلت له : ألا تعرف أن المذاهب الأربعة كل واحد منهم يخالف الاخر في كثير من المسائل ولم يقيموا دليلا قويا وبرهانا جليا واضحا على أنه الحق دون غيره وإنما يذكر الملتزم بأحد المذاهب أدلة لاقوام لها إذ ليس لها معضد من كتاب أو سنة فهى : ( كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ
ص: 522
الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ) (1).
مثلا لو سألت الحنفي : لم اخترت مذهب الحنفية دون غيره ، ولم اخترت أبا حنيفة إماما لنفسك بعد ألف عام من موته ، ولم تختر المالكي أو الشافعي ، أو أحمد بن حنبل مع بعض مزاياهم التي يذكرونها فلم يجبك بجواب تطمئن إليه النفس.
والسر في ذلك أن كل واحد منهم لم يكن نبي أو وصي نبي وما كان يوحى إليهم ، ولم يكونوا ملهمين بل أنهم كسائر من ينتسب إلى العلم وأمثالهم كثير وكثير من العلماء.
ثم أنهم لم يكونوا من أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأكثرهم أو كلهم لم يدركوا النبي ولا أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاتخاذ مذهب واحد منهم وجعله مذهبا لنفسه ، والالتزام به وبآرائه التي يمكن فيه الخطأ والسهو .... وكل واحد منهم ذوي آراء متشتتة يخالف بعضها بعضا لا يقره العقل ولا البرهان ولا تصدقه الفطرة السليمة ولا الكتاب ولا السنة ولا حجة لأحد على اللّه في يوم الحساب ، بل لله الحجة البالغة عليها حتى أنه لو سأل اللّه من التزم بأحد المذاهب الأربعة في يوم القيامة بأي دليل أخذت بمذهبك هذا لم يكن له جواب سوى قوله : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (2).
أو يقول : ( إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (3) ، فباللّه عليك يا فضيلة الشيخ هل يكون لملتزمي أحد المذاهب الأربعة يوم
ص: 523
القيامة أمام اللّه الواحد القهار جوابا.
فأطرق رأسه مليا ثم رفع رأسه وقال : لا.
فقلت : هل يكون أحد معذورا بذاك الجواب؟
أجابني : كلا.
ثم قلت : وأما نحن المتمسكين بولاء العترة الطاهرة آل بيت الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - العاملين بالفقه الجعفري فنقول في يوم الحساب عند وقوفنا أمام اللّه العزيز الجبار : ربنا إنك أمرتنا بذلك لأنك قلت في كتابك : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1).
وقال نبيك محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - باتفاق المسلمين (أني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (2). وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) (3).
ولا ريب لأحد أن الأمام الصادق جعفر بن محمد - عليهما السلام - من العترة الطاهرة وعلمه علم أبيه وعلم أبيه علم جده رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعلم رسول اللّه من علم اللّه (4) ، هذا مضافا إلى أن الأمام
ص: 524
الصادق قد اتفق جميع المسلمين على صدقه ووثاقته ، وهناك طائفة كبيرة من المسلمين من يقول بعصمته وإمامته وأنه الوصي السادس لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإنه حجة اللّه على البرية ، وان الأمام الصادق - عليه السلام - كان يروي عن آبائه الطيبين الطاهرين ولا يفتي برأيه ولا يقول بما يستحسنه فحديثه حديث أبيه وجده ، إذ أنهم منابع العلم والحكمة ، ومعادن الوحي والتنزيل.
فمذهب الأمام الصادق - عليه السلام - هو مذهب أبيه وجده المأخوذ عن الوحي لا يحيد عنه قيد شعرة ، لا بالاجتهاد كغيره ممن اجتهد فالاخذ بمذهب جعفر بن محمد - عليهما السلام - ومذهب أجداده آخذ بالصواب ومتمسك بالكتاب والسنة.
وبعد أن أوردت عليه ما سمعت من الأدلة أكبرني وفخم مقامي وشكرني فأجبته : أن الشيعة لا يطعنون على الصحابة جميعا ، بل إن الشيعة يعطون لكل منهم حقهم لأن فيهم العدل وغير العدل ، وفيهم العالم والجاهل ، وفيهم الأخيار والأشرار ، وهكذا ألا ترى ما أحدثوه يوم السقيفة تركوا نبيهم مسجى على فراشه وأخذوا يتراكضون على الخلافة كل يراها لنفسه كأنها سلعة ينالها من سبق إليها مع ما رأوا بأعينهم ، وسمعوا بآذانهم من النصوص الثابتة الصارخة عن الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من يوم الذي أعلن الدعوة إلى اليوم الذي احتضر فيه.
مع أن القيام بتجهيز الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أهم من أمر الخلافة على فرض أن النبي لم يوص فكان الواجب عليهم أن يقوموا بشأن الرسول وبعد الفراغ يعزون آله وأنفسهم ، لو كانوا ذوي إنصاف فأين
ص: 525
العدالة والوجدان ، وأين مكارم الأخلاق ، وأين الصدق والمحبة؟!
ومما يزيد في النفوس حزازة تهجمهم على بيت بضعته فاطمة الزهراء - عليها السلام - نحوا من خمسين رجلا ، وجمعهم الحطب ليحرقوا الدار على من فيها حتى قال قائل لعمر : إن فيها الحسن والحسين وفاطمة ، قال : وإن. ذكر هذا الحادث كثير من مؤرخي السنة (1) فضلا عن إجماع الشيعة.
وقد علم البر والفاجر وجميع من كتب في التأريخ أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب اللّه ومن أغضب اللّه أكبه اللّه على منخريه في النار (2).
ووقائع الصحابة الدالة على عدم القول بعدالة الجميع كثيرة ، راجع البخاري ومسلم في ما جاء عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حديث الحوض تعلم صحة ما ذهب إليه الشيعة ومن نحا نحوهم من
ص: 526
السنة ، فأي ذنب لهم إذا قالوا بعدم عدالة كثير منهم؟ وهم الذين دلوا على أنفسهم ، وحرب الجمل وصفين أكبر دليل على إثبات مدعاهم ، والقرآن الكريم كشف عن سوء أحوال كثير منهم وكفانا سورة براءة دليلا ، ونحن ما أتينا شيئا إذا؟
ألا ترى إلى ما أحدثه الطاغية معاوية ، وعمرو بن العاص ، ومروان وزياد ، وابن زياد ، ومغيرة بن شعبة ، وعمر بن سعد ، الذي أبوه من العشرة المبشرة في الجنة على ما زعموا ، وطلحة ، والزبير ، اللذان بايعا عليا ونقضا البيعة وحاربا إمامهما مع عائشة في البصرة ، وأحدثوا فيها من الجرائم التي لا يأتي بها ذو مروءة.
فليت شعري هل كان وجود النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بينهم موجبا لنفاق كثير منهم ، ثم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بأبي وأمي صار كلهم عدولا.
ونحن لم نسمع قط بأن نبيا من الأنبياء أتى قومه وصاروا كلهم عدولا ، بل الأمر في ذلك بالعكس ، والكتاب والسنة بينتنا على ذلك ، فماذا أنت قائل أيها الأخ المحترم؟
فأجابني : حقا لقد أتيت بما فيه المقنع فجزاك اللّه عني خيرا.
ثم قلت : جاء في كتاب الجوهرة في العقائد للشيخ إبراهيم اللوقاني المالكي :
فتابع الصالح ممن سلفا *** وجانب البدعة ممن خلفا
قال : نعم هكذا موجود.
قلت : أرشدني من هم السلف الذين يجب علينا اتباعهم؟ ومن الخلف الذين يجب علينا مخالفتهم؟
قال : السلف هم صحابة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
ص: 527
قلت : إن الصحابة عارض بعضهم بعضا ، وجرى ما جرى بينهم مما لا يخفى على مثلكم.
فتوقف برهة ثم قال : هم أصحاب القرون الثلاثة.
قلت له : إذا أنت في جوابك هذا قضيت على المذاهب الأربعة لأنهم خارجون عن القرون الثلاثة.
فتوقف أيضا ، ثم قال : ماذا أنت تريد بهذا السؤال؟
قلت : الأمر ظاهر وهو يجب علينا أن نتبع الذين نص عليهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بأن يكونوا قدوة للأمة.
قال : ومن هم؟
قلت : علي بن أبي طالب وبنيه الحسن والحسين وأبناء الحسين التسعة - عليهم السلام - آخرهم المهدي - عجل اللّه فرجه الشريف -.
قال : والخلفاء الثلاثة؟
قلت : الخلاف واقع فيهم فالأمة لم تجتمع عليهم وحدث منهم أعمال توجه عليهم النقد.
قال عجبا : وهذا من رأي الشيعة؟
قلت : وإن يكن ، هل وقع في الصحابة ما ذكرت لكم أم لا.
قال : بلى.
قلت : إذا يجب علينا أن نأخذ بمن اتفقت عليهم الأمة وندع المختلف فيهم ، فالشيعة وهم طائفة كبيرة من الأسلام يكثر عددهم عن مائة مليون وهم منتشرون في الدنيا كما تقدم وفيهم العلماء الأعاظم والفقهاء الأكابر والمحدثين الأفاضل .... فلم يعترفوا بخلافة الثلاثة.
ولكن أهل السنة والجماعة اعترفوا بخلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - ، فخلافة أمير المؤمنين مجمع عليه عند المسلمين عامة وخلافة
ص: 528
الثلاثة ليس بمجمع عليه.
والخلافة بعد أمير المؤمنين علي إلى ولده الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى ولده الأئمة التسعة خاتمهم قائمهم - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - والنصوص في ذلك من كتبكم بكثرة وجاءت الروايات من طرقكم بفضل أهل البيت وتقدمهم على غيرهم وأهمها العصمة.
قال : نحن لا نقول بالعصمة.
قلت : أعلم ذلك ، ولكن الدليل قائم عند الشيعة على ما قلت وسأقدم لك كتابا يقنعك ويرضيك.
قال : إذا ثبت لدي عصمتهم انحل الأشكال بيني وبينك ، فقدمت له الكتاب ، وهو كتاب (الألفين) لأحد أعاظم مجتهدي الشيعة الأمام الأعظم (العلامة الحلي ره) (1) ، فأخذ الكتاب يتصفحه في مجلسه فأكبره وأعجبه هذا السفر العظيم.
ثم قال لي : هل تعلم أن فضيلتك أدخلت علي الريب في المذاهب الأربعة وملت إلى مذهب أهل البيت - عليهم السلام - لكن أريد منك تزويدي ببعض كتب الشيعة.
فقدمت جملة منها له ، ومنها كتب الأمام شرف الدين ودلائل الصدق ، والغدير وأمثالها وأرشدته إلى سائر كتب الشيعة.
ثم ودعني وقام شاكرا حامدا قاصدا إلى محله وهو متزلزل العقيدة وذهب ، ثم بعد أيام أتتني رسالة شكر منه من الأزهر الشريف وأخبرني فيها بأنه قد اعتنق بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وصار شيعيا ، ووعدني أن يكتب رسالة في أحقية مذهب الشيعة (2).
ص: 529
مناظرة الشيخ مغنية (1) مع الشيخ عبد العزيز بن صالح
يقول الشيخ محمد جواد مغنية رحمه اللّه تعالى :
ذهبت الى المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة ، وفيها جميع قضاتها وهم خمسة ، وعليهم رئيس ، كما هي الحال بمكة المكرمة ، دخلت غرفة
ص: 530
أحدهم ، وجلست على بعض مقاعدها ، فنظر إلى القاضي ، وقال : هل من حاجة؟
قلت له : هل أنت قاض؟
قال : نعم ، ونائب الرئيس.
سألته عن اسمه؟
قال : عبد المجيد بن حسن.
قلت : هل تسمح بالاطلاع على سجل الأحكام ، فإني أحب أن أقارن بينها وبين الأحكام في لبنان؟
قال : هل أنت قاض؟
قلت : أجل.
قال : في المحاكم الحنفية ، أو الجعفرية؟
قلت : أنا جعفري ، وشرعت بالحديث عن الأسلام والمسلمين ، وبأي شئ يؤكدون أنفسهم ، ويطورون قواهم اجتماعيا وسياسيا ، وكان يردد قول طيب طيب ، ولا يزيد ، وحين هممت بوداعه قال : إلى أين؟.
قلت : إلى الرئيس الشيخ عبد العزيز بن صالح ، فأرسل معي شرطيا أرشدني إلى غرفته ، فتحت الباب ، ودخلت ، فأهل ورحب.
وابتدأت الحديث بهذا السؤال : كيف تفسرون قول الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : اختلاف أمتي رحمة (1)؟
قال : اختلافهم في الفروع ، لا في الأصول.
قلت : إذن جميع الطوائف الأسلامية من أمة محمد ، لأن الأصول هي
ص: 531
الأيمان باللّه ، والرسول ، واليوم الاخر ، والكل يؤمنون بذلك دون استثناء.
قال : وهناك أصل آخر.
قلت : ما هو؟
قال : خلافة أبي بكر ، وأنها حق له بعد الرسول بلا فاصل.
قلت : الخلافة من الأصول؟!
قال : نعم.
قلت : لقد نفى السنة عنهم هذا القول ، ونسبوه إلى الشيعة الأمامية ، وأنكروه عليهم.
قال : أجمع أهل السنة على أن خلافة أبي بكر من الأصول ، وأصر!!
قلت : لا يثبت أصل من أصول الدين إلا ببديهة العقل ، أو بنص الكتاب نصا صريحا ، أو بسنة تكون بقوة القرآن ثبوتا ، وبدلالة لا اله الا اللّه وضوحا ، أما أخبار الاحاد فليست بشئ في باب الأصول ، وإن كانت حجة في الفروع.
قال : هذا صحيح ، وقد تواتر عن الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إنه قال : يأبى اللّه ورسوله إلا أبا بكر (1).
قلت : كيف يكون هذا متواترا ، ولم يروه البخاري ، ولا احتج به أبو بكر ، ولا عمر ، ولا أحد يوم السقيفة حين رأى الأنصار أنهم أولى من أبي بكر بالخلافة؟
ص: 532
فشرع يتكلم عن الحديث وأقسامه ، ثم أكد مصرا على تواتره ، وأنه لم يخالف في ذلك إلا الشيعة.
ولما لم أجد وسيلة لأقناعه ، قلت له : هل من شرط صحة الحديث أن يثبت عند الجميع ، أو عند من يعمل به فقط؟
قال : بل عند من يعمل به.
قلت : هذا الحديث لم يثبت عند الشيعة لا بطريق التواتر ، ولا بطريق الاحاد ، ولذا لم تكن خلافة أبي بكر عندهم من الأصول ، ولا من الفروع (1).
ص: 533
مناظرة الشيخ القبيسي (1) مع الدكتور الشيخ محمد الزعبي
ص: 534
لقاء سعيد بدون ميعاد.
في يوم من أيام الجمعة المباركة سنة 1967 م بعد فراغنا من صلاة الظهر وقبل مغادرتنا لمكان الصلاة في مسجد الشياح ، بيروت لبنان ، وإذا بدخول شيخ من مشايخ أهل السنة ، من خريجي الأزهر وحملة شهادة الدكتوراه ، وهو من المعاصرين فعلا في بيروت ويصحب الشيخ المذكور بعض الرفقاء من الشباب ، منهم من عرفناه ومنهم من لم تسبق لنا معرفة به ، وبالخصوص فضيلة الشيخ الذي لم يسبق لنا به رؤية قبل لقائنا هذا.
وبعد التحية والسلام والتعارف التام بفضيلة الشيخ مع رفقائه الكرام ، أظهروا الرغبة في الاجتماع معنا ، فرحبنا بهم وشكرناهم على اللقاء الميمون ، فدعوناهم إلى منزلنا الموجود فعلا في محلة الشياح ، وخرجنا من المسجد قاصدين المنزل المذكور وعندما استقر بنا المقام دار بيننا الكلام في جهات شتى ، وكان من جملة الجهات التي طرقها فضيلة الشيخ أن قال - ما يقرب لفظه من هذا مع الحفاظ على حقيقة المعنى - :.
نحن الان في عصر حرج وزمان فاسد ، فينبغي لنا أن نتآلف ونتكاتف لنكافح بعض ما يدهمنا من هذه المفاسد والمصاعب.
أجبته بكل سرور وترحاب قائلا له : هذا ما نحبه ونبتغيه ونتمنى حصوله ، ولو كلفنا ذلك إلى التضحية بكل غال ونفيس ، ولكن يا أخي التآلف والتكاتف يحتاج إلى منهاج ونظام ، وإلا غمرته الفوضى وعمه الفساد والضلال بقدر عدده وكثرة أفراده.
فهل يجوز للعقلاء أن يبذلوا جهدهم ويتعبوا أنفسهم في زيادة الفساد والإفساد بين أهلهم وإخوانهم ومن يعز عليهم؟!
ص: 535
أجاب الشيخ : المنهاج والنظام موجودان وهما القرآن وسنة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وعليهما يكون السير وبهما الالتزام وعليهما المعول في حل جميع المشاكل التي تحدث أو تصير بين أفراد المجتمع ، وعليه فلا يبقى أدنى توقف في هذا المجال الذي ادعيتم عسره وصعوبته.
قلنا له : يا فضيلة الشيخ ، هل القرآن ينظم أمورنا ويحل مشاكلنا؟ فلو صح هذا لوجب أن لا يكون هناك أدنى خلاف أو نزاع بين أفراد المسلمين مع أنه توجد ثلاث وسبعون فرقة (1) ، كلهم يدعي الأسلام ويدعي التمسك بالقرآن والسير على وفق أوامره ونواهيه ، وأكثرهم يتبرأ بعضهم من بعض ويضلل بعضهم بعضا وينسب إلى نفسه الحق والصواب وينسب لغيره الخروج والانحراف.
وهذا أمر لا يمكن لكل مدرك رشيد جحوده أو إنكاره ، سواء كان مسلما أو غير مسلم ، لأن القرآن له وجوه متعددة وفيه الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، ولذا ترى جميع الفئات يخاصمون به ويستدلون به على صحة عملهم وحسن عقائدهم ، حتى المفوضة (2) ، والمجبرة (3) ، والمجسمة (4) ، والملحدة والزنادقة ولذا نطق بذلك القرآن المجيد نفسه
ص: 536
فقال عزوجل : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (1).
وقال تعالى : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) (2) وقال تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) (3).
إذن فالقرآن لا يمكن أن نتمسك به لحل مشاكلنا في كل شئ حتى يوجد من يعرف منه كل شئ ، لأنه هو يخبرنا أنه يوجد فيه كل شئ فاستمع إليه حيث يقول تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (4) ، وقال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (5) ، وقال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (6) ، وقال تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (7) ، وقال تعالى : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
ص: 537
أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (1) ، وقال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (2).
إذن فهنا آيات عديدة توجد في هذا القرآن المجيد ، بعضها تخبر أن في هذا القرآن آيات محكمات ، وهي التي يفهم معناها من ظاهرها كل عربي بدون أدنى توقف أو تردد ولا يختلف في فهمها اثنان من العرب ، وفيه آيات متشابهات يستحيل أن يفهم معناها والمراد منها إلا اللّه والراسخون في العلم ، وهم الأنبياء والأوصياء ومن أخذوا عنهم بحق ، وهناك جماعة إذا سمعوا بعض آيات القرآن زادتهم إيمانا وهم يستبشرون وهناك جماعة إذا سمعوا تلك الايات نفسها زادتهم رجسا إلى رجسهم ، وهناك جماعة تزيدهم آيات اللّه نورا وشفاء ، وهناك جماعة تكون عليهم عمى وخسرانا ، وهناك آيات تثبت لنا أن هذا القرآن جامع مانع لم ينقص منه شئ ولم يخل منه شئ مما يحتاجه العباد إلى يوم الميعاد ، وفيه تبيانا وبيانا لكل شئ.
وهناك آيات تخبرنا أن هذا القرآن قد أخبر اللّه به عن تمام النعمة وكمال الدين بكمال الشريعة بالضرورة ، والحق واضح لكل من طلبه وأراد الالتزام به والسير عليه ، والباطل فاضح لكل من اتبع هواه وأسخط سيده ومولاه.
فإن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد انتقل إلى جوار ربه قبل أن يبلغ عشر معشار ما يحتاج إليه الخلق الموجود في عصره ، فضلا عن الأجيال المتتالية إلى منتهى الأبد ، والمفروض والمقرر بين كافة
ص: 538
المسلمين أنه ليس بعد محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنبياء ولا شرائع ، وحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
إذن فمتى يصح لأحد من المسلمين أن يقول بحق وعدل : أن شريعة الأسلام قد كملت قبل موت الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، إذا اقتصرنا على ما نفهم من هذا القرآن المجيد.
إذن فقد ظهر أيضا أن الأحكام التي ينسبها بعض فرق المسلمين إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لا تفي في حل مشاكل المجتمع وما يحتاج إليه ولذا بعض الفئات اضطرهم الأمر إلى الرجوع إلى القياس والاستحسان ، اللذين ما أنزل اللّه بهما من سلطان ، واللذان يمحقان الدين والشريعة إذا تمسك أهل التدين بهما.
وهنا يحدثنا التاريخ عما جرى لأبي حنيفة مع الأمام الصادق - عليه السلام - قال : دخل أبو حنيفة على الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين - عليهم السلام - ، فقال له : يا أبا حنيفة أنت مفتي أهل العراق؟ قال : نعم.
قال : بم تفتيهم؟ قال : بكتاب اللّه ، قال : أفأنت عالم بكتاب اللّه عزوجل ، ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه؟ قال : نعم.
قال : فأخبرني عن قوله تعالى : ( وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) (1) أي موضع هو؟
قال أبو حنيفة : هو بين مكة والمدينة ، فالتفت الصادق - عليه السلام - إلى جلسائه ، فقال : نشدتكم باللّه هل تسيرون بين مكة والمدينة
ص: 539
ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرقة فقالوا : اللّهم نعم.
قال : ويحك يا أبا حنيفة إن اللّه لا يقول إلا حقا ، ثم قال - عليه السلام - : أخبرني عن قوله تعالى : ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) (1) ، أي موضع هو؟
قال أبو حنيفة : ذلك البيت الحرام ، فالتفت الصادق - عليه السلام - إلى جلسائه ، فقال لهم : نشدتكم باللّه هل تعلمون أن عبد اللّه بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟ قالوا : اللّهم نعم ، فقال - عليه السلام - : ويحك يا أبا حنيفة إن اللّه لا يقول إلا حقا.
فقال أبو حنيفة : ليس لي علم بكتاب اللّه عزوجل ، أنا صاحب قياس قال الصادق - عليه السلام - : فانظر في قياسك إن كنت مقيسا ، أيها أعظم عند اللّه القتل أم الزنا؟
قال : بل القتل.
قال الصادق - عليه السلام - ، فكيف رضي اللّه في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟
ثم قال - عليه السلام - : الصلاة أفضل أم الصيام.
قال : الصلاة أفضل.
قال - عليه السلام - : فيجب على قياسك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب اللّه عليها قضاء الصوم دون الصلاة.
ص: 540
ثم قال - عليه السلام - : البول أقذر أم المني؟
قال : البول أقذر.
قال - عليه السلام - : يجب على قياسك أنه يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب اللّه الغسل عن المني دون البول.
قال أبو حنيفة : إنما أنا صاحب حدود.
فقال - عليه السلام - : فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح ، وأقطع قطع يد رجل ، كيف يقام عليه الحد؟ قال أبو حنيفة : أنا صاحب رأي. قال - عليه السلام - : فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا المرأتين في بيت واحد فولدتا غلامين ، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك ، وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟
قال أبو حنيفة : إنما أنا رجل عالم بمباحث الأنبياء.
قال - عليه السلام - : فأخبرني عن قوله تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى دعوة فرعون : ( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) (1) فلعل ، منك شك؟
قال : نعم.
قال - عليه السلام - : ذلك من اللّه شك إذ قال : لعله.
قال أبو حنيفة : لا أعلم.
قال الصادق - عليه السلام - : يا أبا حنيفة لا تقس فإن أول من قاس إبليس فقال : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) ، فقاس ما بين النار
ص: 541
والطين ، ولو قاس نورية آدم بنورية النار لعرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الاخر.
يا أبا حنيفة : إنك تفتي بكتاب اللّه ولست ممن ورثه ، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس ، ولم يبن دين الأسلام على القياس ، وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - صوابا ومن دونه خطأ لأن اللّه تعالى قال : ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) (1) ، ولم يقل لغيره ، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك ، ولو لا أن يقال : دخل على ابن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلم يسأله عن شئ ما سألتك عن شئ فقس إن كنت قياسا!!
قال أبو حنيفة : لا تكلمت بالرأي والقياس في دين اللّه بعد هذا المجلس.
قال الصادق - عليه السلام - : كلا إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك غيرك من كان قبلك (2).
ثم يأتينا كلام أمير المؤمنين وسيد الوصيين - عليه السلام - فيفند لنا أسباب اختلاف السنة الواردة من رسول - اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - وما كان يعتريها من المصائب والبلايا ، فاستمع إليه أيها القارئ الكريم وهو يحدثنا عن ذلك في نهجه القويم (3) ، وقد سأله سائل عن سبب اختلاف الأخبار التي في أيدي الناس فقال - عليه السلام - : إن في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ،
ص: 542
ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، ولقد كذب على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على عهده حتى قام خطيبا فقال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس.
رجل منافق مظهر للأيمان ، متصنع بالأسلام لا يتأثم ولا يتحرج يكذب على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - متعمدا ، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله ، ولكنهم قالوا : صاحب رسول اللّه رأى وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده - عليه وآله السلام - فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولوهم الأعمال وجعلوهم حكاما على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم اللّه ، فهو أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبا فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به ، وهو لا يعلم فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه
ص: 543
ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على اللّه ولا على رسوله ، مبغض للكذب خوفا من اللّه وتعظيما لرسوله ، ولم يتوهم بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه ، فحفظ الناسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فتجنب عنه ، وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ موضعه ، وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الكلام له وجهان : فكلام خاص وكلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّه به ولا ما عنى رسول اللّه ، فيحمله السامع ويوجهه على غير وجهه ومعناه ، وما قصد به وما خرج من أجله ، وليس كل أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، من كان يسأله ويستفهمه حتى أنهم كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى يسمعوا ، وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألت عنه وحفظته فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم.
هذا هو مفسر القرآن وهذا هو الرجل الرابع من هؤلاء الرواة الذي عرف الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والعام والخاص والمجمل والمبين والمطلق والمقيد ، ولم يغب عنه شئ ولم تخف عليه خافية ولم يشتبه عليه أمر ، وهذا هو كتاب اللّه الناطق العالم بجميع حقائق كتاب اللّه الصامت وهذا هو الذي غذاه رسول اللّه بكل ما نزل عليه من ربه وزقه العلم زقا وعلمه من العلم ألف باب ينفتح له من كل باب ألف باب (1).
ص: 544
وهذا هو الذي بولايته كمل الدين والشرع المبين وتمت بولايته وخلافته النعمة وبإمامته وفرض طاعته على الخلائق أجمع رضي الرحمان وفاض الأحسان ، وهذا هو الذي نطق بولايته كتاب رب العالمين وقرن طاعته بطاعته وطاعة رسوله بدون أدنى تفاوت ، فقال عز من قائل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) ، ثم يزداد في البيان والأيضاح فيقول عزوجل : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2).
هذا الذي كمل بولايته الدين وتمت بخلافته النعمة ورضي بإمامته رب العالمين ، يوم نصبه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وفرض طاعته المطلقة على كل رجل وأنثى وأبيض وأسود وعربي وأعجمي ، وذلك في غدير خم عند رجوعه من حجة الوداع التي شهدها مائة ألف أو يزيدون (3).
ثم انقلب فريق منهم يوم السقيفة ، وأسكر فريقا آخر منهم حب الرئاسة وغنائم الأموال ، وأرهب فريقا آخر التهديد والتنكيل بسيوف أهل السقيفة ، وإرهابهم الأثيم الذين خرجوا شاهرين سيوفهم لم يمر بهم أحد أو لم يمروا بأحد إلا خبطوه ومسحوا يده بيد خليفتهم (4) الجديد ، الذي
ص: 545
ترك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - على فراشه بلا غسل ولا كفن ولا دفن وأسرع لعقد الخلافة وتتميم الأمر قبل الفوات وذهاب الرئاسة من أيديهم التي طالما انتظروها بفارغ الصبر وتعاقدوا عليها وعلقوا صحيفتهم في جوف الكعبة ، وستشهد عليهم يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وأفئدتهم بما كانوا يعملون.
هذا هو صاحب الحق والأولى بالأمر بعد الرسول بلا فصل بأمر من اللّه ورسوله ، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة بإجماع المفسرين لهذه الاية الكريمة وأنها نزلت في علي بن أبي طالب - عليه السلام - حينما تصدق بخاتمه على السائل وهو في صلاته في حال ركوعه حتى نزلت الاية تصفه كما هو عليه.
ولنستمع الان إلى ما يحدثنا عنه من شهد له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بأنه : ( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منه ) (1) ، وهو من حواري رسول اللّه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري - رضوان اللّه عليه -.
عن الأعمش بن غيابة بن ربعي ، قال : بينا عبد اللّه بن عباس جالس
ص: 546
على شفير زمزم : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، إذ أقبل رجل متعمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول اللّه. إلا قال الرجل : قال رسول اللّه ، فقال ابن عباس : سألتك باللّه من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه ، وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا جندب بن جنادة ، البدري أبو ذر الغفاري سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول :
علي - عليه السلام - قائد البررة وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ، أما إني صليت مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللّهم اشهد أني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا وكان علي - عليه السلام - راكعا.
فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلما فرغ النبي من صلاته رفع إلى السماء رأسه وقال : اللّهم إن أخي موسى سألك فقال ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ) (2) ، اللّهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللّهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا
ص: 547
من أهلي عليا أخي اشدد به أزري - ظهري -.
قال أبو ذر : فو اللّه ما استتم رسول اللّه الكلمة حتى نزل جبرئيل من عند اللّه ، فقال : يا محمد اقرأ ، قال وما أقرأ قال أقرأ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) فكبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقال : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2).
وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره ، والطبري (3) ، وأبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن ، وحكاه المغربي والرماني ، وهو قول مجاهد والسدي وهو المروي عن الأمام الباقر والصادق - عليهما السلام - وجميع علماء أهل البيت - عليهم السلام - ورواه السيد أبو الحمد عن أبي القاسم الحسكاني (4) وكثير من ذلك عن مجمع البيان (5) ، فراجع.
ونظم ذلك حسان بن ثابت فقال شعرا (6) :
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي *** وكل بطئ في الهدى ومسارع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا *** زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك اللّه خير ولاية *** وأثبتها مثنى كتاب الشرائع
ص: 548
ويحدث الأصبغ بن نباتة فيقول : لما بويع أمير المؤمنين - عليه السلام - خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لا بسا بردته منتعلا بنعله ومتقلدا بسيفه ، فصد المنبر فجلس متمكنا ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه.
ثم قال : يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني : هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، هذا ما زقني رسول اللّه زقازقا.
سلوني قبل أن تفقدوني ، فإن عندي علم الأولين والاخرين أما واللّه لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الأنجيل بانجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم ، حتى ينطق كل كتاب من كتب اللّه فيقول : صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيه ، ولو لا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1).
ثم قال - عليه السلام - : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أم في نهار مكيتها ومدنيها ناسخها ومنسوخها ، محكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأنبأتكم (2).
هذا هو حجة اللّه على الخلائق أجمعين ومن أنكر خلافته وولايته بعد رسول اللّه فمصيره إلى جهنم وبئس المصير ، وهذا الذي يقول : أنا
ص: 549
كتاب اللّه الناطق والقرآن كتاب اللّه الصامت وأنا أفيد لكم من القرآن ، كما في نهجه القويم.
فظهر أن القرآن والسنة إنما ينفعان إذا رجعنا في أصولنا وفروعنا إلى أهل بيت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الذين نزل عليهم القرآن واستقر في قلوبهم وعرفوا جميع ما يهدف إليه وورثوا علم الرسول ، جدهم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعندهم المنهج الصحيح والنظام علم الرسول وأبناء البتول الذين عصمهم اللّه وطهرهم من الرجس تطهيرا ، لم يشركوا باللّه ولم يشكوا فيه طرفة عين ولم يهموا بما يخالف أمر اللّه ونهيه ، وعندهم علم الأولين والاخرين ولم يترددوا في جواب شئ سئلوا عنه أبدا وعلمهم بتعليم اللّه لهم كابر عن كابر حتى ينتهي أمرهم إلى جدهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وجميع أهل العلم والمعرفة عيال عليهم وهم أغنياء عن جميع الخلق بما منحهم اللّه وفضلهم على كافة الخلق تفضيلا.
فهل عندكم يا فضيلة الشيخ مثيل هؤلاء أم يعتريكم في ذلك شك أو ارتياب؟ ألم ترد الأخبار الصحيحة من جميع حفاظكم عن أعلمكم وأفضلكم ومصدر حقائقكم (عمر بن الخطاب) أنه قال بكل صراحة : لو لا علي لهلك عمر ولا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبو الحسن علي - عليه السلام - (1) فإذا كان عظيمكم هكذا حاله فما حالة من هو لا يساويه ولا يدانيه بعشر معشاره.
ص: 550
وهنا يتوقف الشيخ ويحتار في الجواب وكأنه صار في عالم غير هذا العالم ولكني هونت عليه واختصرت له الكلام بأشد الأيجاز.
فقلت له : يا فضيلة الشيخ لندع الكلام في المواضيع الواسعة المطولة ، ولنقتصر على مسألة واحدة لا غير وعليها يبنى كل شئ ومنها تتفرع الأشياء ، وهنا نسأل فضيلة الشيخ فنقول له : ما تقولون بيوم الشورى ألم تعرض الخلافة على علي بن أبي طالب - عليه السلام - من قبل عبد الرحمن بن عوف قبل أن يعرضها على عثمان بن عفان ، فلماذا نبذها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دونه؟!
أليس لأن عبد الرحمن بن عوف اشترط عليه أن يعمل بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر فكان جواب علي - عليه السلام - لعبد الرحمن ، بل أعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله ، فذهب إلى عثمان فقال : نعم فرجع إلى علي - عليه السلام - وقال له : ابسط يدك لأبايعك على أن تعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين ، فكرر ذلك ثلاثا وفي الجميع يأبي علي - عليه السلام - أن يلتزم بسيرة الشيخين حتى صفق عبد الرحمن على يد عثمان وبارك له بالخلافة (1) تنفيذا لوصية عمر بن الخطاب التي لم تخف على أدنى فاهم رشيد.
فإذا سألنا : لماذا ترك علي بن أبي طالب الخلافة ونبذها حينما أراد عبد الرحمن أن يقيده بسيرة الشيخين؟ ونقول : هل كانت سيرة الشيخين مأخوذة من كتاب اللّه وسنة رسوله ونبذها علي ، ولم يلتزم بهما؟ فإذا كان الأمر كذلك أليس الالتزام بكتاب اللّه وسنة رسوله التزام بسيرة الشيخين
ص: 551
على فرض أنها مأخوذة منهما حتما وضرورة؟!
وما الداعي لعلي أن لا يقبل تقيد الخلافة بسيرة الشيخين إذا فرضنا أنهما مأخوذة منهما أو موافقة لهما على أقل الاحتمالات وأضعفها؟
إذن فترك علي - عليه السلام - للخلافة التي يراها أنها من حقه الخاص دون سواه وهو يعلم جيدا أنه إذا لم يقبلها سيقبلها عثمان وهو يسمع ويرى تنعيمه لعبد الرحمن في كل مرة يعرضها عليه ، ويعلم حقيقة أنه إن أخذها عثمان سيؤول أمرها إلى صبيان وغلمان بني أمية يلعبون بها كما يلعبون بالكرة.
وهو يعلم بدون شك وارتياب أن بني أمية وسيدهم أبو سفيان لم يؤمنوا باللّه ولا برسوله ، وإنما استسلموا للأسلام لتسلم رؤوسهم من القطع ونفوسهم من الأعدام.
فبأي شرع أو نظام يجوز لعلي - عليه السلام - الذي هو نبراس العدل والحنان ومتراس التضحية والجهاد أن يدع حوزة الأسلام ودين اللّه القويم أن يصل لصبيان بني أمية فتلعب به غلمانهم كيفما يشاؤون وهم أعداء الأسلام من أول يوم وجد فيه الأسلام؟!
أيجوز لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - الذي غرس الأسلام بيده وسقاه بدماء أحبائه وأعزائه وضحى في حفظه وصيانته بكل غال ونفيس ، أن يتركه لتترأس على منابره الغلمان وتلعب به الصبيان من بني أمية وبني مروان وهو على يقين من هذا كله؟ لا باللّه هذا لا يقبله عقل ولا وجدان ولا يقوله مخلوق مدى الأجيال والأزمان!!
إذن فلا بد أن يكون الأمر أعظم من هذا وأضخم فلا بد من أن يكون الالتزام بسيرة الشيخين سيكلف عليا خسرانا ووبالا أشد من فقدان الخلافة وخسرانها ولم يوجد شئ في جميع ما نتصور وجوده واحتماله
ص: 552
أنه سيوقع الخسران على علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلا فقدان الدين وخسران العقيدة ورضا الخالق القهار ، وهنا لا بد لعلي ولكل من عرف عليا - عليه السلام - وعرف دين علي وعقيدة علي ورب علي أن يعذر عليا ولا ينسب إليه أدنى لوم أو عتاب لتركه هذه الخلافة إذا كانت تسبب له ذهاب دينه وفقدان عقيدته وسخط سيده وخالقه.
ولا شك ولا ارتياب بأن الذي دعا عليا إلى التوقف عن قبول شرط وعقيدته ورضا خالقه وما أعطاه علي بن أبي طالب من العهد والميثاق لله ولرسوله أنه سيحافظ على هذا الدين ويصون هذه الشريعة الغراء ويبذل في سبيل الحفاظ عليها كل غال ونفيس حتى ولو أدى إلى التضحية بنفسه وولده وجميع عشيرته.
إذن فقد ظهر سبب امتناع علي عن قبوله سيرة الشيخين والعمل بهما حفاظا على دينه وعقيدته ومبدئه ورضا خالقه ومبدعه.
إذن فنحن نكون قد وصلنا إلى النتيجة المتوخاة ، والغاية المطلوبة ، فكيف يا فضيلة الشيخ نتفق وإياكم ونضع يدنا بأيديكم؟
فهل أنتم تتركون التمسك بسيرة الشيخين وتتركون العمل بموجبها؟ أم نحن ندع ديننا وعقيدتنا ورضا خالقنا ونبينا ونتبعكم على سيرة الشيخين ، وبطبيعة الحال سيكلفنا هذا أن ندع إمامنا علي بن أبي طالب - عليه السلام - الذي ترك الخلافة العظمى ولم يقبل الالتزام بتلك السيرة التي أنتم ملتزمون بها من آبائكم وأجدادكم ، ومن زمن ما تبعتم الشيخين ونحن تبعنا شيخنا وسيدنا وعميدنا وإمامنا علي بن أبي طالب وأبناءه الغر الميامين الذين اصطفاهم اللّه وزكاهم وعصمهم وطهرهم من الرجس تطهيرا.
ص: 553
أم نضع أيدينا بأيديكم وأنتم تبقون متمسكين بسيرة الشيخين ، ونحن نبقى نتبع عليا الذي هو نفس الرسول بنص القرآن والسنة ، ولا شك أنا إذا فارقنا عليا يلزمنا أن نفارق ابن عمه محمد - صلى اللّه عليه وآله - ودينهما وعقيدتهما ورضا خالقهما الذين يتنافون مع سيرة الشيخين بنص أبي الحسنين وسيد الكونين.
أتباع كتاب اللّه وسنة رسوله نكون كمن يطلب المحال وكمن يطلب اجتماع الضدين واجتماع المشرق والمغرب والليل والنهار في مكان واحد وأوان واحد!
وهذا ما نراه السبب في عدم اجتماع السنة والشيعة اجتماعا حقيقيا مع تمسك السنة بسيرة الشيخين ، وتمسك الشيعة بكتاب اللّه وسنة نبيه الذين يستحيل اجتماعهما بنص إمام الحق وعدل القرآن علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فدعونا متمسكين بكتاب اللّه وسنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا تلزمونا بما يتنافى معهما ، ونحن معكم على طول الخط بدون أدنى توقف أو تردد ، أجيبونا مأجورين ولكم الفضل العميم والثواب الجزيل والشكر الكثير.
وهنا انتهى المقام وقام فضيلة الشيخ للوداع بعد مضي ما يقارب من أربع ساعات ، فودعناه بأمان وحملناه مزيد الكرامة والسلام ، ولحد الان لم نر له بعد ذلك شخصا أو خيالا فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (1). (2)
ص: 554
قال السني للشيعي : أنتم معشر الشيعة روافض ، والروافض في الدنيا يشملهم العار ، وفي الاخرة مقرهم النار وبئس القرار.
أجاب الشيعي بكل هدوء وسكون : عافاك اللّه يا أخي أليس من العدل والأنصاف أن لا يحكم العاقل على غيره بدون دليل ولا برهان ، فما دليلك على أننا روافض؟ وعلى تقدير صحة ما تقول ، ما هو برهانك على أن علينا في الدنيا العار ، ومصيرنا في الاخرة إلى النار وبئس القرار؟
قال السني : أما كونكم معشر الشيعة روافض لأنكم ترفضون خلافة خلفاء رسول اللّه الراشدين ، وهذا أمر لا يمكن لكل شيعي إنكاره ، وهذا من أكبر العار عليكم.
وأما كونكم مقركم النار وبئس القرار ، لأنه قد قام الأجماع على أن كل من امتنع عن الأقرار بخلفاء رسول اللّه الراشدين ، فهو بمثابة الخروج من الدين ، وهذا أيضا لا يتمكن كل شيعي من إنكاره.
فقال الشيعي : عافاك اللّه يا أخي ، ها أنا شيعي وأنا أتبرؤ من كل من رفض خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وأنا أشهد على كل شيعي قد فهم حقيقة التشيع أنه أيضا يتبرء مثلي من كل من رفض خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فدعواك هذه على الشيعة ظلم وافتراء ، وعار على أمثالك من أهل العلم والفضل أن يتصفوا بهذه الصفات
ص: 555
الذميمة التي قد يتحاشاها أبسط الجهال والعوام ، وحينئذ لا يبقى لحكمك يا أخي على الشيعة بالنار وبئس القرار أدنى قيمة أو اعتبار.
فأين دليلك وبرهانك اللذان قد اعتمدت عليهما في حكمك هذا الجائر الباطل ، وأرجو المسامحة فأنت أحوجتني لهذا المقال؟!
قال السني - وقد استشاط غضبا وغيظا - : ألستم معشر الشيعة ترفضون خلافة أبي بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وخلفائه الراشدين ، وكيف يمكنك أو يمكن لكل شيعي أن ينكر هذا الأمر الذي هو أشهر من نور الشمس عند كل من عرف الشيعة حتى من غير المسلمين ، فما جوابك إن كنت من المنصفين؟
فقال الشيعي : عافاك اللّه يا أخي ما ذكرت غير الذي به حكمت ، وبين الموضوعين بون بعيد وفارق عظيم قد كان حكمك السابق مستندا إلى أن الشيعة ترفض خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، والان تثبت لهم رفضهم لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وهذا موضع آخر غير ما ذكرته سابقا.
لأن نفس هؤلاء الخلفاء الثلاثة وجميع أتباعهم وأشياعهم يستنكرون على كل من يقول : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، قد استخلف وعين له خليفة من بعده أو نص عليه وأخذ له على الناس الخلافة والولاية ، وكلهم يشهدون ويجزمون على أن رسول اللّه قد مات ولم يعين له خليفة ، وهذا شئ كاد أن يكون من خصائص أبي بكر وعمر وعثمان وأشباههم في ذلك العصر ، والباقي أتباع لهم وعنهم قد أخذوا بهذا القول والدعوة التي يدعونها حتى عصرنا الحاضر.
فقولك : إن الشيعة ترفض أو رفضت خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه
ص: 556
عليه وآله وسلم - ، هذا قد تسالم جميع السنة على إنكاره ورفضه ، فمتى صار أبو بكر وعمر وعثمان خلفاء لرسول اللّه وهم أشد المنكرين على الشيعة الذين يدعون أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، قد أوصى في حياته ونص على خليفته وعينه بشخصه وذاته وأخذ له من جميع المسلمين على مشهد مائة ألف أو يزيدون يوم غدير خم بعد رجوعه من حجة الوداع.
ولو نظرت يا أخي بعين الأنصاف لكان عنوان الرافضة يصدق على جماعة السنة بالخصوص دون سواهم ، لأنهم هم رفضوا وصية رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وخالفوه مخالفة صريحة ، وهذه كتبهم وصحاحهم تشهد بذلك بأوضح ما يكون ، وإذا أردت فهم ذلك جليا فعليك بكتاب الغدير للشيخ النجفي حتى تعرف الحقيقة إذا كنت تجهلها ، وأبو بكر وعمر هما أول من بايع خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في غدير خم وعمر هو الذي أعلنها صرخة مدوية في ذلك المكان وهو يقول : بخ بخ لك يابن أبي طالب لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (1) ، حتى قام حسان بن ثابت وأنشد في ذلك الموقف أبياته التي قل أن يخلو منها كتاب مؤرخ من محدثيهم وصحاحهم وإليك بها :
ص: 557
يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا *** ولم ترمنا في الولاية عاصيا
فقال له : قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا : اللّهم وال وليه *** وكن للذي عادى عليا معاديا (1)
وقد أخرج الطبري محمد بن جرير في كتاب الولاية عن زيد بن أرقم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - جعل يقول في ذلك الموقف الرهيب ويخاطب الجموع الغفيرة المتراصة حوله :
معاشر الناس قولوا أعطيناك على ذلك عهدا عن أنفسنا وميثاقا بألسنتنا وصفقة بأيدينا نؤديه إلى أولادنا وأهالينا ، لا نبغي بذلك بدلا وأنت شهيد علينا وكفى باللّه شهيدا ، قال زيد بن أرقم : فعند ذلك بادر الناس يقولون : نعم نعم سمعنا وأطعنا ، وكان أبو بكر وعمر أول من صافق وتداكوا على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعلى علي - عليه السلام -.
وخصوص حديث تهنئة الشيخين رواه من أئمة الحديث والتفسير ما يزيد على ستين محدثا وراويا ومؤرخا وكاتبا راجع الغدير الجزء الأول ص 272 ترى العجب العجيب.
وأما قولك الأخير إن الشيعة ترفض خلافة أبي بكر وعمر وعثمان
ص: 558
فهذا شئ صحيح لا ينكره ولا واحد من الشيعة وقوام الشيعة على هذا الإنكار واستنكار ، وهذا فخر وشرف للشيعة لأن الذي دعاها لإنكار ذلك هو نفس إطاعتها وإذعانها لأمر نبيها محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والثبات على عهده الذي أعطوه إياه في غدير خم بأمر من اللّه تعالى حينما أنزل على نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في ذلك الموضع وألزمه بالتبليغ وهدده إذا هو لم يبادر ويعلن خلافة علي - عليه السلام - من بعده قبل أن تتفرق الجموع الهائلة وتذهب جهوده أدراج الرياح ، فأنزل عليه قوله عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1) ، فلم يكتف بالتهديد حتى أخبره أنك إن لم تفعل فجميع جهادك وجهودك يذهب هباء منثورا ، ولا يترتب عليه أدنى أثر أو نفع ، ولذا تراه بعد قيامه بواجب التبليغ والأعلان نزل قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (2) فجعل النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة من اللّه بولاية أخي وابن عمي وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب - عليه السلام - (3).
وإذا الشيعة رفضت كل من خالف اللّه ورسوله لا خصوص أبي بكر وعمر وعثمان ، وتمسكت بأمر اللّه ورسوله تكون مذمومة ومستحقة لعذاب النار كيف يكون ذلك (4)؟!
ص: 559
مناظرة الدكتور التيجاني (1) مع أحد علماء الزيتونة (2)
يقول الدكتور التيجاني :
والعجيب والغريب أن أغلب المسلمين عندما تذكر له حديث الغدير ، لا يعرفه أو قل لم يسمع به والأعجب من هذا كيف يدعي علماء أهل السنة بعد هذا الحديث المجمع على صحته ، بأن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلف وترك الأمر شورى بين المسلمين.
فهل هناك للخلافة حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد اللّه؟؟ وإني لأذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونية في بلادنا عندهما ذكرت له حديث
ص: 560
الغدير محتجا به على خلافة الأمام علي - عليه السلام - فاعترف بصحته ، بل وزاد في الحبل وصلة فأطلعني على تفسيره للقرآن الذي ألفه بنفسه ، والذي يذكر فيه حديث الغدير ويصححه ، ويقول بعد ذلك :
(وتزعم الشيعة بأن هذا الحديث هو نص على خلافة سيدنا علي - كرم اللّه وجهه - ، وهو باطل عند أهل السنة والجماعة لأنه يتنافى مع خلافة سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق وسيدنا عثمان ذي النورين ، فلا بد من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى المحب والناصر ، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم ، وهذا ما فهمه الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام - رضي اللّه تعالى عليهم أجمعين - ، وهذا ما أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين ، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا الحديث لأنهم لا يعترفون بخلافة الخلفاء ويطعنون في صحابة الرسول وهذا وحده كاف لرد أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم) انتهى كلامه في الكتاب.
سألته : هل الحادثة وقعت بالفعل في غدير خم (1)؟
أجاب : لو لم تكن وقعت ما كان ليرويها العلماء والمحدثون!
قلت : فهل يليق برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن يجمع أصحابه في حر الشمس المحرقة ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم : بأن علي محبكم وناصركم؟ فهل ترضون بهذا التأويل؟
أجاب : إن بعض الصحابة اشتكى عليا وكان فيهم من يحقد عليه ويبغضه ، فأراد الرسول أن يزيل حقدهم ، فقال لهم : بأن عليا محبكم وناصركم ، لكي يحبوه ولا يبغضوه.
ص: 561
قلت : هذا لا يتطلب إيقافهم جميعا والصلاة بهم وبدأ الخطبة بقوله : ألست أولى بكم من أنفسكم ، لتوضيح معنى المولى ، وإذا كان الأمر كما تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن اشتكى منهم عليا : (إنه محبكم وناصركم) ، وينتهي الأمر بدون أن يحبس في الشمس ، تلك الحشود الهائلة وهي أكثر من مائة ألف فيهم الشيوخ والنساء ، فالعاقل لا يقنع بذلك أبدا!
فقال : وهل العاقل يصدق بأن مائة ألف صحابي لم يفهموا ما فهمت أنت والشيعة؟؟
قلت : أولا لم يكن يسكن المدينة المنورة إلا قليل منهم.
وثانيا : إنهم فهموا بالضبط ما فهمته أنا والشيعة ، ولذلك روى العلماء بأن أبا بكر وعمر كانا من المهنئين لعلي بقولهم : بخ بخ لك يابن أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن (1).
قال : فلماذا لم يبايعوه إذا بعد وفاة النبي؟ أتراهم عصوا وخالفوا أمر النبي؟ أستغفر اللّه من هذا القول!
قلت : إذا كان العلماء من أهل السنة يشهدون في كتبهم بأن بعضهم - أعني من الصحابة - كانوا يخالفون أوامر النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حياته وبحضرته (2) ، فلا غرابة في ترك أوامره بعد وفاته ، وإذا كان أغلبهم يطعن في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنه رغم أنها سرية محدودة ولمدة قصيرة فكيف يقبلون تأمير علي على صغر سنه ولمدة الحياة ،
ص: 562
وللخلافة المطلقة؟ ولقد شهدت أنت بنفسك بأن بعضهم كان يبغض عليا ويحقد عليه!!
أجابني متحرجا : لو كان الأمام علي - كرم اللّه وجهه ورضي اللّه عنه - يعلم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - استخلفه ، ما كان ليسكت عن حقه وهو الشجاع الذي لا يخشى أحدا ويهابه كل الصحابة.
قلت : سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه لأنك لم تقتنع بالأحاديث النبوية الصحيحة ، وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظا على كرامة السلف الصالح ، فكيف أقنعك بسكوت الأمام علي أو باحتجاجه عليهم بحقه في الخلافة؟
ابتسم الرجل قائلا : أنا واللّه من الذين يفضلون سيدنا عليا - كرم اللّه وجهه - على غيره ، ولو كان الأمر بيدي لما قدمت عليه أحدا من الصحابة ، لأنه باب مدينة العلم وهو أسد اللّه الغالب ، ولكن مشيئة اللّه سبحانه هو الذي يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء ، ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (1).
ابتسمت بدوري له ، وقلت : وهذا أيضا موضوع آخر يجرنا للحديث عن القضاء والقدر ، وقد سبق لنا أن تحدثنا فيه وبقي كل منا على رأيه ، وإني لأعجب يا سيدي لماذا كلما تحدثت مع عالم من علماء أهل السنة وأفحمته بالحجة سرعان ما يتهرب من الموضوع إلى موضوع آخر لا علاقة له بالبحث الذي نحن بصدده.
قال : وأنا باق على رأيي لا أغيره.
ص: 563
ودعته وانصرفت. بقيت أفكر مليا لماذا لا أجد واحدا من علمائنا يكمل معي هذا المشوار ويوقف الباب على رجله ، كما يقول المثل الشائع عندنا.
فالبعض يبدأ الحديث ، وعندما يجد نفسه عاجزا عن إقامة الدليل على أقواله يتملص بقوله : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ) (1) والبعض يقول ما لنا ولأثارة الفتن والأحقاد فالمهم أن السنة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي ، والبعض يقول بإيجاز : يا أخي اتق اللّه في الصحابة ، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث العلمي وإنارة السبيل والرجوع للحق الذي ليس بعده إلا الضلال؟ وأين هؤلاء من أسلوب القرآن الذي يدعو الناس لأقامة الدليل : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (2) مع العلم بأنهم لو يتوقفون عن طعنهم وتهجمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتى بالتي هي أحسن (3).
ص: 564
قلت لأحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الأبرياء وهتك الأعراض وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد.
وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول وأباح المدينة (1) لجيشه وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد ، حتى قال بعضكم : (قتل الحسين بسيف جده) (2) لتبرير فعل يزيد.
فلماذا لا أجتهد أنا في البحث ، وهو ما يجرني للشك في الصحابة وتعرية البعض منهم وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة ، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر (واحد) ، على أن انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السب والشتم واللعن ، وإنما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضالة.
وهذا واجبي وواجب كل مسلم ، واللّه سبحانه يعلم السرائر وما تخفي الصدور.
أجابني العالم قائلا : يا بني لقد أغلق باب الاجتهاد من زمان.
ص: 565
فقلت : ومن أغلقه؟
قال : الأئمة الأربعة.
فقلت متحررا : الحمد لله إذ لم يكن اللّه هو الذي أغلقه ولا رسول اللّه ولا الخلفاء الراشدون الذين (أمرنا بالاقتداء بهم) فليس علي حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا.
فقال : لا يمكنك الاجتهاد إلا إذا عرفت سبعة عشر علما ، منها علم التفسير واللغة والنحو والصرف والبلاغة والأحاديث والتاريخ وغير ذلك.
وقاطعته قائلا : أنا لن أجتهد لأبين للناس أحكام القرآن والسنة أو لأكون صاحب مذهب في الأسلام ، كلا ، ولكن لأعرف من على الحق ومن على الباطل ، ولمعرفة إن كان الأمام علي على الحق ، أو معاوية مثلا ، ولا يتطلب ذلك الأحاطة بسبعة عشر علما ، ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتى أتبين الحقيقة.
قال : وما يهمك أن تعرف ذلك : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).
قلت : أتقرأ (ولا تسألون) بفتح التاء أم بضمها؟
قال : تسألون بالضم.
قلت : الحمد لله لو كانت بالفتح لامتنع البحث ، وما دامت بالضم فمعناها أن اللّه سبحانه سوف لن يحاسبنا عما فعلوا وذلك كقوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (2) ، و ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا
ص: 566
سَعَى ) (1).
وقد حثنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الأمم السابقة ولنستخلص منها العبرة ، وقد حكى اللّه لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الأنبياء السابقين وشعوبهم ، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل.
أما قولك : (وما يهمني من هذا البحث)؟
فأجيب عليه بقولي : يهمني :
أولا : لكي أعرف ولي اللّه فأواليه ، وأعرف عدو اللّه فأعاديه ، وهذا ما طلبه مني القرآن بل أوجبه علي.
ثانيا : يهمني أن أعرف كيف أعبد اللّه وأتقرب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جل وعلا ، لا كما يريدها مالك أو أبو حنيفة أو غيرهم من المجتهدين لأني وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصلاة (2) بينما يقول أبو حنيفة بوجوبها (3) ، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها!
وبما أن الصلاة هي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها ، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة ، كما أن الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنة بغسلهما بينما نقرأ في القرآن ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (4) وهي صريحة في المسح ، فيكف
ص: 567
تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويرد قول ذاك بدون بحث ودليل.
قال : بإمكانك أن تأخذ من كل مذهب ما يعجبك لأنها مذاهب إسلامية وكلهم من رسول اللّه ملتمس.
قلت : أخاف أن أكون ممن قال اللّه فيهم : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) (1). يا سيدي أنا لا أعتقد بأن المذاهب كلها على حق ما دام الواحد منهم يبيح الشئ ويحرمه الاخر ، فلا يمكن أن يكون الشئ حراما وحلالا في آن واحد والرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يتناقض في أحكامه لأنه (وحي من القرآن) ، ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (2). وبما أن المذاهب الأربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند اللّه ولا من عند رسوله لأن الرسول لا يناقض القرآن.
ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيا وحجتي مقبولة.
قال : أنصحك لوجه اللّه تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين ، فهم أعمدة الأسلام الأربعة إذا هدمت عمودا منها سقط البناء!!
قلت : استغفر اللّه يا سيدي فأين رسول اللّه إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الأسلام؟
أجاب : رسول اللّه هو ذاك البناء! هو الأسلام كله.
ابتسمت من هذا التحليل وقلت : استغفر اللّه مرة أخرى يا سيدي
ص: 568
الشيخ فأنت تقول من حيث لا تشعر : بأن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يكن ليستقيم إلا بهؤلاء الأربعة بينما يقول اللّه تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) (1).
فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الأربعة ولا من غيرهم ، وقد قال اللّه تعالى في هذا الصدد : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (2).
قال : هذا ما تعلمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا نناقش ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد أصبحتم تشكون في كل شئ وتشككون في الدين ، وهذه من علامات الساعة فقد قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق (3).
فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل ، أعوذ باللّه أن أشك في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت باللّه وحده لا شريك له وملائكته وكتبه ورسله ، وآمنت بأن سيدنا محمدا عبده ورسوله وهو أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتهمني بهذا؟
قال : أتهمك بأكثر من هذا لأنك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي
ص: 569
بكر لرجح إيمان أبي بكر (1).
وقال في حق سيدنا عمر : عرضت علي أمتي وهي ترتدي قمصا لم تبلغ الثدي وعرض علي عمر وهو يجر قميصه ، قالوا : ما أولته يا رسول اللّه؟ قال : الدين (2).
وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر ، ألم تعلم بأن أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق!!
ماذا أقول لهذا العالم المدعي العلم الذي أخذته العزة بالأثم ، فتحول من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء وبث الأشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به والذين احمرت أعينهم وانتفخت أوداجهم ولاحظت في وجوههم الشر.
فما كان مني إلا أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للأمام مالك وصحيح البخاري ، وقلت : يا سيدي إن الذي بعثني على هذا الشك
ص: 570
هو رسول اللّه نفسه ، وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول اللّه إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال : (إننا لكائنون بعدك (1).
ثم فتحت صحيح البخاري وفيه : دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال - حين رآها - : من هذه؟ قالت : أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه ، قالت أسماء : نعم ، قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول اللّه منكم ، فغضبت وقالت : كلا واللّه ، كنتم مع رسول اللّه يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في اللّه وفي رسوله ، وأيم اللّه لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي أسأله واللّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه ، فلما جاء النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قالت : يا نبي اللّه ، عمر قال : كذا وكذا.
قال : فما قلت له. قالت : كذا وكذا.
قال : ليس بأحق بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ، قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شئ هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (2).
ص: 571
وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ينتظرون رد العالم الذي صدم فما كان منه إلا أن رفع حاجبيه علامة التعجب وقال : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) (1).
فقلت : إذا كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو أول من شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يقر بتفضيل عمر بن الخطاب على أسماء بنت عميس بل فضلها عليه ، فمن حقي أن أشك وأن لا أفضل أحدا حتى أتبين وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أن هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها ، لأنهما أقرب إلى الواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة.
قال الحاضرون : وكيف ذلك؟
قلت : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يشهد على أبي بكر ، وقال له إنني لا أدري ماذا تحدثون بعدي! فهذا معقول جدا وقد قرر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدلوا بعده ولذلك بكى أبو بكر ، وقد بدل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول ، وقد بدل حتى ندم قبل وفاته (2) وتمنى أن لا يكون بشرا.
أما الحديث الذي يقول : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر (3) ، فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل
ص: 572
قضى أربعين سنة من عمره يشرك باللّه ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمة محمد بأسرها ، وفيها أولياء اللّه الصالحين والشهداء والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلها جهادا في سبيل اللّه ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا.
ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء فاطمة بنت الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، تغضب عليه وتدعو اللّه عليه في كل صلاه تصليها (1).
ولم يرد العالم بشئ ، ولكن بعض المجالسين قالوا : لقد بعث واللّه هذا الحديث الشك فينا ، عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم!!
وكفاني أحدهم الرد عليه ، إذ قال : كلا ، إن الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملا ، واتبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبين لنا الان أن ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث!! ووافقه على رأيه بعض الحاضرين ، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة ، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنه انتصار العقل والحجة والبرهان ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (2).
ذلك ما دفعني وشجعني على الدخول في البحث وفتح الباب على مصراعيه فدخلته باسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه ، راجيا منه سبحانه وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كل باحث عن الحق وهو لا يخلف وعده (3).
ص: 573
الصورة
ص: 574
الصورة
ص: 575
الصورة
ص: 576
الصورة
ص: 577
(1) فهرس الآيات
(2) فهرس احاديث المعصومين (عليهم السلام)
(3) فهرس الآثار والأقوال
(4) فهرس اسماء المعصومين (عليهم السلام)
(5) فهرس الأعلام
(6) فهرس أعلام النساء
(7) فهرس الكنى
(8) فهرس الألقاب
(9) فهرس الأشعار
(10) فهرس الوقائع والأحداث
(11) فهرس الأماكن والبقاع
(12) فهرس الملل والنحل والقبائل
(13) فهرس مصادر الكتاب
(14) الفهرس الموضوعي التفصيلي العام للكتاب
(15) الفهرس الاجمالي للكتاب
ص: 578
الموضوع / الصفحة
الإهداء... 5
تقريض الاستاذ فرات الأسدي (قصيدة) (1)... 7
تقريض الشيخ محمدباقر الأيرواني (قصيدة) (2)... 9
تقديم... 10
المقدمة... 15
حكم المناظرة في الشريعة الأسلامية... 21
تمهيد :... 21
أقسام المناظرة... 23
المناظرة المشروعة... 23
المناظرة غير المشروعة... 30
آداب المناظرة... 32
تاريخ الاحتجاج والمناظرة في الخلافة الاسلامية... 36
احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة ومطالبته بحقه... 36
احتجاج فاطمة الزهراء - عليها السلام - في الخلافة... 51
احتجاج الأمام الحسين بن علي - عليه السلام -... 54
احتجاج العباس بن عبد المطلب... 54
ص: 579
احتجاج الفضل بن العباس... 55
احتجاج ابن عباس... 56
احتجاج سلمان المحمدي... 56
احتجاج أبي ذر... 57
احتجاج المقداد... 58
احتجاج قيس بن سعد بن عبادة... 59
احتجاج أبي سفيان... 59
المناظرة الأولى : مناظرة العباس بن عبد المطلب (رحمه اللّه) مع أبي بكر وعمر... 61
المناظرة الثانية : مناظرة العباس بن عبد المطلب مع عمر... 64
المناظرة الثالثة : مناظرة ابن عباس مع عمر بن الخطاب... 65
المناظرة الرابعة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 68
المناظرة الخامسة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 70
المناظرة السادسة : مناظرة ابن عباس مع عمر بن الخطاب... 71
المناظرة السابعة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 75
المناظرة الثامنة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 76
المناظرة التاسعة : مناظرة ابن عباس مع عثمان... 78
المناظرة العاشرة : مناظرة عبد اللّه بن عباس - رضي اللّه عنهما - مع الحرورية... 79
المناظرة الحادية عشر : مناظرة ابن عباس مع معاوية بن ابي سفيان... 83
المناظرة الثانية عشر : مناظرة محمد بن أبي بكر مع معاوية... 86
المناظرة الثالثة عشرة : مناظرة عبد اللّه بن جعفر مع معاوية بن أبي سفيان... 92
المناظرة الرابعة عشرة : مناظرة قيس بن سعد وابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان... 106
المناظرة الخامسة عشرة : مناظرة أروى بنت الحارث بن عبد المطلب... 115
ص: 580
المناظرة السادسة عشرة : مناظرة دارمية الحجونية مع معاوية... 120
المناظرة السابعة عشرة : مناظرة برد الهمداني مع عمرو بن العاص... 123
المناظرة الثامنة عشرة : مناظرة حرة بنت حليمة السعدية مع الحجاج... 125
المناظرة التاسعة عشرة : مناظرة الحسن البصري مع الحجاج... 130
المناظرة العشرون : مناظرة أبان بن عياش مع الحسن البصري... 132
المناظرة الحادية والعشرون : مناظرة رجل من بني هاشم مع عمر بن عبد العزيز... 134
المناظرة الثانية والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع بعض المتكلمين في مجلس الرشيد 140
المناظرة الثالثة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع يحيى بن خالد البرمكي... 143
مناظرة الرابعة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع بيان وضرار في مجلس يحيى بن خالد 145
المناظرة الخامسة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع عالم شامي بمحضر الصادق - عليه السلام - 152
المناظرة السادسة والعشرون : مناظرة هشام مع عمرو بن عبيد في مسجد البصرة... 157
المناظرة السابعة والعشرون : مناظرة هشام مع أبي عبيدة المعتزلي... 161
المناظرة الثامنة والعشرون : مناظرة هشام مع بعض المتكلمين... 163
المناظرة التاسعة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع ضرار بن عمرو الضبي... 164
المناظرة الثلاثون : أيضا مناظرة هشام مع ضرار... 166
المناظرة الحادية والثلاثون : مناظرة مؤمن الطاق مع ابن أبي خدرة... 167
ص: 581
المناظرة الثانية والثلاثون : مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة... 175
المناظرة الثالثة الثلاثون : مناظرة فضال بن الحسن مع أبي حنيفة... 176
المناظرة الرابعة والثلاثون : مناظرة رجل مع أبي الهذيل العلاف... 179
المناظرة الخامسة والثلاثون : مناظرة الهيثم بن حبيب الصيرفي مع ابي حنيفه... 187
المناظرة السادسة والثلاثون : مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم مع ضرار... 189
المناظرة السابعة والثلاثون : مناظرة علي بن ميثم مع بعضهم... 191
المناظرة الثامنة والثلاثون : مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم مع بعضهم... 193
المناظرة التاسعة والثلاثون : مناظرة المأمون مع الفقهاء... 197
المناظرة الاربعون : مناظرة المأمون مع علماء العامة... 217
المناظرة الحادية والأربعون : مناظرة ابن شاذان النيسابوري مع بعضهم... 248
المناظرة الثانية والأربعون : مناظرة الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) مع ركن الدولة... 252
المناظرة الثالثة والاربعون : مناظرة المفيد مع عمر في المنام... 265
المناظرة الرابعة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع القاضي أبي بكر بن سيار... 270
المناظرة الخامسة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع الكتبي ورجل من المعتزلة... 275
المناظرة السادسة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع رجل من أصحاب الحديث... 277
المناظرة السابعة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع بعضهم... 281
المناظرة الثامنة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر بن صراما... 289
المناظرة التاسعة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم ردا على الحشوية والمعتزلة 294
المناظرة الخمسون : مناظرة المفيد (رحمه اللّه) مع شيخ من المعتزلة... 298
ص: 582
المناظرة الحادية والخمسون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع الرماني... 301
المناظرة الثانية والخمسون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع بعض مشايخ العباسيين في سامراء 303
المناظرة الثالثة والخمسون : مناظرة الكراجكي مع رجل من العامة... 306
المناطرة الرابعة والخمسون : مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي مع أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي 310
المناظرة الخامسة والخمسون : مناظرة ابن طاووس مع رجل حنبلي... 316
المناظرة السادسة والخمسون : مناظرة ابن طاووس مع رجل من الزيدية... 318
المناظرة السابعة والخمسون : مناظرة ابن طاووس مع فقيه من المستنصرية... 323
المناظرة الثامنة والخمسون : مناظرة العلامة الحلي مع علماء المذاهب الأربعة... 331
المناظرة التاسعة والخمسون : مناظرة أبي القاسم بن محمد الحاسمي مع رفيع الدين حسين 337
المناظرة الستون : مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي مع الهروي في خراسان... 347
المناظرة الحادية والستون : مناظرة مع قطب الدين عيسى... 409
المناظرة الثانية والستون : مناظرة يوحنا مع علماء المذاهب الأربعة في بغداد... 418
المناظرة الثالثة والستون : مناظرة الشيخ محمد باقر المازندراني مع رجل من العامة... 490
ص: 583
المناظرة الرابعة والستون : مناظرة أبوان المسيحي الكاثوليكي مع رجل تركماني في السجن 506
المناظرة الخامسة والستون : مناظرة الأنطاكي مع عالم شافعي من الشام... 509
المناظرة السادسة والستون : مناظرة الشيخ الاناطكي مع رجل من أهل حمص... 519
المناظرة السابعة والستون : مناظرة الشيخ الانطاكي مع أحد مشايخ الازهر... 521
المناظرة الثامنة والستون : مناظرة الشيخ مغنية مع الشيخ عبد العزيز بن صالح... 530
المناظرة التاسعة والستون : مناظرة الشيخ القبيسي مع الدكتور الشيخ محمد الزعبي... 534
المناظرة السبعون : مناظرة بين شيعي وسني... 555
المناظرة الحادية والسبعون : مناظرة الدكتور التيجاني مع أحد علماء الزيتونة... 560
المناظرة الثانية والسبعون : مناظرة الدكتور التيجاني مع أحد العلماء... 565
ص: 584
المؤلف: الشيخ عبد اللّه الحسن
المحقق: الشيخ عبد اللّه الحسن
الناشر: شركة دار المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم) لإحياء التراث
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1428 ه.ق
الصفحات: 784
مناظرات في الإمامة
الجزء الرابع
ص: 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
صَدَقَ اللَّهُ العَلِيُّ العَظِيم
ص: 2
مناظرات في الإمامة
الجزء الرابع
تأليف و تحقيق: الشيخ عبداللّه الحسن
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1428ه - 2007 م
يطلب من:
لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة ط1 - ص.ب: برج البراجنة - بعبدا - 2020 1017 - هاتف: 009611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 00963116470124 محمول: 0096394356584
إيران - قم - خ سمية - 16 متری عباس آباد بلاك 24 تلفاكس: 7738855 - 0098251
البريد الإلكتروني Email: mnmnmn3@hotmail.com
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلّى اللّه على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين ، وبعد :
بين يديك أخي الكريم الجزء الرابع من كتابنا المناظرات ، وهو القسم الثاني من المناظرات في الإمامة ومسائل أخرى ، وهو يحتوي على المناظرات التي جمعناها من بطون الكتب - قديماً وحديثاً - وكتب المستبصرين أيضاً لما لها من الأهمية الكبرى إذ أن مناظراتهم هذه تحكي تجربة جدية صادقة في سبيل الوصول إلى الحق ، وما عانوه في سبيل ذلك من متاعب ومشاق لا يتحملها إلاّ الصابر المجاهد.
وهذه المناظرات بمجموعها تشكل حلقة الوصل بما قدّمناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، وهي بلا شك مناظرات قيّمة تستحق القراءة بتمعّن ودراسة - لمن أراد الوقوف على الحقيقة - لما حوته من حقائق ودلائل وبراهين ساطعة في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام وظلامته ، وأسأل اللّه العلي القدير أن يتقبل مني هذا المجهود المتواضع ويثيبني عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى اللّه
ص: 5
بقلب سليم.
وكما أتقدم بجزيل الشكر والإمتنان لكل من ساهم معي في إنجاز هذا الكتاب ، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.
يوم الأحد الموافق ذكرى يوم مولد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله
17 ربيع الأول عام 1427 ه-
عبد اللّه الحسن
ص: 6
ونذكر هنا جملة مما أشار إليه الحجة العلم أغا بزر الطهراني عليه الرحمة من المناظرات التأريخية (1) ، ثم نذكر ما وجدناه مما أشاروا إليه في بعض الفهارس والتراجم والكتب ، ونختار منها ما يلي :
1 - ( 7102 : المناظرات ) للمحقق الكركي الشيخ عبد العالي بن علي بن عبد العالي الكركي ، مع الميرزا مخدوم الشريفي ، في الإمامة ، وتوفي الشيخ سنة 993 ه- عن سبع وستين سنة ، وحمل من أصفهان إلى مشهد الرضا علیه السلام ودفن بدار السيادة (2).
2 - ( مناظرات الشيخ المفيد ) مع أصحاب الفرق والمذاهب ، مر في ( 364 / 19 ) بعنوان المجالس المحفوظة (3).
ص: 7
3 - ( 7108 : مناظرات علي بن موسى الرضا علیه السلام لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي شيخ جعفر بن قولويه.
4 - ( 7110 : المناظرات الكمالية في بعض المسائل الخلافية ) للشيخ علي بن الحاج حسن الخنيزي القطيفي ، المولود سنة 1291 ه- ، ذكره تلميذه الشيخ فرج بن الحسن القطيفي ( رحمهما اللّه ).
5 - ( 7112 : المناظرات مع ابن آلوسي ) محمود شكري أفندي المدرس ببغداد ، في إثبات وجود الحجة وإمامته ، لشيخنا الحاج ميرزا فتح اللّه المشتهر بشيخ الشريعة ، ابن الحاج ميرزا محمّد جواد النمازي الشيرازي الأصفهاني (1) ، وهي ثلاث رسائل : صغير ، ووسيط ، وكبير ، مجموعها في 3700 بيت ، فيها تحقيقات وتدقيقات رشيقة ، وجوابات كافية وافية ، واستنسخه صدر الإسلام الخوئي ، ومر ( الأسنة في قلوب السنة ) فراجعه.
6 - ( 7113 : المناظرات مع بعض الشيعة ) للمجدوع ، الشيخ إسماعيل بن عبد الرسول الأجيني ، مؤلف فهرسة الكتب والرسائل.
ص: 8
ذكر ضمن تأليفاته في مقدمة طبع الفهرسة المذكورة ، بقلم ابن المؤلف علينقي المنزوي ص 15.
7 - ( 7115 : المناظرات مع المولى ميرزا جان الشيرازي العامي ) للشاه تقي الدين محمّد الشيرازي ، النسابة المدرس بشيراز في عصر الصفوية ، والمتوفى ، سنة 1019 ه- ، كما في ( أمل الآمل ) ولأخيه المير غياث الدين مقام عظيم ذكرهما في ( عالم آرا ) وذكر الشاه تقي الدين في ( السلافة ) و ( أمل الآمل ).
8 - ( 7116 : المناظرات مع العامة ) (1) للمولى عبد الوهاب الشاهجهاني السني الأصل المستبصر بواسطة منامين ، ثم ناظر مع أبيه السني ، وجمع آخر من علماء أهل السنة بشاه جهان آباد في سنة 1073 ه- في عهد عالم گ ير پ أدشاه ، وأجاب أيضاً عن جملة من الإعتراضات التي كتبوها إليه فكتب هذه المناظرات والجوابات بخطه في مجلد وهو فارسي في كتب المولى محمّد علي الخوانساري ، وله إبصار المستبصرين الذي ذكر فيه كيفية استبصاره في سنة 1062 (2).
9 - ( 7117 : مناظرات مع المخالفين ) للشيخ زين الدين أبي الحسن علي
ص: 9
بن محمّد الرازي ، أستاذ علماء الطائفة وشيخ الشيخ منتجب الدين.
10 - ( 7124 : مناظرة ابن أبي جمهور ) (1) محمّد بن علي بن إبراهيم بن الحسن بن أبي جمهور الأحسائي ، مع الفاضل الهروي العامي في المشهد الرضوي ، في مجالس ثلاثة ، في مسألة الإمامة. أولها : ( الحمد لله حق حمده .. ). والنسخة رأيتها عند ( الصدر ) ، ذكر فيه أنه حصل بينه وبين الهروي ملاقات فجادل معه في ثلاثة مجالس : المجلس الأول في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام وقد كان في دار السيد النقيب السيد محسن بن المير محمّد الرضوي - وأورد ترجمته القاضي نور اللّه في مجالسه مختصراً ، والمجلس الثاني في المدرسة أول البحث فيه في مسألة ولد الزنا وجرى الكلام إلى طعن القرطاس ، والمجلس الثالث في ذكر أعمال الخدعة في أمر الخلافة وبعض المطاعن كل ذلك في أيام من سنة سبع وثمانين وثمانمائة 887 ه- ، وفرغ من تبييض كتابه درر الئلالى العمادية سنة 901 ه- ، يوجد هذه المناظرات كلها عند الميرزا محمّد الطهراني بسامراء ، وقد ترجمها جميعا إلى الفارسية المولى نوروز علي البسطامي وأدرج الترجمة في كتابه فردوس التواريخ المطبوع سنة 1315 ه- ، وطبع للمؤلف المناظرات مع العالم الهروي ، والمظنون أنها عين ما ذكرناه.
وأورد القاضي ترجمة قسم منها في مجالس المؤمنين ، وترجمها أيضاً جلال الدين محمّد بن محمّد الكاشاني ، فرغ من الترجمة في الهند في ( 19
ص: 10
شعبان 1091 ه- ). أوله : ( ثنا ومحمدتي كه زبان بيان بحكم أنت كما أثنيت على نفسك بعجز وقصور ... ). نسخة منها في ( الرضوية 401 حكمت ) كتبها الشاه محمّد الهمداني بقلم النستعليق في ( رجب 1042 ه- ) ولمحمّد أشرف بن علينقي أقدس الشريف الحسيني المشهدي أيضاً ترجمه مناضره أحسائي فرغ منه سنة 1090 ه- ، وصدرها باسم الشاه سليمان. أوله : ( بهترين مقالي كه مترجمان صحايف فرقان حق گو ئى به آن .. ). والنسخة في طهران عند الدكتور مفتاح رقم 79 ، كتبت بقلم النستعليق في المتن والهامش.
11 - ( 7127 : مناظرة الإدريسي ) من ذرية إدريس بن إدريس الحسني العلوي في مجلس الواثق باللّه ، مع أبي الهذيل العلاف ، أولها : ( قال أبو الهذيل : دخلت على الواثق فأمر بحبسي فبينا أنا في محبسي في ليلة .. ). والنسخة عند السيد شهاب الدين بقم.
12 - ( 7128 : مناظرة المير إعجاز حسين ) (1) مع المولوي محمّد جان اللاهوري ، وذكر ترجمة المير إعجاز حسين على ظهر كتابه كشف الحجب وأنه ولد 1240 ه- وتوفي 1286 ه.
13 - ( 7129 : مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع الهروي ( الجروي ) (2) أولها : ( قال الهروي : إن في أبي بكر أربع خصال استحق بها الخلافة ، قال الباقر علیه السلام : وما هي؟ قال : إنه أول الصديقين ولا نعرفه حتى يقال الصديق ، الثانية صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار ، الثالثة المتولي أمر الصلاة ، الرابعة ضجيعه في قبره .. )
ص: 11
ذكرها في كشف الحجب ، وهي غير مذكورة في احتجاج الطبرسي ، موجودة في مجموعة مع مناظرة ابن أبي جمهور ومناظرة ركن الدولة في ( الرضوية ).
14 - ( 7134 : مناظره بافرق ) لعبد الوهاب الشيرازي الحنفي المستبصر الذي أراد أبوه قتله لاستبصاره ولم يوفق ، وهذه المناظرة كلامي (1) وقعت في شاهجهان في سنة 1073 ه- مع المخالفين. أوله : ( ابتداي مناظرة أي چند كه أقل عباد ، عبد الوهاب را بعد از تعيين طريق إرشاد در بعض بلاد سند ... ) ذكر في فهرست نسخه هاى خطى ص 994 خمسة نسخ منها في مكتبات إيران أقدمها كتابة في ( الملك 7 / 4137 ) ضمن المجموعة المؤرخة ( 1161 - 1041 ) وأخرى في ( الرضوية 6 / 236 ، أدبيات ) كتبها محمّد حسين بن محمّد كاظم في ( 17 ج 2 / 1104 ) وذكرت في فهرس الرضوية بعنوان : رساله در حقانيت مذهب جعفري ، ويحتمل أن يكون غير المناظرة المذكورة ، ويأتي للمؤلف مناظره ديني.
15 - ( 7142 : مناظرة الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي ) (2) والد البهائي والمتوفى سنة أربع وثمانين وتسعمائة 984 ه- (3) مع بعض العامة من
ص: 12
علماء حلب ، في مسألة الإمامة وما يتعلق بها ، إلى أن استبصر الحلبي ، في سنة إحدى وخمسين وتسعمائة 951 ه. أولها : ( الحمد لله على ما أنعم به وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى .. فهذا صورة بحث لهذا الفقير حسين بن عبد الصمد الحارثي في حلب في سنة 951 ه- ، أضافني بعض فضلائها .. ). والنسخة في مخزن كتب ( محمّد علي الخوانساري ) بالنجف ، و ( الطهراني في سامراء ) يقول في آخره : ( ثم باحثته في مسائل كلامية كالرؤية والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعية كالمتعة والمسح ، وذلك بعد أن أذعن واستقر الإيمان في قلبه ، وسب أعداء أهل البيت علیهم السلام عموما وخصوصاً .. ).
16 - ( 7146 : مناظره دانشمند ديوانه نما ) مع أبي الهذيل العلاف المتكلم في عهد المأمون العباسي ( 198 - 218 ) في الخلافة وإسكات أبي الهذيل. لسبهر الثاني الكاشاني المذكور في ( 9 : 429 ) والمتوفى سنة 1340 ه- ، فرغ منه قبل ذي القعدة سنة 1320 ، أوله : ( حمد له ، صلاة. بر حسب أمر مطاع جهان اتباع بندگ ان اعليحضرت .. ). والنسخة في ( طهران ، ملي 325 ف ) كتبه محمّد تقي كمال السلطنة خادم حضرة مظفر الدين شاه في ذي القعدة سنة 1320 ه- في 32 ورق.
17 - ( 7151 : مناظرة ركن الدولة ) مع الشيخ الصدوق (1) أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي عليه الرحمة ، المتوفى سنة 381 ه- ، جمعها الشيخ ركن الدين الدوريستي ، وذلك أنه لما اطلع الملك ركن الدولة على رياسة الصدوق لمذهب الشيعة ، وغزارة علمه ، اشتاق إليه فلما قدم
ص: 13
إليه الصدوق عظمه ورحبه وناظر معه. أولها : ( قال الملك : أيها الشيخ العالم اختلف الحاضرون في القوم الذين يطعن عليهم الشيعة ، قال بعض : يجب الطعن عليهم ، وقال آخرون : لا يجب ، ولا يجوز فما عندك .. ). وذكر في مجالس المؤمنين ترجمة هذه المناظرة ، وهي في خزانة ( الصدر ) و ( الرضوية ) (1).
ص: 14
18 - ( 7153 : مناظرة سائر فرق الشيعة ) مع الإمامية الإثني عشرية في الإمامة (1) للشيخ المفيد عليه الرحمة ، والنسخة عند السيد شهاب الدين بقم. أوله : ( اتفقت الشيعة العلوية من الإمامية والزيدية والجارودية (2) .. ).
19 - ( 7156 : مناظرة الشاري والشاعي ) (3) لبعض الأصحاب ، والشاري إبراهيم بن الحجاج كان بمذهب الشراء الخوارج ، محب الشيخين ومبغض الصهرين ، والشاعي هو الحسن بن أحمد من ولد حذيفة بن اليمان الصحابي كان شيعيا ، آلت أمر تلك المناظرة إلى تشيع الشاري ، أوله : ( قيل : خرج رجل من خراسان اسمه إبراهيم بن الحجاج .. ). والنسخة عند السيد باقر اليزدي ، وأخرى ضمن مجموعة ملكها السيد حسن بن عبد اللّه الكشميري الحائري الرضوي المتوفى سنة 1328 ه- ، يقرب من 780 بيتا ، عناوينه : ( قال الشاري .. فقال الشاعي ).
20 - ( 7164 : مناظرة الشيعي والمرجي ) في المسح على الخفين ، وأكل
ص: 15
الجري وغير ذلك ، لأبي يحيى الجرجاني أحمد بن محمّد بن داود ، ذكره النجاشي في الكنى (1).
21 - ( 7167 : مناظرة السيد عبد الحسين شرف الدين ) وهو ابن أخت سيدنا أبي محمّد الحسن صدر الدين العاملي الكاظمي ، نزيل صور وصاحب الفصول المهمة طبعت في آخر ( كتاب ) الشيعة والمنار (2) سنة 1328 ه- في بيروت ، وهي مناظرة فقهية في اشتراط صحة الطلاق بكونه في طهر غير مواقعة ، ناظر فيها مع بعض فضلاء الأزهر.
22 - ( 7168 : مناظرة المولى عبد الرحيم ) مع بعض علماء العامة في بلاد الهند وهي لطيفة.
23 - ( 7170 : مناظرة عبد الوهاب الهندي ) المستبصر الشاه جهان آبادي ، والساكن في دهلي ، مع أبيه وبعض علماء العامة ، بشاه جهان آباد في سنة 1073 ه- وجواباته عن اعتراضاتهم ، وقد ألف قبل ذلك ( أبصار المستبصرين ) ، في كيفية استبصاره في سنة 1062 ه- ، والمناظرة بالفارسية ، موجودة في مخزن كتب المولى محمّد علي الخوانساري بالنجف ، وعند السيد آقا التستري (3) (4).
ص: 16
24 - ( 7173 : مناظرة علي بن بابويه ) وهو أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى ابن بابويه الصدوق القمي ، المتوفى سنة 329 ه- ، مع أبي عبد اللّه محمّد بن مقاتل الرازي في الإمامة ، آلت أمرها إلى تشيع ابن مقاتل (1) رواه أبو الحسن الطبري ، وهو علي بن أحمد بن الحسين الطبري الآملي الشيخ الكثير الحديث الثقة من أصحابنا كما وصفه النجاشي عن أبي غياث بن بسطام ، وأفرده بعض الأصحاب رسالة مستقلة ، وفي آخره : ( قال ابن مقاتل : ما ناظرت أحدا في هذا الأمر أعلم ولا أنصف منه ، ولا أورد شيئا إلاّ عرفته ، وروى علمائنا دونهم في مجموعة من المناظرات وغيرها ) جمعها بخطه المولى رفيع الدين محمّد بن علي رضا ، المقارب لعصر المجلسي الثاني ، والنسخة عند السيد محمّد باقر حفيد السيد محمّد كاظم اليزدي في النجف (2).
25 - ( 7175 : مناظرة علي بن يقطين ت 182 ) مع الشاك بحضرة الإمام الصادق علیه السلام ذكره الشيخ في الفهرست ، وتوفي ابن يقطين في أيام حبس موسى بن جعفر علیه السلام سنة اثنين وثمانين ومائة 182 ه- ، كما ذكره النجاشي.
26 - ( 7177 : مناظرة السيد فتح اللّه الشيرازي ) وهو ابن هبة اللّه بن عطاء اللّه الحسيني القاضي بلار ثم بأصفهان ، من قبل الشاه سليمان المتوفى سنة 1098 ه- ، مع الشيخ عبد الرحيم اللاري المدرس بمدينة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، في
ص: 17
الإمامة ، وهي مناظرة غريبة ، كتبها حين تشرفه إلى مكة ، وحصلت المناظرة في المدينة ، وقد أدرجها بتمامها في كتابه المبسوط في الإمامة.
27 - ( 7191 : مناظرة مأمون ) مع المخالفين مع علماء السنة (1) ، ترجمة بالفارسية لما حكاه الصدوق في عيون أخبار الرضا علیه السلام والنسخة في ( يزد ، الجامع الكبير 12 / 419 ) كتبت بقلم النستعليق في القرن الثاني عشر ، أقول : وأورد مناظرة المأمون القاضي ابن عبد ربه المالكي في العقد الفريد على ما ترجم منها في تأريخ آل محمّد صلی اللّه علیه و آله للقاضي بهلول بهجت.
28 - ( 7195 : مناظرة الشيخ المفيد ) محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي المتوفى سنة 413 ه- ، مع الرجل البهشمي (2) ، في مجلس فيه جمع من المعتزلة والمجبرة ، في معنى المولى في قوله صلی اللّه علیه و آله : ( من كنت مولاه .. ) ، وبعد إيراد مناظرته في المجلس أورد فصولا فيما تذكر به بعد الإنصراف عن مجلس المناظرة ، وهو غير كتابه في أقسام المولى الموجود أيضاً وصرح به النجاشي ، وهذه المناظرة لم يذكرها النجاشي ، وهي موجودة في خزانة كتب الميزرا محمّد الطهراني ، أوله : ( أنكر رجل من البهشمية ، جمعنا وإياه وجماعة من المعتزلة مجلس ، أن يكون قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، يحتمل الإمامة وفرض الطاعة والرياسة ، وقال : غير معروف ، أن معناه الإمام ولا
ص: 18
المفترض الطاعة .. ) ويوجد أيضاً في النجف عند السيد أبي الحسن الأصفهاني وغيره.
29 - ( 7197 : مناظرة السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي ) المتوفى سنة 1212 ه- مع بعض علماء اليهود في ذي الكفل ، في ذي الحجة سنة 1211 ه- ، وعدة اليهود يومئذ قرب 3000 نفس في ذي الكفل ، والنسخة موجودة في مكتبة المولى محمّد علي الخوانساري بالنجف ، ألفها تلميذه الشيخ محمّد سعيد الدينوري القراچه داغي النجفي. أوله : ( الحمد لله رب العالمين الذي بعث محمّداً صلی اللّه علیه و آله سيد المرسلين خاتماً لرسله أجمعين بأوضح الدلائل والبراهين ، وأيده بابن عمه أميرالمؤمنين علیه السلام .. ) (1).
30 - ( 7198 : مناظرة السيد مهدي بحر العلوم ) مع يهودي في ذي الكفل ، من إملاء تلميذه السيد محمّد جواد العاملي ، صاحب مفتاح الكرامة كما يظهر من آخر كتاب متاجره ، وهو موجود عند حفيده السيد جعفر بن باقر بن السيد علي بحر العلوم وصاحب البرهان ، ونسخة منه بخط المولى إبراهيم بن سعيد المخصص كتبها في كربلاء 26 ج 2 / 1298 ه- ، عند السيد ضياء الدين العلامة الأصفهاني.
31 - ( 7201 : مناظرة ناصر الدين الشيعي ) مع المولوي العامي ، فارسي كبير في عدة مطالب ، تنتهي إلى المطلب الثالث والسبعين والمائتين في 365 ص وفي كل صفحة خمسون بيتا ، يذكر المطلب المولوي ويجيبه ناصر الدين ، وقد
ص: 19
يعبر عن نفسه بحامي الدين ، وينقل فيه كلام المجلسي الثاني. والنسخة في الكاظمية ، ونسخة أخرى عند الميرزا محمّد الطهراني ، كانت متفرقة الأوراق جمعها الشيخ حسين المقدس الهراتي المشهدي إمام الجماعة بمسجد بغركيل فصحفه وجلده ..
32 - ( 7204 : مناظرة هشام بن الحكم ) وما جرى له مع الرشيد ، نقلا عن الشيخ المفيد عليه الرحمة أنه قال : ( حدثني أبو الحسن كثير بن عبد اللّه ، قال : حدثني محمّد بن عبد اللّه بن الحسن بن فضل الشيباني البصري ، قال : حدثني أبو محمّد بن الحسن بن قاسم بن المهدي الكاتب ، قال : سمعت خالي أبا هنلق يقول : حدثني ابن الربيع عن أبيه الربيع قال : اجتمعت أصحاب الحديث والفقهاء وجماعة من الشهود والثقات والقضاة تحضرون هارون الرشيد يوما وفي جملتهم القاضي النحري بن وهب فتذاكروا أصحاب الحديث في الرفضة .. ). والنسخة منضم إلى « إكمال الدين » الذي بخط محمّد مؤمن بن عناية اللّه في سنة 1070 ه- ، عند الشيخ محمّد علي الحائري نزيل سنقر ، ونسخة في مكتبة راجه فيض آبادي الماري (1).
إنتهى ما ذكرناه عن آغا بزرگ عليه الرحمة من كتابه القيم الذريعة ، ونضيف إلى ما ذكر ما يلي :
33 - مناظرة ابن عباس مع عتاب بن الأعور.
ذكرها ابن شهر اشوب في المناقب وابن الأعثم في كتاب الفتوح (2) وقد ذكرناها في هذا الجزء ، قال السيد الخوئي عليه الرحمة في المعجم : عتاب بن
ص: 20
الأعور الثعلبي ، من خطباء الخوارج ، له مناظرة مع ابن عباس ، ولقد ألقمه ابن عباس حجرا (1).
34 - مناظرة مؤمن الطاق مع زيد بن علي علیه السلام لما دعاه إلى الخروج معه.
رواها الشيخ الكليني عليه الرحمة في كتاب الكافي عن أبان قال : أخبرني الأحول أن زيد بن علي بن الحسين علیهماالسلام بعث إليه وهو مستخف قال : فأتيته فقال لي : يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟ .. الخ (2).
35 - مناظرة أبي خالد القماط مع زيدي.
روى الكشي عليه الرحمة عن علي بن رئاب ، عن أبي خالد القماط ، قال : قال لي رجل من الزيدية أيام زيد : ما منعك أن تخرج مع زيد؟ .. الخ (3).
وجاء في معجم رجال الحديث : تقدمت له مناظرة مع زيدي في ترجمة خالد بن يزيد ، فظهر عليه ، وأعجب الصادق علیه السلام مناظرته (4).
36 - ( مناظرة أبي العلاء المعري ) مع السيد الشريف المرتضى علم الهدى الموسوي ، المتوفى سنة 436 ه- ، نسخة كتابتها 676 ه- في الخزانة ( الرضوية ) وهي مختصرة قرب خمسين بيتا (5).
أولها : دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى قدس اللّه روحه فقال : أيها السيد ، ما قولك في الكل ، فقال السيد : ماقولك في الجزء ، فقال : ما قولك في
ص: 21
الشعرى ، فقال : ما قولك في التدوير .. الخ ثم سئل السيد ( رضي اللّه عنه ) عن هذه الرموز فشرحها ، وقد ذكر هذه المناظرة الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في الإحتجاج : 2 / 329 - 336.
37 - مناظرة عبد العزيز النخشبي مع القاسم الحافظ الشيرازي في لعن يزيد بن معاوية وبني أمية.
قال عبد العزيز النخشبي : أبو القاسم الحافظ الشيرازي كان يحفظ الغرائب ، حسن الفهم ، حسن المعرفة ، غير أنه يلعن يزيد بن معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وبني أمية كلهم ، وجرت بيني وبينه مناظرة في ذلك (1).
38 - مناظرة أحمد بن نصير الدين علي الشنوي السندي مع بعض علماء السنة.
قال الحر العاملي عليه الرحمة : كان أبوه قاضياً بالسند حنفياً ، وكان هو شيعياً ، ذكره القاضي نور اللّه في مجالس المؤمنين وأثنى عليه ثناءاً بليغاً ، وذكر له مناظرة مع بعض علماء أهل السنة جيدة (2).
39 - مناظرة بين كبار العلماء في بغداد.
وهي مناظرة عقدها عز الدولة ( بختيار ) في بغداد بين كبار العلماء (3).
40 - مناظرة أبي إسحاق النصيبي مع أبي بكر الباقلاني في بلاط عضد
ص: 22
الدولة في شيراز (1).
41 - مناظرة الفاضل الهندي في الإمامة مع أحد أبناء العامة.
وقصتها كانت مشهورة على الألسنة ، قال في مقابس الأنوار ما نصه : وجرت له فيها يعني بلاد الهند مع المخالفين مناظرة في الإمامة معروفة على الألسنة قصتها عجيبة (2).
42 - مناظرة الوحيد البهبهاني مع فاضل من علماء العامة.
قال السيد إ جاز حسين عليه الرحمة في كشف الحجب : مناظرة أستاذ الكل محمّد باقر بن محمّد أكمل الأصفهاني البهبهاني المتوفى سنة خمس بعد مائتين وألف مع فاضل مع الأشاعرة في أمر الرؤيه حررها إجابة لبعض العلماء قال فيها : كان الواسطة بيني وبينه المرحوم ميرزا محمّد علي وعجز الفاضل عن الجواب ورجع عن القول بالرؤية على ما سمعته من المرحوم ، أوله الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على محمّد وآله الطاهرين أما بعد فيقول الأقل محمّد باقر بن محمّد أكمل هذه صورة المباحثة مع فاضل من الأشاعرة الخ (3).
وقال السيد علي البروجردي عليه الرحمة في طرائف المقال في ترجمة الوحيد البهبهاني أعلى اللّه مقامه الشريف : وله رسالة في صورة مناظرة مع فاضل مع علماء العامة في استحقاق الرؤية على اللّه ، وعجز ذلك الفاضل وتوقفه في الرؤية (4).
ص: 23
43 - مناظرة السيد أبي البركات العلوي مع الكرامي في الإمامة.
هو السيد أبو البركات ناصح الدين العلوي المشهدي (1) محمّد ابن المشهدي صاحب المزار (2) نقل صاحب تبصرة العوام قصة مناظرته في الإمامة مع أبي بكر بن إسحاق الكرامي (3).
44 - مناظرة الحر العاملي مع بعض علماء العامة.
جاء في مقدمة كتاب أمل الآمل في ترجمة الشيخ الحر العاملي أعلى اللّه مقامه الشريف ، من ضمن مؤلفاته : ( مناظرة مع بعض علماء العامة ) قال : وهذه المناظرة كانت في سفر الحج (4).
45 - مناظرة الشيخ حيدر العاملي الهرملي مع بعض المخالفين بطريق مكة.
قال السيد حسن الصدر عليه الرحمة في التكملة : الشيخ حيدر العاملي الهرملي من العلماء الصالحين والفقهاء العاملين ، جليل القدر عظيم الشأن ، حتى أن الأمير سلطان الحرفوشي أوصى أن يدفن عند رجليه ، لما هو اشتهر وتحقق ورآه بعينه من واقعة انهدام قبر الشيخ بعد سنين من دفنه فرؤي جسده طريا ، ووجه مضي ، وكريمته شقراء لم يبل منه شيء ، فالرجل من أوليا اللّه الصالحين ، وقبره معروف في قرية العين من أعمال بعلبك.
ويحكى أن له مناظرة مع بعض المخالفين بطريق مكة ، كتب الشيخ اسم أميرالمؤمنين علیه السلام وصي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلا فصل ، وكتب المخالف على ورقة ..
ص: 24
فظهرت حجة الشيخ وأفحم الخصم (1).
46 - مناظرة أحمد بن محمّد الغزالي مع أخيه في المذهب.
قال السيد علي البروجردي في طرائف المقال : أحمد بن محمّد الغزالي ، كان أخو محمّد الغزالي ، متصوف ، وله مناظرة طويلة مع أخيه في المذهب (2).
47 - مناظرة سلطان الواعظين مع جمع من علماء العامة في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام في بيشاور.
هو الحجة السيد محمّد الموسوي الشيرازي قدس سره ، وقد ترجمها إلى العربية وحققها صديقنا الفاضل المحقق السيد حسين الموسوي الفالي وكان اسمها بالفارسي شبهاي بيشاور ، وطبعها في كتاب باسم ليالي بيشاور ، مناظرات وحوار في 1191 صفحة فجزاه اللّه خير الجزاء ، وأثابه اللّه تعالى على هذا العمل القيم.
48 - من مناظرات العلماء
قال الشيخ الغفاري : اطلعنا على مجموعة خطية نفيسة تحتوي على رسائل شتى من مناظرات العلماء ومنها هذه المناظرة (3) ، وفي خزانة كتب الأستاذ الشريف السيد جلال الدين الأرموي المشتهر بالمحدث أطال اللّه بقاه ، ورأيتها وهي نسخة ثمينة من نفائس تلك المكتبة العامرة ، جديرة بالطبع والنشر بما تتضمن من محاسن الإحتجاجات وغيرها ، نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لذلك (4).
ص: 25
49 - مناظرة في مسألة الإمامة ، بالفارسية. لعبد الخالق الكرهرودي ، المعروف بقاضي زاده ، مع القاضي الزادة الماوراء النهري في مجلس الشاه عباس الصفوي (1).
50 - مناظرات حسنيه با بيشوايان أهل سنت. بالفارسية. لإبراهيم استرآبادي. قم ، مؤسسة إمام صادق علیه السلام ، 1976 م ، 388 ص ( مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام ، 12 ) (2).
51 - مؤتمر علماء بغداد في الإمامة والخلافة : بقلم مقاتل بن عطية الحنفي من علماء القرن الخامس ، وهو يحكي قصة المحاورة والمناظرة التي وقعت بين بعض علماء الشيعة ، وبعض علماء السنة بحضور الملك الكبير ( ملك شاه سلجوقي ) تحت إشراف الوزير ( نظام الملك ) وأدت هذه المناظره إلى تشيع الملك وأصحابه ، طبعت هذه المناظرة عدة طبعات منها طبعة مكتبة المرعشي قدس سره ، في قم المقدسة ، وطبع بتحقيق العلامة السيد مرتضى الرضوي نشر دار الكتب الإسلامية - طهران.
52 - المراجعات : للسيد عبد الحسين بن شرف الدين الموسوي العاملي وهي حوارات وأسئلة وجهها إليه الشيخ سليم البشري المصري فأجاب عليها وهي تحكي بمجموعها مناظرة من أفضل المناظرات العلمية والموضوعية.
53 - الإنتصار ( مناظرات الشيعة في شبكات الأنترنت ) بقلم العاملي ، وهي موسوعة في تسعة أجزاء ، تتضمن حوارات ومناظرات في الإمامة وغيرها. نشر دار السيرة ، بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1421 ه.
ص: 26
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدِّه علیهم السلام قال : لمَّا كان من أمر أبي بكر وبيعة الناس له وفعلهم بعلي بن أبي طالب علیه السلام ما كان لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ، ويرى منه انقباضاً ، فكبر ذلك على أبي بكر فأحبَّ لقاءه ، واستخراج ما عنده ، والمعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه وتقليدهم إيَّاه أمر الأمَّة ، وقلَّة رغبته في ذلك وزهده فيه ، أتاه في وقت غفلة ، وطلب منه الخلوة ، وقال له : واللّه يا أبا الحسن! ما كان هذا الأمر مواطاة منّي ، ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولا حرصاً عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأُمَّة ، ولا قوَّة لي لمال ، ولا كثرة العشيرة ، ولا ابتزاز له دون غيري ، فمالك تضمر عليَّ ما لم أستحقَّه منك ، وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه ، وتنظر إليَّ بعين السأمة منّي؟
قال : فقال له علیه السلام : فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ، ولا حرصت عليه ، ولا وثقت بنفسك في القيام به ، وبما يحتاج منك فيه؟
ص: 27
فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه لا يجمع أمّتي على ضلال (1) ، ولمّا رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى ، وأعطيتهم قود الإجابة ، ولو علمت أن أحداً يتخلَّف لامتنعت.
قال : فقال علي علیه السلام : أمَّا ما ذكرت من حديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه لا يجمع أمّتي على ضلال ; أفكنتُ من الأمَّة أو لم أكن؟
قال : بلى.
قال : وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمَّار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟
قال : كلٌّ من الأمَّة.
فقال عليٌّ علیه السلام : فكيف تحتجُّ بحديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وأمثال هؤلاء قد تخلَّفوا عنك ، وليس للأُمَّة فيهم طعن ، ولا في صحبة الرسول صلی اللّه علیه و آله ونصيحته منهم تقصير.
قال : ما علمت بتخلُّفهم إلاَّ من بعد إبرام الأمر ، وخفت إن دفعت عنّي الأمر أن يتفاقم إلى أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين ، وكان ممارستكم إلى أن أجبتم
ص: 28
أهون مؤونة على الدين ، وأبقى له من ضرب الناس بعضهم ببعض ، فيرجعوا كفّاراً ، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم.
قال عليٌّ علیه السلام : أجل ، ولكن أخبرني عن الذي يستحقُّ هذا الأمر بم يستحقُّه؟
فقال أبو بكر : بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة والمحاباة ، وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعلم بالكتاب والسنّة وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدنيا وقلّة الرغبة فيها ، وإنصاف المظلوم من الظالم القريب والبعيد .. ثمَّ سكت.
فقال علي علیه السلام : أنشدك باللّه يا أبا بكر! أفي نفسك تجد هذه الخصال ، أو فيَّ؟
قال : بل فيك يا أبا الحسن.
قال : أنشدك باللّه ، أنا المجيب لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل ذكران المسلمين ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك باللّه ، أنا الأذان لأهل الموسم ولجميع الأمّة بسورة براءة ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك باللّه ، أنا وقيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسي يوم الغار ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : أنشدك باللّه ، إليَّ الولاية من اللّه مع ولاية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في آية زكاة الخاتم ، أم لك؟
قال : بل لك.
ص: 29
قال : أنشدك باللّه ، أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله يوم الغدير ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : أنشدك باللّه ، ألي الوزارة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمثل من هارون من موسى ، أم لك؟
قال : بل لك.
قال : فأنشدك باللّه ، أبي برز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبأهل بيتي وولدي في مباهلة المشركين من النصارى ، أم بك وبأهلك وولدك؟
قال : بكم.
قال : فأنشدك باللّه ، إليَّ ولأهلي وولدي آية التطهير من الرجس (1) ، أم لك ولأهل بيتك؟
قال : بل لك ولأهل بيتك.
قال : فأنشدك باللّه ، أنا صاحب دعوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهلي وولدي يوم الكساء : اللّهم هؤلاء أهلي إليك لا إلى النار ، أم أنت؟
قال : بل أنت وأهلك وولدك.
قال : فأنشدك باللّه ، أنا صاحب الآية : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (2) ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك باللّه ، أنت الفتى الذي نودي من السماء : لا سيف إلاَّ ذو
ص: 30
الفقار ولا فتى إلاَّ علي ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك باللّه ، أنت الذي ردَّت له الشمس لوقت صلاته فصلاَّها ثم توارت ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك باللّه ، أنت الذي حباك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برايته يوم خيبر ففتح اللّه له ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك باللّه ، أنت الذي نفَّست عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كربته وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ود ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
إلى أن قال : فلم يزل علیه السلام يعدُّ عليه مناقبه التي جعل اللّه عزَّ وجلَّ له دونه ودون غيره ويقول له أبو بكر : بل أنت.
قال : فبهذا وشبهه يستحقُّ القيام بأمور أمَّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فقال له علي علیه السلام : فما الذي غرَّك عن اللّه وعن رسوله وعن دينه ، وأنت خلوٌ ممّا يحتاج إليه أهل دينه؟
قال : فبكى أبو بكر وقال : صدقت يا أبا الحسن ، أنظرني يومي هذا ، فأدبِّر ما أنا فيه وما سمعت منك.
قال : فقال له علي علیه السلام : لك ذلك يا أبا بكر ، فرجع من عنده ، وخلا بنفسه يومه ، ولم يأذن لأحد إلى الليل ، وعمر يتردَّد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي علیه السلام .. إلخ (1).
ص: 31
عن عمارة بن زيد الواقدي ، قال : حجَّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حجَّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقر وابنه جعفر علیهماالسلام ، فقال جعفر في بعض كلامه : الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة اللّه على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتّبعنا ، والشقيُّ من عادانا وخالفنا ، ومن الناس من يقول إنه يتولاّنا وهو يوالي أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربِّنا ولم يعمل به.
قال أبو عبداللّه جعفر بن محمّد علیه السلام : فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق ، وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلمَّا وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ، ثمَّ أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصّته وقوف على أرجلهم سماطين متسلِّحين ، وقد نصب
ص: 32
البرجاس (1) حذاءه ، وأشياخ قومه يرمون.
فلمَّا دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه ، وجلسنا قليلا ، فقال لأبي : يا أبا جعفر! لو رميت مع أشياخ قومك الغرض ، وإنّما أراد أن يهتك بأبي ، ظنّاً منه أنه يقصر ويخطئ ولا يصيب إذا رمى ، فيشتفي منه بذلك ، فقال له : إنّي قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني.
فقال : وحقِّ من أعزنا بدينه ونبيِّه محمّد صلی اللّه علیه و آله لا أعفيك ، ثمَّ أومأ إلى شيخ من بني أميَّة أن أعطه قوسك.
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثمَّ تناول منه سهماً فوضعه في كبد القوس ، ثمَّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثمَّ رمى فيه الثانية فشقَّ فوق سهمه إلى نصله ، ثمَّ تابع الرمي حتى شقَّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : أجدت يا أبا جعفر ، وأنت أرمى العرب والعجم ، كلاَّ ، زعمت أنك قد كبرت عن الرمي ، ثمَّ أدركته ندامة على ما قال.
وكان هشام لا يكنّي أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمَّ به ، وأطرق إطراقة يرتأي فيه رأياً ، وأبي واقف بحذائه مواجهاً له ، وأنا وراء أبي ، فلمَّا طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهمَّ به ، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان ، يتبيَّن للناظر الغضب في وجهه ، فلمَّا نظر هشام ذلك من أبي قال له : يا محمّد! اصعد ، فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه.
فلمَّا دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثمَّ اعتنقني وأقعدني
ص: 33
عن يمين أبي ، ثمَّ أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمّد! لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ، ولله درُّك ، من علَّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلَّمته؟
فقال له أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ، ثمَّ تركته ، فلمَّا أراد أميرالمؤمنين منّي ذلك عدت إليه.
فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي ، أين رمي جعفر من رميك؟
فقال : إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللّه على نبيِّه صلی اللّه علیه و آله في قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (1) ، والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.
قال : فلمَّا سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولّت ، واحمرَّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثمَّ أطرق هنيئة ، ثمَّ رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟
فقال أبي : نحن كذلك ، ولكنَّ اللّه - جلَّ ثناؤه - اختصّنا من مكنون سرِّه وخالص علمه ، بما لم يختص أحداً به غيرنا.
فقال : أليس اللّه - جلَّ ثناؤه - بعث محمّداً صلی اللّه علیه و آله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّة ، أبيضها وأسودها وأحمرها ، من أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول اللّه مبعوث إلى الناس كافّة ، وذلك قول اللّه تبارك وتعالى : ( وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) إلى آخر الآية ، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله نبيٌّ
ص: 34
ولا أنتم أنبياء؟
فقال : من قوله تعالى لنبيِّه صلی اللّه علیه و آله : ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) (1) فالذي أبداه فهو للناس كافّة ، والذي لم يحرِّك به لسانه أمر اللّه تعالى أن يخصَّنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه عليّاً من دون أصحابه ، وأنزل اللّه بذلك قرآناً في قوله تعالى : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (2) ، فقال رسول اللّه لأصحابه : سألت اللّه تعالى أن يجعلها أذنك يا علي (3) ، فلذلك قال علي بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه - بالكوفة : علَّمني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب (4) ، خصَّه به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مكنون علمه ما خصَّه اللّه به ، فصار إلينا ، وتوارثناه من دون قومنا.
فقال له هشام : إن عليّاً كان يدّعي علم الغيب ، واللّه لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادّعى ذلك؟
فقال أبي : إن اللّه - جلَّ ذكره - أنزل على نبيِّه كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، في قوله : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (5) ، وفي قوله : ( كُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين ) (6) ، وفي
ص: 35
قوله : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (1) ، وفي قوله : ( وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين ) (2) وأوحى اللّه تعالى إلى نبيِّه صلی اللّه علیه و آله أن لا يبقي في غيبه وسرِّه ومكنون علمه شيئاً إلاَّ يناجي به عليّاً ، فأمره أن يؤلِّف القرآن من بعده ، ويتولَّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنّه منّي وأنا منه ، له مالي ، وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز موعدي.
ثمَّ قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله (3) ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاَّ عند علي علیه السلام ، ولذلك قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأصحابه : أقضاكم علي (4) ; أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر (5) ، أفيشهد له عمر ويجحد غيره؟!
فأطرق هشام طويلا ، ثمَّ رفع رأسه فقال : سل حاجتك.
فقال : خلَّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي.
فقال : قد آمن اللّه وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم أكثر من يومك .. (6).
ص: 36
قال إبراهيم بن محمّد ، كاتب بغداد ، المشهور بابن أبي عون : قال عمر بن عبد العزيز : قد كلَّمت سائر الناس ، وأحبُّ أن أكلِّم الشيعة ، فشخص إليه أبو جعفر محمّد بن علي علیهماالسلام ومعه زرارة بن أعين صاحبهم ، فقال له محمّد علیه السلام : أخبرني عن مقعدك الذي أقعدته ، أبإرث من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : لا.
قال : أفبوصيَّة منه؟
قال لا.
قال : فبإجماع المسلمين أنه لا أحد أولى بها منك؟
قال : لا.
قال : فلمَّا نهض أبو جعفر علیه السلام قال له زرارة : ما تقول فيه؟
قال : هو خير ممن كان قبله ، وإن ... (1) صاحب الترك خير منه (2).
ص: 37
الإمام الباقر علیه السلام مع الحروري (1)
قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة : وجدت في بعض مؤلَّفات قدماء أصحابنا في الأخبار ما هذا لفظه : مناظرة الحروري والباقر علیه السلام .
قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال استحقَّ بها الإمامة.
قال الباقر علیه السلام : ما هنَّ؟
قال : فإنّه أوَّل الصدّيقين ولا نعرفه حتى يقال : الصدّيق ، والثانية : صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار ، والثالثة : المتولّي أمر الصلاة ، والرابعة : ضجيعه في قبره.
قال أبو جعفر علیه السلام : أخبرني عن هذه الخصال ، هنَّ لصاحبك بان بها من الناس أجمعين؟
قال : نعم.
ص: 38
قال أبو جعفر علیه السلام : ويحك! هذه الخصال تظنُّ أنَّهنَّ مناقب لصاحبك وهي (1) مثالب له.
أمَّا قوله : كان صدّيقاً ، فاسألوه من سمَّاه بهذا الاسم؟
قال الحروري : اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .
قال أبو جعفر علیه السلام : اسأل الفقهاء هل أجمعوا على هذا من رواياتهم أن أبا بكر أول من آمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قالت الجماعة : اللّهمَّ لا ، وقد روينا أن ذلك علي بن أبي طالب علیه السلام .
قال الحروري : أو ليس قد زعمتم أن علي بن أبي طالب لم يشرك باللّه في وقت من الأوقات؟ فإن كان ما رويتم حقّاً فأحرى أن يستحقَّ هذا الاسم.
قالت الجماعة : أجل.
قال أبو جعفر علیه السلام : يا حروري! إن كان سُمِّي صاحبك صدّيقاً بهذه الخصلة فقد استحقَّها غيره قبله ، فيكون المخصوص بهذا الاسم دون أبي بكر ; إذ كان أوَّل المؤمنين من جاء بالصدق وهو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2) ، وكان عليٌّ علیه السلام هو المصدِّق.
فانقطع الحروري.
قال أبو جعفر علیه السلام : وأمَّا ما ذكرت أنه صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار فذلك رذيلة لا فضيلة من وجوه :
الأول : أنّا لا نجد له في الآية مدحاً أكثر من خروجه معه وصحبته له ، وقد أخبر اللّه في كتابه أن الصحبة قد يكون للكافر مع المؤمن ، حيث يقول : ( قَالَ لَهُ
ص: 39
صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ ) (1) ، وقوله : ( أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة ) (2) ، ولا مدح له في صحبته ; إذ لم يدفع عنه ضيماً ، ولم يحارب عنه عدوّاً.
الثاني : قوله تعالى : ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (3) ، وذلك يدلُّ على قلقه وضرعه ، وقلَّة صبره ، وخوفه على نفسه ، وعدم وثوقه بما وعده اللّه ورسوله من السلامة والظفر ، ولم يرض بمساواته للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله حتى نهاه عن حاله.
ثم إني أسألك عن حزنه هل كان رضاً لله تعالى أو سخطاً له؟ فإن قلت : إنّه رضاً لله تعالى خصمت ; لأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لا ينهى عن شيء لله فيه رضاً ، وإن قلت : إنّه سخط فما فضل من نهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن سخط اللّه؟ وذلك أنّه إن كان أصاب في حزنه فقد أخطأ من نهاه ، وحاشا النبي صلی اللّه علیه و آله أن يكون قد أخطأ ، فلم يبق إلاَّ أن حزنه كان خطأ ، فنهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن خطأه.
الثالث : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) تعريف لجاهل لم يعرف حقيقة ما يهم فيه (4) ، ولو لم يعرف النبيُّ صلی اللّه علیه و آله فساد اعتقاده لم يحسن منه القول : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) ، وأيضاً فإن اللّه تعالى مع الخلق كلِّهم ، حيث خلقهم ورزقهم ، وهم في علمه كما قال اللّه تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ) (5) ، فلا فضل لصاحبك في هذا الوجه.
ص: 40
والرابع : قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) (1) فيمن نزلت؟
قال : على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال له أبو جعفر علیه السلام : فهل شاركه أبو بكر في السكينة؟
قال الحروري : نعم.
قال له أبو جعفر علیه السلام : كذبت ; لأنه لو كان شريكاً فيها لقال تعالى : عليهما ، فلمَّا قال : ( عليه ) دلَّ على اختصاصها بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله لما خصَّه بالتأييد بالملائكة ; لأن التأييد بالملائكة لا يكون لغير النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بالإجماع ، ولو كان أبو بكر ممن يستحقُّ المشاركة هنا لأشركه اللّه فيها كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين ، حيث يقول : ( ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ممن يستحقُّ المشاركة ; لأنه لم يصبر مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله غير تسعة نفر : علي علیه السلام ، وستّة من بني هاشم ، وأبو دجانة الأنصاري ، وأيمن بن أم أيمن ، فبان بهذا أن أبا بكر لم يكن من المؤمنين ، ولو كان مؤمناً لأشركه مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في السكينة هنا ، كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين.
فقال الحروري : قوما (3) فقد أخرجه من الإيمان.
فقال أبو جعفر علیه السلام : ما أنا قلته ، وإنّما قاله اللّه تعالى في محكم كتابه.
قالت الجماعة : خصمت يا حروري.
ص: 41
قال أبو جعفر علیه السلام : وأمَّا قولك في الصلاة بالناس فإن أبا بكر قد خرج تحت يد أسامة بن زيد بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإجماع الأمَّة ، وكان أسامة قد عسكر على أميال من المدينة ، فكيف يتقدَّر أن يأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجلا قد أخرجه تحت يد أسامة ، وجعل أسامة أميراً عليه أن يصلّي بالناس بالمدينة؟! ولم يأمر النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بردِّ ذلك الجيش ، بل كان يقول : نفِّذوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تأخَّر عنه (1).
ثمَّ أنتم تقولون : إن أبا بكر لمَّا تقدَّم بالناس ، وكبَّر ، وسمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التكبير خرج مسرعاً يتهادى (2) بين عليٍّ والفضل بن العباس ، وهو معصَّب الرأس ، ورجلاه يخطّان الأرض من الضعف قبل أن يركع بهم أبو بكر ، حتى جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونحَّاه عن المحراب ، فلو كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أمره بالصلاة لم يخرج إليه مسرعاً على ضعفه ذلك ، أن لا يتمَّ له ركوع ولا سجود ، فيكون ذلك حجّة له ، فدلَّ على أنه لم يكن أمره.
والحديث الصحيح أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حال مرضه كان إذا حضر وقت الصلاة أتاه بلال ، فيقول : الصلاة يا رسول اللّه ، فإن قدر على الصلاة بنفسه تحامل وخرج ، وإلاّ أمر علياً علیه السلام يصلّي بالناس.
قال أبو جعفر علیه السلام : الرابعة زعمت أنه ضجيعه في قبره؟
ص: 42
قال : نعم.
قال أبو جعفر علیه السلام : وأين قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال الحروري : في بيته.
قال أبو جعفر علیه السلام : أو ليس قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (1) ، فهل استأذنه في ذلك؟
قال الحروري : نعم.
قال أبو جعفر علیه السلام : كذبت ; لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سدَّ بابه عن المسجد وباب صاحبه عمر ، فقال عمر : يا رسول اللّه! اترك لي كوّة أنظرك منها ، قال له : ( ولا مثل قلامة ظفر ) فأخرجهما وسدَّ أبوابهما ، فأقم البيِّنة على أنَّه أذن لهما في ذلك ، فقال أبو جعفر علیه السلام : بأيِّ وحي وبأيِّ نص؟
قال : بما لا يدفع ; بميراث ابنتيهما.
قال أبو جعفر علیه السلام : أصبت ، أصبت يا حروري! استحقّا بذلك تسعاً من ثمن ، وهو جزء من اثنين وسبعين جزءاً ; لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات عن ابنته فاطمة علیهاالسلام وعن تسع نسوة ، وأنتم رويتم أن الأنبياء لا تورِّث.
فانقطع الحروري (2).
ص: 43
قال الحسن بن زياد الفقيه : سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر علیه السلام ، لمَّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليَّ فقال : يا أبا حنيفة! إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد ، فهيِّئ لنا من مسائلك الصعاب ، فهيَّأت له أربعين مسألة ، ثمَّ بعث إليَّ المنصور فأتيته ، فدخلت وجعفر جالس عن يمينه ، فلمَّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور ، ثمَّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبداللّه! أتعرف هذا؟
قال علیه السلام : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثمَّ أتبعها : قد أتانا ، ثمَّ قال : يا أبا حنيفة! هات من مسائلك فاسأل أبا عبداللّه ، فابتدأت أسأله ، فكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ، ونحن - يريد أهل البيت علیهم السلام - نقول كذا وكذا ، فربَّما تابعنا ، وربما تابع أهل المدينة ، وربما خالفنا معاً ، حتى أتيت على أربعين مسألة ، ما أخرم فيها مسألة.
ثمَّ يقول أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلم الناس
ص: 44
بالاختلاف (1).
وفي جامع مسانيد أبي حنيفة أنه قال : فجعلت أسأله ويجيب الإجابة الحسنة ويفحم حتى أجاب عن أربعين مسألة ، فرأيته أعلم الناس باختلاف الفقهاء ، فلذلك أحكم أنه أفقه من رأيت (2).
قال أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد علیه السلام ، وكان يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ; فإنه لا يحدِّثكم بعدي بمثل حديثي (3).
ص: 45
روى الكليني بإسناده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : كنت قاعداً عند أبي عبداللّه علیه السلام بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة ، وناس من رؤسائهم ، وذلك حدثان قتل الوليد ، واختلاف أهل الشام بينهم ، فتكلَّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا.
فقال لهم أبو عبد اللّه علیه السلام : إنكم قد أكثرتم عليَّ ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، وليتكلَّم بحججكم ويوجز.
فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فتكلَّم فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال أن قال : قد قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب اللّه عزَّوجلَّ بعضهم ببعض ، وشتَّت اللّه أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ، ومروّة وموضع ، ومعدن للخلافة ، وهو محمّد بن عبداللّه بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع عليه فنبايعه ، ثمَّ نظهر معه ، فمن كان بايعنا فهو منّا وكنَّا منه. ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ، ونصبنا له على بغيه وردِّه إلى الحقّ وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك
ص: 46
فتدخل معنا ، فإنّه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك وكثرة شيعتك.
فلمَّا فرغ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أكلُّكم على مثل ما قال عمرو؟
قالوا : نعم.
فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلَّى على النبي صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ قال : إنما نسخط إذا عصي اللّه ، فأمَّا إذا أطيع رضينا ، أخبرني - يا عمرو - لو أن الأمَّة قلدتك أمرها ، وولَّتك بغير قتال ولا مؤونة ، وقيل لك : ولِّها من شئت ، من كنت تولِّيها؟
قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين.
قال : بين المسلمين كلِّهم؟
قال : نعم.
قال : بين فقهائهم وخيارهم؟
قال : نعم.
قال : قريش وغيرهم؟
قال : نعم.
قال : والعرب والعجم؟
قال : نعم.
قال : أخبرني - يا عمرو - أتتولَّى أبا بكر وعمر أو تتبرَّأ منهما؟
قال : أتولاَّهما.
فقال : فقد خالفتهما ، ما تقولون أنتم؟ تتولَّونهما أو تتبرَّؤون منهما؟
قالوا : نتولاَّهما.
قال : يا عمرو! ان كنت رجلا تتبرَّأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف علهيما ، وإن كنت تتولاَّهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور فيه
ص: 47
أحداً ، ثمَّ ردها أبو بكر عليه ولم يشاور فيه أحداً ، ثمَّ جعلها عمر شورى بين ستة ، وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار غير أولئك الستة من قريش ، وأوصى فيهم شيئاً لا أراك ترضى به أنت ولا أصحابك ; إذ جعلتها شورى بين جميع المسلمين.
قال : وما صنع؟
قال : أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يشاور أولئك الستة ليس معهم أحد ، وابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار - إن مضت ثلاثة أيام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا رجلا - أن يضربوا أعناق أولئك الستة جميعاً ، فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضربوا أعناق الإثنين ، أفترضون بهذا أنتم فيما تجعلون من الشورى في جماعة من المسلمين؟
قالوا : لا.
ثمَّ قال : يا عمرو! دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ، ثمَّ اجتمعت لكم الأمَّة فلم يختلف عليكم رجلان فيها ، فأفضتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية ، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون بسيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المشركين في حروبه؟
قال : نعم.
قال : فتصنع ماذا؟
قال : ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.
قال : وإن كانوا مجوساً ليسوا بأهل الكتاب؟
قال : سواء.
ص: 48
قال : وإن كانوا مشركي العرب وعبدة الأوثان؟
قال : سواء.
قال : أخبرني عن القرآن تقرؤه؟
قال : نعم.
قال : اقرأ : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (1). فاستثناء اللّه عزَّوجلَّ واشتراطه من الذين أوتوا الكتاب ، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟
قال : نعم.
قال : عمَّن أخذت ذا؟
قال : سمعت الناس يقولون.
قال : فدع ذا ، فإن هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟
قال : أخرج الخمس ، وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه.
قال : أخبرني عن الخمس ، من تعطيه؟
قال : حيثما سمَّى اللّه ، قال : فقرأ : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (2).
قال : الذي للرسول صلی اللّه علیه و آله من تعطيه؟ ومن ذو القربى؟
ص: 49
قال : قد اختلف فيه الفقهاء فقال بعضهم : قرابة النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، وقال بعضهم : الخليفة ، وقال بعضهم : قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين.
قال : فأيُّ ذلك تقول أنت؟
قال : لا أدري.
قال : فأراك لا تدري ، فدع ذا. ثمَّ قال : أرأيت الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها؟
قال : نعم.
قال : فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سيرته ، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم ، فاسألهم فإنهم لا يختلفون ، ولا يتنازعون في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ، ولا يهاجروا ، على إن دهمه (1) من عدوِّه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم ، وليس لهم في الغنيمة نصيب ، وأنت تقول بين جميعهم ، فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كل ما قلت في سيرته في المشركين ، ومع هذا ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ) إلى آخر الآية (2).
قال : نعم ، فكيف تقسمها؟
قال : أقسمها على ثمانية أجزاء ، فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً ، قال : وان كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف منهم رجلا واحداً أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف؟
ص: 50
قال : نعم.
قال : وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي ، فتجعلهم فيها سواء؟
قال : نعم.
قال : فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كل ما قلت في سيرته ، كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي ، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسمه بينهم بالسويَّة ، وإنما يقسمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى ، وليس عليه في ذلك شيء موقّت موظّف ، وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضره منهم ، فإن كان في نفسك مما قلت شيءٌ فالقِ فقهاء أهل المدينة ; فإنهم لا يختلفون في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كذا كان يصنع.
ثمَّ أقبل على عمرو بن عبيد فقال له : اتق اللّه ، وأنتم - أيُّها الرهط - فاتقوا اللّه ، فإن أبي حدَّثني - وكان خير أهل الأرض ، وأعلمهم بكتاب اللّه عزَّوجلَّ وسنة نبيه صلی اللّه علیه و آله - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : من ضرب الناس بسيفه ، ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف (1).
ص: 51
قال القاضي النعمان المغربي : روينا عنه - صلوات اللّه عليه - أنّه قال يوماً لابن أبي ليلى : أتقضي بين الناس ، يا عبد الرحمن؟
فقال : نعم ، يا بن رسول اللّه.
قال : تنزع مالا من يدي هذا فتعطيه هذا ، وتنزع امرأة من يدي هذا فتعطيها هذا ، وتحدُّ هذا ، وتحبس هذا؟
قال : نعم.
قال : بماذا تفعل ذلك كلَّه؟
قال : بكتاب اللّه.
قال : كل شيء تفعله تجده في كتاب اللّه؟
قال : لا.
قال : فما لم تجده في كتاب اللّه ، فمن أين تأخذه؟
قال : فآخذه عن رسول اللّه.
ص: 52
قال : وكل شيء تجده في كتاب اللّه وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : ما لم أجده في كتاب اللّه ولا سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذته عن أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : عن أيِّهم تأخذ؟
قال : عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ علیه السلام وطلحة والزبير ، وعدَّ أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : فكل شيء تأخذه عنهم تجدهم قد اجتمعوا عليه؟
قال : لا.
قال : فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟
قال : بقول من رأيت أن آخذ منهم أخذت.
قال : ولا تبالي أن تخالف الباقين؟
قال : لا.
قال : فهل تخالف عليّاً فيما بلغك أنه قضى به؟
قال : ربّما خالفته إلى غيره منهم.
فسكت أبو عبد اللّه علیه السلام ساعة ينكت في الأرض ، ثمَّ رفع رأسه إليه ، فقال : يا عبد الرحمن! فما تقول يوم القيامة إن أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدك ، وأوقفك بين يدي اللّه فقال : أي ربِّ! إن هذا بلغه عنّي قول فخالفه؟
قال : وأين خالفت قوله يابن رسول اللّه؟
قال : ألم يبلغك قوله صلی اللّه علیه و آله لأصحابه : أقضاكم علي؟ (1).
ص: 53
قال : نعم.
قال : فإذا خالفت قوله ، ألم تخالف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
فاصفرَّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد كالأترجة ، ولم يحر جواباً (1).
وفي رواية الكليني : عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي قال : كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتى جئنا إلى المدينة ، فبينا نحن في مسجد الرسول صلی اللّه علیه و آله إذ دخل جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، فقلت لابن أبي ليلى : تقوم بنا إليه؟
فقال : وما نصنع عنده؟
فقلت : نسائله ونحدِّثه.
فقال : قم ، فقمنا إليه ، فسائلني عن نفسي وأهلي ، ثمَّ قال : من هذا معك؟ فقلت : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين.
فقال له : أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟
قال : نعم.
قال : تأخذ مال هذا فتعطيه هذا؟ وتقتل ، وتفرِّق بين المرء وزوجه؟ لا تخاف في ذلك أحداً؟
قال : نعم.
قال : فبأيِّ شيء تقضي؟
قال : بما بلغني عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وعن علي علیه السلام ، وعن أبي بكر وعمر.
قال : فبلغك عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : إن عليّاً علیه السلام أقضاكم؟
ص: 54
قال : نعم.
قال : فكيف تقضي بغير قضاء عليٍّ علیه السلام وقد بلغك هذا؟ فما تقول إذا جيء بأرض من فضّة ، وسماء من فضّة ، ثمَّ أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدك فأوقفك بين يدي ربِّك فقال : يا ربِّ! إن هذا قضى بغير ما قضيت؟
قال : فاصفرِّ وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ، ثمَّ قال لي : التمس لنفسك زميلا ، واللّه لا أكلِّمك من رأسي كلمة أبداً (1).
ص: 55
روى الكليني عن عقبة بن خالد قال : قال لي أبو عبداللّه علیه السلام لو رأيت غيلان بن جامع واستأذن عليَّ فأذنت له ، وقد بلغني أنه كان يدخل إلى بني هاشم ، فلمَّا جلس قال : أصلحك اللّه! أنا غيلان بن جامع المحاربي قاضي ابن هبيرة.
قال : قلت : يا غيلان! ما أظنُّ ابن هبيرة وضع على قضائه إلاَّ فقيهاً؟
قال : أجل.
قلت : يا غيلان! تجمع بين المرء وزوجه؟
قال : نعم.
قلت : وتفرِّق بين المرء وزوجه؟
قال : نعم.
قلت : وتقتل؟
قال : نعم.
قلت : وتضرب الحدود؟
ص: 56
قال : نعم.
قلت : وتحكم في أموال اليتامى؟
قال : نعم.
قلت : وبقضاء من تقضي؟
قال : بقضاء عمر ، وبقضاء ابن مسعود ، وبقضاء ابن عباس ، وأقضي من قضاء أميرالمؤمنين علیه السلام بالشيء.
قال : قلت : يا غيلان! ألستم تزعمون - يا أهل العراق - وتروون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : علي أقضاكم؟
فقال : نعم.
قال : قلت : وكيف تقضي من قضاء علي علیه السلام - زعمت - بالشيء ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : عليٌّ أقضاكم؟
قال : وقلت : كيف تقضي يا غيلان؟
قال : أكتب : هذا ما قضى به فلان بن فلان لفلان بن فلان ، يوم كذا وكذا ، من شهر كذا وكذا ، من سنة كذا ، ثمَّ أطرحه في الدواوين.
قال : قلت : يا غيلان! هذا الحتم من القضاء ، فكيف تقول إذا جمع اللّه الأولين والأخرين في صعيد ، ثمَّ وجدك قد خالفت قضاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعلي علیه السلام ؟
قال : فأقسم باللّه لجعل ينتحب.
قلت : أيُّها الرجل! اقصد لسانك.
قال : ثمَّ قدمت الكوفة ، فمكثت ما شاء اللّه ، ثمَّ إنّي سمعت رجلا من الحيِّ يحدِّث ، وكان في سمر ابن هبيرة ، قال : واللّه إنّي لعنده ليلة إذ جاءه الحاجب
ص: 57
فقال : هذا غيلان بن جامع ، فقال : أدخله ، قال : فدخل فساءله ، ثمَّ قال له : ما حال الناس؟ أخبرني لو اضطرب حبل من كان لها؟
قال : ما رأيت ثمَّ أحداً إلاَّ جعفر بن محمّد علیه السلام .. (1).
ص: 58
روى الكشي عليه الرحمة ، عن هشام بن سالم قال : كنّا عند أبي عبد اللّه علیه السلام جماعة من أصحابه ، فورد رجل من أهل الشام ، فاستأذن فأذن له ، فلمَّا دخل سلَّم ، فأمره أبو عبد اللّه علیه السلام بالجلوس.
ثمَّ قال له : ما حاجتك أيُّها الرجل؟
قال : بلغني أنّك عالم بكل ما تسأل عنه ، فصرت إليك لأناظرك.
فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : في ماذا؟
قال : في القرآن ، وقطعه وإسكانه ، وخفضه ونصبه ورفعه.
فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : يا حمران! دونك الرجل.
فقال الرجل : إنّما أريدك أنت لا حمران.
فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : إن غلبت حمران فقد غلبتني.
فأقبل الشاميُّ يسأل حمران حتى غرض (1) ، وحمران يجيبه.
فقال أبو عبداللّه علیه السلام : كيف رأيت يا شاميّ؟!
قال : رأيته حاذقاً ، ما سألته عن شيء إلاَّ أجابني فيه.
ص: 59
فقال : أبو عبداللّه علیه السلام : يا حمران! سل الشاميَّ ، فما تركه يكشر (1).
فقال الشامي : أرأيت - يا أبا عبد اللّه - أناظرك في العربية.
فالتفت أبو عبداللّه علیه السلام فقال : يا أبان بن تغلب! ناظره ، فناظره فما ترك الشامي يكشر.
قال : أريد أن أناظرك في الفقه.
فقال أبو عبداللّه علیه السلام : يا زرارة! ناظره ، فما ترك الشامي يكشر.
قال : أريد أن أناظرك في الكلام.
فقال : يا مؤمن الطاق! ناظره ، فناظره فسجل الكلام بينهما ، ثمَّ تكلَّم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به.
فقال : أريد أن أناظرك في الاستطاعة.
فقال للطيار : كلِّمه فيها.
قال : فكلَّمه فما تركه يكشر.
فقال : أريد أناظرك في التوحيد.
فقال لهشام بن سالم : كلِّمه ، فسجل الكلام بينهما ، ثمَّ خصمه هشام.
فقال : أريد أن أتكلَّم في الإمامة.
فقال لهشام بن الحكم : كلِّمه يا أبا الحكم فكلَّمه فما تركه يريم ولا يحلي ولا يمري.
قال : فبقي يضحك أبو عبداللّه علیه السلام حتى بدت نواجذه.
فقال الشامي : كأنك أردت أن تخبرني أن في شيعتك مثل هؤلاء الرجال؟
قال : هو ذلك ، ثمَّ قال : يا أخا أهل الشام ، أمَّا حمران فحزقك فحرت له فغلبك بلسانه ، وسألك عن حرف من الحقِّ فلم تعرفه.
ص: 60
وأمَّا أبان بن تغلب فمغث حقّاً بباطل فغلبك ، وأمَّا زرارة فقاسك فغلب قياسه قياسك ، وأمَّا الطيار فكان كالطير يقع ويقوم ، وأنت كالطير المقصوص لا نهوض لك ، وأمَّا هشام بن سالم فأحسن أن يقع ويطير ، وأمَّا هشام بن الحكم فتكلَّم بالحق فما سوَّغك بريقك.
يا أخا أهل الشام! إن اللّه أخذ ضغثاً من الحقِّ ، وضغثاً من الباطل فمغثهما ، ثمَّ أخرجهما إلى الناس ، ثمَّ بعث أنبياء يفرِّقون بينهما ، ففرَّقها الأنبياء والأوصياء ، وبعث اللّه الأنبياء ليعرِّفوا ذلك ، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضل اللّه ومن يختصّ ، ولو كان الحقُّ على حدة والباطل على حدة ، كل واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبيٍّ ولا وصيٍّ ، ولكنَّ اللّه خلطهما ، وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمة علیهم السلام من عباده.
فقال الشامي : قد أفلح من جالسك.
فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجالسه جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، يصعد إلى السماء فيأتيه بالخبر من عند الجبّار ، فإن كان ذلك كذلك فهو كذلك.
فقال الشامي : اجعلني من شيعتك وعلِّمني.
فقال أبو عبداللّه علیه السلام لهشام : علِّمه ، فإنّي أحبُّ أن يكون تلماذاً لك.
قال علي بن منصور وأبو مالك الحضرمي : رأينا الشاميَّ عند هشام بعد موت أبي عبد اللّه علیه السلام ، ويأتي الشامي بهدايا أهل الشام ، وهشام يزوِّده هدايا أهل العراق. قال علي بن منصور : وكان الشاميُّ ذكيَّ القلب (1).
ص: 61
قال الشيخ الصدوق عليه الرحمة : ذكر ما كلم به الرضا علیه السلام يحيى بن الضحاك السمرقندي في الإمامة عند المأمون ، حدثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال : حدثني محمّد بن يحيى الصولي قال : .. كان المأمون في باطنه يحب سقطات الرضا علیه السلام وأن يعلوه المحتج ، وإن أظهر غير ذلك ، فاجتمع عنده الفقهاء والمتكلمون فدس إليهم أن ناظروه في الإمامة فقال لهم الرضا علیه السلام : اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه ، فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي ، ولم يكن بخراسان مثله ، فقال له الرضا علیه السلام : يا يحيى سل عما شئت.
فقال : نتكلم في الإمامة ، كيف ادعيت لمن لم يؤم وتركت من أم ، ووقع الرضا به؟
فقال له علیه السلام : يا يحيى أخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه ، أو كذب صادقا على نفسه ، أيكون محقا مصيبا ، أم مبطلاً مخطياً؟
فسكت يحيى ، فقال له المأمون : أجبه.
ص: 62
فقال : يعفيني أميرالمؤمنين من جوابه.
فقال المأمون : يا أبا الحسن عرفنا الغرض في هذه المسألة.
فقال علیه السلام : لابد ليحيى من أن يخبر عن أئمته : أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا فلا أمانة لكذاب (1) ، وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم : وليتكم ولست بخيركم (2) ، وقال تاليه : كانت بيعته فلته فمن عاد لمثلها فاقتلوه (3) فو اللّه ما رضي لمن فعل مثل فعلهم إلاّ بالقتل ، فمن لم يكن بخير الناس والخيرية لا تقع إلاّ بنعوت منها : العلم ، ومنها الجهاد ، ومنها سائر الفضائل وليست فيه (4) ومن كانت بيعته فلته يجب القتل على من فعل مثلها ، كيف يقبل عهده غيره
ص: 63
إلى غيره وهذه صورته؟! ثم يقول على المنبر : إن لي شيطانا يعتريني ، فإذا مال بي فقوموني ، وإذا أخطأت فأرشدوني ، فليسوا أئمة بقولهم إن صدقوا أو كذبوا ، فما عند يحيى في هذا جواب؟
فعجب المأمون من كلامه وقال : يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك (1).
ص: 64
قام فروة بن عمرو الأنصاري - وكان يقود مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فرسين ، ويصرم ألف وسق من تمر فيتصدَّق به على المساكين - فنادى : يا معشر قريش! أخبروني هل فيكم رجل تحلّ له الخلافة ، وفيه ما في عليٍّ علیه السلام ؟
فقال قيس بن مخرمة الزهري : ليس فينا من فيه ما في عليٍّ علیه السلام .
فقال له : صدقت ، فهل في علي علیه السلام ما ليس في أحد منكم؟
قال : نعم.
قال : فما يصدُّكم عنه؟
قال : اجتماع الناس على أبي بكر.
قال : أما واللّه ، لئن أصبتم سنَّتكم لقد أخطأتم سنَّة نبيِّكم صلی اللّه علیه و آله ، ولو جعلتموها في أهل بيت نبيِّكم (1) لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم (2).
ص: 65
قال الشعبي : حدَّثني عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد اللّه الأزدي ، قال : كنت جالساً بالمدينة حيث بويع عثمان ، فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو ، فسمعته يقول : واللّه ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت علیهم السلام !
وكان عبد الرحمن بن عوف جالساً ، فقال : وما أنت وذاك يا مقداد؟! قال المقداد : إنّي واللّه أحبُّهم لحبِّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإنّي لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمَّ انتزاعهم سلطانه من أهله.
قال عبد الرحمن : أما واللّه لقد أجهدت نفسي لكم.
قال المقداد : أما واللّه لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحقِّ وبه يعدلون ، أما واللّه لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إيَّاهم ببدر واحد.
فقال عبد الرحمن : ثكلتك أمُّك ، لا يسمعن هذا الكلام الناس ، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.
قال المقداد : إن من دعا إلى الحقِّ وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب
ص: 66
فتنة ، ولكن من أقحم الناس في الباطل ، وآثر الهوى على الحقِّ ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.
قال : فتربَّد وجه عبد الرحمن ، ثمَّ قال : لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي ولك شأن.
قال المقداد : إياي تهدِّد يابن أم عبد الرحمن؟!
ثمَّ قام عن عبد الرحمن ، فانصرف.
قال جندب بن عبداللّه : فاتبعته ، وقلت له : يا عبداللّه! أنا من أعوانك.
فقال : رحمك اللّه! إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة.
قال : فدخلت من فوري ذلك على عليٍّ علیه السلام ، فلمَّا جلست إليه قلت : يا أبا الحسن! واللّه ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر ، عنك.
فقال : صبر جميل واللّه المستعان.
فقلت : واللّه إنك لصبور!
قال : فإن لم أصبر فما ذا أصنع؟
قلت : إنّي جلست إلى المقداد بن عمرو آنفاً وعبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا وكذا ، ثمَّ قام المقداد فاتبعته ، فقلت له كذا ، فقال لي كذا ، فقال علي علیه السلام : لقد صدق المقداد ، فما أصنع؟
فقلت : تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك ، وتخبرهم أنك أولى بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك ، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين ، فإن دانوا لك فذاك ، وإلاَّ قاتلتهم ، وكنت أولى بالعذر ، قتلت أو بقيت ، وكنت أعلى عند اللّه حجَّة.
فقال : أترجو - يا جندب - أن يبايعني من كل عشرة واحد؟
ص: 67
قلت : أرجو ذلك.
قال : لكنّي لا أرجو ذلك ، لا واللّه ولا من المائة واحد ، وسأخبرك ، إن الناس إنّما ينظرون إلى قريش فيقولون : هم قوم محمَّد وقبيله ، وأمَّا قريش بينها فتقول : إن آل محمَّد يرون لهم على الناس بنبوَّته فضلا ، ويرون أنهم أولياء هذا الأمر دون قريش ، ودون غيرهم من الناس ، وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبداً ، ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها ، لا واللّه لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبداً!
فقلت : جعلت فداك يابن عمِّ رسول اللّه! لقد صدَّعت قلبي بهذا القول ، أفلا أرجع إلى المصر ، فأوذن الناس بمقالتك ، وأدعو الناس إليك؟
فقال : يا جندب! ليس هذا زمان ذاك.
قال : فانصرفت إلى العراق ، فكنت أذكر فضل علي علیه السلام على الناس ، فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك ، فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ، فيقوم عنّي ويدعني (1).
ص: 68
عن نبيط بن شريط قال : خرجت مع علي بن أبي طالب علیه السلام ومعنا عبداللّه ابن عباس ، فلمَّا صرنا إلى بعض حيطان الأنصار وجدنا عمر جالساً وحده ينكت الأرض ، فقال له علي بن أبي طالب علیه السلام : يا أميرالمؤمنين! ما الذي أجلسك وحدك هاهنا؟ فقال : لأمر همَّني.
قال عليٌّ : أفتريد أحدنا؟
قال عمر : إن كان فعبد اللّه.
فتخلَّف معه عبداللّه بن عباس ، ومضيت مع عليٍّ ، وأبطأ علينا ابن عباس ثم لحق بنا ، فقال له علي علیه السلام : ما وراءك؟
قال : يا أبا الحسن! أعجوبة من عجائب أميرالمؤمنين أخبرك بها واكتم عليَّ.
فقال : هلمَّ.
قال : لمَّا أن ولَّيت قال عمر - وهو ينظر إلى أثرك - : آه آه آه.
فقلت : ممَّ تأوُّهك يا أميرالمؤمنين؟
ص: 69
قال : من أجل صاحبك - يا ابن عباس - وقد أعطي ما لم يعطه أحد من آل النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ولو لا ثلاث هنَّ فيه ما كان لهذا الأمر من أحد سواه.
قلت : ما هنَّ يا أميرالمؤمنين؟
قال : كثرة دعابته ، وبغض قريش له ، وصغر سنِّه.
قال : فما رددتَ عليه؟
قال : داخلني ما يداخل ابن العمِّ لابن عمِّه ، فقلت : يا أميرالمؤمنين! أمَّا كثرة دعابته فقد كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله يداعب فلا يقول إلاَّ حقاً ، وأين أنت حيث كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول ونحن حوله صبيان وكهول وشيوخ وشبَّان ، ويقول للصبيِّ : ( سناقا ، سناقا ) ولكل ما يعلمه اللّه يشتمل على قلبه (1).
وأمَّا بغض قريش له فواللّه ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في اللّه حتى أظهر اللّه دينه ، فقصم أقرانها ، وكسر آلهتها ، وأثكل نساءها ، لامه من لامه.
وأمَّا صغر سنِّه فقد علمت أن اللّه تعالى حيث أنزل على رسول صلی اللّه علیه و آله : ( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (2) وجَّه النبي صلی اللّه علیه و آله صاحبه ليبلِّغ عنه ، فأمره اللّه أن لا يبلِّغ عنه ألاَّ رجل من أهله ، فوجَّهه في أثره ، فهل استصغر اللّه سنَّه؟
فقال عمر لابن عباس : أمسك عليَّ ، واكتم ، فإن سمعتها من غيرك لم أنم بين لابتيها (3).
ص: 70
روى ابن عساكر بالإسناد عن عبيداللّه بن عبد اللّه المديني قال : حجَّ معاوية بن أبي سفيان فمرَّ بالمدينة ، فجلس في مجلس فيه سعد بن أبي وقاص ، وعبد اللّه بن عمرو ، وعبد اللّه بن عباس ، فالتفت إلى عبد اللّه ابن عباس فقال : يا أبا عباس! إنك لم تعرف حقَّنا من باطل غيرنا ، فكنت علينا ولم تكن معنا ، وأنا ابن عمِّ المقتول ظلماً - يعني عثمان بن عفان - وكنت أحقَّ بهذا الأمر من غيري.
فقال ابن عباس : اللّهم إن كان هكذا فهذا - وأومأ إلى ابن عمر - أحقُّ بها منك ; لأن أباه قتل قبل ابن عمك.
فقال معاوية : ولا سواء : إن أبا هذا قتله المشركون ، وابن عمي قتله المسلمون.
فقال ابن عباس : هم واللّه أبعد لك ، وأدحض لحجّتك.
فتركه ، وأقبل على سعد فقال : يا أبا إسحاق! أنت الذي لم تعرف حقَّنا ، وجلس فلم يكن معنا ولا علينا.
ص: 71
قال : فقال سعد : إني رأيت الدنيا قد أظلمت ، فقلت لبعيري : إخ ، فأنختها حتى انكشفت.
قال : فقال معاوية : لقد قرأت ما بين اللوحين ، ما قرأت في كتاب اللّه عزَّوجلَّ : إخ.
قال : فقال سعد : أمَّا إذا أبيت فإني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعلي : أنت مع الحق والحق معك حيثما دار.
قال : فقال معاوية : لتأتيني على هذا ببيِّنة.
قال : فقال سعد : هذه أم سلمة تشهد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقاموا جميعاً فدخلوا على أم سلمة ، فقالوا : يا أم المؤمنين! إن الأكاذيب قد كثرت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهذا سعد يذكر عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ما لم نسمعه.
أنه قال - يعني لعلي علیه السلام - : أنت مع الحق والحق معك حيثما دار.
فقالت أم سلمة : في بيتي هذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي.
قال : فقال معاوية لسعد : يا أبا اسحاق! ما كنت ألوم الآن إذ سمعت هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجلست عن علي علیه السلام ، لو سمعت هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لكنت خادماً لعلي حتى أموت (1).
ولا يسوغ لمعاوية أن يتذرَّع بعدم معرفة علي علیه السلام وفضله ، وحرمة قتاله ، وأنه على الحق ، والمتتبِّع لكلمات معاوية في حق علي علیه السلام يلمس جيّداً أنه كان يعرف الكثير من فضل علي علیه السلام ، ويعرف حرمته ، ومع ذلك لا يتورَّع عن عداوته
ص: 72
وقتاله وشتمه ، غير أن الحقد الدفين أصمَّه وصدَّه عن الحق وأعمى بصيرته.
قال المسعودي بعد رواية ابن أبي نجيح : ووجدت في وجه آخر من الروايات - وذلك في كتاب علي بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار - عن ابن عائشة وغيره : ان سعداً لمَّا قال هذه المقالة لمعاوية (1) ونهض ليقوم ضرط له معاوية ، وقال له : اقعد حتى تسمع جواب ما قلت ، ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن ، فهلا نصرته؟ ولم قعدت عن بيعته؟ فاني لو سمعت من النبي صلی اللّه علیه و آله مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليٍّ ما عشت.
فقال سعد : واللّه إني لأحقُّ بموضعك منك.
فقال معاوية : يأبى عليك بنو عذرة ، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة (2).
وفي رواية ابن كثير في تأريخه قال : دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية ، فقال له : مالك لم تقاتل علياً؟
فقال : اني مرَّت بي ريح مظلمة ، فقلت : أخ أخ ، فأنخت راحلتي حتى انجلت عنّي ، ثمَّ عرفت الطريق فسرت.
فقال معاوية : ليس في كتاب اللّه أخ أخ ، ولكن قال اللّه تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (3) فو اللّه ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية.
ص: 73
فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيَّ بعدي (1).
فقال معاوية : من سمع هذا معك؟
فقال : فلان وفلان وأم سلمة.
فقال معاوية : أما إني لو سمعته منه صلی اللّه علیه و آله لما قاتلت علياً.
قال : وفي رواية من وجه آخر : إن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية ، وإنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها ، فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد ، فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليٍّ علیه السلام حتى يموت أو أموت (2).
ص: 74
قال ابن شهر آشوب في أمر الخوارج واجتماعهم لقتال أميرالمؤمنين علیه السلام : وكانوا اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة والبصرة وغيرهما ، ونادى مناديهم : إن أميرالمؤمنين شبث بن ربعي ، وأمير الصلاة عبداللّه بن الكوَّاء ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعرضوا الناس ، وقتلوا عبد اللّه بن خباب بن الأرت ، وكان عامله علیه السلام على النهروان.
فقال أميرالمؤمنين علیه السلام : يا ابن عباس! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا؟
فلمَّا وصل إليهم قالوا : ويلك يا ابن عباس! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب؟ وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور الثعلبي.
فقال ابن عباس : من بنى الإسلام؟
فقال : اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .
فقال : النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أحكم أموره ودخل بين حدوده أم لا؟
قال : بلى.
ص: 75
قال : فالنبيُّ صلی اللّه علیه و آله بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟
قال : بل ارتحل.
قال : فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت بعده؟
قال : بل بقيت.
قال : وهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟
قال : نعم ، الذرِّيَّة والصحابة.
قال : أفعمروها أو خربوها؟
قال : بل عمروها.
قال : فالآن هي معمورة أم خراب؟
قال : بل خراب.
قال : خربها ذرِّيَّته أم أمَّته؟
قال : بل أمَّته.
قال : وأنت من الذرِّيَّة أو من الأمَّة؟
قال : من الأمَّة.
قال : أنت من الأمَّة وخربت دار الإسلام ، فكيف ترجو الجنّة؟
وجرى بينهم كلام كثير (1).
ورواها ابن الأعثم الكوفي - أيضاً - أكمل من السابقة ، قال : فبينا عليٌّ - كرَّم اللّه وجهه - مقيم بالكوفة ينتظر انقضاء المدّة التي كانت بينه وبين معاوية ، ثمَّ يرجع إلى محاربة أهل الشام ، إذ تحرَّكت طائفة من خاصَّة أصحابه في أربعة
ص: 76
آلاف فارس ، وهم من النسَّاك العبَّاد أصحاب البرانس ، فخرجوا عن الكوفة ، وتحزَّبوا ، وخالفوا عليّاً - كرَّم اللّه وجهه - وقالوا : لا حكم إلاَّ لله ، ولا طاعة لمن عصى اللّه ، قال : وانحاز إليهم ما ينيف عن ثمانية آلاف رجل ممن يرى رأيهم.
قال : فصار القوم في اثني عشر ألفاً ، وساروا حتى نزلوا بحروراء ، وأمَّروا عليهم عبد اللّه بن الكوَّاء.
قال : فدعا عليٌّ علیه السلام بعبد اللّه بن عباس فأرسله إليهم ، وقال : يا ابن عباس! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا؟
قال : فأقبل عليهم ابن عباس حتى إذا أشرف عليهم ونظروا إليه ناداه بعضهم ، وقال : ويلك يا ابن عباس! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب؟
فقال ابن عباس : إني لا أستطيع أن أكلِّم كلَّكم ، ولكن انظروا أيّكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليَّ حتى أكلِّمه.
قال : فخرج إليه رجل منهم يقال له : عتاب بن الأعور الثعلبي حتى وقف قبالته ، وكأنَّ القرآن إنَّما كان ممثَّلا بين عينيه ، فجعل يقول ويحتجُّ ويتكلَّم بما يريد ، وابن عباس ساكت لا يكلِّمه بشيء ، حتى إذا فرغ من كلامه أقبل عليه ابن عباس ، فقال : إنّي أريد أن أضرب لك مثلا ، فإن كنت عاقلا فافهم.
فقال الخارجي : قل ما بدالك.
فقال له ابن عباس : خبرِّني عن دار الإسلام هذه ، هل تعلم لمن هي؟ ومن بناها؟
فقال الخارجي : نعم ، هي لله عزَّ وجلَّ ، وهو الذي بناها على أيدي أنبيائه علیهم السلام وأهل طاعته ، ثمَّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا
ص: 77
تعبدوا إلاَّ إيّاه ، فآمن قوم وكفر قوم ، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمّد صلی اللّه علیه و آله .
فقال ابن عباس : صدقت ، ولكن خبِّرني عن محمّد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء ، هل أحكم عمارتها ، وبيَّن حدودها ، وأوقف الأمَّة على سبلها وعملها وشرايع أحكامها ومعالم دينها؟
قال الخارجي : نعم ، قد فعل محمّد ذلك.
قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن محمّد صلی اللّه علیه و آله ، هل بقي فيها أو رحل عنها؟
قال الخارجي : بل رحل عنها.
قال ابن عباس : فخبِّرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بيِّنة الحدود ، أم رحل عنها وهي خربة لا عمران فيها؟
قال الخارجي : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة ، بيِّنة الحدود ، قائمة المنار.
قال ابن عباس : صدقت الآن ، فخبِّرني هل كان لمحمّد صلی اللّه علیه و آله أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا؟
قال الخارجي : بلى ، قد كان له صحابة ، وأهل بيت ، ووصيٌّ ، وذرِّيَّة يقومون بعمارة هذه الدار من بعده.
قال ابن عباس : ففعلوا أم لم يفعلوا؟
قال الخارجي : بلى ، قد فعلوا ، وعمروا هذه الدار من بعده.
قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن هذه الدار من بعده ، هل هي اليوم على ما تركها محمّد صلی اللّه علیه و آله من كمال عمارتها ، وقوام حدودها ، أم هي خربة عاطلة الحدود؟
ص: 78
قال الخارجي : بل هي عاطلة الحدود ، خربة.
قال ابن عباس : أفذرِّيَّته وليت هذه الخراب أم أمَّته؟
قال : بل أمَّته.
قال ابن عباس : أفأنت من الأمَّة أو من الذرِّيَّة؟
قال : أنا من الأمَّة.
قال ابن عباس : يا عتاب! فخبِّرني الآن عنك ، كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمَّة قد أخربت دار اللّه ودار رسوله علیه السلام ، وعطَّلت حدودها؟
فقال الخارجي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ويحك يا ابن عباس! احتلت واللّه حتى أوقعتني في أمر عظيم ، وألزمتني الحجّة حتى جعلتني ممن أخرب دار اللّه ، ولكن ويحك يا ابن عباس! فكيف الحيلة في التخليص مما أنا فيه؟
قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمَّة من دار الإسلام.
قال : فدلَّني على السعي في ذلك.
قال ابن عباس : إن أوَّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه.
قال : صدقت يا ابن عباس! واللّه ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحبُّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمِّك عليِّ بن أبي طالب علیه السلام لو لا أنه حكَّم عبداللّه بن قيس في حقٍّ هو له.
قال ابن عباس : ويحك يا عتاب! إنَّا وجدنا الحكومة في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، إنه قال تعالى : ( فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ
ص: 79
اللّهُ بَيْنَهُمَا ) (1) ، وقال تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ ) (2).
قال : فصاحت الخوارج من كل ناحية ، وقالوا : فكأن عمرو بن العاص عندك من العدول؟ وأنت تعلم أنه كان في الجاهليَّة رأساً ، وفي الإسلام ذنباً ، وهو الأبتر ابن الأبتر ، ممن قاتل محمّداً صلی اللّه علیه و آله وفتن أمَّته من بعده.
قال : فقال ابن عباس : يا هؤلاء! إن عمرو بن العاص لم يكن حكماً ، أفتحتجُّون به علينا؟ إنما كان حكماً لمعاوية ، وقد أراد أميرالمؤمنين علي علیه السلام أن يبعثني أنا فأكون له حكماً ، فأبيتم عليه ، وقلتم : قد رضينا بأبي موسى الأشعري ، وقد كان أبو موسى لعمري رضيّاً في نفسه وصحبته وإسلامه وسابقته ، غير أنه خدع فقال ما قال ، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى ، فاتقوا ربَّكم ، وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أميرالمؤمنين علیه السلام ، فإنّه وإن كان قاعداً عن طلب حقِّه فإنّما ينتظر انقضاء المدة ، ثمَّ يعود إلى محاربة القوم ، وليس علي علیه السلام ممن يقعد عن حقٍّ جعله اللّه له.
قال : فصاحت الخوارج ، وقالوا : هيهات يا ابن عباس! نحن لا نتولَّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً ، فارجع إليه وقل له : فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتجَّ عليه ونسمع كلامه .. (3).
ص: 80
قال القرطبي : لمَّا مات الحسن علیه السلام أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأبت ذلك عائشة ، وركبت بغلة ، وجمعت إليها الناس ، فقال لها ابن عباس : كأنكِ أردتِ أن يقال : يوم البغلة كما قيل : يوم الجمل؟
قالت : رحمك اللّه ، ذاك يوم نسي.
قال : لا يوم أذكر منه على الدهر (1).
وقال اليعقوبي : لمَّا حضرته علیه السلام الوفاة قال لأخيه الحسين علیه السلام : يا أخي! إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السمَّ ، ولم أسقه مثل مرَّتي هذه ، وأنا ميِّت من يومي ، فإذا أنا متُّ فادفنّي مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فما أحدٌ أولى بقربه منّي ، إلاَّ أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم.
ثمَّ أخرج نعشه يراد به قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فركب مروان بن الحكم ،
ص: 81
وسعيد بن العاص ، فمنعا من ذلك ، حتى كادت تقع فتنة.
وقيل : إن عائشة ركبت بغلة شهباء ، وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد ، فأتاها القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، فقال لها : يا عمَّة! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال : يوم البغلة الشهباء؟ فرجعت.
واجتمع مع الحسين بن علي علیهماالسلام جماعة وخلق من الناس ، فقالوا له : دعنا وآل مروان ، فواللّه ما هم عندنا إلاَّ كأكلة رأس.
فقال : إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم (1).
وروى أبو الفرج الإصفهاني ، عن عمير بن إسحاق قال : كنت مع الحسن والحسين علیهماالسلام في الدار ، فدخل الحسن المخرج ، ثمَّ خرج فقال : لقد سقيت السمَّ مراراً ، ما سقيته مثل هذه المرَّة ، ولقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلِّبها بعود معي ، فقال له الحسين علیه السلام : من سقاكه؟ فقال : وما تريد منه؟ أتريد أن تقتله؟ إن يكن هو هو فاللّه أشدُّ نقمة منك ، وإن لم يكن هو فما أحبُّ أن يؤخذ بي بريءٌ.
ودفن الحسن علیه السلام في جنب قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، في البقيع ، في ظلّة بني نبيه ، وقد كان أوصى أن يدفن مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فمنع مروان بن الحكم من ذلك ، وركبت بنو أميَّة في السلاح ، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن علیه السلام في بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ واللّه لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف ، فكادت الفتنة تقع.
وأبى الحسين علیه السلام أن يدفنه إلاَّ مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال له عبد اللّه بن جعفر : عزمت عليك بحقّي ألا تكلَّم بكلمة ، فمضى به إلى البقيع ، وانصرف مروان بن
ص: 82
الحكم.
وقال علي بن طاهر بن زيد : لمَّا أرادوا دفنه ركبت عائشة بغلا ، واستنفرت بني أميَّة ; مروان بن الحكم ، ومن كان هناك منهم ومن حشمهم ، وهو القائل :
فيوماً على بغل
ويوماً على جمل (1)
وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، عن ابن عباس ما جاء في وصيَّة الإمام الحسن بن علي علیهماالسلام لأخيه الحسين علیه السلام ، ومما جاء فيها : فإنّي أوصيك - يا حسين - بمن خلَّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع جدّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإني أحقُّ به وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، ولا كتاب جاءهم من بعده ، قال اللّه تعالى فيما أنزله على نبيِّه صلی اللّه علیه و آله في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (2) ، فواللّه ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير إذنه ، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته ، ونحن مأذون لنا في التصرُّف فيما ورثناه من بعده ، فإن أبت عليك الامرأة فأنشدك بالقرابة التي قرَّب اللّه عزَّوجلَّ منك ، والرحم الماسّة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن لا تهريق فيَّ محجمة (3) من دم حتى نلقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فنختصم إليه ، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده. ثم قبض علیه السلام .
قال ابن عباس : فدعاني الحسين علیه السلام وعبد اللّه بن جعفر وعلي بن عبداللّه بن العباس ، فقال : اغسلوا ابن عمِّكم ، فغسلناه وحنّطناه وألبسناه أكفانه ، ثمَّ خرجنا به حتى صلَّينا عليه في المسجد ، وإن الحسين علیه السلام أمر أن يفتح البيت ،
ص: 83
فحال دون ذلك مروان بن الحكم ، وآل أبي سفيان ، ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان ، وقالوا : أيدفن أميرالمؤمنين عثمان الشهيد القتيل ظلماً بالبقيع بشرِّ مكان ، ويدفن الحسن علیه السلام مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! واللّه لا يكون ذلك أبداً حتى تكسر السيوف بيننا ، وتنقصف الرماح ، وينفد النبل.
فقال الحسين علیه السلام : أما واللّه الذي حرَّم مكة ، لَلْحسن بنُ عليٍّ بنُ فاطمة أحقُّ برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، وهو واللّه أحقُّ به من حمَّال الخطايا ، مسيِّر أبي ذر رحمه اللّه ، الفاعل بعمَّار ما فعل ، وبعبد اللّه ما صنع ، الحامي الحمى ، المؤوي لطريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لكنَّكم صرتم بعده الأمراء ، وبايعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء.
قال : فحملناه ، فأتينا به قبر أمِّه فاطمة علیهاالسلام فدفنّاه إلى جنبها.
قال ابن عباس : وكنت أول من انصرف ، فسمعت اللغط ، وخفت أن يعجل الحسين علیه السلام على من قد أقبل ، ورأيت شخصاً علمت الشرَّ فيه ، فأقبلت مبادراً ، فإذا أنا بعائشة في أربعين راكباً على بغل مرحَّل ، تقدمهم وتأمرهم بالقتال ، فلمَّا رأتني قالت : إليَّ إليَّ يابن عباس! لقد اجترأتم عليَّ في الدنيا ، تؤذونني مرَّة بعد أخرى ، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبُّ.
فقلت : واسوأتاه! يوم على بغل ، ويوم على جمل ، تريدين أن تطفئي فيه نور اللّه ، وتقاتلي أولياء اللّه ، وتحولي بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين حبيبه أن يدفن معه ، ارجعي فقد كفى اللّه ( تعالى ) المؤنة ، ودفن الحسن علیه السلام إلى جنب أمِّه ، فلم يزدد من اللّه ( تعالى ) إلاَّ قرباً ، وما ازددتم منه واللّه إلاَّ بعداً ، يا سوأتاه! انصرفي فقد رأيت ما سرَّك.
قال : فقطَّبت في وجهي ، ونادت بأعلى صوتها : أما نسيتم الجمل يابن
ص: 84
عباس؟ إنكم لذوو أحقاد.
فقلت : أما واللّه ما نسيه أهل السماء ، فكيف ينساه أهل الأرض؟! فانصرفت وهي تقول :
فألقت عصاها فاستقرَّت بها النوى
كما قرَّعيناً بالإياب المسافر (1)
وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 13 - 14 ، قال : روى المدائني ، عن يحيى بن زكريا ، عن هشام بن عروة ، قال : قال الحسن علیه السلام عند وفاته : ادفنوني عند قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاَّ أن تخافوا أن يكون في ذلك شرٌّ ، فلمَّا أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم : لا يدفن عثمان في حشّ كوكب (2) ويدفن الحسن ها هنا ، فاجتمع بنو هاشم وبنو أميَّة ، وأعان هؤلاء قوم ، وهؤلاء قوم ، وجاءوا بالسلاح ، فقال أبو هريرة لمروان : أتمنع الحسن علیه السلام أن يدفن في هذا الموضع ، وقد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة؟! قال مروان : دعنا منك ، لقد ضاع حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري! وإنّما أسلمت أيام خيبر ..
وروى ابن عساكر ، عن محمّد بن الضحاك الحرامي قال : لمَّا بلغ مروان ابن الحكم أنهم قد أجمعوا أن يدفنوا الحسن بن علي علیه السلام مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جاء إلى سعيد بن العاص - وهو عامل المدينة - فذكر ذلك له ، فقال : ما أنت صانع في أمرهم؟
فقال : لست منهم في شيء ، ولست حائلا بينهم وبين ذلك.
ص: 85
قال : فخلِّني وإيَّاهم.
فقال : أنت وذاك.
فجمع لهم مروان مَنْ كان هناك من بني أميّة وحشمهم ومواليهم ، وبلغ ذلك حسيناً ، فجاء هو ومن معه في السلاح ليدفن حسناً في بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وأقبل مروان في أصحابه وهو يقول : يا ربَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بالبقيع ، ويدفن حسن في بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟ واللّه لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.
فلمَّا صلوا على حسن علیه السلام خشي عبداللّه بن جعفر أن يقع في ذلك ملحمة عظيمة ، فأخذ بمقدَّم السرير ، ثمَّ مضى نحو البقيع .. (1).
ص: 86
روى الطبري ، قال : فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير ، فقال : أمَّا أنت - يا زبير - فحواري رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأمَّا أنت - يا طلحة - فوقيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدك ، وأرى أمَّكما معكما ، فهل جئتما بنسائكما؟
قالا : لا.
قال : فما أنا منكما في شيء ، واعتزل. وقال السعدي في ذلك :
صُنْتُم حَلاَئِلَكم وَقُدْتُم أُمَّكم *** هذا لَعَمْرُك قلَّةُ الإنصافِ
أُمِرَتْ بجرِّ ذُيُولِها في بَيْتِها *** فَهَوَتْ تشقُّ البيدَ بالإِيجافِ
غرضاً يُقَاتِلُ دونها أبناؤُها *** بالنَّبْلِ وَالْخِطيِّ والأسيافِ
هُتِكَتْ بطَلْحَةَ والزبيرِ سُتُورُها *** هذا المخبِّرُ عَنْهُمُ والكافي (1)
وذكر نصر بن مزاحم عن القاسم بن محمّد ، قال : أقبل جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أمَّ المؤمنين! واللّه لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على
ص: 87
هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من اللّه ستر وحرمة ، فهتكت سترك ، وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مستكرهة ، فاستعيني بالناس (1).
ص: 88
من كتاب أعلام الدين للديلمي : قال رجل لعبد الملك بن مروان : أناظرك وأنا آمن؟
قال : نعم.
فقال له : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك ، أبنصٍّ من اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : لا.
قال : اجتمعت الأمّة فتراضوا بك؟
فقال : لا.
قال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها؟
قال : لا.
قال : فاختارك أهل الشورى؟
قال : لا.
قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بفيئهم دونهم؟
ص: 89
قال : بلى.
قال : فبأيِّ شيء سمِّيت أميرالمؤمنين ، ولم يؤمِّرك اللّه ولا رسوله صلی اللّه علیه و آله ولا المسلمون؟
قال له : اخرج عن بلادي وإلاَّ قتلتك.
قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثمَّ خرج عنه (1).
ص: 90
عن شريك بن عبداللّه القاضي ، قال : حضرت الأعمش في علّته التي قبض فيها ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فسألوه عن حاله ، فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوَّف من خطيئاته ، وأدركته رقّة فبكى ، فأقبل عليه أبو حنيفة ، فقال : يا أبا محمّد! اتق اللّه ، وانظر لنفسك ، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، وقد كنت تحدِّث في علي بن أبي طالب علیه السلام بأحاديث ، لو رجعت عنها كان خيراً لك.
قال الأعمش : مثل ماذا ، يا نعمان؟
قال : مثل حديث عباية : أنا قسيم النار.
قال : أو لمثلي تقول [ هذا ] يا يهودي؟ أقعدوني ، سنِّدوني ، أقعدوني ، حدَّثني - والذي إليه مصيري - موسى بن طريف - ولم أر أسديّاً كان خيراً منه - قال : سمعت عباية بن ربعي إمام الحي ، قال : سمعت علياً أميرالمؤمنين علیه السلام يقول : أنا قسيم النار ، أقول : هذا وليّي دعيه ، وهذا عدوّي خذيه.
وحدَّثني أبو المتوكل الناجي ، في إمرة الحجاج ، وكان يشتم علياً علیه السلام
ص: 91
شتماً مقذعاً - يعني الحجاج ( لعنه اللّه ) - عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا كان يوم القيامة يأمر اللّه عزَّوجلَّ فأقعد أنا وعلي على الصراط ، ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبَّكما ، وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما.
قال أبو سعيد : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما آمن باللّه من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتولَّ - أو قال : لم يحبَّ عليّاً ، وتلا ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّار عَنِيد ) (1).
قال : فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه ، وقال : قوموا بنا ، لا يجيئنا أبو محمّد بأطمَّ من هذا.
قال الحسن بن سعيد : قال لي شريك بن عبداللّه : فما أمسى - يعني الأعمش - حتى فارق الدنيا رحمه اللّه (2).
ص: 92
قال الشريف المرتضى عليه الرحمة : أخبرني الشيخ أدام اللّه عزَّه قال : سأل أبو الهذيل العلاف أبا الحسن علي بن ميثم رحمه اللّه عند علي بن رياح ، فقال له : ما الدليل على أن عليّاً علیه السلام كان أولى بالإمامة من أبي بكر؟
فقال له : الدليل على ذلك إجماع أهل القبلة على أن علياً علیه السلام كان عند وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤمناً عالماً كافياً ، ولم يجمعوا بذلك على أبي بكر.
فقال له أبو الهذيل : ومن لم يجمع عليه عافاك اللّه؟
قال له أبو الحسن : أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن.
فقال له أبو الهذيل : فأنت وأصحابك ضلاَّل تائهون.
قال له أبو الحسن : ليس جواب هذا الكلام إلاَّ السباب ثمَّ اللطام (1).
ص: 93
لحفص : أخبرني هل يجوز أن يخرج الحقّ من الأمّة حتى يكون الحق موجوداً في غير الأمّة؟
قال حفص : لا يجوز ذلك.
فقال هشام : أو ليس انما اختلفت الأمّة في علي علیه السلام وأبي بكر ، والخلافة كانت لأحدهما - لا محالة - بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ؟
قال حفص : بلى.
قال هشام : أفليس قد سقط العباس بقرابته ، ومعاذ بن جبل بعلمه؟
قال حفص : بلى.
قال هشام : وقد سقط الناس كلّهم بعد هذين؟
قال : نعم.
قال : فلا يحتاج إذن إلى النظر في أمرهم ، وانّما النظر في أبي بكر وعلي علیه السلام أيّهما يستحقّ الخلافة ممّن لا يستحقّها إذا كان الأمر بالاختيار على ما زعمتم؟
قال : نعم.
قال هشام : أفليس قد رويتم أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قال : عليٌّ أقضاكم (1).
ص: 95
ورويتم أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله وجَّهه إلى اليمن قاضياً ، قال : يا رسول اللّه! تبعثني
ص: 96
ولا بصر لي بالقضاء؟ فضرب بيده على صدره ، ثمَّ قال : اللّهم اهدِ قلبه ، واشرح صدره ، فقال عليّ علیه السلام : فما شككت في قضاء بعدها (1).
ورويتم أنه قال : كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكت ابتدأت (2) وبين الجوانح علم جمٌّ (3) ، وعلَّمني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألف باب من العلم ، كل باب يفتح ألف باب (4) ، ولقد علمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب (5) ، وقال النبي صلی اللّه علیه و آله : أنا
ص: 97
مدينة العلم وعليٌّ بابها (1) ، مع اتفاق المختلفين أنه كان أعلم أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى صار المأخوذ قوله في عامّة أحكامهم؟
قال حفص : بلى ، ولا ننكر فضل علي علیه السلام وبصره بالقضاء ، وبما حكى عن نفسه من العلم وما ظهر منه ، وأنّهم كلَّهم قد سألوه واحتاجوا إليه ، ولم يسأل هو أحداً منهم ، ولا احتاج إليه.
قال هشام : فإذا أقررت بذلك فهل تعلمون أن اللّه تعالى قال في كتابه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) (2) وقال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات ) (3) وقال : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (4)؟
ص: 98
قال حفص : كذلك قال اللّه.
قال هشام : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) فإذا أخبر اللّه أنَّه قد رفع علياً على أبي بكر درجات ، فلم صار أبو بكر أولى بها منه؟ ولم قدَّمتم أبا بكر عليه بعدما قد بيَّن اللّه في كتابه ما بيَّن؟
قال حفص : لأن أهل الفضل والعلم قدَّموه.
فقال هشام : فقد نفى اللّه عنهم ما أثبتَّه أنت لهم.
قال حفص : من أين قلت؟
قال : ذلك لقول اللّه عزَّوجلَّ : ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) وأولو الألباب أهل العقل والفضل ، فلو كانوا كذلك لتفكَّروا وقدَّموا علياً علیه السلام ، فسكت حفص (2).
كان هشام أحد المدافعين عن التشيع بيده ولسانه وقلبه ، وبكلِّ ما أوتيه من قوّة ، وكان مهاباً عند الخصم ، وقد عرف بينهم بحجّته القويّة ، وكان سريع البديهة ، حاضر الجواب ، وكان معظَّماً عند الإمام الصادق علیه السلام .
جاء في الكافي للكليني : 1 / 172 : عن يونس بن يعقوب قال : ورد هشام بن الحكم ، وهو أوّل ما اختطَّت لحيته ، وليس فينا إلاَّ من هو أكبر سنّاً منه ، قال : فوسَّع له أبو عبداللّه علیه السلام وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.
قال الشيخ عبداللّه نعمة في كتابه ( هشام بن الحكم ) (3) : الاتّجاهات الغالبة
ص: 99
عليه : كان هشام خصب الذهن ، مركَّز التفكير ، لا يضطرب في آرائه ، يفكِّر بتصميم ، ويقول بتصميم ، ويرسم الخطوط لتعزيز مذهبه الذي اختاره ، ولا يدع فرصة سانحة إلاَّ ويتّخذ منها وسيلة لتأييد رأيه وتقرير نزعته ، في طريق واضح لا يلتوي عليه ، وتتحكَّم في تفكيره اتجاهات كثيرة ، يلتقي بها كلُّ من درس آراءه ، تلك الاتجاهات التي لا تزايله في جميع مواقفه ، قد انصهرت فيها شخصيته ، واستحالت في طبيعتها ، وأبرزها : روح النقد.
ويشيع في تفكيره روح النقد لآراء مخالفيه ، وقد يأتي ذلك في كلمة قصيرة سانحة ، فمن ذلك قوله - وقد سئل عن معاوية ، أشهد بدراً؟ فقال : نعم ، من ذلك الجانب (1) وهي كلمة قصيرة تفيض بالنقد اللاذع الهادئ ، يقولها بغير تكلّف ، وتتداعى فيها الأفكار ، فتعود بنا إلى ماضي معاوية يوم كان يحارب في صفوف المشركين ضدَّ الإسلام والمسلمين.
ومثال آخر : أنّ صديقه عبداللّه بن يزيد الأباضي خطب منه ابنته فاطمة ، فقال له : تعلم ما بيننا من مودّة ودوام الشركة ، وقد أحببت أن تنكحني ابنتك فاطمة ، فقال هشام : إنّها مؤمنة ، فأمسك الأباضي ولم يعاوده في شيء.
ويقصد بقوله : ( مؤمنة ) ما يترتَّب على ذلك من عدم جواز تزويجها للمشركين ، المفضي إلى حكمه على الخوارج - ومنهم صديقه عبداللّه بن يزيد - بالإشراك.
ومثال ثالث : أنه كان يقول : ما رأيت مثل مخالفينا ، عمدوا إلى من ولاَّه اللّه من سمائه فعزلوه ، وإلى من عزله اللّه من سمائه فولّوه ، ويذكر قصّة مبلغ سورة
ص: 100
برائة ، ومرد أبي بكر ، وإيراد علي علیه السلام بعد نزول جبرئيل قائلا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن اللّه تعالى : إنه لا يؤدّيها عنك إلاَّ أنت أو رجل منك ، فردَّ أبا بكر ، وأنفذ علياً علیه السلام (1) وهي لفتة ذهن حديد ، ذات طابع مركَّز ، قد فسحت له درب النقد مسايرة لهذه النزعة المتأصِّلة فيه.
ومثال رابع : سئل هشام بن الحكم - وهو في مجلس مناظرة عند بني أمية - : كم عمرك يا غلام؟ فقال : إن عمري كعمر أسامة بن زيد الذي أمَّره النبي صلی اللّه علیه و آله على مشائخ الصحابة.
ومثال خامس : سأله سليمان بن حريز فقال : يا هشام بن الحكم! أخبرني عن قول علي لأبي بكر : يا خليفة رسول اللّه ، أكان صادقاً أم كاذباً؟ فقال هشام : وما الدليل على أنّه قاله؟ ثمَّ قال : وإن كان قاله فهو كقول إبراهيم : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وكقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (3) وكقول يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (4) (5).
ص: 101
قال المرزباني الخراساني : وقيل : إن مؤمن الطاق رحمه اللّه دخل يوماً مسجد الكوفة وفيه جماعة من المرجئة (1) ، منهم : أبو حنيفة وسفيان ، ورجل من الحروريّة جيِّد المناظرة فيهم ، فلمَّا رآه أبو حنيفة قال للحروري : هذا رأس الشيعة وعالمها ، فهل لك في مناظرته؟
فقال : إذا شئت ، فنهضا والجماعة ، وأتوا إليه وهو قائم يصلّي ، فلم يزالوا حتّى فرغ ، فسلَّموا عليه ، ثمَّ قال له أبو حنيفة : قد أتينا للمناظرة.
فقال : أضللتم دينكم فأنتم تطلبونه ، ولولا ذلك لقلَّت مناظرتكم فيه ، ولا شتغلتم بالعمل ، وإنّما يعمل المتّقون ، وقليله ينفع ، وإنه لقليل ، قال اللّه : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (2).
ص: 102
فقال الحروري : كلٌّ يدّعي الذي تدّعي ، لكن من إمامك؟
قال : من نصبه اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله يوم الغدير.
قال : ما اسمه؟
قال : بيَّنت.
قال : فهو أبو بكر.
قال : ذاك المردود يوم سورة براءة ، وصاحبي المؤدّي عن اللّه وعن رسوله صلی اللّه علیه و آله إلى أهل مكة.
قال : ذاك أبو بكر.
قال : دعوى أقم عليها بيِّنة.
قال : أنت المدّعي.
قال : كيف أكون أنا المدّعي وأنا المنكر لذلك؟! أنت تقول : هو ذاك ، وأنا أقول : هو رجل قد اجتمعت عليه الأمّة ، وإنّه صاحب يوم الغدير ، فكيف يكون الإجماع دعوى ، بل أنت المدّعي أنّه أبو بكر.
قال الحروري : دعنا من هذا.
قال : هذه واحدة لم تخرج منها ، والحقُّ بيدي حتى تقيم البيِّنة.
قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال بان بها من العالم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، استحقَّ بها الإمامة.
قال : ما هي؟
قال : الصدّيق ، وصاحبه في الغار ، والمتولّي للصلاة ، وضجيعه في القبر.
قال : أخبرني عن هذه المناقب بان بها من جميع العالم؟
قال : نعم.
ص: 103
قال : فإنَّ هذه مثالب.
قال : بقولك؟
قال : بل بإقرارك.
قال : فهات إذن.
قال : حتى يحضر من يحكم بيننا.
قالت الجماعة : نحن الحكَّام إذا ظهر الحقُّ.
قال : فالدليل على أنّها مثالب هو أن تدلَّ على من سمَّاه صدّيقاً.
قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : فما العلّة والمعنى الذي سمِّي به ...؟
قال : لأنّه أوَّل المسلمين.
قال : هذا ما لم يقل به أحد ، على أنّه أوّل المسلمين ، إنّما الإجماع على أن أول المسلمين علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأوَّل من آمن ، فما تقولون أيُّها الحكام؟
قالوا : أجل ، هو كما ذكرت.
قال الحروري : قد زعمتم أنه ما أشرك باللّه قط.
قال : ليس (1) اتّباعه للرسول صلی اللّه علیه و آله في وقت من الأوقات - وإن لم يكن مشركاً - حدثاً يستحقُّ به الإسلام؟
قالت الجماعة : أجل.
فقال الحروري : أنا لا أقبل قول هؤلاء.
قال : فأنا أساعدك ، أمَّا ما ذكرت أنّه صدّيق : أليس زعمت أن اللّه
ص: 104
ورسوله صلی اللّه علیه و آله سمَّياه صدّيقاً ، وأنّه ليس له في هذا الاسم مساوىء؟
قال : نعم.
قال للجماعة : اشهدوا عليه ، متى وجدنا في أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله من اسمه صدّيق سقطت حجّته عنّا.
قالوا : نعم.
قال : هل تعلم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ما أقلَّت الغبراء ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (1)؟
قال القوم : واحدة ، خصمت يا حروريّ.
قال الحروري : أنا لا أعرف هذه الرواية ، فظلمه القوم.
قال : يا حروريُّ! فهل تعرف القرآن؟
قال : نعم.
قال : فيلزمك ما فيه من الحجّة؟
قال : نعم.
قال : فقد شارك صاحبك في هذا الاسم المؤمنون جميعاً ، قال اللّه تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ ) (2).
قالت الجماعة : خصمت يا حروري.
قال : وأمَّا ما ذكرت من أنّه صاحبه في الغار فما رأيت الصاحب محموداً
ص: 105
في القرآن ، قال اللّه تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) (1) ، وقال : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون ) (2) ، وقال العالم لصاحبه - وهما في فضلهما ما هما - : ( إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ) (3).
قال الحروري : ما هذا مثل ذاك.
قال : أجل ، إن ذاك نبيٌّ معصوم ، وذا حكيم عليم قد علَّمه اللّه علماً ، ولم يعرفه موسى علیه السلام ثمَّ عرفه فأقرَّ له موسى ، واستيقن أنه ابن عمران ، ولكن لعلَّك صاحبك يستحقُّ المثل الأول ، وهو قوله : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) .
فقالت الجماعة : أعلنت - أبا جعفر - بما في نفسك.
قال : ما قلت بأساً ، إنّما ذكرت الصحبة فأحببت أن لا يحتجَّ بها للذي بيَّن اللّه في كتابه عن الصاحب.
قال الحروري : هذا صاحبه في الغار ، يلقى الأذى ويصبر على الخوف.
قال : هل كان صابراً ، وراجياً على ذلك ثواباً.
قال : نعم.
قال : أمَّا السكينة فقد نزلت على غيره ، وأمَّا الحزن فقد تعجَّله ، والأمر كما قال اللّه : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (4) ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا ينهى عن طاعة ، وإنّما ينهى عن معصية ، فقد عصى اللّه في حزنه وهو مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واكتسب ذنباً ، فهذا مما ينبغي لصاحبك أن يستغفر اللّه منه ، ولو كان ثبت في
ص: 106
كينونته في الغار لقد كان اللّه أبان له ذلك فيه ، إنما كانت السكينة للرسول صلی اللّه علیه و آله بصريح القول ، وبقوله : ( وأيَّده ) فهل تقول بأنه شارك أيضاً؟
قال : نعم.
قال : فهل أبان اللّه ذلك إذ كانت السكينة وكان المشارك فيها واحد ، كما أنزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في جماعة ، فخصَّت الرسول وعمَّتهم ، حيث قال : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، فأبانها له كما أبانها لهؤلاء ، وإنما قال اللّه تعالى : ( وَأَيَّدَهُ ) .
قال الحروري : قوموا ، قد أخرجه عن الإيمان.
قال : أنا لم أخرجه ، ولكنَّك أنت أخرجته.
قال : أنت تقول : أنا أخرجته؟
قال : يا حروري! أخرجته ، وهذا كتابنا ينطق.
قالت الجماعة : اثنين يا حروري.
قال أبو جعفر : وأمَّا الصلاة فلعمري إنكم تقولون : ما استتمَّها حتى خرج النبيُّ صلی اللّه علیه و آله وأخرجه ، وتقدَّم فصلَّى بالناس ، فإن كان قدَّمه للصلاة وعددتم ذلك له فضلا ، فقد كان خروجه إلى الصلاة وإخراجه من المحراب له نقصاً ، ولعمري لقد كان فضلا لو كان هو الذي أمره بالصلاة وتركه على حاله ولم يخرجه منها.
قال الحروري : فلم يخرجه ، بل صلَّى بالناس.
قال : فهل كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أم أمامه؟
قال : بل أمامه ، ولكن كان هو المكبِّر خلفه.
ص: 107
قال : فمن كان إمام الناس في تلك الحال؟
قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إمام لأبي بكر وللناس جميعاً.
قال : فإنّما منزلة أبي بكر بمنزلة الصفِّ الأول على سائر الصفوف ، مع أن هذه دعوى لم تدعم ، ثمَّ - أيضاً - ما المعنى الذي أوقف أبا بكر في ذلك الموقف؟
قال : يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس.
قال : لا تفعل تقع في صاحبك ، وتكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قالت الجماعة : وكيف ذلك؟
قال : لأن اللّه تعالى يقول : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (1) ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) ، نهى أن ترفع الأصوات فوق صوته ، وأمره أن يرفع صوته فقد نهى عنه ، ووعد من غضَّ صوته مغفرة وأجراً عظيماً ، فهل تجيز لصاحبك فعل ذلك؟
قال الحروري : ليس هذا من ذاك ، إنّما أوقف أبا بكر ليسمع الناس التكبير.
قال : هذه حدود مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معروفة الطول والعرض ، فهل نحتاج إلى مسمع ، وأيضاً فإن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله كان في حال ضعفه أقوى من قويِّهم في حال شبابه.
قالت الجماعة : هذه ثلاثة يا حروري.
قال : وأمَّا ما زعمت أنه ضجيعه في قبره فخبِّرني أين قبره؟
ص: 108
قال : في بيته.
قال : لعلّه في بيت عمر.
قال : بل في بيته صلی اللّه علیه و آله .
قال له : أوليس قد قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (1) ، فهل استأذناه فأذن لهما؟ ثمَّ الخاص والعام يعلم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سدَّ أبوابهما في حال حياته حتى إن أحدهما قال : اترك لي كوَّة أو خوخة أنظر إليك منها ، قال : لا ، ولا مثل الإصبع (2) ، فأخرجهما وسدَّ أبوابهما (3) ، فأقم أنت البيِّنة على أنه أذن لهما.
قال الحروري : ذلك بفرض من اللّه.
قال له : بأيِّ وصيٍّ أو بأيِّ حجّة؟
ص: 109
قال : بما لا يدفع ، وهو ميراث ابنتيهما من البيت.
قال له : قد استحقّا ثمناً من بين تسع حشايا كنَّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقد ظلمت صاحبك وهو يجحد فاطمة علیهاالسلام ميراثها ، وأنت تزعم أن ميراث النساء قد أوجبه لا بنتيهما ، وأسقط الكثير من ميراث فاطمة علیهاالسلام ، وإن أحببت أجبتك إلى ما ادّعيت من الميراث ، فنظرنا هل يصير لا بنتيهما على قدر الحصّة من الحصص التسع فعلنا.
فقال أبو حنيفة والثوري : قم ويلك! كم تزري عليهما وتلزمهما الحجّة؟ إذا كان هكذا من أن النبي صلی اللّه علیه و آله لا يورِّث ، وقد احتمل لك أبو جعفر الحجّة ، وطلبت المقاسمة ، واللّه ما يصير لهما قدر ذراعين في البيت.
فالتفت أبو جعفر إلى الجماعة ، وقال : قد أبصرتم وسمعتم ، مع أنّي لم أذكر أشياء أخر ادّخرتها ، ثمَّ التفت إلى الحروري وقال : إذا كنّا نعلم أن حرمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو ميِّت كحرمته وهو حيٌّ ، وقد أمر اللّه أن تغضَّ الأصوات عنده ، وأثاب فاعل ذلك ومعتمده ، فمن جعل لأبي بكر وعمر أن يضرب بالمعاول عنده ليدفنهما؟
فانقطع ، وكأنما أخرس لسانه ، فالتفت إليه الجماعة وقالوا : يا أبا جعفر! أنت الذي لا يقوم لك مناظر ، ولا تؤخذ عليك حجّة ، وقاموا وعليهم الخزية ، وسمَّوه من ذلك الوقت : شيطان الطاق ، رضي اللّه عنه ورحمه (1).
ص: 110
قال أحمد بن الصّديق المغربي : محمّد بن علي بن النعمان ، وهو الذي وقعت له مناظرة مع أبي حنيفة ; إذ قال له كالمنكر عليه : عمَّن رويت حديث ردِّ الشمس لعلي علیه السلام ؟
فقال : عمَّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل ، فأفحمه (1).
ص: 111
روى الشيخ الكليني عليه الرحمة عن علي رفعه ، قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمّد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر! ما تقول في المتعة؟ أتزعم أنها حلال؟
قال : نعم.
قال : فما منعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ، ويكتسبن عليك؟
فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالا ، وللناس أقدار ومراتب ، يرفعون أقدارهم ، ولكن ما تقول - يا أبا حنيفة - في النبيذ؟ أتزعم أنه حلال؟
قال : نعم.
قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبَّاذات فيكسبن عليك؟
فقال أبو حنيفة : واحدة بواحدة ، وسهمك أنفذ.
ثمَّ قال له : يا أبا جعفر! إن الآية التي في ( سَأَلَ سَائِلٌ ) تنطق بتحريم المتعة ، والرواية عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله قد جاءت بنسخها.
ص: 112
فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة! إن سورة ( سَأَلَ سَائِلٌ ) مكّية ، وآية المتعة مدنيّة ، وروايتك شاذّة رديَّة.
فقال له أبو حنيفة : وآية الميراث - أيضاً - تنطق بنسخ المتعة.
فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث.
قال أبو حنيفة : ممن أين قلت ذاك؟
فقال أبو جعفر : لو أن رجلا من المسلمين تزوَّج امرأة من أهل الكتاب ، ثمَّ توفِّي عنها ما تقول فيها؟
قال : لا ترث منه.
قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث ، ثمَّ افترقا (1).
وقيل : إنه دخل على أبي حنيفة يوماً ، فقال له أبو حنيفة : بلغني عنكم - معشر الشيعة - شيء.
فقال : فما هو؟
قال : بلغني أن الميِّت منكم إذا مات كسرتم يده اليسرى لكي يعطى كتابه بيمينه.
فقال : مكذوب علينا يا نعمان ، ولكنّي بلغني عنكم - معشر المرجئة - أن الميِّت منكم إذا مات قمعتم في دبره قمعاً ، فصببتم فيه جرّة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة.
فقال أبو حنيفة : مكذوب علينا وعليكم (2).
ص: 113
عن عمرو بن أذينة - وكان من أصحاب أبي عبداللّه جعفر بن محمّد صلوات اللّه عليه - أنّه قال : دخلت يوماً على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة وهو قاض ، فقلت : أردت - أصلحك اللّه - أن أسألك عن مسائل ، - وكنت حديث السنّ - فقال : سل - يا بن أخي - عمّا شئت.
قلت : أخبرني عنكم معاشر القضاة ، ترد عليكم القضيّة في المال والفرج والدم ، فتقضي أنت فيها برأيك ، ثمَّ ترد تلك القضيّة بعينها على قاضي مكة ، فيقضي فيها بخلاف قضيّتك ، ثمَّ ترد على قاضي البصرة ، وقاضي اليمن ، وقاضي المدينة ، فيقضون فيها بخلاف ذلك ، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم ، فتخبرونه باختلاف قضاياكم ، فيصوِّب رأي كلِّ واحد منكم ، وإلهكم واحد ، ونبيُّكم واحد ، ودينكم واحد ، أفأمركم اللّه عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه؟ أم كنتم شركاء اللّه في حكمه فلكم أن تقولوا ، وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بكم في إتمامه؟ أم أنزله اللّه تامّاً فقصَّر
ص: 114
رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن أدائه؟ أم ماذا تقولون؟
فقال : من أين أنت يا فتى؟
قلت : من أهل البصرة.
قال : من أيِّها؟
قلت : من عبد القيس.
قال : من أيِّهم؟
قلت : من بني أذينة.
قال : ما قرابتك من عبدالرحمن بن أذينة؟
قلت : هو جدّي.
فرحَّب بي وقرَّبني ، وقال : أَي فتى! لقد سألت فغلظت ، وانهمكت فتعوَّصت ، وسأخبرك إن شاء اللّه ، أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ماورد علينا من أمر القضايا ممَّا له في كتاب اللّه أصل أو في سنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة ، وأمَّا ما ورد علينا ممَّا ليس في كتاب اللّه ولا في سنَّة نبيِّه ، فإنا نأخذ فيه برأينا.
قلت : ما صنعت شيئاً ; لأن اللّه عزَّ وجلَّ يقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (1) وقال فيه : ( تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء ) (2) أرأيت لو أن رجلا عمل بما أمر اللّه به ، وانتهى عمَّا نهى اللّه عنه ، أبقي لله شيء يعذّبه عليه إن لم يفعله ، أو يثيبه عليه إن فعله؟
قال : وكيف يثيبه على ما لم يأمره به ، أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه؟
ص: 115
قلت : وكيف يرد عليك من الأحكام ما ليس له في كتاب اللّه أثر ، ولا في سنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله خبر؟
قال : أخبرك - يابن أخي - حديثاً حدَّثَنَاه بعض أصحابنا ، يرفع الحديث إلى عمر بن الخطاب ، أنه قضى قضيَّة بين رجلين ، فقال له أدنى القوم إليه مجلساً : أصبت يا أميرالمؤمنين ، فعلاه عمر بالدرّة وقال : ثكلتك أمُّك ، واللّه ما يدري عمر أصاب أم أخطأ ، إنما هو رأي اجتهدته ، فلا تزكّونا في وجوهنا.
قلت : أفلا أحدِّثك حديثاً؟
قال : وما هو؟
قلت : أخبرني أبي ، عن أبي القاسم العبدي ، عن أبان ، عن علي بن أبي طالب علیه السلام أنه قال : القضاة ثلاثة ، هالكان وناج ، فأمَّا الهالكان فجائر جار متعمِّداً ، ومجتهد أخطأ ، والناجي من عمل بما أمر اللّه به .. فهذا نقض حديثك يا عمّ.
قال : أجل واللّه يابن أخي ، فتقول أنت : إن كل شيء في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ؟
قلت : اللّه قال ذلك ، وما من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي إلاّ وهو في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، عرف ذلك من عرفه ، وجهله من جهله ، ولقد أخبرنا اللّه فيه بما لا نحتاج إليه ، فكيف بما نحتاج إليه؟!
قال : كيف قلت؟
قلت : قوله : ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ) (1).
قال : فعند من يوجد علم ذلك؟
ص: 116
قلت : عند من عرفت.
قال : وددت لو أني عرفته ، فأغسل قدميه وآخذ عنه وأتعلَّم منه.
قلت : أناشدك اللّه ، هل تعلم رجلا كان إذا سأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شيئاً أعطاه ، وإذا سكت عنه ابتدأه؟
قال : نعم ، ذلك علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه.
قلت : فهل علمت أن علياً سأل أحداً بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن حلال أو حرام؟
قال : لا.
قلت : هل علمت أنهم كانوا يحتاجون إليه ويأخذون عنه؟
قال : نعم.
قلت : فذلك عنده.
قال : فقد مضى ، فأين لنا به؟
قلت : تسأل في ولده ، فإن ذلك العلم عندهم.
قال : وكيف لي بهم؟
قلت : أرأيت قوماً كانوا بمفازة من الأرض ومعهم أدلاّء ، فوثبوا علهيم فقتلوا بعضهم ، وجافوا بعضهم (1) ، فهرب واستتر من بقي لخوفهم ، فلم يجدوا من يدلّهم ، فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا ، ما تقول فيهم؟
قال : إلى النار ، واصفرَّ وجهه ، وكانت في يده سفرجلة ، فضرب بها الأرض فتهشَّمت ، وضرب بين يديه وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون (2).
ص: 117
دخل شريك على المهدي ، فقال له : ما ينبغي أن تقلَّد الحكم بين المسلمين؟
قال : ولم؟
قال : لخلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة.
قال : أمَّا قولك : « بخلافك على الجماعة » فعن الجماعة أخذت ديني ، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني؟!
وأمَّا قولك : « وقولك بالإمامة » فما أعرف إلاَّ كتاب اللّه وسنَّة رسوله صلی اللّه علیه و آله .
وأمَّا قولك : مثلك ما يقلَّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا اللّه منه ، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه.
قال : ما تقول في علي بن أبي طالب؟
قال : ما قال جدّك العباس وعبداللّه.
قال : وما قالا فيه؟
ص: 118
قال : فأمَّا العباس ، فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمَّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق باللّه.
وأمَّا عبداللّه ، فانه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متَّبعاً ، وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور كان أول من يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين اللّه ، وفقهه في أحكام اللّه.
فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاَّ قليل حتى عزل شريك (1).
ص: 119
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة بالإسناد عن أحمد بن مسرور ، عن سعد بن عبد اللّه القمي قال : كنت امرءاً لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها ، كلفاً باستظهار ما يصحُّ لي من حقائقها ، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها ، شحيحاً على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها ، متعصِّباً لمذهب الإماميّة ، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم والتعدّي إلى التباغض والتشاتم ، معيباً للفرق ذوي الخلاف ، كاشفاً عن مثالب أئمَّتهم ، هتّاكاً لحجب قادتهم ، إلى أن بليت بأشِّد النواصب منازعة ، وأطولهم مخاصمة ، وأكثرهم جدلا ، وأشنعهم سؤالا ، وأثبتهم على الباطل قدماً.
فقال ذات يوم - وأنا أناظره - : تبّاً لك ولأصحابك يا سعد ، إنكم - معاشر الرافضة - تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما ، وتجحدون من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولايتهما وإمامتهما ، هذا الصدّيق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته ، أما علمتم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد لأمر التأويل ، والملقى إليه أزمّة
ص: 120
الأمّة ، وعليه المعوِّل في شعب الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش (1) لفتح بلاد الشرك؟ وكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة إلى مكان يستخفي فيه ، ولمَّا رأينا النبيَّ صلی اللّه علیه و آله متوجِّهاً إلى الانجحار ، ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد استبان لنا قصد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأبي بكر للغار للعلّة التي شرحناها ، وإنّما أبات علياً علیه السلام على فراشه لمَّا لم يكن يكترث به ، ولم يحفل به (2) لاستثقاله ، ولعلمه بأنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.
قال سعد : فأوردت عليه أجوبة شتّى ، فما زال يعقب كل واحد منها بالنقض والردِّ عليَّ ، ثمَّ قال : يا سعد! ودونكها أخرى بمثلها تخطم (3) أنوف الروافض ، ألستم تزعمون أن الصدّيق المبرَّأ من دنس الشكوك ، والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام كانا يسرَّان النفاق ، واستدللتم بليلة العقبة؟ أخبرني عن الصدّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً؟
قال سعد : فاحتلت لدفع هذه المسألة عنّي خوفاً من الإلزام ، وحذراً من أنّي إن أقررت له بطوعهما للإسلام احتجَّ بأن بدء النفاق ونشأه في القلب لا يكون إلاَّ عند هبوب روائح القهر والغلبة ، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد إليه قلبه ، نحو قول اللّه تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
ص: 121
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) (1).
وإن قلت : أسلما كرهاً كان يقصدني بالطعن ; إذ لم تكن ثمَّة سيوف منتضاة (2) كانت تريهما البأس.
قال سعد : فصدرت عنه مزورَّاً (3) قد انتفخت أحشائي من الغضب ، وتقطَّع كبدي من الكرب ، وكنت قد اتخذت طوماراً ، وأثبتُّ فيه نيِّفاً وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيباً ، على أن أسال عنها خبير أهل بلدي ; أحمد بن إسحاق ، صاحب مولانا أبي محمّد علیه السلام (4) فارتحلت خلفه ، وقد كان خرج قاصداً نحو مولانا بسر من رأى ، فلحقته في بعض المنازل ، فلمَّا تصافحنا قال : بخير لحاقك بي ، قلت : الشوق ثمَّ العادة في الأسئلة.
قال : قد تكافينا على هذه الخطّة الواحدة ، فقد برَّح بي القرم (5) إلى لقاء مولانا أبي محمّد علیه السلام وأنا أريد أن أسأله عن معاضل في التأويل ، ومشاكل في التنزيل فدونكها الصحبة المباركة ، فإنها تقف بك على ضفّة بحر لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، وهو إمامنا.
فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيِّدنا ، فاستأذنّا فخرج علينا الإذن بالدخول عليه ، وساق الحديث في عرض أسئلته على الإمام علیه السلام وجواباته له ، إلى أن قال : ثمَّ قال مولانا علیه السلام : يا سعد! وحين ادّعى خصمك أن رسول
ص: 122
اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمَّة إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد أمور التأويل ، والملقى إليه أزمَّة الأمّة ، وعليه المعوَّل في لمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر ، فكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه ، وإنما أبات عليّاً علیه السلام على فراشه لمَّا لم يكن يكترث له ، ولم يحفل به لا ستثقاله إياه ، وعلمه أنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.
فهلا نقضت عليه دعواه بقولك : أليس قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الخلافة بعدي ثلاثون سنة (1) ، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم؟
فكان لا يجد بدّاً من قوله لك : بلى.
قلت : فكيف تقول حينئذ : أليس كما علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الخلافة من بعده لأبي بكر علم أنها من بعد أبي بكر لعمر ، ومن بعد عمر لعثمان ، ومن بعد عثمان لعلي علیه السلام ؟
فكان أيضاً لا يجد بدّاً من قوله لك : نعم.
ثمَّ كنت تقول له : فكان الواجب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخرجهم جميعاً ( على الترتيب ) إلى الغار ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر ، ولا يستخفَّ
ص: 123
بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إيَّاهم ، وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم.
ولمَّا قال : أخبرني عن الصدِّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً؟ لم لم تقل له : بل أسلما طمعاً ، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمَّا كانوا يجدون في التوراة ، وفي سائر الكتب المتقدِّمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال من قصة محمّد صلی اللّه علیه و آله ومن عواقب أمره ، فكانت اليهود تذكر أن محمّداً يسلَّط على العرب كما كان بختنصَّر سلِّط على بني إسرائيل ، ولا بدَّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بختنصَّر ببني إسرائيل .. الخ (1).
ص: 124
الشيخ المفيد رحمه اللّه مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير (1)
قال القاضي في المجالس نقلا عن مصابيح القلوب : بينما القاضي عبد الجبّار ذات يوم في مجلسه في بغداد - ومجلسه مملوء من علماء الفريقين - إذ حضر الشيخ وجلس في صفِّ النعال ، ثمَّ قال للقاضي : إن لي سؤالا ، فإن أجزت بحضور هؤلاء الأئمة.
فقال له القاضي : سل.
فقال : ما تقول في هذا الخبر الذي ترويه طائفة من الشيعة : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (2) ، أهو مسلَّم صحيح عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله يوم الغدير؟
ص: 125
فقال : نعم خبر صحيح.
فقال الشيخ : ما المراد بلفظ المولى في الخبر؟
فقال : هو بمعنى أولى.
فقال الشيخ : فما هذا الخلاف والخصومة بين الشيعة والسنّة؟
فقال الشيخ : أيُّها الأخ! هذه رواية ، وخلافة أبي بكر دراية ، والعادل لا يعادل الرواية بالدراية.
فقال الشيخ : ما تقول في قول النبيِّ صلی اللّه علیه و آله لعليٍّ علیه السلام : حربك حربي ، وسلمك سلمي؟ (1)
قال القاضي : الحديث صحيح.
فقال : ما تقول في أصحاب الجمل؟
فقال القاضي : أيُّها الأخ! إنهم تابوا.
فقال الشيخ : أيُّها القاضي! الحرب دراية ، والتوبة رواية ، وأنت قرَّرت في حديث الغدير أن الرواية لا تعارض الدراية.
فبهت الشيخ القاضي ، ولم يحر جواباً ، ووضع رأسه ساعة ، ثمَّ رفع رأسه وقال : من أنت؟
فقال : خادمك محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي.
فقام القاضي من مقامه ، وأخذ بيد الشيخ وأجلسه في مسنده ، وقال : أنت
ص: 126
المفيد حقّاً! فتغيَّرت وجوه علماء المجلس.
فلمَّا أبصر القاضي ذلك منهم قال : أيُّها الفضلاء! إن هذا الرجل ألزمني ، وأنا عجزت عن جوابه ، فإن كان أحد منكم عنده جواب عمّا ذكر فليذكر ، ليقوم الرجل ويرجع مكانه الأول.
فلمَّا انفصل المجلس شاعت القصّة ، واتّصلت بعضد الدولة ، فأرسل إلى الشيخ فأحضره ، وسأله عمّا جرى فحكى له ذلك ، فخلع عليه خلعة سنيّة ، وأخذ له بفرس محلَّى بالزينة ، وأمر له بوظيفة تجري عليه (1).
ص: 127
قال الشريف المرتضى ( رضي اللّه عنه ) : ومن حكايات الشيخ - أيَّده اللّه - قال : حضرت مجمعاً لقوم من الرؤساء ، وكان فيهم شيخ من أهل الري ، معتزليّ ، يعظِّمونه لمحل سلفه ، وتعلُّقه بالدولة ، فسئلت عن شيء من الفقه ، فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة علیهم السلام .
فقال ذلك الشيخ : هذه الفتيا تخالف الإجماع.
فقلت له : عافاك اللّه ، من تعني بالإجماع؟
فقال : الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار.
فقلت : هذا - أيضاً - مجمل من القول ، فهل تدخل آل محمّد علیهم السلام في جملة هؤلاء الفقهاء ، أم تخرجهم من الإجماع؟
فقال : بل أجعلهم في صدر الفقهاء ، ولو صحَّ عنهم ما تروونه لما خالفناه.
فقلت له : هذا مذهب لا أعرفه لك ، ولا لمن أو مأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء ; لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أميرالمؤمنين علي بن أبي
ص: 128
طالب علیه السلام - وهو سيِّد أهل البيت علیهم السلام - في كثير ممَّا قد صحَّ عنه من الأحكام ، فكيف تستوحشون من خلاف ذرّيّته ، وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على كل حال؟
فقال : معاذ اللّه! ما نذهب إلى هذا ، ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء ، وهذه شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.
فقلت له : لم أحكِ إلاَّ ما أقيم عليه البرهان ، ولا ذكرت إلاَّ معروفاً لا يمكن أحداً من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار ، لكنك أنت تريد أن تتجمَّل بضدّ مذهبك على هؤلاء الرؤساء.
ثمَّ أقبلت على القوم ، فقلت : لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمّته وفقهائه وسادته أن أميرالمؤمنين علیه السلام قد يجوز عليه الخطأ في شيء يصيب فيه عمرو بن العاص ، زيادة على ما حكيت عنه من المقال!
فاستعظم القوم ذلك ، وأظهروا البراءة من معتقده ، وأنكره هو ، وزاد في الإنكار.
فقلت له : أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن علياً علیه السلام لم يكن معصوماً كعصمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : بلى.
قلت : فلم لا يجوز عليه الخطأ في شيء من الأحكام؟ فسكت.
ثمَّ قلت له : أليس عندكم أن أميرالمؤمنين علیه السلام قد كان يجتهد رأيه في كثير من الأحكام ، وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة كانوا من أهل الاجتهاد؟
قال : بلى.
ص: 129
قلت له : فما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم ما يذهب على أميرالمؤمنين علیه السلام من جهة الاجتهاد ، مع ارتفاع العصمة عنه ، وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد؟
فقال : ليس يمنع من ذلك مانع.
قلت له : فقد أقررت بما أنكرت الآن ، ومع هذا أفليس من أصلك أن كل أحد بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ ما انعقد عليه الإجماع؟ قال : بلى.
قلت له : أفليس هذا يسوِّغكم الخلاف على أميرالمؤمنين علیه السلام في كثير من أحكامه التي لم يقع عليها الإجماع؟
وبعد ، فليست لي حاجة إلى هذا التعسّف ، ولا أنا مفتقر فيما حكيت إلى هذا الاستدلال ; لأنه لا أحد من الفقهاء إلاَّ وقد خالف أميرالمؤمنين علیه السلام في بعض أحكامه ، ورغب عنها إلى غيرها ، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم به من الحلال والحرام ، وإني لأعجب من إنكارك ما ذكرت وصاحبك الشافعي يخالف أميرالمؤمنين علیه السلام في الميراث والمكاتب ، ويذهب إلى قول زيد فيهما!
ويروي عنه علیه السلام أنه كان لا يرى الوضوء من مسّ الذكر ، ويقول هو : إن الوضوء منه واجب ، وإن علياً علیه السلام خالف الحكم فيه بضرب من الرأي!
وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور عنه أنه قال : لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلِّب ، صلَّى عليٌّ علیه السلام بالناس وعثمان محصور ، فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلِّب على أمر الأمّة صلاة الناس خلف علي علیه السلام في زمن حصر عثمان ، فصرح بأن علياً كان متغلِّباً ، ولا خلاف أن المتغلِّب على أمر الأمَّة فاسق ضالّ ، وقال : لا بأس بالصلاة خلف الخوارج ، لأنهم متأوِّلون ، وإن كانوا فاسقين.
فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه ، يزعم معه أنه لو صحَّ له عن
ص: 130
أميرالمؤمنين علیه السلام شيء أو عن ذرّيّته لدان به! لو لا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس.
وليس في فقهاء الأمصار - سوى الشافعي - إلاَّ وقد شارك الشافعي في الطعن على أميرالمؤمنين علیه السلام ، وتزييف كثير من قوله ، والردّ عليه في أحكامه ، حتى إنهم يصرِّحون بأن الذي يذكره أميرالمؤمنين علیه السلام في الأحكام معتبر ، فإن أسنده إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله قبلوه منه على ظاهر العدالة ، كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ما يسندونه إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، بل كما يقبلون من حمَّال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه مسنداً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله .
فأمَّا ما قال أميرالمؤمنين علیه السلام من غير إسناد إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان موقوفاً على سيرهم ونظرهم واجتهادهم ، فإن وضح لهم صوابه فيه قالوا به من حيث النظر ، لا من حيث حكمه به وقوله ، وإن عثروا على خطأ فيه اجتنبوه وردّوه عليه وعلى من اتّبعه فيه ، فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله علیه السلام ، وهذا مالا يذهب إليه من وجد في صدره جزأً من مودّته علیه السلام ، وحقّه الواجب له ، وتعظيمه الذي فرضه اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، بل لا يذهب إلى هذا القول إلاَّ من ردَّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قوله : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار (1).
ص: 131
وقوله صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وعلي بابها (1) وقوله صلی اللّه علیه و آله : علي أقضاكم (2) ، وقول أميرالمؤمنين علیه السلام : ضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يده على صدري وقال : اللّهم اهد قلبه ، وثبِّت لسانه ، فما شككت في قضاء بين اثنين (3).
فلمَّا ورد عليه هذا الكلام تحيَّر ، وقال : هذه شناعات على الفقهاء ، والقوم لهم حجج على ما حكيت عنهم.
فقال له بعض الحاضرين : نحن نبرأ إلى اللّه من هذا المقال وكل دائن به.
وقال له آخر : إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على إبطال ما ادّعيت أولا من ضدّ هذه الحكاية ، ونحن نعيذك باللّه أن تذهب إلى هذا القول! فإن كل شيء تظنّه حجّة عليه فهو كالحجّة في إبطال نبوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فسكت مستحيياً ممّا جرى ، وتفرَّق الجمع (4).
ص: 132
قال الشيخ أدام اللّه عزَّه : قال لي يوماً بعض المعتزلة : لو كان ما تدّعونه من هذا الفقه الذي تضيفونه إلى جعفر بن محمّد وأبيه وابنه علیهم السلام حقاً ، وأنتم صادقون في الحكاية عنهم ، لوجب أن يقع لنا - معشر مخالفيكم - العلم الضروريّ بصحّة ذلك حتى لا نشكَّ فيه ، كما وقع لكم صحّة الحكاية عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وغيرهم من فقهاء الأمصار برواية أصحابهم عنهم ، فلمّا لم نعلم صحّة ما تدّعونه ، مع سماعنا لأخباركم وطول مجالستنا لكم دلَّ على أنكم متخرِّصون في ذلك!
وبعد فما بال كل من عددنا من فقهاء الأمصار قد استفاض عنهم القول في الفتيا استفاضة منعت من الريب في مذاهبهم ، وأنتم أئمّتكم أعظم قدراً من هؤلاء ، وأجلُّ خطراً ، لاسيما مع ما تعتقدون فيهم : من العصمة ، وعلوّ المنزلة ، والفضل على جميع البريّة ، والبينونة من الخلق بالمعجزة ، وما اختصّوا به من خلافة الرسول عليه وآله السلام ، وفرض الطاعة على الجنّ والإنس؟ وإن هذا لشيء عجيب!
ص: 133
قال الشيخ أدام اللّه عزَّه : فقلت له : إن الجواب عن هذا السؤال قريب جدّاً ، غير أني أقلبه عليك ، فلا يمكنك الانفصال منه إلاَّ بإخراج من ذكرت من جملة أهل العلم ، ونفي المعرفة عنهم ، وإسقاط مقال من زعمت أنهم كانوا من أصحاب الفتيا ، والعلم الضروريّ حاصل لكل من سمع الأخبار بضدّ ذلك وخلافه ، وأنهم علیهم السلام كانوا من أجلّة أهل الفتيا.
وذلك : أننا وإن كنا كاذبين على قولك ، فلابدّ لهؤلاء القوم علیهم السلام من مقال في الفتيا يتضمَّن بعض ما حكيناه عنهم ، فما بالنا معشر الشيعة ، بل ما بالكم - معشر الناصبة - لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة بالضرورة ، كما تعلمون مذاهب أهل الحجاز والعراق ومن ذكرت من فقهاء الأمصار؟
فإن زعمت أنك تعلم لهم في الفتيا مذهباً بخلاف ما نحكيه عنهم علم اضطرار - مع تديُّننا بكذبك في ذلك - لم نجد فرقاً بيننا وبينك إذا ادّعينا أننا نعلم صحّة ما نحكيه عنهم بالاضطرار ، وأنك وأصحابك تعلمون ذلك ، ولكنكم تكابرون العيان ، وهذا مالا فصل فيه.
فقال : إنما لم نعلم مذهبهم باضطرار لأنّه مبثوث في مذاهب الفقهاء إذا كانوا علیهم السلام يختارون ما اختاروا من قول الصحابة والتابعين ، فتفرَّق مجموع أخبارهم في مذاهب الفقهاء.
فقلت له : فإن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ومن عددت ; لأن هؤلاء تخيَّروا من أقوال الصحابة والتابعين ، فكان يجب أن لا نعلم مذاهبهم باضطرار ، على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال فإنّا نعتمد عليه في جوابك ، فنقول : إننا إنما تعرَّينا من علم الاضطرار بمذاهبهم علیهم السلام لأن الفقهاء تقسَّموا مذاهبهم المنصوصة عندنا ، فدانوا بها على سبيل الاختيار ; لأن قولهم
ص: 134
متفرِّق في مقال الفقهاء ، فلذلك لم يقع العلم به باضطرار.
فقال : فهب أن الأمر كما وصفت ، ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من خلاف جميع الفقهاء علم اضطرار؟
فقلت له : ليس شيء مما تومئ إليه إلاَّ وقد قاله صحابيّ أو تابعي ، وإن اتّفق من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن ، فلمَا قدَّمنا مما رضيته من الاعتلال لم يحصل علم الاضطرار ، مع أنك تقول - لا محالة - بأن قولهم علیهم السلام في هذه الأبواب بخلاف ما عليه غيرهم فيها ، وهو ما أجمع عليه عندك فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين بإحسان ، فما بالنا لا نعلم ذلك من مقالهم علم اضطرار؟ وليس هو مما تحدَّثته مذاهب الفقهاء ، ولا اختلف فيه عندك من أهل الإسلام أحد ، فبأيِّ شيء تعلَّقت في ذلك تعلَّقنا به في إسقاط سؤالك ، واللّه الموفّق للصواب.
فلم يأت بشيء تجب حكايته ، والحمد لله.
قال السيِّد رضي اللّه عنه ، مؤلِّف الفصول المختارة : وقلت للشيخ عقيب هذه الحكاية لي : إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا : إن جعفر بن محمّد ، وأباه محمّد بن علي ، وابنه موسى بن جعفر علیهم السلام لم يكونوا من أهل الفتيا ، لكنهم كانوا من أهل الزهد والصلاح؟
قال : يقال لهم : هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة ، وجوَّزناها لكم ، أليس من قولكم وقول كل مسلم وذمّيٍّ وعدوٍّ لعلي بن أبي طالب علیه السلام ووليٍّ له : أن أميرالمؤمنين علیه السلام كان من أهل الفتيا؟
فلابد من أن يقولوا : بلى.
فيقال لهم : فما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من عددتموه من فقهاء الأمصار ، بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن
ص: 135
الخطاب؟
إن قالوا : إنكم تعلمون ذلك باضطرار.
قلنا لهم : وذلك هو ما تحكونه أنتم عنه ، أو ما نحكيه نحن مما يوافق حكايتنا عن ذرّيّته علیهم السلام ؟
فإن قالوا : هو ما نحكيه دونكم.
قلنا لهم : ونحن - على أصلكم - في إنكار ذلك مكابرون.
وإن قالوا : نعم.
قلنا لهم : بل العلم حاصل لكم بما نحكيه عنه خاصّة ، وأنتم في إنكار ذلك مكابرون ، وهذا ما لا فصل فيه.
وهو أيضاً يسقط اعتلالهم في عدم العلم الضروريّ بمذاهب الذرّيّة لما ذكروه من تقسيم الفقهاء لها ; لأن أميرالمؤمنين علیه السلام قد سبق الفقهاء الذين أشاروا إليهم ، وكان مذهب علي علیه السلام متفرِّداً.
فإن اعتلّوا بأنه كان منقسماً في قول الصحابة فهم أنفسهم ينكرون ذلك ; لروايتهم عنه الخلاف ، مع أنه يجب أن لا يعرف مذهب عمر وابن مسعود ، لأنهما كانا منقسمين في مذاهب الصحابة ، وهذا فاسد من القول بيِّن الاضمحلال.
قال الشيخ أدام اللّه عزَّه : وهذا كلام صحيح ، ويؤيِّده علمنا بمذاهب المختارين من المعتزلة والزيدية والخوارج ، مع انبثاثها في أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.
وقال الشيخ أدام اللّه حراسته : وقد ذكرت الجواب عمَّا تقدم من السؤال في هذا الباب ، في كتابي المعروف بتقرير الأحكام ، ووجوده هناك يغني عن تكراره هاهنا ، إذ هو في موضعه مستقصى عن البيان (1).
ص: 136
قال السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك في البحث عن أن الأنبياء علیهم السلام يورِّثون أم لا؟ : قال الباجي : أخبرني القاضي أبو جعفر السماني أن أبا علي بن شاذان - وكان من أهل العلم بهذا الشأن إلاَّ أنه لم يكن قرأ عربيّة - فناظر يوماً في هذه المسألة أبا عبداللّه بن المعلِّم - وكان إمام الإماميّة ، وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربيَّة - فاستدل ابن شاذان على أن الأنبياء لا يورِّثون بحديث : إنّا معاشر الأنبياء لا نورِّث ، ما تركناه صدقة (1).
فقال له ابن المعلِّم : أمَّا ما ذكرت من هذا الحديث فإنّما هو صدقة نصب على الحال ، فيقتضي ذلك : أن ما تركه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله على وجه الصدقة لا يورث عنه ، ونحن لا نمنع هذا ، وإنّما نمنع ذلك فيما تركه على غير هذا الوجه .. (2).
ص: 137
قال ابن أبي جمهور الأحسائي عليه الرحمة : وقد اتّفق للمرتضى عليه الرحمة مع علماء الجمهور في الإمامة ، فأوردوا عليه أخباراً موضوعة في فضائل الشيخين ، فقال : هي مكذوبة بها على النبي صلی اللّه علیه و آله .
فقالوا : لا يقدر ولا يتجَّرى أحد على الكذب عليه.
فأجابهم بأنه روي عنه هذا الحديث - أعني قوله صلی اللّه علیه و آله : ( ستكثر عليَّ الكذّابة ) (1) - فهذا الحديث إمّا مكذوب عليه أو هو صحيح عنه ، ويلزم المطلوب على كلا التقديرين ، فأفحموا به عن الجواب (2).
ص: 138
قال ابن أبي الحديد : حدَّثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي ، المعروف بابن عالية ، من ساكني قطفتا (1) ، بالجانب الغربيِّ من بغداد ، وأحد الشهود المعدَّلين بها ، قال : كنت حاضراً الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي ، الفقيه المعروف بغلام ابن المنى ، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدَّم الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ، ويشتغل بشيء في علم المنطق ، وكان حلو العبارة ، وقد رأيته أنا ، وحضرت عنده ، وسمعت كلامه ، وتوفِّي سنة عشر وستمائة.
قال ابن عالية : ونحن عنده نتحدَّث ، إذ دخل شخص من الحنابلة ، قد كان له دين على بعض أهل الكوفة ، فانحدر إليه يطالبه به ، واتّفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة ، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، ويجتمع بمشهد أميرالمؤمنين علیه السلام من الخلائق جموع عظيمة ،
ص: 139
تتجاوز حدَّ الإحصاء.
قال ابن عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص : ما فعلت؟ ما رأيت؟ هل وصل مالك إليك؟ هل بقي لك منه بقيّة عند غريمك؟ وذلك يجاوبه ، حتى قال له : يا سيِّدي! لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ، وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب علیه السلام من الفضائح والأقوال الشنيعة ، وسبِّ الصحابة جهاراً بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة!
فقال إسماعيل : أيُّ ذنب لهم؟ واللّه ما جرَّأهم على ذلك ، ولا فتح لهم هذا الباب إلاَّ صاحب ذلك القبر!
فقال ذلك الشخص : ومن صاحب القبر؟
قال : عليُّ بن أبي طالب!
قال : يا سيِّدي! هو الذي سنَّ لهم ذلك ، وعلَّمهم إيّاه ، وطرقهم إليه؟!
قال : نعم واللّه.
قال : يا سيدي! فإن كان محقّاً فمالنا أن نتولّى فلاناً وفلاناً؟! وإن كان مبطلا فمالنا نتولاّه؟! ينبغي أن نبرأ إمَّا منه أو منهما.
قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعاً ، فلبس نعليه ، وقال : لعن اللّه إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة ، ودخل دار حرمه ، وقمنا نحن وانصرفنا (1).
ص: 140
عن سلار بن حبيش البغدادي ، عن الأمير أبي الفوارس الشاعر قال : حضرت مجلس الوزير يحيى بن هبيرة ومعي يومئذ جماعة من الأماثل وأهل العلم ، وكان في جملتهم الشيخ أبو محمّد بن الخشّاب اللغوي ، والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم ، فجرى حديث شعر أبي طالب ابن عبد المطلب ، فقال الوزير : ما أحسن شعره لو كان صدر عن إيمان!
فقلت : واللّه لأجيبن الجواب قربة إلى اللّه ، فقلت : يا مولانا! ومن أين لك أنّه لم يصدر عن إيمان؟
فقال : لو كان صادراً عن إيمان لكان أظهره ولم يخفه.
فقلت : لو كان أظهره لم يكن للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ناصر.
قال : فسكت ولم يحر جواباً ، وكانت لي عليه رسوم فقطعها ، وكانت لي فيه مدائح في مسودات فغسلتها جميعاً (1).
ص: 141
قال ابن الجوزي يوماً على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فسألته امرأة عمَّا روي أن عليّاً علیه السلام سار في ليلة إلى سلمان فجهَّزه ورجع.
فقال : روي ذلك.
قالت : وعثمان تمَّ ثلاثة أيام منبوذاً في المزابل ، وعليُّ علیه السلام حاضر؟
قال : نعم.
قالت : فقد لزم الخطأ لأحدهما.
فقال : إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن بعلك فعليك لعنة اللّه ، وإلاَّ فعليه.
فقالت : خرجت عائشة إلى حرب عليٍّ بإذن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أو لا؟ (1)
فانقطع ولم يحر جواباً (2).
ص: 142
قال السيِّد نعمة اللّه الجزائري عليه الرحمة : حكى لي بعض إخواني ، قال : كنت جالساً في بعض الأيَّام عند قاضي بغداد الحنفي ، فسمعنا سائلا يقرأ قصيدة التصدُّق بالخاتم ، فقال لي : اسمع هؤلاء الروافض كيف نظموا القصائد في مدح علي بن أبي طالب علیه السلام على تصدُّقه بخاتم ما تبلغ قيمته أربعة دراهم ، وأبو بكر الصدّيق تصدَّق بجميع ماله ، ولم يذكره أحد في نظم ولا نثر.
فقلت له : أصلح اللّه القاضي ، ليس للروافض ذنب في هذا المعنى ، إن كان شيءٌ فهو من عالم الملكوت ، لأنه أنزل في ذلك الخاتم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة (1) ، ولم ينزل في شأن أبي بكر آية ولا سورة مع تصدُّقه بالمال الجزيل (2).
ص: 143
فحرَّك يده وقال : يا أخي! خطر هذا في بالي أيضاً ، ولكن كيف الحيلة؟! (1)
ص: 144
حكي : أن الأمير فندرسكي في أثناء سياحته وصل إلى الهند ، فطلب السلطان منه لقاءه ، فامتنع السيِّد لكون السلطان سنّياً ، وبعد الإصرار قبله بشرط عدم مذاكرات مذهبيّة ، ولكن بعد اللقاء قال السلطان : وإن كان شرط اللقاء عدم البحث في المذهب ولكنّي أسألكم سؤالا واحداً في سبّ معاوية لأيِّ جهة هو؟
قال السيِّد : لو فرضنا أنّك كنت في الحرب بين علي علیه السلام ومعاوية موجوداً ، بأمر أيِّهما كنت ممتثلا؟
قال السلطان : كنت أطيع أمر علي علیه السلام ; لكونه خليفة بالإجماع ، وكون مخالفته كفراً.
قال السيِّد : لو أمرك عليٌّ علیه السلام بمبارزة معاوية ، تطيعه أو تعصيه؟
قال السلطان : لقد كنت أطيعه ; لكون خلافه كفراً.
قال السيِّد : فحينئذ لو سلَّ معاوية سيفه وأراد قتلك ، هل كنت تقتله ، أو تهرب من الجهاد ، أو كنت تقتل نفسك؟
قال السلطان : كنت أقتله قطعاً.
ص: 145
قال السيِّد : تعدُّ قتله طاعة أو معصية؟
قال السلطان : أعدُّه طاعة ; لكونه طاعة لعليٍّ علیه السلام .
قال السيِّد : فمن كنت تقتله وتستبيح دمه تسألني عن سبِّه أنه يجوز أو لا يجوز؟! (1).
ص: 146
العلامة الحلي رحمه اللّه في الفرقة الناجية
جاء في كتاب التحفة الشاهية (1) : أنَّه - بعد أن ذاع صيت اجتهاد شيخ الطائفة الإمامية في زمانه ، ووجههم ورئيسهم في ذلك الزمان ، وهو جمال الملّة والدين ، الحسن بن المطهَّر الحلي ، روَّح اللّه روحه ، وأسكنه بحبوحة جنَّاته - أنه قدم أحد المشائخ ، وكان ساكناً بأرض الشام ، فحينما سمع بأن العلامة على مذهب الأئمّة الاثني عشر علیهم السلام ، وأن الأحاديث والأخبار الشريفة تدل على أحقّيّتهم ، وأنهم على سنَّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سافر من بلده إلى الحلّة قاصداً مناظرة العلاّمة - عليه الرحمة - وإفحامه.
وحينما وصل خبر وصوله إلى الحلّة خرج اثنان من تلامذة العلامة لاستقباله ، وليمتحنوا قدرته على مناظرة العلامة ، ومدى معرفته بالعلوم ليخبروا
ص: 147
العلامة بذلك.
وحينما التقوا بالشيخ الشامي سألوه عن الحديث المرويّ المشهور : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّهم في النار إلاَّ واحدة (1) ، وأنه هل ثبت صحّة هذا الحديث عنده أم لا؟
فقال : نعم.
ص: 148
فسألوه : هل أن الأئمة الاثني عشر علیهم السلام الذين يعتقد فيهم الشيعة العصمة والطهارة ، وأنهم أئمّة تجب طاعتهم داخلون في هذه الفرقة ، أم أنهم داخلون في الفرقة الهالكة؟
فلم يلتفت إليهم الشيخ الشامي ، ولم يجبهم ، ثم قفل عائداً إلى الشام وتركهم.
ويقال : إنه حينما سألوه عن السبب في عدم إجابتهم قال لهم : لأني كنت عاجزاً عن إجابتهم شِقَّي السؤال ; لأنه لو أجبتهم بدخول هؤلاء في الفرقة الناجية فإنه يستلزم الاعتراف بنجاة الفرقة الإماميّة ، وأدخل نفسي في الفرقة الهالكة ، وإن لم أعترف بدخولهم - والعياذ باللّه - في الفرقة الناجية فإني أدخل في زمرة الكفرة والمخلدين في النار (1).
ص: 149
مناظرة الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العامليمع بعض فضلاء حلب (1)
قال الشيخ حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي عليه الرحمة : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمد لله على ما أنعم به فكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ، محمَّد النبيِّ الأُمّيِّ وأهل بيته ذوي الكرم والوفاء. أمَّا بعد :
فهذه صورة بحث وقع لهذا الفقير إلى رحمة ربه الغنيّ ، حسين بن
ص: 150
عبدالصمد الجبعي ، في حلب ، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة ، أضافني بعض فضلاء حلب ، وكان ذكيّاً بحّاثاً ، ولي معه خصوصية وصداقة وكيدة بحيث لا أتّقيه ، وكان أبوه من أعيانها.
فقلت له : إنه يقبح بمثلي ومثلك - بعد أن صرف كل منّا عمره في تحصيل العلوم الإسلاميّة وتحقيق مقدماتها - أن يقلِّد في مذهبه الذي يلقى اللّه به ، والتقليد مذموم بنصّ القرآن ، وليس حجَّةً منجية ; لأن كل أحد يقلِّد سلفه ، فلو كان حجَّةً كان الكل ناجين ، وليس كذلك.
فقال : هلمَّ حتى نبحث.
فقلت : هل عندكم نصٌّ من القرآن ، أو من الرسول صلی اللّه علیه و آله على وجوب اتّباع أبي حنيفة؟
فقال : لا.
فقلت : هل أجمع أهل الإسلام على وجوب اتّباعه؟
فقال : لا.
فقلت : فما سوَّغ لك تقليده؟
فقال : إنّه مجتهد وأنا مقلِّد ، والمقلِّد فرضه أن يقلِّد مجتهداً من المجتهدين.
فقلت : فما تقول في جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام ؟ هل كان مجتهداً من المجتهدين؟
فقال : هو فوق الاجتهاد ، وفوق الوصف في العلم والتقى والنسب وعظم الشأن ، وقد عدَّ بعض علمائنا من تلاميذه نحو أربعمائة رجل ، كلّهم علماء فضلاء مجتهدون ، وأبو حنيفة أحدهم.
ص: 151
فقلت : قد اعترفت باجتهاده وتقواه ، وجواز تقليد المجتهد ، ونحن قد قلَّدناه ، فمن أين تعلم أنَّا على الضلالة وأنَّكم على الهداية؟! مع أنّا نعتقد عصمته ، وأنّه لا يخطئ ، بل ما يحكم به هو حكم اللّه ، ولنا على ذلك أدلّة مدوَّنة ، وليس كأبي حنيفة يقول بالقياس والرأي والاستحسان ويجوز عليه الخطأ ، وبعد التنزُّل عن عصمته ، والاعتراف بأنه يقول بالاجتهاد كما تزعمون ، فلنا دلائل على وجوب اتّباعه ليس في أبي حنيفة واحد منها.
أحدها : إجماع كل أهل الإسلام - حتى الأشاعرة والمعتزلة - على غزارة علمه ، ووفور تقواه ، وعدالته ، وعظم شأنه ، بحيث إني إلى يومي هذا - مع كثرة ما رأيت من كتب أهل الملل ، والتواريخ والسير ، وكتب الجرح والتعديل ، ونحو ذلك - لم أرَ قطّ طاعناً عليه بشيء من مخالفيه ، وأعداء شيعته ، مع كثرتهم ، وعظم شأنهم في الدنيا ; لأنهم كانوا ملوك الأرض ، والناس تحبُّ التقرُّب إليهم بالصدق والكذب ، ولم يقدر أحد أن يفتري عليه كذباً في الطعن ليتقرَّب به إلى ملوك عصره ، وما ذاك إلاَّ لعلمه أنه إن افترى كذباً كذَّبه كل من سمعه ، وهذه مزيَّة تميَّز هو وآباؤه وأبناؤه الستّة بها عن جميع الخلق.
فكيف يجوز ترك تقليد من أجمع الناس على علمه وعدالته وجواز تقليده ، ويقلَّد من وقع فيه الشك والطعن؟! مع أن الجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر في موضعه ، وهذا إمامكم الغزالي صنَّف كتاباً سمَّاه : المنخول ، موضوعه الطعن على أبي حنيفة ، وإثبات كفره بأدلّة يطول شرحها ، وصنَّف بعض فضلاء الشافعية كتاباً سمَّاه : النكت الشريفة في الردّ على أبي حنيفة ، رأيته في مصر ، ذكر فيه جميع ما ذكره الغزالي وزاد أشياء أخر.
ولا شبهة في وجوب تقليد المتّفق على علمه وعدالته ; لأن ظنّ الصواب
ص: 152
معه أغلب ، ولا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح إجماعاً ، والجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر.
ثانيها : أنَّه - عندنا - من أهل البيت المطهَّرين علیهم السلام بنصّ القرآن ، والتطهُّر هو : التنزُّه عن الآثام ، وعن كل قبيح ، كما نصَّ عليه ابن فارس في مجمل اللغة ، وهذا نفس العصمة التي يدّعيها الشيعة ، وأبو حنيفة ليس منهم إجماعاً ، ويتحتَّم تقليد المطهَّر بنصّ القرآن ، لتيقُّن النجاة معه.
قال : نحن لا نسلِّم أنه من أهل البيت علیهم السلام ; إذ قد صحَّ في أحاديثنا أنهم خمسة.
فقلت : سلَّمنا أنه ليس من الخمسة ، ولكن حكمه حكمهم في العصمة ، ووجوب الاتّباع لوجهين :
الأول : إن كل من قال بعصمة الخمسة قال بعصمته ، ومَنْ لا فلا ، وقد ثبتت عصمة الخمسة بنصّ القرآن ، فثبتت عصمته ; لأنه قد وقع الإجماع على أنّه لا فرق بينه وبينهم ، فالقول بعصمتهم دونه خلاف إجماع المسلمين.
الثاني : إنه اشتهر بين أهل النقل والسير أن جعفر الصادق وآباءه علیهم السلام لم يتردَّدوا إلى مجالس العلماء أصلا ، ولم ينقل أنهم تردَّدوا إلى مخالف ولا مؤالف ، مع كثرة المصنِّفين في الرجال ، وطرق النقل ، وتعداد الشيوخ والتلاميذ ، وإنّما ذكروا أنه أخذ العلم عن أبيه محمّد الباقر علیه السلام ، وهو أخذه عن أبيه زين العابدين علیه السلام ، وهو أخذه عن أبيه الحسين علیه السلام ، وهو من أهل البيت علیهم السلام إجماعاً.
وقد صحَّ عندنا أنهم علیهم السلام لم يكن قولهم بطريق الاجتهاد ، ولهذا لم يسأل أحد قط صغيراً ولا كبيراً عن مسألة فتوقَّف في جوابها ، أو احتاج إلى مراجعة ، وقد صرَّحوا علیهم السلام أن قول الواحد منهم كقول آبائهم ، وقول آبائهم كقول
ص: 153
النبي صلی اللّه علیه و آله ، وثبت ذلك عندنا بالطرق الصحيحة المتّصلة بهم ، فقوله علیه السلام هو قول المطهرَّين بنصّ القرآن.
وثالثها : ما ثبت في صحاح أحاديثكم بالطرق الصحيحة المتكثِّرة ، المتّحدة المعنى ، المختلفة اللفظ ، من قوله علیه السلام : إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض (1).
وفي بعض الطرق : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب اللّه وعترتي (2) ، فصرَّح صلی اللّه علیه و آله بأن المتمسِّك بكتاب اللّه وعترته لن يضلَّ ، ولم يتمسَّك بهما إلاَّ الشيعة كما لا يخفى ; لأن الباقين جعلوا عترته كباقي الناس ، وتمسَّكوا بغيرهم ، ولم يقل : مخلِّف فيكم كتاب اللّه وأبا حنيفة ، ولا الشافعي.
فكيف يجوز ترك التمسُّك بمن تتحقَّق النجاة بالتمسُّك به ، ويتمسَّك بمن لم تعلم النجاة معه؟! إن هذا إلاَّ لمحض السفه والضلال ، وهذا يقتضي العلم بوجوب اتّباعهم ، وإن نوزع فيه فلا ريب في اقتضائه ظنَّ وجوب الاتّباع ، وذلك
ص: 154
كاف لوجوب العمل بالراجح ، واختيارهم علیهم السلام بهذه المرجِّحات على غيرهم من المجتهدين ، فلا يكون العدول عنهم إلاَّ اتّباعاً للهوى والتقليد المألوف.
فقال : أنا لا أشك في اجتهادهم ، وغزارة علمهم ، ونجاة مقلِّدهم ، ولكن مذهبهم لم ينقل ولم يشتهر ، كما نقلت المذاهب الأربعة.
فقلت : إن كان مرادك أن الحنفيّة والشافعيّة لم ينقلوه ، فمسلَّم ، ولكن لا يضرُّنا ; لأنَّا لم ننقل مذهبهما أيضاً ، والشافعيَّة لم ينقلوا مذهب أبي حنيفة ، وبالعكس ، وكذا باقي المذاهب ، وليس ذلك طعناً فيها عندكم.
وإن كان مرادك أنه لم ينقله أحد من المسلمين ، فهذه مكابرة محضة ; لأن شيعتهم ، وكثيراً من أهل السنة وباقي الطوائف قد نقلوا أقوالهم وآدابهم وعباداتهم ، واعتنى الشيعة بذلك أشدَّ الاعتناء ، وبحثوا عن تصحيح الناقلين وجرحهم وتعديلهم أشدَّ البحث ، وهذه صحاح أحاديثهم وكتب الجرح والتعديل عندهم مدوَّنة مشهورة بينهم ، لا يمكن إنكارها.
وعلماء الشيعة وإن كانوا أقلَّ من علماء السنة ، ولكن ليسوا أقلَّ من فرقة من فرق المذاهب الأربعة ، خصوصاً الحنابلة والمالكيّة ، فإن الشيعة أكثر منهم يقيناً ، ولم يزل - بحمد اللّه - علماء الشيعة في جميع الأعصار أعلم العلماء وأتقاهم ، وأحذقهم في فنون العلوم ، أمَّا في زمن الأئمّة الاثني عشر علیهم السلام فواضح أنه لم يساوهم أحد في علم ولا عمل ، حتى فاق تلاميذهم ، واشتهروا بغزارة العلم ، وقوّة الجدال ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، وجميل بن درّاج ، وزرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأشباههم ممّن عرفهم مخالفوهم في المذهب ، وأثنوا عليهم بما لا مزيد عليه.
وأمَّا بعد زمان الأئمَّة فمنهم مثل ابن بابويه ، والشيخ الكليني ، والشيخ
ص: 155
المفيد ، والشيخ الطوسي ، والسيِّد المرتضى ، وأخيه ، وابني طاووس ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وميثم البحراني ، والشيخ أبي القاسم المحقِّق ، والشيخ جمال الدين ابن المطهَّر الحلي ، وولده فخر المحقِّقين ، وأشباههم من المشايخ المشاهير ، الذين قد ملأوا الخافقين بمصنَّفاتهم ومباحثهم ، ومن وقف عليها علم علوَّ شأنهم ، وبلوغهم مرتبة الاجتهاد وقوَّة الاستنباط ، وإنكار ذلك إمَّا لتعصُّب أو جهل.
فقد لزمك القول بصحّة مذهبنا ، وأرجحيَّة من قلَّدناه ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الإنصاف ، ولا يلزمنا القول بصحّة مذهبك ; لأنّا قد شرطنا في المتَّبع العصمة ، فنكون نحن الفرقة الناجية إجماعاً ، وأنتم وإن لم تقولوا بصحّة مذهبنا ، ولكن يلزمكم ذلك بحسب قواعدكم ; للدليل المسلَّم المقدّمات عندكم ; إذ سبب نجاتكم أنكم قد قلَّدتم مجتهداً ، وهذا بعينه حاصل لنا باعترافكم ، مع ترجيحات فيمن اتّبعناه لا يمكنكم إنكارها.
فبهت ، ولم يجب بشيء.
ولكن عدل عن سوق البحث ، وقال : إني أسألكم عن سبِّكم أكابر الصحابة ، وأقربهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، الذين نصروه بأموالهم وأنفسهم ، حتى ظهر الدين بسيوفهم ، في حياته وبعد موته ، حتى فتحوا البلاد ، ونصروا دين اللّه بكل ما أمكنهم ، والفتوحات التي فتحها عمر لم يقع مثلها في زمن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله كمصر والشام ، وبيت المقدس ، والروم والعراق وخراسان ، وعراق العجم ، وتوابع ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن إنكاره ، كما لا يمكن إنكار قوَّته في الدين
ص: 156
وسطوته ، وشدّة بأسه ، وإني إذا نظرت في أدلّتكم وجدتها واضحة قويَّة ، وإذا رأيت من مذهبكم سبّ أكابر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخواصّه ، الذين سبقوا في الإسلام ، وكانوا من المقرَّبين عنده حتى تزوَّج بناتهم ، وزوَّجهم بناته ، ومدحهم اللّه في كتابه بقوله : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) (1) إلى آخر الآية ، فإذا رأيت ذلك نفرت نفسي ، وجزمت بفساد مذهبكم.
فقلت له : ليس في مذهبنا وجوب سبِّهم ، وإنَّما يسبُّهم عوام الناس المتعصِّبون ، وأمَّا علماؤنا فلم يقل أحد بوجوب سبِّهم ، وهذه كتبهم موجودة ، وأقسمت له أيماناً مغلَّظة بأنّه لو عاش أحد ألف سنة وهو يتديَّن بمذهب أهل البيت علیهم السلام ويتولاَّهم ، ويتبرَّأ من أعدائهم ، ولم يسبَّ الصحابة قط ، لم يكن مخطئاً ، ولا في إيمانه قصور ، فتهلَّل وجهه ، وأنس بذلك ; لأنه صدَّقني فيه.
فقلت له : إذا ثبت عندك غزارة علم أهل البيت علیهم السلام ، واجتهادهم ، وعدالتهم ، وترجيحهم على غيرهم ، فهم أولى بالاتّباع ، فتابعهم.
فقال : أشهد على أني متابع لهم ، ولكني لا أسبُّ الصحابة.
فقلت : لا تسبَّ أحداً منهم ، ولكن إذا اعتقدت عظم شأن أهل البيت علیهم السلام عند اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله فما تقول فيمن عاداهم وآذاهم؟
فقال : أنا بريء منهم.
فقلت : هذا يكفيني منك ، فأشهد اللّه ورسوله وملائكته أنه محبٌّ لهم ومتابع ، وبريء من أعدائهم ، وطلب منّي كتاباً في فقههم ، فدفعت إليه النافع ،
ص: 157
وتفرَّفنا.
ثم رأيته بعد ذلك في غضب وتكدُّر من التشيُّع ، بواسطة ما رسخ في قلبه من عظم شأن الصحابة ، واعتقاده أن الشيعة تسبُّهم.
فقلت له في ليلة أخرى : إن عاهدت اللّه على الإنصاف ، وكتم الأمر عليَّ ، بيَّنت لك أمر السبِّ ، فعاهد اللّه على ذلك ما دمت حيّاً بأيمان مغلَّظة ، ونذور مؤكَّدة ، وسألته : ما تقول في الصحابة الذين قتلوا عثمان؟
فقال : إن ذلك وقع باجتهادهم ، وإنهم غير مأثومين ، وقد صرَّح أصحابنا بذلك.
فقلت : وما تقول في عائشة وطلحة والزبير وأتباعهم ، الذين حاربوا عليّاً علیه السلام يوم الجمل ، وقتل في حربهم من الفريقين نحو ستة عشر ألفاً؟ وما تقول في معاوية وأصحابه ، الذين حاربوا في صفّين ، وقتل من الفريقين ( نحو ) ستين ألفاً؟
فقال : كالأول.
فقلت : هل جواز الاجتهاد مقرٌّ على فرقة من المسلمين دون فرقة؟
قال : لا ، كل أحد له صلاحيَّة الاجتهاد.
فقلت : إذا جاز الاجتهاد في قتل أكابر الصحابة ، وقتل خلفاء المؤمنين ، وحرب أخي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وابن عمّه ، وزوج فاطمة سيِّدة نساء العالمين ، أعلم الخلق ، وأزهدهم ، وأقربهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ووارث علمه ، الذي قام الإسلام بسيفه ، ومن أثنى عليه اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله بما لا يمكن إنكاره ، حتى جعله اللّه وليَّ الناس كافّة بقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) (1) يعني
ص: 158
عليّاً علیه السلام بالإجماع ، وقال النبيُّ صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (1) ، أنا مدينة العلم وعلىٌّ بابها (2) ، اللَّهُمَّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك (3) ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى (4) ، وأشباه ذلك ممَّا يطول تعداده ، فلم لا يجوز الاجتهاد في سبِّ بعض الصحابة؟!
فإنّا لا نسبُّ إلاَّ من علمنا أنه أظهر العداوة لأهل البيت علیهم السلام ، ونحبُّ المخلصين منهم ، الحافظين وصيَّة اللّه ورسوله فيهم ، كسلمان ، والمقداد وعمَّار ، وأبي ذر ، ونتقرَّب إلى اللّه بحبِّهم ، ونسكت عن المجهول حالهم ، هذا اعتقادنا
ص: 159
فيهم.
وهذا معاوية قد سبَّ عليّاً وأهل بيته علیهم السلام ، واستمرَّ ذلك في زمن بني أميَّة ثمانين سنة ، ولم ينقص ذلك من قدره عندكم ، وكذلك الشيعة اجتهدوا في جواز سبِّ أعداء أهل البيت منهم ، ولو كانوا مخطئين فيهم غير مأثومين.
ومدح اللّه تعالى لهم في القرآن نقول به ; لأنهم ممدوحون بقول مطلق ; لأن فيهم أتقياء أبراراً ، وليس كلّهم كذلك جزماً ، وحديث الحوض يوضح ذلك (1).
وأيضاً فيهم منافقون بنصّ القرآن ، فلا يمنع مدح اللّه لهم فسق بعضهم أو كفره ، واجتهادنا في جواز سبِّ ذلك البعض.
فقال كالمتعجِّب : أو يجوز الاجتهاد بغير دليل؟!
فقلت : أدلّتهم في ذلك كثيرة واضحة.
فقال كالمستبعد : بيِّن لي منها واحداً.
فقلت : سأذكر لك ما لا يمكنك إنكاره ، وذلك أنه قد ثبت عندكم وعندنا أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لمَّا جعل أسامة بن زيد أميراً ، وجهَّزه إلى الشام أمر الصحابة عموماً باتّباعه ، وخصَّص أبا بكر وعمر وأمرهما باتّباعه ، وقال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تأخَّر عن جيش أسامة (2) ، وقد تخلَّف الرجلان بإجماع المسلمين ، فكانا مشمولين بنصّ الرسول صلی اللّه علیه و آله ونصّ اللّه ; لأنه لم ينطق عن الهوى.
فقال : إنما تخلَّفا باجتهاد ، وشفقة على الرسول صلی اللّه علیه و آله والمسلمين ، وقالا : كيف نمضي ونترك نبيَّنا مريضاً ، نسأل عنه الركبان؟! ورأيا صلاح المسلمين في
ص: 160
تخلُّفهما.
فقلت : هذا خطأ محض ، فإن الاجتهاد إنما يجوز في مسألة لا نصَّ فيها ، ولا يجوز مقابل النصّ بإجماع علماء الإسلام ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) فاجتهادهما هذا ردٌّ على اللّه وعلى رسوله صلی اللّه علیه و آله ، وهل يتصوَّر مسلم أنهما أعلم بصلاح المسلمين من اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ؟! ما هذا ( إلاَّ ) العمى عن الحقّ ، والتلبُّس بالشبهات.
فقال : أمهلني حتى أنظر.
فقلت : قد أمهلتك إلى يوم القيامة ، ثمَّ ذكرت له - بعد ذلك - حديث الحوض ، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي ، في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة ، من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : إن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ، فأقولن : أي ربِّ! أصحابي! فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (2).
ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر ، والمعنى متفق ، وفي آخره زيادة : إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم (3).
ص: 161
ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد ، في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، وفي آخره زيادة : فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدَّل بعدي (1).
ورواه أيضاً في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة ، من عدّة طرق ، وفي آخره زيادة : فلا يخلص منهم إلاَّ همل (2) النعم (3).
وقد روى مثل ذلك من مسند عائشة بعدّة طرق ، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر بعدّة طرق ، ومن مسند أم سلمة بعدّة طرق ، ومن مسند سعيد بن المسيَّب بعدّة طرق.
وهذا ذمٌّ لهم على لسان الرسول صلی اللّه علیه و آله ، الثابت في صحاحكم ، قد بلغ حدَّ التواتر ، وهو عين ما ندّعيه من ميل كثير منهم إلى الملك والرئاسة والحياة الدنيا ، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت علیهم السلام ، وجدّوا في أذاهم.
وقد سمعنا بسير الملوك الذين قتلوا أبناءهم ، والأبناء الذين قتلوا آباءهم حرصاً على الملك ، وأظهر من ذلك في القرآن ، فقد أخبر بوقوع أكبر الكبائر منهم ، وهي الفرار من الزحف ، قال اللّه تعالى : ( وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) (4).
ص: 162
وقد كانوا أكثر من عشرة آلاف ، فلم يتخلف معه إلاَّ علي علیه السلام والعباس وجماعة أخرى ، والباقون سلَّموا نبيَّهم إلى القتل ، ولم يخشوا العار ولا النار ، ولم يستحيوا من اللّه ولا من رسوله صلی اللّه علیه و آله ، وممَّا يشاهدانهما عياناً.
وقال اللّه تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ) (1) فإذا كانوا يتركون الصلاة خلفه للتفرُّج على القافلة ، فكيف يستبعد ميلهم إلى الدنيا بعده ، واتّباعهم هوى أنفسهم في طلب الملك؟ وقد أخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك في الأخبار المتقدّمة.
وذكرت له قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني (2) ، وعزله عن براءة ، فلم يؤمن عليها ، وهي سورة واحدة ، وهزيمته وهزيمة عمر في خيبر وعدّة مواطن (3).
ص: 163
ومنعه فاطمة علیهاالسلام إرثها بحديث تفرَّد بروايته ، مخالف للقرآن يجب ردُّه ، وقالت له علیهاالسلام : أترث أباك ولا أرث أبي؟! أفي كتاب اللّه ذلك؟! (1).
ويلزم أن يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قصَّر في أنه لم ينذر إلاَّ أبا بكر ، ولم ينذر أهل البيت علیهم السلام وقد قال اللّه تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ ) (2).
ومنها ( أنه غصب ) فدك التي أنحلها إيَّاها أبوها ، وشهد لها عليٌّ والحسنان علیهم السلام وأم أيمن ، وردّ شهادتهم - وهم مطهَّرون - تعصُّباً وعناداً ، أو جهلا بالأحكام ، فماتت مغضبة عليهما ، وأوصت ألا يصلّيا عليها ، وأن تدفن ليلا ، وقد قال أبوها صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذى رسول اللّه فقد آذى اللّه ، وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (3).
وذكرت له منع عمر من الكتاب الذي لا يضلُّ بعده ، وشتمه للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله بقوله : دعوه ، فإن نبيَّكم يهجر (4) ، وهذا ردٌّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعلى اللّه ، وهو كفر.
ومنع من المغالاة في المهور ، فنبَّهته امرأة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر
ص: 164
حتى المخدَّرات ( في الحجال ) (1) ، وقال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما (2) ، وهذا يقدح في إيمانه.
وأبدع في قيام نوافل رمضان جماعة ، واعترف بأنّهما بدعة (3) ، مع أن كل بدعة ضلالة.
وذكرت له أن عثمان ولَّى أمور المسلمين للفساق ، لمحض القرابة ، بعد أن
ص: 165
نهاه الصحابة ، ولم يلاحظ اللّه في ذلك ، حتى أظهروا المناكير من القتل وشرب الخمر ، وضرب عبداللّه بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه ، وضرب عمَّار بن ياسر حتى حدث به فتق (1) ، ونفى أبا ذر مع عظم شأنه ، وتقدُّمه في الإسلام ، ولا ذنب له سوى إنكاره على بعض منكراته.
وآوى طريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة بعد أن طرده رسول اللّه منها ، وسأل قبل ذلك أبا بكر وعمر في ردِّه فلم يقبلا ، فعند ذلك ثار عليه الناس فقتلوه ، وكان الصحابة والتابعون بين قاتل وراض ، ولم يحم عنه منهم أحد ، وترك ثلاثة أيام بغير دفن.
وقد شهد عمَّار بن ياسر ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن اليمان ، وجماعة آخرون بكفره ، وقالوا : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) ، وكانوا يقولون علانية : قتلناه - بحمد اللّه - كافراً (3).
ثمَّ بيَّنت له أن عمر قد فتح البلاد بسيوف الصحابة ، وإمداد أهل البيت علیهم السلام كما نقل ، ومع ذلك لا يدلّ على مدّاكم فيه ; لأن ذلك للزيادة في ملكه ، ونحن نجد الملوك يسفكون الدماء لفتح البلاد والزيادة في الملك ، وإن استوجب العقاب في الآخرة ، وما فعله عمر لزيادة ملكه وإظهار صيته ، وليس عليه في الآخرة منه لوم ، فأيُّ دليل على صلاح باطنه؟!
وذكرت له أمثال ذلك مما يطول شرحه ، واتفق أهل النقل من الشيعة والسنة والمعتزلة على نقله وصحّته ، فلم يمكنهم إنكاره ، ولهذا تأوَّلوه بتكلُّفات
ص: 166
تصغر عن النقل ، ويحكم بفسادها كل ذي عقل.
وكان يجيبني في المجلس عن بعضها بما ذكروه من التكلُّفات ، فأردُّه بأيسر وجه ، وقلت له : إن اتّباع الحقّ يحتاج إلى إنصاف ، وترك الهوى ، والتقليد المألوف ، وإلاَّ فمعاجز نبيِّنا صلی اللّه علیه و آله الدالّة على صدقه ، كالقرآن وانشقاق القمر لا تبقي لأحد شكاً ، والكفَّار لمَّا سلكوا التعصُّب والعناد والتقليد المألوف لهم ، نشزت أنفسهم عن قبول ذلك ، وقابلوه بالشبهات ، فبقوا على كفرهم ، فاعترف بذلك.
ودخلت إلى عنده يوماً ، فرأيت بين يديه كتباً منها صحيح البخاري ، فتذكَّرت الأحاديث التي فيه : إن الأئمة اثنا عشر - فأريته إيّاها - وذلك أنه روي في صحيح البخاري بطريقين :
أحدهما : إلى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلُّهم من قريش (1).
وثانيهما : إلى ابن عيينة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلا ، ثمَّ تكلَّم بكلمة خفيت عليَّ ، فسألت أبي : ماذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فقال : قال : كلُّهم من قريش (2).
ص: 167
وروى بطريق آخر إلى ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان (1).
وذكرت له أن مسلماً روى في صحيحه هذا الحديث بلفظه ، وروى مسلم أيضاً في صحيحه الحديث الأول بطرق متعدِّدة ، وكان صحيح مسلم عنده فأتى به ، فأريته ذلك فيه ، وفي بعض طرقه : لا يزال هذا الدين عزيزاً (2).
فقلت له : هذا عين ما تقوله الشيعة ، وشاهد بصحّة معتقدهم ، فلا يتمُّ إلاَّ على مذهبهم ، فيكونون هم الفرقة الناجية ; لأنهم هم المتمسِّكون بالخليفتين اللذين لن يفترقا حتى يردا الحوض ، القائلون بالاثني عشر خليفة ، الموادُّون أهل بيت نبيهم علیهم السلام ، الذين جعل اللّه ودَّهم أجر الرسالة بقوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) فإن غير الشيعة لم يميِّزوهم ، بل قدَّموا غيرهم عليهم ، فلا يضرُّهم تلبيس المتلبِّسين بالشبهات ، ولا معاداة المعاندين.
ثمَّ باحثته في مسائل كلاميّة ، كالرؤية ، والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعيَّة كالمسح ، والمتعة ، وذلك بعد أن كان قد أذعن واستقرَّ الإيمان في قلبه ، وسبَّ أعداء أهل البيت عموماً ، لما تبيَّن له أحوالهم ، وما وقع منهم ، واتّضحت له حقيقة الحال ، وصار من خواصّ الشيعة.
ولله الحمد أولا وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلَّى اللّه على سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين إلى يوم الدين.
ص: 168
قال محمّد طاهر القمّي الشيرازي عليه الرحمة : حكاية لطيفة مناسبة ، قد اتّفق لي صحبة في مكة المشرفة مع بعض فضلاء أهل السنة ، وكان مفتي الحنفيّة ، وكان يتوهَّم أني علم مذهبه وعقيدته ، فجرى بيني وبينه مكالمات هذا مضمونها وحاصلها : قلت له : هل يرجى النجاة للشيعة؟ وهم يقولون : ليس دليل يدلّ على عدم جواز اتّباع غير الأربعة ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام ؟
فأجاب : بأن جعفر بن محمّد كان من المجتهدين الكبار ، ويجوز اتّباعه ، ولكن ما يدّعي الشيعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمّد علیه السلام غير ثابت.
فقلت له : إن الشيعة يقولون : إنّا إذا سألنا الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة ، وقلنا لهم : من أين عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدين؟ قال كل واحد من هذه الطوائف الأربعة : إن مشايخنا نقلوا عن مشايخهم ، وهكذا إلى المجتهد الذي نعمل برأيه ، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذي نعمل
ص: 169
برأيه ، وهكذا نحن عملنا بالنقل المشهور عن مشايخنا طبقة عن طبقة أن ما نعمل به قول جعفر بن محمّد صلی اللّه علیه و آله .
فقال : إذا كان هذا فهم من أهل النجاة (1).
ص: 170
قال العلاّمة الدربندي عليه الرحمة : حدَّثني علاّمة علماء العامة المفتي الأروسي ، قال : كنت مع جمع من عظماء العامة والمتنصِّبين المتعصِّبين منهم ، وكنّآ جالسين في مكان يكثر فيه عبور المسافرين والغرباء ، فمرَّ بنا رجل من أهل العجم ، وكان ممَّن لايملأ العيون لكونه وضيعاً ومن العوام ، فخاض طائفة من الجالسين في طعنه وإيذائه والاستهزاء به ، فقالوا : مالكم - أيَّها الأعاجم ، أيُّها الحمقاء! - تفعلون في كل سنة في شهر المحرَّم فعل المجانين والأطفال ، تضربون صدوركم ، وتحثون التراب على صدوركم ، وتجزعون ، وترفعون أصواتكم في الصيحة والضجَّة ، وتقولون : واحسناه واحسيناه ، ونحو ذلك؟
فقال : هذا الرجل : أتدرون سبب هذا وسره؟
فقالوا : لا.
فقال : هذا مما يجب فعله علينا ; لأنّا إن تركنا ذلك وبقينا على هذا الترك مدّة مديدة لكنتم تقولون : إن يزيد لم يقتل ريحانة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقرّة عينه ، ولم يسبِ - بنات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بل إن قضيّة يوم الطفّ ليس لها أصل.
ص: 171
فقالوا : فلم ذا؟
قال : إنّا قد جرَّبناكم وشاهدنا أمثال ذلك منكم مراراً.
فقالوا : فكيف ذا؟
فقال : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد جعل ابن عمِّه ووصيَّه وأميرالمؤمنين وسيِّد الوصيين إماماً وخليفة بأمر مؤكَّد من اللّه تعالى ، وكان ذلك بعد حجّة الوداع في مكان يسمَّى بخم ، وكان ذلك في محضر سبعين ألف رجل حاج في تلك السنة ، وقد وصل ذلك إليكم بطرق متكاثرة متظافرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ، مذكورة في كتبكم ، فلمَّا رأيتمونا أنَّا لا نفعل - خوفاً وتقيَّة منكم - يوم الغدير ، الذي هو أعظم الأعياد سلكتم جادّة الاعتساف ، وخالفتم أمر اللّه تعالى ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنكرتم قضيَّة الغدير من أصلها (1).
ص: 172
ونجدِّد في كل سنة إقامة التعزية ، وذكر مصائب سيِّد الشهداء علیه السلام والنوح والجزع والبكاء عليه ، واللعن على قاتله ، وتسميتهم بأسمائهم لئلا تطمعوا في إنكار هذا الأمر البديهيِّ الضروريِّ ، الواصل شأنه إلى هذا المقام ..
قال : لمَّا سمعوا مقالته هذه ارتعدت فرائصهم ، وتغيَّرت ألوانهم ، واصفرَّت وجوههم ، وطأطأوا رؤوسهم إلى الأرض ، فارتطموا في الوحل.
ثمَّ قال : واللّه إن هذا كان في باب ذلك الرجل من ألطاف اللّه تعالى وإلهاماته بحسب المقام ; لأنه كان رجلا من عوام الناس ، غير مطّلع على اصطلاحات العلماء ، وكيفيّة معارضتهم ومباحثاتهم (1).
قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني المستبصر : والمحاولات التي يبثُّها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين علیه السلام ما هي إلاَّ إحدى المحاولات لإسكات صوت الحقّ ، وإطفاء نور اللّه ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2).
ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ، ولقالوا لنا اليوم إن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي علیه السلام ، ويكفي فخراً لمجالس الحسين علیه السلام أنَّها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة ، وتلهب في النفس المؤمنة روح الجهاد ، ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين علیه السلام ليسري مفعولها السحريُّ في الأرواح المؤمنة (3).
ص: 173
قال العلاّمة الميانجي رحمه اللّه : نقل السيِّد المحقِّق العلامة الحاج السيِّد مهدي الروحاني : أن في بغداد انعقدت حفلة عرس حضرها كثير من الشيعة والسنة ، وحضرها العالم الكبير والمحقِّق التقيُّ الشيخ محمّد حسين الكاظمي ، ومن أهل السنة الشيخ محمود شكري الآلوسي ، فالتفت الآلوسي إلى الشيخ فقال : كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينيّة في المجالس فيستفيد منه الناس ، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعيَّة حتى يستفيد هؤلاء؟
قال الشيخ : باختياركم.
قال الآلوسي : فهل في الأصول أو الفروع؟
قال الشيخ : باختياركم.
قال : فإذن نبحث في الأصول ، ولكن في أيِّ أصل منها؟ فهل نجعلها مناظرة؟
قال الشيخ : باختياركم.
قال الآلوسي : لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين؟
قال الشيخ : للمدّعي أن يأتي بدليل ، فإنّا نسأل أهل السنة : لم اختاروا إمامة الشيخين؟
ص: 174
قال الآلوسي : لأنَّ النبيَّ صلی اللّه علیه و آله نصبه للصلاة في أيام مرضه.
وهنا أخذ الشيخ يذكِّر الآلوسي بأن بعض الصحابة زعم أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله في مرضه كان يهجر ( وذلك لما قال لهم صلی اللّه علیه و آله : آتوني بدواة وكتف ... ) (1).
سكت الآلوسي وبهت وتحير ، وبان على وجهه الانكسار والعيُّ ، وفهمه الحاضرون ، وانكسر أهل السنّة الموجودون في المجلس ، وسرَّ وفرح الشيعة ، فأراد الآلوسي أن يجبر الانكسار بشيء ينسيه فقال : هلمّوا بالطعام ، فجاءوا بالطعام إليَّ وإليه ، فأراد الآلوسي جبران ما فات بالمزاح ، وأخذ يأكل من الطعام.
فقال الألوسي : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أكل وحده فشريكه شيطان.
فقال الشيخ : صدق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانكسر الآلوسي أيضاً ، وضحك الحاضرون.
وكان على رأس الأرز المطبوخ الموضوع أمام كل من الحاضرين دجاجة ، فأكل الآلوسي وأخذ من الأرز فانهارت الدجاجة إليه ، فقال : عرف الحقُّ أهله فتقدَّم ، فقال الشيخ : لا ، بل حفر الشيخ تحته فتهدَّم.
قال الأحمدي الميانجي رحمه اللّه : نقل السيِّد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاك فرج ليلة الجمعة في شهر ربيع الأول من 1406 ه- ق (2).
ص: 175
قال الشيخ الأحمدي الميانجي رحمه اللّه : سافرنا إلى الأهواز للقاء العلماء العظام فيها ، ونزلنا على السيِّد الجليل العالم الفاضل السيِّد محمّد علي الجزائري الشوشتري ، إمام الجمعة في الأهواز ، دامت إفاضاته ، كنت يوم الخميس 15 / 10 / 1362 ه. ش ، الموافق ل- 1 / 4 / 1404 ه- ق حبيس البيت ، جالساً أطالع في مكتبة السيِّد الجزائري دامت إفاضاته العالية ، فإذا بكتاب جنّة المأوى للعلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه اللّه ، المطبوع في تبريز بتحقيق العلاّمة الشهيد السيِّد محمّد علي القاضي الطباطبائي رحمه اللّه ، وفي مقدَّمته بقلم المحقِّق الشهيد - رضوان اللّه تعالى عليه - هذه الحكاية نقلا عن مجلة العرفان في المجلَّد 21 ج 3 / 308 : عند مجيء البعثة المصريّة المؤلَّفة من الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وإخوانه إلى النجف الأشرف ، ليلة 21 شهر رمضان من عام 1349 ه. ق ، وزيارته للإمام المترجم له - يعني المرحوم كاشف الغطاء - في داره ، ومشاهدة مكتبة الإمام في مدرسته العلميّة ، فكان لملاقاتهم له أثر بالغ في نفوسهم.
ص: 176
وإليك ما دار بينهم من المناظرات والمسألة لتقف على المواهب العالية كيف يخصُّ اللّه تعالى بعض عباده بها؟
قال سماحته لأحمد أمين : من العسير أن يلمَّ بما حول النجف وأوضاعها - وهي تلك المدينة العلميّة المهمّة - شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة ، فإنّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ، ومكثت فيها مدّة ثلاثة أشهر متجوِّلا في بلدانها ، باحثا ومنقِّباً ، ثمَّ فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً إلاَّ قليلا ضمَّنته أبياتاً أتذكَّر منها :
تبزغ شمس العلى ولكن *** من أفقها ذلك البزوغ
ومثلما تنبغ البرايا *** كذا لبلدانها نبوغ
أكل شيء يروج فيها *** اللّهو وألزهو والنزوغ
فضحكوا من كلمة النزوغ.
قال الأستاذ أحمد أمين مخاطباً الشيخ : قلتم هذا قبل عشرين سنة؟
قال : نعم ، وقبل أن ينبغ طه حسين ، ويبزغ سلامة موسى ، ويبزغ فجر الإسلام ، وقد ضمَّنته - مخطاباً أحمد أمين - من التلفيقات عن مذهب الشيعة مالا يحسن بالباحث المؤرِّخ اتّباعه (1).
ص: 177
قال أحمد أمين : ولكنه ذنب الشيعة أنفسهم ; إذ لم يتصدّوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه.
الشيخ : هذا كسابقه ... فإن كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من أيِّ كتب ، وأيِّ مذهب آخر ، وبينها ما هو مطبوع في مصر ، وما هو مطبوع في سوريا ، عدا ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها ، هذا فضلا عمّا يلزم للمؤرِّخ من طلب الأشياء من مصادرها.
أحمد أمين : حسناً ، سنجهد في أن نتدارك ما فات في الجزء الثاني .. إلخ (1).
ص: 178
قال الشيخ رضا الأميني : لقاء بين علمين ، في حديث لشيخنا الوالد - طاب ثراه - قال : وقفت في ( جريدة الساعة ) البغداديّة الصادرة في شهر محرَّم (1) على قصيدة عصماء للأستاذ حسين علي الأعظمي ، وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد ، في رثاء الإمام الحسين علیه السلام ، وأشار في التعليق على بعض أبياتها إلى أن له مؤلَّفاً في حياة الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام .
فأحببت أن أقف عن كثب على تأليفه ، وأسبر طريقته في ذلك ، وإن وجدت لديه نظماً في واقعة ( الغدير ) جعلته ضمن شعراء القرن الرابع عشر الهجري.
ص: 179
فقصدت داره ، وكانت على مقربة من إحدى سفارات الدول الغربيّة ، فطرقت الباب فخرج إليَّ خادمه ، فسألته عن الأستاذ فأجاب : نعم ، هو موجود في الدار ، فطلبت مواجهته فخرج إليَّ الأستاذ ، وما إن رآني أخذ يفكِّر في السرِّ الذي دعاني إلى زيارته ، لم قصد هذا العالم الشيعيُّ زيارتي؟ أهو بحاجة للتوسُّط في قبول أبنائه في الجامعة؟ أم للتوسُّط في توظيف أحد منسوبيه في إحدى الدوائر؟ فبدأته بالسلام وقلت : أنا أخ لك في الدين ، فإن كنت في شك من إسلامك فأنا قبل كل شيء أعترف بإسلامك وإيمانك ، لما سبرته في قصيدتك العصماء في رثاء سيِّدنا السبط الشهيد أبي عبد اللّه الحسين علیه السلام من نزعة دينيّة ، وإن كنت في شك من إسلامي فأنا أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وأن محمّداً عبده ورسوله صلی اللّه علیه و آله أرسله بالهدى ودين الحقّ.
فخرج الأستاذ إلى خارج الدار ، ومدَّ يده للمصافحة ، عند ذلك بسطت له ذراعي واحتضنته ، فتبادلنا القبلات ، وسار بي إلى الغرفة الخاصة باستقبال زائريه ، عند ذلك افتتحت الحديث بالكلام حول قصيدته ، وتطرَّقت إلى ما أشار إليه في التعليق على بعض أبياتها ، وأن له مؤلَّفاً حول الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأني قصدته من النجف الأشرف لأشكره على قصيدته ورؤية مؤلَّفه.
خلال بحثنا فيما عرضته عليه دخل الغرفة بكل أدب أشباله الثلاثة ، وكانوا من ذوي الثقافة العالية ، عليهم سيماء العلم والأدب ، وبعد المصافحة وتبادل عبارات الترحيب ، اغتنم الأستاذ الأعظمي الفرصة وأراد أن يستخبر ميزان ثقافتي وعلمي ، وما أتحلَّى به من العلوم الإسلاميَّة ، فقال : شيخنا! ما رأيكم حول كتاب ( عبقريَّة الإمام علي علیه السلام ) تأليف الأستاذ المصري عباس محمود العقَّاد؟ ولم يكن مضى على عرض كتابه في الأسواق التجاريَّة سوى أشهر عديدة ، وقد لاقى إقبالا كبيراً بين الشباب العربي والإسلامي.
ص: 180
قلت : لا أخال أن الأستاذ العقّاد كتب ما يشفي الغليل ; إذ ليس بوسعه ولا بوسع أمَّة من أمثاله عرفان شخصيّة الإمام علي علیه السلام على حقيقتها مهما جدّوا واجتهدوا في ذلك ، وبهذا طرأ على الأستاذ وأبنائه استغراب وتفكير ، واستغرق ذلك شيئاً من الوقت في جوٍّ يسوده الهدوء.
فتقدَّمت بالكلام وقلت : تسمحون لي ، قد أكون أنا في كلامي أوجدت نزاعاً بينكم ، إذ بعد أن أترك الدار ستقوم القائمة بينكم ، فتعترضون على والدكم قائلين : يا بابا! كيف يتسنَّى لشخص بهذه البزّة ، وهذا الهيكل أن يقف على الغثّ والسمين ، ويتعرَّف على ما جاء في كتاب ( عبقريَّة الإمام علیه السلام )؟ وستكون إجابة الأستاذ إليكم : كلاّ يا أبنائي ، ليس الأمر كما تزعمون ، بل إن الرجل عالم من علماء أمَّة من المسلمين ، وعلى علم بكل شيء ، إلاَّ أنه لا يروقه أن يثني على كتاب أديب سنّيٍّ مخالف لنزعته الدينيّة.
وحتى لا أكون أضرمت نار الفتنة بينكم سأقوم بحسم النزاع بعد أن أعرض على الأستاذ شواهد كلامي ، وإن كنت مخطئاً فسيتولَّى مناقشتي برأيه الصائب ، ويقضي بالحقِّ ، وهو أستاذ القضاء ، ومربّي رجالاته.
عند ذلك سألت الأستاذ الأعظمي قائلا : هل يسعنا أن نقيس الأستاذ العقّاد في الفكر والنظر بواحد من العلماء أمثال : أبي نعيم الإصفهاني ، الفخر الرازي ، ابن عساكر ، الكنجي الشافعي ، أو أخطب خوارزم ، وأضرابهم ممَّن كتبوا حول الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام مؤلَّفاً خاصاً ، أو تطرَّقوا إلى ناحية من حياته في تآليفهم؟
أجاب الأستاذ قائلا : شيخنا! من الجفاء بحقِّ العلم والعلماء أن نقيس مائة من أمثال العقّاد بواحد ممَّن ذكرتم ، إذ أن أولئك أساطين العلم وجهابذة الفكر
ص: 181
الإسلامي ، ولا يتسنّى لإنسان أن يسبر ما كانوا عليه من مكانة سامية في الحديث والتفسير والحكمة والفلسفة وسائر العلوم الإسلاميَّة.
قلت : إذن ما السرُّ في أن أولئك حينما يتطرَّقون إلى ذكر الإمام علیه السلام لم يتفوَّهوا في وصفه ببنت شفة بآرائهم الخاصة ، بل يذكرونه بما وصفه الوحي الإلهيُّ ، وما روي عن النبيِّ الأعظم صلی اللّه علیه و آله في حقِّه؟
قال الأستاذ الأعظمي : هذه نظريَّة مبتكرة نرجو توضيحها كي نستفيد منها ، ونقف على السرِّ الكامن فيها.
قلت : ألم نكن في دراستنا للمنطق قرأنا قول علمائه : يشترط في المعرِّف أن يكون أجلى من المعرَّف؟ فالصحابة وأئمّة الحديث حيث وقفوا على قول النبيِّ الأعظم صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ ممسوس بذات اللّه (1) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : يا عليُّ! ما عرف اللّه إلاَّ أنا وأنت ، وما عرفني إلاَّ اللّه وأنت ، وما عرفك إلاَّ اللّه وأنا (2).
هذا جزء يسير من خصائصه وصفاته ، من العسير على الأمّة عرفان حقيقته إلاَّ بما وصفه المولى عزَّوجلَّ به ، فأعلنوا إلى الملأ أن عليّاً علیه السلام من المعنيَّين بقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، وقوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) ،
ص: 182
وقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) ، وقوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) (2).
وإن خير معرِّف للإمام علیه السلام وخصائصه الذاتيّة هو ما أصحر به النبيُّ الأعظم صلی اللّه علیه و آله من قوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله (3) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ ، يدور الحقُّ مع عليٍّ حيثما دار (4) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ خير البشر ، من أبي فقد كفر (5) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع القرآن والقرآن معه ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض (6).
ص: 183
ونرى الأستاذ العقّاد قبل أشهر عديدة نشر كتاباً حول الشاعر ابن الرومي ، وهو من رجال القرن الثالث الهجري ، وله تراجم مسهبة في كتاب التاريخ والسير ، ولم يتحلَّ بشيء من الخصائص فوق خصائص الإنسان ، في حين أخذ العلماء والأساتذة عليه شطحات كثيرة ، ونشروا حولها مقالات مسهبة ; لعدم عرفانه بسيرة الرجل وسلوكه ، أو أخطائه في تحليل تاريخ حياته ، أو بعده عن دراسة نفسيَّته ، أو سوء تفهُّمه لفلسفة الرجل وشعره.
فمؤلِّف هذا مبلغه من العلم في الكتابة عن إنسان في شاكلته ، وهذه سعة اطّلاعه عمَّن انبرى مئات من الكتَّاب في الكتابة عنه ، كيف يتسنَّى له أن يعرف بفكره ونظره شخصيَّةً ممسوسة بذات اللّه ، وأن يكتب عن قطب رحى الحقِّ الذي يدور الحقُّ معه حيثما دار؟ وإن كنت أنت - أيُّها الأستاذ - قد اتّبعت في تأليفك طريقة العقّاد فأراني في غنى عن مطالعته ، وإن اتّبعت في كتابك سيرة السلف ، واعتمدت في بحثك على كتاب اللّه وسنّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله فسأكون شاكراً لك لو سمحت لي بمطالعته.
ص: 184
أجاب الأستاذ الأعظمي قائلا : كلاَّ يا شيخ ، أنا سرت في كتابي على كتاب اللّه وسنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، وسأكون شاكراً لك مدى الحياة لو سبرت كتابي بدقَّة ، وأخذت عليَّ ما فاتني ، مع ما أفضته عليَّ من حديثك العلمي.
قلت له : هات بحثك ، وأظهر رؤوس عناوينه ، فأوعز إلى أحد أنجاله بذلك ، فأحضر ملفّاً ضخماً كبيراً ، وقال : أنا قمت بتحليل شخصيَّة الإمام شرحاً وبياناً في الكلام حول أربعة أحاديث.
الأول : قوله صلی اللّه علیه و آله : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور الحق معه حيثما دار.
قلت له : أترى هذه فضيلة تخصُّ عليّاً سلام اللّه عليه؟
قال : بلى ، ولم يشاركه فيه أيُّ ابن أنثى.
قلت : فما تقول في قوله صلی اللّه علیه و آله : عمَّار مع الحقِّ ، والحقُّ مع عمار ، يدور عمار مع الحق حيثما دار؟ (1) وأوعزت إلى مصادر الحديث.
وجم الأستاذ حينما سمع ذلك ، وطأطأ برأسه ، وطرأ على الحفل هدوء مشفوع بتأثُّر مزعج ، وبعد دقائق رفع الأستاذ رأسه وقال : شيخنا! نسفت ربع البحث بحديثك ، وقضيت على الحول الذي بذلته دونه.
قلت له : بل أحييت لك كتابك ، وأظهرت لك بالحديث الذي ذكرته ما خفي عنك وعن الصحابة قبلك السرُّ الكامن فيه.
قال : وما ذلك؟
ص: 185
قلت : عندما أصحر النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بحديثه حول عليٍّ سلام اللّه عليه ، لم يدرك المجتمع الإسلامي الناحية الهامّة الكامنة في الحديث ، لذلك أصحر بحديثه حول عمار ليدرك المجتمع مكانة عليٍّ سلام اللّه عليه الإلهيّة بذلك.
ففي حديث عليٍّ علیه السلام جعل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً محوراً للحقِّ وقطب رحاه ، قال : علي مع الحق والحق مع علي ، يدور الحق مع علي حيثما دار علي ، وفي حديث عمّار قال : عمار مع الحق والحق مع عمار ، يدور عمار مع الحق حيثما دار الحق.
وبهذا أراد النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أن يبيِّن للعالم أن عليّاً علیه السلام هو قطب رحى الحق ، والحق يدور معه حيثما دار هو سلام اللّه عليه ، وكل طالب للحق عليه أن يكون على صلة في علي علیه السلام كي يتسنَّى له أن يعرف الحق ، ويتّصل به ، ويسير على نهجه.
هنا طرأ على الأستاذ وأنجاله فرحة وسرور ، فقالوا بصوت عال : اللّه أكبر! اللّه أكبر! ما أحلاه من شرح وتوضيح يقام له ويقعد!!
إلى هنا أختتم ما سمعت من حديث شيخنا الوالد طاب ثراه ، وما رسخ في بالي ، ومنه سبحانه وتعالى أستمدُّ العون والتسديد ، والحمد لله ربِّ العالمين.
رضا الأميني (1).
ص: 186
قال السيِّد مرتضى الرضوي : حدَّثني الأستاذ عباس الترجمان ، قال : قال لي الأستاذ السيِّد محمّد تقي الحكيم بعد ما رجع من القاهرة لحضور المؤتمر الإسلاميّ هناك : دخلنا يوماً إلى مكتبة جامع الأزهر مع كثير من المؤتمرين في الدول الإسلاميّة ، فتوجَّه إليَّ أمين المكتبة بصورة خاصة وبلهجة شديدة قائلا : على أيِّ استناد استندتم في فتح باب الاجتهاد على أنفسكم بعد ما سدَّه السلف الصالح؟! (1)
فأجبته بهدوء : وأنتم على أيِّ استناد استندتم في سدِّ باب الاجتهاد على أنفسكم بعد ما فتحه السلف الصالح؟!
فسكت ولم يحر جواباً ... فالتفت ممثِّل الجزائر في المؤتمر ، وقال لي :
ص: 187
الحقُّ معكم ، فلنتازل نحن السنَّة ، وأنتم الشيعة عن بعض الأشياء ، ونتفق على أشياء ، ونكون يداً واحدة ، وأقول لك الآن هذا.
فأجبته بقولي : يا أستاذ! لا يمكن التفاهم والاتفاق على شيء قبل أن نضع رجال الصدر الأول في ميزان الحساب ; لأنهم خلَّفوا أموراً خلافيّة كثيرة لا يمكن التغاضي والسكوت عنها ، وتركها من دون علاج ، وبعد ذلك فمن السهل أن نتحدَّث ونتفق على كل شيء.
فسكت الأستاذ الخولي ، أمَّا الحاضرون فاحمرَّت عيونهم ، وانتفخت أوداجهم ، وكأن كلامي هذا كان غذاباً قد صبَّ عليهم ، وبعد أن انتهت الندوة استأذنت وانصرفت (1).
ص: 188
مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع بعضهم في حكم مسح الرجلين في الوضوء (1)
حدَّثنا المرحوم الحجّة السيِّد مهدي الروحاني القمي ، قال : كنّا مع بعض الأصدقاء في منى قريباً من الجمرات ، وكنّا ننتظر طلوع الشمس لنرمي الجمرات ، بينا نحن كذلك إذ أقبل علينا رجل ، وسلَّم علينا فرددنا علیه السلام ، فاستأذن في الكلام معنا ، وبيَّن لنا أنه من السنّة السلفيّين ، ثمَّ قال : إن كل الناس يعلمون أن لكل مذهب منطلقاً ينطلق منه ، ويمشي على طبقه ، وكل الفرق الإسلاميَّة تعلم أن منطلقنا - نحن السلفية - هو الكتاب والسنّة.
فقلت له : أنتم منطلقكم الكتاب والسنّة؟
قال : نعم.
فقلت : إن كل الفرق الإسلاميّة تقول ما تقولونه ، فالحنفيّة يقولون : إن
ص: 189
منطلقهم الكتاب والسنَّة ، وكذلك الشافعيّة والمالكية والحنبليَّة والشيعة الإماميَّة والإسماعيليّة ، وكل الفرق الإسلاميَّة تسلِّم للكتاب والسنّة ، وأنا أقول لك : إذا كان منطلقكم هو الكتاب والسنَّة فعلا كما تقول فعليكم عدّة مؤاخذات في آرائكم.
فقال : ما هي؟
فقلت : منها القول بالتشبيه والتجسيم ، ونحن نعرف أن اليهود يقولون بالتشبيه والتجسيم ، وقد ذكر اللّه سبحانه وتعالى ذلك عنهم في كتابه ، وأنتم أكثر الفرق تشبيهاً وتجسيماً ، فهذا ابن تيميَّة يقول : إن روايات الإثبات أقرب للسنَّة ، ويعني بروايات الإثبات الروايات التي تثبت لله تعالى يدين ورجلين وساقين ووجهاً ، فينبغي عليكم تنزيه الباري تعالى عن التشبيه والتجسيم.
وأصل التنزيه مأخوذ من كلمات أميرالمؤمنين علیه السلام وخطبه الشريفة ، فأخذ منه الشيعة والأشاعرة والمعتزلة.
ومنها : مسألة غسل الرجلين في الوضوء ، فإن الواجب في الرجلين هو المسح ولم تأخذوا به (1) ، وأنتم تقولون : إن منطلقنا الكتاب والسنّة ، والمسح في الرجلين هو صريح الآية الشريفة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (2) ، وفي كلمة أرجلكم قراءتان : قراءة بالنصب وهي الموجودة في المصاحف
ص: 190
الشائعة ، وقراءة بالجرّ ، وقد قرأ بالجرِّ نصف القرَّاء ، وبناءً على قراءة الجرِّ يكون الواجب في الوضوء بالنسبة للأرجل واضحاً وهو المسح ; إذ الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فالواجب فيها هو المسح إلى الكعبين.
وأمَّا بناء على قراءة النصب فالآية تدل أيضاً على وجوب المسح ، وذلك لأمر نبَّه عليه علماء اللغة وهو : أنه إذا جاء عامل ، وجاء بعده معمول ، ثمَّ جاء عامل آخر ، وجاء بعده معمول ، ثمَّ جاء معمول آخر فلا يكون المعمول الأخير معطوفاً على معمول العامل الأول ، بل لابد أن يكون معطوفاً على معمول العامل الثاني ، فإنّ العطف على معمول عامل مع فصل العامل الثاني بين المعطوف والمعطوف عليه يعدُّ غير صحيح عند علماء اللغة العربيّة ، ولا أقول هذا الكلام لأنني شيعيٌّ ومذهبي المسح ، بل أقول هذا لأن علماء اللغة الكبار قد صرَّحوا به.
ونوضح هذا الكلام بالمثال ، فإذا قلت مثلا : ضربت زيداً وأكرمت عمراً وخالداً ، فإن كل من يسمع هذا الكلام يفهم منه أن خالداً في المثال معطوف على معمول العامل الثاني وهو عمرو ، وليس معطوفاً على معمول العامل الأول وهو زيد كما في المثال.
فيفهم من المثال أن خالداً مكرم كعمرو ، لا مضروب كزيد ; إذ لو كان معطوفاً على زيد للزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بعامل آخر ومعموله ، وهو خطأ ; إذ يتضمَّن إخلالا ببيان المقصود.
وقد صرَّح بهذا علماء اللغة ، وعلماء التفسير - أيضاً - كالفخر الرازي ، حيث قال : إن حجة القول بالمسح هو الآية الشريفة ، ثمَّ أورد البيان الذي ذكرناه.
وممَّن صرَّح بذلك أيضاً إبراهيم بن محمّد القسطنطيني ، إمام جامع القسطنطينية في كتابه غنية المتملّي في شرح منية المصلّي وقد تعرّض فيه
ص: 191
للمسح على الأرجل ، وصرَّح بالبيان المذكور أيضاً (1).
وممن صرَّح بذلك محمّد عبده ، وتلميذه محمّد رشيد رضا في تفسير المنار ، فقد صرَّحا بأن ظاهر القرآن هو المسح.
وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا صلاة إلاَّ بطهور (2) ، والطهور لا يحصل إلاَّ بمسح الرجلين في الوضوء لا الغسل ، كما دلَّت عليه الآية الشريفة ، فهو المتعيِّن.
وإذا كان هناك خبر يدلُّ على الغسل فهو مردود بمخالفته للقرآن الكريم ، ويكون العامل به داخلا في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (3) ووجوب مسح الرجلين في الوضوء شيء بيَّنه اللّه تعالى في كتابه ، فبأيِّ مسوِّغ نعدل عنه إلى غيره؟
ولو ورد على سبيل الفرض في السنة الشريفة ما يدلُّ على غسل الرجلين فإنه لا يصلح للعدول عن حكم القرآن الكريم ، وذلك لمايلي :
أوّلا : أنه لو قلنا بصحّة سند ما يدلُّ على غسل الرجلين فهو لا يقاوم دلالة القرآن الكريم ، إذ القرآن مقدَّم في الدلالة (4).
ص: 192
ثانياً : أن دلالة بعض الروايات التي ادّعيت استفادة الغسل منها مخدوشة ، وعمدة ما استدلّ به على الغسل هو الرواية المعروفة ، وهي : كنّا نمسح على أرجلنا ، فرأى النبي صلی اللّه علیه و آله ذلك فقال : ويل للأعقاب من النار (1).
وصريح هذه الرواية أن أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله كانوا يمسحون على أرجلهم ، وأما جملة ، ويل للأعقاب من النار ، فأيُّ دلالة فيها على وجوب غسل الأعقاب ، وجعله من الوضوء؟
وهذه الرواية تدل على أن الصحابة كانوا أيضاً يمسحون أرجلهم ، وهذا يعني أنهم أخذوه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهي صريحة في أن المسح كان عندهم أمراً واضحاً ، ومعروفاً فيما بينهم.
وعلى فرض صدور هذه الرواية من النبي صلی اللّه علیه و آله ، وأنه قال : ويل للأعقاب
ص: 193
من النار ، فلعلّه التفت إلى أن بعضهم كانوا يبولون ، وأن البول يصل إلى أعقابهم ، ويتوضّأون ولا يغسلون أعقابهم من النجاسة ، ولا يتحرَّزون منها ، فقال حينئذ : ويل للأعقاب من النار.
فهذه الجملة لا توجب غسل الرجلين في الوضوء ، بل تدلّ على وجوب تطهير الرجلين من النجاسة.
كما أن الرواية لا تعارض الآية الشريفة ; إذ أن الرواية أقصى ما تدلّ عليه هو وجوب إزالة النجاسة عن الأعقاب ، ولا دلالة فيها على وجوب غسل الأرجل وكونه من الوضوء ، نعم يظهر منها أن بعض الصحابة كانوا يتهاونون في إزالة النجاسة عن أعقابهم.
والجدير بالذكر أن محمّد رشيد رضا ذكر عن بعضهم أن دلالة هذه الرواية على وجوب المسح في الوضوء أقوى من دلالتها على وجوب غسل الرجلين.
والخلاصة أنَّه قد وقع النزاع والاختلاف بين الأمّة في تفسير الآية الشريفة ، فقال قوم بالمسح ، وهم فقهاء كثيرون من الأمّة في عصر التابعين.
وفي هذه الحالة نرجع إلى سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونراه يقول : إني مخلِّف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (1) ، فجعل المرجع في مثل هذا الحال إلى أهل بيته علیهم السلام ، فنرجع إلى آل محمّد علیهم السلام ، وهم الذين أوجب الصلاة عليهم بعد الصلاة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع الصلوات ، وجعلهم في الصلاة تلو محمَّد رسوله صلی اللّه علیه و آله لنفهم أن لهم مقاماً عظيماً ليس لغيرهم ، يتلو مقام النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولو كان هناك أناس أفضل منهم وأحقّ منهم لقدَّمهم عليهم.
ص: 194
هذا وقد جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أهل بيته علیهم السلام مرجعاً لنا في الدين كالقرآن ، لا يمكن التخلُّف عنهم ، وأهل البيت علیهم السلام يقولون بوجوب مسح الرجلين في الوضوء ، فأنتم إذن حينما تتركون المسح وتغسلون أرجلكم تخالفون بذلك الكتاب الكريم ، وتخالفون سنَّة نبيِّه العظيم صلی اللّه علیه و آله في عدم الرجوع إلى أهل بيته علیهم السلام ، وبعد هذا كيف تقولون : إن منطلقنا هو الكتاب والسنَّة؟
ففهمت أن المناظر لم يستوعب ويفهم كلامي جيِّداً ، ولم يعطه حقَّه ، ولذا كرَّرت عليه المطلب بعبارة ثانية ، وقلت له : غداً يوم القيامة أحضر أنا للمحاكمة والحساب ، وكذلك تحضر أنت أيضاً ، فيقولون لي : يا مهدي! لماذا مسحت رجليك بدلا من الغسل في الوضوء؟ فأقول : يا رب! إن ظاهر القرآن الكريم هو المسح ، وقد رأيت الناس مختلفين فيه بين من يقول بالمسح ، وبين من يقول بالغسل ، فرجعت لآل محمَّد علیهم السلام الذين جعلت ذكرهم في كل صلاة ، فوجدتهم يقولون بوجوب المسح ، ولهذا مسحت رجلي.
وأمَّا أنت إذا سئلت عن غسل الرجلين في الوضوء فبماذا تجيبهم؟ وأين دليلك في هذا الأمر العظيم الذي بيَّنه اللّه تعالى في كتابه؟
فسكت ولم يقل شيئاً ، ورأيت في وجهه الانكسار ، فخفَّفت عنه ، ثمَّ قلت له : نحن الشيعة قد اتُّهمنا بعدّة اتّهامات غير صحيحة ، منها الغلو في أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، ومنها أننا نقول بتحريف القرآن ، وهذا كلُّه غير صحيح ، وهو كلام باطل لا أساس له من الصحّة ، فلماذا ترمى أمّة مسلمة ويفترى عليها ، والحال أنها ترجع في عقائدها وأحكامها إلى آل محمَّد علیهم السلام ، وهم علماء معروفون بالعلم والتقوى؟
فقال : من هم؟
ص: 195
فقلت له : هم الأئمّة الاثنا عشر علیهم السلام .
فقال : من هم الأئمة الاثنا عشر؟
فقلت له : هم الذين ذكرهم السيوطي في تأريخ الخلفاء الراشدين ، حيث قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الأئمة بعدي اثنا عشر ، وذكر ذيلا للحديث : أبو بكر لا يلبث إلاَّ قليلا ... ثمَّ قال السيوطي : إن صدر الحديث وهو : الأئمة بعدي اثنا عشر مجمع على صحّته ، وأمَّا ذيله ففيه ضعف ، ولم يقله إلاَّ فلان.
فقال : فمن هم إذن الأئمة الاثنا عشر؟
فقلت له : أوَّلهم أميرالمؤمنين علیهم السلام ، ثمَّ الحسن ، ثمَّ الحسين ، ثمَّ علي بن الحسين ، ثمَّ محمّد بن علي الباقر ، ثمَّ جعفر بن محمّد الصادق ، ثمَّ موسى بن جعفر الكاظم ، ثمَّ علي بن موسى الرضا ، ثمَّ محمّد بن علي الجواد ، ثمَّ علي بن محمّد الهادي ، ثمَّ الحسن بن علي العسكري ، ثمَّ المهدي الحجة بن الحسن علیهم السلام ، ولمَّا وصلت إلى ذكر اسم الحجة قمت ، فقام وودَّعنا قائلا : في أمان اللّه.
فقلت له : في أمان اللّه. انتهى.
أقول : هذا وقد ورد في كتب السنّة بعض الأخبار ، وجملة من كلمات بعض الصحابة تدلّ على وجوب مسح القدمين ، وقد غضَّ القوم الطرف عنها ، وصاروا إلى غسل الرجلين بلا مسوِّغ في ذلك ، مع تعيُّن المسح كتاباً وسنّة.
ويبدو من بعض روايات المسح التي رواها السنة أنه أضيف إليها بعض الكلمات كي يصرفوا معنى المسح إلى الغسل ، تارة بتفسيرها بالمسح على
ص: 196
الخفين (1) ، وأخرى بتأويل المسح وتفسيره بالغسل الخفيف (2) ، وهو قول باطل لا دليل عليه ، وحمله على غير معناه يحتاج إلى دليل ، ولكنها محاولات يراد منها تحريف ما ينصُّ على تعيُّن المسح.
وإليك هنا بعض الروايات والأقوال في ذلك :
1 - روى أحمد بن حنبل ، عن عبد خير ، عن علي علیه السلام قال : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يمسح ظاهرهما (3).
وفي رواية ابن أبي شيبة الكوفي : عن عبد خير ، عن علي علیه السلام قال : لو كان الدين برأي كان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما (4).
2 - وروى أبو داود ، عن الأعمش قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما.
ص: 197
ورواه أيضاً وكيع عن الأعمش بإسناده ، قال : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح من ظاهرهما ، حتى رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يمسح ظاهرهما (1).
وجاء بعد هذه الرواية تفسير المسح وتأويله ، قال وكيع : يعني الخفّين.
وهذا التفسير - كما ترى - ليس من راوي الحديث ، بل هو تفسير جاء به وكيع ، وليس عليه دليل ، إذ روي مثل هذه الرواية عن عبد خير عن أميرالمؤمنين علیه السلام ولا يوجد فيها هذا التفسير.
ثمَّ إن هذا التفسير غير صحيح ; لأن صدر الحديث يقول : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح ، وهذا لا ينسجم مع المسح على الخفّين ، ولا معنى له أصلا ، وإنما ينسجم مع المسح على نفس القدمين.
3 - روى ابن أبي شيبة الكوفي ، عن الشعبي قال : نزل جبرائيل بالمسح على القدمين (2).
4 - وقال القرطبي : قال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ، ألا ترى أن التيمُّم يمسح فيه ما كان غسلا ، ويلغى ما كان مسحاً (3).
5 - ابن كثير : عن ابن أبي زياد ، قال : حدَّثنا يزيد ، أخبرنا إسماعيل ، قلت لعامر : إن ناساً يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين ، فقال : نزل جبريل بالمسح (4).
ص: 198
6 - وعن عاصم ، عن الشعبي قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنَّة بالغسل (1).
وقد نسب مثل هذا القول أيضاً إلى أنس ، حيث نقل أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل (2) ، ولكن روي عنه ما ينافي هذا القول ، كما سوف يأتي قريباً ; فقد كان أنس يمسح قدميه ، وكان يقول : صدق اللّه وكذب الحجاج.
فقولهم : ( نزل القرآن بالمسح والسنَّة بالغسل ) ما هو إلاَّ جمع بين المتناقضين ، فالقرآن يوجب المسح ، والسنة تعيِّن الغسل ، فهل السنة تخالف القرآن؟ وأيُّ حكيم يتفوَّه بهذا؟ وكيف ينسب لسنَّة النبي صلی اللّه علیه و آله ما يخالف القرآن ويتعارض معه؟ وقد ورد أنه إذا جاء في الروايات ما يخالف القرآن فلا يعمل بها ، ولا تكون حجة.
7 - وروي عن ابن عبّاس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (3).
8 - قال ابن أبي حاتم : بالإسناد عن ابن عباس ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) قال : هو المسح.
ثمَّ قال : وروي عن ابن عمر ، وعلقمة ، وأبي جعفر - محمّد بن علي علیه السلام - ، والحسن في إحدى الروايات ، وجابر بن زيد ، ومجاهد في إحدى الروايات نحوه (4).
9 - السيوطي : أخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن ماجه ، عن ابن
ص: 199
عباس قال : أبى الناس إلاَّ الغسل ، ولا أجد في كتاب اللّه إلاَّ المسح (1).
10 - السيوطي : أخرج عبدالرزاق ، وعبد بن حميد ، عن ابن عباس قال : افترض اللّه غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنه ذكر التيمُّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين ، وترك المسحتين (2).
11 - وروي أن الحجاج خطب بالأهواز ، فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ، فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق اللّه وكذب الحجاج ، قال اللّه تعالى : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان إذا مسح رجليه بلَّهما (3).
12 - وكان عكرمة يمسح رجليه ، وقال : ليس في الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح (4).
13 - وقال ابن جرير : حدَّثنا يعقوب ، حدَّثنا ابن علية ، حدَّثنا أيوب ، قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله (5).
14 - وقال قتادة : افترض اللّه غسلتين ومسحتين (6).
وكل هذه الروايات - كما ترى - دلائل على وجوب المسح في الرجلين ،
ص: 200
وصريحة في ذلك ، وأن دعوى النسخ غير ثابتة ، وكذلك التأويلات الأخرى ، وهي تنفي صراحة القول بغسلهما ، فما ورد من قول ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، واحتجاج أنس بالآية الشريفة على لزوم المسح وتكذيبه الحجاج الذي أمر الناس بالغسل ، وقول قتادة : افترض اللّه .. وقولهم : نزل جبرئيل بالمسح ، كلُّها دلائل قطعية على أن المتعيِّن في الرجلين هو المسح وليس الغسل.
ويدل كلام ابن عباس وقوله : أبى الناس إلاَّ الغسل على أن تحوُّل الناس من المسح إلى الغسل ليس شرعّياً ، ولهذا نسب الغسل للناس ، ولو كان من السنّة والشرع لما صحَّ أن ينسب الغسل للناس.
وبعد ما عرفت جملة من هذه الروايات التي تنصّ على لزوم المسح فلا عبرة إذن بما ورد من دعوى أن الصحابة كانوا يغسلون أرجلهم (1) ; إذ لا يعدو كونه اجتهاداً منهم ، كما يدل عليه قول ابن عباس : وأبى الناس إلاَّ الغسل ، فلا يمكن بوجه ترك ما جاء به القرآن الكريم والمصير إلى اجتهادات الصحابة ، وما قيل من أن المسح مضت به السنّة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2) فهو غير صحيح قطعاً ، فإنه لو كان من السنّة لما خفي على أميرالمؤمنين علیه السلام الذي هو باب مدينة علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأقضى الأمة ، وعلى ابن عباس حبر الأمّة ، ومن حذا حذوه من الصحابة.
وما رووه عن النبي صلی اللّه علیه و آله من أنه غسل قدميه ، فهو من الروايات التي لا
ص: 201
تقاوم ما مرَّ عليك ، مضافاً إلى أنها مخالفة للقرآن فلا يؤخذ بها ، وعلى فرض صحّتها فيحمل الغسل فيها على ما بعد الوضوء ; إذ لا ضير أن يمسح قدميه للفرض ، ثم يغسل رجليه لمقتض آخر استوجب ذلك ، وهذا يحصل كثيراً عند المتوضِّئين ، فيمسح قدميه وبعد أن يتمَّ وضوءه يغسل قدميه للنظافة أو أمر آخر.
ص: 202
حدثني الحجة السيد مهدي الروحاني القمي عليه الرحمة قال : كنت جالساً في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة المنوَّرة ، بعد صلاة المغرب ، وعن يميني شيخ حليق اللحية ، وقد ذكر لي أنه حنفيٌّ ، وأنه من أهل العلم ، وهو من ( أبو ظبي ) فجاء شابَّان مصريَّان ، عليهما آثار النجابة وسيماء الصالحين ، وهما شافعيَّان ، فسلَّما وقالا : هل أنت إيرانيٌّ؟
قلت : نعم.
قالا : هل أنت شيعيٌّ جعفريٌّ.
قلت : نعم ، أنا شيعيٌّ جعفريٌّ.
قالا : ما الفرق بيننا وبينكم؟ وكيف صرتم أنتم شيعة ونحن سنة؟
قلت : الفرق بيننا وبينكم في أمرين عظيمين ، وهما منشأ لاختلافات كثيرة ، وهما :
الأمر الأوَّل : مسألة الخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ص: 203
فالشيعة يقولون : إن خلافة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكون بنصٍّ من اللّه تعالى على لسان نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد نصَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام .
وأمَّا السنة فإنهم يقولون : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لم يعيِّن أحداً خليفة من بعده ، واختار الناس من بعده أبا بكر ، ثمَّ عمر ، ثمَّ عثمان ، ثمَّ علياً علیه السلام .
الأمر الثاني : تحديد المرجع في الأحكام والفتاوى وما تحتاج إليه الأمة.
فإن من المسلَّم أن أقوال الرسول صلی اللّه علیه و آله وأفعاله حجّة علينا ، ولكنه قد تجيء مسائل كثيرة لا نجد لها حكماً في كتاب اللّه ، ولا في سنَّة رسوله صلی اللّه علیه و آله فإلى من نرجع؟
فنحن الشيعة نقول : إن الرجوع في ذلك هو إلى آل محمَّد صلوات اللّه عليهم ، والاعتماد عليهم ، وأمَّا السنَّة فقد فزعوا إلى أربعة رجال جاءوا في عصر متأخِّر ، وهم : مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهم تلاميذ لأئمَّة آخرين ، ولعلَّ فيهم من هو أعلم منهم ، ولا دليل لكم على اتّباع هؤلاء الأربعة.
وأمَّا نحن الإماميَّة فلنا دليل على اتّباع آل محمّد علیهم السلام وهو :
أوّلا : أنّنا فهمنا من وجوب الصلاة على آل محمَّد في الصلاة أن لهم مقاماً يتلو مقام الرسالة في الأمّة ; إذ لو لم يكن لهم هذا المقام لما جعلت الصلاة عليهم في الصلاة ; إذ لا يحتمل أن يكون ذلك مجاملة من اللّه لرسوله صلی اللّه علیه و آله ، فالمجاملات تقع بيننا فقط.
ثانياً : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرجع الأمَّة إلى العترة علیهم السلام صريحاً ، حيث قال : إني مخلِّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن
ص: 204
تضلّوا من بعدي .. (1) ، فبنصِّ هذا الحديث لابدَّ من التمسُّك بالعترة علیهم السلام ، كتمسُّكنا بالقرآن الكريم ، فتمسَّكنا بهم علیهم السلام ، وأما أنتم فقد رجعتم في أخذ الأحكام إلى أربعة لا دليل لكم على جواز الرجوع إليهم ، مع أنهم لهم فتاوى يخالف فيها بعضهم بعضاً ، وليسوا متفقين في فتاواهم ، فكيف ساغ لكم الرجوع إليهم؟
فقال أحد الشابين : شيخنا! إن علوم هؤلاء الأربعة علوم لدنيَّة من اللّه العزيز.
فضرب الآخر صدره وقال له : ما هذا الاستدلال؟
وقال لي الشيخ الجالس عن يميني : هذا غير صحيح ، وقد رأيت أن كلامه لا يتعلَّق بشيء ، ورأيت الشابين لا يعبآن بكلامه.
فقلت لهما : أنتم أهل السنة خصومنا في هذا الأمر ، ولنا - رغم ذلك - في كتبكم أدلّة كثيرة على مدّعانا ، وهو وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، وليس لكم دليل واحد في كتبكم على إمامة أئمتكم ، وإذا كان هناك دليل فأتني بدليل واحد على إمامة الشافعي.
ولمَّا قلت هذا الكلام قام الشيخ الجالس عن يميني ، وثار عليَّ ، وذهب للشرطي وقال له : إن هذا الإيراني يرفِّض هذين الشابيّن.
فجاء الشرطي ولم يكلِّمني ، وأخذ يكلِّم الشابين وقال لهما : قوما ، فقاما ، وقال لهما : اذهبا فذهبا ، فقلت للشرطي : نحن نتذاكر في القرآن وسنن الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فلماذا تفعل معهما هذا الفعل؟ إنَّهما لم يصنعا جرماً ، فلم يعبأبي.
ص: 205
قال المحقِّق العلاّمة المرحوم الشيخ الأحمدي الميانجي : حكى لي صديقي المفضال العلاّمة السيِّد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي ، قال : كنت في المدينة المنورة الطيِّبة ، فذهبت إلى زيارة جامعة المدينة ، فحينما كنت قافلا صادفت في الطريق جمعاً من الطلاب قاصدين البلدة - والجامعة واقعة في خارجها - فقلت لهم : أيُّ العلوم يدرس فيها؟
قالوا : كل العلوم إلاَّ المنطق والفلسفة.
قلت : لماذا لا يدرس العلمان؟
قالوا : لأنهما يخرجان الطالب عن الدين.
قلت : أيُّ فرقة من المسلمين يشتغلون في الجامعة؟
قالو : كلُّهم إلاَّ الشيعة.
قلت : لماذا؟
قالوا : إنهم إن دخلوا التحقوا بالسنَّة وتركوا الرفض ، ولكنهم لم يدخلوا فعلا.
ص: 206
قلت : أسألكم سؤالا؟
قالوا : نعم.
قلت : الذي تعتقدون أنتم من عصمة الصحابة وعدالتهم ، وأنهم كلّهم أبرياء وأتقياء ، فهل هذه العقيدة حادثة فيكم ، أم كانت الصحابة أيضاً معتقدين بهذه العقيدة فيهم؟
قالوا : بل كان هذا الاعتقاد عندهم أيضاً.
قلت : فأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام كان يحارب معاوية ، ومعاوية يحاربه (1) ، هذا كان يريد قتل ذاك ، وهذا يريد قتله ، فهل هذا كان مع اعتقادهما بعدالتهما وتقواهما ، أو كل يرى الأخر مستحقّاً للقتل ومفسداً للدين والدنيا؟
قالوا : كل يرى الأخر مستحقّاً للقتل ، ولكن كان ذلك اجتهاداً منهما ، ومعاوية كان مخطئاً ، وعلي علیه السلام كان مصيباً.
فقلت : على اعترافكم كان معاوية مستحقّاً للقتل ، لأنكم قلتم : بأن عليّاً علیه السلام أصاب في اجتهاده.
قالوا : هذا مما تدرسون أنتم من المنطق والفلسفة.
قلت : سؤال آخر ; وهو أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله حين وفاته أيُّ العملين كان أحسن
ص: 207
له : الوصية وتعيين الخليفة ، أو تركها وإهمال الأمّة وإرجاع الناس إلى شعورهم الاجتماعيّ الثقافي من تعيين رئيس لهم؟
قالوا : الثاني أولى عندنا ; لما فيه من الحرّيّة ، وإرجاع أمور المسلمين إليهم.
قلت : هذا صحيح ، ولكن يأتي سؤال آخر وهو : أن أبا بكر لم ترك الطريقة الحسناء ، وعدل عنها فعيَّن عمر بن الخطاب؟
فسكتوا عن الجواب.
فقلت لهم : أجيبوا بأن أبا بكر علم أن ترك التعيين سوف يورث الفرقة بين المسلمين ، ويولِّد البغضاء والشحناء ، فعمل ذلك حفظاً لهم وحياطة للدين.
قالوا : يأتي حينئذ سؤال آخر ، وهو : أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لم لم يتوجَّه إلى هذه المصلحة الاجتماعيّة ، وأخطأ في ذلك ، وأوقع المسلمين في خلاف شديد؟
قالوا : فنحن إذن نسألك.
قلت : نعم.
قالوا : هل كان من الحسن أن يترك النبيُّ صلی اللّه علیه و آله الوصيّة وتعيين الخليفة ، أو كان من الحسن التعيين والإيصاء؟
قلت : هذا السؤال ساقط عندنا ; لأن تعيين الخليفة والوصيِّ ليس للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بل هو لله عزَّ وجلَّ ، كبعث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وإرساله ، هو يأمر النبي صلی اللّه علیه و آله بتعيين الإمام والوصيّة به فحسب.
فقالوا : هل عندكم علم من هذه الأمور والمطالب الإسلاميّة؟
قلت : أي نعم ، كثير.
قالوا : ولكن نحن محرومون وممنوعون (1).
ص: 208
قال السيِّد مرتضى الرضوي حفظه اللّه تعالى : جرى حديث الدكتور طه حسين (1) بين أساتذة وكتَّاب ، وكان الدكتور حامد حفني داود إلى جنبي ، فطلبت منه أن يتّصل بالدكتور طه حسين ليحدِّد لنا موعداً نلتقي به معه ، فاتّصل به الدكتور حامد ، وقال له : قدم ناشر من العراق ومعه كتب للشيعة ، ويريد مقابلتك ، وإهداء الكتب لسيادتك ، فعيَّن الدكتور وقت المقابلة في الساعة السادسة من مساء الأربعاء ، فاتّصل بي الدكتور حامد ، وأخبرني بتحديد الموعد للمقابلة مع
ص: 209
سعادة الدكتور طه حسين ، فحضرنا القصر ( الفيلا ) الذي يقيم فيه الدكتور في الوقت الذي حدَّده لنا سعادته.
ولمَّا طرقنا الباب فتحها الأستاذ فريد شحاته الملازم له ، فقال له الدكتور حامد : لنا موعد سابق في هذه الساعة مع سعادة الدكتور ، فرحَّب بنا ، ودخلنا عليه في غرفة الاستقبال - وكان الدكتور حاضراً - وبعد أن سلَّمنا عليه وردَّ علينا الجواب خاطبني قائلا : حضرتك من أين؟
قلت : من النجف الأشرف - العراق.
قال : شيعيٌّ؟
قلت : نعم ، بالطبع شيعيٌّ ، ثمَّ قلت : الشيعة تعتقد أن الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام قد ظلم ، وغصب حقّه ، واعتدي عليه ، وخالفوا في شأنه نصَّ الرسول صلی اللّه علیه و آله .
فأجاب الدكتور قائلا : لو أننا نعترف بوجود نصٍّ لكفَّرنا جميع الصحابة.
فقلت : قال اللّه تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) ، ولم يبق - يا دكتور - من الصحابة سوى أفراد يعدّون بالأصابع (2).
ص: 210
فأجاب الدكتور قائلا : لا ، لا ، أكثر من هذا.
وقد لاحظت على الدكتور أنه يرى للخليفتين أبي بكر وعمر منزلة خاصة ، فقلت : إن عمر قد تجرَّأ على الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وتحدَّاه ووقف دون وصيَّته ، ونسب إليه ما نسب له عند مرضه ، روى البخاري عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتدَّ برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجعه ، وتنازعوا ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه فذهبوا يردّون عليه .. الحديث (1).
قال الدكتور : حاشا لعمر أن يقول هذا ، وهذا الحديث غير صحيح.
فأجبته : يا دكتور! الحديث الذي يوافقك تأخذ به ، والذي يخالفك ترفضه وتحكم بعدم صحّته ، فإمّا أن تعترف بصحّة ما جاء في البخاري ، وإمَّا أن تحكم
ص: 211
بعدم صحّته ولا تستشهد به ، وإن ابن عباس كان يقول : الرزيَّة الرزيَّة ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب (1).
فأجاب الدكتور : إن ابن عباس لا يحتجُّ بقوله.
فقلت له : إن الشيعة غير مجمعة على صحّة جميع ما روي عنه ، ولكنه حبر الأمّة ، ولكن أليس أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أراد الخير لأمَّته بأن يكتب لهم الكتاب كي لا يضلُّوا بعده ، وقال عمر : حسبنا كتاب اللّه؟ أفهل يمكن العمل بالكتاب وحده؟! أليس السنَّة هي المبيِّنة للكتاب؟ قال اللّه تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (2) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (3)
ص: 212
فالعترة هي المفسِّرة لكتاب اللّه جلَّ شأنه.
ونسبة الهجر إلى رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله لا يرضى به الباري تعالى ، وقد نزَّهه اللّه سبحانه ونسبه بقوله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1).
وبعد هذا سألت الدكتور عن رأيه في الخليفة عثمان ، فقال : كان عثمان يقاد ..
ثمَّ سألته عن أمِّ المؤمنين عائشة ، فقال : كان أحد الأساتذة يقول : لو أدركت عائشة .. أقعدتها في بيتها ; لقوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ
ص: 213
تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى ) (1).
ثمَّ قال الدكتور : ولمَّا بلغ عائشة خلافة الإمام علي علیه السلام قالت : ليت السماء قد أطبقت على الأرض ، ولمَّا بلغها وفاته فرحت وتمثَّلت بهذا البيت وقالت :
فألقت عصاها واستقرَّ بها النوى
كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر (2)
وعندما أهديت مجموعة الكتب للدكتور - وهي التي قمت بنشرها في القاهرة - مع كتاب الإسلام للأستاذ العلاّمة الكبير الشيخ محمّد أمين زين الدين ، وكتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده لصديقنا العلاّمة المحقِّق السيِّد عبد الزهراء
ص: 214
الخطيب ، وذكرت له أسماءها واحداً بعد واحد إلى أن وصلت إلى ذكر كتاب عبد اللّه بن سبأ سألني الدكتور : هل قرأت الفتنة الكبرى؟
فأجبته : لا.
فقال : إنّي نصرتكم في عبد اللّه بن سبأ ، وقلت في كتابي الفتنة الكبرى : إن عبد اللّه بن سبأ شخصيّة خياليّة أوجدها خصوم الشيعة للطعن بهم ، ما فيش حاجة اسمها عبد اللّه بن سبأ ، لم يخلق اللّه شيئاً اسمه عبد اللّه بن سبأ.
فأجبته : هذا هو رأيك يا أستاذ.
ثمَّ قلت للدكتور : إن الدكتور حامد ألَّف كتاباً في الصاحب بن عبَّاد ، ولي رغبة في أن تكتب سيادتك تقديماً له ، وإن الصاحب بن عبَّاد كان عميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع ، وأنت - يا أستاذ - عميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع عشر ، وبينك وبينه ألف عام.
فابتسم سيادته ابتسامة حلوة ، وقال : هات الكتاب لأقرأه ، وكنت قد صحبت الكتاب معي عندما قابلته في داره ، فدفعته إليه ، وتركته عنده ليطّلع عليه ويكتب التقديم له ، واستأذنته وانصرفت.
وكان هذا الكتاب ( الصاحب بن عباد بعد ألف عام ) رسالة الماجستير التي قدَّمها الدكتور حامد حفني داود إلى الجامعة ، وحصل على هذه الدرجة (1).
قال السيِّد الرضوي أيَّده اللّه تعالى : وإليك نص ما قاله الدكتور طه حسين
ص: 215
في حقيقة عبد اللّه بن سبأ في كتابه الفتنة الكبرى : 2 / 98 طبعة دار المعارف بمصر عام 1953 م :
وأقلُّ ما يدلُّ عليه إعراض المؤرِّخين عن السبئيَّة ، وعن ابن السوداء في حرب صفين : أن أمر السبئيّة وصاحبهم ابن السوداء إنّما كان متكلَّفاً منحولا ، قد اخترع بآخرة ، حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلاميّة ، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهوديّاً ، إمعاناً في الكيد لهم ، والنيل منهم.
ولو قد كان أمر ابن السوداء مستنداً إلى أساس من الحقِّ والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقَّدة المفصَّلة التي كانت بصفين ، ولكان من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب عليٍّ في أمر الحكومة ، ولكان من الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحرب الجديد الذي كان يكره الصلح وينفر منه ، ويكفر من مال إليه أو شارك فيه.
ولكنّا لا نرى لابن السوداء ذكراً في أمر الخوارج ، فكيف يمكن تعليل هذا الإهمال؟ أو كيف يمكن أن نعلِّل غياب ابن سبأ من وقعة صفين ، وعن نشأة حزب المحكِّمة؟!
أمَّا أنا فلا أعلِّل الأمرين إلاَّ بعلة واحدة ، وهي : أن ابن السوداء لم يكن إلاَّ وهماً ، وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوَّره المؤرِّخون ، وصوَّروا نشاطه في أيام عثمان ، وفي العام الأول من خلافة علي علیه السلام ، وإنّما هو شخص اذّخره خصوم الشيعة وحدهم ، ولم يذّخروه للخوارج ... إلخ.
قال السيد الرضوي حفظه اللّه تعالى : إن الدكتور طه حسين لإلمامه بالتاريخ ، ولتعمُّقه فيه ، ولسعة اطلاعه استطاع أن يقول بجرأة وقوَّة : إن عبداللّه
ص: 216
بن سبأ شخصيّة خياليّة كما صرَّح لي سيادته بذلك ، وهو أوَّل من نبَّه على هذا ، وذكره في كتابه : الفتنة الكبرى : 2 / 98 ، وعلى أثر صدور هذا الكتاب أخذ السيِّد العسكري يبحث هذا الموضوع بحثاً مطوَّلا ، وأخرج نصوصه ، ونشر الجزء الأوَّل منه بعنوان : المدخل ، وطبع في النجف الأشرف - العراق عام 1375 ه- - 1955 م ، وأضاف عليه بعض التحقيق والتعليق ، ونشرته مكتبتنا ; مكتبة النجاح ضمن مطبوعاتها ; مطبوعات النجاح بالقاهرة ، وذلك في عام 1965 ، ثمَّ بعد ذلك أخذ السيِّد المؤلِّف يعقب هذا الموضوع حتى استطاع أن يلحقه بجزء ثان ، وطبع في طهران عام 1972 م (1).
ص: 217
يقول السيِّد مرتضى الرضوي : في رحلتي إلى القاهرة عام 1974 م سافرت إلى الإسكندرية لمواجهة الأستاذ عبد الفتاح (1) فيها ، وأتيت داره العامرة ، فجاءت السيِّدة حرمه وفتحت الباب ، فأدخلتني الغرفة المعدَّة للضيوف ، ورحَّبت بي ترحيباً منقطع النظير ، فسألتها عن الأستاذ أجابت : سافر
ص: 218
أمس إلى القاهرة ، وسيتصل بنا تليفونياً في صباح غد ، ويمكنك أن تترك عندنا نمرة تليفونك في القاهرة ، وعندما يتصل بنا نخبره ليتصل بك من هناك ، فتركت عندها رقم تليفون مطعم المنظر الجميل ، وعدت إلى القاهرة.
وفي اليوم الثاني اتصل بي الأستاذ عبد الفتاح ، وحدَّدت معه وقتاً للمقابلة في المطعم المذكور ، فجاء إلى المطعم ، وجلست معه جلسة امتدَّت إلى ساعات ، سألته خلالها عن انطباعاته عن الإمام علي علیه السلام والخلافة ، فأجاب : إنّني عرفت أحقّيّة الإمام بالخلافة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله من خطبة أبي بكر (1) ، فإن خطبته التي خطبها في المسجد تنطبق على الإمام علي علیه السلام أكثر مما تنطبق على أيِّ إنسان سواه (2).
ص: 219
وإنّي حينما أستعرض هذه الأمور أعتمد على المعقول قبل المنقول ، وإنّي لا أنظر إلى صغر سنِّ الإمام صلی اللّه علیه و آله ; لأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله جعل أسامة أميراً على أبي بكر وعمر(1).
فقلت للأستاذ عند ذلك : إنَّ عمر قد طعن في شخصيَّة الرسول صلی اللّه علیه و آله وقال :
ص: 220
إن الرجل ليهجر (1).
فأجاب الأستاذ : إن لكلمة يهجر معنى آخر.
قلت : إن اللّه تعالى قد نزَّه نبيَّه صلوات اللّه عليه وآله بقوله تعالى : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (2)
قال : بالنسبة إلى الأحكام (3).
ثمَّ قلت : قوله صلی اللّه علیه و آله : ائتوني بدواة وبيضاء لأكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعدي أبداً (4) ، والظاهر من هذا أنه - صلوات اللّه عليه وآله - أراد أن يؤكِّد على تعيين الخليفة من بعده ، ولذلك عرف عمر من حديثه صلی اللّه علیه و آله هذا ، وتفوَّه بقوله : إن الرجل ليهجر.
ثمَّ قلت : إنّي أعتقد أن أبا بكر وعمر كانا قد سلف منهما تدبير اتفاق يرجع إلى انتزاع الخلافة من صاحبها الشرعيِّ ; لعدم تنفيذهما جيش أسامة.
أجاب الأستاذ : المعلوم أن أسامة وجيشه وكافّة المسلمين كانوا في قلق على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، حتى لقد عاد أسامة إلى المدينة تاركاً الجيش بالجرف ، وذلك ليطمئنَّ على الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله ، ومعلوم أيضاً أنه صلوات اللّه وسلامه عليه وآله خرج يوم وفاته وقد بدا في خير حال ، حتى لقد تفأَّل الناس خيراً ،
ص: 221
وقالوا : أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحمد اللّه بارئاً ، .. وتقدَّم أبو بكر يستأذن في الذهاب إلى زوجته بنت خارجة في السنح ، على مبعدة نحو ثلاثة أو أربعة أميال من المدينة ، ولا يبعد التوفيق بين رحيل أبي بكر للسنح وبين قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنفذوا بعث أسامة ... إلخ.
فربّما يكون هذا الرحيل من استعداد أبي بكر للسفر ، وحدثت الوفاة وأبو بكر غائب بتلك العالية.
قلت : ومن تتبَّع الحوادث التاريخيَّة بعمق ، ونظر إلى تلك الظروف والملابسات ، وكان بعيداً عن الانحياز والتعصُّب لجهة ما ، يقف على نتيجة : من أن اتفاقاً سابقاً ومبيَّتاً كان قد حصل بين أبي بكر وعمر قبل وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله حول تولّي الخلافة بعده.
ثمَّ قال الأستاذ : أنا لا أستبعد حدوث الاتفاق على الخلافة بين أبي بكر وعمر في مرض الرسول صلی اللّه علیه و آله (1) ، وأن الخلافة من حقِّ الإمام علي علیه السلام ، وأنَّها بهذا النحو انتزعت منه ، وأنّه أحقُّ بها منهما ومن كافة المسلمين.
وقال : ألَّفت كتاباً في موضوع السقيفة وسيتمُّ ، وأنا أعرف أحقّيّة الإمام علي علیه السلام في الخلافة من سلوكه ، ونشأته ، وأيَّام حياته ، ثمَّ قال : إني دعيت إلى العراق لإلقاء محاضرات في كلّيّة الفقه في النجف الأشرف ، وسوف أسافر إلى العراق بعد عيد الفطر إن شاء اللّه.
ثمَّ قال : إني مع إيماني العميق بما ورد في فضل الإمام الحسين علیه السلام ، وما
ص: 222
صوَّر جوانب طفولته من أحاديث ، الكتابة عنه تكون مبتورة ما لم أستخلص شخصيَّته من سلوكه وأعماله ، في طفولته وصباه ; لأن الطفل في اعتقادي - وكما يقول المثل - هو أبو الرجل.
ثمَّ سألت الأستاذ عن رأيه في الفتوى التي أصدرها الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت ، شيخ الجامع الأزهر ، عند رئاسته للأزهر الشريف ، في جواز التعبُّد بمذهب الشيعة الإمامية ، فقال : لا أرى في المذاهب المعروفة في تعدُّدها سوى أنها الوسيلة لتفسير ما غمض على المسلمين من أحكام الإسلام ، ومن هنا فمن حقِّ مذهب الشيعة الإماميَّة أن يكون في نفس مستوى مذاهب السنّة ، فلا يغفل أمره ، ولا حرج في رأيي على سنّيٍّ يأخذ بما فيه ، هو أولى به من سواه ، إذا علمنا أن منبعه الأصلي هو الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام أعلم الناس بدين الإسلام بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله .
وفي رحلتي إلى القاهرة عام 1975 م كنت قد صحبت معي كتاب : ثورة الحسين علیه السلام مع كتاب : دراسات في نهج البلاغة ، أهداهما مؤلِّفهما سماحة العلاّمة الكبير الشيخ محمّد مهدي شمس الدين لسيادة الأستاذ الكبير عبد الفتاح ، حملتهما معي لإيصالهما لسيادته ، حيث إنه رغب في كتابة موضوع عن الإمام الحسين علیه السلام كما أخبرني في رحلتي إلى القاهرة عام 1974 م (1).
قال السيِّد مرتضى الرضوي حفظه اللّه تعالى : وفي ليلة الجمعة 19 من ذي
ص: 223
القعدة الحرام ، المصادف 12 نوفمبر 1976 م أقمت للأستاذ - يعني الأستاذ عبد الفتاح - لمَّا جاء لزيارة إيران حفلة في منزلي بطهران ، دعوت إليها عدداً كبيراً من العلماء والشخصيّات الأدبيّة البارزة ورجال الفكر ، وجرى الحديث حول الوصيَّة ، وهل أن الرسول صلی اللّه علیه و آله أوصى أم لا؟
فقال الأستاذ : إن هناك وصيَّة من حيث المبدأ ، سواء ظهرت في إيماءاته ، أو سماته التي أعطاها للبعض ، ولذلك استند الخلفاء إلى هذا المبدأ ، حيث استند - على حدِّ تعبير الأستاذ - الخليفة الأول في أمر الخلافة إلى الاجتماع بالصلاة ، وعلى هذا بايعه الخليفة الثاني.
ويرى الأستاذ أن التعيينات في أمر الخلافة استندت إلى الاستفادة من ذلك ، ومن أبرز هذه الشواهد قول عثمان حينما خيَّروه بين العزل أو القتل ، قال : لن أخلع ثوباً ألبسنيه اللّه.
وأراد الأستاذ أن يستند في رأيه هذا إلى الاستنتاج العقلي ليتخلَّص من النصوص التي يتعصَّب لها الطرفان.
ومن رأي الأستاذ : أن المغيرة بن شعبة كان المسبِّب الأصلي لقتل الإمام الحسين علیه السلام ، فبعد أن ذكر مواقفه النفاقيَّة قال : مرَّ المغيرة على باب بيت علي علیه السلام ، وذلك بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فرأى أبا بكر وعمر جالسين على الباب ، فقال لهما : أتنتظران حبل الحبلة (1) ليخرج فتبايعانه؟! قوما واجعلا من أنفسكما خليفة (2).
ص: 224
وأضاف الأستاذ أن هذا الموقف من المغيرة هو الذي جرَّ الويلات على أهل بيت الرسول صلی اللّه علیه و آله حتى آل الأمر إلى قتل الإمام الحسين علیه السلام .
وسئل الأستاذ : هل أن المغيرة كان يعدُّ من الصحابة العدول.
أجاب : إن الصحابي - في رأيي - هو الذي يحفظ الرسول صلی اللّه علیه و آله في ذرِّيَّته وشريعته (1).
وجاء في كلمة الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود رحمه اللّه القيِّمة ، والتي ألقاها في الحفل الكبير الذي أعدَّه له صاحب السماحة فضيلة العلاّمة الكبير الشيخ سلمان الخاقاني رحمه اللّه ، في مدينة خرَّمشهر - إيران ، قال : الأخ تفضَّل فقال الكثير عن وجود الكتب الشيعيّة أو السنّيّة - أقصد في مكتبات الشيعة - وعدم وجود الكتب الشيعيّة في مكتبات السنّة. هذا حقٌّ إلى حدٍّ كبير ، لكن ليس المعوَّل على وجود الكتب في المكتبات ، المعوَّل على من هؤلاء الذين يقرأون هذه الكتب ، فلتمتلأ المكتبة السنّيّة بكتب شيعيّة ، من تظنُّون سيقرأون مثل هذه الكتب العميقة الجادّة ، التي تحتوي الكثير من البحوث والمناقشات ، إلاَّ أن يكون القارئ عالماً من العلماء ، باحثاً من البحَّاث ، يريد أن يصل إلى شيء ليقارن بينه وبين
ص: 225
شيء آخر.
ومع احترامي للعلماء من الطرفين ، إلاَّ أنني أقول : العلماء ليسوا الأمّة كلّها ، قد يكونون على رأس الأمّة الإسلاميّة ، ولكنَّ ما يبلغ الناس العاديّين عن السنّة وعن الشيعة ليس بكثير ...
أمَّا السنّة فكثرتهم أو كثرة توالي الحقب والعصور التي تولَّوا فيها الحكم في الدول الإسلاميّة المختلفة قد مكَّن للمذهب السنّيِّ في البلاد أو في كثير من البلاد الإسلاميّة.
الشيعة - كما هو معروف - كانوا مضطهدين في كل الحقب الإسلاميّة إلاَّ قليلا ، حتى من بني عمومتهم بني العبّاس (1) كانوا مضطهدين أشدَّ الاضطهاد. إذن الذي أريده ، والذي أرجوه ، أن تكتبوا للرجل العاديِّ المسلم ، العاديِّ الذي يشكِّل تسعة وتسعين في المئة ( 99% ) من الأمّة الإسلاميَّة ، تسعة وتسعون في المئة ( 99% ) إن لم يكن من الأمَّة الإسلاميَّة فمن السنَّة ، والسنّة تجهل كثيراً ... إذا كتبتم لهؤلاء الكتاب الميسَّر السهل الذي يستطيعون فهمه من الممكن جدّاً أن يتبيَّن لأهل السنَّة حقيقة الشيعة ، من الممكن - بعد هذا - أن تمتلأ المكتبات بكتب الشيعة.
فقد كان لي رأي قاطع أحببت أن أسوقه ، فسقته لبعض الصحاب ، وهو أن نبدأ بتنشئة جيل جديد يعرف حقيقة الشيعة ; من الطفل الصغير ، من الصبيِّ ، من الشابِّ ، أن نقدِّم لهم كتباً ميسَّرة سهلة ، نطلعهم على حقيقة الشيعة.
إنكم تعلمون أن كثيراً من السنّة لا يجهلون - فقط - كل شيء عنكم ، بل
ص: 226
يتهمونكم اتّهامات أنتم منها براء ، يتهمونكم - أحياناً - بالكفر ، بالخروج عن الإسلام .. هذا ما يقال ، بالخروج عن الإسلام.
يتهمونكم - مثلا - بأنكم تقولون : إن الرسالة نزلت خطأ من السماء على محمّد ، وكان مقصوداً بها علي.
يتهمونكم بأشياء كثيرة جدّاً ، وترون في العامّة ، بل منهم من يتهمونكم بأنكم تؤلِّهون عليّاً علیه السلام .
سمعت هذا من أناس لا أقول : إنّهم جهلاء ، بل أقول : إنهم متعلِّمون ، وبعضهم يعتبر من المثقَّفين ، ماذا عليكم لو بدأتم وكتبتم قصصاً سهلة للأطفال الصغار ... لا للرجال العظام ، أيّ مشهد من المشاهد التي تعلِّم الطفل الصغير الذي يقرأ : إن الإسلام واحد ، كما هو في السنة هو في الشيعة.
من السهل جدّاً أن تكتب هذه ، ومن السهل جدّاً - في سياق الكلام القصصي والروائي البسيط الذي يغري الطفل ويستهويه - أن تدرس المعلومات المطلوبة عن حقيقة الشيعة ، إني أرجو هذا رجاء منكم لا من أجل نشر المذهب الشيعيِّ ، وإنما من أجل التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة ، بين المذهبين الكبيرين الذين يعتبران جناحي الإسلام ...
إذا تمَّ هذا ففي اعتقادي أنَّه من الممكن أن يتآخى المسلمون بزيادة اقترابهم بعضهم من بعض ، وبهذا يمكن أن يقف الإسلام على قدميه مرَّة أخرى ، ولربَّما نستطيع أن نستعيد عصر الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ، الذي أعتبره امتداداً لعصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والسلام عليكم (1).
ص: 227
قال السيِّد مرتضى الرضوي : زارني الشيخ حسن زيدان على عادته ، في مقرّي الكائن بفندق ميامي ، بشارع عبد العزيز ، أمام بناية عمر أفندي وقال : إنّي كنت قد حدَّثت الأستاذ الشيخ عبد الرحيم أحمد عرابي (1) عنك ، ويطلب مقابلتك ، وهذا الشيخ عبد الرحيم من الأساتذة والعلماء والمدرِّسين بوزارة التربية والتعليم ، ففي أيِّ وقت ممكن لك تعيينه أخبره وأحضر معه ، فأخرجت له
ص: 228
مجموعة من مطبوعاتنا بالقاهرة ، وكتبت عليها الإهداء له ، ودفعتها بيد الشيخ حسن زيدان على أن يوصلها إليه ، فأعطاه الكتب ، وبعد أيام جاءني الشيخ حسن وقال : إن الأستاذ الشيخ عبد الرحيم عرابي مشتاق إلى زيارتك ، ففي أيِّ وقت نحضر ، فأجبته : في الليلة القادمة بعد العشاء ، وجاء بصحبته الشيخ حسن زيدان في الموعد المحدَّد ، حيث إنه كان المعرِّف له ، وبعد أن جلسنا واستقرَّ بهما المكان توجَّه نحوي الأستاذ الشيخ عبد الرحيم وقال : هل أنكم تسبُّون الصحابة؟
فقلت : ليست هذه مسألة - على حدِّ تعبيركم - مما هو مسؤول عنه الشيعة ، ولا هو محسوب عليها ، ولا هو منبثق عنها ، بل يا ترى ماذا تؤدّي إليه هذه النصوص ، والحقائق التاريخية التي جاء بها أوثق المصادر ، بل وجاء بها الكتاب والسنّة ، وأعظم رجال المسلمين وأقدمهم.
فهل تنكر حضرتك ما ورد عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله قوله : من آذى شعرة مني فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه (1) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : اللّه يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها (2)؟
وقال ابن قتيبة : قال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها (3) ، أليس هذا إحساس منهما بأنَّهما قد أغضباها وآذياها؟ (4) ، قال اللّه
ص: 229
تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) ، وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (2) ، وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ) (3).
وقال الشهرستاني : الخلاف الثاني في مرضه أنه قال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تخلَّف عنه (4).
وفي سبر هذه النصوص نجد أن هناك لعناً قد يتذرَّع به من الكتاب أو السنّة في التعرية أو الاستنكار ، بيد أنه لم يكن الكتاب ولا السنّة ليتذرَّع بالسبِّ أو النبز أو الوصم والتعيير ، فهل تنكر حضرتك تخلُّفهم عن جيش أسامة؟
فابتسم ضاحكاً ثمَّ قال : ما رأيكم في أمِّ المؤمنين عائشة؟
قلت : قال اللّه تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
ص: 230
وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (1) ، وعائشة في حرب الجمل سبَّبت قتل عشرين ألفاً من المسلمين (2).
ثمَّ نقلت للشيخ عبد الرحيم كلام الدكتور طه حسين حولها (3) ، وقد تقدَّم في محادثاتنا معه ..
فقام الأستاذ الشيخ عبد الرحيم عرابي مستأذناً ، وخرج مقتنعاً.
قال ابن عبد ربِّه : دخلت أم أوفى العبديَّة على عائشة بعد وقعة الجمل ، فقالت لها : يا أمَّ المؤمنين! ما تقولين في امرأة قتلت ابناً لها صغيراً؟ قالت : وجبت لها النار ، قالت : فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً في صعيد واحد؟ قالت : خذوا بيد عدوَّة اللّه (4).
وماتت عائشة في أيام معاوية ، وقد قاربت السبعين ، وقيل لها : تدفنين مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ قالت : لا ، إني أحدثت بعده حدثاً ، فادفنوني مع أخواتي في البقيع ، وقد كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله قال لها : يا حميراء! كأني بك ينبحك كلاب الحوأب ، تقاتلين عليّاً وأنت له ظالمة.
وقال ابن عبد ربِّه : أخرج أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن أبزى قال : انتهى عبد اللّه بن بديل إلى عائشة وهي في الهودج ، فقال : يا أم المؤمنين! أنشدك باللّه ،
ص: 231
أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان فقلت لك : إن عثمان قد قتل فما تأمرينني فقلت لي : إلزم عليّاً ، فواللّه ما غيَّر ولا بدَّل؟ فسكتت ، ثمَّ أعاد عليها فسكتت ثلاث مرَّات ، فقال : اعقروا الجمل ، فعقروه ... إلخ (1).
ص: 232
في كتبكم خلافاً بيننا في بعض المسائل والأحكام وغيرهما.
فأجاب الأستاذ : - زي إيه - نظير أيِّ شيء؟
فقلت : أشياء وخلافات تاريخيّة وفقهيّة كثيرة.
فأجاب قائلا : الحديث الذي تراه وفي نظرك أنه فيه خلاف أثبته لي بمنطق العلم ، وأنا أكتب عنه ، ولا يهمّني لو خالفت العالم كلَّه ، إنّما المهمُّ أن أقتنع به.
فقلت له : ومنها مسألة المتعة ، فهي عندنا - أي الشيعة الإماميّة - جائزة (1) ، وعندكم محرَّمة ، وقد أحلَّها اللّه تعالى في كتابه العزيز فقال :
( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (2) ، وهذا هو نصُّ القرآن الكريم ، وأمَّا السنة النبويّة : فعن جابر : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأبي بكر حتى نهانا عنها عمر (3) ، وأن ابن الزبير ولد من
ص: 234
المتعة (1).
ووردت روايات كثيرة في الصحاح وغيرها مما تثبت حلّيّتها ، ولا يعرف سبب ذلك ، ومع ذلك تفتون بحرمتها.
وأمَّا عندنا - نحن الشيعة الإماميَّة أتباع أهل البيت علیهم السلام - فهي مشروعة بل مستحبّة.
ثمَّ بعد هذا كلِّه طلب الأستاذ عبد الهادي منّي مدَّة ليراجع النصوص ، ووعدني بكتابة مقدِّمة عن هذا الموضوع بعد المراجعة ، وقد لبَّى سيادته هذا الطلب.
وفي إحدى زياراتي له في داره قلت : وقد قيل : لأجل عين ألف عين تكرم ، نبيُّ الرحمة محمّد صلی اللّه علیه و آله لم يخلِّف سوى ابنته فاطمة الزهراء البتول علیهاالسلام ، وقال في حقِّها أحاديث مستفيضة ، منها : قوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي فمن
ص: 235
أغضبها أغضبني (1) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله وهو آخذ بيدها - أي بيد فاطمة علیهاالسلام - : من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي بضعة منّي ، وروحي التي بين جنبيَّ ، فمن آذاها فقد آذاني (2).
وقد جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّاً نفسه كما جاء بنصِّ القرآن الكريم ، قال اللّه تعالى : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (3) ، وقال النيسابوري : ( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) أي يدع كلٌّ منّا ومنكم أبناءه ، ونساءه ، ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة ، وإنّما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ، ومن إحضار من هم أعزُّ من النفس ، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : خير رجالكم علي بن أبي طالب ، وخير نسائكم فاطمة بنت محمّد (4).
وأخرج الطبراني في الأوسط ، عن ابن عمر قال : آخر ما تكلَّم به النبيُّ صلی اللّه علیه و آله : اخلفوني في أهل بيتي (5) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ خير البشر ، ومن أبى
ص: 236
فقد كفر (1) ، وصحَّ عن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قوله : من أحبَّ عليّاً فقد أحبَّني ، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني ، ومن آذى عليّاً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه (2) وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (3).
وقال علیه السلام : عليٌّ منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي (4) ، وقال صلی اللّه علیه و آله لفاطمة علیهاالسلام : إن اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك (5).
وعن محمّد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جدِّه علیهم السلام أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : أتاني جبريل فقال : يا محمّد! إن اللّه يحبُّ من أصحابك ثلاثة فأحبَّهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد بن الأسود ، يا محمّد! إن الجنّة تشتاق إلى ثلاثة : علي وعمار وسلمان ( أخرجه أبو يعلى الموصلي ) (6).
ص: 237
وحين وقف الأستاذ على هذه النصوص وتدبَّرها ، وأثارت فيه روح الحقِّ والإنصاف ، وتأثَّر بأقوال النبيِّ صلی اللّه علیه و آله صرخ قائلا : أنا معك ، وسوف لا آلو جهداً لانتصار الحقّ ، فقدَّم لهذه الكتب بما يفرغ عن العقيدة الحقَّة (1).
ص: 238
قال السيِّد مرتضى الرضوي حفظه اللّه تعالى : تعرفت إلى هذا الأستاذ ، والتقيت به مراراً عند المجلِّد الفنّيِّ الحاج سعد خضر ، وكان أحد علماء الأزهر الشريف جالساً عن شماله ، فجلست عن يمينه ، وبعد أن عرفني قال لي : هات المذكِّرة التي معك ، فأخرجتها من جيبي ودفعتها إليه - وكنت قد سجَّلت فيها بعض الحقائق التاريخيّة - وصار يقلِّب أوراقها ، وينظر في صفحاتها فوجد فيها ما يخالف رأيه وعقيدته وما يغيضه ، وبعد ذلك قال : سأغيضك الآن ، وأخذ يكتب عنوان داره في المذكِّرة ، وأول شيء كتبه : رسم خريطة موصلة إلى داره ، وأول ما كتب فيها : شارع أبو بكر الصدّيق.
وفي أثناء ما كان يكتب قلت له : صدّيق إيه يا أستاذ! وقد قال النبي صلی اللّه علیه و آله لأميرالمؤمنين علي علیه السلام : يا علي! أنت الفاروق الأعظم ، وأنت الصدّيق الأكبر (1) ،
ص: 239
وقد قالهما في حقّ أميرالمؤمنين علي علیه السلام .
وبعد ذلك سجَّل في المذكِّرة رقم تليفون منزله بمصر الجديدة ، وقال : إذا ظللت الطريق تتصل بي بهذا الرقم وتنتظرني حتى أحضر.
فأجبته فوراً ، وقلت : يا أستاذ! نحن أتباع أهل البيت علیهم السلام ، وأتباع أهل البيت لا يضلّون.
وعند ذلك رفع يده وضرب بها على فخذي ، وقال : هذا لا أقدر عليه.
وبعد أن عرَّفته أن لي دار نشر في العراق سألني عن الكتب التي قمت بطبعها في القاهرة ، فذكرتها له ، ومنها كتاب : المتعة وأثرها في الإصلاح الاجتماعي للأستاذ المحامي توفيق الفكيكي.
فقال الأستاذ : هل هناك متعة الآن؟
قلت : لا.
قال : إذن طبعتها لمن.
قلت : طبعتها للعقول المتحرِّرة ، لا المتحجِّرة ، فازداد غيضاً وسكت.
وذهبت مرَّة أنا والأستاذ رشيد الصفار (1) إلى داره في مصر الجديدة ، فسألني عن أبي هريرة ، فقلت له : رجل يقول عنه النقّاد والمحقِّقون بأنه وضاع (2).
ص: 240
فقال : لماذا؟
قلت : إن أبا هريرة أحد أفراد رجال الصفة ، وهم عدّة قليلون يسعون طول النهار لتحصيل قوت يومهم ، ولذلك لا ترى لأحدهم سوى خمسة أحاديث أو ثلاثة وهكذا ، وإن أبا هريرة كان واحداً منهم ، فكيف استطاع رواية آلاف الأحاديث بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
فقام الأستاذ شاكر ، وتناول كتاباً من مكتبته بحجم متوسِّط ، ودفعه إليَّ وقال : انظر صفحات هذا الكتاب ، وعلى كم صفحة يحتوي.
قلت : 230 صفحة.
فقال : الصفحة فيها كم سطر؟
قلت : 23 سطراً.
فقال : اضرب أسطر الكتاب بالصفحات فكم يكون الحاصل؟
قلت - بعد أن قمت بعملية الضرب - : 5290 سطراً.
فأخذ الكتاب بيده وقال : أنت تستكثر حفظ هذا الكتاب على أبي هريرة.
فقلت له : يا أستاذ! كيف اختصَّ أبو هريرة بسماع هذه الأحاديث وحفظها من الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولم يختصَّ بها غيره من هو أخصُّ الناس بالنبي صلی اللّه علیه و آله ؟!
فأجابني قائلا : أبو هريرة كان ملازماً للنبي صلی اللّه علیه و آله .
فأجبته : إن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يحضر أوقات الصلوات في المسجد ، وكان عنده تسعة أزواج ، وكان يحضر ويجيب دعوة من يدعوه من الصحابة ، وإن أبا
ص: 241
هريرة لم يحضر عند النبي صلی اللّه علیه و آله سوى سنة وتسعة أشهر ; لأنه أسلم في السنة السابعة من الهجرة ، وأقصاه النبي صلی اللّه علیه و آله إلى البحرين مع العلاء بن الحضرمي في سنة ثمان من الهجرة ، فكيف استطاع حفظ هذه الأحاديث وسماعها من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بشكل مباشر ، مع أن سماعها يستلزم زمناً طويلا يحتاج إليه الحفظ عن ظهر القلب؟
فلم يحر جواباً ، وبعد فترة استأذنّاه وانصرفنا (1).
ص: 242
قال السيِّد مرتضى الرضوي : تعرَّفت على هذا الأستاذ الكبير (1) في القاهرة ، في عصر الخميس 23 ذي القعدة الحرام عام 1375 ه- ، الموافق 27 / 11 / 1975 ، بواسطة الأخ الأستاذ أحمد ربيع المصري ، سكرتير عام لجنة نشر المؤلَّفات التيمورية بالقاهرة ، وكنت أتردَّد عليه في اللجنة ، وفي أحد الأيام كنت في اللجنة إذ قدَّم لي الأستاذ أحمد ربيع كتاب : المجاج ، ففتحته فرأيت قد كتب عليه الإهداء باسمي بعبارة رقيقة ، فيها صفات لا تنطبق عليَّ ولا أستحقُّها ،
ص: 243
فحمدت اللّه تعالى على حسن ظنِّ أستاذنا الكبير ، فذهبت لزيارته بداره العامرة بالزمالك ، بمعيَّة الأستاذ أحمد ربيع المصري ، وتفضَّل مشكوراً بإهدائه لي آثاره ، وكانت جلسة ممتعة ، ودارت بيننا أحاديث متنوِّعة ، وفي صباح الأربعاء 7 / 4 / 1976 م اتصل بي الأستاذ أحمد ربيع ، وقال : اتصلت بالأستاذ العلوي ، وعرَّفته بوصولك القاهرة ، ويمكننا مقابلته في منزله بالزمالك في غد ، الخميس 8 / 4 / 1976 م في الساعة السادسة بعد الظهر.
وحين قرب وقت الصلاة صلاة المغرب قال الأستاذ العلوي : ما حكم الصلاة في السفر عندكم؟ الجمع أو التقصير؟
قلت : المسافر إن نوى الإقامة في بلد يمكث فيه عشرة أيام تجب عليه الصلاة تامّة ، ولا فرق بينه وبين المقيم فيها ، ولو أن المسافر دخل بلداً لأجل عمل له فيه ، ولا يدري متى يفرغ منه ; يومين أو أسبوعاً أو أقل أو أكثر ، وحيث إنه لا يمكنه تحديده عليه أن يأتي بالصلاة قصراً ( إلى نهاية الثلاثين ) يوماً (1) ، وبعد هذه المدّة يتمُّ الصلاة ولو بقي يوماً واحداً ، هذا ما عندنا نحن الشيعة الإماميّة (2).
ثمَّ قال الأستاذ : الأسف أن الشعب هنا يجهل حقيقة الشيعة ، ولا يعرف عنها سوى ما صوَّره له أعداؤه! وقال : يا حبذا لو أنكم تفكِّروا بإصدار مجلّة أو نشرة ، وتباع بسعر رخيص ، تعرضوا فيها آراء الشيعة الإماميّة ومفاهيمها ، حيث
ص: 244
إن المصريين يجهلون حقيقتها ، ولا يعرفون عنها سوى ما صوَّرها الأعداء.
وقلت : هل نصَّ الرسول صلی اللّه علیه و آله على الخليفة من بعده؟
قال : نعم ، لقد نصَّ عليها - صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آله - بأحاديث صريحة صحيحة لا غبار عليها ، ويفهمها من تجرَّد عن التعصُّب وبغض الآل ، كما نصَّ عليها أيضاً العقل السليم.
أمَّا الأحاديث فمنها : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي (1) ، أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي (2) ، القرآن مع عليٍّ ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (3) ، من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (4).
ص: 245
إن هذه الأحاديث فقط وفقط لمن أمعن في ألفاظها ، وعمق معانيها لأكبر دليل على استخلاف النبي صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام في قومه حين خرج إلى غزوة تبوك ، كما استخلف موسى علیه السلام هارون على قومه واستوزره ، وإن تشبيه النبيِّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً بهارون من موسى فيه كل الاستدلال على أن يخلفه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وقصة الغدير المعروفة المتواترة وحدها - وحدها فقط - صريحة في أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أثبت الولاية لعليٍّ ليكون خليفته ، وقد همَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكتب في مرض وفاته حين رأى الصحابة في هرج ومرج - كتاباً يحول بينهم وبين الضلال والتفرقة ، لو لا أن عمر بن الخطاب حال بينه وبين كتابة الكتاب.
وقوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، صريح في أن عليّاً علیه السلام أصبح مولى كل مؤمن ومؤمنة.
أمَّا الدليل العقلي على أحّقيّة الإمام عليٍّ بالخلافة - كرَّم اللّه وجهه - فهو أن الخلافة وتولّي أمور المسلمين بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يجدر أن يتولاَّها إلاَّ من كان نسيج وحده ، وقريع دهره في الشمائل والفضائل ، وقد فاق أقرانه ، وأربى على الأكفاء ، وتميَّز عن النظراء ، وترفَّع عن الأشكال ، وانفرد عن مواقف الأشباه ، لا تفتح العين على مثله ، ولا يلقى نظيره ، ولا يدرك قرينه ، كاملا في دينه ، وفي عمله ، وفي تقواه ، لإعلاء كلمة لا إله إلاَّ اللّه محمّد رسول اللّه ، ونصرة سيِّد الأنام صلی اللّه علیه و آله ، وكان أسبق الخلق إلى الإسلام غير مدافع ، وأفضلهم وأشجعهم ، وأتقاهم غير معارض.
وكل هذه الصفات مستجمعة في الإمام علي الذي ولد مسلماً ، وأسلم بأمر من اللّه تبارك وتعالى ، وتخرَّج من مدرسة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، وترعرع وشبَّ
ص: 246
منذ نعومة أظفاره في رحاب سيِّد الوجود وإمام المتقين صلی اللّه علیه و آله ، وكان جهاده في سبيل الإسلام فوق كل جهاد ، وتقواه فوق كل تقوى ، وبطولاته فوق كل بطولات ، وإيمانه وزهده فوق كل زهد وإيمان ، يصغي إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وهو يناجي ربَّه وخالقه فيرتوي من أقواله وعظاته ، ويعرف الفضيلة من مصدرها ، والعرفان من ينبوعه ، والإيمان من معقله ، عرف كل ذاك وهو وليد في رحاب إمام المتقين صلی اللّه علیه و آله وحيث عني بتربيته ، يضعه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله في حجره ، ويضمُّه إلى صدره ، ويكنفه في فراشه ، ويمسُّه جسده الشريف صلی اللّه علیه و آله ، ويشمُّه عرفه ، ويريه نور الوحي.
إن شريط التاريخ حين يمرُّ على العقل السليم ، وهو يستعرض كبار الصحابة وأعمالهم فرداً فرداً ، ويقارن بينه وبين أعمال الإمام علي كرَّم اللّه وجهه ، وجهوده ، وجهاده ، ونشأته ، ومكانته من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .. إلخ ، ليحكم دون تردُّد بأنّه الأجدر بالخلافة ، والأحقُّ بها دون ريب.
أيُّ عقل ياترى لا يقرُّ أنّ عليّاً كرَّم اللّه وجهه أحقُّ بالخلافة ، وقد أعطاه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله الولاية؟ وهو الذي ولد مسلماً ، وأخلص بالشهادة لله ، وسبق إلى الإسلام بدعوة من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ؟
أيُّ عقل ياترى لا يقول : إن عليّاً كرَّم اللّه وجهه ليس أحقَّ بالخلافة ، وهو الذي ولد بالكعبة ، ولم يسجد لصنم قط ، وشارك النبي صلی اللّه علیه و آله في أول صلاة صلاَّها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي كان في حروب الرسول صلی اللّه علیه و آله من أوَّلها إلى آخرها ، ما عدا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول صلی اللّه علیه و آله على المدينة؟
ص: 247
أيُّ عقل لا يقول : إن علياً أحقُّ بالخلافة وهو الذي قال فيه النبي صلی اللّه علیه و آله : برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه (1)؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي لم يدع بيتاً في العرب إلاّ ترك فيه ناعياً أو ناعية من أجل : لا إله إلاَّ اللّه محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قتل وحده من جيش المشركين في يوم بدر النصف ، بينما قتل المسلمون بأجمعهم وأكتعهم وأبصعهم وأكملهم النصف الآخر؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها (2)؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو ظهيره ، وأخوه في الدنيا والآخرة ، وعيبة علمه ، ووارث حكمته ، وسابق الأمَّة ، وصاحب النجوى ، وباذل الأموال سرّاً وعلانية ، ووارث الكتاب ، وذو الأذن الواعية؟
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو أميرالمؤمنين ، ويعسوب الدين ، وزوج البتول ، وقاتل الفجرة ، وصاحب الراية ، وسيِّد العرب؟
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر (3)؟
ص: 248
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام عليٍّ في الخلافة ، وقد تقدَّم الشيخان : أبو بكر وعمر إليه يوم غدير خمٍّ ، وكلٌّ منهما يقول : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلِّ مؤمن ومؤمنة (1)؟
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام في الخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله في حديث طويل : إن الحقَّ معه حيث دار (2)؟
إن عليّاً - كرَّم اللّه وجهه - هو الأحقُّ بالخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ; لتلكم الصفات المجتمعة فيه ، ولا ريب :
ولم تك تصلح إلاَّ له *** ولم يك يصلح إلاَّ لها
وتولّي أبي بكر الخلافة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، مع وجود الإمام الفاضل ليس دليلا على أفضليَّة أبي بكر على عليٍّ علیه السلام ، إنّها السياسة في كل زمان ومكان ، إنّها حصيلة يوم السقيفة ، إنّها نتاج اختلاف الآراء يوم طلب سيِّد الوجود صلی اللّه علیه و آله إلى الحاضرين من أصحابه أن يؤتوه دواة وصحيفة ، ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده (3).
ثمَّ قلت : هل تنعقد الخلافة بالنصِّ أم بالإجماع؟
أجاب : لا ريب أنّه إذا جاء النصُّ بطل ما دونه ، وهو قاعدة أصوليّة.
وقلت : ما رأيكم في فتح باب الاجتهاد؟ وما هو السبب في غلقه؟
ص: 249
قال : لقد ظلَّ الاجتهاد مفتوحاً منذ الفتح ، وما زال عند الإماميّة والزيديّة ورثة أهل البيت علیهم السلام إلى الآن ، ولم يسدَّ بابه إلاَّ في عصر المنتصر العبَّاسي ، وبأمر من عنده ، ولأمر يجيش في نفسه ، ويخشى من تفاعله وأثره على دولته وحكمه ، خصوصاً عندما اشتدَّ الصراع بين رجالات المذاهب الفقهيّة في ذلك العصر ، وبين فقهاء الرأي وفقهاء الأثر بالأخصِّ.
ومن الأسباب التي حالت دون استمرار الاجتهاد عند أهل السنّة انقراض العلم وجمود الفكر ، وخمول الذهن ، وشلل الرأي ، وقد يكون خوف السلطة الحاكمة من استمرار الاجتهاد ، وتصدّي المجتهد لأوضاعهم ، والفتوى ضدَّهم ، عاملا من عوامل غلق باب الاجتهاد وتفشّي الجمود الفقهيِّ.
ثمَّ قلت : هل أمر الرسول صلی اللّه علیه و آله باتّباع أحد المذاهب الأربعة؟ وما رأيكم فيها؟
قال : كيف يأمر الرسول صلی اللّه علیه و آله باتّباع مذهب معين في زمن لم تكن فيه تلكم المذاهب؟ لقد كان الصحابة يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنّة ، وإلى ما يتمخَّض لديهم من النظر عند فقد الدليل ، وكذلك تابعوهم ، فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة ، فإن لم يجدوا اجتهدوا ، واختار البعض قول صحابيٍّ أو تابعيٍّ أو إمام حين يطمئنُّ إلى الدليل ويأنس به ، ولا يتعيَّن على المسلم أن يتقيَّد بتقليد مذهب معيَّن ، ولم ينقل عن السلف الحجز في ذلك ، وتقليد أئمّة المذاهب الأربعة ، وعدم التقيُّد بتقليد مذهب أو قول معيَّن أمر جائز ، والتلفيق بين أقوال المذاهب لا محذور فيه ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1).
ص: 250
والالتزام بتقليد إمام أو مذهب معيَّن لم يحدث إلاَّ في القرن الثالث من الهجرة ، وبعد فناء القرون التي أثنى عليهم الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ومن المؤسف أن الحكَّام في ذلكم العصر والسياسة لعبت دورها في تقييد الشعب المحكوم عليه بتقيُّد مذهب معيَّن ، تمشّياً على مذهب : الناس على دين ملوكهم.
على أنّه قد تواترت الروايات عن الإمام مالك أنه حين قال له الرشيد : إنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه ، نهاه عن ذلك ، وكذلك الإمام الشافعي القائل : إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي ، وقال أبو حنيفة : لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ، وقال أحمد : لا تقلِّدني ولا تقلِّدن مالكاً ولا غيره.
لقد شوِّهت الحقائق ، واتهم كل فريق الآخر بشتَّى التهم ، ورماه بما ليس فيه ، وكانت النتيجة الحتميَّة هي القطيعة بين مئات الملايين من المسلمين مع الأسف الشديد.
إن هناك - ولا ريب - خلافات في المذاهب ، ولكن لم تمسَّ - والحمد لله - أركان الإسلام ، على أنها بفضل انتشار الشيعة ، وتعارف بعضهم بعضاً ، وأخذ الحقائق الفقهيّة والعلميّة من مصادرها ، قد وهنت خيوطها وضعفت أسبابها ، وكادت تتلاشى في المجتمعين الشيعيِّ والسنّيِّ ، وعرف كل منهم أن ما بين تلكم المذاهب من خلافات لم تمسَّ الجوهر من كل مذهب ، ولا تستوجب القطيعة والتكفير برغم تعصُّب الكثيرين من أهل السنّة الذين يجهلون مذهب الإماميّة ، ويروون الموبقات - مع الأسف - عنهم.
إنّها الآراء الجامحة ، والأقلام الطائشة ، والحكومات الحاكمة ، والجهل المتفشّي ، والتعصُّب الأعمى ، كل ذلك مجتمعة أو بعضها قد فعل فعله في الماضي ، وما زال عالقاً بالأذهان ، وضخّمه وبالغ فيه ، لا عن قصد ولكن عن
ص: 251
جهل وعصبيّة.
وعلى علماء المسلمين - وهم المسؤولون أولا - أن يعطوا بكل ما أوتوا من قوّة وسلطان للتقريب بين المذاهب ، وتبادل الزيارات ، وتعرُّف بعضهم إلى بعض ، ويزيلوا تلكم الحوائط الثلجيّة ، ولا ريب مع الإخلاص في العمل ، وإزالة الأتربة عن العقول المتحجِّرة ، وعن التزمُّت ، سوف تذوب تدريجيّاً ، ويتمُّ اللقاء بين الطوائف الإسلاميّة على وجهه الأكمل إن شاء اللّه.
وسألت الأستاذ عن أبي هريرة ، وقلت : ما رأيكم في أبي هريرة؟ وفي أحاديثه؟
أجاب : رأيي فيه رأي عمر بن الخطاب حين ضربه بالدرّة ، فلقد قال فيه : أكثرت - يا أبا هريرة - من الرواية ، وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) ، ثمَّ هدَّده وأوعده أن يترك الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه ينفيه إلى بلاده.
وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد : لتتركنَّ الحديث عن رسول اللّه أو لألحقنَّك بأرض دوس .. (2) ، وجاء مثل هذا في البداية والنهاية (3).
وقلت : هل زرتم مراقد أهل البيت علیهم السلام في العراق؟ وما هي انطباعاتكم عنها؟
قال : لقد كان لي شرف زيارة تلك البقاع الطاهرة ، حيث يرقد أهل
ص: 252
البيت علیهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، ولا أقول إلاَّ :
تلك أرض قدِّست تربتها *** واستقرَّ المجد في أبوابها
كيف لا تصبح أسمى مشهد *** وبنو خير النبيين بها
ثمَّ قلت للأستاذ : هل اجتمعتم بعلماء الشيعة الإماميّة المتمسِّكة بمذهب أهل البيت علیهم السلام ؟ وما هي انطباعاتكم عنها؟
قال سيادته : لا شك أن علماء الشيعة المتمسِّكين بمذهب أهل البيت علیهم السلام الذين حملوا مشعل شريعة جدِّهم الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله على هدى ونور من اللّه ، وأأسف جدَّ الأسف إذ لم يكن لي حظُّ التعرُّف بأولئك الأعلام ، وأسأل اللّه تبارك وتعالى أن يتيح لي زيارتهم في مدائنهم.
وسألت الأستاذ عن رأيه في الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق ، وفي فتواه بجواز التعبُّد بمذهب الشيعة الإماميَّة التي أصدرها عام 1959 م؟
أجاب : التعبُّد بمذهب الإماميّة لا يحتاج إلى استئذان من شيخ الأزهر ، أو عالم أزهر ، حسب أن مذهب الإمام جعفر الصادق علیه السلام ، ( الذي هو ) أعلم الناس باختلاف الفقهاء (1) ، وأكمل أهل زمانه ، وأورعهم ، وأنصحهم لله ، ملأت آثاره دنيا العرب والإسلام (2) ، مذهب اعتصره صاحبه من كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن أحاديث جدِّه الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .
ص: 253
ثمَّ قلت : ما رأيكم حول التقريب بين المذاهب الإسلاميّة؟
قال : الدعوة إلى التقريب بين المذاهب مطلوب من كل مسلم ; لكون المسلم أيّاً كان مذهبه أخوه ، يحرم عليه عرضه ودمه وماله ، والمسلم أخو المسلم ، لا يخذله ولا يهجره ، ولا يبغضه ، والحبُّ في اللّه والبغض في اللّه من الدين.
ومن الأسف الشديد أن أكثر علماء السنّة يجهلون حقيقة المذهب الإماميّ ، ويتناقلون دائماً عمّا سمعوه من تقوُّلات حول الشيعة ، وورثوه جهلا عن آبائهم وأجدادهم ، من تفشّي زواج المتعة بينهم ، وتأليههم للإمام عليٍّ علیه السلام ، الأمر الذي ليس له وجود بينهم اليوم ، رغم أن زواج المتعة لو طبِّق اليوم لما وصل التفسُّخ بشباب المسلمين إلى ما وصل إليه الآن.
إن علماء السنة كثيراً ما ينسبون إلى الشيعة كافة - بما فيهم الإماميّة - قولا لغلاة الشيعة ، أو لفقيه من الإماميّة خالف علماءهم جميعاً ، أو قولا لجاهل لا يفهم عن التشيُّع شيئاً ، والشيعة الإماميَّة أنفسهم لا يقرُّون به ; لأنه قول فرد أو أفراد خالفهم فيه أكثر فقهاء المذهب نفسه ، وقول مجتهد أو جماعة من المجتهدين لا يكون حجّة على الآخرين.
ومن الخطأ أن ينسب إلى مذهب الإماميّة قول وجد في كتاب عالم منهم ، ومن عرف طريقتهم ، وتتبَّع كلمات علمائهم تجلَّت له هذه الحقيقة بأوضح معانيها ، وما أحوج علماء الشيعة والسنّة اليوم إلى التزاور والتآلف ليعرف بعضهم بعضاً على حقيقته ، وليقطعوا دابر الساسة الذين فرَّقوا المسلمين إلى مذاهب.
ثمَّ قمت بعد أن انتهت الجلسة ، فاستأذنته وانصرفت (1).
ص: 254
قال الشيخ محمّد الشيعي في كتيِّبه ( مناظرة لطيفة ) : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، وأفضل بريَّته محمَّد وعلى آله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.
الساعة تشير إلى الرابعة والنصف بتوقيت الإمارات العربيّة المتّحدة ، وأنا في مطار دبي الدولي ، وفجأة أذيع من مكبِّرات الصوت : على المسافرين إلى إسلام آباد على متن الخطوط الجوّيّة البريطانيّة التوجُّه إلى البوابة رقم : 4 ، وذهبت أنا وبقيَّة المسافرين ، وبعد أن عبرنا العوائق الإداريّة دخلنا الطائرة ، وجلست على المقعد المقرَّر سلفاً ، وجلس إلى جنبي شابٌّ مهذَّب وسيم متديِّن ، عرَّف فيما بعد نفسه باسم : عادل عبد العزيز فيصل ، من أهل حلب - الجمهوريّة العربيّة السوريّة (1) ، وأقلعت الطائرة من أرض المطار ، وبدأ الحديث والتعارف ،
ص: 255
فعرَّفت نفسي بأني محمّد ، فصلَّى على الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله قائلا : اللّهم صلِّ وسلِّم عليه.
فهاجسني حسُّ الفضول ، وقلت : إن هذه الصلاة بتراء.
قال : وما معنى ما تقول؟
قلت له : وقد جاء في الحديث المرويِّ عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله : إن من صلَّى عليه ولم يذكر آله فإن صلاته بتراء (1) ، فنظر إليَّ بنظرات تنطوي على كلمات وكلمات ، وبعد هنيئة فتح فاه ، وقال : إنّك شيعيٌّ؟
قلت : نعم ، فاستوى جالساً كأنّه استنكر ، وأراد أن يقول شيئاً لكنّة نكل ،
ص: 256
وأراد أن يبطش لكنّه امتنع ، وتمالك أعصابه ، ثمَّ قال : أنتم تُكفرون وتَلعنون وتسبُّون أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله وأنصاره ، وهم أمان أهل الأرض ، ومن شهد لهم بالجنة ، فهم النجوم ، ومن سبَّهم فهو زنديق.
وأراد أن يضيف لكنَّه أمسك ، وكأنّه ندم من سرعة انفعاله ، وحدّة مواجهته ، فسكت ، وأضاف قائلا : معذرة.
قلت وفي نفسي حزازة : لا عليك يا حبيبي ، ربما قرأت أو سمعت أو نُقل إليك ممّا حدا بك أن تنفعل ، رغم أنّك مؤمن مهذَّب مثقَّف ، وتتقوَّل علينا ما ليس فينا ، وقبل الخوض في البحث حول هذا الموضوع أذكر لك حادثة لطيفة ، أهدِّئ روعك وأسكِّن غضبك؟
فابتسم وضحكت أنا ..
كنت أدرس عند أستاذ بليغ - وساق قصة ترتبط بأستاذه إلى أن قال : فيا أخي عادل! دع عنك كلمات الانتهازيّين الذين بينهم وبين الحقّ هوَّات وفواصل ، ولكنّهم تستَّروا بالحقِّ والدين لأجل مناصبهم ومصالحهم وراحتهم ووجاهتهم على حساب الدين والمتديِّنين ، كما أوضحت لك ، والعاقل تكفيه الإشارة ، ولله درُّ أميرالمؤمنين علیه السلام حيث قال : الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله (1).
فشاهدت صديقي يومي إليَّ بالتصديق ، وكأنه يقول : هذا قطرة من بحر.
وقال عادل : أودُّ أن أذكر أفضح من هذا ، وأنا أدرس في جامعة دمشق كلّيّة الشريعة ...
ص: 257
وفجأة قاطعته المضيِّفة معلنة شدَّ الأحزمة للهبوط في مطار إسلام آباد.
فقال : يا أخي! ولو لم نصل إلى جواب ، ولكن كانت فرصة سعيدة ووقتاً طيّباً ، أثَّرت في نفسي ، وأودُّ زيارتك ، أو أن تزورني.
قلت : نعم ، وهذا يسعدني ، وإني سأنزل في فندق كلف.
وقدَّمت له العنوان ، ووعدني بالزيارة ، وهبطت الطائرة ، وتابع كل واحد منّا سفره ، وفي الساعة 53 / 11 مساء وصلت الفندق المذكور ، وحللت في الغرفة المخصَّصة مسبقاً ، وقضيت ليلة هادئة ، وفي الصباح الباكر بعد أداء الفريضة عاودت النوم ، فما استيقظت إلاَّ أثر جرس الهاتف ، فرفعت السماعة فإذا هو صديقي قد اتصل بي ، وطلب زيارتي ، فحدَّدت له الساعة الخامسة مساء وقتاً للقاء ..
في الوقت المقرَّر ذهبت إلى الصالة منتظراً صديقي ، فإذا هو جالس أمامي ، وبمجرَّد أن رآني قام وأخذ يدي بقوَّة ، وحيَّاني بحرارة ، وضمَّني إليه ، وبعد المجاملة وكلام قصير حول السفر دخلنا في صلب الموضوع الذي شرعناه في الطائرة.
فقلت له : سيِّدي! ذكرت حول الصحابة من كلام الحبيب المختار وسيِّد الأبرار صلی اللّه علیه و آله ، وحان الآن الوقت والمجال لنبحث عن حقيقة هذا المقام بالشكل الموضوعيِّ المناسب ، بما لا يوجب الإسهاب والتضجُّر ، وبالاختصار ، مدعَّماً بالأدلة المقنعة إن شاء اللّه تعالى.
فأجابني بما فيه الرضا والقبول ، وتوجَّه إليَّ بشره عجيب ، ودقّة متناهية مما دعاني إلى الحيطة والحذر في الكلام.
فقلت : الصحابة من الصحبة ، والصحبة في اللغة : المعاشرة أو الملازمة ،
ص: 258
يقال : صحبته أصحبه صحبة ، فأنا صاحب ، والجمع صحب وأصحاب وصحابة.
وفي الاصطلاح : قال ابن حجر العسقلاني : وأصلح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبيَّ صلی اللّه علیه و آله مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيه من لقيه ، طالت مجالسته أو قصرت ، أو من روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض. انتهى كلامه (1).
وهناك نظريّات مختلفة حول الصحابة.
1 - الكامليّة :
وهذه الفرقة كفَّرت جميع الصحابة.
فغضب عادل.
قلت : مهلا يا حبيبي! فإن هذا القول بدرجة من السخافة بحيث لا ييستحقُّ البحث ; لعدم الجدوى.
2 - جمهور العامة :
قائلين : بأن الصحابة عدول ثقات ، لا ينالهم الجرح ولا التعديل ، ولا يجوز توجيه الكذب إلى رواياتهم ، والردُّ على أقوالهم.
قال ابن حزم : الصحابة كلُّهم من أهل الجنة قطعاً (2).
والحاصل : أنّهم معصومون من الخطأ.
ص: 259
3 - الحدّ الوسط
لا هذا ولا ذاك ، بأن الصحابة غير معصومين ، ولو كان أكثرهم عدولا ثقاتاً ، ولكن فيهم من ليس كذلك.
وهذا يظهر من كلام ابن العماد الحنبلي والشوكاني والمارزي والرافعي وغيرهم (1) ، وجميع علماء الشيعة.
وخلاصة قولهم : أن في الصحابة منافقين ، وهم الذين جرَّعوا النبيَّ صلی اللّه علیه و آله غصصاً ومآسي ، كما يشهد عليهم القرآن المجيد - سورة المنافقين.
أدلة الطرفين :
1 - قول جمهور العامة :
واستدلَّ جمهور العامة بالحديث النبويِّ الشريف : لا تؤذوني في أصحابي (2) ، وحديث : لا يدخل النار مسلم رآني ، ولا رأى من رآني .. (3).
فقاطعني عادل : صحيح هذا ، ومنقول بالتواتر.
قلت : طيِّب ، ولكن الحديث الشريف يشمل أبا جهل وأبا لهب والحكم بن العاص وعبيد اللّه قاتل هرمزان المسلم المؤمن ، وقد قال تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ) (4).
والسؤال الذي يطرح نفسه : هل أن الحديث يشمل هؤلاء أيضاً أم لا؟ أمَّا
ص: 260
شموله لهم فإنه ينافي حكم المنطق والعقل ، وقد قيل : ما حكم به الشرع حكم به العقل.
وعدم شمولهم يؤدي إلى الإذعان بأن التعريف ناقص يحتاج إلى تكميل وترميم.
فابتسم عادل على مضض.
فقلت له : السكوت علامة الرضا.
قال عادل : سيدي! هذا يقال للبنت الباكر إذا عرض عليها الخطوبة فسكتت.
قلت : نعم ، ولكن المورد لا يخصِّص الوارد.
وضحكنا معاً ، ثم طلبنا من الموظَّف المسؤول الشاي الهندي المركَّب من الشاي مع الحليب ، وتسامرنا ، ثمَّ عرض عليَّ السؤال التالي :
ما تقول في هذا الحديث : لا تسبُّوا أصحابي ، ومن سبَّ أصحابي فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين؟ (1)
قلت : سبحان اللّه العظيم! إني أردت أن أذكر لك هذا ، ولكن كنت أتأمَّل في ذهني : هل أن الحديث مختصٌ بالمخاطبين ، أي الذين كانوا مع الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله في صدر الإسلام من الصحابة ، أو أنّه عام يشمل جميع المسلمين طرّاً كما تقتضيه الأحكام الشرعية في الإسلام ، حيث تطبَّق على جميع المسلمين من صدر الإسلام إلى قيام الساعة؟
قال عادل : لا ، بل شامل لجميع المسلمين.
ص: 261
قلت : طيِّب ، فهل خصِّص ، أي أخرج الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله بعض الصحابة منهم ، أو هو عام يشمل جميع الصحابة؟
قال عادل : كلا ، بل عام يشمل جميع المسلمين ، حيث صرَّح بحرمة سبِّ أحدهم.
قلت : وأزيدك علماً أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يجلد من يسبُّ عثمان ومعاوية (1) ، ولكن ما يوجب التعجُّب والذهول أن عمل بعض الأصحاب خلاف الشمول والعموم المدّعى ، فقد أخرجوا من تحت هذا الحديث بعض الصحابة وأهل البيت علیهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.
قال عادل : كيف؟
قلت : أما سمعت أو قرأت أن علي بن أبي طالب علیه السلام كان يُسَبُّ ويلعن على منابر المسلمين أربعين عاماً (2)؟ ألم يكن صحابيّاً يشمله الحديث النبويُّ؟ وأبا ذر الغفاري طرد ونفي ، وقد قال فيه الحبيب المصطفى صلی اللّه علیه و آله : ما أظلَّت الخضراء ، وما أقلَّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (3).
وما المبرِّر لمعاوية في تشريعه لعن وسبّ صحابيٍّ في الخطب وعلى
ص: 262
المنابر؟ وهل سمعت أن عمر بن عبد العزيز جلد أحداً لسبِّه علي بن أبي طالب علیه السلام ؟ وما الفرق بين عليٍّ وعثمان؟ أضف إلى ذلك اختصاص عليٍّ بآية التطهير دون عثمان.
قال عادل : إن معاوية يحظى بشرف الخؤولة ، فهو خال المؤمنين من جهة أم حبيبة أمِّ المؤمنين.
قلت : نعم ، ولكن للمصاهرة والقرابة شرف ومنزلة الصحبة ، ولماذا حرم علي علیه السلام منها؟ ولماذا انحصرت الخؤولة في معاوية ولم تشمل غيره؟ ألم يكن لمحمّد بن أبي بكر شرف الخؤولة؟ مع العلم أنه أفضل سيرة من معاوية ، فلو ذكر بسوء رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره ، ولو كان ذلك في معاوية غضبوا وأنكروا ولعنوا من ذكره بسوء ، وأردت الزيادة فسكتُّ خوفاً من صديقي أن ينزعج منّي.
قال عادل : نعم ، وهنا حديث متواتر مشهور ، وهو : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم (1).
قلت : هذا الحديث يتنافي مع روح الإسلام وعظمته ، وحكمة الباري وعدالته (2).
ص: 263
قال : كلا.
ص: 264
قلت : مهلا يا أخي عادل! على فرض التسليم بصحّة الحديث سنداً ونصّاً ، ففيه أمرٌ بالأخذ ممن يصدر عليه الخطأ والجهل ، وهو غير معصوم ، ويجعل الكذب والافتراء والاختلاف هدى ، هذا صحيح؟
قال عادل : كلا ، ليس كما تقول.
قلت : لقد روي عن المصطفى صلی اللّه علیه و آله عدّة أحاديث مفادها : أنه سيكون بعدي أمور منكرة عن فتن مظلمة كقطع الليل ، وأمراء ضلال لا يستنّون بسنّته ، ويستأثرون بالفيء ، وأن جماعة من أصحابه يرتدُّون على أعقابهم ، ويؤمر بهم يوم القيامة ذات الشمال ، فهل هذا هدى أم ضلال؟ أيجوز الاقتداء بهم أم لا؟
قال عادل : إنهم مجتهدون ، وقال المصطفى صلی اللّه علیه و آله : المجتهد إن أصاب فله أجران ، وإن لم يصب فله أجر واحد.
قلت : أولا : بعض الأصحاب اجتهدوا وقتلوا لاجتهادهم ، كما هو المعروف عن مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد ، ونزا على امرأته لمَّا امتنع من إعطاء الزكاة إلاَّ لمن أمره الرسول صلی اللّه علیه و آله بإعطائه له ، وهو علي بن أبي طالب علیه السلام .
وثانياً : ليس كل الصحابة مجتهدين ، بل فيهم أهل البادية ، ومنهم الأمّيُّون ، ومنهم من لم يسمع إلاَّ حكماً أو حكمين من الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله .
وفجأة نظرت إلى ساعتي ، وإذا هي قد تجاوزت الثانية عشر منتصف الليل ، وشعرت من الأخ عادل ميله إلى الراحة ، وأن التعب أرهقني طول النهار ، فقلت : أستميحك عذراً ، تكلَّمت كثيراً ، وربما جرحت شعورك ، عفواً ، لا قصد لي في ذلك ، واللّه شاهد وهو خير شاهد.
فقال عادل : لا واللّه بالعكس ، إن الحبيب المختار صلی اللّه علیه و آله يقول : الحكمة
ص: 265
ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها ، وقد استفدت الكثير ، وظهرت لي أمور كنت أجهلها ، وربما تصوَّرت خلاف الحقيقة والواقع عنها ، والحمد لله ، على كل حال كانت فرصة سعيدة.
وأخذ بيدي واحتضنني ، وأضاف قائلا : أزعجتك هذه الأمسية ، وإن شاء اللّه غداً أزورك في نفسك الموعد الذي التقينا فيه في هذا اليوم.
فقلت : نعم ، وأنا في خدمتك ، ولحظات من حياتي لن تنسى.
وودَّعني شاكراً ، وانصرف إلى مكان إقامته.
اللقاء الثاني :
وفي اليوم التالي قبل الموعد المقرَّر بساعة تركت حجرتي ، وذهبت إلى الصالة منتظراً قدوم صديقي ، ولمَّا شاهدته قادماً قمت إليه مستقبلا ، وحيَّيته بحرارة ، وتبادلنا الكلمات المتعارفة والتحيَّات المتداولة ، وجلسنا على الطاولة في آخر الصالة لكي نتمتَّع بحرّيَّة أكثر في المحاورة ، ثمَّ بدأنا الحديث.
القول الثالث : الحد الوسط.
فقد قلنا سابقاً إن الصحبة لا تمنح الفرد تلك المناعة المسمَّاة بالعصمة ; لأن الملاك والمقياس للعلوِّ والمنزلة في الإسلام التقوى لا الصحبة ، بمفاد الآية الكريمة : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وقول الحبيب صلی اللّه علیه و آله : لا فضل لعربي على أعجميٍّ إلاَّ بالتقوى (1) ، ولأجل توضيح أكثر وبيان أوسع نستدل بالأدلّة التالية :
1 - الكتاب الكريم
لقد ورد في الكتاب العزيز عدّة آيات ، بل سور تدلُّ على عدم صدق نيَّة
ص: 266
كلِّ الصحابة ، ونتعرَّض إلى بعضها :
قال تعالى : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) (1) وقال تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (2) ، وقال تعالى : ( لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) (3) ، وقال تعالى : ( وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (4) وقال تعالى : ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً ) (5).
2 - السنّة الشريفة
روي عن علي أميرالمؤمنين علیه السلام أنه قال : بينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آخذ بيدي ، ونحن نمشي في بعض سكك المدينة فمررنا بحديقة ، فقلت : يا رسول اللّه! ما أحسنها من حديقة! قال : لك في الجنّة أحسن منها ، حتى مررنا بسبع حدائق ، كل ذلك أقول : ما أحسنها! ويقول : لك في الجنّة أحسن منها ، فلمّا خلا الطريق اعتنقني ، ثمَّ أجهش باكياً ، قلت : يا رسول اللّه! ما يبكيك؟ قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاَّ من بعدي ، قلت : يا رسول اللّه! أفي سلامة من ديني؟ قال : في سلامة من دينك (6).
ص: 267
وقال علي علیه السلام للزبير يوم الجمل : أما تذكر يوم كنت أنا وأنت في سقيفة قوم من الأنصار ، فقال لك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أتحبُّه؟ فقلت : ما يمنعني؟ قال : أما إنّك ستخرج عليه وتقاتله ، وأنت ظالم (1).
وروى سهل بن سعد ، قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : إني فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمَّ يحال بيني وبينهم.
قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنهم منّي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي.
وروى أبو هريرة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ! أصحابي ، فيقول : إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى (2).
وغيرها من الروايات (3) التي تدلُّ على أن الصحبة ليست موجبة للعصمة
ص: 268
في نفس الصحابي.
3 - ولا إجماع على عصمتهم
وقد ذكرت لك سابقاً قول بعض العلماء في عدم صحّة نسبة العصمة إلى الصحابة.
4 - العقل يرفض عصمتهم بلا ملاك
العقل يرفض أن يمنح مقام العصمة الذي هو أعلى مرتبة من مراتب القرب والمنزلة للعبد عند اللّه جلَّ جلاله ، والكرامة لديه سبحانه بلا ذريعة ولا عمل مبرِّر إلاَّ أن له صحبة مع الرسول صلی اللّه علیه و آله لا غير ، وهل هذا يكفي كمبرِّر وعذر لئلا يحترق بنار جهنم مهما فعل؟ ولماذا نحن نحترق بنارها التي لا تمسُّ الصحابة دوننا لأننا حرمنا من الصحبة لا غير؟
وهل العدل يذعن إلى هذا الملاك والمقياس ، أو أن العقل والمنطق يقبله؟ كيف وهو أحكم الحاكمين يحكم حكماً لا يستسيغه العقل والحكمة؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، وهو القائل : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (1).
عود على أدلة الجمهور
وأمَّا الروايات التي ذكرتها حول الصحابة فقد ذكر العلماء فيها ما يوجب قدحاً ، إضافة إلى بعدها عن المقاييس والموازين والمعايير الشرعيّة.
قال : كيف ، وقد قال العظيم في كتابه : ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
ص: 269
الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1)؟
قلت : نعم ، هذه هي صفة بعض الصحابة ، وهم دعامة الإسلام وقوامه ، وبتضحياتهم ارتوت شجرة الدين ، وبسيوفهم ساد الحقُّ والعدل ، وزال الظلم والجور والشرك والكفر ، فهم اللبنة الأساسيّة في نشر هذا الدين القويم ، ولسنا بمنكرين لفضلهم ، وقد أمرنا جلَّ جلاله في كتابه الكريم بالدعاء لهم ، حيث قال : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (2) ، صدق اللّه العليُّ العظيم.
ولكن الكلام ليس في هؤلاء ، بل إسداء عنوان العصمة لجميع الصحابة بلا استثناء أصلا حتى المرتكب منهم للجرائم ، ومن لعنهم الرسول صلی اللّه علیه و آله بلسانه كما يظهر من تعريف ابن حجر وابن حزم.
كيف يعقل هذا من الدين ، وقد نقل المؤرِّخون حوادث وحوادث استحقَّ مرتكبها الضرب والقتل واللعن؟ بل الأصحاب فيما بينهم كانوا يتنازعون ويتشاتمون ، وهذا هو معنى قولنا بعدم عصمة جميع الصحابة ، وأين هذا من كلام الشيخ جار اللّه الذي ادّعى فيه أننا نكفِّر عامة الصحابة؟ وهل يتناسب هذا مع الذوق السليم والمسلك القويم ، إذا حملنا كلامه على صدق النيّة ومحدوديَّة الاطلاع؟ أمَّا لو كان عالماً عامداً في نسبة هذا الكلام إلينا مع علمه لما نقول وندّعي فعلى اللّه جزاؤه ، وهو أحكم الحاكمين.
وأمَّا مسألة السبِّ واللعن ...
ص: 270
قال عادل : توجد روايات عديدة تحرِّم لعن وسبَّ المسلم ، فقد روي عن علي علیه السلام أنه منع أصحابه من أهل الشام ، وقال : لا تكونوا لعَّانين (1).
قلت : نعم ، كما للعصمة ملاك ومقياس ومعيار وهو التقوى ، كذلك جواز اللعن أيضاً له ملاك ، وعليه لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا سفيان بن حرب حين هجاه بأبيات ، حيث قال صلی اللّه علیه و آله ، اللّهم إنّي لا أحسن الشعر ، ولا ينبغي لي ، اللّهم العنه بكلِّ حرف ألف لعنة (2).
وقد روي عن أميرالمؤمنين علیه السلام أنه لعن في قنوت صلاته معاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبا موسى الأشعري ، وأبا الأعور السلمي (3).
وقد ورد أن عائشة لعنت عثمان ولعنها ، وخرجت غضبى عليه إلى مكة (4).
ص: 271
وأتذكَّر رواية لابن البطريق في كتاب العمدة ، عن عمرو بن يحيى ، عن جدِّه قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوماً بالمدينة ، ومعنا مروان ، فقال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدَّق صلی اللّه علیه و آله يقول : هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة اللّه عليهم غلمة .. الحديث (1).
ص: 272
وروى الإربلي في كشف الغمّة ، عن أبي محمّد الغمام ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : اتق الضغائن التي في صدور قوم لا يظهرونها إلاَّ بعد موتي ، أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون .. الحديث (1).
وقبل التعرُّض إلى الملاك والمعيار لجواز اللعن في الشريعة المقدَّسة نقول : إن كلام الإمام علیه السلام في مورد لعن ( سبِّ ) أهل الشام معناه : نهى الإمام علیه السلام عن التعوُّد على السبِّ واللعن ، بحيث لو رأى شيئاً لا يلائم ذوقه فتح فاه باللعن والسبِّ ، وهذا مما لاغبار عليه ، وظاهر من لفظ لعَّانين (2) ، وليس معناه أن الإمام علیه السلام يمنع لعن من استحقَّ اللعن ، ولو أراد هذا المعنى لقال : لا تكونوا لا عنين ، وبين الكلمتين فرق كبير يعلمه من له إحاطة بدقائق اللغة.
وحان الوقت - يا أخي عادل - لنبحث عن ملاك اللعن في الكتاب العزيز.
قال عادل : هل في القرآن ما يشير إلى جواز اللعن؟
قلت : نعم ، ففي سورة الأعراف : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3) ، وفي سورة هود : ( هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (4) ، وفي سورة غافر : ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (5).
ومع ملاحظة هذه الموارد ندرك أن العلّة في مشروعيّة اللعن ، وأبرز مصداق لموضوعه : الظلم.
ص: 273
قال عادل : وما علاقة موضوع الظلم في بحثنا؟
قلت : نعم ، سأوضح لك ، ولكن اسمح لي أن أذكر لك هذه الرواية : عن شدّاد أبي عمار قال : دخلت على واثلة وعنده قوم ، فذكروا عليّاً فشتموه ، فشتمته معهم ، فلمَّا قاموا قال : شتمت هذا الرجل؟ قلت : رأيت القوم شتموه فشتمته معهم ، قال : ألا أخبرك بما رأيت من رسول اللّه؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة أسألها عن عليٍّ فقالت : توجَّه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فجلست أنتظره حتى جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعه عليٌّ وحسن وحسين ، أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل ، فأدنى عليّاً وفاطمة فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ، ثمَّ لفَّ عليهم ثوبه أو كساء ، ثمَّ تلاهذه الآية : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) ثم قال : اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحقُّ (2).
وهذا الرجل - أعني أميرالمؤمنين علیه السلام - في هذه المرتبة والمنزلة التي طهَّره اللّه من كل رجس ، ومن كل الدنس ، ومن كل رذيلة ، أليس من الظلم شتمه ولعنه وسبُّه يا أخي عادل؟
أتعلم أنه شتم ولعن على منابر المسلمين ، وفرض على الناس لعنه وسبُّه ظلماً وعدواناً؟
والسؤال الوارد هنا ، هل يستحقُّ ظالمه اللعن حسب ما استفدت من الآيات التي سبق ذكرها؟
ص: 274
جواب هذا السؤال إليك ، ولكن عليَّ أن أدلَّك على بعض الموارد التي توضح لك الحقيقة.
روى المسعودي ، عن الطبري ، عن ابن أبي نجيح قال : لمَّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص ، فلمَّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة ، وأجلسه معه على سريره ، ووقع في علي علیه السلام وشرع في سبِّه ، فزحف سعد ، ثمَّ قال : أجلستني معك على سريرك ، ثمَّ شرعت في سبِّ عليٍّ ، واللّه لأن تكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليٍّ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ... الحديث (1).
وروي أن المغيرة بن شعبة لمَّا ولي الكوفة كان يقوم على المنبر ويخطب ، وينال من عليٍّ علیه السلام ويلعنه (2).
ص: 275
وروي أن مروان كان يسبُّ عليّاً علیه السلام كل جمعة على المنبر ، وكان مروان أميراً علينا (1).
أخي عادل! أنشدك اللّه ، أليس هذا ظلم؟ فإن كان فما جزاء الظالم؟
وقد ذكر العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم المعروف بالغدير ، الذي لا يستغني عنه طالب الحقيقة : قد صار لعن أميرالمؤمنين علیه السلام سنّة جارية في أيام الأمويين ، فكان أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها عليٌّ علیه السلام (2).
ص: 276
فشاهدت الدموع كالدرر تتساقط بسرعة ولهفة مذهلة .. لو قدِّر لها أن تعبِّر لفظاً لقالت : رحمك اللّه يا أبا الحسن ، يا أميرالمؤمنين ، يا علي بن أبي طالب ، فأنت حقّاً المظلوم الذي جهلناه ، وما عرفنا قدره ومظلوميَّته ..
وخنقتني العبرة ، فأهملت دموعي بلا مشاحة ، وبعد هنيئة خيَّم علينا صمت رهيب ، وطلبت أقداحاً من الشاي ، فأحضرت بين أيدينا ...
إلى أن قال بعدما ذكر كلاماً جرى بينهما لا يتعلَّق بالمناظرة : وحان وقت الفراق بعد أن طاب لنا المقام ، وسبحان اللّه الذي هو لا غيره مفرِّق الأحباب ، وتعانقنا طويلا ، وعزَّ علينا الانفصال ، ولكن الدهر ذو أحوال ، وافترقنا بعدما تعاهدنا على أن نجتمع في القريب العاجل.
وبعد أيام رجعت إلى إيران ، ودوَّنت ما دار بيننا من مقال ، وإلى حديث قادم إن شاء اللّه تعالى ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته (1).
ص: 277
مناظرة الشيخ العاملي مع صارم الوهابي في مشروعيَّة زيارة النبي صلی اللّه علیه و آله ، والتوسُّل به إلى اللّه تعالى (1)
العاملي : من مختصَّات ابن تيميّة وبدعه : تحريمه التوسُّل والاستشفاع والاستغاثة بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فقد قال السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام صلی اللّه علیه و آله ) ص 291 : اعلم أنه يجوز ويحسن التوسُّل والاستغاثة والتشفُّع بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله إلى ربِّه سبحانه وتعالى ، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين علیهم السلام ، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوام من المسلمين.
ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان ، حتى جاء ابن تيميَّة فتكلَّم في ذلك بكلام يلبِّس فيه على الضعفاء الأغمار ، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار!! انتهى.
ص: 278
صارم : سؤالي : لماذا تدعون إلى شدِّ الرحال وزيارة القبور ، والتبرُّك بها؟
العاملي : حديث شدِّ الرحال لم يصحَّ عند أهل البيت علیهم السلام ، وقد صحَّ عند بقيَّة المذاهب ، وفهموا منه عدم شموله لشدِّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بدليل أنهم كانوا يفعلون ذلك ، وما رووه في بعض صيغه : ( لا تشدُّ الرحال إلى مسجد ) وفهم هؤلاء حجَّة على من يعتقد بالحديث ، ويعتقد بحجّيّة فهم الصحابة والتابعين وأئمّة المذاهب ، لأنهم أقرب إلى عصر النصّ ومعناه ، وقد ألَّف عدد من العلماء قبل ابن تيميّة رسائل في تفسير الحديث ، وعندما جاء ابن تيميَّة ببدعته ردَّ عليه عدد آخر منهم ، واتفقوا على أن فهمه للحديث مخالف لإجماع علماء المسلمين وسيرتهم لمدّة ثمانية قرون ، بل هو مخالف لفهم عامّة علمائهم إلى يومنا هذا!!
فنحن نشدُّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وقبور الأئمة المعصومين علیهم السلام ، لأن زيارة قبورهم مستحبّة عندنا ، ومن أفضل القربات إلى اللّه تعالى ، ولم يثبت عندنا أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله نهى عن ذلك ، بل ثبت أنه دعا إليه وحثَّ عليه ، وكان يزور القبور المباركة لتكون سنَّة من بعده ، وكذلك كانت سيرة علي وفاطمة والأئمَّة علیهم السلام ، ولزيارة القبور عندنا أحكام وشروط وآداب شرعيَّة ، وليس فيها شيء ينافي التوحيد أبداً ، بل فيها ما يؤكِّد التوحيد ، وأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى اللّه تعالى كما أمرنا.
صارم : أحسنت ، وهذا ما أريده منك بالضبط ، فقد شفيت غليلي بهذه الإجابة الشافية الكافية ، ولعلَّ صدرك يتّسع لأسئلتي ، وسؤالي الآن : لماذا تستشفع بهم؟ لم لا تتّجه في طلبك إلى اللّه مباشرة؟
ص: 279
لماذا تجعلهم واسطة بينك وبين اللّه؟ ألم تعلم أن الجاهليّين كانوا يعبدون الأصنام ، يستشفعون بها ، ويجعلونها واسطة بينهم وبين اللّه؟! وقد ناقضت نفسك حينما قلت : ( وأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى اللّه تعالى كما أمرنا ) كيف تستشفع بهم وهم ( لا يملكون من عندهم شيئاً بل هم عباد مكرمون ) لقد خالفت المنهج الربَّانيَّ وسنَّة المصطفى صلی اللّه علیه و آله من وجهين :
الوجه الأول : من مخالفة السنّة ; لأن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، فما بالك بامتلاك النفع لغيرهم؟!
الوجه الثاني : مشابهة الكفار ، وقد نهينا عن مشابهتهم ، فهل بعد هذا تستشفع بهم؟ أرجو للجميع الهداية.
العاملي : سؤالك في أصله وجيه ، فلو كان الأمر لنا لقلنا : فلنطلب كل شيء من اللّه تعالى مباشرة ، ولا نجعل بيننا وبينه واسطة من المخلوقين ، ولكنَّ الأمر له عزَّ وجلَّ وليس لنا ، وقد قال لنا : ( اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، وقال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (2) ، وقال : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (3) ولا حاجة إلى مجيئهم واستغفارهم عند الرسول صلی اللّه علیه و آله ، واستغفار الرسول لهم .. وهذا يعني أنَّه تعالى قال لرسوله صلی اللّه علیه و آله كن موحِّداً بلا شرط ، ومهما قلت لك فأطعني ، وحتى لو قلت لك عندي ولد فاعبده فافعل وقل لهم : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
ص: 280
الْعَابِدِينَ ) (1)! ولكنَّه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً.
فالمسألة إذن ، ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها اللّه تعالى أو سمح بها ، وهو يختلف عن زعم التوسُّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسُّل والاستشفاع الذي قبله إمامك ابن تيمية؟ أم أنك أشدُّ في هذا الأمر من إمامك؟!
صارم : قلت عن التوسُّل : ( ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها اللّه تعالى أو سمح بها ) هل لي أن أعرف هذه الحدود التي أمر أو سمح بها؟ أرجو أن تجيبني باختصار ، وفي حدود السؤال ، هديت للصواب.
العاملي : الظاهر أن السبب فيما أثاره بعضهم إشكالا على مبدأ التوسُّل ، أنهم يرون الشفاعات والوساطات والمحسوبيَّات السيئة عند الرؤساء والمسؤولين في دار الدنيا ، وما فيها من محاباة وإعطاء بغير حقّ ولا جهد من المشفوع لهم أو المتوسَّط لهم ، وبما أن اللّه تعالى يستحيل عليه أن يحابي كما يحابي حكَّام الدنيا ، وإنَّما يعطي جنَّته وثوابه بالإيمان والعمل الصالح .. فلذلك صعب علهيم قبول الشفاعة والوساطة والوسيلة إلى اللّه تعالى ، ولكنَّه فات هؤلاء أن الحكمة من جعله تعالى الأنبياء والأوصياء الوسيلة إليه تعالى :
أوَّلا : أن يعالج مشكلة التكبُّر في البشر ; لأن البشر لا يمكنهم الانتصار على تكبُّرهم والخضوع لعبوديَّة اللّه تعالى إلاَّ إذا انتصروا على ذاتيّتهم في مقابل الأنبياء والأوصياء ، واعترفوا لهم بالفضل والمكانة المميَّزة والاختيار الإلهيّ ،
ص: 281
وأنّهم المبلِّغون عن اللّه تعالى .. وفاتهم أن جعل الأنبياء والأوصياء وسيلة إلى اللّه تعالى ضرورة ذهنيّة للبشر ، ذلك أن الفاصلة بين ذهن الإنسان المحدود الميَّال إلى الماديّة والمحدوديّة ، وبين التوحيد المطلق المطلوب والضروريّ ، فاصلة كبيرة ، فهي تحتاج إلى نموذج ذهنيٍّ حاضر من نوع الإنسان ، يمارس التوحيد أمامه ، ويكون قدوة له.
وبدون هذا النموذج القدوة ، يبقى الإنسان في معرض الجنوح في تصوُّره للتوحيد وممارسته ، والجنوح في هذا الموضوع الخطير أخطر أنواع جنوح الضلال ، وهذا هو السبب - في اعتقادي - في أن اللّه تعالى جعل أنبياءه وأوصياءهم علیهم السلام حججاً على العباد ، وهو السبب في أنه جعلهم من نوع أنفسهم ، وليس من نوع آخر كالملائكة مثلا.
والنتيجة : أن وجود الوسيلة بين العباد واللّه تعالى لو كان يرجع إلينا لصحَّ لنا أن نقول : يا ربَّنا! نريد أن تجعل ارتباطنا بك مباشراً ، ولا تجعل بيننا وبينك واسطة في شيء ، وهذا ما يميل إليه أهل الإشكال على الشفاعة والتوسّل! ولكن الأمر ليس بيدنا ، فالأفضل أن يكون منطقنا أرقى من ذلك ، فنقول : اللّهم لا نقترح عليك ، فأنت أعلم بما يصلحنا ، وإن أردت أن تجعل أنبياءك وأوصياءك واسطة بيننا وبينك ، وحججاً علينا عندك ، فنحن مطيعون لك ولهم ، ولا اعتراض عندنا.
وهذا هو التسليم المطلق لإرادته تعالى ، وقد عبَّر عنه سبحانه بقوله لرسوله صلی اللّه علیه و آله في سورة الزخرف : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) .
صارم : كلامك طويل ، وفيه نسبة من الصحّة ، إضافة إلى بعض الشبه التي تحتاج إلى ردّ ، فلو كان مقالك قصيراً لرددت على كل نقطة تذكرها وتخالف ما أعتقده ، لذا أرجو مرَّة أخرى أن يكون جوابك مختصراً دقيقاً ، وعموماً فأجيبك
ص: 282
باختصار :
الآيات التي استدللت بها في الأمر بطاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله عليك لا لك ; لأنَّه أمرنا بالتوحيد الخالص النقيِّ من شوائب الشرك ، ومن طاعته تنقية التوحيد مما يفضي إلى الشرك ، أعاذنا اللّه وإيَّاك من مضلاَّت الفتن.
ثمَّ إنك استدللت في الاستشفاع بدعاء النبي صلی اللّه علیه و آله للأعمى (1) ، وهذا لا إشكال فيه ; لأنه طلب من حيٍّ فيما يستطيعه ، لذا لجأ عمر إلى عمِّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً (2) ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به؟
العاملي : من أسباب الخطأ عند المخالف للتوسُّل : أنه يتصوَّر أن المتوسِّل يطلب من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أو من الولي .. بينما هو يطلب من اللّه تعالى ، ويتوسَّل إليه بمقام النبيِّ ، أو يطلب من النبيِّ التوسُّط له عند اللّه تعالى ، فلا طلب إلاَّ من اللّه تعالى.
وأمَّا شبهة أن الرسول صلی اللّه علیه و آله ميِّتٌ فكيف تصحُّ مخاطبته؟ فجوابها : أنه حيٌّ عند ربِّه ، ولذلك تسلِّم عليه في صلاتك : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ) ، وإذا قبلت حديث تعليم النبي صلی اللّه علیه و آله للأعمى أن يتوسَّل به ، فقد صحَّ عندكم أن عثمان بن حنيف طبَّقه بعد وفاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وعلَّمه لشخص كان عنده
ص: 283
مشكلة عند الخليفة عثمان ، فاستجاب اللّه له ، وتغيَّرت معاملة عثمان معه ، وتطبيق الصحابي الثقة حجَّة ; لأنه معاصر للنصّ.
وقد أجاز ابن تيمية التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله بعد موته ، فلا تكن ملكياً أكثر من الملك! بل ورد عندكم التوسُّل إلى اللّه تعالى بالممشى إلى الصلاة والحجِّ ( أتوسَّل إليك بممشاي )!
صارم : قلت لك : نحن نحرِّم شدَّ الرحال إلى زيارة القبور منعاً لجناب التوحيد أن تشوبه شوائب الشرك ، ثمَّ سألتك : لم تشدّون الرحال؟ فقلت : للاستشفاع!! فإن أردت أن تجيبني على قدر السؤال فهذا سؤالي : لماذا تستشفعون بالأموات؟ وكيف؟
العاملي : إلى الآن ما زلت تتصوَّر أن الزيارة لابدَّ أن يرافقها استشفاع ، فمن أين جئت بهذا؟! فقد يزور مسلم نبيَّه ويؤدّي واجب احترامه ولا يتوسَّل ولا يستشفع به ، وقد يتوسَّل المسلم بنبيِّه في بيته ولا يذهب لزيارته ، فالزيارة شيء ، والتوسُّل شيء آخر ، وإلى الآن تتصوّر أن شدَّ الرحال لا يكون إلاّ للاستشفاع! مع أن شدَّ الرحال قد يكون للزيارة وحدها ، أو مع نيّة الاستشفاع والتوسل ، وقد أجبتك بأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله حيٌّ عند ربِّه ، وأنك تسلِّم عليه في صلاتك ، فلا مانع أن يخاطبه المتوسِّل ، على أن المتوسِّل لا يطلب من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بل من اللّه ، ولا يحتاج إلى مخاطبة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بل يخاطب ربَّه ، ويسأله بحقِّ رسوله ومقامه ومعزَّته عنده ، وقلت لك : لقد أجاز ابن تيمية التوسُّل والاستشفاع بالنبيِّ حتى لو كان صلی اللّه علیه و آله ميِّتاً ، فهل تريد نصَّ كلامه؟ وتعود وتسألني : لماذا تشدّون الرحال للاستشفاع ، ولماذا تستشفعون بالميِّت؟ أرجو أن تتأمَّل في كلامي أكثر.
صارم : لقد تأمَّلت في كلامك جيّداً ، إلى أن قال : وسؤالي : كيف يتوسَّل
ص: 284
به؟ وسؤالي الثاني : كيف يستشفع به؟ هل أجد عندك إجابة مختصرة في حدود السؤالين السابقين؟
العاملي : توسَّل به إلى اللّه ، واستشفع به ، وتوجَّه به ، وسأله به ، واستغاث به ، وأقسم عليه به .. كلّها بمعنى واحد ، أي توسَّط به إلى اللّه تعالى ، ومعنى توسُّلنا واستشفاعنا بالرسول صلی اللّه علیه و آله أننا نقول : اللّهم إن كنت أنا غير مرضيٍّ عندك ، ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ، فإني أسألك بحرمة عبدك ورسولك محمّد صلی اللّه علیه و آله ، الذي هو نبيّي ومبلِّغي أحكامك ، وخير خلقك ، وصاحب المقام الأوَّل عندك .. أن تقبل دعائي وتستجيبه.
وهذا يا أخ .. أمر طبيعيٌّ صحيح ، ليس فيه عبادة للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا ادّعاء شراكة له مع اللّه تعالى ، بل فيه تأكيد لمقام عبوديّته وإطاعته لربِّه ، الذي وصل به إلى مقامه المحمود عند اللّه تعالى ، وهو مشروع لورود النصّ به.
صارم : أعوذ باللّه من غضب اللّه ، ما هذه الجرأة على اللّه؟ كيف تقول : ( ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي )؟! هل تعتقد أن اللّه لا يسمع نعوذ باللّه من الخذلان ، هل تعتقد أن اللّه يخفى عليه شيء في الأرض وفي السماء؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم ، أفق يا رجل! فواللّه إن الذي قلته ليزلزل الجبال ، هداك اللّه ، أرجو أن تستغفر اللّه بلا واسطة عن هذا الذنب العظيم ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ باللّه.
العاملي : عبارة : ( إن كنت لا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ) تعني لا تستجيب .. وسماع الدعاء بمعنى استجابته عربيٌّ فصيح أيُّها العربي!!
صارم : هل لك أن تدلَّني على أن السماع بمعنى الاستجابة من لغة العرب ، وقبل ذلك القرآن؟
العاملي : يستحبُّ للمصلّي أن يقول : سمع اللّه لمن حمده ، ومعناها
ص: 285
استجاب ، وليس مجرَّد السماع ، ويكفي استعمالها عند العرب بقولهم : هل يسمع فلان منك أم لا؟ وهو ليس سؤالا عن حالة أذنيه وطرشه!!
وفي سنن النسائي : 8 / 263 : عن أبي هريرة يقول : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : اللّهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يسمع. انتهى.
وفي هذا كفاية ، فأجب على ما ذكرته في موضوعنا.
صارم : أشكرك على إحالتك وبيانك ، وسؤالي - وأرجو ألا تتذمَّر : لم تلجأون إلى الواسطة بينكم وبين اللّه؟ ألم يخلقنا؟ ألم يرزقنا؟ أليس سبحانه هو المتكفِّل بنا؟ ألم يقل لنا : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1) بلا واسطة؟ ألا تعلم أن العبد أقرب ما يكون من ربِّه وهو ساجد؟ ألا تعلم أن كل وازرة لا تزر وزر أخرى؟ ألا تعلم أن الإنسان مهما بلغ من الكمال فهو عبد ضعيف مربوب لله تعالى ، لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً؟ فأيُّ فرق بيننا وبين الأموات؟ وقد ذكرت لك أن عمر استشفع بعمِّ النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ولم يلجأ إلى قبر النبي صلی اللّه علیه و آله ! فلم لم يفعل ذلك؟ أتراه غفل عما تدعون إليه؟! نعم للإنسان أن يطلب من آخر حيٍّ أن يدعو له ، أمَّا من الميِّت فإن الميِّت لا حول له ولا قوَّة!! ولو كان بيده شيء لدفع الموت عن نفسه ، وسؤالي مرَّة أخرى : لم تجعلون الميِّت واسطة؟
العاملي : حسب فهمنا المحدود ، وإدراك عقولنا القاصرة ، الأمر كما تقول ، فالإنسان يعبد اللّه تعالى مباشرة ، فينبغي أن يطلب منه مباشرة ، واللّه تعالى سميع بصير عليم ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، فلا يحتاج إلى واسطة من شخص
ص: 286
حيٍّ ولا ميِّت ، ولا أيِّ مخلوق .. هذا حسب إدراك عقولنا ، ولكنَّه سبحانه بنى هذا الكون ، وخلق الإنسان ، وأقام حياته في الأرض على أساس الأسباب والمسبَّبات في أمور الطبيعة ، وأخبرنا أن عبادته والطلب منه لها أصول وأسباب ، وأن علينا أن نتعامل معه حسب هذه الأصول.
مثلا : لماذا يجب الإيمان بالرسول؟ فإذا أردنا أن ننفي الواسطة نقول : إن المطلوب هو الإيمان باللّه وحده ، والرسول مبلِّغ ، وقد بلَّغ ذلك وانتهى الأمر ، فلماذا نجعل الإيمان به مقروناً بالإيمان باللّه تعالى؟! لماذا قال اللّه تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (1) ، ولم يقل : أطيعوني فقط كما بلَّغكم الرسول صلی اللّه علیه و آله ؟!! وهذا المثل قد يكون صعباً.
مثال آخر : الكعبة .. لماذا أمر اللّه تعالى ببناء غرفة ، وقال توجَّهوا إليها ، وحجُّوا إليها ، وتمسَّحوا بها؟ هل يفرق عليه في عبادتنا له أن نصلّي له إلى هذه الجهة أو تلك؟ أو تحجّ تلك المنطقة أو لا تحجّ؟ فلماذا جعلها واسطة بيننا وبينه؟! بل .. إن الصلاة أيضاً نوع من التوسُّل ، وقد يسأل إنسان : هل تحتاج عبادة اللّه إلى صلاة له؟ بل إن الدعاء أيضاً توسُّل ، فاللّه تعالى مطّلع على الضمائر والحاجات ، فلماذا يطلب أن نقول له؟ بل يمكن لهذا التفكير العقلي أن يوصل الإنسان إلى القول : لماذا خلق اللّه الإنسان بحيث تكون له حاجات ، وقال له ادعني حتى أستجيب لك؟
إنّا جميعاً - يا صارم - أفكار العقل القاصر أمام حكمة اللّه تعالى ، وحكمته تعرف بالشرع والعقل معاً ، وليس بظنون العقل واحتمالاته!! وما دام مبدأ التوسُّل
ص: 287
ثبت في الشرع ، فإن العقل لا يعترض عليه ، بل هو ( العقنقل ) كما عبَّر عنه بعضهم ، والتوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ثابت في حياته وبعد موته بدون فرق ; لأنه حيٌّ عند ربِّه ، وحياته أقوى من حياة أحدنا ، وقد قلت لك إن التوسُّل لا يحتاج إلى مخاطبة ، فهو سؤال لله تعالى بمقام النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وجهاده في سبيله وشفاعته عنده ، وأخبرتك أن ابن تيمية أجاز التوسُّل بالأموات ، ولعلّه حصره بالنبي صلی اللّه علیه و آله .
صارم : أولا : أوافقك القول على أن العقل قاصر ، وهذا لا مرية فيه ، أمَّا تمثيلك بالكعبة فقياس مع الفارق ; لوجود الدليل الذي أمرنا اللّه من خلاله أن نتوجَّه إلى الكعبة ; إذ الكعبة ليست واسطة ، ولك أن تتصوَّر أن شخصاً يتحدَّث معك وقد التفت عنك وأعطاك ظهره! هل تقبل عليه وتتحدَّث معه؟
وكذلك وضعت الكعبة ليتَّجه إليها المسلمون جميعاً في صلاتهم ، لا أنها واسطة ... إلى غير ذلك من الحكم.
ثانياً : قلت : إن ابن تيميّة أجاز التوسُّل بالأموات ، ولعلَّه حصره بالنبي صلی اللّه علیه و آله ، كلامك متناقض ، كيف تقول : أجاز ، ثمَّ ترجع وتقول : لعلّه؟! هذا لا يستقيم ، فإمَّا أنه أجاز التوسُّل بالأموات ، وهذا محال ، أو أنه أجاز التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟ فهل لك أن تدلَّني على كلام شيخ الإسلام في التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، مع ذكر المرجع؟
ثالثاً : أريد الدليل من القرآن - ومن القرآن - على قولك ، راجياً الاختصار ما أمكن ، وشكراً لك.
العاملي : قال ابن تيمية في رسالة لشيخ الإسلام من سجنه ص 16 : وكذلك مما يشرع التوسُّل به في الدعاء ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصحَّحه (1) : أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله علَّم شخصاً أن يقول : اللّهم إني أسألك وأتوسَّل إليك
ص: 288
بنبيِّك محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمَّد! يا رسول اللّه! إني أتوسَّل بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها ، اللّهم فشفِّعه فيَّ ، فهذا التوسّل به حسن ، وأمَّا دعاؤه والاستغاثة به فحرام! والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين.
المتوسِّل إنما يدعو اللّه ويخاطبه ويطلب منه ، لا يدعو غيره إلاَّ على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه ، وأمَّا الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعوَّ ويطلب منه ، ويستغيثه ويتوكَّل عليه. انتهى.
فقد أفتى ابن تيميَّة بجواز العمل بحديث الضرير ، وفيه خطاب للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وهو ميِّت! ولاحظ - يا صارم - أن الميزان عند ابن تيميّة أن تطلب من اللّه أو من المتوسَّل به ، وهذا هو كلام علماء المسلمين كلّهم ، وتفريقه بين المتوسِّل والداعي والمستغيث غير صحيح ; لأنه لا يوجد مسلم يدعو النبيَّ صلی اللّه علیه و آله ويطلب منه من دون اللّه ، أو يستغيث به من دون اللّه!!
وأزيدك حديثاً آخر صحَّحه الطبراني ، يفسِّر حديث الضرير ، قال في المعجم الكبير : ج 9 ص 31 : عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمِّه عثمان بن حنيف : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين ، ثمَّ قل : اللّهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمَّد صلی اللّه علیه و آله نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! إني أتوجَّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، ورح إليَّ حتى أروح معك.
فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثمَّ أتى باب عثمان بن عفان ، فجاء البواب حتى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفان ، فأجلسه معه على الطنفسة ، وقال
ص: 289
له : ما حاجتك؟ فذكر حاجته ، فقضاها له ، ثمَّ قال : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فائتنا ، ثمَّ إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك اللّه خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ، ولا يلتفت إليَّ حتى كلَّمته فيَّ!
فقال عثمان بن حنيف : واللّه ما كلَّمته ، ولكن شهدت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبيُّ صلی اللّه علیه و آله : أو تصبر؟ فقال : يا رسول اللّه! إنه ليس لي قائد ، وقد شقَّ علي ، فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ صلِّ ركعتين ، ثمَّ ادع بهذه الدعوات.
قال عثمان بن حنيف : فواللّه ما تفرَّقنا ، وطال بنا الحديث ، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرّ قط!
صارم : إليك الجواب عمَّا أثرته - وأعتذر عن الإطالة - :
أوّلا : لم تحلني على مرجع ، وقولك : قال ابن تيمية في رسالة لشيخ الإسلام من سجنه ص 16 ، أتعدّ هذا إحالة؟! ما رأيك لو قلت لك : قال صاحب الكافي في رسالة له ، أتقبل ذلك مني؟!
ثانياً : إمَّا أنك لا تجيد النقل وتأخذ ما يوافق هواك ، وأعيذك باللّه أن تكون كذلك ، وإمَّا أنك أسأت فهم كلام ابن تيمية ، أو نقلت شبهة كان يريد الردَّ عليها ; لأن أقواله في هذه المسألة - التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله - مشهورة مبثوثة في ثنايا كتبه.
ثالثاً : قلت - يا عاملي - : فقد أفتى ابن تيمية بجواز العمل بحديث الضرير ، وفيه خطاب للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وهو ميِّت! ولا أدري من أين استنبطت قولك : وهو ميِّت؟!
رابعاً : قلت : لا يوجد مسلم يدعو النبيَّ صلی اللّه علیه و آله ويطلب منه من دون اللّه ، أو
ص: 290
يستغيث به من دون اللّه!! فباللّه عليك ، لم يشدُّ الناس رحالهم إلى القبور؟ إن قلت : من أجل الدعاء عندها دون أن يكون للميِّت تأثير ، قلنا لك : فلا فائدة من شدِّ الرحال ، والإجابة حاصلة في مكانك الذي أنت فيه ، دون أن تشدَّ الرحل ، وإن قلت : إن للميِّت تأثيراً ، أو من أجل حصول البركة ، قلنا : كيف يؤثِّر وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً؟ ومن هنا جاء النهي عن شدِّ الرحال للقبور ، منعاً لجناب التوحيد من شوائب الشرك.
ولو تنزَّلنا معك ، ووافقناك في قولك : أنا لا أستغيث بها ، قلنا لك : لكن عوام الناس ممَّن لا فقه عنده سيظنُّ أن للميِّت تأثيراً ، وإلاّ لما شدَّت إليه الرحال ، فيلجأ في دعائه إلى الميِّت ، وهذا ما يحصل عند غالب القبوريّين ، فلمَّا كانت هنالك مفسدة مترتِّبة على ذلك وقع النهي.
خامساً : أمَّا حديث الطبراني فيحتاج إلى مراجعة ، فلم يستعفني الوقت للوقوف عليه وعلى صحّته آمل أن تتأمَّل جوابي جيّداً ليتضح لك الحقّ بإذن اللّه.
العاملي : أرجو أن تصحِّح ما هو المركوز في ذهنك من أن الزيارة تلازم التوسُّل والاستغاثة ، وأن شدَّ الرحال يكون للاستغاثة ، فلا تلازم بينها أبداً ، وإذا أكملنا البحث في التوسُّل آتي لك بنصوص الزيارة بلا توسُّل ، وهذا اليوم قرأت لإمامك ابن تيمية مجدَّداً كل مقولاته حول التوسُّل ، وعن حديث عثمان بن حنيف عن الضرير ، وعن حديث عثمان بن حنيف الآخر الذي صحَّحه الطبراني .. فقد تعرَّض لذلك في كتبه وكتيِّباته التالية : العبادات عند القبور ، وزيارة القبور ، والتوسُّل والوسيلة ، واقتضاء الصراط المستقيم ، ورسالة من سجنه ، وخلاصة رأيه أنه يفسِّر حديث الأعمى بأنَّه توسُّل بدعاء الرسول صلی اللّه علیه و آله لا بذاته ، ويحصره في حياته لا بعد مماته.
ص: 291
قال في التوسُّل والوسيلة ص 265 : وفي الجملة فقد نقل عن بعض السلف والعلماء السؤال به ، بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين ، والاستغاثة بهم ، والشكوى إليهم ، فهذا مما لم يفعله أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا رخَّص فيه أحد من أئمّة المسلمين. وحديث الأعمى الذي رواه الترمذي هو من القسم الثاني من التوسُّل بدعائه.
وقال في ص 268 : وفيه قصة قد يحتجّ بها من توسَّل به بعد موته إن كانت صحيحة ، رواه من حديث إسماعيل ابن شبيب بن سعيد الحبطي ، عن شبيب بن سعيد ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المديني ، عن أبي أمامة سهل بن حنيف : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، وكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له عثمان ابن حنيف : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ ائت المسجد فصلِّ ركعتين ، ثمَّ قل : اللّهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّنا محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! إني أتوجَّه بك إلى ربي ... إلخ.
قال البيهقي : ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله ، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب بن سعيد ، قال : ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر ... إلخ (1). انتهى.
ثمَّ ناقش ابن تيمية في سند الحديث ، ولم يفتِ بالتوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته .. إلخ.
وقال - يعني ابن تيمية - في ص 276 : وأمَّا حقوق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - بأبي
ص: 292
هو وأمي - مثل تقديم محبّته على النفس والأهل والمال ، وتعزيره وتوقيره وإجلاله ، وطاعته واتّباع سنته ، وغير ذلك ، فعظيمة جداً ، وكذلك مما يشرع التوسُّل به في الدعاء ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصحَّحه : أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله علَّم شخصاً أن يقول : اللّهم إني أسألك وأتوسَّل إليك بنبيِّك محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! يا رسول اللّه! إني أتوسّل بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها ، اللّهم فشفِّعه فيَّ. فهذا التوسُّل به حسن.
وأمَّا دعاؤه والاستغاثة به فحرام ، والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين المتوسِّل إنّما يدعو اللّه ويخاطبه ويطلب منه ، لا يدعو غيره إلاَّ على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه ، وأمَّا الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعوَّ ويطلب منه ، ويستغيثه ويتوكَّل عليه ، واللّه هو ربُّ العالمين. انتهى.
وأنت تلاحظ أنه عبَّر هنا بالتوسُّل به ، وليس بدعائه ، كما أنه لم يخصِّصه بحال حياته ، بل ذكر ذلك من حقوقه والاعتقاد به فعلا!!
العاملي : لقد تشعَّب الموضوع بمداخلات الآخرين ... وقد سألتك عن شدِّ الرحال لأثبت لك تناقض فتاوى ابن تيمية فيها ، وسأترك مطالبتك بالجواب فعلا ، وأجيبك عن التوسُّل والاستشفاع ، ومعناهما عندنا وعندكم واحد ، فالتوسُّل الجائز عند إمامكم هو التوسُّل بدعاء النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في حياته فقط ، ومعناه أنه الآن لا يجوز حتى بدعائه ، كما لا تجوز مخاطبته ; لأنه ميِّت.
أمَّا عندنا فالتوسُّل جائز ومستحب بالنبيِّ وآله صلی اللّه علیه و آله ، بذاته الشريفة ، وكل صفاته الربَّانية ، ومقامه المحمود ، وكذا مخاطبته والطلب منه أن يدعو ربَّه ، أو يشفع إلى ربِّه في الحاجة أو الجنّة ... كل ذلك جائز ، وبعضه مستحب ، ولا فرق عندنا في ذلك بين حياته وبعد وفاته ; لأنه حيٌّ عند ربِّه ، يسمع كلامنا بإذن ربِّه ،
ص: 293
إلاَّ أن يحجب اللّه كلام من لا يحبُّه عنه.
وهذا التوسُّل ليس فيه أيُّ شائبة شرك ; لأنَّا نعتقد أنه عبد اللّه ورسوله ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه اللّه ، ولا يملك شياً من دون اللّه ، بل كل ما يملكه فهو من اللّه تعالى ، وطلبنا منه وتوسُّلنا به ليس دعاء له من دون اللّه ، بل هو دعاء اللّه وطلب من اللّه وحده ، والطلب من الرسول أن يكون واسطة وشفيعاً إلى ربِّه.
ودليلنا على ذلك : الآيات والأحاديث الصحيحة التي أجازته وحثَّت عليه .. وقد أشرت لك إلى أننا لم نخترع ذلك من عندنا ، ولا عندنا هواية لأن نضمَّ إلى الطلب من اللّه مباشرة الطلب منه تعالى بواسطة ، ولا الأمر إلينا حتى نختار هذا الأسلوب في دعائنا وعبادتنا أو ذاك ... بل الأمر كلُّه له عزَّ وجلَّ ، وقد قال لنا : ( اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، وقال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (2) ، وقال : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (3) ، وقال عن أبناء يعقوب : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ) (4) ، كما روينا ورويتم الأحاديث الصحيحة الدالّة في رأي علماء المذاهب ومذهبنا.
فهل إشكالكم علينا لأنا نطيع ربَّنا ، ونتّبع الواسطة والوسيلة التي أمرنا بها ، ولا نتفلسف عليه ونقول له : نريد أن ندعوك مباشرة ، فلا تجعل بيننا وبينك واسطة؟! لقد أمر عزَّ وجلَّ رسوله صلی اللّه علیه و آله أن يكون موحِّداً بلا شروط ، ويطيعه
ص: 294
مهما أمره حتى لو قال له : لقد اتَّخدت ولداً لي فاعبده!!
( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (1).
ولكنه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً ، لكن أخبرنا أنه جعل رسوله صلی اللّه علیه و آله وآله شفعاء إليه ، وأمرنا أن نتوسَّل بهم ونستشفع بهم في الدنيا والآخرة.
أمَّا نسبتي إلى ابن تيمية تجويز التوسُّل في سجنه ، فلم تكن افتراء والعياذ باللّه ، بل اعتمدت على عبارته المتقدِّمة في سجنه ، وكذلك اعتمد عليها السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) ، وأبو حامد المرزوق في كتابه ( التوسل بالرسول صلی اللّه علیه و آله وجهلة الوهابية ) .. وغيرهما كثير ، وذكر عنه ابن كثير أصرح منهما ، ولا أقول إن هؤلاء العلماء قد افتروا عليه ، فهم من أهل البحث والدقّة .. ولكنّهم اعتمدوا على تلك العبارات المجملة التي كتبها! ونحن الشيعة حسَّاسون من كل ما يكتب بالإكراه أو شبه الإكراه ، ولا نقول بصحّة نسبة الرأي الصادر من صاحبه في ظروف الإكراه وشبهه .. ونفتي ببطلان البيع المكره عليه ، وكذا البيعة.
لذلك بعد قراءتي الشاملة لما كتبه في الموضوع قلت : إن ابن تيمية لم يجوِّز التوسُّل ، رغم عبارته المذكورة. ولكني لا أوافقه على رأيه ; لأن دليل علماء المذاهب أقوى من دليله .. ثمَّ دليلنا في اعتقادي أقوى من أدلّة علماء المذاهب .. وشكراً.
صارم : سؤالي : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور؟ فأجبت للاستشفاع! لماذا
ص: 295
تستشفع بهم؟ فأجبت لأن لي ذنوباً!! ما الذي يعمله الميِّت لك أرجو أن تجيب بصراحة عن هذا السؤال وبلا إطالة.
العاملي : كان سؤالك : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور؟ وجوابه : أننا نشدُّ الرحال لزيارة من ثبت عندنا استحباب زيارته كالنبيِّ وأهل بيته صلَّى اللّه عليه وعليهم .. فالغرض لنا ولكل المسلمين من شدِّ الرحال والسفر هو الزيارة ، وقد لا يعرف بعضهم الاستشفاع أبداً ، بل يقول : أنا ذاهب لزيارة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وقد يستشفع بهم الزائر وقد لا يستشفع ، بل يسلِّم عليه ويصلّي عنده ويدعو اللّه تعالى بدون استشفاع.
وسألتني : لماذا تستشفع بهم؟ فضربت لك مثلا في طلب شفاعتهم بالمغفرة ، وأضيف هنا : أن النبيَّ صلوات اللّه عليه وآله له مقام عظيم ، أكرمه به ربُّه في الدنيا والآخرة ، ومن إكرامه له أن المسلم إذا طلب من ربِّه حاجة مستشفعاً به ، وكانت مستجمعة للشروط الأخرى قضاها له.
فالتوسّل والاستشفاع طلب من اللّه تعالى وحده بجاه نبيِّه ، وليس طلباً من النبيِّ الذي هو مخلوق مثلنا ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه اللّه.
وسألت : ما الذي يعمله الميِّت لك؟ وجوابه أن النافع الضارَّ هو اللّه تعالى وحده لا شريك له ، والميِّت والحيُّ وكل المخلوقات لا تملك لي ولا لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً ، إلاَّ ما ملَّكها اللّه تعالى .. ومن اعتقد بأن أحداً له بنفسه ذرّة من ذلك فهو مشرك باللّه تعالى.
ولكن اللّه تعالى هو الذي جعل هذا المقام لنبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، وأمرنا بأن نبتغي إليه الوسيلة بالعمل ، وبتشفيع رسوله صلی اللّه علیه و آله في حاجاتنا في الدنيا والآخرة.
ومع الأسف إن بعضكم ما زال يتصوَّر أن شدَّ الرحال إنما تكون بنيَّة
ص: 296
الاستشفاع والتوسُّل ، وأن الاستشفاع والتوسُّل طلب من النبيِّ ودعاء له بدل اللّه تعالى!! ونعوذ باللّه من ذلك ، ونعوذ به ممن يتّهم المسلمين بذلك بدون دليل!!
صارم : معذرة لتأخُّري ، وأعود مرّة أخرى لموضوعنا وأقول : هل لك أن تفرِّق بين فعل الشيعة وبين فعل المشركين في جاهليّتهم عند قبورهم؟
فالمشركون يقرُّون بالربوبيَّة ، وإنما كفروا بتعلُّقهم بالملائكة والأنبياء لأنهم يقولون : ( هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (1) ، أرجو أن تفرِّق لي باختصار ، تحيَّاتي لك.
العاملي : الكفَّار والمشركون اتّخذوا آلهة وأولياء من دون اللّه تعالى ، والضالّون اتّخذوا إليه وسيلة من دونه ، لم يأمر بها ولم ينزِّل بها سلطاناً ، أمَّا نحن فنوحِّده ونطيعه ، ونبتغي إليه الوسيلة التي أمرنا بها وهي محمّد وآل محمّد صلوات اللّه عليهم ، والذين ينتقدوننا لم يفرِّقوا في موضوع التوسُّل والشفاعة بين ما هو من اللّه تعالى وما هو من دونه!! وفي الفرق بينهما يكمن الكفر والإيمان والهدى والضلال.
انتهت المناقشة ، ولم يجب بعد ذلك المدعوُّ صارم (2).
قال صارم في ردّه على العاملي حفظه اللّه تعالى في حرمة الاستشفاع : ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله
ص: 297
الميِّت حينما تستشفع به؟
أقول : هذه الدعوى من المدعو صارم غير صحيحة ، وقد ثبت من الأحاديث والروايات أن جملة من الصحابة وغيرهم كانوا يفدون على قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويستشفعون به إلى اللّه تعالى ، ويتبرَّكون بترابه الطاهر ، فقد كان بعض الصحابة يأتي قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويضع وجهه على القبر الشريف ، وهو نوع من الاستشفاع والتبرك بصاحب القبر ، وإلاَّ لما كان لهذا الفعل وجهٌ. وبعضهم يحثو على رأسه من تراب القبر ، وقد كانت فاطمة الزهراء علیهاالسلام تزوره ، وتبكي عنده ، وتشمُّ ترابه الطاهر ، وقد كان بعض التابعين يدعو اللّه وهو مستقبل لقبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإليك جملة من هذه النصوص وبعض أقوال علمائهم في ذلك :
1 - روى ابن السمعاني في الذيل ، بالإسناد عن أبي صادق ، عن علي ابن أبي طالب علیه السلام قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول اللّه! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن اللّه فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل اللّه عليك : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (1) ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك (2).
ص: 298
2 - روى الحاكم بالإسناد عن داود بن أبي صالح ، قال : أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع؟ قال : نعم ، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري ( رضي اللّه عنه ) ، فقال : جئت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم آت الحجر ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1).
3 - أخرج القاضي عياض بإسناده عن ابن حميد ، قال : ناظر أبو جعفر أميرالمؤمنين مالكاً في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال له مالك : يا أميرالمؤمنين! لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن المسجد ، فإن اللّه تعالى أدَّب قوماً فقال : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) الآية (2) ، ومدح قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ) الآية (3) ، وذمَّ قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) الآية (4) ، وإن حرمته ميِّتاً كحرمته حيّاً.
فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبداللّه! أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك
ص: 299
آدم علیه السلام إلى اللّه تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه تعالى ، قال اللّه تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ ) الآية (1).
4 - قال العزّ بن جماعة الحموي الشافعي ( المتوفَّى 819 ) في كتاب العلل والسؤالات لعبد اللّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، رواية أبي علي بن الصوف عنه ، قال عبداللّه : سألت أبي عن الرجل يمسُّ منبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويتبَّرك بمسِّه ، ويقبِّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب اللّه تعالى ، قال : لا بأس به (2).
قال الشيخ الأميني عليه الرحمة : قال الإمام القدوة ابن الحاج محمّد بن محمّد العبدري القيرواني المالكي ( المتوفَّى 737 ) في المدخل في فضل زيارة القبور ج 1 ص 257 : وأمَّا عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر ، ويتعيَّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليتّصف بالذلّ والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ويحضر قلبه وخاطره إليهم ، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره.
إلى أن قال : فالتوسُّل به - عليه وآله الصلاة والسلام - هو محلُّ حطِّ أحمال الأوزار ، وأثقال الذنوب والخطايا ; لأن بركة شفاعته - عليه وآله الصلاة والسلام - وعظمها عند ربِّه لا يتعاظمها ذنب ; إذ أنها أعظم من الجميع ، فليستبشر من زاره ، وليلجأ إلى اللّه تعالى بشفاعة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله من لم يزره ، اللّهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك ، آمين ربَّ العالمين ، ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم ،
ص: 300
ألم يسمع قول اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) الآية؟ فمن جاءه ووقف ببابه وتوسَّل به وجد اللّه توَّاباً رحيماً ، لأن اللّه منزَّه عن خلف الميعاد ، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه ، وسأله واستغفر ربَّه ، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلاَّ جاحد للدين ، معاند لله ولرسوله صلی اللّه علیه و آله ، ونعوذ باللّه من الحرمان (1).
قال الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد : الباب الثاني في الدليل على مشروعيَّة السفر وشدِّ الرحل لزيارة سيِّدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، استدلَّ العلماء على مشروعيَّة زيارته وشدِّ الرحل لذلك بالكتاب ، والسنَّة ، والإجماع ، والقياس.
أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (2) ، وجه الدلالة من هذه الآية مبنيٌّ على شيئين :
أحدهما : أن نبيَّنا صلی اللّه علیه و آله حيٌّ كما يثبت ذلك في بابه.
الثاني : أن أعمال أمته معروضة عليه كما يثبت ذلك في بابه.
فإذا عرف ذلك فوجه الاحتجاج بها حينئذ أن اللّه تعالى أخبر أن من ظلم نفسه ، ثمَّ جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاستغفر اللّه تعالى ، واستغفر له الرسول صلی اللّه علیه و آله فإنه
ص: 301
يجد اللّه تواباً رحيماً ، وهذا عام في الأحوال والأزمان ; للتعليق على الشرط ، وبعد تقرير أن نبيِّنا صلی اللّه علیه و آله بعد موته عارف بمن يجيء إليه ، سامع الصلاة ممن يصلي عليه ، وسلام من يسلِّم عليه ، ويردُّ علیه السلام ، فهذه حالة الحياة ، فإذا سأله العبد استغفر له ; لأن هذه الحالة ثابتة له في الدنيا والآخرة ، فإنه شفيع المذنبين ، وموجبها في الدارين الحياة والإدراك مع النبوَّة.
وهذه الأمور ثابتة له في البرزخ أيضاً ، فتصحُّ الدلالة حينئذ وفاء بمقتضى الشرط.
وقد استدلَّ الإمام مالك على ذلك بهذه الآية كما ذكرته في باب مشروعيّة التوسُّل به صلی اللّه علیه و آله .
وحكى المصنِّفون في المناسك من أرباب المذاهب عن أبي عبد الرحمن محمّد بن عبيد اللّه بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب العتبي ، أحد أصحاب سفيان بن عيينة ، قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثمَّ قال : يا خير الرسل ; إن اللّه تعالى أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) وإني جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربّي ، ثمَّ بكى وأنشد :
يَا خَيْرَ مَنْ دفِنَتْ بِالْقَاع أَعْظُمُهُ *** فَطَابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأُكُمُ
نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبر أَنْتَ سَاكِنُهُ *** فِهِ العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالْكَرَمُ
ثمَّ استغفر وانصرف.
قال العتبي : فرقدت فرأيت النبيَّ صلی اللّه علیه و آله في النوم وهو يقول : الحق الأعرابي ، وبشِّره بأن اللّه غفر له بشفاعتي ، فأستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده.
ص: 302
ورويت هذه القصة من غير طريق العتبي ، رواها ابن عساكر في ( تأريخه ) وابن الجوزي في ( الوفاء ) عن محمّد بن حرب الهلالي.
وقد خمَّس هذه الأبيات جماعة منهم الشيخ أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الأقفسهي.
وروى الحافظ ابن النعمان في ( مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام ) من طريق الحافظ ابن السمعاني ، بسنده عن علي علیه السلام قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بثلاثة أيام ، فرمى نفسه على القبر الشريف ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول اللّه! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن اللّه تعالى ووعينا عنك ، وكان فيما أنزل عليك ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) وقد ظلمت نفسي ، وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك.
والآية دالّة على الحثّ على المجيء إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله ، والاستغفار عنده ، واستغفاره لهم ، وهذه رتبة لا تنقطع بموته صلی اللّه علیه و آله ، والعلماء ( رضي اللّه عنه ) فهموا من الآية العموم بحالتي الموت والحياة ، واستحبُّوا لمن أتى القبر الشريف أن يتلوها ويستغفر اللّه تعالى.
وأمَّا السنة فما ذكر في الكتب وما ثبت من خروج النبي صلی اللّه علیه و آله من المدينة لزيارة قبر الشهداء ، وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر كذلك ، وإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد ، وحينئذ فقبره صلی اللّه علیه و آله أولى.
وقد وقع الإجماع على ذلك ; لإطباق السلف والخلف ، قال القاضي عياض : زيارة قبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله سنَّة بين المسلمين ، ومجمع عليها ، وفضيلة مرغَّب فيها ، وأجمع العلماء على زيارة القبور للرجال والنساء كما حكاه النووي ، بل
ص: 303
قال بعض الظاهريَّة بوجوبه ، واختلفوا في النساء ، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلّة الخاصة به كما سبق.
قال السبكي : ولهذا أقول : لا فرق بين الرجال والنساء وأمّا القياس فعلى ما ثبت من زيارته صلی اللّه علیه و آله لأهل البقيع وشهداء أحد ، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره صلی اللّه علیه و آله أولى ; لما له من الحقّ ووجوب التعظيم ، وليست زيارته إلاَّ لتعظيمه والتبرُّك به ، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة الحافّين به ، وذلك من الدعاء المشروع له .. إلخ.
وقال : الباب الثالث في الردّ على من زعم أن شدَّ الرحل لزيارته صلی اللّه علیه و آله معصية ، قد تقدَّم أنه انعقد الإجماع على تأكُّد زيارته.
إلى أن قال : قال العلامة زين الدين المراغي : وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته صلی اللّه علیه و آله قربة ; للأحاديث الواردة في ذلك ، ولقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ) الآية ، لأن تعظيمه صلی اللّه علیه و آله لا ينقطع بموته ، ولا يقال إن استغفار الرسول صلی اللّه علیه و آله لهم إنما هو في حال حياته ، وليست الزيارة كذلك ; لما قد أجاب به بعض أئمّة المحقِّقين من أن الآية دلَّت على تعليق وجدان اللّه توّاباً رحيماً بثلاثة أمور : المجيء ، واستغفارهم ، واستغفار الرسول صلی اللّه علیه و آله لهم ، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين ; لأنه صلی اللّه علیه و آله قد استغفر للجميع ، قال اللّه تعالى : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) (1) فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكاملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة اللّه تعالى ورحمته.
ومشروعيَّة السفر لزيارة قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله قد ألَّف فيها الشيخ تقي الدين
ص: 304
السبكي ، والشيخ جمال الدين بن الزملكاني ، والشيخ داود أبو سليمان المالكي ، وابن جملة ، وغيرهم من الأئمّة ، وردُّوا على عصريِّهم الشيخ تقي الدين بن تيمية ، فإنه قد أتى في ذلك بشيء منكر لا تغسله البحار ، واللّه وليُّ التوفيق ، ربُّ السماوات والأرض وما بينهما ، العزيز الغفَّار (1).
قول صارم : وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به؟
أقول : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) (2) ، أيقال في حق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الكلمة ، وهو الذي يسلِّم عليه كل مسلم في صلاته خمس مرَّات في اليوم والليلة؟! فإذا كان بموته لا ينتفع منه فلماذا إذن نسلِّم عليه ونصلّي عليه؟ وصارم يعلم جيِّداً نحن لا نستشفع إلاَّ بالأنبياء والأولياء ، وحتى لو كانوا موتى فإنهم مقرَّبون عند اللّه تعالى ولهم شأن عظيم ، وبموتهم لا ينقطع هذا الشأن وهذا القرب من اللّه تعالى ، فليست منزلة الشهداء عند اللّه تعالى بأرفع مقاماً عند اللّه منهم ، أو أكثر جاهاً منهم ، وقد أثبت لهم الحياة عنده تعالى.
وقد درج هذا الفكر المتخلِّف على الاستهانة بالأنبياء والأولياء ، وأنهم إذا ماتوا لا ينتفع أحد منهم لابدعاء ولا استشفاع وما شاكل ذلك ، وما هذا إلاَّ استخفافاً بالدين باسم التوحيد ، وتنقيته من شائبة الشرك ، ولعمري إذا جاز التوسُّل بالحيِّ جاز أيضاً بالنسبة للميِّت ; إذ أنه يتوسَّل به لشأنه وجاهه ومنزلته عند اللّه تعالى ، وهي حاصلة عنده أيضاً بعد الموت بلا فرق.
ص: 305
فما تمثَّل به صارم من فعل الخليفة عمر بن الخطاب ، وأنه توسَّل بالعباس عمِّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنه لم يتوسّل بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنه ميِّت ، واستدلَّ به على عدم جواز التوسُّل بالموتى فنقول :
أولا : عدم فعل الخليفة عمر أو فعله للشيء ليس بحجَّة شرعيّة.
ثانياً : سيرة المسلمين - إلاَّ من شذ منهم - قائمة على عدم التفريق في التوسّل والاستشفاع بالأنبياء ، سواء في حال حياتهم أو بعد موتهم ، بلا فرق في ذلك عندهم ، وإلاَّ لو كانوا يفرِّقون بين الموت والحياة لظهر ذلك في كلمات الأعلام وغيرهم ، وما يدَّعى أن التوسُّل بهم كان جائزاً في حياتهم ، وما بعد موتهم يكون شركاً فهذا خطل في القول ; إذ لو كان التوسُّل بهم شركاً في حال موتهم فلا يفرَّق بين الحياة والموت ; إذ الشيء لا ينقلب عمَّا هو عليه.
ص: 306
قال الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي رحمه اللّه : وفي الليلة الخامسة من شهر رمضان المبارك سنة 1371 ه- ، بينما أنا مشتغل في مكتبتي بكتابة كتاب : ( الشيعة وحجّتهم في التشيُّع ) إذ وفد عليَّ جماعة يبلغ عددهم نحو خمسة عشر شخصاً ، أو أكثر ، وفيهم العلماء وغير العلماء ، فتلقَّيتهم بالترحاب ، وبصدر رحب ، وقلب ملؤه السرور ، وما إن اطمأنَّ بهم الجلوس حتى فاتحوني بالبحث العلميّ ، يريدون الإيضاح عن مذهب الشيعة ، وعن اعتقادهم في الخلافة ، وما يدور حولها.
فبادرت إلى الجواب ، وهم صامتون يصغون إلى ما أورد عليهم من الأدلّة الواضحة ، والحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ، القائمة لدينا ولديهم حتى مضى علينا أكثر من ثلثي الليل ، وبعد انتهائنا من البحث قاموا ، فمنهم الشاكر ،
ص: 307
ومنهم المنكر.
ومن جملة ما أفدت عليهم ، قلت : لا شك في أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله كان يعلم أن أمّته الجديدة القريبة العهد بالإسلام ، وما هي عليه من الرغبة في الخلافة ، ويعلم أنه سينقلب الكثير منهم على الأعقاب (1) ، ولا يسلم منهم إلاَّ مثل همل النعم (2) عند ورودهم على الحوض - كما جاء في البخاري في حديث الحوض (3) ، ويعلم علم اليقين أن أصحابه كانوا يضمرون الشرَّ لوصيِّه وخليفته من بعده علي علیه السلام ، وأنهم فور موته يحدثون حدثاً.
إذن ، فلابد أن يكون قد وضع للخلافة حلاًّ لها ، يوقف من تدعوه نفسه إلى الخلافة ، ولا يخفى عليه أمر أصحابه ، إذ أنه قد سبرهم ، وعرف المستقيم منهم والملتوي ، وهو القائل لهم : ستتبعون سنن من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه (4) ، وكان شيخنا العلامة الشيخ ( أحمد أفندي الطويل الأنطاكي ) يرويه لنا في أثناء الدرس ، وعلى المنبر ، ويقول في ختام الحديث : ولو جامع أحدهم امرأته في السوق لفعلتموه!! وهو القائل : من
ص: 308
لم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية (1) أي كفر.
إذن ، فلابد أن يضع للخلافة حلاًّ يوقفهم عند حدِّهم ، ونحن ما دمنا نعتقد أنه نبيٌّ مرسل من اللّه ، ويعلم أنه الذي ختم الرسل ، وأن رسالته مستمرة إلى آخر الدنيا ، فلا يبقى له أن يترك أمّته فوضى مع علمه أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كما في الحديث (2).
هذا ودعوى إيكال أمر الخلافة إلى الأمة باطلة لأمور :
أوّلا : إن أهل الحلِّ والعقد ، أو الانتخاب ، أو ذوي الشورى لا يتمُّ الأمر بما أوكل إليهم إلى مدى الدهر ، بل هو عين إيقاع الأمة في الفوضى التي توقع الأمة في هوَّة ساحقة لا حدَّ لها ولا قرار ، لهذا نرى الأمّة لا زالت تمخر في بحور من الدماء من ذلك اليوم إلى يومنا هذا ، ثمَّ إلى انتهاء حياة البشر يوم البعث والنشور.
ثانياً : مما لا خفاء فيه أن الناس مختلفون في معتقداتهم ، ومتباينون في آرائهم ، ونرى أنه لا يتفق اثنان في الرأي ، بل الانسان نفسه لا يتفق له أن يستمرَّ على رأي دائم ، بل يتقلَّب رأيه في كل لحظة ، فكيف يمكن أن يكون الأمر موكولا إلى أهل الحلِّ والعقد؟! وهذا يأباه العقل والوجدان.
ثالثاً : يستحيل أن يحصل الاتفاق بإيكال الأمر إلى أهل الحلِّ والعقد ، فلابدَّ من وقوع اضطراب شديد بين الشعوب والقبائل ، ووقوع القتل والسلب والنهب ، وغيرها ممّا هو موجود ، كما هو موجود في كل عصر ومصر ، ولم يمكن لرئيس أن يتمَّ على يده نظام حياة الإنسان إلاَّ بالقوَّة القاهرة ، وهذه مؤقَّتة زائلة ،
ص: 309
ومتى زالت رجع كل واحد إلى ما كان عليه من الأعمال الضارّة بالسكان.
لهذا قلنا مكرَّراً : إن اللّه لا يدع أمراً من أمور الدين للأمَّة تتجاذبه أهواؤهم ، بل لابدَّ من أن يوكل الأمر إلى أربابه ممن له أهليّة كاملة في العلم الغزير الذي كان عند الرسول صلی اللّه علیه و آله (1) ، والشجاعة ، والحكم ، والكرم ، والزهد ، والتقى ، والفراسة ، والإعجاز ، وأهمُّها العصمة ، وغير ذلك مما يكون الوصيُّ الذي يقوم مقام الرسول في حاجة إليه في إدارة دفّة الحكم ، وهذا لا يمكن أن يتمكَّن منه أحد إلاَّ اللّه العالم بما تكنُّه الصدور ، ويعلم السرَّ وأخفى ، والرسول صلی اللّه علیه و آله قد بيَّن بصراحة في كل مناسبة أن الوصيَّ والخليفة من بعده : علي علیه السلام .
كما وإن هناك أدلّة كثيرة أخرى ترشدك إلى ما تقوم به الحجة ، زيادة على ما قدَّمنا ، مما هو ثابت لدنيا معاشر الشيعة ، والكتاب والسنة بُنيتا على ذلك.
ثمَّ استحسن جميعهم ما أفدت عليهم ، وطلبوا مني بعض مؤلَّفات الشيعة ، فأعطيتهم بعض ما كانت عندي ، فقاموا وحمدوا اللّه تعالى على هذه النعمة (2).
ص: 310
مناظرة الدكتور التيجاني مع طه المصري (1) في حديث الثقلين
يقول الدكتور التيجاني في رحلته إلى مصر : وصادف ذات يوم أن دخلنا إلى مسجد سيِّدنا الحسين علیه السلام لأداء صلاة الظهر ، وما أنهيت الصلاة ورفعت رأسي أقرأ الكتابات والنقوش الدائرة على جدران المسجد حتى شدَّني حديث الثقلين المكتوب قرب المحراب ، وفيه إضاءة كهربائيّة ، ناديت طه وطلبت منه قراءة الحديث ، قرأ : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (2) ، فصاح يقول : مش معقول ، أنت - يا تيجاني - جئت بهذا الحديث وعلَّقته هنا؟!
وزادني استغراب طه فرحاً وسروراً ; لأنه طالما جادلني في مضمون هذا الحديث ، وأنكر أن يقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : كتاب اللّه وعترتي ، بل كان دائماً يردِّد : كتاب اللّه وسنّتي ، وادّعى أنه ما سمع طيلة عمره أحداً يحدِّث بحديث : كتاب اللّه
ص: 311
وعترتي ..
أخرجته من المسجد ، ثمَّ اتّجهت به إلى الأزهر الشريف حيث كان هناك معرض للكتاب ، قلت له : يا طه! اتق اللّه ولا تتكبَّر ، فأنا ما جئت بشيء من عندي ، وإن كان الحديث المكتوب في المسجد قد علَّقته أنا في هذه الأيام ، فما هو ردُّك على صحيح مسلم الذي بين يديك الآن ، وهو يباع في معرض الكتاب ، وهو من أقدم الكتب الإسلاميّة؟
قال : وهل فيه حديث : عترتي؟
فتحت له باب فضائل أهل البيت علیهم السلام وأطلعته على الحديث (1) ، فقرأه مرَّتين أو ثلاثاً ، فسكت طويلا وكأنه يفكِّر ، مصفرّاً وجهه ، وكأنه يعيد أنفاسه.
قلت : هذا غيض من فيض ، فلو أردت سأطلعك على عشرات الأحاديث التي تؤيِّد هذا المعنى ، وكلها من صحاح السنة.
قال بصوت خافت : الآن تشيَّعت ، واقتنعت بكل أقوالك في حقّ أهل البيت علیهم السلام .
وعمل طه في السهرات المتتالية على إقناع من تبقَّى من المجموعة ، وكان يؤيِّد كل ما أقول بالشواهد والأدلّة ، ويتحمَّس لها ، فتشيَّع بقية الشبّان ، وعددهم ثمانية (2).
ص: 312
يقول الدكتور التيجاني في حديثه عن زيارته إلى تايلاند - بعد أن ذكر زيارته لمفتي جمهورية تايلاند - : وخرجت من عنده ، وركبت السيارة مع الأخ عبد اللّه النجفي ، وأنا أنظر إلى البنايات العالية وناطحات السحاب ، وأستحضر في خاطري عدد السكان في تايلاند ، الذي يتعدَّى الستين مليون نسمة ، منهم أكثر من أربعين مليون يعبدون الأصنام ، ويقيمون في كل مكان تمثالا لبوذا ، وما عبد فيها من الأصنام ، ثمَّ أستحضر عدد البوذيين في العالم ، وعدد الملحدين ، وعدد النصارى واليهود ، ثمَّ أستعرض عدد المظلَّلين من أمَّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فأقول بصوت باك : ماذا ستلقى عند ربِّك يابن الخطاب؟
قال أحد المرافقين : وما دخل ابن الخطاب في هذا؟
قلت : إنّه هو المسؤول عن كل ضلالة حدثت بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله .
قال : عجيب! بشر واحد يتسبَّب في ضلالة أمَّة كاملة؟
قلت : وما العجيب في ذلك؟ لقد حكى لنا القرآن الكريم أن رجلا واحداً
ص: 313
اسمه السامري تسبَّب في ضلالة بني إسرائيل إلاَّ القليل القليل ، وهي أمَّة بأسرها ، كل ذلك مع وجود رسول اللّه موسى علیه السلام ، وفيهم هارون علیه السلام ، وغياب موسى علیه السلام ، فما بالك بأمَّة توفِّي نبيُّها ، وأبعد وليُّها وصيُّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنها حتى كادوا يقتلونه لو لا سكوته؟
فأنا أؤمن متيقِّناً أنه لو لا وقوف عمر تلك الوقفة الجريئة على اللّه ورسوله ، ومنعه الناس أن يدخلوا بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وادّعائه أن محمّداً لم يمت ، وتهديده بالقتل من يقول بذلك.
أقول : لولا الوقفتان لما اختلف الناس ووقعوا في الضلالة.
قال مرافقي : فهمنا موقفه من رزيَّة يوم الخميس (1) ، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لما اختلف من الأمَّة اثنان كما قال ابن عباس (2) ، ولكن لم نفهم موقفه من
====
ص: 314
منع الناس أن يدخلوا بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته ، وقوله : بأنه لم يمت ، فهل عندك تفسير لذلك؟
قلت : طبعاً ، الأمر واضح وضوح الشمس ، لأن عمر أدرك بدهائه أن الصحابة إذا ما دخلوا إلى البيت النبويِّ ، ورأوه ميِّتاً وإلى جانبه الإمام علي علیه السلام فسيبايعونه على الفور ، وإذا ما بايع جمع من الصحابة عليّاً علیه السلام فسيكون من المستحيل بعدها مبايعة خليفة ثان.
قال مرافقي عند سماعه هذا التحليل : اللّه أكبر! من يفكر بهذا التفكير؟ .. إلخ (1).
ولعلّه يقول قائل : إذا كان الخليفة إنّما فعل ما فعل ليحول بين الناس وبين بيعة أميرالمؤمنين علیه السلام فهذه الخطّة إذن لم تكن لتخفى على أميرالمؤمنين علیه السلام ، فلماذا لم يخرج إلى الناس ويخبرهم بحقيقة الأمر ، ويدعوهم للبيعة لنفسه؟
والجواب على ذلك نفهمه من خلال كلام أميرالمؤمنين علیه السلام مع عمِّه العباس ابن عبد المطلب ، فقد روى الشيخ المفيد عليه الرحمة أن العباس قال لعلي علیه السلام في اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك - يا
ص: 315
بن أخ - أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول اللّه بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك اثنان ، فقال له علي علیه السلام : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهد إليَّ أن لا أدعو أحداً حتى يأتوني ، ولا أجرِّد سيفاً حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول اللّه شغل (1).
وفي رواية الجوهري : قال العباس بن عبد المطلب لعليٍّ علیه السلام في حوار له معه : فلمَّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة ، فدعوناك إلى أن نبايعك ، وقلت لك : ابسط يدك أبايعك ، ويبايعك هذا الشيخ ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش ، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب ، فقلت : لنا بجهاز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شغل ، وهذا الأمر فليس نخشى عليه ، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة .. (2).
وقال المقريزي : وفي رواية : أن العباس قال لعلي علیه السلام : هلمَّ يدك أبايعك ، فقال : إن لي برسول اللّه شغلا ، ومن ذاك الذي ينازعنا هذا الأمر؟ (3).
وقال ابن قتيبة الدينورى : فلمَّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال العباس لعلي بن أبي طالب كرَّم اللّه وجهه : ابسط يدك أبايعك ، فيقال : عمُّ رسول اللّه بايع ابن عمِّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويبايعك أهل بيتك ، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل ، فقال له عليٌّ كرَّم اللّه وجهه : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا؟ (4).
وعن أبي جعفر محمّد بن علي علیهماالسلام أن عليّاً حمل فاطمة علیهاالسلام على حمار ،
ص: 316
وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار ، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول اللّه! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمِّك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي : أكنت أترك رسول اللّه ميّتاً في بيته لا أجهِّزه پ (1) ، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟ وقالت فاطمة : ما صنع أبو حسن إلاَّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما اللّه حسبهم عليه (2).
والأمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فحاش أميرالمؤمنين علياً علیه السلام أن يترك النبيَّ صلی اللّه علیه و آله جنازة ، ويخرج في طلب الخلافة ، فهو ليس بحاجة لها ولا للناس ، بل الناس في حاجة إليه ، فجلس إلى جانب أخيه وابن عمِّه باكي العين حزين القلب ، وقد هدَّ ركنه هذا المصاب الجلل ..
وقد جاء هذا المعنى أيضاً في احتجاجات فاطمة الزهراء علیهاالسلام ، فقد قالت للقوم : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردُّوا لنا حقّاً (3).
ثمَّ إن عليّاً علیه السلام هو خليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما عقد له من الولاية والخلافة والطاعة يوم غدير خمٍّ وغيره ، وهو إمام بايعه الناس أو لم يبايعه ، وليس على الإمام أن يذهب إلى الناس ليبايعوه ، بل على الناس أن يأتوه للبيعة طائعين ، ولا يبايعوا غيره ، فهو علیه السلام كالكعبة تؤتى ولا تأتي (4) وهذا - طبعاً - لا يعني أن يسكت
ص: 317
أميرالمؤمنين علیه السلام عن حقِّه ، أو يترك الاحتجاج ولا يعلن ظلامته.
هذا والمتتبِّع لكلمات أميرالمؤمنين علیه السلام يجد الكثير من هذه الاحتجاجات الصريحة في ذلك (1) ، وهي كفيلة أن توقف كل من قرأها على الحقيقة ، ومن هو صاحب الخلافة والذي تجب له البيعة والطاعة. كلام فاطمة الزهراء علیهاالسلام في النصِّ على أميرالمؤمنين علیه السلام بالخلافة ولماذا قعد عن حقّه
قال محمود بن لبيد : لمَّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء ، وتأتي قبر حمزة ، وتبكي هناك ، فلمَّا كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة رضي اللّه عنه ، فوجدتها - صلوات اللّه عليها - تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكتت ، فأتيتها وسلَّمت عليها ، وقلت : يا سيِّدة النسوان! قد واللّه قطَّعتِ أنياط قلبي من بكائك.
فقالت : يا أبا عمر! يحقُّ لي البكاء ، ولقد أصبت بخير الآباء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واشوقاه إلى رسول اللّه ، ثمَّ أنشأت علیهاالسلام تقول :
ص: 318
إذا مات يوماً ميِّت قلَّ ذكره
وذكر أبي مذ مات واللّه أكثر
قلت : يا سيِّدتي! إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري.
قالت : سل.
قلت : هل نصَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل وفاته على عليٍّ بالإمامة؟
قالت : واعجباه! أنسيتم يوم غدير خمّ؟!
قلت : قد كان ذلك ، ولكن أخبريني بما أسرَّ إليك.
قالت : أشهد اللّه تعالى لقد سمعته يقول : عليٌّ خير من أخلِّفه فيكم ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار ، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين ، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة.
قلت : يا سيِّدتي! فما باله قعد عن حقه؟
قالت : يا أبا عمر! لقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : مثل الإمام مثل الكعبة ; إذ تؤتى ولا تأتي ، أو قالت : مثل عليٍّ علیه السلام - ثمَّ قالت : أما واللّه لو تركوا الحقَّ على أهله ، واتبعوا عترة نبيِّه لما اختلف في اللّه تعالى اثنان ، ولورثها سلف عن سلف ، وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا ، التاسع من ولد الحسين ، ولكن قدَّموا من أخَّره اللّه ، وأخَّروا من قدَّمه اللّه ، حتى إذا ألحد المبعوث ، وأودعوه الجدث المجدوث ، واختاروا بشهوتهم ، وعملوا بآرائهم ، تبّاً لهم أو لم يسمعوا اللّه يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) ، بل سمعوا ، ولكنّهم كما قال اللّه سبحانه : ( فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (2) ،
ص: 319
هيهات ، بسطوا في الدنيا آمالهم ، ونسوا آجالهم ، فتعساً لهم وأضلَّ أعمالهم ، أعوذ بك - يا ربِّ - من الحور بعد الكور (1).
قال كليب بن معاوية الصيداوي : قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد علیه السلام : ما يمنعكم إذا كلَّمكم الناس أن تقولوا : ذهبنا من حيث ذهب اللّه ، واخترنا من حيث اختار اللّه ، إن اللّه سبحانه اختار محمّداً ، واختار لنا آل محمّد ، فنحن متمسِّكون بالخيرة من اللّه عزّوجل (2).
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وما رأيت أوهن ولا أضعف من تعلُّق المعتزلة ومتكلِّمي المجبِّرة بقول العباس بن عبد المطلب رحمه اللّه لأميرالمؤمنين علیه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : امدد يدك - يا بن أخ - أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول اللّه بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك اثنان ، وقد ادّعوا أن في هذا دليلا على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم ينصَّ على أميرالمؤمنين علیه السلام ، وقولهم : إنَّه لو كان نصَّ عليه لم يدعه العباس إلى البيعة ; لأن المنصوص عليه لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة ، فلمَّا دعاه العباس إلى عقد إمامته من حيث تنعقد الإمامة التي تكون بالاختيار دلَّ على بطلان النصِّ.
وهذا الكلام مع وهنه فقد حار قوم من الشيعة عن فهم الغرض فيه ، وعدلوا عن نقضه من وجهه ، وقد كنت قلت لمناظر اعتمد عليه في حجاجه في الإمامة ، ورام به مناقضتي في مجلس من مجالس النظر أقوالا ، أنا أورد مختصراً منها ،
ص: 320
وأعتمد على بعضها ، إذ كان شرح ذلك يطول.
وهو أن يقال لهم : إن كان دعاء العباس أميرالمؤمنين علیه السلام إلى البيعة يدلُّ على ما زعمتم من بطلان النصِّ وثبوت الإمامة من جهة الاختيار فيجب أن يكون دعاء النبي صلی اللّه علیه و آله الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ، ودعاؤه المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان ، دليلا على أن نبوَّته صلی اللّه علیه و آله إنما ثبتت له من جهة الاختيار ، فإنّه لو كان ثابت الطاعة من قبل اللّه عزَّ وجلَّ وإرساله له ، وكان المعجز دليل نبوَّته ، لا ستغنى عن البيعة له تارة بعد أخرى ، فإن قلتم ذلك خرجتم عن الملّة ، وإن أثبتموه نقضتم العلّة عليكم.
فإن قالوا : إنّ بيعة الناس لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم تك لإثبات نبوَّته ، وإنما كانت للعهد في نصرته ، بعد معرفة حقِّه وصدقه فيما أتى به عن اللّه عزَّ وجلَّ من رسالته.
قيل لهم : أحسنتم في هذا القول ، وكذلك كان دعاء العباس أميرالمؤمنين علیه السلام إلى بسط اليد إلى البيعة ، فإنما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في نصرته ، والحرب لمخالفيه وأهل مضادّته ، ولم يحتج علیه السلام إليها في إثبات إمامته.
ويدلُّ على ما ذكرناه قول العباس : يقول الناس : عمُّ رسول اللّه بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك إثنان ، فعلَّق الاتفاق بوقوع البيعة ، ولم يكن لتعلُّقه بها إلاَّ وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ، ويحذرون من الخلاف ، ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف ، بل كانت نفسها الطريق إلى تشتُّت الرأي ، وتعلُّق كل قبيل باجتهاده واختياره.
أو لا ترى إلى جواب أميرالمؤمنين علیه السلام بقوله : يا عمّ! إن لي برسول
ص: 321
اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم شغل عن ذلك ، ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل ، ولما كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
أو لا ترى أنه لما ألحَّ عليه العباس في هذا الباب قال : يا عمّ! إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوصى إليَّ ، وأوصاني أن لا أجرِّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً ، وأمرني بجمع القرآن والصمت حتى يجعل اللّه عزَّ وجلَّ لي مخرجاً ، فدلَّ ذلك أيضاً على أن البيعة إنّما دعا إليها للنصرة والحرب ، وأنّه لا تعلُّق لثبوت الإمامة بها ، وأن الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير على ما وصفناه.
ووجه آخر وهو : أنَّ القوم لمَّا أنكروا النصَّ ، وأظهروا أن الإمامة تثبت لهم من طريق الاختيار ، أراد العباس أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ، ويبطل أمرهم بنفس ما جعلوه طريقاً لهم إلى الظلم ، وجحد النصِّ ، فقال لأميرالمؤمنين علیه السلام : ابسط يدك أبايعك ، فإن سلَّموا الحقَّ لأهله لم تضرَّك البيعة ، وإن ادّعوا الشورى والاختيار ، وأنكروا حقَّك كان لك من البيعة والاختيار والعقد مثل ما لهم ، فلم يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك ، فأبى أميرالمؤمنين علیه السلام ذلك ، وكره أن يتوصَّل إلى حقِّه بباطل لا يوصل إليه ، وبرهان أمره يقهر القلوب بظهور النصِّ عليه ، ولأنّه كره أن يبسط يده للبيعة فيلزمه بعد ذلك تجريد السيف على دافعيه الأمر ، فلا يستقيم له - مع الاختيار وعقد القوم له - أن يلزم التقيّة ، وقد تقدَّمت الوصيَّة له من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بالكفِّ عن الحرب مخافة بطلان الدين ودرس الإسلام.
وقد بيَّن ذلك في مقاله علیه السلام ، حيث يقول : أما واللّه ، لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم ، فعدل عن قبول البيعة لما ذكرناه.
فإن قال بعضهم في هذا الجواب : قد وصل إلى حقِّه كما زعمتم بعد عثمان بالاختيار ، ودخل في الشورى ، فكيف استجاز التوصُّل إلى الحقِّ بالباطل على
ص: 322
ما فهمناه عنكم من الجواب؟
قيل له : يقول القوم : إنّما ساغ له ذلك في الشورى وبعد عثمان لخفاء النصِّ عليه في تلك الأحوال ، واندراس أمره بمرور الزمان على دفعه عن حقِّه ، فلم يجد إذ ذاك من ظهور فرض طاعته ما كان عند وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فاضطرَّ إلى التوصُّل إلى حقِّه من حيث جعلوه طريقاً إلى التأمير على الناس ، على أن القوم جمعوا بين علّتين : إحداهما ما ذكرناه ، والأخرى ما أردفناه المذكور من وجوب الجهاد عليه بعد قبول البيعة ، ولم يكن في الأول يجوز له ذلك ; للوصيَّة المتقدِّمة من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في الكفِّ عن السيف ، ولما رآه في ذلك من الاستصلاح ، وكانت الحال بعد عمر وبعد عثمان على خلاف ما ذكرناه ، وهذا يبطل ما تعلَّقتم به.
ووجه آخر - وهو المعتمد عندي في هذا الجواب عن هذا السؤال ، والمعوَّل عليه دون ما سواه - وهو : أن أميرالمؤمنين علیه السلام لم يتوصَّل إلى حقِّه في حال من الأحوال بما يوصل إليه من اختيار الناس له على ما ظنَّه الخصوم.
وذلك أنّه علیه السلام احتجَّ في يوم الشورى بنصوص رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الموجبة له فرض الطاعة ، كقوله : أفيكم أحد قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، غيري؟ أفيكم أحد قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي ، غيري؟
وأشباه هذا من الكلام الموجب لإمامة صاحبه ، بدليله المغني له عن اختيار العباد ، ولمَّا قتل عثمان لم يدع أحداً إلى اختياره ، لكنَّه دعاهم إلى بيعته على النصرة له ، والإقرار بالطاعة ، وليس في هذا من معنى الاختيار الذي يذهب إليه المخالفون شيء على كل حال ، والجواب الأول لي خاصة ، والثاني لأصحابنا ، وقد نصرته بموجز من الكلام ... (1).
ص: 323
يقول الدكتور التيجاني السماوي في حديثه عن رحلته إلى كينيا ، وتعرُّفه على الشيخ علي في كينيا ، وكان هو إمام الجماعة هناك ، وله شعبيَّة واسعة ، ويحفُّ به طلاب العلم وعامة الناس ، وكان على مذهب السنة :
وفي الصباح جاء الأصدقاء مهنئين ومباركين ليتناولوا فطور الصباح عندي ، وكان من بينهم الشيخ علي ، وقد حمل كل منهم إليَّ هديَّة بسيطة ، واغتنمتها فرصة ، فأهديت لكل واحد منهم نسخة من كتاب : ثم اهتديت ، وطلبت من الشيخ علي أن يقرأه ويعطيني رأيه ، وأشعرته بأن مكانته العلميَّة ، وكثرة اطلاعاته تبوِّئه رئاسة الجميع ، وإنّي شخصيّاً مهتمٌّ بأفكاره وكل ما يصدر عنه.
وبعد أسبوع دعاني وزوجتي للعشاء عنده في بيته ، وجلست معه وبعض الأصدقاء على الطعام ، بينما دخلت الزوجة مع النساء حسب الأصول والعادات العربيّة.
ص: 324
سألت خلال السهرة الشيخ علي وبعدما أراني مكتبته القيِّمة ، سألته عن رأيه في كتابي : ثم اهتديت.
قال : من حيث الأسلوب فهو رائع ، يشدُّ القارئ شدّاً عجيباً ، ولكن من حيث الموضوع فهو جدّاً خطير.
قلت : أين يكمن الخطر ، فرأيك يهمُّني؟
قال : في نقد الصحابة وقدحهم ، فنحن ما عرفنا الإسلام الذي جاء به محمَّد صلی اللّه علیه و آله إلاَّ من خلالهم.
قلت : هذا صحيح لو كان الأمر يتعلَّق بجميعهم ، ولكن الحمد لله لم يمسَّ القدح والنقد إلاَّ البعض منهم ، الذين شهد التأريخ بانحرافهم ، والبعد عن سنَّة نبيهم صلی اللّه علیه و آله ، وأنت بحمد اللّه ممن عرف التأريخ وأحداثه ، وعرف اختلافهم ، وما سبَّبوه لنا من مشاكل وانقسامات داخل الأمَّة الواحدة.
قال باعتزاز : أنا أعلم كل ذلك ، ولكن الذين قسموا الأمَّة هم بنو أميَّة ، وعلى رأسهم معاوية ، وقد نصَّ على ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حياته عندما قال : الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثمَّ ملك عضوض (1) ، واسترسل يسبُّ بني أميَّة ويشتمهم ، ويمدح الخلفاء الراشدين ، وهو يحاول بذلك إقناع الحاضرين بأفكاره ، فتركته يتكلَّم حتى سكت.
قلت : اتق اللّه يا شيخ علي ، فاللّه سبحانه وتعالى لا يحبُّ العلماء الذين يعرفون الحقَّ ويكتمونه ، فقد قال جلَّ من قائل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
ص: 325
اللاَّعِنُونَ ) (1).
فهل اغتصب بنو أميَّة خلافة علي بن أبي طالب علیه السلام التي نصَّ عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غدير خم (2)؟
هل اغتصب بنو أميَّة حقَّ الزهراء سلام اللّه عليها في النحلة والخمس والميراث ، حتى ماتت غاضبة تدعو اللّه عليهم في كل صلاة؟
هل أحرق بنو أميَّة ما جمع من سنَّة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ومنعوا الناس من التحدُّث بها (3)؟
ص: 326
هل غيَّر بنو أميَّة أحكام القرآن ، وأحكام السنّة النبويّة ، وأبدلوها باجتهادات غيَّرت مسار الإسلام والمسلمين (1)؟
أنت تعلم أنّه لم يفعل كل ذلك غير الخلفاء الذين تسميهم الراشدين ، عندما لم يكن لبني أميَّة دولة ولا نفوذ ، ولم يكن لمعاوية ولا لأبيه وزن عند المسلمين ، والذي كبَّر معاوية ، وجعله إمبراطور الإسلام هم : أبو بكر وعمر وعثمان ، الذين تحاول أنت بكل جهودك أن تسدل عليهم ستار الهالة والتقديس ، وتجعلهم من طراز الأنبياء والمرسلين.
قال مبتسماً أمام الحاضرين وهو يحاول المراوغة : نحن ما قلنا إن الخلفاء من طراز الأنبياء ، وما قلنا بأنهم معصومون عن الخطأ ، فهم كسائر البشر ، يخطئون ويصيبون ، وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطَّائين
ص: 327
التوَّابون (1) ، فنحن مسلمون بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كلهم أخطأ ، وكلهم مأجورون ، لقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : من اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد (2).
قلت : يا شيخ علي! أقول لك مرَّة ثانية : اتق اللّه ، ولا تلذ بالأوهام الواهية كبيت العنكبوت ، وتترك الحقائق الدامغة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا أتحدَّاك أمام الحاضرين أن تأتيني بخطأ واحد للإمام عليٍّ علیه السلام ، فسوف لن تجد إلاَّ ما يردِّده أسلاف النواصب الذين أعيتهم الحيلة ليجدوا خطأ واحداً لعليٍّ علیه السلام ، فقالوا بأنه بعد تولّيه الخلافة أخطأ في عزل معاوية ، ولو أنّه صبر حتى استتبَّ له الأمر ثمَّ عزله بعد ذلك لكان أحسن (3) ، أو أنّه أخطأ في واقعة التحكيم في حرب صفين ، وهو قول الخوارج.
ص: 328
فهل تجدون لعليٍّ علیه السلام أكثر من هذين الخطأين المزعومين ، وكلُّها لا تعدو الآراء السياسيّة التي يختلف فيها الناس ، فتظهر للبعض بأنها خطأ ، وتظهر للبعض الآخر بأنها عين الصواب ، وهي من باب قول اللّه سبحانه وتعالى : ( عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (1).
هذا على افتراض أن علياً علیه السلام شخص عاديٌّ ، ليست له ميزة ولا علم ..
إلى أن قال : وإذا كان الأمر كما تقول - يا شيخ علي - فلماذا لا تلتمس عذراً لإبليس لعنه اللّه الذي اجتهد في قوله : ( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين ) (2)؟ فاجتهاده أو صله إلى نتيجة أن النار هي خير من الطين ، أو كما قال بعض المتصوِّفة : إن إبليس هو أكبر الموحِّدين ; لأن اجتهاده منعه أن يسجد لغير اللّه تعالى.
ألا ترى معي أن الموازين كذلك المقاييس العقليّة يجب أن تتوقَّف عن الاجتهاد عند صدور الحكم الإلهيّ ، انظر إلى قوله تعالى : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (3) ، فكل الملائكة قالوا : سمعاً وطاعة ، ولم يجتهدوا بآرائهم في هذا الحكم الصادر من الخالق إلى المخلوق ، إلاَّ إبليس أبى أن يكون من الساجدين ، لماذا؟ لأنه اجتهد برأيه مقابل هذا الحكم الإلهيِّ ، فرأى أنّه أفضل من آدم ، فعصى وتمرَّد.
وإذا كان الأمر كذلك فكلُّ المجرمين والفاسقين مأجورون على
ص: 329
اجتهادهم ، فهذا فرعون اجتهد في تكذيب موسى علیه السلام ; لأنه كان يظنُّ أن كل الآيات التي جاء بها موسى علیه السلام هي من قبيل السحر ، ولذلك جمع له السحرة ، واعتقد بأنّه كبيرهم الذي علَّمهم السحر ، وهذا السامريُّ الذي اجتهد فأخذ قبضة من أثر الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فتسبَّب في ضلالة بني إسرائيل ، وهذا أبو لهب عمُّ النبي صلی اللّه علیه و آله اجتهد أيضاً ; لأنه ظنَّ أن ابن أخيه يريد الدعوة لنفسه مقابل الآلهة التي يعبدونها.
وهذه عائشة اجتهدت في قتل الآلاف من المسلمين الأبرياء ; لأنها كانت لا ترى مصلحة في خلافة عليٍّ علیه السلام ، وهذا يزيد اللعين اجتهد هو الآخر في قتل سيِّد شباب أهل الجنة الحسين علیه السلام ; لأنه كان يرى جميع الناس على طاعة الخليفة وعدم الخروج عليه.
وهذا هتلر الذي اجتهد ورأى بأن الألمان - وهم الجنس السامي - هم أسياد العالم ، وكل الناس هم عبيد ، لهم ويجب محقهم ، وهذا صدّام اجتهد الآخر في قتل الملايين .. وهو بطل القادسيَّة ، وقد اجتهد في احتلال الكويت ; لأنه يرى بأنها جزء من العراق ...
وما أظنُّك - يا شيخ علي - توافق على أن كل هذا هو الاجتهاد الذي يستوجب الأجر من عند اللّه.
قال وهو يتنهَّد : لا طبعاً ، أنا أعرف الفرق بين الاجتهاد والعصيان وهو كما قدَّمت ، إلاَّ أنه عندي تعليق على ذكرك أمَّ المؤمنين السيِّدة عائشة ، فهي التي قال فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء (1) ، ويقصد بذلك
ص: 330
عائشة.
وحاولت إقناعه بأن هذه الأحاديث وأمثالها موضوعة في عهد بني أميَّة ، فقد أكثروا من إطراء الخلفاء الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان من الرجال ، وعائشة من النساء ; للدور الذي قامت به بعد وفاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله .
فكان يوافقني تارة ، ويتردَّد ويشكِّك أحياناً في بعض الأحداث التأريخيّة ، وهو يريد رغم محاولاتي أن يضفي على عائشة هالة من التقديس ، حتى جعلها أعلم الصحابة ; لأن نصف الدين عندها وحدها ، وكل الباقين عندهم النصف الثاني.
وضحكت لهذا الاعتقاد ، وقلت له : ما رأيك لو أوقفتك على دليل ملموس
ص: 331
بأن ما تقوله لا يصحُّ؟
قال : هات نسمع منك.
قلت : هل تعرف رضاعة الكبير؟
قال : وما هي رضاعة الكبير؟
قلت : باختصار أنّه يمكن لزوجتك أن ترضعني أنا فأصبح بعد تلك الرضاعة ربيبك ، ويمكن لي أن أستحلَّ منها ما يستحلُّ الولد من والدته.
فضحك عند سماعه هذه الأطروحة ، وقال مستغرباً : كيف؟ أنت ترضع من زوجتي أنا؟ لا يحقُّ لك ذلك.
قلت : هذا من نصف دينك الذي تقول به أمُّ المؤمنين عائشة.
قال : لا ، لا ، ما سمعت بهذا أبداً ، لعلّك تمزح.
قلت : أنا لا أمزح في مثل هذه الأبحاث العلميّة ، وكيف أمزح باتهام أم المؤمنين عائشة؟ ولكن أنا قدمت من باريس ، وليس معي إلاَّ كتاب : ثم اهتديت ، وأنت - ما شاء اللّه - عندك هنا مكتبة ضخمة ، وبالتأكيد إن فيها صحيح مسلم ، وموطأ الإمام مالك.
قال : نعم ، عندي هذه الكتب ، وهل فيها هذا الحديث؟
قلت : نعم ، سأترك لك المجال لتقرأ بنفسك على راحة البال ، وتعطيني بعد ذلك رأيك.
قال : دلَّني على الحديث في أيِّ موضع من الكتاب؟
قلت : اقرأ باب رضاعة الكبير في الكتابين (1) ، وغداً أعطني النتيجة ،
ص: 332
وقمت أعتدر للخروج فقد مضى نصف الليل أو أكثر.
قال : وفي صباح اليوم التالي جاء الجامعة كالعادة لفطور الصباح ، وتأخَّر الشيخ علي أكثر من ساعة ، وكدنا نكمل الإفطار وإذا به يدخل علينا ، ويبدِّد حيرتنا ، وعندما وصل إليَّ مسلِّماً ضحك ، وقال : أرضعيه ولو كان ذا لحية.
ص: 333
وفهمت أنه اطّلع على الموضوع من شتّى جوانبه ، وفرحت لذلك ، ودعوناه للجلوس وتناول الإفطار متسائلين : ما الذي أبطأه عن الموعد المعتاد؟
قال : لم أنم إلاَّ قليلا ، فقد سهرت بعدكم ، واطّلعت على قصة رضاعة الكبير في كل من صحيح مسلم وموطأ مالك ، فحيَّرتني وطار النوم من عيني ، فلم أنم إلاَّ بعد صلاة الفجر.
قلت : فهل ما زلت على رأيك في أخذك نصف الدين عن الحميراء؟
قال : أعوذ باللّه ، هذا لا يجوز أبداً ، أنا من اليوم شيعيٌّ ، لا أتّبع إلاَّ عليّاً علیه السلام .
قال أخوه الشيخ محمّد : أتدري - يا دكتور - أننا من سلالة عليٍّ كرَّم اللّه وجهه؟
قلت : إذن فأنتم أحقُّ بجدِّكم من غيركم ، قال اللّه تعالى : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (1).
وفرح الإخوة الكويتيون بهذا الاستبصار المفاجئ ، وكذلك الدكتور الخطيب ، وأخرج الشيخ علي الكتب إلى الطلبة ، وبدأ الدكتور الخطيب وأخوه عثمان ينشطان بحرّيّة ، ويعملان بكل جهودهم ، ولم يمض أسبوع واحد حتى استبصر أكثر من مائتين من الطلبة.
وجاء يوم الفراق للرجوع إلى باريس ، وخرج أكثرهم يودِّعونني ، وفي مقدِّمتهم الشيخ علي وأخوه الشيخ محمّد ، وقبل دخولي الطائرة عانقت الشيخ ، وقلت له أمام الجميع : سامحني إن كنت أسأت لك ، أو صدر مني شيءٌ تكرهه ، فأنا أرجوك العفو.
ص: 334
قال : العفو العفو ، أنت سيِّدنا ، وقد هديتنا إلى صراط اللّه المستقيم ، فجزاك اللّه عنّا خيراً ، ونتمنَّى أن لا تنسانا من زيارتك.
قلت : أتشهد أمام الحاضرين أنّك استبصرت للحقِّ وغيَّرت عقيدتك؟
قال بصوت عال : أشهد أنني تشيَّعت ، وإمامي هو عليُّ بن أبي طالب علیه السلام ، واللّه على ما أقول شهيد.
عانقته مرَّة أخرى بحرارة أكثر ، وقبَّلت رأسه ، وفاضت أعيننا وأعين الحاضرين من الدمع ، وهم يكبِّرون صائحين : اللّهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد (1).
ص: 335
قال الدكتور التيجاني في رحلته إلى الهند : طلب مني - أي السيد شرف الدين صاحب دار النشر للمنشورات الإسلامية - إن كان بإمكاني زيارة مفتي الجماعة الإسلامية في بومباي فهو سني وله أتباع كثيرون يأتمرون بكل أوامره ، ولوا أقنعته هو فسيكون فتح عظيم لكل المسلمين في الهند. قلت : ما اسمه؟ أليس هو أبو الحسن الندوي؟
قال : لا ، أبو الحسن الندوي يقيم الآن في دلهي ، أما هذا فاسمه عزيز الرحمن ، وهو الكل هنا.
قلت : أنا لا أرى مانعاً في لقائه إن كان يرغب في ذلك طبعاً.
قال : لا عليك أنا عندي معه علاقة وديّة وسأرتّب الأمور ، فأين أتّصل بك؟
قلت : عند السيّد محمّد الموسوي.
قال : عندي رقم تليفونه فأتّصل بك حالماً أتفاهم وأتفق مع الجماعة - إلى أن قال : وبعد يومين فقط ، جاءني السيد محمّد الموسوي إلى مقرّ إقامتي
ص: 336
وأعلمني بأن الجماعة في انتظاري وأن السيد شرف الدين قادم ليأخذني عندهم ، فهيأت نفسي للخروج ووقف السيّد الموسوي يقرأ على رأسي بعض الأدعية المأثورة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، وفهمت بأنه متخوّف عليّ ، وخصوصاً بعدما قدم السيّد شرف الدين فحذّره السيّد الموسوي وأوصاه بي قائلا : لولاك أنت وثقتي فيك لما تركت السيّد التيجاني يذهب إليهم ، فطمنه السيد شرف الدين قائلا : يحصل خير إن شاء اللّه.
وذهبت بصحبة السيد شرف الدين إلى الجامع الكبير في مدينة بومباي ودخلنا من باب صغير خلف الجامع وصعدنا طابقين ومشينا كثيراً حتى وصلنا إلى مقرّ الجماعة.
سلّمنا عليهم وكانوا خمسة يحيطون بالشيخ المفتي عزيز الرحمان وكلّهم يلبسون اللّباس السعودي ولحاهم تكشف هويّتهم السلفية ، وكان في أفواههم ورق أو حشيش يلوكونه بأسنانهم ويمتصوّن عصارته ثم يبصقون من حين لآخر في أواني وضعت إلى جانب كلّ واحد منهم.
واشمأزت نفسي لأول وهلة رأيتهم فيها وما شعرت إلاّ بالنّفور وفهمت بأن الجماعة يبادلوني نفس الشعور ، وزيادة خصوصاً وأنا أشاهدهم يبصقون لونا أحمر ظننت أنه دم ، وعرفت فيما بعد بأنه عصير الورق الذي يمضغونه.
وقلت في نفسي : هذا يذكّرني بالحشّاشين وبالغلابة الذين شاهدتهم في اليمن وفي موريطانيا والمغرب وفي كينيا الذين يخدّرون عقولهم بهذا النّوع من « القات » ليسبحوا في بحر النسيان والخيال فهل هؤلاء العلماء الذين دعوني للنّقاش العلميّ يخدّرون عقولهم أيضاً فكيف سأناقشهم وموازينهم العقليّة مختلّة؟
ص: 337
جلست معهم وأنا أبتسم لكل واحد منهم فلا أرى إلاّ وجوها كالحة تنظر إليّ شزرا وكأنها حيوانات مفترسة تريد أن تنقضّ عليّ وتفتك بي.
دعوت السيّد شرف الدين للجلوس بجانبي فأسرع وأخذ بيدي وقدّمني للجماعة وهو يقول : السيد الدكتور التيجاني صاحب كتاب « ثم اهتديت ».
ضحك أحدهم قائلا : ثم اهتدى إلى ماذا؟ إلى الضلالة بلا شك.
وقلت في نفسي : هذه أول لكمة ، فما عليك يا تيجاني إلاّ بالصبر وتحمّل الأذى ما دمت ورطّت نفسك وجئت إليهم تمشي على قدميك.
قلت : سامحك اللّه ، أنا اهتديت لأهل البيت ، العترة الطاهرة علیهم السلام فإذا كان أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً هم ضلالة ، فقولك هذا لا يغضبني بل يزيدني شرفا وافتخارا.
تكلّم الثاني قائلا : هكذا الشيعة دائماً يكذبون على اللّه ويؤولون القرآن على حسب مزاجهم ، فالقرآن يقول صراحة بأن أهل البيت هم نساء النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهم يقولون : أهل البيت هم أئمّة الشيّعة.
قلت : نساء النبي صلی اللّه علیه و آله أصدق منا جميعاً فهنّ اللائي قلن صراحة بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة.
ضحك شيخهم الكبير عزيز الرحمان حتى بدت نواجذه وهو يقول : في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله ونزول القرآن ما كان هناك شيعة فضلا عن أئمّتهم ، فكيف يقول نساء النبي صلی اللّه علیه و آله بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة؟
فرحت في داخلي وقلت : الحمد لله إن الجماعة لم تغب عقولهم بعد بهذا الحشيش الذي يملأ أفواههم فقلت : لا يا سيّدي الشيخ أنا لم أقصد اللّفظ ولكنّي قصدت المعنى.
ص: 338
فزاد ضحكه واستعجابه وقال : وهل عند الشيعة أن اللّفظ يخالف المعنى؟
قال الذي بجانبه : إنه النّفاق الذي يسمونه التقية.
بدأت أملّ هذا النقاش الذي لا زال في بدايته ، ولكنّي تجلّدت ولم أبالي بالمتكلّم الجديد وتوجهت لشيخهم الكبير ظنّا منّي بأنه أذكاهم وأعلمهم ، وإذا قدرّ له أن يقتنع بكلامي فسيكون فتحاً كبيراً.
قلت : يا سيدي الشيخ دعني أشرح الموضوع بطريقة أخرى ، إن عائشة وأم سلمة أمهات المؤمنين وهنّ نساء النبي صلی اللّه علیه و آله قالتا بأن الآية لم تنزل فينا بل نزلت في محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام وهؤلاء الأشخاص اتّخذهم الشيعة أئمّة لهم ، فلا يتّقون إلا فيهم ولا يقتدون إلاّ بهم ، وهذا هو قصدي من اللّفظ الذي لا يخالف المعنى.
فضحك بقهقهة حتى شرق بالسّعال وقال : فاطمة علیهاالسلام إمام الشيعة؟ قال رسول اللّه : « لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة » فكيف تكون فاطمة أميرالمؤمنين علیه السلام ؟
وضحك هو وكلّ الحاضرين ، وغمزني السيّد شرف الدين أن اصبر على استهزائهم.
التفت إلي أحدهم وقال : الشيعة كلّهم منافقون ويتستّرون بمحبّة أهل البيت علیهم السلام لهدم الإسلام وتخريبه ، ولذلك كان أهل البيت يلعنون الشيعة ويحذّرون المسلمين منهم ومن دسائسهم.
قلت : متى وأين وجدت أهل البيت علیهم السلام يلعنون الشيّعة؟
قال : في نهج البلاغة سيّدنا علي كرّم اللّه وجهه يلعنهم ويشتمهم.
قلت : أو لا سيّدنا علي علیه السلام لم يلعن شيعته ولكن ذمّ الذين تخاذلوا عن
ص: 339
الجهاد في سبيل اللّه ، فهذا هو الموجود في نهج البلاغة ، أمّا ثانياً فأنا أطلب منكم أن تتفاهموا فيما بينكم على أهل البيت ، وتشخّصوهم هل هم نساء النبي صلی اللّه علیه و آله كما ادعيتم منذ قليل أم هو سيّدنا علي علیه السلام كما تقولون الآن؟
فتكلّم أحدهم وكأنه أراد أن ينقذهم من الورطة التي وقعوا فيها فقال : العجيب في الأمر أن الشيعة من حماقتهم يحتجّون بنهج البلاغة ، وهو عندهم كالقرآن الكريم ، وهذا الكتاب يلعنهم ويشتمهم ويكشف كلّ فضائحهم.
وتكلّم الذي بجانبه يؤيّده فقال : الشيعة هم المجوس الذين دخلوا في الإسلام ليتآمروا على المسلمين ، وهم الذين قتلوا سيّدنا عمر وسيّدنا عثمان وسيّدنا علي علیه السلام .
قلت : دعونا من الشيعة فأنا لست لسان الدّفاع عنهم ، وناقشوني أنا فأنا لا أمثل إلاّ نفسي ، وقد كنت مالكيّا ولكن بعد البحث والتنقيب اكتشفت بأني كنت مضلّلا ، وبأن أهل البيت علیه السلام هم أحقّ بالاتباع من غيرهم وقد سمّاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سفينة النّجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ، فإن كانت لكم حجّة غير هذه فأقنعوني بها وأعطوني الأدلّة كي اتّبعكم ، وأكن لكم من الشّاكرين ، وإن لم تكن عندكم حجّة ولا دليل ، فاسمعوني واسألوني عسى أن تهتدوا.
قالوا : كيف نستمع إليك وأنت جاهل لا تعرف آيات القرآن ولا أحكامه؟
قلت : فلنحتكم إلى البخاري ومسلم وهما أصحّ الكتب عندكم بعد كتاب اللّه ، وسأعطيكم الأدلّة من البخاري ومسلم على أن أهل البيت علیهم السلام ليسوا نساء النبي صلی اللّه علیه و آله وإنما هم أئمّة الشيعة.
قالوا : كلّ حديث تحتجّون به في البخاري ومسلم هو مدسوس من الشيعة.
ص: 340
ضحكت لهذا القول الرّخيص وقلت : إذا ، ما بقي لكم شيء تعتمدون عليه ما دام الشيعة قد دسوّا في كتبكم وفي صحاحكم ، فلا عبرة لها ولا لمذهبكم القائم عليها.
واستحسن السيّد شرف الدين هذا المنطق فلم يملك نفسه أن ضحك وضحكت معه.
وتكلّم أحدهم وتعمّد التهريج والاستفزاز فقال : من لا يؤمن بخلافة الرّاشدين سيّدنا أبو بكر وسيّدنا عمر وسيّدنا عثمان وسيّدنا علي علیه السلام وسيّدنا معاوية وسيّدنا يزيد رضي اللّه عنهم فليس بمسلم وإنما هو شيعيّ رافضي عليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.
استغربت لهذا المنطق المتناقض وقلت : معقول أن يترضى أهل السنة على أبي بكر وعمر وعثمان ولكن على يزيد وأبيه معاوية ، فهذا أمر غريب لم أسمع به إلاّ في الهند ، ففي كل بقعة من الدنيا أهل السنّة يقولون قولتهم الشهيرة « العن يزيد ولا تزيد » ، فكيف يترضى المسلمون في الهند عن يزيد.
التفت إلى الشيخ الكبير عزيز الرحمان وسألته أتوافقون هذا على ما قاله؟
فقالوا جميعاً : بأنهم متّفقون على ذلك لأنهم صحابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن يسبّ الصّحابة فهو من الزّنادقة الذين يجب قتلهم.
وعرفت وقتها بأن لا فائدة من مواصلة الحديث معهم وفهمت بأنهم يريدون استفزازي وإثارتي لكي ينتقموا منّي ، ويقتلوني بدعوى سبّ الصحابة إذا أقاموا عليّ شاهدين منهم.
ورأيت في أعينهم شرّاً ، وخفت على نفسي وطلبت من مرافقي السيّد شرف الدين أن يرجعني إلى السيّد الموسوي الذي ينتظرنا مدّعيا أنه سيأتي
ص: 341
بنفسه إلينا إذا ما تأخرنا عنه ، وأخرجني السيّد شرف الدين بسرعة وهو يقول إليّ على الدّرج : أسرع يا دكتور قبل أن تحل بنا مصيبة ، وأسرعت مهرولا وراءه وأنا لا أصدّق النّجاة.
ولمّا خرجنا خارج المسجد تنفّس وتنفّست معه ، فاعتذر إليّ على ما وقع وتحسّر كثيراً على هؤلاء الذين كان يعتقد بصلاحهم وغزارة علومهم ، وحمد اللّه مرّة أخرى على سلامتي منهم ، خرجت من عندهم فرحا بنجاتي وأحسست في داخلي بأني ولدت من جديد ، ولكنّي ساخط متأسف على ما وصلت إليه حالة المسلمين في الهند ، وخصوصاً الذين يتزعّمون مراكز الصّدارة ويتسمّون بالعلماء ، وقلت في نفسي : إذا كان العلماء بهذه الدّرجة من التعصّب الأعمى والجهل المركّب ، فكيف تكون حالة عامّة الناس وجهّالهم الذين لا يعرفون غير لغة الخناجر والسّكاكين (1).
ص: 342
قال الدكتور التيجاني : في إحدى المؤتمرات الإسلامية التي حضرتها في طهران تعرّفت على الأخ محمود الطّاهري الذي يقيم في السويّد وهو تونسي.
كنّا في ليلة الجمعة نقرأ دعاء كميل ولاحظت كثرة البكاء وشدة التّأثر على الأخ محمود ورق له قلبي ، واختليت به بعد الدّعاء فعرّفني على نفسه وأنه من جهة صفاقس كما عبّر عن إعجابه بهذا الدعاء الذي سمعه لأول مرّة ، وأخذ ( يناقشني في ) عدّة مسائل ، ولم يفارقني تلك اللّيلة حتى استبصر قبل الفجر فعلّمته وضوء أهل البيت علیه السلام وصلّيت أمامه وهو يصلّي خلفي ، ونمنا بعدها في الغرفة نفسها.
أعلمني بأنه قدم من السويد بصحبة مجموعة تضمّ تونسيّين ومعهم جزائري واحد ، وألحّ عليّ أن أسهر في الليلة التالية مع المجموعة وافتح لهم موضوع التشيع لعلّهم يهتدون ، اتّفقنا على أن يعمل هو على جمعهم في غرفته ثم يدعوني لأتعرّف عليهم خلال سهرة علميّة.
واجتمعنا وتعارفنا ، عرفوا بأني تونسيّ متشيّع فالبعض يسمع عنّي وكان
ص: 343
يتمنّى رؤيتي ، وتعرّفت عليهم فمنهم الأخ عبد الرحمان الشطّي الذي يدير رابطة المسلمين في ستوكهولم العاصمة السويدية ، ومعه بعض أعضائها ومنهم الأخ الجزائري رشيد بدرة وبدران غزال وكمال مبذر والأخ الأمين بن سعيد ، وكذلك السيد أبو حيدر ، والذين لم يحضر منهم إلاّ رشيد بدرة والأمين بن سعيد.
بدأنا نتحدّث عن الشيعة والفرق بينها وبين أهل السنّة والجماعة ، واستعرضت معهم تاريخ المسلمين باختصار ، كما استعرضت معهم الأحاديث النبوية الصحيحة الدّاعية للتمسّك بأهل البيت علیهم السلام .
كان الحاضرون كلّهم منسجمون يصغون إليّ بإعجاب عدا واحد منهم يكنّى أبو يس ويقول بأنه أمير الجماعة ، يفهم من حديثه واعتراضاته بأنه متأثر بكتب إحسان إلهي ظهير الباكستاني الذي يتحامل على الشيعة ، فكان ينتقد الشيعة ، ولكن بدهاء واضح يحاول تغطيته من حين لآخر بقوله : نحن دعاة الوحدة الإسلامية التي ينادي بها الإمام الخميني ولا نحبّ إثارة الفتن بين المسلمين خصوصاً في هذا الوقت الذي تكالب فيه الشرق والغرب على محق الإسلام.
فأرجوك وأطلب من فضلك أن توقف الحديث ولا تواصل فنحن في غنى عن هذا ونعمل بقوله تعالى : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).
واعتذرت للحاضرين إن كنت أسأت إليهم في شيء لأني ما كنت لأتكلّم في مثل هذا لولا دعوتهم لي وسؤالهم إيّاي.
ص: 344
وتدخل بعض الحاضرين بالخصوص محمود الطاهري الذي ألح على مواصلة البحث حتى يتجلى الحق ونفهم الواقع الذي نعيشه.
فقال له أبو يس : أي حق وأي واقع ، هو يريد ( مشيرا إلي ) هدم عقيدتنا من الأساس ، أنا أعرف سياسته إنه بدأ كلامه بالطعن في المنافقين وسينتهي بكم بعد ذلك في طعن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وفي أكبر راوية للإسلام أبي هريرة وعائشة أم المؤمنين ، وكان يتكلّم بحدّة ووجهه مصفرّ اللّون.
قلت : سامحك اللّه يا أخي نحن نريد بحثا علميا ولا نريد ملاكمة ، ولماذا أنت تحكم على الإسلام من خلال هؤلاء الرّجال ، والمفروض أنك تحكم على هؤلاء الرجال من خلال الإسلام ، وهذا عين ما قاله الإمام علي علیه السلام : لا يعرف الحق بالرجال إعرف الحق تعرف أهله (1) ، فماذا علينا لو حكمنا على هؤلاء النّاس بأحكام القرآن والسنّة.
قال : أيّ سنّة ، أنت ترفض السنّة ولا تأخذ منها إلاّ ما يعجبك وأنا قرأت ما يقوله الشيعة في أبي هريرة يقولون عنه : كذّاب والعياذ باللّه.
قلت : لا تتسرّع ، وإذا أردت أن تعرف قول السنّة في أبي هريرة فهو كقول الشيعة تماما لا يختلف بعضهم عن بعض ، ولو صبرت قليلا وسمحت لنا بإخراج الأدلة فسوف تغيّر رأيك في الرجل.
قال ضاحكا : هذا أمر غريب كيف يطعن أهل السنة في أبي هريرة ويعدّونه راوية الإسلام ، ويأخذون عنه أكثر الأحاديث؟ هذا عجيب.
استغرب الحاضرون أيضاً وقالوا : لأول مرّة نسمع بمثل هذا.
ص: 345
قلت : إذاً موعدنا في الليلة القادمة إن شاء اللّه بعد صلاة العشاء وسآتيكم ( بالأدلة ) المقنعة.
والتقينا في الليلة الثانية وقد جلبت معي من مكتبة المؤتمر التي تعرض الكتب الإسلامية للبيع بأثمان رمزية ، جلبت كتاب الموطّأ للإمام مالك وكتاب صحيح البخاري ، وكان محمود الطاهري فرحا مسرورا منتظرا المفاجأة وقد نقل إليّ قول أمير الجماعة أبو يس الذي حاول أن يثبّط همّتهم ويحلّ عزيمتهم لإلغاء اللّقاء ، ولكن الجماعة أصرّوا على الحضور لكي يعرفوا الأدلّة التي وعدتهم بها ، واضطرّ أبو يس للحضور معهم خوفا عليهم أن يتشيّعوا.
بدأت السهرة بافتتاح قصير من الأخ محمود الطاهري الذي عبّر عن تمسّك الجماعة بمواصلة البحث للوصول إلى الحقيقة ، فهذه الفرصة التي أتاحها اللّه لهم لزيارة إيران الإسلام لعلّها تكون ابتلاءً لهم ، وبدأت كلامي بحمد اللّه والثّناء الذي بشّر عباده الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ، وقلت لهم : لا شكّ أنكم متشوقون لمطالعة الأدلّة التي وعدتكم بها ، ولكنّي وكما تعلمون أني عابر سبيل مثلكم وليست مكتبتي تحت يدي ، ومع ذلك فقد جئتكم بكتابين وجدتهما هنا وهما لإمامين جليلين من أئمّة أهل السنّة والجماعة ، أما الأول فهو موطّأ الإمام مالك الذي يقولون عنه - رواية عن الشافعي - : ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب اللّه أصحّ من كتاب مالك (1).
أمّا الثاني فهو صحيح البخاري وهو غنيّ عن التعريف فهو عمدة أهل السنّة والجماعة ، وسوف أطلب أحد المتطوّعين منكم للقراءة ، فتطوّع أحدهم
ص: 346
وأعطيته موطّأ مالك مفتوحا على الصفحة المعنيّة فأخذ يقرأ والكل يستمعون قال :
وحدّثني عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ابن هشام ، أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام يقول : كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أميرالمدينة فذكر له أن أبا هريرة يقول : من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم فقال مروان : أقسمت عليك يا عبد الرحمان لتذهبنّ إلى أم المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنّهما عن ذلك ، فذهب عبد الرحمان وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلّم عليها ثم قال : يا أم المؤمنين إنا كنّا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول : من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم ، قالت عائشة : ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمان أترغب عمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصنع ، فقال عبد الرحمان : لا واللّه ، قالت عائشة : فاشهد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم.
قال : ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت مثل ما قالت عائشة ، قال : فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا ، فقال مروان : أقسمت عليك يا أبا محمّد لتركبنّ دابّتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنّه ذلك ، فركب عبد الرحمان وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة ، فتحدّث معه عبد الرحمان ساعة ثم ذكر له ذلك.
فقال أبو هريرة : لا علم لي بذلك إنما أخبرنيه مخبر (1).
ضحك الأخ الجزائري عند سماع هذه العبارة وهو يقول بلهجته : اشنيّة؟
ص: 347
صار هي وكالة أنباء « متاع قيل وقالوا »؟
قلت : اصبر قليلا وأعطيت الكتاب الثاني وهو صحيح البخاري للمتطوع فأخذ يقرأ : حدّثنا عمر بن حفص حدّثنا أبي حدّثنا الأعمش حدّثنا أبو صالح قال : حدّثني أبو هريرة قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : أفضل الصدّقة ما ترك غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعوّل ، تقول المرأة : إمّا أن تطعمني وإمّا أن تطلّقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني ، ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني ، فقالوا : يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : لا ، هذا من كيس أبي هريرة (1).
قال محمود الطّاهري وهو يضحك : كلّنا مشينا في كيس أبي هريرة ، وحاول أمير الجماعة أبو يس أن يتفلسف في الحديثين ويجد لهما مخرجا فقال : سبحان اللّه الذي لا ينسى ، أبو هريرة كسائر البشر نسي أو اشتبه عليه الأمر في حديث الجنب الذي يفطر ذلك اليوم فذكّرته أم المؤمنين عائشة فرجع عن رأيه.
أمّا في حديث البخاري الذي يقول : المرأة تقول أطعمني أو طلّقني الخ ...
واعترض عليه بعض الحاضرين الذين لم يقتنعوا بكلامه وقالوا : ليس من حقّ أبي هريرة أن يزيد في الحديث من كيسه ، فمرّة يقول : لا علم لي وإنما أخبرنيه مخبر ، ومرّة يقول : هذا من كيس أبي هريرة ، ومع ذلك فهو يبدأ الحديث بقوله : قال النبي صلی اللّه علیه و آله فهذا كذب صريح على النبي صلی اللّه علیه و آله .
ولمّا كثر الجدال حول هذا واختلف الحاضرون كلّهم يدينون أبا هريرة إلاّ أبو يس بقي المدافع الوحيد الذي حاول تأويل الكلام على غير واقعه.
ص: 348
فتدخلّت بلطف لأحسم هذا النزاع فقلت : يا أخي العزيز سأعطيك دليلا أوضح كي لا يبقى بعده عندك عذر مقبول ، وإن شئت بعده أن تبقى على رأيك فأنت حرّ ، ورأيك محترم.
أعطيته صحيح البخاري وقلت : اقرأ وحدك بصوت عال حتى يسمع الجميع ، وأخذ الكتاب وقرأ : حدّثني عبد اللّه بن محمّد ، حدّثنا هشام بن يوسف ، أخبرنا معز بن الزّهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : لا عدوى ولا صفر ولا هامّة ، فقال أعرابي : يا رسول اللّه فما بال الإبل تكون في الرمّل كأنها الطباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا يوردن ممرّض على مصح.
وأنكر أبو هريرة الحديث الأوقات : قلنا ألم تحدّث أنه لا عدوى ، فرطن بالحبشيّة ، قال أبو سلمة : فما رأيته نسي حديثاً غيره (1).
وصاح فرحا ألم أقل لكم أنه نسي ، ودار الجدال من جديد بينه وبين رفاقه يحاول هو إقناعهم بنزاهة أبي هريرة ملتمسا له عذر السّهو والنسيان والغلط ، وهم لا يقبلون منه هذا الاعتذار ولكنّهم يردّدون : ما كنّا نعرف هذا عن أبي هريرة.
قلت : لو كانت المسألة تتعلّق بالسّهو والنسيان لهانت ، ولكن المسألة غير ذلك تماما لأن أبا هريرة اتّهمه كثير من الصحابة من أجل كثرة الحديث ، وعمر بن الخطّاب نفسه كذّبه في حديث خلق اللّه السماوات والانتشار في سبعة أيّام ، وكذّبته عائشة كما كذّبه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، وحسبكم قراءة
ص: 349
كتاب « شيخ المضيرة » لمؤلفّه الشيخ محمود أبو ريّة العالم المصري الذي كشف عن أكاذيب أبي هريرة وهو سنيّ.
تكلّم الأخ الجزائري فقال : الشيعة يقولون : إن أبا هريرة كذّاب ، ولا يعطون الدليل على كذبه ، والسنّة يقولون بأنه ثقة ولكنّهم يعطون مائة دليل على كذبه.
انفعل أبو يس أمير الجماعة واصفرّ لون وجهه والتفت إليّ ليقول : أنت تستغلّ بسطاء العقول للتأثير عليهم ، أمّا أنا فإني حائز على دكتوراه دولة ولا يمكن أن تؤثّر عليّ.
غضب الأخوة من كلامه وكيف ينتقص من شأنهم ويقول عنهم بسطاء العقول.
فتكلّم الأخ الشطّي رئيس الرّابطة وقال : يا أخ التيجاني نحن معك إلى الصباح وسنستمع لكلّ ما تقوله ، ومن كان عقله بسيطاً فالباب مفتوح ، وما عليه إلاّ الخروج ومغادرة المكان.
وفهم أبو يس أنه المقصود ، لكنّه فهم أيضاً بأنه احترق عندما احتقرهم وسمّاهم بسطاء العقول.
وتدّخلت أنا لتهدئة الجوّ فقلت : يا أخ أبو يس أنا أحترم رأيك ولو لم تكن حائزاً على دكتوراه دولة فأنا لا أريد أنّ أقول لك بأني أنا أيضاً دكتور ، ولكن هذه الشهادات وهذه الألقاب لا تعني بالنسبة إليّ شيئاً لأني تعلّمت من أميرالمؤمنين علیه السلام قوله الحكيم : « قيمة كل امرئ ما يحسنه (1) ، المرء مخبوء تحت
ص: 350
طيّ لسانه لا تحت طيلسانه » (1).
فقام أبو يس غاضبا وغادر الغرفة وكنت أحاول إبقاءه معنا ولكن الجماعة غمزوني لأدعه يخرج كي يستفيدوا من الجلسة ، ولمّا خلا المكان منه طلبوا منّي تعليمهم كيفيّة الوضوء والصلاة على طريقة أهل البيت علیهم السلام ، ففعلت ، ونزلوا من الغد إلى غرفتي وطلبوا منّي مصاحبتهم إلى معرض الكتاب كي أشير عليهم بالكتب التي تفيدهم ، واشتروا من المعرض كل كتب الشيعة المعروضة ، ولمّا كان يوم المغادرة بعد انتهاء المؤتمر وجّهوا إليّ الدّعوة لزيارتهم في السويد عسى أن أقنع المزيد من رفاقهم ، وأعلموني بأن رابطتهم الإسلامية تنتمي إلى السعوديّة ، وأن الفكر الوهابي انتشر بين المصلّين ، لأن أغلب المسؤولين عن الرابطة يتقاضون مرتّبات شهريّة بالإضافة إلى المبالغ المخصّصة لإحياء شؤون الرّابطة (2).
ص: 351
قال الدكتور التيجاني : كانت فرحة الإخوان المستبصرين كبيرة خصوصاً الأخ محمود الطّاهري الذي ألحّ عليّ في السّفر معه إلى مدينة قوتو بورق حيث يقيم هناك مع جالية إسلامية كبيرة أغلبها من الأتراك ، واستشرت الإخوة فاستحسنوا ذلك ، وسافرت معه ليلة كاملة في القطار السريع ، وقضيت في بيته يومين نسهر في الليل في المسجد مع المصلين وإمامهم من الأتراك الناطقين بالعربيّة ، وقد استهواه البحث ومال إلى التشيع ، ولكنّه فضل الكتمان على حاله حتى يتكاثر المستبصرون ، ولمّا كان اليوم الثالث اتّصل بنا جماعة استكهولم طالبين منّي القدوم على جناح السرعة ، لأن الجماعة المناوئين استنجدوا بأحد العلماء الكبار الذي قدم من النروج خصيصا لإبطال دعوتي وهو في انتظاري.
وركبت قطار اللّيل ووصلت يوم الجمعة صباحاً ، وكان في انتظاري بالمحطّة ثلاثة من الإخوة ، فأعطوني بعض الإرشادات عن العالم الذي يسمّى أبو لبن ، وهو متخرّج من جامعة الملك عبد العزيز بالسّعوديّة ، وهو الذي يتعهدّ
ص: 352
الرّابطة من حين لآخر ، ويبدو أن السعودية أسّست رابطة إسلامية لنشر الوهابية في كل بلد من البلد الاسكندنافيّة التي تقطنها جاليات إسلامية لا بأس بها.
تركوني لأخذ نصيباً من الرّاحة والنوم لأني قضيت ليلة بيضاء بالقطار ، ولمّا استيقظت كان أحد المستبصرين يروي لنا بأن أبو لبن هو الذي صلّى بالناس صلاة الجمعة ، وقد اكتظّ المسجد بالنّاس فخطبهم خطبة كلّها تكفير للشيعة ، وتحقير لهم ولعقائدهم الزّائفة المزيفة حسب تعبيره ، وكان الغذاء والدّعوة للمناظرة في بيت أحد الإخوة المستبصرين ، وهو من أمثلة العرائس من ولاية قفصة اسمه أحمد العيساوي ، وكان يحبّني كثيرا ، وهو صاحب نكتة وطرافة ، فكان يقول للجماعة : أنا لا أخاف على ولد بلادي.
وجاء أبو لبن ووراءه رجل سوداني يحمل حقيبته اليدويّة ، وهو رجل طويل القامة بلباس عربيّ ، ولحيته تتدلّى على صدره ، وعلى عينيه نظّارات ، قام الجميع يسلّمون عليه وقمت معهم ، قدّموني إليه فكأنه احتقرني ولم يعبأ بوجودي ، وتقدّم صاحب البيت باقتراح طلب فيه تسجيل ما يدور بيننا من جدال ، ووافقت أنا ولكن أبو لبن رفض التسجيل ، وبدأنا الحوار.
قلت : قبل كلّ شيء ما رأيك بالشيّعة؟
وأردت بهذا السؤال أن أحرجه أمام الحاضرين الذين صلّوا معه وسمعوا قوله.
وأراد التخلّص من هذا السؤال ولكنّي أصررت على الإجابة فقال : نحن نكفّر الشيعة لأنهم لا يؤمنون بقرآننا ، وعندهم قرآن خاصّ بهم يسمّونه ، مصحف فاطمة علیهاالسلام ، ضحكت لهذه المعلومات ، وعرفت قيمة مجادلي ، وما مبلغه من
ص: 353
العلم ، فقلت : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً ) (1).
أنت تكفّرنا ، أمّا نحن فلا نكفّرك ، إنما نقول : بأن الدّعايات الأموية ضلّلتك ، ونطلب من اللّه أن يهديك إلى الحق ، وأنا سوف لن أجادلك في قضايا وهميّة ترددونها كالببغاء خلفا عن السلف بدون تحقيق ولا تمحيص ، ولكنّي سوف أجادلك في قضيّة اعتقد أنها من أهم القضايا التي تجمع المسلمين وتنقذهم من النّار ليفوزوا بالجنّة.
قال : هات ما عندك فما هي القضيّة؟
قلت : قضيّة أهل البيت علیهم السلام ووجوب الاقتداء بهم لعصمتهم.
قال : لنبدأ بأهل البيت ، من هم أهل البيت؟ أليست عائشة منهم؟
قلت : لا ، لأن عائشة نفسها ما ادّعت يوما أنها منهم.
قال مستغربا وهو يكلّم الحاضرين : أعندكم مصحف قرآن في البيت؟
قلت : أتريد أن تقرا قوله تعالى : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ... ) إلى قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (2).
قال : نعم ، هي هذه.
قلت : هذه لا تقصد نساء النبي صلی اللّه علیه و آله لأن اللّه سبحانه عندما خاطب نساء النبي صلی اللّه علیه و آله خاطبهم بنون النسوة ، فقال لستن ، إن اتقيتنّ ، فلا تخضعن ، وقلن قولا معروفا ، وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن ، وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ،
ص: 354
وأطعن اللّه ورسوله ، فكلّ هذا خطاب لنساء النبي صلی اللّه علیه و آله لكنّ قوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) خارج عليهنّ ، ولو كان المقصود بها نساء النبي صلی اللّه علیه و آله لتواصل السياق نفسه وقال : إنما يريد اللّه ليذهب عنكنّ ويطهّركن.
فقال أبو لبن مستهزئا : يبدو أنك لا تعرف اللّغة العربيّة وتجهل قواعدها ، وإلاّ ما وقعت في هذا الخطأ الفاحش.
قلت : لماذا علّمني.
قال : لأن اللغة العربيّة تأتي بنون النّسوة عندما يكون نسوة فقط ، ولو كان عددهنّ ألف امرأة ، أمّا إذا كان بينهنّ رجل واحد فتأتي اللّغة بجمع المذكّر.
قلت : أنا أعرف ذلك ، وهذه من القواعد الابتدائيّة التي نعرفها.
قال : فلماذا تحتجّ عليّ بأنها لا تخصّ نساء النبي صلی اللّه علیه و آله ؟
قلت : لعدّة أسباب وعدّة وجوه سوف أوقفك عليها فيما بعد ، ولكن سلّمت لك جدلا بصحّة ما تذهب إليه ، فسؤالي إليك من هو الرّجل الذي قصده اللّه ودخل مع نساء النبي صلی اللّه علیه و آله في هذه الآية؟
قال بدون تردد : هو سيّدنا علي كرّم اللّه وجهه.
قلت : الحمد لله رب العالمين فهذا يكفيني حجّة ودليلا ، فأنت تقول بأن اللّه أذهب الرّجس وطهّر نساء النبي صلی اللّه علیه و آله جميعاً ومعهنّ الإمام عليّ علیه السلام .
قال : أقول بذلك ، وهذا هو الردّ المناسب لمزاعم الشيعة الذين يريدون إسقاط نساء النبي صلی اللّه علیه و آله من العصمة لأنهم لا يحبّون أم المؤمنين عائشة.
قلت : دعنا من الهروب إلى الهامشيّات ، وخلّنا في صلب الموضوع ، فأنا أعيد عليك أمام الحاضرين لتتأكد ممّا تقول ، فقد قلت : بأن الآية نزلت في نساء
ص: 355
النبي صلی اللّه علیه و آله ومعهم رجل واحد هو علي علیه السلام .
قال : نعم.
قلت : تثبّت لعلّه أبو بكر.
قال : لا.
قلت : لعلّه عمر؟
قال : لا ،
قلت : لعلّه عثمان؟
قال : إنها لم تخصّ من الرّجال إلاّ علي فقط ، فلماذا أنت تكرّر ما نقول؟
قلت : لأن العصمة لم تثبت إلاّ لرجل واحد هو علي بن أبي طالب علیه السلام حسب شهادتك ، وهو دليل قاطع على صحّة عقيدة الشيعة لأن المسلمين مطالبون بالاقتداء بالرّجال دون النّساء ، والمسلمون اتّفقوا كلّهم على أميرالمؤمنين علیه السلام ولم نسمع بأميرة المؤمنين.
فكبّر لذلك الحاضرون وقالوا : إنها حجّة قاطعة يا أبا لبن.
قال : نحن علماؤنا كلّهم متّفقون على نزول الآية في نساء النبي صلی اللّه علیه و آله .
قلت : اتّق اللّه يا رجل ، أنا أقول قال اللّه ، وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنت تقول : قال العلماء ، أفتقدّم قول العلماء على قول الرّسول صلی اللّه علیه و آله .
قال : ماذا قال الرّسول صلی اللّه علیه و آله .
قلت : جمع تحت كساء : نفسه وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس » فنزلت الآية (1).
ص: 356
قال : هذا ما يقوله الشيعة.
قلت : اتّق اللّه في الشيعة فإنهم لا يقولون إلاّ قول اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وهذا الذي تنكره أنت ذكره صحاح السنّه.
قال : ما رأيت عند علماء السنّة وفي صحاحهم هذا أبدأ.
قلت لصاحب البيت : هل لك أن تأتينا بصحيح مسلم؟ فأحضره فناولته لأبي لبن ليقرأ في فضائل أهل البيت علیهم السلام أن عائشة هي التي روت رواية الكساء ونزول الآية في هؤلاء الخمسة المذكورين (1) ، فلمّا قرأ ذلك في صحيح مسلم تغيّر لونه وتلعثم في الكلام.
وظهر عجزه قلت : أعرفت لماذا نحن نخصّ هؤلاء بنزول الآية ، لأن عائشة التي تريدون إلصاقها بالآية لا توافقكم هي نفسها على ذلك ، وكذلك أم سلمة من نساء النبي صلی اللّه علیه و آله قالت : أردت الدّخول معهم تحت الكساء فمنعني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : أنت إلى خير (2).
ص: 357
وقام الأخ رشيد الجزائري وقال متوجّها إلى أبي لبن وهو يضحك : أنا من اليوم سأسميك أبا لهب ، لأنك تترك قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتتبع قول العلماء الذين علّموك ..
وانتهت الجلسة على أحسن ما يرام وازداد المستبصرون بذلك فرحا وابتهاجا.
وما خرجت من السويد حتى انقلبت الرّابطة إلى شبه حسينيّة.
واستقدموا بعد ذلك شيخا معمّما من قم المقدّسة ، وأسسوا مسجداً للشيعة هناك يديره جماعة المستبصرين بمعيّة مجموعة من العراقيّين على رأسهم السيد أبو حيدر الذي ساهم بكل جهوده وأمواله في إنجاح المشروع (1).
ص: 358
قال الدكتور التيجاني : وجاء اليوم الموعود واستقبلني الأخوة بالمطار في العاصمة السوّيدية ستوكهولم ، ونزلت ضيفا عند الأخ الشّطي رئيس الرّابطة وفي يومين وخلال محاضرتين انقسمت الرّابطة إلى قسمين وتشيّع أغلبهم بإعانة الإخوة الذين عرفتهم خلال المؤتمر ، وكان أشدّ النّاس حماسا للتشيّع الأخ محمود الطّاهري والأخ الجزائري رشيد بدرة ، ولكن إمام الرّابطة شرف الدين المصري ومعاونه حسين التونسي بقيا معادين ومعاندين.
وبدأ الإمام يحسّ بالعزلة شيئاً فشيئا فلجأ إلى المواجهة والهجوم العنيف على الشيعة وقال فيما قال : أنا أعرف أن علماء الشيعة كذّابين ومنافقين ، وأن أعظم كتاب عندهم هو كتاب المراجعات الذي يفتخر به الدكتور التيجاني نفسه ، هذا الكتاب كلّه كذب ونفاق.
استفزّني كلامه الذي قاله بمحضر أكثر من عشرين رجلا فقلت : اتّق اللّه فأنت إمام الجماعة والمفروض أن الإمام يكون مثال الصدّق والأمانة ، ولا يقول
ص: 359
بما لا يعلم ، فكيف لو طالبتك بالدليل على ادّعائك.
قال : عندي دليل على ما أقول وأنا لا أتكلم إلاّ بما أعلم.
استغربت منه هذه الجرأة وتحدّيته أمام الحاضرين قائلا : إن هذا الكتاب هو بالفعل من أعظم الكتب التي أثّرت فيّ شخصيّاً ، وقد تتبّعته بالبحث فوجدته ينقل بدقّة ، أعني مؤلّفه وهو السيد شرف الدين الموسوي ينقل بدقّة وأمانة فلا يزيد ولا ينقص ، فأنا أتحدّاك أمام الحاضرين إن جئتني بكذبة واحدة في كتابه فسوف ألعنه أمام الجميع وألعن الشيعة معه.
قال : أتشهدون عليه يا جماعة؟
قالوا : لقد حكم على نفسه بنفسه.
قلت : وهو كذلك.
قال : موعدنا الليلة وسآتيكم بالدليل القاطع ، إن شاء اللّه.
قال الأخ الجزائري : السهرة الليلة في بيتي فأنتم كلّكم مدعوّون للعشاء عندي ، وبعد العشاء نبحث في الموضوع ، وكان الاتّفاق على ذلك.
بقي الأخ محمود الطاهري متخوّفاً ويحذّرني من الإمام على أنه مثقّف ، ومطّلع على أمور كثيرة ، وأغلب النّاس يثقون بعلمه فلو انتصر عليك ، لاقدّر اللّه فستكون ردّة لكلّ من تشيّعوا ، فهدّأت من روعه وطمأنته بأن شرف الدين الشيعي أعلم من شرف الدين السنّي.
وكان اللقاء ، الإمام المصري يتبعه معاونه حسين التونسي ويحمل حقيبته ، وبعد تناول العشاء وقضاء فريضة الصّلاة ، افتتح صاحب البيت الأخ رشيد بدرة الجلسة بكلمة وجيزة دعا فيها الحاضرين ، وكانوا يزيدون على الثلاثين رجلا ، ونساءهم في الغرفة المجاورة ، دعاهم كلّهم لاحترام المجالس العلميّة ولزوم
ص: 360
الصمت ، وقال : كلّنا نستمع للدكتور التيجاني والإمام شرف الدّين ، فلسنا هنا للخصام ولا للملاكمة ، وإنما نحن نريد الوصول إلى الحقيقة ، وهذه الحقيقة قد تكون مع التيجاني وقد تكون من شرف الدين ، فنحن يجب أن نكون مع الحقّ لا مع الأشخاص.
أخرج الإمام شرف الدين المصري من حقيبته كتاب النصّ والاجتهاد ، ثم أخرج معه صحيح البخاري وفتح كتاب النص والاجتهاد وأعطاني إيّاه ، وطلب مني قراءة الصفحة المسطرة ، وقرأتها وأنا أعرفها فهي تتعلّق باجتهاد عمر بن الخطّاب عندما جذب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قميصه وهو يصلّي على عبد اللّه ابن أبي المنافق وقال له : إن اللّه نهاك أن تصلي على المنافقين (1).
قلت : وماذا فيها فالقضيّة معروفة ولا ينكرها أيّ باحث.
قال : نعم أنا لا أجادل في القضيّة ، وإنما في العالم الشيعي الذي يكذب ويقلّب الحقائق.
قلت : وكيف ذلك ، ما وجدت في القصّة كذبا ولا تقليباً للحقيقة أعدت القراءة ، خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلّى على عبداللّه بن أبي ، فجاء عمر فجذبه من قميصه.
قال : قف هنا واقرأ التعليق الذي كتبته أنا ، فقرأت على الحاشية وقد سطّر كلمة فجذبه بسطرين ، قوله : انظروا إلى هذا الكذّاب الدجّال الذي يحرّف الكلام عن مواضعه ، ثم أولغ سباً وشتماً في المؤلّف وفي الشيعة عامّة.
فقلت مستغرباً : ما فهمت حتى الآن قصدك ، وأين الكذب والتحريف أنا ما
ص: 361
رأيته.
قال : إنه هنا يستشهد بالبخاري وها هو البخاري أمامنا ، خذ اقرأ بنفسك ما ذكره البخاري ، وناولني كتاب البخاري فقرأت : فجاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليصلّي عليه ، فمسكه عمر (1).
قلت : ما هو الفرق بين هذا وذاك المهمّ أن عمر منع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الصلاة وأنا لا أرى فرقا بين جذبه أو مسكه.
فصاح قائلا : وهذه مصيبتك ، أنت جاهل باللّغة العربيّة ، ولا تفرّق بين جذبه ومسكه ، فلفظ مسكه تعني اللين واللّطف ، وجذبه تعني الشدّة والعنف ، وسيّدنا عمر كما يقول البخاري : مسك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برفق ولطف ، وليس كما يقول عالم الشيعة : جذبه ، وهو يوحي بتحريفه ، هذا على أن سيّدنا عمر كان يستعمل الشدّة والعنف مع حضرة الرسول صلی اللّه علیه و آله .
ونظرت حولي إلى الحاضرين وقد انتكست رؤوسهم ، وأوجست في نفسي خيفة أمام شرف الدين الذي أخذ يصول ويجول بنخوة الانتصار عليّ أمام الجموع الحاضرة ، لأني تحديته أمامهم إن جاءني بكذبة واحدة فسألعن الشيعة وعلى رأسهم صاحب المراجعات ، وها هي الكذبة واضحة في نظر الحاضرين لأن شرف الدين الموسوي أبدل كلمة مسكه بكلمة جذبه ، وهذه خيانة علميّة.
وفجأة جاءني الجواب وقرأت من جديد ما كتبه شرف الدين قائلا : وإليك منه ما أخرجه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه ، وراجعت كتاب البخاري الذي جاء به الإمام معه فوجدته يستدلّ بغير الكتاب الذي ذكره شرف الدين
ص: 362
الموسوي ، عند ذلك ، فهمت وقلت لشرف الدين المصري : لا تتسرّع بفرحة الانتصار ، وأنا أتّهمك أنت الآن بالدّس ، فلماذا لم تأت بالجزء المذكور ، والذي فيه كتاب اللباس ، فإن كنت تعلم فتلك مصيبة ، وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم.
قال صائحا يسأل الحاضرين : أهناك كتاب آخر للبخاري غير هذا؟
قلت : لا ، أنا أقصد لماذا لم تأت بالأجزاء كلّها وجئت بهذا الجزء فقط؟ لأني أعرف أن البخاري ينقل الحادثة في عدّة أبواب من صحيحه ، ويتصرّف في الحديث فيغيّر هو معانيه حفاظاً على كرامة الصّحابة ، ولو كان ذلك على حساب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
فتهلّل وجه صاحب البيت رشيد بدرة وقال : أنا عندي صحيح البخاري هنا بكل أجزائه.
فقلت : هلم به إلينا ، وفي لحظة جاء الكتاب وأخرجت كتاب اللباس الذي استدلّ به شرف الدين الموسوي وإذا فيه : فجاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليصلّي عليه فجذبه عمر ، فصاح رشيد بدرة : اللّه أكبر وتهلل الحاضرون كلّهم ، وانتكس الإمام المصري لأنه أصيب بذهول وتبيّن لي أنه ما كان يعرف بوجود هذا الحديث ، ولكنّه لمجرّد ما فتح البخاري ووجد كلمة مسكه عوضاً عن جذبه ظنّ المسكين أنه اكتشف زيف الشيعة وأكاذيبهم فطأطأ برأسه إلى الأرض ، ولم يزد شيئاً رغم الكلمات النابية التي وجّهها إليه الأخ رشيد بدرة الذي قال له فيها : يا شرف الدين كنّا نظنّك عالما متبحّرا فإذا بك فارغ ، وتتّهم العلماء الأجلاء بالكذب والدّجل ، وتسبّ وتشتم أناساً أبرياء أفضوا أمرهم إلى اللّه.
فقام معاونه حسين التونسي لينقذ الموقف ، ويخرج زميله من الورطة التي وقع فيها ، فقال موجّها كلامه إليّ : إن إمامك الذي تدعو إليه عنده شذوذ فهو يجيز
ص: 363
نكاح المرأة من دبرها ، استغربت منه هذا القول ، وهو الذي لم يتكلّم أبداً ، وكان يمتاز بالسّكوت والاستماع.
قلت : أي إمام دعوتك إليه؟
قال : الإمام الخميني.
التفت للحاضرين وسألتهم : هل كلّمتكم منذ قدمت إليكم عن الإمام الخميني؟
قالوا : ما سمعنا منك إلاّ الكلام عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ولم نسمعك أبدأ تتكلّم عن الإمام الخميني.
قلت له : لماذا تتّهمني بشيء لم يقع أبدأ هذا أولا ، أمّا ثانياً فلماذا تنكر على الإمام الخميني ، وتتّهمه بالشّذوذ في مسألة فقهيّة اختلف فيها الصّحابة أنفسهم بين مانع ومكره ومجيز ، وإذا استنكرت ذلك على الإمام الخميني ، الذي قال : بالكراهة ، لماذا لم تستنكره على البخاري الذي قال بجوازه قبل ألف عام.
فقال : حاشى البخاري من هذه السّفاسف.
قلت : البخاري بين أيدينا ، وفي لحظة وجيزة أخرجت له وللحاضرين قول البخاري عن عبداللّه بن عمر في تفسير قوله تعالى : ( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) (1) قال يأتيها في ... (2) واستفظع الكلمة فلم يكتبها (3).
ص: 364
فلمّا قرأ الأخ رشيد بدرة هذا الحديث غضب وقال للتّونسي : أنت أيضاً تريد طمس الحقيقة ونصرة الباطل ، غداً خذ أدباشك ، وارجع من حيث أتيت ، فأنا لا أكفلك أبداً ، وانتهى كل شيء بيننا.
وتبيّن لي أن التّونسي جيء به من باريس ليؤمّ المصلّين في غياب الإمام المصري الذي يتغيّب شهورا عندما يسافر إلى مصر ، ووعد الأخ رشيد بدرة أن يزوّجه من سوّيدية ، ويحضرّ له أوراق الإقامة والمعاملات القانونيّة.
وحاولت إقناع الأخ الجزائري بإتمام ما وعده به فرفض قائلا : أنا لا أعين الباطل ، ولا أكون للظّالمين ناصرا ، وقد تبيّن لي أن هؤلاء فارغين ونحن كنّا غافلين (1).
ص: 365
قال الدكتور التيجاني : أعلمني صديقي الأستاذ التونسي بأنّ صديقه السعودي سيأتي في الغد لإجراء محاورة علمية معي ، وقال : بأنه استدعى لذلك مجموعة من الأساتذة ليشاركوا في الحوار ليستفيد الجميع ، وقال : بأنّه هيأ الغداء ، فاليوم هو يوم عطلة الأسبوع ، وعندنا الوقت الكافي ، وكم نحن مشتاقون لمثل هذه المجالس ، ثم أضاف : ونحن نريدك منتصراً فلا تخجّلنا ، لأنّ هذا السعودي « ما كِلْنَا بقرعة » (1).
وفي الساعة الموعودة توافد على البيت الأساتذة ومعهم العالم الوهّابي ، وكان مجموعهم سبعة ، أضف إليهم صاحب البيت ، وشخصي الحقير ، فصار المجلس يضمّ تسعة أشخاص.
بعد أكل سريع ودردشة أثناء الأكل ، قد لا يخلو منها مجلس بدأنا الحوار ،
ص: 366
وكان موضوعه المطروح التوسّل والوساطة بين العبد وربّه.
كنت من القائلين بالتوسّل إليه سبحانه وتعالى بأنبيائه ورسله وأوليائه الصّالحين ، وأن الإنسان قد يحجب دعاءه كثرة الذنوب والإنشغال بالدنيا فيستشفع إلى اللّه سبحانه بأوليائه وأحبابه.
قال : هذا شرك ، وأن اللّه لا يغفر أن يشرك به ..
قلت : وما دليلك على أنه شركٌ باللّه؟
قال : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) (1) ، هذه آية صريحة في تحريم الدعاء لغير اللّه ، فمن دعا غير اللّه فقد جعل له شريكاً ينفع ويضرّ ، والنّافع والضّار هو اللّه وحده.
إستحسن بعض الحاضرين كلامه وأراد تأييده فاستوقفه صاحب البيت قائلا : مهلا ، مهلا ، لقد دعوتكم لا للجدال ولا للمباراة ، وإنّما دعوتكم للإستماع لهذين العالمين ، فهذا التونسي عرفته من قديم ولكنّي فوجئت بأنه شيعي يتبع أهل البيت ، علیهم السلام وهذا صديقنا السعودي ، وكلّكم تعرفونه وتعرفون عقيدته ، فما علينا إلاّ الاستماع إليهما ، وإلى ما يدليان به من حجج إلى أن يفرغا من بحثهما ويستوفيا ما عندهما ، بعد ذلك نفسح المجال للنقاش ليشارك فيه كل من أراد.
شكرناه على هذا الأسلوب وهذا اللطف ، وواصلنا الحديث فقلت : أنا أوافقك على أنّ اللّه سبحانه هو وحده النّافع والضارّ ولا أحد غيره ، ولا يخالفك أحدٌ من المسلمين في ذلك ، إنّما اختلافنا في التوسّل ، فالذي يتوسّل برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثلا يعرف أنّ محمّداً لا ينفع ولا يضرّ ، ولكنّ دعاءه مستجاب عند اللّه ،
ص: 367
فإذا سأل محمّدٌ ربّه قائلا : اللّهم ارحم هذا العبد ، أو اغفر لهذا العبد ، أو اغني هذا العبد ، فإنّ اللّه سبحانه يستجيبُ له ، والرّوايات الصحيحة الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً ، منها : أنّ أحد الصحابة كان أعمى فجاء إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطلب منه أن يدعو اللّه له ليفتح بصره ، فأمره الرسول صلی اللّه علیه و آله بأن يتوضّأ ويصلّي لله ركعتين ، ثم يقول : اللّهم إني أتوسّل إليك بحبيبك محمّد إلاّ ما فتحت بصري ففتح اللّه بصرهُ (1).
وكذلك ثعلبة ذلك الصحابي الفقير المعدوم الذي جاء للنبي صلی اللّه علیه و آله وطلب منه أن يسأل اللّه له الغنى لأنه يحبّ أن يتصدّق ، ويكون من المحسنين ، وسأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ربّهُ فاستجاب له ، وأغنى ثعلبة ، فأصبح من الأغنياء حتّى ضاقت بأنعامه أرجاء المدينة فلم يعد يحضر الصّلاة ، ومنع إعطاء الزكاة. والقصة
ص: 368
معروفة ومشهورة عند النّاس كافة (1).
كذلك كان النبي صلی اللّه علیه و آله يوماً يصف لأصحابه نعيم الجنّة ، وما أعدّه اللّه سبحانه لسكّانها ، فقام عكاشة فقال : يا رسول اللّه أدعو اللّه أن يجعلني منهم ، فقال رسول اللّه : اللّهمّ اجعله منهم ، فقام آخر فقال : وأنا يا رسول اللّه ، فقال : لقد سبقك بها عكاشة (2).
ففي الرّوايات الثلاثة دليل قاطع على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعل نفسه واسطة بين اللّه والعباد.
قاطعني الوهابيّ بقوله : أنا أستدل عليه بالقرآن الكريم ، وهو يستدل عليَّ بالأحاديث الضعيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
قلت : القرآن الكريم يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (3).
قال : الوسيلة هي العمل الصالح!
قلت : آيات العمل الصالح كثيرة ومحكمة ففيها يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (4) ولكن في هذه الآية قال : ( وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ )
ص: 369
وفي آية أخرى قال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (1).
وهاتان الآيتان تفيدان البحث عن وسيلة يتوسل بها إليه سبحانه ، وذلك مع التقوى والعمل الصالح ألم تر أن اللّه قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ ) (2) فقدّم الإيمان والتقوى على ابتغاء الوسيلة؟
قال : أكثر العلماء يفسّرون الوسيلة بالعمل الصالح.
قلت : دعنا من التفسير وأقوال العلماء ، ما رأيك لو أثبت لك الوساطة من القرآن نفسه؟
قال : مستحيل إلاّ أن يكون قرآن لا نعرفه!
قلت : أعرف ماذا تقصد ، سامحك اللّه ، ولكنّي سوف أثبت ذلك من القرآن الذي نعرفه جميعاً ، ثم قرأتُ ( قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (3) فلماذا لم يقل سيدنا يعقوب نبي اللّه علیه السلام لأولاده : استغفروا اللّه وحدكم ، ولا تجعلوني وسيطاً بينكم وبين خالقكم ، بل أقرّهم على تلك الوساطة فقال : ( سوف أستغفر لكم ربّي ) فجعل نفسه بذلك وسيلة إلى اللّه لأولاده؟!
أحسّ الوهّابي بحرج لدفع هذه الآيات البيّنات التي لا مجال للتشكيك فيها ، ولا لتأويلها فقال : ما لنا وليعقوب علیه السلام وهو من بني إسرائيل ، وقد نُسخت شريعته بشريعة الإسلام.
قلت : سأعطيك الدليل من شريعة الإسلام ، من شريعة نبي الإسلام محمّد
ص: 370
رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : نستمع إليك.
فقلت : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (1).
فلماذا يأمرهم اللّه بالمجيء إلى الرّسول صلی اللّه علیه و آله ليستغفروا عنده ، ثم يستغفر لهم الرّسول صلی اللّه علیه و آله فهذا دليل قاطع على أنّه صلی اللّه علیه و آله هو واسطتهم إلى اللّه ولا يغفر اللّه لهم إلاّ به.
فقال الحاضرون : هذا دليل ما بعده دليل ، وأحسّ الوهابيّ بالهزيمة فاستطرد يقول : ذاك صحيح عندما كان حيّاً ، ولكن الرّجال مات منذ أربعة عشر قرناً.
قلت مستغرباً : كيف تقول عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجّال مات؟! رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حيّ وليس بميّت.
فضحك من قولي مستهزءاً قائلا : القرآن قال له : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (2).
قلت : والقرآن نفسه يقول : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (3) وقال : ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) (4).
ص: 371
قال : هذه الآيات تتكلّم عن الشهداء الذين يقتلون في سبيل اللّه ، ولا علاقة لها بمحمّد.
قلت : سبحان اللّه ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ، أأنت تنزل بمرتبة النبي محمّد حبيب اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى درجة هي أقل من رتبة الشهيد ، وكأنّك تريد أن تقول بأن أحمد بن حنبل مات شهيداً ، فهو حيّ عند ربّه يرزق ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ميّتٌ كسائر الأموات؟!
قال : هذا ما يقوله القرآن الكريم.
قلت : الحمد لله أن كشف لنا عن هويّتكم ، وعرّفنا على حقيقتكم بألسنتكم ، وقد حاولتم جهودكم طمس آثار الرسول صلی اللّه علیه و آله ووصل الأمر بكم أن حاولتم إعفاء قبره ، كما أعفيتم البيت الذي ولد فيه.
وهنا تدخَّل صاحب البيت ليقول لي : لا نخرج عن دائرة القرآن والسنّة وهذا ما اتفقنا عليه.
اعتذرت وقلت : المهمّ أنّ صاحبنا اعترف بالوسيلة في حياة النبي صلی اللّه علیه و آله ونفاها بعد وفاته.
فقال الحاضرون جميعاً : وهو كذلك ، وسألوه من جديد : أنت وافقت بأنّ الوساطة كانت جائزة في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟
أجاب : كانت جائزة في حياته وهي غير جائزة الآن بعد وفاته صلی اللّه علیه و آله .
فقلت : الحمد لله ، لأول مرّة تعترف الوهابيّة بالوسيلة وهذا فتح كبير.
واسمحوا لي بأن أضيف أنّ الوسيلة جائزة حتى بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله .
قال الوهّابي : واللّه لا يجوز ، ذلك من الشرك.
فقلت : مهلا ، ولا تتسرّع وتقسم فتندم على ذلك.
ص: 372
قال : هات الدليل من القرآن.
قلت : أنت تطلب المستحيل لأنّ نزول الوحي انقطع بوفاة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فلا بد من الإستدلال من كتب الحديث.
فقال : نحن لا نقبل الحديث إلاّ إذا كان صحيحاً ، أمّا ما يقوله الشيعة فلا نعتبره شيئاً.
قلتُ : هل تثق في صحيح البخاري ، وهو أصح الكتب عندكم بعد كتاب اللّه؟
قال مستغرباً : البخاري يقول بجواز الوسيلة؟!
قلتُ : نعم يقول بذلك ، ولكن مع الأسف لا تقرأون ما في صحاحكم ، ورغم ذلك تعاندون تعصّباً لأرائكم فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال : اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا صلی اللّه علیه و آله فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ، قال : فيسقون » (1).
ثم قلت له : هذا عمر بن الخطّاب وهو عندكم أعظم الصّحابة ولا شك عندك في إخلاصه ، وقوة إيمانه ، وحسن عقيدته ، فإنكم تقولون : لو كان نبي بعد محمّد لكان عمر بن الخطاب (2) ، وأنت الآن بين أمرين لا ثالث لهما ، إمّا أن
ص: 373
تعترف بأنّ التوسل هو من صميم الدين الإسلامي ، وقول عمر بن الخطّاب : إنّا كنا نتوسل إليك بنبيّنا ، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا ، هو إقرارٌ بالتوسّل في حياة النبي صلی اللّه علیه و آله وبعد حياة النبيّ ، وإمّا أن تقول : بأنّ عمر بن الخطاب مشرك ، لأنه جعل العبّاس بن عبد المطلب وسيلته إلى اللّه ، والعبّاس كما هو معلوم ليس بنبيّ ولا إمام ، وليس هو من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
أضف إلى ذلك أنّ البخاري وهو إمام المحدّثين عندكم الذي أخرج هذه القصة معترفاً بصحّتها ، ثم أضاف بقوله : كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعبّاس فيسقون ، ويعني بذلك أن اللّه يستجيب لهم.
فالبخاري والمحدّثين من الصحابة الذين رووا هذا وكل أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون صحة البخاري كلّهم عندكم مشركون؟!
قال الوهّابي : لو صحّ هذا الحديث فهو حجّة عليك.
قلت : وكيف يكون حجّةً عليَّ؟!
قال : لأن سيدنا عمر لم يتوسّل بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنه ميّتٌ ، وتوسل بالعباس لأنه حيّ.
قلت : إنّ عمل وقول عمر بن الخطّاب ليس عندي بحجة ، ولا أقيم له وزناً ، وإنّما استعرضت هذه الرواية للإستدلال بها على موضوع البحث ، وهو إنكارك وإنكار كل علمائكم التوسّل ، واعتباره شركاً باللّه.
وإني أتساءل لماذا لم يتوسّل عمر بن الخطاب أثناء القحط بعلي بن أبي طالب علیه السلام الذي هو من محمّد كمنزلة هارون من موسى ، ولم يقل أحدٌ من المسلمين بأنّ العبّاس أفضل من عليّ ، ولكن هذا موضوع آخر لا يهمّنا في هذا
ص: 374
البحث ، ونكتفي بالقول : بأنكم الآن تعترفون بالوسيلة بالأحياء ، فهذا بالنسبة إليَّ انتصارٌ كبير أحمد اللّه عليه أن جعل حجتنا هي البالغة ، وجعل حجتكم هي الباطلة (1).
ص: 375
قال الدكتور التيجاني : والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ملأت كتب الصحاح عند أهل السنّة وعند الشيعة (1).
ولكن الوهابيّة تنكرها ولا تقيم لها وزناً وقد قال لي بعضهم عندما حاججتهم بهذه الأحاديث فقال : أنَّها نسخت.
فقلت : بالعكس التحريم هو المنسوخ ، لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، الآن فزوروها فإنها تذكّركم بالموت (2).
قال : هذا الحديث يعني به الرّجال دون النساء.
قلت : قد ثبت في التأريخ وعند المحققين من أهل السنّة بأنّ فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها كانت في كل يوم تزور قبر أبيها فتبكي وتقول :
ص: 376
صُبَّت عليّ مصائبٌ لو أنها *** صُبّت على الأيام صرن لياليا (1)
والمعروف بأن عليّاً علیه السلام بنى لها بيتاً يسمى بيت الأحزان فكانت تقضي جلّ أوقاتها في البقيع (2).
قال : وعلى فرض صحة الرّواية فهي تخص فاطمة علیهاالسلام وحدها.
إنّه التعصّب الأعمى مع الأسف ، وإلاّ كيف يتصوّر مسلمٌ أن يمنع اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله المرأة المسلمة من زيارة قبر أبيها ، أو قبر أخيها ، أو قبر ولدها ، أو قبر أمّها ، أو قبر زوجها ، فتترحّم عليهم وتستغفر لهم ، وتسيل عليهم دموع الرّحمة ، وتتذكر هي الأخرى الموت والآخرة ، كما يتذكر الرّجل ، إنّه ظلمٌ للمرأة المسلمة المسكينة ، ولا يرضاه اللّه ، ولا يرضاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا يرضاه أهل العقول السليمة (3).
ص: 377
يقول الدكتور أسعد القاسم (1) : من الحوادث أذكر منها مناقشتي لدكتور معروف في كليَّة الشريعة بالجامعة الأردنية ، لا داعي لذكر اسمه ، حيث زار مانيلا قبل عشر سنوات ، وألقى محاضرة للطلبة العرب ، تعرَّض فيها لأحوال المسلمين عموماً ، وكان مما قاله : أن معركة المسلمين مع الشيعة معركة عقيدة.
وبعد انتهاء المحاضرة طلبت مناقشته فيما قال ، فكان همُّه معرفة إن كنت شيعيّاً أم سنّياً ، وعندما حاصرته بالأدلّة القويّة حاول في البداية تبريرها بقوله : ومن منّا لا يحب أهل البيت علیهم السلام .
وعندما واجهته بالأحاديث التي توجب اتّباعهم بالعمل ، وليس بمجرِّد
ص: 378
الادّعاء حاول أن ينهي النقاش ، وعندما ذكرت له الأحاديث الدالّة على عدد الأئمة الاثني عشر علیهم السلام ، وسألته : من هم هؤلاء الأئمَّة أو الأمراء كما ذكر البخاري؟ كان جوابه :
هذا الحديث من عقلك ، وليس له وجود عندنا ، ثمَّ سحب نفسه من المناقشة تاركاً الطلبة يهزّوا رؤوسهم استغراباً.
وكان لهذه الحادثة الأثر الكبير في تحفيزي للمزيد من البحث ما دامت المسألة على هذه الدرجة من الخطورة (1).
ويقول الدكتور أسعد في بيان السبب الذي دعاه إلى التشيُّع : إن الدافع كان واحداً ليس له ثاني ، وهو رؤيتي - بما لا يقبل الشك ، والدليل والبرهان القاطع - وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، فماذا بعد التمعُّن بقوله صلی اللّه علیه و آله في خطبة حجة الوداع : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (2).
فهذا القول المعروف بحديث الثقلين يرسم المنهاج بإطاره العام ، ثمَّ يخصّص بقوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه (3) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ
ص: 379
بعدي (1) ، وغير ذلك الكثير من التوجيهات النبويّة التي تضع النقاط على الحروف ، فكلمة « بعدي » توضح أن علياً علیه السلام كان وصيّاً للرسول صلی اللّه علیه و آله كما كان هارون ليكون خليفة له وإماماً على الأمة بعده.
وهناك العديد من الروايات الموثَّقة أيضاً في الصحاح ، تشير إلى أن عدد الأئمة علیهم السلام اثنا عشر ، وكان علماء أهل السنة على مرّ التأريخ مازالوا في حيرة أمام هذا الرقم الصعب دون أن يجدوا له تفسيراً (2).
ص: 380
قال السيِّد حسين الرجا (1) : أبلغني ذات يوم أحد المحبّين الغيارى أنّه يعتزم عقد لقاء بيني وبين أحد العلماء ، فقلت له : ياليت ، فإن وضح الحق وشفيت نفسي لك الأجر والثواب ، وإنني خائف من زلّة القدم ، ولكنني أطلب منك أن يحضر ندوة الحوار بعض المثقَّفين ; لأنهم أقدر على الفهم فيحكموا لي أو عليَّ.
وبعد أيام أبلغني بأنَّه عيَّن العالم والزمان والمكان ، فذهبنا في الوقت المحدَّد ، ووجدنا الشيخ بالانتظار ، وقد حضر أحد المثقَّفين ، وكان عدد الحضور سبعة رجال ، وما أن استقرَّ بنا المجلس إلاَّ ونطق أحدهم قائلا : شيخنا! هذا السيِّد الذي كلَّمناك بشأنه ، وعندها بدأنا الكلام ، وإليك عزيزي القارئ نصَّ الحوار بكامله.
أشاح الشيخ بوجهه ناظراً إلى وجهي فقال : ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2).
ص: 381
فقلت له : شيخنا! أصحيح أن عمر بن الخطاب دخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فوجده ميِّتاً مسجَّى ببردته ، فأغلق الباب عليه ، وشهر سيفه ، يهدِّد الناس ، ويمنعهم من القول بأن محمّداً قد مات ، ويقول : من قال إن محمّداً قد مات ضربته بسيفي هذا ، محمّد لم يمت ، إنما ذهب إلى ميقات ربِّه كموسى بن عمران ، وسيرجع بعد أربعين يوماً ، فيقطع أيدي رجال وأرجلهم؟ (1)
فقال : نعم ، هذا الحديث صحيح لا غبار عليه.
فقلت له : شيخنا! هل اللّه قال : إن محمَّداً لم يمت؟
قال : لا.
قلت : فهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إني لم أمت؟
قال : لا.
ص: 382
قلت : فهل جبرئيل نزل على عمر فقال له : إن محمَّداً لم يمت؟
قال : لا.
قلت : أما كان عمر يقرأ قول اللّه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (1) معنى ذلك أن عمر تكلَّم بما لا يتطابق مع الواقع ، بل تكلَّم ضدَّ اللّه ورسوله وجبرئيل والقرآن.
ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، ووجه الشيخ يتغيَّر ، وقبل أن يتكلَّم قلت : اللّهم إلاَّ أن يقال : إن عمر كان يهجر ، وحتى هذا الاعتذار ساقط من الحسبان ; لأن الرجل عندما يهجر يختلُّ كلامه لفظاً ومعنى ; لأنه فاقد الشعور ، لا يدرك ما يقول ، وعلى عكس ما يقوله عمر ، حيث تكلَّم بكلام فصيح ، فلا ركّة في المعنى ، ولا هجر في القول.
ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، وإذا بالشيخ ينظر إلى الساعة في يده قائلا : عندي موعد ، يا اللّه ، فنهض قائماً فتفرَّقنا بلا عودة.
ثمَّ التقيت بالرجل المثقَّف ، فقلت له : بماذا حكمت؟
فقال : إذا كان دليل الشيعة هكذا ، وعلماء السنة هكذا ، فعلى هذا الأساس اعتبرني شيعيّاً ، وبعد مدّة استبصر ذلك المثقَّف ، والحمد لله (2).
ص: 383
قال السيِّد حسين الرجا : اصطحبني ذات ليلة أحد المحبّين إلى بيت أحد المشايخ لغرض الاستشفاء ، فاستقبلنا ورحَّب بنا ، فقبَّلت يده ، ولمَّا استقرَّ بنا المجلس قال الشيخ : يا حاج حسين! أصحيح ما سمعناه عنك؟
فقلت له : نعم شيخنا.
فقال : تكلَّم لنا كيف استحوذ عليك الشيعة بأعظم مصيبة ، هي المصيبة في الدين؟
فقلت له : شيخنا! لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنة ، وبالأخصّ صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة. وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنة من كتبهم.
ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكّي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيُّع ، وفي مثل هذه القضايا تزلُّ الأقدام ، فخفت على نفسي من زلَّة القدم ، وأصبحت مريضاً ولا علاج لي إلاَّ عند العلماء ، وإلاَّ فمرضي لا
ص: 384
ترجى براءته.
فأطرق الشيخ دقيقة صمت ، ثمَّ نظر إليَّ نظر العالم المتمكِّن والمتحدّي ، فقال : يا حاج حسين! لا يمكن أن الصحابة يغلطون أو يزلّون ، وإذا الصحابة يغلطون أو يزلّون ، أو يأثمون ويجرمون ، أو يتعاطون المعاصي فأنا أشرط عمامتي وأضعها في بيت الماء - يعني يمزِّقها ويضعها في المرحاض.
ولمَّا أنهى الشيخ كلامه أطرقت رأسي ، ولم أردَّ جواباً ، وشرع ذهني يتجوَّل بين ثلاثة محاور ، تارة في مكتبة الشيخ التي تضمُّ صحيحي مسلم والبخاري ، وتارة في عمامته التي أصيغت على طراز أبدع ما تصاغ به العمائم ، وثالثة أفكِّر في المرحاض الذي لا يبعد كثيراً عن مجلس الحوار ، فأخذني صراع داخلي ، فتارة تحمل عليَّ نفسي فأكاد أن أقول للشيخ : آتني بمجلَّد كذا ورقم كذا وباب كذا وكذا في مسلم والبخاري ، وتارة أحمل عليها فأسكتها ، فو اللّه ما منعني عن ردّ التحدّي إلاَّ شيمي وأخلاقي ، ولأن الردَّ خطير.
وبعد الحوار الذي هو أقرب إلى كونه صبياني تفرَّقنا ، ولمَّا دخلت بيتي وأخذت مضجعي أدركتني بركة الشيخ ، فاستفدت كثيراً ، غير أنها من نوع سلبي ونتيجة عكسيَّة ، حيث قرَّرت أن لا أموت إلاَّ شيعيّاً على طريق محمَّد صلی اللّه علیه و آله .
وعلمت أن الشيخ مأسور الفكر والدراسة ، وأدركت أن كثيراً ما يوجد في العالم الإسلامي من عالم بلا علم ، وعمامة بلا معمَّم ، وأيقنت أن طلب العلم للعلم هو غيره عن طلب العلم للوظيفة والاكتساب (1).
ص: 385
قلت له : ومع ذلك ، فإن الرسول صلی اللّه علیه و آله يقول : لا تسبّوا أصحابي.
وبهذه الكلمة البائسة الغبيّة المصحوبة بتماوج كاريكاتوري يختزل وقاراً مصطنعاً .. استطعت أن أسكت صديقنا (1).
قال إدريس الحسيني في موضع آخر : وذات مرَّة قلت لأحد المشائخ الكبار : عجباً! لست أدري كيف يقبل المسلمون بأمثال الحجاج بن يوسف الثقفي ، ذلك السفاح ، ما وقَّر عالماً ولا عاميّاً؟ (2)
فقال شيخنا الموقَّر : أعوذ باللّه ، نحن السنة والجماعة نعتقد في إيمانه وإسلامه ، وقد قال فيه العلماء خيراً رغم كل ذلك ، فهو من الصالحين ، لأنه شكل القرآن؟ (3).
ويقول السيد إدريس الحسيني في كتابه القيِّم ( لقد شيَّعني الحسين علیه السلام )
ص: 387
في سبب تشيُّعه وأخذه بمذهب أهل البيت علیهم السلام : ما إن خلصت من قراءة مذبحة كربلاء بتفاصيلها المأساويّة حتى قامت كربلاء في نفسي وفكري ، ومن هنا بدأت نقطة الثورة ; الثورة على كل مفاهيمي ومسلَّماتي الموروثة ; ثورة الحسيني علیه السلام داخل روحي وعقلي ، إلى أن يقول : فكربلاء مدخلي إلى التأريخ ، إلى الحقيقة ، إلى الإسلام ، فكيف لا أجذب إليها جذبة صوفي رقيق القلب ، أو جذبة أديب مرهف الشعور؟! وتلك هي المحطة التي أردت أن أنهي بها كلامي عن مجمل معاناة آل البيت علیهم السلام ، وظروف الجريمة التأريخية ضدَّ نسل النبي صلی اللّه علیه و آله .
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : من قتل الحسين علیه السلام ؟ أو بتعبير أدقّ من قتل من؟ نحن لا نشك في أن مقتل الحسين علیه السلام هو نتيجة وضع يمتدُّ بجذوره إلى السقيفة ، إلى أخطر قرار صدر بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وكان ضحيَّته الأولى : آل البيت علیهم السلام ، ونلاحظ من خلال حركة التاريخ الإسلامي أن محاولة تهميش آل البيت ، وقمع رموزهم بدأ منذ السقيفة ، ورأيي لو جازف الإمام علي وفاطمة الزهراء علیهماالسلام لكان فعلا أحرقوا عليهم الدار ، ولكان شيء أشبه بعاشوراء وكربلاء الحسين علیه السلام (1).
والجدير بالذكر هنا هو ما أنشده القاضي أبو بكر بن أبي قريعة ( المتوفَّى 367 ) في هذا المعنى ، حيث يقول :
يَا مَنْ يُسَائِلُ دائباً *** عن كلِّ مُعضِلَة سخيفه
لاَ تَكْشِفَنَّ مُغَطَّأً *** فَلَرَبَّما كَشَّفْتَ جِيْفَه
ص: 388
وَلَرُبَّ مَستُور بَدَا *** كالطبلِ مِنْ تَحْتِ القطيفه
إِنَّ الجَوَابَ لَحَاضِرٌ *** لكنَّني أُخفِيْهِ خِيْفَه (1)
لو لا اعتذارُ رَعِيَّة *** ألغى سِيَاسَتَها الخليفه
وَسُيُوفُ أعْدَاء بها *** هَامَاتُنا أبداً نقيفه
لَنَشَرْتُ مِنْ أَسْرَارِ *** آلِ محمَّد جُمَلا طريفه
تُغنِي بِها عمَّا رَوَاهُ *** مَالِكٌ وأبو حنيفه
وَأَرَيْتُكُمْ أَنَّ الحُسَيْنَ *** أُصيِبَ في يَوْمِ السقيفه
وَلاَِيِّ حَال أُلْحِدَتْ *** باللَّيلِ فَاطِمَةُ الشريفه
وَلِما حَمَتْ شَيْخَيْكُمُ *** عَنْ وَطْيِ حُجْرَتِها المنيفه
آه لِبِنْتِ محمَّد *** ماتت بِغُصَّتِها أسيفه (2)
جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : فأمَّا الكعبة فإن الحجاج في أيام عبدالملك هدمها ، وكان الوليد بن يزيد يصلّي إذا صلى أوقات إفاقته من السكر إلى غير القبلة ، فقيل له ، فقرأ : ( فَأَيْنََما تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (3).
وخطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمدينة ، فقال : تبّاً لهم! إنّما يطوفون بأعواد ورمَّة بالية! هلاّ طافوا بقصر
ص: 389
أميرالمؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله! (1)
وروى أبو داود في سننه بسنده عن المغيرة عن الربيع بن خالد الضبي قال : سمعت الحجاج يخطب ، فقال في خطبته : رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه ، أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي : لله عليَّ ألا أصلِّي خلفك صلاة أبداً ، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنَّك معهم (2).
وقال الأوزاعي : قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بخبيثها ، وجئنا بالحجاج لغلبناهم (3).
وقال أبو بكر بن عياش : عن عاصم بن أبي النجود : ما بقيت لله حرمة إلاَّ وقد ارتكبها الحجاج.
وقال عبد الرزاق : عن معمّر ، عن ابن طاووس أن أباه لما تحقَّق موت الحجاج تلا قوله تعالى : ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (4) (5).
وقال ابن حجر في ترجمته : حجاج بن يوسف بن أبي عقيل الثقفي ، الأمير الشهير ، ولد سنة (45) أو بعدها بيسير ، ونشأ بالطائف ، وكان أبوه من شيعة بني أمية ، وحضر مع مروان حروبه ، ونشأ ابنه مؤدِّب كتّاب ، ثمَّ لحق بعبد الملك بن مروان ، وحضر مع قتل مصعب بن الزبير ، ثمَّ انتدب لقتال عبداللّه بن الزبير بمكة ،
ص: 390
فجهَّزه أميراً على الجيش ، فحضر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق إلى أن قتل ابن الزبير.
وقال جماعة : إنه دسَّ على ابن عمر من سمَّه في زجّ رمح (1) ، وقد وقع بعض ذلك في صحيح البخاري ، وولاَّه عبدالملك الحرمين مدّة ، ثمَّ استقدمه فولاَّه الكوفة وجمع له العراقين ، فسار بالناس سيرة جائرة واستمرَّ في الولاية نحواً من عشرين سنة ، وكان يزعم أن طاعة الخليفة فرض على الناس في كل ما يرومه ، ويجادل على ذلك ، وخرج عليه ابن الأشعث ومعه أكثر الفقهاء والقرَّاء من أهل البصرة وغيرها ، فحاربه حتى قتله ، وتتبَّع من كان معه فعرضهم على السيف ، فمن أقرَّ له أنه كفر بخروجه عليه أطلقه ، ومن امتنع قتله صبراً ، حتى قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم.
وأخرج الترمذي من طريق هشام بن حسان : أحصينا من قتله الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً.
وقال زاذان : كان مفلساً من دينه ، وقال طاووس : عجبت لمن يسمّيه مؤمناً ، وكفَّره جماعة منهم سعيد بن جبير ، والنخعي ، ومجاهد ، وعاصم بن أبي النجود ، والشعبي .. وغيرهم.
وقالت له أسماء بنت أبي بكر : أنت المبير الذي أخبرنا به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
وروى ابن أبي الدنيا بسنده ، عن زيد بن أسلم قال : أغمي على المسور بن مخرمة ، ثمَّ أفاق فقال : أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه ، وأن محمّداً رسول اللّه أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها ، إلى أن قال : وعبدالملك والحجاج يجرّ ان أمعاء هما في النار.
ص: 391
قال : قلت : هذا إسناد صحيح ، ولم يكن للحجاج حينئذ ذكر ، ولا كان عبدالملك ولي الخلافة بعد ; لأن المسور مات في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد ابن معاوية من الشام ، وذلك في ربيع الأول سنة (64) من الهجرة.
وقال القاسم بن مخيمرة : كان الحجاج ينقض عرى الإسلام عروة عروة.
وقال موسى بن أبي عبدالرحمن النسائي عن أبيه : ليس بثقة ولا مأمون.
وقال الحاكم أبو أحمد : ليس بأهل أن يروى عنه.
ومما يحكى عنه من الموبقات قوله لأهل السجن : ( اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ) مات سنة (1) بواسط وهو الذي بناها ، وقيل إنه لم يعش بعد قتل سعيد بن جبير إلاَّ يسيراً.
وقال الأصمعي : عن أبي عمرو بن العلاء : لمَّا مات الحجاج ، قال الحسن : اللّهم أنت أمته فأمت سنَّته.
وعن أشعث الحداني - وكان يقرأ للحجاج في رمضان - قال : رأيته في منامي بحالة سيئة ، فقلت : يا أبا محمّد! ما صنعت؟ قال : ما قتلت أحداً بقتلة إلاَّ قتلت بها ، قلت : ثمَّ مه؟ قال : ثمَّ أمر به إلى النار .. (1).
ص: 392
قال الشيخ مروان خليفات (1) : في وقت الغروب ، وفي إحدى طرق القرية كنت مع صديقي الشيعي ، كان لا يأتي علينا يوم إلاَّ ويحتدُّ النقاش بيننا ، تمنَّيت في وقتها أن يصبح هذا الصديق سنّيّاً ، وعزمت أن أنقله من مذهبه إلى المذهب الشافعي ، وجرت الأيام ، والتحقت بكليَّة الشريعة ، وفي الدروس كان مشايخنا يتطرَّقون إلى الشيعة ، وكان البعض منهم يكفِّرهم ، ومع أني كنت على المذهب الشافعي إلاَّ أني بدأت أتأثَّر بما يطرحه أساتذتي السلفيَّة خاصة في العقيدة ، فقمت أردِّد معالم العقيدة السلفيَّة وكأني مقتنع بها ، وكنت أعرض هذه العقيدة مع ذكر الأدلّة على صديقي الشيعي ، وكذا ما يقال عن الشيعة في قاعة الدرس ، وذلك كي أبدأ بهدايته ، لكنَّه كان يردُّ عليَّ بكلِّ قوَّة.
ص: 393
وفي أثناء مسيرنا ، وبينما كنت أحدِّثه عن فضائل أبي بكر وعمر قاطعني قائلا كالمنتصر : رزيَّة الخميس.
قلت : خيراً! ماذا تقصد؟
قال : إنها حادثة كانت قبل وفاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بأيام ، حيث قال النبي صلی اللّه علیه و آله لأصحابه : ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً ، فقال عمر : إن النبيَّ غلبه الوجع أو يهجر ، حسبنا كتاب اللّه.
فقلت له : هل وصل بكم الأمر أن تنسبوا هذا الكلام للفاروق الذي ما عصى النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قط؟
قال : تجد هذه الحادثة في صحيح البخاري ومسلم.
عندئذ يئست من جوابه ، وشعرت بالهزيمة ، وقلت فوراً : وإن قال ذلك يبقى صحابيّاً ، أسأل اللّه الغفران ، عبارة لم تأت صدفة ولكنها تعبير عن عقيدة ترسَّخت في أذهاننا ، وأردفت : في أيِّ كتاب قرأت هذه الحادثة؟ لأنني وان وقفت موقف المعاند الذي هزم ولم يعترف ، لكنني كنت أتعصَّر ألماً.
فقال : في كتاب ( ثمَّ اهتديت ) لأحد علمائكم الذين تشيَّعوا.
قلت ساخراً : وهل هناك عالم من علمائنا تشيَّع؟!
قال : نعم ، فالتيجاني صاحب هذا الكتاب يذكر كيف تشيَّع ، وأسباب تشيُّعه وطلبت الكتاب منه ، وبدأت بقراءته فوراً ، ورزيَّة الخميس تدور في ذهني ، وأتوجَّس خيفة لعلي أجدها ، فأخذتني قصَّة الكاتب الممتعة ، وأسلوبه الجذَّاب ، وقرأت نصوص إمامة آل البيت علیهم السلام ، ومخالفات الصحابة للرسول صلی اللّه علیه و آله ، ورزيَّة الخميس ، والمؤلِّف يوثِّق كلَّ قضيَّة من صحاحنا المعتبرة ، فدهشت لما أقرأ ، وشعرت أن كلَّ طموحاتي انهارت وسقطت أرضاً ، وحاولت
ص: 394
إقناع نفسي بأن هذه الحقائق غير موجودة في كتبنا.
وفي اليوم الثاني عزمت على توثيق نصوص الكتاب من مكتبة الجامعة ، وبدأت برزيَّة الخميس فوجدتها مثبتة في صحيح مسلم والبخاري بعدّة طرق ، وكان أمامي احتمالان : إمَّا أن أوافق عمر على قوله فيكون النبي صلی اللّه علیه و آله يهجر والعياذ باللّه ، وبهذا أدفع التهمة عن عمر ، وإمَّا أن أدافع عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وأقرُّ بأن بعض الصحابة بقيادة عمر ارتكبوا خطأ جسيماً بحقِّ النبيِّ صلی اللّه علیه و آله حتى طردهم ، وهنا أتنازل أمام صديقي عن معتقدات طالما ردَّدتها ، وافتخرت بها أمامه.
وفي نفس اليوم سألني صديقي عن صحّة ما في الكتاب ، فقلت وقلبي يعتصر ألماً : نعم ، صحيح.
بقيت فترة حائراً ، تأخذني الأفكار شرقاً وغرباً ، وعرض عليَّ صديقي كتاب ( لأكون مع الصادقين ) لمؤلِّفه التيجاني ، وكتاب ( فاسألوا أهل الذكر ) وغيرها ، فكشفت هذه الكتب أمامي حقائق كثيرة ، وزادت حيرتي وشكي ، وحاولت إيقاف حيرتي بقراءة ردود علمائنا على هذه الحقائق ، لكنَّها لم تنفعني بل زادتني بصيرة ، وقرأت كتباً كثيرة لا يسعني ذكرها ، فكانت ترسم لي صورة الحقيقة بألوان من الحجج الدامغة التي كان عقلي يقف مبهوراً محتاراً أمامها ، فضلا عن حيرة علمائنا في التعامل معها ، إلى أن اكتملت الصورة في ذهني كالشمس في رابعة النهار ، واعتنقت مذهب آل البيت الأطهار علیهم السلام ، أبناء الرسول صلی اللّه علیه و آله وأشقّاء القرآن ، وأولياء الرحمن ، سفن النجاة ، وأعلام الورى ، ورحمة اللّه للملأ ، بكل قناعة واطمئنان قلب.
وها أنا الآن - وبعد تخرُّجي من كليَّة الشريعة - على يقين تام بصحّة ما أنا عليه ، أقول هذه الكلمات ويمرُّ بذهني كيف عزمت على هداية صديقي الشيعي
ص: 395
وأهله ، وإذا بالصورة قد انعكست فكان هو سبب هدايتي ، وفَّقه اللّه.
ولا أنسى تلك اليد ; يد الرحمة الإلهيَّة ، كانت تعطف عليَّ باستمرار أيَّما عطف ، فلك الحمد ربَّاه حمداً يليق بجلالك العظيم ، ومنِّك الجسيم (1).
ص: 396
تقول الأستاذة لمياء حمادة (1) في بداية اكتشافها للحقيقة : وربَّ صدفة ، ولحسن الحظّ وخير الطالع ، وأثناء دراستي في الجامعة دخلت علينا طالبة جديدة ، وكانت عراقيَّة ، وقد تهجَّرت من بلادها مع ذويها إلى بلدنا طلباً للأمان.
وقد انخرطت في الدراسة بالجامعة ، واختارت كليَّتنا ; لأن طلابها ملتزمون ، مع أنه كان بإمكانها أن تختار كليَّة أعلى من كليَّتنا ; لأنها كانت من المتفوِّقين في كليَّة الطبِّ في بلدها.
وكانت هذه الفتاة واسمها ( بتول ) - تجلس في المقعد الأخير في القاعة ، ودائماً تلبس العباءة السوداء والخمار يغطي رأسها حتى ذقنها وياله من حجاب
ص: 397
يدلُّ على التزامها الدينيّ ، وانتصارها على تقلُّبات العصر ، وهفوات التقدّم والموضة.
ولكن لمَّا عرفنا - نحن طلاب كليَّة الشريعة - بأنها عراقيَّة تيقّنّا بأنّها شيعيَّة ، وكثيراً ما كنَّا نتحرَّش بها قاصدين السخرية والاستهزاء بها ; لأنها - حسب اعتقادنا ومعلوماتنا الخاطئة طبعاً - أنها ومن يتبع هذا المذهب غير مسلمين ، فهم يعبدون عليَّ بن أبي طالب ، والمعتدلون منهم فقط يعبدون اللّه ، ولكنهم لا يؤمنون برسالة محمَّد صلی اللّه علیه و آله ، ويشتمون جبرائيل ويقولون بأنه خان الأمانة ، فبدلا من أداء الرسالة إلى علي علیه السلام أدَّاها إلى محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأنهم ينزِّلون أئمّتهم منزلة الآلهة ، وأنهم يقولون بالحلول ، وأنهم يسجدون للقرص الحجريّ من دون اللّه ، وأنهم أشدُّ على الإسلام من اليهود والنصارى ، لأن هؤلاء يعبدون اللّه ويؤمنون برسالة موسى علیه السلام ، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون علياً ويقدِّسونه.
ومع كل هذا التقريع وهذه السخرية والأخت بتول لا تردُّ علينا ، وتقول في كل مرة : سامحكم اللّه ، هداكم اللّه ، ليتكم تعلمون الحق ، أستغفر اللّه لي ولكم.
وهكذا إلى أن جاء يوم من الأيام - وهو بالنسبة لي يوم التحوُّل الكبير - جئت في هذا اليوم متأخِّرة عن موعد المحاضرة ، فلم أجد مكاناً إلاَّ إلى جانب هذه الفتاة بتول ، وكنت قبلا لا أجلس إلى جانبها أبداً ، تحسُّباً منها على أنها كافرة ، أو أنها جاسوسة تريد أن تعرف تفاصيل مذاهبنا لتنقلها إلى فرقتها.
جلست وأنا مستاءة منها نوعاً ما ، ثمَّ قلت في نفسي : ما لي وما لها؟ كل واحدة منّا في حالها ، وبالصدقة كانت المحاضرة يومذاك عن المذهب الشيعيّ ، وبدأت المحاضرة وكلُّنا مصغون إلى ما يقال عن ذلك المذهب ، وبتول تندهش
ص: 398
وتندهش من كل ما يقال عنهم ، وتتمتم أثناء المحاضرة بأن لعنة اللّه على الظالمين .. سامحكم اللّه .. أذناب بني أمية .. أتباع معاوية ... وهكذا إلى أن انتهت المحاضرة وبتول تكاد تنفجر من الغيظ.
فقلت لها : لماذا أنت مغتاظة ومتضايقة؟ أليس ما قاله الدكتور المحاضر عنكم صحيحاً؟ فابتسمت بتول عندها وقالت : إذا كان الأستاذ يفكِّر بهذا الشكل فلا لوم على الطلاب ، وإذا كان تفكير الطلاب هكذا فلا لوم على عامة الناس الذين لا ثقافة لهم.
قلت : ماذا تقصدين؟
أجابت : عفواً ، ولكن من أين لكم هذه الادّعاءات الكاذبة؟
قلت : من كتب التاريخ ومما هو مشهور عند الناس كافّة.
قالت : هل عندكِ الوقت للمناقشة؟
تردَّدت قليلا ثمَّ أجبت : ربّما بعض الوقت ، وأخذنا نتمشَّى إلى الكافتيريا ، فطلبت القهوة وجلسنا نتحدَّث.
قالت : لنترك الناس كافة ، الذين يعتمدون على الصحاح بالدرجة الأولى ، ولكن أنتِ هل قرأت شيئاً من الكتب عنّا؟
قلت : نعم ، مثل : ظهر الإسلام ، وفجر الإسلام ، وضحى الإسلام لأحمد أمين ، وغيرها كتب كثيرة.
قالت : ومتى كان أحمد أمين حجَّة على الشيعة؟ أليس عليكم أن تتبيَّنوا الأمر من مصادره الأصليّة المعروفة.
قلت : وكيف لنا أن نتبيَّن في أمر كهذا.
ص: 399
قالت : إن أحمد أمين نفسه زار العراق ، وقد التقى بأساتذة عدّة في النجف ، وعاتبوه على كتاباته عن الشيعة ، فاعتذر قائلا : إني لا أعلم عنكم شيئاً ، ولم أتصّل بالشيعة من قبل ، وهذه أول مرَّة ألتقي فيها بالشيعة ، فقلنا له : إذن لم تكتب عنا القبيح؟ قال : هكذا ورثنا عن الناس نظرتهم إليكم.
وتابعت : أرأيتِ هذا الافتراء؟ وهكذا خذي كل ما يقال عنّا على هذا المنوال ، فهو أكاذيب مغرضة حاقدة.
قلت : دعينا من أحمد أمين هذا ، وأخبريني عن حقائق عديدة تقال عنكم.
فقاطعتني قائلة : إذا كنتِ تريدين تمضية الوقت والكلام لمجرَّد الكلام فأنا آسفة ، والأفضل أن أذهب ، وأمَّا إذا أردتِ الاستفادة حقّاً ، والتأكُّد من مظلوميَّتنا فلكِ ما تريدين ، ووقتي لكِ كلُّه.
قلت : لا واللّه ، معاذ اللّه أن أتكلَّم معكِ لمجرَّد الكلام ، ولكني أحببتكِ فعلا ، وأحسست بأنّكِ مظلومة ، وعندكِ حجج كثيرة أردت قولها أثناء المحاضرة ، ولكنَّكِ لم تجرؤي ، فلم يا ترى؟
قالت : الكلام مع هؤلاء الناس كعدمه ، وربَّما جرَّتنا المناقشة أن أضع من شأن مذهبي وديني من جرَّاء مناقشتي مع جهَّال كهؤلاء ، فقد قال الإمام علي علیه السلام : ناقشت جاهلهم فغلبني ، وناقشت عالمهم فغلبته (1).
قلت : فلنبدأ ، فقاطعتني وقالت : إذن صلي على محمَّد وآل محمّد ،
ص: 400
فتعجَّبت وقلت في نفسي : هؤلاء الذين نتّهمهم نحن بالخروج عن الدين يحافظون عليه أكثر منّا.
فقلت : اللّهم صلِّ على محمّد وآله وصحبه أجمعين ، فتبسَّمت قليلا وقالت : تابعي ، فقلت لها : لأيِّ المذاهب ينتمي مذهبكم؟
قالت : المذهب الجعفريّ.
قلت : عجباً! ما هذا الاسم الجديد؟! نحن لا نعرف غير المذاهب الأربعة ، وما عداها فليس من الإسلام في شيء.
وابتسمت قائلة : عفواً ، إن المذهب الجعفري هو محض الإسلام المحض ، ألا تعرفين أن الإمام أبا حنيفة تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق علیه السلام ؟ وفي ذلك يقول أبو حنيفة : ( لولا السنتان لهلك النعمان ) (1).
فسكتُّ ولم أردَّ ، وقالت : إن المذاهب الأربعة أخذ بعضهم عن بعض ، فأحمد بن حنبل أخذ عن الشافعي ، والشافعي أخذ عن مالك ، وأخذ مالك عن أبي حنيفة ، وأبو حنيفة أخذ عن جعفر الصادق ، وعلى هذا فكلُّهم تلاميذ لجعفر بن محمّد علیه السلام ، وهو أول من فتح جامعة إسلاميَّة في مسجد جدِّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد تتلمذ على يديه أكثر من أربعة آلاف محدِّث وفقيه.
وسألتني مقاطعة نفسها : أيَّ الأئمَّة تقلدين؟
قلت : الإمام أبا حنيفة!
قالت : كيف تقلِّدين ميِّتاً بينك وبينه قرابة أربعة عشر قرناً ، فإذا أردت أن تسأليه الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك؟
ص: 401
فقلت لها بسرعة البديهة : وأنت إمامك ميِّت ، فكيف تقلِّدينه؟
قالت : إن إمامي حيٌّ غائب ، وفي غيبته نقلِّد أحد المجتهدين الورعين ، ولا يجوز عندنا تقليد الميت.
وأخبرتني عندها كيف على الإنسان أن يعرف إمام زمانه ، فقد قال صلی اللّه علیه و آله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (1) ، وأنا إمام زماني هو صاحب الزمان الإمام المهدي علیه السلام ، وهذا موضوع طويل يحتاج لشرح.
قلت : حسناً ، هذه اقتنعت بها .. لننتقل إلى الثانية : إنكم تعبدون عليّاً وتقدِّسونه ، أليس كذلك؟
قالت : ألم تقرأي قول اللّه سبحانه وتعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (2) وقوله : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ) (3) ،
ص: 402
وقوله : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (1)؟
قلت : بلى ، أعرف هذه الآيات.
قالت : فأين هو علي؟ فالقرآن نفسه عندنا وعندكم ، ويقول بأن محمّداً هو رسول اللّه ، فمن أين جاء هذا الاتّهام الباطل؟
قلت : هذه أقنعتيني بها ، فماذا عن خيانة جبرئيل؟
قالت : حاشاه ، هذه أقبح من الأولى ، لأن محمّداً صلی اللّه علیه و آله كان عمره أربعين سنة عندما أرسل اللّه سبحانه إليه جبرئيل علیه السلام ، ولم يكن عليٌّ إلاَّ صبيّاً صغيراً ، عمره ست أو سبع سنوات ، فكيف يخطئ جبرئيل ، ولا يفرِّق بين محمَّد الرجل وعليٍّ الصبيّ؟!
فقلت : هذا منطقيٌّ جدّاً ، كيف لم نحلِّل نحن بهذا المنطق؟
أضافت : إن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كلِّ الفرق الإسلاميَّة الأخرى ، التي تقول بعصمة الأنبياء والأئمّة ، فإذا كان أئمّتنا عليهم سلام اللّه معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا ، فكيف بجبرائيل وهو ملك مقرَّب ، سمَّاه الربُّ الروح الأمين؟!
فاحترت وتلكَّأت ، وقلت في نفسي : قبل أن نسألهم عن اختلافهم عنّا في اعتقاداتهم ، لنسأل أنفسنا نحن السنة : لماذا تتعدَّد مذاهبنا وتختلف فيما بينها؟
قلت : إذن كل ما يقال عنكم افتراء؟
قالت : سامحكم اللّه.
اعتذرت منها لضيق الوقت ، وودَّعتها طالبة منها زيارتي في القريب
ص: 403
العاجل ; لأنني تلهَّفت كثيراً لسماع المزيد من ردود الشيعة على الأقاويل التي يدانون بها.
فشكرتني وتمنَّت هي بدورها لي الخير والهداية ، فقلت في نفسي بعدما مشيت خطوات عدّة : هل سيأتي يوم وأصبح فيه شيعيَّة؟ ثمَّ استبعدت الفكرة ، وقلت : لا ، هكذا كان آباؤنا وأجدادنا ، فهل من المعقول أن يكونوا كلُّهم على ضلال؟ وهل أنا الوحيدة في عائلتي سأكون على نور وبيِّنة؟ لا ، لا .. هذا مستحيل ، أستغفر اللّه وأتوب إليه.
وبعد أيام عدّة جاءت بتول لعيادتي ، فقد كنت متوعِّكة قليلا ، ولم أذهب إلى الكليَّة لأيام عدّة ، فأهدتني طاقة من الورد ومعها مصحف ، ففتحته ووجدته مثل مصحفنا تماماً ، فقلت لها : يقولون إن لكم مصحفاً خاصاً بكم؟
قالت : أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه ، وأن محمَّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله الطيِّبين الطاهرين ، هؤلاء المفترون أعداء الإسلام يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض ، فنحن نعبد اللّه وحده لا شريك له ، وقرآننا واحد ، ونبيُّنا واحد ، وقبلتنا واحدة ، نشترك معكم في هذه الأمور ، وربما نختلف عنكم أنتم السنة في بعض الأمور الفقهيَّة وبعض الأمور العقائديَّة.
فقلت لها : زيديني زادك اللّه من علمه.
قالت : عن ماذا تريدين أن تستفسري؟
قلت : حدِّثيني عن أحقّيّة عليٍّ علیه السلام في الخلافة كما تزعمون .. حدِّثيني عن التربة الحسينيّة ( قرص الطين الذي تسجدون عليه ) ، عن الحسين علیه السلام ، ولماذا يبكي الشيعة ويلطمون؟ حدِّثيني عن توسُّلكم وتبُّرككم بأضرحة أئمَّتكم ، حدِّثيني كيف تجعلون من أبي بكر وعمر وعثمان أشخاصاً عاديين ، وأحياناً
ص: 404
تشتمونهم ، وتسبُّون بعض أزواج النبي صلی اللّه علیه و آله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ... أخبريني لماذا وضوؤكم غير وضوئنا .. ولماذا صلاتكم غير صلاتنا ، وماذا عن الزواج المؤقَّت ، والتقيَّة ، والرجعة ، والخمس ، وتأويلكم لآيات القرآن في عليٍّ وذرّيّته علیهم السلام آيات لا نعرفها ، وماذا عن مصحف فاطمة علیهاالسلام ؟
ذكرت كل تساؤلاتي ، وكانت هي مبتسمة ، وبدا أنها مستعدّة لكل سؤال يطرح عليها ، وأنها واثقة من نفسها تماماً.
فقالت : هل تريدين الحقَّ؟ لقد أحببتك يا أختي لمياء ، وأتمنَّى منك أن تقبلي هديّتي المقبلة ، كتب عدّة ، اقرأيها ، وسوف تجدين ملاذك عن كل سؤال طرحتيه عليَّ ... فأنا إن أجبتك عن كل سؤال لا يكفينا أيام السنة كلّها ، ونحن نتناقش في صحّة كلامي وعدمه ، أمَّا إذا قرأتِ عن أشخاص عدّة استبصروا ، وعرفوا طريق الحق ، كانوا من أهل السنة وأصبحوا من الشيعة ، لوجدتِ برهاناً دامغاً ساطعاً ، وحجّة عليكِ من كتبكم ، ولن أطلعك على كتبنا حتى تطلبيها أنتِ بعد قراءتك لكتب المتشيِّعين.
شكرتها وتمنَّيت منها أن تزورني وترسل لي الكتب بأسرع وقت ، فأنا شغفة ومتشوِّقة لقراءتها ، عسى ولعلَّ أن أجد فيها شفاء لشكوكي ووساوسي الدفينة حول الاختلاف الدائر بين المذاهب الأربعة المعروفة.
وفعلا ، لم تكذِّب خبراً ، فبعد ثلاثة أيام جائتني بكثير من الكتب ، وقالت لي : سآتي في الأسبوع القادم لأخذك معي لحضور عاشوراء ، فتردَّدت قليلا في قبول الدعوة ، ثمَّ قبلت وأنا حيرانة ، وقلت : حسناً كما تريدين ... ثمَّ انكببت على الكتب ليل نهار وأنا أقرؤها من الجلدة إلى الجلدة - كما يقولون - فقد استهواني
ص: 405
تحليل كل كاتب منهم القضايا العالقة بين السنة والشيعة ، وفاجأني الكل بقصّة لم أسمع بها من قبل ، رزيَّة يوم الخميس ، إنها فضيحة فظيعة لا تصدَّق ، ولكن عندما ذيَّل الكاتب الصفحة بأنها من كتب السنة : صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، ومسند الإمام أحمد ، وتاريخ الطبري ، وتاريخ ابن الأثير.
فكيف بعد هذا الذي قرأته أكذِّب نفسي وأقول : إنه قول جماعة لا يحبُّون الخلفاء الثلاثة ويكرهونهم ، أليس ذلك مذكوراً في الصحاح؟ فخطر لي أن أبحث عن تلك الصفحات في الصحاح لأتأكَّد ، وتمنَّيت أني لو لم أجدها ، لكنَّ البخاري ذكرها ، ومسلم ذكرها ، وكلُّهم ذكروها ، وأمرونا أن نتبع أبا بكر وعمر ، وأخبرونا بأنهم عدول لا يذنبون.
ومن هنا ملت إلى الشيعة أكثر فأكثر ، لأن تحليلهم لكل الأمور منطقيٌّ ، أكملت قراءة كل كتب التيجاني ، والشيخ محمّد مرعي أمين الأنطاكي ، وكتاب ... و ... و ... وكلُّهم سنة تشيَّعوا ، ولم أسمع بحياتي عن شيعيٍّ قد تسنَّن.
إن رزيَّة الخميس وحدها كافية لأن تشيِّعني ، ليتك - يا عزيزي القارئ - تعرفها لتعرف أني على حقّ ، إنها قصّة يندى لها الجبين ، وهي عار على أهل السنة في كتبهم ، فلا نؤاخذ المستشرقين عندما يكتبون عن رسولنا صلی اللّه علیه و آله ما يكتبون ، فهم قد استندوا في دعاويهم على كتبنا المليئة بمثل هذه الروايات عن الرسول صلی اللّه علیه و آله .
لقد قرأت الكتب واقتنعت بها ، وأنا مندهشة حيناً لما أقرأ ، ومستاءة حيناً آخر على الدهر الذي أمضيته وأنا عمياء البصيرة .. فالشيعة على حقٍّ ونحن على باطل ، وهم يتمسَّكون باللبِّ ونحن نتمسَّك بالقشور ، هم الذين يجب أن يُسَمَّوا أهل السنة ; لأنهم لم يغيِّروا ما جاء به محمّد صلی اللّه علیه و آله ، أمَّا نحن فاتّبعنا سنّة أبي بكر
ص: 406
وعمر ومعاوية.
أقولها وبكل صراحة : إن الحقَّ هو اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، الذين أوصى النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بالتمسُّك بهم فقال : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب اللّه ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما (1).
وقال صلی اللّه علیه و آله : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها هلك (2).
آه وا أسفاه على ماض كنت فيه مغمضة العينين ، أمشي مع أقراني وقومي وهم على طريق الضلالة ، ولكن الحمد لله الذي هداني بفضل هذه الفتاة المؤمنة الصادقة النيَّة ، وليهنأ وليعتزَّ بنفسه كل شيعي ، فهو الذي يتمسَّك بالعروة الوثقى ، وهو من الفرقة الناجية التي حدَّث عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث له.
انتهيت من قراءة الكتب وقد تشيَّعت تماماً ، وطويت صفحة الأيام الماضية ، وقرَّرت أن أبدأ من يومي هذا حياة جديدة.
وفي اليوم الذي وعدتني به صديقتي بتول جزاها اللّه عنّي كل خير ، أتت
ص: 407
إليَّ وقد بدا عليها الحزن قليلا ، فقلت : لم - يا صديقتي - هذا الحزن؟
قالت : إنه يوم عاشوراء ، وقد قال الإمام الصادق علیه السلام - إنه علينا أن لا نبتسم في هذا اليوم ففيه قتل الحسين علیه السلام (1) ، وكانت هذه مصيبة على الأمّة الإسلاميّة كلِّها.
فقلت : لعن اللّه أعداء الإسلام ، وعجِّل فرجك أيُّها الإمام المنتظر لتملأ هذه
ص: 408
الدنيا قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
فاستغربت صديقتي وقالت : أتهزأين؟ قلت : حاشا وكلاّ ، وقبلَّتها بين عينيها ، وقلت : أشكرك ، أشكرك يا بتول على هذه الهديَّة ، فلقد أنقذتيني من ظلام وجهل كنت أعيشه ، ونقلتيني إلى النور والعلم والنبوَّة والعقائد الصحيحة ، إلى أحضان أئمَّة الهدى أحفاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهل من مزيد من هذه الكتب؟
فقالت : إذا كنتِ قد اكتفيتِ ، وصار عندكِ يقين تام فسأعطيكِ بعضاً من كتبنا من المؤلِّفين الشيعة.
فقلت : أتمنَّى هذا ، ودعينا الآن نذهب لحضور عاشوراء ، فذهبت ورأيت الناس في بكاء وعويل ، وكأن الحسين علیه السلام قد استشهد لتوِّه ، فبكيت معهم ، وعشت لحظاتهم المباركة الحزينة ، وأحسست بانجلاء الكروب عن نفسي ، وتنفسَّت الصعداء ، واعتبرت هذا اليوم أول يوم من مسيرة تشيُّعي ، واعتبرت هذا البكاء حزناً على الأيام الماضية ، وعلى الإسلام ، وعلى المآخذ التي كنت أشنُّها ورفاقي على صديقتي الشيعيّة ، وكل من اتّبع هذا المذهب ، والذين أصبحوا أحبّائي من بعد تشيُّعي ، وإخوتي في الدين ، بارك اللّه فيهم.
لقيت في البداية بعض المعارضة من أهلي - سامحهم اللّه - ولكن بصبري وتفوُّقي عليهم ، وحفظي لكل المسائل التي ربَّما أتعرَّض إليها خلال مناقشاتي ومجادلتي مع كل من يسمع بأنّي قد تشيَّعت ، تفوَّقت وتفوَّقت ، واستطعت أن أشيِّع اثنتين من أخواتي ، وذلك بعد اطّلاعي على كل كتب الشيعة تقريباً ، فقد وجدت في عقائدهم وأدعيتهم كنزاً لا يفنى.
وهكذا كانت مسيرة حياتي مع التشيُّع ، بدأتها بشك بيني وبين نفسي عن اختلاف المذاهب ، وأنهيتها بإعلان التشيُّع ، والتمسُّك بالمذهب الحقّ ؛ مذهب
ص: 409
أهل البيت علیهم السلام .
فسلام عليكم يوم ولدتم ، ويوم استشهدتم ، ويوم تبعثون ، وخاسر خاسر من لا يعرفكم ولا يعرف قدركم ، وأنا متأسِّفة جدّاً ، وأعتذر إليكم عني ، وعن المسلمين الذين كانوا يجهلون صلتكم بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وحديثه عنكم ، وعن حبِّكم ومودَّتكم الواجبة علينا ، وعن بعض من آذاكم ، وحمل الآخرين على القول فيكم وفيمن تمسَّك بكم أقاويل وأكاذيب مغرضة ، لعنهم اللّه وأحرقهم بناره.
وأنت - عزيزي القارئ - إذا أردت الاستبصار أكثر عليك بقراءة كتب التيجاني والأنطاكي وخليفات ... إلخ ، وكل من تشيَّع ; لأنها حجّة علينا يوم الحساب .. وستجد فيها جواباً لكل مسائلي التي لم أورد لك أجوبتها كي تتشجَّع وتبحث بنفسك على طريق النور والحقّ ... وبعدها إذا بقيت على حالك ولم تغيِّر رأيك في موروثك فعلى الدنيا السلام ، وإلاَّ فأنت إنسان راق قد اتّبعت قوله تعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) (1) (2).
ص: 410
قال الهاشمي بن علي التونسي في بداية تعرُّفه على الحقائق : كنت أدرس في الصفِّ مادة التأريخ ، وكان عندنا أستاذ يتبنَّى الفكر القوميّ ، ولمَّا مررنا على معركة صفّين ابتسم الأستاذ وقال : فاقترح الداهية عمرو ابن العاص فكرة رفع المصاحف حتى يخدعوا جيش عليٍّ علیه السلام ، وينجوا من الهزيمة المنكرة التي بدأت تلوح لهم.
صعقني جدّاً هذا الكلام ، فقلت في نفسي : أعمرو بن العاص يفعل هذا؟ هذا الصحابيّ الجليل - الذي عرفناه من أقطاب الصحابة كما قال لنا شيوخنا - يخدع ويمكر؟! إذن أين تقوى الصحابة وإخلاصهم الذي دمغجنا به شيوخنا؟!
شعرت حينها بتمزُّق نفسيٍّ شديد بين ثقافتي الإسلاميّة التي تقدِّم كل الصحابة ، وترفعهم إلى صفوف الملائكة ، وبين حقائق التأريخ إن كانت حقَّه ، رجعت إلى البيت مغموماً ، وسألت أخي عن المسألة فقال لي : إن هذا ليس من شأننا فلا تخض فيه ، وهم - أي الصحابة - أدرى بزمانهم.
ص: 411
ولم يقنعني هذا الكلام البارد الفارغ من كل معنى ، وهل يمكن أن يمارس المؤمن العادي الخداع والمكر؟! فكيف بالصحابة؟!
وتمضي السنوات ، وتبقى في نفسي أشياء وأشياء ، لكنّي لمَّا لم أصل إلى الجواب قفلت عليها في صدري ، وألقيت حبلها على غاربها ومضيت.
وتشاء الأقدار أن تجمعني بصديق قديم ، وزميل دراسة ، كنَّا تفارقنا مدَّة من الزمن ، وإذا بي أسمع أنه شيعي ، لقد كنت أعتقد أن المذهب السنّيّ هو المذهب الصافي ، وخاصّة أتباع الإمام مالك ، إمام دار الهجرة ، حيث إن أكثر إفريقيا مالكيُّون ، وكنت أعتقد أن بقيَّة المذاهب الثلاثة وإن كانت على الحقّ ، لكنَّ المذهب المالكي أصفاها وأحقُّها ، نعم كانت أحياناً تجول في خاطري تساؤلات حول الاختلافات التي ما بين هذه المذاهب الأربعة ، وكنت لا أرى مبرِّراً لاختلافها ، نعم لقد تعلَّمنا منذ صغرنا أن اختلافها رحمة ، وأنهم كلَّهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ملتمس ، لكن كان في نفسي من ذلك ما كان ، لكنّي قنعت بحجّة شيوخنا ، أو ربَّما أقنعت بها نفسي.
وكنت قاطعاً ببطلان مذهب الشيعة ، وأنهم متطرِّفون في عقائدهم ، وكنت أسمع ما كان ينقله البعض حول بكائهم على الحسين علیه السلام ، وسبِّهم للصحابة ، فيزداد عجبي ، وكنت أتمنَّى أن ألتقي بواحد منهم لأقنعه ، أو على الأقل لأعرف لماذا هم هكذا؟
كان أوَّل ما ناقشني فيه صديقي الشيعي حديث العشرة المبشَّرين بالجنَّة ، وقال لي : هل يعقل أن يكون طلحة والزبير وعلي علیه السلام في الجنة ، وقد قتل بعضهم بعضاً ، وشتم بعضهم بعضاً؟!
وهل يعقل كذلك أن يكونوا في النار؟! فكان مما أجابني به أن الصحابة
ص: 412
على ثلاثة أقسام : قسم الثابتين بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقسم المرتدّين ( فعلا لا قولا ) ، وقسم المنافقين ، وعليه لا يمكن أن يكونوا كلُّهم عدولا.
وممّا واجهني به صديقي هذا من الحجج حديث الثقلين ، الذي يقول فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسَّكتم بهما لن تضلّوا أبداً : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض (1) ، وقد كفانا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤونة إمامة الأمّة السياسيّة والعلميّة بالأئمّة من أهل بيته علیهم السلام .
وخضنا نقاشات عديدة حول تنزيه اللّه تعالى عن الرؤية والحركة والانتقال ، وتنزيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الذنوب والكبائر والخطأ والنسيان.
وهكذا رأيت أن عائشة وحفصة نزلت فيهما سورة كاملة تهدِّدهما بالطلاق وبعذاب النار .. ورأيت أن كل بناء السنّة العقائديّ متهاو ، بل هو من صنع وبناء حكَّام بني أميَّة أعداء اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وبني العباس ، ومن بعدهم من الظالمين إلى اليوم.
ورأيت أن الشيعة مذهب صاف عقلاني ، مليء بالحجج الدامغة من القرآن الكريم والسنّة المحمديَّة ، ولا مجال للخرافات والتحريفات والأكاذيب فيه ، وهكذا إذ بينما كنت أنسب إلى الشيعة كل قبيح ، استفقت على أن مذهبهم حقٌّ ، ولهذا كثرت حوله الأباطيل والدعايات الباطلة ، التي لم يرم بها حتى دين اليهود والمجوس.
وعرفت حينها معنى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة ... ) (2) ، وعرفت الحديث القائل : الناس أعداء ما
ص: 413
جهلوا.
وأنا من موقعي هذا أدعو كل إنسان حرٍّ أن يطّلع على كتب الشيعة ، وعلى آرائهم دون واسطة ، كما عرفت أنا كتب السنّة كالبخاري والموطَّأ دون واسطة ، وقارنوا بين المذاهب ، فلسنا أقلَّ من معاوية الذي قتل النفوس ، وأحدث الفتن ، ثمَّ يقال عنه : إنّه اجتهد فأخطأ ، فنحن إن وصلنا إلى الحق - إلى دين اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله - فلنا أجران ، وإن لم نتوصَّل إلى ذلك فلعلَّ اللّه يكتب لنا أجراً واحداً ، وذلك لصدق نيَّاتنا وصفاء سرائرنا.
وجرِّبوا أن تطالعوا عن التشيُّع والشيعة الاثني عشريَّة ، فليس في ذلك بأس ولا ضرر ولا فتنة ولا سمٌّ ، كما يدّعي بعض العلماء المتحجِّرين ، بل إن أحدنا يفاخر بأنَّه قرأ مجموعة آثار فيكتور هيجو مثلا ، أو اطّلع على مسرحيَّات شكسبير ، وتجده جاهلا بما يقوله إخوانه وبما يعتقدونه جهلا مطبقاً. أقول قولي هذا ، وأستغفر اللّه العليَّ العظيم ، الهاشمي بن علي ، رمضان قابس - تونس 1 - شوال - 1419 ه- (1).
قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني : حديث العشرة المبشَّرين المزعوم : ما بدأت حواراً مع أحد فيما جرى بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاَّ وبادرني : إنهم مبشَّرون بالجنَّة ، مستنداً إلى حديث العشرة المبشَّرين بالجنّة كما يزعمون ، وإنه لعمري حديث لا يحتاج منّي إلى كثير عناء لإثبات وهنه ، ومخالفة متنه
ص: 414
لواقع الأحداث التاريخيّة ، وهو لا يعدو أن يكون إحدى الأكاذيب التي وضعت كغيرها من الفضائل ، وأورده هنا كنموذج لمأساة الأمّة.
العشرة المبشَّرون بالجنّة هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجرَّاح.
هذا الحديث الضعيف سنداً - كما بيَّن فطاحل العلم - يكذِّبه متنه كذلك ، ولا ندري لماذا اشتهر هؤلاء العشرة بالتبشير بالجنَّة ، وحصرت فيهم مع أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله بشَّر غيرهم ، كآل ياسر والحسن والحسين وأبي ذر ، والقرآن أيضاً يبشِّر كل من آمن وعمل صالحاً ثمَّ اهتدى بالجنّة.
إن هؤلاء الذين يرفعون عقيرتهم بمثل هذه الروايات الموضوعة لم يفطنوا إلى وضوح كذب الأحاديث ، إذ أنها لو كانت وردت عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله حقيقة لسمعنا في التأريخ احتجاج عمر بهاً - مثلا - في السقيفة كدعاية انتخابيّة لأبي بكر ، يسند بها انتخابه له.
وياليتني أجد من يوضح لي : هل من الممكن أن يكون عبد الرحمن بن عوف أحد رواة هذا الحديث معتقداً بصحّته ، ومع ذلك يسلُّ سيفه على عليٍّ علیه السلام يوم شورى الستة قائلا : بايع وإلاَّ تقتل (1)؟!
ويقول لعلي علیه السلام - بعدما انتقضت البلاد على عثمان - : إذا شئت فخذ
ص: 415
سيفك ، وآخذ سيفي ، إنّه قد خالف ما أعطاني (1).
وهل أبو بكر وعمر المبشَّران بالجنّة هما اللذان ماتت الصدّيقة بضعة المصطفى صلی اللّه علیه و آله وهي واجدة عليهما (2)؟
وهل هما اللذان قالت لهما : إني أشهد اللّه وملائكته أنكما أسخطتماني ، وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيَّ لأشكونَّكما إليه (3)؟
وهل أبو بكر هذا هو الذي أوصت فاطمة علیهاالسلام أن لا يصلِّي عليها ، وأن لا يحضر جنازتها (4)؟
وهل كان عمر يصدِّق هذه الرواية وله إلمام بها ، وهو يناشد مع ذلك حذيفة بن اليمان العالم بأسماء المنافقين ، ويسأله عن أنه هل هو منهم (5)؟
وهل كان طلحة والزبير يؤمنان بقول الرسول صلی اللّه علیه و آله وهما يؤلِّبان على عثمان ، ويشاركان في قتله؟ وهما اللذان خرجا على إمامهما ، وخليفة المسلمين ، المفروض عليهما طاعته ، بعد أن عقدت له البيعة ، فنكثا بيعته ، وأسعرا عليه نار البغض وقاتلاه وقتلا؟
ص: 416
أو ليس طلحة والزبير هما اللذان ارتكبا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هتك حرمته ما لم يرتكبه أحد ، حينما أخرجا زوجته عائشة تسير بين العساكر في البراري والفلوات ، غير مبالين في ذلك ولا متحرِّجين؟!!
وغير ذلك الكثير مما يؤكِّد أن الحديث مكذوب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أصله ، ولا تحتاج معرفة ذلك إلى كبير عناء (1).
ص: 417
يذكر المحامي محمّد علي المتوكِّل السوداني (1) أنه أجرى مع الدكتور الحبر يوسف نور الدائم (2) حواراً في منزله في أحد الأحياء الشعبيَّة في أم درمان ، باقتراح من أحد أصدقائه في معرفة رأي الدكتور في التشيُّع ، وموقفه من تناقضات التأريخ.
ومن هذا الحوار ما يلي :
الدكتور الحبر : على كل حال هم شيعة ، ويكفي أنهم لا يتورَّعون عن القدح في الصحابة والتطاول عليهم.
قال : فقلت : وماذا في ذلك إذا كان الصحابة أنفسهم كان ما بينهم السباب وتبادل الاتّهام ، بل أكثر من ذلك : الاقتتال وإراقة الدماء ، كالذي حدث مباشرة
ص: 418
بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟ ويكفي أنهم اقتتلوا في واقعة الجمل ، فكان القتلى من الصحابة والتابعين بالألوف ، فكيف جاز لهم أن يقتتلوا ويتسابّوا ، ولا يجوز لنا أن نعيِّن المخطئ منهم والمصيب؟ (1)
ص: 419
قال : إن اقتتال الصحابة فيما بينهم لا يخرجهم من دائرة الإيمان ; لقوله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) (1).
قلت : ولكنه تعالى يقول بعد ذلك : ( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) أليس لنا أن نحدِّد الفئة الباغية ، وإذا ما كانت قد فاءت إلى أمر اللّه أم لا؟
قال : يا بنيَّ! نحن نقول كما قال أبو زرعة : تلك فتنة وقى اللّه منها سيوفنا ، أفلا نقي منها ألسنتنا؟
عند هذا الحدّ كان صاحبي قد بلغ به الغضب مبلغاً خشيت معه أن يأتي بتصرُّف لا يليق بالمقام ، وفي ذات الوقت بدأ الدكتور غير راغب في المضيِّ في هذا الاتجاه المزعج ، عندئذ أدركت أنه لا جدوى من الإصرار على توجيه الحوار عقائديّاً ، فعدنا إلى الحوار في ساحة العمل الإسلاميّ.
ويقول المحامي محمّد علي : إن الدكتور الحبر ... لم يرضه أن يعلو ذكر أهل البيت علیهم السلام في السودان ، وأن يسارع الشباب إلى الدخول في حصون ولايتهم ، فأخذ يدقُّ نواقيس الخطر ، ويؤلِّب ذوي الشأن ليتصدَّوا لحركة التشيُّع التي عمَّت أرجاء السودان ، وأن على المسؤولين أن يقفوا في وجه هذا المدّ ، وأنه بهذا البيان يكون قد أدَّى ما عليه ; إذ لا يملك أن يفعل بهذا الصدد أكثر من
ص: 420
التحذير.
لقد فات على الدكتور أن التشيُّع بما هو جوهر الدين قد صمد عبر التأريخ في وجه أعنف حملات الطمس والتشويه ، واستعصى على كل المؤامرات التي استهدفته منذ وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله وإلى الآن ، وهو المذهب الوحيد الذي ظلَّ أمره في ازدياد ; لما يستبطن من حقّ ، ولتمسُّك أهله به ، ولقدرته على مواكبة العصر ، والوفاء بمتطلَّبات الزمن ، بينما اندثر غيره من المذاهب ، أو كاد ، حتى المذاهب الأربعة لم يعد التمسُّك بها إلاَّ تقليديّاً وشكليّاً ، ولم تعد قادرة على الوقوف أمام دعاوى التجديد الفقهيّ ، وفتح أبواب الاجتهاد التي تنطلق من هنا وهناك ..
والذي لا يعرفه الدكتور أو يتجاهله هو أن الولاء لأهل البيت علیهم السلام أسبق في دخوله إلى السودان من جميع الحركات السلفيَّة بما فيها حركة الإخوان ، وأن السودانيين قد عرفوا لأهل البيت علیهم السلام حقَّهم في ذات الوقت الذي عرفوا فيه الإسلام ، وأن البنية الاجتماعيَّة في السودان لا يهدِّدها انخراط الشباب في سلك التشيُّع لأهل البيت علیهم السلام ، الذين هم قوام الدين ، ونظام الأمّة ، ولكن ما يهدِّد المجتمع في دينه وحضارته هو انتماؤهم إلى تلك الجماعات الموتورة ، التي ورثت الحقد عن الخوارج وأهل الفتن وبني أمية وأئمَّة القشريين من لدن ابن تيمية إلى محمّد بن عبد الوهاب وأتباعه (1).
ص: 421
قال الأستاذ عبد المنعم حسن تحت عنوان ( حوار في بداية الطريق ) : كنت قلقاً جدّاً وأنا أحاول تجنُّب أيِّ حوار مع ابن عمِّي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسَّد في سلوكه أدباً وأخلاقاً ومنطقاً ، مما جعلني أفكِّر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة ، رغم قناعتي بأنَّ ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة ، أو ربَّما نزوة عابرة جعلته يتبنَّى هذه الأفكار الغريبه.
قلقي كان نابعاً من تخوُّفي لأن أتأثَّر بفكرته ، أو ربَّما أجد أنها تجبرني على الاعتراف بها ، وبالتالي أخالف ما عليه الناس ، وما وجدت عليه آبائي ، وسأكون شاذّاً في المجتمع ، وربَّما اتُّهمت بأني مارق من الدين كما اتّهم ، ولكني تجاوزت كل ذلك ، وقرَّرت أن أخوض معه حواراً ، لعلّني أجد منفذاً أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه ، خصوصاً وأني قرأت كتباً لا بأس بها ضدَّ الشيعة والتشيُّع ، ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله ، فبدأت معه الحوار.
ص: 422
قلت له : الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيّاً ، فما هي الضمانات التي تمنعك من أن تغيِّر مذهبك غداً؟
قال : الآية الكريمة تقول : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وأنا من أنصار الدليل أينما مال أميل ، وقد أفرغت وسعي ، وتوصَّلت إلى أن الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت علیهم السلام ، والدليل على صحّته أن الأدلّة التي يسوقها أصحابه مما اتّفق عليه جميع المسلمين.
قلت : لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة؟
قال : أوّلا : من قال لك إنه لا يوجد غيري؟!
وثانياً : وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلا على صحّة أو خطأ ما توصَّلت إليه ، إن المسألة تكمن في نفس وجدان الحقيقة والحقّ ، ومن ثَمَّ اتّباعه ، ولا شأن لي بغيري ، لأن اللّه يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (2).
قلت له : لو افترضنا صحّة مذهب الشيعة ذلك يعني أن 90% من المسلمين على خطأ ; لأن كل المسلمين يؤمنون بمذهب أهل السنّة والجماعة ، فأين هذا التشيُّع من عامة الناس؟
قال : الشيعة ليست بهذه القلّة التي تتصوَّرها ، فهم يمثِّلون غالبيَّة في كثير من الدول ، ثمَّ إن الكثرة والقلّة ليست معياراً للحقّ ، بل القرآن كثيراً ما يذمُّ الكثرة ، يقول تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (3) ، ويقول : ( وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ
ص: 423
شَاكِرِينَ ) (1) ، ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2) ، وبذلك لا تكون الكثرة دليلا على أنهم على حقٍّ.
أمَّا التشيُّع كمنهج سماويٍّ فهو موجود ، بدليل أني شيعيٌّ ، وإذا وجِّه الإشكال إلى عدم انتشار التشيُّع فهذا يتوجَّه أيضاً لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أوَّل دعوته وحتى وفاته ; إذ أن الإسلام لم يكن منتشراً ، ومع ذلك فهو الحقُّ المنزل من قبل اللّه تعالى.
قلت متعجِّباً : وهل تريدني أن أسلِّم بأن آباءنا وأجدادنا الذين عرفناهم متديِّنين طريقهم غير الذي أمر به اللّه؟!
ابتسم قائلا : أنا لست في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين ، فاللّه أعلم بهم ، ولكن أذكِّرك بأن القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد ، يقول تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (3).
شعرت بأن الحوار قد أخذ منحىً عاماً ، وأن حجّته بدت في هذا المجال قويَّة ومدعَّمة بآيات قرآنية ، فقرَّرت أن أناقش معه مفردات معتقده التي قرأت نقدها من الكتب ، وتركتها كورقة أخيرة في النهاية ; لأني على ثقة من أنه لا يستطيع الإجابة عليها ، ولقد أضفت إليها رأيي الخاص ، ولأغيِّر مجرى الحديث إلى حيث أريد قلت له : حسناً ، ماذا تقول الشيعة؟!
هنا اعتدل في جلسته وقال : الشيعة يقولون : إن هذا الدين الخاتم لا يجوز
ص: 424
لنا أخذه إلاَّ عن طريق أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، ويعتبرون أن هذا هو عين التمسُّك بسنَّته صلی اللّه علیه و آله ، وهو المطلوب من كل إنسان.
قلت ساخراً : كلُّنا نتّبع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا أحد يرى أنه خلاف ما جاء به عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.
قال : الأمر ليس مجرَّد ادّعاء ، إنّما يجب إثبات ذلك بالدليل ، ونحن كشيعة نرى أن المسألة الأساسيّة التي ابتليت بها الأمّة هي مسألة الإمامة والقيادة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والتي اختصَّ بها عليٌّ علیه السلام كوصيٍّ وخليفة ، ومن بعده أئمَّة أهل البيت علیهم السلام ، وواحدة من مستلزمات هذه الوصاية والإمامة الخلافة السياسيّة ، ومن أهل البيت فقط يصح أخذ الدين ، أمَّا ما أخذ من غيرهم فلا نقول إنه باطل مطلقاً ، ولكنّه حقٌّ مخلوط بباطل ، ونحن مأمورون بأخذ الحقِّ فقط دون غيره.
قلت : وما جدوائيَّة البحث حول قضيَّة مرَّت عليها قرون؟ وهل يفيدونا إذا ما كان عليٌّ علیه السلام هو الخليفة أم أبو بكر؟!
سكت قليلا ثمَّ قال : عندما ننظر - يا أخي - لكل مشكلة ، يجب البحث عن جذور تلك المشكلة حتى نحلِّلها ، وما عليه المسلمون اليوم من فرقة وشتات وضياع إنما هو ناتج عن ذلك اليوم الذي حجبت فيه الخلافة عن علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأعطيت لغيره بلا حقٍّ ، ومن هناك ابتدأ افتراق الأمّة ، والآن أنا أمامك أقول لك : إن الشيعة على حقٍّ ، وأنت ترى خلاف ذلك ، من هنا جاءت ضرورة البحث في الماضي لنعرف أين الأصل ، ومن الذي خالف.
هنا أخذتني العزّة ، وقرَّرت الهجوم عليه من كل جانب ، فانهلت عليه بالأسئلة مقاطعاً : إذن أنتم تشكِّكون في الصحابة؟!
أجاب بهدوء : نحن لسنا في مقام التشكيك في أحد ، ما نقوله أن كل من
ص: 425
اتّبع الحق من الصحابة أو غيرهم على رؤوسنا ، نقدِّسهم ، نحترمهم ، وكل من خالف النهج السماويّ القويم فلن نسمح لأنفسنا أخذ معالم ديننا منه.
فقلت له : لا أريدك أن تناقشني في عموميَّات! من غير المعقول أن كل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر خالفوا قول الرسول صلی اللّه علیه و آله ! أتدري ماذا يعني ذلك؟ يعني أن نشكِّك في كل ديننا ، فكيف تجوِّزون لأنفسكم ذلك؟ وأرجو ألا تستعمل معي التقيَّة المعروفة عندكم.
أجاب : أولا : التقيَّة شرعيَّة من الكتاب والسنة ، ولها مجالها ، وهي ليست واجبة في كل الأحوال ، إنما لها ظروفها الخاصة ، وأنا لا أمثِّل كل الشيعة ، بإمكانك أن تطّلع على كتب الشيعة ، فلن تجد غير كلامي هذا.
أما بالنسبة للصحابة فالأمر لا يصل إلى مستوى التشكيك في الدين إلاَّ إذا كان الدين عندك ملخَّصاً في الصحابة.
قاطعته : إنهم هم الذين نقلوا لنا الدين.
قال : بحثنا الآن حول نقلهم ، وهذا أوَّل الكلام وبيت القصيد ، أنتم تجرحون الرجال في علم الجرح والتعديل ، وتبدأون عمليَّة معرفة أحوال الرجال من القرون المتأخِّرة بعد عهد النبي صلی اللّه علیه و آله ، ونحن الشيعة نبدأ ممن كان حول الرسول صلی اللّه علیه و آله ; لأن منهم من كان منافقاً ، وآخر كان لا يفقه شيئاً. وهكذا.
أضف إلى ذلك : من الذي قال : إن الجميع قد بايع أبا بكر؟ ارجع لكتب التاريخ ستجد أن أوَّل المعترضين كان علياً علیه السلام ، ومعه مجموعة من الصحابة.
قلت : لو كان الأمر كما تدّعون لنصر اللّه عليّاً وخذل أبا بكر ، وهذا دليل على أن اللّه اختار للأمّة أبا بكر.
قال : بقولك هذا تلغي فلسفة الابتلاء التي يمتحن اللّه بها العباد ، إن اللّه يبيِّن
ص: 426
الطريق للناس فقط ، ثمَّ يدعهم ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، واللّه لا يجبر الناس ، وإلاَّ نكون من الذين يقولون بالجبر فنسقط الثواب والعقاب ، ونتيجة كلامك هذا أن أيَّ شخص يتحكَّم في رقابنا يجب أن نهتف له ، ونعتبره تأييداً من اللّه ، وهذا ما لا يعقل.
ورميت آخر سهم في جعبتي قائلا : إنكم تغالون في أهل البيت علیهم السلام ، وتقولون إنهم معصومون ، كما أنكم تبيحون زواج المتعة ، وتجمعون في الصلاة ، وتصلّون للحجر ، والأخير رأيته بعيني ، يعني لم أقرأه في كتاب فقط.
قال : أخي! هذه فروع بإمكاني أن أناقشها معك ، ولكن من المنهجيَّة أن تبحث أولا حول الأصل الذي يتبعه الفرع أوتوماتيكياً ، فأنت عندما تريد أن تدعو شخصاً غير مؤمن باللّه إلى الإسلام لن تبدأ معه بكيفيَّة الوضوء والصلاة ، بل لابدَّ من إقناعه بوجود اللّه تعالى ، ثمَّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ تفرِّع على ذلك.
فأطلب منك - أخي - أن تبحث بتجرُّد ، وسترى نور الحقيقة.
انتهينا من جلسة الحوار هذه وأنا متعجِّب من هذه الثقة التي يملكها ، وفكَّرت في البحث ، ولكن ليس لكي أقتنع ، وإنما لأملك أدلّة أقوى أدحض بها حججه ، وبعد فترة قرَّرت ألا أدخل معه في نقاش حتى أكون بعيداً عن المشاكل ، وحتى لا أتأثَّر بهذه الأفكار الغريبة ، والتي أرى شخصاً عن قرب يتبنَّاها.
ثمَّ كانت البداية التي جعلتني أنطلق في البحث ... (1).
ص: 427
قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : جرى حوار بيني وبين أحد الأصدقاء حول عصمة الإمام ، قال لي : أنتم مغالون تبالغون في حبِّ أهل البيت علیهم السلام حتى ادّعيتم أنهم معصومون ، ومفوَّضون بالتشريع ، ونحن لا نرى سوى عصمة الرسول صلی اللّه علیه و آله .
قلت : أولا : أهل السنة والجماعة لا يقولون بأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله معصوم في كل شيء ، بل في أمر التبليغ فقط ، ولا ندري كيف يحدِّدون ويصنّفون الأمور الواردة عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أيٌّ منها من الدين ، وأيٌّ من غيره ، وذلك بخلاف قول الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي صلی اللّه علیه و آله المطلقة ، ولا فرق في ذلك بين أمور التشريع وغيرها.
أمَّا عصمة أهل البيت علیهم السلام فالآية واضحة في دلالتها ، يقول تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) الآية (2).
ص: 428
أضف إلى ذلك مجموعة الأحاديث التي نستشفُّ منها بوضوح دلائل العصمة ، وحسبك في ذلك حديث الثقلين (1) ، بعد أن ثبتت صحّته لدى جمهور المسلمين سنَّةً وشيعةً.
قال : هذا الحديث لا يدلُّ على العصمة ، فهو فقط يخبرنا بالرجوع لأهل البيت علیهم السلام .
قلت : بل الحديث أوضح من أن يبحث فيه عن العصمة ; إذ أن صحّة الحديث يؤكِّد عصمتهم ، وإليك البيان ، وسألته : ما قولك في القرآن؟
قال : ماذا تقصد؟!
قلت : هل يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟
قال : لا.
قلت : إن اقتران أهل البيت علیهم السلام بالكتاب ، والتصريح بعدم الافتراق عنه يدلُّ على عصمتهم ; إذ أن صدور أيِّ مخالفة للشريعة منهم سواء كان عمداً أم سهواً أم غفلة يعتبر افتراقاً عن القرآن ، لو قلنا بأنهم يفترقون عنه ولو للحظة فهذا تكذيب للرسول 66 ، الذي أخبر عن اللّه عزَّوجلَّ بعدم وقوع الافتراق ، وتجويز الكذب على النبيِّ صلی اللّه علیه و آله متعمِّداً مناف لعصمته حتى في مجال التبليغ ، وقد أكَّد على الحديث في أكثر من موضع.
ص: 429
أضف إلى ذلك أن الرسول صلی اللّه علیه و آله اعتبر التمسُّك بهم عاصماً من الضلالة دائماً وأبداً ، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة لن التأبيديَّة ، فإذا كان هنالك مجال لضلالتهم ولو للحظة فكيف يكون التمسُّك بهم عاصماً؟!
هذا عن العصمة ، أمَّا ما قلته عن التفويض فلا أحد من الشيعة يقول به ، إنما هو قول أعداء الدين الذين حاولوا تشويه الصورة النقيَّة للتشيُّع ، وأنت إذا أردت أن تتعرَّف على معتقدات الشيعة فيجب عليك الاطّلاع عليها من كتبهم وأقوال علمائهم ، لا من كتب وأقوال المناوئين لهم ، الذين لا يتورَّعون عن الكذب والافتراء ، ومعروف عند الشيعة أن الأئمة يقولون بما قاله الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وها هو الإمام أميرالمؤمنين علي علیه السلام يقول : علَّمني رسول اللّه ألف باب من العلم ، يفتح لي من كل باب ألف باب (1).
فهم لا يقولون بالتفويض ، بل أهل السنة والجماعة هم الذين فوَّضوا الصحابة في التشريع ، حتى أمضوا اجتهادات الصحابة الواضحة مقابل النصوص المؤكَّدة.
بعد هذا الحوار أخذ صاحبي يبحث له عن مخرج ، وبدأ يقفز بالحديث هنا وهناك ، ويحاول أن يجد ثغرة يصطادني بها ، وعندما لم يجد قال لي : يا أخي! أنا مفوِّض أمري إلى اللّه ، نحن أهل تسليم.
قلت : التسليم لا يكون إلاَّ للحقِّ ، أمَّا التفويض لله فلا يلغي إرادتك ويجمِّد عقلك ، إذا كنت تصبو إلى الحقيقة واصل بحثك عنها ، ثمَّ فوِّض الأمر إلى اللّه
ص: 430
يهديك إلى الصراط المستقيم ، أمَّا أن تكون لا تدري أعلى حقٍّ أنت أم على غيره ، ثمَّ تفوِّض الأمر ، هذا تبرير لا يقبل شرعاً ولا عقلا ... وتركته وذهبت (1).
وقال الأستاذ عبد المنعم قبل هذه المناظرة في كتابه : وحديث العترة يثبت فيما يثبت عصمة أهل البيت علیهم السلام ; لأن الذي لا يفارق القرآن ولا يفترق عنه يعني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مثل القرآن تماماً ، ولو كان هنالك ثمَّة احتمال - ولو ضئيل جدّاً - بافتراق أهل البيت علیهم السلام عن القرآن لما أكَّد لنا الرسول صلی اللّه علیه و آله في كلامه أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، وبهذا المعنى نفهم آية التطهير التي نزلت في أهل البيت علیهم السلام ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).
ولقد أجمعت مصادر التفسير والحديث على نزول هذه الآية في خمسة : النبيُّ صلی اللّه علیه و آله ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، كما جاء في صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل البيت علیهم السلام (3).
والآية ناطقة بعصمة أهل البيت علیهم السلام ، ممّا يؤهِّلهم دون غيرهم للقيام بدور الإمامة ، لحفظ الشريعة الإسلاميَّة ، وممارسة دور الرسول صلی اللّه علیه و آله القياديّ في الأمّة ، والذي لا يتأتَّى إلاَّ لمعصوم مصطفى من السماء ، وهذا ما لخَّصته آية التطهير ، والتي صدِّرت بأداة الحصر ( إنَّما ) وهي من أقوى أدوات الحصر ، وفيها
ص: 431
إذهاب الرجس عن أهل البيت علیهم السلام ، والرجس يعني مطلق الذنوب والآثام والأدناس ، والقيام بالتطهير بإرادة اللّه تعالى .. كل ذلك مؤدّاه عصمة أهل البيت علیهم السلام .
ومن أوضح الواضحات التي لا تقبل الجدل عندنا في السودان أن أصحاب الكساء - أو أصحاب العباء - هم الخمسة الذين نزلت فيهم آية التطهير كما تواتر في الأحاديث (1).
ص: 432
قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني في حواره مع البعض ، وسبب تأليفه كتابه القيِّم ( بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ) تحت عنوان ( لماذا هذا الكتاب ) : ذهبت في يوم من الأيام إلى أحد أصدقائي لزيارته ، فأخذنا الحديث إلى حيث الشيعة والتشيُّع ، فتجاذبنا أطراف الحديث حول هذا الموضوع ... وفي أثناء تداولنا للموضوع دخل علينا شابٌّ في مقتبل العمر ... ألقى علينا تحيَّة الإسلام ، ثمَّ جلس وبدأ يستمع ، ونحن نواصل الحوار ، انتبهت إليه وقد بدت عليه علامات الحيرة ، ثمَّ تدخَّل في النقاش بقوله : يبدو أن بعض الفرق الضالّة أثَّرت عليك يا أخي! وأخذ يتفنَّن في المهنة التي يجيدها وأمثاله من توزيع أصناف الكفر والضلال والزندقة على كل الطوائف الإسلاميَّة عدا الوهابيّة ، كنت منذ دخوله قد علمت أنه وهابيٌّ ، وذلك من ثوبه الذي كاد أن يصل إلى ركبتيه من القصر ... قبل أن يتمَّ كلامه ارتفع أذان المغرب ، توقّفنا عن النقاش حتى نصلِّي ثمَّ نعود بعد الصلاة.
ص: 433
بعد الصلاة بادرني قائلا : من أيِّ الفرق أنت؟! يبدو أنك من جماعة الشيعة؟!
قلت : تهمة لا أنكرها ، وشرف لا أدّعيه ، فما كان منه إلاَّ أن أرعد وأزبد وثارت ثائرته.
قلت له - وقد تجمَّع بعض أقارب صديقي حولنا - : إذا كان لديك إشكال تفضَّل بطرحه بأدب ، ولنجعله مناظرة مصغَّرة أو حواراً - وهو سلاحهم الذي يهدِّدون به الآخرين اغتراراً منهم بقوَّة مقدرتهم على الاحتجاج -.
وافق المغرور ، فقلت له : من أين نبدأ؟ ما رأيك أن نبدأ بالتوحيد الذي تتمشدقون به ، وبسبب فهمكم الخاطئ له تضعون كل الناس في جبهة المشركين؟
فوافق أيضاً ، وبدأ الحوار والجميع يستمع ، قلت : ما تقولون في اللّه خالق الكون وصفاته؟
قال : نحن نقول : لا إله إلاَّ اللّه وحده لا شريك له ، ولا تجوز عبادة غيره.
قلت : وهل يختلف اثنان من المسلمين في ذلك؟
قال : الجميع يقول بذلك ، ولكن تطبيقهم خلاف قولهم ; إذ أنهم في الواقع مشركون ; لأنهم يتوسَّلون بالأموات ، ويخضعون لغير اللّه ، ويشركون به في طلب الحاجات ، والخضوع لغير اللّه ، وغيرها من الأشياء التي ذكرتها تعني عبادة غيره تعالى.
قلت : حسناً ، طالما الجميع يقول بأن اللّه واحد أحد فرد صمد ، ولا يجوز عبادة غيره بأيِّ حال من الأحوال فهذا جَيّد ، ويخرج الجميع من دائرة الشرك ، إلاَّإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أنهم يعبدون غير اللّه ، أو يشركون بعبادته أحداً ،
ص: 434
حينها يكونون مشركين.
أمَّا ما يفعلونه من أفعال مثل التوسُّل وتعظيم الأولياء واحترامهم فهذا ليس من الشرك في شيء ; لأن العبادة تعني الخضوع والتذلُّل لمن نعتقد أنه إله مستقلّ في فعله لا يحتاج إلى غيره ، أمَّا مجرَّد الخضوع والتذلُّل والاحترام فلا يعتبر عبادة ، وقد أمرنا به القرآن ; كالتذلُّل للوالدين والمؤمنين ، بل إن اللّه أمر الملائكة بالسجود لآدم علیه السلام ، بناء على ذلك لا يكون احترام الأولياء وزيارة قبورهم والتوسُّل بهم وتعظيمهم شركاً باللّه ; لأنهم لا يرون أن هؤلاء آلهة مستقلّون عن اللّه ، بل هم عباد أكرمهم اللّه بفضله ، فعطاؤهم من اللّه ، وليس لهم قدرة ذاتيّة مستقلّة.
قال : ولماذا لا يسألون اللّه مباشرة؟ هل هناك مانع وهو القائل : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1)؟
قلت : أيضاً قال تعالى : ( وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (2) ، ثمَّ إنك عندما تمرض لماذا تذهب إلى الدكتور؟ ألم يقل اللّه تعالى في كتابه : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (3)؟ أليس من أسمائه الشافي؟
قال : هذه ضرورة في الحياة.
قلت : أيضاً تلك سنّة ، وسبب به تبتغى الحاجات ، والتفتُّ إلى الحاضرين وقلت : هل تجدون في كلامي هذا خطأ؟
فأقرُّوا بما قلت ، وزاد أحدهم - وكان صوفيّاً - : هذه الأشياء موجودة من
ص: 435
زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وسار عليها الصحابة والتابعون ، وكل المسلمين إلى أن جاء ابن تيميّة وتلميذه محمّد بن عبد الوهاب ببدعهم الجديدة هذه.
قال الوهابي : إنكم تتحدَّثون بلا علم ، والوقت ضيِّق الآن ، فلنأخذ من الموضوع شيئاً نتناقش حوله ، وفي وقت آخر أكون مستعدّاً لنتحاور أكثر من ذلك.
قلت : عندي سؤال أخير حول التوحيد : ماذا تقولون في صفات اللّه؟
قال : نحن لا نقول ، إنما نصفه بما وصف به نفسه في القرآن.
قلت : وبماذا وصف نفسه؟ هل قال بأنه جسم يتحرَّك؟ أو أن له يداً وساقاً وعينين؟
قال : نحن نقول بما جاء في القرآن ، لقد قال تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) ، وكثير من الآيات الأخرى التي تصف اللّه لنا ، فنقول : إن لله يداً بلا كيف.
قلت : إن قولك هذا يستلزم التجسيم ، واللّه ليس بجسم ، وهو ليس كمخلوقاته ، ثمَّ ما هو الفرق بينكم وبين مشركي مكة؟ أولئك نحتوا أصنامهم بأيديهم وعبدوها ، وأنتم نحتم أصناماً بعقولكم ، وظلَّت في أذهانكم تعبدونها ، لقد جعلتم لله يداً وساقاً وعينين ومساحة يتحرَّك فيها ( مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ) (2) ، وبكلمة : إن الآيات التي ذكرتها مجازيّة ، وترمز لمعان أخرى.
قال : نحن لا نؤمن بالمجازات والتأويلات في القرآن؟
ص: 436
قلت : ما رأيك فيمن يكون في الدنيا أعمى؟ هل يبعث كذلك أعمى؟
قال : لا!
قلت : كيف وقد قال تعالى : ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) (1) ، وأنتم تقولون : لا مجاز في القرآن ، ثمَّ إنه بناء على كلامك إن يد اللّه ستهلك ، وساقه ، وكل شيء مما زعمتموه - والعياذ باللّه - عدا وجهه ، ألم يقل البارئ جلَّ وعلا : ( كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (2) ، و ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ ) (3).
قال : هذه الأشياء لا ربط بينها وبين ما نقوله.
قلت : كلام اللّه وحدة واحدة لا تتجزَّأ ، وإذا استدللتم به على صحَّة قولكم يحقُّ لي أن أنطلق منه لتفنيد هذا القول ، وأنتم تستدلّون على مجي اللّه مع الملائكة صفّاً يوم القيامة ، كما فهمتم من القرآن.
قال : ذلك ما قاله اللّه تعالى في القرآن.
قلت : المشكلة تكمن في فهمك للقرآن ، إن في القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات ، فلا تتّبع المتشابهات فتزيغ ، وإلاَّ أين كان اللّه حتى يأتي؟
قال : هذه أمور لا يجب أن تسأل عنها.
قلت : دعك من هذا ، ألا تقولون إن اللّه ينزل في الثلث الأخير من الليل ليستجيب الدعاء؟
قال : نعم ، ذلك ما جاءنا عبر الصحابة والتابعين من أحاديث.
ص: 437
قلت : إذن أين هو اللّه الآن؟!
قال : فوق السماوات.
قلت : وكيف يعلم بنا ونحن في الأرض.
قال : بعلمه.
قلت : إذن الذات الإلهيَّة شيء ، وعلمه شيء آخر.
قال : لا أفهم ماذا تقصد!
قلت : إنك قلت إن اللّه في السماء ، وبعلمه يعلم بنا ونحن في الأرض ، إذن اللّه شيء ، وعلمه شيء آخر.
سكت متحيِّراً ... واصلت حديثي : أو تدري ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني الشرك الذي تصفون به الآخرين ; لأن الفصل بين الذات الإلهيَّة والعلم واحد من اثنين ، إمَّا أن العلم صفة حادثة فأصبح اللّه عالماً بعد أن كان جاهلا ، وإمَّا أنها صفة قديمة وهي ليست الذات كما تدّعون فيعني الشرك ; لأنكم جعلتم مع اللّه قديماً ، أو يأخذنا قولكم هذا إلى أن اللّه مركَّب ، والتركيب علامة النقص ، واللّه غنيٌّ كامل ، سبحانه وتعالى عمَّا يصفه الجاهلون.
عندما وصلت إلى هذا الموضع من الكلام قال أحد الحاضرين : إذا كانوا يقولون بذلك فاللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله منهم براء ، ثمَّ التفت إليَّ قائلا : ما تقول أنت حول هذا الموضوع؟ ومن أين لك بذلك؟
بيَّنت لهم أن ما أقوله هو كلام أهل البيت علیهم السلام ، وهو كلام واضح تقبله الفطرة ، ولا يرفضه صاحب العقل السليم ، ويؤكِّد عليه القرآن ، وأتيتهم ببعض خطب الأئمَّة حول التوحيد ، منها خطبة الإمام علي علیه السلام ، يقول : أوَّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده
ص: 438
الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنَّاه ومن ثنَّاه فقد جزَّأه ، ومن جزَّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدَّه ، ومن حدَّه فقد عدَّه ، ومن قال : فيم فقد ضمَّنه ، ومن قال : علام فقد أخلى منه ... (1).
ثمَّ شرحت لهم مقصود الخطبة ، قال بعض الحاضرين : واللّه إنه كلام بليغ سلس ومحكم.
ثمَّ اتفقت كلمتهم حول هذا الشابِّ المسكين أنه مخطئ في اعتقاده ، ويجب عليه مراجعة حساباته حتى لا يذهب إلى نار جهنم.
ثمَّ دار النقاش حول الرسالة والرسول محمّد صلی اللّه علیه و آله ، والذي يدّعون أنهم أولى الناس به ، وقد ثبت لي أنهم أبعد ما يكون عن نبيِّ الرحمة صلی اللّه علیه و آله ، وعن معرفته ، فكيف يكونون أولى الناس به؟
وبالحوار انقطعت حجّته ، وأصبح محلَّ تهكُّم الآخرين ، وقبل أن نختم الحوار سألني محاولا استفزازي : شيخنا! ما رأيكم في الصحابة الذين نعتبرهم نحن من أولياء اللّه الصالحين؟
فقلت له : يا شيخ! أول الدين معرفته ، وأنت لم تعرف اللّه فكيف تعرف أولياءه؟! وتواعدنا لمواصلة الحوار يوماً آخر.
وفي ذلك اليوم جاء بوجه آخر ، ويبدو أنه أخذ جرعة قويَّة من مشايخه ، وابتدأ هذه المرَّة بالشتم والسبِّ أمام جمع من الحاضرين ، وطالبهم بعدم
ص: 439
الجلوس معي ، ولا أبالغ إذا قلت إنه ظلَّ ما يقارب الساعتين يسبُّ ويشتم ويصرخ ، ويلوِّح بيده مهدِّداً ومتوعِّداً بقتلي جهاداً في سبيل اللّه ، ولا أدري من أين تعلَّم الجهاد ، وهو عمليّاً محرَّم عندهم ، خصوصاً ضدَّ الطواغيت ، ولعلّه لم يكن ملتفتاً إلى أن دم الحسين علیه السلام ما زال يغلي في عروق الشيعة.
مع ذلك - ويعلم اللّه - فإنني لم أردَّ عليه ; لأنني على بصيرة من ديني ، وتعلَّمت من سيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله كيف أنه صبر على أذى كفار قريش ، وكيف أمروا صبيانهم بملاحقته وإيذائه ، وطلبوا من الناس ألا يستمعوا إليه ، وهكذا التاريخ يعيد نفسه.
لأجل ذلك - عزيزي القارئ - أقدِّم كتابي هذا ، إنه الحق يصرخ لنصرته ، لقد رأيت في عيون الذين حضروا حواري هذا التلهُّف لمعرفة الحقيقة ، وما زلت أراها في عيون كل الأحرار ، الذين يدفعون ثمن التضليل الإعلامي وتزييف الحقائق.
وعندما يشعر الإنسان قبل ذلك بلذَّة الانتصار على النفس الأمَّارة بالسوء ، ويبصر نور الحقّ شعلة برَّاقة أمام ناظريه ... يتمنَّى أن يشاركه الآخرون هذا النور ، فيبيِّن لهم طريق ذلك ... وهذا الكتاب ما هو إلاَّ إثارة لدفائن العقول ، وتحفيز الآخرين للبحث عن الحقيقة ، التي كادت أن تضيع بين مطرقة اقتفاء آثار الآباء والأجداد ، وسندان سياسة التجهيل التي مارسها العلماء في حقّ الأبرياء ، مثل هذا الشابّ الذي أجريت معه الحوار ، إن هنالك الكثير ما يزال على فطرته يريد الحقَّ ، ولكن يلتبس عليه الأمر فيتمسَّك بما اعتقده من باطل ، وأصبح جزء من كيانه يدافع عنه بتعصُّب ، مانعاً الحقيقة أن تتسرَّب إلى عقله.
لقد منَّ اللّه عليَّ بالهداية بفضله ، وأدخلني برحمته إلى حيث نور الحقّ ،
ص: 440
وشكراً لهذه النعمة يجب عليَّ أن أبلغ للناس ما توصَّلت إليه.
لذلك أسطِّر هذه المباحث ، وأكتب هذا الكتاب ، إنه شعلة حقٍّ أخذتها من فاطمة الزهراء عليها ، وأقدِّمها لكل طالب حقٍّ ، ولكل باحث عن الحقيقة ... (1).
ص: 441
قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : عندما كنت أحاور ذلك السلفي الذي أجريت معه المناظرة المذكورة في أوَّل الكتاب ، وفي أثناء حوارنا لمعت عيناه فجأة وكأنه عثر على ضالّته ، وفاجأني بسؤال معتقداً أنه سيضعني في زاوية حرجة .. سؤال من ظنَّ أنه بلغ منتهى العلم والحكمة ، قال : من قال لكم أن الأئمة اثنا عشر؟ ولماذا هذا العدد بالذات؟ وضحك!!
قلت له : يا أخي! بالنسبة للعدد فلو فتحنا هذا الباب لمعرفة الحكمة من العدد سأجرُّ إليك أسئلة لا قبل لك بها ، فلماذا كان الخلفاء أربعة فقط؟ ولماذا اختار موسى سبعين رجلا لميقات ربِّه ولم يكونوا ثمانين؟ ولماذا خلق اللّه سبع سماوات وسبعاً من الأرض ، ولم تكن كل واحدة منهما عشرة مثلا؟ ولماذا كان عدد نقباء بني إسرائيل اثني عشر؟ ولماذا يقول تعالى : ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً ) (1) ولم يكونوا خمسة عشر؟ ... وهكذا.
ص: 442
أضف إلى ذلك أن الآيات والروايات التي وردت عن أهل البيت علیهم السلام كافية لتوجِّهنا للأخذ منهم ، ونحن لم نجد سوى الشيعة متمسِّكة بهم ، وهنالك تعلم بعدد الأئمة ، ولا ضرورة للاحتجاج عليك بعدد الأئمة من مصادركم ; لأن الموضوع فرعىٌّ ، ومع ذلك - وبلطف من اللّه تعالى لإظهار الحقّ ولإقامة الحجّة - لم تخل مصادر أهل السنة والجماعة من الأحاديث التي تحدِّد عدد الأئمَّة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
وصدفة كنت أحمل أحد مجلَّدات موسوعة تجمع ما جاء في الصحاح الستة من أحاديث ، وفتحت باب الإمارة ، وقرأت عليه : عن جابر بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلُّهم من قريش ، وقلت له : هل سمعت؟ فبهت الذي كفر.
وانتفض انتفاضة قويَّة وكأنه قد مسَّ بطائف من الشيطان ، وقال : من أين لك هذا الحديث؟!
فذكرت له المصادر ، وأذكرها هنا تتمَّة للفائدة :
صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، ج 9 ، ص 729.
صحيح مسلم ، ج 3 ، كتاب الإمارة ، باب الناس تبع لقريش.
صحيح الترمذي ، ج 4 ، ص 501.
سنن أبي داوود ، كتاب المهدي ، ص 508.
مسند أحمد بن حنبل ، ج 1 ، ص 398.
وهذا الحديث جعل علماء أهل السنة يعيشون في تخبُّط ومشكلة كبيرة لن يخرجوا منها ، ولن يجدوا لها حلاًّ إلاَّ عند أتباع أهل البيت علیهم السلام ، وهم الشيعة المعروفون ب- : الاثني عشريَّة ... ولقد حاول البعض أن يجد تفسيراً معقولا
ص: 443
للحديث على أرض الواقع ، فمنهم من عدَّ أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً علیه السلام وتوقَّف ، ومنهم من زاد عليهم الحسن بن علي علیهماالسلام ثمَّ تحيَّر ، وبعضهم أضاف إليهم معاوية وبني أمية فلم يوفَّق لضبط العدد ، وآخر أصبح انتقائيّاً يختار كما يتراءى له ... وهكذا.
والأمر لا غموض فيه ولا لبس عند شيعة أهل البيت علیهم السلام ، ذلك بعد أن علمنا حقَّهم في الولاية والخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وليس من المعقول أن يخرج هذا العدد خارج دائرتهم ، وقد جاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ، الباب (94) عن المناقب ، بسنده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا جابر! إن أوصيائي وأئمّة المسلمين من بعدي أوَّلهم عليٌّ ، ثمَّ الحسن ، ثمَّ الحسين ، ثمَّ علي بن الحسين ، ثمَّ محمّد بن علي المعروف بالباقر ، ستدركه يا جابر! فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام ، ثمَّ جعفر بن محمّد ، ثمَّ موسى بن جعفر ، ثمَّ عليُّ بن موسى ، ثمَّ محمّد بن علي ، ثمَّ علي بن محمّد ، ثمَّ الحسن بن علي ، ثمَّ القائم ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، محمّد بن الحسن بن علي المهدي ، ذلك الذي يفتح اللّه تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها.
أمَّا النصوص الواردة من مصادر الشيعة عن طريق أهل البيت علیهم السلام فهي متواترة وواضحة بخصوص هذا الشأن ، ولم يدّع أحد من الأمَّة أنه أحد الأئمة الاثني عشر كما قال أهل البيت علیهم السلام عن أنفسهم ... (1).
ص: 444
قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : قلت لأحدهم وهو يحاورني : إن كان حديث أصحابي كالنجوم صحيحاً أفلا يعتبر علي علیه السلام منهم فيحقّ لي اتبّاعه؟
قال : عليٌّ علیه السلام من أكابر الصحابة!
قلت له : إذن أنا أقتدي بعليٍّ علیه السلام ، الذي رفض بيعة أبي بكر ، وقاتل عائشة وطلحة والزبير ، ولو ظفر بطلحة والزبير أثناء القتال في صفوف أعدائه لقتلهم ، وكنت سأقاتل مع عليٍّ علیه السلام لو كنت حاضراً في حرب صفّين ولو تمكَّنت من معاوية لقتلته ، وكنت سأجهز على عمرو بن العاص وهو يظهر سوأته لعليٍّ علیه السلام حتى لا يقتله! أليس من حقي أن أقتدي بأيِّ صحابيٍّ كما تدّعون؟! ... ألا ساء ما يحكمون (1).
ص: 445
قال الأستاذ عبد المنعم السوداني : في إحدى المرَّات التقى بعض الإخوة الشيعة مع مجموعة وهابيّة صدفة ، وكنت موجوداً ، ولم تكن الرؤية واضحة لديَّ وإن كانت ملامح الصواب بدأت تلوح لي ، ويبدو أن هؤلاء الوهابيّة كان لهم حوار سابق مع الشيعة ، فبدأوا معهم النقاش حول قضية الحسين علیه السلام وكربلاء ، ورأيت الوهابيّة وقد احتوشوا الإخوة والشرر يتطاير من أعينهم وكأنهم يريدون القتال.
تحدَّث أحد الشيعة عن عدم أحقّيّة معاوية في تنصيب يزيد خليفة للمسلمين ، فذكر اسم معاوية مجرَّداً من الترضّي عليه ، فصرخ أحدهم في وجهه قائلا : قل : رضي اللّه عنه ، هل هو أخوك حتى تذكره مجرَّداً؟!
فردَّ عليه الشيعي : هل أنت وأنا أفضل من عليٍّ علیه السلام وأكثر فهماً منه؟ فشمَّر أحدهم عن ساعديه ، وكأنه ينوي ضربه ، وهو يقول : اسمعوا ، هذا هو ديدن الشيعة ، يشكِّكون في كل شيء ، وهذا الرجل يسألنا سؤالا بديهياً والإجابة عنه
ص: 446
واضحة ، فلا أحد يرى أن هنا لك أفضل من عليٍّ سوى الخلفاء الثلاثة ، رضي اللّه عنهم جميعاً وأرضاهم.
فالتفت إليه الشيعي وقال : أولا : فليتكلَّم أحدكم ، ثانياً : إذا أردت الحديث فافهم أولا ما أقول ثمَّ تحدَّث ، وثالثاً : إذا كان علي علیه السلام أفضل منّا - وهو كذلك بلا شك - فهو أدرى منا بالأصول ، أليس كذلك؟!
قالوا بحذر : نعم.
فقال لهم : عليٌّ علیه السلام حارب معاوية ، ليس فقط لم يترضَّ عليه كما تطالبوني ، بل قاتله أشدَّ قتال ، ولو ظفر به لألحقه بأجداده.
قال أحدهم وهو يمضغ مسواكاً : نقول كما قال السلف : تلك دماء عصم اللّه منها سيوفنا فلنعصم ألسنتنا ، ونحن نرى معاوية صحابيّاً جليلا ، وأنه فعل خيراً عندما نصب يزيد ، ونرى أن خروج الحسين بن علي علیه السلام كان خطأ منه ، وقد تاب يزيد.
قال الشيعي : قولك : فنعصم منها ألسنتنا ، لا ينطبق عليك ; لأنك الآن تقول إن معاوية صحابيٌّ جليل ، إذن لقد أخطأ عليٌّ في حربه لمعاوية ، ثمَّ من قال لك : إنك لن تسأل عن تلك الدماء؟ لابدّ أن يكون لكم موقف تجاه ما جرى ، فهما جهتان : إحداهما على حقٍّ ، والأخرى على باطل ، ووقوفك الآن في وجهي اشتراك في تلك ( الفتنة ) كما تدّعي.
أمَّا عن الحسين بن علي علیه السلام فهو لم يخطئ كما تقول ، فهو كما قال عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : سيِّد شباب أهل الجنة (1) ، وهو من أهل بيت النبوَّة ، وتعلَّم من
ص: 447
جدِّه كيف ينصر الحق ، ويزيد تعلَّم من أبيه ما تعلَّم كما نقلت إلينا كتب التأريخ.
قاطعه أحد الوهابيّة ، وساق كلاماً سيّئاً خارجاً عن حدود الأدب في الحوار والمناظرة ، كما هي عادة أمثاله وشاكلته ، بدل أن يدلي بحجّة أو برهان.
فقال له أحد الشيعة وهو يبتسم : هكذا دائماً كان أعداء الشيعة ، باسم الحقّ يقتلون الحقّ ، وباسم الفتنة يحجبون الناس عن الحقائق ، وبالنتيجة أنت لا تفترق عن سلفك كثيراً ، إنك تربية ذلك المنهج الذي تبنَّاه معاوية ويزيد وآل أميَّة ومن إليهم.
وبعد مشادّة كلاميّة عنيفة حصلت بينهم .. يقول الأستاذ عبد المنعم فقال له بعضهم : على كل حال يجب ألا تتأثَّر بكلام هؤلاء ، فإن في حديثهم سحراً يؤثِّر.
ضحكت وقلت له : هذا ما قالته قريش للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله عندما جاء بالقرآن ، ورجعت إليه مرَّة أخرى قائلا له : دعنا من كل ذلك ، فأنا أسألك حول قضيّة الحسين بن علي علیهماالسلام كمسألة واضحة ماذا تقولون فيها؟
سكت وكأنه يبحث عن إجابة ، ثمَّ قال : لماذا تبحثون عن هذه الأشياء؟!
قلت : أجب على سؤالي ، ودع عنك السبب.
قال : معاوية صحابيٌّ جليل ، ويزيد كان أميراً على المسلمين ، والحسين
ص: 448
خرج على وليِّ أمر زمانه ، ولو كان يزيد قد أخطأ فربَّما يكون قد تاب ، فلا داعي لأن نتحدَّث حوله ونشهِّر به.
قلت مختتماً هذا الحوار الذي لن يثمر عن شيء : أنت بهذا تلغي الآيات القرآنية التي شهَّرت بقابيل ونمرود وفرعون والسامري .. وغيرهم من الطغاة أعداء الرسالات ، وبقولك هذا تبرِّر لكل مخطئ في هذه الدنيا ; لأنه ربما يتوب ، وبهذه العقليّة تعطِّل الدين ، ويصبح كل التأريخ بلا فائدة.
كلمة أخيرة أقولها لك : أنتم لا ترتقون لمستوى الدفاع عن شريعة السماء ; لأنها لا تحتاج إلى مراوغة وكذب وافتراء ، وحديثي معك الآن إذا لم أصبح بسببه شيعيّاً فهو يبعدني عنكم أكثر فأكثر.
وحاول أن يعتذر قائلا : على كل حال ، نصيحة لك لا تقرأ لهؤلاء ، ونحن سنكون بالمرصاد لهم.
قلت : إذا كانوا على حق فاللّه ناصرهم ، وإن كانوا على باطل فأنتم أكثر بطلاناً منهم.
وتركته وانصرفت راجعاً إلى الإخوة ، فوجدت أن الوهابيّة لم تزل تدافع عن يزيد ومعاوية ، فتركتهم وانصرفت إلى بعض أشغالي أسفاً على حال هؤلاء المساكين الذين يردِّدون ما يقوله أحبارهم بلا وعي ولا فهم (1).
ص: 449
قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : ولأهل البيت علیهم السلام تراث عظيم ، كان من الممكن أن تستفيد منه الأمَّة ، ولكنها أبت إلاَّ نفوراً ، وإحدى معاجزهم التي بهرتني ذلك المنهج في الدعاء ، وكيفيَّة التقرُّب إلى اللّه تعالى ، والأدب الرفيع في مخاطبة الربِّ سبحانه ، والقارئ للصحيفة السجّاديّة - وهي صحيفة كلُّها أدعية للإمام الرابع علي بن الحسين السجاد علیه السلام - يتعجَّب لماذا لم يهتمَّ علماء السنة بهذه الصحيفة ، هل لأنها واردة عن أحد الأئمَّة أهل البيت؟ أم ماذا؟! (1).
ص: 450
أحد الإخوة الذين استبصروا كان يميل للوهابيَّة بعد أن عملوا على تزريقه أفكارهم ومعتقداتهم ، وقبل أن ينغمس معهم تماماً منَّ اللّه عليه بأحد الأصدقاء ، والذي أعطاه بعض مؤلَّفات الشيعة ليقرأها ، ولقد سمع من قبل عن الشيعة وحُذِّر منهم ، فطلب منّي ومن بعض الإخوة جلسة حوار حول التشيُّع وما إليه ، فرحَّبنا به وجلسنا ، فدار النقاش حول معتقدات الشيعة ، وبعد نقاش طويل تنفَّس قائلا : هذا الكلام حقٌّ لا لبس فيه ، ولكن لماذا يقولون عن الشيعة كل هذه الأقاويل؟!
قلت له : كما أن للحق أنصاراً يعملون على نصرته ، فإن للباطل جنوداً وشياطين يوحون إليهم ، ولا يمكن أن يعتمد الباطل إلاَّ على باطل.
قال هذا الأخ وعلامات الأسف والتأثُّر واضحة عليه : لقد قالوا لنا إن الشيعة يخالفون المسلمين في كل شيء حتى الصلاة ، كان وقت صلاة المغرب قد حان فقلت : الآن بإمكانك أن تصلّي معنا لترى هل صلاتنا تختلف كما يدّعون.
توضَّأنا وصلَّينا ، وكان اليوم يوم خميس ، وبعد الصلاة - وكما هو معروف عند الشيعة - يستحبُّ قراءة دعاء كميل ، وهو دعاء علَّمه أميرالمؤمنين علي علیه السلام لأحد أصحابه ، وهو كميل بن زياد النخعي ، والشيعة يواظبون على قراءته.
قرأنا ذلك الدعاء ، وأحسست بانفعال هذا الأخ بالدعاء ، حينها تألَّمت لهذه الأمّة المحرومة من هذه الكنوز التي لم يبخل بها أهل البيت علیهم السلام ، خصوصاً
ص: 451
فيما يختصُّ بالأدعية التي تجعل الإنسان في عالم آخر وهو يناجي ربَّه.
بعد الدعاء رأيت الدموع في عينيه ، وهو يقول بحرقة : خدعونا وقالوا لنا : إن الشيعة لا يعرفون الصلاة ، واللّه نحن ما عرفنا الصلاة ولم نفهم الصلاة (1).
ص: 452
قال الشيخ هشام آل قطيط : عندما كنت في القرية وأنا طالب في الجامعة أتردَّد على بعض المساجد في المنطقة ، فأجد الخطاب عند العلماء متشابهاً تماماً ، بحيث لا يختلف عالم عن آخر بطريقة الخطاب من حيث المقدِّمة والموضوع والخاتمة والدعاء ، أشعر بأن علماءنا يتبعون طريقة روتينية في إلقاء الكلام ، بحيث إذا غاب إمام المسجد لمرض أو لظرف معيَّن يكلّف أحد الإخوة المصلّين بإلقاء الخطبة ، يصعد على المنبر ويقرأ علينا بطريقة الدرج والسرعة ، فأنظر ممن حولي أجد قسماً من الناس نياماً ، والقسم الآخر كأنه مسافر في حافلة.
هذا من جهة الخطاب ، وأمَّآ من جهة الحوار الموضوعي والانفتاح الفكري فهو مفقود تماماً ، لماذا؟ لأننا ترعرعنا على طريقة التفكير التقليدي الموروث غير القابل للتطوُّر ، رغم أن الإسلام دين التطور ، ودين المرونة ، ودين الانفتاح ، ودين المعاملة ، ودين النصيحة ، ودين الأخلاق ، ودين الإنسانيّة ، دين
ص: 453
السماحة والعزّة والكبرياء والأنفة ، هذه هي مبادئ ديننا الحنيف الذي نزل به الوحي على نبيِّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، بحيث إذا أردت السؤال من أحد العلماء فإجابته على شقّين :
الشقّ الأوّل : إما يجاوبني ، وإمّا يقول لي : ما هذا السؤال الذي تطرح؟ فيسفِّه سؤالي!!
والشقّ الثاني : إذا كان سؤالي عن مذهب معيَّن ، ولم يكن الجواب حاضراً في ذهن الشيخ فيقمعني : ما يجوز تسأل هكذا سؤال ، هذا سؤالك غلط ، لا يجوز أن تجادل ، الجدل فيه إثم ، صوم وصلي وبس ، لماذا تقلق نفسك بهكذا أفكار ، فالشيخ عندنا في البلد ديكتاتور.
فصرت أتساءل في نفسي : يا إلهي! إذا أريد أن أستفسر عن ديني ، وعن بعض الأفكار الصعبة التي تدور في ذهني أواجه بالقمع .. والإرهاب ، وأهل البلد مع الشيخ ، وليسوا معي ، ولا مع أفكاري ، فعشت في حيرة.
فمرَّة من المرّات كنت طالباً في الثانوية ، وقال لي أحد الأصدقاء : ما رأيك في أن نزور الشيخ العلامة الكبير عزّ الدين الخزنوي ، بقرية تل معروف ، شرق مدينة القامشلي؟
فقلت له : حاضر ، وفعلا سافرنا أنا وصديقي ، وكانت في جعبتي مجموعة من الأسئلة ، ففرحت وشعرت بأن صديقي يريد أن ينفِّس عني ، فوصلنا إلى قرية تل معروف ; قرية الشيخ الخزنوي ، فرأيت الناس آلافاً مؤلَّفة تتقدَّم قبل عشرة أمتار من الوصول إلى الشيخ زحفاً على الأيادي والركب ، وبعد الوصول يقبِّلون
ص: 454
أيادي الشيخ وجبهته ، فرأيت صفّاً كبيراً من الناس خلف بعضهم البعض ، بحيث السائل يجلس عند الشيخ دقيقة ويخرج ، فقلت لصديقي : كيف أستطيع أن أسأل وسط هذا الزحام الهائل من البشر؟ وهل أتجرَّأ أن أناقش وسط هذا المعترك؟ فقلت لصديقي : واللّه إن سألت وناقشت ليمزِّقوني هؤلاء الخدم المقيمون عند الشيخ ، فقال لي : نتبارك بالشيخ ، ونسلِّم عليه ونخرج.
وبقينا أكثر من ثلاث ساعات ولم نستطع أن نصل للشيخ ، ورجعنا إلى القرية ولم نستفد شيئاً.
فصرت أتساءل ، هل الدين ديكتاتورية ، امبراطورية ، تسلط ...؟
فقلت : غداً أذهب إن شاء اللّه تعالى إلى قرية تقع في الجنوب الشرقي من حقول البترول ( رميلان ) لشيخ مشهور هناك يدعى : الشيخ محمّد نوري ، عالم المنطقة ، فعندما ذهبت إليه أسأله ، ودخلت إلى المضافة التي تقع شرق المصلَّى للمسجد ، قالوا لي : الشيخ مريض ولم يستطع الإجابة عن الأسئلة.
ومرَّت الأيّام .. والسنون ... وأنهيت دراستي الجامعيَّة في حلب ، وشاء اللّه والأقدار بأن أخدم خدمة العلم في بيروت ، وكنت بعد الانتهاء من الدوام أقوم بزيارة بعض المكتبات ، وأجلس أقرأ في المكتبة ; لأن الوضع لا يسمح لي في المنطقة أن أقرأ بسبب عدم وجود الفراغ ، وبدأت أستعير بعض الكتب الدينيّة لأقرأها ، عسى أن أجد حلاًّ لأسئلتي التي كانت تدور في ذهني وأنا في الثانويَّة ، بالرغم من أن أسئلتي لم تكن محيِّرة ، مثل : من هي الفرقة الناجية؟ باعتبار أن الرسول صلی اللّه علیه و آله قال : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة ناجية ،
ص: 455
والباقون في النار (1).
ومن هذه الأسئلة والسؤال الأكثر إلحاحاً : باعتبار أن اللّه خلق آدم وحوّاء فهل تزوَّج أولاد أدم أخوات بعضهم البعض؟
فاقترحت على بعض الأصدقاء الذهاب إلى الشيخ ونسأل ، وفعلا ذهبنا وسألته عن بعض القضايا العقائديَّة التي تتعلَّق بالكون والإله ، عقل يفكِّر ، فالإنسان بطبعه يحبُّ السؤال ; لأن عمدة العلم كما يقول العلماء في السؤال ، والرسول صلی اللّه علیه و آله يقول : اثنان لا يتعلَّمان : مستح ومتكبِّر (2) ، وكما يقول صلی اللّه علیه و آله : لا حياء في الدين ، واللّه تعالى يقول في محكم كتابه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (3) ويقول تعالى في آية أخرى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
ص: 456
الْعُلَمَاء ) (1).
فلهذا كانت طبيعتي منذ نعومة أظفاري التساؤل ، وأسأل بكثرة لأفهم المسألة والموضوع ، وهكذا تعرَّفت على صديق لي في بيروت أثناء فترة خدمة العلم ، اسمه : دخل اللّه ، من الجنوب ، يسكن في منطقة اسمها : حي السلم ، فدعاني مرَّة لزيارته في بيته فلبَّيت الدعوة ، ولأول مرَّة أزوره ، فعندما زرته رأيت عنده مكتبة صغيرة ، فدفعني الفضول وحبُّ المعرفة لأرى هذه الكتب ، وعن ماذا تبحث وتدور ، فوقع نظري على كتاب اسمه ( المراجعات ) ، فسألت صديقي : عن ماذا يبحث هذا الكتاب؟
فقال لي : عبارة عن حوار بين عالم سنّيٍّ وعالم شيعيٍّ ، يتحاورون في قضيَّة الخلافة والإمامة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قلت له : لطيف ، هل أن العالم السنّيّ غلب الشيعيَّ في الحوار؟
فضحك صديقي ، وقال لي : العالم السنّيُّ يغلب العالم الشيعيَّ؟! هذا مستحيل ، فعرفت منذ تلك اللحظة بأن صديقي شيعي ، حيث إنه كان يجهِّز الطعام ، ففوجئت ، ذلك لأن أحد علمائنا في المنطقة كان يقول لي دائماً : إيّاك ومجالسة الشيعي ، إياك ومحاورة الشيعي ، لا تحاور الشيعي ، ولو كان الجدال عن حقّ ، هؤلاء الشيعة قتلوا إمامنا الحسين علیه السلام ، ولحدّ الآن يبكون ويلطمون ويندبون هم ونساؤهم وأطفالهم ندماً وخوفاً ، عسى اللّه أن يغفر لهم.
هؤلاء الشيعة يعتقدون بأن الرساله نزلت على علىّ ( كرّم اللّه وجهه ) وتاه الوحي جبرائيل ونزل على محمَّد صلی اللّه علیه و آله ، وغير ذلك ، يسجدون للحجر ، ويسبُّون
ص: 457
الصحابة ، ويعملون بالتقيَّة بينهم سرّاً ، لا يظهرونها لأحد ، وذبيحتهم محرَّمة لا يجوز لنا أن نأكل منها.
فتذكَّرت كلام الشيخ عندنا في المنطقة ، فاعتذرت عن الطعام بطريقة لبقة ، بحيث إني لم أشعر صديقي بشيء ، وشربت عنده القهوة والشاي ، فقال لي صديقي : لماذا لا تأكل؟ أنا أتيت باللحم من أجلك.
فقلت له : لا أستطيع أن آكل اللحم! فصارت الأفكار تتضارب في ذهني وتتصادم وتتصارع ، فقلت : يا إلهي! هذا ما حدَّثنا به الشيخ ، وفعلا شاهدته أمام عيني ، كان يقول لنا الشيخ عندما كنّا في المنطقة : الشيعي يقول آخر الصلاة ثلاث مرَّات : تاه الوحي جبرائيل ..
وفعلا راقبت صديقي وهو يصلّي على الحجر ، وأشار إلى أذنه ثلاث مرَّات دون أن أفهم ما قال ; لأنه كان يتمتم بصوت هادئ ، عندئذ أيقنت تماماً بأن كلام الشيخ صحيح ، وكان يؤكِّد لنا الشيخ : حتى إذا سألته لا يعطيك الحقيقة ; لأنهم يستعملون التقيّة ، والتقية أشدُّ خطراً ، ولا يطلعون أحداً على دينهم ; لأن لديهم الظاهر شيء ، والباطن شيء آخر ، ولا يطلعون أحداً على باطنهم.
فقال لي صديقي : إذا أردت أن تستعير هذا الكتاب فخذه ، وبعد الانتهاء منه أرجعه إليَّ ، فأخذت منه كتاب ( المراجعات ) إعارة لمدّة أسبوع ، وفعلا بدأت بالقراءة في هذا الكتاب ، وكنت واثقاً من نفسي بأنه كتاب ضلال ، سوف أردُّ عليه ، وأفهم الشيعي من هو السني؟!!
فقرأت ترجمة الكتاب ، واستمرّيت بالقراءة ، وقطعت منه تقريباً أكثر من مئتين صفحة ، ففوجئت وتشنَّجت من هذا الكتاب المدسوس ، واستغربت من هذه المعلومات الغريبة التي لأول مرَّة تطرق ذهني ، وخاصة علماؤنا دائماً
ص: 458
يحذِّرونا من قراءة كتب الضلال ، فقلت : إن استمرّيت في القراءة في هذا الكتاب سوف يحرفني ، لا شك في ذلك إطلاقاً ، وإذا أردت أن أتتبَّع الأدلّة ليس لديَّ المصادر ، وليس لديَّ الفراغ الكافي للبحث في هذه القضية الشائكة ، فأغلقت الكتاب لأنه شوَّش تفكيري.
اللقاء مع الدكتور عبد الفتاح صقر المصري (1)
وبعد أسبوع من قراءة كتاب المراجعات وإغلاقه لشدّة ما رأيت فيه من بعض المسائل التي جعلتني أتشنَّج ، فقرَّرت وبدافع قويٍّ أن ألتقي الشيخ عبد الفتاح صقر ، وذهبت أسأل عنه في كليَّة الشريعة ، فقالوا لي : في السكن حالياً ، والسكن بعد منطقة عائشة بكار توجد منطقة اسمها نزلة أبي طالب علیه السلام ، فنزلت فيها وبدأت أسأل إلى أن وصلت موقع السكن ، فصعدت وطرقت الباب ، انتظرت قليلا ، وفتح الباب ، فقلت للذي فتح الباب : أودُّ مقابلة الدكتور الشيخ عبد الفتاح صقر ، وإذا به يقول لي : تفضَّل ، تفضَّل يا بنيَّ ، ودخلت وجلست لحظات ، وقال لي : من أين أنت أيها الأخ؟
قلت له : من سوريا.
فقال : أهلا وسهلا ، أهلا وسهلا ، نحن وسوريا كنّا وحدة ، ولا يزال الشعب المصري والسوري شعباً واحداً.
قلت له : نعم.
ص: 459
قال : ما سؤالك أيُّها الأخ؟
قلت له : سؤالي - شيخنا الجليل! - دعاني أحد الأصدقاء ، ولم أعلم أنه شيعيٌّ ، لأني لو كنت أعلم أنه شيعيٌّ بصراحة لم أزره ، لماذا؟ لأن الشيخ عندنا في المنطقة دائماً يحذِّرنا من مجالسة الشيعيِّ ، وعدم محاورته في المجال الديني.
فقال الشيخ عبد الفتاح صقر : الشيعة عندهم مبالغات كثيرة ، وكثير من أقوال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينسبونها للإمام علي علیه السلام ، وعندهم تحريف في بعض الأحاديث.
فقلت : أيُّها الشيخ! ما رأيكم في كتاب المراجعات؟
الشيخ عبد الفتاح صقر : إيَّاك أن تقرأه يا بنيَّ ، هذا كتاب خياليٌّ ، كتبه عبد الحسين شرف الدين بعد وفاة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري ، أحذِّرك من قراءته ، لا تفرقن بك السبل يا بنيَّ ، مالك ومال الشيعة؟؟ فرقة وضعت مقابل المعتزلة!!
ودَّعت الشيخ عبد الفتاح صقر ، وطلبت منه الدعاء ، وأرجعت كتاب المراجعات لصديقي ، وأوقفت المطالعة طيلة فترة خدمة العلم.
وأخيراً انتهت خدمة العلم في عام تسعين ، وبعد الانتهاء من معركتنا مع ميشيل عون ، حيث لم أسافر إلى البلد مباشرة ، بسبب الفقر المدقع ، والظروف الصعبة التي يمرُّ بها أهلي ، وخاصة الظروف الماديّة ، حيث لم أتمكَّن من الذهاب إلى أهلي بعد التسريح من خدمتي الإلزاميَّة ، فاضطررت إلى المكوث في بيروت ، وأسكن مع الشباب السوريين في منطقة تسمَّى خلدة ( مشروع نائل السكني ) ، فكان هناك شباب من القرية والبلد فسكنت معهم ، وتركت مهنة
ص: 460
التعليم ، وكنت أجد مصلحة شاقّة وصعبة من الإعداديّة والثانويّة ، حيث كنت أسافر مع عمّي ( أبو طلال ) إلى بيروت ، وعلَّمني تجارة الإسمنت والحديد ، إذ أصبحت معلِّماً في هذا المجال ، ومكثت أكثر من شهرين بعد انتهائي من الخدمة.
وبعد فترة من العمل أكثر من أسبوع جاءتنا عطلة ، فتوقَّفت أسبوعاً آخر عن العمل ، وكنت أقف صباحاً مع العمَّال العاطلين في هذا المشروع ; لأن هناك مكاناً يشبه المعرض كنت أقف فيه وأنتظر الساعات الطويلة ، حتى يأتيني إنسان بحاجة إلى عامل أو معلِّم حدّاد أو نجّار ، وهكذا تجري الأَيَّام والليالي ، وإذا بهذا الصديق الشيعي ( دخل اللّه ) يأتي إلى معرض العمَّال ، فينظر في وجوه العاملين ، فيشاهدني من بينهم ، شتان ما بين الموقفين!! موقف كنت أرتدي البزّة العسكريّة ، وموقف حاليّاً أرتدي فيه لباس العمل ، فقال صديقي الشيعي : أتشتغل معي؟ تشغِّلني في مصلحة ( البلاط )؟
فقلت له بعد فترة : نعم ، وبدأنا نشتغل أنا وصديقي الشيعي سويَّة ، وفي اليوم الثاني قال لي : لِمَ لمْ تحدِّثني - يا أخي - إلى أين وصلت في كتاب المراجعات؟
فقلت له : واللّه لم أتمكَّن من قراءته كما يجب ; لأن القراءة - يا صديقي - تحتاج إلى ذهن صاف ; لأن العلم - كما يقال - شديد الانفلات ، إذا أعطيته كلَّك أعطاك بعضه ، وإذا أعطيته نصفك لم يعطك شيئاً ، وأنا كنت مكابراً معه لوصايا علمائنا الحادّة من مجالسة الشيعي والحوار معه.
وبدأ شبح المراجعات يطاردني من جديد ، وشبح صديقي يطاردني في كل مكان ، أفكِّر بكلمات الشيخ عندنا في المنطقة ، أفكِّر بكلمات الدكتور الشيخ عبد الفتاح صقر : يا بنَّي! هذا كتاب خياليٌّ ، كتبه العالم الشيعي بعد وفاة شيخ
ص: 461
الأزهر.
وأحدِّث نفسي وأصارعها ، هل أنا أعقل من هذا الدكتور الذي قضى عمره في الدراسة واختصاصه في الشريعة الإسلاميّة ، ومن الجامع الأزهر العاصمة الإسلاميّة للعالم؟
وذات يوم جاء أخي إلى بيروت ليعمل في العطلة الصيفيّة ، حيث كان طالباً في الثانويّة ، فحدَّثته في الموضوع وقلت له : ما رأيك - يا أخي - تنزل معي إلى بيروت؟
قال لي : لماذا؟
قلت له : عندي بعض الأسئلة عن الشيعة ، وقلت له أيضاً بأني ذهبت فيما سبق إلى دار الفتوى منذ ستة أشهر ، والتقيت بشيخ مصري ، وأريد اليوم الذهاب إلى مسجد برج أبي حيدر ، يقال أن هناك عالماً علامة اسمه : الشيخ عبد اللّه الهرري ، أودُّ اللقاء معه ، وفعلا وصلنا أنا وأخي والصغير ( دحام ) إلى هذا المسجد ، والتقيت بشيخ اسمه : طارق اللحام ، وبعد أن أدَّيت فريضة صلاة المغرب خلف سماحة الشيخ اقتربت منه وصافحته ، وقلت له : تقبَّل اللّه أعمالكم يا شيخ.
فردَّ عليَّ : وأنتم كذلك.
فقلت له : شيخنا! لديَّ بعض الأسئلة.
فقال لي : تفضَّل ، حيث كان يتكلَّم الفصحى.
فقلت له : ما رأيك بكتاب المراجعات عند الشيعة؟
ص: 462
فقال لي الشيخ طارق : من أين أنت؟
قلت له : من سوريا ، وأصلا من ريف حلب ، وأسكن حاليّاً في مدينة القامشلي.
وإذا به يسألني : هل قرأت كتاب ( ثمَّ اهتديت ) للضالّ التونسي؟ إذا قرأته أو موجود عندك فأحرقه!!
قلت له : لأوَّل مرَّة أسمع باسم هذا الكتاب.
فقال لي : مؤلِّفه خياليٌّ غير موجود ، اسمه : التيجاني السماوي ، كتبوه الشيعة باسمه على أنه سنّيٌّ وتشيَّع ، وبدأ يدعو لمذهبهم ، ونحن اتصلنا في تونس ، فقالوا لنا : هذا الاسم غير موجود.
وأمَّا عن كتاب المراجعات أحذِّرك من قراءته ، ولا تأخذ علمك من القراءة والصحف فتسمَّى مصحفياً ; لأن هناك قواعد للقراءة ، فتضلن بك السبل ، إذا عندك فراغ احضر عندنا للدروس ; لأن العلم عندنا بالتلقّي ، ومن ليس له شيخ فشيخه الشيطان ، وقال لي : تفضَّل إلى المكتبة ، وقدَّم لي كتاباً هديَّة اسمه ( المقالات السنيّة في كشف ضلالات ابن تيمية ) للشيخ عبد اللّه الهرري.
فودَّعت سماحة الشيخ طارق ، وقبلت منه الهديَّة ، وذهبت ، وبدأ يراودني الفضول للبحث عن كتاب ( ثمَّ اهتديت ) للتيجاني السماوي ، ورجعت أنا وأخي لمجمع نائل السكني حيث مقرُّنا هناك ، وبعد فترة أسبوع وإذا بصديقي الشيعي يقدِّم لى كتاب ( ثمَّ اهتديت ) هذا ما حدَّثني به سماحة الشيخ طارق وحذَّرني من قراءته ، وأنه شخص لا أصل له.
فأخذت الكتاب وقلت لصديقي بأن هذا الشخص شخص خياليٌّ ، وإذا بالأخ دخل اللّه يقول لي : منذ شهر كان في بيروت ، وأنا رأيته بنفسي ، دعك - يا
ص: 463
أخي - من هذه الأقاويل ، أنت إنسان متعصِّب ، وتفكيرك على الطريقة التقليديّة الموروثة ، دائماً تقول لي : الشيخ عندنا قال كذا ، والشيخ قال كذا ، فكِّر بعقليَّتك لا بعقليَّة الشيخ.
فقلت لصديقي : عفواً ، أنا وأنت نفهم أكثر من العلماء والشيوخ؟
فردَّ عليَّ صديقي الشيعي قائلا : أنتم السنة .. الدين عندكم عادة وليس عبادة.
فقلت له : أفهمني كيف؟
قال لي : الشيوخ عندكم تصلون بهم إلى درجة القداسة ، وبعد قال الشيخ .. لم يبق مجالا إطلاقاً للنقاش والحوار معكم.
قلت : وأنتم الشيعة كيف تتعاملون مع الشيوخ؟
قال : نحن نحترم الشيوخ ، ولكن على الطريقة المألوفة في الوسط الشيعي ، إذا كان هناك خطأ من العالم .. ونبَّهته إليه فإنه يتقبَّل ذلك بكل رحابة صدر.
فقلت له : هل هذا من المعقول؟ عندنا العالم لا يستطيع أحد مناقشته ، حتى إذا أردت أن تسأل سؤالا ولم يعجبه لا يردُّ عليه أصلا.
وأعطيك مثالا على ذلك : مرَّة دخلت إلى المسجد الأموي ، وقصدت مفتي دمشق في هذا المسجد ، وكان برفقتي المهندس عبد الحكيم السلوم ، لأسأله عن حديث الفرقة الناجية والخلفاء الاثني عشر من هم؟
فأجابني بكلمة : آسف.
وكرَّرت السؤال ، وقال لي : آسف .. وكرَّرته ثالثاً وقال لي : آسف. بصوت
ص: 464
عال.
فخرجت مخذولا .. لماذا لم يردَّ على أسئلتي؟
صديقي الشيعي : وهل هذا عالم؟ العالم متواضع ، ليِّن ، لا يكون فظّاً غليظ القلب ، يردُّ على أسئلة الناس ، يجب أن يستقطب الناس من حوله .. لأنه إذا صلح العالِم صلح العالَم ، وإذا فسد العالِم فسد العالَم ، هؤلاء علماء الأمّة هم القدوة ، والأسوة الحسنة في المجتمع الإسلاميّ.
ولكن نحن الشيعة عندنا مسألة مهمّة ، وهي الدليل في النقاش والحوار ، والدليل يجب أن يكون من القرآن والسنّة ، ونحن أبناء الدليل ، أينما مال نميل.
فأجبته : هل نحن على الباطل حتى تقول لي : دليلكم القرآن والسنة؟
ونحن ماذا عندنا؟ أليس القرآن والسنة؟
صديقي الشيعي : يا أخي! نفترض جدلا هذا الكتاب كتاب ضلال ، لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم السنة؟
قلت له : يردّون على شخصيّة خياليّة موهومة ، مع الأسف عليك أيُّها الصديق ، إذا إنه إنسان خياليٌّ غير موجود فكيف يردُّون عليه؟
صديقي الشيعي : سؤال ، نفترض أن التيجاني شخصيّة خياليّة وهميّة غير موجودة ، فهل الأدلّة الموجودة في كتابه أيضاً خياليّة موهومة وغير موجودة؟ أجبني على ذلك.
فأحرجت أمامه ; لأني لا أعرف مضمون كتاب ( ثم اهتديت ) ، ومن ثمَّ حذَّرني منه الشيخ طارق وقال لي : احرقه ، فوقعت بين نارين ، بين إحراج الصديق الشيعي : لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم؟ وبين تحذيرات الشيخ طارق : إيَّاك أن تقرأه ، فأحرقه! يا إلهي! خلِّصني من هذا المأزق الشديد ، اللّه أكبر!
ص: 465
لماذا؟ لماذا البحث والعناء؟ ما هذه القصّة؟ من أين جاءني هذا الشيعي ليشوِّش عليَّ أفكاري ، وينغِّص حياتي ، وأنا رجل الآن أعمل بالإسمنت والأعمال الشاقّة المتعبة المجهدة؟ فعشت في صراع حادٍّ مع عقلي ونفسي ، عقلي يقول لي : اقرأ كتاب ثمَّ اهتديت واعرف ما فيه ، ونفسي قتلها الخوف والتحذير من الشيخ طارق.
نهاراً محرج من الصديق الشيعي ، يقول لي : أنت متعصِّب ، ولا تأتي بالدليل ، ألم تسمع بالبخاري ومسلم؟ فكتاب ثم اهتديت كل أدلّته من البخاري ومسلم.
فقلت له : هناك طبعات للبخاري ومسلم مزوَّرة ومدسوسة ، فما بالك يا صديقي؟ إن التيجاني شخصيّة موهومة كما يقول علماؤنا ، وأتى بأدلّة مزوَّرة من البخاري ومسلم.
فأين أصبح يا صديقي؟! دعني في حالي وعملي ، وكلُّنا إن شاء اللّه مسلمين ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ) (1) ، وكلَّما أصبحنا وأتانا يوم جديد يقول لي : فكِّر بمذهب أهل البيت علیهم السلام ، فكِّر لتنقذ نفسك بموالاة علي بن أبي طالب علیه السلام .
قلت له : أنا وأنت متفقان على حبِّ عليٍّ ( كرَّم اللّه وجهه ) لكن مذهب أهل البيت علیهم السلام هذا مصطلح جديد لأوَّل مرَّة يطرق ذهني ، قلت له : وماذا تقصد من كلمة موالاة علي علیه السلام ؟
سألني الشيعي قائلا : ألم تقل : عندكم سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا
ص: 466
الحسن علیه السلام ؟
قلت له : نعم ، يقول علماؤنا ذلك ، بأن سيِّدنا معاوية اجتهد فأخطأ فله نصف الأجر.
الشيعي : وما تقول في البخاري؟
المحاور : أصدق كتاب عندنا ، وهو لا يقبل الشك.
الشيعي : ينقل لنا البخاري في صحيحه حديثاً مشهوراً ومتواتراً - اسأل عنه علماؤكم - : يا عمَّار! تقتلك الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (1).
أليس الفئة الباغية هي فئة معاوية من خلال الحديث؟ وهي التي قتلت عمّاراً ، ألم يقل الرسول صلی اللّه علیه و آله في عمار : إن عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه؟ (2)
ص: 467
قلت له : نعم.
قال : فمن أين جاء؟ فأين له وجه الاجتهاد كي يحصل على نصف الأجر ، وهو قد قتل الصحابي الجليل عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : صبراً صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة (1)؟ فأين له من عمار بن ياسر؟
وجاء الليل وجاء الصراع ، عقلي يقول : هل علماؤنا مضلَّلون عبر التاريخ؟ هل علماؤنا ضحايا لإعلام مضلِّل؟ تفكيرهم قائم على الطريقة التقليديّة الموروثة ، لا يقبلون الناش والحوار ، ومن خالفهم في الرأي اتهموه بالكفر وفسّقوه وضلَّلوه ، وأقاموا عليه الدنيا وأقعدوها ، لأنه خالفهم في الرأي ، وأخذوا يشهِّرون به في المجالس ، ويحذِّرون الناس منه لمجرد أنه أثار تساؤلا لا يعرفون الإجابة عليه ، أو لا يريدون الخوض فيه.
ص: 468
أستاذي العالم! لا تريد أن تبحث فدعني أبحث ، دعني أقرأ .. دعني أفكِّر ، فإلى متى ( ممنوع أن تقرأ ، ممنوع أن تبحث ، ممنوع أن تفكِّر ) إلاّ بإذن من الشيخ ، وإلاَّ فسَّقني ودمَّرني ، وأقام عليَّ أهل البلد.
اللّه أكبر! ما هذه السلطة المستبدّة؟ ما هذه الدكتاتوريَّة؟ نفسي تقول : إيَّاك أن تقرأ! الرعب مسيطر عليها ، تحذيرات الشيخ في المنطقة والشيخ الدكتور عبد الفتاح صقر ، والتحذيرات الحادّة من الشيخ طارق اللحام ، دوَّامة لا أعرف متى الخروج منها؟ فاستيقظت ليلا من شدّة الصراع الذي أرهقني وهدَّ كياني ، أفكار هذا الصديق الشيعي وطريقته في الحوار مقنعة ... إذا كان هذا الكتاب على ضلال فليردَّ عليه علماؤكم ، فليحاوروا هذا الكتاب ، وإلاَّ فإن هذا الكتاب كتاب صحيح.
وكيف تفكِّر وتقول : سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا عمّاراً ( رضي اللّه عنه ) ، وسيِّدنا معاوية سمَّ أو قتل سيِّدنا الحسن علیه السلام ، والحسن معروف بسيِّد شباب أهل الجنة؟ ما هذا التناقض الحادّ؟ هل الدين جاء بالتناقض؟ لا واللّه لم يأتِ بالتناقض.
وفي اليوم الثاني وبعد أن انتهينا من العمل قلت لأخي : ما رأيك في أن تنزل معي إلى بيروت؟ قال لي : أنا متعب جدّاً هذا اليوم.
فعزمت أن أنزل لوحدي ، وذهبت إلى مسجد صبرا ، والتقيت بالشيخ صالح عيزوقي ، وبعد أن أدَّيت فريضة صلاة المغرب خلفه قلت له : شيخنا الجليل! لديَّ بعض الأسئلة ، فسألني : من أين الأخ؟
فأجبته : من سوريا.
ص: 469
فقال لي : أنا درست في دمشق ، وتتلمذت على شيوخ دمشق.
فقلت له : سماحة الشيخ! أريدك أن ترشدني إلى كتب الصحاح ، وهل كتب الصحاح كلها صحيحة عندنا أهل السنة؟
فأخذني إلى جانب من الناس ، وقال لي : يا بنيّ! رحم اللّه من قبلنا ، إن الصحاح عندنا مليئة بالمسيحيّات والإسرائيليّات ، وتغيير بعض الحقائق.
فقلت له : البخاري ومسلم هل فيه مسيحيّات وإسرائيليات؟
قال ، نعم ، كلها جاءتنا عن طريق كعب الأحبار اليهودي ، وتميم الداري المسيحي وغيرهما.
قلت له : سماحة الشيخ! ما تنصحني؟ هناك صديق شيعي نعمل أنا وإيّاه في ورشة عمل في خلدة ، وقدَّم لي كتابين للقراءة ( المراجعات ، ثمَّ اهتديت ) وصار له فترة بعد أن امتنعت عن قراءتهما بسبب فتاوى من علمائنا ، أصبحت محرجاً أمامه في بعض الحوارات.
فقال لي : يا أخي! المذهب الخامس لديهم الاجتهاد مفتوح ، أمَّا قصَّة الحوار فهم أذكياء فيه ، بسبب ظلمهم واضطهادهم عبر التأريخ من السلطات ، فاضطرُّوا بكل السبل وأساليب فنّ الكلام للدفاع عن أنفسهم ، ممَّا جعلهم يغربلون الصحاح عندنا وكتب التأريخ ليثبتوا أنفسهم ، لأن علماءنا علماء المذاهب الأربعة لم يعترفوا بهم كمذهب قائم ، لكن أنصحك بعدم الخوض في حوارات مع صديقك هذا ; لأن القضية شائكة ، والبحث طويل ، وطريق صعب ومتعب ، هم لديهم أدلّة مقنعة ، ونحن لدينا أدلّة مقنعة ، فاتركه يا أخي.
فودَّعت الشيخ صالح ، ورجعت إلى مكان عملي ، أفكِّر بكلمات الشيخ صالح ، وجاء الليل ، وجاء التفكير ، لديهم أدلّة مقنعة ، ولدينا أدلّة مقنعة ، فقلت :
ص: 470
ما دام لديهم أدلة مقنعة - كما قال لي الشيخ - ما المانع من أن أقرأ كتاب المراجعات ، وكتاب ثمَّ اهتديت ، وأقف على هذه الأدلّة؟
وقعت في تناقض حادّ ، الشيخ المصري حذَّرني!! والشيخ طارق حذَّرني!! والشيخ فتح الباب ولكن في مصراع واحد ، لماذا لا أكمل رحلة البحث؟ فسألت أحد أصدقائي من الذين يعملون معنا في الورشة ، فقلت له : من يصلّي عندكم إماماً للجماعة؟
فقال لي : نحن في برج البراجنة عندنا شيخ كبير اسمه : الشيخ إسماعيل عرناسي ( جامع العرب ) ، وفي اليوم الثاني وبعد الانتهاء من العمل ذهبت إليه ، حيث انتظرت في المسجد موعد صلاة المغرب ومجيء الشيخ ، فجاء الشيخ وصلَّينا خلفه جماعة ، وعندما انتهى صافحته واقتربت منه ، فقلت له : سماحة الشيخ! أنا شابٌّ سوريٌّ ، وأعمل في ورشة في منطقة خلدة ، وأشتغل مع صديق شيعيٍّ ، وكل ساعة يحاورني في الدين ، ويسألني ويحرجني ، فما تنصحني باللّه عليك أيُّها الشيخ وتريحني؟!!
فقال لي : يا بنيَّ! صار لي أكثر من أربعين سنة في هذا المسجد ، ولم اختلط مع واحد شيعيٍّ ، والكل يعلم ذلك ، لكن أنصحك هؤلاء الشيعه يقولون في آخر الصلاة : تاه الوحي ثلاث مرَّات ، وينسبون أقوالا للرسول صلی اللّه علیه و آله ويقولون : قال الإمام علي علیه السلام .
فقلت له : شيخنا الجليل! أنا قرأت في كتيِّب لتعليم الصلاة عندهم ، حيث يقولون آخر الصلاة ثلاث مرَّات : اللّه أكبر .. اللّه أكبر .. اللّه أكبر.
ص: 471
فردَّ عليَّ : يا بنيَّ! ماذا تعرف من دهاء هؤلاء الشيعة؟ إنهم يستعملون التقيَّة ، وإمامهم الصادق علیه السلام يقول : ( التقيّة ديني ودين آبائي ).
فرجعت إلى مكاني مخذولا تائها محتاراً ، وأوشكت من أن أصاب بأزمة نفسيَّة ، وسيطر عليَّ القلق ، بحيث لم أعد أستطيع العمل ، أصبت برجفة حادّة وقشعريرة ، فأخذني أخي إلى الدكتور ، وقال لي الدكتور : جسميّاً لا يوجد فيك شيء ، فأنت مرهق نفسيّاً وفكريّاً ، يا أخي! بماذا تفكر؟ هذه الدنيا لا تستحقّ التفكير ، خذ إجازة من العمل وسافر إلى البلد.
فنمت يومين في الفراش ، محاولا التخلُّص من التفكير ، وصرت أجلس مع أصدقائي ، أشاهد برامج التلفزيون والمسلسلات لأروِّح عن نفسي التعب والإرهاق.
وبعدها عزمت أن أكمل قراءة كتاب المراجعات ، وقلت لصديقي الشيعي : إذا سمحت ، غداً اجلب لي معك كتاب المراجعات.
ففرح صديقي وقال : أين أنت هذين اليومين؟
فقلت له مكابراً : واللّه إن أعصابي وجسمي مرهقان ، وأخذني أخي دحام إلى الدكتور ، وقال لي : تحتاج إلى إجازة وراحة من العمل.
وفعلا في اليوم الثاني أتاني صديقي الشيعي بكتاب المراجعات ، وبدأت بالقراءة فيه حتى وصلت إلى ص 71 ، فاستوقفني مقال للشيخ الأنطاكي الحلبي المتشيِّع ( الاختلاف بين المذاهب الأربعة ) ، واستوقفتني أقوال للإمام عليٍّ ( كرَّم اللّه وجهه ) ، ما أقواها وأشدَّها وطأ وأثراً على النفس! في ص 75 قوله : ( نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمِّي سارقاً ).
ص: 472
ثمَّ قال في ص 82 : وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام النبي صلی اللّه علیه و آله ، إذ أهاب بالجاهلين وصرخ في الغافلين ، فنادى : ( يا أيُّها الناس! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : ( إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي : كتاب اللّه ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ).
فسجَّلت مصادر الحديث الذي ينقلها العالم الشيعي في كتابه ( المراجعات ) ، وبعد يومين نزلت إلى مكتبة دار الفتوى ( عائشة بكار ) لأفتِّش عن المصادر ، لأرى مدى صدق الشيعة في أقوالهم ، وفعلا عندما أتيت بسنن الترمذي فوجدت الحديث (1) ، فشعرت بالانتصار النفسي ، وفرحت فرحاً شديداً ، وتابعت المصادر فأنزلت تفسير ابن كثير فوجدت فيه الحديث (2).
اللّه أكبر! اللّه أكبر!! صرت أصيح ما هذا الانتصار؟ اصبر اصبر ، أحدِّث نفسي ، تابع البحث ، لا تيأس ، أشجِّع نفسي ، الآن وليس غداً يجب الذهاب إلى الشيخ عبد الفتاح صقر لأناقشه في هذا الحديث الذي سجَّلت مصادره عندي بورقة وضعتها في جيبي ، وأغلقت عليها كأني عثرت على كنز!! أحدِّث نفسي : اصبر ، تابع البحث ، فصبَّرت نفسي على فرحها الشديد.
ورجعت أتابع القراءة ، وأيُّ شيء كان يثيرني كنت أسجِّله ، وأنزل إلى المكتبة فقط ، أنزل إلى مكتباتنا حذراً من الصحاح الموجودة عند الشيعة ، كما
ص: 473
يقول علماؤنا السنة : أغلبها مزوَّرة ومحرَّفة!!
وأثارني حديث آخر استغربت منه أشدَّ الاستغراب : عن زيد بن أرقم قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) ، فسجَّلته وسجَّلت مصادره وتابعت القراءة إلى أن وصلت ص 137 ، حيث جاءت آية قرآنية تقول : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) (2) ، وأخرج النسائي في صحيحه نزولها في عليٍّ علیه السلام عن طريق رواية عبداللّه ابن سلام ، وأخرج نزولها صاحب الجمع بين الصحاح الستة في تفسير سورة المائدة ، وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير نزولها في أميرالمؤمنين علیه السلام ، فراجعت المصادر ووقفت عليها.
واستدلَّ العالم الشيعي على أن الولاية بعد اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله لعليِّ بن أبي طالب علیه السلام ، وتابع القول في آية أخرى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (3) ، ويقول : ألم يصدع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتبليغها عن اللّه يوم الغدير حيث
ص: 474
خطب خطابه ، وعبَّ عبابه ، فأنزل اللّه يومئذ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (1) ألم تر كيف فعل ربك يومئذ بمن جحد ولايته علانية ، وصادر بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جهرة ، فقال : اللّهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فرماه اللّه بحجر من سجّيل ، كما فعل من قبل بأصحاب الفيل ، وأنزل في تلك الحالة : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِع * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) (2).
وهنا جاء التأمُّل والصراع ، والمسألة مع النفس ومع الذات ، فراجعت المصادر ، ووقفت عليها ، ووجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي ، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم ، وإحاطته الدقيقة بالتأريخ والسيرة والصحاح ، واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب ، وثوبه الناعم المزركش ، وصرت أفكِّر ، يا إلهي! أين كنت أنا؟ أين علماؤنا من هذه الكتب؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمَّدون طمس هذه الحقائق عنّا؟ لأنه ليس من اختصاصنا البحث في الدين وإنما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط ، أم أنهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب؟!
وتابعت القراءة إلى أن وصلت إلى الخطبة الشقشقية : ص 680 من المراجعات ، فاستوقفتني خطب ومناشدات للإمام علي علیه السلام ، وشدَّت انتباهي ، وأسرت تفكيري ; لما فيها من البيان والتصريح عن مظلوميّته بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ،
ص: 475
حيث كان يبثُّ شكواه من خلال هذه الخطب والمناشدات ، فيقول إمامنا علي علیه السلام أيام خلافته متظلِّماً ، يبثُّ آلامه متألِّما منها ، حتى قال :
أما واللّه لقد تقمَّصها فلان وهو يعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ... إلخ الخطبة (1).
وكم وقف متظلِّماً من القوم ، يبثُّ شكواه قائلا : اللّهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغَّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ، ثمَّ قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه (2).
يا اللّه!! ما أعظم هذه الكلمات! إنها تخرق الحجر ، وليس الدم واللحم ، فيتابع قوله : فنظرت فإذا ليس لي معين إلاَّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، أغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرَّ من طعم العلقم (3).
ص: 476
فصرت أتساءل : ما ذنب عليٍّ علیه السلام في التاريخ؟ اللّه أكبر! وأتابع البحث من جديد ، وأشحذ همّتي كي أستطيع التأمُّل والتفكُّر في مناشدات وخطابات سيِّدي وإمامي علي علیه السلام روحي فداه .. ما قرأت مقطعاً من كلماته إلاَّ وانهمرت دموعي!!
ومرَّة أخرى يبثُّ شكواه بمرارة : فجزت قريشاً عنّي الجوازي ، فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمّي (1).
أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً علينا وبغياً ، أن رفعنا اللّه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم (2).
وقوله أيضاً في خطبة له خطبها بعد البيعة له : لا يقاس بآل محمّد صلی اللّه علیه و آله من هذه الأمة أحد ، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، ونقل إلى منتقله (3).
فكلمات الإمام بعد البيعة تؤكِّد على صدق ما ذهبنا إليه ، فكلَّما وصلت
ص: 477
إلى مقطع يزداد ألمي.
هذه الكلمات القويّة لا تخرج من إنسان عاديٍّ ، كلمات بحدِّ ذاتها معجزة ، يتدفَّق الإشعاع منها إلى أعماق قلبي ، عبارات رصينة ، أدلّة قوية تسيطر على القارئ المتدبِّر.
وحسبك قوله في خطبة أخرى : رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتّكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير مواضعه ، معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين (1).
فما تمالكت من نفسي إلاَّ والدموع تعاودني بالانهمار ، فوقفت مبهوتاً من هذه الأمّة ، وهؤلاء القوم الذين يدّعون الإسلام ، ما أقوى هذه الكلمات! تركت نفسي تقرأ بكل ما أمتلك من تركيز ; لأني أقرأ كلمات من سيِّد الوصيين ، وخليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكل ذلك لم أكن أعلم بعد صدق هذه الخطب ، ولكنها هزَّت مشاعري ، وسيطرت عليَّ ، وصرت أتساءل : هل هذه الكلمات تصدر من الإمام علي علیه السلام ؟
هل غصبت الخلافة من عنده؟ هل هذه الكلمات لها سند معتبر؟ فبدأت تنهال عليَّ موجات عارمة من الأسئلة ، وتابعت البحث حتى عثرت على مناشدة للإمام علي علیه السلام يوم الشورى (2) ، وما أدراك ما يوم الشورى؟!!
ص: 478
وساق الحديث إلى أن قال : بداية الحيرة والشك والتساؤل :
بعد تأثّري الشديد بخطب ومناشدات علي علیه السلام الذي أوردها صاحب كتاب المراجعات في الصفحة 680 طبع ( الدار الإسلامية ) عام 1986 ، صحيح أني تأثَّرت وصدمت إثر قراءتها ، ولكن بدأت بالبحث للتأكُّد من صحّة ما يذهب إليه السيِّد الشيعي رحمه اللّه و قدس سره ، فوجدت قسماً للخطب ينقلها ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ، فقلت في نفسي : إن ابن أبي الحديد معتزليٌّ ، وليس شيعياً حتى ينتصر لمذهبه أو عقيدته ، وكان لديَّ من المسلَّمات أن نهج البلاغة للإمام علي علیه السلام ، وليس للشريف الرضي كما يقول بعض المتقوِّلين والمتعصِّبين ، حيث إنه شرحه وعلَّق عليه أكثر من عالم من علمائنا السنة الكبار ، أمثال الشيخ محمّد عبده شيخ الأزهر ، والدكتور صبحي الصالح الأستاذ في الجامعة اللبنانيّة سابقاً.
وبقي لدي تساؤل واحد ، إذا ثبتت لديَّ خطبة ومناشدة علي علیه السلام يوم الشورى سوف أعلن عن تشيُّعي وولائي واستبصاري لخطّ أهل البيت علیهم السلام ، وعند ما بدأت أقرأ وأحقِّق مصادر هذه الخطبة فعثرت على أكثر من مصدر منهم :
1 - شيخ الإسلام الشافعي الحمويني صاحب كتاب فرائد السمطين.
2 - مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، ابن المغازلي الشافعي.
ومنها رجعت إلى أمر آخر ، وهو تحليل خطبة الشورى ، والوقوف على مصادر ما قاله الإمام علي علیه السلام من أحاديث وحجج ، فوجدتها بمصادرها ( من حيث الحديث والآية التي استشهد بهما ) حيث كنت أقف على المصدر ونقله من كتاب المراجعات وأراجع في ذلك فأجد كل هذا الكلام موجوداً (1).
ص: 479
قال الشيخ هشام آل قطيط تحت عنوان ( لقاء الصدقة ) : كنت أبحث عن بعض المصادر في مدينة بيروت التي تخصُّ بحثي عن الحقيقة ... وإذا بشيخ موجود في دار النشر ، فدفعني الفضول لأتعرَّف عليه ، فقال لي : أنا الشيخ عبد الأمير الهويدي من العراق ، وسألني : من أين أنت؟
فأجبته : من سوريا.
فسألني : ماذا تعمل هنا؟
فأجبته بكل صراحة : لقد أعارني أحد الشباب الشيعة كتاب المراجعات ، ومن هنا كانت بداية البحث والتساؤل والحيرة.
فقال لي : لماذا تتعب نفسك؟ 1 + 1 = 2 ، أسألك سؤال : هل النبي صلی اللّه علیه و آله وصَّى أم لم يوصِّ؟
فقلت له : ماذا تقصد؟
قال : أقصد خلافنا كله قائم على الخلافة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، إذا وصَّى
ص: 480
الرسول صلی اللّه علیه و آله فالخلافة لعلي علیه السلام ، وإذا لم يوصِّ فالرسول فيه نقص ، وكلامه مخالف للقرآن.
فقلت له : حاشا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخالف القرآن.
قال لي : أنت متأكِّد أن الرسول صلی اللّه علیه و آله لا يخالف القرآن؟
فقلت له : نعم ، أنا متأكِّد.
فقال : إذن : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (1) لا يعقل أن الرسول صلی اللّه علیه و آله يموت بلا وصيَّة ويخالف القرآن ، والقرآن يقول : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (2).
وبعدها قال لصاحب دار النشر : أعطيه كتاب الإمام الصادق علیه السلام والمذاهب الأربعة (3) هديَّة ، وأنا أحاسبك به ، واقرأ في الجزء الثاني رسالة للجاحظ ، تأمَّل بها وتدبَّر فسوف تعرف الحقيقة ، وأنا مشغول ، أريد الذهاب ، في أمان اللّه.
فقلت له : أين أراك؟
فقال لي : سجِّل رقم هاتفي في دمشق ، فسجَّلته ، وقلت له : في أمان اللّه .. وخرجت من الدار ذاهباً لزيارة صديق لي ، وبعد أن أنهيت الزيارة رجعت مبكِّراً لقراءة هذه الرسالة التي أشار إليها الشيخ الهويدي ، وهذه هي الرسالة.
قال : هذا كتاب من اعتزل الشك والظنّ ، والدعوى والأهواء ، وأخذ باليقين والثقة من طاعة اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وبإجماع الأمَّة بعد نبيِّها علیه السلام ممَّا يتضمَّنه الكتاب والسنّة ، وترك القول بالآراء ، فإنَّها تخطئ وتصيب ; لأنَّ الأمَّة أجمعت أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله شاور أصحابه في الأسرى ببدر ، واتّفق على قبول الفداء منهم ، فأنزل اللّه تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) (1).
فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ، ولا يعطي اليقين ، وإنّما الحجّة لله ورسوله صلی اللّه علیه و آله وما أجمعت عليه الأمّة من كتاب اللّه وسنّة نبيِّها ، ونحن لم ندرك النبيَّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الأمّة في أحقِّهم ، فنعلم أيّهم أولى ونكون معهم ، كما قال تعالى : ( وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) (2) ، ونعلم أيّهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (3) حتى أدركنا العلم ، فطلبنا معرفة الدين وأهله ، وأهل الصدق والحقّ ، فوجدنا الناس مختلفين ، يبرأ بعضهم من بعض ، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان : أحدهما قالوا : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله مات ولم يستخلف أحداً ، وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه ، فاختاروا أبا بكر ، والآخرون قالوا : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله استخلف عليّاً ، فجعله إماماً للمسلمين بعده ، وادّعى كل فريق منهم الحقَّ.
فلمَّا رأينا ذلك وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقَّ من المبطل ، فسألناهم جميعاً : هل للناس من وال يقيم أعيادهم ، ويجبي زكاتهم ، ويفرِّقها على مستحقيها ، ويقضي بينهم ، ويأخذ لضعيفهم من قويِّهم ، ويقيم حدودهم؟
ص: 482
فقالوا : لابدَّ من ذلك.
فقلنا : هل لأحد أن يختار أحداً ، فيولّيه بغير نظر من كتاب اللّه وسنّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ؟
فقالوا : لا يجوز ذلك إلاَّ بالنظر.
فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر اللّه به ، فقالوا : إنه الشهادتان ، والإقرار بما جاء من عند اللّه ، والصلاة ، والصوم ، والحج - بشرط الاستطاعة - والعمل بالقرآن ، يحلُّ حلاله ويحرِّم حرامه ، فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم.
ثمَّ سألناهم جميعاً : هل لله خيرة من خلقه ، اصطفاهم واختارهم؟
فقالوا : نعم.
فقلنا : ما برهانكم؟
فقالوا : قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1).
فسألناهم : من الخيرة؟
فقالوا : هم المتقون.
فقلنا : ما برهانكم؟
فقالوا : قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2).
فقلنا : هل لله خيرة من المتقين؟
قالوا : نعم ، المجاهدون بأموالهم ، بدليل قوله تعالى : ( فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ) (3).
ص: 483
فقلنا : هل لله خيرة من المجاهدين؟
قالوا جميعاً : نعم ، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد ، بدليل قوله تعالى : ( لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) (1).
فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه ، وعلمنا أن خيرة اللّه من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد.
ثم قلنا : هل لله منهم خيرة؟
قالوا : نعم.
قلنا : من هم؟
قالوا : أكثرهم عناء في الجهاد ، وطعناً وحرباً وقتلا في سبيل اللّه ، بدليل قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ ) (2) ( وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ ) (3).
فقبلنا منهم ذلك ، وعلمنا وعرفنا : أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء ، وأبذلهم لنفسه في طاعة اللّه ، وأقتلهم لعدوِّه ، فسألناهم عن هذين الرجلين - علي ابن أبي طالب علیه السلام وأبي بكر - أيُّهما كان أكثر عناء في الحرب ، وأحسن بلاء في سبيل اللّه؟
فأجمع الفريقان على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام أنه كان أكثر طعناً وحرباً ، وأشدَّ قتالا ، وأذبَّ عن دين اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، فثبت بما ذكرنا من إجماع الفريقين ، ودلالة الكتاب والسنة أن عليّاً علیه السلام أفضل.
ص: 484
وسألناهم - ثانياً - عن خيرته من المتقين ، فقالوا : هم الخاشعون ، بدليل قوله تعالى : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْب مُّنِيب ) (1) ، وقال تعالى : ( وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ) (2).
ثم سألناهم : من الخاشعون؟
فقالوا : هم العلماء ، لقوله تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (3).
ثم سألناهم جميعاً : من أعلم الناس؟ قالوا : أعلمهم بالقول ، وأهداهم إلى الحق ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ ) (4). فجعل الحكومة لأهل العدل.
فقبلنا ذلك منهم ، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو؟
قالوا : أدلُّهم عليه.
قلنا : فمن أدلُّ الناس عليه؟
قالوا : أهداهم إلى الحقِّ ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) (5) ، فدلَّ كتاب اللّه وسنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله والإجماع : أن أفضل الأمّة بعد نبيِّها أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب علیه السلام ، لأنه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم ، وإذا كان أتقاهم كان
ص: 485
أخشاهم ، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم ، وإذا كان أعلمهم كان أدلَّ على العدل ، وإذا كان أدلَّ على العدل كان أهدى الأمّة إلى الحقِّ ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً ، وأن يكون حاكماً ، لا تابعاً ولا محكوماً.
وأجمعت الأمّة بعد نبيِّها صلی اللّه علیه و آله أنه خلَّف كتاب اللّه تعالى ذكره ، وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر ، وإلى سنّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، فيتدبَّرونهما ، ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه ، فإذا قرأ قارئكم : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ) (1) ، فيقال له : أثبتها ، ثمَّ يقرأ : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2) ، وفي قراءة ابن مسعود : إنَّ خيْرَكُم عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ، ثمَّ يقرأ : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ) (3) فدلَّت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشون.
ثمَّ يقرأ فإذا بلغ قوله : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (4) فيقال له : اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ فإذا بلغ قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (5) علم أن العلماء أفضل من غيرهم.
ثمَّ يقال : اقرأ ، فإذا بلغ إلى قوله : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات ) (6) قيل : قد دلَّت هذه الآية على أن اللّه قد اختار العلماء ، وفضَّلهم ورفعهم درجات ، وقد أجمعت الأمّة على أن العلماء من أصحاب رسول
ص: 486
اللّه صلی اللّه علیه و آله الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة : علي بن أبي طالب علیه السلام ، وعبد اللّه بن العبّاس ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت.
وقالت طائفة : عمر ، فسألنا الأمّة : من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة؟
فقالوا : إن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : يؤمُّ القوم أقرؤهم ، ثمَّ أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر.
ثمَّ سألنا الأمَّة : أيُّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب اللّه ، وأفقه لدينه فاختلفوا ، فأوقفناهم حتى نعلم ، ثمَّ سألناهم : أيُّهم أولى بالإمامة؟
فأجمعوا على أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سنّاً وأقدمهما هجرة ، فسقط عبداللّه بن العبّاس ، وبقي علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه ، فيكون أحقَّ بالإمامة ; لما أجمعت عليه الأمّة ، ولدلالة الكتاب والسنة عليه. انتهى (1).
وبعد أن أنهيت هذه الرسالة القيِّمة من القراءة أصبح لديَّ اليقين القاطع بأحقّيّة أهل البيت علیهم السلام ، وبخلافة الإمام علي علیه السلام بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ولكنَّ متابعة البحث ضروريٌّ للردِّ على كلِ التساؤلات التي تثار ، فاتّصلت تلفونياً بالشيخ الهويدي ، وحدَّدنا موعداً بمقام السيِّدة زينب علیهاالسلام .
وجاء الموعد ، واقترب اللقاء ، وبعد أن جلسنا وتحادثنا وتحاورنا قال لي : هل تعرف الحوزة العلميّة الزينبية؟ فقلت له : لا أعرفها ، فقال لي : تخرج من
ص: 487
المقام ، وتمشي مع الطريق الذي يذهب إلى دمشق .. مقابل قسم الأمن الجنائي ، تسأل عن شيخ اسمه ( جلال المعاش ) تقول له : يسلِّم عليك الشيخ الهويدي .. وترشدني إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري.
وأخذت منه العنوان ، وكتبه لي على قصاصة من ورق .. وودَّعته وخرجت ، وعاودتني دوَّامة التساؤل بعد أن ودَّعت الشيخ الهويدي ، وخرجت من مقام السيِّدة زينب علیهاالسلام ، وأنا في الطريق أسمع سائق ( السرفيس ) يصيح بصوت عال : ( رقيّة رقيّة ).
فلفت نظري تساؤل : هل هناك منطقة في دمشق اسمها ( رقيَّة ) فدفعني الفضول لأسأله : أين تقع هذه المنطقة؟ فسألته .. فقال لي : من أين أنت فأجبته : من القامشلي.
فقال : أوه!! في آخر سوريا .. قال لي : يا أخي! الإيرانيّون واللبنانيّون والخليجيّون يقدِّسون هذه المقامات ، فأنا أصيح حتى أشتغل ، وهذا موسمهم ، لأنّه كل صيفيّة يأتون إلى هنا لزيارة هذه المقامات ، وفعلا عزمت على الذهاب مع السائق لأرى هذه المنطقة التي أجهلها.
ومشت السيارة ، وأنا أتساءل لأوَّل وهلة أسمع هذا النداء وأسمع بهذه المنطقة ، فوصلت إلى هذا المقام الشريف ، ولم أستطع الدخول من شدّة الزحمة ، أمَّة من البشر!! اللّه أكبر! ما هذه الزحمة؟ من أين أتت كل هذه الجموع الغفيرة؟ وبعد انتظار ساعة من الوقت استطعت الدخول ، ورأيت الناس يلطمون على صدورهم ويصيحون يا حسين .. يا حسين ، يا رقية يا رقية .. الظليمة .. الظليمة ..
فدخلت إلى داخل المقام ، ووصلت إلى الضريح ، وقرأت الفاتحة ، وصلَّيت قربة إلى اللّه ركعتين زيارة لهذه السيِّدة ، دون أن أعرفها بنت من؟ لكن
ص: 488
عندما رأيت الناس تدخل وتزور وتقبِّل هذا الضريح فعلت مثلهم ، فعرفت أن هنا مقاماً لسيِّدة فاضلة.
فاقتربت من أحد الشباب الذين يلطمون على رؤوسهم وصدورهم ، حيث يضع شريطاً أسوداً مربوطاً برأسه ، وعلى جبينه مكتوب ( يا حسين ) .. فقلت له : إذا سمحت .. السيِّدة رقيّة بنت من؟
فضحك هذا الشابّ من سؤالي ، واستغرب!! وقال لي : من أين أنت؟
فأجبته : من القامشلي.
فقال لي : أين تقع مدينة القامشلي؟
فقلت له : تبعد من هنا ما يقارب 1000 كم ، وقال : أنت من سوريا ولا تعرف هذا المقام لمن؟
فقال لي : أنت سنّيٌّ؟
فأجبته : نعم.
فقال لي : حقّك لا تعلم ، هذه السيِّدة رقيَّة بنت الإمام الحسين علیه السلام ، عندما جاءوا بأهل البيت سبايا من العراق إلى الشام ، والحسين رأسه محمول على الرمح من هناك إلى هنا ، وعندما وصلوا إلى الجامع الأموي وضعوا رأس الحسين علیه السلام في المسجد أمام اللعين يزيد ، وبدأ يزيد يرغي ويزبد ويصيح : أتينا برأس زعيم الخوارج الحسين بن علي بن أبي طالب.
فقاطعته الحديث ، الحسين سيِّد شباب أهل الجنّة يحملون رأسه على الرمح ويأتون به إلى الشام؟ ماذا تقول يا أخي؟ أليس الشيعة هم الذين قتلوه ، وهم الآن يبكون ويندبون ويلطمون ندماً وحزناً لأنهم هم الذين قتلوه؟
قاطعني الشابُّ بحماس ، وقال لي : أنت متعلِّم؟
ص: 489
فقلت له : نعم .. وأنهيت الدراسة الجامعيّة ، لكن واللّه العظيم لم أسمع بهذه الأحداث ; لأن هذه القضايا ليست من اختصاصي ، فالصدفة أتت بي إلى هنا.
فقال لي : يا أخي! أعذرك كلَّ العذر ; لأن الإنسان عدوُّ ما يجهل ، وأنا لم أفرض عليك اعتقاداتي وقناعاتي .. ولكن أنت ابحث بنفسك عن هذه الحقائق ، وقال لي : إذا أردت أن تزور رأس الحسين علیه السلام مقامه في الجامع الأموي.
وشطَّ بنا الحديث وتفرَّع ، ورجعنا في الحديث عن السيِّدة رقية ، فقال لي : هذه السيِّدة بنت الإمام الحسين علیه السلام ، وعندما توفِّيت كان عمرها ثلاث سنوات تقريباً .. أهل البيت علیهم السلام عندما جاءوا بهم إلى الشام كانت هذه الطفلة مع عمّتها زينب علیهاالسلام ، أتعرف مقام السيِّدة زينب علیهاالسلام أخت الإمام الحسين علیه السلام ؟
فأجبته : نعم ، الآن جئت من هناك.
فقال : عندما وضعوا رأس الحسين علیه السلام في طشت كانت هذه الطفلة تصيح وتبكي ، طفلة تبكي تريد أباها ، فقال يزيد اللعين : خذوا هذا الرأس ، وضعوه أمام الطفلة لكي ترى أباها ، فعندما شاهدت الطفلة رأس والدها انكبَّت على وجهها ، فلم تطق الطفلة ذلك الموقف إلى أن فارقت الحياة فوق رأس والدها.
ماذا تحكي يا أخي؟ ماذا تقول؟ هل هذا صحيح؟ فضيَّعني كلام هذا الشابّ الشيعيّ.
وسألت آخر وآخر .. وكنت في كلِّ مرّة أحصل على نفس الجواب ، فرجعت مرَّة أخرى إلى القفص ، ففاضت دموعي بالبكاء ، وصرت أصيح وأسأل. : بنت الحسين سيِّد شباب أهل الجنة هكذا قتلت؟ هكذا ماتت؟ فصرت أردِّد بدون شعور كما تردِّد الشيعة : الظليمة الظليمة ، يا رقيّة! يا رقية! ثمَّ بعد هذا ودَّعتها متّجهاً إلى الجامع الأمويّ ، وشاهدت الحشود والجموع تتّجه باتّجاه
ص: 490
الشرق ، وتصيح وتلطم : يا حسين! يا حسين! لعن اللّه من ظلمك ، لعن اللّه من قتلك ، لعن اللّه يزيد .. فوصلت إلى الباب ، ودخلت بقوَّة من شدّة الازدحام ، حيث وصلت إلى مكان رأس الحسين علیه السلام فقبَّلته ، وانهارت دموعي بالبكاء ، فصرت أحدِّث نفسي : ما الذي حصل؟ ما الأمر؟ ما القضيَّة؟ ما الذي حدث؟ هذا الأخ الشيعي يقول لي : يزيد الذي قتل الحسين علیه السلام ، وليس الشيعة - كما يقول أحد علمائنا في المنطقة الشرقية!!
فعاودني الصراع السابق الذي عشته ، ورجعت إليَّ دوّامة التساؤل والحيرة ، هل الشيعة بريئون من دم الحسين؟ هل صحيح أن الشيعة لم يقتلوا الحسين؟ فإذن لماذا يلطمون ويبكون ويصيحون يا حسين يا حسين؟ وصرت أفكِّر بكلام الشيخ عندنا عندما كان يحذِّرنا من الجلوس مع الشيعة ، وعدم محاورة الشيعة ، والشيعة هم الذين قتلوا الحسين ، فخرجت من مقام رأس الحسين علیه السلام لزيارة النبيِّ يحيى بن زكريا علیه السلام في قلب الجامع الأمويِّ.
وعندما وصلت الضريح قبَّلته وصلَّيت ركعتين ، ولم أستطع أن أكمل من شدّة الصياح واللطم والبكاء ، فحاولت مرَّة ثانية إعادة صلاتي ، وأنهيتها بعد الجهد ، وشاهدت بعد الصلاة شيخاً يبدو أنه عراقيٌّ من خلال اللّهجة والبحّة ، يصيح ويخطب بالناس : يا موالين! يا شيعة! اليوم قتل إمامكم ، اليوم - الظليمة الظليمة - بقي الحسين ثلاث ساعات ملقياً على وجه الأرض ، قد صنع وسادة من الرمل ، فظنَّ بعض العسكر أن الحسين علیه السلام قد صنع لهم مكيدة ، فقالوا : إن الحسين لا يمكنه فعل شيء ، وقال بعضهم : إنه مثخن بالجراح ، ولا يقوى على القيام ، وقال بعضهم : إن الرجل غيور ، إذا أردتم أن تعرفوا حاله فاهجموا على المخيَّم ، فهجموا على المخيَّم ، وروَّعوا النساء والأطفال ، فخرجت الحوراء
ص: 491
زينب ووقفت على التلّ ، ثمَّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا ابن أمي يا حسين! يا حبيبي يا حسين! إن كنت حيّاً فأدركنا ، فهذه الخيل قد هجمت علينا ، وإن كنت ميّتاً فأمرنا وأمرك إلى اللّه ، فلمَّا سمع الحسين صوت أخته قام ووقع على وجهه ، ثمَّ قام ووقع على وجهه ثانية ، ثمَّ قام ثالثة ووقع على وجهه ، عند ذلك صاح : يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون ، فنادى الشمر : ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال : أنا الذي أقاتلكم ، والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وأشراركم عن التعرُّض لحرمي ما دمت حيّاً ، قال الشمر : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه ، فانكفأت الخيل والرجال على أبي عبداللّه الحسين علیه السلام .
وانتهى الشيخ من كلامه وبدأ يخطب ويتكلَّم ، والناس تضجّ وتبكي ، وهو يقول : وهم في طريقهم إلى الشام نزلوا منزلا فيه دير راهب ، فرفعوا الرأس على قناة طويلة ( رأس الحسين ) إلى جانب دير الراهب ، فلمَّا عسعس الليل سمع الراهب للرأس دويّاً كدويِّ النحل ، وتسبيحاً وتقديساً ، فنظر إلى الرأس وإذا هو يسطع نوراً ، قد لحق النور بعنان السماء ، ونظر إلى باب قد فتح من السماء ، والملائكة ينزلون كتائب كتائب ويقولون : السلام عليك يا أبا عبداللّه ، السلام عليك يا ابن رسول اللّه ، فجزع الراهب جزعاً شديداً وقال للعسكر : وما الذي معكم؟ فقالوا : رأس خارجيٍّ خرج بأرض العراق فقتله عبيد اللّه بن زياد ، فقال : ما اسمه؟ قالوا : اسمه الحسين بن علي ، فقال : الراهب : ابن فاطمة بنت نبيّكم وابن عمِّ نبيِّكم؟ قالوا : نعم ، قال : تبّاً لكم!! واللّه لو كان لعيسى ابن مريم ابن لحملناه على أحداقنا ، وأنتم قتلتم ابن بنت نبيِّكم! ثمَّ قال : صدقت الأخبار في
ص: 492
قولها : إذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً عبيطاً ، ولا يكون هذا إلاَّ في قتل نبيٍّ أو وصيّ نبيٍّ ، ثمَّ قال : لي إليكم حاجة ، قالوا : وما هي؟ قال : قولوا لرئيسكم : عندي عشرة آلاف درهم ، ورثتها عن آبائي ، يأخذها مني ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل ، فإذا رحل رددته إليه ، فوافق عمر بن سعد ، فأخذ الرأس وأعطاهم الدراهم ، وأخذ الرأس فغسله ونظَّفه وطيَّبه بمسك ، ثمَّ جعله في حريرة ووضعه في حجره ، ولم يزل ينوح ويبكي وهو يقول : أيُّها الرأس المبارك! كلِّمني بحقِّ اللّه عليك ، فتكلَّم الرأس وقال : ما تريد مني؟ قال : من أنت؟ قال : أنا ابن محمّد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا المقتول بكربلاء ، أنا الغريب العطشان بين الملا ، فبكى الراهب بكاء شديداً ، وقال : سيدي! يعزُّ واللّه أن لا أكون أوَّل قتيل بين يديك ، فلم يزل يبكي حتى نادوه وطلبوا منه الرأس ، فقال : يا رأس! واللّه لا أملك إلاَّ نفسي ، فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدِّك محمّد أني أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وأن محمّداً عبده ورسوله ، أسلمت على يدك وأنا مولاك.
فبدأ يصيح الشيخ بصوت حزين يقرح القلوب : مسيحيُّ أسلم ، مسيحىٌّ آوى رأس إمامكم ، وأنتم تدّعون أنكم من الإسلام!!
فأخذني البكاء الشديد ، وصرت أكفكف بدموعي ، وأنظر من حولي لئلا يراني أحد ، وأنا مكابر .. وأسأل : رأس ابن بنت النبيِّ يحمل على الرمح؟ يمثَّل به؟ من بلد إلى بلد؟ ويزيد يدّعي الإسلام!! مسيحيٌّ راهب آمن من وراء معجزة رأس الحسين وأنا مكابر؟ يا إلهي!! السماء تمطر دماً؟ ورأس الحسين يطاف به من بلد إلى بلد؟ فتذكَّرت حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تمثِّلوا ولو بكلب عقور ، فأين هذه الأمّة من الإسلام؟ فصرت ألعن يزيد ومن عيَّن يزيد.
ص: 493
فصرت أسأل : من الذي عيَّن يزيد؟ معاوية؟ من الذي عيَّن معاوية؟ تساؤلات لا تنتهي.
أثَّرت في نفسي قصّة الراهب ودخوله الإسلام ، أثرت في نفسي الجموع الغفيرة وهي تبكي وتلطم ، يا إلهي! ما الخطب؟ ما الأمر؟ ما الذي جرى على الأمّة؟ فخرجت من المسجد ودوَّامة الصراع لا تتركني.
أين شيخنا في القرية الذي يحذِّرني من هؤلاء الشيعة ، ويقول لي : هم الذين قتلوا الحسين علیه السلام ؟
ما هذه المأساة التي حلَّت بالأمَّة؟ ما هذه الظليمة؟ فخرجت من الجامع الأمويّ متّجهاً باتجاه منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام ، وفي الطريق أفكِّر هل كلام الشيخ عندنا صحيح؟ أم كلام هذا الشابّ الشيعي؟ الراهب يدخل إلى الإسلام؟ ويبكي وينوح؟ ويقول : اشهد لي يا رأس! أسلمت على يدك ، اشهد لي عند جدِّك محمّد؟
كلَّما أهدأ وأتخلَّص من دوَّامة بعض التساؤلات تأتيني عاصفة جديدة من التساؤلات ، يا إلهي!! لماذا لا أعلم كل هذه الأمور؟ يا إلهي! متى أتخلَّص من هذه الدوَّامة التي حيَّرتني؟ فدفعتني هذه الكارثة التي حلَّت بالأمَّة إلى أن أشدَّ الهمّة من جديد دون كلل أو ملل بحثاً عن الحقيقة ، لمعرفة كلام الشابّ الشيعيّ هل هو صحيح أم كلام شيخ البلد؟ فصعدت في ( السرفيس ) متّجهاً إلى منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام ، والأفكار والتساؤلات تعصب بي كالموج ، مرَّة أهدأ ومرَّة أثور ، مرّة أهدأ .. أقول كلام الشيخ عندنا هو الصحيح! ومرَّة أثور عندما أتذكَّر قضيّة الراهب وقضيَّة الرأس!! وقضيّة يزيد!! وماذا فعل بالأمَّة؟ حتى أخذتني الأفكار ونسيت أن أنزل في منطقة السيِّدة زينب ، فتجاوزتها ووصلت إلى منطقة
ص: 494
الذيابيّة ، فهدأت من التفكير ، وإذا بالسائق يصيح : ذيابيّة ذيابيّة ، من هو نازل؟
فقلت له : على مهلك ، أنزلني ، فنزلت وعدت مرّة أخرى إلى منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام ، أسأل عن الحوزة العلميّة الزينبيّة ، وأخيراً وصلت إلى الحوزة ، فصعدت أسأل عن الشيخ جلال المعاش ، فقال لي شابٌّ : بعد صلاة المغرب يأتي.
ورجعت بعد صلاة المغرب ، وصعدت أسأل عن الشيخ ، فوجدت مكتبة في الطابق الأوّل ، فقرعت الباب ، وسألت عن الشيخ ، فقال لي شاب : تفضّل اجلس ، الآن يأتي الشيخ ، وهذه غرفته ( بجوار المكتبة ).
فجلست وأنا في دوَّامة ، أخمد وأثور ، وإذا بشابٍّ يفاجئني بقوله : هذا هو الشيخ جلال الذي تبحث عنه ، فصافحت الشيخ بحرارة ، وشرحت له موقفي ، ومن أرسلني إليه ، فحيَّاني ورحَّب بي ذلك الترحاب الشديد ، وأدخلني إلى غرفته ، ومن ثمَّ أدخلني إلى المكتبة ، فصرت أحادث نفسي وكأنه عرف مشكلتي .. الحمد لله.
فدخلت معه إلى المكتبة ، وبدأ يجوِّلني في المكتبة ، وأنا أنظر إلى أسماء الكتب فشاهدت مباشرة صحيح البخاري ، فقرأت الطبعة وإلاَّ نفس الطبعة الموجودة عند شيخنا في البلد .. صحيح مسلم ، الترمذي ، صحيح النسائي ، كتب السنن والسيرة كلّها .. تفسير ابن كثير ، تفسير الجلالين ، تفسير القرطبي ، تفسير الفخر الرازي ، يا إلهي! هذه مكتبة سنّيّة وليست شيعيّة ، كل كتب السنّة موجودة بالإضافة إلى كتب الشيعة!! يا إلهي! ما هذه الحواجز؟ ما هذه الإشاعات؟
هل علماؤنا يعمدون التجهيل بنا؟ هل علماؤنا مضللون؟ هل علماؤنا لا يعرفون الحقيقة؟ يا إلهي! كيف كان يقول لي أحد علماؤنا : كتبهم محرَّفة ومزوَّرة
ص: 495
ومدسوسة؟ ومن هنا كانت انطلاقة البحث ، والثورة في عالم العقائد والإلهيّات ، والانفتاح على القراءة ، ومتابعة البحث دون تردّد ، فودَّعت الشيخ ، وشكرته على ما أطلعني عليه في هذه المكتبة من كتب ، وقلت له : أُريد منك عنوان العالم العراقي الذي كان سنّيّاً وتشيَّع حتى ألتقي به ، فأعطاني العنوان وخرجت (1).
ص: 496
قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الأول مع الداعية الشيعيِّ الكبير ، العلامة البدري.
وفي اليوم الثاني بعد صلاة الظهر ذهبت إلى منزل السيِّد البدري ، وصعدت إلى الطابق الأوَّل ، أنظر إلى الجرس مكتوباً عليه منزل السيِّد علي البدري ، فقرعت الجرس وقلبي يخفق فرحاً ، يا إلهي! يا سيِّدتي زينب! الخلاص الخلاص من هذه الدوَّامة والقلق المستمرّ ، الغوث الغوث ، أدركيني يا بنت علي بن أبي طالب ، وعند وصولي إلى كلمة علي انفتح الباب ، وإذ برجل طويل ، عريض المنكبين ، ذي لحية كثّة طويلة ، وجهه كالنور المشعّ ، تعلوه الهيبة والوقار ، فقال لي : تفضَّل يا ابن الجزيرة ، فدخلت ، وأصبت بقشعريرة حلَّت في جسدي ، يا إلهي! من أين له العلم أني من الجزيرة؟ اللّه أكبر! اللّه أكبر! اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد!!
فأدخلني وأجلسني في صدر المكتبة ، وقال لي : أنت مريض وقلق ،
ص: 497
مرضك ليس جسديّاً وليس نفسيّاً ، وإنما تعيش في دوَّامة ، بالتأكيد إنك التقيت في حياتك بشيعة ، تحاورت معهم فغلبوك في الحوار ، ورجعت إلى علمائكم السنّة ، فغيَّروا أفكارك ، فأصبحت تائهاً ومحتاراً في أفكارك ، وهذا أشدُّ مرضاً وحيرةً ، هنيئاً لك ، هنيئاً لك متابعة البحث ، فالكثير من الشباب سقطوا في البحث ، نتيجة لقائهم مع أخ شيعيٍّ يحاوره ، فيرجع إلى العالم هناك في المنطقة أو في أيِّ مسجد يحذِّره من الشيعة ، فيقف عن متابعة البحث ويصبح أشدَّ عداء للشيعة ، فمتابعة البحث ضرورية.
إلى أن قال السيِّد البدري : أنا من منطقة الكرَّادة الشرقيَّة ( بغداد ) ، كنت سنّيّاً ، وعائلة البدري معروفة في العراق سنّيّة ، فهناك عالم مهمٌّ إذا تسمع به ، الباحث الكبير والدكتور عبد العزيز البدري ، الذي اغتاله صدام لأنّه كان معارضاً له.
نشأت وترعرت في بيئة سنّيّة إلى أن حصلت على الجامعة كليّة الشريعة الإسلاميّة من العراق ، وبعدها التقيت بكثير من الشيعة في العراق ، وأنت تعلم أن نسبة الشيعة في العراق حوالي 65% تقريباً ، أكبر طائفة في العراق ، وبدأت أبحث وألتقي مع علماء الشيعة ، فأحرج أمامهم بالنقاش وأنا خريج جامعة - كليَّة الشريعة -.
فتابعت البحث بكل ما يستدلُّ به الشيعة على السنّة من خلال الصحاح ، وبعد سبع سنوات من البحث أعلنت عن تشيُّعي ، وبدأت أدعو للمذهب الشيعيِّ الذي اخترته بقناعة ، فحوربت من قبل أهلي وتركت المنطقة.
وكلِّفت من قبل زعيم الطائفة الشيعيَّة في العراق ، المرجع الكبير ، آية اللّه العظمى السيِّد أبو القاسم الخوئي ، وكيلا عنه للشيعة في مصر ، وتركت زوجتي
ص: 498
في العراق ، وتزوَّجت دكتورة مصرية خلال الخمس سنوات من إقامتي في القاهرة ، حيث تشيَّعت وهداها اللّه إلى مذهب أهل البيت علیهم السلام ، والآن تسكن هي وأولادها في إيران ، ومن مصر رجعت إلى إيران ، ومن إيران إلى بلدكم الطيِّبة التي احتضنتنا سوريا ، بقيادة هذا الرجل الطيِّب السيِّد الرئيس حافظ الأسد ، يحترم رجال الدين ويقدِّرهم.
وصار لي أكثر من سنة في سوريا ، وتجربتي في الدعوة من فضل اللّه كبيرة ، حيث أسَّست مراكز للشيعة في السودان (1) ، وفي تنزانيا ، وفي ساحل العاج ، وفي بومباي والباكستان ، وفي مصر .. رموز الشيعة هناك أمثال الشيخ حسن شحاتة من قرية أبو كبير ، والسيِّد حسين الضرغامي وكيل الشيعة في مصر حاليّاً في القاهرة ، والأستاذ محمّد عبد الحفيظ المصري ، ودكاترة من الأزهر أعلنوا عن تشيُّعهم على يدي بفضل اللّه وبركاته.
وسوف أقدِّم لك كتاباً يفيدك في هذا المجال ، اسمه : ثمَّ اهتديت ، لدكتور تونسيٍّ تشيَّع ، وكتاب اسمه : الحقيقة الضائعة ، لكاتب سودانيٍّ اسمه : الشيخ معتصم سيِّد أحمد ، يكتب قصَّته ، وكيف انتقل من السنة إلى الشيعة بالأدلّة والبراهين ، وكتب أخرى في هذا المجال.
ص: 499
وسوف أصوِّر لك حواريَّة إنسان مسيحيٍّ كان قسّيساً عند المسيحيّة ، وجاء إلى قبَّة الإسلام في بغداد ، وحاور علماء السنّة في المذاهب الأربعة ، واهتدى إلى الإسلام بعد كشفه التناقض في المذاهب الأربعة وأعلن عن تشيُّعه.
وسوف أقدِّم لك كتاباً يشفي غليلك إن شاء اللّه تعالى ، اسمه : لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت علیهم السلام ؟ للشيخ محمّد مرعي الأنطاكي ، وهو أزهريٌّ تخرَّج من الأزهر منذ ثلاثين سنة ، وأعلن عن تشيُّعه ، وهو من مدينة حلب ، وكان قاضياً للقضاء في حلب ، وتشيَّع عن طريقه أخوه الشيخ أحمد مرعي الأنطاكي ، وكتب كتاباً في هذا الخصوص اسمه : في طريقي إلى التشيع.
وهنالك محامي أردني تشيَّع أخيراً ، وألَّف كتاباً اسمه : نظرية عدالة الصحابة والمواجهة مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال هشام قطيط بعدما أهداه فضيلة السيِّد البدري مجموعة من الكتب القيِّمة : فودَّعته شاكراً ، وقبَّلت جبينه ، وطلبت منه الدعاء ، وخرجت.
قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الثاني.
قرعت جرس الباب في تمام الساعة العاشرة صباحاً ، ففتح لي سماحة السيِّد البدري ، وأدخلني بيته ، وأجلسني في صدر المكتبة ، إلى أن قال :
سيِّدنا الجليل! بكل صراحة لا أخفيك الأمر ، أنا لديَّ مجموعة كبيرة من الأسئلة ، فجمعت كل ما يطرحه عندنا العالم السنّيّ لأسأله ، لأني محتاج ومتعطِّش للاطّلاع ، فأريد منك أن تحدِّد لي جلسة للبدء في الحوار.
فقال لي : بعد أسبوع تجهِّز ما عندك من أسئلة ، وتأتيني بعد صلاة المغرب
ص: 500
مباشرة لنبدأ بالحوار ، فودَّعت سماحة السيِّد ، وشكرته على رحابة صدره وتواضعه ، والقبول بكل ما أسأل ، يا إلهي! ما أعظم هذا الرجل!!
حضرت بعد صلاة المغرب مباشرة وأنا أحضر أسئلتي للحوار الذي لا يرحم ، حيث فيه تقرير المصير والوصول إلى النهاية بعد بحث ونظر.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد البدري! إذا كنتم أهل الشيعة تعتقدون بأن علياً علیه السلام هو الإمام بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله والخليفة دون غيره ، وأنَّه أحقُّ بها وأهلها ، فما الوجه في تقدُّم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ، وادّعائهم الإمامة دونه ، وإظهارهم أنهم أحقُّ بها منه؟
السيِّد البدري : إني عندما بدأت بالبحث كان أوَّل سؤال يخطر في ذهني هو هذا التساؤل ، ويسأله كل سنّيٍّ ، والإجابة عليه يا بني : إن ذلك ليس مما أعتقده أنا وأريد إقناعك به ، وإنما أراده اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله وجماعة المؤمنين أجمعين ، بحكم ما جاء من أدلّة ونصوص تثبت خلافة علي علیه السلام في الأحاديث الصحيحة والمتواترة عند جميع المسلمين ، والآيات الكريمة المتّفق عليها من الفريقين السنّيِّ والشيعيِّ ، فمن الأدلّة القرآنيّة التي تثبت أحقّيّة علي علیه السلام بالخلافة :
أولا : ( آية التبليغ ) وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1).
ص: 501
يأمر اللّه تعالى نبيَّه محمّد صلی اللّه علیه و آله في واقعة غدير خم في تبليغ هذه الآية الكريمة ، وقد أجمع المفسِّرون من السنّة والشيعة على أنها نزلت في غدير خم ، في شأن علي علیه السلام ، في تحقيق أمر الخلافة والإمامة ، وأنها نصٌّ من اللّه سبحانه وتعالى.
هشام آل قطيط : سماحة العلامة البدري! بعد ذكرك لهذه الأدلّة القيِّمة التي أثبتَّ من خلالها أحقّيّة علي علیه السلام بالخلافة ، لكن لم أسمع الجواب على سؤالي بالتحديد ، وخاصّة أن الأكثريّة أجمعوا على خلافة أبي بكر.
السيِّد البدري : أنا ذكرت لك هذا الدليل من القرآن لكي تأخذه بالاعتبار ; لأن مصدرنا التشريعي الأوَّل هو القرآن ، والثاني هو السنة النبويّة ، والآن أعطيك الجواب ، وأبيِّن لك على أن رأي الأكثريَّة ليس بحجَّة ، ولو أنك - يا بني - وقفت قليلا على ما سجَّله التاريخ الصحيح لعلمت أن عليّاً علیه السلام لم يقرَّهم على ذلك ، أو أنه رضي بذلك إلاَّ أن رضا أكثرهم لا يكون دليلا علميّاً على صوابهم وأن الحق في جانبهم ، كما صرَّحت بذلك الكثير من آيات الكتاب العزيز.
فعل الأكثرين لا يكون دليلا على الصواب ، فمن ذلك قوله تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2) ، وقال تعالى : ( وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْد وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) (3) ، وقال تعالى : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (4) ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ
ص: 502
لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (1) ، وقال تعالى : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) ، وقال تعالى : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (3).
وكل هذه الآيات تدلُّ على أن الحقَّ لا يكون دائماً بجانب الكثرة ، وإنما يكون غالباً بجانب القلّة ، ولو أنك تدبَّرت - يا أخي - لوجدت على مرّ التاريخ أن الأغلبيّة عصاة ، والمخلص المطيع منهم قليل ، والأكثر منهم جهَّال ، والعلماء منهم قليلون ، وأهل المروءة والشجاعة فيهم أقلّ ، وأهل الفضائل والمناقب أفراد ، وأن المدار في معرفة الحقّ والوقوف عليه يعتمد على الدليل والبرهان.
أميرالمؤمنين علي علیه السلام له أسوة بسبعة من الأنبياء ، وأمَّا ترك علي علیه السلام جهاد المتقدِّمين بالسيف والسنان فحسبك في جوابه قوله علیه السلام فيما تضافر عنه نقله ، وحكاه ابن أبي الحديد في شرح النهج ، وغيره من مؤرِّخيكم ، حيث يقول : لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه تعالى على أولياء الأمر ، أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم ، أو سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها .. (4).
وأنت ترى - يا أخي - أن قول علي علیه السلام هذا صريح كل الصراحة في أنه علیه السلام إنما ترك جهاد وقتال الخلفاء الثلاثة لعدم وجود الناصر ، وجاهد الناكثين أيام
ص: 503
حرب الجمل ، والقاسطين أيام معاوية ، والمارقين ( أي الخوارج ) لوجود الأنصار معه ، ولأنه في قتاله المتقدِّمين عليه ذهاب الدين بأصوله وفروعه ; لأن الناس جديدو عهد بالإسلام كما لا يخفى عليك ، وعلى من له أدنى فطنة بخلاف الطوائف الثلاث.
ولقد قال علي علیه السلام في جواب من قال : لم لم ينازع علي الخلفاء الثلاثة كما نازع طلحة والزبير ومعاوية؟ إليك قوله علیه السلام : إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة :
الأوَّل : نوح علیه السلام ، قال اللّه تعالى مخبراً عنه في سورة القمر : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (1) ، فإن قلت لي : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي كذلك فعلي علیه السلام أعذر.
الثاني : إبراهيم الخليل علیه السلام ، حيث حكى اللّه تعالى عنه قوله في سورة مريم : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (2) ، فإن قلت لي : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت لي : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ علیه السلام أعذر.
الثالث : ابن خالة إبراهيم ، نبي اللّه تعالى لوط علیه السلام ، إذ قال لقومه على ما حكاه اللّه تعالى في سورة هود علیه السلام : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (3) ، فإن قلت لي : كان له بهم قوَّة فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ علیه السلام أعذر.
الرابع : نبي اللّه يوسف علیه السلام ، فقد أخبرنا اللّه تعالى عنه في قوله في سورة
ص: 504
يوسف : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (1) ، فإن قلت لي : إنه دعي إلى غير مكروه يسخط اللّه تعالى فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنه دعي إلى ما يسخط اللّه فاختار السجن فعلي علیه السلام أعذر.
الخامس : نبي اللّه هارون بن عمران علیه السلام ، إذ يقول على ما أخبرنا اللّه تعالى عنه في قوله : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (2) فإن قلت لي : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنهم استضعفوه ، وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.
السادس : كليم اللّه موسى بن عمران علیه السلام ، إذ يقول على ما ذكره اللّه تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (3) ، فإن قلت لي : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : فرَّ منهم خوفاً فعلي علیه السلام أعذر.
السابع : سيدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت لي : إنه صلی اللّه علیه و آله هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنهم أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي علیه السلام أعذر (4).
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! من المعلوم لدى جميع الطوائف الإسلاميَّة وغير الإسلاميّة أن علياً علیه السلام أشجع الناس ، وتدّعون أنتم الشيعة أن
ص: 505
عليّاً معصوم ليّاً معصوم ، فلو لم تكن خلافة أبي بكر حقّة لنازعه في ذلك ، وترك المنازعة - سماحة السيد - مخلٌّ بالعصمة ، وأنتم الشيعة توجبونها في الإمام ، وتعتبرونها شرطاً في الصحّة.
السيِّد البدري : أولا : إن ترك علي علیه السلام منازعة أبي بكر بالحرب والقتال لا يكون مخّلا بعصمته ولا بأشجعيّته ، ولا يدلُّ على صحَّة ما قام به أقوامهم ، وبطلانه واضح لا يشكُّ فيه من له عقل أو شيء من الدين.
ثانياً : كان في توقُّف الإمام علي علیه السلام عن حربهم وقتالهم منافع عظيمة ، وفوائد جليلة ، حصرت المدارك والأفهام عن الوصول إليها ، منها : أنه لو قاتلهم لتولَّد الشك من النائين عن المدينة وغيرها من البلدان الإسلاميّة بنبَّوة النبِّي محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وذلك لعلمهم بأن القتل والقتال لا يقع إلاَّ على طلب الملك والزعامة الدنيويّة ، لا على النبوَّة والإمامة والخلافة ، فيوجب ذلك وقوع الشك في صحّة نبوَّة سيِّدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، لا سيّما وهم جديدو عهد بالإسلام ، خاصّة إذا لاحظت وجود من يتربَّص الدوائر بالإسلام من المنافقين ، ويريد الوقيعة فيه ، فهل تجد حينئذ فساداً أعظم من أن يخرج عن الإسلام من دخل فيه بفعل المنافقين ، وتلبيسهم ذلك الأمر على البله المغفلين؟!
ومنها : أن ترك قتالهم يومئذ كان سبباً لأن يكثر فيهم التشيُّع ، وفي التابعين إلى يومنا هذا.
والدليل على ذلك يا أخي ، انظر إلى ( ميزان الذهبي ) عند ترجمته لأبان بن تغلب من جزئه الأول ، فإنكم ترونه يقول : فهذا كثير - يعني التشيُّع - في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهبت جملة من
ص: 506
الآثار النبوّيّة ; وهذه مفسدة بيِّنة (1).
هشام آل قطيط مقاطعاً السيّد : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (2) أين نذهب بمفاد هذه الآية؟
السيِّد البدري : على كيفك - ( رويداً ) - على كيفك يا أخي ، أنتهي من إثبات الأدلّة ، وأبيِّن لك توجيه ومفاد الآية الكريمة.
ومنها : ذهاب السنن الدالّة على إمامة الإمام علي علیه السلام ، إن هو قاتلهم وقتلهم يختفي الحقّ ملتبساً ، لا يعرف أين هو ، ولذلك ترونه قد رضي علیه السلام بالهدنة عندما رفع أهل الشام المصاحف في صفّين ، فانخدع بذلك جمٌّ غفير من أهل العراق ، فكان علیه السلام بإمكانه أن يقلب الصفَّ على الصفِّ ، لكنَّه علیه السلام آثر ذلك لأنه أهون الضررين ; لعلمه علیه السلام برجوع الكثير منهم إلى الحقِّ بعد خروجهم عليه ، فمثل هذه النتائج القيِّمة والغايات الحسنة أوجب ترك قتالهم وأوجب مهادنتهم.
ومنها : أن ترك علي علیه السلام قتال القوم لا يوجب الرضا بتقدُّمهم عليه ، ولا يقتضي سقوط حقِّه في الخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ، وإلاَّ لزم أن يكون النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بتركه قتال المشركين عام الحديبية ، ومحو اسمه من النبوّة معزولا عن النبوَّة ، وراضياً بما ارتكبه المشركون ، وكان يومئذ أربعمائة وألف رجل - على ما أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة الحديبية - على قتالهم ، فإذا صحَّ لديكم هذا ، وقلتم بسقوط حقِّ النبوَّة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صحَّ لكم ذاك ، وهذا معلوم البطلان ، وذاك منه باطل ، نعم إنما قبل صلی اللّه علیه و آله ورضي به صلی اللّه علیه و آله لحكم وغايات
ص: 507
جليلة ، غابت عن ذهن الكثيرين ، ولم يهتدوا لها.
ومنها : كراهته صلی اللّه علیه و آله للقتل والقتال وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا ، وليس في محو لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها ; لثبوتها بآياتها البيّنات ومعجزاتها النيِّرات.
علم سيِّدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله بأن أكثر هؤلاء سوف يسلمون بعد فتح مكة.
محافظته على حياة أصحابه ولو رجل منهم من غير ضرورة تدعو إلى قتالهم ; لعلمه صلی اللّه علیه و آله بأنه سيدخل مكة المكرمة مع أصحابه في العام القادم من غير سلاح وقتال.
إنه لو قاتلهم في عام الحديبية لم يتيسَّر له فتحها بتلك السهولة ، بل تنكَّر منه القوم ، ولجعل دعاتهم العيون في الطريق خوفاً من صولته صلی اللّه علیه و آله عليهم بغتة وهم لا يشعرون.
إنه صلی اللّه علیه و آله سنَّ بذلك دستوراً جميلا ، ومنهاجاً عالياً لمن يأتي بعده ليسير عليه كل من عرض له مثل ما عرض له صلی اللّه علیه و آله .
ولهذا وأضعاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ، ويقول القرآن في سورة الأنفال : ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) (1) ، لذا ترون عليّاً علیه السلام ترك قتلهم وقتالهم مقتدياً بالنبي صلی اللّه علیه و آله ، ومتّبعاً له في شرعه ومنهاجه ، فلم يقاتل دافعيه عن حقِّه لمقاصد سامية ، أعظمها - كما ذكرت - حفظ الدين بأصوله وفروعه وقوانينه
ص: 508
وآثاره ، الأمر الذي كان يدعوه كثيراً إلى أن يقدِّم نفسه الزكيَّة قرباناً في سبيل حفظه وبقائه واستمراره وانتشاره ، فضلا عن حقّه وتراثه.
وجملة القول : كانت رعايته علیه السلام لصيانة الدين وحفظه أكثر من رعايته لحقّه ، وكان ضياع حقِّه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله ، وما فعله علیه السلام هو الواجب عقلا وشرعاً ; إذ أن مراعاة الأهمّ - وهو احتفاظه بالأمّة ، وحياطته على الملّة - وتقديمه على المهمّ - وهو احتفاظه بحقّه - عند التعارض من الواجب الضروريِّ في الدين الإسلاميِّ ، وميله للسلم والموادعة كان هو الأفضل في الصواب.
هشام آل قطيط : سماحة السيد! أدلّتك مقنعة وقويّة ، ولكن أين نذهب بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (1).
السيِّد البدري : لماذا أنت متمسِّك بهذه الآية؟ اتركني أنتهي من الأدلّة وأردُّ عليك إن شاء اللّه تعالى ، اصبر ، اصبر يا أخي .. ألم تسمع بكتاب نهج البلاغة للإمام علي علیه السلام ، إذ قال في خطبته المشهورة بالشقشقيّة :
أما واللّه لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى مضى الأوَّل لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن
ص: 509
الخطاب بعده ... (1).
ونقل ابن أبي الحديد أيضاً في شرح نهج البلاغة في 308 تحت عنوان ( خطبته عند مسيره للبصرة ) قال : روى الكلبي أنّه لمَّا أراد عليٌّ علیه السلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد اللّه وصلَّى على رسوله صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه لمَّا قبض نبيَّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقٍّ نحن أحقُّ به من الناس كافّة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلُّ خلف (2).
ولعليٍّ علیه السلام في نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر ، بعثه مع مالك الأشتر رحمه اللّه ، جاء فيه : أمَّا بعد ، فإن اللّه سبحانه بعث محمّداً صلی اللّه علیه و آله نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمَّا مضى صلی اللّه علیه و آله تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلی اللّه علیه و آله عن أهل بيته ، ولا أنه نحوَّه عنّي من بعده صلی اللّه علیه و آله ، فما راعني إلاَّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمَّد صلی اللّه علیه و آله ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي
ص: 510
متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، وكما ينسطع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه (1).
ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة تحت عنوان ( خطبة الإمام علي علیه السلام بعد قتل محمّد بن أبي بكر ) قال : روى إبراهيم - صاحب كتاب الغارات - عن رجاله ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه قال : خطب علي علیه السلام بعد فتح مصر ، وقتل محمّد بن أبي بكر ، فنقل خطبة بليغة ذكر فيها وقائع أليمة وقعت بعد وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله ، وذكر بعض ما كتبه لأهل مصر ، وأشار في خطبته إلى الشورى التي أمر بها عمر بن الخطاب وخرج بالنتيجة قائلا :
فصرفوا الولاية إلى عثمان ، وأخرجوني منها ، ثمَّ قالوا : هلمَّ فبايع وإلاَّ جاهدناك ، فبايعت مستكرهاً ، وصبرت محتسباً ، فقال قائلهم : يا بن أبي طالب! إنك على هذا الأمر لحريص ، فقلت : أنتم أحرص منّي وأبعد ، أيُّنا أحرص أنا الذي طلبت ميراثي وحقّي الذي جعلني اللّه ورسوله أولى به ، أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه ، وتحولون بيني وبينه؟ فبهتوا ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين (2).
ولا أطيل عليك بعدِّ هذه الأدلّة من كلمات الإمام علیه السلام وخطبه المشهورة التي تبيِّن مظلوميَّته وسكوته عن حقّه وقعوده.
هشام آل قطيط : هل الخطبة الشقشقيّة للإمام علي علیه السلام أم من إنشاء وأقوال الشريف الرضي الذي جمع نهج البلاغة؟ وقد ثبت في التأريخ أنه لم يكن ناقماً على خلافة الخلفاء الراشدين قبله ، بل كان راضياً منهم ، ومن آمن لهم.
ص: 511
سماحة السيد! إعطني دليلا على أن نهج البلاغة من أقوال الإمام علي علیه السلام وكرَّم اللّه وجهه ، وإلاَّ هذه الأقوال والخطب مردودة.
السيِّد البدري : الشارحون لنهج البلاغة من علمائكم يا أستاذ ، ابن أبي الحديد المعتزلي لم يكن شيعيّاً ، هذا أوّلا.
ثانياً : الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصرية له شرح على نهج البلاغة ، ويثبت أنه من أقوال الإمام علي علیه السلام .
ثالثاً : الشيخ محمّد الخضري من أعلام السنة ، وله كتاب بعنوان ، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ، صفحة : 27 ، وقد صرَّح أن الخطبة الشقشقيّة من بيان الإمام علي علیه السلام ، وهناك أكثر من أربعين عالماً من الفريقين السني والشيعي قد صرَّحوا بأن الخطبة الشقشقيّة من كلام الإمام علي علیه السلام ; لأنها على نسق خطبه الأخرى في النهج.
وقد نقل لنا ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة الشقشقيَّة عن ابن الخشاب قال : أنّى للرضيِّ ولغير الرضيِّ هذا النفس وهذا الأسلوب ، قد وقفنا على رسائل الرضيِّ وعرفنا طريقته وفنَّه في الكلام المنثور.
الخطبة الشقشقيّة موجودة قبل ولادة الرضي ، وقد ذكر ابن الخشاب وغيره أنهم وجدوا هذه الخطبة في الكتب منتشرة قبل أن يولد الشريف الرضيّ ، وقبل أن يولد أبوه أبو أحمد النقيب - نقيب الطالبيين ، فقد نقل ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة ، عن الشيخ عبداللّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب أنه قال : في كتب صنِّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، أعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
ص: 512
ثمَّ قال ابن أبي الحديد : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة.
ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبه - أحد متكلِّمي الإماميّة - المشهور المعروف بكتاب ( الإنصاف ) وكان أبو جعفر هذا من تلاميذ الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه اللّه ومات في ذلك العصر قبل أن يولد الشريف الرضي (1).
وجدتها أيضاً بخط الوزير ابن فرات ، كان قد كتبها قبل ميلاد الرضي بستين سنة.
وقال كمال الدين ابن ميثم البحراني الحكيم المحقِّق في كتابه شرح نهج البلاغة في الخطبة : إنّي وجدت هذه الخطبة في كتاب الإنصاف لابن قبه ، وهو متوفَّى قبل أن يولد الشريف الرضي.
كان اللقاء الرابع محدَّداً من قبل السيِّد لتكملة الحوار والمناظرة في قضايا الخلاف ، ومعرفة الحقيقة ، حيث كنت ألحُّ على السيِّد بالنقاش.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! أريد جواباً منكم لقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (2) ، أليس الخلفاء ممن تحدَّثت الآن عنهم من الذين كانوا أشدّاء على الكفار ، وكانوا مع رسول
ص: 513
اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فهذا توجيه الآية الكريمة ومفادها ، فما هو جوابكم؟ وما تقولون في أن الخلفاء : أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله وزعماء من كان معه ، وإذا كان كذلك فهم أحقُّ الناس بما دلَّت عليه الآية من وصف المؤمنين ، والمدح لهم والثناء عليهم ، وذلك يمنع الحكم عليهم بالانحراف والخطأ.
السيِّد البدري : أقول : أولا - يا أستاذ - إن الآية بعمومها الإطلاقي شاملة لطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة ، وأبي عبيدة عامر ابن الجرّاح ، وأبي الدرداء ، وسعد ، وسعيد ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية ، ومالك بن نويرة ، وأبي معيط ، ويزيد ، والوليد بن عقبة ، وعبد اللّه بن سلول ، وغيرهم من الناس ; لأن هؤلاء كلهم كانوا مع النبي صلی اللّه علیه و آله ، لا خصوص الخلفاء الثلاثة فقط الذين ذكرتهم يا أستاذ ; لأن الآية الكريمة جاءت على صيغة الإطلاق العمومي لكل من كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) لم تحدِّد أو تخصِّص الآية فقط الخلفاء الثلاثة.
وذلك فإن كل ما أوجب دخول الخلفاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في القرآن وثنائه ، فهو يقتضي بوجوب دخول كل من ذكرنا في الآية ; لأن هؤلاء كلهم من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكانوا جميعاً من الذين معه ، وكان لأكثرهم من الجهاد بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والنصرة للإسلام ما لم يكن شيء منه للخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، فكيف يتسنَّى لأحد تخصيص الآية بالخلفاء وحدهم؟
وبماذا ياترى اختصَّ الخلفاء الثلاثة بما خرج عنه أولئك ، والجميع بمستوى واحد ، وفي ميزان واحد؟ وهل تجد لذلك - يا أخي - وجهاً إلاَّ
ص: 514
التخصيص بلا مخصِّص ، والترجيح بلا مرجِّح ، الباطلين عقلا؟!
فإن قلت لي : إن الآية تريد كل من كان مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في الزمان أو المكان ، أو بظاهر الإسلام فقد صرت إلى أمر كبير ، وهو مدح الكافرين والمنافقين الذين ( معه ) صلی اللّه علیه و آله في المكان ، وكانوا يتظاهرون له صلی اللّه علیه و آله بالإسلام ، ويبطنون النفاق كما نطق به القرآن.
هشام آل قطيط مقاطعاً السيد : نحن لا نريد أن ننتقص الصحابة ، ولكن أقبل الدليل من القرآن أو من السنة.
السيِّد البدري : فهاك نماذج من مخالفات الصحابة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من القرآن والسنة.
منها : أنهم أنكروا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلح الحديبيّة ، وتكلَّموا بكلمات مزعجة على ما حكاه البخاري في صحيحه (1).
منها : أنهم أسرعوا إلى رمي عفاف أمِّ المؤمنين عائشه لمَّا تأخَّرت وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق (2) حتى نزل فيهم قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ ) (3) (4).
ص: 515
منها : أنهم تجرَّؤوا على النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنكروا عليه صلاته على ابن أبي ( المنافق ) حتى جذبوه من ردائه وهو واقف للصلاة عليه (1).
منها : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ، ومعها من يضرب الدفّ ، ويستعمل ما حرمه الإسلام ، فتركوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائماً على المنبر ، وانفضُّوا عنه إلى اللّهو واللعب رغبة فيه ، وزهداً في استماع مواعظه ، وما يتلو عليهم من آيات القرآن الكريم ، حتى أنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (2).
ومنها : أنهم قد تشاتموا مرَّة على عهد النبي صلی اللّه علیه و آله ، وتضاربوا بالنعال بحضرته ، على ما أخرجه البخاري في صحيحه (3).
وتقاتل الأوس والخزرج على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأخذوا السلاح واصطفّوا للقتال - كما ذكره الحلبي الشافعي في سيرته الحلبية (4) ، مع علمهم بقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) على ما حكاه البخاري في صحيحه (5) ، وعلمهم بما أوجبه اللّه تعالى عليهم من التأدُّب بحضرته صلی اللّه علیه و آله ، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
ص: 516
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) (1).
وهناك مخالفات كثيرة وقعوا فيها مما يضيق المجال لذكرها الآن.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! لماذا لم تذكر فضيلة الخليفة أبي بكر عندما كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار لتحقيق معنى الآية؟ ولماذا تنكرون ذلك أنتم الشيعة؟ ألم يكن له شرف الهجرة مع الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهذه من أكبر الفضائل للخليفة الأول؟ ألم تنزل عليه السكينة في الآية؟ لماذا تغفل هذه الأمور ولم تناقشها؟ ألم يكن تعصُّباً ودفاعاً عن الشيعة؟
السيِّد البدري : إن ما ذكره الطبري في تأريخه : إن أبا بكر ما كان يعلم بهجرة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فجاء عند علي بن أبي طالب علیه السلام وسأله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأخبره بأنه هاجر نحو المدينة ، فأسرع أبو بكر ليلتقي بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فرآه في الطريق ، فأخذه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله معه ، فالنبيُّ صلی اللّه علیه و آله إنما أخذ معه أبا بكر على غير ميعاد ، لا كما تقول.
وقال بعض المحقِّقين : إن أبا بكر بعدما التقى بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله في الطريق اقتضت الحكمة النبويَّة أن يأخذه معه ولا يفارقه ; لأنه كان من الممكن أن يفشي أمر الهجرة ، وكان المفروض أن يكون سرّاً ، كما نوَّه به الشيخ أبو القاسم ابن الصبَّاغ ، وهو من كبار علمائكم ، قال في كتابه ( النور والبرهان ) : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر عليّاً فنام على فراشه ، وخشي من أبي بكر أن يدلَّهم عليه فأخذه معه ومضى إلى الغار.
ص: 517
السيِّد البدري : أسألك - يا أستاذ - أن تبيِّن لي محلَّ الشاهد من الآية الكريمة ، وتوضح الفضيلة التي سجَّلتها الآية لأبي بكر!
هشام آل قطيط : الآية تبدأ من قوله تعالى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) ، محلُّ الشاهد ظاهر ، والفضيلة أظهر ، وهي :
أوّلا : صحبة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ; فإن اللّه تعالى يعبِّر عن الصدّيق بصاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ثانياً : جمله : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) .
ثالثاً : نزول السكينة من عند اللّه سبحانه وتعالى على سيِّدنا أبي بكر. ومجموعها تثبت أفضليّة سيِّدنا الصدّيق وأحقّيّته بالخلافة ، وأنت صرَّحت - أيُّها السيِّد - لا أحد ينكر أن أبا بكر كان من كبار الصحابة ، ومن شيوخ المسلمين ، وأنه زوَّج ابنته من النبي صلی اللّه علیه و آله .
السيِّد البدري : ولكن كل هذه الأمور لا تدلّ على أحقّيتّه بالخلافة ، وكذلك كل ما ذكرت من شواهد ودلائل من الآية الكريمة لا تكون فضائل خاصة بأبي بكر ، بل لقائل أن يقول : إن صحبة الأخيار والأبرار لا تكون دليلا على البرّ والخير ، فكم من كفار كانوا في صحبة بعض المؤمنين والأنبياء وخاصة في الأسفار.
الصحبة ليست فضيلة ، فإنّا نقرأ في سورة يوسف الصدّيق علیه السلام أنه قال : ( يَا
ص: 518
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (1).
لقد اتّفق المفسِّرون أن صاحبي يوسف الصدَّيق علیه السلام هما ساقي الملك وطبَّاخه ، وكانا كافرين ، ودخلا معه السجن ، ولبثا خمس سنين في صحبة النبيِّ يوسف الصديق علیه السلام ، ولم يؤمنا باللّه ، حتى أنهما خرجا من السجن كافرين ، فهل صحبة هذين الكافرين لنبيِّ اللّه يوسف علیه السلام تعدُّ منقبة وفضيلة لهما؟!
ثانياً : ونقرأ في سورة الكهف : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) (2).
ذكر المفسِّرون أن المؤمن - كان اسمه : يهودا - قال لصاحبه - واسمه براطوس - وكان كافراً ، وقد نقل المفسِّرون منهم الفخر الرازي - محاورات هذين الصاحبين ، ولا مجال لنفيها.
سؤال : فهل تعدُّ صحبة براطوس ليهودا فضيلة أو شرفاً يقدِّمه على أقرانه؟! أو هل تكون دليلا على إيمان براطوس ، مع تصريح الآية : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) ؟! فالمصاحبة وحدها لا تدلُّ على فضيلة وشرف يميِّز صاحبها ويقدِّمه على الآخرين.
وأمَّا استدلالك على أفضليّة أبي بكر بالجملة المحكية عن النبي صلی اللّه علیه و آله : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) فلا أجد فيها فضيلة وميزة لأحد ; لأن اللّه تعالى لا يكون مع المؤمنين فحسب ، بل يكون مع غير المؤمنين أيضاً ; لقوله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ
ص: 519
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ... ) (1) ، فبحكم هذه الآية الكريمة فإن اللّه عزَّوجلَّ يكون مع المؤمن والكافر والمنافق.
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! المقصود ( إن اللّه شاء ) أي أن اللّه مع الذين يعملون لطاعته وعبادته ، والألطاف والعناية ، أي تشملنا ، هذا هو المراد ، وإلاَّ في الحقيقة والواقع اللّه سبحانه وتعالى مع الجميع ، ويعلم ما في قلوب الجميع ، وإلاَّ هذا الاستدلال الذي أتيت به غير مقنع.
السيِّد البدري : أقول لك : لا مناقشة في الأمثال ; لأن الأمثال تضرب ولا تقاس ، أعطيك أمثلة على ذلك.
1 - إبليس ، فإنه عبد اللّه تعالى عبادة قلَّ نظيرها من الملائكة ، وقد شملته الألطاف الإلهيّة والعناية الربّانيّة ، ولكن لما تمرَّد عن أمر خالقه واتّبع هواه واغتر خاطبه اللّه تعالى قائلا : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (2).
2 - وبرصيصا في بني إسرائيل ، كان مجدّاً في عبادة اللّه سبحانه وتعالى حتى أصبح مع المقرَّبين ، وكانت دعوته مستجابة ، ولكن عند الامتحان أصيب بسوء العاقبة ، فترك عبادة ربِّ العالمين ، وسجد لإبليس اللعين ، وأمسى من الخاسرين ، فقال اللّه تعالى فيه : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلاِْنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي
ص: 520
بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (1).
فإذا صدر عمل حسن من إنسان فلا يدلُّ على أن ذلك الإنسان يكون حسناً إلى آخر عمره ، وأن عاقبة أمره تكون خيراً ، ولذا ورد في أدعية أهل البيت علیهم السلام : اللّهم اجعل عواقب أمورنا خيراً.
3 - ومثله في البشر : بلعم بن باعورا ، فإنه كما ذكر المفسِّرون في تفسير قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (2) ، قالوا : إنه تقرَّب إلى اللّه تعالى بعبادته له إلى أن أعطاه الاسم الأعظم ، وأصبح ببركة اسم اللّه سبحانه دعاؤه مستجاباً ، وعلى أثر دعائه تاه موسى وبني إسرائيل وأممٌ كثيرة في الوادي ، ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان ، واتّبع الشيطان ، وخالف الرحمن ، وسلك سبيل البغي والطغيان ، وصار في المخلَّدين في النيران ، ومن أحبَّ تفصيل قصّته فليراجع تفسير الفخر الرازي : 4 / 462 ، فإنه يروي ( قصته ) عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل.
هشام آل قطيط : استأذنت بالخروج من الجلسة ، وما عدت أتحمَّل الحوار ، ولا الإصغاء إلى هذا الكلام القاسي بحقّ تشبيهه الخلفاء وأصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإبليس وبرصيصا وبلعم بن باعورا ، ووقفت ووصلت إلى الباب ، فركض سماحة السيِّد خلفي ، وقال : ألم أقل لك : اصبر ، اصبر يا أخي.
فقلت له : من فضلك تغيِّر محور النقاش سماحة السيِّد الجليل.
ص: 521
السيِّد البدري : أنا انتهيت من هذه القصص ، ألم أقل لك في بداية الجلسة على أن الأمثال تضرب ولا تقاس ، ولا مناقشة في الأمثال؟ ولكن يا أخي! إن الأمثلة تضرب لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان ، وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من جميع الجهات ، بل يكفي تشابههما من جهة واحدة ، وهي التي يرتكز عليها موضوع الحوار ، وإني أشهد اللّه - يا أخي! - بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد ، بل البحث والحوار يقتضي في بعض المواقع أن أذكر شاهداً لكلامي ، وأبيِّن المطلب والمراد والمقصود.
هشام آل قطيط : إذا كنت - سماحة السيد! - قد بيَّنت لي في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) وشرحت أن المقصود من أن اللّه سبحانه تعالى مع الكافر والمؤمن والمنافق فأين تذهب بهذا الدليل القاطع الذي يعدُّ منقبة وفضيلة عظيمة لسيِّدنا أبي بكر ، ألا وهو قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) فإن الضمير في ( عليه ) يرجع لأبي بكر الصدّيق ، وهذا شرف من اللّه ، ومقام عظيم قد كرَّمه به ، فلماذا تحاول طمس هذه الحقيقة؟
السيّد البدري : الضمير التي ذكرته في هذه الكلمة يرجع إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، وليس لأبي بكر ، وبقرينة الجملة التالية في الآية : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) وقد صرَّح جميع المفسرين : أن المؤيَّد بجنود اللّه سبحانه هو النبي صلی اللّه علیه و آله .
هشام آل قطيط : ونحن نقول : إن المؤيَّد بالجنود النبي صلی اللّه علیه و آله ، لا شك بذلك ، ولكن أبا بكر كان مؤيَّداً مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله لمصاحبته في الغار.
السيِّد البدري : إذا كان الأمر كما تقول يا أستاذ ، وقلت لي في أول الجلسة بأنك تدرس اللغة العربيّة ، لجاءت الضمائر في الآية الكريمة بالتثنية ، بينما الضمائر كلُّها جاءت مفردة ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يقول : إن الألطاف
ص: 522
والعنايات الإلهيّة - كالنصرة والسكينة - شملت أبا بكر دون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فينحصر القول بأنها شملت رسول اللّه دون صاحبه.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليس بحاجة إلى السكينة ; لأن السكينة موجودة معه ولا تفارقه ، ولكنَّ سيِّدنا أبا بكر كان بحاجة ماسّة إلى السكينة فأنزلها اللّه عليه.
السيِّد البدري : يا أخي! لماذا تضيع الوقت بتكرار الكلام؟ وبأيِّ دليل تقول : إن النبي صلی اللّه علیه و آله لا يحتاج إلى السكينة الإلهيّة؟! بينما اللّه سبحانه وتعالى يقول : ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ) (1) وذلك في غزوة حنين ، ويقول اللّه تعالى في آية أخرى : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) (2) وذلك في فتح مكة المكرمة.
لاحظ - أيُّها الأستاذ الكريم - أن اللّه تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر النبي صلی اللّه علیه و آله ويذكر بعده المؤمنين ، فلو كان أبو بكر في آية الغار من المؤمنين الذين تشملهم السكينة الإلهيّة لكان اللّه عزَّوجلَّ قد ذكره بعد ذكر النبي صلی اللّه علیه و آله ، أو قال تعالى : فأنزل اللّه سكينته عليهما.
هذا وقد صرَّح كثير من كبار علمائكم بأن ضمير ( عليه ) في الآية الكريمة يرجع إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، لا إلى أبي بكر ، راجع كتاب : ( نقض العثمانيّة ) للعلامة الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، وهو أستاذ ابن أبي الحديد ، وقد كتب ذلك الكتاب القيِّم في ردِّ وجواب أباطيل أبي عثمان الجاحظ.
ص: 523
وأزيدك أدلّة أخرى أيُّها الأستاذ المحاور ، إنا نجد في الآية الكريمة جملة تناقض قولك!
سؤال : قال تعالى في محكم كتابه : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ ) (1) فالنبي صلی اللّه علیه و آله هنا ينهى صاحبه عن الحزن ، فالسؤال الذي أوجِّهه إليك أيُّها المحاور : هل أن حزن أبي بكر كان طاعة لله ولرسوله أم معصية؟!
هشام آل قطيط : طبعاً حزن سيِّدنا أبي بكر كان طاعة لله فكيف يكون معصية؟ معاذ اللّه!
السيِّد البدري : ما دام حزن الخليفة أبي بكر طاعة لله كما ذكرت فلماذا نهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن هذه الطاعة وقال له : لا تحزن؟ و ( لا ) هنا للنهي ، والنهي يأتي عن المعصية وليس عن الطاعة ، فالآية لم تكن في فضل أبي بكر ومدحه ، بل تكون في ذمِّه وقدحه! وصاحب السوء لا تشمله العناية والسكينة الإلهيَّة ; لأنهما تختصَّان بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله والمؤمنين ، وهم أولياء اللّه الذين لا يخشون أحداً إلاَّ اللّه سبحانه ، ومن أهم علامات الأولياء كما في قوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).
ولمَّا وصلنا إلى هذه النقطة كان الوقت ما يقرب من أذان صلاة المغرب ، وأجِّلت الجلسة بسبب تعب الطرفين ; لأن هناك تكملة لبحوث أخرى.
ص: 524
هشام آل قطيط : بعد أن ذكرت وبيَّنت - سماحة السيِّد! - موضوع آية : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) وآية الغار ، لديَّ أدلّة جديدة ، ونصوص صريحة ، أثبت من خلالها أحقّيّة سيِّدنا أبي بكر بالخلافة من بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهي :
أولا : مروا أبا بكر فليصلِّ بالمسلمين ( حديث رواه البخاري ) (1).
ثانياً : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ( حديث رواه البخاري ) (2).
ثالثاً : عن عائشة قالت : دخل عليَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في اليوم الذي بدأ فيه فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى اللّه والمسلمون إلاَّ أبا بكر (3).
السيِّد البدري : أقول : لو سلَّمت لك جدلا أن النبي صلی اللّه علیه و آله أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس في مرضه الذي توفِّي فيه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن ماذا تقول لو قال قائل ممن لا يقول بقولك : ألم يقل جمهور الصحابة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مرضه : هجر رسول
ص: 525
اللّه صلی اللّه علیه و آله على ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمَّ بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، قال : اشتدّ برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! أراك خرجت عن موضوع الدليل والنصّ الذي طرحته.
السيّد البدري : يا أستاذ! تعلَّم الصبر والنفس الطويل في الحوار ، ولا تكن سريعاً ، مهلا! سأورد لك بعض المخالفات لأنتقل إلى تحليل هذا النصّ الذي أنت تحتجُّ به وتعتبره دليلا مقنعاً.
سؤال موجَّه لك : ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب للصحابة في مرض النبي صلی اللّه علیه و آله : إن النبي قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه؟ والرواية الأولى قال عن الرسول صلی اللّه علیه و آله : إنه هجر ; أي بمعنى يهذي (2).
هشام آل قطيط : سيِّدنا عمر بن الخطاب الفاروق يقول لسيِّدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله : إنّه هجر؟ من أين لك هذا الحديث؟ ومن أين أتيت به أيها السيِّد؟ كلام غريب ( معاذ اللّه من ذلك ).
السيِّد البدري : لا تغضب يا أخي ، هدِّئ من روعك واصبر.
هشام آل قطيط : كيف أهدأ وأنت تتهجَّم على سيِّدنا عمر وتتّهمه هذا
ص: 526
الاتّهام؟
السيِّد البدري : ما رأيك في صحيح البخاري يا أستاذ؟
هشام آل قطيط : صحيح البخاري أصدق صحيح عندنا بعد القرآن.
السيِّد البدري : راجع صحيح البخاري في أواخر ص 118 الجزء الثاني في باب ( هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) وحتى أربط كل هذا الاستدلال لك يقول : عن ابن عباس قال : لمَّا حضر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلی اللّه علیه و آله : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده ، فقال عمر : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي صلی اللّه علیه و آله كتاباً لنا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عند النبي صلی اللّه علیه و آله قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قوموا. قال عبيداللّه : فكان ابن عباس يقول : الرزيّة كل الرزيَّة ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (1) ، وهذا مشهور برزيَّة يوم الخميس.
السيِّد البدري : أقول : إن الصحيح المتواتر بين الفريقين : السنّي والشيعيّ معاً أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أخَّر الخليفة أبا بكر من تلك الصلاة ، وصرفه عن إمامة المسلمين ; لأنه خرج بعد سماعه بتقدُّم أبي بكر يتهادى بين علي والعبّاس ، مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض ، الأمر الذي لا يتحرَّك معه العاقل إلاَّ في حال
ص: 527
الاضطرار ، لتدارك ما يخاف بفوته حدوث أعظم فتنة ، فعزل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أبا بكر عمّا كان تولاَّه من تلك الصلاة كما نطقت به صحاحكم ، ويدلُّك على أن تقدُّمه للصلاة لم يكن بأمر من النبي صلی اللّه علیه و آله في شيء ، وإنما كان الأمر صادراً من ابنته السيّدة عائشة ، ولم تكن تلك الصلاة إلاَّ صلاة الصبح لا غيرها.
ويرشدك ويدلُّك على ذلك - يا أخي - ما أخرجه الحافظ الكبير الإمام مسلم في صحيحه (1).
وأنقل لك هذه الرواية عن عائشة : قالت : لمَّا ثقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت : يا رسول اللّه! إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لم يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقالت له ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنكن لأنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس! قالت : فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس.
ثمَّ - أخي الكريم - لماذا تحاول ربط مسألة الصلاة بمسألة الخلافة؟ لو فرضنا جدلا صحّة حديث عائشة أم المؤمنين ، وغضضنا النظر عن تلك الوجوه التي ناقشتها الآن ، ومع كل ذلك فإن الأمر بالصلاة خلفه لا يوجب للخليفة أبي بكر الإمامة العامة على المسلمين ; لعدة أسباب ، منها :
أولا : لقد اتّفق أئمّة السنة والحفّاظ عندكم على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلَّى
ص: 528
خلف عبد الرحمن بن عوف ، على ما نقله لنا ابن كثير في تأريخه (1) وهذا شيء لا يختلف فيه أحد ، فلم يوجب فضلا لعبد الرحمن بن عوف على النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا يقتضي ذلك أن يكون إماماً واجب الطاعة عليه صلی اللّه علیه و آله وعلى غيره من أصحابه ، فكما أن صلاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله خلف عبد الرحمن بن عوف لم توجب له الإمامة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على غيره من الناس ، فكذلك لم توجب صلاة أبي بكر بالمسلمين إمامته عليهم.
ثانياً : لا خلاف بين الفريقين : السنّي والشيعيّ في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد استعمل عمرو بن العاص على الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمُّهم في الصلاة مدّة إمارته عليهم في واقعة ذات السلاسل ، على ما نقله لنا ابن كثير في تاريخه (2) ، فلم توجب صلاته فيهم (3) إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم ، لا في الظاهر ، ولا عند اللّه تعالى على حال من الأحوال ، فكذلك الحال في صلاة أبي بكر فيهم ، لا توجب إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم.
ثالثاً : وهذا البخاري أصدق صحيح عندكم يحدِّثنا في صحيحه (4) عن ابن عمر قال : لمَّا قدم المهاجرون الأوّلون العصبة ( موضع بقبا ) قبل مقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يؤمُّهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً.
فكما أن إمامة سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين الأوّلين لم توجب له
ص: 529
فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسالة المحمديَّة ، فكذلك إمامة أبي بكر للصلاة بالمسلمين لم توجب له فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسول صلی اللّه علیه و آله .
رابعاً : عتاب بن أسيد أحقُّ بالخلافة من الخليفة أبي بكر ، لماذا؟ لأنه الذي قدَّمه الرسول صلی اللّه علیه و آله يصلّي بالناس حين فتح رسول اللّه مكة ، والرسول مقيم في مكة ، وأبو بكر معه يصلّي خلف عتاب بن أسيد ، فقدَّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلّي بالناس في المسجد الحرام من غير علّة ، ولا ضرورة دعته إلى ذلك.
وهذا بإجماع الأمّة ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلّي بالناس الظهر والعصر ، وعتاب بن أسيد يصلّي بالناس الثلاث صلوات بإجماع الأمّة ، وبإجماع الأمّة أن المسجد الحرام أفضل من مسجد المدينة ، ومكة أفضل من المدينة ، ويلزم في النظر أن من قدَّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المواطن الأفضل من غير علّة أفضل ممن قدَّمه في مسجد هو دونه في الفضل مع ضرورة العلة ، فتأمَّل يا أخي.
تجويزكم للصلاة خلف البرّ والفاجر
السيِّد البدري : ثمَّ إنكم متّفقون على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرشدكم إلى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر (1) ، فإذا كانت الصلاة تجوز عندكم خلف كل فاسق وفاجر ، والاقتداء بكل ظالم وعاص ، بإجماع علماء السنة نصّاً وفتوى وعملا ، وكانت صلاة الخليفة أبي بكر بالمسلمين دليلا على خلافة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وإمامة الأمّة ، كان ذلك دليلا أيضاً على إمامة هؤلاء جميعاً ، ولكان كلُّهم خلفاء النبي صلی اللّه علیه و آله من بعده ، وكأن قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ
ص: 530
النَّارُ ) (1) باطلا لا معنى له (2).
هشام آل قطيط : بعدما ذكرت الأدلّة الكثيرة حول صلاة الخليفة أبي بكر وإبطالها ، فما رأي سماحتكم بقوله صلی اللّه علیه و آله : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخّذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر (3)؟ أليس هذا الحديث دليلا قاطعاً على خلافة سيدنا أبي بكر (4).
====
4 -
ص: 531
السيِّد البدري : إن هذا الحديث رواية آحاد ، هذا أوَّلا.
وثانياً : إن هذا الحديث معارض بحديث أقوى منه سنداً ، وتنقله أحاديثكم ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : لا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا ، ولكن قل : قدَّر اللّه وما شاء فعل ، فإن كلمة ( لو ) تفتح عمل الشيطان ( حديث شريف ) (1) ، فكيف برسول الأمّة وإمامها ينهانا عن القول بكلمة ( لو ) ويقول لنا إنها تفتح عمل الشيطان ، وهو يبدأ بها؟! هل يعقل هذا الأمر بأن هذا الحديث يصدر من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟ فتأمَّل.
ثالثاً : إن هذا الحديث موضوع لدينا ، ووضع مقابل حديث المؤاخاة المشهور والمتواتر ، وهو قول النبي صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (2).
رابعاً : الشطر الثاني من الحديث ( لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ) وضع مقابل الحديث المشهور والمتواتر ( سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب علي ) (3) فوضع أصحاب الأقلام المأجورة كلمة ( خوخة ) بدل ( باب )
ص: 532
للتغيير والتحريف.
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! الرسول صلی اللّه علیه و آله ترك خوخة مفتوحة لسيِّدنا أبي بكر ، ومعنى كلمة الخوخة أي ( الباب الصغير ).
السيِّد البدري : لو أن الرسول صلی اللّه علیه و آله أراد إكرامه لفتح له باباً كبير ، لماذا باب صغير؟ وحتى أثبت لك بالأدلّة والبراهين القاطعة بأن هذا الحديث وضع مقابل حديث ( سدُّوا كل الأبواب إلاَّ باب علي ) فتفضَّل يا أخي :
أوّلا : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدِّ أبواب الصحابة من المسجد تنزيهاً له عن الجنب والجنابة ، ولكنَّه أبقى باب علي علیه السلام ، وأباح له عن اللّه تعالى أن يجنب في المسجد ، كما كان هذا مباحاً لهارون ، فدلَّنا على ذلك عموم المشابهة كما كان هذا مباحا لهارون علیه السلام .
الحديث : قال ابن عباس حبر الأمّة : وسدَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبواب المسجد غير باب عليٍّ ، فكان يدخل المسجد جنباً ، وهو طريقه ليس له طريق غيره (1).
الحديث : كان لنفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبواب شارعة في المسجد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب عليٍّ ، فتكلَّم الناس في ذلك ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فإني أمرت بسدِّ هذه الأبواب إلاَّ باب علي ، فقال فيه قائلكم ، وإنّي واللّه ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكني أمرت بشيء فاتبعته (2).
ص: 533
وأخرج الطبراني في الكبير ، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قام يومئذ فقال : ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي ، ولا أنا تركته ، ولكن اللّه أخرجكم وتركه ، إنما أنا عبد مأمور ، ما أمرت به فعلت ، إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يوحى إليَّ (1).
يا عليُّ! لا يحلُّ لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك (2).
وعن سعد بن أبي وقاص ، والبرّاء بن عازب ، وابن عباس ، وابن عمر وحذيفة بن أسيد الغفاري ، قالوا كلُّهم : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المسجد فقال : إن اللّه تعالى أوحى إلى نبيِّه موسى أن ابن لي مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنت وهارون ، وإن اللّه أوحى إليَّ أن ابنِ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنا وأخي علي (3)
السيِّد البدري : وحتى أثبت لك بأن حديث الخلّة وضع مقابل حديث المنزلة ، حتى تكون على بصيرة من أمرك أيُّها الأستاذ الباحث عن الحقيقة ، فالواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك الحقائق لتنقذ نفسك من الصراع الذي تعيشه ، والتناقض والحيرة ، فهذا الإمام البخاري يحدِّثنا في صحيحه (4) في مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، وذاك الإمام مسلم في صحيحه يحدِّثنا عن
ص: 534
النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال لعلي علیه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي (1).
وفي القرآن العربي المبين يقول اللّه تعالى في سورة طه : آية 25 وما بعدها ، حكاية عن كليمه موسى علیه السلام : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) إلى قوله تعالى : ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ) وأنت تعلم - يا أخي المحاور - أن منازل هارون علیه السلام من موسى علیه السلام كثيرة ومتعدِّدة ، وسأورد لك بعض المقارنات بين هارون ومنزلته من موسى لتعلم أن علياً هو الخليفة الحق بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
الأوَّل : إن هارون علیه السلام كان وزيراً لموسى علیه السلام ، فكذلك علي علیه السلام وزير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
الثاني : إن هارون علیه السلام كان شريكاً لموسى علیه السلام في أمره ، فكذلك علي علیه السلام شريك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمره على الخلافة والإمامة ، إلاّ النبوَّة ، والمستثناة من عموم المنازل في الحديث الشريف.
الثالث : إن هارون علیه السلام كان ثاني موسى علیه السلام في قومه ، فكذلك علي علیه السلام ثاني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمته.
الرابع : إن هارون علیه السلام كان أخاً لموسى علیه السلام ، فكذلك علي علیه السلام كان أخاً لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بدليل حديث المؤاخاة المتواتر نقله في كتب السنة والشيعة ، وعدم استثناء النبيِّ صلی اللّه علیه و آله من حديثه إلاَّ النبوة ، وقد أخرج ذلك أحد علمائكم -
ص: 535
أحمد بن حنبل في مسنده - عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس في حديث : بضع عشرة فضيلة كانت لعلي علیه السلام لم تكن لغيره من الصحابة (1).
الخامس : إن هارون علیه السلام كان أفضل قوم موسى علیه السلام عند اللّه تعالى وعند نبيِّه موسى علیه السلام ، فكذلك علي علیه السلام أفضل أمّة النبي صلی اللّه علیه و آله عند اللّه تعالى وعند رسوله محمّد صلی اللّه علیه و آله .
السادس : إن هارون علیه السلام كان هو القائم مقام موسى علیه السلام في غيبته مطلقاً ، فكذلك علي علیه السلام هو الذىِّ يقوم مقام النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في غيبته مطلقاً ، وقد جاء التنصيص عليه جليّاً واضحاً ، لا يرتاب فيه اثنان من أهل الإيمان ، بقوله صلی اللّه علیه و آله : لا ينبغي أن أذهب إلاَّ وأنت خليفتي (2).
ص: 536
السابع : إن هارون علیه السلام كان أعلم قوم موسى علیه السلام فكذلك علي علیه السلام أعلم أمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد صرَّح النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بذلك فقال : أعلم أمّتي من بعدي علي بن أبي طالب (1).
الثامن : إن هارون علیه السلام كان واجب الطاعة على يوشع بن نون وصيِّ موسى علیه السلام وغيره من أمّته ، فكذلك علي علیه السلام واجب الطاعة على الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من أمّة النبي صلی اللّه علیه و آله .
التاسع : إن هارون علیه السلام كان أحبَّ الناس إلى اللّه تعالى وإلى كليمه موسى علیه السلام ، فكذلك عليٌّ أحبُّ الناس إلى اللّه تعالى وإلى رسوله محمّد صلی اللّه علیه و آله .
العاشر : إن اللّه تعالى قد شدَّ أزر نبيِّه موسى علیه السلام بأخيه هارون علیه السلام ، فكذلك شدَّ أزر نبيِّه محمّد صلی اللّه علیه و آله بأخيه علي علیه السلام .
الحادي عشر : إن هارون علیه السلام كان معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان ، فكذلك علي علیه السلام يكون معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! هل لديك أدلّة أخرى في عليٍّ كرَّم اللّه وجهه ، وفي إثبات أحقّيّته بالخلافه؟ زدني من فضلك.
السيِّد البدري : وما أزيدك؟ ما هذا الذي ذكرته إلاَّ غيض من فيض من
ص: 537
فضائل علي بن أبي طالب علیه السلام ، إذا قلت لك إن عليّاً جامع لفضائل الأنبياء هل تقنع؟
هشام آل قطيط : إذا كان هناك أدلّة وبراهين تقنعني لماذا لا أقنع؟ الإمام علي علیه السلام جامع فضائل الأنبياء.
السيِّد البدري : وقد شهد بذلك سيِّد الرسل ، وخاتم النبيين محمّد ، الصادق الأمين علیه السلام ، كما جاء في مناقب الخوارزمي : ص 49 - 245 والرياض النضرة : 2 - 217 ، وذخائر العقبى : 93 ، وغيرها أنه قال صلی اللّه علیه و آله مع بعض الاختلافات اللفظيّة : ( من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب ).
ونقل لنا ابن الصبّاغ المالكي في كتابه ( الفصول المهمة ) : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في عزمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب.
وفي الرياض النضرة : 2 - 202 قال : أخرج الملا عمر بن خضر في سيرته : قيل : يا رسول اللّه! وكيف يستطيع علي علیه السلام أن يحمل لواء الحمد؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وكيف لا يستطيع ذلك وقد أعطي خصالا شتّى ; صبراً كصبري ، وحسناً كحسن يوسف ، وقوّة كقوّة جبريل علیه السلام ؟!
وروى السيِّد مير علي الهمداني في كتابه ( مودّة القربى ) المودة الثامنة ، قال : عن جابر قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أراد أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته ، وإلى ميكائيل في رتبته ، وإلى جبرائيل في جلالته ، وإلى آدم في علمه ، وإلى نوح في خشيته ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى يعقوب في حزنه ، وإلى
ص: 538
يوسف في جماله ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى أيوب في صبره ، وإلى يحيى في زهده ، وإلى عيسى في عبادته ، وإلى يونس في ورعه ، وإلى محمّد في حسبه وخلقه ، فلينظر إلى عليٍّ ، فإن فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء جمعها اللّه فيه ، ولم يجمعها في أحد غيره (1).
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيد! أنت هنا وصلت بي إلى مقايسة عليٍّ - كرَّم اللّه وجهه - بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهذا مشكل منكم؟
السيِّد البدري : اسمع - يا أخي - لأروي لك ما نقله بعض من المؤرِّخين ، إذا الأدلّة لم تقنع فناقشني وحاورني.
لقد حدَّثنا المؤرِّخون والمحدِّثون أنه علیه السلام في آخر يوم من حياته الكريمة ، حينما كان على فراش الموت والشهادة حضر عنده جماعة من أصحابه لعيادته ، وكان ممَّن حضر صعصعة بن صوحان ، وهو من كبار الشيعة في الكوفة ، وكان خطيباً بارعاً ، ومتكلِّماً لامعاً ، وهو من الرواة الثقات حتى عند أصحاب الصحاح الستة عندكم وأصحاب المسانيد ، فإنّهم يروون عنه ما ينقله عن الإمام علي علیه السلام ، وقد ترجم له كثير من أعلامكم مثل : ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وابن سعد في الطبقات الكبرى ، وابن قتيبة في المعارف ، وغيرهم ، فكتبوا أنه كان عالماً صادقاً ، وملتزماً بالدين ، ومن خاصة أصحاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، في ذلك اليوم سأل صعصعة الإمام عليّاً علیه السلام قائلا : يا أميرالمؤمنين!
ص: 539
أخبرني أنت أفضل أم آدم علیه السلام ؟
فقال الإمام علیه السلام : يا صعصعة! تزكية المرء نفسه قبيح ، ولو لا قول اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (1) ما أجبت ، يا صعصعة! أنا أفضل من آدم ; لأن اللّه تعالى أباح لآدم كلَّ الطيِّبات المتوفِّرة في الجنة ، ونهاه عن أكل الحنطة فحسب ، ولكنَّه عصى ربَّه وأكل منها! وأنا لم يمنعني ربّي من الطيِّبات ، وما نهاني عن أكل الحنطة ، فأعرضت عنها رغبة وطوعاً.
فقال صعصعة : أنت أفضل أم نوح؟
فقال علیه السلام : أنا أفضل من نوح ; لأنه تحمَّل ما تحمَّل من قومه ، ولمَّا رأى منهم العناد دعا عليهم ، وما صبر على أذاهم ، فقال : ( رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (2) ، ولكنّي بعد حبيبي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحمَّلت أذى قومي وعنادهم ، فظلموني كثيراً ، فصبرت وما دعوت عليهم (3).
فقال صعصعة : أنت أفضل أم إبراهيم؟
فقال علیه السلام : أنا أفضل ، لأن إبراهيم قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (4) ، ولكنّي قلت وأقول : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.
قال صعصعة : أنت أفضل أم موسى؟
قال علیه السلام : أنا أفضل من موسى ; لأن اللّه تعالى لمَّا أمره أن يذهب إلى فرعون
ص: 540
ويبلِّغ رسالته قال : ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ) (1) ، ولكنّي حين أمرني حبيبي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأمر اللّه عزَّوجلَّ حتى أبلِّغ أهل مكة المشركين سورة براءة ، وأنا قاتل كثير من رجالهم وأعيانهم! مع ذلك أسرعت غير مكترث ، وذهبت وحدي بلا خوف ولا وجل ، فوقفت في جمعهم رافعاً صوتي ، وتلوت الآيات من سورة براءة وهم يسمعون!!
قال صعصعة : أنت أفضل أم عيسى؟
قال علیه السلام : أنا أفضل ; لأن مريم بنت عمران لمَّا أرادت أن تضع عيسى كانت في بيت المقدس ، جاءها النداء : يا مريم! اخرجي من البيت ، هاهنا محلُّ عبادة ، لا محلُّ ولادة ، فخرجت ( فَأَجَاءهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) (2) ، ولكنَّ أمّي فاطمة بنت أسد لمَّا قرب مولدي جاءت إلى بيت اللّه الحرام ، والتجأت إلى الكعبة ، وسألت ربَّها أن يسهِّل عليها الولادة ، فانشقَّ لها جدار البيت الحرام ، وسمعت النداء : يا فاطمة! ادخلي ، فدخلت وردَّ الجدار على حاله ، فولدتني في حرم اللّه وبيته (3).
وانتهى اللقاء ، وعشت في دوَّامة أكثر ، وأحدِّث نفسي : تابع البحث ، إياك والملل!!
هشام آل قطيط : لقد فاتنا - سماحة السيِّد البدري! - المناقشة في الحديث
ص: 541
الشريف الذي يقول : عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى اللّه والمسلمون إلاَّ أبا بكر (1).
فهذا الحديث أفهم منه أن هناك عزيمة وتصميم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للتوصية بالخليفة أبي بكر من بعده ، والذي يدلّني أكثر أن الرسول صلی اللّه علیه و آله يريد أن يكتب كتاباً ، ويؤكِّد من خلال فعل الأمر الذي يبدأ به الحديث.
السيِّد البدري : ألم يكن الرسول صلی اللّه علیه و آله عازماً على أن يكتب كتاباً ومنعه الخليفة عمر بن الخطاب ، وقال : إن رسول اللّه غلبه الوجع ، وإنَّه هجر ، أي بمعنى يهذي ، والرسول المعصوم لا يمكن أن يهجر أو يهذي أيُّها الأستاذ ، وقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : قوموا عنّي ، لا ينبغي عند نبيٍّ تنازع (2) ; لأنه لو أصرَّ الرسول صلی اللّه علیه و آله على كتابة الكتاب لقالوا : إنه هجر؟
ثمَّ إن هذا الحديث وضع مقابل الحديث المشهور ، عندما أراد الرسول صلی اللّه علیه و آله أن يكتب الكتاب ، حيث قال : أعطوني دواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعدي - ولمَّا واجهه القوم بتلك الكلمة القارصة والعبارة الجارحة - خاصّة وهو في آخر أيامه من الدنيا - رأى أن من الحكمة والمصلحة أن يعدل عن كتابته حفاظاً على الدين ، وقياماً بما أوجبه صلی اللّه علیه و آله من تقديمه الأهمَّ على
ص: 542
المهمِّ.
وأنقل لك ما سجَّله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ، عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تأريخ بغداد ، مسنداً عن ابن عباس أنه قال - في حديث طويل جرى بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب - قال عمر في بعض ما أجاب به ابن عبّاس ما ملخَّصه : إني لمَّا علمت أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أراد في مرضه أن يكتب لعلي علیه السلام بالخلافة ويعهد بها إليه ، فمنعته من ذلك ، لعلمي بأن العرب تنقض عليه لبغضها له (1).
وهذا القول - يا أستاذ - يرشدك إلى أنهم كانوا يعلمون مسبقاً بالنصِّ على علي علیه السلام ، ولكنّهم يرون أن مصلحة الأمّة ، وانتقاض العرب ، وعدم رغبتهم في اجتماع النبوّة والإمامة في أهل بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله .
السيِّد البدري يتابع الحديث قائلا : هذه المحاورة تكشف لك - يا أخي - عن المؤامرة التي حصلت من الخليفة عمر بن الخطاب عمَّا كان يريده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كتابة الكتاب ، كما وردت في تأريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، فاسمع أيها المحاور ...
قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا بن عباس! أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟
فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدريني.
ص: 543
فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة ، فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت.
فقلت : يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلَّمت.
قال : تكلَّم ، قلت : أمَّا قولك يا أميرالمؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت ، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوَّة والخلافة ، فإن اللّه عزَّوجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (1).
فقال عمر : هيهات واللّه يا ابن عباس ، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرَّك عليها فتزيل منزلتك مني (2).
ولهذا يقول عمر بن الخطاب : لقد كان - أي النبي صلی اللّه علیه و آله - يربع في أمره ، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا وربِّ هذه البنيَّة! لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتفضت عليه العرب في أقطارها ، فعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنني علمت ما في نفسه فأمسك (3).
هشام آل قطيط : بعد كلِّ ما طرحناه من تساؤلات ومناقشات وردود من
ص: 544
قبل سماحتكم ، إلى أين تريد أن توصلني؟
السيِّد البدري : يا أخي! نحن لسنا بحاجة ، إن تشيعت أم لم تتشيَّع لدينا أكثر من 300 مليون شيعي في العالم ، ولكن الواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك بالأدلّة والبراهين أين هو الحق ، فالمسلم الواثق من عقيدته لا يهاب الحوار ، ولا تخيفه المناقشات ، لماذا الخوف من الحوار؟ فأعطيك مثالا : أنا السيِّد علي البدري ، من سكَّان بغداد ( الكرَّادة الشرقية ) ، نشأت في بيئة سنّية ، ودرجت كما درج أهلي ( الدين عندنا عادة وليس عبادة ).
وبعد أن أنهيت دراساتي الشرعيَّة من جامعة بغداد ، وذهبت إلى الأزهر لإكمال الدراسات العليا ، فبدأت من هناك أجري مقارنات بين العقيدة السنّيّة والعقيدة الشيعيّة ، فتوصَّلت بعد بحوث مجهدة ومعاناة طويلة إلى أن اخترت مذهب أهل البيت علیهم السلام ، أو مذهب الإمام جعفر الصادق علیه السلام ، أو ما يسمُّونه اليوم بالشيعة ، أو المذهب الشيعيّ ، فأعلنت عن تشيُّعي ، وكنت وكيل زعيم الطائفة الشيعيّة السيِّد أبو القاسم الخوئي في مصر ، وحتى أصبحت داعية التشيُّع في كلِّ أقطار العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ.
وأنا أتكلَّم من منطق الواثق من نفسه ، حيث إني درست واطّلعت على كتب الفريقين : السنّيّ والشيعيّ ، حتى توصَّلت إلى حفظ صحيح البخاري وأرقام الصفحات المهمّة بالحوار والاحتجاج ، وغيره من الصحاح وكتب التاريخ.
أحكي لك هذه القصَّة : عندما كنت صغيراً في العشرينات كان أحد أساتذني يحذِّرني من قراءة كتب الشيعة.
ص: 545
فقلت له : يا أستاذ! ما دمتم تحذِّرونا من كتب الشيعة أسألك هذا السؤال : هذه الكتب المخيفة إمَّا أنها تحتوي على الحقيقة أو على الباطل ، فإن كانت الأولى فلماذا تحذِّرون من اتّباع الحقيقة؟ وإمَّا على الباطل فلماذا لا تردُّون عليها - يا أستاذ - وتبيِّنوا لنا الشبهات التي فيها حتى لا نقع في الشبهات؟
فضحك الأستاذ ، وقال لي : كان والدي يحذِّرني منها.
فقلت له : يا أستاذ! وإلى متى نبقى على هذا الخوف والتحذير؟
فكان الأستاذ من خلال تحذيره لي ، تولَّد عندي نزعة شديدة لقراءة هذه الكتب ، ووصلت بحمد اللّه تعالى إلى ما وصلت ، فأشجِّعك - يا أخي - قربة إلى اللّه ، وأنا رجل مريض ، وأصبحت في آخر العمر ، ولا أعرف أكمل هذه السنة أم لا ، فتابع البحث والسؤال يا بنيَّ ; لأن عمدة العلم في السؤال ، ووفَّقك اللّه.
وانتهت هذه الجلسة بسبب مرض السيِّد البدري.
ذهبت في تمام الساعة العاشرة صباحاً إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري ، فطرقت الباب ، ففوجئت بحرمه الموقَّرة تبلغني نبأ مرضه الشديد ، وقالت : حصل معه ألم في القلب ، وهو في مشفى المجتهد ، في قسم العناية القلبيّة المشددة.
فنزلت على الدرج بسرعة هائلة ، وقطعت الشارع ركضاً ، وأقلَّتني سيَّارة إلى مشفى المجتهد ، فدخلت إلى المشفى ، وأدعو له طول الطريق بطول العمر ; لأنه الإنسان الوحيد الذي وجدت فيه الصدق في القول والإخلاص في العمل ، رجل شيبة في الثمانينات ، ويحاور ويسافر ، ويحمل أكداس من الكتب بيده
ص: 546
الشريفة لينير الدرب أمام الشباب ، وسألت البوَّاب الذي يقف على باب قسم العناية القلبيّة المشدَّدة فأدخلني ، فسرت في الممرّ ، فسألت إحدى الممرِّضات عن غرفة السيِّد علي البدري ، فقالت لي : الشيخ الشيبة؟ قلت لها : نعم ، قالت : هو في الغرفة الثالثة.
فدخلت وقبَّلت جبينه ، وقال لي : يا بنيَّ! لقد أتيت ، فقلت له : نعم ، فقال لي : أطلب من اللّه أن يطيل بعمري فقط ولو سنة حتى أوضح لك كل الشبهات التي في ذهنك ، فقلت له : عمرك طويل إن شاء اللّه تعالى يا سماحة السيِّد.
السيِّد : هل تريد منّي أيَّ خدمة؟ قال لي : اجلس هنا ، هذا السرير فارغ ، فجلست ، ورفع رأسه عن الوسادة.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد الجليل! أستطيع أن أتكلَّم معك وأسألك؟
السيِّد البدري : اسأل يا أخي! ما دام فيَّ عرق ينبض سأردُّ عليك ، ويساعدني الإمام علي والزهراء علیهماالسلام ، والحجّة القائم الإمام المهدي عجَّل اللّه فرجه الشريف.
هشام آل قطيط : ألم يكن هناك إجماع وشورى على خلافة سيِّدنا أبي بكر بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟
السيِّد البدري : أرجو أن تبيِّن لي أدلّتك على صحة الإجماع والشورى.
هشام آل قطيط : أولا : إجماع الأمّة على خلافته.
ثانياً : كبر سنّه وشيخوخته ، والأمّة لا تقبل أن يكون الخليفة من هو أصغر سنّاً مثل الإمام علي ( كرَّم اللّه وجهه ) وأنتم لو أنصفتم - سماحة السيِّد - لأعطيتم
ص: 547
الحقَّ للمسلمين ، فلا يجوز عقلا أن يتقدَّم في هذا الأمر العظيم شابٌّ حدث السن مع وجود شيوخ قومه وكبراء أهله ، وإن تأخَّر سيِّدنا علي ( كرَّم اللّه وجهه ) لا يكون نقصاً له بل كمالا له ، وإن أفضليته على أقرانه ثابتة ولا ننكرها.
ثمَّ إنني أسمع حديثاً دائماً يردِّده علماؤنا السنّة ; قول سيِّدنا عمر : لا تجتمع النبوَّة والملك في أهل بيت واحد.
هذه أسباب تقدُّم أبي بكر وتأخُّر عليٍّ علیه السلام في أمر الخلافة ( ولا تجتمع أمّتي على ضلال أو على خطأ ).
السيِّد البدري : إن أدلَّتك - يا أخي - تضحك الثكلى ، وإن مثلك كمثل الذي يغمض عينيه فيصبح كالأعمى ، فلا يرى الشمس الطالعة في الضحى ، وينكر ضوء النهار إذا تجلَّى ، فافتح عينيك ، وانظر إلى منار الهدى ، واسلك طريق الحقّ ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تغرّنّك الدنيا ، وإن الآخرة خير وأبقى.
وأرجو منك أن تقرأ كتب الشيعة بدقّة ، وتعمِّق الفكر في أدلّتنا وبراهيننا ، أقول هذا لأني فتَّشت أسواق القاهرة والحجاز والخليج والأردن ، وأسواق الشام وأندونيسيا وتنزانيا وبومباي ، وغيرها من البلاد الإسلاميّة التي غالب سكَّانها أهل السنة ، أو حكَّامها من أهل السنّة والجماعة ، فما وجدت كتب الشيعة في مكتباتها ، فكأنكم - مع الأسف - آليتم أن لا تطالعوا كتب الشيعة ، فلا أدري هل حكمتم عليها بأنها كتب ضلال فحرَّمتم قراءتها؟!!
وإنّي دخلت بيوت كثير من إخواننا أهل السنّة ، علماء وغير علماء ، وخاصة الذين يهوون مطالعة الكتب ، ويملكون مكتبات شخصيّة في بيوتهم ، فوجدت فيها كتب مختلفة حتى كتب غير المسلمين من الشرقيّين والغربيّين ، ولم أجد كتاباً واحداً من كتب الشيعة!!
ص: 548
بينما نحن في بلادنا نطبع كتب السنّة وننشرها ، وندعو أهل العلم والمثَّقفين من شبابنا لمطالعتها ، فهذه مدينة النجف الأشرف ، وكربلاء المقدَّسة في العراق ، وهذه مدينة مشهد ، ومدينة قم المقدسة ، وكذلك شيراز وطهران وإصفهان ، التي فيها حوزاتنا العلميّة ومراجعنا العظام ، ولا أجد مكتبة واحدة من مكتباتنا العامّة والخاصّة تخلو من صحاحكم وكتبكم ومسانيدكم وتواريخكم وتفاسيركم ، لا لحاجة منّا إليها ; لأن مدرسة أهل البيت علیهم السلام غنيّة ، والأخبار المرويَّة عن العترة الطاهرة تناولت جميع جوانب الحياة ، وكل ما يحتاجه الإنسان في أمر الدين والدنيا.
وعلاوة على ذلك ألفت نظرك إلى مسألة مهمّة جدّاً ، خذها بعين الاعتبار يا أخي ، أعطني دليلا واحداً أن هناك عالم شيعي انتقل من التشيُّع إلى التسنُّن ، لا يوجد .. أتحدَّاك ، بينما العشرات والمئات من علماء السنة ومثقَّفيهم انتقلوا من التسنُّن إلى التشيُّع .. لماذا؟!! فكِّر في ذلك وأنصف.
ويتابع سماحة السيِّد إجابته قائلا : أيُّها الأخ! لو فكَّرت قليلا وأنصفت ، ثمَّ نظرت نظرة الباحث المدقِّق المتأمِّل بأحداث السقيفة وما نجم منها لأذعنت أن خلافة أبي بكر ما كانت بموافقة أهل الحلِّ والعقد ، ولم يحصل الإجماع عليها ، ولو أنك تدبَّرت قول عمر بن الخطاب في صحيح البخاري - أصدق صحيح عندكم - ما قاله بعد هذا الإجماع والبيعة في السقيفة قوله : إنّما كانت بيعة أبي بكر
ص: 549
فلتة ، وتمَّت ، ولكن اللّه وقى شرَّها (1) ، إلى أن قال : من بايع منكم رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا ، إلى قوله : إلاَّ أن الأنصار خالفوا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا علي علیه السلام والزبير ومن معهما.
وأزيدك أدلّة أخرى يا أستاذ ، فالإجماع الذي تزعمه نفاه كثير من علمائكم ، منهم : صاحب كتاب ( المواقف ) ، والفخر الرازي ، وجلال الدين السيوطي ، وابن أبي الحديد ، والطبري ، والبخاري ، ومسلم بن الحجاج ، وغيرهم.
وقد ذكر العسقلاني ، والبلاذري في تأريخه ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وغير هؤلاء أيضاً ، ذكروا : أن سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وجماعة من قريش ما بايعوا أبا بكر ، وثمانية عشر من كبار الصحابة رفضوا أيضاً أن يبايعوه ، وهم شيعة علي بن أبي طالب علیه السلام وأنصاره ، ذكروا أسماءهم كمايلي :
1 - سلمان الفارسي
2 - أبو ذر الغفاري.
3 - المقداد بن الأسود الكندي.
4 - أُبي بن كعب.
5 - عمار بن ياسر.
6 - خالد بن سعيد بن العاص.
7 - بريدة الأسلمي.
8 - خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين.
9 - أبو الهيثم بن التيهان.
10 - سهل بن حنيف.
ص: 550
11 - عثمان بن حنيف.
12 - أبو أيوب الأنصاري.
13 - جابر بن عبد اللّه الأنصاري.
14 - حذيفة بن اليمان.
15 - سعد بن عبادة.
16 - قيس بن سعد.
17 - عبد اللّه بن عبّاس.
18 - زيد بن أرقم.
وذكر اليعقوبي في تأريخه فقال : تخلَّف قوم من المهاجرين والأنصار عن بيعة أبي بكر ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد ، وسلمان ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبي بن كعب (1).
أقول : ألم يكن هؤلاء من صفوة أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله ، ومن المقرَّبين إليه والمكرَّمين لديه؟! فلماذا لم يشاورهم؟ فإن لم يكن هؤلاء الأخيار من أهل الحلِّ والعقد ، ومن ذوي البصيرة والرأي في المشورة والاختيار ، فمن يكون إذن؟!! وإذا لم يعبأ برأي أولئك الذين كانوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشاورهم الأمور ويعتمد عليهم ، فبرأي من يعبأ؟ ورأي من يكون ميزاناً ومعياراً لإبرام الأمور المهمّة ، وحسم قضايا الأمة؟!
ويتابع السيِّد البدري استدلاله قائلا : أوَّل من خالف أبا بكر هم أهل البيت علیهم السلام ، وهم بإجماع الأمة أفضل الصحابة ، وهم في الصفّ الأول والمتقدِّمين
ص: 551
على أهل الحلّ والعقد ، وإن إجماع أهل البيت علیهم السلام حجّة لازمة على الأمّة ، بدليل قوله صلی اللّه علیه و آله : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً (1).
هشام آل قطيط : عفواً ، عفواً سماحة السيِّد! أنت ذكرت : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، لماذا لم تذكر حديث : كتاب اللّه وسنّة نبيِّه؟ من أين أتيت بحديث : عترتي أهل بيتي؟
السيِّد البدري : أعطني دليلا على صحّة ما قلت أيُّها الأستاذ.
هشام آل قطيط : وقفت محتاراً عن عدم الدليل ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ، إن شاء اللّه في جلسة أخرى سأحضر الدليل.
السيِّد البدري : لا تعذِّب نفسك يا أخي ، راجع : مسند أحمد بن حنبل ، الجزء الثالث : ص 17 ، وأخرجه أيضاً في نفس المصدر عن أبي سعيد الخدري ص 26 ، وص 59 عن أبي سعيد الخدري حديثاً آخر ، وأخرج في الجزء الرابع ص 267 عن زيد بن أرقم حديثاً آخر ، وفي صحيح مسلم ذكره في الجزء الثاني ص 238.
وأمَّا حديث : كتاب اللّه وسنَّة نبيِّه ، رواه الإمام مالك في موطَّئه ، الجزء الثاني : ص 899 ، ط دار إحياء التراث العربي ، تحقيق الدكتور محمّد فؤاد عبد الباقي المصري. وصيغة الحديث على الشكل التالي : حدَّثنا مالك أنه بلغه : ما إن تمسَّكتم بأمرين : كتاب اللّه وسنّة نبيِّه.
فهذا الحديث عند علماء الجرح والتعديل عندكم والحفَّاظ حديث مرسل
ص: 552
ولا يؤخذ به ، فاشتهر عندكم ( وكم من شهير ليس له أصل ) والصحاح الحاكمة بوجوب التمسُّك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيّاً متظافرة ، وقد صدع بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مواقف له شتّى : تارة يوم غدير خمّ ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرَّة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : أيُّها الناس! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلِّف فيكم كتاب اللّه عزَّوجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد علي علیه السلام فرفعها ، فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض .. الحديث (1).
ثمَّ قال : أخرجه الطبراني كما في أربعين الأربعين ، وكتاب ( إحياء الميت في فضائل أهل البيت علیهم السلام ) للشيخ جلال الدين السيوطي.
وانتهى الحوار في مشفى المجتهد بدمشق.
ذهبت إلى منزل السيِّد البدري صباحاً ، وهنَّأته بالسلامة بعد خروجه من المشفى ، وقال لي : الآن عندي موعد مع جماعة من لبنان ، وبعد صلاة المغرب تفضَّل - يا أخي - لنكمل البحث والحوار.
ص: 553
وبعد صلاة المغرب حضرت لإكمال البحث والحوار.
مناقشة الأدلّة وتفنيدها
السيِّد البدري : أمَّا دليلك كبر سنّ الخليفة أبي بكر ، فقدَّموه لأنه أكبر سنّاً من علي بن أبي طالب علیه السلام ، صحيح أن أصحاب السقيفة استدلُّوا بهذا الدليل لإقناع الإمام علي علیه السلام ليبايع أبا بكر (1) ، ولكنه دليل ضعيف ، وكلام سخيف ، فلو كان كبر السنّ ملحوظاً في المنصوب للخلافة فقد كان في المسلمين والصحابة من هو أكبر سنّاً من أبي بكر ، حتى إن والده أبا قحافة كان حيّاً في ذلك اليوم ، فلم أخَّروه وقدَّموا ابنه؟!!
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيّد! إن الملاحظ عندنا والمعروف هو كبر السنّ والسابقة في الإسلام ، وقد كان سيِّدنا أبو بكر محنَّكاً في الأمور ، ومحبوباً عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بينما سيِّدنا علي ( كرَّم اللّه وجهه ) كان حدث السنّ ، وغير محنَّك في مجرَّبات الأمور.
السيِّد البدري : إذا كان كذلك - يا أستاذ - فلماذا قدَّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام في كثير من الأمور والقضايا؟!
ص: 554
أولا : أروي لك هذه النكتة التي وردت في شرح ابن أبي الحديد ، قال : قيل لأبي قحافة والد الخليفة أبي بكر يوم ولي الأمر ابنه : قد ولي ابنك الخلافة ، فقرأ : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ) (1) ، ثمَّ قال : لم ولَّوه؟ قالوا : لسنِّه! قال : أنا أسنُّ منه!! (2).
ثانياً : في غزوة تبوك ، حينما عزم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخرج مع المسلمين إلى تبوك ، وكان يخشى تحرُّك المنافقين في المدينة وتخريبهم خلَّف عليّاً علیه السلام ليدير أمور المدينة المنوَّرة ، دينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، وقال له : أنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (3).
ثالثاً : تبليغ آيات من سورة براءة لأهل مكة حين كانوا مشركين ، فقد عيَّن النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر لهذه المهمّة وأرسله إلى مكة ، وقطع مسافة نحوها ، ولكنَّ اللّه عزَّوجلَّ أمر النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أن يعزل أبا بكر ويعيِّن عليّاً علیه السلام لتبليغ الرسالة ، ففعل النبي صلی اللّه علیه و آله وأرسل عليّاً علیه السلام ، فأخذ الرسالة من أبي بكر ، فرجع إلى المدينة ، وذهب علي علیه السلام إلى مكة ، فوقف في الملأ العام من قريش ، ورفع صوته بتلاوة الآيات من سورة براءة ، وأدَّى تبليغ الرسالة ، ونفَّذ الأمر ، ورجع إلى المدينة (4).
ص: 555
رابعاً : أنه صلی اللّه علیه و آله بعثه إلى اليمن ليهدي أهلها إلى الإسلام ، ويبلغهم الدين ، ويقضي بين المتخاصمين ، وقد أدَّى هذا الأمر على أحسن وجه.
هشام آل قطيط : وما جوابكم - سماحة السيِّد - عن قول سيِّدنا عمر بأن النبوَّة والحكم لا تجتمعان في أهل بيت واحد؟
السيِّد البدري : أيُّها الأستاذ! قول عمر باطل ، وزيفه واضح ، بدليل قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (1).
فهذا الكلام إن كان ينسب إلى عمر فهو دليل على عدم إحاطته بالآيات القرآنيّة ومفاهيمها ، وإن كان عمر يرويه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهو حديث مجعول ;لأنه مخالف لكتاب اللّه العظيم.
ثمَّ - أيُّها الأخ المحاور - إن خلافة النبوَّة عندنا كخلافة هارون لأخيه موسى بن عمران ، حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه : ( وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) (2) ، فإن يكن عندكم أنه يحقُّ للمسلم أن ينفي
ص: 556
خلافة هارون لموسى ، فإنه يحقُّ له أيضاً عزل علي علیه السلام من خلافة خاتم النبيين صلی اللّه علیه و آله ، فكما أن النبوَّة والخلافة اجتمعتا في أهل بيت عمران والد موسى وهارون كما ينصُّ القرآن فيه ، كذلك اجتمعتا للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وعلي علیه السلام في بيت عبد المطلب بالنصوص الكثيرة.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن الكلام والنقاش حول هذه المواضيع لا يزيد المسلمين إلاَّ تنافراً وحقداً وابتعاداً ، كيفما كان الأمر فنحن ما كنّا في ذلك اليوم ، ولم نحضر السقيفة حتى نلمس الأمر ، ونتحسَّس الأحداث ، فأقول لك : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) (1) ، فنحن لا نحاسب عنهم إن أخطأوا.
السيِّد البدري : هذا جواب من لا يملك الحجّة والدليل الشرعيّ ، فيقول : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) يجب على كل مسلم أن يتبع الحق ، لا أنه يستسلم للأمر الواقع فكم من ضلال وباطل قائم في الدنيا ، فهل يجوز للمسلم أن يتبعه ويتقبَّله ثمَّ يقول : إنه أمر واقع ، وليس لنا إلاَّ أن نستسلم للأمر الواقع؟! فالإسلام دين تحقيق لا دين تقليد ، قال سبحانه وتعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (2) ، فهل قول عمر أحسن أم قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! فهل يجوز للمسلم أن يترك هذه النصوص الجليَّة والأحاديث النبويَّة المرويَّة عن صحاحكم وتواريخكم؟
هشام آل قطيط : لقد كرَّرت الكلام بأن عليّاً كرَّم اللّه وجهه وبني هاشم وكثير من الصحابة لم يرضوا بخلافة أبي بكر ولم يبايعوه ، ونحن نرى التواريخ
ص: 557
كلها اتّفقت على أن سيِّدنا عليّاً وبني هاشم وجميع أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايعوا أبا بكر.
السيِّد البدري : نعم بايعوا ، ولكن أسألك كيف تمَّت هذه البيعة؟ أما قرأت في كتب التأريخ والحديث أن عليّاً علیه السلام وبني هاشم وكثيراً من كبار الصحابة ما بايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر بالتهديد والجبر ، إذ جردوا السيف على رأس الإمام علي علیه السلام ، وهدَّدوه بالقتل إن لم يبايع!
هشام آل قطيط : إني أعجب من سماحتك أيُّها السيِّد ، كيف تتفوَّه بهذا الكلام؟! ما هو إلاَّ من أساطير عوام الشيعة وجهلتهم ، وقد أكَّد المؤرِّخون أن سيِّدنا عليّاً ( كرَّم اللّه وجهه ) بايع أبا بكر في لحظة استلامه للخلافة طوعاً ورغبة ، وأعلن موافقته لخلافة سيِّدنا أبي بكر.
السيِّد البدري : ألم تقرأ كتب الصحاح والتاريخ أيُّها المحاور ، إرجع إلى صحيح البخاري : 3 - 37 باب غزوة خيبر لترى ما ترى .. راجع صحيح مسلم : 5 - 154 باب قول النبيِّ صلی اللّه علیه و آله : لا نورث ، وراجع كتاب الإمامة والسياسة : ص 14 ، وراجع مروج الذهب للمسعودي : 1 - 414 ، وابن أعثم الكوفي في الفتوح ، والحميدي في الجمع بين الصحيحين ، كل هؤلاء أخرجوا أن عليّاً علیه السلام وبني هاشم لم يبايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر.
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة عن الصحيحين ، عن الزهري ، عن عائشة : فهجرته - يعني أبا بكر - فاطمة ولم تكلِّمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليٌّ ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وفي الخبر : فمكثت فاطمة علیهاالسلام ستة أشهر ثمَّ توفِّيت ، فقال رجل للزهري : فلم يبايعه عليٌّ ستة أشهر؟! قال : ولا
ص: 558
أحد من بني هاشم ، حتى بايعه علي (1).
وذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ص 13 (2) ، تحت عنوان : ( كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرَّم اللّه وجهه ) قال : وإن أبا بكر تفقَّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ( كرَّم اللّه وجهه ) فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار عليٍّ ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده! لتخرجن أو لأحرقها على من فيها! فقيل له : يا أبا حفص! إن فيها فاطمة! فقال : وإن ... وبعد عدّة أسطر في نفس المصدر السابق له ، يقول : فدقُّوا الباب ، فلمَّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول اللّه! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟ فلمَّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين.
وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليّاً ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أبايع فمه؟! قالوا : إذن واللّه الذي لا إله إلاَّ هو! نضرب عنقك! قال : إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله ، قال عمر : أمَّا عبد اللّه فنعم ، وأمَّا أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلَّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟! فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.
فلحق عليٌّ بقبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، يصيح ويبكي وينادي : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (3) (4).
ص: 559
واعلم - أيُّها الأخ المحاور - أن مسؤوليتك خطيرة تجاه الجهلة والعوام ; لأنهم يأخذون منكم أنتم المثقَّفون - وأيضاً العلماء - ولقد قيل : إذا فسد العالِم فسد العالَم ، أنتم الشباب الواعي المثقَّف يجب عليكم أن تقرؤوا صحاحكم وتاريخكم ، ولا تتّبعون أسلافكم المتعصِّبين وأتباعهم ، فلِم تصدِّقون كل ما تسمعونه عن الشيعة المظلومين عبر التاريخ؟ بينما كل الأخبار التي تتحدَّث بها الشيعة هي من كتبكم ، فراجع واقرأ بعين الإنصاف ; لأنك مسؤول غداً أمام اللّه عن هذه الأدلّة ، ولا تقل إن أبي وجدّي كانوا كذا ... الدين ليس بالوراثة ، والدين ليس عادات وتقاليد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ، فالدين علم ، وفكر ، ومنطق ، واحتجاج ، وبيِّنة.
حتى لو اصطدمت مع والدك ، حتى لو اصطدمت مع أستاذك ، أو مع شيخك الذي تصلّي خلفه ، أو اختلفت فعليك اتّباع البيِّنة والحجَّة والبرهان ، واللّه الموفِّق إلى سبيل الرشاد.
لقد نقل لنا المحدِّثون والمؤرِّخون هذه الحوادث الأليمة في التاريخ ، وإليك - أيُّها المحاور - بعض الوثائق التاريخية التي تكون عندكم محلَّ الوثوق
ص: 560
والاعتبار.
1 - غضب السيِّدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام ، ويذكره البخاري في صحيحه قائلا : ( فوجدت فاطمة علیهاالسلام على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلَّمه حتى توفِّيت ) (1) ، وأخذنا بحديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ( فاطمة سيِّدة نساء العالمين ) (2).
فنستنتج بأن إمام زمان فاطمة علیهاالسلام هو علي بن أبي طالب علیه السلام ، الواجب الطاعة ، وهو الخليفة بعد رسول الأمَّة ، ألم يبادر إلى ذهنك - أيُّها المحاور - أين قبر فاطمة؟ فخذ الجواب من شاعر أهل البيت علیهم السلام الأزري :
فَلأَيِّ الأُمُورِ تُدْفَنُ لَيْلا *** بَضْعَةُ الْمُصْطَفَى وَيُعْفَى ثَرَاهَا
فَمَضَتْ وَهيَ أَعْظَمُ الناسِ وَجْداً *** في فَمِ الدهرِ غُصَّةٌ مِنْ جَوَاهَا
وَثَوَتْ لاَ يَرَى لَهَا النّاسُ مثوىً *** أيُّ قُدّس يَضُمُّهُ مَثْوَاها (3)
ثمَّ أُضيف لك - أيُّها الأخ - أنهم اغتصبوا حقَّ فاطمة علیهاالسلام ، واحتجُّوا عليها بحديث : النبيُّ لا يورِّث.
المحاور : عفواً سماحة السيِّد! : النبيُّ صلی اللّه علیه و آله قال : نحن معاشر الأنبياء لا نوِّرث ، فالوراثة هي العلم والحكمة.
ص: 561
السيِّد البدري : أولا : هذا الحديث هو رواية آحاد ، وتفرَّد به الخليفة أبو بكر ثمَّ قال الرسول صلی اللّه علیه و آله : ( ستكثر من بعدي الكذَّابة ) (1) ( فاعرضوا كلامنا على القرآن ، فإن وافق القرآن فخذوا به ، وإن خالف القرآن فاضربوا به عرض الحائط ) (2) فليكن رجوعنا إلى الميزان وهو القرآن ، لنرى هل هذا الحديث الذي استشهدت به يخالف القرآن أم يوافقه.
فاسمع قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ ) (3) ، فإن قلت لي : إن الميراث المطلوب في هذه الآية هو العلم والحكمة فاسمع قول الزهراء علیهاالسلام في خطبتها
ص: 562
المشهورة للخليفة أبي بكر : يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً!! أفعلى عمد تركتم كتاب اللّه ، ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ ) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (1) ، وقال : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (2) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (3) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (4) ، وزعمتم أن لا حظوة لي ، ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصَّكم اللّه بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟! فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم اللّه ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون و ( لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (5) ( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (6). الخطبة (7).
ألم يكفِك جواباً قول الزهراء علیهاالسلام ؟
ص: 563
المحاور : سماحة السيِّد! الكلام قويٌّ وبليغ ، ولكن أين دليل وسند هذه الخطبة؟
السيِّد البدري : راجع نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي : الجزء الرابع ، ص 193 ، وبلاغات النساء لابن أبي طيفور.
الإمام علي علیه السلام يذكر فدك في خطبته.
السيِّد البدري يتابع الحديث .. ينقل لنا كلاماً للإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة بمناسبة أرض فدك : ( .. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا حزت من أرضها شبراً ، بلى كانت في أيدينا فدك من كلِّ ما أظلَّته السماء ، فشحَّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم اللّه .. ) (1).
فهذا كلام الإمام علي علیه السلام ، يقول : ( ونعم الحكم اللّه ) ومعناه : أني سوف أطالبهم حقّي يوم الحساب .. يوم لا تظلم نفس شيئاً .. والحكم يومئذ لله.
وأمَّآ سيِّدتنا فاطمة علیهاالسلام فقد قالت لأبي بكر وعمر : فإني أشهد اللّه وملائكته أنّكما أسخطتماني فما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيَّ علیهاالسلام لأشكونَّكما إليه. الإمامة والسياسة لابن قتيبة (2) عليك مراجعته.
وكما نقل بعض المؤرِّخين كانت في أواخر أيَّام حياتها تخرج إلى قبر أبيها
ص: 564
رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهناك تشكو اهتضامها وتقول : أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين ، وأصبحت الناس عنّا معرضين!! ثمَّ تأخذ تراب القبر فتشمُّه وتنشد :
مَاذَا علَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَد *** أَنْ لاَ يَشَمَّ مَدَى الزَّمَان غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّها *** صبَّتْ عَلَى الأيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا (1)
فماتت مقهورة مظلومة ، في ربيع العمر وعنفوان الشباب ، وأوصت إلى علي علیه السلام أن يغسِّلها ويجهِّزها ليلا ، ويدفنها ليلا إذا هدأت الأصوات ونامت العيون ، وأوصت أن لا يشهد جنازتها أحد ممن ظلمها وآذاها (2).
ولمَّا وضعها في لحدها وأهال عليها التراب هاج به الحزن فتوجَّه إلى قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : السلام عليك يا رسول اللّه عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، إلى أن يقول علیه السلام : فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة! أمَّا حزني فسرمد ، وأمَّا ليلي فمسهَّد ، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر أمَّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسلام عليكما سلام مودِّع ، لا قال ولا سئم .. (3).
ص: 565
المحاور : كفى .. كفى .. رحم اللّه والديك ، لقد مزَّقتني من الداخل ، حيث كانت دموعي تجري على تلك المظلوميَّة ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ باللّه العليِّ العظيم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلذة كبد النبي صلی اللّه علیه و آله وريحانته ، وسيِّدة نساء العالمين ، وسيِّدة نساء أهل الجنة ، وأمّ الحسن والحسين ، وزوجة الإمام علي ( كرَّم اللّه وجهه ) بطل الإسلام ، تموت مظلومة ، لم تعش بعد والدها سوى بضعة أشهر ... تدفن ليلا ، يهضم حقّها ، وممَّن؟ من الخلفاء أبي بكر وعمر!!
يا للهول ويا للعجب! فكانت أكبر نقاط الحوار تأثيراً في نفسي وفي كياني ، فتركت الجلسة ولم أستطع أن أكمل الحوار ، فاعتذرت من سماحة السيِّد وخرجت.
في المنزل
خرجت من منزل السيِّد البدري والوقت ما يقارب الساعة العاشرة ليلا ، ووصلت إلى البيت حيث كنت منهكاً ، فقالت لي زوجتي : يبدو عليك الأرق والتعب!
فقلت لها : وأيُّ تعب؟
فقالت لي : وجهك مقلوب ومتغيِّر .. عندما ذهبت وجهك كان أفضل.
فقلت لها : نعم صحيح .. إن مظلوميّة السيِّدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام قد هدَّت كياني ، ولم أكن أعلم كل هذا العمر الذي قضيته في المطالعة وقراءة الكتب والجامعة بهذه المصيبة والفاجعة والمظلوميّة.
تناولت من مكتبتي المتواضعة صحيح البخاري لأرى صدق كلام السيِّد
ص: 566
البدري بأن فاطمة علیهاالسلام ماتت وهي غاضبة عليهم ، وفي رواية أخرى قال لي : ( ماتت وهي واجدة عليهم ) كما ذكر لي في صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، ج 5 ، ص 77 ، مطابع دار الشعب ، وصحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب فرض الخمس ، ج 4 ، ص 42 ، دار الفكر.
والحديث في هذا مسند إلى عائشة ، وقد صرَّحت فيه أن الزهراء علیهاالسلام هجرت أبا بكر ، فلم تكلِّمه بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى ماتت فعندما وجدت الحديث ووقفت عليه متأمِّلا ، فصرت أحدِّث نفسي : لماذا علماؤنا علماء السنة لايصرِّحون لنا بالحقيقة؟!! هل الدين جاء لكتمان الحقائق أم للتصريح بها؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
بعد وقوفي على حادثة ومظلوميَّة الزهراء علیهاالسلام ، وتأمَّلتها في صحيح البخاري ، رجعت إلى منزل السيِّد البدري بعد ثلاث أيام لأشكره على ما قدَّم لي من كتب ، وأعطاني من وقته للبحث ، وقال لي : يا بنيَّ! اللّهمَّ اشهد أني قد بلَّغتك على مذهب الحقّ مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وأقام عليَّ الحجّة بعد هذه اللقاءات ، وأصبحت هذه الحوارات أمانة في عنقك وحجَّة عليك ، فالويل ثمَّ الويل لمن بان له الحقُّ وكتمه ، فالويل ثمَّ الويل لمن تجلَّت له الحقيقة وسكت عنها ، ولم يدافع عنها ولم يدعُ لها.
وقال لي : يا بنيَّ! أنا كبرت وتعبت ، وأتعبني قلبي ، وغداً سأسافر إلى بيروت ، إلى الجامعة الأمريكيّة لأعمل عمليّة للقلب ، وفقرات الظهر.
وفعلا سافر السيِّد البدري ، وتمَّ الرفض من قبل الجامعة الأمريكيّة لإجراء
ص: 567
أيِّ عمل جراحيٍّ له ، بسبب عدم تحمُّل القلب ، وصمَّم أن يعمل فقط عمل جراحي لظهره في مشفى صيدا ، وسافر بعدها إلى إيران.
وكان يقول لي : مسؤوليتك كبيرة أمام اللّه ، ومعرفتك الحق أمانة ، وأنت تسأل غداً عن هذه الأمانة.
فعاهدت السيِّد البدري على حفظ الأمانة ، ومتابعة البحث والطريق إن شاء اللّه تعالى ، وأسألك الدعاء سيِّدي ، فودَّعته وقبَّلت جبينه وخرجت.
وبعد ذلك وصلني نبأ وفاته في مدينة قم المقدسة بعد شهر ، فبكيت عليه بكاء شديداً ، وسافرت إلى مدينة قم حيث لم أحضر جنازته ، فزرته وقرأت الفاتحة على ضريحه المقدَّس ، وعاهدته بمواصلة البحث ، والسير في الدعوة إلى طريق أهل البيت علیهم السلام حتى ألقى ربّي وأنا في هذا الطريق إن شاء اللّه تعالى (1).
ص: 568
يقول الشيخ معتصم سيِّد أحمد السوداني : انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسوعات الضخمة ، فأصبحت ملازماً لها ، ولكنَّ المشكلة التي واجهتني هي : من أين أبدأ؟ وأيَّ شيء أقرأ؟
وبقيت على هذه الحال أنتقل من كتاب إلى آخر ، وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً فتح لي أحد أقاربنا باباً واسعاً ومهمّاً في البحث والتنقيب ، وهو دراسة التاريخ وتتبُّع المذاهب الإسلاميّة لمعرفة الحقِّ من بينها ، وكان الفتح توفيقاً إلهيّاً لم يكن في حسباني عندما التقيت بقريبي عبد المنعم - وهو خريج كلية القانون - في منزل ابن عمّي في مدينة عطبرة ، وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد من الإخوان المسلمين الذي كان ضيفاً في البيت ، فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان ، وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش ، وهو في الأمور الدينيّة ، فجلست بالقرب منهم أراقب تطوُّرات
ص: 569
المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التامّ ، رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجُّمه ، ولم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم : الشيعة كفَّار زنادقة.
هنا انتهيت وأمعنت النظر ، ودار في ذهني استفهام حائر : من هم الشيعة؟ ولماذا هم كفَّار؟ وهل عبد المنعم شيعيٌّ؟ وما يقوله من غريب الحديث هل هو كلام الشيعة؟
وللإنصاف إن عبد المنعم أفحم خصمه في كلِّ مسألة طرحت في النقاش ، بالإضافة إلى لبقة منطقه وقوَّة حجَّته.
وبعد الانتهاء من الحوار وأداء صلاة المغرب انفردت بقريبي عبد المنعم ، وسألته بكلِّ احترام : هل أنت شيعيٌّ؟ ومن هم الشيعة؟ ومن أين تعرَّفت عليهم؟
قال : مهلا .. مهلا ، سؤال بعد سؤال.
قلت له : عفواً ، وأنا ما زلت مذهولا ممَّا سمعته منك.
قال : هذا بحث طويل ، ومجهود أربع سنوات من العناء والتعب ، مع الأسف لم تكن النتيجة متوقَّعة.
فقاطعته : أيُّ نتيجة هذه؟
قال : ركام من الجهل والتجهيل عشناه طوال حياتنا ، نركض خلف مجتمعاتنا من غير أن نسأل : هل ما عندنا من دين هو مراد اللّه تعالى وهو الإسلام؟ وبعد البحث اتّضح أن الحقَّ كان مع أبعد الطرق تصوُّراً في نظري وهم الشيعة.
قلت له : لعلّك تعجَّلت .. أو اشتبهت.
فابتسم في وجهي قائلا : لماذا لا تبحث أنت بتأمُّل وصبر؟ وخاصة أن
ص: 570
لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً.
قلت متعجِّباً : مكتبتنا سنّيّة ، فكيف أبحث فيها عن الشيعة؟
قال : من دلائل صدق التشيُّع أنه يستدلُّ على صحّته من كتب وروايات علماء السنة ، فإن فيها ما يظهر حقَّهم بأجلى الصور (1).
قلت : إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة؟
قال : لا ، فإن للشيعة مصادر خاصّة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة ، كلّها مرويَّة عن أهل البيت علیهم السلام عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكنّهم لا يحتجُّون على أهل السنة بروايات مصادرهم ; لأنها غير ملزمة لهم ، فلابد أن يحتجُّوا عليهم بما يثقون به ; أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.
سرَّني كلامه ، وزاد تفاعلي للبحث ، قلت له : إذن كيف أبدأ؟
قال : هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي؟
قلت : نعم ، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.
قال : من هذه ابدأ ، ثمَّ تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التأريخ ، فإن في هذه الكتب أحاديث دالّة على وجوب اتّباع مدرسة أهل البيت علیهم السلام .
ص: 571
وبدأ يسرد لي أمثلة منها ، مع ذكر المصدر ورقم المجلَّد والصفحة ، توقَّفت حائراً أسمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل ، ممَّا جعلني أشكُّ في كتب السنّة ، ولكن سرعان ما قطع عنّي هذا الشكَّ بقوله : سجِّل هذه الأحاديث عندك ، ثمَّ ابحثها في المكتبة ، ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن اللّه.
في الجامعة :
بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي في مكتبة جامعتنا تأكَّد لي صدق مقالته ، وفوجئت بأحاديث أخرى أكثر منها دلالة على وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، ممَّا جعلني أعيش في حالة من الصدمة ، لم نسمع بهذه الأحاديث من قبل.
فعرضتها على زملائي في الكلّيّة حتى يشاركوني في هذه الأزمة ، فتفاعل البعض ، ولم يكترث لها البعض الآخر ، ولكنّني صمَّمت على مواصلة البحث ولو كلَّفني ذلك كل عمري ، وعندما جاء يوم الخميس انطلقت لعبد المنعم ، فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء ، وقال : يجب عليك ألا تتعجَّل ، وأن تواصل البحث بكل وعي.
ثمَّ بدأنا في بحوث أخرى لم أكن أعرفها ، وقبل رجوعي إلى الجامعة طلب منّي عدّة أمور أبحثها ، وهكذا دواليك إلى مدّة من الزمن ، وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغيَّر من فترة إلى أخرى ، فأحياناً أحتدُّ معه في الكلام ، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة ، فكنت - مثلا - عندما أراجع بعض المصادر وأتأكَّد من وجودها أقول له : إن هذه الأحاديث غير موجودة ، ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك سوى الشعور بالانهزام وحبِّ الانتصار.
وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن
ص: 572
أتوقَّعها ، وكنت في طوال هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي.
إلى أن يقول الشيخ معتصم : وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى اتّضح لي الحقُّ وانكشف الباطل ; لما في هذين السفرين من أدلّة واضحة ، وبراهين ساطعة بأحقّيّة مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وازدادت قوَّتي في النقاش والبحث حتى كشف اللّه نور الحق في قلبي ، وأعلنت تشيعي (1).
ص: 573
قال الشيخ معتصم السوداني : الدكتور عمر مسعود من البارزين في الساحة السودانيّة ، وخاصة في ولاية نهر النيل في شمال السودان ، وهو يحمل مجموعة من الشهادات في الاقتصاد ، وعلوم الحديث ، ومقارنة الأديان ، بالإضافة إلى تتلمذه على يد مجموعة من المشايخ وعلماء الطرق الصوفيّة ، كما أنّه يمتاز باطّلاعه الواسع في شتّى المجالات ، فله مكتبة ضخمة تحتوي على ( 11 ألف كتاب ) ، وهو يعمل الآن محاضراً في جامعة وادي النيل في كلّيّات متعدِّدة ، مثل : كلية الدراسات الإسلاميّة ، وكلية التربية ، وكلية التجارة ، فهو مدير لقسم التجارة بهذه الكلية.
هذا الدكتور تربطني به علاقة شخصيَّة ، علاوة على أنَّه أستأذي ثلاث سنوات تقريباً ، ودارت بيني وبينه مجموعة من الجلسات والحوارات الإيجابيّة الهادفة ، في شتّى المجالات التأريخيّة والأصوليّة والعقائديّة ، أسفرت عن
ص: 574
احترام الطرفين ، وتقدير وجهات النظر.
وأحبُّ أن أسجِّل هنا بعض هذه الجلسات حتى تعمَّ الفائدة ، لم أتمكَّن من إلحاقها في الكتاب ، ممَّا دفعني أن أقوم بكتابة هذا الكتيِّب حتى يكون مكمِّلا للحقيقة الضائعة ، وأسال اللّه أن يوفِّقني في تحرّي الدقّة ونقل الواقع كما هو.
بعد أن دخلت الحرم الجامعي رأيت الدكتور يلقي محاضرة لطلاب قسم التجارة ، وما إن رآني حتى خرج واستقبلني بحفاوة ، ثمَّ طلب منّي أن أحضر إلى مكتبه بعد المحاضرة.
وبعد المحاضرة ذهبت إليه ، وبعد السلام والسؤال عن الأخبار.
قال الدكتور : أين كنت خلال هذه الفترة؟
الشيخ معتصم : في سوريا عند مقام السيِّدة زينب علیهاالسلام .
الدكتور : ماذا كنت تفعل؟
الشيخ معتصم : أدرس في الحوزة العلميّة.
الدكتور : وماذا تدرس؟
الشيخ معتصم : فقه ، أصول ، منطق ، عقائد ، نحو ، وغيرها ، فالحوزة هي عبارة عن مقدِّمة للطالب حتى يجتهد في استنباط الأحكام الشرعيَّة ، فباب الفقه عند الشيعة ما زال حيويّاً ومتحرِّكاً ، وهم يعتمدون في ذلك على أصول منضبطة ومحكمة.
الدكتور : إن أهل السنّة أول من ابتدع علم الأصول ، وتجربتهم أنضج وأكمل ، أمَّا تاريخ علم الأصول عند الشيعة فهو حديث مقارنة بالأصول عند السنّة.
الشيخ معتصم : هذا اشتباه.
ص: 575
أولا : إن الأصول هي عبارة عن قواعد وكلّيّات يستنبط منها المجتهد الجزئيَّات ، وهذه الكلّيّات واضحة في روايات أهل البيت علیهم السلام ، فالإمام الرضا علیه السلام كان يقول : علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع (1) ، هذا من ناحية البعد التاريخيِّ ، أمَّا إذا قصدت بلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، والكتابة في هذه المباحث ، فإن السنّة يختلفون تماماً عن الشيعة ، ولا وجه هناك للمقارنة ، فمصادر التشريع عند السنّة انقطعت بعد موت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولذلك الحاجة التأريخيَّة ألحَّت لتكوين علم أصول يتكفَّل باستخراج الأحكام الشرعيّة ، فالأصول السنّيّة مقارنة مع هذه الحاجة الحتميّة جاءت متأخِّرة جداً ، أمَّا الشيعة فهم ينظرون إلى أهل البيت علیهم السلام باعتبارهم أنهم الامتداد الطبيعيُّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فكلامهم حجّة ، فلا توجد هناك حاجة لاستنباط الأحكام الشرعيّة مع وجود الأئمّة المصطفين من قبل اللّه سبحانه وتعالى ، وبعد مضيِّ أحد عشر إماماً وغياب الحجّة المهديِّ علیه السلام تولَّدت الحاجة لبلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، فالنظرة لابد أن تكون نسبيَّة.
الدكتور : إنّ علم الأصول عند السنّة يمتاز بأنه أكثر مرونة من الأصول عند الشيعة ، فإنّها جامدة ، يصعب على الإنسان أن يستنبط حكماً من خلالها ، فالأصول عند السنّة أبوابها كثيرة ومتعدِّدة ; من قرآن وسنّة وإجماع وقياس وغيرها ، تساعد المجتهد على تتبُّع الحوادث في أيِّ زمن ، واستنباط الحكم الشرعيِّ لأيِّ موضع.
الشيخ معتصم : هذا الكلام لا يمكن أن يقبل ، أمَّا أنها جامدة فهذا ادّعاء لا
ص: 576
يمكن أن يصدِّقه الواقع ، فالفقه الشيعيُّ الذي يرتكز على هذه الأصول التي تسمِّيها جامدة في غاية الدقّة ; لتتبُّعه للحوادث المتغيِّرة ، وتوضيح الحكم الشرعيِّ فيها ، كما أن الموسوعات الفقهيَّة الاستدلاليّة عند الشيعة تفوق بكثير - من غير مقارنة - الكتب الاستدلاليّة الفقهيّة عند السنّة ، هذا أولا.
أمَّا ثانياً ، فالأصول التي ذكرتها هي مشتركة بين الشيعة والسنّة ، وإذا كان هنا مرونة لأصول السنّة فهي راجعة للقياس ، والقياس عندنا لا يعوَّل عليه في استنباط أحكام الشريعة.
ثالثاً : إن الشيعة ليسوا بحاجة لإعمال القياس ، وذلك لكثرة النصِّ الفقهيِّ ، المرويِّ عن الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، فالوسائل للحرِّ العاملي يتكوَّن من عشرين مجلداً (1) كلُّه أحاديث فقهية ، وكتاب مستدرك الوسائل ثمانية عشر مجلَّداً في نفس الإطار للميرزا النورىِّ ، فليس هناك من داع لهذه الظنّيّات التي اعتمد عليها السنّة لقلّة النص الدينيِّ من روايات وأحاديث في جانب الفقه.
الدكتور : هذا كلام سطحيٌّ ، إنّ الأصول لم تكن بداعي قلّة النصِّ الدينيِّ كما زعمت ، وما هذه الأصول إلاَّ بمثابة تعليل لهذه النصوص ، فالقياس مثلا لم يكن خارجاً عن إطار النص ، وإنّما هو الطريق الذي من خلاله ينزل النصُّ للحوادث المتغيِّرة ; لأنّ لكل حكم علة ، بعد اكتشاف هذه العلّة تكون بمثابة قاعدة تنطبق على حوادث متعدِّدة ، وهذا هو علم الأصول بعينه.
الشيخ معتصم : هذا الكلام بصورته العامّة يبدو وجيهاً ، ولكن عندما نفصل المسألة ، وندقِّق أكثر يظهر لنا ضعفه ، وذلك أن القياس كما تفضَّلت هو إرجاع
ص: 577
الفرع إلى الأصل إذا اشتركت العلّة بين الأصل والفرع ، وكما هو واضح أن الحكم يدور مدار العلّة وجوداً وعدماً ، ولكن الإشكال كيف تكشف علّة الحكم؟
فإذا كانت العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع نفسه ، فمثلا يقول : إنّ الخمر حرام لأنه مُسكر ، فيمكن أن أقيس النبيذ على الخمر إذا كان النبيذ مسكراً ، فأقول : الخمر حرام لأنه مسكر ، والنبيذ مسكر ، إذن النبيذ حرام ، هذا لا إشكال فيه ، رغم أن هذا نفسه لا يسمّى قياساً ; بمعنى أننا لم نقس حكم النبيذ على حكم الخمر ، وإنما اكتشفنا حكم النبيذ من النص مباشرةً ، أي أنّ الخمر والنّبيذ كلاهما يرجعان إلى نصّ واحد ، وهو أنّ كل مسكر حرام.
أمَّا إذا لم تكن العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع فكيف لنا معرفتها؟ فكل ما نتوقَّعه لا يخرج عن إطار الظنّيّة ، ولعل الشارع لم يرتِّب الحكم على هذه العلّة التي اكتشفناها ، وإنما لعلّة أخرى باطنيّة ، مثلا : في حكم الصيام في السفر يقول الشارع : ( وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ ) (1) ، فالظاهر من هذه الآية هو عدم الصيام في حالة السفر ، فيقول مجتهد : إن العلّة من عدم الصيام في السفر هو الإرهاق والتعب ، وخاصة أنّ السفر في القديم كان عبر الدوابِّ ، والآن اختلف الوضع ، وأصبح السفر مريحاً ، فارتفعت العلّة التي تمنع الصيام في السفر ، فيرتفع معها الحكم ، وعلى هذا الاجتهاد كثير من المسلمين يصومون في حالة السفر ، فهذه مخالفة للنصِّ ، من الذي يقول : إنّ العلة هي التّعب؟ هل الشارع نصَّ على ذلك؟! وإن لم ينصَّ فتكون هذه العلّة ظنّيّة ، لا يعوَّل عليها في استخراج الحكم ، وإنما الآية في مقام التشريع ; فكما أنّ اللّه شرَّع الصيام في شهر
ص: 578
رمضان كذلك هو الذي منعه في السفر ، فلا تعارض بين الحكمين ، كما لا تلازم بينهما ، فهذا القياس مرفوض بحكم الشرع والعقل.
الدكتور : إنّ البحث عن الحكم القطعيِّ من الصعوبة بمكان ، ولو كانت الشريعة تطالبنا بالحكم القطعيِّ لكل واقعة لأصبح الأمر عسيراً ، كما أنّ هذه العلل التي تسمِّيها ظنّيّة هي الطريق الوحيد ، مع أني لا أقول ظنّيّة.
الشيخ معتصم : عفواً أستاذي! إنّ الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، ولا يمكن أن تكون الشريعة في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله كل أحكامها قطعيَّة وواقعيّة ، والآن تكون أحكامها ظنّيّة ، إلاَّ إذا كنت تعتقد أن أحكام الرسول صلی اللّه علیه و آله أيضاً ظنّيّة.
وإنما المسألة محلولة داخل الشريعة نفسها ، فالأحكام حسب التقسيم الأصوليّ الشيعيّ أحكام واقعيّة وأحكام ظاهريّة ، فالحكم الواقعيُّ هو الذي يستنبط من دليل قطعيٍّ من القرآن والسنّة والعقل ، والدليل القطعيُّ هو الكاشف عن حكم الواقعة.
أمَّا إذا طرأت علينا حادثة لم نجد لها حكماً في القرآن والسنّة والعقل فهناك أصول ليست أدلّة واقعيّة ، فبالتالي تكون أحكامها ظاهريَّة ، أمَّا حجّيّة هذه الأصول فهي حجج مجعولة ; بمعنى أنّ الشارع جعل لنا هذه الأصول حجّة ، فالحجّة نابعة من نفس هذا الطريق ، وليست ناظرة للحكم بما هو واقعيٌّ أو غير ذلك ، فالاستصحاب مثلا لا يكشف الواقع ، ولكن عندما قال الشارع : لا ينقض اليقين السابق الشك اللاحق ، فيكون بذلك جعل لنا الشارع حجّيّة الاستصحاب رغم أنه لا يكشف الواقع.
وكل هذا يدلُّ على مرونة الشريعة وتساهلها ، كما يدلُّ على أن الشارع
ص: 579
جعل لنا طرقاً نلجأ إليها عندما يتعسَّر الدليل الواقعيُّ.
أمَّا إذا كنت تقصد أن اكتشاف العلل وتوضيحها يجعل الفقه أكثر مرونة وتطوُّراً ، فإن هنالك نظريات شيعيّة عميقة في هذا الجانب ، تنطلق من مفهوم أن الدين ثابت ومتغيِّر ، وقد فصلَّ آية اللّه محمّد تقي المدرّسي في كتابه التشريع الإسلامي هذا الأمر ، وهو يبني نظريَّته على أن كل النصوص (1) الدينيّة تبيِّن الحكم مع الحكمة ، فيتتبَّع الفقيه هذه الحكم من خلال نصوص القرآن والسنة ، فتشكِّل هذه الحكم مجموعة قواعد كلّيّة يمكن للفقيه أن يرجع إليها الحوادث الجزئيَّة.
الدكتور : ما أنكرته في أول حديثك أقررت به في هذا الكلام ، فهذه النظريّة التي ذكرتها مؤخَّراً تدلُّ على أن الأصول الشيعيَّة جامدة ، ممَّا دفع المدرِّسي أن ينتهج هذا النهج ، الذي هو أقرب إلى الطرح السنّيِّ ، كما أن المدرِّسي من العلماء المعاصرين ، فتجربته ما زالت حديثة ، لا تحسب ضمن تاريخ المدرسة الأصوليّة الشيعيّة ، بخلاف الأصول عند أهل السنّة ، الذين هم أول من طرق هذا الباب الذي اكتشفه المدرسي مؤخَّراً ، ولعلّه استفاد من الطرح السنّيِّ.
الشيخ معتصم : إن كلامي غير متناقض ، فإنه يصبُّ في نفس المنحى ، ويؤكِّد أن الأصول الشيعيّة متطوِّرة ، فإن كل فترة زمنيّة لها من الظروف والدواعي التي تحتِّم على الأصول انتهاج نهج جديد ، وهو بالطبع لا يخالف القديم ، وإنما الطرح وبلورة النظريّة وتنقيح الأفكار عادةً ما يضيفان نوعاً من الحداثة ، وإلاَّ
ص: 580
فالكلام عن علل الشرائع قديم عند علماء الشيعة ، فالشيخ الصدوق مثلا عنده كتاب « علل الشرائع » وهو من الكتب القديمة.
كما أنَّ السيِّد المدرّسي لم يبتدع شيئاً ، وإنّما قام بعمليّة جمع واستخراج القيم والحكم المبثوثة في القرآن والروايات ، وسوف أحضر لك كتاب التشريع الذي طبع منه إلى الآن أربع مجلَّدات (1) حتى تعرف الفرق بين الطرح السنّي وطرح السيِّد المدرسي ، فالفرق عميق بين الطرحين ، فالقياس يعتمد على استخراج علّة الحكم من نفس الحكم ، ثمَّ يقيس عليها الفروع التي تشابهها في العلّة.
أمَّا الطرح الآخر فهو يبنى على أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة تطرح مجموعة من الحكم والقيم ، وبعد استخلاصها بطرق قطعيَّة تورث اليقين والاطمئنان تكون هذه الحكم حاكمة على مجموعة من الأحكام التي ترجع إلى هذه الحكم بصورة مستقلّة (2) ، وهذا الطرح لا يوجد له أثر في المدرسة السنّيّة ،
====
ص: 581
هذا من جهة القياس.
أمَّا الأصول الأخرى مثل الاستحسان وسدّ الذرايع وفقه الصحابي وغيرها ، فإن إثبات حجّيّة هذه الأصول من البعد بمكان ، فالطرح الشيعيُّ في الأصول مغاير للطرح السنّيِّ إجمالا وتفصيلا.
الدكتور : إنّ هذه الأصول التي ذكرتها ليست العُمدة عند أهل السنة ، وإنّما عمدتهم هو القرآن والسنة والإجماع والقياس ، ثمَّ بعد ذلك الأصول الأخرى ، وفي هذه الأصول لا خلاف بين السنّة والشيعة ، فالخلاف ليس إجمالا ، وإنّما تفصيلا.
الشيخ معتصم : أمَّا القرآن والسنّة فنعم ، رغم أن الخلاف فيهما موجود ، فبأيِّ كيفية نتعامل مع القرآن؟ وكيف نفسّره ونستنبط منه الحكم الشرعي؟ والسنّة هل هي رواياتكم أم رواياتنا؟ وهل كلام أهل البيت علیهم السلام حجَّة أم قول الصحابي؟ فهذه الأسئلة تباعد بيننا وبينكم ، أمَّا بخصوص الإجماع فهو غير حجّة ، فقد ناقشت الكتب الأصوليّة الشيعيّة الإجماع ، وأثبتت عدم حجّيّته ، فالإجماع حجّة إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم ، أو عن دليل شرعيٍّ ، فالحجّيّة لا تكون لذات الإجماع ، وإنّما تكون لرأي المعصوم أو الدليل الشرعيِّ.
الدكتور : إنكار حجّيّة الإجماع أمر غريب ، فقد تعارف على حجّيّته قديماً وحديثاً ، وبنيت على أساسه كثير من الأبواب الفقهيّة ، بل حتى أن الشيعة
ص: 582
يستدلّون بالإجماع في مسائل فقهيَّة ، فلماذا هذا التناقض؟!
الشيخ معتصم : أولا : إن بحثنا عن حجّيّة الإجماع كان في إطار الحجج القطعيّة الذاتيّة التي تولِّد حكماً واقعيّاً ، فعدم حجّيّة الإجماع بهذا المنظور من البديهيّات ; لأنه ليس كاشفاً عن الواقع (1) ، إلى أن قال : هذا بالإضافة إلى أن معظم المسائل التي استشهد الفقهاء فيها بالإجماع إنما بقصد تعضيد الفتوى ، لا من باب توليدها.
وعندما وصلنا إلى هذه النقطة اعتذر الدكتور لضيق وقته.
ص: 583
قال الشيخ معتصم السوداني تحت عنوان ( الوهّابيّة في أركان النقاش ) : دارت في الساحة الفكريّة في مدينة عطبره أحداث ساخنة ، بعد أن سيطر الطرح الشيعيُّ على مستوى المناظرات وأركان النقاش ، خاصة بين طلبة جامعة وادي النيل ، فكان حديث الساعة : الشيعة والتشيُّع حتى في الأماكن العامة ، هذا ممَّا أشعل نار الحقد الوهّابيّ ، فكثّفوا هجومهم على الشيعة في كل منابرهم ، وعندما علموا أن مصدر التشيّع في المدينة هو جامعة وادي النيل ، عملوا على حجز دار الطلاب ، وهي دار كبيرة تقام فيها نشاطات الطلاب الثقافيّة والسياسيّة ، لمدّة يومين وهما : الخميس والجمعة ، وكان برنامجهم يشتمل على معرض كتاب وملصقات وعرض فيديو ، كلُّها تعرِّض بالشيعة ، بالإضافة إلى محاضرة في اليوم الأول بعنوان : « وجاء دور المجوس » وكان المحاضر مستعاراً من مدينة أخرى وهي ( مدني ) جنوب الخرطوم ، وفي اليوم التالي كان ركن النقاش بعنوان : ( هذا أو الطوفان ) ويختلف ركن النقاش عن المحاضرة بأنّه يغلب عليه طابع النقاش
ص: 584
والجدال والحدّيّة أكثر من المحاضرة.
وكان قصدهم من هذا الجهد هو تشديد الضربة على الشيعة ، حتى ينتهي وجودهم في المدينة ، أو على الأقل يحدثوا قطيعة بين الشيعة والمجتمع ، ولذلك عندما فشلوا في الردّ على الشيعة رفعوا شعارات الولاء والبراءة ، وأمروا الناس بمقاطعة الشيعة في كل أمور الحياة.
وعندما اكتشفنا نواياهم قرّرنا أن يكون ردّنا عليهم وعلى افتراءاتهم قويّاً ومحكماً ، وأن يكون أكثر علميّة ، ولا ننصاع لتهكُّماتهم ومهاتراتهم ، وخاصة أن الجوَّ الذي سوف يكون فيه الحوار هو جوٌّ مثقَّف وواعي بأهمّيّة البرهان والدليل.
وعندما جاء يوم الخميس زرنا الدار في الساعة الخامسة مساءً حتى نقف على آخر التطوُّرات ، فوجدنا أن الدار كلَّها معدّة لذلك ، فقد حشدوا فيها المعارض والملصقات ومكبّرات الصوت وكراسي ، ولحى طويلة تملأ الدار ، وقد كان الجوُّ مهيباً ، وهم ينظرون إلينا ويتهامزون ويتغازون ، ولكنّا كسرنا حاجز الهيبة ، وتجوّلنا في أجنحته ، نتصفّح عناوين الكتب ، ونقرأ شعاراتهم التي كتبت بخط عريض في كفر الشيعة وبعدهم عن الدين ، فهي تحكم في الواقع على جهالة الوهابيّة ، وبعدهم عن الإسلام الصحيح ، فكان الأصدقاء يضحكون على هذه العقول السخيفة التي سطَّرت هذه الكلمات ، وعندما حان وقت المغرب ذهبنا لنصلّي جماعة ، ثمَّ نأخذ احتياطاتنا اللازمة في تأمين أنفسنا من اعتداءاتهم ، وتوزيع برامج النقاش بيننا ، وكيفيَّة الانتشار ، واتّخاذ المناطق المهمّة في الجلوس وغيرها ، وبالفعل تمَّ ذلك ، واتخذت أنا أول مقعد في مقابل المتحدِّث الوهابي مباشرةً.
وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم وتقديم المتحدِّث ، شرع المحاضر في
ص: 585
حديثه وكان يحتوي على الآتي :
اختلف المسلمون إلى مذاهب عديدة ، وهذا مصداق لحديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثني وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، وقيل : من هم يا رسول اللّه؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (1).
وهذا الحديث نصّ صريح على أن طريق النجاة هو الأخذ بمنهج السلف الصالح ، فهم الذين فهموا الدين ونقلوه ، وحفظوا القرآن وفسرّوه ، ولا يجوز أن نقدِّم رأينا على كلامهم ، بل نتمسّك بهم ، ونعضُّ على سنّتهم بالنواجذ.
إنّ الشيعة عندما أرادوا أن يطعنوا في الدين طعنوا في الصحابة ، والطعن في الناقل هو الطعن في المنقول ، فشكّكوا في عدالة الصحابة وجرحوهم ، مع أنّ الجرح والتعديل لا يجوز في حقّهم ; لأنّهم وثَّقهم اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله (2).
ص: 586
ص: 587
إنّ فرقة الشيعة ابتكرتها اليهوديَّة ، ولذلك نجد أن مؤسّسها يهوديٌّ اسمه عبداللّه بن سبأ ، وهو دخيل على الإسلام وما كان يقصد إلاَّ الفتنة ، فغلوا جماعته في عليٍّ علیه السلام وألّهوه حتى أحرقهم بالنار ، وهذا دليل كاف على أن علياً بريءٌ منهم.
إنّ الشيعة دخيلة على السودان ، وهو شعب سنّي أصيل ، وهذا من مساوئ الحكومة الحاكمة ، فإنها فتحت المجال لهم ، وكان من المفترض أن تقف في وجوههم وتردَّ كيدهم.
ومن مساوئ الشيعة أيضاً أنهم يؤمنون بزواج المتعة ، وهو زواج جاهليٌّ
ص: 588
أبطله الإسلام ، ولكنهم يدّعون أنّه لم يحرّمه الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولكن حرَّمه عمر بن الخطاب.
ولم يخرج كلامه من هذه النقاط ، وبعد أن ختم حديثه ، وزَّع جماعته قطعاً ورقيّةً حتى تكتب فيها الأسئلة ، ولكنّها طريقة غير مجدية في حقّنا ، فرفعت يدي ، وطلبت أن أسأل مباشرةً ، فوافق على ذلك.
وبعد أن أمسكت بلاقطة الصوت ، شكرته على إتاحته الفرصة لنا ، وقلت له : إنّ لي ملاحظات على كل كلامك ، ولكن أن أسألك وأنت تجيب فهذه مسألة غير منصفة ، فأخيّرك بين أمرين : إمّا تعقد معي مناظرة ، وإمّا أن تسمح لي بالكلام حتى أعقّب على كل المحاضرة ، فأيَّهما تختار؟ سكت مدّة من الزمن ، وقال : أسمح لك بخمس دقائق.
قلت : لا تكفي.
قال : عشر دقائق.
قلت : أيضاً لا تكفي ، وأنا أرى أن تكون مناظرة ، حتى لا تكون محدّدة بزمن ، ونحن مستعدُّون أن نجلس معك أسبوعاً كاملا ، ونطرح كل العقائد الشيعيّة من الألف إلى الياء.
قال : إن المناظرة لابدَّ أن تنسَّق مع جماعة أنصار السنّة المحمديَّة في الجامعة.
قلت : أنا أريدها معك أنت شخصيّاً ، فلا تحتاج إلى تنسيق.
قال : تكلَّم براحتك .. وكأنه هاربٌ من المناظرة.
وبعدما فسح لي المجال للتحدّث ، رأيت أنّه من الأنسب أن لا أعتمد على منهجيّة الردِّ وحسب ، وإنما أقوم بتوضيح عام لمفهوم التشيُّع ونشوئه التاريخي
ص: 589
ومصادره ، بمثابة مقدّمة تأصيليّة.
فقلت : إنّ التشيُّع ليس وليد اللحظة ، ولا وليد حالة تأريخيّة معيَّنة كما يقول البعض : إنّ التشيّع نشأ بعد حرب الجمل ، أو كما يقال : التشيّع أصبح خطّاً في الأمّة الإسلاميّة بعد حادثة كربلاء الأليمة التي ولَّدت تيَّاراً عاطفيَّاً عنيفاً في نفوس المسلمين ، ممَّا جعلهم يتبنّون أهل البيت علیهم السلام باعتبارهم قيادةً للمسلمين ، وليس كما يقول المجحفون إنّ التشيُّع وليد الذهنيّة اليهوديَّة التي تمثَّلت في شخصيَّة عبداللّه بن سبأ.
إن الناظر إلى التشيُّع بروح موضوعيَّة ، يرى أنه ضارب جذوره في عمق الرسالة المحمديَّة ، فهو كمفهوم واضح من خلال النصّ القرآني ، والأحاديث النبويّة ، فإنّه لا يتجاوز أن يكون نظرة عميقة في سنن اللّه سبحانه وتعالى ، التي نستخلص منها ضرورة اصطفاء أئمّة وقادة ربانيين ، يتكفَّلون بقيادة البشريّة إلى نور الهداية ، فالضرورة العقليّة تحتّم وجود إمام من قبل اللّه ليقود هذه الأمة ، وتؤيِّد هذه الضرورة العقليّة النصوص الشرعيّة التي نجدها ظاهره في تنصيب الأئمة واصطفاء القادة ، فما من مجتمع بشريٍّ مرَّ على تأريخ الإنسانية إلاّ وكان فيه قيادة إلهيَّة تمثِّل حجّة اللّه على العباد ، فقد أرسل اللّه مائة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ كما في بعض الروايات ، ولكل نبيٍّ وصيّ يحفظ خطَّ الرسالة من بعد النبيِّ.
وما لاقته الأمّة الإسلاميَّة من تمذهب وفرقة ما كان إلاَّ لفقدان المرجعيَّة الواحدة ، المصطفاة من قبل اللّه ، وممّا ثبت بالضرورة أنّ فترة وجود الرسول صلی اللّه علیه و آله كان المسلمون كياناً واحداً ; لوجود رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينهم ، وكذلك إذا فرضنا وجوده صلی اللّه علیه و آله إلى اليوم لكانت الأمّة الإسلاميّة جسداً واحداً ، فيتّضح
ص: 590
بذلك أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يمثّل صمّام أمان لهذه الأمّة ، فمجرَّد ما انفلت صمَّام الأمان انفلت الوضع من بعده ، فماذا كان يمثّل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!
كان يمثّل المرجعيّة المعصومة والقيادة الواحدة ، فيثبت من ذلك أنّ الطريق الوحيد لعصمة الأمّة هو وجود قيادة إلهيَّة معصومة ، وهذا ما تتبنّاه الشّيعة ، ومن هنا كان من الضروريِّ أن ينصب اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله إماماً لقيادة المسلمين ، والذي ينكر التنصيب - بمعنى أنّ اللّه لم يعيِّن إماماً - يكون بذلك نسب سبب الضلالة إلى اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .
فهذا هو مفهوم الإمامة ، ولا أتصوَّر أنّ أحداً من المسلمين ينكر الإمامة كضرورة ومفهوم ، ولكنّ الخلاف كل الخلاف في مصاديق الإمامة الخارجيَّة ، فإنّ الشيعة تعتقد أنّ الإمامة جارية في ذرية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، ولم يكن هذا مجرّد افتراض جادت به قريحة الشيعة ، وإنما هو نص قرآني وحديث نبوي ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما جاء في الحاكم : أوحى إليَّ في عليٍّ ثلاثة : أنّه سيِّد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرِّ المحجَّلين (1) ، وحديث جابر بن عبداللّه قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو آخذٌ بضبع علي بن أبي طالب علیه السلام وهو يقول : هذا إمام البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله (2) ،
ص: 591
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : مرحباً بسيِّد الموحِّدين ، وإمام المتقين ، وعن علي بن أبي طالب علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الأئمة من ولدي ، فمن أطاعهم فقد أطاع اللّه ، ومن عصاهم فقد عصى اللّه ، هم العروة الوثقى ، والوسيلة إلى اللّه جلَّ وعلا (1) ، ومئات الأحاديث.
فما ذنب الشيعة بعد ذلك إذا والوا علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأخذوا دينهم منه ، فهو المسار الطبيعي للرسالة ، ولو لاه لم يعرف للدين معنى.
ولذلك نجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أكّد كثيراً على ضرورة الإمامة ، وإمامة عليِّ بن أبي طالب علیه السلام بالذات ، وهذا هو التشيُّع ، فهل لكم معنى آخر للتشيُّع حتى تنسبوه إلى عبداللّه بن سبأ؟! بل كلمة الشيعة نفسها لم تكن مصطلحاً غريباً على الأمّة الإسلاميّة ، فقد عمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تثبيت هذا المصطلح وتأصيله في ذهنيَّة الأمّة الإسلاميّة ، كما جاء في حديث جابر قال : كنّا عند النبيِّ صلی اللّه علیه و آله فأقبل عليٌّ علیه السلام ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « والذي نفسي بيده ، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » فأنزل قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (2) ، وكما جاء عن ابن عباس قال : لمَّا أنزل اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيَّين ، ويأتي عدوُّك
ص: 592
غضاباً مقمحين (1).
وغير هذه الروايات الواضحة في تحديد مسار الأمَّة بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لذلك نجد أنّ لهذه الروايات مصاديق وترجمة خارجيَّة من مجموعة من الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد ، حتى أصبح لفظ الشيعة لقباً لهم. ذكر أبو حاتم في كتابه الزينة : إنّ أوّل اسم لمذهب ظهر في الإسلام هو الشيعة ، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان الفارسي (2).
هذا بالإضافة لوجود كثير من الآيات والأحاديث التي توجب اتّباع أهل البيت علیهم السلام خاصّة ، وأخذ الدين عنهم ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (3).
من الضروريِّ أن لا يكون اللّه طهّرهم من الذنوب عبثاً ، وإنّما تطهيرهم مقدِّمة لاتّباعهم وأخذ الدين منهم ، كما جاء في الحديث : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، إن العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (4).
وهذا يدلُّ على أن البعد عن الضلالة لا يتحقّق إلاَّ باتّباعهم وأخذ الدين
ص: 593
منهم ، حتى السلف الصالح لا يسمّى صالحاً إلاَّ إذا أخذ دينه عن أهل البيت علیهم السلام ، فبأيِّ حجّة بعد ذلك تقول : إن أخذ الدين لابد أن يكون عن طريق السلف؟ وأيَّ سلف تقصد؟ هل الذين لم يتفقوا في أبسط الأحكام الفقهيّة كاختلافهم في قطع يد السارق ، فهل تقطع من أصل الأصابع كما قال بعض الصحابة أو من الكفّ ، أو من المرفق ، أو من الكتف كما قال آخرون (1)؟
فمن الضروريِّ أن يكون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد بلَّغ حكماً واحداً لا أحكاماً متعدّدةً ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة هم الذين أخطأوا ، فكيف نعتمد على قولهم ، وندين اللّه تعالى باتّباعهم؟
فإذن ليس كما ذهبت أنّ الطريق هو متابعة كل السلف الذين اقتتلوا ، وكفَّروا بعضهم ، وإنّما يؤخذ الدين عن شريحة خاصة كفل اللّه عصمتهم من الاختلاف ، وهم أهل البيت علیهم السلام الذين تواترت الروايات في حقِّهم ، ووجوب اتباعهم.
أسألك باللّه إن كنت صادقاً فيما تقول ، أن تثبت لي دليلا واحداً يقتضي بوجوب اتباع السلف؟! واستدلالك ببعض الآيات كقوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) (2) فإنها لا يمكن أن تحمل على مطلق السلف ، وإنّما هي عامّة ، وتخصيصها يحتاج إلى دليل ، ولا توجد قرائن تخصّصها إلاَّ ما جاء في حقِّ أهل البيت علیهم السلام ، ولا يمكن أن تحملها على مطلق السلف كما ثبت من وقوع الاختلاف بينهم.
ص: 594
ولا نقبل استدلالك بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) (1) فإنّها لا تتجاوز أن تكون مدحاً ، وإن تنازلنا وسلّمنا بظهورها فيما تدّعي فإن الظهور لا يقابل النصوص الواضحة القاطعة بوجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام .
ونحن ندري أنّ مشكلتكم ليست الأدلّة والبراهين الواضحة في وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، وأنكم لم تكونوا سلفيين بمحض إرادتكم ، وإنَّما هذا ما ورثتموه من التاريخ الجائر للحكمين الأموي والعباسي ، الذي عمل جهده حتى يورث الأمَّة تيَّاراً يواجه أهل البيت علیهم السلام ، وإلاّ ما كرّرت أنت نفس مالاكه علماؤك الأقدمون ، الذين صنعتهم السلطات الجائرة ، ليشوِّهوا صورة التشيُّع.
باللّه عليك ، هل هناك عاقل له قليل اطّلاع بالمذهب الشيعيِّ يكون صادقاً مع نفسه إذا نسبه إلى عبداللّه بن سبأ؟ نعم قد يكون الجاهل معذوراً ، ولكن ما عذر من يكرّر الجهل ويتبنّاه من غير دراية وتحقيق ، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين ، فكيف تتحدَّثون عن الشيعة وكأنهم مخلوق غريب لا ارتباط لهم بالإنسانيّة ، ويعيشون في كوكب غير كوكبنا؟
عزيزي! إنّ الوسائل قد تغيَّرت ، فاتركوا ما ورثتموه عن سلفكم ، ابحثوا عن وسائل جديدة في الردِّ على الشيعة ، فزمنهم غير زمنكم ، فقد تعدَّدت وسائل المعارف ، فهذه الكتب الشيعيّة متوفِّرة في كل مكان فاطّلعوا على براهينهم ، وهذه البلاد الشيعيّة زوروها ، وقفوا على أحوالهم.
وكان بإمكاني أن لا أردّ على ما ذكرت ; لأنه لا يرقى إلى مستوى الفكر والنقاش ، ولكن تنازلا أعقّب على ما ذكرته في حديثك.
ص: 595
أولا : إنّ نسبة الشيعة إلى عبداللّه بن سبأ ، يرجع إلى ما رواه الطبري ، وهو أول راوي لذلك ، أمَّا بقية المؤرِّخين فإنهم أخذوا منه ، وروى الطبري ذلك عن سيف بن عمر ، وسيف معروف قدره عند علماء الجرح والتعديل (1) ، فإنه رجل كاذب ومدلِّس ، ولا يؤخذ برواياته ، وللمزيد ارجع إلى كتاب عبداللّه بن سبأ وأساطير أخرى للعلامة السيد مرتضى العسكري.
ثانياً : حتى لو سلّمنا بهذه الروايات فإنها لا تقول بأن عبداللّه بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فكل ما فيها أنّ هذا الرجل ادّعى أنّ لكل نبيٍّ وصيّاً ، وأنّ وصيَّ محمَّد صلی اللّه علیه و آله هو عليٌّ علیه السلام ، وهذا ليس من مبتكرات عبداللّه بن سبأ ، وإنما صرَّح به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قبل ، فإذا كان قول الشيعة مطابقاً لقول ابن سبأ ، فما هو وجه الملازمة بين هذا وبين أن يكون هو مؤسّس الشيعة؟ فما هو وجه الشبه حتى تربط بين الأمرين؟ ولعمري إنها لسخافة في الرأي.
أمَّا تأليه عليٍّ علیه السلام وأنّ عليّاً علیه السلام أحرق أتباعه بالنار ، فإن الشيعة لا تؤمن بذلك ، وإنما نعتقد أن عليّاً علیه السلام عبدٌ صالح من عباد اللّه الصالحين ، اختاره اللّه لحمل رسالته من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله .
ص: 596
ثالثاً : ما كانت هذه الفرية إلاَّ حلقة من مسلسل الوضع على الشيعة ، كما قال طه حسين : ( ابن سبأ شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ، ولا وجود له في الخارج ) وتستهدف هذه المحاولة تشويه عقائد الشيعة التي تنبع من القرآن والسنة ، مثل الوصيَّة والعصمة ، فلم يجد أعداؤهم طريقاً إلاَّ ربط هذه العقائد بجذر يهوديٍّ ، يكون بطلها شخصاً خياليّاً اسمه عبداللّه ابن سبأ ، فيلقى اللوم بذلك عليه وعلى الذين أخذوا منه ، وهذا بالإضافة إلى تعديل صورة الصحابة وتنزيههم عن اللوم والعتاب ، بما جرى بينهم من فرقة واختلاف انتهت بقتل عثمان ، وحرب الجمل التي تعتبر أكبر فاجعة بعد حادثة السقيفة ، حيث راح ضحيَّتها آلاف من الصحابة ، وما هذه القصة المفتعلة عن ابن سبأ إلاَّ تغطية على تلك الفترة الزمنيّة الحرجة ، فألقوا مسؤوليَّة ما حدث على هذه الشخصيّة الوهميّة وأسدلوا الستار ، ومن غير ذلك يكون الصحابة أنفسهم مسؤولين عمَّا حدث ، من انشقاق الأمَّة ، وتفرّقهم إلى مذاهب ومعتقدات شتى ، ولكن هيهات يتسنَّى لهذا الدخيل أن يعبث حتى غيَّر تاريخ الإسلام العقائدي ، والصحابة شهود على ذلك!! فإذا لم يكن الصحابة قادرين على قيادة الأمّة إلى برِّ الأمان في حياتهم ، فكيف يقودون الأمَّة بعد وفاتهم ، فالذي فشل في حياته كيف ينجح بعد مماته؟!
وعندما كنت أتحدَّث كان بعض الوهابيّة يصيحون : الزمن ، الزمن ، ولكن المحاضر صامت وكأنّ على رأسه الطير ، ولم يتفوّه بكلمة واحدة ، وشعرت بأنه يطلب المزيد ، ولذلك ما إن وضعت لاقطة الصوت وقلت : لنا عودة ، قال : أسألك سؤالا ، هل عندك دليل على ولاية علي بن أبي طالب علیه السلام وخلافته؟
قلت : من القرآن والسنة ، والعقل ، والتاريخ ، فأيّها تحبُّ؟
ص: 597
قال : من القرآن.
فحمدت اللّه في سرّي على هذه الفرصة الجديدة ، وقلت : إنّ الآيات كثيرة في ذلك ، وسوف أذكر لك بعضها مع التوضيح :
أولا : قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).
هذه الآية تطرح نفس ما قلناه ، وتؤكِّد أولا : ضرورة الولاية في الدين ،
وثانياً : استمراريّة ولاية اللّه ، وهي السلطة والحاكميّة للرسول صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ من بعده الذين آمنوا الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون.
أمَّا ولاية اللّه فهي ثابتة بالذات ، وأمَّا ولاية الرسول صلی اللّه علیه و آله والذين آمنوا فهي بالتبع ، فولاية اللّه في الأرض وحكومته لا تتمُّ إلاَّ باصطفاء بشر أعطاهم اللّه القدرة التي تؤهّلهم على أن يكونوا امتداداً لحكومة اللّه في الأرض ، فلا يحقُّ للإنسان ، مطلق الإنسان ، أن يتصرَّف في إدارة البلاد والعباد من غير إذن اللّه ; لأنّ اللّه هو الحاكم ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (2) ولا تتمُّ حكومته في الأرض إلاّ إذا اصطفى اللّه حاكماً من عباده ، ولذلك جاءت هذه الآية القرآنيّة صريحة في هذا المجال ، فأثبتت أولا : ولاية اللّه ، ثمَّ أجرت هذه الولاية على الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ صرَّحت أن الولاية من بعد الرسول تكون مستمرَّة في الذين آمنوا وآتوا الزكاة في حال الركوع.
فدلالة هذه الآية على ولاية علي بن أبي طالب علیه السلام تكون واضحة إذا
ص: 598
اتضح أنّ المراد من قوله تعالى ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) هو علي بن أبي طالب علیه السلام ، والحمد لله إنّ هذا المعنى ثابت ; لما تواتر من الأخبار في نزول هذه الآية بخصوص علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأذكر لكم هنا ما جاء عن أبي ذر الغفاري في رواية طويلة أخرجها عنه الحاكم الحسكاني ( ج 1 ص 177 ط. بيروت ) بسنده.
قال أبو ذر الغفاري : أيُّها الناس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرٍّ الغفاري ، سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله بهاتين وإلاَّ فصمَّتا ، ورأيته بهاتين وإلاَّ فعميتا ، وهو يقول : عليٌّ قائد البررة ، قاتل الكفرة ، منصور من نصره ، ومخذول من خذله ، أما إني صلّيت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللّهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يعطني أحدٌ شيئاً ، وكان علي علیه السلام راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فلمَّا فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) (2) ، اللّهم وأنا محمّد نبيُّك وصفيُّك ، اللّهم فاشرح صدري ، ويسرّ لي أمري ، وجعل لي وزيراً
ص: 599
من أهلي ، عليّاً أخي ، اشدد به أزري.
قال : فواللّه ما استتمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكلام حتى نزل عليه جبرئيل علیه السلام من عند اللّه ، وقال : يا محمّد! هنيئاً ما وهب لك في أخيك ، قال صلی اللّه علیه و آله : وما ذاك يا جبرئيل؟ قال : أمر اللّه أمّتك بموالاته إلى يوم القيامة ، وأنزل عليك ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) ... إلى آخر الآية (1).
فيكون معنى الآية بعد ذلك : إنما وليُّكم اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وعلي بن أبي طالب علیه السلام . ولا يستشكل أحد ، كيف خاطب اللّه الفرد بصيغة الجمع؟ لأنه أمر جائز في لغة العرب ، وهو ضرب من ضروب التعظيم ، والشواهد على ذلك كثيرة ، كقوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) (2). فالقائل هو حيي بن أخطب ، وقوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) (3) ، وهذه الآية نزلت في رجل من المنافقين ، إما في الجلاس بن سويد ، أو نبتل بن الحرث ، أو عتاب بن قشيرة (4).
ولا يستشكل أيضاً بأنّ معنى الوليّ هو المحبُّ والناصر ، وإنما هو الأولى بالتصرُّف ، والذي يدلُّ على ذلك هو أن اللّه تعالى نفى أن يكون لنا وليٌّ غيره وغير رسوله صلی اللّه علیه و آله وغير ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) بلفظة ( إِنَّمَا ) ، ولو كان المقصود الموالاة في الدين ما خصّ بها
ص: 600
المذكورين ، لأن الموالاة في الدين عامة للمؤمنين جميعاً ، قال تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض ) (1) فالتخصيص يدلُّ على أنّ نوع الولاية يختلف عن ولاية المؤمنين لبعضهم البعض ، فلا يكون المراد من قوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ... ) مجمل ومطلق المؤمنين ، وإنّما تكون خاصّة بعلي علیه السلام بدليل ( إنّما ) التي تفيد التخصيص فتنفي جملة المؤمنين ، وهذا بالإضافة للأحاديث التي أثبتت أن هذا الوصف ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لم ينطبق على أحد ، ولم يدّعه أحد غير أميرالمؤمنين علیه السلام ، وهو كونه أتى الزكاة وهو راكع.
ثانياً : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (2).
تعالوا لنتدبَّر في هذه الآية المباركة ، فإننا نلاحظ أنّ هذه الآية خاطبت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلهجة غريبة : « وإن لم تفعل » فمتى توانى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمر تبليغ الرسالة حتى يخاطبه اللّه بقوله : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ) فنستظهر من ذلك أن هذا الأمر الذي يأمر المولى بتبليغه في غاية الأهمّيّة والشأن ، هذا أولا.
وثانياً : صعوبة تبليغ هذا الأمر من قبل الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهذه الصعوبة تتحتَّم أن تكون من باب عدم قبول سائر الناس لهذا الأمر ، وإلاَّ لم تكن لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مصلحة في عدم تبليغه لهذا الأمر ، ويؤكِّد ذلك ذيل الآية ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي بمعنى أنك ستواجه معارضة عنيفة في تبليغ هذا الأمر لدرجة أنه
ص: 601
يمكن أن يلحق الأذى برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهنا كفل اللّه له العصمة والضمانة.
وقوله تعالى : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) إنّ هذا الأمر بلغ من الأهمّيّة جعلته يوضع في كفّة قبال كل الرسالة بما فيها من صبر على العناء والجهاد ودماء الشهداء ، وما لاقاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أذى ، حتى قال : ما أوذي نبيٌّ كما أوذيت ، يكون كل هذا لا اعتبار له إلاَّ بتبليغ هذا الأمر.
فياترى ماذا يكون؟ هل الصيام ، أم الزكاة ، أم الحج ، أو التوحيد وسائر المفردات العقائدية؟ لا يمكن أن يكون ذلك ; لأنّ هذه الآية في سورة المائدة ، وهي مدنيَّة ، كما أنّها من أواخر سور القرآن كما جاء في مستدرك الحاكم ، هذا بالإضافة إلى نزول هذه الآية بالذات بعد حجّة الوداع ، وهي آخر حجّة في الإسلام ، وكانت كل أحكام الدين مبلَّغةً وواضحةً ، فيكون الأمر خلاف ذلك ، وإنّما له ربط بوفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
فهل هنالك أمر غير تعيين الإمام والخليفة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، أمرٌ يكون بقاء الرسالة منوطاً به ، حيث لو لاه لما كانت رسالة ، وهل هنالك أمرٌ وقع الخلاف فيه بين المسلمين غير الخلافة والولاية كما قال الشهرستاني : ( ما سُلّ سيف في الإسلام كما سلّ في الخلافة ) (1) ، هذا بالإضافة لما أوضحناه في بداية حديثنا أن الإمامة والمرجعيّة الواحدة هي كفيلة بعصمة الأمّة من الضلال ، فيتحتَّم أن يكون الأمر المراد تبليغه هو ذلك.
وهذا ما أثبته المفسِّرون ، وأصحاب السير ، ورواة الأحاديث بأن هذه الآية نزلت بخصوص علي بن أبي طالب علیه السلام ، في غدير خم ، ذكر السيوطي في تفسيره
ص: 602
( الدرّ المنثور ) في تفسير الآية عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر ، بأسانيدهم عن أبي سعيد قال : ( نزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خم في علي علیه السلام ) ونقل أيضاً عن ابن مردويه بإسناده إلى ابن مسعود قوله : كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ - أن عليّاً مولى المؤمنين - وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1).
وروى الواحدي في أسباب النزول : ص 150 عن أبي سعيد قال : ( نزلت في غدير خم في علي علیه السلام ) (2) ، وروى الحافظ ابن عساكر الشافعي بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (3).
فقد جاء عن زيد بن أرقم أنه قال : لمَّا نزل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بغدير خم ، في رجوعه من حجّة الوداع ، وكان في وقت الضحى والحرّ شديد ، أمر بالدوحات فقمِّمن ، ونادى : الصلاة جامعة فاجتمعنا ، فخطب خطبة بليغة ، ثمَّ قال : إنّ اللّه تعالى أنزل إليَّ : ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وقد أمرني جبرائيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد ، وأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب علیه السلام أخي ووصيّي وخليفتي والإمام من بعدي .. فاعلموا معاشر الناس ذلك ، فإنّ اللّه قد نصبه لكم وليّاً وإماماً ، وفرض طاعته على كل أحد ، ماض حكمه ، جائز قوله ، ملعون من خالفه ، مرحوم من صدَّقه ، اسمعوا وأطيعوا ، فإنّ اللّه مولاكم ، وعليٌّ إمامكم ، ثمَّ الإمامة في ولده من
ص: 603
صلبه إلى يوم القيامة ... (1).
وبعدما بلَّغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولاية علي علیه السلام التي لو لاها لم يكتمل الدين ، كما هو واضح من منطوق الآية : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) أمَّا مفهومها ( إذا بلغت أكملت الرساله ) ومن هنا نزل قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (2) فإكمال الدين وإتمام النعمة بولاية عليٍّ علیه السلام (3).
الآية الثالثة : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (4).
هذه الآية تلخِّص ما أوضحناه بأن استمراريّة الرسالة منوطة بطاعة اللّه ورسوله وطاعة أولي الأمر من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ونجد هنا أن مفهوم الولاية وكأنه ثابت في فطرة الإنسان ، ولذلك تتَّكي الآية عليه لإثبات حكم آخر ، وهو الملاك والمناط الذي من خلاله نتعرَّف على وليِّ الأمر ، وهو العصمة.
إنّ العصمة للوالي ثابتة بالضرورة العقليّة ، ولكن هذا ليس موضع حديثنا ، ويكفي في هذا المقام أنّ الآية ظاهرة ، بل نصٌّ صريح في المدَّعى وهو العصمة ،
ص: 604
فإنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بطاعة وليِّ الأمر على سبيل الجزم ، وكل من يأمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم لابد أن يكون معصوماً ، وإلاّ اجتمع الأمر والنهي في موضع واحد ، وهذا محال ; لأنه لا يأمر بالمعصية وينهى عنها.
وتقرير ذلك : إذا أمرنا اللّه بالطاعة الحتميّة لوليِّ الأمر ، مع افتراض المعصية والخطأ منه ، فنقع بالتبع في المعصية والخطأ منّا لطاعتنا له ، فيكون بذلك قد أمرنا اللّه بالمعصية والخطأ بطريقة غير مباشرة ، وفي الوقت نفسه قد نهانا اللّه عن الخطأ والمعصية ، وهذا تناقض ومحال ، فتتحتَّم وتتعيَّن العصمة للإمام ، وهذا هو المقياس الذي جعله اللّه لنا لنكتشف من خلاله المصداق الخارجي للإمام ، وهذا يعني الكفر بكل وال ادّعى خلافة المسلمين وهو غير معصوم ، فضلا على أن يكون فاسقاً مجاهراً بالفجور.
وياترى من الذين كفل اللّه عصمتهم وطهارتهم حتى يكونوا ولاة أمورنا؟ لم نجد في آيات الذكر الحكيم ، ولا أحاديث النبيِّ الأمين صلی اللّه علیه و آله ، ولا من بين دفّات التاريخ جماعة طهّرهم اللّه وأذهب عنهم الرجس غير أهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1).
وإفادة العصمة واضحة من هذه الآية ، وذلك لاستحالة تخلُّف المراد ، إذا كان المريد هو اللّه سبحانه ، وهي تطهير أهل البيت علیهم السلام خاصة ، وأداة الحصر ( إنّما ) شاهدةٌ على ذلك ، وهذا بالإضافة لتأكيدات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تعضيد هذا المعنى ، كما في حديث الثقلين : إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب ، وإنّي تاركٌ
ص: 605
فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا بم تخلِّفوني فيهما ، ومن المعلوم أنّ القرآن معصوم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأهل البيت متلازمون معه إلى الحوض ، فإن كان يأتيهم الباطل كانوا حتماً يفترقون عن القرآن ، وهذا ما أكَّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على عدمه ب- ( لن ) التي تفيد التأبيد ( لن يفترقا ) وغيره من النصوص الدالّة على ذلك مثل قوله : عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ ، يدور معه حيثما دار (1) ، وبذلك تكون الآية نصّاً في ولاية أهل البيت علیهم السلام ، وعلى رأسهم عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام ، فيكون معنى الآية : أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وعليَّ بن أبي طالب ، وأولاده الأحد عشر (2) ، وغيرها من الآيات الدالّة على ذلك ، فبعضها نصٌّ في الأمر ، وبعضها ظاهر الدلالة ، ويمكنك أن تراجع في ذلك كتاب ابن حجر ( الصواعق المحرقة ) باب ما نزل في أهل البيت علیهم السلام من القرآن (3).
وبعدما وضعت لاقطة الصوت وانصرفت ، لم يعقّب الوهابي المتحدِّث
ص: 606
على كلامي ولو بنصف كلمة ، وبينما هو في سكوته رفع أحد إخواننا يده - وهو طالب في الجامعة - فأذن له المحاضر ، وكان يظنُّ أنه وهابي أتى لنجدته.
وبعد أن حمد اللّه وأثنى عليه قال : لي نقطة ، أودّ أن أقرّها قبل أن أورد ملاحظاتي على الشيخ ، وهي عندما يتحدَّث الشيخ عن السودان ، وكأنه مستعمرة لمحمّد بن عبد الوهاب ، وأنّ دخول التشيُّع يُعدُّ أمراً شاذّاً إلى هذا البلد الطيِّب ، وأقول له من باب ردَّ الحجر من حيث أتى : وأنت من الذي أدخلك إلى السودان ، فهل تظنُّه مقاطعة من صحارى نجد؟! إن السودان بلد فطر على حبّ محمّد وآل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأنتم الغرباء لا نحن (1).
أمَّا النقطة الثانية : هي مسألة الارتداد في عصر النبيِّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله والتي لم يبتدعها الشيعة من عند أنفسهم ، بل طفحت بها الكتب المعتمدة لديكم ، كالبخاري ومسلم وغيرهما ، وهي واضحة بحيث لا يشك فيها أحد ، هذا إذا لم نأخذ بالاعتبار الآيات القرآنية المتحدِّثة في هذا المجال ، إنّ الردّة - يا شيخ - قد حدثت ، ولم تقدر أنت ، ولا من معك ، ولا من كان قبلك ، ولا من سيأتي بعدك على إنكارها ، وحروب الردّة التي قامت في صدر الإسلام فهي تؤكِّد أن هناك حقاً ارتدّ عنه ، ولذا نشب القتال ، فحاصل الأمر أن هناك ارتداداً ، أم تقول : إن الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أمريكان ولم يكونوا مسلمين؟
وأمَّا النقطة الثالثة : هل فات الشيخ أنه يخاطب عقولا ناضجة وصلت إلى هذه المرحلة ، أم أنه يستهزئ بها ، إنّ وصف الشيعة باليهوديّة أمرٌ لا يقبله العقل ، والدليل على ذلك - أيُّها الشيخ - من الذي يدافع عن الإسلام اليوم ضدَّ الزحف
ص: 607
اليهودي؟ إلى من ينتمي حزب اللّه في لبنان ، وحركة المقاومة الإسلاميَّة؟ إنّ وصفاً كهذا يسفِّه قائله قبل أيّ شخص آخر ، فنرجوا احترام العقول هنا.
وبعد أن أكمل الطالب حديثه قال له الوهابي : لي سؤال واحد ، فقد ذكرت في حديثك أنّ مجموعة من الصحابة ارتدّوا ، فهل تستطيع أن تذكر لي أسماءهم؟
فردَّ عليه قائلا : لا أذكر.
فقال الشيخ : أتخاف أن تكشف عقيدتك.
وفي هذه اللحظة طلبت من الوهابي أن أجيب أنا على هذا السؤال ، ولكنه رفض ، وقال : لماذا لا يجيب هو؟
فقال الطالب : الأسود العنسي.
فقال الشيخ : فيك الخير سمِّ واحداً غيره.
فقلت لصديقنا : قل : لا أعلم ، وبعد إصرار منّي سمح الوهابي لي بالإجابة على هذا السؤال.
فقلت : إن القضية لا تثبت موضوعها ، ونقاشنا الآن في مجمل القضيّة ، وهي : هل كان هناك ارتداد بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
وقد أثبتت ذلك الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة ، فقد أثبت القرآن وجود المنافقين ، ولم يذكر أسماءهم ، وذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذلك ولم يحدّد أسماءهم ، فكيف تطالبني بشيء سكت عنه اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، ونحن نلتزم بقولهم ، فعندما يقول تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ
ص: 608
قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) فنقول نحن كما قال اللّه سبحانه وتعالى : إنّ بعض الصحابة انقلبوا ، وهم الأكثريّة ، ولا نزيد على ذلك ، وكذلك نقول عندما يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما جاء في البخاري ومسلم.
روى البخاري في تفسير سورة المائدة ، باب ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) وتفسير سورة الأنبياء ، كما رواه الترمذي في أبواب صفة القيامة ، باب ما جاء في شأن الحشر ، وتفسير سورة طه : ( وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ! أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (2) ، فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ، مذ فارقتهم ) (3).
وروى البخاري في كتاب الدعوات ، باب الحوض ، وابن ماجة في كتاب المناسك ، باب الخطبة يوم النحر ، كما أورده أحمد بن حنبل بطرق متعدّدة : ( ليردنّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ) كما رواه مسلم أيضاً في كتاب الفضائل ، باب إثبات حوض نبينا صلی اللّه علیه و آله ، الحديث أربعين (4).
وهنا قاطعني الوهابي قائلا : إنّ سؤالي محدّد ، فما رأيك مثلا في السيِّدة
ص: 609
عائشة؟
قلت : أنا وأنت لم نزامن السيِّدة عائشة ، وكل ما نعرفه عنها هو عبر مصادر التاريخ ، وأنا مستعدٌّ أن نجمع كل المصادر ونبحث في شخصيتها ، وما نخرج منه من البحث النزيه يكون ملزماً لنا ، فالسؤال في هذه الأمور لا يجاب عنه ارتجالا.
فقال الوهابي : هكذا دائماً يراوغ الشيعة ، ويستخدمون التقيّة في إخفاء عقائدهم ، فإنهم يكفّرون الصحابة ومن بينهم أبو بكر وعمر ، ويكفّرون أمّهات المؤمنين ، وهنا تعالت الأصوات بالصراخ من قبل الوهابيَّة الجلوس ، تندّد بالشيّعة وتصرّح بكفرهم.
وبعد أن توتَّر الجوُّ فضَّلنا الانسحاب ; لأنه لا يسمح بالحوار والبرهان.
وهو يوم اللقاء الثاني مع الوهابيّة ، وكان برنامجهم المعدّ في هذا اليوم ركن النقاش بعنوان ( هذا أو الطوفان ).
بعد انتشار أنباء يوم الخميس ، والهزيمة النكراء التي أثبتت ضحالتهم الفكريّة ، اكتظَّ المكان بالروّاد ، حتى من بعض المدن المجاورة ، لأنّ موضوع الشيعة أصبح الحدث الفريد الذي كسب اهتمامات الناس ، ومن الطريف في هذا المقام أنّ كثيراً من النّاس في بادئ الأمر كانوا يتوقَّعون أن الشيعة سوف يهربون من المناقشة والمواجهة ، ولكن بعد يوم الخميس انعكست الصورة ، فكان الكثير يراهن على أنّ الوهابيَّة سوف ينسحبون من يوم الجمعة.
بدأ ركن النقاش بآيات من الذكر الحكيم ، ثمَّ بدأ الوهابي حديثه ، وهو أيضاً مستعار من مدينة ( مدني ) ومتخصّص في إدارة أركان النقاش ، كما يقول
ص: 610
هو عن نفسه أنه عشر سنوات خلف لاقطة الصوت من ركن إلى ركن ، وهذا إن دلّ إنما يدلّ على عظيم الفجيعة التي ألمَّت بالوهابيَّة مما جعلهم يرسلون استغاثاتهم إلى جنوب الخرطوم.
ثمَّ بدأ حديثه بالتأصيل للخطِّ الوهابي السلفي ، الذي كاد أن ينحسر وجوده في المدينة ، فتلخّص حديثه في موضوع التوحيد والشرك ، وصفات اللّه ، وعدالة الصحابة ، والبدعة ، ولم يذكر حرف الشين من الشيعة ، مع أن المعلوم هو مواصلة الحديث عن التشيُّع ، فهذا التصرُّف دلَّ عند الجميع على انسحاب الوهابيّة من حلبة النقاش ، فصمَّمت بيني وبين نفسي أن أستغلّ هذه الفرصة ، وأوجّه الضربة الفاصلة بفضح هذه العقائد ، وتوضيح فسادها بالتفصيل.
وبعد أن أتمّ حديثه في التوحيد ، مركِّزاً فيه على أنّ التوسّل وزيارة القبور والأضرحة من أنواع الشرك الجلي ، تحدَّث عن الصفات قائلا : إنّ منهج السلف هو إمرار كل الصفات التي جاء بها القرآن كما هي من غير تأويل وتشبيه ، وإنّ كل منهج غير هذا هو بدعة ، مخالف لما نقل عن الصحابة الأبرار.
وبعد أن أتيحت الفرصة للمشاركة والنقاش سمح لي بالحديث ، فقلت : أرجو منك أن تمنحني الفرصة الكافية لأتناول بالتفصيل التوحيد والشرك وصفات اللّه ومفهوم البدعة.
أولا : إنّ توحيد اللّه سبحانه وتعالى من أشرف ما يتّصف به الإنسان ، ومعارفه من أشرف المعارف ، ولذلك نجد كل الرسالات السماويَّة كان جلُّ اهتمامها هو نشر التوحيد ، بل كان هو الحدّ الفاصل بين أتباع الرسالة وغيرهم ، ومن هنا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقاتل الكفار حتى يقولوا : ( لا إله إلاَّ اللّه ، محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) فإذا قالوا عصموا بها دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، وهذا ممَّا
ص: 611
لا يختلف فيه مسلمان على وجه هذه الأرض منذ البعثة إلى أن جاء محمّد بن عبدالوهاب ، فقتل المؤمنين الموحِّدين تحت راية التوحيد ، وهذا مما أكَّده أخوه سليمان بن عبدالوهاب في كتابه : ( الصواعق الإلهيَّة في الردّ على الوهابيَّة ) ثمَّ قرأت له مقطعاً من كلامه :
( من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمّة الإسلام حتى مليت بلاد الإسلام كلّها ، ولم يرو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفروا بذلك ، ولا قالوا : هؤلاء مرتدّون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سمَّوا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفَّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ، وتمضي القرون على الأئمة بعد زمان أحمد علماؤها وأمراؤها وعامتها كلهم كفَّار مرتدُّون.
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون : واغوثاه إلى اللّه! ثمَّ واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم : إن الحجّة ما قامت إلاَّ بكم ).
ويقول أيضاً : ( فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنّة ، ويستنبط من علومها ، ولا يبالي من خالفه وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل ، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر ، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ، لا واللّه ، ولا عشر واحد ، مع هذا فراح كلامه ينطلي على كثير من الجهَّال ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، الأمَّة كلها تصيح بلسان واحد - ومع هذا لا يردّ لهم في كلمة ، بل كلّهم كفّار وجهَّال - : اللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق ).
هذا ما يدعو إليه الوهابيّة من التوحيد ، وهو في الواقع تكفير كل المسلمين ، ووصفهم بالشرك ، كما يقول محمّد بن عبدالوهاب : ( إنّ مشركي زماننا - أي المسلمين - أغلظ شركاً من الأوَّلين ، لأنّ أولئك يشركون في الرخاء
ص: 612
ويوحِّدون في الشدّة ، وهؤلاء شركهم في الحالتين ، لقوله تعالى : ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (1).
ونحن عادةً نناقش الوهابيَّة في أمور فرعيَّة تتفرَّع من مفهومهم العام للتوحيد والشرك ، وأنا هنا أريد أن أحوِّل مسار النقاش من الفروع إلى الأصول ، والمفاهيم العامة في تحديد مناط العبادة.
إن مفهوم العبادة عند الوهابيَّة هو مطلق الخضوع والتذلّل وتكريم وتعظيم غير اللّه.
إذا سلّمنا مع الوهابية ... بصحّة هذا المفهوم فإننا لا يمكن أن نعاتبهم على النتائج التي يمكن الوصول إليها ، فعندما نرى مسلماً يتمسّح ويتبرّك بضريح فإن مفهوم العبادة الذي سلَّمنا به سوف ينطبق عليه ; لأنه بتذلّل لغير اللّه فيكون بذلك عابداً للضريح ، وبالتالي يكون مشركاً ، وهذا استنتاج منطقيٌّ صحيح وفقاً للقاعدة التي تقول : ( كل متذلّل لغير اللّه مشرك ، وهذا متذلّل ، إذن هذا مشرك ).
ولكن الحقيقة والواقع أن الكبرى غير مسلَّم بها (2) ، فكل متذلّل لغير اللّه مشرك ، كاذب ، وهذه بديهة عقليّة وعقلائيّة ، ويمكن معرفة ذلك من الواقع الذي يعيشه أيُّ إنسان ، فإن من طبيعة البشر الاحترام ، بل من الأخلاق في بعض الأحيان التذلّل لبعضنا البعض ، كتذلّل التلميذ للمؤمن ( أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ ) (3) ، كما أمرنا اللّه سبحانه وتعالى بتعظيم الوالدين والتذُّلل لهم :
ص: 613
( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (1) ، وأكثر من ذلك أنّ اللّه أمر الملائكة بالسجود لآدم ، والسجود - كما تعلمون - أكمل مرتبة في الخضوع والتذلّل.
فإذا كان كما تدّعي الوهابيَّة فتكون كل الملائكة مشركة ، وإبليس هو الموحِّد الوحيد لأنه رفض السجود ..
إلى أن يقول : فإذن لا يمكن أن يكون أيُّ خضوع أو تذلّل عبادة ، ولابد أن يكون هناك ملاكٌ آخر أكثر دقّة ، وهو مسألة الاعتقاد ، فإنّ الخضوع إذا كان مقترناً بالاعتقاد بألوهيَّة المخضوع له ، فيكون هذا الخضوع عبادة ، بل إن أيَّ تصرُّف يكون بدافع الاعتقاد لغير اللّه فهو مصداقٌ للشرك ، فالخضوع والتذلّل بمعزله ليس شركاً ، والاعتقاد في غير اللّه شرك ، وإن كان من غير خضوع أو تذلّل.
فيتّضح من ذلك أنّ العبادة هي خضوع مقترن بالاعتقاد في غير اللّه تعالى ، أمَّا الخضوع والتذلّل من غير اعتقاد يمكن أن يناقش من جهة الحسن والقبح ، وهذا دائر مدار العناوين التي تطرأ على التذلُّل ، فمثلا يكون تذلُّل المؤمن لغير المؤمن قبيحاً ، ونفس هذا التذلُّل عندما يكون من المؤمن للمؤمنين يكون حسناً ، بل هو مستحب ، فإذن هو خارج تخصّصاً عن مبحث التوحيد والشرك ، وسحبه على هذا البحث يكون مقدِّمة فاسدة تؤدِّي إلى نتائج حتماً فاسدة.
أمَّا قولك : إن هؤلاء الجهَّال يطلبون من الميِّت ويتوسّلون به ، وهو لا ينفع ولا يضرُّ ، أو يطلبون حتى من الحيِّ طلباً لا يقدر على فعله فهو شرك.
هذا الكلام لا يقبله جاهل فضلا عن عالم ، لأن هذا بعيدٌ كلَّ البعد عن مورد
ص: 614
الشرك ، فإن معنى : الميِّت لا ينفع ولا يضرّ غير تام ; لأنّ الحيّ بهذا المعنى لا ينفع ولا يضرّ أيضاً ، وبما أنّ الحيّ يضرُّ بإذن اللّه كذلك الميِّت ، فليس هناك استقلاليَّة بالفعل سواء من الحيِّ أو الميِّت ، وبذلك لا يكون هنالك غرابة في الطلب من الميِّت ; لأنه كالطلب من الحيِّ ، وإنما يكون البحث كل البحث عن جدوى الطلب أو عدم جدواه ، وهذا خارج جملةً وتفصيلا عن مسار البحث ، ولتوضيح الصورة أضرب لكم مثالا : إذا طلبت من شخص أن يحضر لي كأساً من الماء هل في هذا شرك؟
قال الجميع : لا.
وفي نفس الوقت إذا طلبت هذا الطلب من نفس هذا الإنسان ، ولكنه كان نائماً ، فهو في الواقع لا يقدر على فعل هذا الأمر ، ولكن هل يمكن أن تقول إنك مشرك لأنه لا يقدر؟
قالوا بكلمة واحدة : لا.
بل أكثر ما يمكن أن يقال في حقي أن طلبك طلب عبثيُّ لا جدوى منه ، أو سميني حتى مجنوناً ، ولكن لا تصفني بالشرك.
وبهذا عرفنا أن عدم القدرة على الفعل ليست ملاكاً في التوحيد والشرك.
أمَّا كلامك : إن طلب الأمور الماديّة لا إشكال فيها ، وإنّما الشرك هو طلب الأمور الغيبيّة التي لا يقدر عليها إلاَّ اللّه.
فإنَّ في هذا الكلام مغالطة ; لأنّ السنن الماديّة أو الغيبيّة ليس لها دخل في ملاك التوحيد والشرك ، وأنا بدوري أسأل : هل هذه السنن هي مستقلّة عن اللّه ، بمعنى أنها تعمل بقدرة ذاتيّة منفصلة عن اللّه ، أم أنها بإذن اللّه وإرادته؟
وهنا المحور ، فإذا تعامل معها الإنسان باعتبار أنها مستقلة فهو مشرك ،
ص: 615
سواءً كانت ماديّة أو غيبيّة ، أمَّا إذا كان باعتبار أنها قائمة باللّه تعالى وبإذنه فهذا هو عين التوحيد ، وأقرِّب لكم هذه الصورة بمثال : إذا مرض إنسان فمن الطبيعي أنه سيذهب إلى الطبيب ، فإذا كان ينظر له بأنه قادر على شفائه بقدرة ذاتيّة منفصلة عن اللّه كان مشركاً ، ولا يشك في ذلك اثنان ، أمَّا أنه يشفي المريض بقدرة اللّه وإرادته فلا إشكال في ذلك ، بل هو عين التوحيد.
فمن هنا نعرف أن السنة والسبب ليس لها اعتبار بعنوان أنه ماديّ أو غيبيّ ، وأن مدار الكلام هو الاعتقاد باستقلاليّة هذه الأسباب أو عدم استقلاليّتها ، وتحت هذه القاعدة يمكن أن نقيس كل موضوع ، سواء كان طلب إحضار كأس من الماء ، أو طلب الذرِّيَّة والولد من وليٍّ من أولياء اللّه ، وكلاهما محكومٌ بالقاعدة.
أمَّا قولك : لا يقدر عليها إلاَّ اللّه ، بهذا المعنى الذي أطلقته لا يوجد شيء في صفحة الوجود يقدر على فعل شيء ، وإنّما القادر الحقيقيُّ هو اللّه ، ولكنَّ المسألة لا تؤخذ بهذا الإطلاق ، كما أنّ اللّه أعطى الإنسان القدرة على فعل بعض الأشياء بإذنه ومشيئته ، أعطى عباداً من عباده أسراراً وقدرات لم يعطها لغيرهم ، مثلما كان عند الأنبياء من إحياء الموتى ، وشفاء المرضى ، بل حتى ما كان عند أتباع الأنبياء مثل إحضار عرش بلقيس ، والأمثلة كثيرة في القرآن الكريم.
وقبل أن أبدأ بالكلام في مسألة الصفات الإلهيّة وبعد الوهابيَّة عن معرفتها ، جاء المتحدِّث الوهابي وأخذ منّي لاقطة الصوت بقوَّة ، فلم أستجب لاستفزازه ، وسلَّمتها له بكل هدوء حتى أضمن لنفسي فرصة جديدة ، وأنا أعلم يقيناً أنه لا يستطيع أن يردَّ على كلمة واحدة ممَّا ذكرت.
فبدأ حديثه قائلا : شيعة أم شيوعيّة! آه تذكَّرت ، قد كان لي صديق في
ص: 616
الجامعة في نفس الغرفة التي أسكن فيها ، وكان شيعيّاً متعصّباً ، يؤمن بأنّ القرآن محرّف ، وكان عنده مصحف اسمه مصحف فاطمة علیهاالسلام ، وكانت طبعته أجمل من طبعة الملك فهد ، والذي يعجبني فيه أنه يعلن كل عقائده بصراحة ، فهو يعتقد بكفر كل الصحابة ، وأنّ مؤسّسهم هو عبداللّه بن سبأ ، وإنّه يعبد الحجر.
هؤلاء سذَّج لا يعرفون التشيُّع ، قد خدعهم الشيعة ، ولم يعرّفوهم على العقائد الحقيقيّة ، والشيعة لا يعرفون إلاَّ السفسطة والفلسفة ، وبدأ بالسبِّ والشتم.
أمَّا كلامي فردَّ عليه بكلمة واحدة وكأنه أبطل كل حججي : أمَّا المتحدِّث الشيعي فننصحه بأن يتصفَّح أيَّ كتاب في أصول الفقه ، حتى يجد أن شرع من كان قبلنا ليس واجباً علينا ، فلا يستدلُّ بسجود إخوة يوسف علیه السلام .
رفعت يدي مصرّاً لتتاح لي الفرصة ، حتى أتحدَّث عن أساليب الحوار ، والتعاطي مع الطرف الآخر ، وعن أهمّيّة البرهان ، على ضوء المنهج القرآني ، الذي فتح الباب على مصراعيه للحرّيّة الفكريَّة التي عبَّر عنها بقوله : ( قل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1).
وأردت أبيّن أنّ كلامه خارج - تخصصّاً - عن محل البحث ، فما دخل هذا الكلام فيما طرحته من أدلّة على بطلان نظرة الوهابيَّة للتوحيد؟!! فهو كالذي يقول : أحلى العسل أم أطول الشجر؟
وكان كل خوفي أن ننزل نحن إلى مستواهم من سبّ وشتم وتشتيت المواضيع ، ولكن للأسف لم تتح لي فرصة إلى آخر ركن النقاش ، بل لم تتح
ص: 617
الفرصة لأيِّ شيعي ، وفي المقابل كان الباب مفتوحاً للوهابيّة الذين لم يزيدوا غير السباب.
وعندما أتيحت الفرصة لأحد الطلبة - وهو من جماعة الإخوان المسلمين - استبشرنا بذلك ، فلعلّه يكون منصفاً ، ولكنه لم يختلف عنهم كثيراً.
فبدأ حديثه قائلا : إنّنا لا نستطيع أن نكفّر أحداً بعينه ، ولكن يمكننا أن نكفّر منهجاً ، ورفع صوته صارخاً : فالتشيُّع كفر في منهجه وتوجّهه وكل تعليماته ، فأشعل بذلك حماس الوهابيّة ، فتعالت صرخاتهم بالتكبير وبشعارات البراءة من الشيعة ، فقرّروا وجوب مقاطعتهم في الجامعة ، فلا يجوز لأيِّ مسلم سنّي أن يتعامل معهم أياً كان نوع التعامل ، فلا يجوز السلام عليهم ، كما لا يجب ردّ سلامهم ، فتوتَّر الجوُّ إلى أبعد الحدود.
ولكن - وبحمد اللّه - لم ينجحوا في ذلك ، فإنّ طلبة الجامعة كانوا أكثر تحرُّراً وعقلانية ، فلم يستجيبوا لمحظوراتهم التي شرعوها ، وكأنهم مراجع الأمَّة الإسلاميَّة ، وإن كان هنالك نجاح ، فإنني منعت من الدخول إلى الجامعة بعد تلك الأحداث بداعي أمن الجامعة.
يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد هذه الأحداث الساخنة زرت الدكتور في مكتبه في كلّيّة التجارة ، وسألني ما دار بيننا وبين الوهابيَّة ، وقد كانت الأخبار عنده بالتفصيل.
قال : إنّ المشكلة التي تعيشها الوهابيّة هي الجهل المركَّب من مصادرة للآراء والاتهام بالباطل ، فنحن كنّا نسمع أنّ الشيعة يقولون : إنّ الرسالة كانت
ص: 618
يفترض أن تأتي لعليِّ بن أبي طالب علیه السلام ، ولكن عندما بحثنا لم نجد لذلك أثراً ، وكنا نسمع أنّ للشيعة مصحفاً اسمه ( مصحف فاطمة علیهاالسلام ) ولكن لا واقع له ، وكنّا نسمع أنّ عبداللّه بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فبحثنا فوجدنا أنه شخصيّة خرافيّة ، فما بال الوهابيَّة يردّدون هذه الاتّهامات الباطلة؟ وبأيِّ حق يتحدَّثون عن الشيعة؟!
فقد طلب منّي قبل أيام أنا والدكتور علوان والدكتور أبشر وأحد مشايخ الوهابيّة ، إقامة ندوة عن الشيعة في الجامعة ، ولكنّي اعتذرت ، وعلى ما يبدو اعتذر الدكتور علوان ، والدكتور أبشر ، وقلت لهم : بأيِّ حق أتحدَّث عن الشيعة فأكون الحاكم والقاضي والجلاَّد ، فأقول : الشيعة يقولون كذا ، وحكمهم كذا؟ فهذه مصادرة ، فكل صاحب مذهب يجب أن يسأل عن مذهبه ، هذه هي المنهجيّة العلميّة ، فلا يمكن بداعي خلافي مع الوهابيَّة ألصق بهم ما ليس فيهم.
فمثلا : كنّا نسمع أن محمّد بن عبدالوهاب ، كان يقول : إنّ عصاي أفضل من محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولكن عند البحث العلمي تبيَّن أن هذه المقولة ليست ثابتة ، فلا يجوز أن أنسبها له ، وكثير من الكتب التي ألَّفت ضدَّهم ، فليس كل ما فيها حقاً وصواباً.
وأذكر أنّي كنت في سفرة إلى الخرطوم ، فجاءني أحد الإخوان الأعزّاء بكتاب ، وقال : إن هذا الكتاب يردُّ كيد الوهابيَّة ، وإذا هو كتاب ( مذكِّرات مستر همفر ) وبعد قراءته قلت له : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن أستفيد منه شيئاً ، فهو خارج عن المنهج العلميِّ ، وهو أقرب للافتراء من الحقِّ.
وأيضاً ليس ما يقوله الوهابيّة في جماعتنا التيجانيّة بحق ، وأذكر أنّ أحد مشايخنا وعلماءنا الكبار - وهو الحافظ المصري - التقى بأحد الوهابيّة ، فسأله
ص: 619
الوهابي عند مذهبه ، فقال : تيجاني.
فقال الوهابي : أعوذ باللّه.
فقال له : إنّ الذي استعذت منه ليس نحن.
قال : كيف؟ ألستم تقولون : إنّ صلاة الفاتح أفضل من القرآن.
قال : لا.
قال : ألستم تقولون كذا؟
قال : لا.
قال : ألستم تقولون كذا وكذا وكذا؟
قال : لا.
فتعجَّب ، فقال له : إنكم تحملون صورة في أذهانكم لا تمتُّ إلى الواقع بصلة.
كما أنّه ذكر لي قصّة مفصَّلة من لقاءاته مع المسيحيّة ، وقال : إنه استدعي إلى الخرطوم لمناقشة مجموعة من علماء المسيحيّة ، الذين حضروا من الغرب ، وأنه كيف عجز الآخرون عن ردِّهم ، لأنهم لم يسألوهم عن اعتقاداتهم ، بل كانوا يهاجمونهم وهم ينفون الاتهام ، ولم يفحموا إلاَّ بعد ما طلبت منهم أن يتحدَّثوا عن أنفسهم.
وقد فصَّل كثيراً في منهجيَّة التعامل مع الأطراف المخالفة ، ولم يطرح في هذه الجلسة موضوع للنقاش بيننا رغم أنها طالت أربع ساعات ، وقد سررت بكلامه ; لأننا بهذا الحديث أمنّا هجومه علينا ، وخاصة أنه شخصيّة مرموقة اجتماعياً ، وله أتباع ومريدون ، وكلمته مسموعة ، فحرصت أن لا أثيره بأيِّ موضوع.
ص: 620
وبعد هذه الجلسة ، ذهبت معه في سيارته إلى مدينة عطبره ، حيث يوجد مجموعة من إخواننا الشيعة ، حتى أنقل لهم هذه الأخبار السارّة.
ولكن سرعان ما صدمت عندما أخبروني أن هنالك مناظرة بينهم وبين الدكتور عمر مسعود ، موضوع المناظرة : عصمة الأئمة علیهم السلام .
قلت : نحن مستعدُّون أن نناظر في أيِّ مبحث من عقائدنا ، ونفحم أيَّ طرف بالدليل ، ولكن الذي يحيِّرني أنه مضت ساعات من لقائي مع الدكتور ولم يذكر لي هذا الأمر ، فلعله لا يدري!
قالوا : لا ، بل هو الذي دعا ، وقد وزِّعت الإعلانات في كل مكان ، ومكتوب عليها ( حوار ساخن بين الشيعة والدكتور عمر مسعود ).
فصمَّمنا أن نستوفي كل الأدلة عن عصمة الأئمة علیهم السلام ، ونردُّ على كل الإشكاليّات ، ورشَّحني الإخوة على أن أدير النقاش معه.
وبعدما حان وقت الموعد انطلقنا إلى دار التيجانيّة ، وقد اكتظَّت بالحضور ، وما إن رآني الدكتور حتى بدت علامات التردُّد عليه ، فقال لي : هل جاء الإخوة الذين سوف يحاوروني ، وكأنه لا يريدني أن أتدخَّل ، بل هو كذلك.
والدليل عليه أننا أول ما جلسنا كنّا بمحاذاته من الجهة اليمنى ، فقال : لا يمكن أن ألتفت على يميني دائماً ، فالذي يريد مناقشتي فليجلس أمامي ، فقمنا ، ولكنه أمسك بيدي ، وقال : اجلس أنت بالقرب منّي ، وكأنني لم أكن مقصوداً بالنقاش.
وبعد تلاوة من آيات الذكر الحكيم ، قدَّموا ممثِّل الشيعة للحديث عن عصمة الأئمة علیهم السلام .
فحمدت اللّه ، وصلّيت على خاتم الأنبياء ، وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام ،
ص: 621
فأظهر الدكتور عدم ارتياحه من تدخُّلي.
قلت : قبل أن أبدأ حديثي عن مسألة العصمة وأدلّتها من القرآن والسنّة والعقل ، أحبُّ أن أبدي هذه الملاحظة ، وهي : من الذي دعا إلى هذا الحوار؟ إذا كان إخواننا الشيعة فعلى الدكتور أن يحدِّد محاور النقاش ، ولا غضاضة في ذلك ، أمَّا إذا كان هو الداعي فعلينا تحديد محاور النقاش ; لأنّ مسألة العصمة ليست عقيدة مجرَّدة ، وإنما ترتبط بواقع عقائديٍّ متكامل ، فالمسألة التي يجب أن تناقش هي الإمامة ، وضرورتها ، وشروطها ، على ضوء المنهج القرآني والعقلي ، فتأتي تبعاً لذلك مسألة العصمة ، فأنا أسأل أستاذي الدكتور ، هل كان هو الذي دعا الشيعة للحوار؟
بدأ حديثه بعد الحمد والصلاة قائلا : أنا من طبيعتي الذاتيّة وتكوين شخصيتي ، إنسان يمكن أن تسمِّيني منعزل ومنطوي ، فليس أنا من دعاة المناظرات ، ولا الحوارات والمحاضرات (1) ، والدليل على ذلك أن الأستاذ معتصم جلس معي هذا اليوم أربع ساعات ، ثمَّ ذكر ما دار بيننا ، وقال : إني لم أتخيَّل أنّ الأستاذ معتصم سيتدخَّل في هذا الحوار ; لأنه لا توجد بيننا حواجز ، ومكتبي مفتوحٌ له طول اليوم ، وهذا هو أمامكم ، اسألوه عن العلاقة التي بيننا ، فالمفروض منه أن يختبر في مثل هذه الجلسة جماعته من الشيعة ، وهل هم استوعبوا الدروس التي تلقَّوها منه ، ثمَّ قال : أدعو لرفع هذه الجلسة.
فشكرته ، وقلت : نحن أيضاً ليس من عادتنا أن نطرق الأبواب ، وندعو
ص: 622
أهلها للمناظرات ، وما دمت دعوت لرفع الجلسة فنحن لا نصرّ عليها.
وفي هذا الحين تدخَّل أحد الحضور ، ووجه لي سؤالا قائلا : أسألك سؤال مستفهم مستفسر ، وليس مناظر عن رأي الشيعة في مسألة العصمة وأدلّتهم على ذلك.
قلت له : إنّ الأدلة متعدِّدة ، ولكن ليس المكان مكاني ، ولا المجلس مجلسي ، فإذا أذن لي الدكتور .. فقاطعني الدكتور قائلا : لقد دعوتكم لرفع هذه الجلسة.
وبهذا انتهت المناظرة ورفعت الجلسة.
ص: 623
المناظرة الثامنة والثمانون: مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع شيخ السلفيّة في صفات اللّه تعالى والطريق الذي يجب أن تسلكه الأمّة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله
يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد تلك الأحداث مباشرةً ، سافرت إلى شمال السودان ، مدينة ( مروي ) وأول ما لاحظته في تلك المنطقة النشاط الوهابي المتزايد ، وبعد ما استطلعت الأمر وجدت أنّ المؤثِّر الأول في ذلك النشاط هو شيخ يسمّى ( مصطفى دنقلا ) ، وهو يسكن في منطقة بالقرب من مروي تسمّى ( الدبيبة ) فسعيت للوصول إليه ، وذات مرَّة ذهبت إلى سوق شعبيٍّ في منطقة تسمّى ( تنقاسي ) فأشار لي أحد الإخوان - وكان مرافقاً لي - أن ذلك الرجل هو ( مصطفى دنقلا ) الذي تسأل عنه ، فأسرعت إليه ، وبعد السلام قلت له : أنا شخص غريب عن هذه المنطقة ، وهدفي الوحيد في هذه الحياة هو البحث عن الحقيقة ، وسمعت أنك من أكبر المشايخ في المنطقة ، فأحببت أن أستفيد من علمك.
فاستبشر بذلك ، وأمسك يدي وقال : تعال ولا داعي للمواعيد ، وجلسنا في منطقة هادئة من السوق.
ص: 624
فقلت له قبل الدخول في البحث : في أيِّ موضوع يجب أن نتفق على أساليب الحوار ، والأخذ والعطاء ، فإن أسلوب التلقين ليس مجدياً في حقي ، فإنّ العقيدة التي تقوم على الحوار والنقاش ، والدليل والبرهان ، عقيدة صلبة لا تزلزلها العواصب.
قاطعني قائلا : وهذا ما ندعو إليه.
فقلت : إذن ، ما هي نظرة الإنسان الباحث للإسلام؟
هل يعتبر أنّ الإسلام هو ذلك الذي يكون في بيئته ومجتمعه ، أم أنه أوسع من ذلك فيشمل الإسلام بشتّى مدارسه ومذاهبه الحاضرة أو التي كانت في التاريخ؟
وهذه النظرة الشاملة ، هي التي تكسب الإنسان نوعاً من الحرّيّة ، تمكِّنه من معرفة الطائفة المحقّة ; لأنها المقدِّمة للتحرّر من كل قيود البيئة والمجتمع ، كما أن هذه النظرة تكسب الإنسان نوعاً من الإنصاف ، في التعاطي مع الأطراف المتعدِّدة ، ومن هنا أطلب منك أن لا تحاكمني بمسلَّماتك باعتبار أنها حقيقة ; لأنّها لابد أن تثبت بالدليل أوَّلا ، ثمَّ تكون صالحة للمحاكمة ، كما يقولون ( ثبِّت العرش ، ثم انقش عليه ) كما أنني لا أقبل منك أن تجعل الموروث الديني والحالة الدينيّة في المجتمع هي الحاكم بيننا ; لأن المجتمع السوداني وإن كان مجتمعاً متدِّيناً ، إلاَّ أنه لا يكون ممثِّلا لكل المذاهب الإسلاميّة ، فما هو إلاَّ حالة واحدة من تلك الحالات المتعدِّدة ، وهي نفسها لا تدّعي أن مجتمعنا قد استوعبها بشكل كامل.
إذن لابد أن نحدِّد مقاييس ثابتة تكون هي مدار حجّتنا ، وملزمة للطرفين ، وعلى ما يبدو أنّنا يمكن أن نتفق على القرآن والسنّة والعقل ، رغم أنّ السنّة
ص: 625
حجّيّتها ليست مكتملة ; لأننا سوف نعتمد على مرويَّات مدرسة واحدة ، وهم أهل السنّة ، مع العلم أنّ هناك مدارس أخرى لها مرويَّاتها الخاصة ، ولكن من أجل الوصول إلى الفائدة يمكن أن نعتمد على مصادرهم.
استغرب الوهابي كثيراً من هذا الكلام ، وهو لا يدري إلى أيِّ طريق أسلك به ، ولكنه وافق على ما قلت ، مع علمي الكامل أنه لا يلتزم به.
فقلت له : إذن نبدأ البحث ، وسوف ينحصر في التوحيد وصفات اللّه ، ثمَّ في الطريق الذي يجب أن تسلكه الأمَّة من بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإذا تكرّمت شيخنا ، وبدأت بالكلام.
فابتدأ الشيخ قائلا : إنّ الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، وإنّ شرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار ، وأصلّي وأسلّم على سيِّدنا محمّد ، وعلى أهله ، وأصحابه أجمعين ، وبعد ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، فقيل : ما هي يا رسول اللّه؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (1).
وقد بيّن الرسول صلی اللّه علیه و آله بهذا الحديث أنّ الفرقة الناجية هي واحدة ، وباقي الفرق كلُّها في ضلال ، وإلى النار ، وكما بيّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ الفرقة الناجية هي ما كان عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، وهذا بيان صريح من الرسول صلی اللّه علیه و آله على أن الفرقة الناجية هم السلف الصالح ومن تبع نهجهم ، وهذا كاف لنا كمكلَّفين أن
ص: 626
نتبع منهج السلف ، ولا نهتمُّ بمذاهب الضلال ، فالطائفة المحقّة هم أهل السنّة والجماعة ، وهم أكثلسنّة والجماعة ، وهم أكثر الطوائف اعتدالا ; لأنها سلّمت بما جاء به الرّسول صلی اللّه علیه و آله وصحابته الكرام ، ولا نريد أن نخوض في الطوائف الأخرى ، ونوضح مدى ضلالها ، فمجرَّد معرفة الطائفة المحقّة كاف للحكم على البقيَّة بالضلالة.
أمَّا صفات اللّه سبحانه وتعالى ، فعلى حسب قول الطائفة المحقّة ، إنّ هذه الصفّات التي أخبر بها القرآن ، نجريها كما جاءت من غير تأويل ، فمثلا قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) فلا يمكن أن نؤوِّل معنى اليد ، وفي الوقت نفسه لا نثبت لها معنى خاصاً ، فلا نقول إنّ يد اللّه تعني قدرته ; لأنه لا دليل على ذلك ، وإنما نثبت لله يداً من غير كف ، وهذا ما قال به السلف الصالح ، فلم يرو منهم على الإطلاق رأي مخالف لما قلناه ، وهذا دليل على صواب هذا الرأي ; لأن السلف أقرب الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأعلم الناس بالقرآن ، وعدم اختلافهم دليل على صدق قولهم ، أمَّا الطوائف الأخرى فقد ذهبت بعيداً في آيات الصفات ، فكل طائفة تؤوِّلها على حسب هواها ، فالقائلون بالتأويل لم يتفقوا على معنى معيَّن ، وهذا وحده دليل على البطلان ، فيتحتَّم أن يكون الطريق أمامنا هو إجراء هذه الصفات كما جاءت من غير تأويل ، وكما قال السلف في مثل هذا المقام : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) ولا أعتقد أن إنساناً يخاف اللّه ويطلب الحق يجادل في هذه المسألة.
استفزّتني هذه الكلمة ، فقاطعته قائلا :
أولا : إنّ الطائفة المحقّة هم أهل السنّة ; لأنهم ساروا على منهج السلف ،
ص: 627
وذلك لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّ الفرقة الناجية « ما كنت عليه أنا وأصحابي » ، فإنّ الموضوع أوسع من المدّعى ، وبصورة أخرى : إن الصغرى غير تامّة ، فمن الذي يقول : إنّ الذي عليه أنتم هو نفس ما كان عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه؟!
وكون أهل السنة هم الطائفة الوحيدة ، التي جسَّدت ما كان عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، هذه مصادرة من غير دليل ; لأن كل الطوائف تدّعي وصلا بليلى.
وثانياً : الاختلافات الكبيرة جدّاً بين أهل السنّة هي دليل على بطلان ما تدّعي ، فليس هناك في الواقع مذهب واحد متكامل يسمَّى أهل السنّة ، وكل ما هنالك عنوان يسمّى أهل السنة ، تنطوي تحته مجموعة من المدارس ، التي تختلف في أبسط المسائل الفقهيّة ، بل حتى في طريقة التعامل مع السلف ، فأيّ أهل السنّة والجماعة تقصد؟ هل هم الوهابية؟ ويوجد هنالك من يدّعون أنهم أهل السنّة ويكفِّرون الوهابيِّة ، فلا تعمّم الكلام ، ولا تحاول أن تلزمني بالعناوين الفضفاضة.
أمَّا كلامك في الصفات الإلهيَّة فيكتنفه نوع من الغموض ، فما معنى أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من غير كيف؟! فهذا التبرير لا يقبله صاحب عقل سليم ; لأنّ الجهل بالكيفيّة لا يغيّر عنوان القضيّة ، وهو لا يتعدَّى أنّ يكون إبهاماً وألغازاً ; لأنّ إثبات هذه الألفاظ هو عين إثبات معانيها الحقيقيّة ، وصرفها عن معناها الحقيقي هو عين التأويل الذي أنكرته ، وإثبات المعنى الحقيقي لها لا ينسجم مع عدم الكيفيّة ; لأن الألفاظ قائمة بمعانيها ، والمعاني قائمة بالكيفيّة ، وإجراء هذه الصفات بمعانيها المتعارفة هو عين التجسيم والتشبيه ، والاعتذار بقولك : ( بلا كيف ) لا يتعدّى أن يكون لقلقة لسان ، وإذا كانت هذه الألفاظ الجوفاء تكفي
ص: 628
لإثبات التنزيه لله عزّ وجلَّ فلا إشكال على من يقول : إن لله : جسماً بلا كيف ، ولا كالأجسام ، وله دم بلا كيف ، ولحم وشعر و ... بلا كيف ، كما قال أحد الحشوية : ( إنما استحييت عن إثبات الفرج واللحية ، واعفوني عنهما ، واسألوني عمَّا وراء ذلك ) كما ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل.
وإنَّما مشكلتكم هي التقليد في العقائد من غير تفكير ، مع أن التقليد في باب العقائد لا يجوز ، فإذا فكَّرت جيِّداً فيما نسبته للسلف من قولهم : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) تجد أنّ هذا الكلام متهافت لأبعد الحدود ; لأنّ الاستواء إذا كان معلوماً فالكيف بالتالي يكون معلوماً ، وإذا كان الكيف مجهولا فكذلك الاستواء يكون مجهولا ، ولا ينفصل عنه ، فالعلم بالاستواء هو عين العلم بالكيفيّة ، والعقل لا يفرِّق بين وصف الشيء وبين كيفيّته ; لأنهما شيء واحد ، فإذا قلت : فلان جالس فعلمك بجلوسه هو علمك بكيفيّته ، فعندما تقول : الاستواء معلوم فنفس العلم بالاستواء هو العلم بالكيفيّة ، وإلاَّ فيكون في كلامك تناقض ، بل هو التناقض بعينه ، فكل تبرير بعدم الكيف مع إجراء المعاني الحقيقيَّة للألفاظ هو تناقض وتهافت ، فقولك : إن لله يداً بلا كيف ، كلام ينقض آخره أوَّله ، والعكس ; لأن اليد بالمعنى الحقيقي لها تلك الكيفيّة المعلومة ، ونفي الكيفيّة منها هو نفي لحقيقتها.
قاطعني قائلا : ماذا نفهم من هذا الكلام؟ هل تخالف السلف الصالح ، وتؤوِّل هذه الآيات؟
قلت : أولا : إنّ مجرَّد نسبة هذه الأفكار إلى السلف لا يكسبها قدسيّة يمنعها من النقاش.
ثانياً : إن السلف الذين تدّعي اتباعهم لم يقولوا ما قلت ، بل كانوا يوجِّهون
ص: 629
تلك الآيات القرآنيّة التي جاءت في باب الصفات غير توجيهكم ، وفي الواقع إن نسبة هذه الأفكار إلى ابن تيمية وابن عبد الوهاب أقرب وأصدق من نسبتها إلى السلف ، وحتى تتأكَّد من ذلك ارجع إلى أيِّ تفسير من التفاسير المأثورة في باب الصفات ، لتجد تأويلات السلف واضحة لهذه الآيات.
جاء في تفسير الطبري ، في تفسر قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (1) التي اعتبرها ابن تيمية من أعظم آيات الصفات ، نجد أن الطبري يروي حديثين بإسناد إلى ابن عباس قال : اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي ، فقال بعضهم : هو علم اللّه تعالى ذكره ، وذكر من قال ذلك بإسناده أن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ورواية أخرى بإسناده عن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ألا ترى : ( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) (2).
وفي تفسير الطبري نفسه ، ينقل في تفسر قوله تعالى : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) يقول : اختلف أهل البحث في معنى قوله : وهو العليُّ العظيم ، فقال بعضهم : يعني بذلك هو عليٌّ عن النظير والأشباه ، وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو : العلي المكان ، وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا يعني بوصفه بعلوِّ المكان ; لأن ذلك وصف بأنه في مكان دون مكان.
وإليك شاهداً آخر في تفسير قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (3) وقوله : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ ) (4).
ص: 630
قال الطبري : واختلف في معنى قوله : ( إلاَّ وجهه ) ، فقال بعضهم : كل شيء هالك إلاَّ هو ، وقال آخرون : معنى ذلك : إلاَّ ما أريد به وجهه ، واستشهدوا بقول الشاعر :
أستغفر اللّه ذنباً لست محصيه *** ربّ العباد إليه الوجه والعمل
وقال أبو البغوي : إلاّ وجهه ; أي إلاَّ هو ، وقيل : إلاَّ ملكه ، قال أبو العالية : إلاَّ ما أريد به وجهه.
وفي الدرّ المنثور للسيوطي عن ابن عباس قال : المعنى : إلاّ ما يريد به وجهه ، وعن مجاهد : إلاّ ما أريد به وجهه ، وعن سفيان : إلاَّ ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة (1).
هذا قول السلف ، وأنا لم أخالف قولهم ، بل أنتم الذين تخالفونهم ، وتنسبون لهم ما ليس فيهم.
ثالثاً : نحن لا ندعو إلى التأويل في مثل هذه الآيات ، فلا يجوز صرف ظاهر الكتاب والسنّة بحجّة أنها تخالف العقل ، فلا يوجد في القرآن والسنّة ما يخالف العقل ، وما يتبادر من الظاهر أنه مخالف ليس بظاهر ، وإنما يتخيَّلونه ظاهراً.
ولتوضيح ذلك لابد أنّ تفهم أن اللغة في مدلولها تنقسم إلى قسمين :
1 - دلالة إفراديّة.
2 - دلاله تركيبيّة.
أو كما يسمّيها علماء المنطق والأصول دلالة تصوُّريَّة ودلالة تصديقيّة.
ص: 631
فقد يختلف المعنى الإفرادي عن المعنى التركيبي في الكلمة الواحدة ، إذا وجدت قرائن في الجملة تصرفها عن معناها الإفرادي ، فمثلا : عندما أقول : ( أسد ) ينصرف الذهن إلى الحيوان ، ولكن عندما أقول : أسد يقود سيارة فإن الذهن سينصرف إلى الرجل الشجاع ، فمعنى أيِّ كلمة لابد أن يلاحظ فيه السياق والقرائن المتصلة والمنفصلة ، وهذا هو ديدن العرب في فهم الكلام ، ولذلك الذي يفهم بهذه الطريقة لا يسمَّى مؤوِّلا للنصّ ، خارجاً عن الظاهر ، وهكذا الحال في مثل هذه الآيات ، ففي قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) فيكون المعنى الظاهر من اليد هي القدرة والتأييد الإلهي من غير تأويل ، كالذي يقول : البلد في يد السلطان ، أي تحت تصرفه وإدارته ، ويصح هذا القول وإن كان السلطان مقطوع اليد ، وكذلك في بقيَّة الآيات فلا يمكن أن تثبت معنى الكلمة من غير ملاحظة السياق ، وهذا هو الأخذ بالظاهر بعينه.
بدأت الحيرة على وجه الوهابي ، وهو لا يدري ماذا يقول ، إلاَّ أنه قاطعني قائلا : هذا الكلام فيه تكلُّف ومراوغة ، فالإسلام دين يسر ، ولا يحتمل هذه السفسطة ، فقد خاطب علماؤنا المسلمين بأبسط الكلمات من غير تعقيد وتكلُّف ، وقد أجمع المسلمون على فضلهم وأعلميَّتهم ، مثل : الإمام أحمد بن حنبل ، وشيخ الإسلام ابن تيميّة ، فإنهم بتوفيق اللّه ردُّوا على أصحاب المذاهب الباطلة بأوضح البراهين ، ولم يقولوا كلمة واحدة مما قلت ، مع أنهم لا يجرأ على مخالفتهم أحد.
فمن أنت؟ وما هو مذهبك؟ فإنّي لا أراك إلاَّ من المعتزلة الذين يتمنطقون بالكلام.
يا شيخنا! ألم أقل لك إنّك تجترُّ ما قاله ابن تيميّة ، وابن عبد الوهاب ، من
ص: 632
غير تدبر؟ فإن هؤلاء كلامهم لا يتجاوزهم ، وهو حجّة عليهم لا علينا ، وخصَّ اللّه سبحانه كل إنسان بعقل ، ولا يحاكمنا بعقولهم ، هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء لم يكونوا موضع إجماع الأمّة ، فقد خالفهم جلُّ علماء المسلمين ، وكان أكثر مخالفيهم من علماء أهل السنّة والجماعة.
قال الذهبي في رسالته لابن تيمية : يا خيبة من اتّبعك ، فإنه معرَّض للزندقة والانحلال ، ولا سيَّما إذا كان قليل العلم والدين ، باطنيّاً شهوانيّاً ، فهل أتباعك إلاَّ قعيد مربوط خفيف العقل ، أو عاميٌّ كذَّاب بليد الذهن ، أو غريب واجم قويُّ المكر ، أو ناشف طالح عديم الفهم؟ فإن لم تصدِّقني ففتِّشهم وزنهم بالعدل ) (1).
وجاء في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني : ج 1 ص 141 : ( فمن هنا وهناك ردوّا عليه - يعني ابن تيمية - ما ابتدعته يده الأثيمة من المخاريق التافهة ، والآراء المحدثة الشاذّة عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، ونودي عليه بدمشق : ممن اعتقد عقيدة ابن تيمية حلَّ دمه وماله ).
هذا ، غير عشرات الكتب التي ردَّت على ابن تيميَّة وكشفت عقائده الباطلة ، مثل كتاب ( الدرر المضيّة في الردِّ على ابن تيمية ) للحافظ عبدالكافي السبكي.
ويكفيك في هذا المقام ما قاله الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيثمي في ترجمته لابن تيمية : ( ابن تيمية عبدٌ خذله اللّه ، وأضلّه ، وأعماه وأصمّه وأذلّه ،
ص: 633
بذلك صرَّح الأئمة الذين بيَّنوا فساد أحواله ، وكذّبوا أقواله ).
هذا غيضٌ من فيض من علماء أهل السنة في ابن تيمية ، أمَّا الطوائف الأخرى فمجمعون على ضلاله وسخافة رأيه.
أمَّا ابن عبد الوهاب فإنه لا يمثّل شيئاً حتى يخصّ بالكلام.
وهنا رفع صوته صارخاً : من أين تأتي بهذا الكلام؟! ... وأنا لا أسمح لك أبداً أن تتحدَّث بهذه الطريقة عن علمائنا العظام ، وما أنت إلاَّ رجل مجادل تماري العلماء ، فمن تكون أنت مقابل شيخ الإسلام ابن تيمية؟!
فاسمع : إذا كنت صادقاً فيما تقول تعال لنتباهل ، وانتصب واقفاً وقال : قم أيُّها المفتري ، قم حتى تباهلني ، واللّه إني أراك وقد خسف اللّه بك الأرض.
وهو على هذا الصراخ حتى اجتمع الناس حولنا ، وهو يقول : إنّه رافضيٌ ، إنّه شيعيٌّ ، وقد خدعني بعدما ظننت فيه الخير.
قلت : اهدأ أيُّها الشيخ ، واللّه إنّي لا أراك إلاَّ هارباً من الحوار ، فلم نتحدَّث بعد عن عدالة الصحابة.
قال : اسكت ، إنّ الصحابة عدالتهم أوضح وأكبر من أن نختلف فيها ، وإن كنت تؤمن بما تقول قم وباهلني.
قلت : أنا موافق على المباهلة ، ولكن قبلها أريد أن أطلب منك طلباً أمام كل الحضور ، وهو أن تقيم معي مناظرة علنيّة أمام جميع أهل هذه البلد ، حتى لا يبقى لوجودك ولا لوجود أمثالك أثر.
أمَّا المباهلة ، أتهدّدني أنت بالمباهلة وقد باهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأئمتي نصارى نجران؟ واللّه لو أقسمت على اللّه بحقّهم لمسخت قرداً يلعب بك الصبيان ، ولكن نحن لا نختبر ربَّنا ، إنما اللّه هو الذي يختبرنا.
ص: 634
ووقفت قائماً وقلت : هيَّا ابدأ بالمباهلة ، فبدأ الخوف على وجهه.
ابدأ ، لماذا سكتَّ؟
قال : أباهلك على البخاري ومسلم ، فضحكت ، وانتهرته .. يا أحمق ، ما البخاري ومسلم ، حتى نتباهل حولهم؟ وإنما أباهلك بأن مذهب التشيُّع - مذهب أهل البيت ، الأئمة الاثني عشر علیه السلام - هو الحق ، وما غيره باطل.
فسكت ثمَّ قال : أنا لا أباهلك في أهل البيت علیهم السلام .
وعلى أيِّ شيء نتحدّث؟ أعلى غير إمامة أهل البيت علیه السلام ؟
قال : أنا لا أباهلك رحمةً بك ، وانصرف.
قلت : سبحان اللّه! فإن الراحم هو اللّه ، كيف ترحمني وعندكم هذا من مصاديق الشرك؟
ص: 635
قال الشيخ معتصم السوداني : بعد رجوعي من مدينة ( مروي ) وأنا في طريقي إلى الخرطوم ، مررت بجامعة وادي النيل ، كلّيّة التجارة ، فالتقيت بالدكتور عمر مسعود ، ودار بيني وبينه حوار حول صلح الإمام الحسن علیه السلام مع معاوية.
الدكتور : أنتم تقولون : إنّ الإمام الحسن علیه السلام معصوم ، ونحن نقول : إنه من الصحابة العظام ، ومرتبته عالية عند كل المسلمين ، ولكنه غير معصوم ، وهذه هي النظرة الصحيحة ; لأنّ القول بعصمة الإمام الحسن علیه السلام مع أنه صالح معاوية فيكون هذا الصلح أعطى الشرعيّة لمعاوية .. أمَّا إذا قلنا - على حسب ما نرى - إنه رجلٌ مجتهد اجتهد وأخطأ ، فله أجر الاجتهاد ، ولا يستلزم ذلك أن نحمِّله ما جرى ، وهذا يدلُّ على أن أهل السنّة تقدِّس الإمام الحسن علیه السلام أكثر من الشيعة ..
قال الشيخ معتصم : لم أفهم ما هو وجه الملازمة بين أن يكون الإنسان معصوماً ، وبين أن نحمِّله ذنب الآخرين.
ص: 636
قال الدكتور عمر مسعود : أنا لم أقل ذلك على إطلاقه ، وإنما بخصوص حادثة محدودة ، وهذه الحادثة غيَّرت مسار الأمّة الإسلاميّة ، فالملازمة موجودة ، فإذا لم يصالح الإمام الحسن علیه السلام وثار كما ثار أخوه الحسين علیه السلام لكان مصير الأمَّة غير الذي كانت عليه ، بل كان بإمكانه أن يجلس في بيته كما فعل عبداللّه بن عمر وغيره ، ولا يصالح ولا يبايع.
قال الشيخ معتصم : أولا : هذا الكلام خلاف الفرض ، فإذا ثبتت عصمته فيكون كل ما يفعله هو عين الصواب ، سواء صالح أو حارب ، والمعصوم لا يحاسب.
ثانياً : هناك مهم وأهم ، وتزاحم في المصالح ، فحكم الإمام الحسن علیه السلام مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة ، فصلح الإمام علیه السلام هو تقديم مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة حكمه (1) ، خاصة أن الظروف كانت تعاكسه تماماً بعد أن خذله جماعته ، وهرب منه قادة جيشه ، كما حدث لنبيِّ اللّه هارون علیه السلام عندما جعله موسى علیه السلام خليفة على بني إسرائيل ، فأضلّهم السامريُّ ، وعبدوا العجل ، فصبر هارون على ذلك لمصلحة عدم التفريق بين بني إسرائيل ، قال تعالى : ( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) (2).
ص: 637
قال الدكتور : هذا الكلام ضعيف جداً ، ويمكن أن يقال كتبرير لاجتهاده الخاطئ إذا قلنا بالرأي الثاني ، إنّه اجتهد وأخطأ ، وسبب اجتهاده وخطأه هو ما ذكرته ، فكلامك ينسجم مع القول الثاني لا القول بالعصمة.
قال الشيخ معصتم : .. ولكن هذا لا ينفي أن يكون معصوماً ، خاصة أنّ عصمته ثابتة بالقرآن والسنة وبحكم العقل ، وبعد ثبوت العصمة لا يمكن أن يقدح فيها لوجود حادثة لم تفهم مقاصدها ، وإلاَّ يعتبر خلفاً.
قال الدكتور : خُلف بالنسبة لكم ، أمَّا نحن فلا نسلِّم بالعصمة.
قال الشيخ معتصم : إذن يتحدَّد النقاش ويتعيَّن في مسألة العصمة والأدلّة عليها ، أمَّا صلح الإمام الحسن علیه السلام فلا يكون كافياً لإثبات العصمة أو نفيها ، وخاصَّة أنه كان صلح المغلوب على أمره ، وليس هو كعبد اللّه بن عمر ، فإنّ عبداللّه لا يشكِّل خطراً على الدولة الأمويّة كالإمام الحسن علیه السلام ، ولذلك كان أخذ البيعة منه من أهمِّ الأمور ، حتى وإن لم يبايع كل المسلمين ، فبالتالي لا يكون هنالك ملازمة بين صلحه وما جرى على المسلمين في العهد الأموي ; لأنه لا خيار غيره.
قال الدكتور : هذا الكلام غير مقنع وكاف ، وكل الشيعة يقولون بالظروف.
وفي هذه الأثناء دخل عينا الدكتور أبشر العوض ، وهو متخصِّص في علم الحديث ، وقد كان أستاذي في الجامعة في علم مصطلح الحديث ، فما إن رآني حتى سلَّم عليَّ ببشاشة ، وقال : أين هذه الغيبة الطويلة؟
وقبل أن أجيب تدخَّل الدكتور عمر قائلا : معتصم الآن صار من الشيعة الكبار ، وقد درس في الحوزة العلميّة ، وله كتاب اسمه « الحقيقة الضائعة ».
قال الدكتور أبشر : وما هي المواضيع التي تناقشها في هذا الكتاب؟
ص: 638
قلت : موضوعه هو الخلاف بين السنّة والشيعة ، وقد أثبتُّ فيه ممَّا لا يدع مجالا للشك أن الشيعة هي الطائفة المحقّة ، وغيرها باطل وضلال.
وهنا تدخَّل الدكتور عمر قائلا : أيّ فرقة في الشيعة تقصد؟ الزيديّة ، أم الإماميّة ، أم الإسماعيليّة؟ فالفرق الشيعيّة متعدِّدة ، فأيُّها الحقُّ؟
قال الشيخ معتصم : سماحة الدكتور! بغضّ النظر عن هذه التفاصيل ، فنحن الآن أمام إطار عام وعناوين مجرّدة ، وبعد تجاوزها يكون المجال مفتوحاً لمناقشة التفاصيل ، والإطار العام هو وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام والأخذ عنهم ، ويمكننا أن نثبت هذا الإطار بشتّى الطرق ، سواء كان قرآناً أو سنّة ، ويكفيك مفارقة واحدة بين السنّة والشيعة ، وهو أخذ الشيعة بحديث : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (1) ، وتمسّك أهل السنة بحديث « كتاب اللّه وسنّتي » وهذا الشاهد كاف في الحكم بأحقّيّة الشيعة ، وبطلان أهل السنّة في هذه الحيثيّة ، وهكذا يمكن أن نتدرَّج في بقيَّة المسائل.
وهنا واصل الدكتور عمر قائلا : إنّ حديث العترة نؤمن به ، ولكن لا نفهم منه ما فهمته الشيعة ، فإنّ الحديث يدلّ على التمسُّك بالقرآن فحسب.
قال الشيخ معتصم : قلت : سبحان اللّه! إنّ واو العطف في الحديث واضحة « كتاب اللّه وعترتي » هذا بالإضافة إلى قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الثقلين » ، « ما إن تمسَّكتم بهما ».
عارضني قائلا : ليس كل واو دالة على العطف ، فإن للواو معاني عدَّة ، ولقد
ص: 639
كتبت رسالة خاصة في هذا المورد.
قال الشيخ معتصم : لا خلاف في ذلك ، ولكن معنى كل حرف يعرف من خلال السياق العام للجملة ، فسياق الحديث واضح في العطف في قوله « الثقلين » ، و « ما إن تمسَّكتم بهما » كافية لإثبات المدّعى ، وهو وجوب اتباع أهل البيت علیهم السلام .
قال الدكتور : على العموم ، ليس لنا اعتراض على مذهب أهل البيت علیهم السلام ، ونحن نعتقد أنّه الحقُّ ، ولكنّه لم يتعيَّن لنا ، ولو تعيَّن لكنت أول الناس اتّباعاً له.
قال الشيخ معتصم : قلت : لماذا تتبعه؟
قال الدكتور : لأنّه الحقُّ.
قال الشيخ معتصم : قلت : وما عليه أنت الآن؟! فإذا كان مذهب أهل البيت علیهم السلام فقد تعيَّن لك ، وإن كان لا ، فإذن أنت على ضلالة ، بحكمك على نفسك.
قال : هذه سفسطة!
وفي هذه الأثناء استأذن الدكتور أبشر ، وأخذ يتحدَّث مع الدكتور عمر في موضوع جانبيٍّ ، فاستأذنته وخرجت ; لعلمي أنّه ليس هناك فائدة (1).
قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة : وأمَّا جنايات معاوية على ذلك الإمام
ص: 640
المطهَّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام ، فهو الذي باينه وحاربه ، وانتزع حقَّه الثابت له بالنصِّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام علیه السلام له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين. إلى أن قال :
فعهد إليه علیه السلام أن لا يسبَّ أباه علیه السلام على منابر المسلمين ، وقد سبَّه وجعله سنّة متبعة في الحواضر الإسلاميّة كلِّها ، وعهد إليه أن لا يتعرَّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتلهم تقتيلا ، واستقرأهم في البلاد تحت كل حجر ومدر ، فطنَّب عليهم الخوف في كل النواحي ، بحيث لو كان يقذف الشيعيُّ باليهوديَّة لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام اللّه عليه.أبي تراب سلام اللّه عليه.
وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده ...
ولمَّا تصالحا كتب به الحسن علیه السلام كتاباً لمعاوية صورته : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي علیهماالسلام معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب اللّه تعالى وسنَّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، إلى أن قال : وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد اللّه وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى باللّه
ص: 641
شهيداً (1).
فلمَّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنكم تصلُّون وتزكُّون وتحجُّون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ) : وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين (2) (3).
ص: 642
الأستاذة السيِّدة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة تحكي عبر هذا الحوار العلميِّ والموضوعيِّ والشيِّق مع خالها الشيعي قصة تشيُّعها وأخذها بمذهب أهل البيت علیهم السلام ، حاكية في بداية البحث ما انتابها من الهواجس والتفكير والحيرة في شأن التعرُّف على العقيدة الحقّة واتّخاذ القرار.
قالت في كتابها القيِّم ( من حقّي أن أكون شيعيّة ) : وفي غمرة تلك الهواجس التي تتزاحم على خاطري كان في بيتنا ازدحام من نوع آخر ، فقد بدأ الأهل بحزم أغراضهم بقصد السفر إلى قريتنا في شمال السودان ، فهناك مناسبة زواج ابن عمّي ، وفي تلك المناسبة تجتمع كل العائلة قادمة من كل مدن السودان ، فظروف العمل تفرّق البيت الواحد ، وتفصل الأحبّة عن الأحبّة ، خاصّة أن المسافات في السودان بين المدن كبيرة ، ويتعسّر على الأهل مقابلة بعضهم إلاَّ في بعض المناسبات.
ص: 643
ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في أعماقي ، وأزهرت الحياة من جديد في ناظري ، وفي طول الطريق لم أفكِّر إلاَّ في أخوالي وأعمامي وخالاتي وعمَّاتي ، لعلَّ بين أحضانهم الدافئة أطفي آلام الألم والشك والحيرة ، ولعلَّ ذكريات الطفولة بين بيوتات القرية االقديمة الواقعة بين ضفاف النيل وخضرة النخيل ، وبين السلسلة الجبليّة كأنه عقد التفَّ حول عنقها ليجعل منها عروساً للنيل ، أو يجعلها آية لسحر الطبيعة الفاتنة التي تجلَّى الباري في صنعها ، فلعل روحي تعشق جمال الخالق ، وتسرح به بعيداً فتنتابها جذبة صوفيٍّ تنكشف معه الحقيقة.
ثمَّ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وانكسرت تلك الريشة التي كادت أن ترسم لي عطلة بعيدة عن كل ما يهيج نفسي ، فصراع الأديان وصراع النفس مع الاختيار لم أكن أتوقَّع أن يلحقني في تلك القرية النائية ويطرق باب بيتنا ، ومن الطارق ياترى؟ شيء غير مألوف .. وشخص غير معروف .. من ..؟ الشيعة .. نحن في السودان ، ليس في النجف أو طهران ... أم مع تغيُّر الزمان تتغيَّر أيضاً البلدان؟
لا .. لم تتغيَّر البلدان ، والطارق من السودان ، فهو خالي ، ومجموعة أخرى من أقاربي ، فقد كان صادق إحساسي ، فالتغيُّر الذي لا حظته في خالي في سلوكه وكلامه لم يكن معهوداً ، فقد كان شابّاً عصريّاً منفتحاً على الحياة ، كل ما كان يشغله دراسته الجامعيّة ، فتبدّلت تلك الصورة بهذه الصورة ناسكاً عابداً ، لا يتحدَّث إلاَّ في أمر الدين.
فقلت : أصدقني القول يا خالي ، أهو الدين الذي غيَّر ذاك الحال؟
قال : الشيعة.
قلت : ماذا؟
ص: 644
قال : الشيعة.
نعم. الشيعة .. فكانت تلك الكلمات هي صوت دقَّات الباب.
استرسل خالي في الحديث مبِّيناً من هم الشيعة ، واضعاً إصبعه على أسس الخلاف بينهم وبين أهل السنّة ، ومدى أحقّيّتهم في هذا الخلاف ، فقد كنت لا أعرف عنهم إلاَّ أنهم هم الذين يدّعون بأن الرسول صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته لم يترك الأمر شورى ، وإنّما قام بتعيين الإمام علي علیه السلام الشرعي.
فقد أكَّد خالي أنّ الخلاف المذهبي هو خلاف في عمق آليات الفهم الدينيِّ ، ولذا كان إيمان الشيعة بأهل البيت علیهم السلام كمرجعيَّة معصومة لقطع الطريق أمام دواعي الخلاف الدينيِّ ، فالضرورة العقليّة قاضية بأن وحدة المرجعيَّة هي كفيلة بجمع الصفوف وحلِّ التباين ، فإذا كان اللّه حريصاً على هداية الناس - وهو كذلك - فقد أرسل الأنبياء والرسل وأيَّدهم بمعجزاته حرصاً على هداية الناس ، فلمَّا تجاهل هذه الحقيقة العقليَّة الحاكمة بضرورة وجود مرجعيَّة معصومة ، ألا يكون لنا حجَّة يوم القيامة إذا سألنا عن سبب تفرُّقنا إلى مذاهب ; بأن نقول : لم تجعل لنا علماً هادياً نقتدي به ونلجأ إليه ، كما كان يفعل الصحابة في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
فجوهر الخلاف بين السنّة والشيعة في هذه النقطة المحوريّة ، حيث يدّعي الشيعة أن حكمة اللّه تقتضي أن ينصب لنا اللّه إماماً من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله .
ألا تجدين في نفسك إن كان هناك - مثلا - عشرة أشخاص ينوون القيام بعمل ما ، فإن كان هناك قائد من بينهم يلجأون إليه ، ويأتمرون بأمره ، ألا يكفل
ص: 645
ذلك وحدتهم ، وجمع صفِّهم؟ أمَّا إذا كان كل واحد منهم يعمل برأيه فسوف ينقلب جميعهم إلى عشرة طرق ، كل فريق بما لديه فرح.
فنقطة بداية الخلاف بين السنّة والشيعة في هذا الأمر تمسُّك الشيعة بضرورة حكم العقل ، ولم يعترف السنّة بذلك الحكم.
ولا تعتقدي أن هذا الحكم العقليَّ بعيد عن الحكم الشرعيِّ ، فالقرآن قاض بهذا الحكم ، ألا يكفيك في هذا الأمر أن اللّه لم يوكل للبشر اختيار أنبيائهم ، بل هو الذي ينتجب ويصطفي من عباده ما يشاء ، فإن لم يكن للبشر خيرة في تنصيب من يخصّة اللّه بالنبوَّة والرسالة ، كذلك ليس لهم الخيرة في تعيين من يقوم بأمر دينه ، ألم يقل تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (1)؟ فالجاعل هو اللّه ، فهذه هي سنَّة اللّه ولن تجد لسنّته تحويلا.
ثم إنّ أساس الخلاف في هذه الأمَّة هو فيما بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فأهل السنّة والشيعة متفقون بشكل ما على الإيمان باللّه والرسول ، والخلاف كل الخلاف فيما بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وقد ذكرت لك أن الضرورة العقليَّة حاكمة في هذا الحال بأن يكون لنا إمام من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وقد حكم القرآن أيضاً بهذه الضرورة في قوله تعالى ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (2) ، فقد بيّنت هذه الآية ثلاثة محاور أساسيَّة وهي : اللّه ، والرسول صلی اللّه علیه و آله ، ووليُّ الأمر ، فلم تستثنِ هذه الآية موضوع الإمامة ، ممّا يعني أن الدين لا يكتمل إلاَّ بهذه المحاور الأساسيَّة ، وإذا تدبّرت في هذه الآية بشكل أعمق تكتشفين حقائق أكثر بعداً.
ص: 646
فإذا نظرنا إلى لفظة ( أَطِيعُواْ ) نجد أنها تكرَّرت في الآية مرَّتين ; المرَّة الأولى توجب الطاعة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) من غير لفظة ( طاعة ) جديدة ، ويتحقّق بذلك المعنى ، ولكن هذه دلالة على الفرق بين الطاعتين ، فطاعة اللّه عبادة ، وطاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله امتثال لأوامره ، هذا ما يقودنا إلى الاستفسار عن عدم تكرار لفظة الطاعة مرَّة ثالثة في أولى الأمر ، فلو استخدم القرآن لفظة ثالثة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( وأَطِيعُواْ ) أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) لدلّل على الفرق بين الطاعتين ، وحين لم يستخدم ذلك بل عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول علمنا أن طاعة أولي الأمر هي عين طاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهي طاعة على سبيل الجزم ، والحتم ، هذا ما يقودنا إلى حقيقة عميقة وهي عصمة أولي الأمر ، وإلاَّ كيف يأمرنا اللّه بالطاعة المطلقة لمن هو يرتكب المعاصي فيكون أمراً من اللّه بالمعصية التي نهى عنها ، فيجتمع بذلك الأمر والنهي في موضع واحد وهو محال؟
فتعيَّن بذلك عصمة أولي الأمر ، وبذلك يكون رسم اللّه لنا معياراً نتعرَّف به على ولاة أمورنا وهو العصمة ، وبهذا تسقط خلافة كل إمام ادّعى الخلافة وهو غير معصوم ، فالخلفاء الراشدون لم يدّعوا العصمة لأنفسهم فضلا على ادّعاء الآخرين ، فمن هذه النقطة الجوهرية انطلق الفهم الشيعيُّ يبحث عن ولاة الأمر الذين عصمهم اللّه من الخطأ ، ولم يجد الشيعة بنص القرآن غير أهل البيت علیهم السلام الذين طهّرهم اللّه من الرجس ، وقال تعالى في حقّهم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) (1) فقد حصر اللّه في هذه الآية أهل البيت علیهم السلام وخصّهم بالطهارة من كل
ص: 647
رجس ودنس ، أو بمعنى آخر عصمهم من الخطأ.
وبمعرفة المعصومين نكون قد عرفنا من هم أئمتنا ، وولاة أمورنا في تلك الآية ، فتكون الطاعة واجبة على كل مسلم لله تعالى وللرسول صلی اللّه علیه و آله ولأهل البيت علیهم السلام ، وبذلك رسم لنا القرآن طريقنا من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهو موالاة أهل البيت علیهم السلام ومودّتهم كما أمر اللّه بقوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، ومن هنا جاءت الأحاديث متواترة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله توجب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : إنّي تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إنّ العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض .. (2) فحصر هذا الحديث مسار الأمَّة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهو في اتّباع الكتاب والعترة ، فعندما رأى الشيعة هذه النصوص تشيَّعوا لأهل البيت علیهم السلام وتابعوهم ، فالتشيُّع يعني اتّباع أهل البيت علیهم السلام .
ولا تتصوَّري أن الفكر الشيعي وليد ذهنيّة ابتكرت فكرة الإمامة في ظروف تأريخيّة معيَّنة ، وإنّما هو امتداد طبيعيٌّ لحركة الرسالة الإسلاميَّة ، وقد كان الصحابة الذين يوالون الإمام عليّاً علیه السلام - أمثال : أبي ذر وسلمان والمقداد رضي اللّه تعالى عنهم - يسمُّونهم بشيعة عليٍّ علیه السلام ، كما أكَّد الرسول صلی اللّه علیه و آله هذا المفهوم ، وجذّر هذا المصطلح في عقليَّة الأمَّة الإسلاميَّة بمجموعة أحاديث بشّر بها شيعة عليٍّ علیه السلام بالفوز بالجنّة ، وأكَّدت أنّهم هم الفرقة الناجية ، كقول رسول
ص: 648
اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويدخل جنَّة عدن التي وعدني ربّي ، فليوال عليَّ بن أبي طالب من بعدي ، ويوال وليَّه ، ويقتدِ بأهل بيتي ، فإنّهم خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، ويل للقاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي (1) ، وقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : يا علي! أنت وشيعتك على منابر من نور ، مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة ، يا علي! أنت وشيعتك هم الفائزون (2).
وغيرها من الأحاديث التي رسمت للأمَّة طريقها.
فهذا هو التشيُّع باختصار ، وأنا أدعوك إلى التأمُّل فيما قلته لك ، ويكون الحوار بيننا ممتدّاً.
توقَّف الزمن أمامي وأنا أستمع إلى هذا الكلام .. ارتسمت على محيَّاي الدهشة .. وبدا عليَّ السّكون .. ولكنّه في الواقع هزّ نفسي بعنف ، وكأنّه اقترب بأنامله حول عنقي ليحبس بكلماته أنفاسي ، فهل سحب خالي بهذا الكلام البساط من تحت أقدام كلِّ المذاهب ... لكنّه بدأ من النقطة التي وقفت عندها في مفترق الطريق ، فلعله هو العابر الذي كنت أنتظره ليسلّي وحدتي ، ويربط على قلبي لكي أقتحم تلك الصفحات التي ختمت بحبر التقديس.
ولكن سرعان ما لملمت أشتات ذهني ، وحزمت أمر نفسي قائلة : لا
ص: 649
يمكن تجاوز كل ذلك الزخم الفكريّ في الموروث الإسلاميِّ ، وما أبدعت فيه عبقريَّات العقل المسلم بهذه الكلمات ، فالأمر موقوف على كثير من البحث والنقاش.
قاطعني قائلا : أنا لم أطلب منك تحديد موقف بهذا الكلام ، كما أنني لا أؤمن بسياسة التلقين وتمرير الأفكار ، فكل ما ذكرته توضيح عام ، وما زال البحث والنقاش بيننا.
قلت : الأمر بحاجة إلى تركيز أكثر ، وأنا لا أجد أنّ المكان مناسب في وسط هذه الضجّة وزغاريد الفرحة ، فمن المناسب أن ننتظر بعد أن تهدأ الأمور ، وأجد الفرصة الكافية لاستجماع نفسي لطرح الحوار نقطة بعد نقطة.
قال : لا بأس بهذا الاقتراح ، فأنا موجود متى طلبتِ منّي الحوار.
ودّعت خالي بعد تلك الجلسة العابرة ، ودخلت مع النساء في معمعة الزواج ، بين ضجيج النسوة ، وصراخ الأطفال ، ولكنّها لم تحجب عن سمعي تلك الكلمات التي سمعتها من خالي ، فما زالت تتردّد في أذني ، فعزمت على إعداد العدّة ، فلا يمكن الاستهانة بهذا الكلام ، كما لا يمكن الاستهانة بمقدرة خالي العلميَّة ، فقد أدهشني فعلا بتلك الكلمات التي كانت تنساب على لسانه من غير جهد وتكلُّف.
بعد الانتهاء من مراسيم الزواج وفي مساء يوم من الأيام دعوت خالي لإكمال الحوار ، وقد سجّلت مجموعة أدلّة تنقض ما قاله خالي ، فوافق بترحاب ، بشرط أن يكون النقاش مع مجموعة لتعمَّ الفائدة.
ص: 650
وفي جوٍّ من الهدوء والسكينة وتحت ضوء القمر اجتمعنا أنا وأخواتي وبنات خالتي ، وبدأ الحوار مع خالي ..
قلت : أولا ، وقبل كل شيء تعلم أن كل من لا يؤمن بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهو كافر ، والشيعة لا يؤمنون بذلك ، ويعتبرون أنّ الخليفة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله هو عليٌّ علیه السلام فحسب ، وفي هذا الكلام تجاوز على الخلفاء ، وكذبٌ وافتراء على اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وطعن في الصحابة ، وتسقيط لمكانة أبي بكر وعمر وعثمان.
خالي : لعلَّ اللّه منَّ عليَّ بكِ حتى أهتدي على يديكِ إن كنت ضالا ، فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وأيم اللّه لئن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك ممَّا طلعت الشمس عليه وغربت (1) ، وقال تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) (2).
فتعالي ، اكشفي لي المستور ، وأنيري دربي للحقيقة ، ولكن أرجو منك - يا بنت أختي - بأن تنتهجي طريق الحكمة والدليل ، فنحن قوم نميل مع الدليل أينما مال ، قال تعالى : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (3) ، وقال تعالى : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (4) وقال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : رحم اللّه امرأ سمع حكماً فوعى ، ودعي إلى رشاد فدنا ، وأخذ بحجزة هاد فنجا (5).
ص: 651
وعندها أطرقت رأسي خجلا ، وقلت : سامحني يا خالي ، ولكنَّ الحوار ليست فيه اعتبارات ، وأنت صادق فيما قلت ، وما عليك إلاَّ مواصلة النقاش ، وعليك ذكر دليل الشيعة على أن الإمام علياً علیه السلام قد نصّ عليه من قبل اللّه تعالى.
خالي : إذا كنت مديرة مدرسة أو شركة وطرأ عليك سفر ، فهل تغادرين هذه المدرسة أو تلك الشركة بدون تعيين أيِّ وكيل؟
قلت : طبعاً لا ، وليست هذه صفة أيِّ إداريٍّ عاقل.
خالي : إذن فهل خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هذه الدنيا بدون وضع أيِّ حلٍّ لأمّته؟ فهل كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجهل بما سيقع من بعده من حروب وفتن واختلافات؟ وهل يعقل أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - هذه الشخصيَّة العملاقة التي بنت أعظم حضارة في تأريخ الإنسانيَّة - يترك هذه الحضارة من غير تعيين من يرعى شؤونها؟
أو ليس من الواجب على الرسول صلی اللّه علیه و آله أن يكون حريصاً على العباد ، فيختار إليهم من يكون إمامهم في أمور الدين والشريعة؟ أو ليس هو القائل : ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلُّها في النار إلاّ واحدة (1).
حاشا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يترك أمَّته سدىً ، وهو العالم بما سيجري بعده ، وقد أثبت التاريخ أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان إذا أراد أن يخرج من المدينة إلى غزوة كان لا يخرج حتى يجعل خليفة ، وقد ذكر البخاري في صحيحه أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عندما خرج لغزوة تبوك خلَّف علي بن أبي طالب علیه السلام على المدينة ، وقال له : يا علي! ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ
ص: 652
بعدي (1) ، فيتضح من ذلك أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد وضع حلاًّ لأمّته .. أليس كذلك؟
قلت : أنا لا أعترض على شيء ممّا قلت ، فإن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يخرج من هذه الدنيا حتى وضع حلاًّ .. ولكن لا يعني هذا أن يكون الحلّ الذي وضعه هو النصّ على الإمامة.
خالي : إذن ما هو الحل؟
قلت : الحل هو الشورى بين المسلمين.
خالي : إذن خلاصة هذا الكلام أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعلم بما سيجري من بعده ، وأنه قد وضع حلاًّ لأمَّته .. ولكن اختلفنا في نوعيَّة ذلك الحل ، فأنتم تقولون : إن الحل الذي وضعه الرسول صلی اللّه علیه و آله هو الشورى بين المسلمين .. أمَّا الشيعة فقد ذهبت إلى أن الحلَّ هو النص والتعيين من قبل اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وقد أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أنّ الرسول عيّن من بعده علياً وأهل بيته علیهم السلام .
قلت : إنّ الأدلة على الشورى واضحة في آيات اللّه تعالى ، ولا أدري كيف تغافل عنها الشيعة ، فهل هناك نص أوضح من قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (2) ، وقوله : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (3)؟!
فإنّ الظاهر من هذه الآيات هو إعطاء الشرعيَّة للأمَّة في انتخاب خليفتها ، وليست لك حجّة ممّا ينتج من هذا الانتخاب من اختلاف ; لأنّ من ميزات
ص: 653
شريعتنا الغرّاء أنّ الاختلاف مسموح به ، بل هو رحمة كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اختلاف أمَّتي رحمة (1) ، هذه من أعظم القيم الإسلاميّة وهو إقرار مبدأ الديمقراطية.
كما أن الواقع العملي لسيرة المسلمين وخاصة سيرة السلف الصالح قد أجمعوا على هذا المبدأ ، وأنّ أول شورى حدثت في التاريخ أسفرت عن أعظم حضارة بقيادة الخلفاء كانت نتاج مبدأ الشورى ، وهذا ما أراده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو القائل : لا تجتمع أمَّتي على ضلال (2) ، وهذا للأمَّة فماذا يكون الحال إذا كان المجمعون هم الصحابة الذين زكَّاهم اللّه عزّوجل ومدحهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلم تكن - يا خالي - خلافة أبي بكر خارجة عن الدين ، بل هي الدين بعينه.
ص: 654
وإذا كنت في شك ممَّا قلت لك تكون قد خالفت أهل البيت علیهم السلام الذين تدّعون التمسُّك بهم ; لأنّ علي بن أبي طالب علیه السلام بنفسه بايع أبا بكر ولم يخالفه ، وإذا كانت الخلافة له لم سكت وبايع أبا بكر ، وكان على الأقل احتجّ عليهم وذكَّرهم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد نصَّ عليه ، ولكن حدث عكس ذلك ، فقد أقرَّ عليٌّ علیه السلام مبدأ الشورى كما جاء في هذا النص - كتبته من كتاب يرجعه إلى نهج البلاغة - : وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منهم ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين (1) ، ولعلّ عليّاً علیه السلام كان يدري أنَّ أناساً يأتون من بعده يدّعون أن الإمامة حقٌّ له دون غيره ، ولذلك سطَّر هذه الكلمات حتى تكون حجّة عليهم مدى الدهر.
هذا من جهة عليٍّ علیه السلام ، أمَّا من جهة الصحابة فالأمر أوضح ، لأنهم لم يبايعوا علياً ، ولو كان هناك نص عليه لم يتخذوا دونه بدلا ، ولا يمكن أن يقبل أن كل الصحابة قد تواطؤا على عليٍّ ، وهم الذين مدحهم اللّه في كتابه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) (2) ، وكما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم (3) (4).
ص: 655
فإذا كان الصحابة لم يبايعوا عليّاً فهذا دليل قويٌّ على أنَّه لا يوجد أيُّ نص ; إذ لو كان هناك ثمَّة نصٌّ لالتزم به الصحابة الكرام.
ثمَّ باللّه عليك ، إذا كانت الإمامة نصّاً إلهيّاً ، وهي بهذه الدرجة من الخطورة كما تدّعون وتطبِّلون على ذلك ، لماذا لم تذكر في القرآن الكريم؟ لماذا لم يذكر اسم عليٍّ علیه السلام كما ذكر اسم محمّد صلی اللّه علیه و آله ، بل لم يترك حتى إشارة واضحة محكمة في ذلك الخصوص؟
فهذا يدلُّ على أنّ القضيَّة هي قضيّة شورى بين المسلمين ، وليست القضيّة نصاً كما تدّعي وتذهب.
وإن تنازلنا وسلّمنا للشيعة أنّ الخليفة لابد أن يكون منصوصاً عليه فحينها تكون الكفّة مع أبي بكر الصديق.
ص: 656
خالي متعجِّباً : ... أبو بكر؟
قلت : أجل ، الصدّيق ..
خالي : نوِّرينا ، كيف ذلك؟؟
قلت : عن عليٍّ علیه السلام قال : دخلنا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلنا : يا رسول اللّه! استخلف علينا ، قال : إن يعلم اللّه فيكم خيراً يولِّ عليكم خيركم ، فقال علي ( رضي اللّه عنه ) : فعلم اللّه فينا خيراً فولَّى علينا خيرنا أبا بكر (1).
وعن عليِّ بن أبي طالب علیه السلام أيضاً : أتت امرأة إلى النبيِّ صلی اللّه علیه و آله فأمر أن ترجع إليه ، فقالت : إن جئت ولم أجدك ; كأنها تقول الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (2).
وعن ابن عمر قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة ; أبو بكر لا يلبث إلاَّ قليلا .. (3).
وعن حذيفة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اقتدوا بالذين بعدي ; أبي بكر وعمر (4).
هذا بالإضافة إلى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
ص: 657
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، فإن هذه الآية نازلة في حق أبي بكر الصدّيق ، فكانت النتيجة طبيعيَّة أن يعيِّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا بكر كما عيّنه إماماً ليصلّي بالمسلمين.
خالي : انتهيت؟
قلت : أجل ، وهل بعد هذا الكلام من زيادة ، وابتسمت قائلةً : قطعت جهيزة قول كل خطيب ، ولو كان للشيعة ربع هذه الأدلة لقلنا إنهم تأوّلوا ، ولوجدنا لهم عذراً.
خالي : هوِّني عليك يا بنت أختي ، زادني اللّه وإياك بصيرة في الحق .. وهدانا اللّه إلى طريق الهدى والصراط المستقيم.
حججك - يا عزيزتي - قويّة ومنطقيّة ، ولكن عندي عدّة أسئلة وبعض الشبهات حول ذلك ، فإن أجبت عنها كان الصواب معك.
قلت بوجه مستبشر وبلهفة : تفضَّل .. تفضَّل.
خالي : ذكرت أنّ الحل والمنهجيّة التي وضعها الرسول صلی اللّه علیه و آله لأمَّته بعد وفاته هي الشورى بين المسلمين ، واستدليت بالآيتين المباركتين : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (2) ، ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (3).
قلت : أجل ، هو ذلك.
ص: 658
خالي : حسناً! من هو المخاطب بقوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (1)؟
قلت : المخاطب هو الرسول صلی اللّه علیه و آله .
خالي : إذن فالخطاب في الآية متوجِّهٌ إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، أليس كذلك؟
قلت وبعد ثوان من الصمت : لم أفهم ذلك.
خالي : بما أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله كان هو الحاكم الشرعي ، وخطاب الآية متوجّهٌ له ، فلا يمكن أن تكون الآية مؤسِّسة لنظريَّة الحكم ، وإلاّ يكون في الأمر خلف وتحصيل حاصل ; لأنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله هو الحاكم حين ذاك ، فكيف تكون الشورى لتنصيب الحاكم والحاكم موجود؟! فأقصى ما نفهمه من الآية أنّ من وظائف الحاكم الشرعيِّ هو الشورى مع رعيّته ، هذا ما أكَّده أميرالمؤمنين علیه السلام : من استبدّ برأيه هلك ، ومن شاور الرجال في أمورها شاركها في عقولها (2) ، هذا أوَّلا.
وثانياً : إنّ مشورة الحاكم للرعيَّة ليست على وجه الإلزام ; أي ليس واجباً على الحاكم الأخذ برأيهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (3) ، فالأمر أوَّلا وأخيراً منوط بالحاكم.
هذه هي الشورى الشرعيَّة التي أمر بها الإسلام ، وهي لا تنعقد إلاّ بوجود
ص: 659
الحاكم والقيّم على الشورى ، فأركان الشورى في الإسلام ، أوَّلا : المتشاورون ، وهذا من قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ ) ، وثانياً : موضوع للشورى ، والدليل عليه : ( فِي الأَمْرِ ) .
وثالثاً : وليٌّ وقيّم على الشورى ، حيث ترجع إليه الآراء ، وهو الذي يحكم فيها : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ، فبهذا لا يمكن أن تنعقد الشورى بكيفيَّتها الإسلاميَّة إلاّ بحاكم ، وأنتم تزعمون أنّ الحاكم لا يأتي إلاَّ عن طريق الشورى ، وهذا دور ، والدور باطل كما تعلم ، أي - بمعنى آخر - إن الحاكم لا يأتي إلاّ بالشورى ، والشورى لا تقوم إلاَّ بالحاكم ، فإذا حذفنا المتكرِّر تكون المحصَّلة : الحاكم لا يقوم إلاَّ بالحاكم ، أو الشورى لا تقوم إلاّ بالشورى ، وهذا باطل بإجماع العقلاء ، فتكون الآية خارجة عن موضوع تعيين الحاكم ، ولأجل ذلك لم نر أحداً من [ أهل ] السقيفة احتجّ بهذه الآية.
فالمتعمعِّن في الآية يتضح له أنّ الأمر بالمشاورة كان بقصد الملاينة معهم والرحمة بهم ، ومن سبل الترابط الذي يجمع بين القائد وأمَّته ، قال تعالى : ( فَبِما رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ ) (1).
أمَّا قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (2) فالكلام فيها بنفس ما تقدَّم ; لأن الخطاب كان شاملا للرسول صلی اللّه علیه و آله أيضاً ، فمن الممنوع عقلا وشرعاً أن يعقد الصحابة مشورة من دون الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو بينهم ، فإذا
ص: 660
تحتّم دخول الرسول معهم - وهو الحاكم المطاع - فتخرج الشورى حينها عن موضوع تعيين الحاكم كما تقدَّم في الآية الأولى ، فتكون الآية حثَّت على الشورى فيما يمتُّ إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمرهم.
أمَّا كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهذا هو أوَّل الكلام ، وعلى أقل تقدير إذ لا ندري هل أن أمر الإمام هو من شؤون المؤمنين أم من شؤون اللّه سبحانه ، ومع هذا الترديد لا يصحُّ التمسُّك بالآية.
فهذه الآيات التي ذكرتيها لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور بين المؤمنين في أمورهم ، كما أن التشاور لا يمكن أن يكون في القضايا التي ورد فيها تحديد شرعيٌّ ، فليس لأحد صلاحيَّة في قبالة تشريعات اللّه ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) ، وقال : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ) (2).
... فالآيتان أجنبيَّتان تماماً عن موضوع القيادة ، وبالتالي دليلك هذا ساقط ، ولا ينهض بأيِّ حال من الأحوال لإثبات المدَّعى .. أليس كذلك؟!
قلت : هذا الكلام يبدو في ظاهره وجيهاً ، مع أنّه يشوبه نوع من الغرابة ، فلم أسمع من قبل بمثل هذا الاستدلال ، ولكن كل ما أفهمه أنّ اختلاف أمَّة محمّد صلی اللّه علیه و آله رحمة.
ص: 661
عذراً يا عزيزتي! إنّ الحديث الذي ذكرتيه ليس بهذا الفهم ، والوارد في تفسيره عند أهل البيت علیهم السلام - كما جاء في كتاب اسمه علل الشرائع - أنه قيل للإمام الصادق علیه السلام : إن قوماً يروون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : اختلاف أمَّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقيل : إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال علیه السلام : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول اللّه عزَّ وجلَّ : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) واختلاف أهل البلدان إلى نبيِّهم صلی اللّه علیه و آله ثمَّ من عنده إلى بلادهم رحمة .. فالاختلاف في البلدان لا في الدين ، لأن الدين واحد (2).
وهذا ما تؤكِّده كتب اللغة ، فقد جاء في المنجد : اختلف إلى المكان : تردّد ; أي جاء المرَّة بعد الأخرى ، وهذا ما يقبله العقل والشرع ، قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (3) ، وقوله تعالى : ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (4) ، وقال : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (5) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (6).
ص: 662
قلت : حسناً يا خالي! إذاً أنتم الشيعة الإماميّة لا تعترفون بمبدأ الشورى في الفكر الإسلاميِّ ، وإذا كان الأمر كذلك فلم المصلحون والمجدِّدون يقولون : إن بنيان الحكم في الإسلام مبنيٌّ على أسس الديمقراطيَّة ، وحريَّة الرأي والتعبير ، ولم يكن ذلك من فراغ ، وإنما استناداً للطريق الذي شرَّعه الإسلام لانتخاب الحاكم بالشورى والاختيار الحرِّ ، وهذا ما أجمع عليه كل العقلاء ، مسلمون وغير مسلمين؟
خالي : أوَّلا : إنّ الديمقراطية بصورتها الحاليَّة لم تكن هي المبدأ الذي اتفق عليه كل العقلاء.
وثانياً : إنّ الديمقراطيَّة بالفهم الإسلاميِّ هي رقابة مشتركة بين الحاكم والرعيَّة من أجل تطبيق قيم ومبادئ سامية ، وليست هي الفوضى التي تنتج من الاتباع المطلق لرغبات الشعب ، وإنما هي مساعي مشتركة بين الحاكم والرعيَّة لتطبيق شرع اللّه.
ثالثاً : إنّ الديمقراطية يمكن أن تقبل في إطار خاص وليس مطلقاً ، أي في الأمور التي تعتبر من اختصاصات البشر ، لا في الأمور التي هي من شأن اللّه سبحانه وتعالى ، فالحاكميَّة الحقيقيَّة لله تعالى ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) ، واللّه هو الخالق ، والخالق مالك ، والمالك هو الحاكم ، ولا يجوز للمملوك أن يتصرَّف في حقِّ المالك إلاّ بإذن المالك ، وقد جرت سنّة اللّه سبحانه وتعالى باصطفاء الخلفاء
ص: 663
والحكّام الذين يمثلِّون حكومته في الأرض ، قال تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2) وقال : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وهذا غير الآيات التي تحدَّثت عن اصطفاء اللّه للخلفاء ، فأمر الحكم هو من اختصاص اللّه عزّ وجلَّ ، فلا تجري فيه الديمقراطيَّة.
رابعاً : ولو سلّمنا جدلا أنّ الديمقراطيَّة يمكن أن تكون طريقاً لاختيار الحاكم ، لكنّها لا تفيد مع ذلك المجتمع الجاهلي الذي لم يعرف في طول تأريخه معنى الشورى ، فإنّ الأنظمة التي كانت سائدة هي الأنظمة القبليّة ، والتقسيمات العشائريّة ، التي لا تعترف إلاَّ بقانون القوَّة.
قلت : لكنَّ النبيَّ صلی اللّه علیه و آله سعى سعياً حثيثاً لمحو الروح القبليّة ، وإذابة الفوارق العشائريّة ، وجمع ذلك الشتات في بوتقة الإيمان الموحّد.
خالي : نعم هذا صحيح ، ولكن ليس من الممكن أن ينقلب النظام القبلي في مدّة ثلاثة وعشرين عاماً إلى نظام موحَّد إسلاميٍّ ، فقد كان لا يرى إلاّ الانتساب إلى القبليَّة فخراً له ، والأدلة على ذلك كثيرة ، فقد نقل البخاري في صحيحه : ( تنازع مهاجريٌّ مع أنصاريٍّ ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار! وصرخ المهاجري : يا معشر المهاجرين! ولمَّا سمع النبيُّ صلی اللّه علیه و آله قال : دعوها فإنّها
ص: 664
منتنة (1).
ولولا قيادته الحكيمة صلی اللّه علیه و آله لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ، وكم حدثت أمثال تلك الحوادث ، حتى قال فيهم النبي صلی اللّه علیه و آله : يا معشر المسلمين! أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم (2) وحتّى تتأكَّد ممَّا قلته لك ارجع إلى أيِّ كتاب في التأريخ ، لترى الصورة الحقيقيَّة للمجتمع الأول ، ولا تفهم من ذلك أنّي أشكِّك في مجتمع الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وكل ما أقصده أنّ النظرة المثاليّة ليست واقعيّة.
قلت : ليس كلّ ما جاء في كتب التأريخ حقيقة.
خالي : عفواً! لا تعتمدي على الكلمات المطلقة ، ليس كل ما في التأريخ حقيقة ، هذا الكلام عليك وليس معك ; لأنّ السلف الذين تدافعين عنهم أنتِ لم تعيشىِّ معهم ، وكل ما تعرفينه عنهم هو عبر التأريخ ، هذا أوَّلا.
وثانياً : إنّ هنالك روايات في الصحاح التي تعترفون بصحّتها تكشف أن المجتمع الأول لم يكن مثاليّاً كما تتخيَّلين ، وإليك هذه الحادثة التي جاءت في صحيح البخاري في قصة الإفك كمثال وليس حصراً :
قال النبي صلی اللّه علیه و آله وهو على المنبر : يا معشر المسلمين! من يعذرني في رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلاَّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلاَّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاَّ معي.
قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال : أنا - يا
ص: 665
رسول اللّه - أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.
قالت عائشة : فقام رجل من الخزرج ، وهو سعد بن عبادة ، وهو سيِّد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن احتملته الحميَّة ، فقال سعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
فقال أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه ، لتقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت عائشة : فصار الحيَّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائم على المنبر ، ولم يزل رسول اللّه يخفضهم ( أي يهدِّئهم ) حتى سكتوا (1).
فعليك أن تتدبَّر ، هذا هو الحال ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينهم ، فكيف الحال بعد وفاته؟!
واسمحي لىِّ أن أتجاسر قليلا وأقول لك : إنّ فرض الديمقراطية في مثل هذا المجتمع هرطقة فاضحة.
وذلك لأنَّ العمليّات الانتخابيّة التي يفترض إجراؤها تحت مظلّة الديمقراطيَّة تستلزم وعياً ، ونظراً للمصالح والمفاسد ، وتقويماً للطرق السليمة التي تفيد المجتمع في ارتقائه وتكامله ، وتجربة في الحياة السياسيّة ، وهذا كلُّه يستدعي أرضيَّة ثقافيَّة وفكريَّة نشطة لدى أبناء الشعب ، وفي غير تلك الصورة
ص: 666
يكون فرض الديمقراطيَّة ضرباً من اللاواقعيَّة.
قلت : بقدر ما أنك تجد شواهد على بدويَّة ذلك المجتمع ، فإنّ الشواهد على وجود نماذج طيِّبة كثيرة جداً في التأريخ ، وليس من الإنصاف أن تتمسَّك بالشواهد السلبيَّة دون الإيجابيَّة ، فمجرَّد وجود تلك النماذج الإيجابيَّة كاف لصيرورة نظام الشورى.
خالي : أنا لا أنكر تلك النماذج الإيجابيَّة ، بل أفتخر بها ، ولكن ليس هذا مربط الفرس ، فإن القضيَّة تدور مدار الشرعيَّة للشورى ، والمدَّعى قائم على نفي الشرعيَّة عنها ; إذ لا يعقل أن تكون الشورى هي الطريق الذي حدَّده الشرع ، في حين أنه لا توجد رواية واحدة عن الرسول صلی اللّه علیه و آله يتحدَّث فيها عن الشورى ، وهذا خلاف المفترض ، حيث كان من اللازم أن يبيّن الرسول صلی اللّه علیه و آله كيفيَّة الشورى وحدودها وآلياتها ، في حين أنّ الأحاديث التي تتحدَّث عن السواك وفوائده لا تقلُّ عن الخمسة والثلاثين حديثاً.
قلت : في كلامك نسبة كبيرة من الوجاهة ، وقد يصل إلى حدِّ الإقناع لو لا أنه معارض بإجماع الصحابة الذين استقرَّ رأيهم على خلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، وقد أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا الإجماع الشرعيَّة بقوله صلی اللّه علیه و آله : لا تجتمع أمَّتي على الخطأ (1).
خالي : بغضّ النّظر عن الكلام حول حجّيّة الإجماع والنقاش الدائر حوله ،
ص: 667
فإن إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر لا يخلو من إشكال ; لأنّ القدر المتيقّن من حجّيّة الإجماع هو الإجماع غير المخروق ; أي الإجماع الذي لم يخالفه مخالف ، وهذا غير متحقّق.
قلت : إنّ الإجماع ينعقد برؤوس القوم وزعمائهم ، وهذا متحقِّق ، ولا عبرة بغيرهم.
خالي : إنّ الذين تخلَّفوا عن بيعة أبي بكر لم يكونوا من صغار القوم كما زعمت ، بل هم أعاظم الصحابة (1) ، وإليك منهم على سبيل المثال لا الحصر :
__________________
1 - قال اليعقوبي في تأريخه : 2 / 124 في الأحداث التي جرت بعدما بويع لأبي بكر : وجاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم وقال : يا معشر بني هاشم! بويع أبو بكر ، فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمّد ، فقال العباس : فعلوها وربِّ الكعبة.
وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في عليٍّ ، فلمَّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس - وكان لسان قريش - فقال : يا معشر قريش! إنه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال :
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أوَّل الناس إيماناً وسابقة *** وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً بالنبيِّ ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به *** وليس في القوم ما فيه من الحسن
وتخلَّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد ابن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب.
فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم ، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا ، فحمد أبو بكر اللّه وأثنى عليه ، إلى أن قال :
فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً ، فوليت ذلك .. ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عمَّ رسول اللّه .. وقال عمر بن الخطاب : إي واللّه ، وأخرى أنا لم نأتكم لحاجة إليكم ، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم.
فردَّ عليه العباس، فكان من كلامه له : فإن كنت برسول اللّه فحقاً أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، فما تقدمنا في أمرك ، ولا حللنا وسطاً ، ولا برحنا سخطاً ، وإن كان هذا الأمر إنَّما وجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين ، إلى أن قال : فأمَّا ما قلت إنّك تجعله لي ، فإن كان حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض ، وعلى رسلك ، فإن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها ، فخرجوا من عنده.
ص: 668
فروة بن عمرو ، وهو ممّن تخلّف عن بيعة أبي بكر ، وكان ممّن جاهد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان يتصدّق من نخله بألف ساق كل عام ، وكان سيِّداً ، وهو من أصحاب علي ، وممّن شهد معه يوم الجمل .. (1) ، وجاء في أسد الغابة : شهد العقبة وبدراً وما بعدهما (2).
وممّن تخلّف أيضاً خالد بن سعيد الأموي ، وهو ممَّن أسلم قديماً فكان ثالثاً أو رابعاً ، وقيل : خامس من أسلم ، وقال ابن قتيبة في المعارف : أسلم قبل إسلام أبي بكر (3) .. وسعد بن عبادة ، وحذيفة بن اليمان ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو بريدة الأسلمي ، وسهل بن حنيف ، وقيس بن سعد ، وأبو أيوب الأنصاري ، وجابر بن عبداللّه .. وغيرهم ، وكل هؤلاء من الصحابة العظماء كما تعلم ، هذا بالإضافة إلى أبي ذر وسلمان والزبير وأبيّ بن كعب والمقداد بن الأسود (4).
ص: 669
بيعة علي علیه السلام لأبي بكر قلت : كلامك مقنع ، وقد تفاجأت فعلا بهذه الأسماء ، ولكنه معارض بمبايعة علي علیه السلام لأبي بكر ، وهذا كاف ; لأنه مدار الخلاف.
خالي : لم تكن مبايعة علي علیه السلام لأبي بكر متفق عليها ، فقد تواتر في كتب التأريخ والصحاح والمسانيد تخلُّف علي علیه السلام ومن معه عن بيعة أبي بكر ، وتحصُّنهم بدار فاطمة علیهاالسلام (1).
ومن ذلك ما رواه البلاذري ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي علیه السلام حين قعد عن بيعته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمَّا أتاه جرى بينهم كلام ، فقال عليٌّ علیه السلام لعمر : احلب حلباً لك شطره ، واللّه ما حرصك على إمارته
ص: 670
اليوم إلاَّ ليؤثرك غداً (1).
لذلك قال أبو بكر في مرض موته : أما إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاَّ على ثلاث فعلتهن وددت أنّي تركتهن ، إلى قوله : فأمّا الثالثة التي فعلتها فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد أغلقوه على حرب (2).
وقد ذكر المؤرِّخون ممَّن دخل في دار فاطمة علیهاالسلام :
1 - عمر بن الخطاب.
2 - خالد بن الوليد.
3 - عبدالرحمن بن عوف.
4 - ثابت بن قيس.
5 - زياد بن لبيد.
6 - محمّد بن مسلمة.
7 - زيد بن ثابت.
8 - سلمة بن أسلم.
9 - أسيد بن حضير.
وقد ذكروا في كيفيَّة كشف بيت فاطمة علیهاالسلام أنه : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر ، منهم علي بن أبي طالب علیه السلام والزبير ، فدخلا بيت
ص: 671
فاطمة علیهاالسلام ومعهما السلاح .. (1).
وذكر المؤرِّخون أيضاً : قد بلغ أبا بكر وعمر أنّ جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليّاً علیه السلام ، فبعث إليهم أبو بكر عمر ليخرجهم من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم.
فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يا بن الخطاب! أجئت لتحرق دارنا؟!
قال عمر : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمَّة (2).
وفي أنساب الأشراف : فتلقّته فاطمة علیهاالسلام على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب! أتراك محرِّقاً عليَّ بابي؟! قال عمر : نعم (3).
وعلى ذلك أنشد حافظ إبراهيم شاعر النيل قائلا :
وقولة لعليٍّ قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرَّقتُ دارك لا أبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها *** أمام فارس عدنان وحاميها (4)
قلت وأنا مندهشة : لم أسمع بهذا من قبل ، فهل يمكن أن تنقلب الأمَّة حتى على بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن - يا خالي - إذا تجاوزت هذه الحادثة - مع أنه ممّا لا يمكن تجاوزه ، وإنّما لفتح الباب أمام الحوار - وسلَّمتُ بما حدث ، فإنه لا
ص: 672
يتجاوز أن يكون موقفاً مخالفاً لموقف الصحابة الذين اجتمعوا في السقيفة ، وارتأوا الشورى حلاًّ ، وهذا ليس كافياً لسلب صحّة الشورى ، وأهل السنّة على هذا الرأي.
خالي : إن الكلام كان عن الإجماع ، وما ذكرته لك كاف لإبطاله ، هذا أوَّلا.
وثانياً : إنّ الشورى بما هي شورى ليست حجّةً وغير ملزمة ، كما أثبتنا ذلك في أول الكلام.
وثالثاً : إن الشورى لم تكن موجودة على المستوى العملي : فإنّ مجريات الأحداث لا توحي بوجود شورى.
وإليك ما جاء في السقيفة من رواية عمر بن الخطاب ، قال : إنّه كان من خبرنا حين توفِّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا عليٌّ علیه السلام والزبير ومن معهما ، فقلتُ لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار ، فانطلقنا حتى أتيناهم ، فإذا رجل مزمّل ، فقالوا : هذا سعد بن عبادة يوعك .. فلمَّا جلسنا قليلا تشهّد خطيبهم فأثنى على اللّه ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فنحن أنصار اللّه وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ..
فأراد عمر أن يتكلَّم عند ما سمع خطيب سعد بن عبادة ، لكنَّ أبا بكر منعه ، فتكلَّم هو ، يقول عمر : واللّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاَّ قال في بديهته مثلها أو أفضل ، حيث قال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يصرف عنكم هذا الأمر لهذا الحيِّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ; أي عمر وأبي عبيدة ، فبايعوا أيَّهما شئتم.
ص: 673
وأخذ أبو بكر بيد عمر وبيد أبي عبيدة ، فقال قائلٌ من الأنصار : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجَّب .. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ..
فكثر اللغط وارتفعت الأصوات.
فخاف عمر من الاختلاف ، فقال لأبي بكر : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون ، ثمَّ بايعته الأنصار (1) ، وهذا مختصر ما جرى في السقيفة (2).
والأمر الأهمُّ من ذلك أنّ علياً علیه السلام لم يكن طرفاً في قبالة أهل الشورى كما زعمتِ ; لأنّ علياً علیه السلام ركن الحق والحقيقة ، والحق يدور معه حيثما دار.
قلت : ولماذا الحق يدور مع علي حيثما دار؟ هذا الكلام في غاية التهافت ، ولا يمكن أن يقبله جاهل فضلا عن عالم ، كيف يدور الحق مدار إنسان ، فإذا قبل هذا الكلام يمكن أن يقبل للرسل الذين عصمهم اللّه ، أمَّا في غيرهم فمخالف للشرع ، كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون (3) ،
ص: 674
وهذا من المسلّمات العقليَّة قبل الشرعيّة ، فإنّ العقلاء يجوِّزون الخطأ حتى على الرجال الذين بلغوا مستوى من الكمال البشرى.
خالي : أولا : يا عزيزتي! إنّ هذا الكلام ليس متهافتاً كما تفضّلت ; لأن العقل لا يمانع أن يكون الحق يدور مدار إنسان ، بل حتى الإمكان العلمي والعملي لا يخالف ذلك ، أمَّا على المستوى العقلي فإن العقل لا يحكم باستحالة شيء إلاَّ إذا رجع لمبدأ التناقض ، وهذه منتفية بالضرورة ، وأمَّا على المستوى العلمي فالعلم يقول إنّ في الإنسان قوَّة عقليَّة تدلّه للصواب ، وغرائز وشهوات تجرُّه للخطأ ، فإذا غلّب الإنسان قوَّته العقليَّة لا يمكن أن يرتكب الخطأ ، وأمَّا من الناحية العمليَّة يكفيك الأنبياء والرسل ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) ، فليس في الأمر تهافت.
وثانياً : إنّ هذا الكلام لا يخالف الشرع كما تفضَّلت ، قال تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ) (1) فإنّ اللّه يحاسب الإنسان على مثقال ذرة - وهي أصغر ما يمكن أن يعبَّر بها - من الشرّ ، فإذا كان الإنسان ليس قادراً على أن لا يرتكب مثقال ذرَّه فلماذا يحاسبه اللّه؟ قال تعالى : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وسَعَها ) (2).
فمعنى ذلك أن عدم ارتكاب الذرّة من الخطأ هي من سعة الإنسان واستطاعته ، وهذا دليل على أن كل إنسان يمكن أن يكون معصوماً ، وإذا سلَّمت بذلك كما هو واضح ، فهل ياترى لم يتحقَّق ذلك أبداً في طول التأريخ الإسلامي؟
ص: 675
وهو بالتأكيد تحقَّق ; لأن اللّه لم يضع هذا الأمر عبثاً ، وإنما واقعاً ; لأن هذه الآية ليست مثاليَّة ، وإنما لها نماذج واقعيَّة تكون حجَّة على البشر ، فهل ياترى هنالك نموذج يكون مصداقاً لهذه الآية غير علي بن أبي طالب علیه السلام الذي اتّفق على فضله جميع المسلمين؟!
وثالثاً قال تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) ، جاء في تفسير الرازي لهذه الآية أنّ اللّه أوجب طاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وكل من يأمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم لابدَّ أن يكون معصوماً ، وإلاَّ يجتمع الأمر والنهي في موضع واحد ، وهذا محال.
وبتقرير آخر : إنّ اللّه أمر بالطاعة المطلقة لأولي الأمر من غير تخصيص ، فإذا كان يتصوَّر منهم الخطأ فإننا بطريقة غير مباشرة نرتكب الخطأ ، فنكون أمرنا بارتكاب الخطأ ، وقد نهانا اللّه عنه ، فيكون بذلك اجتمع الأمر والنهي في موضع واحد ، وهذا محال ، فإذاً لابد أن يكون أولو الأمر معصومين ، فياترى من هم المعصومون الذين أمرنا اللّه بطاعتهم؟
قلت لكي أقطع عليه الطريق : ... الرسول صلی اللّه علیه و آله طبعاً.
خالي مبتسماً : مهلا يا بنة أختي ، لا تتعجَّلي ..
قلت : نعم ، نعم أنا آسفة .. واصل كلامك.
خالي : والإجابة على ذلك هو قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) إنّ في هذه الآية تأكيداً من اللّه عزّوجلَّ
ص: 676
على تطهير أهل البيت علیهم السلام من الرجس ، وهو كل ذنب صغيراً كان أم كبيراً ، وهذه هي العصمة بعينها ، فيكون معنى الآية : أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأهل البيت علیهم السلام ، وقد ذكرت لك ذلك من قبل ولكن لتأكيد الفائدة وتعميمها.
رابعاً : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع الحق والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (1) ، وقال صلی اللّه علیه و آله مشيراً إلى علي علیه السلام : الحق مع ذا ، الحق مع ذا .. (2) ، وقد روى الترمذي في فضائل علي علیه السلام ، والحاكم أيضاً في فضائله من المستدرك ، ونقل هذا الحديث أيضاً في الصواعق في الفصل الخامس في الباب الأول ، وعن الذهبي أنه صحّح طرقاً كثيرة لدعاء النبيِّ صلی اللّه علیه و آله لعليٍّ علیه السلام في غدير خم المشتمل على قوله : وأدر الحقَّ معه حيث دار.
وحكى ابن أبي الحديد قول الشيخ أبي القاسم البلخي وتلامذته لو نازع عليٌّ علیه السلام عقيب وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله وسلَّ سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدَّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ... إلى أن قال : وحكمه حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ; لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع الحق والحق مع عليٍّ يدور حيثما دار (3).
وجاء في كنز العمال : الحقُّ مع ذا ، الحقُّ مع ذا (4) ، وروى أيضاً : يا عمار! إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع عليٍّ ودع
ص: 677
الناس ، فإنه لن يدلَّك على ردى ، ولن يخرجك من الهدى (1).
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى إننا إذا تنازلنا عن كل ما قلناه في علي علیه السلام ، ونظرنا إلى الشورى والإجماع الذي تحتجّين به ، فهنالك عدّة إشكاليّات على أهل السقيفة ، وهي تتمثَّل في الريبة التي تلفُّ زمان السقيفة ومكانها ، حيث السقيفة لم تكن هي المكان الذي يصلح لا نعقاد مثل هذا الأمر الهامّ جداً ، وكان من الممكن أن ينعقد في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وثانياً الزمان الذي انعقدت فيه الشورى ; فإنه لا يخلو من خبث واضح ، فإن الرسول صلی اللّه علیه و آله ما زال مسجّى لم يدفن بعد ، فأيُّ مسلم له غيرة على الإسلام يقبل ذلك؟
والإشكال الآخر : إذا سلّمنا أنّ للإجماع حجّة فإن هذا الإجماع لم ينعقد ; لعدم حضور كل الصحابة ، وعلى الأقل أهل المدينة ، وكان فيهم كبار الصحابة ، ثم إن الطريقة التي جرت بها الشورى خالية حتى من أبسط الأخلاقيَّات ; لشدَّة المهاترات التي جرت بينهم ، كقول عمر لسعد عندما اجتمع الناس لمبايعة أبي بكر ، وكادوا يطؤون سعد بن عبادة ، فقال أناس من أصحاب سعد : اتّقوا سعداً لا تطؤوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله اللّه ، إنه صاحب فتنة ، ثمَّ قام على رأس سعد وقال له : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك ، فأقبل عليه قيس بن سعد وأخذ بلحيِّة عمر قائلا : واللّه لو حصحصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ، ثم تكلَّم سعد بن عبادة منادياً ، وخاطب عمر : أما واللّه لو أنّ بي قوَّة ما أقوى على
ص: 678
النهوض لسمعت منّي في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك ، أما واللّه لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع (1).
فباللّه عليك ، لأيِّ شيء استحقَّ سعد القتل ، ولم يكن يدعو إلاّ إلى نفسه كما دعا غيره؟
ولماذا كان صاحب فتنة وقد دعا للشورى التي أمر بها الإسلام كما تدّعون؟
قلت : للإنصاف - يا خالي - قد أدهشني هذا الكلام ، ولكنني لا يمكن أن أصدّق ذلك على الصحابة ، وكأنّي أراك متحاملا عليهم ، وإلاّ ما حفظت كل هذه الشواهد في مثالبهم ، وممَّا يجعلني أشكِّك في كلامك أنّ مثل هذه الأفعال كيف تصدر من الصحابة الذين ربّاهم الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله .
خالي : لا يا عزيزتي ، لم يكن في الأمر تحامل ، وما أنا إلاّ دارس للتأريخ ، وقد سجّل لنا التأريخ أنّ الصحّابة فعلوا ما فعلوا.
ثمَّ من قال : إنّ مجرَّد الصحبة عاصمة من الخطأ؟ فالصحابة هم مجتمع بشريٌّ يحمل الصالح والطالح ، وكون هنالك رسول اتفق وجوده مع وجودهم هذا ليس كافياً أن ينقل كل ذلك المجتمع من قمّة الجاهليّة إلى قمّة العدالة ، وكم هنالك مجتمعات عاش بينها عشرات الأنبياء لم يمنعهم ذلك من عذاب اللّه ، فبنو
ص: 679
إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم والليلة سبعين نبيّاً (1) ، قال تعالى : ( كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) (2) ، أمّا لماذا فعلوا ، فهذا بحث آخر.
قلت : ما هي نظرتكم إلى الصحابة بكل أمانة؟
خالي : ننظر إليهم كما نظر إليهم القرآن والأحاديث الشريفة.
قلت : وكذلك أهل السنّة يقولون : إنّ القرآن نزَّههم من كل سوء ، وبايعوه على الموت ، وصاحبوه بصدق في القول والعمل ، وهي أحد الأصول التي ندين بها.
خالي : هذه نظرتهم لا نظرة القرآن ; لأنّ القرآن قسّم الصحابة إلى ثلاثة أقسام ...
الأول : الصحابة الأخيار الذين عرفوا اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله حق المعرفة ، ولم ينقلبوا بعده ، بل ثبتوا على العهد ، وقد مدحهم اللّه جلّ جلاله في كتابه العزيز ، وقد أثنى عليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في العديد من المواقع ، ونحن الشيعة نذكرهم باحترام وتقديس ونترضَّى عليهم.
القسم الثاني : هم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام واتّبعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إمّا رغبة أو رهبة ، وهؤلاء كانوا يمنُّون إسلامهم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكانوا يؤذونه في بعض الأوقات ، ولا يمتثلون لأوامره ونواهيه ، بل يجعلون لآرائهم مجالا في مقابل الرسول صلی اللّه علیه و آله ، حتى نزل القرآن بتوبيخهم مرّة وتهديدهم
ص: 680
أخرى ، وقد فضحهم اللّه في عديد من الآيات ، وحذَّرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عديد من الأحاديث النبويَّة ، ونحن الشيعة لا نذكر هؤلاء إلاَّ بأفعالهم.
القسم الثالث : فهم المنافقون الذين صحبوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفاقاً ، وقد أنزل اللّه فيهم سورة كاملة ، وذكرهم في العديد من المواقع ، وتوعَّدهم بالدرك الأسفل من النار ، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة على لعنهم والبراءة منهم.
قلت : من أين أتيت بهذا التقسيم ، وقد قال تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) (1) ، فهذه الآية تفيد الإطلاق على كل من تبع الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وتصفهم بالإيمان وإنزال السكينة ، ما عدا المنافقين فهم خارجون تخصُّصاً.
خالي : أولا : إنّ ( المؤمنين ) هنا ليست لفظاً قصد منه الإطلاق ; أي مطلق المؤمنين ، وإنّما صفة مخصّصة ومقيِّدة لكل من تبع الرسول صلی اللّه علیه و آله ; أي ليس كل من تبع الرسول صلی اللّه علیه و آله وإنما المؤمنون منهم.
ثانياً : لو رجعت إلى الآية الأخرى التي تحدَّثت عن بيعة الشجرة في نفس السورة وبالتحديد الآية رقم 10 ، تجدين أنّ اللّه لم يجعل رضاه مطلقاً ، وإنما جعله مرهوناً ومشروطاً بعدم النكث ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (2) ، والآية أوضح من أيِّ تفسير ، فهذه الآية تبيِّن أنّ هناك قسمين من الصحابة :
ص: 681
قسم نكث ولم ينل رضا اللّه.
وقسم أوفى بما عاهد اللّه فنال رضاه.
قلت : تحليلك للأمور رائع ، ولكن ماذا تقول في قوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِْنجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (1) ، فما رأيك في هذه الآية الصريحة في عدالة الصحابة؟ وقد فسّر بعضهم قوله : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) يعجب المؤمنين ويغيظ الشيعة ، لأنهم يعادون الصحابة.
خالي وهو مبتسم : أوّلا : كون بعض من ارتأى وقالوا ما قالوا فإنّ هذا ليس ملزماً لنا ، كما أنه افتراء على اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ; لأنه لا يتعدَّى كونه تفسيراً بالرأي.
وثانياً : أنا أسألك ، ما معنى المعيَّة هنا؟ هل هي معيَّة الزمان؟ أم معيَّة المكان؟ أم معيَّة من نوع آخر؟
إن كان المقصود بهذه المعيَّة هو معيَّة الزمان والمكان ، فأبو جهل وسجاح والأسود العنسي والمنافقون كانوا معه ، وكذلك المشركون ، من الواضح أن لا يكون المقصود ذلك ، وإنّما معيَّة من نوع آخر ، وهي من كان معه على المنهج ، ومؤيِّداً وثابتاً على ما عاهد اللّه عليه ، والدليل على ذلك ذيل الآية : ( وَعَدَ اللَّهُ
ص: 682
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم ) (1) فمنهم تفيد التبعيض ، وهذا هو عين الصواب ، وإلاَّ دخل في المعيّة أولئك المنافقون الذين مردوا على النفاق كما جاء في قوله تعالى : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (2).
كما أن الحديث عن المنافقين يفتح أمامنا سؤالا عريضاً ، كيف انقطع النفاق بمجرَّد انقطاع الوحي؟ فهل كانت حياة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله سبباً في نفاق المنافقين؟ أو موته صلی اللّه علیه و آله سبباً في إيمانهم وعدالتهم؟ كل هذه الأسئلة يدعو إليها الواقع التأريخيِّ الذي لم يذكر لنا شيئاً عنهم بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، مع أنهم كانوا يشكِّلون خطراً على الأمَّة الإسلاميَّة ، قال تعالى : ( جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (3) ، ولم يثبت لنا التأريخ أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قاتل المنافقين ، فهل ياترى من الذي قاتل المنافقين ، غير علي علیه السلام ؟! وخاصة أن الكتاب والسنّة أثبتا بقاء المنافقين على نفاقهم ، بل هم الأكثريّة الذين شكَّلوا تيَّار الانقلاب بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (4) ولا يخفى عليك أن قوله : ( الشَّاكِرِينَ ) دلالة على الأقلّيّة ; لقوله تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (5) ، ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (6).
ص: 683
قلت : قد زدتني حيرة على حيرتي ، كيف يكون كل هذا في الصحابة؟ فكيف تفسّر تلك الحروب التي قدَّم فيها الصحابة أرواحهم ، وضربوا لنا أروع الأمثال في التضحية؟ فيمكن أن ينافق الإنسان في كل شيء إلاَّ في هلاك نفسه.
خالي : لا تحتاري ، فإنَّ مجتمع الرسول صلی اللّه علیه و آله كان مجتمعاً بشريّاً فيه الصالح والطالح ، ولا يمكن أن يكون مجرَّد وجود الرسول صلی اللّه علیه و آله بينهم كافياً لعصمة مجتمع بأكمله ، والآيات القرآنيّة حاكمة بذلك كما تقدَّم ، وغيرها كقوله تعالى : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ) (1) ، والعطف في الآية دال على أنّ الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين.
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا ... ) (2).
ومن المعلوم أنّ الفاسق المقصود كان من الصحابة (3).
أمَّا قولك كيف ضحّوا بأنفسهم ، فإن مثل هذا السؤال لا تتوقَّف الإجابة عليه على كونهم مؤمنين ، والتأريخ والواقع خير شاهد على ما قلت ، فكم من حروب دارت ، وكم من جماعات ضحّوا ، فهل نحكم على الجميع بالإيمان ، فهناك المكره ، وهناك من فرض عليه الواقع أمراً محكوماً ، والحروب التي كانت قبل الإسلام خير دليل ، ومع ذلك أنا أرمي ( بعض ) الذين حاربوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأنهم كانوا مجبرين ، مع أنه كان هناك المجبور والمنافق كشهيد الحمار ، إنَّما أقول حتى المؤمن حقّاً لا تعني حربه مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاصمة له من
ص: 684
الانحراف بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإنّ مجموعة كبيرة من الصحابة كانت تحارب مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يستلهمون الطاقة والحماس منه.
وبمعنى آخر كانوا يعملون بالطاقة التي كانوا يكسبونها من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأضرب لك مثالا على ذلك : عندما يستمع الإنسان لخطيب بارع يتحدَّث عن الجهاد والتضحية فسوف تنتاب المستمعين حالة روحيّة عالية ، بحيث لو طلب من كل واحد منهم أن يضحّي بنفسه فإنّه لا يمانع ، ولكن مجرَّد أن يغادر المكان ويبتعد عن الخطيب ، تضعف تلك الطاقة ، هذا بخلاف الذي يكون له وعي كامل بالقضية ، فإنه يولِّد تلك الطاقة من نفسه ، وكثير من الثورات الإصلاحيّة تحوَّل الداعون لها إلى مفسدين بعد أن فقدوا قائدهم الروحي ، وهذا أمر طبيعي ينتاب كل البشر.
ولك في الثورة المهديّة في السودان خير مثال ، فبموت محمّد أحمد المهدي انشقَّت صفوف الأنصار ، ووقع الخلاف بينهم ، وهكذا الصحابة بشر فإنهم معرَّضون لذلك ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) ، وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما جاء في البخاري وصحيح مسلم - : بينما أنا قائم فإذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : إلى أين؟ فقال : إلى النار واللّه ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أرى يخلص منهم إلاَّ كهمل ، النعم (2).
ص: 685
وقال صلی اللّه علیه و آله : إنّي فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثمَّ يحال بيني وبينهم ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي (1).
طأطأت رأسي غارقة في تفكير عميق ومردِّدة .. عجيب ، عجيب ، عجيب.
خالي : ممَ تعجُّبكِ؟
قلت : وفق ما ذكرت من هذه الأدلّة القاطعة ، وخاصة في مورد الإمامة ، فلماذا لم يعترض عليٌّ كرَّم اللّه وجهه على القوم ، بل أكَّد على موقف الشورى ، حيث قال في النص الذي سجَّلته لك : وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردُّوه إلى ما خرج منهم ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين.
خالي : كما أثبتُّ لك أن الشورى باطلة ، وأن النص والتعيين هو المتحقِّق ، وهذا هو مبحثنا ، أمَّا أن عليّاً علیه السلام لماذا سكت فهذا بحث آخر.
قلت مقاطعة : هذا الكلام لا أقبله منك ، أليست الخلافة حقاً لعليٍّ؟ فسكوت الإمام علي علیه السلام هو سكوت عن حقِّه.
ص: 686
خالي : أجمعت الأمَّة على أنّ علياً علیه السلام وسائر بني هاشم لم يشهدوا البيعة ، ولا دخلوا السقيفة يومئذ ، كانوا منشغلين بتجهيز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، حتى أكمل أهل السقيفة أمرهم ، وعقدوا البيعة لأبي بكر ، فأين كان الإمام علیه السلام عن السقيفة ، وعن بيعة أبي بكر ليحتجّ عليهم؟
وقد أجاب الإمام عليٌّ علیه السلام عن هذا الإشكال عندما سأله الأشعث ابن قيس ، عندما قال للإمام علي علیه السلام : ما منعك - يا ابن أبي طالب - حين بويع أخو بني تيم ، وأخو بني عدي ، وأخو بني أمية - أن تقاتل وتضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا مذ قدمت العراق إلاَّ قلت قبل أن تنزل عن المنبر : واللّه إنّي لأوّل الناس ، وما زلت مظلوماً مذ قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال علیه السلام : يا ابن قيس! لم يمنعني من ذلك الجبن ، ولا كراهية لقاء ربّي ، ولكن منعني من ذلك أمر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وعهده إليّ .. أخبرني بما الأمّة صانعة بعده ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا عليُّ! ستغدر بك الأمّة من بعدي ، فقلت : يا رسول اللّه! فما تعهد إليّ إذا كان كذلك؟ فقال الرسول صلی اللّه علیه و آله : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكفَّ يدك ، واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب اللّه وسنّتي أعواناً (1).
وفي رواية الخطيب البغدادي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن علي علیه السلام قال : أخذ عليٌّ يحدِّثنا إلى أن قال : « جذبني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبكى ، فقلت : يا رسول اللّه! ما يبكيك؟ قال : ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلاَّ بعدي ... فقلت : بسلامة من ديني؟ قال : نعم بسلامة من دينك (2).
ص: 687
كما سئل هذا السؤال الإمام الرضا علیه السلام ، وهو الإمام الثامن من أهل البيت علیهم السلام ، فأجاب : لأنّه - أي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام - اقتدى برسول صلی اللّه علیه و آله في تركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوَّة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة تسعة عشر شهراً (1).
وجاء في كتاب معاوية إلى عليٍّ علیه السلام : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاَّ دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، فلم يجبك منهم إلاَّ أربعة أو خمسة ... مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمَّا حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم (2).
فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ترك جهاد القوم ، لقلّة ناصريه ، فصبر وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، يرى تراثه ينهب ، ويعلِّل ذلك بأنّه لم يسكت إلاَّ تأسِّياً بالأنبياء علیهم السلام ، حيث قال : إنّ لي بسبعة من الأنبياء أسوة :
ص: 688
الأول : نوح علیه السلام ، قال اللّه تعالى مخبراً عنه في سورة القمر ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (1) فإن قلت : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : كان مغلوباً فعليٌّ أعذر.
الثاني : إبراهيم الخليل علیه السلام ، حيث حكى اللّه تعالى عنه قوله : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (2) فإن قلت : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ أعذر.
الثالث : نبيُّ اللّه لوط علیه السلام ، إذ قال لقومه على ما حكاه اللّه تعالى : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (3) فإن قلت : كان له بهم قوَّة كذّبت القرآن ، وإن قلت : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ أعذر.
الرابع : نبيُّ اللّه يوسف علیه السلام ، فقد حكى اللّه تعالى عنه : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (4) فإن قلت : إنّه دعي إلى غير مكروه يسخط اللّه تعالى فقد كفرت ، وإن قلت : إنه دعي إلى ما يسخط اللّه فاختار السجن فعليٌّ أعذر.
الخامس : كليم اللّه موسى بن عمران علیه السلام ، إذ يقول ما ذكره اللّه تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (5) ، فإن قلت : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : فرَّ منهم خوفاً فعليٌّ أعذر.
ص: 689
السادس : نبيُّ اللّه هارون بن عمران علیه السلام ، إذ يقول على ما حكاه اللّه تعالى عنه : ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (1) فإن قلت : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : إنهم استضعفوه وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.
السابع : محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت : إنَّه صلی اللّه علیه و آله هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت : أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعليٌّ أعذر (2).
إنّ الأحكام الشرعيّة - يا عزيزتي - معلَّقة على حرِّيَّة المكلَّف واختياره ، فإنّ اللّه لا يجبر عباده على طاعته ، فكون علي علیه السلام إماماً من قبل اللّه تعالى لا يعني أن تجبر الخلائق على اتباعه ( مَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) (3) وهذا ما جرى على الأنبياء جميعهم ، وقال تعالى : ( أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) (4) ، فالبيعة لعليٍّ لا يفرضها اللّه على عباده (5) كما لم يفرض بيعة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ
ص: 690
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) (1) والمجيء دالٌ على أنّ الأمر بالبيعة معلَّق على مجيء المؤمنات طائعات.
لذلك قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حق علي علیه السلام - كما أخرجه الطبري في الرياض النضرة - : يا علي! إني أعلم ضغائن في صدور قوم سوف يخرجونها لك من بعدي ، أنت كالبيت تؤتى ولا تأتي ، إن جاءوك وبايعوك فاقبل منهم ، وإلاَّ فاصبر حتى تلقاني مظلوماً.
فإذا كان هنالك قصور فهو من الذين لم يبايعوه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن في الأمر تزاحم مصالح ، فولاية علي علیه السلام مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة أخرى (2) ، فقدَّم عليٌّ مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة إمامته ، كما فعل نبيُّ اللّه هارون عندما عبد قومه العجل ، فلم يمنعهم حفاظاً على وحدة بني إسرائيل ، قال تعالى : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (3).
قلت : إذاً بماذا تفسّر كلمة الإمام ( كرَّم اللّه وجهه ) التي جاءت في نهج البلاغة : وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمَّوه إماماً كان ذلك لله رضى؟
خالي : باختصار شديد أجيبك قائلا : إن ابن أبي الحديد المعتزلي هو أول من احتجّ بهذه الكلمة ، على أن صيغة الحكومة بعد وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله مستندة إلى
ص: 691
الاختيار ونظام الشورى ، وتبعه من تبعه ، ولكنّه غفل - أو بالأصحِّ تغافل - عن صدر الكلمة التي تعرب عن أن الاستدلال بالشورى من باب الجدل ، خضوعاً لقوله تعالى : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) فإن الإمام علياً علیه السلام بدأ كلمته - مخاطباً معاوية بن أبي سفيان - بقوله : أمَّا بعد ، فإنَّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردَّ ... إلى قوله : وإن طلحة والزبير بايعاني ثمَّ نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردِّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق ، ظهر أمر اللّه وهم كارهون .. فادخل فيما دخل فيه المسلمون (2).
فقد ابتدأ أميرالمؤمنين علیه السلام بخلافة الشيخين ، وذلك يعرب على أنه في مقام إسكات معاوية الذي خرج على إمام زمانه ، وقد أتمَّ علیه السلام كلمته بقوله : فإن اجتمعوا على رجل .. احتجاجاً بمعتقد معاوية ، بمعنى : ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم.
وهذه هي الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين علیه السلام : « أما واللّه لقد تقمَّصها (3) ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيّل ، ولا يرقى إليّ الطَّير (4) ، فسدلت (5) دونها ثوباً ،
ص: 692
وطويت عنها كشحاً (1) ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء (2) ، أو أصبر على طخية عمياء (3) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً (4) ، حتى مضى الأوَّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، ثم تمثّل بقول الأعشى :
شتّان ما يومي على كورها *** ويوم حيّان أخي جابر
فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته (5) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (6) ، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسُّها .. إلى أن يقول علیه السلام : فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فياللّه وللشورى! متى اعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفُّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه (7) ، ومال الآخر لصهره (8) ، مع هن وهن (9) ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه .. (10).
ص: 693
إلى أن ختمها بقوله علیه السلام : أما والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتُم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (1).
تجمَّد فكري ، وعقدت الحيرة لساني ، فوضعت كلتا يديّ على رأسي ، ثمَّ قلت : كل هذا ونحن لا ندري ، أمرٌ لا يصدَّق.
فلم يدعني خالي أرتاح قليلا ... حتى أنعش أعصابي فبادرني قائلا : هذا فيما يتعلّق باحتجاج أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، ودعيني أقرأ عليك ممّا جاء عن احتجاج الزهراء علیهاالسلام .
خالي : بغضّ النّظر عمَّا جاء في المصادر الشيعيّة من استنكار أهل بيت العصمة والطهارة علیه السلام ، فقد ذكر أبو الفضل أحمد بن طيفور (2) ، وجاء في شرح ابن أبي الحديد في المجلَّد الرابع (3) ، وفي أعلام النساء لعمر رضا كحالة (4) ، قالت علیهاالسلام في خطبتها - التي كان أهل البيت علیهم السلام يلزمون أولادهم بحفظها كما يلزمونهم
ص: 694
بحفظ القرآن - :
« ويحهم ، أنّى زحزحوها (1) عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوَّة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبين (2) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين .. ومانقموا من أبي الحسن؟! نقموا واللّه منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات اللّه ، وتاللّه لو تكافأوا (3) على زمام نبذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليه لاعتلقه ، لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه (4) ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويّاً فضفاضاً (5) تطفح ضفّتاه ، ولا يترنّم جانباه ، ولأصدرهم بطاناً (6) ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ، غير متحلٍّ منهم بطائل ، إلاَّ بغمر الناهل (7) ، وردعه سورة الساغب (8) ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون ، ألا هلمَّ فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ، إلى أيِّ لجأ استندوا؟! وبأيِّ عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا واللّه
ص: 695
الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ... إلى آخر الخطبة.
بينما هو يقرأ أحسست برعشة تسري إلى جميع أجزاء بدني ، وجرت دمعة على خدّي .. وكيف لا أبكي وقد أحسست بأنفاس الزهراء الطاهرة علیهاالسلام تتسرَّب مع أنفاسي إلى أعماق نفسي ، فكانت تلك الكلمات حروفاً من نور تشعُّ في وجداني ، وربّ السماء والأرض لو أنكر أهل الدنيا جميعاً هذه الكلمات لعشت بها وحيدة في فيافي الأرض وقفارها ، أترنّم بأجراس كلماتها ، وترقص نفسي طرباً بأزيز أنغامها ، وهنا يكون العشق والحبُّ ، وتهيم الروح سكراً بلبِّ معناها.
كفكفت دمعي ، وتوسَّلت بخالي أن لا يقطع الحوار بسبب اضطرابي ... دعاني إلى النوم لكي تهدأ أعصابي ، قلت : كم هي الليالي التي لم نستفد منها إلاَّ النوم ، فإن كانت ليلة القدر خيراً من ألف شهر فهذه الليلة خير من ألف يوم ، فتلك الليلة تكتب فيها الأقدار ، وهذه الليلة تبعث فيها الأرواح.
وبعد إلحاح قال خالي : أختم لك هذه الليلة بحوار عمر مع جدِّنا عبد اللّه بن العباس - الذي نتشرَّف بالانتساب إليه - كما جاء في الكامل لابن الأثير (2) ، وشرح النهج لابن أبي الحديد (3) ، وتاريخ الطبري (4).
ص: 696
قال عمر : أتدري ما منع قومكم بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟
قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه ، فقلت له : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدري!
فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً (1) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.
عندها قال ابن عباس : يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب ، تكلَّمت ..
قال : تكلَّم.
فقال ابن عباس : أمَّا قولك - يا أمير المؤمنين - : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت ، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإنّ اللّه عزّ وجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (2).
قال عمر : هيهات يا ابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.
فقال ابن عباس : ما هي يا أميرالمؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
قال عمر : بلغني أنك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسداً وبغياً وظلماً.
ص: 697
فقال ابن عباس : أمَّا قولك - يا أميرالمؤمنين - : ظلماً ، فقد تبيَّن للجاهل والحليم ، وأمَّا قولك : حسداً ، فإن آدم حُسدَ ، ونحن ولده المحسودون.
فقال عمر : هيهات ، هيهات ، أبت واللّه قلوبكم - يا بني هاشم - إلاَّ حسداً لا يزول.
فقال ابن عباس : مهلا يا أميرالمؤمنين! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً.
خالي : والدليل على أنّ أهل البيت علیهم السلام محسودون على المكانة التي خصّهم بها اللّه قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (1) ، والتدبُّر في هذه الآية يكشف لنا أنّ الحسد وقع على هؤلاء الناس بسبب عطاء ربِّك لهم ( الكتاب والحكمة والملك العظيم ) لأنّ المعلوم والمحكم في هذه الآية أنّ اللّه أعطى آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم ، والمتشابه علينا في هذه الآية هو من المقصود بالناس في هذه الآية؟ وما هو الفضل الذي أُعطي لهم؟ ولاستجلاء المعنى المقصود لابد من إجراء المقابلة ، فالناس يقابلهم آل إبراهيم ، والفضل يقابله الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فهل ياترى من هؤلاء الناس في أمَّة محمّد يقابلون آل إبراهيم؟ هل تجدين غير آل محمّد كفؤاً ونظيراً لآل إبراهيم؟ فيتضح بذلك أنّ الناس المقصودين في هذه الآية هم آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (2).
ص: 698
أمَّا الفضل الذي أُعطي لهم فهو الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فيكون معنى الآية : أم يحسدون آل محمّد على ما آتاهم اللّه من الكتاب والحكمة والملك العظيم ، ولقد آتينا آل إبراهيم مثل ما أعطيناهم من الكتاب والملك العظيم ، فهل عرفت بذلك السبب الذي جعلهم يزيلون آل محمّد عن مراتبهم التي رتبهم اللّه بها؟.
يا عزيزتي! قد تبيَّن للجاهل قبل العالم ، وإياك أن تحيدي عن قوم أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
قلت : كل ما ذكرته مقنع ، ومستند على الأدلّة والبراهين الساطعة ، وهذا خلاف ما كنّا نعرفه عن الشيعة الذين كانوا في تصوُّرنا أبعد الناس عن الحقِّ ، وكل ما يمكن أن أجزم به الآن - حتى لا أكون متعجِّلة بالحكم بأحقّيّة مذهبكم - أنَّ الشيعة طائفة إسلاميَّة يجب أن تحترم ، وإن كانوا يختلفون مع عامّة المسلمين من أهل السنّة في بعض الأمور التي يمكن تجاوزها في سبيل الوحدة الإسلاميّة ، وللإنصاف - يا خالي - لقد سررت جداً بهذا الحوار ، وقد تعلَّمت منه درساً لن أنساه أبداً ، وهو عدم الحكم على الآخرين بالأفكار المسبقة ، والرجوع إليهم لا إلى من يخالفهم ، وأنا أعتقد أنّ من أعظم المصائب التي تعيشها أمتنا هي فقدانها لأرضيَّة الحوار.
ولكن عفواً يا خالي! ما زال هناك سؤال يراودني ، هل غاب هذا عن العلماء؟ ولماذا لم يتوصَّل أحد منهم لما ذكرت؟
ص: 699
خالي : لقد أثلجت صدري بهذا الكلام الذي ينمُّ عن وعي وشعور كاملين بالمسؤولية ، التي أمرنا القرآن الكريم أن نتحلّى بها من معرفة المنهج القرآنيِّ في المباحثة والمناظرة العلميّة الذي يعترف بالطرفين ، قال تعالى معلِّماً رسوله صلی اللّه علیه و آله مخاطبة الكفار والمشركين : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُّبِين ) (1) ، فانظري إلى هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم : إني على حق وأنتم على ضلال ، بل قال : إمَّا نحن أو أنتم على حق أو على باطل .. فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرّيّة المناقشة قائلا : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2) ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسمع براهينهم ويردُّها بالتي هي أحسن ، وقد سجَّل القرآن نماذج كثيرةً سواء كانت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو مع الأنبياء السابقين ، ففي قصّة إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت اللّه سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ، ولم يجوّز لمسلم أن يمسَّها من غير وضوء بناء على الفقه الشيعي ، فأين هؤلاء الذين يشنِّعون ويفترون على الشيعة بكل ما هو باطل من هذا المنهج القرآني الأصيل (3)؟
أمَّا قولك : لماذا لم يتوصَّل أحد لما ذكرت؟
قال تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (4) ، وقال : ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
ص: 700
يَعْلَمُونَ ) (1) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (2) ، ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (3) ، ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (4) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (5) .. هذا أوَّلا.
ثانياً : هناك من هو مصداق قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (6).
ثالثاً : هنالك مجموعة من نخبة السنّة وعلمائها من كسر الأغلال ، وتعدَّى حواجز الكبت الإعلامي ، والتحقوا بركب التشيٌّع في كل أنحاء العالم ، فتمسُّك بعض العلماء بموقفهم ليس دليلا على بطلان مذهب آل البيت علیهم السلام وإلاَّ حكمنا ببطلان مذهب أهل السنّة أيضاً لتمسّك علماء الطوائف الأخرى بعقيدتهم.
لو سمحت لي - يا خالي - بآخر سؤال : لقد رأيتك تمسح على رجليك في الوضوء بدلا عن الغسل ، فما هو السبب؟ أليس الغسل أنظف وآمن للنجاسة من المسح؟
خالي وهو مستغرب لهذا الانتقال المفاجئ : نعم الغسل أنظف ، ولكن اللّه أعرف ، ثم ابتسم.
ص: 701
قلت : ولكن لم يأمر اللّه بالمسح؟
خالي : صبراً عليَّ : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (1) ، فقوله : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) دال على وجوب المسح بكلتا القراءتين : بالكسر أو بالفتح ، أمَّا الكسر فواضح ; لأنها معطوفة على الرأس ، وأمَّا النصب فإنه يدل على المسح أيضاً ، وذلك لأنه معطوف على موضع الرؤوس لوقوع المسح عليهما ، ولا يمكن العطف على الأيدي ، وذلك لوجود فاصل أجنبيٍّ وهو المسح ، فلا يجوز العطف على البعيد مع إمكانيَّة العطف على القريب.
وهذا ما أكَّدت عليه روايات أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام ، بل هنالك أحاديث من مصادر أهل السنة تؤيِّد المسح ، وممَّن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم ، قال ابن عباس وأنس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، كما جاء في الدر المنثور (2) ، وقال عكرمة : ليس على الرجلين غسل ، إنما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ، ويلغي ما كان مسحاً (3) ، وروى أوس بن أوس ، قال : رأيت النبي صلی اللّه علیه و آله توضَّأ ومسح على رجليه (4) ، ووصف ابن عباس وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّه مسح على رجليه ، وقال : إنّ في كتاب اللّه المسح ، ويأبى الناس إلاَّ
ص: 702
الغسل (1).
وجاء أيضاً في كنز العمال عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضَّأ ، ثم ضحك فقال : ألا تسألوني ممَّ أضحك؟ قالوا : يا أميرالمؤمنين! ما أضحكك؟ قال : رأيتُ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله توضَّأ كما توضَّأت ، فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه (2).
وفي سنن ابن ماجة فقال : إنّها لا تتُّم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين (3).
ألا يكفي هذه دلالة على وجوب المسح؟
قلت : عجيب! ولماذا يغسل أهل السنّة إذاً؟
خالي : أنت سألتيني لماذا يمسح الشيعة فأجبتك ، وبقي عليك أن تجيبي على سؤالك لماذا يغسل أهل السنّة؟
ثمَّ اعتذر وانصرف لنومه.
وبعد ذلك الحوار وجلسات أخرى متفرِّقة مع خالي ، اهتزّت كل قناعاتي بالموروث الديني السنّي ، وتكشَّفت أمام ناظري مجموعة من الحقائق ، بعدما
ص: 703
وقفت على عمق الخلافات المذهبيَّة ، وعندما أتى خالي لزيارتنا في بيتنا عاجلته بالسؤال : وما هو رأيكم في المذاهب الأربعة؟
فتبسّم خالي قائلا : أما زلت في حيرة من أمرك ، فإنّ اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله لم يكلِّفاك باتّباع أحد منهم ، وأنا أتحدَّى كل علماء السنة الماضين منهم والباقين أن يستدلُّوا بدليل واحد على وجوب تقليدهم ، فدعي عنك تلك الوساوس ، وتوجَّهي إلى أئمّة الهدى من آل البيت علیهم السلام ، فهم موضع الحكمة والرسالة ، جعلهم اللّه لنا عصمة وملاذاً ، ألم يقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ; كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (1) .. ولم يقل : كتاب اللّه وأئمَّة المذاهب الأربعة.
فقاطعته قائلة : ولكن قال : ( كتاب اللّه وسنّتي ) ممَّا يفتح الباب واسعاً أمام اجتهاد الأمة.
خالي : أوَّلا : إنّ حديث : كتاب اللّه وسنّتي غير صحيح فلم يروه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وكل الصحاح الستة ، فكيف نرتكز على حديث غير ثابت عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهذا الحديث لم يروه إلاَّ مالك في الموطأ من غير سند ، فقد جاء في الموطأ أن مالك بلغه أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ( تركت فيكم كتاب اللّه وسنّتي ) (2) ، فكيف ياترى بلغ مالكاً هذا الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!! ومن المعلوم أن الفاصل بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومالك يحتاج فيه الحديث إلى سند طويل ، يعني : حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن الصحابي
ص: 704
عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهذا الحديث من غير سند ، ممَّا يعني أنه حديث في غاية الضعف.
أمَّا حديث : تركت فيكم كتاب اللّه وعترتي فقد رواه مسلم في صحيحه بعدّة طرق (1) ، وروته كل الصحاح الستة ما عدا البخاري ، وعدد الرواة الذين نقلوا الحديث من الصحابة يتجاوز الثلاثين راوياً ، ممَّا يعني أنّه حديث متواتر مقطوع الصدور عند السنّة والشيعة ، فكيف نتنازل عنه من أجل حديث لا سند له؟ ومن هنا كان من الواجب على كل مسلم أن يتبع أهل البيت علیهم السلام في كل أمور دينه.
قلت : هناك حديث آخر يقول : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ (2) ، فنستفيد من هذا الحديث أوَّلا التمسُّك بسنّة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وسنَّة الخلفاء ثانياً.
خالي : هذه إسقاطات لا يقبلها النص ، أولا - بعيداً عن مناقشة سند الحديث الذي استفرد بنقله أبو داود وابن ماجة والترمذي ، وتجاوزنا عن تضعيف بعض الرواة في أسانيده - فإنّ هذا الحديث لا يتحمَّل أكثر من دعم رأي الشيعة ، وذلك أنّ كلمة الخلفاء هنا لا تعني الخلفاء الأربعة ، أو الذين حكموا في التأريخ ; لأن هذا إسقاط تأويلي متأخِّر عن النص ، فتسمية الخلفاء الراشدين للأربعة الذين حكموا ليست هي تسمية شرعيّة ، وإنّما تسمية المؤرِّخين الذين حكموا على فترة حكم الخلفاء بالرشد ، فبالتالي لا يكون الخلفاء مصداقاً لهذا الحديث لمجَّرد اشتراك التسمية ، فيكون التفسير الأقرب أن الخلفاء المقصودين
ص: 705
هم أئمة أهل البيت الاثنا عشر علیهم السلام ، وذلك لقول الرسول صلی اللّه علیه و آله في البخاري في باب الخلافة ، ومسلم وغيرهما من الصحاح عشرين رواية - كما جعلها القندوزي الحنفي في ينابيع المودة - أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إن الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة (1).
فجاء في رواية : كلهم من قريش ، وفي رواية : كلهم من بني هاشم ، وهذا الترديد في نقل الراوي لا يؤثِّر في الاستدلال بهذا الحديث على إمامة أهل البيت علیهم السلام ، وذلك بأن الفرقة الإسلاميّة الوحيدة التي توالي اثني عشر إماماً هم الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة ، كلهم من أهل البيت علیهم السلام ، فإذا ثبت - وهو كذلك - حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليكم بكتاب اللّه وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ثمَّ جاء حديث آخر يقول : الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة ، تعيَّن أن يكون هؤلاء من أهل البيت علیهم السلام ; لأنه يستحيل عقلا أن يأمرنا الرسول صلی اللّه علیه و آله باتّباع أهل البيت ، وفي نفس الوقت يأمرنا باتّباع خلفاء من غير أهل البيت ، ممَّا يحدث تناقضاً وتضارباً ، فتعيَّن أن يكون الخلفاء المقصودون في الحديث هم الأئمة من آل البيت علیهم السلام ، وللأسف لم يكن الخلفاء الذين حكموا في التأريخ ولا أئمّة المذاهب الأربعة من آل البيت علیهم السلام ، وهذا كاف في إبعادهم عن ساحة الحوار.
قلت : ولكن من أين جاءت فكرة المذاهب الأربعة؟
خالي : فكرة المذاهب الأربعة خدعة نسجت خيوطها سياسات الكبت
ص: 706
الأمويّة والعباسيّة ، وإلاَّ لم يكن الفقهاء الأربعة هم أعلم أهل زمانهم ، فهناك من كان أكثر علماً منهم ، وكان لهم مذاهبهم الخاصة ، كسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم ، انقرضت مذاهبهم عندما لم تجد دعماً سياسيّاً من السلطة ، ممَّا يعني أن للسلطة مآرب معيَّنة لتمرير أسماء الأربعة ، ومن ثمَّ سدّ الطريق عن غيرهم ، والأمر واضح وهو خلق قيادات فقهيّة بديلة عن أهل البيت علیهم السلام لكي يلتفَّ حولها عامة المسلمين.
أو ليس من العجيب فعلا أن كل ما جاء في أهل البيت علیهم السلام من آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة كاشفة عن مكانة عظيمة ومرتبة رفيعة إذا لم نقل بالعصمة ، ألا تؤهِّلهم في نظر أهل السنّة ليتسلَّم أهل البيت علیهم السلام زمام الفتيا ، أو على أقل تقدير يختارون واحداً من أهل البيت ليكون من بين الأئمّة الأربعة ، حتى يأتي شيخ الأزهر شلتوت ليتصدَّق على أهل البيت علیهم السلام في القرن العشرين بأن يجعل الإمام الصادق علیه السلام إماماً خامساً مع الأئمة الأربعة ، مع أن أهل البيت علیهم السلام لا يقبلون الصدقة.
لقد تعجَّبت فعلا عندما ردَّدت أسماءهم في نفسي ( مالك ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ) فمعظمهم مشكوك في عروبته ، ناهيك عن كونه من آل البيت ، ثمَّ نتباهى بحبِّ ذرِّيَّة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، أيُّ حب هذا الذي لم يورثنا الثقة في علمهم وجدارتهم؟ ومن الغريب أيضاً أننا لم نقبل حقَّ أهل البيت علیهم السلام في الخلافة ، متمسِّكين بأنّ الحق لا يثبت بمجرِّد القرابة ، فإن كان الحق لا يثبت بالقرابة فالحبُّ لا يكون أيضاً لمجرِّد القرابة ، إلاَّ إذا كان حبُّنا مجرَّد ادّعاء أجوف ، أمَّا إذا اعترفنا بأن هنالك مكانة خاصة ومرتبة رفيعة تؤهِّلهم للحبِّ غير قرابتهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهو نفسه يؤهّلهم إلى مرتبة الإمامة ، هذا مع أنّ الواقع
ص: 707
التأريخي يثبت أنّ أئمة المذاهب الأربعة - بدءاً من مالك وانتهاءاً بابن حنبل - يدينون بالفضل والأعلميّة لأهل البيت علیهم السلام ، فإن كان للأربعة علم فهو من نفحات أهل البيت علیهم السلام ، ممَّا يكشف لنا مأساة التأريخ الأعمى الذي لا ينظر إلاَّ بعيون السلطة ، فإن كان بنظر أهل السنّة لا يوجد في أهل البيت فقهاء ، ألا يوجد فيهم علماء في العقائد والحديث ومعارف القرآن؟ فمن أئمّة العقائد والتفسير والحديث عندنا؟ ... لا يوجد من بينهم واحد من أهل البيت علیهم السلام ، فهل يحقُّ لأهل السنّة بعد ذلك أن يدّعوا أنهم محبُّون لأهل البيت علیهم السلام ؟
حسمت لي تلك النقاشات مع بعض الاطلاع أحقّيّة المذهب الشيعي بجدارة ، ولم يكن بيني وبين الالتزام الكامل إلاَّ بعض الإشكالات الطفيفة التي لا تمسُّ بالجوهر ، مثل بعض الممارسات الشيعيّة في شهر محرَّم ; من اللطم على الصدور ، وضرب الرؤوس بالسيوف ، فسألت خالي وأنا مستنكرة لهذا الأمر : كيف يجوِّز الشيعة فعل ذلك ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : ليس منّا من شقّ الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوة الجاهلية (1)؟
خالي : أولا : هذا نقاش فقهيٌّ داخل الدائرة الشيعيّة ، ممَّا يعني أن الشيعة ملزمون باستنباط أحكامهم الشرعيّة فيما ورد عندهم من الأحاديث المرويَّة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام ، والحديث الذي ذكرته هو من أحاديث أهل السنة ، فهو ملزم لهم وليس للشيعة ، كما تقول القاعدة : ألزموهم بما ألزموا به
ص: 708
أنفسهم.
وثانياً : إذا سلَّمنا بهذا الحديث فهو بعيد كلَّ البعد عن مورد الاستدلال والاعتراض ، فالحديث يتكوَّن من ثلاثة محاور أساسية ، فإن اجتمعت في موضوع واحد تتعلَّق به الحرمة والنهي ، وهي : شقُّ الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوة الجاهلية ، والدليل على الاقتران هو حرف العطف ، فإن كان شقُّ الجيب لوحده حراماً ، وكذا لطم الخد لكان من المفترض استخدام حرف ( أو ) فيكون الحديث ( .. من شقّ الجيوب أو لطم الخدود أو دعا بدعوة الجاهلية ) فبالتالي لا تنصبُّ الحرمة على شقِّ الجيب إلاَّ بعنوان دعوة الجاهلية ، أمَّا من شقَّ جيبه بل شقَّ كل ملابسه ولطم خدَّه لأيِّ سبب يراه أو مصلحة يجلبها لنفسه أو حتى عبثاً ، ولم يدع بدعوة الجاهليّة ، لا يكون ملاماً أو معاتباً ، وأكثر ما يقال فيه إذا لم يكن هناك حكمة عقلائيَّة : إنّه مجنون ، فإذاً ليس شقُّ الجيب ولطم الخدِّ بمعزل عن دعاء الجاهليّة ، وهو الذي تدور عليه الحرمة ، وإنما تتحقَّق الحرمة ، ويتعلَّق النهي عن هذه التصرُّفات مع الدعاء بدعوة الجاهليّة ، وكذلك لا يكون الأمر محصوراً في شقِّ الجيب ولطم الخدِّ ، فالذي يضرب رأسه ويشدُّ شعره ويدعو بدعوة الجاهليَّة كذلك يشمله الحديث ، ومن هنا كان محور الحرمة ومناط الحكم هو دعوة الجاهليّة مع شقِّ الجيب أو ضرب الرأس أو أيِّ تصرُّف آخر ، وإلاَّ حكمنا بجواز من يحثو التراب على رأسه ويدعو بدعوة الجاهليّة.
فالحديث بعيد عن تصرُّفات الشيعة أيام محرَّم ; لأنهم لا يدعون بدعوة الجاهليّة ، فهم لا يدعون اللاّت والعزّى ومناة وهُبل ، ولا يدعون باسم العصبيّة القبليّة ، ولا كل العادات التي ذمّها الإسلام ، وإنما يدعون بدعوة الإسلام ، ودعوة التوحيد ، ويبكون على مصائب أهل البيت علیهم السلام التي هي مصائب الإسلام ،
ص: 709
فالحديث بعيد عنهم.
قلت : ولكن ليس هناك أحد من كل العقلاء يستحسن ما يفعله الشيعة ، بل يستقبحونه ، ألا يكفي حكم العقلاء لتحريمه؟
خالي : أولا : إذا نظرنا إلى حكم العقل بعيداً عن العقلاء فإن العقل لا يرى فيه قبحاً ; لأن العقل إذا نظر إلى أمر نظر له وهو مجرَّد عن كل العناوين وكل الاعتبارات ، فإذا جرَّدنا هذه التصرُّفات من كل عناوينها لا يتمكَّن العقل من الحكم عليها ; لأنها من الأمور غير الذاتيّة القبح أو الحسن كالعدل والظلم ، وإنما من الأمور التي يدور حكم العقل فيها مع العنوان ، فمثلا : الضرب كموضوع إذا نظرنا له بعيداً عن أيِّ اعتبار ليس قبيحاً ، وليس هو حسناً ، فإذا كان الضرب مع عنوان التأديب فهو حسن ، والضرب نفسه مع عنوان الإيذاء والظلم فهو قبيح ، فبالتالي الحسن والقبح يدوران مدار العنوان ، كذلك بعض الشعائر الحسينيّة ، فهي إمَّا أن تكون بعنوان إحياء أمر أهل البيت علیهم السلام وبالتالي إحياء الإسلام ، وإمَّا بأيِّ عنوان سلبيٍّ آخر ، فإن كانت بالأول فهي حسنة ، وإن كانت بالثاني فهي قبيحة ، وأظنُّ أنّ الأمر واضح أن هذه الشعائر بالقصد الأوَّل.
أمَّا حكم العقلاء فهو دائر مدار المصلحة العامة من الفعل أو المفسدة ، ولا يرى العقلاء أيَّ مفسدة في أن يقوم مجموعة من الناس بشعيرة معيَّنة لمصلحة تخصُّهم ، كما لا يرى مانع أن يخترع مجموعة من الناس احتفالا يعظِّمون فيه أمراً ما ، مثلا : كأس العالم في كرة القدم الذي يقوم كل أربع سنوات بإجراء منافسات دوليّة ينشغل بها كل العالم ، فلا يستقبح العقلاء هذا الأمر.
أمَّا حكم العرف والذوق والميل والحب والكراهية كلها عناوين لا يمكنها تشكيل معيار لمحاكمة أيِّ قضية ، فإذا كان هناك عرف لا يحبِّذ الشعائر الحسينيّة
ص: 710
فهناك عرف آخر يحبِّذها بل يحترمها ، وكذا الحب والكراهية ، فما تحبينه أنت يكرهه الآخر ، فمن الخطأ أن نحاكم الشيعة برغباتنا الخاصة.
قلت : ولكنَّ الأمر يصل إلى حدِّ الضرر كضرب الرؤوس بالسيوف ، وهذه مفسدة واضحة ; لأن فيها ضرراً ، وقد نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنه وقال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (1).
خالي : إذا نظرنا إلى هذا الحديث وأمعنّا فيه النظر نجد أنّ الاستدلال بهذا الحديث يكون كالتالي : كل ضرر حرام ، وضرب الرأس بالسيف ضرر ، إذاً هو حرام ، وهذا قياس منطقيٌّ واضح ، فإذا كان كل إنسان يموت ، وزيد إنسان ، إذاً زيد حتماً يموت ، أليس كذلك؟
قلت : نعم ، فكيف تجوِّزونه إذاً؟
خالي : مهلا ولا تتعجّلي ، حتى يكون هذا الأمر صحيحاً والقياس تاماً لابد أن تكون الكبرى سليمة كما يسمُّونها في المنطق ، وهي : كل ضرر حرام ، فهل كل ضرر على إطلاقه حرام ، فإذا كان كذلك لتوقَّفت كل الحياة ، وليست الشعائر الحسينيّة لوحدها ; لأن الضرر نسبيٌّ ، فكل فعل يفعله الإنسان فيه ضرر ، ففي الأكل ضرر كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه (2) ، وفي عدمه ضرر ، والنوم الكثير ضرر ، والقليل كذلك ، في القراءة ضرر ، وفي عدمها
ص: 711
ضرر ، كذلك هناك أفعال في فعلها ضرر وفي تركها منفعة ، ولكنّها ليست حراماً بإجماع الأمّة ، مثل أكل بعض المأكولات الضارّة كالشحوم ، والفلفل الحار ، والسكر الأبيض ، وعشرات الأسماء ، فمع إمكان الإنسان التخلّي عنها إلاَّ أنه ليس ملزماً ، وباختصار ليس هنالك فعل إلاَّ فيه ضرر ، ممَّا يدعونا إلى التفكير في معنى الضرر المقصود في الحديث.
وهنا نتعرَّف على أنّ الضرر نوعان : ضرر حتميٌّ ، وضرر غير حتميٍّ ، أو بمعنى : ضرر مسموح به ، وضرر غير مسموح به ، فالضرر الحرام المقصود في الحديث هو الضرر الحتمي ، بمعنى حتماً يؤدِّي إلى هلاك الإنسان ، مثل أن يشرب الانسان كأساً من السمِّ ، أمَّا الضرر غير الحتمي هو أن يشرب الإنسان مثلا كأساً من القهوة ، فمع أنه فيه نسبة من الضرر إلاَّ أنه ضرر مأذون به.
قاطعته قائلة : ولكن في ضرب الرأس بالسيف ضرر حتمي ، فمن الممكن أن تصادف الضربة شرياناً ، ممَّا يؤدِّي إلى النزف المتواصل ، فيؤدِّي إلى موته.
خالي : هذا الاحتمال غير وارد ولا يعوَّل عليه ; لأن الاحتمال نوعان : احتمال عقلائي ، واحتمال غير عقلائي ، والفرق بين الاثنين أنّ الأول احتمال قائم على مجموعة من المبادئ العلمية ، والثاني عكسه ، فمن المحتمل أن يقع هذا البيت على رؤوسنا ، فهل نركض خارج الغرفة؟!
قلت : لا - وأنا ضاحكة - لأن هذا مجرَّد احتمال سخيف.
خالي : وإذا قال لك مهندس مختص : بأن أعمدة البيت لا يمكنها حمل هذه الغرفة أكثر من يوم مثلا فهل تغادرينها؟
قلت : نعم ، وإذا بقيت أكون رميت بنفسي في التهلكة!
خالي : هذا هو بالضبط الفرق بين الاحتمالين ، فقولك : من المحتمل أن
ص: 712
تقطع الضربة شرياناً ، هو كالقول : من المحتمل أن تصدمك سيارة إذا عبرت الشارع ، فهل تتوقَّفين عن العبور؟
قلت : لكن يا خالي ، إذا نظر إنسان إلى منظرهم وهم مضرّجون بالدماء في منظر تشمئزّ منه القلوب وخاصة غير المسلم ، ممَّا يجعله يستهجن هذا الدين الذي يجعل أتباعه غارقين في الدماء.
خالي : نعم معك حق ، إن هذا المنظر الذي يخرج به المطبّرون كما يسمّونهم منظر ( قد ) تشمئزُّ منه القلوب ، ولكن ليس عليهم عتاب ، ولكي تعرفي ذلك لابدَّ لنا من النظر في الجذر الثقافي الذي يرتكز عليه التطبير ، فهو لا يعدو كونه عملا فنّياً ولوحةً إبداعيةً تحاول أن تقترب من مأساة كربلاء ، فإذا أحضرنا مجموعة من الرسَّامين وكلَّفناهم برسم واقعة كربلاء فما هي اللوحات التي تتوقَّعين أن يرسموها ، غير رؤوس مقطَّعة ، وأياد مبتورة ، وخيام محروقة ، ونساء مفجوعة ، فهل يحقُّ لنا أن نعاتبهم على تلك الرسومات ونقول : كان أجدر بكم أن ترسموا لنا حدائق ومياهاً وزهوراً ، فالقبح إذاً ليس في اللوحة ، وإنما القبح في الواقع الذي حاولت أن تجسِّده اللوحة ، وإن صدق ذلك على اللوحة الورقيَّة يصدق أيضاً على اللوحة التي يشترك مجموعة من الناس في إخراجها كالعمل الدرامي مثلا ، فهذا الموكب الدرامي الذي يتكوَّن من مجموعة من الناس لابسين الأكفان وهي ملطَّخة بالدماء ، وحاملين السيوف ، حقاً منظر تشمئزُّ منه النفوس ، ولكن ليس القبح فيه ، وإنما القبح في ذلك الواقع التأريخي ، وفي تلك المعركة المفجعة ، فالمأساة ليست في التطبير ، وإنما هي في كربلاء ، فهل نغيِّر حقيقة كربلاء أيضاً؟!
قلت : هذا الكلام بصورته النظريّة مقنع ، ولكن عملياً أرى أنه بعيد ، فأنا لا
ص: 713
أتصوَّر أن يدفعني أمر للقيام بضرب رأسي بالسيف.
خالي : الفعل يصدر من الإنسان عندما تكون هناك تهيئة نفسيَّة تناسب الفعل ، فإذا لم تتحقَّق فإن الدوافع النظريَّة ليست كافية ، فكثير من الأمور نعتقد بها نظريّاً ولكن لا نمارسها إلاَّ إذا كانت هناك تهيئة نفسيّة ، فمثلا ضرورة الأكل مقدِّمة نظريَّة ، ولكن لا يقدم الإنسان على الأكل إلاَّ إذا كان جائعاً ممَّا تستعدُّ نفسه للقيام بالأكل ، وكذا الأمثلة كثيرة ، فنحن خلافنا مع الذين يستنكرون هذه الشعائر خلاف نظريٌّ وليس عمليّاً ، فلم نطلب منهم المشاركة ، ومن هنا كان النقاش النظري ضرورياً معهم ، أمَّا التهيئة النفسيَّة فتحتاج إلى مقدِّمات من نوع آخر ، فمثلا الصوت الجميل في تلاوة القرآن يخلق جوّاً تهيج معه النفس ممَّا يجعلها تبكي ، وكذا الأغاني ، فإنّها تطرب النفس فتكون مقدِّمة للرقص ، وكذلك في محرَّم عندما يعيش الإنسان أجزاء كربلاء ، ويستنشق روائح تلك الدماء الزاكيات ، وتعلو النداءات بثارات الحسين علیه السلام ، وتدقُّ طبول الحرب ، تهيِّئ الإنسان نفسيّاً للقيام بتلك الشعائر التي تكون تعبيراً صادقاً لما يجول في نفسه من حبٍّ للإمام الحسين علیه السلام .
تردَّدت كثيراً في تسجيل تجرتبي الأولى مع الإمام الحسين علیه السلام ، وكلَّما أبدأ بالكتابة تهرب الكلمات من تحت سنان قلمي ، وتبقى المأساة مكتومة في داخل نفسي ، فلا معين أطيل معه العويل والبكاء ، ولا جزوع فأساعد جزعه إذا خلا ، فتمتزج البسمة عندي بالدمعة ، ويحلُّ الحزن مكان الفرحة ، وتتبدَّل كل أهازيج البشرى بأنين الحزن الدائم ، ففي ميلاده سكبت عبرة ... وما زالت تلك
ص: 714
العبرة .. وفي استشهاده وفي ذكراه تعلو العبرة .. فللحسين مجد مكتوب من الأزل الأبديّ لا ينال إلاَّ بالدمع الأحمر : يا حسين! اعلم أن لك عند اللّه أجراً لا تبلغه إلاَّ بالشهادة.
قبل أن أعيش في رحاب التشيُّع ، وأهتدي إلى مذهب أهل البيت علیهم السلام لم أكن أعرف عن الحسين علیه السلام إلاَّ ما درسناه في المدارس ، وهي قصة مجتزأة تعبِّر عن الكبت الدائم لقضيَّة كربلاء ، أذكر أنّني كنت في الرابع الابتدائي ، فحاول الأستاذ - تبعاً للمنهج - أن يطوي كل ذلك التأريخ في قوله : إن يزيد قتل الإمام الحسين علیه السلام وأولاده وسبى نساءه ، في معركة تسمَّى كربلاء ، فسألت طالبة مسيحيَّة بدهشة : كيف تجوِّزون قتل ابن بنت نبيِّكم؟ فدمعت عيناي دون أن أشعر ، فكانت تلك أول دمعة في مصاب الإمام الحسين علیه السلام ، فقال الأستاذ : ذلك قدر اللّه على هذه الأمة.
قدر اللّه أم غدر الأمة التي لم تحفظ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذرِّيَّته وهو
القائل : أذكِّركم اللّه في أهل بيتي (1) ، وقال اللّه تعالى في حقِّهم : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) ، أيقتل - روحي له الفداء - في أبشع صورة مرَّت على تأريخ البشرية ، وهو الذي قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبَّ اللّه من أحبّ حسيناً (3) ، وقال : الحسين مصباح الهدى وسفينة
ص: 715
النجاة (1) ، والحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة (2) ، وعندما قال رجل للحسين علیه السلام وهو راكب على ظهر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نعم المركب ركبت ، فقال رسول اللّه : ونعم الراكب هو (3) ، فالأمَّة التي تجرَّأت على قتل الحسين علیه السلام هي نفسها يمكنها قتل الرسول صلی اللّه علیه و آله .
فبقيت تلك الدمعة وحيدة حتى جاء اليوم الذي عشت فيه مأساة كربلاء بتفاصيلها ، حيث ما تزال ظلالها الحزينة ترافق ظلّي إلى اليوم ، تاركة آثاراً
ص: 716
عميقة في نفسي.
كنّا في شهر محرَّم الحرام في منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام بدمشق ، والسواد يغطّي الساحات ، والكل حزين يهتف : يا لثارات الحسين ، فانتقل بي الزمان حتى كأنّي أرى كربلاء بأمِّ عيني ، صورة لا تحكى ومنظر لا يصوَّر ، عشت لحظات في فيافي دمائها الحمراء ، أواسي النساء الهاشميّات ، فبكيت معهن حتى نبض الدمع مني ، وحينها رجع صدى النفس يردِّد : يا ليتنا كنّا معك فنفوز فوزاً عظيماً.
فعاشوراء لم تمت ، بل هي حاضرة في وجدان هذه الأمَّة ، يلوح من أريج دمائها الذاكية الصمود والإباء ، وفي أعتابها شموخ الإيمان على الكفر ، وفي لهواتها انتصار الحق على الباطل ، وعلى أشراف أبوابها كان نهج الحق وراية العدل ترفرف مدى الأزمان ، فكل أيامنا عاشوراء ، وكل بقعة من بقاع الأرض كربلاء ، فهي أعظم من أن تكون حبيسة التأريخ ، وأكبر من أن يكون الزمان قيداً على عنفوان تحدّيها ، فهي شاهد حيٌّ على كل العصور.
فعام 61 للهجرة هو بداية المأساة ، ولكن لم يكن هو النهاية ، فلم تزل حاضرة بكل مأساتها عبر السنين ، ففي كربلاء يتجلَّى الإسلام بأسمى معانيه ، وتضيق عندها المسافة بين الإنسان والقيم ، وتقترب فيها السماء من الأرض ، فكانت تضحيات الحسين جسراً يقرِّب الإنسان من العالم المعنويِّ والأفق الأعلى بما لا يقرِّب به شيء آخر.
فللحسين قضيَّتان : قضيَّة الجسد المقطَّع ، وقضيَّة الحقِّ المضيَّع ، وفي كربلاء اختلطت القيم بالدماء ، والعدل بالشهادة ، ولكي يرفع الحق رفعت هامة الحسين على سنان الرماح ، فلا وجود للمسيرة من غير الوقوف على أشلاء
ص: 717
كربلاء ، وليس هناك مأساة تبكي من غير تلك المسيرة التي كان الحسين قرباناً لها : ( اللّهمّ تقبل هذا القربان من آل محمّد ) فكانت المأساة بحجم المسيرة ، وكانت التضحية بقدر المنهج.
فأصبح الحسين علیه السلام هو نهجي .. وعاشوراء هي شعاري ، وتربته الطاهرة أضعها تحت جبيني في سجودي ، لكي أبقى دوماً مع الحسين وألقى اللّه مع الحسين علیه السلام (1).
ص: 718
جاء في كتاب المحاسن والمساوئ : لمَّا كان حرب الجمل أقبلت عائشة في هودج من حديد ، وهي تنظر من منظر قد صيِّر لها في هودج ، فقالت لرجل من ضبَّة وهو آخذ بخطام جملها أو بعيرها : أين ترى علي بن أبي طالب علیه السلام ؟
قال : ها هو ذا واقف ، رافع يده إلى السماء.
فنظرت فقالت : ما أشبهه بأخيه!
قال الضبّي : ومن أخوه؟
قالت : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : فلا أراني أقاتل رجلا هو أخو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فنبذ خطام راحلتها من يده ومال إليه (1).
عن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس قال لعائشة يوم الجمل : يا أم
ص: 719
المؤمنين! هل عهد عليك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا المسير؟!
قالت : اللّهم لا.
قال : فهل وجدته في شيء من كتاب اللّه جلّ ذكره؟
قالت : ما نقرأ إلاّ ما تقرأون.
قال : فهل رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلّة والمشركون في كثرة؟
قالت : اللّهم لا.
قال الأحنف : فإذن ما هو ذنبنا؟
قال : وقال الحسن البصري : تقلَّدت سيفي ، وذهبت لأنصر أم المؤمنين! فلقيني الأحنف ... فقال : إلى أين تريد؟
فقلت : أنصر أمّ المؤمنين!
فقال : واللّه ما قاتلت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشركين ، فكيف نقاتل معها المؤمنين؟! قال : فرجعت إلى منزلي ووضعت سيفي! (1)
قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : إن أحد الأصدقاء كان يحاور بعض الوهّابيّة عن جهاد المرأة ، فاحتدم النقاش بينهما ، وتعصَّب الوهابي في وجه هذا الأخ صارخاً : الجهاد للمرأة غير جائز ، ويعتبر تبُّرجاً ، وهو حرام ، فقال له : إذن لماذا خرجت أمّكم يوم الجمل (2).
ص: 720
لمَّا نزل عليٌّ علیه السلام بالبصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي : من عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبيِّ صلی اللّه علیه و آله إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان ; أمَّا بعد : فأقم في بيتك ، وخذِّل الناس عن عليٍّ ، وليبلغني عنك ما أحبُّ ; فإنك أوثق أهلي عندي ، والسلام.
فكتب إليها : من زيد بن صوحان إلى عائشه بنت أبي بكر ; أمَّا بعد : فإن اللّه أمرك بأمر وأمرنا بأمر ; أمرك أن تقري في بيتك ، وأمرنا أن نجاهد ، وقد أتاني كتابك ، فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني اللّه ، فأكون قد صنعتُ ما أمرك اللّه به ، وصنعت ما أمرني اللّه به ، فأمرك عندي غير مطاع ، وكتابك غير مجاب ، والسلام (1).
عن أبي إسحاق قال : جاء ابن أحور التميمي إلى معاوية فقال : يا أميرالمؤمنين! جئتك من عند ألأم الناس ، وأبخل الناس ، وأعيى الناس ، وأجبن الناس.
فقال : ويلك! وأنّى أتاه اللؤم؟! ولكنَّا نتحدَّث أن لو كان لعليٍّ بيت من تبن وآخر من تبر لأنفد التبر قبل التبن ، وأنّى أتاه العىُّ؟! وإن كنا لنتحدَّث أنه ما جرت المواسي على رأس رجل من قريش أفصح من علي ، ويلك! وأنّى أتاه
ص: 721
الجبن وما برز له رجل قطّ إلاَّ صرعه؟! واللّه يا ابن أحور! لو لا أن الحرب خدعة لضربت عنقك ، اخرج فلا تقيمن في بلدي.
قال عطاء : وإن كان يقاتله فإنه كان يعرف فضله (1).
روى ابن عبد ربِّه الأندلسي ، قال : لمَّا قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة قال له معاوية : بلغني - يا أبا الأسود - أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين ، فما كنت تحكم به؟
قال : لو جعلني أحدهما لجمعت ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين ، وألفاً من الأنصار وأبناء الأنصار ، ثمَّ ناشدتهم اللّه : المهاجرون وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أم الطلقاء؟ (2).
قال له معاوية : لله أبوك ، أيَّ حكم كنت تكون لو حكمت (3).
عن قيس بن أبي حازم قال : سأل رجل معاوية عن مسألة ، فقال : سل
ص: 722
عنها علي بن أبي طالب ، فهو أعلم مني؟
قال : قولك - يا أميرالمؤمنين - أحبُّ إليَّ من قول علي.
قال : بئس ما قلت ، ولؤم ما جئت به ، لقد كرهتَ رجلا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يغرُّه بالعلم غرّاً ، ولقد قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (1).
وكان عمر بن الخطاب يسأله ويأخذ عنه ، ولقد شهدت عمر إذا أشكل عليه أمر قال : ها هنا علي بن أبي طالب.
ثمَّ قال للرجل : قم لا أقام اللّه رجليك ، ومحا اسمه من الديوان (2).
وَمَنَاقِب شَهِدَ العَدُوُّ بِفَضْلِهَا *** وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الأَعْدَاءُ
قال ابن أبي الحديد : قال عدوُّه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبّي لمَّا قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك! كيف تقول إنّه أبخل الناس؟! لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفد تبره قبل تبنه (3).
ولمَّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيى الناس.
ص: 723
قال له : ويحك! كيف يكون أعيى الناس؟! فو اللّه ما سنَّ الفصاحة لقريش غيره (1) (2).
قال معاوية لعديِّ بن حاتم : ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟
قال : قُتلوا!
قال : ما أنصفك ابن أبي طالب ; إذ قتل بنوك معه وبقي له بنوه.
قال : لئن كان ذلك لقد قتل هو وبقيت أنا بعده.
قال له معاوية : ألم تزعم أنَّه لا يخنق في قتل عثمان عنز؟ قد واللّه خنق فيه التيس الأكبر.
ثمَّ قال معاوية : أما إنه قد بقيت من دمه قطرة ولابد أن أتبعها.
قال عدي : لا أبا لك! شم السيف ، فإن سلَّ السيف يسلُّ السيف.
فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة ، فقال : اجعلها في كتابك فإنها حكمة (3).
وقال المسعودي : وذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية ، فقال له معاوية : ما فعلت الطرفات يعني أولاده.
ص: 724
قال : قتلوا مع عليٍّ!
قال : ما أنصفك عليٌّ ، قتل أولادك وبقي أولاده.
فقال عدي : ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت بعده.
فقال معاوية : أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان ، ما يمحوها إلاَّ دم شريف من أشراف اليمن.
فقال عدي : واللّه! إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فتراً لندنيّن إليك من الشرِّ شبراً ، وإن حزَّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي ، فسلِّم السيف - يا معاوية - لباعث السيف.
فقال معاوية : هذه كلمات حكم فاكتبوها (1).
وفي رواية البيهقي ، قال : إن عدي بن حاتم دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال : يا عدي! أين الطرفات؟ يعني بنيه : طريفاً وطارفاً وطرفة.
قال : قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب علیه السلام .
فقال : ما أنصفك ابن أبي طالب ; إذ قدَّم بنيك وأخَّر بنيه.
قال : بل ما أنصفت أنا عليّاً إذ قتل وبقيت.
قال : صف لي عليّاً.
فقال : إن رأيت أن تعفيني.
قال : لا أعفيك.
قال : كان واللّه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلا ، ويحكم فصلا ،
ص: 725
تتفجَّر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان واللّه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه إذا خلا ، ويقلِّب كفّيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلِّمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فإن تبسَّم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظِّم أهل الدين ، ويتحبَّب إلى المساكين ، لا يخاف القويّ ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه ، وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول : يا دنيا! إليَّ تعرَّضت؟ أم إليَّ أقبلت؟ غرِّي غيري ، لا حان حينك ، قد طلَّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير ، آه من قلّة الزاد ، وبعد السفر ، وقلّة الأنيس.
قال : فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشِّفها بكمِّه ، ثمَّ قال : يرحم اللّه أبا الحسن ، كان كذلك ، فكيف صبرك عنه؟
قال : كصبر من ذبح ولدها في حجرها ، فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها.
قال : فكيف ذكرك له؟
قال : : وهل يتركني الدهر أن أنساه (1).
ص: 726
عن أحمد بن إبراهيم الغساني قال : حدَّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدِّه قال : استأذن عدي بن حاتم على معاوية وعنده عبد اللّه بن الزبير ، فقال له عبداللّه : بلغني - يا أميرالمؤمنين - أن عند هذا الأعور جواباً ، فلو شئت هجته.
فقال : أمَّا أنا فلا أفعل ، ولكن دونكاه إن بدا لك.
فلمَّا دخل عدي قال له عبد اللّه بن الزبير : في أيِّ يوم فقئت عينك يا أبا طريف؟
فقال له : في اليوم الذي قتل فيه أبوك ، وكشفت فيه إستك ، ولطم فيه على قفاك وأنت منهزم ، يعني ابن الزبير ... وفي رواية : فضحك معاوية (1).
روى العياشي عن أبي الحسن علي بن محمّد الهادي علیه السلام أن قنبر مولى أميرالمؤمنين علیه السلام دخل على الحجاج بن يوسف ، فقال له : ما الذي كنت تلي من أمر علي بن أبي طالب علیه السلام ؟
قال : كنت أوضّيه.
فقال له : ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟
قال : كان يتلو هذه الآية : ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
ص: 727
وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (1).
فقال الحجاج : كان يتأوَّلها علينا؟
فقال : نعم.
فقال : ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ (2)
قال : إذن اُسعد وتُشقى ، فأمر به فقتله (3).
روى القمي عليه الرحمة ، قال : حدَّثني أبي ، عن القاسم بن محمّد بن سليمان بن داود المنقري ، عن أبي حمزة ، عن شهر بن حوشب قال : قال لي الحجاج : بأن آية في كتاب اللّه قد أعيتني؟
فقلت : أيُّها الأمير! أيَّة آية هي؟
فقال قوله : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (4) ، واللّه إني لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ، ثمَّ أرمقه بعيني فما أراه يحرِّك شفتيه حتى يخمد ، فقلت : أصلح اللّه الأمير ، ليس على ما تأوَّلت.
قال : كيف هو؟
قلت : إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا ، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ
ص: 728
ولا نصرانيّ إلاَّ آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهدي علیه السلام .
قال : ويحك! أنَّى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟
فقلت : حدثني به محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السلام .
فقال : جئت بها واللّه من عين صافية (1).
قال عمر بن عبد العزيز : كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة ابن مسعود ، فمرَّ بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ، ونحن نلعن عليّاً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان ، وجئت إليه لأدرس عليه وردي ، فلمَّا رآني قام فصلَّى ، وأطال في الصلاة شبه المعرض عنّي حتى أحسست منه بذلك ، فلمَّا انفتل من صلاته كلح في وجهي ، فقلت له : ما بال الشيخ؟
فقال لي : يا بنيّ! أنت اللاعن عليّاً منذ اليوم؟
قلت : نعم.
قال : فمتى علمت أن اللّه سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟!
فقلت : يا أبت! وهل كان عليٌّ من أهل بدر؟
فقال : ويحك! وهل كانت بدر كلّها إلاَّ له؟!
فقلت : لا أعود.
فقال : اللّه أنك لا تعود؟
ص: 729
قلت : نعم ، فلم ألعنه بعدها.
ثمَّ كنت أحضر تحت منبر المدينة ، وأبي يخطب يوم الجمعة - وهو حينئذ أمير المدينة - فكنت أسمع أبي يمرُّ في خطبه تهدر شقاشقه ، حتى يأتي إلى لعن علي علیه السلام فيجمجم ، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللّه عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوماً : يا أبت! أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك ، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عيّياً؟!
فقال : يا بنيَّ! إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد.
فوقرت كلمته في صدري ، مع ما كان قاله لي معلِّمي أيام صغري ، فأعطيت اللّه عهداً ، لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيِّرنّه ، فلمَّا منَّ اللّه عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1) ، وكتب به إلى الآفاق فصار سنَّة.
وقال كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر ويذكر قطعه السبّ :
وَلَيْتَ فَلَمْ تَشْتم عليّاً وَلَمْ تُخِف *** بَريّاً وَلَمْ تَقْبَلْ إِسَاءَةَ مُجرِم
وَكَفَّرْتَ بِالعَفْوِ الذُنُوبَ مَعَ الَّذِي *** أَتَيْتَ فَأَضْحَى رَاضِياً كُلُّ مُسْلِمِ (2)
روى ابن وهب ، عن حفص بن ميسرة ، عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير أنه
ص: 730
سمع ابناً له يتنقَّص عليّاً ، فقال : يا بنيَّ! إياك والعودة إلى ذلك ، فإن بني مروان شتموه ستين سنة ، فلم يزده اللّه بذلك إلاَّ رفعة ، وإن الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا ، وإن الدنيا لم تبنِ شيئاً إلاَّ عادت على ما بنت فهدمته (1).
وفي رواية الثقفي ، قال : حدَّثنا ابن أبي سيف ، قال : قال ابن لعامر ابن عبد اللّه بن الزبير لولده : لا تذكر - يا بنيَّ - عليّاً إلاَّ بخير ، فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة ، فلم يزده اللّه بذلك إلاَّ رفعة ، إن الدنيا لم تبنِ شيئاً قط إلاَّ رجعت على ما بنت فهدمته ، وإن الدين لم يبنِ شيئاً قط وهدمه (2).
وقال بعضهم في ذلك :
لَعَنَتْهُ بِالشَّام سِبعينَ عاماً *** لَعَنَ اللّهُ كَهْلَها وَفَتَاهَا
وفي رواية ابن عبد ربِّه الأندلسي : قال الرياشي : انتقص ابن حمزة ابن عبد اللّه بن الزبير عليّاً علیه السلام ، فقال له أبوه : يا بنيّ! إنه واللّه ما بنت الدنيا شيئاً إلاَّ هدمه الدين ، وما بنى الدين شيئاً فهدمته الدنيا ، أما ترى عليّاً وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر ، فكأنما واللّه يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء!! وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس ، فكأنما يكشفون عن الجيف!! (3).
ص: 731
أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي (1) وابنه وروى العلامة الحلي عليه الرحمة ، قال : كان لأبي دلف ولد ، فتحادث أصحابه في حبِّ علي علیه السلام وبغضه ، فروى بعضهم عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : يا عليُّ! ما يحبُّك إلاَّ مؤمن تقيٌّ ، ولا يبغضك إلاَّ منافق شقيٌّ ولد زنية أو حيضة.
فقال ولد أبي دلف : ما تقولون في الأمير؟ هل يؤتى في أهله؟
فقالوا : لا.
فقال : واللّه إني أشدُّ الناس بغضاً لعلي بن أبي طالب.
فخرج أبوه وهم في التشاجر فقال : ما تقولون؟
فقالوا : كذا وكذا ، وحكوا كلام ولده.
فقال : واللّه إن هذا الخبر لحقٌّ ، واللّه إنّه لولد زنية وحيضة معاً ، إني كنت مريضاً في دار أخي في حمَّى ثلاث ، فدخلت عليَّ جاريته لقضاء حاجة ، فدعتني نفسي إليها ، فأبت وقالت : إني حائض ، فكابرتها على نفسها فوطأتها فحملت بهذا الولد ، فهو لزنية وحيضة معاً (2).
وجاء في رواية المسعودي ، قال : إن دلفاً كان ينتقص علي بن أبي طالب علیه السلام ، ويضع منه ومن شيعته ، وينسبهم إلى الجهل ، وإنه قال يوماً - وهو في مجلس أبيه ، ولم يكن أبوه حاضراً - : يزعمون أن لا ينتقص علياً أحد إلاَّ لغير رشده ، وأنتم تعلمون غيرة الأمير ، وأنا أبغض علياً.
ص: 732
قال : فما كان بأوشك من أن خرج أبو دلف ، فلمَّا رأيناه قمنا له ، فقال : قد سمعت ما قاله دلف ، والحديث لا يكذب ، والخبر الوارد في هذا المعنى لا يختلق ، هو واللّه لزنية وحيضة! وذلك أني كنت عليلا فبعثت إليَّ أختي جارية لها كنت بها معجباً ، فلم أتمالك أن وقعت عليها ، وكانت حائضاً ، فعلقت به ، فلمَّا ظهر حملها وهبتها لي.
فبلغ من عداوة دلف هذا لأبيه ونصبه ومخالفته له - لأنَّ الغالب على أبيه التشيُّع والميل إلى علي علیه السلام - أن شنَّع عليه بعد وفاته ... (1).
وقال ابن كثير في أبي دلف : وكان فيه تشيُّع ، وكان يقول : من لم يكن متغالياً في التشيُّع فهو ولد زنا ، فقال له ابنه دلف : لست على مذهبك يا أبة ، فقال : واللّه لقد وطأت أمَّك قبل أن أشتريها ، فهذا من ذاك (2).
قال أبو عبيدة المعتزلي لهشام بن الحكم : الدليل على صحّة معتقدنا وبطلان معتقدكم كثرتنا وقلّتكم ، مع كثرة أولاد علي علیه السلام وادّعائهم.
فقال هشام : لست إيانا أردت بهذا القول ، انما أردت الطعن على نوح ، حيث لبث في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً ، يدعوهم إلى النجاة ليلا ونهاراً ، وما آمن معه إلاَّ قليل (3).
ص: 733
قال بعض النواصب لصاحب الطاق : كان عليٌّ يسلِّم على الشيخين بإمرة المؤمنين ، أفصدق أم كذب؟
قال : أخبرني أنت عن الملكين اللذين دخلا على داود ، فقال أحدهما : ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) (1) كذب أم صدق؟
فانقطع (2).
قال رجل لشريك : أليس قول علي لابنه الحسين يوم الجمل : يا بنيَّ! يودُّ أبوك أنه مات قبل هذا اليوم بثلاثين سنة ، يدلُّ على أن في الأمر شيئاً؟
فقال شريك : ليس كل حق يُشتهى أن يتعب فيه ، قد قالت مريم في حق لا يُشك فيه : ( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ) (3) (4).
عن نصر بن علي ، عن علي بن جعفر بن محمّد بن علي بن حسين بن علي ، حدَّثني أخي موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمّد ، عن أبيه علي بن
ص: 734
الحسين ، عن أبيه ، عن جدّه أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ بيد حسن وحسين قال : من أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمَّهما كان معي في درجتي يوم القيامة.
قال أبو عبد الرحمن عبداللّه : لمَّا حدَّث بهذا الحديث نصر بن علي (1) أمر المتوكِّل بضربه ألف سوط ، وكلَّمه جعفر بن عبد الواحد ، وجعل يقول له : هذا الرجل من أهل السنّة ، ولم يزل به حتى تركه (2).
يروى أن المتوكِّل نظر إلى ابنيه المعتزّ والمؤيَّد ، فقال لابن السكّيت (3) : من أحبُّ إليك : هما ، أو الحسن والحسين علیهماالسلام ؟
ص: 735
فقال : بل قنبر (1).
فأمر الأتراك ، فداسوا بطنه ، فمات بعد يوم.
وقيل : حمل ميّتاً في بساط.
قال : وكان في المتوكّل نصب ، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (2).
وفي النجوم الزاهرة : قال المتوكل : من أحبُّ إليك : أنا وولداي المؤيَّد والمعتزّ ، أم علي والحسن والحسين علیهم السلام ؟ فقال : واللّه ، إن شعرة من قنبر خادم علي خير منك ومن ولديك (3).
قال محمّد بن موسى المأموني صاحب النسائي : سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن كتاب الخصائص لعلي علیه السلام ، وتركه تصنيف فضائل الشيخين ، فذكرت له ذلك.
فقال : دخلت دمشق والمنحرف عن عليٍّ علیه السلام بها كثير ، فصنَّفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم اللّه.
وقيل له وأنا أسمع : ألا تُخرِّج فضائل معاوية؟
فقال : أيَّ شيء أُخرِّج؟ حديث : اللّهم لا تشبع بطنه ، فسكت السائل (4).
ص: 736
وقال محمّد بن إسحاق الإصبهاني : سمعت مشايخنا بمصر يذكرون أن أبا عبدالرحمن فارق مصر في آخر عمره ، وخرج إلى دمشق ، فسئل بها عن معاوية ابن أبي سفيان وما روي من فضائله.
فقال : لا يرضى معاوية رأساً برأس حتى يفضل؟!
قال : فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد ، ثمَّ حمل إلى الرملة ، ومات بها سنة ثلاث وثلاث مئة ، وهو مدفون بمكة (1).
قال الحافظ أبو نعيم : مات بسبب ذلك الدوس فهو مقتول (2).
وقال الحاكم أبو عبداللّه بن البيع الحافظ : حدَّثني علي بن عمر الحافظ أنه لما امتحن بدمشق - أعني النسائي - قال : احملوني إلى مكة! فحمل إلى مكة وتوفِّي بها ، وهو مدفون بين الصفا والمروة ، وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة (3).
جاء في ترجمة الكنجي هو الحافظ فخر الدين أبو عبداللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي ، فقد قتل عام 658 في سبيل نشر فضائل أميرالمؤمنين علیه السلام ، فألَّف كتاباً باسم : كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، وكتاباً آخر باسم : البيان في أخبار صاحب الزمان علیه السلام ، فنشرهما في دمشق الشام ، فقتل في جامعه بلا مبرِّر ولا مسوِّغ سوى أنه قام بواجبه في نشر
ص: 737
فضائل الوصيِّ علیه السلام .
قال في أول كتابه : لمَّا جلست يوم الخميس لست بقين من جمادي الآخرة سنة 647 بالمشهد الشريف بالحصباء من مدينة الموصل ودار الحديث المهاجريّة ، حضر المجلس صدور البلد من النقباء والمدرِّسين والفقهاء وأرباب الحديث ، فذكرت بعد الدرس أحاديث ، وختمت المجلس بفصل في مناقب أهل البيت علیهم السلام .
فطعن بعض الحاضرين لعدم معرفته بعلم النقل في حديث زيد بن أرقم في غدير خم ، وفي حديث عمار في قوله صلی اللّه علیه و آله : طوبى لمن أحبَّك ، وصدّق فيك (1).
فدعتني الحميّة لمحبَّتهم على إملاء كتاب يشتمل على بعض ما رويناه من مشايخنا في البلدان من أحاديث صحيحة من كتب الأئمّة والحفّاظ في مناقب أميرالمؤمنين علي كرَّم اللّه وجهه (2).
ص: 738
1 - الآحاد والمثاني : ابن أبي عاصم ( ت 287 ) نشر دار الدراية للطباعة والنشر والتوزيع السعودية الرياض ، الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م.
2 - الإحتجاج : الشيخ الطبرسي ، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي تعليقات وملاحظات السيد محمّد باقر الخرسان ، طبع في مطابع النعمان النجف الأشرف حسن الشيخ إبراهيم الكتبي 1386 ه- - 1966 م.
3 - أحكام القرآن : أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370 ه- ضبط نصه وخرج آياته عبد السلام محمّد علي شاهين ، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1415 ه- - 1994 م.
4 - الأحكام في أصول الأحكام : علي بن محمّد الآمدي ، نشر المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1402 ه- بيروت - لبنان.
5 - إختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي : لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي تصحيح وتعليق المعلم الثالث ميرداماد الاسترابادي ، نشر مؤسسة آل البيت علیهم السلام طبع : مطبعة بعثت - قم تأريخ الطبع : 1404 ه.
ص: 739
6 - أخيرا أشرقت الروح : الأستاذه لمياء حمادة ، نشر دار الخليج العربي.
7 - الأدب المفرد : محمّد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 ه- ، نشر مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الأولى 1406 ه- - 1986 م تحقيق السيد مهدي الرجائي ، الطبعة الأولى 1418 ه- قم المقدسة.
8 - الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين علیهم السلام : محمّد طاهر بن محمّد حسين الشيرازي النجفي القمي المتوفى سنة ( 1098 ه- ) تحقيق السيد مهدي الرجائي ، الطبعة الأولى 1418 ه- قم المقدسة - إيران.
9 - الإرشاد : الشيخ المفيد ، أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي ( 336 - 413 ه- ) تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لتحقيق التراث.
10 - أسباب النزول : أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري ، ( ت 468 ه- ) ، نشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع 1388 ه- - 1968 م توزيع دار الباز مكه المكرمة.
11 - أسد الغابة في معرفة الصحابة : عز الدين أبو الحسن على بن أبي الكرم محمّد بن محمّد الشيباني المعروف بابن الأثير ، انتشارات اسماعيليان تهران - ناصر خسرو.
12 - أسرار الشهادات : الشيخ آغا بن عابد الشيرواني الحائري المعروف بالفاضل الدربندي ( ت 1285 ) تحقيق الشيخ محمّد جمعة بادي ، والأستاذ عباس ملا عطية الجمري ، نشر ذوي القربى الطبعة الأولى 1420 ه- قم المقدسة - إيران.
13 - الإصابة في تمييز الصحابة : الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ه- نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
ص: 740
14 - الأصول العامة للفقه المقارن : العلامة السيد محمّد تقي الحكيم. نشر مؤسسة آل البيت علیهم السلام للطباعة والنشر ، الطبعة الثانية 1979 م.
15 - أضواء على السنة المحمدية : الشيخ محمود أبو ريه ، الطبعة الخامسة.
16 - إعلام الورى بأعلام الهدى : أمين الإسلام الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري ، تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.
17 - الأمالي : الشيخ المفيد ، أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبرى البغدادي ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية قم المقدسة.
18 - الأمالي : الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم الطبعة : الأولى 1417 ه.
19 - الإمامة والسياسة المعروف بتأريخ الخلفاء : ابن قتيبة الدينوري الناشر : انتشارات الشريف الرضي سنة الطبع : 1413 ه- الطبعة : الأولى في إيران المطبعة : أمير - قم المقدسة.
20 - أمل الآمل : الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 ه- تحقيق السيد أحمد الحسيني ، نشر مكتبة الأندلس شارع المتنبي بغداد ، مطبعة الآداب - النجف الأشرف - العراق.
ص: 741
21 - بحار الأنوار : فخر الأمة المولى الشيخ محمّد باقر المجلسي قدس سره ، الطبعة الثانية 1403 ه- - 1983 م نشر مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان.
22 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد : القاضي أبو الوليد محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير ( بابن رشد الحفيد ) المتوفى سنة 595 ه- نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
23 - البداية والنهاية : إسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه- ، نشر دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى 1408 ه. 1988 م.
24 - بلاغات النساء : أبو الفضل بن أبي طاهر المعروف بابن طيفور المتوفى سنة 380 ه- منشورات مكتبة بصيرتي قم - شارع إرم.
25 - بنور فاطمة اهتديت : الكاتب السوداني الأستاذ عبد المنعم حسن ، نشر دار المعروف للطباعة والنشر ، الطبعة الأولى 1419 ه- قم المقدسة - إيران.
26 - تأريخ بغداد أو مدينة السلام : أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 ه- ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
27 - تأريخ الطبري ( تأريخ الأمم والملوك ) : أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ، تصحيح نخبة من العلماء الأجلاء ، نشر مؤسسة الأعلمي ، بيروت - لبنان.
28 - التأريخ الكبير : أبو عبداللّه محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري المتوفى سنة ( ت 256 ) طبع تحت مراقبة الدكتور محمّد عبد المعيد
ص: 742
خان.
29 - تأريخ المدينة المنورة ( أخبار المدينة النبوية ) : ابن شبه أبو زيد عمر بن شبه النميري البصري 173 ه- - 262 ه- نشر دار الفكر - قم شارع إرم - إيران.
30 - تأريخ مدينة دمشق : الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة اللّه بن عبد اللّه الشافعي المعروف بابن عساكر 571 ه- - نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1415 ه- / 1995 م بيروت - لبنان.
31 - تأريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب ابن واضح الكاتب العباسي المعروف باليعقوبي ( ت 284 ه- ) دار صادر ، بيروت - لبنان.
32 - تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة : العلامة المتبحر السيد شرف الدين علي الحسيني الإسترابادي النجفي من مفاخر أعلام القرن العاشر ، تحقيق ونشر مدرسة الامام المهدي علیه السلام ( قم المقدسة - إيران ).
33 - تأويل مختلف الحديث : أبو محمّد عبداللّه بن مسلم بن قتيبة ( ت 276 ه- ) نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان.
34 - التبيان في تفسير القرآن : شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ( ت 460 ه- ) ، نشر دار إحياء التراث العربي.
35 - تحف العقول عن آل الرسول صلی اللّه علیه و آله : أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني رحمه اللّه من أعلام القرن الرابع نشر مؤسسة النشر الإسلامي قم المشرفة ( إيران ) الطبعة الثانية 1404 ه.
36 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : الحافظ أبو العلاء محمّد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ت 1353 ه- ، الطبعة الأولى 1410 ه-
ص: 743
1990 م ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
37 - تذكرة الحفاظ : أبو عبد اللّه شمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748 ه- نشر دار إحياء التراث العربي ، بيروت - لبنان.
38 - تذكرة الموضوعات : محمّد طاهر بن علي الهندي الفتني المتوفى سنة 986 ه.
39 - ترتيب إصلاح المنطق : الشيخ محمّد حسن بكائي ، نشر مجمع البحوث الإسلامية ، إيران - مشهد المقدسة ، الطبعة الأولى : 1412 ه.
40 - تفسير العياشي : أبو النظر محمّد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي ، نشر محمود الكتابجي وأولاده ، طهران.
41 - تفسير القرآن العظيم : أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 ه- نشر دار المعرفة 1992 م - 1412 ه- بيروت - لبنان.
42 - تفسير القمي : أبو الحسن علي بن إبراهيم القمي ( من أعلام القرن 3 - 4 ه- ( صححه وعلق عليه وقدم له العلامة السيد طيب الموسوي الجزائري ، نشر مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر قم - إيران الطبعة : الثالثة عام 1404 ه.
43 - تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي المتوفى سنة 911 ه- ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1418 ه- - 1997 م.
44 - تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد رضوان اللّه عليه : تألف شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسى المتوفى سنة 460 ه- ، نشر دار الكتب الإسلامية ، طهران بازار سلطاني.
45 - تهذيب التهذيب : شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
ص: 744
المتوفى سنة 528 ه- نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 1404 ه- - 1984 م.
46 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال : جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي 742 ه- مؤسسة الرسالة ، الطبعة الرابعة 1406 - 1985 م.
47 - تهذيب المقال : الفقيه السيد محمّد علي الموحد الأبطحي الطبعة الثانية ، قم المقدسة 1417 ه- ، نشر ابن المؤلف السيد محمّد حفظه اللّه تعالى.
48 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن : أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه- تخريج صدقي جميل العطار ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1415 ه- - 1995 م.
49 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 911 ه- ) ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت.
50 - الجامع لأحكام القرآن : أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( ت 671 ه- ) نشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه- - 1985 م.
51 - جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام : شمس الدين أبو البركات محمّد بن أحمد الدمشقي الباعوني الشافعي المتوفى سنة 871 ه- نشر مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ، الطبعة : الأولى 1415 ه.
52 - الجوهرة في نسب الإمام علي وآله علیهم السلام : محمّد بن أبي بكر الأنصاري التاهساني المعروف بالبري ، نشر مكتبة النوري دمشق الطبعة
ص: 745
الأولى 1402 ه- - 1982 م.
53 - حوارات ، تجربة عملية في الحوار السني الشيعي : الكاتب السوداني الشيخ معتصم السيد أحمد ، نشر مؤسسة البلاغ ، الطبعة الأولى ، 1425 ه- - 2004 م بيروت - لبنان ، التوزيع في سوريا - دمشق - السيدة زينب علیهاالسلام مكتبة دار الحسنيين علیهماالسلام .
54 - الخصال : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه- ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم المقدسة.
55 - خصائص الوحي المبين : الحافظ ابن البطريق شمس الدين يحيى بن الحسن الأسدي الربعي الحلي ( ت 600 ه- ) تحقيق الشيخ مالك المحمودي الطبعة الأولى سنة 1417 ه- نشر دار القرآن الكريم قم المقدسة - إيران.
56 - خصائص أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي الشافعي ( ت 303 ) تحقيق محمّد هادي الأميني.
57 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور : جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي
ص: 746
بكر السيوطي ( ت 911 ) نشر دار الفكر ، بيروت - لبنان.
58 - الدر النظيم في مناقب الأئمة اللّهاميم علیهم السلام : الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي من أعلام القرن السابع ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي الطبعة الأولى 1420 ه.
59 - دعائم الإسلام : القاضي الأجل أبو حنيفة النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون التميمي المغربي ، نشر دار المعارف بمصر 1383 ه- - 1963 م.
60 - دلائل الإمامة : المحدّث الشيخ أبو جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبري الصغير من أعلام القرن الخامس الهجري ، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسسة البعثة قم المقدسة - إيران ، الطبعة : الأولى 1413 ه.
61 - ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : الحافظ محب الدين أحمد بن عبد اللّه الطبري ( ت 694 ) عن نسخة دار الكتب المصرية ، ونسخة الخزانة التيمورية ، نشر مكتبة القدسي ، القاهرة سنة 1356 ه.
62 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة : العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني ، نشر دار الأضواء بيروت - لبنان الطبعة الثالثة 1403 ه- 1983 م.
63 - ذيل تأريخ بغداد : الحافظ محب الدين أبو عبد اللّه محمّد بن محمود ابن الحسن بن هبة اللّه بن محاسن المعروف بابن النجار البغدادي المتوفى سنة 643 ه- نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
ص: 747
64 - ربع قرن مع العلامة الأميني : الحاج حسين الشاكري ، الطبعة الأولى 1417 ه- قم المقدسة - إيران.
65 - رجال النجاشي : أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي الأسدي الكوفي ( ت 450 ) تحقيق الحجة السيد موسى الشبيري الزنجاني ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ( التابعه ) لجماعة المدرسين بقم المشرفة ( إيران ).
66 - روضة الواعظين : زين المحدثين محمّد بن الفتال النيسابوري الشهيد في سنة 508 ه- من أعلام القرنين الخامس والسادس الهجريين ، تقديم العلامة الجليل السيد محمّد مهدى السيد حسن الخرسان ، منشورات الرضي قم المقدسة - إيران.
67 - سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد صلی اللّه علیه و آله : محمّد بن يوسف الصالحي الشامي المتوفى سنة 942 ه- الطبعة الأولى 1414 ه- - 1993 م نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان.
68 - السقيفة وفدك : أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري البصري البغدادي المتوفى سنة 323 ه- تقديم وجمع وتحقيق الدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني ، شركة الكتبي للطباعة والنشر الطبعة الثانية 1413 ه- 1993 م ، بيروت - لبنان.
69 - سنن ابن ماجة : الحافظ أبو عبد اللّه محمّد بن يزيد القزويني ابن ماجه
ص: 748
( ت 275 ) ، نشر دار الفكر - للطباعة والنشر والتوزيع.
70 - سنن أبي داود : للحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 ه- نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
71 - سنن الترمذي ( الجامع الصحيح ) : أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي ( ت 279 ) ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر.
72 - السنن الكبرى : الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458) نشر دار الفكر.
73 - السنن الكبرى : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائيع (303) ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م.
74 - سير أعلام النبلاء : شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748 ، الطبعة التاسعة 1413 ه- 1993 م نشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.
75 - سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله : ابن هشام الحميري المتوفى سنة 218 ، نشر مكتبة محمّد علي صبيح وأولاده ، بميدان الأزهر بمصر 1383 ه. 1963 م.
76 - شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار علیهم السلام : القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميمي المغربي المتوفى سنة 363 ه- ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
77 - شرح صحيح مسلم بشرح النووي : نشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان 1407 ه- - 1987 م.
ص: 749
78 - شرح معاني الآثار : أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة المصري الطحاوي المتوفى سنة 312 ه- ، نشر دار الكتب العلمية الطبعة الثالثة 1416 ه- - 1996 م.
79 - شرح نهج البلاغة : عز الدين أبو حامد هبة الدين بن محمّد ابن أبيع الحديد ( ت 656 ) تحيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، نشر دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه ، الطبعة الأولى ( 1378 ه- 1959 م ).
80 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلی اللّه علیه و آله : القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي 544 ه- نشر دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع 1409 ه- - 1988 م دار الفكر بيروت - لبنان.
81 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت صلوات اللّه وسلامه عليهم : الحافظ الكبير عبيد اللّه بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني الحنفي النيسابوري من أعلام القرن الخامس الهجري ، نشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الطبعة الأولى 1411 ه- - 1990 م طهران - إيران.
82 - الصحابة في حجمهم الحقيقي : الهاشمي بن علي ، نشر مركز الأبحاث العقائدية ، الطبعة الأولى سنة 1420 ه.
83 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان : الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي المتوفى سنة 739 ه- ، الطبعة الثانية 1414 ه- - 1993 م.
84 - صحيح البخاري : أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي ( ت 256 ) طبعة بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة باستانبول 1401 ه- -
ص: 750
1981 م ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
85 - صحيح مسلم ( الجامع الصحيح ) : أبو الحسين مسلم بن الحجاج ابن مسلم القشيري النيسابوري ( ت 261 ) نشر دار الفكر بيروت - لبنان.
86 - الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم : الشيخ زين الدين أبو محمّد علي بن يونس العاملي النباطي البياضي المتوفى سنة 877 ، نشر المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية ، الطبعة الأولى - 1384 ه.
87 - الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيثمي المكي ( ت 974 ) نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان الطبعة الثالثة 1414 ه.
88 - الطبقات الكبرى : محمّد بن سعد بن منيع الزهري (230) نشر دار صادر بيروت - لبنان.
89 - العلل : ( كتاب العلل ومعرفة الرجال ) : أحمد بن محمّد بن حنبل ( ت 241 ) ، نشر المكتب الإسلامي بيروت - دار الخاني الرياض ، الطبعة الأولى 1408 ه- - 1988 م الرياض - السعودية.
90 - علل الدار قطني ( العلل الواردة في الأحاديث النبوية ) : الحافظ أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدار قطني ( ت 385 ه- ) نشر دار طيبة الرياض ، الطبعة الأولى 1405 ه- - 1985 م.
91 - علل الشرايع : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن
ص: 751
موسى بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه- نشر المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف 1385 ه- - 1966 م.
92 - عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار علیه السلام : الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلي المعروف بابن البطريق ( ت 600 ) نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة 1407 ه.
93 - عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية : الشيخ المحقق المتتبع محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور ، نشر مطبعة سيد الشهداء علیه السلام قم المقدسة - إيران ، الطبعة الأولى 1403 ه- - 1983 م.
94 - عيون أخبار الرضا علیه السلام : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ، نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1404 ه- - 1984 م.
95 - عيون الأخبار : ابن قتيبة ، أبو محمّد عبد اللّه بن مسلم الدينوري ( ت 276 ) طبع دار الكتب المصرية بالقاهرة.
96 - الغدير في الكتاب والسنة والأدب : الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي ، نشر الحاج حسن إيراني صاحب دار الكتاب العربي بيروت - لبنان الطبعة الرابعة 1397 ه- - 1977 م.
97 - الفائق في غريب الحديث : جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري
ص: 752
المتوفى سنة 583 ه. نشر دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1417 ه- - 1996 م بيروت - لبنان.
98 - فتح الباري شرح صحيح البخاري : الحافظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمّد ابن حجر العسقلاني الشافعي نزيل القاهرة ( ت 852 ) ، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان ، الطبعة الثانية.
99 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير : محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني وفاته بصنعاء 1250 ه- ، نشر عالم الكتب.
100 - فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي علیه السلام : المحدّث أحمد بن محمّد بن الصديق الحسني المغربي المتوفى سنة 1380 تحقيق محمّد هادي الأميني ، نشر مكتبة الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام العامة ، أصفهان - إيران.
101 - فرائد السمطين : المحدّث الكبير إبراهيم بن محمّد بن المؤيد بن عبد اللّه الجويني الخراساني ( ت 730 ) نشر مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1398 ه- - 1978 م.
102 - فسيروا في الأرض فانظروا : الدكتور محمّد التيجاني السماوي ، نشر دار المجتبى ، الطبعة الأولى 1425 ه- مركز التوزيع مكتبة بارسا قم المقدسة - إيران.
103 - الفصول المختارة : أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد ( 336 - 413 ه- ) الطبعة الثانية 1414 ه- 1993 م نشر دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان.
104 - فضائل الصحابة : أحمد بن محمّد بن حنبل ( ت 241 ) نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان.
ص: 753
105 - الفهرست : شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ( ت 460 ه- ) طبع ونشر مؤسسة ( نشر الفقاهة ) الطبعة الأولى 1417 ه.
106 - فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير صلی اللّه علیه و آله : محمّد عبد الرؤوف المناوي ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1415 ه- - 1994 م.
107 - الكافي : ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي رحمه اللّه المتوفى سنة 328 / 329 ه- ، نشر دار الكتب الإسلامية مرتضى آخوندي طهران - بازار سلطاني الطبعة الثالثة (1388).
108 - كامل الزيارات : الشيخ الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي المتوفى سنة 368 ه- ، الطبعة : الأولى ، نشر مؤسسة نشر الفقاهة.
109 - الكامل في ضعفاء الرجال : الحافظ أبو أحمد عبد اللّه بن عدي الجرجاني ( ت 365 ه- ) نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الثالثة 1409 ه- - 1998 م بيروت - لبنان.
110 - كتاب السنة : أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني المتوفى سنة 287 ه- نشر المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة 1413 ه- - 1993 م بيروت - لبنان.
111 - كتاب الفتوح : أبو محمّد أحمد بن أعثم الكوفي ( ت 314 ) ، نشر دار الأضواء الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م بيروت - لبنان.
112 - كتاب الفهرست : أبو الفرج محمّد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف
ص: 754
بالوراق ابن النديم البغدادي ، تحقيق رضا طبعة مصر.
113 - كتاب الوافي بالوفيات ، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ( ت 764 ) الطبعة الثانية 1381 ه.
114 - كتاب سليم بن قيس الهلالي : التابعي الكبير سليم بن قيس الهلالي ( ت 76 هجرية ) تحقيق محمّد باقر الأنصاري الزنجاني.
115 - كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب والأسفار : المحقق السيد إعجاز حسين النيسابوري الكنتوري - 1286 - 1240 ه.
116 - الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث : برهان الدين الحلبي المتوفى سنة 841 ه- نشر عالم الكتب - مكتبة النهضة العربية الطبعة الأولى 1407 ه.
117 - كشف الخفاء : إسماعيل بن محمّد العجلوني الجراحي المتوفى سنة 1162 ه- ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الثالثة - 1408 ه.
118 - كشف الغمة في معرفة الأئمة علیهم السلام : الإربلي ، أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح ( ت 693 ) ط سنة 1381 نشر مكتبة بني هاشم ، تبريز - إيران.
119 - كشف المحجة لثمرة المهجة : رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس الحسني الحسيني المتوفى سنة 664 ه- منشورات المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف 1370 ه.
120 - كشف اليقين في فضائل أميرالمؤمنين علیه السلام : الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي 726 ه- الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م طهران - إيران.
121 - كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر علیهم السلام : أبو القاسم علي بن محمّد بن علي الخزاز القمي الرازي من علماء القرن الرابع ، انتشارات بيدار
ص: 755
مطبعة الخيام - قم المقدسة 1401 ه.
122 - الكفاية في علم الرواية : أبو أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 ه- نشر دار الكتاب العربي الطبعة الأولى 1405 ه- - 1985 م بيروت - لبنان.
123 - كمال الدين وتمام النعمة : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري ، نشر موسسة النشر الإسلامي ( التابعة ) لجماعة المدرسين بقم المشرفة ( إيران ) 1405 ه.
124 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال : علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري المتوفى سنة 975 ، نشر مؤسسة الرساله 1409 ه- - 1989 م - بيروت - لبنان.
125 - كنز الفوائد : أبو الفتح الشيخ محمّد بن علي بن عثمان الطرابلسي الكراجكي المتوفى سنة 449.
126 - لسان العرب : أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري ، نشر أدب الحوزة 1405 ه- قم المقدسة - إيران.
127 - لسان الميزان : الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ه- منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان الطبعة الثانية 1971 م - 1390 ه.
128 - لقد شيعني الحسين علیه السلام : الكاتب إدريس الحسيني ، نشر دار
ص: 756
الإعتصام - أنوار الهدى ، الطبعة الأولى 1415 ه- قم المقدسة - إيران.
129 - لماذا اخترت مذهب الشيعة : الشيخ محمّد مرعي الأميني الأنطاكي ( ت 1383 ه- ) ، نشر دفتر تبليغات إسلامي ، الطبعة الأولى سنة 1417 ه.
130 - المتحولون : الشيخ هشام آل قطيط ، نشر دار المحجة البيضاء ، بيروت لبنان - منشورات ذوي القربى قم المقدسة - إيران الطبعة الأولى 1423 ه.
131 - المحاسن : الشيخ أبو جعفر أحمد بن محمّد بن محمّد بن خالد البرقي ، نشر دار الكتب الإسلامية.
132 - المحاسن والمساوئ : الشيخ إبراهيم بن محمّد البيهقي ، نشر دار صادر ، بيروت - لبنان 1390 ه- - 1970 م.
133 - المحتضر : عز الدين أبو محمّد الحسن بن سليمان بن محمّد الحلي من علماء أوائل القرن التاسع ، منشورات المطبعة الحيدرية في النجف 1370 ه- - 1951 الطبعة الأولى.
134 - المحصول في علم أصول الفقه : فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي ( ت 606 ه- ) الطبعة الثانية 1412 ه- - 1992 م نشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.
135 - المحلى : أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 ه- ، نشر دار الفكر.
136 - مجمع البيان في تفسير القرآن : أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي
ص: 757
من أعلام القرن السادس الهجري ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1415 ه- - 1995 م.
137 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807 ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان 1408 ه. - 1988 م.
138 - مختصر أخبار شعراء الشيعة : أبو عبداللّه محمّد بن عمران المرزباني الخراساني ( ت 384 ) ، الطبعة الأولى 1388 ه- ، نشر شركة الكتبي ، بيروت - لبنان.
139 - مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع : البغدادي : صفي الدين عبد المؤمن ابن عبد الحق ( ت 739 ) ، ط الأولى 1373 ه- نشر دار المعرفة ، بيروت - لبنان.
140 - مروج الذهب ومعادن الجوهر : المسعودي أبو الحسن علي بن الحسين بن علي ( ت 346 ه- ) ط الثانية 1409 ه- نشر مؤسسة دار الهجرة ، قم المقدسة - إيران.
141 - المزار الكبير : الشيخ أبو عبد اللّه محمّد بن جعفر المشهدي ، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي الطبعة الأولى 1419 ه.
142 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل : خاتمة المحدثين الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي المتوفى سنة 1320 ه- تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الأولى 1408 ه- - 1987 م.
143 - مستدرك سفينة البحار : الشيخ علي النمازي الشاهرودي ، المتوفى
ص: 758
سنة 1405 ه- ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
144 - المستدرك على الصحيحين : الحافظ أبو عبد اللّه الحاكم النيسابوري ( ت 405 ) ، نشر دار المعرفة بيروت - لبنان.
145 - المسترشد في إمامة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : العلامة الحافظ محمّد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي المتوفى أوائل القرن الرابع الهجري ، نشر مؤسسة الثقافة الإسلامية ، الطبعة الأولى.
146 - المستصفى في علم الأصول : أبو حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي المتوفى سنة 505 ه- نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
147 - مسند أبي داود الطيالسي : الحافظ سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري الشهير بأبي داود الطيالسي المتوفى سنة 204 ه- نشر دار الحديث بيروت - لبنان.
148 - مسند أبي يعلى الموصلي : الحافظ أحمد بن علي بن المثنى التميمي ( ت 307 ه- ) نشر دار المأمون للتراث دمشق.
149 - مسند أحمد بن حنبل : أبو عبد اللّه أحمد بن محمّد ( ت 241 ) ، نشر دار صادر ، بيروت - لبنان.
150 - مسند الحميدي : الحافظ أبو بكر عبد اللّه بن الزبير الحميدي المتوفي سنة 219 ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1409 ه- 1988 م.
151 - مشكاة الأنوار في غرر الأخبار : أبو الفضل علي الطبرسي المتوفى في أوائل القرن السابع الهجري ، نشر دار الحديث ، الطبعة الأولى.
152 - المصنف : الحافظ أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( ت 211 ) ،
ص: 759
نشر المجلس الأعلى.
153 - المصنف : الحافظ عبد اللّه بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان ابن أبي بسكر بن أبي شيبة الكوفي العبسي المتوفى سنة 235 ه- ، ضبط وتعليق الأستاذ سعيد اللحام ، مكتب الدراسات والبحوث في دار الفكر.
154 - المعجم الأوسط : الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني نشر دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع 1415 ه- - 1995 م.
155 - معجم البلدان : شهاب الدين أبو عبد اللّه ياقوت بن عبد اللّه الحموي الرومي البغدادي ( ت 626 ) نشر دار إحياء الثراث العربي ، بيروت - لبنان 1399 ه- - 1979 م.
156 - المعجم الكبير : الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني 360 ه- ، الطبعة الثانية.
157 - معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة : زعيم الحوزات العلمية السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره ( ت 1313 ه- ) الطبعة الخامسة سنة 1413 ه- - 1992 م.
158 - مع رجال الفكر في القاهرة : السيد محمّد الرضوي ، طبع في قم المقدسة - إيران.
159 - معرفة الثقات : أبو الحسن أحمد بن عبد اللّه بن صالح العجلي الكوفي نزيل طرابلس الغرب ( ت 261 ه- ) الطبعة الأولى 1405 ه- - 1985 م نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
160 - معرفة علوم الحديث : الحاكم أبو عبد اللّه محمّد بن عبداللّه الحافظ النيسابوري منشورات دار الآفاق الحديث ، بيروت - لبنان ، الطبعة الرابعة
ص: 760
1400 ه- / 1980 م.
161 - المعيار والموازنة في فضائل الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( صلوات اللّه عليه ) : أبو جعفر الأسكافي محمّد بن عبد اللّه المعتزلي المتوفى سنة 220 ه- تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي.
162 - المغني : أبو محمّد عبد اللّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة المتوفى سنة 620 ه- ، نشر دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع.
163 - مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الأصفهاني ( ت 356 ) الطبعة الثانية ، نشر المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف الأشرف 1385 ه- - 1965 م.
164 - الملل والنحل : الشهرستاني أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم ( ت 548 ) ط الثانية نشر مكتبة الأنجلو المصرية.
165 - المناقب : الموفق بن أحمد بن محمّد المكي الخوارزمي المتوفى سنة 568 ه- نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة الطبعة الثانية سنة 1411 ه.
166 - مناقب الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : الحافظ محمّد بن سليمان الكوفي القاضي من أعلام القرن الثالث ، نشر مجمع إحياء الثقافة الإسلامية الطبعة الأولى ، 1412 ه- إيران - قم المقدسة.
167 - مناقب آل أبي طالب : الحافظ مشير الدين أبو عبد اللّه محمّد بن علي ابن شهر آشوب المازندراني المتوفى سنة 588 ه- طبع محمّد كاظم الكتبي صاحب المكتبة والمطبعة الحيدرية سنة 1376 ه- 1956 م النجف الأشرف - العراق.
168 - مناظرة الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي مع أحد علماء حلب :
ص: 761
تحقيق شاكر شبع ، نشر مؤسسة قائم آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، الطبعة الأولى 1412 قم المقدسة - إيران.
169 - مناظرة لطيفة : نشر مؤسسة في طريق الحق ، مطبعة سلمان الفارسي 1418 ه- قم المقدسة - إيران.
170 - من حقي أن أكون شيعية : الكاتبة السودانية السيدة أم محمّد علي المعتصم ، نشر مؤسسة البلاغ ، الطبعة الأولى ، 1425 ه- - 2004 م بيروت - لبنان ، التوزيع في سوريا - دمشق - السيدة زينب علیهاالسلام مكتبة دار الحسنيين علیهماالسلام .
171 - من لا يحضره الفقيه : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة ، الطبعة الثانية.
172 - مواقف الشيعة : علي الأحمدي الميانجي ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المشرفة ، الطبعة : الأولى 1416.
173 - الموطأ : مالك بن أنس ، نشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان 1406 ه- - 1985 م.
174 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال : أبو عبداللّه محمّد بن أحمد بن عثمان المتوفى سنة 748 ه- ، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت - لبنان.
175 - النزاع والتخاصم : تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ( ت 845 ه- ) تحقيق السيد علي عاشور.
ص: 762
176 - النصائح الكافية لمن يتولى معاوية : الشريف السيد محمّد بن عقيل بن عبداللّه بن عمر بن يحى العلوي المتوفى سنة 1350 ه- نشر دار الثقافة للطباعة والنشر إيران - قم المقدسة الطبعة الأولى : 1412 ه.
177 - النص والإجتهاد : السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، الطبعة الأولى 1404 ه- سيد الشهداء علیه السلام قم المقدسة - إيران.
178 - نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسبطين علیهم السلام : جمال الدين محمّد بن يوسف بن الحسن بن محمّد الزرندي الحنفي المدني المتوفى عام 750 ه- الطبعة الأولى 1377 ه- - 1958 م.
179 - النهاية في غريب الحديث والأثر : مجد الدين أبو السعادات المبارك ابن محمّد بن الأثير الأجزري المتوفى سنة 606 ه- منشورات محمّد علي بيضون ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1418 ه- 1997 م.
180 - نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام نشر : دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان.
181 - نهج الحق وكشف الصدق : الحسن بن يوسف المطهر الحلي ( ت 736 ) تعليق الشيخ عين اللّه الأرموي ، نشر دار الهجرة ، قم المقدسة - إيران.
182 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة : المحدّث الشيخ محمّد ابن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 ه- تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث 1414 قم المقدسة - إيران.
ص: 763
183 - هشام بن الحكم رائد الحركة الكلامية في الإسلام : الشيخ عبد اللّه نعمة ، الطبعة الثانيه ، 1405 ه- نشر دار الفكر اللبناني ، بيروت - لبنان.
184 - ينابيع المودة لذوي القربى : الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي ( ت 1294 ه- ) ، نشر : دار الأسوة ، الطبعة : الأولى : 1416 ه.
ص: 764
مقدمة الكتاب... 5
بعض المناظرات في الفهارس والكتب... 7
المناظرة الأُولى
مناظرة أميرالمؤمنين علیه السلام مع أبي بكر في الخلافة واحتجاجه عليه بثلاث وأربعين خصلة... 27
المناظرة الثانية
مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع هشام بن عبد الملك... 32
المناظرة الثالثة
مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع عمر بن عبد العزيز في الخلافة... 37
المناظرة الرابعة
مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع الحروري... 38
ص: 765
المناظرة الخامسة
مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع أبي حنيفة في أربعين مسألة... 44
المناظرة السادسة
مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع عمرو بن عبيد في الخلافة وشؤونها... 46
المناظرة السابعة
مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع القاضي ابن أبي ليلى في وجوب متابعة علي بن أبي طالب علیه السلام 52
المناظرة الثامنة
مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع القاضي غيلان بن جامع... 56
المناظرة التاسعة
مناظرة الإمام الصادق علیه السلام وبعض أصحابه مع الشامي... 59
المناظرة العاشرة
مناظرة الإمام الرضا علیه السلام مع يحيى بن الضحاك السمرقندي... 62
المناظرة الحادية عشرة
مناظرة فروة بن عمرو مع قيس بن مخرمة لمَّا بويع أبو بكر... 65
ص: 766
المناظرة الثانية عشرة
مناظرة المقداد مع عبد الرحمن بن عوف بعد تولّي عثمان الخلافة... 66
المناظرة الثالثة عشرة
مناظرة ابن عباس مع عمر... 69
المناظرة الرابعة عشرة
مناظرة سعد بن أبي وقاص مع معاوية في حرمة قتال أميرالمؤمنين علیه السلام ... 71
المناظرة الخامسة عشرة
مناظرة ابن عباس مع عتاب بن الأعور... 75
المناظرة السادسة عشرة
مناظرة ابن عباس مع عائشة في دفن الإمام الحسن علیه السلام عند جدِّه النبي صلی اللّه علیه و آله ومنع مروان بن الحكم من دفنه... 81
المناظرة السابعة عشرة
مناظرة رجل من بني سعد مع طلحة والزبير في خروج عائشة... 87
المناظرة الثامنة عشرة
مناظرة رجل مع عبد الملك بن مروان... 89
ص: 767
المناظرة التاسعة عشرة
مناظرة الأعمش مع أبي حنيفة... 91
المناظرة العشرون
مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم رحمه اللّه مع أبي الهذيل العلاف... 93
المناظرة الحادية والعشرون
مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم في الخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ... 94
هشام بن الحكم وروح النقد... 99
المناظرة الثانية والعشرون
مناظرة مؤمن الطاق مع بعض الحروريّة بمحضر أبي حنيفة وسفيان الثوري في الخليفة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله... 102
المناظرة الثالثة والعشرون
مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حديث ردِّ الشمس... 111
المناظرة الرابعة والعشرون
مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حلّيّة المتعة... 112
ص: 768
المناظرة الخامسة والعشرون
مناظرة عمرو بن أذينة مع القاضي عبدالرحمن بن أبي ليلى في وجوب اتّباع أمير المؤمنين علیه السلام... 114
المناظرة السادسة والعشرون
مناظرة شريك مع المهدي العباسي في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام ... 118
المناظرة السابعة والعشرون
مناظرة سعد بن عبداللّه القمي مع بعض النواصب... 120
المناظرة الثامنة والعشرون
مناظرة الشيخ المفيد رحمه اللّه مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير... 125
المناظرة التاسعة والعشرون
مناظرة الشيخ المفيد مع شيخ من المعتزلة في المأثور عن الأئمة علیهم السلام وخلاف العامة لهم... 128
المناظرة الثلاثون
مناظرة الشيخ المفيد رحمه اللّه مع بعض المعتزلة في فقه أهل البيت علیهم السلام ... 133
ص: 769
المناظرة الحادية والثلاثون
مناظرة الشيخ المفيد مع أبي علي بن شاذان في حديث الأنبياء يورِّثون أم لا... 137
المناظرة الثانية والثلاثون
مناظرة الشريف المرتضى مع علماء الجمهور في الإمامة... 138
المناظرة الثالثة والثلاثون
مناظرة إسماعيل بن علي الفقيه مع بعض الحنابلة... 139
المناظرة الرابعة والثلاثون
مناظرة الأمير أبي الفوارس مع الوزير يحيى بن هبيرة في إيمان أبي طالب علیه السلام ... 141
المناظرة الخامسة والثلاثون
مناظرة إمرأة مع ابن الجوزي... 142
المناظرة السادسة والثلاثون
مناظرة رجل مع قاضي بغداد في تصدُّق أميرالمؤمنين علیه السلام بالخاتم... 143
المناظرة السابعة والثلاثون
مناظرة السيِّد الفندرسكي مع سلطان الهند في شتم معاوية... 145
ص: 770
المناظرة الثامنة والثلاثون
مناظرة مع شيخ من أهل الشام جاء لمناظرة العلامة الحلي رحمه اللّه في الفرقة الناجية... 147
المناظرة التاسعة والثلاثون
مناظرة الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العاملي مع بعض فضلاء حلب... 150
البحث في عدالة الصحابة... 156
حديث الأئمة إثنى عشر... 167
المناظرة الأربعون
مناظرة الشيخ محمّد طاهر القمّي الشيرازي مع مفتي الحنفية في عدم الدليل على وجوب اتّباع أحد المذاهب الأربعة... 169
المناظرة الحادية والأربعون
مناظرة رجل من عوام الشيعة مع بعض المتعصِّبين... 171
المناظرة الثانية والأربعون
مناظرة الشيخ الكاظمي مع الآلوسي... 174
المناظرة الثالثة والأربعون
مناظرة الشيخ كاشف الغطاء مع أحمد أمين المصري... 176
ص: 771
المناظرة الرابعة والأربعون
مناظرة العلاّمة الشيخ الأميني رحمه اللّه مع الأستاذ حسين الأعظمي وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد في الحديث عن أميرالمؤمنين علیه السلام بما وصفه الوحي الإلهيّ... 179
المناظرة الخامسة والأربعون
مناظرة السيِّد محمّد تقي الحكيم مع أمين مكتبة الأزهر وممثِّل الجزائر في فتح باب الاجتهاد والصحابة... 187
المناظرة السادسة والأربعون
مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع بعضهم في حكم مسح الرجلين في الوضوء... 189
مسح القدمين في كتب السنّة... 196
المناظرة السابعة والأربعون
مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع رجلين مصريين في وجوب اتّباع أهل البيت علیه السلام... 203
المناظرة الثامنة والأربعون
مناظرة السيِّد عبد الكريم الأردبيلي مع جمع من طلبة الجامعة في عدالة الصحابة والخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله... 206
ص: 772
المناظرة التاسعة والأربعون
مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الدكتور طه حسين في النصِّ على الخلافة ورزيّة يوم الخميس... 209
رأي الدكتور طه حسين في حقيقة عبد اللّه بن سبأ... 215
المناظرة الخمسون
مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ الكبير عبد الفتاح عبدالمقصود في أحقّيّة الإمام علي بالخلافة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ... 218
رأي الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود في وصيَّة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بالخلافة... 223
كلام الأستاذ عبد الفتاح في عدم معرفة أكثر الناس بحقيقة الشيعة والتشيُّع... 225
المناظرة الحادية والخمسون
مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الشيخ عبد الرحيم عرابي في أمر الصحابة وعائشة 228
المناظرة الثانية والخمسون
مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد الهادي مسعود في مسألة المتعة وظلامة فاطمة علیهاالسلام... 233
في ظلامات فاطمة علیهاالسلام ... 235
ص: 773
المناظرة الثالثة والخمسون
مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ محمود محمّد شاكر في بعض المسائل وروايات أبي هريرة... 239
المناظرة الرابعة والخمسون
مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد اللّه يحيى العلوي في النصوص والأحاديث الدالة على إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام والمذاهب الأربعة... 243
المناظرة الخامسة والخمسون
مناظرة الشيخ محمّد الشيعي والأستاذ عادل فيصل السوري في إسلام آباد في عدالة الصحابة 255
نظريَّات حول الصحابة... 259
المناظرة السادسة والخمسون
مناظرة الشيخ العاملي مع صارم الوهابي في مشروعيَّة زيارة النبي صلی اللّه علیه و آله ، والتوسُّل به إلى اللّه تعالى... 278
الردّ الصارم على مزاعم صارم... 297
كلام الصالحي الشامي في مشروعيَّة زيارة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ... 301
ص: 774
من مناظرات المستبصرين
المناظرة السابعة والخمسون
مناظرة الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي مع جماعة من أهل السنّة... 307
المناظرة الثامنة والخمسون
مناظرة الشيخ التيجاني مع طه المصري في حديث الثقلين... 311
المناظرة التاسعة والخمسون
مناظرة الدكتور التيجاني التونسي مع بعض مرافقيه في تايلاند فيما جرى للأمّة بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله... 313
لماذا لم يدعُ أميرالمؤمنين علیه السلام الناس إلى بيعته ولم يغتنم الفرصة؟... 315
كلام فاطمة الزهراء علیهاالسلام في النصِّ على أميرالمؤمنين 7 بالخلافة ولماذا قعد عن حقّه... 318
كلام الشيخ المفيد عليه الرحمة في حديث العباس لأمير المؤمنين علیه السلام ... 320
المناظرة الستون
مناظرة الدكتور التيجاني مع الشيخ علي في كينيا في أمر الصحابة واجتهاداتهم... 324
المناظرة الحادية والستون
مناظرة الدكتور التيجاني مع الشيخ المفتي عزيز الرحمان في بومباي... 336
ص: 775
المناظرة الثانية والستون
مناظرة الدكتور التيجاني مع أبي ياسين في طهران... 343
المناظرة الثالثة والستون
مناظرة الدكتور التيجاني مع أبي لبن متعهد الرابطة الإسلامية في استكهولم... 352
المناظرة الرابعة والستون
مناظرة الدكتور التيجاني مع شرف الدين المصري إمام الرابطة في السويد... 359
المناظرة الخامسة والستون
مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين في مسألة التوسّل والاستشفاع بالنبي صلی اللّه علیه و آله... 366
المناظرة السادسة والستون
مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيّة في مشروعيّة زيارة القبور... 376
المناظرة السابعة والستون
مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني مع دكتور أردني... 378
المناظرة الثامنة والستون
مناظرة السيّد حسين الرجا السوري مع بعض علماء العامّة... 381
ص: 776
المناظرة التاسعة والستون
مناظرة السيّد حسين الرجا مع بعض مشايخ السنّة... 384
المناظرة السبعون
مناظرة الكاتب الأستاذ إدريس الحسني المغربي مع بعضهم في معاوية والحجّاج... 386
جملة من أخبار الحجاج في التأريخ... 389
المناظرة الحادية والسبعون
مناظرة الشيخ مروان خليفات الأردني مع صديقه الشيعي في حديث رزيّة الخميس وآثارها... 393
المناظرة الثانية والسبعون
مناظرة لمياء حمادة السوريَّة مع بتول العراقيَّة في كليَّة الشريعة بدمشق في عقائد الشيعة وشرحها كيفيَّة اعتناقها التشيُّع... 397
المناظرة الثالثة والسبعون
مناظرة الهاشمي بن علي التونسي مع بعض الشيعة في حديث العشرة المبشَّرة ووصوله إلى الحقيقة... 411
كلام الأستاذ عبدالمنعم السوداني في حديث العشرة المبشَّرة... 414
ص: 777
المناظرة الرابعة والسبعون
مناظرة المحامي محمّد علي المتوكِّل السوداني مع الدكتور الحبر يوسف نور الدائم... 418
المناظرة الخامسة والسبعون
مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني قبل تشيُّعه مع ابن عمِّه المتشيِّع في الإمامة ووجوب البحث عن الحقيقة... 422
المناظرة السادسة والسبعون
مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض أصدقائه حول العصمة في حديث الثقلين... 428
المناظرة السابعة والسبعون
مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة في التوحيد والتوسُّل وصفات اللّه تعالى... 433
المناظرة الثامنة والسبعون
مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة في حديث أن الأئمة اثنا عشر... 442
المناظرة التاسعة والسبعون
مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعضهم في حديث أصحابي كالنجوم... 445
ص: 778
المناظرة الثمانون
مناظرة الأستاذ عبد المنعم السوداني وبعض الشيعة مع بعض السلفيّة في أمر معاوية ويزيد... 446
المناظرة الحادية والثمانون
مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعضهم في الافتراء على الشيعة وأثر أدعية أهل البيت علیهم السلام... 450
المناظرة الثانية والثمانون
مناظرة هشام آل قطيط مع مجموعة من مشايخ السنّة وتساؤلاته حول عقائد الشيعة ورحلته في البحث عن الحقيقة... 453
مع الشيخ عزّ الدين الخزنوي... 454
إلى الشيخ محمّد نوري... 455
اللقاء مع الدكتور عبد الفتاح صقر المصري... 459
مع الشيخ عبداللّه الهرري... 462
مع الشيخ صالح عيزوقي... 469
مع الشيخ إسماعيل عرناسي... 471
المناظرة الثالثة والثمانون
مناظرة هشام آل قطيط مع الشيخ عبد الأمير الهويدي وغيره وبحثه عن الحقيقة وأشياء يسمعها لأوَّل مرة... 480
رسالة الجاحظ... 481
ص: 779
المناظرة الرابعة والثمانون
مناظرة الشيخ هشام آل قطيط مع العلامة السيِّد علي البدري رحمه اللّه ... 497
اللقاء الأول : لقاء وتعارف... 497
اللقاء الثاني : تحديد موعد للمناظرة والمحاورة... 500
اللقاء الثالث : ( بداية البحث الفعلي والحوار )... 501
مقارنات بين محمَّد صلی اللّه علیه و آله وبين ما اتّبعه علي علیه السلام ... 508
اللقاء الرابع : في قضايا الخلاف وما يتعلَّق بالصحابة... 513
نماذج من مخالفات الصحابة للرسول صلی اللّه علیه و آله ... 515
حقائق لا بد من توضيحها وكشفها... 520
اللقاء الخامس : مناقشة الأدلّة التي يستدلّ بها على خلافة أبي بكر... 525
حوار في النصوص... 525
الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر... 527
حديث المنزلة ومنازل هارون من موسى علیه السلام ... 534
مقايسة علي علیه السلام بالأنبياء... 539
اللقاء السادس : خبر منع عمر النبيَّ صلی اللّه علیه و آله من كتابة الكتاب... 541
المحاورة بين عمر وابن عباس تكشف عن لثام الحقيقة... 543
كل ممنوع مرغوب... 545
اللقاء السابع : المناقشة في بيعة أبي بكر وحديث الثقلين... 546
حوار في مشفى المجتهد لمدة نصف ساعة!!... 547
لا إجماع على خلافة أبي بكر ... 549
مخالفة أهل البيت علیهم السلام لخلافة أبي بكر... 551
ص: 780
اللقاء الثامن : تأجيل المناظرة... 553
اللقاء التاسع : مسألة كبر السنّ في الخليفة ، وظلامة علي وفاطمة علیهماالسلام ... 554
وثائق تاريخيَّة... 560
الزهراء علیهاالسلام تخاطب الخليفة أبابكر... 562
الزهراء علیهاالسلام تشكو اهتضامها لأبيها... 564
مراجعة صحيح البخاري للوصول إلى الحقيقة... 566
اللقاء الأخير : ودخل النور إلى قلبي بمظلوميَّة فاطمة علیهاالسلام ... 567
المناظرة الخامسة والثمانون
مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الأستاذ عبد المنعم في أن كتب السنّة فيها دلائل على التشيُّع وبداية تحوُّله وبحثه عن الحقيقة... 569
المناظرة السادسة والثمانون
مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود في علم الأصول عند الشيعة... 574
المناظرة السابعة والثمانون
مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع بعض السلفيين في وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام والأدلّة على إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام... 584
أحداث يوم الجمعة والحوار في التوحيد والتوسل... 610
الجلسة الثانية مع الدكتور عمر مسعود... 618
ص: 781
المناظرة الثامنة والثمانون
مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع شيخ السلفيّة في صفات اللّه تعالى والطريق الذي يجب أن تسلكه الأمّة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 624
المناظرة التاسعة والثمانون
مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود في صلح الإمام الحسن علیه السلام وحديث الثقلين... 636
كلمة في صلح الإمام الحسن علیه السلام وشروطه... 640
المناظرة التسعون
مناظرة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة مع خالها وقصّة تشيُّعها... 643
وطرق التشيُّع بابنا... 643
من هم الشيعة... 645
الخلافة بين النص والشورى... 650
الاستدلال بآيات الشورى باطل... 658
حديث اختلاف أمَّتي رحمة... 662
الديمقراطيَّة مبدأ إسلاميٌّ وعقلائيٌّ... 663
الديمقراطيَّة لا تصلح في المجتمع القبلي... 664
خلافة أبي بكر والإجماع... 667
بيعة علي علیه السلام لأبي بكر... 670
أحداث السقيفة... 673
ص: 782
عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ... 674
الشورى في الواقع العملي... 678
عدالة الصحابة... 679
بيعة علي علیه السلام لأبي بكر... 686
إمامة عليٍّ علیه السلام على نحو الاختيار وليس الجبر... 690
احتجاج السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام ... 694
مسح الأرجل في الوضوء... 701
أكذوبة المذاهب الأربعة... 703
الشعائر الحسينيّة... 708
الحسين علیه السلام الدمعة الجارية... 714
حوارات ومواقف
الضبّي وعائشة... 719
الأحنف بن قيس وعائشة... 719
الأحنف والحسن البصري... 720
زيد بن صوحان وعائشة... 721
معاوية مع ابن أحور التميمي... 721
معاوية مع أبي الأسود الدؤلي في قصّة الحكمين... 722
معاوية مع رجل يسأله فيرشده إلى أميرالمؤمنين علیه السلام ... 722
معاوية مع محفن بن أبي محفن... 723
عدي ومعاوية... 724
ص: 783
عدي بن حاتم مع عبداللّه بن الزبير... 727
قنبر والحجاج... 727
شهر ابن حوشب والحجاج... 728
عمر بن عبد العزيز مع معلِّمه ومع أبيه... 729
عامر بن عبداللّه بن الزبير وابنه... 730
أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي وابنه... 732
هشام بن الحكم مع أبي عبيدة المعتزلي... 733
مؤمن الطاق مع بعض النواصب... 734
شريك ورجل... 734
نصر بن علي والمتوكل... 734
ابن السكيت والمتوكِّل... 735
النسائي وأهل الشام... 736
الكنجي الشافعي وبعض المتعصِّبين النواصب... 737
مصادر الكتاب... 739
المحتويات... 765
* * *
ص: 784