نحن و أزمنة الإستعمار

هویة الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الاول

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

الجزء الاول

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018م.

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر - الطبعة الأولى بيروت لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439 ه- - 2018.

4 مجلد : ايضاحيات ؛ 24 سم يتضمن ارجاعات ببليوجر

ISBN: 978-9922-604-11-4

.1 ما بعد الاستعمارية .2 الاستعمار 3 الامبريالية .4. العراق الاستعمار الف. حيدر

،محمود، محرر ومقدم ب العنوان.

JV51.N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز: لماذا هذه السلسلة؟ ...6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر ...9

الفصل الأول : مباحث تمهيدية (المصطلح والمفهوم)

تعريف للاستعمار

هورفات .ج . رونالد... 20

ما هو العلم الاستعماري ؟

أليس ل . كونكلين ...53

مسارات الاستعمار

محمد عبد الرحمن عبد الجواد ...64

الفلسفة والاستعمار

سیمون غاليغود غابيلوندو ...87

فهم التابع

جاك بوشباداس ...105

الفصل الثاني : الاستعمار القديم

الاستعمار المنتشر

أحمد رهدار ...126

پ

ص: 4

ظاهرة الاستعمار

محمود کیشانه ...158

الاستعمار والوطنية

غيضان السيد علي ...182

من الهيمنة الاستعمارية إلى النهضة المنشودة

مصطفى النشار ...204

ظاهرة الاستعمار

ماهر عبد المحسن ...232

السيطرة كرؤية فلسفية إلى العالم

نصر الدين بن سراي ...258

العنف وإزالة الاستعمار

جلة سماعين...27

قابلية الاستعمار

فتيحة شفيري ...304

القومية والإرث الاستعماري

خوان ريكاردو إ كول - دنيز كانديوتي ...316

هيجل وإفريقيا

مونيس بخضرة ...344

ص: 5

مقدمة: المركز لماذا هذه السلسلة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولّى وانقضى.. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس صحيح . أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت لكن هذا الانتداب يعود ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

* * *

ص: 6

فی مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها ، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماض يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّه مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعةٍ معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرّقي والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب، وتنمية وعيه الثقافي ولا سيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما ندم الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط .

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى:(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر - 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه_ .

ص: 8

مدخل تاسیسی:نقد مباني العقل الإمبريالي

محمود حیدر (1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظّاً بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاته تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضادّاً للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةٍ تمكِّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَين متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة ال «الما بعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءِ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «الما بعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه «الما بعديات» ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، «أو نهاية التاريخ»، «ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الإيديولوجيا» .. وأخيراً وليس آخراً «ما بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمةِ تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثِ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً فی مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياقٍ تنظيريٍّ بدأت مقدماته نقد

مع مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصرالتنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقياً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

* * *

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضِية : إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [«الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما :

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاجٍ يعبّر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الّذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

أما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعٍ آخرَ من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو- إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً ، تحليلاً من

ص: 11

نوعٍ جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضية «المابعدية» لا مبرر لها.

* * *

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطّر عليها. من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً : نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة:"اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها" وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعيٍ. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المُهَيْمَنُ عليه غافلاً عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال».. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهط من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بيّنةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً ،تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية : لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً المزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتِ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أميَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول

العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنّي:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكن وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانياً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدٍ لحل مشكلات العالم تتجرد الذات الإنسانية من كلّ محتوى أخلاقٍّي وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر«عقلانياً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة «الحروب العادلة» التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسبب من غفلتها ومَيْلها المحموم إلى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقِّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه . المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَين، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقياً وروحيا)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائق واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً : إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسبب من عقلانيتها البتراء حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييب لأحكام العقل وقوانينه، كأنَّما انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

* * *

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوىّ متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هی التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازِمه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي . لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فضّةٍ تسوّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من«الميديا البصرية والسمعية» - أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي «لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء.

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدّ «الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات ثبت بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيّةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل الأول مباحث تمهيدية (المصطلح والمفهوم)

اشارة

ص: 19

تعريف للاستعمار

اشارة

قراءة فی المعنی و التجربة التاریخیة

هورفاث ج.رونالد(1)

إن هدف الأكاديميا هو اكتشاف النظام. ورغم أنَّه من الممكن أن يكون النظام مجرد حالة في عقل الإنسان، إلا أنَّ السعي ورائه واجب. ربما تكمن إلزامية الكشف عنه في غريزة الإنسان الراغبة في البقاء؛ فالمعرفة تعني امتلاك القوة وامتلاك القوة يعزز من البقاء. بالإضافة لذلك، النظام وحده يمكن معرفته على عكس الفوضى أو عدم وجود النظام، لذلك يجب علينا أن نفترض وجود النظام. وسعياً وراء النظام، يقوم العلماء الغربيين في مجال الفلسفة المطلقة بالتعريف، التصنيف، والتفسير.

يصعب الفصل بين التعريف التصنيف والتفسير أن تعرف يعني أن تصنف فإذا قلت ما هو (أ)، فأنت تقوم بتصنيف الأشياء ك (أ) أو غير (أ). عادة تكون التصنيفات أكثر تعقيداً وتحتوي على مكونات أكثر من التعريفات وتكون أكثر تحديداً منها

ص: 20


1- - هو رفاث ج رونالد أستاذ مساعد في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا وفي جامعة ولاية ميشيغان. العنوان الأصلي : A Definition of Colonialism. المصدر: Source: Current Anthropology, Vol. 13, No. 1 (Feb., 1972), pp. 45- 57 Published by: The University of Chicago Press on behalf of Wenner-Gren Foundation for Anthropological Research Stable URL: http://www.jstor.org/stable/2741072. ترجمة: د. حازم محفوظ جمهورية مصر العربية. مراجعة كريم عبد الرحمن

وبالتالي تتعامل مع التفاصيل بشكل أفضل. ولكن عمليات ونتائج التصنيف والتعريف متشابهه بشكل أساسي؛ فكلاهما ينظم الحقيقة.

في مرحلة ما قبل النظرية (التفسير)، يجب أن نعتمد على عملية بحث بطيئة. فهناك مئات بل آلاف من الدراسات الوصفية التي كُتبت بدون تقديم فائدة التعريف، وقدمت عملية تصنيف مبدئيّة من خلالها تم تقليل عدد المتغيرات المحتملة. فالتعريف والتصنيف يشكلان عملية تقليل أو إنقاص أخرى؛ حيث يتم اختيار متغير واحد أو ربما مجموعة من المتغيرات لكونها مهمة والأساس الميتافيزيقي لعملية الاختيار تلك قائم ضمناً بشكل عام؛ فهناك بعض القواعد الضمنية التي تحكم سلوك البحث في أي فترة تحتوي عملية الاختيار على قرارات مأخوذة بشكل جماعي بواسطة علماء أو دارسين مهتمين بظاهرة معينة إن النموذج المطروح هنا هو عبارة عن محاولة لبدء عملية اختيار منهجية (إنقاص أو تقليل) و لتنظيم المتغيرات المتعلقة بظاهرة الاستعمار.

بدون تطوير نظرية، تصبح الأحكام على مدى أهمية المتغيرات سهلة نسبياً. فالنظرية هي نظام للتفسير والتنبؤ. والأغلب أن الظاهرة تتنبأ بمجموعة صغيرة من الحقائق. واستثناءات ذلك مثل نظرية النظم العامة قليلة جداً؛ فمعظم التفسير يكون مصمماً للتنبؤ بعدد من المتغيرات صغير نسبياً. وفي النهاية، تكون الحقائق المهمة هي تلك التي حدّدت بواسطة نظرية . فقبل النظرية، قد تبدو كل الحقائق متساوية نسبياً في الأهمية (تتفق معظم هذه الأفكار مع كوهن 1962، ويقدم نايجيل وكوهين 1934 معالجة أطول لموضوع التعريف والتصنيف).

والسؤال هو: أين نقف من دراسة الاستعمار ؟ قد يبدو أن أدبيات الاستعمار لا نهاية لها؛ فمن المفهوم أن الاستعمار واحد من أهم انشغالات الإنسان الرئيسية. ورغم كون الاستعمار في مرتبة أهم العمليات المؤثرة في التاريخ الإنساني، فإن الدارسين والعلماء الغربيين لم يصلوا إلى مرحلة إحكام الظاهرة، فالأكاديميا لا تمتلك نظرية عن الاستعمار تحظى بقبول واسع ولا يوجد اتفاق جوهري حول ماهية الاستعمار.

ص: 21

يسهم التغير في مدى أخلاقية الاستعمار في نقص فهمنا له؛ فالناس يمتلكون مشاعر قوية تجاه الاستعمار؛ فإنه إما عمل غير نظيف يتم بواسطة أشرار، أو محاولة جديرة بالإطراء تمت بواسطة رجال أخيار من أجل هدف نبيل وهو إنقاذ البائسين، الهمج والأقل حظاً. فمن الصعب أن نتحدث عن الاستعمار دون الإشارة إلى مشاعر الناس تجاهه، لأن هذا الشعور هو ما أعطى للكلمة دلالات مختلفة ومتنوعة. ولكن معرفة مشاعر الناس تجاه الاستعمار لا تؤدي إلى معرفة ما هو الاستعمار. فالصين والاتحاد السوفيتي (سابقاً) يتهمون أميركا لكونها قوة إمبريالية، ولكن من وجهة نظر أخرى فإن تلك الدولتين كانتا قوى إمبريالية واستعمارية أيضاً (حتى اللحظة لم أقم بالتفرقة بين الإمبريالية والاستعمار). إن تاريخ روسيا منذ حكم القيصر وحتى الآن هو تاريخ من العنف والاستعمار و الإمبريالية. وتعتبر التبت بالنسبة للصين مستعمرة تم غزوها بواسطة حكومة عسكرية قمعية، ومنذ الفترة التي سبقت حكم هان، قامت الصين بالتوسع بواسطة عملية ثقافية ليست أكثر أو أقل نبلاً من الإمبريالية والاستعمار . أيضاً الولايات المتحدة الأميركية شعرت بتفوق على المملكة المتحدة بإمبراطوريتها من ناحية أخلاقية، رغم أنها هيمنت على دول أميركا الوسطى اقتصاديّاً وعسكريّاً، وخاضت أيضاً عمليات توسع مبيدة كجزء من وجهتها الواضحة، بالإضافة لذلك يرى الأمريكيين من أصول أفريقية أنهم ضحية الإمبريالية. وأخيراً يبدو أن ممثلي دول العالم الثالث يوافقون على قليل مما ذكر باستثناء شرور الاستعمار الماضي الاستعماري والحاضر الاستعماري الجديد بينما تستعمل تلك الحكومات نفسها (السودان والجزائر على سبيل المثال) نفس السياسات القاسية، المستغلة المبيدة داخل حدودها لقمع الأقليات. شيء يحير العقل !!

لقد أخفق العلماء في أن يزودونا بتعريفات للاستعمار، الإمبريالية، والمفاهيم الأخرى ذات الصلة لأسباب عديدة، نذكر أربعة منها كما يلي:

.1 المنحى العابر للثقافات غير كاف فإعطاء صورة نمطية عن الاستعمار بناءً على حالة أو حالتين هو افتراض أن الاستعمار خصيصة من خصائص

ص: 22

حضارة بعينها (الحضارة الغربية) مما يعني إغفال كل الوقائع التي شهدها التاريخ الإنساني. فعلى سبيل المثال، لقد قام بويك (Boeke) بتطوير نظرية الاستعمار بناء على تجربة الهولندينن في إندونيسيا، وقام لينين Lenin بتقييد تركيزه ليكون على مرحلة واحدة من مراحل الحضارة الغربية رغم انه يعي أن الرومانيين قاموا أيضاً بالتجربة الإمبريالية. فكل حضارة رئيسية أو هامشية تسعى لتوسيع حدودها ونفوذها فالاستعمار لا يجب ربطه فقط بالمتحضرين (الثقافات المتمدنة التي تحتوي على شعوب متعلمة)، فالغير متحضرين استعمروا أيضاً على الأقل ذلك افتراض يجب ذكره هنا.

2. نقص المنظور النظري (فقط نظريتين يمكن الإشارة إليهما: الأولى لشمبيتر Schumpeter والثانية للينين Lenin) بالنسبة لدراسي الإنسانيات - الذين يتشككون دائماً من إمكانية اكتشاف تفسيرات عامة نقص أو انعدام التفسير سيبدو غير ذي صلة بالموضوع. وبالنظر للحجم الكبير لأدبيات الاستعمار في العلوم الإنسانية، فإن تلك النقطة تبدو غاية في الأهمية، فالموقف المأخوذ في تلك الورقة البحثية، هو أن الاختبار طويل المدى لملاءمة تعريف يكمن في ضرورة أن يقودنا الأخير لنظرية تعمل على تنظيم الحقائق.

3. نقص مرونة تعريفات الاستعمار، فالتعريفات والتصنيفات يجب أن تكون قابلة لتضمين اكتشافات جديدة، لذا يجب أن تكون هناك مرونة كافية للسماح بالمعالجة والتوضيح.

4. التوجه المحافظ جداً تجاه الكلمات ومعانيها. فعلى سبيل المثال، قام كوبنر وشيميدت Koeber and Schmidt بإظهار كيف تطور مفهوم الإمبريالية كذي صلة في البداية بالسياسة الخارجية البريطانية فقط، وبدلاً من أن أسأل عن الكيفية التي استخدم بها الناس بعض الكلمات، أفضل البدء بتحديد ما هي الظاهرة الاستعمارية. إن كل الكلمات التي تصف العلاقات الاستعمارية متقاربة جداً في المعنى لدرجة تجعلها متساوية

ص: 23

في المعنى تقريباً، والرغبة في اكتشاف دلالات تلك الألفاظ تؤدي إلى تشوش أو التباس غير ضروري الاستعمار الجديد (النيوكولونيالية) هي حالة جيدة في هذا الصدد. ربما الاستخدام الأول لهذا المفهوم كان في 1950، فالأمم الحديثة العهد بالاستقلال وجدت نفسها مستقلة جزئياً فقط، فظهرت الحاجة لمفهوم جديد ليتم استخدامه لأسباب سياسية. أما عن أحداث 1960 - خصوصاً المرتبطة بانفصال كانطاجا عن الكونغو بالإضافة للعمليات العسكرية التي قام بها الغرب في الكونغو - منحت المكونات العاطفية لميلاد المصطلح. ولكن ما الفرق بين الإمبريالية الاقتصادية، شبه الاستعمار والاستعمار الجديد؟ فوجود تلك المصطلحات ليس سبباً كافياً للعلماء لوضع تعريفات مستقلة.

ما يترتب على ذلك هو محاولة تعريف الاستعمار من خلال استخدام ما أسميه بالتحليل التعريفي. فالتعريفات الموضوعة يمكن تطبيقها عبر الثقافات في العالم الحديث وفي التاريخ أيضاً، فهي مرنة وتسمح بمزيد من المعالجة، وتوضح أيضاً العلاقات بين الظواهر والعمليات التي لطالما تم التعامل معهما بشكل منفصل.

تعریف وتصنیف للاستعمار:

يبدو أن هناك اتفاقاً عاماً على أن الاستعمار هو نوع من الهيمنة - هيمنة أفراد أو جماعات على إقليم أو سلوك أشخاص وجماعات أخرى (يُنظر للاستعمار أيضاً على أنه صورة من صور الاستغلال بالتركيز على المتغيرات الاقتصادية كما هو الحال في أدبيات ماركس ،ولينين، ويُنظر له أيضاً على أنه عملية تغيير ثقافة، كما هو الحال في علم دراسة الإنسان تلك النقاط المختلفة لا يجب أن تتنازع ، ولن يستبعد التركيز على الهيمنة منحى تغيير الثقافة). ترتبط الهيمنة هنا بمفهوم القوة.

ص: 24

وهناك اتفاقاً كبيراً أيضاً حول أن الاستعمار يشير إلى هيمنة الجماعة وليس إلى علاقات وعمليات اجتماعية بين أفراد الأسرة أو مستوى ما دون الجماعة. وهناك نوعين من أنواع هيمنة الجماعة : الأول بين الجماعات والثاني داخل الجماعة ذاتها، ومعيار التمييز بينهما هو التجانس الثقافي من عدمه، فالهيمنة بين الجماعات هي هي عملية تحدث في مجتمعات غير متجانسة، بينما تحدث الهيمنة داخل الجماعة الواحدة في المجتمعات التي تتسم بالتجانس الثقافي. في بريطانيا، سنجد نوعي الهيمنة - خصوصاً في الماضي أكثر منه في الحاضر- فهيمنة الإنجليز على الويلزيين والإسكوتلانديين والأيرلنديين تعتبر مثالاً هاماً على الهيمنة بين الجماعات، وفي نفس الوقت داخل المجتمع الإنجليزي نفسه، هناك تراتبية من حيث السلطة المال، والمكانة. ونظراً لكون الهيمنة

داخل جماعة بعينها لا تعد صورة من صور الاستعمار، فإن ما يعنينا هنا هو صورة الهيمنة بين الجماعات.

من الواضح أن الفرق الهام بين الاستعمار والإمبريالية هو وجود مستوطنين دائمين تابعين للقوة المستعمرة داخل المستعمرة إن الهيمنة على أميركا اللاتينية أميركا الشمالية، أستراليا، نيوزيلاندا، جنوب أفريقيا، والجزء الآسيوي من الاتحاد السوفيتي بواسطة قوى أوروبية تضمن هجرات مستوطنين دائمين من الدول الأوروبية إلى المستعمرات تلك الأماكن كانت مستعمرة. ولكن من ناحية أخرى، كانت معظم المناطق في إفرقيا وآسيا خاضعة للإمبريالية دون استيطان، وسنجد تلك الدول مختلفة اليوم نظراً لطبيعة عملية الهيمنة. إذن، يشير الاستعمار إلى نوع الهيمنة بين الجماعات؛ حيث يهاجر المستوطنون من الدولة الاستعمارية إلى المستعمرة بهدف الإقامة الدائمة، أما الإمبريالية هي نوع من أنواع الهيمنة بين الجماعات حيث لا يهاجر مستوطنون دائمون للمستعمرة أو على الأقل يكون عددهم قليل جداً.

ص: 25

والرسم البياني لهذا النموذج في المرحلة الحالية من المعالجة موضح في الشكل رقم (1)

من الممكن أن نستطرد قليلاً في توضيح كيف يمكن لهذا الرسم أن يتعامل مع ظاهرة الطبقة أو المستوى الاجتماعي. تشير كلمة الطبقة إلى التنظيم التراتبي لجماعات المكانة السلطة أو الثروة داخل شعب متجانس ثقافياً. ويمكن تعريف الطبقة من خلال توضيح الجانب المتعلق بالجماعة ذاتها داخل النموذج . إن الطبقة، معرفة بشكل جزئي، تعد صورة تطابقية من الهيمنة على جماعة بعينها . الهيمنة غير التطابقية داخل جماعة يمكن توضيحها من خلال علاقات القوة داخل القبائل والسلالات، إذا كانت كبيرة بالقدر الذي يجعل اعتبارها جماعة ممكناً. ولكن التعريف الكامل للطبقة يحتاج إلى إضافة متغيرات أخرى.

يجب أن نعود الآن إلى مشكلة أنواع العلاقات التي كانت بين الدولة الإمبريالية والاستعمارية والشعوب التي سيطروا عليها. يمكن الآن النظر لثلاث علاقات: (أ) إبادة، (ب) التداخل الاجتماعي، و (ج) التوازن النسبي، ويمكن توضيح تلك العلاقات من خلال الشكل التالي رقم (2):

ص: 26

تلك المصفوفة تشير إلى وجود ثلاثة أنواع من الاستعمار وثلاثة أنواع من الإمبريالية؛ ففي النوع الأول من الاستعمار ، تكون العلاقة بين المستعمر والمستعمَر هی علاقة إبادة. وبالنظر للمدلول المتطرف لهذه الكلمة، سنجد أن الإبادة تعني أن تقتلع شيئاً من جذوره أو تمحي الشيء بشكل كلي يزودنا التاريخ بأمثلة قليلة جداً للحالات التي حدثت فيها إبادة كاملة لقاطني كيانات جغرافية معينة من ضمنها الاحتلال الأوروبي لتاسمانيا ولجزر الكاريبي وأيضاً حدثت الإبادة في مناطق شاسعة من أمريكا، أستراليا، كندا، والاتحاد السوفيتي.

أما بالنسبة للنوع الثاني من الاستعمار، تكون العلاقة فيه بين المستعمِر والمستعمَر هي علاقة من التداخل الاجتماعي. ومن ضمن الأمثلة الكثيرة لهذا النوع دول أميركا اللاتينية المتحدثة بالإسبانية، الفيليبين الشرق الأوسط الإسلامي العربي، ودول شرق وجنوب شرق آسيا. في كل هذه الحالات وفي حالات كثيرة أخرى يمكن ،سردها كان المستعمِرون بمثابة الثقافة المانحة وكان المستعمَرون بمثابة الثقافة المستضيفة، مع وجود حجم كبير جداً من التبادل الثقافي. (لقد تم استخدام لفظي المانح والمستضيف لتسهيل فهم العمليات الثقافية في المكسيك في بداية الحقبة الاستعمارية، ولكن بالطبع يمكن تطبيقهما في أي مكان؛ فعلى سبيل المثال، قام توينبيي Toynbee بمناقشة نفس العمليات ولكن باستخدام مصطلحات أخرى).

وفي الحالة الثالثة من الاستعمار ، من الممكن للمستوطنين أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع السكان الأصليين، وهنا لا توجد محاولات لزرع ثقافة أو للإبادة (هذا لا يعني عدم وجود تغير في الثقافة). وهناك أمثلة على هذا النوع مثل بعض مستعمرات الدول الأوروبية السابقة كالجزائر روديسيا كينيا جنوب إفريقيا، وإندونيسيا.

ص: 27

والشكل التالي (رقم (3) يوضح الأنواع الثلاثة من الاستعمار:

وبالنسبة للإمبريالية فالنوع رقم أربعة هو إمبريالية مصحوبة بالإبادة. هذا النوع نادراً ما حدث عبر التاريخ باستثناء الحملات العسكرية التي كانت تبعث تحت شعار دمر المدينة حتى تتمكن من إنقاذها» (ويناقش ويلهيلم (1969) Willhelm) كيف مثلت التجربة الأميركية مثالاً حياً لهذا النوع). فتلك الأنواع المنطقية البحتة تحدث عندما يتم تطبيق تلك المصفوفة بطريقة آلية.

أما عن النوع الخامس وهو يعبر عن إمبريالية مصحوبة بعلاقة من التداخل الاجتماعي بين المستعمِرين والمستعمَرين. من الظاهر أن مصطلح القمر الصناعي الذي استخدمه لاتيمور (1955) Lattimore) ومورفي (1961 Murphy) يعبر عن هذا النوع ، وبالتالي يمكن أخذ أقمار الاتحاد السوفياتي كمثال حي على هذا النوع.

وأخيراً، النوع السادس؛ الذي يعبر عن إمبريالية بها نوع من التوازن النسبي، فهي

ص: 28

ليست إبادةً ولا تداخلاً اجتماعياً. وهنا يوجد العديد من الأمثلة مثل معظم المناطق في إفريقيا وآسيا والتي تمت السيطرة عليها من قبل قوى أوروبية. ويعد هذا النوع من الإمبريالية الأكثر شيوعاً لأنه طالما لا يوجد مستوطنون دائمون، من الصعب حدوث إبادة أو تداخل اجتماعي.

حتى هذه اللحظة، لم أذكر شيئاً عن طبيعة أو مستوى تقدم الوحدات السياسية التي انخرطت في أوضاع استعمارية أو إمبريالية. من الشائع اعتبار الإمبريالية والاستعمار مجرد علاقات بين الدول الغربية وشعوب العالم الثالث أحد تطبيقات هذه النظرة هو أن مرحلة التقدم السياسي للدولة المهيمنة أو الدولة المهيمن عليها متصل بتعريف الاستعمار. وتطبيق آخر هو أن الاستعمار كصورة من صور الهيمنة، أو كنوع من أنواع الاستغلال، أو كعملية ثقافية، متصل بظهور الدولة القومية في أوروبا. أجد أن تلك النظرة للاستعمار لا يمكن الدفاع عنها. لقد تمت ممارسة الإمبريالية والاستعمار في مراحل مختلفة من مراحل التقدم السياسي في أفريقيا جنوب الصحراء قبل الاتصال بأوروبا. حيث تعد بوغندا مثالاً جيداً في هذا الصدد؛ فقبل الفترة البريطانية، دخلوا في مرحلة الإمبريالية وبعد مجيء الإنجليز شهدوا حالة من ما يمكن تسميته «دون الإمبريالية» أي أقل منها . فلقد تحدث سميث (Smith) عن ما يمكن تسميته الاستضافة أو الترحاب بين الأعراق واعتبره نوعاً من الاستعمار والإمبريالية. وتعد أيضاً دول المدينة في العالم القديم مثالاً آخر لنفس الفكرة. ولقد ذهب لوثي Luthy في هذا الصدد إلى القول بأن «يمكن القول أن تاريخ الاستعمار هو تاريخ الإنسانية نفسه».

على الأقل بمجرد ظهور الدولة القومية في أوروبا، كان يُنظر للوضع السياسي لهؤلاء على أنه متعلق بمنطق الهيمنة . (هذا الافتراض يرجع بشكل أساس لعدم اتساق استخدام أي من المصطلحين؛ الإمبريالية والاستعمار في حالات مثل التبت التي تعتبرها الصين جزءاً منها). ومن وجهة نظري الشخصية لا يوجد فرق جوهري بين الاستعمار والإمبريالية المحليين كصور من الهيمنة أو الاستغلال أو كعمليات ثقافية والاستعمار والإمبريالية الدوليين. ما هو الفرق بين قمع قاطني جنوب السودان غير

ص: 29

المسلمين بواسطة قاطني شمال السودان المسلمين و أن تُقمع السودان كلها بواسطة البريطانيين؟ لا يوجد فرق كبير ، ولكن من الجيد أن نفرّق بينهما الآن ولو لغرض توضيح التشابه بينهما . هذه الثنائية المحلية/ الدولية ستكون آخر متغير يمكن إضافته للتقسيم السابق الذكر في الشكل رقم (3) ؛ ذلك التصنيف الذي أنتج اثنتي عشرة علاقة منطقية. فالإمبريالية المحلية هي صورة من صور الهيمنة بين الجماعات داخل حدود وحدة سياسية بعينها. ويختلف الاستعمار المحلي عن الإمبريالية المحلية في وجود مستوطنين من الدولة الاستعمارية منخرطين في عملية الهيمنة تلك. وما يميز الإمبريالية الدولية عن الاستعمار الدولي هو هيمنة وحدة سياسية على غيرها.

مزید من المعالجه:

على عكس التعريفات السابقة لتعريف الاستعمار، يقدم نظام التحليل التعريفي اکتشافات جديدة. إن عدم تضمين كل جوانب المصطلح في التعريف ليس عيباً في آلية النمذجة ولا في النموذج ذاته. فلقد تُركت بعض الخصائص عمداً بهدف الإيجاز، ولقد تمت تلك الأحكام بناءً على مدى أهمية متغيرات معينة بالمقارنة بمتغيرات أخرى. ولكن كيفية قياس الأهمية هي مسألة للأسف لا يمكن الإجابة عنها قبل النظرية.

وبمجرد وضع النظرية توضع التعريفات والتصنيفات ويمكن مقارنتها بالواقع. والسؤال هو: هل يمكن تطبيق تلك التعريفات والتصنيفات على ثقافة معينة في منطقة معينة ؟ وإذا اكتشف من خلال تلك المقارنة أن النموذج غير مقبول، يكون أمامنا طريقتان للتصرف : التعديل أو الرفض.

ربما يعترض متخصص في الإمبريالية المحلية في الهند على نقص الاعتبارات اللغوية، أو آخر مهتم بالإمبريالية البريطانية في القرن 19 سيسأل: أين نقاش الجانب الاقتصادي من الاستغلال ؟ فإذا أحس هؤلاء المختصون بأن التعريفات صحيحة بشكل أساسي وأننا بحاجة فقط إلى بعض التعديلات، إذن سيكون أمامنا نوعان من التعديلات هما:

ص: 30

الأول هو أن نتعامل مع الخصيصة محل الاهتمام كمتغير آخر يضاف للنموذج بشكل مباشر. وإذا كانت الخصيصة السابعة ثنائية التفرع، سيصبح لدينا حوالي أربعة وعشرون نوعاً منطقياً عند المستوى السابع. وبدلاً من ذلك، يمكن إضافة المتغير السابع في مستوى أعلى وإعادة ترتيب الجزء التالي من النموذج. ولو كانت اهتمامات وأهداف الباحث محدودة، ستكون التعديلات البسيطة كافية. فعلى سبيل المثال، ربما يكون الباحث غير راض عن التعريف من النوع السادس (إمبريالية التوازن النسبي) لأنه لا يفرق بين الإمبريالية الاقتصادية، نصف شبه الاستعمار، والاستعمار الجديد. فعلى سبيل المثال: حالة غانا قبل وبعد الاستقلال، وللتعامل مع هذا العيب يمكن إضافة المتغير الثنائي الرسمي/ غير الرسمي.

إذا أضفنا المتغير الثنائي التفرع مستوطنين/ بدون مستوطنين، سينتج نوعان من الهيمنة بين الجماعات هي: الهيمنة الرسمية بين الجماعات والهيمنة غير الرسمية بين الجماعات وعليه سينتج نوعان من الاستعمار ونوعان من الإمبريالية هم: (1) الاستعمار الرسمي (2) الاستعمار غير الرسمي (3) الإمبريالية الرسمية، و (4) الإمبريالية غير الرسمية. لقد تم تعريف الاستعمار الرسمي ببساطة على أنه الاستعمار ذاته، أما الاستعمار غير الرسمي فهو نوع من أنواع الهيمنة بين الجماعات التي تنتج عن الهجرة الاختيارية لمستوطنين دائمين من أماكن غير المدن الكبيرة، مثل هجرات الآسيويين إلى إفريقيا الصينيين إلى جنوب شرق آسيا... إلخ (لا تؤدي كل تلك الهجرات إلى هيمنة كما هو الحال بالنسبة للأفارقة الذين هاجروا للعالم الجديد). بعض من هذه الجماعات تم النظر إليها كغرباء (في الأدبيات الإفريقية) ليس مسموحاً لهم بالتداخل الاجتماعي. أما الإمبريالية الإدارية هي صورة من صور الهيمنة بين الجماعات حيث يوجد تحكم رسمي على كل شئون المستعمرة من خلال الجهاز الإداري الإمبريالي المقيم. تتساوى الإمبريالية غير الرسمية مع الاستعمار الجديد (النيوكولونيالية)، شبه (نصف) الاستعمار والإمبريالية الاقتصادية، وهي تعد نوعاً من أنواع الهيمنة بين الجماعات حيث يغيب التحكم الإداري الرسمي وتمارس من خلال النخبة المحلية ووفقاً لهذا التعريف تكون الأقمار الصناعية

السلطة

ص: 31

التابعة للاتحاد السوفيتي والأراضي المهيمن عليها من قبل بريطانيا مثل شمال نيجيريا موجودة في نفس الفئة. ونتيجة أخرى لقرار إضافة المتغير الثنائي الرسمي/ غير الرسمي فوق متغير المستوطنين، هو ظهور اثنا عشرة نوعاً نوع عند مرحلة التمييز بین

العلاقات، وأربعة وعشرون نوعاً عن التفرع الثنائي للمرحلة السياسية.

وبديل لذلك، يمكن إضافة التفريع الثنائي الرسمي غير الرسمي للمتغير الخامس أو السادس أو السابع مما يؤدى لنتائج مختلفة. يُحدد الاختيار بين البدائل من خلال عدد الفئات التي لا معنى لها لكونها متضاربة منطقياً أو لم تحدث في الماضي أو غير ممكنة الحدوث في المستقبل.

وهناك مقترب آخر للتعديل مفاده هو أخذ قرار بكون الخصيصة محل الاهتمام مساوية لمتغير الهيمنة ووفقاً لذلك، ستتم إضافة تلك الخصيصة كمحور آخر مساوي للهيمنة. هذا القرار سيولد نظاماً جديداً يمكن ربطه بالخصائص المختارة لنموذج الاستعمار المقدم هنا تكمن منفعة أي نموذج في حله لمشكلات معينة، وأيضاً في وعده بحل مشكلات أخرى. إذن، المرونة الداخلية هي مصدر قوة وليست مصدر ضعف.

إن رفض تعريف أو تصنيف معين يجب أن يكون بسبب أن الباحث وجد مخطوطاً آخر قادر على تعريف وتصنيف الظاهرة محل الدراسة بصورة أفضل. هذا المخطوط يجب أن يكون أكثر عمومية (ينطبق على عدد أكبر من الحالات) وأبسط (يسمح بفهم أكبر للمصطلحات) إن رفض أي مخطوطٍ بدون إيجاد بديل له ليست الطريقة الطبيعية في العلم بشكل عام.

بعض التطبيقات:

إن المخطوط التعريفي والتصنيفي الذي تم اقتراحه له تطبيقات تتجاوز الأهداف المحدودة لتلك الورقة ؛ فهو يقدم منهجية تعد بقدرتها على التعامل مع الظواهر

الثقافية والاجتماعية المعقدة. هناك ميزتين لتلك المنهجية تجدر الإشارة إليهما:

ص: 32

الأولى، كما تم توضيحه، هي القدرة على التعديل والتفسير الطرق المتاحة لها نفس الميزة، ولكن التعريف يتم بناء على قاعدة خذ كل شيء أو لا شيء». رغم أن المواصفات تحتاج إلى اختبار حتى يتم ربط المتشابهين بعملية التعريف، إلا أن التعريفات إما أن تُقبل أو تُرفض بواسطة الدارسين والمتخصصين من أسباب ذلك هو أن منهجية التوضيح، التعديل أو إعادة الترتيب ليست موضحة بشكل كافي. فالشيء الوحيد الثابت في العلم هو التغير. إن التعريف - مثله مثل النظرية _ يجب عليه أن يتنبأ بالتغير.

أما عن الخصيصة الثانية لتلك المنهجية هي أنها تركز على الترابط بين المتغيرات. فحتى تكون عالماً في الحضارة الغربية، يجب أن تحلل وتنظر للكل من خلال النظر إلى مكوناته في الفلسفة المطلقة. ولقد كانت هذه الطريقة مثمرة جداً في العلوم الطبيعية، ولكنها لم تكن كذلك في الدراسات الإنسانية حيث إن الجزئيات المنفصلة غير موجودة في الإنسان ولكن إذا أردنا مثلاً أن ندرس الاستعمار فسندرس الهيكل الاجتماعي، وإذا أردنا أن ندرس الهيكل الاجتماعي فسندرس أنظمة القيم وهكذا. فإن المنهجية المستخدمة في هذه الورقة البحثية تحدد أجزاء (متغيرات) وتوضح علاقتها ببعض الأجزاء. ويمكن توضيح الطريقة التي تتعامل بها تلك المنهجية مع الجوانب الثقافية والاجتماعية للظاهرة من خلال تحليل المصطلح «الطبقة أو الطائفة الاجتماعية».

تلك المنهجية تجعل من الصعب دراسة الظواهر بطريقة منعزلة فإن اعتبار الاستعمار صورة من صور الهيمنة يتعلق بأنظمة تصنيف الظاهرة ( مثل الطبقة والفئة/ الطائفة الاجتماعية). هنا نجد فقط أن الطائفة الاجتماعية لها علاقة بالاستعمار والإمبريالية. فإن الطبقة هي صورة من صور صورة من صور التصنيف الاجتماعي؛ حيث يتم الترتيب الرأسي للثروة، المكانة والسلطة وفقاً لاعتبارات إثنية؛ حيث لا يمكن الانتقال الرأسي بين تلك المستويات ولو على المستوى النظري. ترتبط الطائفة في العادي بالحالة الهندية، ولكن الكثير من خصائصها أكثر انتشاراً من ذلك. فإن الطائفة هي صورة

ص: 33

من صور الهيمنة. فالمجموعات وما دونها يتم وضعها في طوائف بناء على معايير إثنية. في الهند الحديثة، لا يمكن لطائفة أن تستعمر إقليم طائفة أخرى رغم أن الأصل التاريخي لنظام الطوائف كان مرتبطاً بالاستعمار - كما تم تعريف ذلك الأخير في تلك الورقة البحثية - ولكن الطوائف حالياً لا تبيد الطوائف الأخرى ولا تتداخل معها اجتماعياً ولكن هناك توازن نسبي بينها. وأخيراً، لا يمكن اعتبار الطائفة ظاهرة دولية ولكنها شيء يحدث داخل الوحدة السياسية. ولذلك، الطائفة هي هيكل اجتماعي نتج عن إمبريالية محلية، وهناك توازن نسبي بين المجموعات غير المتجانسة إثنياً.

باستخدام هذا التعريف يمكن أن نجد الطائفة في أميركا وجنوب إفريقيا أيضاً. فالأمريكيون من أصل إفريقي والهنود من أصل أميركي لديهم إلى حد ما هذا الوضع الطائفي؛ فالهنود الذين عاشوا فترة الإبادة مع الإمبريالية الأميركية والاستعمار الأميركي تم إعطاؤهم هذا الوضع الطائفي. وأيضاً لقد تم إعطاء ذوي البشرة السوداء في جنوب أميركا ذات الوضع؛ خصوصاً في الماضي.

وبينما يتفكك أو ينهار النظام الطائفي في الهند، فإنه يشهد عملية نشأة شديدة الديناميكية في جنوب إفريقيا. ومن المعروف وجود عملية فصل بين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة السوداء، ولكن الفصل بين المجموعات الثقافية هي غير معروفة؛ فهناك فصل بين ذوي الأصول الهولندية وذوي الأصول البريطانية. إن سياسة التمييز العنصري تلك تتطلب محافظة وتطوير المجموعات الإثنية والثقافية تلك لأساليب حياة مختلفة وثقافات مختلفة من خلال العيش في مناطق خاصة بهم فقط ويكون الاجتماع مع الآخر للعمل فقط؛ فتلك كانت طبيعة النظام الطائفي في الهند مثلاً . صحيح أنه كانت هناك اختلافات بين الاثنين ؛ فالنظام الطائفي في جنوب إفريقيا كان يعمل من خلال نظام السوق عكس طبيعة اقتصاد إعادة التوزيع في الهند تقليدياً. وبشكل عام، إن نقطة التحليل للطائفة هي أن عملية (الإمبريالية) مرتبطة بشكل اجتماعي (الطائفة)، فالفصل بينهما يحمل مزيداً من اللبس لا الفهم.

ص: 34

الاستنتاجات: فهرس المصطلحات

إن هدف تلك الورقة البحثية هو تعريف الاستعمار وبعض الظواهر ذات الصلة. إن المجموعة التالية من التعريفات تم إنتاجها بواسطة الآلية المستخدمة في البحث.

1. إن الهيمنة هي تحكم الأفراد والجماعات في إقليم معين أو/ وفي سلوك الأفراد والجماعات.

2. إن الهيمنة بين الجماعات هي عملية تتم في مجتمع غير متجانس ثقافياً ولكن الهيمنة داخل الجماعة الواحدة تتم في المجتمعات المتجانسة ثقافياً.

3. إن الاستعمار هو شكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات؛ حيث يهاجر مستوطنون من القوة المستعمرة بأعداد كبيرة وبشكل دائم إلى المستعمرة.

4. إن الإمبريالية هي شكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات؛ حيث تهاجر قلة من المستوطنين الدائمين من الوطن الإمبريالي إلى المستعمرة - أو لا يهاجر مستوطنون من الأساس.

5. إن الطبقة هي شكل من أشكال الهيمنة الطبقية داخل الجماعة الواحدة.

6. إن الإمبريالية هي شكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات التي تحدث (في حدود الوحدة السياسية المستقلة المعترف بها في حالة الإمبريالية الدولية، تكون الجماعة المهيمنة هي الوحدة السياسية المهيمنة، رغم أن التحليل الطبقي يعطي فهم أكثر واقعية للعملية محل التوضيح).

7. تشير الإمبريالية الإدارية إلى ذلك الشكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات؛ حيث يتم التحكم الرسمي المباشر في شئون المستعمرة من خلال الجهاز الإداري الإمبريالي المقيم.

8. تتساوى الإمبريالية غير الرسمية مع الكولونيالية الجديدة Neo-colonialism،

ص: 35

شبه الكولونيالية Semi-colonialism ، والإمبريالية الاقتصادية، وهي نوع من الهيمنة بين الجماعات حيث يغيب التحكم الإداري الرسمي وتمارس السلطة بواسطة نخبة محلية.

9. يختلف الاستعمار المحلي عن الإمبريالية المحلية في كون الأول يتضمن هجرة مستوطنين دائمين من القوة الاستعمارية.

10. يشير الاستعمار غير الرسمي إلى ذلك الشكل من إلى ذلك الشكل من الهيمنة بين الجماعات الذي ينتج عن الهجرة الاختيارية لمستوطنين دائمين من أماكن غير العواصم أو المدن الكبيرة الرئيسية .

11. إن الطائفة هي نوع من أنواع الهياكل الاجتماعية، وهي نتيجة لإمبريالية محلية مصحوبة بتوازن نسبي.

مستخلص:

إن المصطلحات مثل الاستعمار الإمبريالية، أو النيوكولونيالية هي مفاهيم تظل غير معرفة رغم الأدبيات الضخمة المكرسة لدراسة تلك الظواهر. في الأكاديميا، بدون تقييم نقدي للاستعمار الإمبريالية والنيوكولونيالية سيكون التعريف هو الشرط المسبق لأي تقييم نقدي. وفي هذه الورقة، تم تقديم نموذجاً يمكن له توليد تعريفات متسقة منطقياً. يقوم هذا النموذج بتحديد المتغيرات ذات الصلة بالاستعمار، الإمبريالية، والنيوكولونيالية وتوليد أو إنتاج تعريفات عند كل مستوى؛ تلك آلية يمكن تعديل التعريفات وفقاً لها من خلال الاكتشافات البحثية في المستقبل. وأخيراً، يُوصى بتعريف العلاقة بين أنظمة التصنيف الاجتماعي والاستعمار والإمبريالية من خلال مزيد من التفسير للنموذج المطروح هنا .

ص: 36

تعلیقات:
1. أندريه جوندر فرانك Andre Gunder Frank

كما يشير هورفات من الصعب الفصل بين التعريف التصنيف، والتفسير (النظرية). إذن، تعريف الاستعمار هو في الحقيقة نظرية عن الاستعمار، وجزء مكمل للمنهجية النظرية أو المقترب الأيديولوجي للمجتمع ودراسته - وللحفاظ على واقعه ولكن هذه النظرية ليست علمية سواء بمعايير هورفات أو بأي معايير مقبولة أخرى، تلك النظرية التي تُعنى في الحضارة الغربية على حد قوله «أن تحلل وتنظر إلى الكل من خلال أجزائه».

إن التعريف المنهجي أو المنهجية التعريفية محل العرض ليست كلية، إذن النوع الرابع (النوع المنطقي الذي نادرا ما حدث في التاريخ) لا تاريخي. إذن تلك المنهجية تدخل ضمن منهجيات العلماء الآخرين والتي يلاحظها هورفاث قائلاً: رغم أن الاستعمار يمكن ترتيبه مع أهم العمليات المؤثرة في التاريخ الإنساني، إلا أن العلماء الغربيين لم يصلوا إلى مرحلة الإمساك الحقيقي بهذه الظاهرة).

وفي الحقيقة، هم لن يستطيعوا باستخدام منهجية تتظاهر بتحليلها للواقع متجاهلةً صورته الكلية غير مهتمة بواقعيته وتماسكه، ومنكرةً تاريخه. وبعيداً عن الإمساك بظاهرة الاستعمار والجوانب غير المبهجة في الحقيقة الاجتماعية، فإن هذه الأيديولوجيا يمكن

لها أن تربك فهم الحقيقة والواقع من خلال الاعتماد على وهم تفسير الأجزاء.

ونتيجة لتلك المعايير العلمية والمنهجية غير المقبولة نتج مثال على إرباك فهم الحقيقة وهو تعريف الاستعمار من حيث وجود أعداد كبيرة من المستوطنين الدائمين كما كان الحال في الهيمنة على أميركا اللاتينية شمال أميركا، أستراليا، نيوزيلندا، جنوب إفريقيا، والجزء الآسيوي من الاتحاد السوفيتي؛ مسألة يمكن لأي طفل في العالم المهيمن عليه أن يكتشف أنها مجرد الرداء الأيدولوجي للإمبراطور. من أجل معالجة علمية (بعيداً عن عيوبها وعن التحفظات الشخصية عليها) يمكن للقارئ

ص: 37

العادي أن يقارن تلك الأيديولوجيا بالمنهجية التاريخية المتماسكة لروبيرو 1970؛ والتي تؤدي إلى نتائج شديدة الاختلاف مقبولة علمياً وأكثر واقعية.

إن الأسباب وراء فشل العلماء في تجاوز (عدم كفاية المنحى العابر للثقافات، ضعف المنحى النظري، قلة المرونة، والتوجه الشديد التحفظ تجاه الألفاظ والمعاني)- تلك النقاط الأربعة التي حددها هورفات - ليس بسبب التركيز على الكلمات ولكن بسبب التوجه الشديد المحافظة لهم وضيق نظرتهم بالنسبة لمجتمعهم ولدورهم كأيديولوجيين داخل هذا المجتمع. وبالمثل، إن محدودية التفسير هي انعكاس لنفس التوجه والنظرة؛ فالتوجه والنظرة السياسية لهؤلاء العلماء هي سبب فشل المعرفة الغربية - من ضمنها تلك المعرفة محل العرض والمراجعة في الوصول إلى مرحلة الإحكام بالاستعمار ،بالإمبريالية وبالهيكل السياسي الاقتصادي والاجتماعي الثقافي للمجتمع الذي يولدهم.

2 ديفيد جاكوبسون David Jacobson

إن بعض الجوانب في ورقة هو رفاث تشوش محاولته لتنظيم ظاهرة الاستعمار . يدعي هورفات فشل العلماء والمتخصصين في تزويدنا بتعريفات للاستعمار، رغم أن حجته مبنية على نقد تعريفات الآخرين للاستعمار. ربما نقطته هي عدم وجود تعریف مفيد، منتج ونقدي للاستعمار، ولكن تلك المواصفات تطرح مشكلة - والتي يتجاهلها - وهي تحديد معيار نظري يمكن بواسطته تقييم المنفعة المفاهيمية. يضيف هورفاث مزيداً من اللبس بتأكيده على أنه غير مهتم بتحليل استخدامات (ومعاني) مفهوم الاستعمار، ولكنه مهتم بظاهرة الاستعمار ذاتها فلقد قام بعمل فئات للخصائص (المتغيرات) التي رآها مرتبطة بالاستعمار والإمبريالية، ولكن تبقى هناك مشكلة متعلقة بمنفعتهم إذا تم تطبيقهم على حالات إمبيريقية. إن التعريفات تبقى عنصر أساسي لاكتشاف النظام، ولكن منفعتهم تقاس بإمكانية تطبيقهم من أجل الفهم النظري أو تفسير العلاقات بين الظواهر. إن بناء تعريف يفترض وجود إطار نظري، بغض النظر عن وضوحه، يتم التقليل من أهميته عندما يتم تحليل التعريفات

ص: 38

في مرحلة ما قبل النظرية. إن التحليل التعريفي ممكن أن يكون مهماً بغرض التوضيح المفاهيمي، ولكن حجة هورفاث كان يمكن لها أن تكون أقوى إذا قام هو بتوضيح التطبيقات النظرية لتعريفه للاستعمار.

3. مادلين باربرا ليون Madeline Barbara Leons

تشجعت عندما أُرسل إلي مخطوط كتابي يتعامل مع ظاهرة الاستعمار والإمبريالية، من المفترض أن يتم نشره في العدد الحالي لجريدة الأنثروبولوجي. إن الانتباه المنتظم لمثل هذه الظواهر في الجرائد التي تتعامل مع علم دراسة الإنسان تأخر كثيراً وهو بالطبع أمر مرحب به جداً. ولكن يجب أن أتساءل مع ذلك عن منفعة تعريف منفصل عن نظرية واضحة وأن اختبر بشكل ناقد بعض الأسس النظرية للمخطط التعريفي الذي وضعه هورفات.

أنا أشارك هورفاث الاهتمام بالكلمات. فإذا كانت معاني الكلمات غير واضحة، ضَعُف الفهم. فعلى سبيل المثال، أنا لم أفهم ما يقصده هورفات بكلمة «إثني»، فهل يقصد تمييز عرقي أم ثقافي أم الاثنين؟ فلقد استخدم المصطلح بالثلاث معانِ والمعنى هنا سيفرق في فهم الحجة .

ورغم ذلك الاهتمام المشترك، يجب عليَّ أن أشكك في قيمة هذا الإسهام. لدي اعتراضات صغيرة على الاتساق مثل مناقشة مسألة هجرة الأفارقة للعالم الجديد كهجرة اختيارية. ولكن معركتي وخلافي الأساسي هو حول افتراض الكاتب أن التعريف يؤدي إلى النظرية - التي تعتبر طريقة لتنظيم الحقيقة وتسبق النظرية. ورغم اعتراف هورفات بصعوبة فصل التعريف عن النظرية، لقد أكمل في عمل نفس الشيء. وأنا أرى أنه ليس من المفيد فصل التعريف عن السياق النظري.

وكما يؤكد هورفات على أن عملية التعريف تتضمن اختيار المتغيرات الهامة وتتجاهل المتغيرات غير الهامة أو الأقل أهمية فيجب أن تكون عملية الاختيار تلك مبررة، إذا لم تكن خيالية أو اعتباطية، ويجب أن يكون هذا التبرير مبني على الأساسات

ص: 39

النظرية للمنفعة في إطار نظام من التفسير والتنبؤ يدعي هورفاث أن أساس الاختيار ميتافيزيقي وواضح. وأنا سأترجم ذلك لمعنى أن الأساسات النظرية لباقي التعريفات تُركت ضمناً في نظري للأسف فإن تعريفه محمل بنظرية ضمنياً، والتي يفضل أن يطلق عليها تعريف العلاقات كما ظهر في المستخلص أو في التطبيقات. أنا أقترح الآن اختبار بعض جوانب تلك النظرية الضمنية بربطها ببعض المناظرات النظرية

الواضحة داخل المجال.

يستخدم هورفات الهيمنة كأول متغير مهم واستخدمه للإشارة إلى علاقات القوة. إذن هناك فرض صيغ هنا لتحليل الظواهر وهو أن العلاقات السياسية أهم من العلاقات الاقتصادية والثقافية مثلاً. وبالتالي أيُّ مخطوط يعطي الأولوية في التفسير للعمليات السياسية سيُنظر إليه كأقل في الأهمية. فإن مشكلة التحيّز النظري الموجود داخل التعريف لا يمكن حلها من خلال إضافة أو إعادة تنظيم المتغيرات. فهل يمكن طرح المتغيرات أيضاً أم لا ؟ هذا يتطلب أن تكتب تعريفات تتناسب مع المشكلة - وهو ما يحدث بشكل عام. فإذا لم يكن من الممكن طرح المتغيرات، فإن هورفات يرفض مجموعته من التمييزات والعلامات الفارقة التي من الممكن أن تكون ملائمة أولاً.

كانت أول معالجة قام بها هو رفاث هي تفرقته للهيمنة بين الجماعات والهيمنة داخل الجماعة الواحدة وقال أن التصنيف الاجتماعي الذي ينتج عن الهيمنة يسمى طبقة. وبالتالي تشير الطبقة إلى التنظيم التراتبي للمكانة والثروة والسلطة في المجتمع، ولكن تلك النظرية الضمنية لم تخبرنا عن طريقة التوفيق أو العلاقات بين هذه الجماعات . قال هورفات أيضاً أن ممارسة الهيمنة داخل مجتمع غير متجانس ثقافياً تؤدي إلى تصنيف آخر وهو التصنيف الطائفي؛ حيث يتم التقسيم التراتبي المجموعات الثروة والسلطة والمكانة وفقاً لاعتبارات إثنية ولا يمكن الانتقال لأعلى على المستوى النظري.

هذا التحليل ينطبق على كل حالات الاستعمار الداخلي - تلك الفئة التي يُدخِل

ص: 40

فيها هورفات الولايات المتحدة الهند وجنوب إفريقيا بغض النظر عن الاتفاق حول هذا التصنيف فنحن هنا أمام تصنيف ثنائي بين مجتمعات متجانسة ثقافياً ومجتمعات غير متجانسة ثقافياً؛ ففي الأولى نجد تصنيفاً اجتماعياً وفي الثانية نجد تصنيفاً طائفياً.

أنا أرى أن هذا النقاش يعيد نفس المناظرة التي اشتعلت حول رؤية سميث عن التعددية الاجتماعية والثقافية فقط سنستبدل كلمة الطائفة بقسم متعدد، وكون سميث نظري وهو رفاث ينكر المفاهيم النظرية المسبقة لا يغير شيئاً.

إن حجة هورفات الضمنية توازي عرض سميث لفكرة المجتمع القائم على التعددية. ولتوضيح حجة سميث المعقدة، يقول سميث أن المجتمع مقسم إلى شرائح متميزة مؤسسياً عن بعضها البعض. يصان المجتمع من خلال الهيمنة على مؤسساته السياسية من قبل واحدة من تلك الشرائح - والتي تشكل قلة مهيمنة يرفض سميث تطبيق التحليل الطبقي على المجتمع القائم على التعددية لأنه يفترض وجود وضع دائم للشرائح الاجتماعية وهي مسألة غير موجودة في المجتمع القائم على التعددية. وتعتبر رؤية هو رفاث للجماعات الإثنية على أنها طوائف منظمة بشكل تراتبي كاريكاتور لفكرة سميث.

هناك الكثير من المنفعة في التكوين الذي شكله سميث، ولكن من أكثر الأشياء التي دار حولها التساؤل هي التصنيف الثنائي بين المجتمعات المقسمة اجتماعياً والمجتمعات القائمة على التعددية التي جعلت دراسة كل منهما يجب أن تتم بشكل منفصل. ربما يكون ذلك ما أيده هورفاث حينما قام بعمل تصنيف ثنائي بين المجتمع الطبقي المتجانس والمجتمع الطائفي غير المتجانس. في الحقيقة، يمكن فهم رؤية سميث بطريقة أفضل بمقابلتها بنظرية بارسون للفعل ، ولكن كما يقول هو رفات في سياق آخر نحن لا يجب أن نكون مقيدين بالطريقة التي استخدمت بها الكلمات من قبل آخرين.

أؤكد أنه أفيد على المستوى النظري أن نجعل كلمة الطبقة تشير إلى توزيع السلطة

ص: 41

والثروة والمكانة (كل منهم منفصل في عملية التحليل) في أي مجتمع حتى تلك المجتمعات غير المتجانسة ثقافياً أو عرقياً. فإذا لم نكن قادرين على فصلهم في عملية التحليل، لن نستطع معرفة كيف يختلفون بشكل مستقل ولن نستطيع تعديل العلاقة بينهم مع الوقت. فوفقاً لرؤية هو رفاث للطائفة، يجب أن نعترف - وفقاً للتعريف - أن الثروة، السلطة والمكانة موزعون تراتبياً بين الجماعات الإثنية المختلفة وأن تلك العلاقة لا يمكن تغييرها لعدم إمكانية التحرك بين الطوائف، ولكن يعترف في ذات الوقت أن نظام الطوائف في الهند يتفكك بينما يظهر هذا النظام في جنوب إفريقيا. إذا كانت العلاقة بين السلطة، الثروة والمكانة والإثنيات تتغير بالفعل، فيجب - غير معاقين بتعريف هو رفاث - أن نسأل لماذا ، وإذا كانت تلك العلاقات لا تتغير، فيجب أن نسأل لم لا؟ وفقاً للمخطوط الرسمي لهورفاث، السؤال الأول مستحيل والثاني لا معنى له.

4. روبرت شيرلي Robert W.Shirley

إن الموضوع الذي قام هو رفاث باختباره هو موضوع هام للغاية. فأنا للغاية. فأنا سعيد لأن العلماء الاجتماعيين في الولايات المتحدة الأميركية بدأوا في دراسة مشكلة بدأ علماء أميركا اللاتينية في دراستها منذ سنوات؛ وهي أنماط الهيمنة بواسطة أناس على غيرهم. أتصور أن تلك الورقة البحثية ستكون أكثر فائدة لو تم نشرها منذ عشر سنوات. فإن ذلك التصنيف يقدم نقطة انطلاق لمزيد من البحث، ولكن لا يمكن النظر إليها كنقطة كاملة. بالتأكيد إن الفئات التي استخدمت في التصنيف هامة جداً خصوصاً المتغيرات الديموغرافية مثل الاستيطان من عدمه أو الإبادة أو التداخل الاجتماعي مع الشعب. ومن ناحية أخرى، هناك الكثير من الحديث اليوم عن التصنيف الاجتماعي والطرق التي يتم الإبقاء بها على الهيمنة بين الجماعات أو داخل الجماعة ذاتها وبالتالي تلك الورقة البحثية تجعل القارئ يشعر بعدم معرفة إجابات أسئلة هامة مثل: كيف ولماذا؟

هناك الكثير من النقاط التي تزعجني في هذه الورقة. فإنني أرى أنه ستتم إفادة العلوم الاجتماعية بواسطة أطر تعريفية متداخلة أكثر من شكل تعريفي ثابت. فكما

ص: 42

يشير سيمبسون تكون هناك فائدة للتصنيف فقط بالعلاقة بإطار نظري معين. فالنظرية هنا ليست واضحة رغم أن علاقتها بالديموغرافيا واضحة، وأيضاً الفئات ليست محكمة بالقدر الكافي؛ فعلى سبيل المثال، إن الفرق بين التداخل الاجتماعي والتوازن ليس واضحاً بالنسبة لي، فهل كان الأفارقة متداخلين اجتماعياً في الولايات المتحدة؟ أو في البرازيل؟ في جنوب إفريقيا؟ فالإجابة عن كل تلك الأسئلة نعم ولا اعتماداً على المعايير والمجالات التي نوقشت.

بالإضافة لذلك أنا لا أجد في هذه الورقة أي مناقشة منظمة للعملية ذاتها؛ الطرق التي تتم بواسطتها عمليه الهيمنة سواء تمت بواسطة أفراد مقيمين، كهنة، جيوش أو عناصر وفئات هامة داخل الاقتصاد. لم يقبل شعب أن يهيمن عليه من قبل آخرين؟ ما هي جوانب الحياة التي يهيمن عليها ؟ لما يرغب الناس في الهيمنة على الآخرين؟ تلك أسئلة حيوية جداً. ففي عملي الخاص بالاستعمار في البرازيل، أدركت أن بعض العوامل هي الأهداف المحفزة والتنظيم المؤسسي للقوة الهيمنة. ويلعب الاقتصاد بجانب السياسة دوراً هاماً هنا. فكل تلك العناصر تتداخل مع فئات هورفاث بطريقة تجعل من الممكن تفسيرها بطريقة ديناميكية. فإن النوع المنطقي الرابع - إمبريالية مصحوبة بإبادة - على سبيل المثال ربما ستناسب نظام إمبريالي هدفه هو استخراج بعض الموارد الطبيعية مثل البترول أو المعادن ولكن سيصعب إقحام الشعب في سوق العمالة المطلوبة لهذا الهدف. أعتقد أن ذلك حدث إلى حد ما في الأيام الأولى من الكونغو البلجيكية، وكان ذلك أيضاً من أهم العوامل وراء معاناة الهنود من أصل برازيلي اليوم.

إذن ، رغم أنني أرى فائدة في تعريفات هو رفاث إلا أنني غير مقتنع أن كل المتغيرات المتعلقة بالاستعمار أو الإمبريالية تم تحديدها، ولست مقتنعاً أيضاً أننا يمكن أن نقوم بتحديدها كلها خصوصاً في مجال الاستعمار الاقتصادي والنيوكولونيالية. وبالنسبة لنظام التصنيف والمخطوط التعريفي على الأقل بالنسبة لحالة أميركا اللاتينية، فأنا راض على التطور الذي قدّمه روبيرو رغم كل عيوبه أكثر من الأنواع المنطقية التي قدمها هورفاث.

ص: 43

5. أيدان سوٹالAidan Southal

ليس لدي نقد لمنطق أو لاتساق المخطوط التصنيفي لهورفاث. فلا يمكن الهروب من حقيقة أن البعض يستمتع بهذه الأمور أكثر من البعض الآخر . ربما يعتبرها العلماء في دراسة الإنسان أنها عملية التصنيف تلك بالية أو قديمة لأنهم لا يجدونها طريقاً مرضياً لاستكشاف المشكلات التي تلقى اهتمامهم ولكنني أرى أنها تشكل على الأقل عملية عقلية أولية ولكن التحليل المثمر يبدأ حينما يتم تجاوز حدودها. أشك الرغبة في إضاعة الوقت على ذلك المخطوط إلا في علاقته بمشكلات معينة. ربما هذا ما يفعله هو رفاث ولكن دون التأكيد عليه.صحيح أن مخطوطه مرن بما يسمح ببناء المزيد من التمييز بين المتغيرات داخله ولكن هذا يعرضنا لخطر بناء فئات أكثر عدداً من الحالات.

والدليل على تلك النقاط هو أن النموذج أثبت ضعفه بالعلاقة بالأمثلة التي استشهد بها. لقد أخبرنا أنه لا يوجد فرق بين قهر المسلمين في شمال إفريقيا لغير المسلمين في جنوب إفريقيا وبين ممارسة الإمبريالية على السودان كلها بواسطة البريطانيين. إن النقطة الهامة والتي ربما منع النموذج هورفات من رؤيتها هي أن واحدة أدت للأخرى. لقد قام البريطانيون برسم خط قويّ وسريع بين الشمال والجنوب. ففي الشمال قاموا بتقوية اللغة العربية والإسلام (السائدين هناك من الأساس) وقاموا بتقوية اللغة الإنجليزية والمسيحية في الجنوب. يمكن أن نصيغ قانون، لم يقترح بواسطة هورفات، مفاده أنه عندما تخترق قوة إمبريالية السيادة السياسية لدولة بها انقسامات، لن يصمد الدستور وستعم الفوضى حتى يتم تبني حل يطمس هذا الانقسام. هذا ينطبق على شمال وجنوب السودان بوغندا في مقابل الكونغو، وشمال نيجيريا في مقابل باقي نيجيريا.

ومثال الطائفة أيضاً مثال في غير محله. إن تفسير الطائفية الهندية تاريخيّاً كظاهرة متعلقة بالاستعمار ببساطة ليست فكرة مثمرة. فإن تصنيف حالات جنوب إفريقيا والولايات المتحدة مع حالة الهند كأمثلة للنظام الطائفي يزيد من اللبس أكثر مما

ص: 44

يوضح. وأتفق على أنه من الضروري أن يسأل عن العناصر المشتركة في أنظمة اللامساواة في الهند، جنوب إفريقيا ، وأميركا، لكن هذا لا يجيب عن أهم الأسئلة التي طرحها دومونت (1966) أو ليتش (1960) فيما يتعلق بالطائفية الهندية. فهذا النموذج حتى لا صلة له بوجهة نظر هورفاث التي تفيد أن السود يمكن استغلالهم على عكس الهنود ولذلك ينظر إليهم كحشرات للإبادة.

فإن هذا النموذج لا يفرّق بين الأيديولوجيا والفعل؛ فيمكن أن يصنف إمبريالية البرتغال كإمبريالية دولية رغم أنها محلية بالنسبة للأخيرة.

اختلف بشدة مع رأي هو رفاث عندما قال أنه لا فرق بين الإمبريالية والاستعمار المحليين والدوليين كأشكال من الهيمنة أو الاستغلال أو كعمليات ثقافية. أعتقد وضع الهنود في أميركا الشمالية والقيرغيزية أو الكازاخ في الاتحاد السوفيتي بالفعل مختلفة بوضوح ولكن تختلف اختلافاً جوهرياً عن أوضاع الأفارقة في الأقاليم المستعمرة من قبل قوى أوروبية. ويصدق ذلك لسببين: الأول؛ التمييز بين المحلي والدولي يحتاج إلى التدقيق والتحسين فعلى سبيل المثال، إن بطش ذوو البشرة البيضاء شمال إفريقيا لأصحاب البشرة السوداء في جنوب إفريقيا ظاهرياً حسب النموذج يعتبر استعماراً محلياً، ولكنه يعد إمبريالية دولية. فالتصنيفات غير الخطية ليست جيدة لأن الشروط تعتمد على المشكلة. وعلاوة على ذلك، ينحدر هورفات لتعريفه للهيمنة على أنها السيطرة على الإقليم و / أو السلوك، لكنه لا يعطي أي اعتبار لتطبيقات الأخير. إن الشكل المعاصر للنيوكولونيالية - الذي يتم التحكم الجزئي وفقاً له في سلوك الحكومات المستقلة رسمياً بواسطة الشبكات التجارية والدبلوماسية والمساعدات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية والمؤسسات المالية في الدول الصناعية الغنية - من المفترض أن تكون مصنفة حسب النموذج ل-«الإمبريالية الدولية ، ولكن هذا لا يأخذنا للأمام لأنه مبسط جداً. فإن النموذج توقف عند نقطة بدء استحقاق الفائدة. هذا النوع من التعليم الرسمي وبناء النموذج الأرسطي، يحمل خطراً كبيراً يتمثل فى تجاهل المشاكل أو الالتفاف حول مشكلات

ص: 45

عدم الوضوح والازدواجية لأنها غير مناسبة من البداية على سبيل المثال، وصف ألور عملية الهيمنة على أنها لا تصلح لفئات ما بين الجماعات أو داخل الجماعة الواحدة في مخطط ،هورفاث، وهناك العديد من الكتاب الذين أشاروا إلى حالات مشابهة في أماكن أخرى.

بالطبع يجب تنظيم الحقيقة حتى يتم فهمها، ولكن هذا النوع من النماذج يقدم مقترب مبدئي يجب هجره لأن الإضافة إليه سوف تزيد من اللبس غير الضروري. وعندما يتم الوصول لمراحل أعلى في التحليل، يجب أن تركز النماذج المستخدمة على سياق المشكلة محل الدراسة. فقط عندما يتم التوصل لأكبر حجم من استيعاب للعلاقات بين المتغيرات، يمكن وقتها الارتباط بنماذج أكثر شمولية.

6. سبنسر J.E.Spencer

إن موضوع الاستعمار الذي يشغل هورفات لا يمكن تفويته ولكن المشكلة هي أنه نادراً ما سيتفق أحد على وجود حالة معينة تناسب مجموعة التعريفات المبسطة عندما تصبح معايير البت في المسألة ذاتية. وبخصوص هذه المشكلة ليست هناك أكاديميا واحدة ولكن الكثير بعدد المستعمرين والإمبريالية، وسترى كل منها المشكلة من المنظور الخاص بها وانطلاقاً من التصور الذي تتبناه. ويتضح ذلك من خلال النظر لمحاولة الغرب أن يفرض تعريفاً لأخلاق العدوان على كل المتخصصين والممارسين.

بالنسبة للأكاديميا ،الغريبة، التعريفات جيدة علمياً ولكنها غير عملية، بمعنى أنها ليست واضحة وموضوعية مما يجعل جميع مستخدميها يصلون إلى نفس النتيجة. على سبيل المثال، معرفة «عدد المستوطنين بأعداد كبيرة» على أساس أن نقرر ما إذا كان الأمر يتعلق بالاستعمار أو بالإمبريالية. بالرغم من أن الفلبين قد أصبح مسيطراً عليها من قبل الأسبان بدرجة كبيرة، لم يوجد أبداً ما يصل إلى 10000 أسباني أو شخص من أصل أسباني في الجزر في أي وقت من الأوقات، إلا أنه كان هناك من أمثال هذا العدد من غير الصينيين وذوي الأصول الصينية في أواخر العصر الإسباني.

ص: 46

اتجهت فرنسا إلى «استعمار» إندونيسيا، ولكن لم يوجد قط ما يصل إلى 50 ألف فرنسي أو حتى أشخاص من أصول فرنسية، وكان هناك أكثر من عشرة أضعاف هذا الصينيين في الغالب كان هناك أقل قليلا من 300 ألف هولندي وأشخاص من أصول هولندية في إندونيسيا ولكن أكثر من مليون صيني. من المؤسف أنني صعب أن أتفق مع هورفات بسهولة على معظم الحالات بسبب وجود منطقة رمادية كبيرة في كل حالة.

ولدي اعتراض على إقحام كل قضية بسيطة داخل هذا النموذج. ورغم أن أسبنة الفلبين تشبه حالة بسيطة للاستعمار الدولي المصحوب بالتداخل الاجتماعي إلا أن هناك رأياً آخر مفاده أن ما حدث كان استعماراً داخلياً؛ فالفلبينيون استغلوا المؤسسات السياسية الإسبانية من أجل الاحتفاظ بالسيطرة السياسية في الدولة في حين أن المواطنين الصينيين حولوا أنفسهم إلى مواطنين فيليبينيين للوصول إلى السيطرة الاقتصادية. أين أنا الآن ؟ بتقديم مزيداً من المعالجة سيكون نموذج هورفات جيداً، ولكنه سيظل محفوفاً بالخطر، ورغم كل ذلك، سأنتظر بعض الوقت عله يجلب لنا المزيد من الوضوح قبل أن أبدأ في إطلاق المسميات والأحكام على النموذج.

7. برونيسلو ستيفانيسين Bronslaw Stefaniszyn

أجد أن محاولة التوصل إلى تعريف الاستعمار مفيدة. غير أنه يبدو أن علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية قادرون على العمل دون هذا المصطلح، فإنهم يرون الاستعمار أحد أشكال الاتصال الثقافي، خاصة عندما نتعامل مع التوجه إلى التغيير الثقافي . وعلاوة على ذلك، يركز علماء الأنثروبولوجيا أساساً على أثر الاتصال الثقافي، في حين يركز المؤرخ والعالم السياسي - كل وفي لمبادئ مجال - على حدث الاستعمار نفسه، ومن ثم يصعب عليهما أن ينطلقا من وقوع حدث معين إلى تعميم. إن قائمة المراجع المرفقة بهذه الورقة تعكس هذا الوضع؛ فإن معظم المراجع المذكورة تاريخية واقتصادية واجتماعية سياسية، ومن الصعب أن تجد مراجع من علم الأنثروبولوجيا.

ص: 47

الرد.... رونالد هورفات Ronald Horvath:

لقد نتجت تلك الورقة البحثية عن اهتمامي بتمدن العالم الثالث ما أبهرني في البداية هو أن جذور وآليات التمدن في إفريقيا لم تتسق مع توقعات النظريات والنماذج الكلاسيكية للتمدن مما دفعني لاختبار فرض مفاده أن تلك الاختلافات ترجع للاستعمار . ولكن ما هو الاستعمار ؟ كنت أتصور في البداية أن بإمكاني الذهاب إلى المكتبة لمدة أسبوعين وأخرج بتعريف للاستعمار ، ولكن بعد عام اكتشف أن هناك الكثير من التعريفات والدراسات وللأسف تم عمل تلك الدراسات بدون الاستعانة بتلك التعريفات. وما زاد اللُّبس، أن كثيراً من المتخصصين قاموا بعمل دراسات عن العلاقات الاستعمارية تحت مسميات أخرى. وكانت هناك فجوة كبيرة بين تعريفاتهم للاستعمار وبين الحالات التي يعتبرونها ،استعمارية فكانت الأولى أوسع من الأخيرة. ولذا توصلت لاستنتاج مفاده أن المتخصصين الغربيين فشلوا في الإمساك بالاستعمار والإمبريالية بشكل جيد. ومن ضمن المشكلات العديدة التي تقابل فعل ذلك، جاءت أحد أهداف بحثي وهي تقليل الغموض حول عديد من المصطلحات ذات الصلة بالاستعمار فالورقة البحثية لم تتضمن نظرية عن الاستعمار لم تتعامل مع السياسية أو أخلاق الاستعمار، ولم تصل حتى لمرحلة إنهاء تحقيق الهدف الذي كتبت من أجله.

يشير سبنسر على سبيل المثال إلى أن معايير تطبيق هذه التعريفات ليست موضحة. إن المزيد من التحديد مطروح في نظام، ولكن أي عمل إمبيريقي أو / وأي تطوير لافتراضات نظرية يجب أن يسبق هذا التحديد كم عدد المستوطنين؟ بأعداد كبيرة سيحدد اعتماداً على نوعية الإجابة المطلوبة من الافتراض النظري. فالحل الإمبيريقي المعتمد على بيانات ديموغرافية يمكن أن يحدد عدد المستوطنين في عدد من المستعمرات. إذا أراد عدد معين أن يهيمن على منطقة بعينها ستظهر مشكلات أخرى؛ فما فعله كورتز في المكسيك في 1915 لم يكن ممكناً في فيتنام تنام 1960 مع وجود نصف مليون أميركي. ولكن لما ينتظرني سبنسر لعمل تلك التحديدات؟

ص: 48

فأنا متعاطف جداً مع هؤلاء الذين يريدون نظرية واضحة ومفسرة لتعريف الاستعمار (جاكوبسون وليون)، وأنا أيضاً أريد ذلك. فإجابات كيف ولماذا الاستعمار والإمبريالية سيتم وضعها في تلك النظرية كمسلمات ولكننا لا نمتلك حتى الآن وسائل تمكننا من تحديد أنماط منتظمة تتعلق بالاستعمار، وهذا هو أقل شيء يجب امتلاكه من أجل بناء نظرية. ويمكن لنا في هذا الصدد تذكر بعض الشروط المسبقة في تاريخ العلم. فإن مبادئ التصنيف في علم الأحياء تطورت قبل مجيء دارون. ولكن الإجابات عن كيف ولماذا تغيرت لأن الفصائل والأنواع التي تحدث عنها دارون لم تعد ثابتة ولكن التصنيف استطاع الصمود والبقاء. تعد الجداول الدورية في الكيمياء مثال آخر على أنظمة التصنيف التي استطاعت أن تستمر رغم العديد من التغيرات في النظرية فأنا لا أقول أن التعريف والتصنيف يجب أن يسبقا بناء النظرية، ولكنهما على الأقل يستطيعان الصمود رغم التغير في التفسيرات (النظرية). ليون يشير إلى وجود نظرية ضمنية في التعريف، ولكن يجب أن يقول أن هناك نظريات في التعريف؛ تلك النظريات مختلفة مثل النظرية التي بنى الإله الأرض وفقاً لها ومثل نظرية التطور لدارون، فكلَّا منهما كان متسقاً مع نفس نظام التصنيف. ولقد قال سوثال أن التصنيف نظام بالي وأنه يجب أن يستخدم في البداية فقط ثم يهجر. وأنا أرى أن التصنيفات لن تكون مفيدة بشكل أساسي في البحث عندما يكون هناك اتفاق واسع على هذا التصنيف، وحتى عندما يكون هناك اتفاق، يُبنى على التصنيف ولا يتم هجره.

إن البحث الذي قمت به في هذه المقالة أقنعني بأن الاستعمار ظاهرة عالمية، فلقد شهدته جميع الحضارات، ومن المرجح أن كثيراً من الشعوب غير المتحضرة شهدته أيضاً. فمن أجل تعريف هذه الظاهرة بطريقة تؤدي إلى بناء نظرية، علينا أن نتعرف على نقاط التشابه بين مختلف أنواع العلاقات الاستعمارية. فإن التركيز على أوجه الاختلاف وحدها غالبا ما أدت إلى استنتاج مفاده أن جميع العلاقات متميزة أو فريدة من نوعها، إن نظرية التفرد وبناء النظرية تلك تبدو متناقضة، فأنا أبدأ بمحاولة معرفة أوجه التشابه بين العلاقات الاستعمارية بهدف معرفة نقاط الاختلاف. فعندما

ص: 49

نعلم ما هو الاستعمار سيكون بإمكاننا التمييز بين الأنواع الفرعية من الاستعمار، على سبيل المثال: الاستعمار المحلي والدولي.

وبعد تصميم ملابس الإمبراطور دون أي محاولة للخداع في نيتي، لا يسعنى إلا أن أسال فرانك إذا لم يكن له موقف أيديولوجي يمنعه من رؤية الثياب البسيطة. فإن انتقاده يركز على المتغيرات التي تميز الاستعمار عن الإمبريالية على أساس وجود أو عدم وجود المستوطنين فإن مخطط روبيرو الذي يفضله يؤدي إلى ذات التمييز رغم انه يدعوها الهجرة مقابل الاستعمار التجاري ويضيف الاستعمار الاستعبادي ومن أهم الفروق بين معالجتي ومعالجة روبيرو هو أنه يربط بين مستويات التكنولوجيا وعمليات التحضر في مخطوطته وآمل أن فرانك أو روبيرو لا يحاولان الإيحاء بأنهما متحرران من أي أيديولوجيا، فأنا عن نفسي أشك في وجود في وجود فائدة من علوم اجتماعية خالية من الأيديولوجيا. إذا كنت سأدخل أيديولوجيتي داخل المخطوط، كان ذلك سيتم عند مستوى الهيمنة كسلسلة من افتراضات صريحة (بما أن... إذن ... البناء) متعلقة بمصدر (مصادر) الهيمنة. وهذه الافتراضات أو المعطيات هامة لتحديد الفوارق بين أنواع الهيمنة ولكن يجب أن يكون لدينا أجوبة عن أسئلة قبيل: هل الهيمنة جزء من تكويننا البيولوجي؟ هل أشكال الهيمنة تتفاوت تفاوتاً كبيراً تبعاً للتغيرات في مستويات التكنولوجيا (صناعي، ما قبل الصناعي..إلخ)؟ أو أن الفروق مرتبطة بمختلف أنواع المؤسسات (نظام الإقطاع، الرأسمالية... إلخ)؟ إن الافتراضات التي طرحتها حول مصادر الهيمنة يمكن أن تؤدي منطقياً إلى الحالات المذكورة في فئات مختلفة جداً، لكن هذه الخلافات لم تعالج في هذه الورقة. إن مناقشة مطولة وجادة حول طبيعة الهيمنة وعلاقتها بأنواع المتغيرات التي تثير اهتمام علماء الأنثروبولوجيا وغيرهم من علماء الاجتماع مطلوبة جداً ويجب الدعوة إليها.

يدعي ليون أن عمل سميث بخصوص التعددية نظري بشكل واضح، ولكن من وجهة نظري أن عمل سميث تعريفي مع التزام بسيط بالنظرية. فآخر كلمات رأيتها لسميث حول هذا الموضوع كانت« لا يوجد أي جسد (نسق) منظم للمفاهيم

ص: 50

وللافتراضات التحليلية والتي يمكن تمريرها كنظرية التعددية أو المجتمع القائم على التعددية».

فإن أكثر التفسيرات سخاء للأساس النظري لسميث هو عمل كوبر الذي ينص على التالي: (1) إذا كان المجتمع قائم على التعددية تحدث الهيمنة بالضرورة (2) في حالة وجود مجتمع متجانس أو غير متجانس يحدث توافق. وهنا نرى الأساس الأيديولوجي للديمقراطية الليبرالية في شكل مقترحات نظرية. فملاحظات سميث بشأن استحسان الاندماج العالمي (الشمولية في نظرية بارسون) ستدعم هذا التفسير. فالأحداث في أميركا خلال السنوات القليلة الماضية شكلت عبئاً خطيراً على مصداقية التمييز لهذه الأطروحات إن أوراق البنتاغون ستجعل رأي رايت ميلز يبدو محافظاً. وهناك اختلافات هامة بين صياغة سميث وصياغتي وهي: أولاً؛ هو عدم الميل نحو فصل التعددية عن الاستعمار فوجهة نظري أكثر انسجاماً مع الرؤية الأصلية لفورنيفال عن التعددية على الرغم من أنني حاولت كثيراً أن أعمم مفهومه، وثانياً؛ الطريقة التي يوضح بها مخططي العلاقات المتبادلة بين المتغيرات ويولد التعريفات.

تُبدي ليون اهتمامها بالأحكام المتعلقة باختيار المتغيرات. بعد مراجعة أدبيات الاستعمار قسمت كل الأعمال إلى ثلاث مجموعات حسب ما إذا كانت ترى الاستعمار صورة من صور الهيمنة الاستغلال أو العمليات الثقافية. فتلك الورقة البحثية حاولت ربط الرؤية الأولى بالثالثة وتركت الاستعمار كصورة من صور الاستغلال بدون معالجة.

كانت مادلين ليون على حق حينما أشارت إلى أن الأميركيين من أصل أفريقي لم يكونوا مهاجرين طوعيين ولا يجب وضعهم في فئة الاستعمار غير الرسمي.

ومن بين كل التعليقات، فأنا أقل تعاطفاً مع فكرة أن المجال الذي يدرس الإنسان يمكن أن يستغني عن مفاهيم الاستعمار والإمبريالية، فقائمة المراجع المرفقة توضح اعتقادي أن المشكلات الهامة لا يمكن أن تحل في حدود مجالاتها التقليدية. فالغلو

ص: 51

في الانتماء المهني يشكل عائقاً لفهم وضع الإنسان، ناهيك عن محاولة تغيير هذا الوضع. فلماذا تطلق على الاستعمار «الاتصال الثقافي» أو «الاندماج التاريخي» إذا كنت تقصد الاستعمار ؟ هذا لا يعني أن ما قاله ستيفنسين ليس صحيحاً، بالعكس فما قاله بشكل عام صحيح؛ لقد استطاع علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية أن يعملوا بدون هذا المفهوم، ولكن هل من المبرر استمرار ذلك؟

لقد كُتب هذا المقال في 1968، أي قبل عشر سنوات من زيادة الوعي بهذا الموضوع، وإذا كتبته مرة أخرى، أعتقد أنه سيكون مختلفاً. بالرغم من إنقاص درجة عدم الوضوح من خلال بناء مخطوط شكلي أو منهجي - رغم أهميته للعلم - إلا أنه يبدو أقل أهمية بالنسبة لمفهوم مثل الاستعمار بالمقارنة بفهم التوجه السياسي الذي ظل كامناً وراء فشل العلماء والمتخصصين في إحكام القبضة على الظاهرة. فأنا الآن أتفق مع فرانك بخصوص نقده للسبب الذي طرحته لهذا الفشل وأتفق مع تفسيره بشكل أساسي. إن مواجهة الأكاديميا بسياستها لن تكون مهمة سهلة خصوصاً إذا بقينا وراء وهم أننا موضوعيون بمعنى كوننا متحررين من الأيديولوجيات والقيم. فإن مهمة الكشف عن أيديولوجياتنا وقيمنا، نقدها وإزالة اللبس عنها سيتطلب تحليل تعريفي لإزالة الغموض عن المصطلحات الخطيرة التي نستخدمها. إذاً، يجب

أن نعد التحليل التعريفي أداة هامة لفهم وضع الإنسان ولتنفيذ المهمة الأهم وهي تغيير هذا الوضع.

ص: 52

ما هو العلم الاستعماري؟:رویة ابستمولوجیة للمفهوم والظاهرة

اشارة

الیس ل.کونین(1)

سلّم المؤرّخون لأمدٍ طويل بأنّ الاستعمار في العصر الحديث أنشأ أشكالاً «استعماريّة» للمعرفة ساعدت وحتّت عليه، غير أنّهم لم يتّفقوا على ما يعنيه مفهوم «العلم الاستعماري». ظهر حديثًا كتابان لهِلين تيلّي ولبيير سينغارِافلو يفتحان طرقًا جديدةً للتحقيق في هذه الظاهرة.

يُحيل الكثير من المؤرّخين مصطلح «العلم الاستعماري» إلى المعرفة العلميّة الصّادرة عن مختصّين تدرّبوا في حواضر المستعمرات، ويُركّز المؤرّخون المؤمنين ب«أقلمة أوروبا» على دور الإدارات الاستعماريّة في خلق أشكال جديدة من المعرفة العلميّة عادت لاحقًا إلى أوروبا، ويستعرض غيرهم من الباحثين كيفيّة تبنّي التابعين لجوانبٍ من المعرفة الاستعماريّة فقط لأجل إخضاعها لأهدافهم الخاصّة. ويرى نقّاد ما بعد الاستعمار أنّ العمليّات العنفيّة التي أنتجت سُلطةً استعماريّة هي نفسها التي

ص: 53


1- - استاذ التاريخ في جامعة أوهايو - الولايات المتحدة الاميركية. What is Colonial Science? Professor Alice L. CONKLIN. Reviewed: Helen Tilley, Africa as a Living Laboratory: Empire, Development, and the Problem of Scientific Knowledge, 1870 - 1950, Chicago, University of Chicago Press, 2011, 496 p. and Pierre Singaravélou, Professer l'Empire: Les "sciences coloniales" en France sous la IIIe République, Paris, Publications de la Sorbonne, 2011, 409 p. Published by BooksIdeas.net, 31 January 2013. booksandideas.net.

أنتجت معرفةً علميّة،(1)ونظّروا لطرق ترابط العلم مع السلطة، غير أنّهم لم يُعيروا كيفيّة توظيف الخُبراء المعرفة في أُطُرٍ محدّدة أدنى اهتمامٍ، كما أنّهم لم يلتفتوا إلى النتائج غير المقصودة للبحث العلمي المنفّذ ضمن علاقات القوّة الاستعماريّة غير المتناظرة.

ظهر حديثا كتابان عن أدوات الاستعمار الأوروبيّة يفتحان أبوابًا جديدة لتقصّي هذه الظاهرة، ويعدان بتعقيد فهمنا للعلاقة بين المعرفة العلميّة من جهةٍ وبين الإمبرياليّة الأوروبيّة الحديثة من جهةٍ أخرى تبحث هِلين تيلّي في كتابها أفريقيا المختبر الحيّ في طُرق تطوّر المهارات في مجالات الطب والعلم العِرقي والأنثروبولوجيا الاجتماعيّة والدراسات البيئيّة في المستعمرات الأفريقيّة جنوبيّ الصحراء الكبرى، وتُثبت بالدليل مدى أهمّية القارة الأفريقيّة بالنسبة إلى تطّور العديد من الحقول العلميّة الحديثة في العقد الثالث من القرن العشرين في كتابه المجاهرة بالاستعمار يُعيد بییر سينغارافِلو إلى الواجهة حيّزاً معرفيًّا منسيّا هو المعروف «بالعلوم الاستعماريّة» الذي ظهر في فرنسا في سبعينيّات القرن التاسع عشر واختفى في أربعينيّات القرن العشرين. يتّسم كلا الكتابين بالرزانة من ناحية العمق البحثي ونطاق الحجج وأصالتها، حيث يبحث الكاتبان في ماهيّة «العلوم الاستعماريّة» مُتبنّيان منهجًا بحثيًّا تاريخيًّا صارمًا في تحليل المجالات التي وُظّفت لخدمة مصالح الإستعمار، كما يُظهر كلاهما أنّ العلماء المندرجين في القضيّة الاستعماريّة كانوا قادرين على النقد الذاتي وعلى الإبتكار بنفس القدر لدى غيرهم من العلماء.

ص: 54


1- Bernard Cohen, Colonialism and its Forms of Knowledge: The British in India (Princeton, 1996); Lewis Pyenson, Civilizing Mission: Exact Sciences and French Overseas Expansion (Baltimore, 1993); Emmanuelle Sibeud, Une science impériale pour l'Afrique? La construction des saviors africanistes en France 1878- 1930 (Paris, 2002); Oscar Salemink, The Ethnography of Vietnam's Central Highlanders: A Historical Contextualization 1850- 1990 (Honolulu, 2003); Trumbull IV, George, An Empire of Facts: Colonial Power, Cultural Knowledge, and Islam in Algeria, 1870-1914 (Cambridge, 2009); Gyan Prakash, Another Reason: Science and the Imagination of Modern India (Princeton, 1999); David Arnold, Colonizing the Body: State Medicine and Epidemic Disease in Nineteenth-Century India (Berkeley, 1993); Megan Vaughan, Curing their Ills: Colonial Power and African Illness (Stanford, 1991); Ashis Nandy, The Intimate Enemy: The Loss and Recovery of Self under Colonialism (Delhi, 1983); Edward Said, Culture and Imperialism (New York, 1993) and Bruno Latour, Nous n'avons jamais été modernes (Paris, 1991).
تحدّی سلطة اوروبا المعرفیّة

على الرّغم من المجال الزمني المذكور في عنوان كتابها (1870-1950)، إلّا أنّ تيلي تُركّز على الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، والتي بحثت فيها الحكومة البريطانيّة للمرّة الأولى في «تنمية» موارد أفريقيا الهائلة بشكل علمي ضمن نظريّة انتفاع المُسْتَعمَر والمُستعمِر على حدٍّ سواء. لذلك لجأ الموظّفون الرسميّون في أفريقيا - وفي معظم الحالات قسرًا - إلى خبراءٍ لأجل اختلاق حقائقٍ مطلوبةٍ لتبرير سياستهم الإقتصاديّة، وهو ما استجاب له الخُبراء وإن لم يكن دائماً بنوع الحقائق المرجوّة من الموظّفين. الخُبراء وشبكاتهم وأنماط تفكيرهم («كما تُفكّر الإمبراطورية») هم لبّ دراسة تيلّي، ونسرد تاليّا استنتاجاتها الدقيقة المميّزة: التنوّع الحيويّ المحض في «أفريقيا المُختبر الحي» المصحوب بمدّى إستثنائيٍّ للّغات وللحضارات وللمُمارسات الاجتماعيّة شكّل تحدّيّا للعلماء في محاولتهم لتأسيس اختصاصاتٍ ومنهجيّاتٍ جديدة، ما جعلهم يتحاجّون في ما بينهم ويختبرون ويُنقحون نتائج أبحاثهم. تعلّم الإختصاصيّون علوم الزراعة والنبات ووصف الأعراق البشريّة (الإثنوغرافيا) المنتشرة في المستعمرات جنوبيّ الصحراء الكبرى، احتراموا أشكال المعرفة الأفريقية الفريدة من نوعها، وطوّروا «علمًاعاميًّا» تحدّوا به سلطة أوروبا المعرفيّة، وسبقوا بذلك بعض منظّري ما بعد الاستعمار الذين لم يبدأوا بذلك إلا في العقد الثامن من القرن العشرين من المفارقة أنّ «العنونة الخاطئة لأشكال السيطرة الجديدة وسوء فهمها وتيسيرها»، جعل العلوم المرتبطة بالإستعمار لا تملك فقط قدرةً على القهر ولكن أيضًا «قدرة على التحرير»، «وقد حقّقت كلا الأمرين في النهاية». (ص.25) تعترف الكاتبة أنّها وصلت لهذه النتائج لِكونها عاملة إغاثةٍ سابقة وناشطةٌ انقلبت لاحقًا إلى أكاديميّةٍ مُدافعةٍ عن العلم.

حُسن استخدام العلم حاضرًا يتطلّب فهم سوء استخدامه والإنتهاكات المُرتكبة باسمه في الماضي، ويتطلّب استعادة نصوصه حتّى الهدّامة منها. تركّز تيلّي في تقصّيها للاستعمار العلميّ التدخّلي على الدراسة الاستقصائيّة الأفريقيّة وهي أهمّ

ص: 55

مشروع شبه رسمّي لجمع المعلومات الاستخباراتية في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، ركزت هذه الدراسة على مستعمرات كينيا وتنزانيا وأوغندا وزامبيا ونيجيريا وغانا بين العام 1929 والعام 1939 برئاسة السير ملكولم هايلِي، وقد نُشِرت نتائجها في مجلّدٍ واحدٍ عنوانه «دراسةٌ إفريقيّة: دراسة المشاكل الصاعدة في أفريقيا جنوبيّ الصحراء الكبرى»، كما ظهر مجلّد مجتزأ «العلم في أفريقيا: مراجعة البحث العلميّ المتعلّق بأفريقيا المداريّة والجنوبيّة». لقد استخدم العديد من الأكاديميّين المناصرين للإستعمار والمسؤولين في المكتب الإستعماري والمثقّفين هذه الدراسة لأجل تقييم الحالة المعرفيّة في أفريقيا، ولوضع استراتيجيّات لدراساتٍ لاحقة، ولاقتراح طُرقٍ لدمج هذه الدراسات في رسم السياسات. ساعد المنظّمون من خلال بحثهم عن معلوماتِ «يُعوّل عليها» في تنمية وتشكيل علومٍ ميدانيّةٍ جديدةٍ كعلوم البيئة والنبات والطبّ المداري والأجناس البشريّة. تُلاحق تيلًّي أعضاء الدراسة في الميدان، وتتتبّع نقاشهم العلمي، وتصف اصطدامهم بالمدراء المحلّيّين وبالمُماراسات الأفريقيّة الاجتماعيّة والثقافيّة ضمن بيئاتٍ محدّدة، كما تبحث في أنظمة الوصاية الزبائنيّة والهيكليّات المهنيّة التي حدّدت ظروف إنتاج المعرفة على الصعيدين الوطنيّ والعالميّ. لقد استفاد العلماء دون أدنى شكّ من الفرصة غير المسبوقة التي وفّرها لهم الاستعمار الأوروبيّ في نهاياته للعمل في أفريقيا، ولكنّ المعرفة التي جمعوها لم تقم فقط بتجريد الشعوب التي جاؤوا لدراستها من إنسانيّتهم بل تجاوزت ذلك بكثير.

الكتاب مقسّم إلى سبعة فصول. يتتبّع الفصل الأوّل الإهتمام بإحصاء الموارد المداريّة خلال الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين ويربطه بنموّ المجتمعات الجغرافيّة في نهاية القرن التاسع عشر، ويؤرّخ الفصل الثاني لمرحلة نشوء الدراسة، والفصول الباقية عبارة عن دراسات حالة للمجموعات المشاركة بالدراسة : يبحث الفصل الثالث في كيفيّة تبنّي الإدارات الزراعيّة غير المسبوق - إذا استثنينا الإدارات الطبية - لرؤية بيئيّة في مراجعتها لفرضيّاتٍ سابقةٍ عن خصوبة التربة الأفريقيّة وأساليب الزراعة الأفريقيّة المفرِّطة، وقد دفع القلق المتنامي حول تآكل التربة والإفراط في استخدام أراضي الرعي وانتشار الأوِبئة بمؤلّفي العلم في أفريقيا إلى إصدار تحذيرات

ص: 56

عن أخطار الإنتاج الرأسماليّ الواسع النطاق «وأن يُنظر إلى المعرفة العاميّة بشكلٍ أكثر جدّيةٍ». (ص (168). يتناول الفصل الرابع بحث الضبّاط التقنيّين في الترابط ما بين تفشّي الأمراض المُعدية وبين تدهور المستوى المعيشي، واستبصارهم تاليّا أنّ علاج الأمراض وحدها غير كافٍ (ص (212) فتحسين حالة الأفارقة الصحّية يستوجب فهم التفاعلات بين الجسم البشريّ ومحيطه وبين المجموعات السكّانيّة والبيئات الآهلة بها، كما أنّه يستوجب فهم السياق الاقتصادي العام في هذه المجالات أيضًا بدأ الخبراء الأوروبيّون بالأخذ من الأفارقة وبإعادة النظر في فرضيّاتهم المسبقة ولكن من دون تحدّي سلطة المستعمِر. يبحث الفصل الخامس في سبب تخصيص الباحثين في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين الجزء النزير من مواردهم للبحث في الاختلاف العرقيّ، في حين أنّ كلّ الأنظمة الاستعماريّة بُنيت على أُسُسٍ عنصريّة. تستخدم تيلّي دراسة حالة لكينيا لنقض فكرة أنّ الاختلاف العرقيّ كان يُنظر إليه على أنّه «بديهيٌّ» جدًّا إلى الحدّ الذي لا يستوجب دراسته، وتُرجع السبب إلى توقّي الإدارات الاستعماريّة آثار التمييز العنصريّ المخلّة بالإستقرار، لاسيّما أن العلماء على الصعيد العالمي كانوا يشكّكون بالحقيقة الوجوديّة للإختلاف العرقيّ وبإمكانيّة تسويغه بيولوجيًّا. هذان العاملان مضافًا إليهما شح موارد الدول الاستعماريّة جعلا المسؤلين يعدلون عن صرف الأموال لإثبات فرضيّة انحطاطِ رعاياهم على الصعيد العقليّ بسبب انتمائهم العرقيّ.

هل كان تقدّم علم الأجناس البشريّة الذي أعطى تفسيراً مختلفًا لطرق حياة الشعوب المُستَعمَرة سببًا آخراً لتراجع العلم العرقيّ؟ على الرغم من أنّ علماء الأجناس البشريّة كانوا الخبراء الأقلّ عددًا في أفريقيا المداريّة إلّا أنّ منهجيّات علم الأجناس البشريّة الإجتماعيّة الناشئة تظهر بشكلٍ كبيرٍ في كتاب تيلّي. في العقد الثاني من القرن العشرين حاول جيلٌ جديدٌ من علماء الأجناس البشريّة الوظيفي يتقدّمهم مالينوفسكي فهم وشرح الظروف الموجودة في المجتمعات الأفريقية - ليس لأجل تجميدهم في حاضرِ أزليّ ولكن لحدّ الأثر التدميريّ للرأسمالية الاستعماريّة. في هذا الإطار غدا علماء الأجناس البشريّة في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين أشدّ

ص: 57

الناقدين للاستعمار:«علماء الاجناس البشريّة الذين عملوا مطوّلاً لتحقيق مطلبهم أن يكونوا ضمن طاقم خبراء الاستعمار» قاموا لاحقًا وبمجرّد ما غدوا داخل المنظومة باستخدام أدواتهم لينأوا بأنفسهم عنها». ص (311)

أجرت تيلّي الكثير من دراسات الحالة جعلتها تنبذ مصطلح «العلم الاستعماري» جملةً وتفصيلاً، وهي تحاجج بأنّ تاريخ الدراسة الأفريقية يُثبت بشكل قاطعٍ أنّ البحث العلمي كلّه - على الصعيدين المحليّ أو العالميّ - يدور بطرقٍ تجعل منتجيه غير قادرين على التحكّم به، حتّى لو كان مُموّلاً من حكوماتٍ استعماريّةٍ تبحث عن حُلولٍ لمشاكل الاستحكام الاستعماريّ، ومن هذا المنطلق يكون تعريف أيّ علم على أنّه بشكلٍ محدّد علم «استعماريّ» يُبهم أكثر مما يُضيء. كما أنّها ترى أنّ العلّم «الجيّد» لم ينتصر على العلم «السيّء» في مستعمرات بريطانيا الأفريقيّة، ولكن لم يكن بالمستطاع تحديد نتائج الإستعانة بالعلم سلفًا بواقع الاستعمار، حيث أنّ العلماء المهنيّين تمكّنوا من إبقاء مسافةٍ بينهم وبين السياسات الموضوعة : لقد دفعهم إلى البحث في تعقيدات المجتمعات البشريّة التي أثقلت كاهل الإداريين ولم يكن لدى رؤسائهم الوقت الكافي لأخذها في الحسبان، وقد حدّدت سياقاتٌ سياسيّة محدّدة وشخصيّاتٌ تاريخيّة أشكال النقاشات الحاصلة وصوّبتها في بعض الأحيان نحو الأفضل. إحدى النتائج البارزة لتطور المبادئ في العقد الثالث من القرن العشرين كانت تثبيت تقليد جديد منسّق ومُتَعَدِّد الاختصاصات «أبرز عدم تجانس البيئات الأفريقيّة والعلاقات البينيّة بين القضايا المتعدّدة التي تمّ دراستها. (ص. 5)».

تنجح تيلّي في إقناعنا بأنّ على مؤرّخي الاستعمار أن لا ينظروا فقط إلى «عيوب العلم واستثناءاته وأمثلته الرديئة» التي حوّلت المواضيع الإمبرياليّة إلى مواضيع بحثٍ واختبارٍ، ولكن عليهم أن يأخذوا أيضًا في الحسبان «الأدب العلمي الهائل الذي أُنتج خلال الحقبة الاستعماريّة ولم يتّبع هذه الأنماط»،(ص 322-323) فدراسة الممارسة العلميّة الحديثة في أفريقيا لا ترتبط فقط بالدقّة التاريخيّة ولكن أيضًا بفهم الدور الذي لعبته الأفكار في تعرية الاستعمار.

ص: 58

ميلاد «العلوم الاستعماريّة»

يتناول بيير سينغارافلو بدوره تاريخ مجموعة من العلماء الإستعماريّين كاد أن يُنسى، والعلماء موضع بحثه يختلفون بشكلٍ كبيرٍ عن العلماء الذين تناولتهم تيلّي، حيث أنّه يكرّس كتابه لقادة المجال المهنيّ للمعرفة الإنسانيّة المعروف باسم «العلوم الاستعماريّة»، والتي أُسّست في بدايات الجمهوريّة الثالثة ولكنّها لم تتمكن من الإستمرار إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية في العقد الثامن من القرن التاسع عشر كانت جماعةٌ من الهواة تُنتج معظم المعرفة المتعلّقة بشعوب المستعمرات الفرنسيّة ومواردها وإدارتها، بمعنى أنّ هذا النوع من المعرفة لم يجد لنفسه مقامًا معترفًا به ضمن مؤسّسات التعليم العالي. حاول بعض الخبراء تغيير هذا الوضع عبر تأسيسهم لمجالات جديدة كالجغرافيا الاستعماريّة والتاريخ الاستعماري والتشريع والإقتصاد الاستعماريَّين وعلم النفس الاستعماري، وذلك لإضفاء طابعٍ علمٍّي على الإمبرياليّة الفرنسيّة عبر التقصّي المُضني لجيلين من هؤلاء الخبراء وشبكاتهم يُظهر سينغارافلور أنّ العلم الاستعماري ترسّخ في فرنسا بين سنة 1870 وسنة 1920، وتقهقر بعد ذلك. المجاهرة بالاستعمار جزءٌ من موجة جديدة في الثقافة الفرنسيّة تجمع ما بين تاريخ العلوم الإنسانيّة الاجتماعي الفكري وبين التاريخ الاستعماري، ويرتكز على فهم طرق تفاعل الثقافة الأكاديميّة العلمائيّة مع ثقافة أوسع نطاقًا وأكثر شهرة منها، وعلى تخطّي تحليل الخطاب الاستعماري النخبوي إلى دراسة شعاع انتشاره وآثاره.

يقسم سينغارافلو كتابه بالتساوي إلى جزأين يتكوّن كلّ منهما من أربعة فصول، حيث يبحث في الجزء الأوّل في مأسسة العلوم الاستعماريّة بشكلٍ عامٍّ، ويُحقّق في أسباب «النجاح» المبكر والتقهقر اللاحق، ويحلّل في الجزء الثاني الأقصر مضمون هذه المجالات الجديدة بين العام 1880 والعام 1940 ساعدت كوكبة من الأكاديميّين والمسؤولين الاستعماريّين وأعضاء من الجماعات الضاغطة المؤيّدة للاستعمار - ما يسمّيه سينغارافلو «بجمهورية الخطابات الاستعماريّة» - في خلق العديد من المناصب الجامعيّة في مجال العلوم الاستعماريّة وذلك في كافّة أنحاء فرنسا والإمبراطوريّة. كان العقدان الثامن والتاسع من القرن التاسع عشر حقبة

ص: 59

الإصلاح الجامعي ونموّ العلوم الإنسانيّة، وتوسّع العلوم التجاريّة والتطبيقيّة، وتجدّد العدوان الإمبريالي، وقد سهّلت هذه التطوّرات الثلاث مأسسة المجالات الجديدة. بدأت تدريس مقرّرات حول «الجغرافيا والتاريخ الاستعماري» «والاقتصاد والتشريع الاستعماري» و«الاستعمار المُقارَن» و «علم نفس السكّان الأصليّين» في مدارس تجاريّة خاصّة، وفي مدارس جديدة أُنشئت لأجل تدريب الإداريّين الاستعماريّين، وفي كلّيّات الاقتصاد (facultés de droit) وبحدِّ أدنى في كلّيّات الآداب (facultés des lettres . تحقّق فصل مناطقيّ للعمل الأكاديميّ الإمبريالي داخل فرنسا، حيث تخصّصت ليون بالتدريس المتعلّق بجنوب شرقيّ آسيا، وصوّبت بوردو على أفريقيا الغربيّة والمغرب، وركّزت لوهافر على الأميركتين، وقدّمت مارسيليا مقرّرات دراسيّة عن أفريقيا الشرقيّة والجزائر والشرق الأوسط ومدغشقر. إضافة إلى ذلك أنشِأت العديد من كراسي الأستاذيّة في باريس، وفي سنة 1926 أكاديميّة العلوم الاستعماريّة لأجل تنسيق الجهود البحثيّة ولإسداء النصائح للحكومات وراء البحار.

وجدت العلوم الاستعماريّة في تلك الحقبة طريقها إلى قلب مؤسّسات التعليم العالي في فرنسا. من درّس هذه العلوم ومن موّل الوظائف الجديدة؟ سينغارافلو يصف حوالي مائة برفسور استعماريّ هم الّذين زار بعضهم نفس الأكاديميّات المتميّزة، كدار المعلّمين العليا أو كلّية الحقوق في جامعة باريس التي علّمت ودرّبت أشهر المثقّفين الفرنسيّين. حتّى أنّ بعض علماء الاجتماع الذين لا يملكون خبرةً استعماريّة مباشرة في مجالات أخرى - على سبيل المثال علماء الاقتصاد أو أساتذة القانون - قاموا من حينٍ إلى آخر بتدريس مقرّرات ذات مضمون استعماري، والعديد منهم كانوا خرّيجي المدارس العسكريّة كسان سير أو الكلّية الاستعماريّة في باريس كان الخبير النموذجي، أيّ كانت خلفيته، «شخصًا موسوعيًا تجمع وظيفته المعقّدة بين التعليم والإدارة الاستعماريّة والخبرة، ويحمل في بعض الأحيان مسؤوليّات سياسيّة وتجاريّة». (ص (135) على الصعيد الهيكليّ قامت وزارة الاستعمار والعديد من الحكّام العامين والمجالس البلديّة المحليّة وغرف التجارة وجماعات الضغط المؤيدة للاستعمار بتمويل العلوم الاستعماريّة، أمَلاً في جذب الشباب الموهوب

ص: 60

إلى الوظائف في الإمبراطوريّة ولاسترضاء الرأي العام. حلقةٌ كبيرة من الباريسيّين وجمعيّات محليّة ومهجريّة ومؤسّسات البحث الاستعماري وناشرين متخصّصين في المواضيع الاستعماريّة ومجلاّتٍ علميّة وفّرت فُسحات فكريّة واستعدادًا إجتماعيًا ومراجعةً منظورةً وهو ما يحتاجه أيّ مجالٍ جديدٍ ليكتسب طابعًا مهنيًا.

أحد أكثر الفصول إثارةً للإهتمام هو الذي يبحث في أسباب تعثّر هذا المجال الحركيّ الجديد في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين - التي وصلت خلالها الإمبرياليّة الفرنسيّة إلى ذروتها - وانهياره بعدها بجيلٍ ويستعرض العديد من العوامل: بداية الركود الاقتصادي «والسنوات الجوفاء» التي تلت نزيف الحرب العالميّة الأولى، وتصلّب الأكاديميّة الفرنسيّة المحافظة ورفض القيّيمين عليها الإعتراف بجدّيّة الباحثين غير التقليديّين الذين يتّبعون مناهج علمانيّة، وقلّة طلّاب التعليم العالي في مجال العلوم الاستعماريّة إجمالاً. الحقيقة أنّ القليل من الذكور البرجوازييّن إختاروا الهجرة إلى المستعمرات بسبب انخفاض معدّلات الولادة في الجمهوريّة الثالثة إضافة إلى ذلك عانى تدريس العلوم الاستعماريّة من قصور التنسيق الإجماليّ الشامل، حيث تشاركت ثلاث وزارات (وزارة الاستعمار ووزارة التعليم ووزارة الماليّة) مسؤوليّة هذا القطاع. يستجلي سينغارافلو أزمة هويّةً عميقةً في ثلاثينيات القرن العشرين لروّاد هذا المجال لأنّ «تثبيت خرّيجين متعلّمين في المستعمرات يبقى أمرًا صعبًا» (ص 227 ).

كان الهدف في الجمهوريّة الثالثة هو رفع العلوم الاستعماريّة من مستوى «الهواة» إلى درجة «الإحتراف»، وهو ما تُثبته الأدلّة التي جمعها سينغارافلو. كيف كانت العلاقة بين العلوم الاستعماريّة المستحدثة والتي تمكّنت من اكتساب طابعً مهنٍّي وبين العلوم الأكاديميّة التقليديّة كالجغرافيا والتاريخ والقانون والإقتصاد السياسي؟ هل شكّلت العلوم الاستعماريّة «علمًا استعماريًّا» واحدًا عزّز الإمبرياليّة بشكلٍ مستديم؟ هنا أيضًا الأجوبة معقدّة. الجغرافيّون الأكاديميّون قبل سنة 1880 كانوا «استعمارييّن» في الروح إن لم يكن في الإسم، وقد جعلتهم رغبتهم في تحرير أنفسهم من تأثير المؤرّخين يطمعون في رسم خرائط للمواقع الطبيعيّة والبشريّة في الإمبراطوريّة الآخذة بالتوسّع،

ص: 61

ولذلك رحّبوا بإنشاء المجال الجديد المسمّى «الجغرافيا الاستعماريّة». لكنّ الجغرافيّين الاستعماريّين لم يتّحدوا بآرائهم، والقلّة منهم تمكّنت من إخضاع الحتميّة الميزولوجيّة التي هيمنت على هذا المجال في منقلب القرن العشرين. مقارنةً بالجغرافيّين حظي تاريخ الاستعمار باهتمام مجموعة صغيرة من المؤرّخين المسلكيّين، وقد كان معظم هؤلاء الخبراء المؤيّدين للمركزيّة الأوروبيّة والمناصرين الدائمين للإمبريالية من أوائل الذين درسوا القرن العشرين والتاريخ الشفوي في فرنسا، ومن أوائل من تحدّى حتميّة المحافظين العنصريّة في السوربون.

القانون الاستعماري والإقتصاد الاستعماري كانا إنتقائيّان إلى درجةٍ لم تسمح لهما بأن يكوّنا مجالاتٍ مستقلّةٍ بنفسها، وعوضًا عن ذلك طوّرت الإختصاصات القانونيّة في القانون الفرنسي مكملاً «استعماريًّا» مانعةً بذلك ظهور «علمٍ إستعماريٍّ» منفصلٍ. كذلك كان الاقتصاد الاستعماري مركّبًا هجينّا بشكلٍ دائمٍ، بمعنى أنّه كان يُشير في كلّيات التجارة إلى منهجيّات استعماريّة للزراعة، وفي كلّيات القانون إلى النظم الاستعماريّة للإقتصاد المقارَن. علم النفس الاستعماري حقّق أقلّ قدرٍ من التطوّر المؤسّساتي وترك أقلّ الآثار، وهو الذي حاول الباحث الإداري المشهور جورج هاردي اختراعه من لا شيء في حقبة الثلاثينيّات من القرن العشرين الحافلة بالأزمات، مستعيرًا من الأدب أكثر منه من النماذج العلميّة الجادة، وذلك في زمنٍ كان فيه علماء النفس الأكاديميّون في فرنسا تجريبيّين بشكلٍ حازم. كانت محاولة هاردي محتومةً بالفشل، وقد تم تدريس مقرّرَين فقط حول هذا الموضوع في كلّية باريس الاستعماريّة وفي لو هافر. يستنتج سينغارافلو أنّ الجمهوريّة الثالثة كانت تمثّل أكثر ما تمُثّل «لحظةً استعماريّةً» في العلوم الإنسانيّة الفرنسيّة. الاهتمام بمواضيع بحثٍ مشتركة - وهي «السكّان الأصليّون» والمستعمرة والاستعمار - أنتج تباينًا كبيرًا فى المنهجيّات والطرق والمعايير العلميّة ضمن الكثير من المجالات إلى درجةٍ لا تسمح للمؤرّخين المعاصرين بالحديث عن نموذج استعماريٍّ واحد حاصل ضمن العلوم الإنسانيّة في فرنسا بين العام 1870 والعام 1940.

لم يعتمد سينغارافلو خلافًا لتيلّي على الخبراء في دراسته لآثار الأبحاث المنجزة

ص: 62

في مجال استعماري محدّد (أفريقيا)، ولكنّه ركّز عوضًا عن ذلك على الظروف الإجتماعيّة المسؤولة عن ظهور العلوم الاستعماريّة ضمن التعليم العالي، متبنيًا بذلك

منهج أستاذه كريستوف تشارلز، وأهمّ ما يكشفه سينغارافلو هو أنّ عالم عالم التدريس عن الإمبرياليّة كان «فسحة محفّزةً للّقاء والتبادلات بين الأكاديميّين والإداريّين والسياسيّين والمعلنين» (ص .(31) ساهم العلماء الاستعماريّون الذين يتحركون على حافّة المجالات التقليديّة - كالتاريخ والجغرافيا والقانون والإقتصاد السياسي - في خلق مواضيع جديدة (التاريخ المقارن ،للإمبرياليّة علم الأجناس البشريّة القانوني، الجغرافيا المدارية) وذلك ضمن مجالاتهم الأساسيّة التي ازدهرت بعد الحرب العالميّة الثانية ، كما كانوا أوّل من مارس تداخل الإختصاصات بسبب نفيهم المطوّل من حقول أبحاثهم الرئيسيّة، وقد ضاعت هذه المساهمات من الأذهان حاضرًا لأنّ

الباحثين الجدد في بريطانيا هجروا «العلوم الاستعماريّة» المذمومة.

يرى كلّ من سينغارافلو وتيلّي أنّ ليس بمقدور المؤرّخين فهم - وبشكلٍ أقلّ بكثيرٍ أن يعملوا ضد - السلطة الأيديولوجيّة والبلاغيّة المتأصّلة في العلم من دون الإحاطة بالصورة الكاملة لكيفيّة عمل كلّ العلماء في الماضي، فهناك نقاشٌ مستديمٌ عن نطاق مساعدة العلماء للاستعمار ونطاق مساعدة الاستعمار للعلم. على الرغم من أنّ كلا الكتابين الغنيّين لا يبحثان في كيفيّة ترجمة العلوم إلى سياسة على الأرض، إلّا أنّهما ينبّهاننا الى استحالة الوصول إلى نتيجةٍ مؤكّدةٍ في ما يتعلّق بمحتوى المجالات العلميّة التي روّج لها الاستعمار. يبعث الكاتبان بروحٍ جديدةٍ في تاريخ العلماء البيض الذين تعاطفوا مع الإمبرياليّة في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، وذلك من دون مدح هؤلاء العلماء أو الإعتذار منهم أكثر ما لفت نظر كاتبة هذه المقالة كمُراجعةٍ هي الصورة الحركيّة للمجتمعات الإنسانيّة والثقافات التي اكتسبها العلماء الفرنسيّون والبريطانيّون من خلال الإختبار الميداني في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين وهذه الصورة تعاكس الفهم الحقيقيّ للثقافة الذي سادت لدى العلماء اللاحقين في حقبة الحرب الباردة. إنّ الذي ينتظر من يؤرّخه هو كيفيّة هذا التحوّل اللاحق وسببه وسط النقاش والنضال لأجل إنهاء الاستعمار ...

ص: 63

مسارات الاستعمار

بحث في المفهوم والتجربة التاريخية

محمد عبد الرحمن عبد الجواد(1)

إن الاستعمار على ما هو معروفٌ في اللغة مأخوذ من الفعل (عَمَرَ) أو من المصدر (عِمارَة) على خلافٍ في مصدر الاشتقاق بين الكوفيين والبصريين، والألف والسين والتاء في فعله لوجود معنى الطلب فيه؛ أي طلب تعمير الأرض. ويقال: (أعمره المكانَ، واستعمره فيه؛ أي: جعله يعمُرُه(2). هذا هو المعنى اللغوي الأصلي الذي تم تحريفه من قبل المستعمر فيما بعد.

ويؤيد المعنى الأصلي للفظة - قبل تحريف المستعمرين لها - ما جاء في القرآن العظيم في قول الله سبحانه : «هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواً إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ تُحِيبُ»(3).

ثم إنَّ المحتلين لبلاد المسلمين وغير بلاد المسلمين عمدوا إلى هذه الصيغة الاستعمار)؛ تمويهاً وإخفاءً لمراداتهم الحقيقية، فقد برّروا احتلالهم للدول النامية

ص: 64


1- كاتب وباحث - جمهورية مصر العربية.
2- القاموس المحيط - الإمام اللغوي مجد الدين الفيروزآبادي باب الراء فصل العين ضبط وتوثيق الشيخ محمد البقاعي- إشراف مكتب البحوث والدراسات - طباعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان-سنة 1426ه- / 2005م.
3- سورة هود. الآية : 61.

بأنهم أرادوا إدخال النهضة والعلوم الحديثة لتلك البلاد، وإخراجها من الجهل، ونشر المدنية. وإنما هم جاءوا في الأساس لأغراض ماديةٍ ودينيةٍ؛ فجاءوا لنهب مقدَّرات وثروات هذه الشعوب، وما فيها من معادن وبترول ومواد خام أخرى، ولخدمة طرق تجاراتهم والهيمنة عليها لتأمين الثروات لملوكهم خاصةً وشعوبهم عامة ...

وسوف يتناول - بإذن الله - بحثي هذا عدة نقاطٍ مهمة، وهي:

أولاً : خطط وإستراتيجيات الاستعمار، ومخططاته في الهيمنة على الشعوب.

ثانيًا : شيءٌ من جرائم الاستعمار التقليدي القديم، وهو المسمى بال_ (الكلاسيكي) مأخوذاً من لفظة (Classical الإنجليزية. مع تتبع ذلك في بحوثٍ متتالية كسلسلةٍ سوى هذا البحث.

ثالثاً: التعرض بالإجمال لأسماء بعض العلماء والقادة الذين كافحوا وناضلوا الاستعمار في بلادنا. ثم إفراد مقالاتٍ تاليةٍ كسلسلةٍ تتكلم عن كلِّ شخصية

منهم .

نشوء ظاهرة الاستعمار:

فالاستعمار - بمعناه اللغوي الأصلي - ظاهرة غربية حديثة ظهرت في القرن الخامس عشر في أوروبا، واستطاعت أوروبا من خلال العلم التجريبي تركيزه في الثورة الصناعية . ثم كان الاستعمار - بمعنى احتلال الشعوب - هو محور ومؤرِد هذه الثورة؛ لأن أوروبا لم تكن تملك من المواد الخام لصناعاتها إلا القليل من الفحم، فزحفت على الشرق الغني بالمواد الخام والموارد، واحتلت بلاداً منه، لتجعله مصدراً لمواردها التي هی عصب الصناعة، وسوقاً تعود إليه تلك المنتجات المصنعة الجديدة لتجترَّ أموال الشرق وغيره.

ص: 65

إرهاصات الاستعمار:

سبق الاستعمار التقليدي (الكلاسيكي) موجةُ زحفٍ من الحروب الصليبية التي امتدت إلى جبهة المشرق (الشام ومصر)، وإلى جبهة المغرب (الجزائر وتونس). وفشلت تلك الحملات واندحرت مهزومةً ... .

وتلا ذلك الحكم العثماني الذي حال دون الاستعمار مدة ثلاثمائة سنةٍ امتنع خلالها الغزو الغربي لنا.

مطامع ما بعد سقوط الحكم العثماني:

كان هناك ثلاثة مطامع وهي: مطامع الصهيونية، ومطامع الاستعمار الغربي، ومطامع روسيا القيصرية.

فبسقوط الدولة العثمانية تمزق ميراثها بين (فرنسا وإنجلترا)، وقيام الكيان الصهيوني في (فلسطين)، واستولت روسيا على أجزاء إسلامية من آسيا، وهي (القَرْم، وتركستان)، وغيرها(1).

مراحل الاستعمار الفعلية:

هناك مرحلتان حدث فيهما هذا الاستعمار والاستنزاف للموارد والثروات هما:المرحلة التمهيدية القصيرة وهي استعمار (البرتغال وإسبانيا) البلاد إندونيسيا وبلاد الملايو إلى المغرب العربي.

المرحلة الطويلة : وقد امتدت لقرنين من الزمان وهي استعمار كلّ من (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وهولندا). وانتهت بالحرب العالمية الثانية. وذلك بمرحلةٍ أخرى.

وهي المرحلة الثالثة: وهي الاستعمار الاقتصادي والسيطرة الثقافية .. بعد جلاء الاستعمار العسكري والسياسي(2).

ص: 66


1- يراجع الاستعمار والإسلام- سلسلة: على طريق الأصالة - الكاتب الأستاذ: أنور الجندي- طبعة دار الأنصار- مصر - سنة 1979م. مع تصرف يسير، وتقسيم وإضافة يسيرة، وصياغة.
2- المصدر السابق.

مخططات وأهداف الاستعمار التخطيطية أو المعروفة

ب_(الإستراتيجية):

أولاً: دعم الوجود الاستعماري بخلق عقليةٍ هشّةٍ موالية للغرب، منحرفة عن مبادئ وأصول الإسلام التي تحثه وتدفعه على المقاومة والجهاد والمواجهة للعدو

المستعمر ، وذلك عن طريق دسيستين هما (التبشير والاستشراق).

ثانياً: سياسة الغرب تجاهنا من أحقادٍ صليبية لا تحتاج إلى مزيد من الأدلة تُؤكد لدينا هذا اليقين(1).

ثالثاً : محو تاريخ الشعوب المحتلة أو تشويهه أو التشكيك فيه-كما نراه اليوم في مصر على سبيل المثال من بعض المثقفين المتغربنين أذيال هؤلاء المستعمرين من التشكيك حتى في مكان المسجد الأقصى!. فكما يقول أحدَ الهنود، وهو مايكل إيغل - من نشطاء شعب هنود شعب سو 1996م: (إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين)(2).

رابعاً: السيطرة على التعليم والثقافة والصحافة من أجل تزييف المفهوم الإسلامي، ومن أجل الترويج لمخططاته وأهدافه بصورةٍ مباشرةٍ أو ناعمةٍ غير مباشرٍة.

خامساً: فرض النظم السياسية والاقتصادية والقانونية الغربية على البلاد الإسلامية، وتنحية منهجها الإسلامي المستمد من القرآن العظيم وموارد الشرع.

سادساً: الحرب على لغة القرآن ولغة الحديث النبوي؛ فبمحاربة اللغة، وتشويهها، والسخرية الدائمة من معلّميها في الإعلام، يتمكنوا من إضعافها في قلوب الشعوب القارئة للقرآن والحديث النبوي ، ويحصل الانفصال والجفاء والبعد عما يستثير المقاومة والجهاد والكفاح ضد العدو المستعمر؛ لأن فهم النصوص القرآنية فرعٌ عن معرفة اللغة.

ص: 67


1- (الاستعمار - أحقاد وأطماع) - الشيخ : محمد الغزالي- الطبعة الرابعة- طبعة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع- مصر - سنة 2005م.
2- (حق التضحية بالآخر أمريكا والإبادات الجماعية - الأستاذ منير العُكش طبعة رياض الريس للكتب والنشر- -بيروت - لبنان سنة 2002م.

سابعاً: الإغراء بالانقسام السياسي والعنصري والطائفي ما بين السنة والشيعة على سبيل المثال، والانقسام القَبَلي.

ثامناً: إشعال النار بين الدول المسلمة التي تتنازع حول الحدود بينها.

تاسعاً: تقليص نفوذ الإسلام في (إفريقيا، وجنوب شرق آسيا). وكان للاستعمار الفرنسي والإنجليزي في (العالم العربي)، والإنجليزي في (الهند) أيضاً، والهولندي في بلاد (الملايو) خططٌ أساسيةٌ عامةٌ وأساليبٌ مختلفةٌ متنوعةٌ.

عاشراً: تدمير البنية التحتية للشعوب المستعمرَة لئلا تستعمل في المقاومة والجهاد ضد الاستعمار كما حدث في الجزائر من إفشاء مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) من أجل السيطرة على الجزائر أرضاً وشعباً عن طريق: عزل سكانه، وتحطيم بنيته الأساسية التي كان يستند إليها الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري فكان إليكسي دوتو كيفي يشاطر جنرالات فرنسا الرأي حينما قالوا:(إن الحرب تغذّي الحرب)!! لهذا - كما قال أيضاً : - (على فرنسا أن تقيم مستعمراتٍ في كل مكانٍ، وتعمل على تهجير السكان المحليين بعد الاستيلاء على أراضيهم)(1). وهذا عينه ما يفعله الصهاينة في الأراضي المحتلة بفلسطين ليومنا هذا.

الحاديَ عشرَ: دعوى التَمَدين ، ونقل الشعوب المتنافرة إلى مجال الحرية. وليس الأمر كذلك بل كان المستعمر ينظر للعالم الإسلامي - وبالتأكيد غيره - على أنه عنصرٌ أقلٌ درجةً م الجنس الأبيض حامل الحضارة (المادية)!! .

الثانيَ عشرَ : السيطرة على الموارد، بل دفع الدول المحتلة للقروض والمعونات وإقامة القواعد العسكرية بها، ولا زالت هذه القواعد موجودة لليوم...

الثالثَ عشر : إنشاء أجيالٍ تابعة تؤمن بالولاء، وعظمة المحتل وسلطانه !! وتعتبر الاتجاه نحو الغرب هو الأسلوب الوحيد للتقدم.

ص: 68


1- (جرائم فرنسا في الجزائر) - صفحة مظلمة من تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر من الاحتلال 1830م إلى الاستقلال 1962م الأستاذ سعدي -بوزيَّان دار -هومه الجزائر سنة 2005م- نسخة PDFمن موقع WWW.MOSAWARAT.COM

الرابعَ عشرَ : إشعار العالم الإسلامي بالضآلة ،والخنوع وإذلاله واحتقاره - وذلك في نطاق الحرب النفسية والاستكبار والاستعلاء بغير الحق من المستعمر. فيقول ألفريد كاتثول سميث : (إن الغرب يوجِّه كل أسلحته الحربية والعلمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية إلى العالم الإسلامي؛ بغرض إذلاله، وتحقيره، وإشعاره بالضآلة والخنوع)(1).

الخامسَ عشر : إيجاد عنصرٍ غريبٍ في المنطقة القائمة بين أفريقيا وآسيا من شأنه: أن يحول دون وحدة هذه المنطقة خشية انبعاث هذه الأمة بالطريق الطبيعي لها، وهو الوحدة الإسلامية؛ ولذلك شجعت الدول الاستعمارية القوى الغازية على السيطرة، وفتحت الطريق أمام الصهيونية العالمية للسيطرة على فلسطين، وأتاحت الفرصة لها بإعلان وعد بلفور(2).

السادسَ عشرَ: محاولة تمزيق جبهة المجتمعات الإسلامية؛ ولذلك طرح المستعمر قضايا القومية والإقليمية والديمقراطية والماركسية والوجودية والمادية (3)

السابعَ عشرَ: إنشاء مشاريع استعمارية للالتفاف حول الثروات مثل ما جربه الجنرال (دوغول) بالجزائر حينما أراد ب_ (مشروع قُسَنْطِينة) الالتفاف حول الصحراء؛ للاحتفاظ بثروتها البترولية والمنجمية(4).

الثامنَ عشرَ : بحث المستعمر عن عملاء خارج الثورات التي قامت ضدهم مثل ما فعل (ديغول) في الجزائر ببحثه عن عملاء خارج الثورة، وخلقُ بَاوْدَاي جديدٍ في الجزائر تتعامل معه فرنسا في الجزائر على تجزئة الجزائر، واقتسامها: (جزائر للأوروبيين، وجزائر للجزائريين)!!(5).

ص: 69


1- (الاستعمار والإسلام) - الأستاذ: أنور الجندي - ص.8
2- المصدر السابق ص 9.
3- المصدر السابق ص - 10- بتصرف يسير في العبارة.
4- (جرائم فرنسا في الجزائر) - الأستاذ سعدي بوزيان- ص 8.
5- جرائم فرنسا في الجزائر - الأستاذ سعدي بوزيان ص 8 .

التاسعَ عشرَ: كسر احتكار التجار العرب لبعض أنواع السلع كالقضاء من المستعمر على احتكار تجار البندقية لتجارة البهارات كما فعل الاستعمار البرتغالي والإسباني قديماً، وكان لنهوض هاتين الدولتين في ذلك الوقت مع الدافع الصليبي القوي الذي اجتمع مع الدافع الاقتصادي، وغرض السلب والنهب كان له دور في استعمارهما جزر الهند الشرقية المسلمة(1).

العشرون: قتل المسلمين (جملةً وتفصيلاً) هو بعض ما تواضع عليه ساسة أوروبا وأميركا. والخلاص من دينهم هو أمنيتهم الحبيبة هو أمنيتهم التي يسعون لتحقيقها جهرةً واغتيالاً ! !(2).

الحادي والعشرون : إبادة الأجناس، واستئصال المخالفين في الرأي والعقيدة. وما مُحِيَ الإسلام من الأندلس محواً إلا بالحديد والنار، وما سجله التاريخ لمحاكم التفتيش من همجية وعار. هل حدث مثل ذلك أو بعضه أو شيء منه في تاريخنا؟(3).

الثاني والعشرون: استعمال أسلوب القمع من المستعمر، فيقول ضابط عسكري فرنسي في الجزائر في تقرير عن انتفاضةٍ أخمدتها قواته عامي (1845م-1846م): إن هناك طريقتين لتأسيس سلطةٍ سياسيةٍ على سكانٍ ما: طريقة القمع، وطريقة التربية . والأخيرة بعيدة المدى وتعمل على العقل. أما الأولى فتعمل على الجسم، ولا بد أن تأتي أولاً(4).

الثالث والعشرون : أَسْرُ الأجسام والعقول. إذ يقول شارلز ريتشارد - فيما نقله عنه تيموثي ميتشل : ( .. الشيء الجوهري هو أن نجعل منهم شيئاً يمكن أن نُحكم قبضتنا عليه، وحين نملكهم في أيدينا .. والتي ربما سمحت لنا بأن نأسر عقولهم بعد أن أسرنا

ص: 70


1- يراجع (الاستعمار في جنوب شرقي آسيا) - الدكتور فايز صالح أبو جابر - طبعة دار البشير للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى - عمان - الأردن - 1990م ص7.
2- الاستعمار أحقاد وأطماع - فضيلة الشيخ محمد الغزالي- ص 18.
3- المصدر السابق ص 30.
4- (استعمار مصر) - تأليف : تيموثي ميتشل - ترجمة : بشير السباعي، وأحمد حسان طبعة مدارات للأبحاث والنشر - مصر - الطبعة الأولى - 2013م - ص169.

أجسامهم) وأسر أجسام السكان عن طريق المناهج الجديدة للسيطرة العسكرية، والنظام المعماري والتعليم المدرسي(1).

الرابع والعشرون: ادعاء كون الدول المستعمِرة كإنجلترا دولاً صديقةً للإسلام؛ فإنها كانت العامل الأول في القضاء على الدولة العثمانية، وهم الذين رتبوا جيوشاً من الرهبان بغرض التبشير، وأرسلوهم لمصر والشام والعراق ولبنان والصومال وفلسطين والهند وسائر أرجاء آسيا وإفريقيا الإسلامية والإنجليز هم الذين منعوا علماء المسلمين من الدخول إلى جنوب السودان المصري - آنذاك - وحالوا بينهم وبين تعليم المسلمين مع سكان تلك الجهات أحكام الدين وآداب الإسلام وهم الذين هدّموا دولة الإسلام في الهند.

الخامس والعشرون: اهتز الاستعمار اهتزازاً شديداً لحركة الجامعة الإسلامية التي قام بها السلطان عبد الحميد؛ ولذلك عُجّل بالقضاء عليه، وفرِّق العالم الإسلامي إلى صراعٍ.

السادس والعشرون: جَعْلُ التخلي عن الحرية والرجولية لمواطني الدول المحتلة ثمناً لتقديم بعض من ثمرات نهوضهم العلمي؛ فيقول مؤرخهم الإنجليزي (تويمبي): (لا يستطيع الباحث المنصف أن يسلِّم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر وما تلاه من الأزمنة، كانوا على استعدادٍ لأن يقدِّموا للشرقيين والمسلمين من رعايا السلطان ثمرات نهوضهم هديةً خالصة !! وما كان الشرقي العثماني يستطيع الإفادة من النهضة الأوروبية، دون أن ينزل عن رجولته وحريته). هذا هو ثمن التقدم الذي دفعته إحدى الدول الإسلامية حين خرجت عن اللغة العربية والإسلام، ثم غيَّرها الغرب بعد ذلك بانضمامها إليه، وقال: إنها عالةٌ لم تستطع أن تضيف شيئاً إلى العلم أو الحضارة(2).

السابع والعشرون: تغيير الاستعمار جلده بتواجده كاستعمارً استيطاني بفلسطين عن طريق الاستعمار الصهيوني، والذى طمع في أن يرث النظام الرأسمالي، ومهد ليقيم حكومة عالمية(3).

ص: 71


1- المصدر السابق نفس الصفحة. -
2- (الاستعمار والإسلام) - الأستاذ : أنور الجندي - ص 15 وما بعدها.
3- المصدر السابق ص 17

الثامن والعشرون: الغزو الثقافي الذي يواجه الفكر الإسلامي؛ للتشكيك في القيم والمقومات الإسلامية، وإثارة الشبهات حولها.

التاسع والعشرون : القضاء على الطاقة الفكرية التي يبثها الإسلام في المجتمعات المستعمرة، وإعلاء شأن المفاهيم المادية، والهجوم على القرآن والهدى النبوي، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى تاريخ الإسلام وثقافته واللغة العربية، وفرض على الدول المحتلة أنظمة تعليمية تتيح له تحقيق أهدافه هذه، وتنشر التبشير(1).

الثلاثون: تحريف مفهوم الجهاد والمقاومة، من خلال إقامة دعوات تحمل لواء الإسلام وتتنكَّر لمفهوم (الجهاد) الذي هو ذِرْوَة سنام الإسلام.

الحادي والثلاثون: الحملة على اللغة العربية بقصد إيقاف نموها الذي يجري بنمو الإسلام فيه والعمل على تغليب اللغات الأجنبية عليها، والدعوة إلى العامية لإحلالها محل ،العربية والتنادي بإحلال الحروف اللاتينية بديلة للحروف العربية؛ للإغراب، وللبعد بمستوى الفهم عن القرآن والحيلولة دون الارتباط به(2). هذا ونحن نرى اليوم هذا في محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، وظهر هذا بين فئات من هذا الجيل الحالي الكتابة بما سموه (الفرانكو) !! وهو كتابة اللغة العربية بحروف إنجليزية !! وهو خطر ينبغي مجابهته والسعي في تفكيكه وإبداله...

الثاني والثلاثون إثارة الشبهات على مستوى التعليم في مجال المدرسة والجامعة، وكذلك في الصحافة والثقافة. وكانت (حركة الاستشراق) هي المصنع

( الذي يعدُّ (أدوات العمل) الشبهات والطعون والشكوك والاتهامات، والتي تخفي التبشير وراءها خاصةً في إفريقيا وأرخبيل .الملايو. فالتبشير حركة استعمارية تهدف إلى خدمة النفوذ الأجنبي، وتأكيد ودعم بقائه(3).

الثالث والثلاثون: ومن الغزو الفكري بالتبشير إلى حركة (الماسونية) مقدمة

ص: 72


1- نفس المصدر - ص 18
2- نفس المصدر- ص 19.
3- نفس المصدر- ص 20 وما بعدها.

(الصهيونية) وربيبتها (البهائية)(1). ثم (الأحمدية) المارقة من الإسلام بنص فتاوى دور الإفتاء المصرية وغير المصرية وموطنها الرسمي الهند وإنجلترا، ولا زالت الأخيرة تعمل في بث سمومها عبر قناتها الفضائية، ومن خلال موقعها الإلكتروني، وكتبها الممتلئة كفراً وسموماً والتي يتم اصطياد بعض المغفَّلين والمغرِضين بتوزيعها عليهم مجانا أو التواصل معهم في مصر وغيرها.

الرابع والثلاثون: تعميق الخلاف بين تركيا وإيران، وتغذية الخلاف بین الشيعة والسنة وبين المسلمين والمسيحيين في بلاد العرب كمصر وغيرها، وبين الهندوك والمسلمين في الهند وتجميد الطوائف والقبائل حتى لا تنصهر في المجتمعات الواسعة، وأوجد المستعمر بينها وبين الأكثريات خصوماتٍ وأحقاد واحتضن الأقليات بخبثه ليحول دون وحدةٍ كبرى تلتهم المستعمر.

الخامس والثلاثون: تركيز حملته على السلطان عبد الحميد الذي قاد حركة المقاومة ضد المستعمر، وتم تشويهه وصوغ صورة سيئة عنه؛ لأنه حال بموة الصامد دون تمزيق العالم الإسلامي، واستيلاء الدول الغربية عليه واحتلاله فضلاً عن موقفه المشرّف إزاء محاولة الصهيونية الاستيلاء على فلسطين، وكان موقفاً بالغ القوة والصمود؛ مما حمل المحافل الماسونية في (سالونيك) وجلُّها من (الدَّوْنمَة) ، وهم اليهود الذين أسلموا نفاقاً وتستراً، حملهم على السيطرة على (جمعية الاتحاد والترقي)، ودفعها إلى إسقاط النظام الذي يحمل لواء (الجامعة الإسلامية، وإيقاع الخلاف الدموي بين عنصري الدولة العثمانية: (الأتراك والعرب)(2).

السادس والثلاثون: حرص الاستعمار على أمرين خطيرين: أولهما: إلغاء تطبيق الشريعة، وإستبالها بالقانون الوضعي والثاني: السيطرة على التعليم. كما تم الإشارة لهدفه من التعليم سابقاً.

ص: 73


1- نفس المصدر - ص 21 .
2- نفس المصدر - ص 23

السابع والثلاثون: تصوير الإسلام على أنه دينٌ لاهوتيٌّ لا صلة له بالمجتمع، وتقرير فكرة فصل الدين عن الحياة !!(1)فيما تبلور بعد تحت مسمى (العِلمانية)!!.

الثامن والثلاثون: رفع شعار العلمانية، وشعار الأمَمَيَّة، وشعار الفكر العالمي؛ للقضاء على (ذاتية) الفكر الإسلامي وقوته وجلالته ..(2).

التاسع والثلاثون: تكوين موالين ومؤتمرين بأوامر المستعمر للقضاء على الدولة العثمانية، ولتكفير المسلمين وهدم دعائم الإسلام ونشر الفتن بينهم، كمحمد بن عبد الوهاب النجدي المبتدع والذي كان ضالة (مستر هَمفر) رجل المخابرات الإنجليزي، ومبعوث وزارة المستعمرات البريطانية للشرق الأوسط، والذي تم دعمه بالمال والسلاح، لتكوين ما سمِّي ب-(الحركة الوهابية)، والتي تم تقديمها على أنها حركة إصلاحية تحارب الوثنية المنتشرة بين المسلمين والخرافات!! والتي ارتبطت بوثيق العلاقة برعاية إنجليزية بالدولة الناشئة بجزيرة العرب، على أنقاض الدول العثمانية، وبمخطط جديد لتقسيم الشرق الأوسط، وهو (سيكس بيكو) الأولى(3). ويتضح هذا من مذكرات (همفر) نفسه عن ابن عبد الوهاب.. ونحن الآن مع مخطط جدیدٍ هو ( سيكس بيكو) الثانية؛ لتقسيم دول المنطقة وتفتيتها وصولاً للجائزة الكبرى كما وصفها (كسينجر) وزير خارجية أمريكا الأسبق. ولعله أخذ هذا المسمى باطلاعه على بعض الروايات الإسلامية كما عن عن قتادة قال: (إن الشام الرأس، وإن مصر الذَّنب، وإن العراق الجناح )(4). والمراد بالذَّنب هنا تأخرها لأهميتها، ولمناعتها في الوصول إليها من الأعداء عبر التاريخ فمصر هي التي انتصرت على التتار والصليبيين، وانتصرت على الحملة الفرنسية وأجبرتها على النكوص لبلادها..وورد أن المهدي عليه السلام في زمانه يكون له منبر في مصر.

ص: 74


1- نفس المصدر - ص 26
2- نفس المصدر - ص 27.
3- (الوهابية) مع ملحق مذكرات (مستر همفر رجل المخابرات البريطانية في البلاد الإسلامية- الأستاذ: سامي قاسم أمين المليجي - مكتبة مدبولي 2006 - م : 2007م - ص22 وما بعدها.
4- (مفتاح الجفر) أو (الدر المنظم في السر الأعظم - للشيخ العلامة ابن أبي طلحة الشافعي(652)ه-- صورة مخطوط من موقع مكتبة المصطفى الإليكترونية . www.al-mostafa.com.

الأربعون: إعطاء استقلال مزيف لبعض الدول، كنوع من التغيير المرحلي للاستعمار أو في الشكل مع بقاء الموضوع، فلابد أن يجرب الاستعمار أسلوباً آخر يضمن مغانمه ويخفف مغارمه، وإذن فمن المفيد تكوين حكومات أوروبية النزعة، وإن كانت إفريقية الجنس. وذلك كجنوب إفريقيا التي انتقل لها حكامها الأوروبيون، فبدل أن يعيشوا في (لندن) أو (أمستردام) عاشوا فوق ترابها المنكود يستذلون أهلها عن قرب، ويسنون لهم القوانين المهينة، ويجعلون أنفسهم ملوك البلاد وملّاكها ، وأما أصحابُ البلاد الحقيقيون فهم أجراء لا وزن لهم ولا شرف... ووضعت مثلا خطة قديماً لتستقل (روديسيا) - على هذا الغرار - فيملك الجنس الأبيض نواصي الأمور، ويشتغل المواطنون بالخدمة.

ثم يقال: إن الدولة مستقلةٌ جديدةٌ، ولدت على الصعيد الدولي!! وإن إفريقيا التي كانت مستعمرات كلها، وليست بها إلا ثلاث دول مستقلة قد أصبحت دولاً مستقلةً كلها !! وليس بها إلا جيوب من الاستعمار البرتغالي في (أنجولا) ينتظر أن تنتهي !! كما درَّسوا ذلك في المناهج الابتدائية للطلاب، ومنهم الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - المنقول عنه هذه الفقرة(1).

هذا، ولو تتبعنا مخططات الاستعمار على سبيل الحصر، فهي كثيرةٌ جدًّا، وربما تنوعت بحسب الظروف اليومية بل اللحظية عبر سنوات الاستعمار، وبحسب تنوع الشعوب وثقافاتها ودياناتها وقوتها من ضعفها، ووعيها من جهلها، فالأربعون مخططاً السابقة هي بمثابة رؤوس موضوعات لمخططات وأهداف المستعمر التقليدي القديم و(الكلاسيكي) بلغتهم وربما كتبت فيما يستقبل في مقالات أخرى عن مخططاتٍ أخرى برصدٍ جديدٍ لمخططاتٍ وأهدافٍ تخطيطية (إستراتيجية) أخرى.

وأشرع - بإذن الله - الآن في بيانٍ بعض جرائم الاستعمار في بعض البلدان: كإفريقيا عامةً، والجزائر خاصةً، وجنوب شرق آسيا، في عدة نماذج من هذه الجرائم، فأقول :

ص: 75


1- (الاستعمار - أحقاد واطماع - فضيلة الشيخ : محمد الغزالي - رحمه الله - ص58 وما بعدها.

نماذج وصورٌ من جرائم الاستعمار:

منها : أنه بلغ عدد الرقيق الإفريقي الذي نقله البرتغاليون - وحدهم - من (ساحل غانا) إلى أميركا تسعمائة ألف رقيقٍ. أي بنسبة (13000) - ثلاثة عشر ألفاً - كل عامٍ فی المدة بين (1530م) إلى (1600م )(1).

ومنها: أنه نقل البرتغاليون أيضاً من ميناء (أنجولا) - وحدها - إلى أميركا الملايين العبيد، وكان المبشِّرون هناك يحصلون على ضريبة لقاء تعميد هؤلاء المرحَّلين كعبيد، وليس في استطاعة أحدٍ الوصول إلى رقمٍ صحيحٍ (تحديديٍّ) لعددهم، وإن كان أحد المؤرخين البرتغاليين قد قدَّره ب- (2389000) - بمليونين وثلاثمائة وتسعةٍ وثمانين ألفٍ - من ميناء (أنجولا) - وحدها - فيما بين عام (1486م) إلى عام (1641م)؛ :أي بمعدل (9000) - تسعة آلافٍ من العبيد كل عامٍ.

ومنها: أنهم كانوا ينقلون الرقيق على سفن صغيرة الحجم قليلة الحمولة، مقسمةً تقسيماً أفقيًا على هيئة رفوفٍ عرض الواحد منها ثلاثة أقدام، فكلما زادت الحمولة زاد ربحهم، ويرصُّ عليها الرقيق وأيديهم مصفّدة.. وكان هذا السفر بيئة ممتازة لانتشار الأمراض، علاوةً على الاختناق الذي كان يحصل لمن في الأسفل فكانت نسب الوفيات مرتفعة بينهم ، ويُرمى الميت في البحر حال اكتشافه، وبعضهم كان يلجأ لتمزيق الشباك المحيطة بالسفينة ليلقي بنفسه منتحراً في البحر.. ويصوّب إلى المحتجِّ منهم الرصاص حال تكرر احتجاجه.. ومن امتنع عن الطعام، فكانت هناك وسائل خاصة لمثل هؤلاء. وقد قُدِّر عدد المتوفين خلال النقل بسدس ،الحمولة، وكان رجال السفينة يتعرضون للموت أيضاً بسبب تفشي القذارة ورائحة الموتى، وبسبب الملاريا، ولكن لم تكن نسبتهم كنسب الرقيق المقيدين بالقيود(2).

ومنها : أنه لم تلبث الدول الأخرى حتى دخلت إلى ميدان تجارة الرقيق. فقدم

ص: 76


1- (استعمار إفريقية ) - الدكتور زاهر ریاض ص 65
2- المصدر السابق ص 67 .

الهولنديون والفرنسيون والإنجليز، وبدأوا يقيمون الحصون والمراكز التجارية لصالحهم حتى الدانمارك دخلت هذا الميدان ذا الربح الوافر، أغراهم بذلك ضعف البرتغال في الميدان الإفريقي حين أخذت المستعمرات الهندية جُلَّ اهتمام البرتغاليين. كما زادت هجرة الأسبان إلى أملاكهم في الدنيا الجديدة، وأخذوا يشتدون في طلب الرقيق. كما سكن البريطانيون فرجينيا وكارولينا الجنوبية، وأخذوا يزرعون القطن والدخان بل وقصب السكر، وطلبوا الرقيق الإفريقي من أجل العمل في المزارع، وتألفت الشركة البريطانية تحاول كسر الاحتكار البرتغالي(1).

ومنها: أنه وصل عدد الرقيق الذي أرسل إلى الممتلكات البريطانية وحدها فيما بين سنتي (1680)م و (1786) م إلى مليونين ومائة وثلاثين ألفاً(2).

ومنها: أنه وصل بالتقدير العدد المرسل من الرقيق للمستعمرات فعليًّا إلى نصف ما خرج من إفريقيا، وبه ندرك أي كسحٍ تعرضت له القارة الإفريقية خلال هذا القرن؛ إذ يقدر ما وصل إلى المستعمرات الأوروبية كلها بأربعين مليوناً؛ أي: خسرت قارة إفريقيا قرابة ثمانين مليوناً من أبنائها في هذا القرن فقط(3). وكانت المنافسة دائرة بين فرنسا وإنجلترا من جهة والبرتغال من جهة أخرى في التنافس على الاستيلاء على العبيد من القارة. ونقلت إنجلترا وحدها نصف رقيق غرب إفريقيا، وقُدِّر بأربعة وسبعين ألفا(4).

ومنها: أنه في أسبانيا مثلاً كان كبار الملاك للعبيد الوارد من إفريقيا ينظرون إلى هؤلاء العبيد على أنهم لا يستحقون أي حقوقٍ تمنح لهم، وإذا كانت هناك من جهود تبذل، فإنما هي من كرم المالك. فقد أمر إدوارد لونج أحد حكام (جمايكا) في سنة (1774)م بتحسين معاملة الرقيق من أجل مساواتهم بأحمال البرتقال، من أجل المحافظة عليهم ك_(آلات) حية )!!(5).

ص: 77


1- نفس المصدر - ص 68 ص
2- نفس المصدر- ص 70.
3- نفس المصدر - ص 70.
4- نفس المصدر- ص72.
5- المصدر السابق ص 73.

ومنها : أنه وصف عمدة (برستول) تجارة الرقيق في سنة (1713)م ب-(أنها عماد شعبنا).. إذ تصل فيها الفائدة في أغلب الأحايين إلى (150) بالمائة. وهذا يجعلنا نفهم لماذا واصلت الحكومة البريطانية معارضة فرض الضرائب على المشتغلين بها. بل إن بعض الكتاب والساسة كانوا يرون في هذه التجارة سبباً من أسباب عظمة بريطانيا، وأسطول بريطانيا فيما وراء البحار ! (1).

ومنها : أنه انتعشت تجارة الرقيق في (موزمبيق) بعد أن وُقِفت تجارته في (أنجولا والكونغو)، فكان يخرج منها حوالي خمسة عشر ألفاً سنويًا في المدة بين سنتي (1780)م، و(1800)م(2).

ومنها : أن بريطانيا - لأن تجارة الرقيق تعد عندها أكثر أنواع التجارة رواجاً، وأكثرها ربحاً - كانت بحكم وجودها في الهند تعمل جهد الطاقة على المحافظة على طريق مواصلاتها إليها، وكانت ترى في موانىء شرق إفريقيا الطريق الطبيعي إليها، ويعنيها أكثر من غيرها أن تجد سفنها في هذه الموانىء كل التسهيلات الممكنة(3).

ومنها : أنه عندما نظَّم المهاجرون الجزائريون في باريس مظاهرة سلمية للاحتجاج على فرض حظر التجول عليهم من طرف (موريس بابون) عندما كان والياً لقسنطينة الجزائرية ومحافظاً للشرطة في باريس بقصد شل حركة الوطنيين الجزائريين وأبقاهم سجناء في أحيائهم البائسة في باريس وضواحيها، فكان حصاد جريمته ضد الجزائريين في فرنسا حوالي - 300- ثلاثمائة شهيدٍ. كل هذا لتبقى الجزائر فرنسية كما يريدها المستعمِر الفرنسي(4).

ومنها تزييف الفرنسيين حقائق مذابحهم وفظائعهم عندما يقول (جاك شيراك): (إن فرنسا لم تعمل سوى الأعمال الجيدة في الجزائر) ! !(5). يقول هذا عن بلد المليون شهيدٍ !!.

ص: 78


1- المصدر السابق ص 76.
2- المصدر السابق ص 83
3- المصدر السابق - ص84 وما بعدها.
4- (جرائم) فرنسا في الجزائر ) - الأستاذ: سعدي بوزيان.
5- المصدر السابق ص 13

وأجابه (فرانسیس جانسون) قائلاً: (إن مسألة التعذيب مرتبطة بالمسألة الاستعمارية). فشهد شاهدٌ من أهلها أنطقه الله بإذنه.

ومنها: جرائم فرنسا في (8) مايو سنة (1945)م، والتي قتل فيها الاستعمار الفرنسي (45) خمسةً وأربعين ألف شهيدٍ، وكانت هذه بمثابة الشرارة التي اندلعت منها ثورة نوفمبر (1954)م(1).

ومنها: جرائم الجنرال (أوساريس) الذي دشَّن عهده في مدينة (سكيكدة) بارتكاب جريمة كان حصادها - حسب المصادر الوطنية - حوالي (12) - اثني عشر ألف شهيدٍ، وحرَّق عشرات القرى والمداشير(2).

ومنها: أن (موريس بابون) السابق ذكره عمل على قتل (300) - ثلاثمائة شهيد كانوا يتظاهرون سلميًّا بفرنسا، ورمى جلَّهم في (نهر السين)، وقتلهم داخل مراكز الشرطة ورمى العشرات منهم في البحر بواسطة الطائرات(3).

ومنها: أن الجنرال (بوجو) قد دشَّن حرب الإبادة ضد الشعب الجزائري البالغ عدد سكانه يومئذٍ (3) - ثلاثة ملايين نسمة، وفي (1845)م ، وبعد دخول الاحتلال سنة (1830)م؛ أي: خلال (15) - خمسة عشر عاماً تناقص عدد سكان الجزائر إلى المليونين(4).

ومنها: أن سفّاحا آخر هو العقيد (بيليسي) كان قد أصدر أوامره لجنوده وسفاحيه بإشعال النار في مغارة قد التجأ إليها أفرادٌ من الشعب الجزائري؛ هروباً من جحيم الاستعمار، وفي ظروفٍ مأساوية قل نظيرها تم اختناق هؤلاء في هذه المغارة، وماتوا جميعا(5).

ص: 79


1- المصدر نفسه ص14.
2- المصدر السابق ص.14.
3- المصدر السابق ص 14
4- المصدر نفسه ص 15
5- المصدر السابق ص 15

ومنها : أنه حسب تقارير أحد الضباط الفرنسيين، وبسبب حرب الإبادة التي شنها الجنرال (بيجو)، تناقص الجزائريون من (4) ملايين نسمةٍ إلى (3) ملايين نسمةٍ على مدى سبع سنواتٍ(1).

ومنها : أن الجنرال (سانت أرنو) قال في مذكراته : (لقد كانت حملتنا في الجزائر حملةً تدميرية أكثر منها عملاً عسكريّاً، ونحن اليوم وسط جبال مليانة لا نطلق إلا قليلاً من الرصاص، وإنما نمضي وقتنا في حرق جميع القرى، والأكواخ، وإن العدو أمامنا سائقاً أمامه قطعان غنمه !!)(2). فهل بعد هذه الوحشية والاستعلاء والطغيان والبغي شيء؟!! . ثم يقول: (إن بلاد ابن مناصر بديعةً حقًّا، ولقد أحرقناها كلها- آه- أيتها الحرب، كم من نساءٍ وأطفالٍ اعتصموا بجبل الأطلس المغطى بالثلوج، فماتوا هناک من الجوع والبرد ، وليس في جيشنا سوى خمسة قتلى وأربعين جريحاً). وقبيلة أولاد رباح الذين قتل منهم ألف شهيدٍ، كانوا قد التجأوا إلى مغارةٍ هروباً من الغزو، فانقض عليهم الكولونيل (بيليسي) وجنوده، وأوقدوا النيران في أفواه المغارة، فمات هؤلاء جميعاً اختناقاً.

ومنها: أنه في (فيتنام) قام الأميرال (دارنجيلوا) سنة (1946)م بقصف ميناء (هايفونغ)، وقتل في هذا القصف ما بين (300) - ثلاثمائة إلى (3000) - ثلاثة آلاف شخصٍ(3)، ذهبوا أيضاً ضحية الاستعمار الفرنسي في فيتنام مثل الجزائر. فالنفس البشرية لا تساوي شيئاً عند الاستعمار.

ومنها: اتخاذهم التعذيب وسيلة أساسية وسلوكاً مع الجزائر، فيقول الجنرال (بول أوساريس) في كتابه (أجهزة خاصة)، وتقول الباحثة والطالبة الجامعية (روفائييل (برانش في رسالتها التي نشرت في كتاب كامل سنة (2001)م - ضمن منشورات (GALLIMARD): (إن التعذيب في الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي لم يكن ظاهرةً

ص: 80


1- المصدر السابلق ص 15 ناقلاً له عن المغرب العربي الجزائر المغرب الأقصى، تونس) - طبعة مكتبة الأنجلو المصرية - سنة (1962)م.
2- المصدر السابق ص 16.
3- المصدر السابق نفس الصفحة.

تخص مجموعةً من العسكريين، بل هي ظاهرة كانت سائدةً خلال حرب الجزائر)، وكانت فرنسا - كما تؤكد روفائييل برانش - في رسالتها الجامعية - كانت تبرر أي عمل مهما كان نوعه من أجل الإبقاء على الجزائر فرنسيةً !! . وتضيف الباحثة المذكورة: (إن الجيش الفرنسي الذي حارب الشيوعيين في الفيتنام، وتلقى هزيمةً شنعاء في ديّان بِيَا نفو، التجأ في الجزائر إلى القتل والتعذيب انتقاماً من الهزيمة والإهانة التي لحقته على يد الجنرال جياب، وبالنسبة للجيش الفرنسي، فإن جبهة التحرير : عبارة عن منظمةٍ تخريبيةٍ، وتمرُّدٍ على غرار ما جرى في الفيتنام ضد فرنسا، وقد تكونت لدى الجيش الفرنسي شبه عنصرية ليس إزاء جبهة التحرير وجيش التحرير، بل إزاء كل الوطنيين الجزائريين، فهم في رأي الجيش الفرنسي جميعاً ضد فرنسا، وتجب معاملتهم على هذا الأساس ) !!(1).

ومنها: جرائم الاغتصاب للنساء والصغيرات من المستعمرين الفرنسيين للجزائريات والتعذيب للرجال والنساء والأطفال في الفترة (1954)م (1962)م. فتروي السيدة (خيرة) أم الطفل اللاشرعي ( محمد قارون) أنها في (19) أبريل سنة (1959)م اقتيدت للاعتقال، وتم اغتصابها في محتشد الاعتقال.. وكان هذا المعتقل يقع ضمن الإدارة العسكرية، ويبعد عن الجنوب الغربي من الجزائر العاصمة (170) - مائةً وسبعين كيلومتراً، وأنها لما اقتيدت من الجبال للمعتقل كان عمرها يومئذ (15) - خمس عشرة سنةً، فأخذها الجنود المستعمرون إلى الثكنة، فسلطوا عليها أولاً العذاب الأليم بواسطة الكهرباء والماء ثم قاموا باغتصابها وكانت هذه العملية ضمن ما يسمى بعمليات (شال) نسبة إلى الجنرال (شال)، وكان كلٌّ من (شال)، و (بيجار) تلقيا تعليمات من طرف الجنرال ديغول) بقنبلة مصيف (جبال الونشريس) بقوله : (إننا لا نعرف كم عدد النساء الجزائريات اللائي كنَّ عرضةً للاغتصاب والتعذيب). فخيرة لم تغتصب من جنديٍّ واحدٍ بل تداول عليها العديدون، ولمراتٍ عديدةٍ، وقد ظلت مدةً لم تعرف ماذا جرى لها بالضبط، وقد آثرت الصمت خجلاً، وما إن سئلت عن هذا الموضوع حتى بادرت بالبكاء، وعظم مصابها عندما أدركت أنها حامل وظلت طيلة فترة الحمل وهي سجينة

ص: 81


1- المصدر السابق - ص 17 وما بعدها.

عند الجنود، وتعامل معاملة العبيد، بالإضافة إلى استمرار الاغتصاب لها، وهنا بدأت تشعر بفقدان الوعي من جراء ما سُلّط عليها من عذابٍ واغتصابٍ. ويقول ابنها محمد قارون: (إن والدته نتيجة ما عاينت من أهوال التعذيب والاغتصاب لم تستعِد عقلها كاملاً). وقد حوَّلت هي وابنها إلى ملجأ الأيتام، وظل محمد قارون يعيش في قلقه، ولا يعرف له أباً حقيقيًا فترةً طويلةً، فقد ظلت تخفي الأمر، ولم تبح بالأمر إلا في سنة (1994)م لما اعترفت أمام القاضي بأنها كانت عرضةً للاغتصاب، وبالتدريج عرف محمد قارون الحقيقة، وأنه ثمرة اغتصاب والدته السيدة خيرة من الجيش الفرنسي. وعندما عرف ذلك من الرجل الذي تبنَّاه فكَّر في الانتحار برمي نفسه من الطابق العاشر.. واعترته بسبب ذلك الأمر أمراض نفسية عديدة، وكابوس يوميٌّ دائم.. وقضيته معروفة في القضاء الفرنسي.. وهناك الآلاف من القضايا مثل هذه القضية التي فيها التعذيب والاغتصاب. فقد قدرت المصادر الفرنسية نفسها مثل هذه الحالات بنحو (3) إلى (4) آلاف حالة اغتصابٍ خلفت أولاداً غير شرعيين(1).

ومنها : كشواهدٍ أخرى على إجرام هذا المستعمر الفرنسي في الجزائر: قصة المناضلتين : لويزات إيغيل (أحريز) و (مليكة قريش). فقد فجرت الأولى قضية التعذيب في الجزائر عبر الإعلام الفرنسي نفسه، وخاصةً في جريدة (لوموند). (Lemond) و(لومانيتي) الشيوعية وقامت بإصدار كتاب كامل بعنوان: (لويزات إيغيل أحريز الجزائرية). (LOUISETE IGHIL AHRIZ L'ALGERINNE). وقد صاغ هذا الكتاب كاتبة فرنسية تدعى (آن نيفا). (ANNE NIVAT)، وصدر ضمن منشورات (فأيارد).(FAYARD)، و( كالمان ليفي) . (ALMAN LEY في (باريس) سنة (2001)م . وهذا الكتاب شهادة حيةً من مناضلة جزائرية ما زالت حية، وظلت تعمل كمناضلةٍ داخل جبهة التحرير التي مثلتها في الخارج، وفي عدة مناسبات.. وقد قالت (لويزات) عن حرب التحرير (1954)م: (1962)م: (إن ما جرى في الجزائر من عناءٍ وعذاب خلالها لم يكن مجرد عملية للمحافظة على النظام، كما يروج العسكريون والساسة الفرنسيون، ولا مجرد تهدئة !! بل إن ما جرى في الجزائر

ص: 82


1- المصدر السابق مختصرا من ص 71 ص 73

خلال هذه الفترة كان حرباً ضروساً بالغة الفساد ولم تكن مسألة الحصول على استقلالنا وحريتنا إلا ثمناً باهظاً، دفعناه من دماء شهدائنا البالغ مليون شهيدٍ، وعمليات جسام لمواجهة عملية التحطيم لشخصية الإنسان الجزائري). وكان والدها - وكان يعمل في الدَّرَك الوطني الفرنسي - لما اكتشفوا أنه مناضلٌ ويقوم بالاجتماع بالمناضلين والمجاهدين ويخبِّئ لهم أسلحتهم في مخبزٍ ،له لما اكتشفوا ذلك سجنوه وعذبوهٍ، وعاملوه مجرمو الحرب الفرنسيين كمجرم حربٍ!!. والتقت (لويزات) في السجن بالمناضلة المجاهدة ( مليكة (قريش) و بعديد من المناضلين .. وكانت (مليكة) عُذبت من طرف الجنرال (شميث)، ولما خرجتا سويًا من السجن وتوجهتا لفرنسا تم القبض على (لويزات)، وأودعت السجن في (كورسيكا)، وجعلت تحت الإقامة الجبرية مدة سنتين من سنة (1961)م: (1962)م . وكانت حركة (الجيش السري) الفرنسية (O.A.S) قد قررت تصفية (لويزات) جسديًا، ولكن لم يشأ الله ذلك . وقد أوردت (لويزات) قصة تعذيبها في جريدة (لوموند) بعنوان: (قصة امرأةٍ قبائلية حركت جدلاً حول التعذيب في الجزائر). وإن (لويزات) وهي تكافح لم تكن تفكِّر كقبائلية، بل كجزائرية في سبيل الجزائر الديمقراطية، إلا أن الفرنسيين في نفوسهم مرضٌ، فمن عاداتهم العزف على (سيمفونية): عرب وقبائل الجزائر. ولقد تعرضت للتعذيب في مقر فرقة المظليين العاشرة خلال معركة الجزائر سنة (1957)م بأوامرٍ من الجنرال (ماسو) و(بيجار)، وكان عمرها لما لاقت وتكبدت التعذيب والوحشية عشرين سنةً. وحكت عن ذلك فقالت: (إنها كانت تطرح أرضاً وهي عارية وعارية تماماً من الثياب، وتتم عملية التعذيب مرتين أو ثلاثة كل يومٍ وكان أصعب شيءٍ هو أن يتحمل المرء التعذيب في الأيام الأولى، ثم يؤول الحال أن يتعود الإنسان التعذيب فيما بعد)(1).

ومنها: قصة ( مليكة) المشار إليها سابقاً، وقد كانت مجاهدة جزائرية اعتقلها الجيش بواسطة جنود فرنسيين مظليين عرفوا بالقساوة والإجرام. وكان ذلك سنة (1957)م . وكانوا في البداية قد أبدوا معها سلوكاً حسناً، لكن سرعان ما تحولوا إلى وحوشٍ كاسرةٍ عندما رفضت الاعتراف بالتهم الموجهة إليها، وشرعوا في تعذيبها

ص: 83


1- المصدر السابق ص 73 : ص 81 باختصار وتلخيص.

بعد أن نزعوا ثيابها وتعرضت لشتى أنواع التعذيب ومنها تسليط الكهرباء على ثدييها، وعندما طلبت شرب الماء عمد أحد هؤلاء المجرمين بالتبول في فمها. وكان عمرها وقت التعذيب (27) سنةً، وكانت التحقت وقتها بجبهة التحرير سنة (1956)م. وقد استمر هؤلاء المجرمون في تعذيبها مدة (17) - سبعة عشر يوماً. وبعد التعذيب والتحقيق نقلت إلى السجن فقضت (5) - خمس سنواتٍ في سجون الجزائر، وطولون، وتولوز، وبو. وذلك بعد أن فقدت إحدى عينيها. وظلت تتحمل آثار الجروح من جراء التعذيب حتى بلغت سنًا متقدمة.. غير أنها أكدت أنها سوف تظل وفيَّةً لجبهة التحرير ما ظلت حيةً وإلى الممات. وكانت قد أكدت ( مليكة قريش) (أن الجنرال شميث هو الذي أعطى أوامر لتعذيبها). والغريب أن (شميث) كوفئ على جرائمه الحربية ووحشيته وجنوده فيما بعدُ، فكان رئيساً لهيئة الأركان في الجيش الفرنسي خلال الفترة بين (1987)م: (1991)م)(1).

ومنها : إجرامهم وتعذيبهم للرائد (سليمان بوعتبة)، وشهادته التي أدلى بها لجريدة (لاكروا) (LA CROIX) المسيحية عدد (5) - (جانفي)- (2001)م. فقد كان جنديًّا من جيش التحرير، وتعرض للتعذيب، وذكر في مذكراته أنه لا ينسى رغم مرور أربعين سنةً على ما جرى له هذه الفظائع والجرائم. وقال: (إذا كان بعضٌ من زملائي بعد الاستقلال يحلمون بالحصول على رتبة جنرال في الجيش الجزائري، أو أن يصبحوا رجال أعمالٍ، فأنا كنت على عكس هؤلاء جميعاً، فقد كان مشروعي هو تنظيم عملية اصطياد مجرمي الحرب من ضباط فرنسا الذين مارسوا التعذيب ضد شعبنا). ومن هؤلاء الضباط الذين كانوا في مشروع الرائد سليمان بوعتبة من مجرمي الحرب والتعذيب: (بيجار، وماسو، وأوسايس)، وضباط أخرون تابعون لمكافحة الجَوسسة «D.S.T»، ومن هؤلاء: (جوزيف لوفريدو، والنقيب ليجي). قال: (وقد قمت برحلات عديدة إلى فرنسا خلال سنوات (1970-1972)م، وعندي شبكتي التي كانت مستعدة لاختطافهم وترحيلهم إلى الجزائر، كما فعل اليهود من خلال (الموساد) حين تتبعوا مجرمي الحرب المعروفين بتعذيب اليهود خلال الحكم النازي وقال :

ص: 84


1- المصدر السابق مختصراً من ص 82 ص 86

(إن الفرنسيين يريدوننا أن ننسى ما فعلوا في بلادنا. أما أنا كضابط متقاعدٍ عمره (68) - ثمانية وستون سنةً لم أنسَ، فقد شرعت بعد الاستقلال بالانكباب على جمع الوثائق، واشتريت بثمنٍ باهظٍ أرشيفاً مهمًّا من فرنسا يتعلق بما جرى في الجزائر من طرف الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير (1954: 1962)م. هذا واتفاقية (إيفيان) الموقعة بين الجزائر وفرنسا سنة (1962) م لم تصدر العفو عن مجرمي الحرب. حقه ألا ينسى فقد كان ضحية تعذيب الاستعمار الفرنسي سنة (1957)م في مدينة (THIERS) المسماة الآن ب- ( القادرية)، وهو عائد من تونس على رأس كتيبةٍ جلبت معها السلاح فألقي عليه القبض من طرف الجيش الفرنسي، وكان يعتقد أنه سيعامل معاملة العسكريين وكان يرتدي الزي العسكري لجيش التحرير، وفي مهمة من طرف الشهيد عميروش الذي أصبح فيما بعد مسؤولاً عن جيش التحرير في منطقة القبائل برتبة عقيدٍ .. ولكن سرعان ما اكتشف خلاف ذلك الفرنسيين الفلاَّقة (قطَّاع رؤوس البشر). فكان مصيره أنه وضع في مكانٍ سريٍّ لمدة ثلاثة أشهر، وظل أسابيع وأسابيع عرضةً للتحقيق والتعذيب من طرف جماعةٍ من فرقة (D.O.P) في مزرعةٍ بالقرب من تيزي وزو) وظل عدة أسابيع مسجوناً فيها في برميلٍ للكحول (الخمر)، وظل عدة أيامٍ مسجوناً في (أير دو فرانس) بالجزائر العاصمة، وتعرض لأنواع من التعذيب فعذبوه بالكهرباء وبالتغطيس في الماء، واستعمال خرطوم الماء في الفم، وفضل الرائد سليمان بوعتبة عدم المضي في إعطاء التفاصيل حول أنواع التعذيب التي تعرض لها أكثر من ذلك عند حكايته... قال: وكان حقًا مصيري الموت لولا عناية الله التي أرادت إبقائي حيَّا إلى اليوم.. ولا زال الرائد سليمان بوعتبة يحتفظ بقصاصات من صحافة الاستعمار الفرنسي تتحدث عنه، وعن كيف فرَّ من محكمة الجزائر خلال محاكمته في نوفمبر سنة (1961) م .

ومنها: أنه من كثرة جرائم هذا المستعمر الفرنسي فتح المناضل الكبير (بشير بومعزة) هذا الملف، وأسس جمعية (8) ماي سنة (1945)م، وأخذ يجمع الوثائق التي تدين الفرنسيين في حوادث (8) ماي (1945)م، وفي (17) أكتوبر سنة (1961)م. كما أن المناضلة (لويزات إيغيل أحريز ) لعبت دوراً في تحريك ملف جرائم فرنسا في

ص: 85

الجزائر، وأصدرت كتاباً حول شهادتها في الموضوع. كما ذكرته من قبل(1). ويا ليتها تجمع هي وغيرها وترفع قضايا شخصية للقادرين ودولية ضد هؤلاء المستعمرين الحرب الفضح جرائمهم، وملاحقتهم قضائيّا، وطلب الاعتذار والتعويض ومجرمي المعنوي، والتعويض المادي للمتضررين .. وإن كانت أموال الدنيا كلها لا تفي بشيءٍ من نذرٍ يسيرٍ من إهانة وتعذيب وقتل إنسانٍ أي إنسانٍ وقع تحت وطأة هؤلاء الزبانية المجرمين عديمي الدين والضمير والإنسانية.

وإلى هنا أكتفي بما ذكرته من بعض جرائم الاستعمار، وسوف أستكمل ذلك في مقالات تالية - إن شاء الله - فإن جرائمهم تجلُّ عن الحصر، وكلما تكشَّف لنا شيءٌ منها تكشَّف لنا مدى حقدهم الديني، وكيف أنهم شياطينٌ من الإنس، وبدى لنا مدى ،تعصبهم، وانعدام وتلاشي ضمائرهم بقطع النظر حتى عن دياناتهم - فلابد للأمة الإسلامية والعربية من صحوةٍ تعرف فيها ،تاريخها وتطالب بحقوقها، بل تأخذها

بالطرق الشرعية والقانونية، وبالمقاومة والجهاد في سبيل دفع هذا الظلم الذي لا زال يمارس حتى اليوم علينا وبطرق شتى وبطرق حديثة ماكرة وخبيثة ولا زالت أيدي الاستعمار تتلاعب بجنودها من أبالسة البشر .

ثالثاً: أسماء بعض القادة والعلماء الذين واجهوا الاستعمار، ومنهم: (إبراهيم باشا في مصر الذي قضى على الحركة الوهابية صنيعة الاستعمار الإنجليزى في الجزيرة العربية، وأحمد عرابي في مصر أيضاً، والمهدي في السودان، ويعقوب في التركستان، والسنوسي في ليبيا، وعبد القادر في الجزائر، وأحمد عرفان في الهند، وعمر المختار في ليبيا، وشامل في القوقاز).

أما العلماء والمصلحون المناضلون والمقاومون للاستعمار، فمنهم: (الدهلوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والقاسمي، والعلوي الولي، وابن باديس، وخير الدين، وعبدلكي، والألوسي ..إلخ). وبإذن الله جل جلاله سأتبع ذلك بیان (مخططات وإستراتيجيات الاستعمار وجرائمه) وسأفرد بحوثاً حول أدوار بعض هؤلاء القادة والعلماء في مجابهة ومقاومة المستعمرين.

ص: 86


1- المصدر السابق مختصراً من ص 103:ص106.

الفلسفة والاستعمار

رحلة معرفية في أفكار انكاتل - ديوبرون

سيمون غاليغود غابيلوندو(1).

أنكاتل ديوبرون كان أحد أبرز النقّاد، لمفهوم مونتسكيو عن الاستبداد، وهو خصم عنيد للمركزية الأوروبية، ورمز غير تقليدي للأفكار السائدة خلال عصر الأنوار. شكَّك بالاستخدام الفلسفي لأدب الرحلات ونقد الفلسفة، كونها يمكن أن تكون أداة للغزو، وتستخدم بهدف استعمار العالم. تركّز المقالة على العلاقة ،المميّزة بين الاستعمار والفلسفة.

الكلمات المفاتيح الأنوار - الفكر السياسي مناهضة الاستعمار، المركزية الأوروبية الاستبداد الشرقي، أنكاتل ديوبورن، مونتسكيو.

«إنه إذاً من منطق الأشياء أن تتحالف سلطات الهند، بعد أن ضرب الفقر البلاد،

ص: 87


1- باحث وأكاديمي فرنسي العنوان الأصلي Philosophie et colonialism chez Snquetil-Duperron المصدر: (Sorbonne - CHSPM, Université Paris I Panthéon) :تعريب صلاح العبد الله - مراجعة: كريم عبد الرحمن

وبعد أن شهدت مناطقها الأكثر غنىً ممارسات عنيفة، وذلك لمواجهة عصابات أجنبية مسلحة بالبنادق والقوانين والحجة، وحتى بالفلسفة إذا اقتضى الأمر»(1).

إن توازن القوى في أوروبا والقارات الأخرى، هو قيمة مركزية، وهمّ ثابت في أعمال المستشرق أبرهام - هياسانتع أنكاتل دوبرون (1731-1805)(2). كان المستشرق عضواً في أكاديمية التسجيلات والفنون الجميلة Académie des Inscriptions et belles lettres ، وقد ترجم زندأفيستا والأوبينشاد، وكان ناقداً لنظرية الاستبداد الشرقي ومعارضاً عنيداً للمستعمر ، مع أنه كرّس حياته لدراسة اللغات الشرقية، والثقافات الآسيوية. وقد تخطّى ما عالجه في أعماله حدود الاستشراق.

بادئ الأمر قبض أنكاتل على مسألة العلاقة بين النظرية السياسية وأدب الرحلات، واضعاً في منظوره، أهمية هذه الروايات في فكر مونتسكيو التي لها دور غير ثانوي، في تاريخ الفلسفة السياسية (3)وهذه، إذ استخدمت أدواتها المعرفية ابتدعت مفاهيم، في جهدها لتصالح ما بين مشاهدات الرحالة ومتطلباتها النظرية، وأبقت على ثغرات تشهد على تعقيد تلك العلاقات(4)وفي الدرجة الثانية، سنحاول أن نبرهن أن نقد مقولة الاستبداد، لم تكن سوى الجزء الأول من برنامج التشريع الشرقي Legislation

ص: 88


1- انکاتل ديوبرن ، الهند في علاقتها مع أوروبا 82 .Lesguilliez, 1798, 2 tomes (IR), 1, p.)
2- للاطلاع على سيرة انكاتل، أحيلكم إلى رحلته إلى الهند (1762) - (1754). الرحلة مع مقدمة في ترجمة «زند أفيستا من منشورات ج. ديلوش .م. فيليوزات وب إس فيليوزات باريس المدرسة الفرنسية للشرق الأقصى، ميزون نيف ولاروس 1997(7)؛ المختصر للرحلة التي قام بها انكاتل دوبيرن في الهند ليبحث عن المؤلفات المنسوبة لزار ادشت وترجمتها.
3- وبتعبير آخر المقصود العلاقة في الجدال بين الكتاب السياسيين والمصادر، النظرية والامبريقية.
4- ليشرح انكاتل علاقة مونتسكيو بمصادره في أدب الرحلات، كتب: «نسقه كان قد أُنجز» Legislation orientale, Amesterdam, Marc Michel Rey 1778 (LO) p, 92. أي أن مفهوم الاستبداد، سابق على مصادره، ولكنه كتب أيضاً أن الرحالة هم ضمانته المصدر نفسه ص 12. وفي ما يتعلق بتوليد مفهوم الاستبداد، من الملاحظ أن في منهج الفيلسوف يوجد ميل في النسق يبسط بغية الايضاح مما يؤدي إلى تزوير الواقع» P. Verniére Montesquieu et le monde musulman in Acts du congrés Montesquieu. Bordeaux, Delmas, 1956, p. 189. وفضلاً عن ذلك، ففي هذا المنحى التوضيحي، يمكن أن نضيف أنّ اختيار المصادر لدى مونتسكيو ترتكز على إستبعاد كل ما لا يمكن أن يُعاد توظيفه في مفهوم الاستبداد B. Binoche. Introduction a De l'esprit des lois de Montesquieu, Paris, puf, 1998, p. 219.

orientale ، لأن هذا المؤلف لا ينحصر في إقامة الدليل على أن الفيلسوف صوّر وحشاً لا وجود له(1)، وذلك ببصيرة تدفع نقده ليشجب استخدامه السياسي. سنكرس عملنا هذا، لا لنقد مونتسكيو من خلال أنكاتل(2)ولكن لاستخدام الاستعمار بشكل مباشر وغير مباشر لهذه النظرية، على مستوى العالم المرتبط بها، ولمقتضياتها في علاقة أوروبا مع سائر مناطق العالم، وفي ذلك موضوعات لم يكفّ المستشرق، خلال فترة عزلته وابتعاده عن المنتديات الفكرية عن التفكير بها .

الفكر المعادي للاستعمار

تجد أممية القرن الثامن عشر رفضاً غريباً لدى أنكاتل، الذي يصيغ نقداً قاسياً للطريقة التي أدار فيها الغرب، مختلف مناطق الكرة الأرضية. وهو كمستشرق، اهتمّ بشكل خاص بالهند، ولكنه كرّس نفسه ايضاً لدراسة الشعوب الأميركية(3)وكأوروبي، طالب بحقوق الهنود، بعدما عاش معهم : «على الأقل، أيها الهنود البائسون، ربما علمتم أن أوروبياً رآكم خلال مائتي عام، وعاش معكم، تجرأ على المطالبة بحقوقكم وعرض أمام محكمة الكون Tribunal de Tunivers حقوقكم المجروحة، حقوق الإنسانية المستباحة بمصالح خسيسة(4).

أنكاتل لم يتردّد في اعتبار التأثيرات الغربية في آسيا «كعلامات اجتياح طبعتها شراهة المحتل»(5). وهذا يتوافق مع رأي الكثيرين من معاصريه، مثل دیدارو وراينال Raynal اللذين انتقدا أيضاً تجاوزات الاستعمار وبلهجة مشابهة. ولكن، فيما يتعدّى

ص: 89


1- - LO) (التشريع الشرقي .17.p-
2- خصصنا لهذا الموضوع "Anquetil - Duperron Critico di Montesquieu" preprint no 292009/ studi di storia della Filosofia éd. Par D. Felice, Bologna, clueb, 2009.
3- تندرج ال ph في الجدل حول طبيعة الرجل الامريكي لدحض نظرية فساد النوع لكورناي دي بو وما أقترحه في هذا النقاش هو إزالة الاهانة التي وجهت لأميركا، محو الوصمة التي طبعت النوع البشري والتي صورت أغلب الأحيان، على نحو غير نزيه 65.Cph، وحول هذه المسألة أحيل إلى مقدمة هذا المؤلف بقلم ج. أباتيستا وإلى: S. Stuurman, cosmopolitan Egalitarianism Anquetil Duperron on India and America. "journol of the history of the ideas" Avril 2007, vol, 68, no 2.
4- LO, p II. .
5- LO. P1.

هذا الجانب، فإن نوعية حججه تتمثّل في حقيقة كونها تعتمد على شرعية حقوقية، كما يشير العنوان الشامل لكتابه(1).

السمة المميّزة للعلاقات الاستعمارية برأيه، هي في الحقيقة انتهاك المستعمرين للحق الأساسي للملكية، إذ نفى حقهم في الاستيلاء على [أرض الملّاك الطبيعيين]»(2). وبتعبير آخر، فإن شجب الاستعمار من ناحية، والمطالبة بحقوق »(2). الهنود من ناحية أخرى يفترضان المبدأ الأساسي للملكية كحق طبيعي يرتكز على عدم وجود نظرية الاستبداد الشرقي.

وعلى الرغم من أن اعتبارات مونتسكيو «ركّزت على الأفكار حول طبيعة الاستبداد»(3)، فإن أنكاتل تحقّق أن هذا الشكل من الحكم، لا وجود له في الواقع.ولكنه كمستشرق علاّمة، فإن كفاءته في هذا المجال، وشروحاته لهذه الإشكاليات، تتميّز عن سائر التصديات لمفهوم الاستبداد، التي عرض لها دوبان Dupin وفولتير ولانغيت Linguet. وهو بطريقة معينة تخطَّاهم من خلال إجرائه نقداً مزدوجاً، لأن التشريع الشرقي لا ينحصر باتخاذ موقف يتناول عدم ملاءمة هذه النظرية. فوراء التحقق من الاستبداد كتزوير لآسيا، ثمة جانب آخر بالنسبة لنا أكثر أهمية لا يتعلّق بملاءمة النظرية لموضوعها وإنما لتطبيقها . فمن خلال هذا الرهان، يمكن أن نفهم، كيف أنّ نقد الاستبداد الشرقي لدى أنكاتل مرتبط بعمق بإشكالية الاستعمار.

إذا كان وجود الملكية الخاصة «يؤكد الحقوق البشرية غير القابلة للتقادم»(4)فإن انتهاكها يفترض نفي الدول المستعمرة لهذا المبدأ وحيازة الملكية التي تشكل

ص: 90


1- التشريع الشرقي مؤلف، إذ يعرض المبادئ الأساسية للحكم، في تركيا وبلاد فارس وفي هندوستان، نتحقق - 1- أن الطريقة التي صوّر فيها الاستبداد على أنه مطلق في هذه الدول الثلاث لا يمكن أن يعطي إلا فكرة خاطئة على الاطلاق. -2 ففي تركيا وبلاد فارس وهندوستان ثمة كود (مفتاح) للقوانين المكتوبة، تلزم الأمير كما الرعايا. -3 وأن في هذه الدول الثلاث يستطيع الأفراد أن يكون لديهم أملاك منقولة وأبنية ويتصرفون بها بحرية.
2- LO, p. 171.
3- LO, p.9 A cet egard Anquetil fut "one of the few dissenters from this orthodoxy" F.G. Whelan Oriental Despotism Anquetil Duperron, response to Montesquieu, "History of Political Thought" vol XXII, 1994. P.619
4- على هذه القاعدة يستطيع انكاتل أن يؤكد ان الحق الطبيعي يسمح لمواطني البنغال ان يتمتعوا بسلام بما يملكون .LO, p.159

ميزة شرعيّة للآسيويين ، ترتكز على «الافتراض الخاطئ، أنّ في البلد الذي يلغي فيه الاستبداد حقوق الملكية، يصير كل شيء مسموح للأقوى»(1). ولهذا فإن أنكاتل هَدَفَ إلى «تحطيم شبح الإسبتداد الذي كان يُظن أنه شبح الشرق»(2).

العلاقة بين الفكر السياسي والاستعمار وجدت مظهراً جديداً يتّضح ما بعد الحجج المضادّة لنظرية الاستبداد التي يمثّلها مجتمع الشرق وسیاسته بشكل «انمساخ» مفهومي صوّرته كأطروحة مضادة تماماً للمجتمعات الحرة وحكوماتها المعتدلة(3) التي تتميّز بالقوانين وبمؤسسة الملكية الخاصة المنفيتين في البلدان الآسيوية، حيث «شخص واحد، ودونما قانون أو قواعد يحدّد الأمور، من خلال إرداته ونزواته»(4)،تلك هي المشكلة التي لا تعني إدانة «شبح» وإنّما وظيفته في حيّز استعماري.

أنكاتل كرّس التشريع الشرقي لنقد تنظير، وليس لدحضه بما هو عليه فحسب، وإنما بشكل خاص ليثبت أن النظرية يمكن أن تؤثر بمجرى تاريخ الشعوب المستعمرة. وهو يؤكد في مقطع يتناول الاستبداد في الأمبراطورية المنغولية: «اعتقدت بواجب تبيان مبادئ تخص تكوين الإمبراطورية المنغولية حباً بالحقيقة، وبسبب المآلات المشؤومة التي يصير إليها تطبيق تلك المبادئ(5). وبطريقة أكثر وضوحاً أيضاً، كتب أنّ الاستبداد هو حكومة هذه الأصقاع : السيد يدّعي ملكية كل ما ملكت أيدي رعاياه. إذا كان هذا السيد نصير هذا الحاكم وبالتالي أسياد أراضي الهند(6). إن مقتضيات الاستبداد ترتكز في معناها الدقيق Stricto sensu على عدم احترام حق ملكية الآسيويين - وهو حق طبيعي - وانطلاقاً من ذلك وبمعنى أوسع، هذه التناقضات تعني أيضاً، التصوّر العام للشرق : عنف اللحظة لا يلغي الحق والاغتصاب المحمي، لا

ص: 91


1- LO. P.172
2- LO. P. 12
3- لا يمكن الحديث دون ان نرتعد من هذه الحكومات المتوحشة» مونتسكيو De l'esprit de lois (EL) III (Gallimard paris 1995).
4- EL II, 1.
5- انكاتل يعود مرات عديدة إلى هذه المسألة الأساسية: نرى التبعات المشؤومة للانسانية إذ يمكن أن يكون لها مبادئ تُقدّم بخفّة مفرطة، وللأسف هذه التبعات قد تحققت 172 .LO, p.
6- LO, p178.

يشكّل عرفاً، ودون ذلك أيضاً، قانون بلد وهذه الطريقة بمعاملة شعب، بما صار إليه، في زمان معيّن يمكن أن يقود إلى عواقب فظيعة»(1).

إن نقد الاستبداد يكتمل إذاً، بشجب توازن القوى بين الغرب والشرق، في إطار تنظير وإن كان يفتقد لشرعية حقيقية، فإن له تأثيرات صلبة. وبهذا المعنى فإن أنكاتل لا يتّخذ المفهوم بمعزل عن مقتضياته، والمقصود بذلك إظهار اهتمام مقنّع بذهابنا إلى ما يتعدّى المظاهر : هكذا يحاجج الشغف الطموح. لكنه يختبئ خلف حجب ينبغي كشفها»(2). ومهمة أنكاتل التي يدّعيها(3)تقوم على إدانة أداة البحث التي تستخدمها النظرية، بغية تجنّب أن ينفيَ الاستبداد حق الملكية، ويسوّغ العنف.

إن تصوّر المستبدين الآسيويين في المخيال الغربي ينبثق من أدوات نظرية غير ملائمة، ولكن مثل هذا التصور يقيم علاقة مع إرادة الغزو. ولذلك، أضاف أنكاتل أيضاً أنّ هذه الرغبة تخلق مستبدين، في حين لم يكونوا موجودين: «إن الإنكليز في البنغال يدّعون أنهم يحظون بحقوق الأمراء، التي نُزعت منهم. وينبغي إذاً تقديم هؤلاء الأمراء كأسياد مطلقين. فالعدالة التوزيعية قد تجعلهم يحظون سلمياً بثمرات غزوهم، وهذا ما يحتاجون إليه»(4).

إن السبب الحقيقي، الذي صُوّر بموجبه الشرق كمكان طبيعي للعبودية وككتلة من الأفراد المعزولين، الخاضعين والمضطهدين بفعل «ذهنية عبودية »(5)لا وجود لها في شيم شعوبه ولا في نسقه السياسي وبتركيزه على تعقيد البنى السياسية للهند وبلاد فارس وتركيا، قصد أنكاتل أن آسيا لا يمكن أن تُختصر بمفهوم مجرّد و متحيّز لقد خشي

ص: 92


1- LO, p174.
2- LO, p178.
3- قلت ذلك وكررت دونما خوف من الصوت المهدّد لمصلحة جشعة، يُخشى ان تتقنّع، وإذا كنا قد عرفنا على نحو أفضل قوانين الشعوب الهندية وممارساتها ، وإذا ما تنازلنا واخترنا من أجل التكلم إليهم، أداة غش أخرى غير الشرائع لكنا وفّرنا على انفسنا كثيراً من الأهوال Anquetil-Duperron, Recherches historiques et géographiques sur l'Inde (RH) in J. Bernoulli, J. Tieffenthaler, J. Rennel. Description historique et geographique de l'Inde, Berlin. 1786 5,88 vol., t. I, p163.
4- LO, p310.
5- پLO, p87.

المستشرق، أن يستخدم الاستبداد لتسويغ النهب(1)، الذي يمكن أن يصير ممارسة شائعة لا تستند إلى شرعية، كما برهنت على ذلك وبفعالية الترجمة الفرنسية لعقد بيع لبناء أُبرم خلال إقامته في سورات Surate، وقد تمّ ذكره في التشريع الشرقي «لقد أُعطيت نسخة عقد بيع لبيت، نُظر إليه بلا مبالاة من بين كثير من العقود. هذه النسخة، تستحق كامل عناية، أولئك الذين يدرسون الإنسان من خلال سلوكه وممارساته وقوانينه»(2).

وهو بسببب ذلك، شجب النظرية، بمقدار ما شجب ممارساتها، وبالدرجة الأولى من خلال السياسة الاستعمارية الإنكليزية التي تُفرض على الدول الاستعمارية الأخرى التي تهتم بالجغرافيا السياسية لآسيا. وقد اتضحت سياسة الإمبراطورية البريطانية بشكل حاسم خلال حرب السنوات السبع في الفترة نفسها، التي كان يقوم بها المستشرق برحلته الطويلة في الهند، بحثاً عن مخطوطات زرادشت(3)، اذ كشفت المعارك، تلك السياسة.

أنكاتل دحض العلاقة بين النظرية والممارسة من خلال استعادة الكسندر دوف Alexandre Dow لفكر مونتسكيو السياسي(4). هذا الكاتب (دوف) الضليع في اللغة الفرنسية الحديثة، والذي يبدو على دراية جيدة جداً بالشرق ينصف الهنود في أغلب الأحيان. أمّا في ما يتعلّق بحكومتهم، فهو يشبه كل أولئك الذين كتبوا في هذا المجال. وهو (دوف) يفترض، دونما بيّنة، ودونما تفحّص ، أن الاستبداد يشكل

ص: 93


1- Cio che Anquetil paventa é che oltre alla fame di ricehezza, la falsa rappresentazione che l'Occidente si e creato dell' India e dell' Asia in generale risulti funzionale, come alibi, per una politica di vero e proprio saccheggio e sterminio, GM. Zamagni, cit., p380.
2- من اجل الترجمة الفرنسية للعقد إلى الفارسية 161 .Cf. LO, p - 166.)
3- وجد انكاتل في 1754 في مكتبة الملك نسخة لمخطوطة في اللغة الأفتيكية - وهي من عائلة اللغات الايرانية - غير المعروفة في أوروبا، جعلته يتخذ قراراً بالسفر ليكتشف .الهند. عاد إلى باريس في 1762 حاملاً عدداً كبيراً من المخطوطات، عمل عليها طيلة حياته نشر ترجمة زند - أفيستا، کتاب ،زارادشت في باريس 7711 ,Paris, illard وجزءاً من الاوبينشاد بعنوان 1801 2vo1,1802 - Oupkek' that, idest, secretum tegendum, Argentorioti. ومصادفة إقامته في الهند مع النزاع المسلح ليست ثانوية، لأن بعد النهاية المفجعة لحرب السبع سنوات، وبعد خسارة كندا والهند أخذت هذه المسألة [مشاكل الاستعمار] مكاناً لها في وسط نقاش واسع Yves Benot, Diderot, de l'atheisme a l'anticolonialisme [1970] Paris, Maspero, 1981, p. 156.
4- الكسندر دوف (6/1735 - (1779)، كاتب وضابط في شركة البنغال الشرقية ترجم من الفارسية History of Hindostan تاریخ هندوستان) (1768) لمحمد فريشتا.

جوهرها»(1) وبالفعل فإن للشرق بحسب دوف، على الرغم من تجربته ومعارفه التاريخية يُحال إلى تلك المقولة السياسية. وإذ نتابع عن كثب، فكر الفيلسوف نجده يذكّر «أن الاستبداد الذي تأسّس على مفاهيم الخوف والخنوع، يستمد استقراره وديمومته من عيوب عبيده»(2). والإطار العام في بحثه، يُحدّد بمعارضته الحرية، التي لا تجد على الدوام، عملياً، تعبيراً لها، بحيث أن شرط العبودية، يظهر، كما لو أن لا فكاك منه عن الرجل الآسيوي «عندما يتعرّض أحد الشعوب، لفترة طويلة لاستبداد قوى غاشمة، تصير عودته للحرية شبه مستحيلة. فالعبودية التي تعتمد على التقاليد تكون ممزوجة بطبائع البشر »(3).

وعليه، للعودة إلى مسألة علاقة هذه النظرية السياسية، مع مسألة الاستعمار، فيما يتعدّى الجوانب العامة، ينبغي بادئ الأمر ، أخذ القانون بالاعتبار. ففي آسيا، لا وجود لقاعدة قوانين ثابتة، لأن القانون هو الإرادة المتغيّرة، لمن يمسك زمام السلطة: «إن صوت الحاكم هو القانون الحي الذي يحرّك ألية الدولة بكاملها»(4). ومن جهة أخرى، فيما يتعلّق بالمسألة المتنازع فيها حول الملكية، فإن الضابط المسؤول (المقدّم) عن شركة الهند الشرقية ينفي انتقال الإرث من السلف إلى الخلف: «إن المقدرة على التصرّف بانتقال الإرث تعود بشكل طبيعي للمستبد»(5). وإذ يعتمد على معرفته المباشرة بآسيا، يؤكد دوف بغموض، الجوانب الأساسية لنظرية الاستبداد الشرقي، من خلال خضوع الرعايا للمستبد ومن مبدأ الخوف ليصل إلى غياب الملكية والقانون. وما تفتقده الهند المستبدة هو بالتحديد أسس الحرية، بالمعنى الذي ذهب إليه مونتسكيو . وبهذا الصدد، كتب أنكاتل ، أن دوف عرض على إنكلترا أن تحتل

ص: 94


1- LO, p II
2- Alexander Dow. A dissertation concerning the origin and nature of despotism in Hindoston, dans History of Hindostan, T. Beket, London 1772 (DH) p.xx: كما لا بد من الفضيلة في الجمهورية ومن الشهامة في النظام الملكي، لا بد من الخوف في الحكومة الاستبدادية ELIII
3- DH, P. xi; il est affirmé aussi que "the people vould revolt, against the introduction of freedom, Ibid, p, xxi.
4- ينبغي أن يكون القانون في رأس واحد، وينبغي ان يتغير دونما انقطاع EL/VIII,196 DH, pxxxiv
5- حالما يصف الرحالة حيث يسود الاستبداد ، فانهم نادراً ما يتكلمون عن القوانين المدنية» ELVI لا يوجد تقريباً أبداً قوانين مدنية حول ملكيات الأراضي ) لا يمكن أن نجد مكاناً للتخلي عن الملكيات.

الهند»(1)وتساءل:«أين هي الرسالة، التي يتكفّلون بها، بجعل أولئك الرجال، الذين لا يتوجّهون إليهم، رجالاً أحراراً وسعداء على طريقتهم»(2).

في السنوات، التي أعقبت نشر التشريع الشرقي، تعمّق عمل المستشرق واتسع التزامه في نقد الاستعمار وهو إذ يحافظ دائماً، على اهتمامه بآسيا، وخصوصاً الهند، فقد اهتم بأميركا، واتخذ موقفاً، حيال الجدال، حول طبيعة الرجل الأميركي، في مؤلفه «الاعتبارات الفلسفية والتاريخية والجغرافية حول العالمين» وهو مؤلف عرض فيه الدفاع عن أمريكا، وتكذيب نظرية فساد النوع البشري الذي صاغه كورناي دوبو Cornelle De Pauw. وفي هذا الجدال كانت الطريقة العامة، في التصدّي للمسألة، لا تختلف عن الطريقة التي أعتمدت في نقد الاستعمار في آسيا. وفي الحقيقة، إن نقد، أحد التصورات الأوروبية لأميركا، يعتمد أيضاً، مرةً أخرى. على قراءة سياسية، أي أن أنكاتل كشف علاقة بين استعمار قارة وصورته الفلسفية، كما حصل، من قبل، مع نظرية الاستبداد لقد أظهر علاقة بين انتهاك حقوق الأميركيين، وبين تنظير مجرّد ينعتهم بتعابير دونية. وبرأيه، ليس من المدهش، أن يصف المكتشفون الأوائل لأميركا، سكانها كنوع وضيع : إذا كانوا صادقين، علينا ألا نندهش. إننا نعلم الحالة التي كانت عليها المعارف البشرية في نهاية القرن الخامس عشر : وفضلاً عن ذلك، إننا لا نجهل الحجج السياسية والدينية التي صاغت وأملت هذا الحكم»(3).

وفي السنوات نفسها، التي عكف فيها أنكاتل على الدفاع عن العالم الجديد، في مؤلفه الهند في علاقتها مع أوروبا Linde en rapport avec l'Europe، أكّد على ضرورة إزالة المستعمرات لإرساء علاقة تجارية جديدة وسلمية، وأصّل في الوقت نفسه حججه المناهضة للاستعمار حين عززت إنكلترا دون منافسيها مرکزها المسيطر الذي تحدّد كمركز «المستبد المطلق» (4)ولهذا فإن مجادلة هذا المؤلف

ص: 95


1- LO, p175.
2- LO, p176.
3- 16.ph, p الفكرة عن الشعب الأمريكي أنه شعب منحط رفعت إلى المحكمة الفلسفية»، 40 ibid؛ وعن تقديم الشعوب غير الأوروبية لاحظ انكاتل، أن دوف : أعطاهم بإسلوبه الفلسفي، اسم وحوش الطبيعة 59 .cph, p
4- IRE, I t, p. III.

تركز بشكل خاص - وليس وحيداً - ضد هذه الدولة التي كانت بحسب رأيه، تطوّر اقتصاداً استعمارياً جديداً في بلد متسع جداً. ولفهم فكر أنكاتل المناهض للاستعمار، لا بدّ من تفحّص مشاهداته حول إمكانية تمرّد هندي شبيه «بهدوء ما قبل العاصفة».

إن خطر قيام عصيان هو خطر حقيقي، ولذلك فإذا استمر الإنكليز، في سياستهم، فإنهم سيواجهون وضعاً شديد الخطورة. وقد توقّع أنكاتل، من جانب الهنود، على سبيل المثال - ويبدو أنه محق - احتمال أن توجد ثغرة ما يفتح من خلالها مائتي ألف مارات Marates يقودهم زعيم حاذق وجريء ممرا(1). فالهند التي تحتلها إنكلترا على هذا النحو، يبدو أنه مقدر لها أن تشهد تغيّراً : «الهند المنهوبة بشكل فظيع ستحاسبهم على كنوزها المبذولة في أسواق نيو مارکت New Markets»(2).العصيان المسلح هو شرعي تماماً إذاً، ولا يمكن تجنّبه، إذا لم تعد أوروبا ، صياغة علاقاتها مع الهنود، الذين على الرغم من نظرية الاستبداد لهم الحق بالتمرد للدفاع عن حريتهم.

العبور الأساسي هو العلاقة بين الاستعمار والملكية الذي يستخدمها أنكاتل ليشجب المصالح الغربية وينزع شرعيتها. إن وجود الملكية، التي نفاها مونتسكيو ودوف، هي أساس ظلم المستعمر : «هؤلاء إذاً - رجال أحرار مطعون في ملكيتهم، رجال إذا دعت الحاجة، وإن كان يقيدهم نير من حديد، لكن ما أن تظهر ملامح نجاحهم في التصدي للمرة الأولى، حتى ينقضوا كالأسود على طغاتهم المحتلين، الأجلاف المنتهكين لكل القوانين الطبيعية، السماوية والإنسانية»(3).

إن العقل المجادل بحدّة، والمقاتل الذي أظهره أنكاتيل، في نقده لإنكلترا، أثار لدى بعض المعلقين الفكرة التي بموجبها ، يصوّب احتجاجه على الاستعمار بذاته، ولكن المقصود في العمق هو العداوة لهذه الدولة.

وبحسب هذا الموقف، فإن آراءه إزاء المستعمرات في الهند، تُحال إلى شعور معادٍ للسلطة المتنامية لشركة الهند الشرقية، بحيث يصير من غير المناسب، الكلام عن

ص: 96


1- IRE t.I p.83.
2- IRE t.I p.83.
3- IRE, t.I, p.84.

العداء للاستعمار فقط، هذا هو رأي جون بو روبيس Jean-Pau Rubies الذي كتب أن «أنكاتل - دوبرون كان على أكثر من نحو، معاد لبريطانيا، أكثر من عدائه للاستعمار»(1) - وهو بذلك على وفاق مع جان ليك كيافير Jean-Luc effier الذي يعتبر «أن عمله ينتظم حول قطبين: هجوم ضد إنكلترا، ودفاع عن الحضارة الهندية وإبرازها»(2). وتحليل أنكاتل لموضوع التمرّد الهندي كان قد«ولِد دون شك من يأسه ومرارته إزاء الغلبة الإنكليزية» (3). ويشير جيرولامو إمبروقليا من جهته، إلى أن المؤلف الذي نحن بصدده يتجه "Sia contro il omportamento colonial in glese, sia contro l'esprit des lois" (4).

إلى أن يكون في آن معاً ضد الاستعمار الإنكليزي وضد مؤلف مونتسكيو (لا جدال في أن شجب السياسة الاستعمارية البريطانية هي اللازمة لأعمال المستشرق إلاّ أنّ نقده للاستعمار، هو أكبر بكثير من ذلك. وإنه لأمر مجحف، وخاطئ التفكير أن عداوة أنكاتل لبريطانيا، تفسر بمجرد روحية مضادة لبريطانيا. وإذا لم يكن هذا الموقف الأخير ملتبساً، لما شجب معها وبالقوة نفسها البلدان الغربية الأخرى ولما كان لديه النظرة النقدية تجاه أوروبا بمجملها ؟

أنكاتل كتب: «إن الإنكليز والفرنسيين الذين يملكون أراض، في تلك الأصقاع [الهند] يعلمون جيداً، أنها كانت تتبع لمالكيها الأوائل. ولا ينتج عن تغيّر السيد (المالك)، سوى أن التابعين هم أقل غنيّ، ذلك لأن الأوروبيين، يحبون التمتع، ونقل ثرواتهم سريعاً إلى أوروبا»(5). والاتهام بعدم احترام شرعية الملكية في الهند توجّه أيضاً للفرنسيين. وأخيراً فإن أوروبا هي موضوع نقده. ودفاعاً عن هذا الحق، فإنه يصوّب الحجج على الفرنسيين والإنكليز، التي لا يعني بها جنسية، بشكل

ص: 97


1- J - p. Rubiés, cit., p.127n.
2- JL. Kieffer, Anquetil Duperon. L'Inde en France au XVIIIe siècle, Paris les belles Lettres, 1983, p.80.
3- J - L. Kieffer cit., p.84.
4- Imbruglia, "Tra Anquetil Duperron e "L'Histoire de deux Indes". Liberta, dispotismo e feudalesimo" Rivista storica italiana, vol. CVI, 1994, p. 166
5- LO, p.29.

خاص(1). إن الاتهام يوجّه ضد الغزو بذاته، في محاولته «حماية حق الناس، حق الإنسانية، بردّ مواطني الدول الأوروبية الأخرى المقيمة في الهند، إلى مبادئ يريد الذهب تدميرها(2)». وبتعبير آخر،«أوروبا التي أدركت حدّة الروح التجارية الجشعة لإنكلترا، فإن لها في تكوين وجمع مداخيلها، ما يجعلها تستحق اللوم نفسه، إننا نرى هناك ( في الهند) أن كثيراً من الحكومات، تتصرف كما لو أنها، تملك كل شيء، وكما لو أنها مالك شريك على الأقل، لكل ممتلكات الرعيّة (3).

المستشرق حوّل نقد الاستبداد الشرقي ضد أوروبا، وطوّر فكرة معادية للاستعمار تعتمد على حق الملكية، وقد ظلّ عنيداً في الدفاع عنها في السنوات الأخيرة من حياته، إذ عاد إلى مسألة الملكية كحق طبيعي، واعتبرها على الدوام، حجة قوية ضد الاستعمار فهو ليس ضد التجارة، مع آسيا، ولكنه يعترض على الإدارة الاستعمارية للنشاطات الاقتصادية، وفي رأيه، إن النسق الذي أرسته الدول الأوروبية لا يرتكز بادئ الأمر، على ظلم شامل ومجرّد، وإنما على العكس تماماً، يرتكز على ظلم مخصوص بعدم احترام حق الملكية، والقوانين المحلية. وعلى هذه القاعدة. ينظر أنكاتل، إلى مسألة إصلاح عميق لتوازن القوى السياسي والاقتصادي مع الهند، وبهذه الروحية يصيغ المبادئ، التي على أساسها ينبغي ان تتأسس التجارة.

(المبدأ الأول يؤكد أن الأوروبيين لا يملكون حق الإقامة في الهند، دون امتياز

ص: 98


1- هكذا، فان الحقوق الأكثر قدسية تختفي أمام مصلحة خسيسة، علينا كانكليز وفرنسيين ألا يتملكنا الوهم، فليس من قضية أكثر أهمية قد رفعت أمام محكمة الكون. إننا لا زلنا نرتعد إذ نقرأ الأهوال التي أرتكبت بحق الامريكيين، حين اكتشف هذا الجزء الجديد من العالم. لا شك اننا نعتقد أننا عادلون، وأن حقوقنا تجاه الهنود قد تحققت على أفضل وجه. إن المصلحة والطموح هما محرك كل الفتوحات بعد ذلك تأتي البيانات العامة ونرمي بالإثم من يريد أن ينتزع منا أي شيء وبأي حق؟ 178.LO, p
2- RH, t. I, p. 142.
3- أنكاتل ديوبرون ، بحث حول الملكية الفردية والعقارية في الهند ومصر (DP), in Paulin de S. Barthélemr, Voyage aux Indes orientales, Paris, Tourneisen 1808, t, III, p.xxiv; il s'agit de l'édition francaise du viaggio alle Indie orientali, Roma, Fugoni, 1796. وقد قرأ انكاتل هذا المبحث في 26 آب 1803 في صف التاريخ والأدب القديم في المعهد الوطني.

رسمي، أو عقد بيع يبرمه المالكون ، السكان الأصليون ((1)). وفي الدرجة الثانية، يعتبر مشروع الغزو بذاته، غير معقول، لأن «أوروبا لن تحتفظ أبداً في الهند، بممتلكات كبيرة جداً، باستعمال قوة السلاح»(2). وللمؤسسات الأوروبية، في مشروع أنكاتل وظيفة تجارية حصراً وليس لها حق السيطرة على البلاد«لن ينظر الهنود أبداً بطمأنينة إلى الأوروبيين، وهم يستقرون بالقوة، في وسط مناطق نفوذهم»(3). ومن ،الضروري معرفة لغات الشعوب الهندية، واحترام دينهم ممارساتهم، سلطة الأمراء والقوانين: «تجري العمليات التجارية الكبيرة على امتداد مساحة البلد نفسه وحتى خارجها، مع المناطق التي يرتبط بها بعلاقات هذه العمليات ترتكز على مبادئ صارمة من العدالة، تأخذ بالاعتبار في نقاشاتها قوانين البلد»(4).

إن أي تغيير، في العلاقات الاستعمارية والتجارية، يقتضي الاعتراف بالملكية، كما بالقوانين أي أن مشروع الإصلاح، الذي يفكر فيه أنكاتل، يرتكز بدقة، على ما كانت نظرية الاستبداد في الشرق، ترفضه أنكاتل يعود دائماً، إلى حدود هذا المفهوم، وبشكل أكثر ،عمومية، إلى المعرفة الأوروبية للثقافات الأخرى، من خلال المستوى الأكثر أساسية وهو مستوى اللغة(5). وفي الواقع، فهو يذكر أن الأوروبيين الأوائل الذين أقاموا في الهند، أي البرتغاليون لم يتعلموا اللغات المحلية. وكان التواصل الذي يتم بين التجّار والهنود والعرب أو الفرس، أو بين أوروبيين من بلدان مختلفة يمر من خلال، مائة وخمسين أو مائتي كلمة برتغالية «تفتقد تقريباً للصياغة»(6). وهذا ليس في العلاقات الاقتصادية وحدها، وإنما أيضاً في العلاقات الدبلوماسية والسياسية حيث توجد الصعوبة نفسها، مما يتسبّب بسلسلة من المشاكل. فالمترجمون الذين كانوا يفقتدون إلى أفكار كافية في التاريخ والجغرافيا والسياسة،

ص: 99


1- IRE, t, I, p.27.
2- IRE, t, I, p.27.
3- IRE, t,I, p.28.
4- IRE, t.I, p.28.
5- ان أسهل ما يمكن قوله : أن ليس ثمة تاريخ ولا جغرافيا ولا علوم في هذه البلدان البربرية 193 LO
6- RH, t, I, p.XII.

هم الذين كانوا يتواصلون مع الأمراء الهنود، ويناقشونهم في مسائل حسّاسة. ومن هنا، يطرح السؤال :«هل في الأمرٍ غرابة أن تكون المسائل، التي تتطلب، حيثما،كانت أفكاراً، تعالج بالمجازفة بكلمات وبالتالي تنتهي إلى نتائج سيئة»(1)؟.

نقد المركزية الأوروبية

أنكاتل يقيس العلاقة بين الغرب والقارات الأخرى قبل أي شيء بحقوق الإنسان، ودفاعه لا ينطوي على نقد الاستعمار، وإنما أيضاً على شجب تحدیدات و مجازفات، لصورة كُوّنت عن قارات أخرى. فهذه الصورة التي كوّنها الاستعمار عن العالم «الجغرافيا الأخلاقية»(2) تشكّل أيضاً، قيمة مركزية، وهماً ثابتاً في أعمال المستشرق.

ومن هذا المنظور، يُلاحظ أنه على الرغم أن تقدماً كبيراً، في معرفة سطح الأرض، قد حققه الأوروبيون، إلاّ أنهم لم يحققوا التقدم نفسه(3) في معرفة الإنسان(4)، التي سجل فيها أنكاتل «أعماله الأدبية» و ذلك ليُفهم أصل اهتماماته حول الإشكاليات الاستعمارية. وهو يرى أن ثقافة الشعوب الآسيوية، الأفريقية والأميركية قد تمّ تبسيطها، من خلال مفاهيم معمَّمة، تؤول إلى تزوير الحقيقة، إذ تؤكد على أحكام مسبقة. وقد كان جدال التشريع الشرقي في هذا المعنى، موجّهاً تماماً، ضد مثل تلك الأحكام المسبقة، التي كان يعالجها كادعاء معرفةٍ خطير.

أنكاتل هاجم بعناد الموقف الذي يقوم بادئ الأمر على الحطّ من قيمة المجتمعات غير الأوروبية، كموضوع دراسة «شعوب بربرية، لا أعراف لديهم، ولا قوانين ويمكن أن يمثلوا لنا موضوعات ربح ولكن العقل لديهم، لا يُستفاد منه بشيء». هذه هي الفكرة التي ينتقدها بشكل أساسي في أدب رحلة المستشرق

ص: 100


1- t, I, p. XIV.
2- إننا مدفوعون بشكل عام ، للاعتقاد أن الحس السليم موجود بين جنوب اسبانيا وشمال الدانمارك من جهة، ومن جهة أخرى بين انكلترا والحدود الغربية لتركيا، تلك هي جغرافيتنا الاخلاقية 57.IRE, t, 1, p
3- بمعزل عن الغاية الأساسية لهذه الرحلة كتب زرادشت و فضلاً عن بودوتشيري كان علي الذهاب الى سورات، وقد شحذ همتي سببان اذ كنت استطيع هناك اخذ فكرة صحيحة عن عبقرية و اعراف الهنود، و كان لتلك الفكرة ان تسعفني كثيراً في ترجمة الفيدا، وفيه عمل ادبي كان قد قادني الى الهند. 114.VI, P
4- LO, P.IV.

والمتأمرك أيضاً، الذي ينشر صورة مزيّفة، ويعطي أحكام قيمة سلبية «الرحالة ألف كتابه في باريس، ولندن وامستردام، حيث يتاح قول أي شيء ضد الشرق(1). وحتى وإن لم نجد في هذا الأدب آثاراً للاستبداد، بحسب نظرية مونتسكيو، فإن نصوص المهاجرين، كانت بدورها خادعة أيضاً. ففيما يتعلق بالدين، لاحظ أنكاتل، مثلاً، أنه «بدلاً من الأفكار السامية التي تشكل بتسلسلها، النسق الحقيقي للاهوت الهنود، فإن [الرحّالة] لا يقدمون لهذا الشعب سوى الشرك المتمرد»(2). وفي الهند، يتجلىّ عدم تفهّم الأوروبيين في آرائهم المتناقضة، التي لها كقاسم مشترك، حقيقة بقائها منغلقة في المنظور نفسه. «أحدهم اتخذ كعُرفٍ ثابت وعام، والآخر كقانون، ما قد رأياه في تجربتهما المحدودة دون أن يذهبا أبعد من ذلك»(3)

ثمة مسألة دقيقة ومهمة بالنسبة لأنكاتل، إذ إنه على امتداد كتبه يعتبر مرات عديدة، أن مسألة فهم ثقافة أخرى، تتطلب مزايا نادراً ما نجدها، برأيه، لدى الرحّالة. وهؤلاء، كما كان قد لاحظ روسو ((4))، مرتبطون بقوة، بأعرافهم الخاصة، ما لا يجعلهم (1) قادرين على إعطاء وصف موضوعي لأعراف الآخرين : إن عيب اولئك الذين قاموا بوصف البلدان الغربية، هو أنهم إذ يكتبون ، عن موقف يواجهونه، يمثُل أمامهم، على الدوام، وهم غافلون ما تكون عليه الأعراف التي تعوّدوا عليها. نقاط المقارنة هذه، التي لا يعترفون بها، تملي عليهم عادةً أحكامهم»(5).

ص: 101


1- من الصعوبة بمكان الا نفكر بقرابة معينة بين أفكار انكاتل واطروحات المستشرق في مؤلّفه الاستشراق 1978 لادوار سعيد الكتاب الذي ذكر فيه بشكل سريع جداً مؤلف التشريع الشرقي. و بهذا الصدد نشارك إس ستيورمان S STUURMAN رأيه.ما ينفيه سعيد بجرأة هو المساواة غريبة الاطوار و هو في الواقع ظلّ يدافع مدى الحياة عن المساواة وكرامة الشعوب غير الأروبية من الهند الى القارات الأمريكية و منطقة القطب الشمالي ورواية انكاتل تفضح فكر الأنوار الذي ينظر الى العالم خارج أوروبا، ككتلة متجانسة ، وباستعلاء من خلال المركزية الأوروبية» 256.cit, p
2- LO, P. V.
3- السيء في اسيا هو دائما حاشية الحكومة 32 .LO, P.155;ibid, p
4- اذ نفتح كتاب رحلات لا نجد توصيفاً للطباع والاعراف نندهش تماماً حالما، هؤلاء الذين وصفوا أشياء كثيرة، لم يقل اي منهم سوى ما كان يعرفه من قبل Discours sur l'origine et les fondements de l'inégalité parmi les hommes, note 10, Paris, Gallimard, 1985, P.172.
5- CPH, p.103.

هذا ما دفع أنكاتل، أن يحكم بقسوة شديدة، على رجال الكنيسة: «مظاهر الفوضى فی البلد هي بالنسبة لهم ، أشياء مخيفة، والطقوس الغريبة إن هي إلا طقوس صنمية، وإذا صدّقناهم القول، يكون الشرقيون نوعاً من البشر، يختلف عن الاوروبيين»(1) وكما مع رحاّلة آخرين، فإن صعوبات الإرساليات في فهم الأديان الشرقية، تؤدي بهم قبل وصولهم إلى الشرق إلى صياغة تعطي أحياناً، الحكم المسبق، الذي بموجبه تُختزل الأديان الأخرى، بطقوس بدائية. إنه يلاحظ، بالفعل، أن الإرساليات، يفتقدون إلى زاد لغوي وثقافي ضروري لدراسة شعوب ،الهند، ولهذا، فإن دراستهم للموضوع، لا تشكل معرفة موثوقة: «إنّ تحفّظهم الشديد العمومية، حيال أخلاق الهنود، لا يدخل معظمه في العقائد الأساسية : ذلك هو السبب، الذي، حتى الآن، لم (2). تعطنا أعمالهم معرفة دقيقة عن الهند»(2). وعلى الرغم، أن أنكاتل يبدي هنا، موقفاً نقدياً، تجاه نشاط ومناهج الإرساليات، ينبغي الإشارة حقاً، إلى أنه يبتعد عن المواقف المعادية للأكليروس المعاصرين له، لأن نقده في جوهره، ليس موجّهاً ضد الدين بذاته ولا ضد رجال الكنيسة، وإنما ضد العلاقة بين الاستعمار والتبشير المسيحي :

«إذا كان هجران الغزوات الزمنية باسم العدالة والضرورة فمن الطبيعي التنازل كذلك عن الغزوات الروحية»(3). وبهذا المعنى، يؤكد المستشرق أيضاً، على نحو أكثر وضوحاً إنّ التبادلات التجارية تُحجب أحياناً، بستار الدين: «الأوروبيون في تجارتهم مع الهنود الشرقيين ليس لهم أي هدف سوى إغناء وطنهم، بكنوز هذه البلاد المصلحة المتخفيّة أحياناً وراء قناع المجد والدين هي دائماً محرّك لمشاريع، من هذا النوع»(4).

إن فكرة الفشل التاريخي للعلاقات بين أوروبا وآسيا، تتخلّل كتابات أنكاتل

ص: 102


1- LO, p.87.
2- IRE, t. I, p262.
3- IRE, t.I, p263.
4- بتعبير آخر الدين يستخدم فقط لتزيين مشاريع واجراءات، يصعب كثيراً على الرؤية الانسانية البسيطة TITRE II 4.p تكشف جورها واحياناً فظاعتها

وتتجلّى في جداله، ضد الاستعمار، ولكن ينبغي في هذا الصدد، ألا ننسى نشاطه کمترجم، إذ يكتسب بأهميته ونشاطه، مغزىّ رمزياً، ولهذا استطاع أن يؤكد: «ليس من المفاجئ، أنهم كونوا فكرة خاطئة، عن هذه الشعوب، إذ يصعب غالباً، التفاوض معهم»(1) وبأسلوب لا منهجي asystématique، تجد إهتماماته المختلفة، علاقة اغتناء متبادل استطاع المستشرق بفضله الدفاع بحدس، عن أن معرفة لغات، وتاريخ الشعوب، ليس غاية في ذاتها. وبهذا الصدد، فإن التشريع الشرقي يؤدي إلى إحترام موح لعمل المؤلف : «دراسة لغات وتاريخ آسيا ليس دراسة كلمات، أو مجرد فضول، لأنها تساهم في تعريفنا بمناطق أكبر من أوروبا، وتقدّم لنا جدولاً خاصاً، بتحسين معرفة الإنسان، وخصوصاً في تأمين حقوق الإنسانية غير القابلة للتقادم»(2).

كانت معرفة جديدة عن الإنسان وعن الشعوب غير الأوروبية بالنسبة لأنكاتل، مسألة ضرورية، يمكن أن تذهب، إلى ما يتعدّى الاحكام المسبقة التي تحطّ من شأنهم، والتي كانت لا تزال تحدّد تصوراتهم. فمسألة مشكلة صورة هذه الشعوب، تفضي خطأ في طبيعة المعرفة، والنتائج، التي يثبّتها هذا الخطأ. هذا النقد المزدوج يتوجّه إلى معرفة ليست نزيهة على الدوام، وهي خاطئة وخطيرة في آن معاً، وتكوّن «هذه الصورة، مرة ذات نزوة، ومرةً ذات مصلحة »(3). وبطريقة معبرّة، تبدأ مقدمة التشريع الشرقي، بالعناصر ، التي تحول دون معرفة عن الإنسان: «ثلاثة أسباب تعطل تقدّم المعارف الإنسانية، الجهل الفظ وبعض المؤسسات الدينية، والمعرفة المزهوة». وأضيف «لا ألحّ على المبدأين الأولين اللذين يعترضان، إن صح القول، على الاكتشافات الأكثر فائدة: لقد تفحصهما الفلاسفة وقاوموهما. ولكن حِذقهم بالذات منعهم من مهاجمة العنصر الثالث(4) . لقد ركز اهتمامه على هذا السبب الثالث، الذي أهمله الفلاسفة، الذين لم يستطيعوا مواجهته، لأنهم هم أيضاً ضحاياه،

ص: 103


1- LO, p.88.
2- LO, p.181.
3- LO, p. V.
4- LO, p. IV.

وبهذا المعنى تكلمنا عن عقله المضاد للفلسفة(1)، وعن انشقاقه عن عصر الأنوار.

ولكن في الحقيقة فإن هذا الموقف الجدالي الذي غالباً ما يعبّرعن نفسه، من خلال الاستخدام المستخف بصفة «فلسفية» يهدف بالحري، لكشف علاقة الاستعمار والفلسفة. فالخطاب «الفلسفي» عن القارات الأخرى، هو أحد الموضوعات الأساسية، لنقد أنكاتل انطلاقاً من حالات تستخدم الشعارات، في أدب الرحلات لدى مونتسكيو ودي بوو DePauw على صورة مفاهيمهما. وبهذا المعنى يمكن أن تكون الفلسفة قد استخدمت هذه النصوص، لتبدع حكومات مشوّهة» على المستوى السياسي ولتبدع أيضاً «شعوب مشوّهة» على المستوى الأنتربولوجي.

(في المحصلة، يناضل انكاتل ضد معرفة تبدع هذه «المخلوقات المشوّهة» في ،ممارسة يكون فيها المستعمِر والفيلسوف أقرب إليها مما كنا نعتقد(2). فكل منهما، مخرِّب على طريقته: «إننا نرتعد حيال الفظاعات التي يرويها الغزاة الأوائل ؟ لقد كانوا يدمّرون النوع البشري مدفوعين بالنزوات التي تتحكم غاية التحكم بتعصبهم وجشعهم حينذاك كان الفلاسفة انفسهم وبدم بارد ينزعون على هذا النحو رمزية الرجال عن الأميركيين. هذا التدمير هو أكثر بشاعة من التدمير الأول».

ص: 104


1- G.Abbatista, CPH, p. 234n.
2- وكما في الاستشهادات السابقة، انكاتل هو الذي يلاحظ 50.CH, p

فهم التابع

النقد ما بعد الاستعماري للحداثة

جاك بوشباداس(1)

دراسات التابع هي مجموعة مُجلّدات أصدرتها جامعة أكسفورد منذ عام 1982 وهي تضمّ اليوم عشرة مُجلّدات تحمل عنواناً فرعيّا :هو كتابات حول تاريخ ومجتمع جنوب آسيا Writings on South Asian History and Society إنّ نجاح تلك المجموعة على المستوى العالمي، أشرف عليها المؤرّخ البنغالي راناجيت جوها Ranajit Guha (المولود سنة 1923) ، يجدر بنا أن نُسمّي الاتّجاه المُتعلّق بكتابة التاريخ الذي نتجت منه دراسات التابع ب«التاريخ من أسفل»History from below. وبلا ريب، ليس الموقفُ الفكري الذي يُجسّده هذا الاتّجاه جديدًا لِنتذكّر مقدّمة كتاب (الثورة الفرنسية) «تناولتُ التاريخ من تحت من خلال الحشود البعيدة وغرائز المجتمع، وأظهرْتُ كيف أدار قادته، إلخ ...» والانبثاق المُنتظم منذ ذلك الحين لتطلعات فردية أو جماعية لِكتابة التاريخ بالنظر إلى العدد الأكبر، أكانت ليبرالية أو اشتراكية أو قومية

ص: 105


1- باحث في مركز دراسات الهند وجنوب آسيا.- العنوان الأصلي: Les Subaltern Studies ou la critique postcoloniale de la modernité - - المصدر: 1611 .à Homme 156 / 2000 pp 186 - ترجمة: عماد أيوب.

أو ناتجة من اتّجاه الحوليّات في الهند، كان «مُهرّبو» هذا التوجه المُتعلّق بكتابة التاريخ، بالنسبة إلى قسم منهم على الأقلّ، هم الشخصيات المرموقة في التاريخ الاجتماعي «الجذري» الانكليزي (رودني ،هيلتون كريستوفر هيل جورج رودي ادوار ب تومسون إريك هو بسباوم)(1)، في حقبة (إجمالاً، ابتداءً من الستينات) حيث فاقمت الخيبات التي تسبّب بها الإخفاق الاجتماعي للاستقلال في الهند النزعة الراديكالية للنزاع الماركسي في أوساط المُثقّفين الشبّان، ودفعت قسمّا منهم إلى النضالية الماوية في الأرياف بذلك فإنّ الحقيقة التي انكشفت بين المؤرّخين (في الهند كما في مناطق أخرى من العالم استُعمِرت قديمًا)، هي أنّ تاريخًا حقيقيًا من الأسفل تضمّنَ قطيعة مع «النموذج القومي» لِكتابة التاريخ الغالبة، الذي أخفى التنافرات الطبقية بالاستناد إلى الوحدة الوطنية، مُطيلاً بذلك الخطّ السياسي الرسمي للنضال من أجل الاستقلال(2). في سياق نقد الماركسية المُستقيمة والبلاغة الرسمية ذات النزعة الاشتراكية للدولة الهندية وبمبادرة من راناجيت جوها وُلِد مشروع دراسات التابع التي هي التعبير الفكري لِمفهوم صارم للديمقراطية.

إنّ الجهد الأول ل- جوها كان يهدف أولاً إلى التخلّص من النخبوية (élitisme) في كتابة تاريخ الاستعمارية والقومية والماركسية، التي كانت تُقدّم المقاومة الشعبية للاستعمار وملحمة حركة الاستقلال بوصفهما نتيجة لسيرورة تجنيد من أعلى. إنّ كتابة تاريخ الاستعمارية، التي أسيء الظنّ بها، كانت قبل أي شيء إنتاجّا انكلو - ساكسونيا في الستينات والسبعينات وكان المقصود منها انبثاق مدرسة (مدرسة كامبريدج)، وهي مُهانة اليوم على المستوى العالمي، وقدّمَت القوميّة المُنظّمة فی الهند بوصفها استراتيجية تنمية اجتماعية تُدار من قبل النخب الأهلية (indigene) المُثقّفة بغية انتزاع مواقع المسؤولية من السلطة الاستعمارية، المواقع التي تولّد

ص: 106


1- الكتاب الرمزي المُتعلّق بهذا الاتجاه هو 1988 Thompson (1963).
2- إنّها الفكرة التي عبر عنها بصورة رسمية سابياساشي بهاتا شاریا Sabyasachi Bhattacharya في خطبته الرئاسية الموجزة بمناسبة افتتاح قسم التاريخ الحديث في مؤتمر التاريخ الهندي Indian History Congress سنة 1982 .(Bhattacharya 1983)

أمجادًا وأرباحًا. بحسب الترجمة اللاتينية للتاريخ القومي للهند الحديثة التي سادت ابتداءً من الخمسينات في الكتب والتحليلات الصادرة تحت رعاية حكومية، تشكّلت حركةُ الاستقلال من خلال سيرورة تدريجية لضمّ الجماهير الشعبية المؤخَّرة في الصراع من أجل الحريّات في هذا المنظور، كان الوسطاءُ الكبارُ لتسييس الجماهير الزعماءَ الذين يسحرون الجماهير، غاندي ونهرو في مقدّمتهم، مُبدّلين ونابت عنهم البنية الواسعة للإطار الهندي الجامع التي كانوا يُديرونها، وهي مجلس الشيوخ الهندي. داخل مجلس الشيوخ تلتقي كلّ الفئات الاجتماعية وتقريبًا كل الانطباعات، مُحّدة في حماوة النضال المُشترك من أجل التحرر وولادة الدولة الأمة. إنّ النتيجة المنطقية لهذه الرواية الكبيرة كانت الوصول إلى السلطة في الهند الحرة من قبل قادة النضال من أجل الاستقلال والتنظيم القومي الذي أصبح الحزب الحاكم. إنّ الأخير، الذي كان يعكس ضمن تنوّعه الخاصّ التنوّع الكبير للأمة، امتلك الأسباب الوجيهة للحديث باسم الشعب كله، وباتت مهمّته تأطير بناء وتطوير الديمقراطية الأكبر على وجه الأرض. في الدراسات التي تتناول الحركات الشعبية الهندية، والتي صدرت خلال السبعينات وفي مطلع الثمانينات، برَزَت بإصرار مُتزايد مواضيع قطعت علاقتها بهذه الأعراف السردية للقومية «البرجوازية». كان واضحًا أكثر فأكثر أنّه، من البحث عن التزام الجموع بأن تمنح نفسها مصداقية سياسية ضرورية في مقابل السلطة الاستعمارية انشغلت النخبة القومية دائماً بِحصر الشدّة والطابع الراديكالي لِعدم الاستقرار الشعبي في حدود ضيّقة، مع العلم أنّ الرسالة القومية الحاملة فكر غاندي والمُتبنّاة في مجلس الشيوخ، التي فهمتها الجموع وتملّكتها، وذلك بملئها بأحلام عتيقة واستيهامات قلب اجتماعي، هذه الرسالة لم تكن تتعلّق بالتصوّرات والمعايير المُتحضّرة للديمقراطية التمثيلية البرجوازية ) . بذلك أبرزت هذه الدراسات العيوب التي كانت تُصدّع الإجماع الظاهر للاندفاعة القومية الشعبية، ومارَسَ مجلسُ الشيوخ القمع غالبًا ضدّ الانحرافات الراديكالية لعدم الاستقرار والخلافات العميقة التي رافقت التزام الجموع الشعبية التي حرّكتها ثقافة النزاع الأصلية، خدمةً لطموحات

ص: 107

النخبة التي تدّعي بغير حقّ مَزِيّة تمثيلها بذلك أعطت تلك الدراسات مادّة تاريخية عن حرمان شعب من حقوقه، محروم هو من مكاسب انتصاره، بعد نيل الاستقلال وذلك من خلال هيمنة مجلس الشيوخ، الهيئة التي تُسيطر عليها الطبقة المتوسطة المدنية وطبقة الفلاحين الميسورة، كلاهما من طبقة مُغلقة مرموقة، حيث أخفت بلاغتهما ذات النزعة الاشتراكية غياب أي إرادة إصلاح اجتماعي جذري(1).

إنّ كتابة تاريخ الماركسية الخاصّة بالحركة الوطنية، التي وحدها تبتّ فعلاً الرواية القومية التقليدية طوال العقود الأولى لِلاستقلال، كان ينقصها شكل آخر للنخبوية. تدّعي كِتابةُ التاريخ الحديث باسم الطبقات المضطهدة وتُوضِح طريقها نحو التحرّر والتقدّم، وندّدَت في الوقت عينه بثقافة تلك الطبقات التي تخصّ المقاومة بوصفها ذهنية قبل سياسية أو وعي خاطئ، أي مرحلة بدائية في نموّ الوعي الثوري وشكّكَت قدرات النضال لدى أغلبية الفلاحين، مُعتبرةً أنّ ثوراتها لم تكن سوى انفجار غضب جماعي عفوي وبدون عواقب سيئة، مُجرّد بالضرورة من التنظيم والبرنامج والفعالية لزمن طويل بحيث لم يكن مُوظّفًا ومؤطّرًا بواسطة طليعة أفضل تدريبًا وأكثر تقدّمًا على المستوى السياسي في النهاية، تقع كتابة التاريخ في الحتمية الاقتصادية وذلك بأن يعهد بدور حاسم للتناقضات والظروف الخاصّة بأزمة الاقتصاد.

بذلك فإنّ الموضوع كان يتعلّق بإصلاح الشعب بوصفه موضوع تاريخه الخاصّ وذلك بالامتناع عن تصوّره بوصفه مجموعة عمال تُديرها النخب، وبقطع أي علاقة بالنظريات الغائية التي تُحوّل الشعب إلى عامل جامد في آلة تاريخية كونية (سواء أكان الأمر يرتبط بالتاريخ القومي الذي يُقدّم ثورات العصر الاستعماري بوصفها مراحل في تكوين الدولة - الأمة، أو بالتاريخ الماركسي الذي يرى فيها مراحل لانبثاق الوعي الطبقي). ينبغي الإقرار بالأهمية التاريخية الحقيقية للشعب بالنسبة إلى قدرة المبادرة (agency) الحرة

ص: 108


1- ألف ساركار Sarkar أفضل كتابين في مجال كتابة التاريخ النقدية في ما يتعلق بالقومية الهندية: - Sarkar 1983 a et 1983 b.

والمُطلقة لهذا الشعب، وإعادة اكتشاف ثقافته الخاصّة، والاهتمام الجدّي بعالم الفكر والتجربة الخاصّ به (لا فقط الظروف المادّية الخاصّة بوجوده). وينبغي القبول إجمالا بأنه يوجد ميدان مُستقلّ في سياسة الشعب مُختلف عن ميدان النخبة، ترسّخت مصطلحاته التعبيرية ومعاييره وقيمه في تجربة العمل والاستغلال الاجتماعي. إنّ الشعب، بحسب البيان الذي أصدره راناجيت جوها في بداية المُجلّد الأول من دراسات التابع هو الطبقات والفئات التابعة التي تُؤلّف الطبقة الشغّيلة والفئات المُتوسّطة في المدن والأرياف، أي «التباين الديمغرافي بين كامل سكان الهند وكل الذين يؤلّفون النخبة»(1). إنّ ما يُحدّد التابعين (مفهوم مُستعار من غرامشي دفاتر السجن (Cahiers de prison) هو علاقة التبعية التي ضِمنها تُدير النخبُ التابعين، علاقة تضعف من جهة الطبقة والجنس والعرق واللغة والثقافة. يحدث التباس في المجموعة تبعًا لتعريف «التبعية» تارةً كمادّة ، كالخاصّية المُميّزة لِفئة اجتماعية خاصّة، وتارةً كعلاقة (نخبة أهلية تُعدّ تابعة في مقابل نخبة استعمارية أوروبية). ركّز جوها كلامه على هذه الطبقة واضعًا، في كل الأحوال، في مركز وجهة نظره التاريخية رؤيةً مُتفرّعة ثنائيًا للمجتمع المقسوم بين حاكمين ومحكومين. وعندما باشَرَ تصحيح الرؤية النخبوية لتاريخ الهند السائدة إلى الآن، فإنّه بالاستناد إلى الاقتناع مارست النخب الهندية سيطرتها (المادّية) على الشعب التابع، لكن لم تمارس هيمنتها (أي هيمنتها الثقافية)(2)إنمّا هذا الميدان المُستقلّ للفكر والمبادرة للتابعين، الذي أخفته نسقيًا كتابة التاريخ النخبوية، هو الذي ينبغي

إحياؤه، لا فقط من أجل إصلاح الظلم الذي لَحِقَ به وردّ الاعتبار له، بل أيضًا

ص: 109


1- couches intermédiaires » Guha 1982: 4, et préface du même volume, p. VIII. Au lieu de بدل مصطلح فئات متوسطة»، يتحدّث جوها في الصفحات التالية عن الطبقات الدنيا للبرجوازية الصغيرة».
2- 1989 Guha التسمية الثنائية هيمنة - سيطرة هي أيضًا مُستعارة من غرامشي الذي كان يستخدمها في (دفاتر السجن لإبراز التباين في تعقيد الدولة بين الغرب وروسيا فالثورة في روسيا لا تفترض إلا الاحتلال عن طريق بني السيطرة إدارة جيش (شرطة التي شكلت لوحدها مجمل الدولة؛ في الغرب، يجب أن تتغلب الثورة على الهيمنة الأيديولوجية والاجتماعية التي تمارسها النخب في المجتمع المدني، الذي هو نفسه أساس الجسم السياسي. من البديهي أنّ التطبيق السريع على حالة الهند الاستعمارية لهذه الخطاطة المثقلة بالأسئلة التي لم يُجب عنها بالنسبة إلى ما يتعلّق بأوروبا، ارتبط بسوسيولوجيا خطرة حول علاقة غرامشي بدراسات التابع، انظر 1984 Arnold

لإيضاح العلاقة الداخلية للقوى بحركة الاستقلال التي قطفت النخب وحدها ثمارها، ولإيضاح الأسباب العميقة لهذا الإخفاق التاريخي للأمة في صُنع مصيرها («الإخفاق التاريخي للأمة في أن تُصبح مُستقلّة»)، الذي يُمثّل المشكلة المركزية لِكتابة التاريخ في الهند الاستعمارية (7) 1982 Guha).

لإعادة الوعي والقدرة على المبادرة للتابعِين إلى مكانهما الصحيح، اللذين كانا يحملان ثقافة شفهية ولم يتركا عمليًا أي شهادة على نفسيهما(1)، لا توجد بحسب جوها أي وسيلة أخرى سوى تحليل البيانات والتقارير المُتعلّقة بالحركات الشعبية التي تحتويها الوثائق الاستعمارية، وذلك بقراءتها بالمقلوب (against the grain). يشرح جوها ببراعة كيف أنّ خطاب هذه المصادر، الذي تتناغم معه كتابات التاريخ النخبويّة من جوانب عدّة، يميل دائماً إلى تعديم (néantiser) وعي التابعين بتقديم حركات التمرّد على أنّها ردّات فعل لاإرادية على الاضطهاد الاقتصادي أو السياسي، هادِمًا بذلك استقلال النظرة والمبادرة للمحكومين في إوالية الأسباب الخارجية(2). بيدَ أنّ ، في كتاب مُتقَن صَدَرَ بعد سنة من ظهور المجلد الأول من دراسات التابع، يبيّن جوها كل ما يمكن استخراجه من مصادر نخب السلطة عندما يتمّ فكّ رموزها بِرويّة. يتفحّص جوها وثائق تمرّد الفلّاحين في الهند الاستعمارية بين عامي 1783 و1900 (أي قبل مرحلة القومية الجماهيرية)، ويصنع في هذه الدراسة، بأمثلة عظيمة، الخاصّيات الأساسية لسلوك المُتمرّدين، المُقدّمة بوجهٍ ما كثوابت ايديولوجية للوعي القروي(3). في ضوء ذلك، يبدأ عملاً جديدًا في المساحة ورسم الخرائط لهذه القارة المُستقلّة وغير المُروّضة، التي لا يتيسّر للمؤرّخ الولوج إليها إلا برعاية ثقافة مقاومة

ص: 110


1- لا مُعادل مثلاً لكتاب Moi Pierre Riere، الذي وضحه ميشيل فوكو وفريقه (1973) Foucault)، ما عدا بعض الاستثناءات مثل أداء الشهادة أمام القضاء من قبل المتهمين الذين أعدموا بصورة تعسفية على يد رجال شرطة شوري شورا Chauri Chaura ، ما دَفَعَ غاندي إلى إنهاء حملته بين عامي 1920 و 1922، وتطرّق أمين إلى تحليل تلك الشهادات في 1995 Amin .
2- Guha 1983a: 2" 3 Insurgency is regarded as external to the peasant's consciousness and Cause is made to stand in as a phantom surrogate for Reason, the logic of consciousness نضع مُحرّك الثورة خارج الوعي القروي، ونُحلّ مظهر السبب محلّ واقع العقل ومنطق الوعي الثائر
3- 1983 Guha إنّ هذه الأشكال البدائية جرى تحليلها في العناوين التالية : الإنكار المفهوم الشعبي للمقاومة) الغموض (العلاقة بين الجنوحية delinquance والمقاومة الكيفية أشكال التنظيم والفعل الجماعي، التضامن (وحدة وتنافر في التمرّد النقل (التمرّد كفعل اتصال)، الإقليمية (الأفق المكاني لحركات التمرّد).

الاضطهاد (لأنّ المصادر لا تتحدّث عنها إلّا بمناسبة التمرّد)، ومن خلال خطاب المُضطهِدين. إنّ هذا الدرب أكمل توضيحه مؤلّفو المجلّدات السابقة في دراسات التابع.

بید أنّه ظهر سريعًا أنّ مشروعًا كهذا مُمتلئ بالأفخاخ النظرية. كان اللوم الأقرب هو الاتّهام ب- «الذهنية [mentalisme] كان راناجيت جوها ضحية الوهم بأنّه يمكن معرفة ما يحدث فعلاً في أذهان الناس مثلاً 2 : 1985: Stein). وهذا يعني أن يُخطئ في المعنى العميق لحديثه الذي لم يكن يتعلّق أولاً بتاريخ الذهنيات، بل كان يهدف في بادئ الأمر إلى نقد الهرمينوطيقا الخاصّة بكتابة التاريخ الحاكمة والإخفاء المُستمرّلِوعي التابع وتجربته التي نتجت عنه، وإلى إظهار إلى أي درجة ترتبط كتابة التاريخ في جزء منها بسلطة النخب برصانة أكبر، وبينما كان يُعتقد أنّ الإنسانوية البرجوازية للأنوار دُفنَت نهائيًا، أصيبَ الكثير من النقّاد بالدهشة بعدما رأوا برنامجًا خاصّضا بكتابة التاريخ يُركّز على إصلاح أوّلية الوعي واستقلال الذات (مثلاًHan-O 1998 lon). تنصّ الإجابة على أنّ هذا المَسعى الوضعي، الذي كان يمَيل إلى بناء التابع بوصفه ذات مُجهّزة بسريرة خاصة، والمسؤول عن استقلاله على صعيد الفكر والسلوك، هذا المسعى كان في الواقع استراتيجية مدروسة ذات هدف سياسي أكثر منه اقتصادي 1985342, Spivak): يتعلّق الأمر بالتخلّص من ماوراء الرواية (métarécit) النخبوي للإجماع الاجتماعي للحركة القومية، الذي يُشكّل أسطورة أصلية للدولة البرجوازية في الهند المستقلة، مُبيِّنًا أنّ النخبة بنت انتصارها على إنكار الآخر ، أي الشعب المغلوب. إنّ المشكلة لا تقلّ واقعية لأنّ كل مؤلّفي المجموعة، بلا جدال، لم يُدخِلوا هذه الاستراتيجية حيّز التنفيذ بالدقّة نفسها التي تميّز بها راناجيت جوها بلا ريب يكمن الخطر الكبير في إعطاء جوهر للوعي التابع بوصفه طبيعة ويُحدّد خارج أي سياق بواسطة ملامح مُميّزة، أو في تشييء فئة التابع بتشبيهه بوحدة اجتماعية تجريبية(1). لكن من الناحية السوسيولوجية، إنّ هذه الطبقة، التي تضمّ

ص: 111


1- على غرار ستيفن هنينغهام (1983)، الذي وصف حركة Quit Indian» في سنة 1942 على أنّها تمرد «مبارز»، عصيان نظمته النخبة القومية من جهة، وتمرّد عنيف أداره تابعون يُحركهم وعي ديني من جهة أخرى.

في الواقع الطبقات الشعبية واسعة جدًا وتُخفي الكثير من الفروقات والشروخات وعلاقات السلطة الداخلية بعالم المحكومين بحيث لا تعود قابلة للاستعمال كأداة تحليل. لكنّ التصوّر المُتفرّع ثنائيًا والتبسيطي تمامًا للاجتماعي الذي تتضمّنه يأخذ دلالة سياسية من حيث أنّه يُعبّر عن علاقة السلطة التي تُشكّل تاريخيًا التابع كما هو عليه، أي الموقف الذي يضع في سياق ما النخبة في مقابل المحكومين: إنّ هذا الموقف يؤول، من ناحية التابع إلى علاقة معاكسة بين «نحن» و«هم». لكنّ الانزلاق إلى إعطاء جوهر للتابع أمر يصعب تفاديه تمامًا كما يصعب إعطاء جوهر للطبقة في الخطاب الماركسي التقليدي. الكثير من المُساهمين في دراسات التابع استسلم لهذا الانحراف، وليس بمقدور المرء أن يقول إنّ راناجيت جوها نفسه كان بِمأمن تامّ.

إنّ دراسات التابع للمرحلة الأولى، أي المرحلة التي طوّرَت مباشرة الإشكالية الماركسية المخالفة التي رسمها بدءًا راناجيت جوها، واجهت أيضًا مجموع من المُلاحظات النقدية من اتّجاهات ماركسية أخرى(1). أمام نقد النخبوية لِكتابة التاريخ الحاكمة، نرى في ما بين السطور ارتسام الاتّهام القديم بالشعبوية، الذي كان يصلح قديمًا لنقد أولئك الذين رفضوا الاعتراف بدور مُحرّك للعناصر الطليعية في الصراعات الاجتماعية والنظر إليهم على أنهم هراطقة. في المقابل، كان من السهل تَنحِية الاعتراضات ضدّ التعريف المُتصلّب لاستقلال الوعي والمبادرة لدى التابع الذي أصبحَ سريعًا إحدى بديهيات المجموعة. إنّ مُنطلق هذا الموقف كان رفض جوها لِكتابة التاريخ الاصطلاحية التي حصرت عالم السياسة بالحقل الضيّق للمؤسّسات الاستعمارية الذي يُؤلّف النشاط الجدالي للنخب جزءًا منه. يقابل جوها بين ميدان السياسة البرجوازية وميدان سياسة الشعب التي تتألّف من تصوّرات وممارسات تنتمي إلى مقاومة راسخة في ماض قديم ما قبل استعماري، ولكنها لا تَدين بشيء لهذه الفضالة الاستعمارية التي كانت تمُثّلها سياسة النخبة، وتتميّز عن السياسة البرجوازية بسيرورات توظيف أصلية لا عامودية بل أفقية (مُعلّلة من خلال

ص: 112


1- انظر مثلاً التقارير الجماعية حول دراسات التابع التي صدرت في Social Scientist في تشرين الأول 1984 وآذار .Mukherjee 1988; Brass 1993 ،1988

القرابة، والمنطقة، والترابطات الظرفية)، وبطابعها العفوي أكثر، والاعتماد بشكل أكبر على العمل العنيف. إنّ ماركسيًا مُستقيمًا يمكنه عند اللزوم أن يُلازم جوها، بالرغم من الحطّ من شأن سياسة الشعب بوصفها غير فعالة ورجعية موضوعيًا. لكنّ جوها ذهب أبعد من ذلك. فلم يكتفِ بشجب المُناورة التي بواسطتها وظّفَت النخبة القومية، طوال النضال ضدّ الاستعمار، حماسة الجدال الشعبي لصالحها المباشر بغية ممارسة السلطة من دون تقاسم بعد نيل الاستقلال. قدّم جوها سياسة الشعب بوصفها تعبيراً عن الميدان المستقلّ لهذا الوعي التابع الذي يُقاوم تأثير البرجوازية، وعنصرًا من هذه المناطق الواسعة في حياة الشعب ووعيه التي لم تدخل ضمن هيمنته (5-4 : 1982 Guha)، مُقارناً بذلك في الآن نفسه بين الظلم الاجتماعي الذي انبنى عليه الاستقلال تاريخيًا، وضرورة الصراعات المستقبلية.

من البديهي أنّ ثمّة هنا بداية انزلاق الملاحظة التي لا تقبل الدحض بالرغم من التقليل من شأنها غالبًا أو إخفائها من قبل كتابة التاريخ انزلاق من وجود اندفاعة ظرفية مُستقلّة لِلمقاومة عند التابع خلال النضال من أجل الاستقلال، إلى اقتراح مضامين للاستقلال البنيوي لِوعي وثقافة التابع يمكن للمرء أن يفرض أنّ هذا الحدس بنظر جوها، كان قبل كل شيء قضية تطابق مع الغير تجاه التخيّل الخاصّ بالمُتمرّدين وتجاه مقصد سياسي وتدبيرين ذهنيين يمكن لكليهما على نحو مشروع أن يُعلّل قراءة تاريخية للمصادر التي يتمّ عرضها بوضوح من البداية بإخراج هذا الحدس إلى معنى النسق يخلق المؤرّخون لأنفسهم مشكلات نظرية لا يتمّ تخطّيها إلا بعناء وهم أخذوا موقفًا من نماذج العلوم الاجتماعية، موقفًا لا يتناسب إلا قليلاً مع النزعة النقدية، قبل كل شيء، للتاريخ، وبالنسبة لأي ثقافة لا يتناسب مع الواقع التجريبي للقمع القومي للاتّجاهات العامّية خلال حركة الاستقلال، فضلاً عن نفاد صبرها السياسي من المُثقّفين اليساريين. ومن البديهي أنّ هذا «النموذج» المُتعلّق بدراسات التابع كان يفتقر إلى مادّة سوسيولوجية وأنتروبولوجية، وبدا أنه عاد إلى نقطة الانطلاق لعقود من الأعمال والجدالات، التي أُهمِلَ جزء منها، تتعلّق بمكانة الثقافة الشعبية، والعلاقة بين التقليد الكبير والتقليد الصغير، والتثاقف. ومن الواضح أنّه كان

ص: 113

يعمل على التخلّص من الطبقة، بالرغم من أنّها موضوع مثير للاهتمام في البحث السوسيولوجي حول الهند خلال الفترة الأكبر من القرن المُنصرم. وبينما يقوم بعض أصحاب دراسات التابع بتنحية التحليل الطبقي للحركات الشعبية، كخبراء اقتصاديّون وقائلون بالغائية، فإنّهم على الأقلّ كانوا يفضّلون أن يروا في «الجماعة» الإطار الطبيعي للشعور بالهوية ولتوظيف الفلاحين راجعين بذلك في الظاهر إلى المفهوم الماركسي للجماعة بوصفها إطاراً «طبيعيًا» للحياة الاجتماعية في المجتمعات التي سبقت الطبقة (14- 10 : 1988 Chatterjee). عند اللزوم، وفي بعض الحالات، لم يكن على المرء أن يواجه السوسيولوجيا بقدر ما كان عليه مواجهة العقيدة الاجتماعية، مع ما ينطوي عليه هذا المفهوم من مُسلّمات نضالية وتوجّه نحو الفعل.

إن نقد المُؤرّخين الماركسيين لدراسات التابع كان من دون جدال مُلائما في نقاط عديدة. بإدراكه أنّ أصحاب دراسات التابع يرفضون أي تعيين خارجي لعمل التابع، ولا سيّما أي تفسير اقتصادي للثورات (مسعى موصوف بأنّه واقتصادي)، كان يلوم دراسات التابع على إهمالها دراسة الأسباب وسياق الحركات، كي تحصر اهتمامها بأشكال الجدال الشعبي وذلك كان يعني الدفاع عن مفهوم غير تاريخي ل_ «الميدان المستقلّ» للتابع، وإهمال التحوّلات الخاصّة بالجدال الشعبي من حقبة إلى أخرى (هل كان بمِقدور المرء القبول مثلاً بأنّ الجدال القروي لم يتطوّر في الفترة الحقبة ما قبل الاستعمارية والحقبة الاستعمارية؟ فيما أحدثَ الاستعمارُ تحوّلاً في سياق السلطة؟) إنّ أصحاب دراسات التابع مالوا إلى وصف المقاومة الشعبية بالعنيفة (يُعرف الصراعُ غير العنيف بأنّه نُخبوي بطبيعته)، في حين تختلف أنماط المقاومة بحسب أنماط السلطة أو القمع، وليست المقاومة الأعنف، بالضرورة، هي الأكثر اندفاعًا إلى الثورة. وهم عكسوا حالة من الضلال أمام واقع أنّ قيادة الحركات الشعبية كان يمكن تأمينها بواسطة أفراد غير تابعين، أو بواسطة تابعين أُسبِغَت عليهم روابط مع المجتمع (واقع لا يتلاءم كثيراً مع أطروحة الاستقلال). ورفضوا الاعتراف بأنّ أيديولوجيا التمرّد التابع يمكنه أن تكون مُحافظة، لا بهدف تخريب الترتيب المُعتاد بل على الأرجح عندما كان هذا النظام مُهدّدًا أو مُعرّضًا للخطر، بهدف إصلاحه. في

ص: 114

النهاية، وفي ضوء المسألة المُعقّدة لأشكال ودرجات التفاعل الأيديولوجي والثقافي بین النخب والطبقات الشعبية لا أحد بإمكانه الاكتفاء بالتوكيد المحض لاستقلال الوعي والثقافة لدى التابع لِنضِف أنّه عندما ننسب إلى التابع، كما فعل جوها (1982): (5)، أيديولوجيا «كان يُشكّل أحد ملامحها مفهوم مقاومة ضدّ سيطرة النخبة»، لا نرى كيف يُهتمّ بقبول المحكومين بالسيطرة التي تُفرَض عليهم، التي دامت فترة أطول، في الهند كما في الخارج، مُقارنة بسلوكات المقاومة(1).

لقد كان هناك مشكلات حقيقية. إنّ ما ينبغي أن يُقال هو أنّ الدراسات التي جُمعت في المجلّدات الستة الأولى لا تقلّ أهمية بالنسبة إلى معظم العمل الخاصّ بكتابة التاريخ. إنّ نصوص راناجيت جوها(2)17 التأسيسية جزء من هذه الإيضاحات المُستَلهمة التي تشرع في سؤال جيل من المؤرّخين. إنّ ثراء ومتانة العمل الجديد على الوثائق التي غذّت هذه المجلّدات هما أيضًا أمران لا يقبلان الدحض بقدر توافق هذا العمل مع الأسئلة السياسية للمثقفين الهنود الراديكاليين ابتداءً من الستينات باستثناءات ملحوظة نادرة، كانت الإسهامات الفردية أقلّ «استشكالاً» من نصوص جوها الافتتاحية وكان الأمر يستلزم عدّة سنوات وصدور عدة مجلّدات حتى ترتسم بعض المُلاحظات النقدية المُتعلّقة بالمشهد العامّ التي تُبرز بوضوح الصعوبات النظرية التي جرى عرضها بالنسبة لأعضاء مجموعة الدراسات التابعة، يُعدّ فريقُهم منبر نقاش أكثر منه وحدة تُجاهر بعقيدة مُتجانسة(3). عند هذه النقطة، أي في نهاية الثمانينات، وجدت المجموعة نفسها أمام بديل واحد. أو سعت إلى إحصاء وصفي لأشكال «التمرّد» (insurgency) التابع امتثالاً لِمقصدها السياسي الأول. عندئذ واجهت خطر إنتاج مُكرّر، واضطُرّت إلى مواجهة مشكلة الانحرافات

ص: 115


1- مواقف بحثها لابواتي La Boti في كتاب خطاب في العبودية الطوعية Discours de la servitude volontaire ، وعاد الكثير من المؤلفين مؤخراً للحديث عنه، بدءًا ب- موس فنلي Moses Finley في ما يتعلّق بالعبودية في اليونان القديمة، وصولاً إلى كلود ليفي ستروس، وبيار كلاستر وموريس غودليه في سياقات مختلفة.
2- أي بصورة أساسية إسهامه في المجلد الأول من دراسات التابع (1982) Guha) ومقدمة كتابه الذي صدر بعده بفترة قصيرة .(Guha 1983a)
3- 1986 Hardiman في سنة 1985 كتب د. شكرابارتي : إنّ أعضاء مجموعة دراسات التابع ليسوا «ملة» أسبغت عليهم وجهة نظر فريدة؛ هم بلا شك متحدون أكثر في رفضهم بعض المواقف والنزعات من تبنيهم بدائل بسيطة، أيّا تكن 364 : 1985 Chakrabarty).

الجوهرانية التي بينتها المُلاحظات النقدية، وبالتالي تهذيب طريقتها في التعامل مع استقلال الوعي والفعل للتابع، الذي كان في صميم المشروع الأول. أو غيّرت النبرة، وتخلّت عن غايتها، أي وصف الميدان المستقلّ، في وضعيته، للوعي والتجربة عند التابع، وأحالت جهدها الرئيس إلى نقد النموذج النخبوي للمصادر وكتابة التاريخ. من الجهد النضالي لإحياء الثقافة وتجربة الشعب، كان الانتقال في هذه الحالة إلى تفكيك خطاب النخب. بذلك بقينا في امتداد أحد محاور البحث التي افتتحها جوها، وهو قراءة «نثر التمرّد المضادّ» «بالمقلوب (Guha 1983b). لكن، وهذا فارق كبير، إنّ ما كان بحسب جوها مجرد تقنية توضيح النصوص لخدمة بحث ذي غاية سياسية أصبح عندئذ الموضوع المركزي للبحث ذاته.

المُنعطف ما بعد الحداثي

إنّ هذا التوجه الثاني لعلّه أقلّ التزامًا على المستوى السياسي، لكنه أكثر مُطابقةً للروح الجديدة للعلوم الاجتماعية، هو الذي كانت له الغلبة في المجموعة ابتداءً من نهاية الثمانينات. إنّ ما ينبغي أن يُقال هو أنّ بعض الصياغات النقدية لجوها التي نتجت كما قيل من أرضية التاريخ بدأت تأخذ في الثمانينات في نظر قسم على الأقل من الزملاء (لأنّ الفارق بين جوها ومتوسط عمر أعضاء الفريق هو 25 سنة)، بدأت تأخذ صدىً فكريًا جديدًا. وبِما أنّ الكلام يدور كثيراً حول الموضوع في العدد، فلا مجال هنا للحديث بصورة عمومية عن التأثير الذي كان يُمارَس على شريحة من المثقفين الهنود، وعلى الخصوص الذين يرتادون باستمرار الجامعات الأميركية، من قبل النقد المحيط للعقلانية والنهج المعتاد للتقدّم، والنسبية الابستمولوجية التي تعمل غالبًا على توسيعه. إنّ هذه التيارات الفكرية، وعلى الخصوص الفكرة التي استُمِدّت من ميشيل فوكو التي تفيد بأنّ الحقيقة، التي ما تزال تُتصوَّر منذ عهدٍ قريب على أنّها واقع متعال، لها تاريخ تجريبي لا ينفصل عن الحقل الاجتماعي والسياسي الغربي، وبصورة أعمّ الدراسة الموضوعاتية الفوكولدية الكبرى المُتعلّقة بعقدة سلطة - معرفة، كل ذلك تضمّن بلا ريب دلالة خاصّة من زاوية ما سُمِّيَ ب- النموذج ما بعد الاستعماري. في كتاب

ص: 116

(الاستشراق) الذي هو مُصنّف يتناول حفرية الخطاب الغربي حول الشرق والذي صدر بعد كتاب فوكو (يُراقب ويُعاقب) بثلاث سنوات، بيَّنَ ادوار سعيد أنّ تمثيل الآخر يعني قولبته، وأنّ المفهوم الذي كان يُعطي الشرقي جوهرًا في عصر التوسّع الأوروبي كان أداة إخضاع(1). عن طريق ادوار سعيد بالأخصّ بدًأ ركام الفكر النقدي، الذي يُسمّى على الجملة ب_ ما بعد حداثي، باختراق كتابة التاريخ الهندي ومعه دراسات التابع التي شكّلت موضوع ترسيخ رئيسي.

وتمَثّل أثره الأكثر وضوحًا في انزياح نقد الاستعمار من الحقل الاقتصادي والسياسي إلى الحقل الثقافي ومن ملاحظة جوها بخصوص فشل الدولة الحديثة التعبير عن حقيقة الأمة، في وقتٍ بيَّنَ بنديكت أندرسن (1938)، في كتاب بَلوَرَ ببراعة عالية بعض المسائل الراهنة بينَ حصّة التخيّل في الحركات الوطنية، انزلق المرء إلى التشخيص العامّ لإخفاق الحداثة كتب جوها أنّ «الثقافة البرجوازية بلغت حدّها التاريخي مع الاستعمار ما من فتح من فتوحات الثقافة البرجوازية - الليبرالية والديمقراطية والحرية وسيادة القانون - يمكنه النجاة من الضرورة الصارمة التي تنتمي إلى القدرة على التوسّع والتكاثر وذلك باعتماد سياسة في السيطرة الاستعمارية خارج الحدود». في السياق الفكري الجديد شرع هذا الاستنكار، بالرغم من أنّه لا يقلّ أقدمية عن العداء للإمبريالية نفسها، بتأدية الدور نفسه على الأقلّ بالنسبة لقسم من أنصار دراسات التابع، الذي قامت به الارتدادات البربرية الكبرى في أوروبا في القرن العشرين بالنسبة لعدد من المُفكّرين الغربيين: إنّه بمثابة جهاز كبير في نقد مشروعية «ماوراء الرواية» التنويري وفي نقد النموذج المركزي الأوروبي للتقدّم. لا شكّ في أنّه كان يحتلّ مركز الصدارة في خطاب التحرّر من النزعة القومية ومن الماركسية على حدّ سواء. لكنّ النزعة القومية والماركسية تتشاركان النظرة الأصلية (foundational) للعقل بوصفه شكل كوني، ولأوروبا بوصفها محركًا تاريخيًا لِملحمة التقدّم إنّ هذا الجهاز ما فوق السردي نفسه هو الذي يُبحَث الآن فيه. يقول د. شاكرابارتي (1991: 2163)

ص: 117


1- لقاء إعطاء جوهر بواسطة الاستشراق نفسه، ومن دون الخوض في ما يمكن أن يعنيه الفهم الباتر mutilant ، ومن دون أن يؤخذ بالحسبان الإسهام المدروس لبعض النخب الأهلية فى بناء المعرفة الاستشراقية (وهي الفكرة التي لمح إليها برنار س. كون Bernard Cohn في دراسة له 1985: 284 - 329) نُشرت في المجلد الرابع من دراسات التابع.

إنّه كان هناك «سذاجة نظرية» لدى أصحاب دراسات التابع في الاحتذاء بالخطابات الحديثة الهامّة حول التحرّر كما فعلوا في البداية. يتعلّق الموضوع بأن يُجعل مفهومًا أنّ العقل ليس سوى نموذج ثقافي من بين نماذج أخرى، وب_«ترييف» أوروبا التي هي مرجعٌ نظريٌّ ضمني لكل كتابات التاريخ النخبوية(1) 20. وقد يتعلّق الموضوع ب_«إضفاء سمات التضامن مع العالم الثالث» وذلك من خلال الاضطلاع بالمقاومة وإثارتها عند التابعين في العالم المتطوّر(2). يجب ترميم التباين الثقافي، والتخلّص من الإرهاب التفسيري الذي يشجب كل تضامن غير ممكن تعيينه مع وعي الطبقة بوصفه وعيًا خاطئًا، وردّ الاعتبار ل_ «الأزمنة الاتنية غير المُنظّمة من قبل الدولة والكتابة»(3)،وتصحيح التصوّرات الهويّاتية والمذكرات والدعوات الشعبية المَخفيّة أو المُضطهدة في ظلّ السيطرة الغربية ورواية كتابة التاريخ الحاكمة المُتواطئة مع الحداثة.

بذلك حُدّدَ المكان الذي ينطلق منه الدرس الجديد في دراسات التابع: إنّه التقاء مابعد الحداثة بِمابعد الاستعمار. لا شكّ في أنّ نشأة هذا المشروع أولّا فی الميدان الهندي ليست من الصدفة في شيء. فالهند بالتأكيد هي المنطقة المُستعمَرة في العالم التي عُمِلَ فيها تعليم عالٍ مؤطّر تأطيراً صارمًا من قبل المركز، بالطريقة الأكثر نضوجًا وعلى المستوى الأوسع، والتي نَسَجَ فيها الخطاب التاريخي للحداثة والرأسمالية والديمقراطية الروابط الأقوى، والتي تجمعها بالأوساط الجامعية الغربية أوثق الروابط. وكان باحثوها بالخصوص مؤهّلين لإحداث هذا النوع من الهجوم النقدي على الخطابات التي تُطلق في العواصم (1489 : 29,1994 Prakash). نفهم أيضًا لماذا حقّقت المجموعة خلال المرحلة الثانية شهرة دولية تجعل منها مرجعًا حقيقيًا القسم من المؤسسة الجامعية في ما وراء الأطلسي(4)السبب هو أن هذه الشهرة تعطي التجمّع ما بعد الحداثي ترسيخًا خارج الجغرافيا الغربية، في حين تبدأ بالانتشار

ص: 118


1- Chakrabarty 1992 (article repris en traduction in Diouf 1999).
2- Prakash 1990b: 403 (également repris in Diouf 1999).
3- Diouf 1999: 24, d'après une formule de Jacques Le Goff.
4- حَظِيت هذه الشهرة بدعم قوي من خلال صدور مقتطفات حول دراسات التابع في الولايات المتحدة، تحت إشراف راناجيت جوها وغاياتري سبيفاك، وقدّم لها ادوار سعيد (1988 Guha Spivak).

في مناطق أخرى من الجنوب، وعلى الخصوص أميركا اللاتينية، حيث سوء الفهم والتناقضات بين الحركات القومية والفئات التابعة تنطوي على تناسب في الحالة الهندية. لكنّ قسماً كبيراً من النقاش المُحتدم في الهند نتيجة صدور المجلدات الأولى من المجموعة قد سقط مُجدّدًا (84 : 1997 Sarkar).

وما يُدرك من الخارج بوصفه إعادة توجيه هو على الأرجح يُتصوَّر من قبل غالبية أعضاء المشروع على أنه المرحلة التي وجدت فيها المجموعة، بعد المرحلة الأولى من النقاش الداخلي المنفتح، وجدت الاتّساق حول إشكالية مُعقّدة. كان من الواضح أنّ تسليط الضوء على الوعي التابع (بدلاً من شروط العيش أو تاريخ صراعات الشعوب التابعة في السياقات الإقليمية الخاصّة) الذي كان الأثر اللافت للمشروع، أفضى إلى مأزق إذا كان الأمر يتعلّق بإعادة بناء التابع بوصفه ذاتا مستقلّة عن خطاب النخبة. ينبغي بذلك تخصيص الكلمة الأخرى للبديل والاعتراف أخيراً، وبصورة نهائية بأنّ وضعية التابع، التي يُنظر إليها غالبًا نظرة خاطئة من قبل فئة سوسيولوجية، ليست جوهرًا بل علاقة ، ولا وجود لها إلا بوصفها تنشأ على يد خطاب النخبة (الاستعمارية والقومية) كقوة مقاومة ضدّ هيمنة النخبة. إنّ هذا الموضوع جرى تناوله في كتاب بارتا شاترجي الصادر سنة 1986 Nationalist Thought and the Colonial World إنّ هذا المُصنّف يُظهر أنّ الخطاب القومي للنخبة الهندية، المُقابِل للخطاب الاستعماري الذي يجد جذوره في المؤلّفات الأيديولوجية، والذي خطاب الحداثة البرجوازية واجه تناقضًا أساسيًا وهو أنّ النخبة كانت مُضطرّة إلى الحديث باسم الجماهير عندما كانت تريد أن تتصارع مع السلطة الاستعمارية لكنها شككت في الوقت عينه وانطوت بكدّ على الاستقلال الذي لا يُقهَر لِنمط نزاعها. إنّ مهمّة المؤرّخين كانت قبل كل شيء تفكيك الخطاب الحاكم والضابط للنصوص الاستعمارية والقومية بغية استخراج المكبوت، أعني الثقافة والتجربة والذاكرة المحذوفة للشعب. إنّ هذا العمل بلا شكّ عرّض المؤرّخ لتوتّر دائم بين فكرة أنّ وضعية التابع هي قبل كل شيء أثر وضع (effet de situation ، والنزعة التي من الصعب تفاديها، إلى تمثيل تلك الوضعية بوصفها كيفية. ولا يقلّ عن ذلك

ص: 119

وضوحًا أنّ المشروع لم يكن هدفُه بالدرجة الأولى اقتراح نموذج جديد للتنضيد (stratification) الاجتماعي (الذي سيكون تبسيطيًا)، وإنما كان هدفه إعادة دمج السلطة كمعطى مركزي للتنظيم الاجتماعي، والبرهنة على أنّ النظرة الليبرالية البرجوازية للدولة - الأمة بوصفها وحدة جمعية واتفاقية، هي خاطئة في الأساس.

إنّ سيّئة هذا الاستقطاب باتّجاه «نصّية» (textualité) الاستعمار والنزعة القومية وباتّجاه نقد خطاب النخب هي أنّه يُزيل الطابع المادّي نهائيًا عن ميدان التنافر بين النخب والتابعين بهدف حصره ضمن نسق الثقافة. إنّ المسافة ضمن الحركة ذاتها التي تَفصلنا عمّا كان يُصنّف بأنّه النموذج الكوني الغربي للعقلانية أدّت إلى تقويم الفرق لأجل ذاته، بمعزل عن أي معايير أخرى غير مقاومة لسيطرة الحداثة التي تؤمّن الانتظام. شيئا فشيئا، ينتقل الكثير من أصحاب دراسات التابع من التعارض المزدوج نخبة / تابع إلى التعارض حداثة غربية / ثقافية أهلية. ويميل إلى ردّ الاعتبار، دفعة واحدة، لإنسان ما قبل الاستعمار باسم نقد الاستعماري، أو (في ما يتعلّق بالهند المعاصرة) ردّ الاعتبار للأقلّي والهامشي باسم نقد الدولة - الأمة التي نتجت من النضال من أجل الاستقلال، والتي تُجسّد في الهند الحداثة السياسية التي تقوم على الاضطهاد وتَرجع الأصل إلى أيديولوجيا الأنوار. يُحلّل جيان براكاش (الذي التحق حديثًا بفريق النشر الخاصّ بدراسات التابع)، مثلاً، في كتاب رائع صادر سنة 1990 (Bonded Histories: Genealogies of Labor Servitude in Colonial India الطريقة التي تطورت بها العلاقة بین الفلاحين الحاكمين في «بيهار» والتابعين الذين يستخدمونهم كعمال زراعيين منذ الحقبة الاستعمارية. إنّ التمييز بين المُستخدِمين والعمال، برأي ،براکاش لم يفعل سوى تجسيد اختلاف وضع خاصّ بالمجتمع التراتبي للطبقات. إنّ هذا التوزيع الوظيفي تضمّنَ حقوقًا وواجبات ضمّت كل جوانب العيش، واحتوت بخاصّة على علاقات الاعتماد التي لم تكن أساس العلاقة (مُستخدم - مستخدَم) بل مجرد جانب إضافيّ لها. باقتفاء أثر إلغاء العبودية في الهند باسم المثل الأعلى الليبرالي للأنوار وَصَفَ البريطانيون من جديد في القرن التاسع عشر، علاقة التبعية وصفًا قانونيًا للملاءمة بينها وبين الحق الحديث وجعلها قابلة للتصحيح من خلال

ص: 120

الوسائل القانونية العاديّة. وعندئذ ماثلوا بينها وبين التزام عمل تعاقدي مُوقّع في مقابل اعتماد. لكن يتّضح أنّ هذه الاستدانة التي تُثقل على أفقر الفقراء لا يمكن تسديدها لأنّ مداخيلهم زهيدة جدًا. إنّ البريطانيين، من خلال الإصلاح، أسّسوا عمليًا العبودية عن طريق الديون، وحوّلوا المُزارع إلى إنسان غير حرّ. إنّ الجهود اللاحقة للدولة لإلغاء هذا النوع من العبودية فشلت حتى اليوم، وأصبح العنف في العلاقة بين المُستخدِم والمُستخدِم التي تقتصر على العامل الاقتصادي أصبح لا يُغتفر.

إنّ قوّة تأثير هذا النقد للحداثة لا يأتي من كونه يسنح للحداثة بالظهور وهي غير تامة وتنقصها الفعالية، بل من جهة أنّه يكشف أنّها مُحرّفة. هناك عدد قليل من أصحاب دراسات التابع سوف يكتفون بالإجابة الكلاسيكية المُقابلة لِهذه الملاحظة، التي تُفيد أنّ النزعة الإصلاحية الليبرالية في مُحيط غير غربي تؤدّي لا محالة إلى نتائج جزئية أو مُزيّفة تولّد بدورها توتّرات وإخفاقات غالبًا أسوأ من الشرّ الذي تدّعي النزعة الإصلاحية تصحيحه. عبّرت ديبيش شكرابارتي سنة 1995 عما هو مشترك بين هذا التشخيص وعيوب المركزية الأوروبية للاستشراق: «لماذا ما تزال الحداثة المستقبل الذي ينتظرنا بعد مرور أكثر من مائتي عام على إدخالها على يد الإمبريالية الأوروبية ؟ كم من الوقت يحتاج الهندي ليصبح عصريًا؟ إنّ الحداثة المُمتلئة والكاملة ستكون شيئًا جيّدًا، وتجسيداً للرفاهية والعقلانيّة ولا :نقول ما نملكه هو كل ما لدينا نقول ما لدينا ليس سوى نسخة سيئة لما هو جيّد في ذاته. ونُضيف أنّه ما زال علينا أن نتقدّم. إنّ الانتقال من نبرة النحيب إلى نبرة السخرية هو الانزياح الذي يُحدثه الجحود في مقابل ماوراء الروايات الأوروبية في عصر التنوير . إنّ سخرية المؤلّف تختصّ بالجملة الافتتاحية في أحد كتب سومیت ساركار (الكتاب الأفضل حول تاريخ الهند في عصر القومية)، حيث قِيل إنّ الهند أتمّت في القرن المنصرم أكبر عملية انتقال في تاريخها، «انتقال بقي مع ذلك من نواحٍ عدّة غير تامّ»(1). أمام خطاب الحداثة المُهيمنة والتقدّم، وأمام «دعاية العقل»، و«الهوس الأحادي للخيال عند الشخص العالم

ص: 121


1- D. Chakrabarty 1995: 755. Le manuel en question est Sarkar 1983; mes italiques.

القاضي والمُعلّم الذي يعلم دائمًا ما هو جيد للعالم قبل أن يتأكّد»، يجب، برأي شکرابارتي، «الذهاب إلى التابع»، «وتركه يطرح تصوّراتنا للكون» و«الاستعاضة عنها بالوجداني والديني» و «بما رأينا أنه لاعقلاني بعد أن صارت حديثة»(1).

إنّ وصف التابع ضمن هذه النظرة ، ليس سوى عنوان مُتآلف يُشير إلى كل أشكال التباين الثقافي التي استمرّت في الوضع الاستعماري، وإلى كلّ ميادين الفكر والتجربة في المجتمع المحكوم التي بقيت غير قابلة للولوج إليها ومُتمرّدة بالنسبة للسيطرة الاستبدادية التي مارستها العقلانية التنويرية والحداثة الغربية والدولة - الأمة الخاصّ أو المنزلي في مقابل العامّ (أي الميدان السياسي والاقتصادي والإداري والتقني حيث تسود السلطة الاستعمارية)، الديني الفنّي العاطفي في مقابل العقلاني الجماعي والمحلّي والهامشي في مقابل الدولي (etatique) والوطني، وبالتأكيد ما قبل الاستعماري في مقابل كل ما جاء من بعد إنها ميادين البحث الاختيارية الخاصّة بِدراسات التابع. وكلّها تُحلّل في مقابل النموذج الاستعماري الحديث، وقتٍ تُشير إلى وجود تباين وتتميّز بوصفها «غير قابلة للقياس»، ويمكنها أن تتجلّى كنماذج مضادّة (نُورِد مصطلح ما بعد حداثي الذي يرِد الآن على نحو واسع عند مؤلّفينا). ثمّة كلمة مفتاح أخرى هي «الجزء»، التي هي ضدّ متعدّد المعاني للسيد والعنصر الكوني، والمتجانس، والمُستمرّ، والتي تنطبق بخاصّة على الأجزاء الاجتماعية المُضطهدة التي أخرستها الدولة - الأمة، والتي لها مشروع تابع يقصد إلى ترميم الكلام (2)عن طريق العدوى، تنقسم بنية الكتب نفسها، وتنتهي الفصول بلا خاتمة : كتب شاترجي (1993 (13) التعبير عن الذات باسم الجزء واردٌ أيضًا، وليس من غرابة في ذلك، إنتاج خطاب هو ذاته مُقسّم (1995 cf. Amin) أخيرًا المصادر هي غالبًا أكثر فأكثر أدبية. هذا يُفسّر بلا ريب جزئيًا بأنّ دراسات التابع وضِعَت في الأصل من قبل راناجيت جوها تحت تأثير النقد النصّي، وبأنّ أقسام الأدب في الجامعات الأميركية هي أحد مراكز رواج الأسئلة الابستمولوجية التي تُلهم اليوم كتّاب

ص: 122


1- Chakrabarty, ibid: 757 et 753.
2- Cf. Pandey 1992 (repris in Diouf 1999); Chatterjee 1993.

المجموعة (ادوار سعيد وغاياتاري سبيفاك الأعضاء البارزة في الفريق، وهما ينتميان إلى هذا التجمّع) لكن يجب النظر بخاصّة إلى التأثير الناتج من انتقال الاهتمام من الوثائق الاستعمارية باللغة الانكليزية إلى الأدب المطبوع باللغات المحلّية (.A 1996 Chakrabarty 1995; Ramachandra Guha). إنّ هذا الأدب الهالك الذي كان مُتشتّتّا ولم يُحفَظ إلا قليلاً(1)يفتح حقل بحث كثير الوعود أمام التاريخ الثقافي. إنّ هذا الحقل لم يكن مجهولاً عند الباحثين، بل ازداد عدد الذين يختلفون إليه منذ ما يقارب خمسة عشر عامًا، بالرغم من أنّ المعالجة المُلائمة لمختلف مستويات القراءة، التي يفترضها الاستعمال التاريخي لهذه المصادر، تقتضي إجراءات نقدية مُنظّمة جدًا. ومن البديهي أنّنا نبتعد أكثر من خلال هذا الجانب عن الاهتمام الحصري بالتابع الأمي الممنوع من الكلام والخاضع للنخب أكثر من السلطة الاستعمارية، والذي كان محور الحديث في دراسات التابع. يتعلّق الموضوع قبل كل شيء بالهوية الثقافية، فالمعيار المُميّز الذي يُدير موضوع الدراسة هو درجة المناعة أمام غزو الحداثة الاستعمارية. إنّ موضوع کتاب هاردیمنD (Hardiman. الأخير، العضو المؤسّس لِفريق البحث عنوانه (Feeding the Baniya (1996) الذي يبحث بمهارة اضطهاد الفلاحين من قبل المُقرضين بالربا في الهند الغربية إبّان العصر الاستعماري، إنّ موضوع الكتاب المذكور لا يبدو لائقًا.

إنّ الصعوبات والمُلاحظات النقدية التي يخوض فيها هذا التوجيه تحمل، في الآن نفسه طابعًا علميًا وسياسيًا. لقد تخلّى أصحاب دراسات التابع عن كل مقاربة حول ثقافة وفعل التابع «تُضفي الطابع الأنتروبولوجي» على التباين الثقافي بإرجاعه إلى التأويل الكوني للعقلانية، في حين يرفض التابع تاريخیًا يضع ويُسمّي النشاط الجدالي للتابع بالهامشي أو الرجعي (reactionnaire) بحسب معايير ماوراء الرواية المُتعلّق بالتقدّم. يُضيف شكرابارتي (1998) أنّ المَسألة تتناول سرد تاريخ «جيّد» يُناسِب الخطابات التي تتناول منهج روبن

ص: 123


1- La Vernacular Tracts Collection » de l'India Office Library (la structure qui abrite les archives colonials de l'Inde à Londres) est un des conservatoires les plus utilisés de cette littérature.

ج.كولنغود ومنهج ادوار کار ومارك بلوخ ، بقدر ما تتناول المعرفة المُدمّرة من دون الاستغراق في اللاعقلانية، يجب إخراج التاريخ إلى أقصى مداه، والرجوع إلى أشكال عديدة للديمقراطية لعلّنا لم نفهمها بعد جيّدًا (1998 Chakrabarty). بذلك فإنّ أصحاب دراسات التابع انتقلوا من نقد كتابة التاريخ النخبوية الغالِبة، المُذنبة بحجب ميدان استقلال التابع إلى النقد المَحض والبسيط للتاريخ بوصفه اختصاصًا مُطابِقًا لِلأنساق المقالية الكبرى للحداثة. بعد شجب إنسانوية التنوير بوصفها العامل الذي لم تُوضّحه الماركسية، يضمّ نقد الحداثة، من منظور دراسات التابع، فكر ماركس الذي تأثّرت تحليلاته بخطاب تحرّر قدّم في ما مضى تبريرًا للتوسّع الاستعماري لأوروبا ويصلح اليوم لِتسويغ الدولة - الأمة (1994:1489 Prakash - (1490). تلك هي أسئلة كبيرة. لكن ينبغي مُلاحظة أنّ أصحاب دراسات التابع يصنعون دائما التاريخ في أغلب الأحيان بموهبة، وليسوا بفلاسفة إلا مُصادفة. من البديهي أن يقود التقويمُ النسقي لِإنسان ما قبل الاستعمار أو الأهلي في مقابل الاستعماري، الذي عولِجَ من غير تمحيص کاداة للتاريخ مُساعدة على الكشف من البديهي أن يقود إلى التبسيطية الأكثر تشوّهًا، أسهل من تشييء التعارض نخبة تابع. ويمُثّل بمعنى ما العنصر السالب في الطابع الذي رسّخته عميقًا كتابة التاريخ في الأذهان، والذي يجعل من الاحتلال الأوروبي رقابة عرقية وبداية في كل ميادين الحياة الهندية. لكن، من خلال السعي إلى تنسيب (relativiser) هذه المُسلّمة للتقدّم نحو نظر أكثر تباينا للسيرورات التاريخية إنما صنعت كتابة التاريخ في الهند في الأعوام العشرين الأخيرة بعض التقدم الذي لا جدال فيه.

ص: 124

الفصل الثاني الاستعمار القديم

اشارة

ص: 125

الاستعمار المنتشر:نحو نظریة معرفة لفهم زمن الاستعمار

اشارة

أحمد رهدار(1)

الاستعمار في أكثر معانيه عمومية هو الاستفادة من الآخرين رغماً عنهم ودونما تقديم أي تعويض لهم ، الاستعمار منذ القديم وحتى الآن، ولأسباب تخصه قام بتغيير شكله القديم وحتى شكله المعاصر، ولكن رغم هذه التطورات والتحولات إلا أنّ روحه - المتمثلة بالتسلط على الآخرين - مازالت كما كانت... تحوّل الاستعمار من شكل لآخر - كما هو حال كل الظواهر الاجتماعية الأخرى - تم بشكل متدرج وليس

- بشكل مفاجئ، لذلك من الصعوبة وضع حدود زمانية أو مكانية بين هذه التحولات دون الاستفادة من وسائل مساعدة واشارات وطرق محددة إنّ عصرنا الحالي يشهد وجود استعمار هو من أشدُّ الاستعمارات تعقيدا والذي يتميز بخصائص منها التخفي والانتشار والتجهز بأدوات تقنية وحديثة .... الخ في هذا الزمان، تم تعريف دول الغرب بالعالم الأول، رمزاً للاستعمار ، كما تم تعريف دول الشرق بالعالم الثالث رمزاً للمستعمرات، إنّ التعرف على ماهية ووجوه خطط الاستعمار في أي عصر كان وتاريخ تطوره وتحوله إلى أشكال معقدة أكثر فأكثر، يساعد المستعمَرين في فهم الاستعمار والقدرة على مواجهته

ص: 126


1- عالم دين وأستاذ العلوم السياسية في جامعة باقر العلوم - قم، ورئيس مؤسسة (فتوح انديشة) للدراسات والتحقيقات الإسلامية - ايران.

وهذا المقال هو في صدد ذكر خصائص الأشكال المختلفة للاستعمار وتبيين ظاهرة الاستعمار المعاصر الذي يعد من أكثر انواع الاستعمارات تعقيدا.

الألفاظ الهامة: الاستعمار القديم الاستعمار الجديد، الاستعمار المعاصر، صحوة الصفوة صحوة العامة والتكنولوجيا المخفية.

التوسع العالمي والتوسع الدولي

التوسع العالمي وهو من أقدم أشكال الاستعمارات (1)بالمعنى العام والذي كان يهدف إلى ضم الدول المجاورة له واحتلالها عسكريّاً عن طريق الغارات السريعة بحثاً عما يمكن سلبه ونهبه في هذا النوع من الاستعمار يقوم البلد المستعمر باحتلال البلاد الاخرى بداية من حدوده مع الدول المجاورة له وحتى آخر نقطة يستطيع الوصول اليها، وبسبب فقدان هذا النوع من الاستعمار لخطط بعيدة الأمد وكذلك فقدانه الوسائل الارتباطية والاتصالية وأدوات التحكم الشامل و...الخ فإنه لا يستطيع تحقيق وجوده الفيزيولوجي داخل أراضي البلد المحتل إلا إذا قام بضم هذا الأخير إلى أراضيه وعين من جانبه حاكماً عليه، لذا فإن هذا النوع من المشكلات يدفع المستعمر إلى مضاعفة جهوده من أجل الحصول على أكبر كمية ممكنة من خيرات البلد المحتل في وقت قصيرٍ جداً.

كما أن الحصول على خيرات البلد المحتل لا يمثل المطمح الوحيد في شكل التوسع العالمي، إنّما أيضاً السعي الشديد وراء الانتقام الذي يجد جذوره في الخصومات القديمة بين الدول المتجاورة، لذلك فإن هكذا استعمار كان على الدوام يُخلّف وراءه إرثا من الخراب والدمار في البلاد المستعمَرة، دمارٌ بمستوى الدمار الذي يمكن أن تخلفه قنبلة نووية في زماننا الحاضر، فمثلا نيرون الذي قام باشعال النيران في مدينة روما ببشرها ومساكنها وكل ما كان فيها ، وأيضاً الاسكندر الذي هدم عرش جمشيد... فإذا أخذنا بالاعتبار التكلفة ومتاعب بناء مثل هكذا مدن في ذلك الزمان فإنه ستتضح الصعوبة الكبيرة في اعادة بناء هذه المدن المهدّمة من جديد.

ص: 127


1- الاستعمار بالمعنى الخاص هو تلك الظاهرة الوليدة المتزامنة مع التمدن، مع امكانية اطلاق هذه التسمية على اشكال السلطة ما قبل عصر التمدن أيضا.

في عصرنا أيضاً، إذا شك البلد المستعمِر بقدرته على البقاء لمدة طويلة داخل البلد الذي قام باحتلاله فإنه يقوم باللجوء إلى أسلوب السلب والنهب والغارات السريعة، كما كان حال العراق في إغارته على الكويت في بدايات العقد التاسع من القرن الماضي، لكن وبالنظر إلى وجود الأمم المتحدة، ووسائل الاعلام العالمية، وصحوة الأمم و.... فإنه يمكن القول بأن التوسع العالمي في عصرنا الحالي قد وصل

إلى درجة الصفر.

2) الاستعمار القديم
2-1 الاحتلال العسكري

هذا النوع من للسيطرة على البلاد التي يدخلها ضمن خطط طويلة الأمد يعمل من خلالها جاهداً لنهب مدخرات ومنابع البلاد الأصلية، وفي هكذا شكل للاستعمار فإن الشعب المستعمر يُظهر أنواعاً من المقاومة في مواجهته لغاصبه، الأمر الذي يُجبر المستعمِر على تقديم بعض الاصلاحات والخدمات، وقد شهدنا مثل هذا الأمر في الهند التي كانت مغتصبة من قبل الانكليز، حيث أظهر الشعب مقاومة أجبرت الانكليز على اتخاذ خطوات إصلاحية وخدماتية.

إن عملية استعمار بلد ما بالاضافة إلى أنها تحمّل البلد المستعمر تكاليف ضخمة إلا أنها أيضا تجرّ عليه تبعات تاريخية كثيرة.

وأحد أهم هذه التبعات هو الكره الذي يبقى في أذهان الناس المستعمَرين تجاه البلد الذي قام باستعمارهم سابقاً، وهكذا نوع من الكره - خصوصا حين يترافق ذلك مع تنامي صحوة الشعوب المستعمَرة وأيضا تحقق بعض العوامل القومية والوطنية - يتأثر ببعض العصبيات القومية والإقليمية والدينية والتي لا يمكن أن تزول ببساطة حتى في حال حصول البلد المستعمَر على استقلاله وبداية قيامه بعلاقات ودية تدريجية مع البلد الذي قام في الماضي باستعماره، إلا أن تلك المشاعر تبقى مخفية

ص: 128

في طيات ثقافة الأمة المستعمَرة وجاهزة للظهور في وقتها لتلعب دوراً في الرفض وحتى في قيام ثورة ضد البلد المستعمِر

2 -2) استعمارات تجاوزت حدود الجيران:

فى الاستعمارات القديمة لم يكن من الضروري دائما أن يكون البلد المستعمر مجاوراً للبلد المستعمَر، إنما في حالات كثيرة كانت المسافة بعيدة جداً بينهما (العديد من الدول الشرقية المستعمَرة - في القرنين 18 و 19 للميلاد - كانت تبعد كيلو مترات كثيرة عن الدول المستعمرة لها) لذا فقد واجهت عملية الاستعمار مشكلات عديدة، فمن جهة قلة قوات المستعمِر المتواجدة على أراضي المستعمرة، ومن جهة أخرى المقاومة المتزايدة والمتسعة - رغم أنها مخفية وبسيطة - من قبل الشعوب المستعمَرة، ومن جهة ثالثة إمكانية إدخال أكبر عدد ممكن من القوات وبأقصر وقت إلى البلد المستعمَر، أمر غير ممكن ، إلا أن كل هذه المشكلات تبدو غير ذات أهمية في مقابل الأرباح التي يجنيها المستعمِر .

إن الدولة المستعمِرة من خلال متابعتها لمنافعها بعيداً عن حدود أراضيها فإنها تحقق شكلين من الربح، فمن طرف تستحوذ على منافع ومنابع البلد الآخر، ومن طرف آخر فانها تنأى بنفسها إلى حد ما عن الأخطار الخارجة عن السيطرة كالأمراض السارية والمميتة أو الزلازل والسيول أو الحملات الخارجية و... وغير ذلك مما يمكن أن يهدد أمن وسلامة الدولة المستعمرة، حيث إنّ مثل هكذا أخطار يمكن أن تنتقل من البلد المستعمَر في حالة جاور البلد المستعمِر.

3 -2) يقظة الصفوة في الأمم المستعمَرة:

إن من نتائج هذا الاستعمار حدوث نوع من اليقظة في بعض شرائح الأمة المستعمَرة، وهذه اليقظة الحاصلة نتيجة الاستعمار القديم عادة ما تكون بين الصفوة من الطبقات الدينية والعلمية والسياسية والعسكرية الموجودة في الأمة المستعمَرة - وهذا ليس أمراً حتمياً في كل الأمم، وبسبب قلة الوعي العمومي كثيراً ما يكون

ص: 129

هؤلاء الصفوة وحيدين في مواجهة الاستعمار وغالباً ما كانوا يفقدون أرواحهم فداءً لقضاياهم، إنّ المفارقة المهمة فيما بين الاستعمار وطبقة الصفوة أو النخب الواعية في عملية إيقاظ الأمم المستعمَرة تنبع من نقطة هامة وهي أن أي رد فعل يصدر عن الاستعمار في مواجهة الصفوة سينتهي بضرر يصيب الاستعمار، حيث إنّ هذا الأخير لا يستطيع ترك الصفوة لينتشروا على راحتهم لأن هذا يعني أنه بعد مدة قصيرة سيخرج جمع لا يستهان به من الناس بشعارات الاستقلال والحرية، وأيضا لا يقدر أن يصد الصفوة ويتعامل معها بقسوة حيث إنّ ذلك سيوقظ العصبيات الدينية والقومية وسينتشر الغضب الشعبي الذي كان متخفياً وهذا سيكون لوحده سببا لليقظة الشعيبة(1) ولكن التجارب التاريخية تُظهر بأنّ الاستعمار عادة ما يختار الطريقة الثانية من الطريقتين المذكورتين أعلاه، ونفس تلك التجارب أيضا أثبتت أنه في كل مرة يتعرض فيها نخب الأمة للسلوكيات العدائية من قبل المستعمر فإن النتيجة لا تكون فقط في أن صيحاتهم لا تخمد بل وتعلو أكثر وتزداد انتشاراً.

3) الاستعمار الجديد:
1 -3) الحضور غير الفزيولوجي والاستفادة من القادة المحليين:

الاستعمار الجديد هو الاستعمار الذي حدّ فيه البلد المستعمَر من وجوده داخل البلد المستعمر إلى أقلِّ درجة ممكنة، وفي هذا النوع من الاستعمار يكون القادة جماعة من نفس أفراد البلد المستعمر ، ويعمل تحت إشرافهم قلة من القوات الأجنبية المنتمية إلى الاستعمار، ونجد من الأمثلة البارزة على ذلك ايران في عصر الحكم البهلوي وتركية في عصر حكم أتاتورك.

القادة المحليون في هذا الشكل من الاستعمار الجديد يحظون بحماية واضحة

ص: 130


1- هكذا مفارقات يمكن أيضا أن تصح في علاقة الدولة مع الثوار أحد أهم التناقضات الأساسية للثورة هو أن سعي الدولة لتجنب الثورة من خلال الاصلاحات أو اخماد الثورة غالبا ما ينتهي بنتائج أسوء حيث تزيد من حدة مطالب التغيير وتهيج أعمال الدولة غير الصحيحة مشاعر الغضب أكثر . جاك كلدستون مطالعات نظرية تطبيقية وتاريخية في باب الثورات»، ترجمة محمدتقي دل فروز (طهران، کویر، ط 1 ، (1385، ص 31.

ومباشرة من قبل المستعمِر ، ويتم تربيتهم بناء على نوعين من السياسة:

أ- التجربة التاريخية تشير إلى أن الاستعمار الانكليزي كان يحاول ربط القادة المحليين به بصورة عائلية حيث كان ينتخب بعض العوائل (التي تعد من طبقة الأشراف والأعيان وطالما أظهرت تضاداً في اتجاهاتها التيارات والأحزاب الشعبية) ويعمل على استثمارها من خلال دعوة أبنائها للدراسة في جامعاته في الخارج، حل مشكلات العائلة السياسية العالقة من دون طلب أي مقابل لذلك علماً بأن الاستعمار هو من أوجد هذه المشكلات للعائلة بشكل سري منذ البداية، جذبهم ليصبحوا أعضاء في جماعاتها ومؤسساتها السرية كالماسونية، وهكذا فالانكليز يعتقدون بأن استثمار العائلات والاستفادة منهم خصوصا في جو العلاقات الشرقية يعد الأفضل على الاطلاق لأن العائلة ستصاب بتلوث سياسي كامل داخلها وهذا سيحمي أفرادها من الضغوط العائلية النفسية في حال تلوث بعضها وبقي الآخرون من أصحاب الولاء الوطني.

ب) بقية المستعمِرين من غير الانكليز لا يعتمدون سياسة استثمار العوائل وإنما يعملون بحسب ما تقتضية الحاجة وتستلزمه المرحلة، فأحياناً يقومون بانتخاب فرد واحد من عائلة يقومون بتربيته وتنشئته تحت إشرافهم حيث إنهم يعتقدون بأنّه حال كشف أمر هذا الفرد وظهرت خيانته فإن الدولة المستعمرة لن تجبر على دفع ثمن باهظ لقاء ذلك، في حال أنه في الأسلوب الانكليزي يتوجب على الدولة المستعمِرة في سياق حمايتها للأسرة بكاملها تحمّل أعباء ميزانيات ثقيلة تدفعها من أجل حماية بعض القوى غير المفيدة أو غير الفعالة بل والمكلفة جدا.

في الاستعمار الجديد - وعلى عكس الاستعمار القديم لم يكن من الممكن حدوث أي علاقات متبادلة بين المستعمِرين والصفوة من الأمة المستعمَرة، وكلما مضى الزمان أكثر كلما تزايد العداء بين الطرفين - يكون هنالك نوع من التعاقد غير المكتوب، ولكنه واضح وجلي أمام العيان، بحيث يقوم الاستعمار بحماية الصفوة أو النخب وتحقيق أهدافهم خصوصاً السياسيّة منها المتمثلة في حصولهم على مناصب

ص: 131

تناسبهم وأيضا عزل منافسيهم .... وفي مقابل ذلك يقوم الصفوة بالدفاع عن مصالح المستعمَرين.

2- 3) يقظة العامة:

من نتائج هذا الاستعمار إيجاد نوع من اليقظة - هذه المرة ليس فقط على مستوى الصفوة الذين أصبحوا أعوانا للاستعمار - بين العامة من الناس، بحيث يصل التبصر إلى حدّ تجبّر فيه طبقة الصفوة على تحديد موقفها بشكل صريح وواضح ، أما (مع) أو «ضد» التحرك الشعبي، ففي المرحلة التي تبلغ فيها اليقظة أوجها يكون صمت الصفوة أو اتخاذهم للحياد بلا معنى وهكذا فإن ضغوطات الأفكار العامة في مثل هذه الأوضاع يصل مرحلة يكون فيها الصفوة من الذين لا يريدون أن ينضمّوا إلى الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي وفي ذات الوقت لا يمتلكون من روح الثورة الشيء الكثير، مثل هؤلاء يُجبرون على ارتداء لون السواد الأعظم من العامة.

يقظة العامة هي من أفظع الأوضاع التي يمكن أن يواجهها الاستعمار، لأنها من أكثر المواجهات التي تفرض ميزانيات كبيرة وتشبه إلى حد كبير الموارد المستحيلة، إن الفارق ما بين يقظة النخب ويقظة العامة يمكن توضيحه في مثال واحد، كأسد أو عدد من الأسود الذين يقومون بين الفينة والأخرى بالهجوم على قرية فيقتلون من أهلها، ومع تكرر هذا الوضع يندفع شيوخ القرية وكبار السن فيها وأيضاً بعض الشباب من أصحاب المروءة لاتخاذ قرار صارم في هذا الشأن، وفي النهاية يتفقون على قتال الأسود وفي وقت معلوم يخرجون للقضاء عليها، رغم أنهم يعلمون بأنهم في هذه المعركة سوف يصابون ببعض الخسائر إلا أن أمر تلك الأسود سينتهي ولكن ماذا لو كان مكان تلك الأسود المهاجمة جيش من ملايين الجراد أو حتى النمل ؟ فهل سينتهي الأمر بمثل تلك المواجهة السابقة؟ قد يكون الجواب نعم ولكن الشيء المسلّم هنا هو أن مواجهة النمل أو الجراد سيحتاج تكاليف أضخم بكثير من مواجهة عدد من الأسود، وكذا فإن صحوة عامة الناس تشبه هجوم ملايين من الجراد والنمل، والتجربة أثبتت بأن الاستعمار لا يستطيع

ص: 132

محو شريحة كاملة من عامة الناس في بلد ما، ولكنه استطاع في مرات كثيرة إزالة النخب المخالفة له.

3-3) حذف الدين من محافل القوة:

فی الاستعمار الجديد، وعلى الأقل على المستوى النظري (وبالطبع على المستوى العملي أيضا إلى حد لافت للنظر) فإن الدين لا يُلحظ وجوده في مناسبات القدرة، وقصة حذف الدين أو تنحيته عن المحيط الاجتماعي منذ بداية الغرب الجديد وحتى نهاية عصر الاستعمار الجديد مرت بعدة مراحل نشرحها فيما يلي:

(أ) بعد ثورة فرنسا الكبرى حدث هنالك انقسام في مسيرة التاريخ الغربي مابين التقليدي والحديث بحيث تقدم الحديث على التقليدي وصار من المعروف أن بداية الحداثة غير ممكنة إلا في حال انتهاء التقاليد القديمة لهذا توجه الإنسان الغربي نحو الحداثة أكثر، ونتيجة لذلك لم يبق للتقاليد سوى ذاكرة وخواطر الإنسان الغربي لتسكنها بعيداً عن ميدان الحياة الفعلية وخارجها .

ب) في المرحلة التالية تم تفسير الدين على أنه من التقاليد، وتحديده ضمن الخاصة الممارسة ضمن

الطقوس التقاليد، أو على أقل تقدير بأنه من الظواهر البارزة داخل محيط التقاليد وهكذا وبما أنه جزء من التقاليد المحكوم عليها بالتهميش فقد كان من الطبيعي الحكم على الدين أيضا بذات الشيء.

ج) في المرحلة الثالثة، تم تقليص الدين إلى مجرد تقليد، وبالتالي أُخرج من ميدان المجتمع لينحصر في المجال الفردي فحسب وهو ما أدى إلى رفض المرجعيات الدينية ضمن الميادين الإجتماعية بل وأسوء من من ذلك حيث أمست المناسبات الدينية تجري تحت ظل المناسبات والقواعد الإجتماعية وصار الدين أحد المؤسسات والدوائر التي يتم تعيين مصيرها من خلال السياسات الإجتماعية.

د) في المرحلة الرابعة تم تقليص تعاليم هذا الدين وتحجيمها، ففي أفكار كانت

ص: 133

سمیت بالأخلاق، وفي أفكار دوركايم العملية الاجتماعية، وفي أفكار ويتكنشتاين التلاعب بالألفاظ و.... وبهذا فإن المجالات المتعلقة بهذه التعاليم من جهة وكافة المجالات الدينية من جهة أخرى تحولت إلى هوامش أغفل النظر عنها .

ه_) في المرحلة الخامسة، تعريف التعاليم الدينية التي تم تقليصها فيما سبق على أنها من المعايير الفردية وبالتالي فلكل شخص الحرية في تفسير تلك التعاليم كما يشاء، ونتيجة لهذه المرحلة أصبح الدين موضوعاً غير محددٍ بالذات إلا فيما يعينه أو يحدده الأفراد بأنفسهم - وهؤلاء بدورهم يقومون بذلك دونما استنادٍ لأي منطقٍ مقبول.

4) الاستعمار المعاصر:
1 - 4) الاستعمار المنتشر:

الاستعمار المعاصر هو أحد أشكال الاستعمار الذي يكون فيه المستعمرون وأتباعهم المحليين متخفين أو غير ظاهرين للعيان، ويمكن تسمية هذا النوع من الاستعمار «بالاستعمار المنتشر» والذي بناءً عليه، فإن نوايا المستعمرين وأهدافهم تواصل تتابعها دونما احتياج لأي تمثيل من قبل شخص ما أو حدث خاص، وفي هذا النوع من الاستعمار يبلغ «التخفي والانتشار» حدّاً يصعب معه حتى بالنسبة للنخب والصفوة كشف أتباع وأعوان الاستعمار يذكر ميشيل فوكو الفارق ما بين القدرة والسلطة (1)فيقول «القوة ليست سلبية دائما، فهي ذات وجه إيجابي وبنّاء أيضاً، كما أن إجراء القوة لا يعني أن مجريها هو صاحب القوة، لأنها ليست ملكاً طيِّعا لأحد ولاميزة يتميز بها أحد. من وجهة نظر فوكو وخلافا لما هو معروف، فإن القوة ليست

ص: 134


1- من وجهة نظر فوكو في كل علاقة اجتماعية هنالك علاقة قوة ولكن كل علاقة قوة ليست بالضرورة دليلا على وجود السلطة والسلطة خاصة بالمواقع التي تكون علاقة القوة فيها ثابتة وغير متغيرة وذات شكل هرمي ومحرومة من الحرية تقريبا، اذا فوجود أو عدم وجود السلطة يرتبط بدرجة اللين داخل علاقة القوة، أحد الأمثلة التي يطرحها فوكو لتوضيح الفارق ما بين القوة والسلطة هو مكانة النساء في القرنين 18 و 19 داخل المجتمعات الغربية، حيث في ذلك الزمان لم يكن امام المرأة الكثير لتختار ، فإما أن تخدع زوجها، أو تسرق ماله أو تمتنع عن الخضوع له ولكن رغم ذلك فإن هذه الخيارات لم تكن لتعطي المرأة إمكانية قلب علاقة القوة لصالحها، وفي نهاية الأمر (ورغم هذه الخيارات كانت النساء تحت السلطة.

شيئاً تعود ملكيته للطبقات من أصحاب السلطة فيما تحرم منها الطبقات الضعيفة، بل إن كلا الطبقتين متساويتين في كونهما جزء من شبكة القوة.

وبناءً على ذلك فالقوة ليست منحصرة في الديكتاتوريين والحكام بل هي منتشرة وموزعة على كل النظام الاجتماعي ونتيجة لذلك لا يمكن تغيير القوة من خلال الانقلاب العسكري أو الثورة، إن علاقة القوة تشبه لعبة الشطرنج التي في كل خطوة منها يمكن إما الحد من حركة الخصم أو فتح فرص جديدة أمامه للتحرك(1).

فی الاستعمار المعاصر بالاضافة إلى أنه لا يحصل هنالك علاقات - كما كان في الاستعمار الجديد - ما بين الاستعمار والقادة المحليين، فإن هؤلاء المتأخرين يرفضون بشدة نسبهم إلى الاستعمار، والحقيقة هي أن الاستعمار المعاصر يسعى لتطبيق أسس تربيته الفكرية والسياسية على قواته الذين يقومون يتنفيذ مساعي الاستعمار دون أن يدركوا ذلك، إن الاستعمار في شكله هذا يضع أكثر جهده على الحقول البرمجية، فمثلا هم يقومون بتعريف المعايير العلمية بما يتناسب ومصالحهم السياسية كي يجبروا أعداءهم السياسيين في البلاد المستقلة والتي كانت في قرون مضت مستعمرة لهم ، يجبرونهم على قبول هذه المعايير، وبالنتيجة يقومون بتحقيق أهداف المستعمر، وبناءً على ذلك يقومون بترسيخ قوتهم من خلال علومهم (2)وإن أحد أكثر الأمثلة شيوعاً والتي توضح عملية فرض المعايير على الأمم التي في طور الاستثمار، هو إعطاء المصداقية للمجلات المعروفة ب ISI والتي بناءً عليها يتم تعيين المناسبات العلمية في العالم الثالث، ويكتب أحد أصحاب الرأي منتقداً المصداقية الحصرية المعطاة لمجلات الت ISI:

«إن ISI ليست فقط معياراً يَتِم بناء عليه ترتيب الدول علميّاً وتعيين درجات

ص: 135


1- شاهرخ حقيقي ، أكثر من المدنية (طهران: ط1، 1379) ص 195 196
2- في عصرنا الحالي، تحدث ميشيل فوكو عن وجود علاقة خاصة ما بين القوة والعلم فهو في كتابه علم دراسة الأنساب يقول : العلم (قوة ولكنه لم يقصد بذلك أن العلم يولد القوة أو أنه عند حصولنا على العلم أولاً فإن هذا العلم يصبح وسيلة لاجراء القوة، ولكنه أراد القول بأن العلم يوضح لنا علاقات القوة وأنه يتجلى العلم في علاقات القوة بشكل أساسي ، وبهذا المعنى فلا يمكن لنا الفصل ما بين العلم والقوة وبالتالي دراسة أحدهما دون الآخر ر.ك: أكثر من المدنية، ص 199.

ومراتب العلماء، بل وأيضاً تحتل مركزاً عالياً وكأنها الهيكل المقدّس ويصير من الحرام والجهل مواجهتها بسؤال لماذا أو طلب تعليل منها، إن هذا الأمر ليس بالظلم القليل بل هو بمثابة اضعاف لصلة الوصل ما بين العلم والمجتمع العلمي في الدولة واتاحة المجال أمام التصنع وتحوير المقالات، إن ISI التي تعتبر من الضرورات الهامة في تثبيت قوة العلم والتكنولوجيا، لا يمكنها أن تكون الباني الأساسي لمعقل علمنا نحن، ISI في جامعاتنا ليست فقط مركزاً للفهرسة أو لنشر المعلومات، بل هي ميزان ومعيار للعلم ومحددة لصلاحيات الجامعيين العلمية، فإذا كان لأحد ما أي صلة أو نسبة تربطه مع المجلة المقبولة لديه والتي قام هو أيضاً بكتابة مقال فيها فهذا يعني بأنه عالم بلا شك، وأما إن لم يكن له ذلك فهذا يعني بأنه خارج من دائرة المعرفة إن إلزام العلماء بهذا العمل وربط مسألة الارتقاء في المراتب الجامعية بامتلاك مقالة ال- ISI ليس بالأمر الجيد وربما يتعارض وروح العلم، هذه الالزامات عادة ما تُتخذ بناءً على خلفيات سياسية، وهي من التدابير التي لم يتخذها السياسيون بل اتخذها بعض من الجامعيين من الذين لا يعلمون الكثير عن الأمور السياسية، وتكون حجتهم في الدفاع عن موضوع إلزامية الكتابة في ال- ISI دائما بأننا لا نمتلك

معايير أدق منها، والجواب هنا هو أينما وجد العلم وجدت معاييره، فلنبحث ونجد المعيار أو المعايير، ونحن طالما لا نعتمد على جامعيينا، فهذا يعني بأننا لن نستطيع الحصول على نظام بحث وعلم إن عدم الاعتماد هذا قد يترافق في بعض الأحيان مع نوع من التحقير والخشونة، حيث أن إجبار الجامعي على كتابة مقالة في المجلة الفلانية لتأكيد مصداقية صلاحيته العلمية هو أمر بالغ في عدم الاحترام لكلا العلم والعلماء، فالعلم حيثما كان فهو علم والعلم هو الذي يعطي الصلاحية للمجلات وليس العكس، إن أغلب الجامعات إما لا تعطي علامات أو تعطي علامات قليلة لقاء مقالات الأساتذة إذا نشرت في مجلات لا تنتمي إلى الجامعة أو في مراكز علمية أخرى أو عدم اظهار انتماء المقال للجامعة، إن معنى ذلك هو بأن العلم ليس مُهمّاً في ذاته بل أن الجامعة هي المهمة، والمعيار متعلق بالجامعة وليس بمرتبة الأستاذ»(1).

ص: 136


1- رضا داوودي، وهم الانتشار العلمي عن طريق زيادة المقالات في فهرست ال ISI مجلة ايران، بتاريخ 1386/5/21 (صفحة الثقافة والفكر).

ادوارد برمن في كتابه المعروف التحكم بالثقافة أظهر وبشكل جيد كيف تقوم المؤسسات العالمية من قبيل مؤسسة هنري فورد وكارينكي وراكفلر بأمور تبدو

ثقافية في ظاهرها - كتأسيس جامعة في بلدان العالم الثالث، وقبول طلاب من تلک البلدان وأيضا تأليف كتب علمية لأجلهم - إلا أنها تقوم بتوجيه الثقافة العلمية في بلدان العالم الثالث،(1) وخلال هذه العملية حتى الصفوة من الجامعيين في العالم الثالث لا ينتبهون إلى مسألة أنهم يقومون بالفعل بما تم التخطيط له مسبقا، إن بحثنا هنا ليس حول انعدام التبادل الثقافي والاكتفاء باقتباس الطرق من الغرب، بل هو حول عدم التنبه الحقيقي إلى ماهية ما يمكن تعميمه في العالم الثالث وبتعبير أحد المطلعين المعاصرين : «إن الأخذ والتعميم ليس أمراً معيباً فحسب، بل وهو من الأمور المستحسنة ،والمفضلة ولكن بشرط أن تكون الظروف مناسبة لأجل عملية التعميم هذه، وأن يكون الأخذ والتعميم عن تفكر وتمحيص، بهذا الشكل فإنه لن يكون هنالك وجود لأي هجوم ثقافي، بحيث يصير أخذ أي شيء من أي مصدر كان أمرا يمكن تسميته بالتبادل الثقافي، فإذا كانت جماعة ما جاهلة بما تفعل وما تقول، فمن المُسلَّم أن تصبح عُرضةً للهجمات الثقافية، حتى ولو حصلت على كل المعارف العالمية، ولكن في حال كانت الجماعة واعية ومدركة لتلك الأمور فإن ما يمكن أن تتلقاه هو بمثابة مواد تأسيسيَّة تقيّم المدينة وأنظمة الحياة، إن هذا يعني بأن العقل والإدراك لا يخسران وجودهما ولا ينكمشان في مقابل ما يتم تلقيه، بل يقومان بتسخير هذه المعارف والعلوم المتلقاة كوسيلة تخدم مصالحهما، صحيح أنه ضمن مسأله الهجوم الثقافي لا يجب تناسي أمر الجزئيات، إلا أن الغوص كثيرا في الأمور الجزئية قد يبعدنا عن أصل القضية، فالهجوم الثقافي يعتبر هجوما على ثقافة الجماعة، ولكن ثقافة الجماعة ليست فقط مجرد آداب وتقاليد، بل هي في الأغلب الأساس غير المرئي وراء الفهم والإدراك. نحن جميعا، ندرك الأشياء من ثقافتنا، وإذا انعدمت الثقافة إنعدم معها العقل والإدراك، وحالياً فإننا لا نستطيع إدراك معنى الهجوم الثقافي كما يجب، لأننا لم نألف الثقافة الغربية أو نطلع على

ص: 137


1- راجع: ادوارد برمن التحكم بالثقافة، ترجمة حميد الياسي (تهران: ني، ط3، 1373).

باطنها الحقيقي، إلا أن هذا الهجوم ليس بالحدث المفاجئ أو العارض الذي تم التصميم له من قبل رجال السياسة بحيث يستطيعون تغييره متى شاؤوا، إنما هو مرحلة في التاريخ الغربي، الذي يتجلى فيه من جهة حلم تحقق عالم غربي فريد ووحيد والذي يتم تنميته على مستوى العقول، ومن جهة ثانية العيون الناظرة بترقب وقليلون هم أولئك الذين ينظرون إلى الأفق المقابل وإن وجد من يفعل فإن الوحشة تملأ كيانه في العالم الغربي كان البشر محور كل الأشياء، أما في عالم اليوم فليس من المعلوم أين هو مكانه بالضبط، أو ما هو مصيره حتى؟»(1).

4-2) تجاوز تغيير نظرة الصفوة إلى تغيير عقيدة العامة:

فی الاستعمار المعاصر - وعلى خلاف الاستعمار الجديد الذي كان فيه «تغيير نظرة» الصفوة في الأمم المختلفة سبيلاً لتحويل هذه الصفوة عن شكلها السابق بالإجبار - أصبح «تغيير عقيدة» العامة سبيلا لتحويل وتغيير شكل هذه الشريحة من الأمم عن شكلها السابق.

فی أثناء عملية تغيير نظرة الصفوة يستطيع المستعمر إزالة الصفوة أو شرائهم بوعود شخصية، ورغم أن ذلك سيكلّفها أثماناً باهظة ورغم أنه لا يمكن إزالة الصفوة ولا يمكن شراؤهم جميعاً، إلا أن قيام المستعمر بهذين الأمرين يمكن أن يخفف من ضغط الصفوة قليلا، إلى درجة يمكن معها إيصال احتمال قيام الثورة إلى الصفر، في حين أنه ضمن عملية تغيير عقائد العامة ليس هنالك أي إمكانية لتخفيف قيام ثورة من خلال الدفع لهم أو إزالتهم، فعندما تتغير آفاق أذهان جماعة ما تتسع معارفهم وهذا يؤدي إلى ارتقاء ثقافتهم وتعميمها أكثر، وفي هذه الحالة فإن مواجهتهم ستكلف الاستعمار أثماناً باهظةً.

3 - 4) دخول الدين إلى محافل القوة:

في الاستعمار المعاصر - وبعكس الاستعمار الجديد الذي تم فيه حذف الدين

ص: 138


1- رضا داوودي اردكاني رسالة في باب التقليدي والتجدد (طهران: ساقي، ط 1 ، 1384، ص 96 - 97.

من محافل القوة - استطاع الدين ولوج محافل القوة، الدين الذي كان قد مات الهه(1)، وتفوح من إلاهياته فلسفة موت الله، يقول نينان اسبارت:

«حتى أوائل العقد 1980 كان هنالك ميل بين المفكرين في العلوم السياسية لاعتبار الدين إما غير موجود في السياسة أو أنه غير ذي أهمية تذكر ومنشأ هذا الأمر مأخوذ من الأسس الإيديولوجية كالتي عند الماركسيين، ومن موارد صادرة عن رغبة عامة موجودة في أصل العلمانية، حتى أن بعض علماء ذلك الزمان كانو غافلين عن أبعاد الدين السياسية بسبب اهتمامهم بتحقيق أهدافهم، ورغم أن تيار التجديد كان يؤدي في بعض اتجاهاته إلى تقوية الأفكار العلمانية ونشرها بشكل واسع، إلا أنه وفي ذات الوقت كانت موجة من التجديد تلي ذلك التيار داعية إلى ترسيخ الدين ودوره في المجتمع، يعتقد بعض المفكرين المعاصرين بأن تنامي هذه الموجة الجديدة سيعقبها إيجاد نوع من العلاقة بين بين الدين بأشكاله المختلفة وبين السياسات والدول ذات القوميات الموحدة... والذي هو الوضع المتعارف عليه في أنحاء المجتمع العالمي - كعلاقة فعل ورد فعل وحالياً حيث ظهرت الأديان الكبرى على أنها القوى العظمى في العالم وأنها تلعب دوراً هاماً في الحسابات ما بين القوميات والمؤسسات الدينية، فإنها كذلك ذات تأثيرٍ فعّالٍ في داخل الدول أيضاً حيث تؤثر على سلوك القادة السياسيين بفعل خلفياتهم الدينية»(2)

في عصر الاستعمار المعاصر، لم يجرؤ المستعمرون ولو لمرة واحدة على محاربة الدين علنياً، ليس هذا فحسب بل وقامو بادعاء تدينهم وتمسكهم بدين خاص حتى أنهم سعوا إلى التوفيق فيما بين مناسباتهم السياسية والدينية من خلال اظهار ايمانهم بقدرة الدين في المحافل السياسية من قبيل أن الدين يهب التوافق الجماعي، ويوجه السياسة لتحقيق الأهداف الغيبية، ويعطي مشروعية للسلوكيات.... والخ، وكمثال على ذلك يمكن الاشارة إلى تقرير طويل عن ورود الدين إلى المحافل السياسية في جامعة أمريكا:

ص: 139


1- اشارة إلى رسالة نيتشه موت الاله».
2- بيترال ،بركر نهاية العلمانية ترجمة افشار اميري ) ،طهران ،بنكان، ط1، 1380) ص 9 - 10.

«شهدت الولايات المتحدة ومنذ بداية عام 1979 نمو وتوسع المسيحية السياسية ومؤسسوها - أو ما يدّعى بمسيحيي اليمين - ومن جملة مظاهر إحياء أنه ما بين خمس إلى ثلث الاميركيين قاموا بإعادة إجراء غسل التعميد من جديد (المسيحيون الذين ولدوا مرة ثانية)، وكذلك الزيادة في تعداد أتباع الكنيسة من المتعصبين ،والمغالين عرض القنوات التلفزيونية لعبارات مثل «الأكثرية الأخلاقية»،«الائتلاف المسيحي»«إحياء المؤسسين»، «مجلس متابعة العائلة»، التأكيد على الأسرة»، «ائتلاف القيم المنسية» واحدة بعد الأخرى، وقيام مؤسسات «اليمين المسيحي» بالمطالبة بعدم اسقاط الأجنة، وتحريم الزواج بين الجنس الواحد، والسماح بإقامة الصلاة داخل المدارس ورفض بعض القوانين الأساسية التي كانت تفصل فيما بين الكنيسة والدولة، وفي العقد 90 تنامى «تيار اليمين المسيحي» إلى درجة أصبح فيها قوة مؤثرة في انتخابات الرئاسة الجمهورية والكونغرس الأميركي وأوجد كذلك ائتلافاً مع اليمينيين السياسيين داخل الحزب الجمهوري لتشكيل جماعة سميت ب_«حزب الله الأميركي»، ومنذ بداية العقد 80 بدأ العمل لفتح أبواب الحزب الجمهوري أمام اليمين المسيحي حيث قام رونالد ريغن ممثل الحزب الجمهوري في عام 1980 بإقامة ائتلاف مع القس بيلي غراهام، رئيس مؤسسة «الشباب المسيحي» والقس جيري فالويل رئيس مؤسسة «الأكثرية الأخلاقية»، ولقد كان ريغن خلال منافساته الانتخابية كثيرا ما يكرر أشعار «الانجيل هو الحل الوحيد»، ولذا فقد شكل اليمين المسيحي قوة واضحة التأثير في فوز كل من ريغن وجورج بوش الأب، وكذا فإن الحزب الجمهوري سمح للقس بات رابرتسون رئيس «الائتلاف المسيحي» بترشيح نفسه في مرحلة الانتخابات الرئاسية الأولى عام 1988، وهذا الأمر تكرر مرة أخرى عام 2000 خلال المرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية عندما سمح لغري بوئر ممثل اليمين المسيحي بترشيح نفسه، وفي اطار الاستفادة من الدين خلال المنافسات الانتخابية لشهر ديسمبر من عام 1999 داخل الحزب الجمهوري قام جورج بوش الابن المرشح لرئاسة الجمهورية بإعلان أن «عيسى

ص: 140

المسيح هو الفيلسوف السياسي المنتخب بالنسبة لي»، وعندما قام مذيع مشهور في قناة NBC بسؤاله عن قصده من وراء هذا الكلام، أجاب «بأن المسيح هو الأساس والقاعدة التي أحيا معها، سواء آمن به الآخرون أم لم يؤمنوا»، في أوائل 2000، وخلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، تم افتتاح جلسة المؤتمر «بنشيد المسيح» وقام بوش بإعلان أن «مشروع» اليمين المسيحي مبني على التركيز على إلغاء القوانين التي تقوم بوضع فواصل ما بين الكنيسة والدولة، وكذلك فقد قام بوش بدعوة ابن القس بيلي غراهام مؤسس اليمين المسيحي، إلى المؤتمر ليقوم بقراءة الدعاء وليطلب الحاضرون البركة من المسيح»(1).

4 - 4) الاستعمار المعاصر فعل أم رد فعل؟

إن العالم الغربي، وخصوصا في القرون المعروفة «بعصر الاستعمار» قام وبالاستناد إلى علم الأبستمولوجيا وعلم الاستشراق، بتقسيم العالم إلى طرفين:

«أنا: الغرب» والآخر: «الشرق»، ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، واجه علم الأبستمولوجيا المبني على فوارق الأنا - الآخر في الاستشراق تحديان أساسيان هما:

ما بعد الحداثة: الرسالة الكبرى التي قام الإستشراق بإرسائها كانت تقسيم العالم إلى قسمين هما «الغرب» و «غير الغرب» أو «الأنا» و«الآخر» حيث كان القسم الأول الأصالة والقيم والغنى والأفضلية وأما القسم الثاني فكان يعني عكس ما عناه الأول، ومعرفة هذا الثاني كانت فقط من خلال توضيح معنى «الآخر» مع القسم الأول، حيث كلما تم التأكيد على أن هذا القسم الثاني هو الأخر وعلى عدم أصالته في نفس الوقت كان هذا يؤدي إلى ارتفاع مستوى نجاح الإستشراق، فما بعد الحداثة لا تقوم فحسب بتقسيم العالم إلى منطقتين وتجعل الأصالة حكراً على القسم الغربي بل وأيضاً كانت تقيس الثقافات العليا والدنيا وفقاً «لمحيطهم المحلي» وبناء على

ص: 141


1- رضا هلال وعلي حجتي، المسيحية والصهيونية والمؤسسين ،الأميركيين، قم، أديان، ط1، 1383 ص 23 - 25 .

ذلك تمنح صفة الأصالة لمن تشاء، في الحقيقة فإن ما بعد الحداثة، تقوم بوضع أكثر ادعاءات التحضّر مركزية - والذي هو منح نصف العالم «الغرب» الأصالة دون غيره - أمام تحدٍّ حقيقيٍّ(1).

العولمة: العولمة أيضا تقوم بوضع طرف آخر من الأبستمولوجيا والإستشراق أمام تحدُّ جديد، فإدعاء الإستشراق المحوري المستند على نثنائية النظام العالمي» كان راسخا باتقان، وفي نفس الوقت فإن علم المعرفة المعولَم هو تماماً بعكس علم معرفة الشرق، حيث يرى العالم هو فقط عالم واحد بثقافة ومدنية واحدة، وفي واقع الأمر فإن علم المعرفة المعولم أزال طرف «الآخر» و «الغير» الذي كان موجوداً في وجهة نظر الإستشراق، وقام بضمه واذابته داخل «الأنا»، فصار كل الكون مغطى تحت ظل الأنا، وبتعبير البروفسور برنر:

«العولمة نزعت عن مباحث الشرق والغرب في الإستشراق صفة الأهمية، ومنذ القرن 17 وما بعد فإن الإستشراق قام بطرح مفهوم عميق «للآخر» فيما يخص الثقافات المختلفة، مفهوم «الآخر» وضع حجر الأساس لمشروع علم الإنسان داخل مجتمع تقليدي، وتجربة «الآخر» الاستعمارية كانت مسألة بالغة الأهمية فيما يخص مبدأ الوجود الكبير، فالله أعطى كل من الحيوان والإنسان مرتبة بعينها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار عولمة العالم وظهور سياسات متعددة الثقافات كطابع هام في كل الأنظمة السياسية، فإن مفهوم العالم الغريب لن يكون له البقاء أكثر لأن معنى «الآخر» قد تم تحويله إلى مستوى محلي»(2).

ص: 142


1- أحد الكتاب المعاصرين في هذا المجال يكتب أصحاب ما بعد الحداثة يعتقدون بأن مقولات الإستشراق قد خالطها معان دخيلة، وبناء على ذلك فإنه وخلال عمليات التبادل الثقافي ما بين الثقافات غالبا ما تكون الأمور الحاصلة غير حقيقية وبعيدة عن المطلوب، بحيث تشابهه فحسب، لذا فما هو مطروح في الشرق منفصل وبعيد عن الشرق ذاته والقول بأن الشرق ذو معنى مفيد هو أكثر إفادة للغرب منه للشرق، وهكذا فهنالك علاقة ما بين الاستعراض الجديد والاستعمار، وبالرغم من النواقص والمحدوديات، فإنه لا شك بأن كلا من ما بعد الحداثة والعولمة قد أوقعا أسس الإستشراق النظرية والمعرفية في تحد صعب، وبمفاهيمهما المختلفة يعكسان رواية مختلفة عن علاقات الأنا» و «الآخر» و الغرب والشرق والتي من خلالها يمكن لأصحاب تلك الثقافة والهوية إعادة إستعراض دقيق لحقيقة الثقافة والهوية.محمد رضا تاجيك فى مقدمة برايان ترنر الإستشراق ما بعد الحداثة والعولمة، ترجمة محمد رضا تاجيك (طهران: مركز الأبحاث الاستراتيجية، ط1، 1381) ص: 22.
2- الإستشراق مابعد الحداثة والعولمة ص 298 - 299.

«نقد ما بعد الحداثة البنّاء، ليس هجوماً بنيانيّاً خارجيّاً، أو حركة تحطيم الأسس داخليّاً وهدم عمارة بديعة المنظر ، بل النّقد البنّاء هو تشييد بناءٍ تكون أدق نسائجه محاكة فقط من حطام البناءً القديم، وبناءً على ذلك فإن البحث هنا ليس في مسألة الاطاحة بمشروع حديث وحذف وطرد الراديكالية «النظام الصدقي» الماضية، وتعريف ما هو بمثابة «الآخر» على أنه مختلف، بل حول مناظرة عن تخريب أي شكل من أشكال المركزية، والنظرة الازدواجية، وشفافية الهوية، وتسلسل مستويات القيمة، لذا فليس متوقعا أن يكون أصحاب ما بعد الحداثة أولا قد أغلقوا مساحة حوارهم خارج حدود خطاب الغرب والحداثة المتسع (كقاعدة معرفية للإستشراق) وثانيا النجاح في ترسيخ «الهوامش» و «الآخر» بدلا من «المتن» و «الأنا» أو على الأقل تحديد تعريف خاص بهم، إن خطابات ما بعد الحداثة القليلة هي نتيجة لمعرفة مرحلة أخرى من الحياة وتحول الفكر في البلاد الغربية، وبمعنى آخر، فإن ما بعد الحداثة وليدة ل_«الأنا»، وتختلف تماما عن خطابات أو نظريات المباني الأخرى، «النظام الصدقي»، وكلمات الآخر «الخارجي» النهائية، حيث أن خطاب هؤلاء هو في أغلبه يشتمل على «الآخر الداخلي» ورسالة تحرر للمهمشين من البشر والمطرودين وبعبارة أخرى، إذا وافقنا قول فوكو من أنه لا يمكن وجود تحليل دونما خطاب محدد، وإذا أخذنا بالاعتبار طبيعة عالم الحداثة... فإنه وبالطبع سيتبع ذلك قبولنا بأن تحليلات ما بعد الحداثة والعولمة أيضا ليست بمستثناة من تلك القاعدة، وامكانية التحرر الكامل غير ممكنة من بناء خطاب الغرب والإستشراق غير الصحيحين».

5 -4) فوكو ومسألة السلطة المعاصرة:

ميشيل فوكو (1)(1926 - 1984 فيلسوف فرنسي معاصر، درس مسألة السلطة في -

ص: 143


1- في عام 1948 نال شهادة في الفلسفة من جامعة سوربون وفي عقد 1950 ومن ذات الجامعة حصل على شهادة علم النفس وديبلوم في الباثالوجيا وكما أنه أخذ شهادة الدكتورا في جامعة هامبورغ لكتابته رسالة في باب الجنون، وفي عام 1963 صار استاذاً في جامعة كلرمون الفرنسية وعلاوة على تدريسه للفلسفة فقد قام بتدريس تاريخ نظم الأفكار التاريخ العلوم السياسية وعلم الاجتماع، وكثير ممن تناولوا آثاره بالشرح يعتقدون بأنه لا يمكن جدولة أفكاره ضمن فروع العلوم الاجتماعية، ومن هذه الجهة اعتبر فوكو ابنا غير مباشر للبنيوية، ولعلم آثار الثقافة الغربية، والعبثية والضياع في العلوم الاجتماعية، ولعل ما يختلف به فوكو عن غيره من علماء الاجتماع هو من حيث أنه ينظر إلى العلوم الاجتماعية من الخارج وليس من داخلها ويستخدم مفاهيم وعبارات ليست رائجة كمفاهيم مستخدمة في علوم الاجتماع.

عصر ما بعد الحداثة وتفاوتها في العصور الماضية، ولقد أثبت ببراعة أن السلطة والاستعمار المعاصر يجري بشكل متسع ومخفي ومن داخل العلوم الإنسانية، ولعل أهم الانجازات العلمية التي قدمها فوكو هي تحليل علاقات القوة والمعرفة»، فهو في تحليله هذا تأثر بلا شك بأفكار ماركس وفرويد ونيتشه، ماركس في مشروع «علاقة الأفكار بالقوة» وفرويد في مشروع «اتصال الرغبة والمعرفة»ونيتشه في مشروع «العلاقة فيما بين العلم والإرادة المتوافقة مع القوة»، وكل هذا هيأ لفوكو الجوّ المناسب ليثور على الحداثة.

إن آثار فوكو تنقسم من حيث محتواها إلى ثلاث أقسام : قسم تأثر بهرمنطيقيا هاید التي بلغت أوجها في كتاب «تاريخ الجنون» ، وقسم مرتبط بعلم الآثار المعرفي الذي يحتوي على تحليل شبه بنيوي أو نصف بنيوي، وغالبا ما يتجلى في كتاب «تكوين المستوصف» 1963، «الألفاظ والأشياء : نظام الأشياء 1966 ، و «علم الآثار المعرفي» 1969 ، وقسم مرتبط بعلم السلالات الذي يتعرض لمسألة العلاقة فيما بين الكلام والمعرفة من جهة، والقوة من جهة أخرى، وتتضح أيضا في كتاب «العناية والعقاب» المجلد الأول «تاريخ الأجناس» و «نيتشه : علم السلالات والتاريخ» 1971، إن دافع فوكو الأساسي في هذا القسم هو في التساؤل عن كيفية الوصول إلى العقلانيات الخاصة، العقلانيات المبتنية على علاقات القوة والعلم فيما تحول البشر فيها إلى وسائل، إن أهم نقطة وصل إليها فوكو في هذا السياق هي أن نفس العلوم الإنسانية والاجتماعية قد أصبحت جزءاً من عملية القوة وعلاقات إرساء أو ترسيخ السلطة فوق الإنسان، وعلم السلالات يشير إلى كيفية تحكم الإنسان بنفسه وبغيره عن طريق تأسيس «كيانات الحقيقة»، وملخص وجهة نظر فوكو فيما يتصل بالعلوم الإنسانية والقوة والسلطة والذي وضعه في كتب من مثيل «علم السلالات»، هو كالتالي:

إن ما هو كامن في أصل علومنا وهوياتنا ليس هو الحقيقة وإنما هو تنوع في المجريات، فما يُظنّ بأنه حفظ علم السلالات متكاملاً، قد جعله متبعثراً وأظهر عكس ما كان يبدو بأنه متقارن فيه إن علم السلالات بتحليله للسلالات التاريخية ينفي

ص: 144

الاستمرارية عنها وبالعكس فهو يكشف عن عدم ثبات وتعقيد وتعدد الاحتمالات الموجودة حول الأحداث التاريخية، فالإنسان يظهر في التاريخ باطلالات مختلفة، وعلم السلالات يقوم بتحليل هذه وتلك الاحتمالات، وبشكل أكثر عمومية، فإن أي لحظة من التاريخ ليست باثبات لحوادث الماضي ولا لمرحلة في خط يتكامل، وإنّما هی لحظة خاصة تشير إلى تعامل السلطة المحفوف بالخطر ومعركة القوى، وفقط

من خلال هذا السبيل يمكن المجموعة من التيارات بالمرور.

في علم السلالات لا يتبقى هنالك أي مكان للوسيلة التاريخية، لأن لا أحد يستطيع تحمل مسؤولية الاطلالات أو الظهورات المحتملة، والانسان يصل من شكل معين في السلطة إلى شكل آخر، فالتاريخ أسس وباستمرار على أشكال من السلطات والعنف في إطار من القانون، وبذلك فإن علم السلالات تاريخ الظواهر

والأمور التي اعتبرت غير تاريخية تعود فتظهر أن العلم ملتصق بالزمان والمكان.

إن طريقة علم السلالات تهدف إلى الكشف عن العوامل الكثيرة التي تؤثر في صنع الحوادث والتأكيد على عدم تشابه هذه العوامل فيما بينها، أي أن علم السلالات يتجنب فرض البنيوية ما بعد التاريخية على تلك العوامل وفوكو قام بالدعوة إلى نظرية «بناء الوقائع التاريخية»، فليس في التاريخ ما هو طارئ، ونتيجة لذلك يتم تحطيم البداهة الطارئة في أصل العلم وفي أعمالنا.

إن المعنى أو الأساس ليس كامنا في الأمور والأشياء، لكن الشيء الوحيد الظاهر والمستخدم هو طبقات من التعابير التي تتراكم فوق بعضها مشكلة الحقيقة والضرورة والبداهة، والإنسان من خلال خلقه للحقيقة والضرورة يلقي بحكمه على الآخرين، بينما ليس هنالك من وجود لأصل ومنشأ وحقيقة أي عالم شامل وغير مقيد بزمن ، وبالتالي فليس هنالك من وجود لأي تقدم وترقي، وفي هذه الحالة يصير من الممكن التحدث فقط عن نهاية السلطات والتبعات، وبهذا الشكل فمن الطبيعي انعدام وجود الانتماءات الكلية والمميزة كأساس وأصل ثابت، حتى نفس جثمان الإنسان يصير تابعا للتاريخ ومن خلال نظام العمل والاستراحة يتلاشى، وبناء على

ص: 145

ذلك فإن موضوع علم السلالات ليس سير التاريخ ولا نوايا الوسائل التاريخية، بل هو الوقائع والأجزاء الناتجة عن المنازعات، وتعاملات القوى وروابط القوة، ولذا فالعلم والمعرفة أيضاً ليسا سوى نظرة تاريخية فحسب.

العلم والمعرفة لا يقدران على التملّص من أصلهما التجريبي ليتحولا إلى التفكّر الخالص الصافي، بل تم تلقيهما ضمن روابط عميقة مع القوة وبالتوازي مع تقدم ترسيخ القوة، ففي أي مكان تبسط فيه القوة، يكون للمعرفة فرصة للظهور، وبناء على التّصورات الرائجة بين المثقفين فإن المعرفة يمكنها النمو فقط في حال توقفت علاقات القوة، ولكن من وجهة نظر فوكو، فإنه لا يمكن تصوّر قيام أي علاقة قوة دون تشکل میدان معرفي وبالمقابل فليس هنالك أي معرفة لا تدخل في تركيب علاقات القوة، وتعريف الوسائل وكذا تعريف المنهج هي من آثار ونتائج العلاقات الأساسية القائمة فيما بين المعرفة والقوة والتغييرات التاريخية فيهما .

إن القوة عادة ما يتم اجراؤها بصورة غير مستقيمة داخل المجتمع الحديث، وبعيداً عن سبل الاجبار ، فالكثير من العلاقات التي تبدو عقلية ومشروعة وتمتلك دليلا لوجودها هي في واقع الأمر دليل على إرادة القوة والسلطة، فإذاً لكي نستطيع النظر بوضوح إلى علاقات القوة المتخفية تحت نقاب المشروعية والتوافق، يجب علينا التسلّح بوسيلة نظرية جديدة، فالأطر النظرية التقليدية ليس لها القدرة على تحليل أشكال القوة والسلطة ،الحديثة، إن المسألة المحورية فى فلسفة هوبز والمتفكرين الذين جاؤوا من بعده كانت تعريف القوة والمشروعية أو رسم الحدود أمام القوة المشروعة، وبعبارة أخرى تعيين حقوق الفرد في مقابل سلطة الدولة، ففي أفكارهوبز القوة هي الاشراف وسلطة الفرد أو جماعة من الأفراد على فرد أو على جماعة أخرى من الأفراد، ويعد كل من الحق والقانون من المفاهيم الأساسية، إلّا أنّ فوكو يعتبر أفكار هوبز مثال غير ناضج كفاية لتوضيح معنى القوة في العالم الحديث، فهو يرى «أي فوكو» بأن ظهور القوة الحقيقي ليس نقض الحق والقانون، في نظرية هوبز تعتبر القوة علاقة كسواها من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والجنسية والعائلية...الخ،

ص: 146

إلّا أنها تختلف في ذات الوقت عن هذه العلاقات أو الروابط إلّا أنه في نظرية فوكو لعلم السلالات فالعكس هو الصحيح حيث أن القوة جزء لا يتجزأ عن العلاقات الأخرى، بل وقسم نابع من باطن تلك العلاقات.

إن القوة في النظام التقليدي كانت تنفذ بصورة إجبارية تقيّد سلوك الأفراد، بينما في النظام الجديد، فإن السلوك المطلوب من الفرد هو نفس السلوك «الطبيعي والعادي» وفقا لما خلق عليه ، وفي نظرية هوبز وخلافا لرأي فوكو، فإن اجراء القوة أو القدرة كان عن وعي ومعرفة على الدوام، وإضافة إلى هذا فإنه في هذه النظرية، تصدر القوة أو يتم تطبيقها من قبل فرد أو جماعة معينة، وبالتالي فإنه وعلى الدوام يمكن إيجاد منشأ ومنبع القوة في مكان ما، ولكن وبحسب تعبير فوكو، فالقوة لايتم إعمالها من جهة أفراد معينين وهي مجموعة معقدة وشبكة متداخلة من العلاقات ولأن جميع الأفراد في هذه الشبكة يعدّون شركاء ومساهمين في إعمال القوة، فإن نظرية القائد والتابع لم تصل بعد إلى الدرجة الكافية من النّضوج كي تلمّ بمعنى ظاهرة القوة الجديدة.

إن المجتمع دونما علاقات قوة، يصبح مجرداً وغير ممكن الوجود، لسبب هو أن الحياة في المجتمع ليست سوى تأثيرات في أفعال الآخرين والقوة هي ميزة ذاتية في كل علاقة إجتماعية، وبعبارة أكثر دقة فإن صفة الاجتماعي في أفعال البشر تأخذ معناها من القدرة في التأثير على الآخرين أو التأثر بهم، وبناءً على ما سبق فإنه فقط الأفعال التي ليس لها تأثير على الآخرين أو الأفعال غير المتأثرة بالآخرين، فقط هذه الأفعال يمكن إخراجها من دائرة علاقات القوة - أي ما يمكن أن يسمى في نهاية الأمر بالأفعال غير الإجتماعية.

القوة تحضر في كل العلاقات الإنسانية، وضمن هذه العلاقات يسعى طرف لترويض الطرف الآخر واخضاعه تحت أمره إلّا أن هذه العلاقات ليست بالثابتة إلى الأبد بل هي قابلة للتغيير والتحول، فإذاً علاقة القوة أيضا قابلة للتغير وتحوّل الأطراف فيها، وهي تعطي كلاًّ من الطرفين قدراً من الحرية فإذا ما اختلّ تعادلهما بشكل كليّ فإن أحد الطرفين يستطيع فرض قدرته على الآخر في حال واحدة هي إمكانية أن يقوم

ص: 147

الطرف الثاني على الأقل بقتل نفسه أو أن يرمي نفسه من النافذة أو أن يقتل الطرف الأول، وهذا يعني وجود مساحة من القدرة على المقاومة داخل علاقات القوة، إذاً يمكن أن نجيب على من يدعي بأن وجود القوة ينفي وجود الحرية، بأنه وبدليل ما سبق قوله فإن وجود القوة في كل مكان يعني وبالتأكيد وجود الحرية أيضا في كل مكان، مع التأكيد كذلك على وجود السلطة، وكذا فالقوة في ذاتها وجوهرها ليست شراً اجتماعيّاً، وتطبيق القوة على الآخرين ليس بأمر يمكن انتقاده أو رفضه، ولكن بشرط هو أن تكون العملية بصورة «لعبة استراتيجية» أي علاقة هلامية يكون فيها تعيين الشخص في مكانته بتصميم مسبق ودون أن يكون له الثبات في هذا الموقع، وأن يكون لكلا الطرفين القدرة على قلب المواقع.

6- 5 ) الاستعمار المعاصر والكنولوجيا المخفية:

إحدى مميزات الاستعمار المعاصر هي أنه لا يكتفي فقط باستخدام كل التكنولوجيا التي كانت في خدمة الاستعمار الحديث والتي استفاد منها في تحقيق أهدافه، بل ويقوم «الاستعمار المعاصر» بتطويرها وتركيب أنواع أكثر حداثة منها، أنواع مميزة تجاوزت التكنولوجيا الخاصة، حيث يكتب نيل بستمان عن هذا النوع:

«قسم من التكنولوجيا تظهر تحت النقاب، وهي ما يطلق عليها راديرد كيبلينغ (1)اسم التكنولوجيا الساكنة، انها في ظاهرها لا تشابه أحد التكنولوجيات الأخرى أو تماثلها، وهذه الحقيقة لا يمكن التحقق من صدقها من خلال اختبارات الذكاء وفحص الأفكار، أو المسح العام وباقي الوسائل التي تخضع لدرجة من الضبط أو التقنين، بل يمكن اثبات صدقها من خلال البطاقات المصرفية، وطرق وصول المحاسبة واختبارات الكفاءة وتعيين القدرات فمثلا في مجال التعليم وضمن حقل الدراسات الأكاديمية، تعتبر اصطلاحات من نوع الوحدة الدراسية والدورات الأكاديمية نوعاً من التكنولوجيا التعليمية، والمهم هنا أن السبب وراء نظام الوحدات هذا يبقى مخفياً(2).

ص: 148


1- Rudyard Kipling.
2- نيل بستمان «التكنو بوليا، تسليم الثقافة إلى التكنولوجيا ترجمة صادق طباطبائي، (طهران، اطلاعات، ط2، (1375) ص 221 .

لقد ساعدت التكنولوجيا الساكنة المتخفية الاستعمار المعاصر على الذهاب بظاهرة الاستعمار نحو البرمجيات والحاسوب، ويشرح نيل بستمان هذه التكنولوجيا الساكنة والمتخفية وفقا لما يلي:

تكنولوجيا اللغة:

لا تكسبنا اللغة معرفة أن لكل شيء اسم فحسب، بل وتوضّح لنا ما هي الأشياء التي لديها قابلية اطلاق اسم عليها، هذه اللغة تقسم لنا العالم إلى مقولتين الأولى عينية والأخرى ذهنية، وتعلن أمامنا بأن هنالك وقائع يمكن النظر اليها على أنها عملية ووقائع أخرى شيئية، وهذه اللغة كذلك تعلمنا عن الزمان والمكان والأعداد، وتهب أفكارنا عن طبيعة روابطنا مع الآخرين شكلا معيّناً، فحياتنا تدور في حدود اللغة وامكان الاستفادة منها والتلاعب بالكلمات، ونحن لا نستطيع أبدا تصور شكل العالم الذي يحيا فيه أناس آخرون غيرنا ويتكلمون لغة مختلفة، لأننا غالبا ما نتخيّل بأن الكل في هذا العالم يرون ويفترضون كما نفعل نحن، وفي هذا المجال فإنه من النادر جدا التوجه إلى هذه الاختلافات أو التساؤل عن هذا الافتراض المقصود.

كل لغة تمتلك لنفسها مجالاً وميداناً خاصاً بها، وبسبب التفاوت في إمكانيات وبناء اللغة فيما بين لغتين وطبعا فمن البديهي وجود الاختلاف فيما بين اللغتين على صعيد وجهات النظر ومستويات فهم العالم، وفقط أولئك المطلعون على كلا اللغتين وتاريخهما يستكشفون مثل تلك الاختلافات (1)، فإذا اللغة قياساً بالوسائل والأدوات الأخرى تعتبر أداة تمتلك إيديولوجيا خاصة في توجيه الأمور حيث غالبا ما تحفظ نفسها منفصلة عنا، وهذا التوجيه عندما يتصل بموضوع اللغة، فإنه ينغرس عميقاً في شخصياتنا وطريقة تلقينا للعالم إلى درجة يصبح من الصعب معها التعرف

ص: 149


1- على سبيل المثال قبل عدة سنوات قامت صحيفة يومي يوري Yomiuri) اليابانية بنقل نظرية سوسومو تونكاوا Susumn Tonegawa الفائز بجائزة نوبل لعام 1987، والنظرية هي أن اللغة اليابانية لا تمتلك القدرة والوضوح الكافيين لعرض الأبحاث العلمية والتحقيقية صاحب النظرية - الذي يحمل صفة استاذ تكنولوجيا الماسوجوست - خاطب مواطنيه قائلا بأنه يجب علينا السعي من أجل تغيير العملية الفكرية لدينا في مجال العلم وهذا ما يمكن تحقيقه من خلا استخدام اللغة الانكليزية، ويجب التنبه إلى أنه لا يريد توصيف الانكليزية على أنها تتفوق على اليابانية، بل يقصد بان هذه اللغة أنسب من أجل تحقيق الأهداف العلمية، بمعنى أن هذه اللغة وسائر اللغات الغربية تمتلك بعض الاتجاهات الايديولوجية التي تفتقدها اليابانية.

إلى هيكل التوجبه البنائي دون الخضوع لتعليم خاص في هذا المجال، وبعكس التلفزيون والحاسوب فإن اللغة لا تظهر على أنها نوع من الترقي أو التوسع في قدراتها، بل تعتبر جزءاً طبيعياً مما نحن عليه، إلا أنه وفي أغلب الأحيان يمكن لجملة أن تلعب دوراً هاماً شبيهاً بما يمكن لآلة القيام به، وهذا بالضبط ما يمكن أن نراه وبوضوح كامل في استمارات الجمل التي نسميها الأسئلة، وأكثر من أي مكان آخر .

فمثلا أغلب طلاب الجامعات يبدون على مستوى عال من الفهم عندما يجيبون على الأسئلة المحدودة بعدة إجابات، إلا أن الأمر يختلف مع الأسئلة التي تحتاج شرحا، حيث تتعلق اجابتنا فيما إذا كانت حيادية وموضوعيّة بنفس شكل السؤال الظاهري الذي إما يسهّل الإجابة أو يجعلها أكثر تعقيداً، فماذا لو قمنا بتغيير شكل السؤال قليلا ليتناسب - وفي ذات الوقت - مع اجابتين مختلفتين، نظير ما قام به قسيسان لم يكونا مطمئنين من امكانية أن يقوم الفرد بالعبادة والتدخين في ذات الوقت، فقاما بإرسال سؤالهما إلى البابا ضمن رسالتين، حيث قام الأول بطرح سؤاله هكذا: هل يجوز للفرد في أثناء عبادته تدخين السيجار؟ فكان الجواب منفيا، لأن العبد في حين عبادته يجب أن يحقق مسألة توجه العابد نحو معبوده، وأما الثاني فقد قام بطرح سؤاله ،هكذا هل يجوز للفرد أثناء تدخين السيجار، القيام بالعبادة أيضا؟ وجاء الجواب نعم يمكن، حيث عبادة الخالق في أي وضع وحال أمر جيد، إن السؤال وشكله قد يكون بحد ذاته مانعا من الوصول إلى حل صحيح للمسألة فيكفي أن يتغير ظاهر السؤال المطروح حتى يأتي الجواب على شاكلة ما سبق(1).

في الاستعمار المعاصر تم الاستفادة وبأشكال مختلفة من هذه القدرة في اللغة : فمن جهة قامت الموازنة غير المنطقية فيما بين مزايا لغة الاستعمار كاللغة الانكليزية والتي تحولت إلى لغة عالمية، بسبب المدة الطويلة في بقاء الاستعمار - ومابين مزايا لغات أخرى وإثبات أن الانكليزية هي الأفضل وهذه الأفضلية كانت تطال أيضا بقية الميادين المدنية الأخرى، وهذا في حال أن الموازنة العلمية فيما بين مزايا لغتين

ص: 150


1- تكنوبولي، ص 199 - 203.

يجب أن يكون شاملا لكافة جوانبهما - وليس فقط في المزايا الخاصة التي تتصف بها، ومثال ذلك:

لو فرضنا أننا نقبل رأي سوسوموتونكاواي الياباني المبني على أن اللغة الانكليزية تتناسب وبصورة خاصة مع العلوم الحديثة، فإنه من الضروري طرح سؤال هو هل يمكن للغة الانكليزية أيضا الإرتقاء في المجال الأدبي والوصول إلى المرتبة التي بلغتها الفارسية مثلا؟ أو هل يمكن لهذه اللغة أن توازي في المجالات القواعدية اللغة العربية؟ وهل يمكن اعتبار ارتقاء الفارسية في المجال الأدبي دليلا على ارتقائها في جميع ميادين المزايا اللغوية وبالتالي تعميم هذه الأفضلية على كافة وجوده المدنية؟

تكنولوجيا اختبار الذكاء:

فرانسيس كالتون(1)(1822 - (1911) هو واضع علم الصحة الوراثية والأبحاث المعروفة المتعلقة بالصحة والوراثة، وهذا العلم الذي يساعد الأبوين من خلال خطة جينية مدروسة لتوليد نسل أفضل، كالتون كان يعتقد بأن أفعال البشر وسلوكهم يمكن اخضاعها للقياس من خلال الطرق الاحصائية، حيث أنه استفاد من هذه الطريقة في اختبار على جميلات بريطانيا العظمى، وبيان كمي عن الملل وآثار العبادة، وأهم اختبار قام به کالتون من خلال تطبيق هذه الطريقة هو اختبار أثر الوراثة في الذكاء، حيث قام في مختبر في معرض عالمي عام 1884 بحساب مستوى ذكاء الأفراد من خلال قياس حجم الرأس، مقابل دفع كل فرد لمبلغ مالي، وفي حال طالب أحدهم برد ماله - مهما كانت درجة ذكائه - فإنه لا يحصل على علامة تضاف إلى مستوى ذكائه، ووفقا لحسابات لؤيز ترمان(2)، فإن مستوى الذكاء لدى كل من كالتون، وشارلز داروين وكبرنيك هو وبالترتيب كالتالي 200 ، 235 ، 100.

في كتاب «الانسان الذي يقيس خطأ»، لكاتبه ستيفين جي غولد(3)، جاء أن أهم

ص: 151


1- Francis Galton.
2- Lewis Terman.
3- Stephen Jey Gould.

خطأ ارتكب في عملية اختبار الذكاء الإنساني هو في استخدام الطرق الاحصائية في قياس معاني ذهنية مجردة كالذكاء والتعامل مع هذه الأمور وكأنها أشياء مادية - يمكن قياسها بالأعداد وترتيبها وتعريفها - تورن دايك(1)، هو الآخر يعد الذكاء الذي يتم قياسه ضمن طرق احصائية وما ينتج عنه من نتائج وأفكار هو شيء غير معتبر على الاطلاق، ديفيد مك كلاند يكتب بمستوى أشد مرارة مايلي: «يجب أن يخجل علماء النفس من ترويجهم لمفهوم هو الذكاء، والذي أوجدوا له خططاً لاختباره أيضاً»، وكذا وايتسن باوم يعلن مايلي:«إن تخيل إدراج الذكاء داخل جداول كمية لقياسه يحمّل المجتمع بأكمله خسائر غير مألوفة، خصوصاً في المجالات المرتبطة بالتربية»، كذلك فإن هارولد كاردنر(2) أورد بعضاً من هذه الاشكالات في كتابه «القوالب الذهنية».

والسؤال هنا هو: مع كل ما سبق ذكره من هذه الانتقادات الموجهة ضد النتائج المأخوذة من قياس الذكاء الإنساني وفقاً للطرق الاحصائية، لم لا تزال هذه الاحصائيات الأساس الذي يتم بناء عليه وضع الخطط الاجتماعية - السياسسية ؟

وأفضل جواب يمكن تقديمه أمام هذا السؤال هو غلبة المعادلات السياسية على المعادلات العلمية، ولذا فمن السهل تخمين ما سيطرأ على البرامج الاستعمارية من تفسيرات علمية فيما يتصل بالأفارقة والزنوج، فيما لو خرج أحد هذه الأبحاث باثبات ارتفاع مستوى الذكاء لدى الأفريقيين والآسيويين، على ذكاء الناس في أوروبا، رغم أن ذكاء الزنوج هو أقل من البيض.

ج) تكنولوجيا اختبار الأفكار العامة:

اختبار الأفكار العامة هو نوع أخر من التكنولوجيات المخفية التي يبدو وكأنه أداة ضغط تخدم الاستعمار المعاصر إلى أقصى حد ممكن، حيث أنهم ومن خلال الأسئلة الموجهة والمجيبون المنتخبون والنتائج الكاذبة وغير الواقعة، يقومون

ص: 152


1- -Thorndike .E.L.
2- Howard Gardner.

بمتابعة أهدافهم وتحقيقها وهم يدّعون بأن التحقيقات فيما يخص الأفكار العامة يعطي الديمقراطية أساسا علميا، حيث إذا كان مرشَّحونا مُمثّلِين لنا، فإن من الضروري اطلاعهم على ما نعتقده وما نهدف إليه إلا أن المشكلة تكمن فيما يلي:

(1) اجاباتنا تتعلق بشكل وظاهر الأسئلة التي تطرح علينا، فمثلا: إذا سألونا، هل ترضون بالاستمرار في تلويث البيئة الطبيعية ؟ فإنه وبدون أدنى شك سنجيب بشكل مختلف تماما عما يمكن أن نردّ به علی سؤال هو:هل تظنون بأن أهمية المحيط الطبيعي تأتي في المرتبة الأولى ؟ أو هل أمن الشارع أهم من الحفاظ على المحيط الطبيعي؟ والأسئلة التي يقوم المنظمون بطرحها، عادة ما تكون محدودة في اجابتي نعم أو لا، ومن الواضح أن هذه المحدودية لا يمكنها شمول كل أطياف الافكار العامة، لأن المجال المتروك لأجل التعبير عن العقائد ضئيل جداً، فلا يمكن أبدا للإجابات المحدودة بنعم أو لا تبيين النقاط الهامة القيمة المستترة في عقائد الأفكار العامة في مثل هكذا وضع تتحول الأفكار العمومية إلى إجابات نعم أولا على أسئلة غير واضحة أو مدروسة .

(2) بناء على طريقة اختبار الأفكار ، تصير العقيدة شيئا موجودا في باطن الإنسان، ويمكن لمنظمي أسئلة العقائد العامة التحقق منها وقياسها عند الحاجة من خلال الأسئلة ، إلا أن هذا الافتراض يلقى اتنقادا شديدا، فمثلا جفرسون يعتقد بأن العقيدة والرأي ليسا بالشيء الآني، بل هما نتيجة تحصيل العلم بشكل متواصل، وتساؤل وبحث دائم وتبادل لوجهات النظر، فيمكن لسؤال واحد استثاره جواب معين او اعطاء الاجابات أشكالا جديدة مختلفة، ولذا فالأصح أن نقول بأن العقيدة ليست بضاعة يمكن امتلاكها في وقت ما وفقدها في وقت آخر والظن بأن العقيدة يمكن اعتبارها شيئا نستطيع قياسه، أمر يؤذي عملية الاعتقاد وأصل التفكّر الإنساني.

(3 إن ظاهر وطريقة طرح الأسئلة في المسح الجماعي، تنفي عمليّاً ما يعرفه الناس عن أصل الموضوع الذي يتم السؤال عنه وكلياته، فإذا قمنا بالفصل فيما بين فکرتین هما «ما الذي يعتقده الناس بخصوص موضوع ما» وبين «مايعرفه الناس

ص: 153

عن موضوع ما ، فإن نتائج المسح ستختلف كليّاً، ومثال على ذلك: ما أظهره أحد المسوح الشاملة أن 72 % من الأميركيين يعتقدون بوجوب قطع المساعدات الاقتصادية من طرف أميركا إلى نيكاراغوا بينهم 28% يظنون بأن نيكاراغوا موجودة آسيا الوسطى، و 18 % منهم يظنونها قريبة من ،نيوزلاند، و 4.27 % يعتقدون بأنه يتوجب على الأفارقة حل مشكلاتهم بأنفسهم (ويبدو هنا أن هؤلاء خلطوا فيما بين نيكاراغوا ونيجيريا) وإضافة إلى من سبق فإن 8.61% ممن طرح عليهم السؤال لا يعرفون حتى بأن أميركا تقدّم المساعدات لنيكاراغوا، وأخيرا فإن 23% من المبحوثين لم يستطيعوا تحديد معنى المساعدات الاقتصادية أصلا.

4) ورابع مشكلة فيما يخص موضوع اختبار الأفكار هو حقيقة أنه يقوم بتغيير موقع المسؤولية فيما بين الناس والسياسيين الذين انتخبهم الناس، فبدلاً من أن يقوم المنتخبون بالتصميم واتخاذ القرارات بناء على مؤهلاتهم وتفكراتهم، وبالتالي يصبح كل منهم مسؤولاً عن قراره، بدلاً من هذا يتوجب عليهم التأمل في معطيات اختبارات الأفكار العامة في المسوح الشاملة، وبناء على ذلك يضحّون خبراتهم الخاصة في قبالة ما يبدو أن الناس يريدونه في تلك النتائج(1)، وفي هذه الحال، هل يترتب على ذلك تحميل المسؤولية للناس أم للمنتخبين السياسيين في أمور قد قررت مسبقا؟(2)

د) تكنولوجيا الاحصاء:

تكنولوجيا الاحصاء تقدم كميات مكثفة من الاطلاعات غير المفيدة أبداً والتي تجعل من مسألة تشخيص المفيد من غير ذلك أمراً أصعب مما هو عليه في الواقع، فالمسألة هنا ليست فقط في وفرة المعلومات بل أيضاً تعميم المعلومات والمتاجرة

ص: 154


1- منتج أحد البرامج التلفزيونية وبالاستناد إلى نتائج الاحصائيات يقوم يادارة البرنامج معتبرا مستوي المشاهدة هو المؤشر على نجاح البرنامج، فاليوم البرامج الأفضل هي البرامج البسيطة، التي تجذب نسبة أعلى من المشاهدين، وأما البرنامج السيء فهو الذي يشاهده عدد أقل من المشاهدين، وبالنتيجة فان أقصى ما يمكن أن يهتم به المنتجون هو قدرتهم على جذب الملايين لمشاهده برامجهم وبالتالي فليس على المنتج الاهتمام بأمور من مثل (السنن والآداب ومؤشرات علم الجمال والمسائل المرتبطة بوضوح الموضوعات المتنوعة، ورعاية الأذواق والقدرات وما إلى ذلك، وتصير الأفكار العامة هي طرف الخيط الذي يمكن من خلاله الوصول إلى المطلوب وتكون المعيار الوحيد الكافي في هذه البرامج.
2- راجع تكنوبولي، ص 212 - 219.

بها. بدوره الاحصاء يلعب دور جعل المعلومات بأكملها تعرض متوازية ومترادفة، وفي عصر الاستعمار المعاصر الذي اتحد في كل من الحاسوب والاحصاء جنبا إلى جنب، فإن هنالك كميات هائلة من المعلومات المهملة كالنفايات والتي تسقط في المحاورات العامة(1).

حتى اليوم كثير من الكتب تناولت موضوع تأخر المسلمين بالدراسة والتحقيق، وهذا دون النظر إلى اشكالية أن قليلين هم من يعلمون أين تقع بالضبط نقطة «التقدم» لنحتسب على أساسها تأخر المسلمين وقليلون جدا هم من يتوجون إلى هذه المسألة، حيث يكفي أن يكون السبب ليس في قلة المعلومات لديهم، وإنّما في كثرتها ، فكثرة المعلومات تسلب الإنسان الفرصة اللازمة للتأمل والتدقيق، وبناء على هذا يصعب اعتبار كثرة انتشار الكتب والمجلات مصداقا للنمو والتوسع .

إنّ النمو الكمي في هكذا نوع من المكتوبات - والتي بمساعدة من علم الاحصاء يتم تقديمها للناس بطريقة منظمة في مجموعات مرتبة مسبقاً - طالما أنه لم يتحول إلى نمو كيفي، فإنه لن يكون فحسب علامة على عدم التقدّم بل وسيكون عين التأخر وتضاعف الجهل كذلك.

إن الاحصائيات في كثير من المواقع تقطع الطريق أمام التأمّل في حقيقة الأمور وتكنولوجيا الإحصاء قامت بتحويل أغلب الأمور الكيفية إلى كمية، ولهذا السبب فإن فهم الأمر على ما هو عليه في الواقع صار أمراً بالغ الصعوبة، فهل حقاً يمكن قياس أمور كالأخلاق والتبليغ الديني و... وتحويلها إلى أعداد وإحصائيات؟ وهل حقا يمكن قياس قدرات الطلاب من خلال الإختبارات المؤتمَتة؟

5) النتيجة وطريق الحل:

1 - الاستعمار ظاهرة تاريخية وليست مختصة فقط بالعصر الحديث، رغم أن الاستعمار في العصر الحديث هو أكثر تعقيداً بأضعاف مضاعفة من الاستعمار ما

ص: 155


1- تكنوبولي، ص219.

قبل عصر الحداثة، وعلة ذلك في أنه وبناء على فلسفة التاريخ الدينية، فإن مجرى «الحق» هو مسير «استكمالي» ومجرى «الباطل» في مقابل جريان الحق، ذو مسير «متضخم ومعقد»، ومن حيث أن الاستعمار هو أحد مظاهر وممثلي مسير الباطل، فإنه يتأثر مجبوراً بكل من التضخم والتورم، وإذا قبلنا أن الاتجاه العام في جميع مجاري الوجود هو مسير الحق وأن الباطل تابع لمسير الحق، فإنه يمكن وبجرأة القول بأن الاستعمار في جميع أشكاله وقبل أن يكون «فعلا» فإنه «انفعال»، وهذا يتعلق طبعا بميزان قدرة المقاومة والتخريب وبنفس الدرجة يمكن ايجاد الضعف في جبهة الحق، وبالتأسيس على ما سبق فإن أفضل سبيل لمواجهة الاستعمار هو «الاتجاه الإيجابي نحو جبهة الحق» التقوية الجبهة أكثر فأكثر، وليس بالضرورة تطبيق «الاتجاه السلبي نحو جبهة الباطل بهدف تضعيفها»(1).

2) في أي شكل من الاستعمار، يكون السعي نحو تلقين المستعمرين ثقافة مستعمرهم، وبعبارة أخرى، فالاستعمار يريد تحقيق نوع من روح الخضوع وتنفيذ الأوامر في المستعمرين، وبناء على ذلك فإن المستعمر في أشد وجوهه يعمل على مسخ المستعمرين وافقادهم لروح الابتكار والابداع ومن هذه الناحية فإن أهم سبيل في مواجهة الاستعمار هو الاجتهاد للتحرر من قوانين المستعمر وبهدف ايجاد وتقوية الابداع والابتكار الخلّاق.

3) في الاستعمار المعاصر هنالك بؤرتين اثنتين تمثلان السند القوي للاستعمار وهما:

«المذهب» و «المنظمة الدولية»، فالمذهب يعطي الشرعية للاستعمار والمنظمة الدولية تعطيه القانونية، إن دخول الدين إلى محافل الاستعمار المعاصر وضمن مناسباته هو من أهم ما يتميز به الاستعمار المعاصر عن الاستعمار الحديث، فالاستفادة

ص: 156


1- طبعا فان يجب الانتباه إلى أن التداخل الشديد فيما بين السلب والايجاب لا السلب والايجاب لا يسمح بالفصل فيما بينهما، والمقصود من الاتجاه الايجابي نحو الحق والاتجاه السلبي نحو الباطل، هو وصفهم بالأصالة، حيث يمكن في باطن الاتجاه الايجابي، اعمال السلبي وبالعكس، فاذا ما كان اتجاه ما ايجابيا فانه يمكن ومن خلال توضيح وتبيين السلبي ايضاح واظهار الايجاب ، وكذا فان الاتجاه السلبي يمكن تبيينه من خلال اظهار وتوضيح الاتجاه السلبي بما فيه من وجوه ايجابية يمكن البحث فيه.

من عنصر المذهب في الاستعمار المعاصر يحقق امكانية تشكيل ائتلاف أكبر وأكثر دواما وأهمية ومشروعية، وكثير من المشاريع المسيحية - اليهودية يتم تحقيقها حاليا من خلال المساندة المذهبية فعلى الأقل يقدر على ايجاد جبهة مخالفة وبأفضل الطرق، حتى ضمن أفضل علاقات الصداقة فيما بين البلاد الإسلامية والغربية، فلا يمكن إزالة المواجهة الإسلامية - المسيحية، ومن جهة أخرى، فإن «المنظمة الدولية» تاريخيا تأسست فيما بعد عهدين استعماريين هما القديم والحديث وبعد أن قامت الدول الاستعمارية بوضع يدها على كمية لا يستهان بها من ثروات مستعمراتها، والهدف من تأسيسها كان صحوة عامة الشعوب في مواجهة نهب ثرواتهم من قبل مستعمريهم من طرف، ومن طرف آخر لإدامة خطط الاستعمار من مستعمراته ولكن بصورة قانونية ويبدو أنه يجب مضاعفة الجهد من أجل تجديد هوية ومكانة كل من المذهب والمنظمة الدولية في سعيهما لإجراء برامجهما الاستعمارية، لأن هذا الأمر بدوره يسمح بايجاد نوع من الصحوة والثقة الجماعية في شعوب الدول المستعمرة وبالتالي يصعب على الاستعمار تطبيق خططه عليهم.

4) ضمن عملية الاستعمار، تختفي يوما بعد آخر الأشكال القديمة من الاستعمار فما يميز الاستعمار الحديث والمعاصر عن الأشكال القديمة منه، أنهما غير مباشرين وخلافا لما يقال من أن الاستعمار المعاصر عاد من جديد بمساندة من وسائل الإعلام يقيم علاقة مباشرة مع المستعمرين، يجب أن نقول بأن الاستعمار المعاصر وبالعكس استطاع وبمساعدة وسائل الإعلام اخفاء نفسه أكثر ، حيث أنه صار يعرض نوعا من الحرية والمساواة الكاذبتين أمام عيون الشعوب التي لم تنل حظاً وافراً منهما، كما أنه استطاع الترويج لاتجاه معنوي مرتبط مباشرة مع خطط الاستعمار وعلى اتصال بالمعنويات الإنسانية الباطنية بين الناس في كل أنحاء الدنيا واجبارهم على تقبلها، وللحديث تتمة.

ص: 157

ظاهرة الاستعمار:المنشأ والمسار والدوافع

اشارة

محمود کیشانه(1)

الاستعمار أحد أهم الأحداث التي واجهها الشرق الإسلامي في العصر الحديث، نعم كان له جذوره التاريخية التي لا يمكن فصله عنها، إلا أنه في كل الأحوال يمثل العقبة الكؤود التي أعاقت - ولا زالت - الأمة الإسلامية عن تقدمها المنشود، وقد كان هذا أحد الأسباب المهمة التي دفعت الغرب إلى احتلال الشرق واستغلال خيراته.

ولما كان الاستعمار الغربي يمثل إشكاليةً كبيرةً، فقد كان الهدف الرئيس من هذه الدراسة الوقوف على الأسباب التي دفعت الغرب إلى ظاهرة الاحتلال أو ما أطلقوا عليه تمويهّا الاستعمار. ومن ثم قامت الدراسة على مجموعة من المحاور، وهي:

علاقة الأسباب بالمفهوم:

وقد حاولنا في هذا المحور التأكيد على أن مفهوم الاستعمار يكشف بوضوح عن

ص: 158


1- باحث في الفلسفة، محاضر بجامعة القاهرة - فرع الخرطوم.

الأسباب التي دفعت إليه، فالمفكرون الذين قعّدوا للمفهوم تناولوه في الأساس من ناحية الأسباب التي قام عليها مع الأهداف التي كان يتحرك من أجلها.

الأسباب الداخلية التي تتعلق بما هو داخل الشرق الإسلامي:

وفي هذا المحور يظهر بوضوح أنه كان هناك مجموعة من العوامل الداخلية التي تتعلق بالعالم الإسلامي والتي دفعت الغرب دفعًا إلى الغارة عليه، فالموقع الذي يحتله العالم العربي والإسلامي موقع استراتيجي، حيث إنه يتوسط قارات العالم، ويشرف على العديد من المناطق المحورية فيه، ويتحكم في خطوط المواصلات فيها ، وهذا كان سببًا مهمًا بجوار الضعف الذي كان يعتري الدولة العثمانية في ذلك الوقت، حيث فقدت الكثير من قوتها وجبروتها، وصارت في أيامها الأخيرة مطمعًا للغرب باختلاف دوله، هذا فضلاً عن الموارد التي يتمتع بها العالم الإسلامي، والتي كانت دافعًا إلى استغلالها من قبل الغرب، خاصة وأنه كان في حاجة ماسة إلى هذه الموارد حتى يقيم عليها ثورته الصناعية ونهضته الحديثة.

الأسباب الخارجية التي تتعلق بما هو خارج العالم الإسلامي.

أما الأسباب الخارجية فنقصد بها الأسباب التي كانت خارج العالم الإسلامي وهي الأسباب التي تتعلق بالمستعمر، وكلها أسباب في التحليل الأخير تقوم على براجماتية غربية صرفة، تحاول أن تلبي حاجاتها على حساب الآخر دون النظر إلى أي قيم أخلاقية أو مبادئ إنسانية.

أولاً - علاقة الأسباب بالمفهوم:

لا شك في أن لفظ الاستعمار على المستوى اللغوي لا ينطبق بحال على المعنى الأوروبي الذي يسوّق له من بدء احتلال الشرق الإسلامي وغيره إلى الآن، فمعنى استعمار معنىّ قرآني شريف، حيث يقول الله تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُم فيها» (هود: (61)، على معنى طلب إعمار الكون، مع محاولة التطبيق على أرض

ص: 159

الواقع. وهذا المعنى يخالف بالكلية المعنى الذي انتهى إليه على أيدي المغتصبين الغربيين لبلاد الشرق الإسلامي.

ويعرِّف المعجم الوسيط الاستعمار بأنه استيلاء دولة أو شعب على دولة أخرى وشعب آخر لنهب ثرواته وتسخير طاقات أفراده والعمل على استثمار مرافقه

المختلفة(1). ويوافق كل من مصطفى الشهابي وعبد الرحمن حبنكة على هذا التعريف(2).

وإذا كان تعريف الاستعمار يعني إحكام سيطرة دولة غازية أو مجموعة دول أو حتى جماعة ما على دولة أخرى شعبًا وحكومة ومؤسسات بهدف استنزاف موارده والاستفادة بخيراته، فإنّه يحوي في داخله الأسباب أو العوامل التي أدت إلى وجوده.

أما الاستعمار على المعنى الأوروبي وعلى أساس ما أدى إليه واقعه المرير فهو معنی لا يحمل أي قدر من الشرف، إذ كان يعني - في التحليل الأخير - استغلال الشعوب تحت مزاعم واهية بهدف إقامة مستوطنات بعيدة عن القارة الأوروبية، وإملاء الشروط السياسية والاقتصادية عليها مما يمكّن المحتل الأوروبي من استغلال خيرات الشعوب المحتلة وتسخيرها لخدمته وخدمة دولته في الغرب، وهو لا يتوانى في أن يسخر الموارد البشرية - المتمثلة في الإنسان ذاته - في إكمال عملية الخدمة ؛ فهو السيد، والمحتل العبد. وندرك ذلك جيدًا : «المستهلكون في البلاد المستعمرة كانوا يتلقون عام 1953م ما يبلغ 80% من مستورداتهم بأسعار أكثر ارتفاعاً ب- 20 - 50 وأحياناً أكثر أيضاً من الأسعار التي كانوا يحصلون عليها لو أتيح لهم % أن يستوردوا بضائعهم من بلد آخر»(3).

ومن ثم فقد كان عامل السيطرة هو المحصلة النهائية التي لها أن تجمع الأسباب

ص: 160


1- انظر المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، ط2، دار الفكر ، مادة عمر.
2- انظر عبد الرحمن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، بيروت - دمشق، دار القلم، الأولى، 1395ه-، ص .51 وانظر مصطفى الشهابي، محاضرات في الاستعمار ، القاهرة ، 1376ه- - 1956م، ص 23.
3- هنري كلود وآخرون الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، ترجمة: محمد عيتاني مكتبة المعارف. بيروت، ص 17.

مجتمعة لظاهرة الاستعمار وهذه السيطرة لم تكن في مجال دون أخر، وإنما كانت في مجالات مختلفة سياسية اقتصادية اجماعية ثقافية، وغيرها؛ حيث مارس الاستعمار أبشع أنواع النهب والسلب والاحتيال للحصول على موارد البلاد المستعمرة وخيراتها، وهذا بدوره كان له أثر سلبي على الشخصية الواقع عليها فعل الاحتلال، كما كان له أثر سلبي على حضارات الشعوب وثقافاتها وعقيدتها ولغتها القومية، حيث أهدِرت كرامة الإنسان واغتيلت إنسانيته ودمرت حضارته وتراثه وغيرت ثقافته ولغته، وحُورِب دينيًّا وعقديًا.

وكان من مظاهر ذلك التحكم أن الاستعمار فرض لغته وثقافته فرضًا على الشعوب المحتلة، بل إن المستعمر نكاية في الشعوب المستعمرة يسمح لبني جلدته باستيطان أماكن في هذه البلدان المحتلة والتحكم فيها واستباحة ما بها من ثروات.

ومن ثم فإن الاستعمار على هذا المعنى الذي تم تسويقه إعلاميًا لا يحمل أي معنى للشرف ولا النزاهة ولا الكرامة الإنسانية التي يتشدق بها الغرب الآن خاصة وأنه كان سببًا رئيسًا فيما تعانيه هذه الدول من نزاعات أثّرت في العالم كلّه إلى يومنا هذا.

ثانيًا - الأسباب الداخلية:

وهي الأسباب التي تتعلق بما هو داخل الشرق الإسلامي، وهذه الأسباب متنوعة ومتعددة، ومنها ما يأتي:

موقع الوطن العربي والإسلامي:

يعد موقع الوطن العربي والإسلامي من الأسباب الرئيسة التي جعلت الغرب يقوم بحملاته الاستعمارية المتواصلة، فالوطن العربي يقع في موقع متميز بين قارتي أفريقيا وأسيا، وهذا الموقع مکنه من التحكم في العديد من المناطق المحورية في العالم، وهي المناطق التي تعد نقطة التقاء العديد من البلدان والقارات، حيث يتحكم

ص: 161

في مضيقي: باب المندب وهرمز، ومن القنوات والممرات المائية قناة السويس، ومن البحار البحر المتوسط والبحر الأحمر، ومن المحيطات الأطلسي والهندي، ومن الخلجان: الخليج العربي وخليج العقبة وغيرهما، وهذه كلها تعد محطات مواصلات تتحكم في العالم، وهذا ما جعل أنظار الغرب الاستعماري تتجه إلى العالم العربي والإسلامي.

ضعف الدولة العثمانية:

مما لا شك فيه أن الدولة العثمانية كانت دولة مترامية الأطراف، ولكن أصابها الضعف والخلل في نهاية المطاف، وقد بدأ ذلك يظهر جليًا في بدايات القرن الثامن عشر، الأمر الذي حدا بالغرب إلى التفكير في استغلال هذا الضعف، والإجهاز على الدول التي تقع تحت حوزتها ، فقد استقرت لدى الغرب حينها مقولة الرجل المريض وصفًا على الدولة العثمانية، وهذا ما جعل تلك الدول الغربية تتكالب عليها، وتتسابق مع بعضها البعض لنيل الجزء الأكبر منها.

الخوف من دولة إسلامية موحدة:

لا شك في أن أحد دوافع الاستعمار الغربي لبلاد الشرق الإسلامي هو الخوف من الإسلام وقيام دولة إسلامية موحدة، وقد بدأت بوادر هذا الخوف من عدة أمور:

- قوة الدولة الإسلامية في عهد الدولة الأموية والعباسية والفاطمية وغيرها.

- ما أقامته الدولة العثمانية من إمبراطورية مترامية الأطراف.

- ما قام به محمد علي خديوي مصر ونجاحه في إقامة نهضة حقيقة ومحاولة بناء دولة حديثة .

فالخوف من قيام دولة إسلامية يمثل هاجساً كبيراً لدى الغرب لأن قيام هذه الدولة سيقطع عليهم الطريق من وضع اليد على مقدّرات الشرق. لذلك كانت مخططاتهم أبرزها الاستعمار تحاول درء هذا الخطر الذي كان يتهددهم على ظنهم.

ص: 162

ثالثًا - الأسباب الخارجية:

وهي الأسباب التي تتعلق بما هو خارج العالم الإسلامي، ونعني بها الأسباب التي من قبل المستعمر الغربي، وهذه الأسباب أيضًا متنوعة ومتعددة، ومنها ما يأتي:

التحكم والهيمنة على العالم الإسلامي:

وهو من العوامل الرئيسة في الاحتلال الغربي للشرق فقد كانت الدول الغربية تتسابق في احتلاله؛ لكي تظهر كل دولة منها أنها الأقوى على الساحة الدولية، وجدت الفرصة سانحة أمامها باحتلال الشرق واغتصاب كنوزه وكأن الشرق فريسة سهلة المنال وسط مجموعة من الوحوش الضارية؛ فهي تجري فيجري وراءها كل واحد منهم، والكل يتبارون في اقتناصها رغبة في إظهار أنه الأقوى بينهم، وهكذا كان حال بلاد الشرق الإسلامي وغيره من الدول الضعيفة، والتي جعل منها الاحتلال فريسة له.

وفكرة التحكم والهيمنة الغربية لم تكن وليدة القرن العشرين ذلك القرن الذي هجم فيه الغرب بكل ضراوة ووحشية على آدمية الإنسان، بل كانت وليدة قرون موغلة في القدم، رأى فيها الغرب من خلال حملاته الصليبية الأولى أن بلاد الشرق ملك له وحق أصيل لا يستطيع أحد أن يمنعه من الوصول إليه.

وقد ارتبطت ظاهرة الاستعمار الحديث بالنهضة الأوروبية وعصر الاستكشاف وتعزيز السلطات المركزية في كل من البرتغال إسبانيا بريطانيا، فرنسا وبعض الممالك الإيطالية، حيث شهدت أوروبا في نهاية القرون الوسطى تطورات تكنولوجية سريعة، خاصة في مجال الملاحة، فضلاً عن تمكن السلطات المركزية الأكثر استقراراً من تمويل مشاريع طموحة تشمل إرسال بعثات من الملّاحين والجنود والمستوطنين إلى مواقع بعيدة عن بلادهم الأصلية(1).

بل يعتبر معظم المؤرخين أن تأسيس المستعمرة البرتغالية في سبتة عام 1415م

ص: 163


1- انظر الاستعمار على الموقع التاليttps://ar.wikipedia.org/wiki/.

كان نقطة البداية لظاهرة الاستعمار وبغض النظر عن الحملات الصليبية كان احتلال سبتة من قبل الجيوش البرتغالية ومن ثم تأسيس المستعمرة فيها أول عملية لتوسيع سيطرة دولة أوروبية خارج القارة الأوروبية، خلال القرن الخامس عشر، أيام الأمير إنريكيه الملاح الملك أفونسو الخامس والملك مانويل الأول، حيث شنت البرتغال حملات استكشافية بحرية، وأقامت في تلك الفترة محطات تجارية، بما في ذلك محطات التجارة بالعبيد على الشواطئ الأفريقية الغربية بدعم الفاتيكان الذي منحها الأولوية من بين الدول الكاثوليكية في السيطرة على المواقع المعثورِ عليها جنوبي رأس بوجادور. عام 1498 وصل البرتغاليون إلى رأس الرجاء الصالح وفي عام 1497 وصلوا إلى شرقي أفريقيا (1).

اصطناع مركزية غربية.

يعد الاستعمار الغربي الأداة المتوحشة التي اصطنعها الغرب لتحقيق مركزيته العالمية الآن، فقد ارتبطت أسباب الاستعمار بمجموعة من الأهداف التي تتعلق بالدول المستعمرة،«ومن أهمّها تحسين مركز الدول المستعمرة في عمليّة التنافس على المراكز المُتقدّمة في سلّم القوى الدولية، والذي يؤدّي إلى توسيع دائرة نفوذ تلك الدول في المجتمعات الدوليّة والمحليّة، إضافةً إلى تمكّنها من التحكم في القرارات الدوليّة وتوجيهها لمصلحتها، ويمكن توضيح أسباب وأهداف الاستعمار في عددٍ من النقاط، هی: قلب الوضع القائم على الساحة العالميّة، والقيام بمراجعة علاقات القوى بين دولتين أو أكثر، في سبيل الوصول إلى تفوّق محلي، أو من أجل إقامة إمبراطوريّة قاريّة، أو من أجل فرض هيمنة عالميّة، وهذا ما يحدث مع الدول التي تملك شهوة القوّة - حسب رأي العالم الأميركي هانس مورغانتو في تفسيره لمعنى الإمبرياليّة - هي الرّغبة

تحسين وضعها بشكلٍ مستمر دون الاقتناع بالوضع القائم»(2).

بما يعني أن المركزية الغربية أول ما استندت استندت سياسيًا على احتلال الشعوب

ص: 164


1- انظر الاستعمار، على الموقع التالي. https://ar.wikipedia.org/wiki/
2- انظر غادة الحلايقة، أسباب الاستعمار منشور بتاريخ 29 مايو 2016م، على الموقع التالي : .http://mawdoo3.com

بهدف التحكم فيها وإظهار مركزيتها العالمية، وقد تبلورت هذه المركزية في:

- إبراز الفوقية الغربية وتأثيرها في العالم من حولها.

- إبراز النفوذ من خلال التوسع على الأرض استعماريًا.

- التحكم في مجريات الأحداث عالميًا ومحليّا.

ولم يجد زعماء المركزية الغربية أفضل من الاستعمار لإظهار هذه المركزية تطبيقيًا بعد أن مهد لها نظريًا العديد من المفكرين الغربيين من أمثال هيجل وغيره من زعماء الفكر الغربي، فالاستعمار الغربي كان الوريث الشرعي لتلك الأفكار على أرض الواقع.

وتقوم هذه المركزية على العمل الدؤوب على تعزيز مكانتها الدولية، فالمركزية الغربية اتخذت من الاستعمار أداة لتوسيع قدرتها على الساحة الدولية التي لا تؤمن إلا بمنطق القوة، إذ نحن في عالم لا مكان فيه للضعفاء، لا أقصد عسكريًا فقط، بل فكريًا وثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيّا ... إلخ.

فالدول الغربية كانت تتبارى في احتلال الشرق وغيره بحثًا على مكاسب في الأرض ، فمن الأكيد أن الغرب كان في حاجة - ولا يزال - إلى البحث عن موارد نتيجة قلة ما لديه أو تناقصها أو عدم وجودها من الأساس، وهذا ما أدى إلى البحث عنها خارج حدود القارة الأوروبية عن طريق الاحتلال.

وهذا يفسر لنا لماذا جابت البعثات الاستكشافية الغربية العالم؟ ظني أنها كانت بعثات ممهدة للاستعمار سواء أكانت بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، ففاسكودي جاما الذي اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح؛ لم يكن ليفعل ذلك من تلقاء نفسه، ولم تكن لديه الكفاية المالية التي تؤمن له مثل هذه الرحلة العلمية الباهظة التكاليف، كما أن كريستوف كولومبوس الذي كان له الفضل في اكتشاف سواحل أميركا ودورها في التواصل مع العالم من حولها، حتمًا كانت هاتان الرحلتان ممولتين

ص: 165

تمويلاً من نوع خاص يهدف إلى إرسال عيون لاكتشاف العالم بهدف الاستفادة من موارده وتصريف منتجات الدول الغربية التي ضاق بها الوسط المحلي فيها.

ومن ثم فهذا لا شك بأنّه يمثل مرحلة مهمة في ظهور المركزية الغربية وعلاقتها ،بالاستعمار ، فقد كانت هذه الرحلات التي أسست للمركزية الغربية المرحلة الأولى والممهدة للإستعمار في عدد كبير من دول العالم، وهذا يفسر لنا لماذا كان التركيز من قبل الاستعمار على الدولة الغنية بمواردها، ففرنسا احتلت الجزائر وإنجلترا احتلت مصر واليمن وبعض الدول الأفريقية كنيجيريا، وكذلك لم تخرج من السباق البرتغال وهولندا وأسبانيا كانت الدولة المحتلة - إضافة إلى غيرها - تمتلك الموارد التي أسالت لعاب المغتصب الغربي فالحصول على المواد الخام كان بغية استخدامها في الصناعات وسد العجز الذي تواجهه بعض المصانع، لمواكبة الثورة الصناعية.

الأسباب الدينية:

يمكن القول إن بريطانيا كانت أول دولة غربية قننت التبشير، وجعلت له قانونًا خاصًا، حيث أصدر البرلمان البريطاني قرارًا في سنة 1649م، بإنشاء «هيئة نشر المسيحية في إنجلترا الجديدة»، ومن ثم أخذت الجمعيات التبشرية التنصرية تظهر إلى حيز الوجود(1).

ولا شك في أن المكانة الدينية التي كان يحتلها الوطن العربي والإسلامي أحد الأسباب الدينية المهمة التى دفعت الغرب لإرسال حملاته الاستعمارية، فالبقعة العربية كانت بقعة مباركة نزلت فيها معظم الأديان السماوية، وهذا ما جعل الدول الغربية تستثمر هذا الأمر في خدمة مصالحها، خاصة أنها تعللت في دخولها الشرق الإسلامي واستعماره بحماية الأقليات المسيحية، والأماكن المقدسة، وأهمها الأماكن المقدسة في القدس وفلسطين بالعموم.

وقد بدأ الغرب حركاته الاستعمارية بدافع سبب آخر وهو عمليات التبشير أو

ص: 166


1- انظر زاهر ریاض استعمار أفريقيا، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965م، ص 101، 102.

التنصير، إذ يمكن القول إن حملات التبشير كانت تسير جنبًا إلى جنب مع الغزوات الاستعمارية، فقد صاحبتها الإرساليات التبشيرية الدينية، وقد استجابت لهذه الإرساليات جموع من قاطني البلاد المستعمرة، وهذا ما نجده بوضوح في تشاد وأفريقيا الوسطى، ونيجيريا وجنوب السودان.

ولكن لماذا ارتبط التنصير بالاستعمار ؟ إن الإجابة على هذا التساؤل تكشف عن أمر من الأهمية بمكان، وهو أن الإسلام كان يمثل عقبة كؤود تجاه حملات التنصير، فضلاً عن كونه تيارًا مناهضا لحركة الاستعمار الغربي الراعي الرسمي للتنصير، فقوة الإسلام المتصاعدة كانت تخيفهم، لذلك عملوا ما في وسعهم على إيقاف مسيرته،«وبينما كان الإسلام يوشك أن ينهار في أوروبا مع عصر السلاطين من آل عثمان كان لا يزال ناشطًا في تقدمه وفتوحه على أبواب مملكتنا الإفريقية، ويبدو بوضوح أنه أشد الأديان مراسًا في إباء الاستعباد، ولذلك يتمنّى المبشرون أن ينصِّروا المسلمين كلهم، ومع أن التبشير يتناول البوذية والإبراهيمية أيضًا، فإن المقصود الأول بجهود التبشير هم المسلمون، ولقد استوى في هذه الرغبة جميع المبشرين، على الرغم من اختلاف طوائفهم وتباين الأقنعة التي يضعونها على وجوههم»(1).

لا شك في أن السبب الديني يظهر بشدة هنا إذا علمنا أن الكنيسة في أوروبا كانت تريد استعادة المجد الصليبي القديم، بحيث تقوم على أنقاض الإسلام، فالقضاء على الإسلام ونشر الديانة المسيحية كان سببًا دينيًا يضاف إلى جملة الأسباب والدوافع التي ساقها الاستعمار لتبرير جريمته.

وهذا كله يعني حقيقة واحدة، وهي أن الاستعمار والتنصير كانا يعملان في جانب واحد، بل لقد كانت الحركات التنصيرية تعطي التعليمات الدينية للحركة الاستعمارية في الأقاليم المختلفة من العالم الإسلامي(2).

ص: 167


1- مصطفى خالدي وعمر فروخ ، البشير والاستعمار في البلاد العربية صيدا ،بيروت طبعة المكتبة العصرية، 1986م، ص 35.
2- انظر محمد بو الروايح الجدلية التاريخية بين التنصير والاستعمار الفرنسي في الجزائر ، ص 109 دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا، الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، ماي، 2008م .

كما أن التبشير أو التنصير يقوم بما يعجز عنه الاستعمار في أحيان كثيرة، فالمحتل الغربي كان يعلم جيدًا أنه إن عاجلاً أم آجلاً ستحصل هذه البلدان على حريتها، فكان لا بد من أن يؤسس لغزو آخر يبقى أثره ممتدًا لقرون، فكان التبشير هو المعول عليه هنا، يقول اليسوعيون «ألم نكن نحن ورثة الصليبين... أولم نرجع تحت راية الصليب لنستأنف التسرب التبشيري والتحدي المسيحي... وهكذا تستطيع الكنيسة المسيحية بلا حرب أن تسترد تلك المناطق التي خسرتها منذ أزمان طوال»(1).

وهذا ما يؤكده قول القس سيمون في مؤتمر لكنو في الهند ( 1911م ): «إن العامل الذي جمع هذه الشعوب (الإسلامية) وربطها برابطة الجامعة الإسلامية هو الحقد الذي يضمره سكان البلاد للفاتحين الأوربيين، ولكن المحبة التي تبثها إرساليات التبشير النصرانية ستضعف هذه الرابطة، وتوجد روابط جديدة تحت ظل الفاتح

الأجنبي»(2).

الأسباب الاقتصادية:

تعد الأسباب الاقتصادية أحد الأسباب المهمة التي دفعت الدول الغربية إلى استعمار البلاد الضعيفة ونستطيع القول إن هناك ثلاث مراحل للاستعمار الغربي للشرق ارتبطت كلها بالدوافع الاقتصادية:

الأولى، كانت الحملات الصليبية التي كان محورها القدس والمدن العربية ذات الخيرات والكنوز ، ورغم أن هذه المرحلة كانت مغلفة بإطار ديني ظاهريًا فإنها باطنيًا كانت ذات بعد اقتصادي يتطلع إلى اغتصاب هذه الخيرات والكنوز واستغلالها فيما يخدم الدول الغربية ومواطنيها.

والثانية تلك التي كانت مع بداية العصر الحديث في القرن السادس عشر على يد بعض الدول التي كانت تتطلع إلى صناعة مجد جديد، وهي تلك المرحلة التي

ص: 168


1- أحمد عبد الوهاب حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر ، ط1. مكتبة وهبة، 1401ه_ ،ص .154
2- شاتليه الغارة على العالم الإسلامي، تلخيص وتعريب محب الدين الخطيب ومساعد اليافي. ط 4 الدار السعودية للنشر والتوزيع جدة، 1405ه-، ص 102 - 103.

صاحبت الرحلات البحثية والاستكشافية، وقد كانت وجهتها أفريقيا وأسيا وأميركا الجنوبية وأميركا الشمالية ،وأستراليا، وهذه المرحلة كان من ضمن أهدافها الرئيسة البعد الاقتصادي؛ حيث قامت بالأساس على البحث عن الذهب والثروة التي كانت تزخر بهما هذه البلاد.

الثالثة، وهي مرحلة الاستعمار الحقيقة التي تلت الثورة الصناعية في أوروبا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث نتج عن هذه الثورة الصناعية أمران: الأول، وفرة في الإنتاج، والثاني حاجة ملحة إلى المواد الخام ومن ثم كان الاستعمار الاقتصادي وسيلةً لاستغلال المواد الخام في الدول المستعمرة لإقامة ثورتها الصناعية، كما كان وسيلة لتصريف منتجات هذه الثورة لقد وجدنا من الباحثين من يؤكد على هذه الجزئية قائلاً: «فكان الاستعمار هو محور هذه الثورة - يقصد الثورة الصناعية في أوروبا - حيث لم تكن تملك أوروبا من المواد الخام إلا قليلاً من الفحم ومن هنا ارتبطت الصناعة الحديثة بالاستعمار، حيث زحفت البلاد الأوربية على الشرق، واحتلت مناطق متعددة، استطاعت أن تحصل منها على الخامات التي ازدهرت بها الصناعة ، ثم أعادت هذه المصنعات إلى تلك البلاد مرة أخرى لبيعها، فأصبح العالم الإسلامي بالنسبة لها مصدرًا للخامات وسوقاً للتجارة في نفس الوقت»(1).

هذا فضلاً عن الاستثمارات التي قامت بالأساس على استغلال هذه المواد في الدول المستعمرة ذاتها، حيث تدفقت رؤوس الأموال الغربية على أفريقيا مثلاً لاستثمار ما به من خيرات يكفي أن نعلم أن المستعمر الإنجليزي كان يستغل القطن المصري، كما كان المستعمر يستغل الألماس في جنوب أفريقيا والذهب في نيجيريا، وهكذا في كل بلد كان يستغل ما به من موارد ومن ثم وجدنا من الباحثين من يؤكد على ارتباط الاستعمار بالاستغلال منذ نشأته الأولى برباط وثيق، فقد كان الاستغلال هدفًا رئيسًا من بين أهدافه(2).

ص: 169


1- أنور الجندي، الاستعمار ،والإسلام القاهرة، دار الأنصار، 1979م، ص 3.
2- انظر يحي جلال الاستعمار والاستغلال والتخلف، طبعة القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1956م، ص 5.

فضلاً عن ذلك كله فقد شكل تقلص الدور الأوروبي في قارة أميركا سببًا هامًا من أسباب الاستعمار الغربي لبلاد الشرق الإسلامي.

كما كان لحركات التنوير والتحرر الغربي، بما صاحبه من إصلاحات سياسية داخلية، فقد كانت بعض الدول ترى في خروجها من محيطها عبر استعمار هذه الدول

يسمح لها بالتخلص من الإشكاليات التي تواجهها، وأهمها الإشكاليات السياسية والاقتصادية.

ففي فرنسا مثلاً كانت الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الحروب التي قادها نابليون سببًا من الأسباب التي جعلت فرنسا تحاول الخروج من تلك الضائقة، ولم تجد ضالتها إلا في الاستعمار.

ويمكن القول إن هذه الحروب جعلت هناك حاجة ماسة إلى الغذاء والمؤن الحربية حتى تكون فرنسا قادرة على مواكبة نهم نابليون في الوصول إلى أكثر عدد من الأماكن أو البلاد، وفرض سيطرته عليها. وهذا هو السبب الاقتصادي الذي جعل فرنسا تحتل الجزائر، فقد كان هذا القطر العربي والإسلامي الشقيق يمتلئ بالمحاصيل التي توفر الغذاء، خاصة القمح، كما كانت تمتلئ بالمعادن التي تكفي للجانب الحربي. هذا فضلاً عن أن الديون الفرنسية بلغت حدًا كبيرًا، الأمر الذي شكّل إشكالية للاقتصاد الفرنسي إلى حد اعتباره أزمة عاصفة، يكفي أن نعلم أن هذه الديون بلغت 24 مليون من الفرنكات . ومن الممكن القول إن الشعب الجزائري كان مؤمنًا بأن المستعمر الفرنسي ليس لديه هدف غير إبادة العرب وتجريدهم من أملاكهم(1).

فالغرب إذن تغلب عليه الفلسفة المادية، والفلسفة المادية كما يرى أحد المفكريين الإسلاميين هي دين الغزو الغربي في القديم والحديث فالغربيون على اختلاف مواطنهم وحكوماتهم تجمعهم فكرة السطو على أموال الآخرين، فهم يخرجون من بلادهم وقد راودهم حلم واحد وهو الوصول إلى مرحلة الثراء من أقصر الطرق،

ص: 170


1- انظر محمد العربي الزبيري، مذكرا أحمد باي وحمدان خوجه وبوضربة الجزائر ، الشركة الوطنية للنشر والوزيع 1973م، ص .149 148

وكيف يجمعون الثروات الضخمة؟ وكيف يرضون أطماعهم في التشبع من كنوز الدنيا التي ظنوا أنهم ملكوا ناصيتها ؟(1).

فالغرب المستعمر لم يكن يبحث إلا عن مصلحته ، «وليس في حسابهم أبدًا أنهم واجدون في هذه المحاولات أقوامًا لهم حقوق يجب احترامها، كما أنه ليس في حسابهم أن للسلوك الإنساني حدودًا يجب التزامها والدين الذي يعتنقونه لا يفهم إلا أنه ذريعة لتقريب مآربهم، واستباحة خصومهم، لا وظيفة له إلا هذه»(2).

الأسباب السياسية:

كان العامل السياسي عاملاً لا يمكن إنكاره في ظاهرة الاستعمار خاصة الاستعمار الحديث، فالدول الكبرى اتخذت منه وسيلة لأن تضع قدمًا في سباق القوى العالمي، ويكون لها دورها المؤثر في الساحة الدولية، وهذا يؤدي بدوره منفعة كبيرة لها؛ وهو السيطرة على القرارات الأممية والدولية والتحكم فيها، ممّا يؤمن لها نفوذها الاستعماري، ويشرعن لها استغلال الدول المستعمرة، ويقضي بالكلية على كل ما يقف عائقاً أمام تحقيق رغباتها وأهدافها ومصالحها.

وهذا يفسر لنا لماذا عقد مؤتمر برلين عام 1884م ؟ إذ لم يعقد هذا المؤتمر إلا بعد أن حصل تضارب للمصالح بين القوى الاستعمارية بسبب ما سمي بمناطق النفوذ، فلم تكن أي من هذه القوى لترضى بأي دولة تفرض عليها سيطرتها، وإنما كان الاختيار منصبًّا على الدول التي تمثل نفوذاً من نوع ما في موقعها أو مواردها أو الاثنين معّا، ومن هنا نشأ الصراع والتطاحن بين هذه القوى.

ومن ثم فلم تَقنع الدول الغربية بالوضع الراهن الذي كانت فيه، وإنما أرادت أن تبحث عن مجد لها، فبما أن من الناس من لديه الرغبة في القوة أو شهوة القوة ومنهم من لديه الرغبة في المال أو شهوة المال فإن الدول الغربية كانت كذلك،

ص: 171


1- محمد الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع ، القاهرة، طبعة نهضة مصر، الرابعة، 2005م، ص 81.
2- محمد الغزالي السابق، ص 81.

حيث كان لديها رغبة جامحة في الأمرين معًا: القوة والمال، وهذا ما جعل ظاهرة الاستعمار قائمة على الصراع، فقد كان الاستعمار يريد - أولاً - الإجهاز على الوضع السياسي القائم في الدولة المستعمرة، لتحسين وضعه أو وضع دولته، وهو ما تقوم به الإمبريالية في العصر الراهن فتعمل على استهداف سياسة تقوم على مراجعة العلاقات بين الدول كمرحلة أولى للسيطرة عليها وتحسن وضعها الدولي كبديل

للاستعمار.

ولكي يتحقق الدور السياسي الذي كان يرنو له الاستعمار دوليًا عمل على ربط هذا الهدف السياسي بأمر آخر، فقد عمل على تمويل الرحلات والبعثات الاستكشافية، وأهمها :

- بعثة فاسكودي جاما الذي اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح.

- بعثة كريستوفر كولومبوس الذي اكتشف السواحل الأمريكية.

- بعثة ماجلان إلى أمريكا الجنوبية.

ولكي يتحقق الدور السياسي على الساحة الدولية أيضًا عمدت الدول الغربية إلى عدة أنواع من الاحتلال:

الأول الاحتلال العسكري، القائم على استنزاف موارد الدول، والسماح لمواطني الدول الغربية بالتمتع بكل الامتيازات في الدول المحتلة واستجلاب العديد من المستوطنين لهذه الدول، وهذا ما قام به الاحتلال الإنجليزي لمصر واليمن ونيجيريا، والاحتلال الفرنسي للجزائر، والاحتلال الأسباني لبعض من المغرب.

الثاني، الاستيطان، وهذا ما نجده واضحًا بقوة في الاستيطان الذي قامت به هولندا لمناطق من جنوب أفريقيا، وهو الأمر ذاته الذي قامت به إنجلترا في جنوب أفريقيا أيضًا، ومن أبشع صور الاستيطان ما نجده في فلسطين إلى الآن من استيطان صهيوني

سافر.

ص: 172

الثالث الحماية وهو نوع من الاحتلال يجبر فيه المحتل الدولة المحتلة على التوقيع على اتفاقية حماية تكون بموجبها الجوانب المالية والعسكرية والخارجية

بيده وحده.

الرابع الانتداب، فبعد الحرب العالمية الأولى ظهر شكل جديد من أشكال الاستعمار أقرته عصبة الأمم المتحدة التي تكونت حينذاك كمنظمة أممية لنشر السلام ومنع الحروب، فقد كرست عصبة الأمم نوعاً جديداً من الاستعمار وهو الانتداب، حيث ورد إجازته في المادة 22 لميثاق عصبة الأمم التي اعتبرته طريقة للنهوض بالشعوب القاصرة والأخذ بيد هذه الأمم لتكون قادرة على تسيير أمورها، لكنه في الحقيقة كان مظهراً للاستعمار ووسيلة لامتصاص خيرات الشعوب (1)

وتبدو أهمية الاستعمار للمحتل في جانبه السياسي في قدرته على السيطرة على المواقع المحورية في العالم والمناطق ذات التأثير القوي عالميًا، إذ لما كانت الدول المحتلة تريد تعزيز مكانتها على الساحة الدولية فقد عمدت إلى السيطرة على المواقع والمناطق المحورية من العالم، وهذه المناطق تقدم لها خدمات جلية على عدة نواح، منها:

- التحكم في القنوات الرئيسة والممرات الدولية وطرق المواصلات العالمية.

- السيطرة على المضايق وممرات الملاحة الدولية.

- حائط صد يمنع من تكوين تحالفات أو ائتلافات تؤثر على دور الدولة المستعمرة الغربية مركزيًا.

فالاحتلال الفرنسي كان الجانب السياسي غالبًا فيه أيضًا، حيث كان الاحتلال الفرنسي للجزائر خطةً محكمةً كان من ضمن أهدافها أن يصرف شارل العاشر أنظار الفرنسيين عن زلاته بسبب النكوص على مخرجات العملية الديمقراطية التي قبلها

ص: 173


1- انظر مصطفى الشهابي، محاضرات في الاستعمار ص 20-21

الشعب الفرنسي، هذا فضلاً عن أن احتلال الجزائر في تلك الفترة يعني أن بإمكان الملك التخلص من خصومه العسكريين الذين كانوا يناصبونه العداء، ويفتحون عليه باب المعارضة، إضافة إلى محاولة فرنسا الدؤوبة لمحاولة تجميل الصورة التي ظلت تعتريها بعد الخسائر التي منيت بها في أوروبا وغيرها.

الأسباب العسكرية:

كانت هناك بعض الأسباب الاستراتيجية على الصعيد العسكري للاستعمار والتي لا يمكن إخفاؤها بأي حال، فالغرب المستعمر كان يهمه إنشاء قواعد عسكرية تؤمن له طرق المواصلات من الغرب للشرق ومن الشرق للغرب، وهذا يفسر لنا لماذا كانت إنجلترا مهتمة بالأماكن المحورية من العالم الإسلامي والمناطق ذات الموقع الاستراتيجي، خاصة المضايق كمضيق جبل طارق، وخليج عدن وقناة السويس، كما أن هذه القواعد العسكرية كانت تؤمن لها التحكم في الدول الإسلامية، واتخاذها نقطة انطلاقة لاستكمال مسيرتها الاحتلالية الغاشمة التي كانت تزداد ضراوة يومًا بعد يوم.

الأسباب السكانية (الديموغرافية):

انتهجت الدول الاستعمارية آليّة شيطانية، وذلك من خلال القضاء على عدد كبير من السكان أو المواطنين أبناء الشعوب المقهورة، رجاء عملية استيطان ممنهجة من قبل المواطنين الذي يحملون جنسية المستعمر الغاشم، فالاستعمار في الجزائر وليبيا مثلا - مثلما الحال في بلاد الشرق الإسلامي التي استعمرت - قد حرم البلدين من النمو الديمغرافي الطبيعي بتشريد وإبعاد السكان من أوطانهم، وتعويض ذلك بنمو بشري اصطناعي، أي بالسماح للمهاجرين الأوروبيين بالتوطن على أراضي أبناء البلاد، فصار الغزو المدني الأوروبي مكملاً للغزو العسكري، وهذه آلية من آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي»(1).

ص: 174


1- انظر عمیر اوي احميده من آليات الاستعمار الاستيطاني دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، ماي، 2008م، ص 167.

فقد كان تخفيف الضغط السكاني عن الدول الغربية دافعًا للسيطرة على أقاليم معينة ونقل الفائض السكاني إليها وهو ما اعتمدته ألمانيا وإيطاليا واليابان في الحربين العالميتين، ولذا فإن من حق الدول الاستعمارية أن تنمو على حساب المناطق التي فيها أماكن للفائض السكاني، وقد قامت في أوروبا عند اشتداد البطالة في القرن التاسع عشر مدرسة الإصلاح الاستعماري التي دعت لتحويل الفائض السكاني إلى المستعمرات واستخدامهم في الزراعة، وكان في بريطانيا في هذه الفترة (103) جمعيات لهذا الغرض.

ومما لا شك فيه أن المناطق التي اتخذها الاستعمار الأوروبي هدفا له كانت على درجة كبيرة من الضعف والتأخر الاقتصادي والسياسي والعسكري والعلمي وكان هذا دافعا قويا للدول على التوسعات الاستعمارية لاتخاذ مجموعة من الذرائع لتسويغ مسلكها الاستعماري، إذ تحاول إخفاء الدوافع الحقيقة للاستعمار، ولكنها في معظم الأحيان ليست إلا ستارا للأسباب الأصلية(1).

الأسباب الثقافية:

لا نستطيع القول إن الأسباب الثقافية كانت من ضمن الدوافع الرئيسة والجوهرية للاستعمار، وإنما نستطيع القول إنها كانت من الدوافع الفرعية التي تحقق الدوافع الأولى، وتعضد من دورها، وتفعّل من تأثيرها، وقد حاول المستعمر - وهذا ما نجح فيه إلى حد كبير - إعادة تشكيل الحياة الثقافية في البلاد المحتلة، ببناء أطر ثقافية جديدة، بحيث يضمن ارتباط هذه البلاد به أبد الدهر، حتى بعد أن يرحل عنها، وهذا ما حدث بالفعل، وتظهر أثاره بوضوح في وقتنا الراهن.

وكانت الأداة الفاعلة التي حاول العدو الإجهاز عليها؛ كونها العامل الأساسي الذي تقوم عليه ثقافة كل دولة وهويتها هي اللغة، فاللغة هي حجر الأساس في الهوية الثقافية لأي مجتمع ، وهو ما يفسر لنا لماذا كان المحتل حريصًا على أن يستبدل بلغة الشعوب

ص: 175


1- انظر الاستعمار على الموقع التالي. /https://ar.wikipedia.org/wiki

المحتلة لغته هو؛ كعامل رئيس للقضاء على الرابطة الثقافية التي تقوم عليها. والمتأمل في تاريخ الاستعمار يجد هذا واضحًا جليًا، فاللغة الإنجليزية كانت اللغة المعترف بها والرسمية لمستعمرات الهند وجنوب أفريقيا ومصر ونيجيريا ، حتى صارت شعوب هذه الدول تتحدث الإنجليزية، أو على الأقل جعلتها لغة ثانية بعد لغتها الأم الرسمية، كما في مصر مثلاً، ومن الدول المستعمرة التي صارت اللغة الرسمية فيها هي اللغة الفرنسية، مالي وتشاد والسنغال وكوت ديفوار والكاميرون؛ نتيجة فعل الاستعمار، كما نجد اللغة البرتغالية سائدة في موزمبيق وبعض دول قارة أميركا اللاتينية كالبرازيل مثلاً، كما نجد الأسبانية منتشرة في بعض الدول الأخرى من هذه القارة.

هذا فضلاً عن العديد من الدول التي تأثرت بلغة المستعمر، وجعلت من لغته لغة ثانية، فالإنجليزية لغة ثانية في مصر كما قلنا والفرنسية لغة ثانية في تونس والجزائر والمغرب، حتى أنها تكاد تكون اللغة الرسمية في بعض منها.

ولكن هل الأسباب الثقافية كانت عاملاً جوهريًا أو رئيسيًا للاستعمار ؟ الحقيقة أنها لم تكن من الأسباب الرئيسة أو الجوهرية؛ لأن السبب الرئيس أو الجوهري هو تشكيل مركزية غربية يقوي مركزها على الساحة الدولية، والتحكم في الشعوب مع استغلال كنوز الدول ،وخيراتها، أما الأسباب الثقافية فلم تكن غير أسباب ثانوية تستخدمها الدول المحتلة كأداة لتحقيق الهدف الجوهري، بمعنى أنه لكي تحقق الدول الاستعمارية هدفها في التحكم والاستغلال وتشكيل المركزية كان عليها أن تقضي أولاً على الهوية الثقافية التي تقوم عليها هذه الدول المستعمرة، حتى يسهل قيادها والتحكم فيها.

وهذا عامل مهم أولاه المستعمر اهتمامه وعنايته باعتباره الأبقى أثرًا في نظري؛ ذلك أن المستعمر كان يدرك لا محالة أن مسألة وجوده في الدول المستعمرة مسألة وقت ليس إلا، وأن هذه الشعوب ستحصل على استقلالها لا محالة، ومن ثم استغل العامل الأقوى والأكثر استمرارية وهو عامل الثقافة، فنشر ثقافته وعاداته وتقاليده التي تخالف الثقافة والعادات والتقاليد التي عليها تلك الدول.

ص: 176

وقد جنّد المستعمر ما يمكن أن نسميه الطابور الخامس، ذلك الصنف الذي ربّاه المستعمر على عينه ، لكي يقوم بدوره بعد رحيله؛ لإيمانه العميق أنه وإن كان راحلاً وإن كانت الآصرة السياسية قد تقطعت فإن فعل الثقافة واللغة البديلة هما السند الذي به يمتد تأثیره قرونًا عديدة، وهذا ما نجده عند بعض التيارات الحداثية والتنويرية والتقدمية، التي ارتضت أن تكون الأداة التي يضرب بها المستعمر الشعوب الضعيفة والفقيرة.

الخاتمة:

وننتهي من ذلك كله أن الاستعمار لم يكن استعمارًا بل كان احتلالاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يكفي أن ندرك أن هناك العديد من المصطلحات التي تدل على مدلول الاستعمار الحديث ،بدقة، كاحتلال واستدمار وغيرهما من المصطلحات التي تحمل في داخلها أيضًا أسبابه ودوافعه الخبيثة.

فالاستعمار ليس إعمارًا، وإنما استدمار بمعنى تدمير الشعوب المحتلة والقضاء عليها وعلى خيراتها ومواردها ولا شك أن استدمار - بمعنى طلب التدمير - لا يخفى على كل ذي عقل، فالمحتل الغربي إنما جعل تدمير الشرق عاملاً رئيسياً وسببًا جوهريًا من وراء عملية الاحتلال التي قام بها ، فعمل على تدمير الهوية العربية والإسلامية، كما عمل على تدمير النفس الإنسانية قتلاً أم إهانة، وهذا كله وغيره من الأفعال التي ارتكبها إنما هي تدخل تحت طائلة مصطلح «التدمير».

كما أنه كان استحمارًا إن جاز التعبير على قسوته، ونقصد به أن الاحتلال الأوروبي للشرق الإسلامي كان عبارة عن محاولة قيادة الشعوب العربية، كما يقود الرجل حماره، فهذا الشرق كان مطية يمتطيها المحتل؛ ليصل من خلالها إلى ما يريد من أطماع. ويظهر هذا الأمر جليًا في تلك الدعاوى التي كان يطلقها بأنه ما جاء إلا لرفعة هذه البلاد والأخذ بها إلى طريق الحضارة والتقدم مع أنه في واقع الأمر يمارس دور الذكي الذي ينظر إلى من أمامه على أنهم مجرد أغبياء أو مطايا يمتطيها وقتما شاء؛ لكي يصل إلى هدفه المنشود، وهذا لا شك عامل مهم من العوامل التي أرادها الاستعمار .

ص: 177

كما أن الاستعمار كان استقمارًا من القمار، فلقد قامر المحتلون على من يأخذ بنصيب من بلاد الشرق الإسلامي، بل لقد قامر هؤلاء بتاريخ هذه البلاد ولغته وخيراته، وكأن المحتلين الغربيين قد جلسوا على طاولة القمار يقامر كل واحد منهم بما لا يملكه.

والناظر إلى الاستعمار يجده استثمارًا من الأمر والتآمر فقد كان من العوامل الرئيسة في دخول بلاد الشرق الإسلامي واحتلالها واستنزاف خيراتها، أمر هذه البلاد، حتى تسمع له ،وتطيع، فيحتل الأرض والجو والبحر ، يحاول أن ينفذ أمره في الحال، وما على الشعوب إلا الإذعان لهذا الأمر، فهو استثمار يقوم على منطق السيد الذي يأمر والشعب العبد الذي يطيع.

كما كان استخمارًا من خمر الشيء بمعنى غطاه وطمسه، ومنه الخمار بمعنى تغطية الشيء وستره، فأحد أسباب ما سمي بالاستعمار هو إجراء عملية تغطية وطمس للعقول العربية وهويتها ودينها من خلال وضع حجب كثيفة بين الشعوب تاريخها وهويتها ، ودينها، بل وخيراتها الكثيرة ماديًا وبشريًا. وهو على الجانب الآخر استخمار من الخمرة المسكرة التي تغيب العقل، ومن ثم فهو عملية استخمار للعقول وتغييبها بكافة الوسائل؛ بغية وضع الشعوب الإسلامية في مرحلة تغييب الوعي وفقدانه؛ كي يسهل التحكم فيها وسهولة قيادتها.

فضلاً عن أنه كان نوعًا من الاستزمار ؛ إذ المتأمل في فعل الاستعمار الأوروبي يجد أنه أحاط نفسه بهالة إعلامية بأنه ما جاء إلى الشرق إلا من أجل ازدهاره أي ازدهار الشرق، فوسيلته الاستزمار، كمن يمسك مزماراً ويجعل منه أداة إعلانية لنفسه أو لغيره جراء كسب الناس في صفه أو محاولة إيهام الشعوب بنبل موقفه كذبًا وبهتانًا، مستغلاً في ذلك الآلة الإعلامية التي كان يمتلكها ولا زال.

بالإضافة إلى أنه استضمار، على اعتبار أن هذا الاحتلال جاء وهو يضمر الشر لدول الشرق شعوبًا وحكومات، فقد كان يبيّت النية للنيل منها والاستيلاء عليها، وعلى اعتبار أنه أضمر نيته من مجيئه إلى الشرق، فقد أخفى نواياه، وإن كانت أفعاله

ص: 178

تفضحه يومًا بعد يوم. ومن ثم فهو ليس استعمارًا ، وإنما كان استضمارًا لنيته ونواياه الخبيثة رغبة في الوصول إلى هدفه المنشود.

كما يعد الاستعمار استغمارًا، غمر فيه المحتل الدولة المحتلة في بحر من الدم ليس له مثيل، وفي سلسلة من القيوم والاستبداد الذي ليس له مثيل أيضًا، كما غمرها في سلسة من المشاكل التي خلفها وراءه، والتي ترسِفُ فيها الدول المحتلة إلى الآن. فضلاً عما صنعه بالهوية الوطنية والدينية، فقد حاول أن يغمر كل شيء ويخفيه، بل يغرقه حتى لا يكاد يرى له وجود.

والاستعمار قائم على الاستنمار، فقد تنمّر الاستعمار من بداياته، وهذا ما كشفت عنه ،نواياه بالبلاد العربية ونقصد بالاستنمار هنا التنمّر، وهو مأخوذ من لفظ النمر، بما توحي به الكلمة من اعتبار الشرق فريسة ينقض عليها القناص الغربي الذي اختلس صفات النمر من قوة واندفاع وتحقيق المأرب والمراد من الانقضاض على فريسته، كما يحمل معنى الشدة وعدم الرأفة ولو لبرهة واحدة، فالهدف محدد ولا رجعة فيه، وهو تحقيق المصلحة الشخصية، ولا شيء غيرها (1).

بل لقد كان الاستعمار جديرًا بلفظة استهمار لا استعمار؛ لأنه صب جام غضبه على الشرق فقتل حتى أسال دم أبنائه منهمرًا كالماء؛ ولأنه انهمر بشدة نحو الإجهاز على موارده و ممتلكاته وكنوزه(2).

ص: 179


1- والتنمر يعرف بأنه شكل من أشكال العنف والإساءة والإيذاء الذي يكون موجه من شخص أو مجموعة من الأشخاص إلى شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص حيث يكون الشخص المهاجم أقوى من الشخص الآخر الذي قد يكون عن طريق الإعتداء البدني والتحرش الفعلي وغيرها من الأساليب العنيفة، ويتبع الأشخاص المتنمرين سياسة التخويف والترهيب والتهديد . وهذا ما فعله المحتل وأجاد فيه فقد عمل بتنمره على الاستيلاء على الدول الضعيفة وهو ما يفعله دائما النمر، فهو لا يهجم على القوي وإنما يهجم على الفريسة الضعيفة ومن ثم بسط المحتل نفوذه على هذه الدول. انظر سناء الدويكات ما هي ظاهرة التنمر ؟ مقال منشور بتاريخ 24 فبراير 2015م، على الموقع التالي : http://mawdoo3.com
2- وهو من همر بمعنى الصب والسيلان يقال همر الماء بمعنى صب وانهمر الماء بمعنى سال انظر معجم اللغة العربية، القاهرة ، طبعة عالم الكتب، 2008م، مادة همر.
المصادر والمراجع:

أولاً - الكتب:

- أحمد عبد الوهاب حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر ، ط1 مكتبة ،وهبة، 1401ه- .

- أنور الجندي، الاستعمار والإسلام ، القاهرة، دار الأنصار، 1979م .

- زاهر ،رياض، استعمار أفريقيا، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر ، 1965م .

- شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، تلخيص وتعريب محب الدين الخطيب ومساعد اليافي. ط 4 . الدار السعودية للنشر والتوزيع. جدة، 1405ه-.

- عبد الرحمن حبنكة الميداني أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، بيروت - دمشق، دار القلم، الأولى، 1395ه-

- انظر عميراوي إحميده من آليات الاستعمار الاستيطاني ، دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا، الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة ماي 2008م .

- محمد بو الروايح الجدلية التاريخية بين التنصير والاستعمار الفرنسي في الجزائر، دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا، الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، ماي، 2008م .

- محمد العربي الزبيري ، مذكرا أحمد باي وحمدان خوجه وبوضربة الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والوزيع 1973.

- محمد الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع، القاهرة، طبعة نهضة مصر، الرابعة، 2005م .

- مصطفى خالدي وعمر فروخ البشير والاستعمار في البلاد العربية، صيدا، بيروت، طبعة المكتبة العصرية، 1986م .

- مصطفى الشهابي محاضرات في الاستعمار القاهرة، 1376ه- - 1956م .

- هنري كلود وآخرون الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، ترجمة: محمد عيتاني مكتبة المعارف بيروت .

- يحي جلال، الاستعمار والاستغلال والتخلف طبعة القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1956م .

ص: 180

ثانيا - المعاجم :

- معجم اللغة العربية، القاهرة، طبعة عالم الكتب، 2008م .

- المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، ط2، دار الفكر.

ثالثًا - الواقع الألكترونية:

- انظر سناء الدويكات ما هي ظاهرة التنمر ؟ مقال منشور بتاريخ 24 فبراير 2015م على الموقع التالي : http://mawdoo3.com

- غادة الحلايقة، أسباب الاستعمار منشور بتاريخ 29 مايو 2016م، على الموقع التالي:http://mawdoo3.com

ويكيبيديا، الاستعمار ، على الموقع التالي.

/https://ar.wikipedia.org/wiki

ص: 181

الاستعمار والوطنية:تغييب الهوية وإعادة تشكيل الوعي

اشارة

غیضان السید علی(1)

بالرغم من محاولات المُسْتَعْمِر المستمرة في كافة البلدان التي استعمرها من تجمیل صورته القميئة من خلال إشاراته إلى تركه أصداء تطور أو لمحات ازدهار هنا أو هناك، والتي لم تكن في الحقيقة - إلا لرفاهية أفراده ودعم مواطنيه الأصليين الذين يقومون على شؤون الاحتلال وبالرغم من مخادعة مفهوم «الاستعمار» الذي اشتق في معناه اللغوي من الأعمار والعمران أي ما يعمر به البلد ويصلح به حاله بواسطة الاهتمام والارتقاء بالزراعة والصناعة والتجارة وكافة أعمال التمدن والتحضر. يبقى الاستعمار هو الاستعمار مهما تغيرت أشكاله وألوانه وإدعاءاته، يبقى هو الاحتلال والاستيلاء القهري للبلاد المُسْتَعْمَرَةِ، وتبقى المُسْتَعْمَرَةُ إقليماً يحكمه أجنبي محتلّ يقوم باستغلاله اقتصاديًا وعسكريًا، ويسلك في سبيل ذلك كافة السبل التي تمكنه من ذلك الاستغلال من إذلال وإفقار وتجهيل وتعتيم وتغريب، وما إلى ذلك من الوسائل والآليات التي تجعله خاضعًا مطيعًا، وتابعًا سهل الانقياد ومن ثم تبقى كلمة

ص: 182


1- استاذ الفلسفة الحديثة - كلية الآداب جامعة بني سويف - جمهورية مصر العربية.

استعمار، كما يقول مالك بن نبي: هي أخطر سلاح يستخدمه الاستعمار، وأحكم فخ ينصبه للجماهير، وما من خائن يدسه الاستعمار في الجبهة التي تكافح فيها الشعوب المستعمَرة، إلا وكلمة استعمار تفتح له أبوابًا مغلقة في عواطف الجماهير»(1). وقد كان طمس هويات تلك الشعوب المُسْتَعْمَرَة أحد أهم هذه الوسائل وتلك الآليات التي حرص عليها المُسْتَعْمر لإحكام سيطرته وبسط سلطانه على مستعمراته؛ لأنَّ تغييب هويّة هذه الشعوب المحتلة تجعلها مسخًا للمحتل وتابعًا له، وتسهل له عملیات سلب الأوطان، ونهب ثرواتها دون أدنى مقاومة تنتج عن الغيرة على الذات التي ضاعت، أو الهوية التي مُسخت أو أتلفت مكوناتها جزئيًا أو كليًا.

ولذلك ما من مُسْتَعْمِر إلا وقصد جاهدًا إلى محو هويّة القطر المُسْتَعْمَر وتشويه رموزه ومعالمه وهذا ما يفسر حرص المُسْتَعْمِر من أول تطأ قدمه الأرض

يوم المُسْتَعْمَرَةِ على أن تسود هويته في البلاد التي يستعمرها. ويساعده في ذلك ظروف شتّى لعل أهمها على الإطلاق زهوة المنتصر الذي يبدو صاحب الحضارة الأقوى والأجدى والأنفع. فأمام مرارة الهزيمة يتم فقدان الثقة في كل ما هو ذاتي، وتفقد الذات تحت قهر المنتصر كل ثقة في موروثاتها، وتقع في دوامة التلذذ بجلد الذات والتشكيك في كل ما بقي لديها من موروثات، وتتطلع نحو المنتصر لتسلك مسلكه لعلها تحوز أسباب القوة كما حازها. ومن ثم يسهل طريق المُسْتَعْمِر إلى تحقيق هدفه فيسلط سهامه المسمومة إلى الهويّة الوطنيّة بغية طمسها والقضاء عليها. لكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ما هي الهوية؟ وما هي مكوناتها؟

يجب أن نأخذ في الاعتبار أنَّ مفهوم الهوية على العكس تمامًا مما يبدو عليه للوهلة الأولى كمفهوم بسيط ومحدد، لأنَّه مع البحث الدقيق تبدو تهافت بساطته المظهرية، وذلك لتشعّبه وانتمائه لعدة علوم إنسانيّة واجتماعيّة مختلفة المنهج والمناولة. الأمر الذي يبدو معه مفهوم الهويّة مفهومًا مفهوم الهوية مفهومًا متنوع الدلالات والاصطلاحات حيث يتناوله كل علم من منظوره الخاص. وهو ما يقرره أليكس ميكشيللي Alex Mucchielli، في

ص: 183


1- مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة الجزائر / دمشق، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1988، ص28.

مقدمة كتابهِ عن «الهويّة » حيث يقرر أن مفهوم الهوية يوظف في مجال العلوم الإنسانية كمفهوم شمولي، على نحو متزايد وفقًا لدلالات مجازية بالغة التنوع(1). ويفرّق حسن حنفي بين مفهوم «الهويّة» ومفاهيم أخرى تتداخل معه مثل «الماهية» و«الجوهر»؛ ويرى أن الهويّة تتميز عنهما - رغم انتمائهم جميعًا لجذر معنوي واحد وهو الأصل بأنها خاصة بالإنسان والمجتمع، فهي موضوع إنسانيّ خالص، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون بين الواقع والمثال بين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل. وهو الذي يشعر بالفصام، وهو الذي تنقلب فيه الهوية إلى اغتراب. الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون على غير ما هو عليه. فالهُويَّة تعبر عن الحُريَّة، الحرية الذاتيّة. إن وُجدت فالوجود الذاتي، وإن غابت فالاغتراب(2).

وبالرغم من ذلك يمكننا القول بأنَّ الهويّة هي ما يحقق الأنا ذاتيًا ويميزها عن غيرها، وهي شيء أصيل في الوجود الإنساني، فمن يفقد هويته يفقد قدرته على الوجود الذاتي الأصيل، ويشعر بالعدم والخواء والفراغ، ويسهل تشكيله كي يكون أداةً طيّعةً لخدمة من يملك زمام قيادته فيصير تابعًا منقادًا، وينتهي الأمر بهلاكه واندثاره.

أمّا مكونات الهوية فهي تتكون حسب الرؤية الكلاسيكيّة من دعائم أو مكونات ثلاثة كبرى هي اللغة والدين والثقافة وإن كان الباحث لا ينكر وجود دعائم أخرى تقوم عليها هويّة أي أمة من الأمم كالتاريخ المشترك ووحدة العادات والتقاليد وغيرهما. إلا أنَّ الباحث يرى أنَّ هذه الدعائم الثلاث هي الأكثر أهميّة ومحوريّة والتي يكون عليها إجماع من المتناولين لمفهوم الهويّة بمعناه العام، وفي فلكها - أيضًا - تدور الدعائم الأخرى التي يمكن من خلالها تحديد هويّة أي أمة. كما أنّها الأكثر تعرضًا لهجمات المُستعمِر في حربه لطمس الهويات الوطنية. وسوف نتناول جهود الاستعمار لتدميرها أو النيل منها فيما يلي:

ص: 184


1- أليكس ميكشيللي الهوية ترجمة علي وطفة دمشق دار الوسيم للخدمات الطباعية، الطبعة العربية الأولى، 1993، ص .11
2- حسن حنفي الهوية، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، 2012، ص 11.
أولاً: الاستعمار واللغة

تعد اللغة - عند الكثيرين - بمثابة الدعامة الأم التي تقوم عليها الهويّة، حيث يُنسب الإنسان للوهلة الأولى - في غالب الأمر - إلى لغته، فيقال : عربي أو إنكليزي أو فرنسي أو صيني أو ياباني حسب اللغة التي يتكلمها. ولذلك كان الشغل الشاغل للدول الاستعمارية كي تمحو هويّة البلاد المستعمرَة أن تمحو لغة هذه البلاد الأصلية وتحل محلها لغة الدولة المُستَعمِرة، وهو الأمر الذي حاولته بريطانيا في مصر، وايطاليا في ليبيا وفرنسا في تونس والجزائر، وإسبانيا في بعض أجزاء من المغرب. ولولا جهود التعريب التي قام بها المخلصون من أبناء الأمة العربية لمواجهة «الفرنسة» «والانجلزة» لضاعت الدعامة الأم التي تقوم عليها الهوية. وإن كان هذا لا یمنع نجاح تجارب المستعمر في تغييب الهوية لكثير من البلدان، كما فعلت بريطانيا في جنوب إفريقيا وغينيا الاستوائية ونيجيريا والهند، أو فرنسا في دول الغرب الأفريقي (الدول الفرانكفونية)، وأسبانيا في الفلبين وهولندا في أندونيسيا..الخ. وما زال الأوربيون (المستعمر القديم) يحرصون اليوم على إنشاء جامعات أوروبية في البلاد (المستعمرات القديمة) لينشروا لغاتهم وثقافاتهم. بل فتحوا جامعاتهم أمام الدارسين القادرين ماديًا والمتميزين علميًا، لخلق جيل جديد يمثل لغاتهم وثقافاتهم في تلک الأقطار، حتى صار الحديث باللغات الأوربية مدعاة للفخر في سائر هذه البلاد.

ولذلك كانت اللغة من وجهة نظرنا من أهم مكونات الهوية الوطنية للشعوب، وهي بالتالي أهمّ أهداف الاستعمار وسُبُلَه لطمس الهويّة الوطنيّة للشعب المحتَل، فالمستعمِر وهو في طور إحكام سيطرته على البلد المُسْتَعْمَر يحاول بكل السبل شأن اللغة الوطنيّة، وإظهارها بأنها لغة رجعيّة متخلفة غير ملائمة للتطور

التقليل من والتحديث والمعاصرة. في مقابل إضفاء الحداثة والمعاصرة والعظمة والقوة على لغته بوصفها السبيل الوحيد للتقدم والتطور كي يغري الشعوب المحتلة بالانصياع لمخططاته. ويسعى لتحقيق ذلك من خلال صنائعه وعملائه المخلصين من أبناء هذه الأوطان، ومن خلال المناهج والإعلام والمؤسسات التي يُنشئها فارضًا إياها

ص: 185

بكل قوته المستطاعة. وقد قام بعض صنائع الاستعمار وعملائه بدورهم على أكمل وجه، فقدموا لغة المستعمِر على أنَّها اللغة الأفضل، ومفتاح التطور والولوج إلى حياة التحضر والرقي والمدنيّة.

وهنا تبدو المؤامرة التي دُبِرت في الخفاء من قِبل دوائر الاستشراق الروسية والايطالية والفرنسيّة والألمانية والانجليزيّة التي عنيت بدراسة اللهجات العاميّة للشعوب الخاضعة للإمبراطوريّة العثمانيّة لبعث هذه اللهجات وآدابها الشعبيّة تمهيدًا لغرس النعرات المحليّة فيها. وقد لعب الانجليز في مصر دورًا كبيرًا في نشر اللغة العاميّة وذلك عن طريق العديد من الصحف ونشر عشرات الكتب التي تروج للهجة العامية المصرية، لطمس الهوية العربية وتمزيق وحدتها الفكرية عن طريق محاربة اللغة الفصحى التي تجمع بين الأقطار العربية (1)

وهنا يجدر بنا أن نذكر ذلك الدور الذي لعبه عملاء الاستعمار لأداء الدور المطلوب في هدم اللغة العربية، وما أكثرهم عددًا في البلاد العربية، فبسط الهيمنة لا يتجه أولاً إلى عامة الناس وإنما إلى نخبهم المثقفة، فهم الذين يتحولون إلى أدوات تخدم ،المستعمِر، فالنخب وحدها هي القادرة على التعبير والكتابة ومن ثم الذيوع والانتشار. ويكفي هنا أن نذكر ذلك الدور الذي لعبه سلامة موسى في مصر كأنموذج لمحاولات نسف اللغة العربية. وإن لم يكن سلامة موسى هو الوحيد بل شاركه الكثيرون من أمثال قاسم أمين وأنيس فريحة وحسني العرابي وعبدالله جول وإسماعيل أدهم وإبراهيم مصطفى وحسن رفقي وغيرهم ممن تطول بهم القائمة، من الذين ساروا على الطريق الذي رسمه المستشرقون الاستعماريون بدقة من أمثال المستشرق الألماني «ولهلم سبيتا» الذي شغل منصب أمين دار الكتب المصرية، وكذلك الكونت «كرلود لندبرج الأسوجي» واللورد «دوفرين» السياسي الانجليزي، ومهندس الري الانجليزي «ويلكوكس». فقد عمل هؤلاء جميعًا على إيصال رسالة محددة فحواها : إن علة ركود الثقافة في مصر وابتعاد أهلها عن العلم ترجع في المقام

ص: 186


1- عصمت ،نصار فكرة التنوير بين لطفي السيد وسلامة موسى القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014 ، ص .138

الأول أن لغتهم الفصحى الموروثة لغة جامدة تعجز عن مواكبة التطور والتعبير عن ما استجد من أمور علمية ما أكثرها ولابد من تدارك هذا الأمر إذا أراد المصريون أن يلحقوا بركب التطور والحضارة.

وتابعهم في ذلك الكثير من العملاء أو من المخدوعين بالدعوة من أمثال أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وأحمد أمين وغيرهم لتأتي محاولات سلامة موسى هي الأبرز والتي تستوفي كل شروط المستعمر لنسف أهم دعامات الهوية العربية ألا وهي اللغة. وتكمن هذه الدعوة في ثلاثة محاور، هي:

أ- إلغاء النحو وهجر القواعد اللغوية

رأى سلامة موسى وقاسم أمين وأنيس فريحة وغيرهم أنَّ مأزق اللغة العربية يكمن في النحو وقواعده الكثيرة المعقدة، والذي يمثل عقبة كبرى أمام المتعلمين لها؛ ولذلك فلا مانع من إلغائه، ومن ثم يقول سلامة موسى: ولهذا السبب يجب ان نقتصر من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية على تمكين الطالب من المطالعة والفهم، بلا حاجة إلى أي قواعد نحوية، وليس عليه حرج أن يقرأ فيرفع المفعول وينصب الفاعل، مادام يفهم ما يقرأ. حسبه أن يسكن آخر الكلمات كما نفعل نحن حين نقرأ، وبدلاً من هذه القواعد النحوية يجب أن يتعلم الصبي أكبر مقدار مستطاع من الكلمات... أما في المدارس الثانوية فنشرع في تعليم أقل ما يستطاع من قواعد النحو، ولا نُبَالِيَ الإعراب الذي أثبت الاختبار أنه لا فائدة منه بتاتًا (1). ولذلك لم يكن غريبًا أن يُثني موسى على محاولة كل من قاسم أمين وأحمد أمين من خلال دعوتهما إلى إلغاء الإعراب

كما اقترح سلامة موسى وحسن الشريف لإصلاح اللغة الفصحى - وهو اقتراح يهدف إلى نسفها لا إلى إصلاحها - : إلغاء الألف والنون من المثنى، والواو والنون من جمع المذكر السالم، وإلغاء التصغير، وإلغاء جمع التكسير كله والاكتفاء بالألف

ص: 187


1- سلامة موسى البلاغة العصرية واللغة العربية ، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، د.ت، ص 113-114.

والتاء لغير المذكر السالم، إلغاء الإعراب - كما سبق أن بيَّنا - والاكتفاء بتسكين آخر الكلمات، ورسم حرف كبير عند ابتداء الجمل تأسيا بما يحدث في اللغات الأوربية، عدم ترجمة الألفاظ الأوربية والاكتفاء بتعريبها كأن نقول (بسكيلت) ولا نقول دراجة(1).

ب- إحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية

وقد رأى أنصار هذا الفريق ومن أبرزهم عبدالعزيز فهمي وسلامة موسى أن الخطوة الثانية التي يجب اتخاذها لإصلاح اللغة الفصحى هي: إحلال الحروف اللاتينية محل العربيّة، ورأى أنَّ من أهم مظاهر تخلف مجمع اللغة العربية تبدو في تمسكه بالحروف العربية في الكتابة ذات الرسم المضلل تلك الحروف التي تعد في رأيه عاجزة عن توصيل النطق السليم للمصطلحات العلمية الأوربية الحديثة إلى من يقرأها . ورأوا أنَّ في اتخاذ الحروف اللاتينية مظهرًا من مظاهر الرقي والتمدن، وخطوة إيجابيّة نحو اللحاق بركب الحضارة العلميّة الحديثة. بل ونقلة من طور البداوة إلى طور العمران الأمر الذي من شأنه فض النزاع بين الشرق والغرب، والانفتاح على الثقافة العالمية والانخراط فيها (2). كما قرروا أن هناك عدة ميزات أخرى في استخدام الخط اللاتيني، كالتوحيد البشري؛ حيث يصبح هو خط القراءة والكتابة الوحيد لدى جميع الأمم التي تنتج العلم وتمتلكه، والتي تنتفع به وتتعلمه. ويزول الانفصال النفسي بين الشرقيين والغربيين. وتزيد القدرة على استحداث كلمات جديدة بإلحاق بعض المقاطع إلى بعض الكلمات، ولا يكون ذلك في الخط العربي. بالإضافة إلى سهولة استعمال الكلمات العلمية بدون حرج، وفتح آفاق جديدة أغلقها استخدام الحرف العربي لكنها تنفتح باستخدام الخط اللاتيني، هذا فضلاً عن أن سرعة تعلم الخط اللاتيني يُقدَّر بعشر الوقت الذي يستخدمه تعلم الخط بالحرف العربي(3). ومن

ص: 188


1- عصمت نصار فكرة التنوير بين لطفي السيد وسلامة موسى، ص 165.
2- عبد العزيز فهمي، تيسير الكتابة العربية القاهرة مجمع اللغة العربية 1946، .7-5 وأنظر أيضًا عصمت نصار، فكرة التنوير بين لطفي السيد وسلامة موسى، ص 161.
3- أنظر سلامة موسى البلاغة العصرية واللغة العربية، ص 117-118

ثم أخذ عبد العزيز فهمي في الإشادة بالتجربة التركية التي كان لها فضل السبق في تحقيق اتخاذ الخط اللاتيني لكتابة اللغة التركية.

ج- الدعوة إلى استخدام اللغة العَاميّة

تتابعت الدعوات على صفحات مجلتي المقتطف والهلال إلى مناصرة اللغة العَاميّة، وجعلها اللغة الرسمية بدلاً من الفصحى؛ لكونها لغة الناس في المعاملات اليوميّة، وهي الأكثر فهمّا من الجميع، وأنها أوفى تعبيراً، وأدق معنى، وأحلى ألفاظاً؛ الأمر الذي يجعلها أجدر من الفصحى في أن تكون هي اللغة الرسميّة، حيث إن اللغة الفصحى تبدو كلغة الكهنة في المعابد القديمة لا يستطيع فهمها عامة الناس فضلاً عن بعض الخاصة الذين لم يتلقوا تعليمًا لغوياً متخصصاً.

وأكد كل من سلامة موسى ونصرة سعيد أن اللغة الفصحى لغة جامدة، وأنَّ مصيرها إلى الموت، وإنها تعمل على تفكيك وحدتنا القومية المصرية، وتجعل منا أتباعًا الثقافة العربية الشرقية(1). ورأى سلامة موسى أنَّ اللغة الفصحى الثقافة مريضة، وهي مثقلة بقواعدها ومفرداتها التي تجعل من الصعوبة ،تعلمها، فضلاً عن عجزها عن تأدية أغراضنا الأدبية، فتعليم الطب بالعربية كارثة. أما اللغة العامية فبها تقوم الدراما التي لا تقوم على الفصحى إلا في أضيق الأحيان، وبها تتحقق هويتنا المصرية؛ إذ إن اللغة الفصحى تبعثر وطنيتنا المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية. فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب، ويعجب بأبطال بغداد القدماء، بدلاً من أن

يشرب الروح المصرية ويدرس الروح المصرية(2)

ثم يتم الإعلان من قبل سلامة موسى عن أنَّ اللغة العربية ليست اللغة المعبِّرة عن مزاجنا العلمي، وأننا الآن نرطن اللغة الفصحى رطانة، ولم تشربها نفوسنا بعد، ولا أمل في أن تشربها لأنها غريبة عن مزاجنا، ولا تتناسب قط مع لغة التقدم والتحضر والتمدين؛ وذلك لأنها لغة بدوية، والثقافة هي بنت الحضارة وليست بنت

ص: 189


1- عصمت نصار، مرجع سابق، ص .163
2- سلامة موسى اليوم والغد القاهرة سلامة موسى للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1928، ص 74.

البداوة، فلهذا يشق علينا جدًا أن نضع معاني الثقافة في هذه اللغة سواء بالترجمة أو بالتأليف(1). كما تم رفض - من قبل فريق سلامة موسى وأشياعه - الزعم بأن اللغة دعامة من دعائم الهوية، وزعموا بأن القول بذلك وهم كبير، فلم تخسر أوروبا بترك اللاتينية التي كانت لغة الكتابة عند جميع المثقفين عندما اعتمدت كل دولة على لغتها المحلية فلم تكن أبدًا لا اللغة اللاتينية ولا الدين المسيحي أهم الروابط التي كانت تربط الأمم الأوروبية؛ فإن الانجليز قد حاربوا الأميركيين وكلاهما ينتمي إلى لغة واحدة ودين واحد ولم تكن الحروب في القرون الوسطى حين كانت اللغة اللاتينية عامة أقل مما كانت عقب النهضة(2). فالشعور بالنهضة عندهم هو نفسه شعور بالاستقلال، والناهضون الذين دعوا إلى العلم والأدب والتجديد في الأخلاق والسياسة شعروا بكرامة قومية، بعثتهم على الإكبار من شأن اللغة القومية، فاتجه نظرهم إلى المستقبل دون المبالاة للروابط التاريخية في الماضي. لينتهي موسى إلى القول: ولو أن الأوربيين وضعوا الدين ولغة الدين فوق القومية لكانت أوروبا الآن دولة واحدة عاصمتها روما»(3).

ولا شك في أن الدعوة إلى هجر اللغة الفصحى هي دعوة واهية عمل الكثيرون من الدارسين والباحثين على بيان تهافتها ، واثبات أنها دعوة ذات «أهداف مغرضة لا تمت للعلم بنسب»(4) تبنّاها المستعمرون الذين أرادوا أن يتخذوا من قواعد اللغة العربية مبررًا للعدول عنها إلى العامية حتى يقضوا بذلك على أهم مقومات الوحدة العربية والوحدة الإسلامية(5). ولذلك نشأت العديد من التيارات الوطنية والقومية لتؤكد أن اللغة العربية الفصحى لغة طيعة مرنة تتناسب مع كل العلوم وتلائم كافة الأغراض، وتناسب كل تطور مأمول، ولا يضيرها أبدًا دخول بعض المصطلحات

ص: 190


1- سلامة موسى اليوم والغد ، ص 78.
2- سلامة موسى ما النهضة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995،
3- المرجع السابق، ص 75. ص .74
4- نفوسة زكريا سعيد، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، الطبعة الأولى، 1964 ، ص ((د).
5- نفوسة زكريا سعيد، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، 205.

العلميّة إليها، وما أكثر المصطلحات التي أضيفت إليها، وذابت في مجالها العام من كافة المجالات لتجسد كل دعوات هجر اللغة العربية الفصحى أو تغيير حروفها ورسمها أو إلغاء قواعدها هدفًا خبيثًا أراده الاستعمار . ولذلك قال أحد الباحثين عن أبرز رموز هذا التيار الذي وافق هدف المستعمر ، وهو سلامة موسى إنه :«إقليمي.. عدو للعروبة والإسلام. عميل من أخطر عملاء الغزو الفكري.. أرادوه أن يمثل دورًا بعينه.. أن يحمل معول الهدم ليدمر تراثنا العربي وعقيدتنا الإسلامية»(1).

ثانيًا: الاستعمار والدين

يعمل الدين كهوية مميزة للشرقي منذ عصر الفتوحات الإسلامية، وأصبح معيار التفرقة بين الجميع، فلا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى وأصبح الحاكم في كل العصور لا هويّة تمُيّزَه سوى أَنَّه حاكم ،مسلم واستمرت هذه النزعة حتى العصور الحديثة. ومع وقوع معظم الدول العربية تحت السيطرة التركية قَوِيَ التأكيد على الهوية الإسلامية، هوية الدين، على حساب هوية اللغة رغبةً في دمج القوميات الأخرى المتعايشة مع الأتراك داخل الامبراطورية التركية القائمة حينذاك أو ما سمي وقتها ب- «التتريك».

كذلك يمثل الدين في بلاد المغرب العربي اليوم الهوية الوطنية الجامعة؛ حيث إنَّ جميع السكان مسلمون سنیون مالکيون. فالدين من وجهة نظر الكثيرين هو الدعامة الأهم لتمييز الهوية في الشرق، فاللغة يحفظها القرآن وصحيح السنة النبوية، والثقافة مرتبطة بالدين: كالفلسفة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والفن الإسلامي ..إلخ. ولذلك نجد الحديث عن المصير الإسلامي كحديث عن الهوية أو الحديث عن الهوية هو الحديث عن المصير الإسلامي، فمأزق الهوية هو مأزق المصير الإسلامي. ولا يعد ذلك قاصرًا على الهوية العربية الإسلامية فقط، فهناك هويات أخرى لا تقوم إلا على الدين وحده كالهوية اليهودية، التي لا تستند إلا على الدين اليهودي وحده فاليهودية في تفسيرها الصهيوني دين وسياسة.

ص: 191


1- محمد جلال كشك قراءة في فكر التبعية القاهرة مكتبة التراث الإسلامي، الطبعة الأولى، 1994، ص 21

ولكن المناهضين لذلك الرأي، أي أن الهوية تقوم على الدين وحده، يرون أن في ذلك خطورة عظيمة على الأوطان من اعتماد الهوية على الدين؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى شق الصف الوطني والتنازع في الأوطان التي يوجد فيها أكثر من دين. وهو الأمر القائم مثلاً في مصر، كما يشير حسن حنفي قائلاً: فالإسلام دين ودولة، هو الدين الرسمي للبلاد، والشريعة الإسلامية دستورها والحاكمية فيها لله، وهو ما يخيف الأقباط باعتبارهم أهل كتاب أو أهل ذمة وتطبيق الحدود عليهم دون مساواة في المواطنة مساواة؛ في الحقوق والواجبات، وهو ما يخيف أيضًا العلمانيين والليبراليين والقوميين والاشتراكيين والماركسيين»(1).

ولقد حرص المستعمر على إفساد الدين الذي يشكل منبع وحدة الفكر ووحدة الشعور بين أفراد الشعوب المستعمرة ،وجماعاتها، ولذلك كان حريصًا على أن يفسد كل ما يحافظ على الوحدة أو التواصل، وذلك من خلال آليتين:

الأولى : أن يضرب الاستعمار كل قوة مناهضة له، تحت أي راية تجمعت.

الثانية: أن يحول في كل الظروف، بينها وبين أن تتجمع تحت راية أكثر فعالية(2).

ولم تكن هناك راية أكثر فعالية في البلاد الإسلامية أكثر من الدين، حيث يستطيع تجميع الناس وحثهم على الجهاد ضد المحتل الغاشم إلى أن يتحقق النصر أو الشهادة وكلاهما مطلب كل مسلم في كل زمان ومكان. فكان من الطبيعي أن يؤرّق الدين المحتل أينما كان . ولذلك كانت حرب الاستعمار للإسلام حربًا لا هوادة فيها باعتباره العامل الدافع إلى القوة والجهاد والمقاومة. وكانت هذه الحرب بأساليب مختلفة، منها:

أولاً: نقض مفاهيم الإسلام وتحريفها، وخلق دعوات تحمل لواء الإسلام، وتتنكر لأهم مقوماته وهو «الجهاد» الذي هو ذروة سنام الإسلام. حيث ألغته الغاء، أو قللت من أهميته أو عملت على تفسيره تفسيراً خاطئاً.

ص: 192


1- حسن حنفي، الهوية، ص .68
2- مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص 29.

ثانيًا : الطعن على الإسلام والحمل على مقوماته واتهامه بأنه مصدر تأخر المسلمين وضعفهم(1).

وفي الحقيقة ما زال المستعمر الراهن يعمل على هذا الوتر الحساس إلى يومنا هذا، فإذا كان في الماضي يتنكر للمفاهيم الإسلامية وعلى رأسها الجهاد، أو يحرف ويغيّر معناها، فإنه اليوم يقوم بعملية انتقاء لهذه المفاهيم وتوظيفها لخدمته ولصالحه. فيستغل على - سبيل المثال لا الحصر - مفهوم «الجهاد» ذاته لصالحه، وعلى طريقة الحرب بالوكالة دون أن يخسر شيئًا؛ هو فقط يوقع الفتنة ثم يبيع السلاح مقابل أن يستولي على النفط وسائر الخيرات دون نسبة أو تناسب بين المُباع والمشترى، والنتيجة انهيار الأمم في حروب ضد جماعات فهمت الجهاد بالطريقة التي أراد المستعمِر لها أن تفهمه وما داعش من هؤلاء ببعيد . حيث لم تحقق هذه الجماعات الجهادية سوى الخراب للإسلام والمسلمين في كل بقاع العالم الإسلامي شرقًا وغربًا. والرابح الوحيد هي الدول الغربية الاستعمارية الكبرى ثم اسرائيل التي با باتت تشعر بالأمن والأمان، بل باتت صواريخها وطائراتها تصيب أي مكان تستشعر منه الخطر في العالم الإسلامي بمباركة الأشقاء من العرب والمسلمين وبحجة القضاء على الإرهاب والإرهابيين.

أمّا الطعن على الإسلام وتصويره على أنه سبب تأخر المسلمين وضعفهم، فهي دعوة قديمة حديثة راهنة، ما زالت تلوكها ألسنة المستغربين، فقد دأبت الدراسات التغريبية على تشبيه موقف الدين الإسلامي من العلم بموقف الكنيسة الكاثوليكية من العلم في عصر النهضة. وأنَّه لم يكن هناك بدٌ أمام أوروبا إلا أن تنحِّي الدين ورجاله و کنیسته جانبًا لتتطور وتتقدم وتنهض ، وأنها وقتما تخلصت من الدين وسادت العَلمانية الشاملة إلا وقد تحقق لها ما أرادت من تقدم علمي وتقني وحضاري. ومن ثم فلا سبيل أمام الأمة الإسلامية والعربية إذا أرادت أن تلحق بركب الحضارة أن تنحي الدين جانبًا وتسلك نفس المسلك الغربي.

ص: 193


1- أنور الجندي العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1983، ص 397.

رغم أن العلم في الإسلام مطلب شرعي وفريضة دينية كثر الحديث عنها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة . بل أن المتأمّل في أول آيات القرآن الكريم سيجدها «اقرأ» وأن ثاني سور القرآن الكريم نزولاً هي «سورة القلم». الأمر الذي يحمل الكثير من المعاني والدلالات. هذا فضلاً عن العديد من الآيات والأحاديث النبوية الصحيحة التي تُعلي من شأن طلب العلم وضرورة الحرص على طلبه والتفكر في خلق السموات والأرض، وأن المرء كلما ازداد علمًا بالصنعة وبالعالم ازداد إيمانا بالخالق. فليس في الإسلام أبدًا «أطفئ سراج عقلك ثم اتبعني».

وما زالت الشبهات الاستعمارية تُلقى من حين لآخر ضد الإسلام فيدَّعون بأن الإسلام منقول عن الفلسفة اليونانية والحضارة الاغريقية القديمة، وأنه ليس له في بناء الحضارات نصيب يذكر، وما الحضارة الإسلامية العربية سوى حضارة منقولة من اليونان والفرس والروم ، والهند، وأن قصصه ومعجزاته كلّها مستوحاة من الأساطير القديمة؛ فقصة الخلق مستوحاة من ملحمة الخلق البابلية (أنوماليش)، ومن ملحمة جلجامش جاءت قصة نوح والطوفان، وأن المعاد والثواب والعقاب مأخوذ عن أسطورة إيزيس وأوزريس المصرية القديمة... إلى آخر هذه الضلالات. وأن الإسلام وراء تخلف الأمة الإسلامية حيث إنه دين اتكالي محكوم بعقيدة القضاء والقدر. وأن الإسلام غذى النزعة العدائية بين الشعوب ودَرَّبَ أنصاره على مبدأ الحرب والاحتكام للسيف. وهي الشبهة التي مازالت تلوكها الألسنة في الغرب والتي تلحق أي عمل إرهابي عنيف يحدث في الغرب إلى الإسلام والمسلمين للوهلة الأولى وقبل أية تحقيقات أو بحث جاد عن الحقيقة.

ثالثًا: الاستعمار والثقافة

تعتمد هويّة أيَّ أمةٍ على ثقافتها الذاتية التي حاولت الإجابة على تساؤلاتها الخاصة، وتقوم الهويّة الإسلامية على الثقافة الإسلامية التي تربط بين المسلمين جميعًا على اختلاف لغاتهم وجنسياتهم وأعراقهم وتضم الثقافة التي تتأسس عليها الهوية كافة الآداب والفنون والعلوم التي تنتجها الظروف التاريخية والحضارية للأمة.

ص: 194

وتشمل هذه الثقافة العلوم الإسلامية النقلية والعقلية الكلام والفلسفة والتصوف والأصول والعلوم النقلية القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، والعلوم العقلية الرياضية : الحساب والفلك والجبر والهندسة والموسيقى، أو الطبيعية: الطب والصيدلة والمعادن والنبات والحيوان وهي العلوم التي مازالت تربط أرجاء

جميع العالم الإسلامي. وإذا كانت الدولة الإسلامية مثل الإمبراطورية العثمانية قد انتهت فإن الثقافة الإسلاميّة ما زالت باقية. لها مخطوطاتها وجامعاتها ومعاهدها ومدارسها، ومازال طلبة العلم ينتقلون بين المعاهد الإسلامية الكبرى في الأزهر والقيروان والزيتونة والنجف، وما زالت الآثار الإسلامية يتوحد بها الجميع . فما يربط المسلمين هو الإسلام باعتبار لغته ،العربية لغة القرآن، والثقافة الإسلاميّة(1).

وقد رأى الاستعمار أن الثقافة الإسلاميّة هي الوعاء الأكبر الذي يمثل الهويّة الوطنية لكافة الشعوب الإسلامية؛ حيث تنطلق هذه العقلية من النص الديني سواء أكان القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهّرة. فعمل على تغيير هذه العقلية والقضاء على تلك الثقافة القائمة على التراث، ورأى أن تغيير هذه الثقافة هو الهدف الأمثل والأمل المنشود، خاصة أن هذه الثقافة مرتبطة أشد الارتباط باللغة العربية والدين الإسلامي؛ ولذلك فقد نالت الحظ الأوفر من الهجوم الاستعماري الذي رأى أن وسيلة تغيير الثقافة تكمن في التعليم فحرص على غزو التعليم والثقافة بشكل ضخم، وذلك عن طريق إرسالياته ومعاهده الأجنبية، فاستطاع تخريج أجيال جديدة وفق مفاهيمه، وأتاح لهذه الأجيال السيطرة والقيادة والزعامة والحكم في أغلب أنحاء العالم الإسلامي، كما أطلق حركة التبشير لتُحكم تنفيذ هذه الخطة، وفرض على الدولة المحتلة أنظمة تعليمية قوامها تحقيق هذا الهدف. ومن هنا جاء ما وصف بأنه محاربة للإسلام واللغة العربية(2).

وهنا يمكننا القول إنّ الاستعمار وجَّه سهامه المسمومة إلى الثقافة الوطنية، وقام بالتمييز بين ثلاثة تحديدات ممكنة فيما يخص الثقافة، الأول عقلي، يرفض كافة

ص: 195


1- حسن حنفي، الهوية، ص 71.
2- أنور الجندي العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي، ص 396 - 397.

العلوم والفنون والفلسفات العربية الإسلامية مدّعيًا بأنها أصبحت بالية لا تصلح للحاضر ولا للمستقبل، وأن مجرد دراستها هو مضيعة للوقت؛ لأنَّ العقل الذي أنشأها عقل ماضوي انتهت صلاحيته في الوقت الحاضر ، ولابد من تجاوز هذا العقل الأصولي أو الكلامي أو الصوفي، إلى العقل العلمي المملوء بالثقافة التقنية والعلمية المعاصرة. والثاني سياسي، يرفض كافة الحكومات الدينيّة ونظام الخلافة ويدعو إلى الديمقراطية الغربية التي يجب أن تتشبع بها قلوب الجماهير وعقولهم قبل أن يفرضها الساسة على أرض الواقع. والثالث أنثربولوجي، يحاول تحرير المرأة من ناحية، ومن ناحية أخرى تحرير العقول من كافة العادات والتقاليد التي ورثوها عن المجتمع الزراعي أو البدوي بما فيها المعتقدات الدينية والأعراف والأخلاق، والتحلي بقيم وعادات وتقاليد وأخلاق المجتمع الصناعي على غرار النمط الأوروبي.

وعلى هذا عمل المستعمر من خلال آليات ثلاث هي التعليم (الغزو الثقافي)، والتبشير والاستشراق:

التعليم والغزو الثقافي

فطن المُسْتَعْمِرُ إلى مدى احترام الثقافة الإسلامية للتعليم وتعويلها عليه كأهم سُبل النهضة، فحاول أن يستفيد من ذلك إلى أبعد الحدود، بل أنَّ المستعمر جعل من قضية التعليم كبرى معاركه وأعظم عوامل تثبيت قواعده فعمد إلى إقامة الإرساليات والمدارس والجامعات الأجنبيّة الكبرى ليبث من خلالها ثقافته بدلاً من الثقافة الوطنيّة.

فقد اهتم الاستعمار منذ بداياته في الأقطار الإسلامية أن يرافق الفتح السياسي فتح معنوي بحيث يتقرب أهالي المستعمرات من المستعمرين إلى أن يندمجوا فيهم اندماجًا. وذلك بنشر لغة المستعمر، وتعليم الأهالي تعليمًا ينشئ في نفوسهم حب المستعمِر فيستسلمون له عن طواعية. وإذا كان هذا هو الهدف الأكبر فإن هناك هدفًا آخر يتصل به ألا وهو القضاء على الثقافة القوميّة وذلك عن طريق الطعن فيها وإثارة

ص: 196

الشكوك من حولها والشبهات في أعماقها حتى ينظر إليها المواطن نظرة الازدراء والاحتقار، ويُعلي عليها ثقافة المستعمِر التي تُقَدَّم له في قالب برَّاق، وتعرض عليه عرضًا حافلاً بالقوة والبطولة (1).

وهذا عين ما يُقصد بمفهوم الغزو الفكري أو الغزو الثقافي والذي يعني اصطلاحًا: الجهد البشري المبذول ضد عدو ما لكسب معارك الحياة منه، ولتذليل قياده وتحويل مساره، وضمان استمرار هذا التحويل حتى يصبح ذاتيًا إذا أمكن، وهذا هو أقسى مراحل الغزو الفكري بالنسبة للمغلوب، وإن كان في نفس الوقت هو أقصى درجات نجاح الغزاة. وسلاح هذا الغزو يتمثل في : الفكر، والكلمة والرأي، والحيلة ،والشبهات وخلابة المنطق وبراعة العرض، وشدّة الجدل، ولدادة الخصومة وتحريف الكلم عن مواضعه ، وغير ذلك مما يقوم مقام السيف والصاروخ في أيدي الجنود، والفارق بينهما هو نفس الفارق بين وسائل وأساليب الغزو الفكري قديما وحديثًا» (2). ومن ثم كان الهدف الرئيسي، الذي وضعه المستعمر وابتغى تحقيقه من الغزو الثقافي، هو التشويش على كل ما يمكن أن يُبرز الذاتية العربية، والهوية العربية المستمدة من الفكر الإسلامي. فحرص على أن تؤسِّس مناهج التعليم في البلاد المستعمَرة لعزلة إقليمية بين الدول والشعوب، فلا يدرس الطالب سوى إقليمه فقط دون معرفة أي شيء عن الأقاليم الأخرى حتى يقضي تمامًا على بذور أي فكرة من الممكن أن تدعو إلى التوحيد أو التكامل الاقتصادي في المستقبل. كما أن التعليم الأجنبي في الأقطار الإسلامية يعمد إلى تخريج أجيال متشبعة بالثقافة الغربية كارهة للثقافة الشرقية الإسلامية، تنظر بعين الاحتقار والازدراء لكل ما ينتمي إلى تراث.

»(2).

ويرى الدكتور أنور الجندي أنَّ الأحداث المتتالية تكشف كل يوم عن خبيئة المدارس والمعاهد والجامعات الأجنبية المنتشرة في العالم الإسلامي ودورها القوي في عملية الغزو الثقافي، فبين حين وآخر يذاع أن هناك كتاب يدرِّس دعوات تبشيرية

ص: 197


1- المرجع السابق، ص 334 -
2- عبدالستار فتح الله سعيد الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام المنصورة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة 1989، ص 21.

أو تشكيكية في القرآن والسنة. وهذا يعيدنا إلى نشأة هذه المؤسسات في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، حيث كانت تقوم بالدعوة الصريحة إلى المسيحية، وكان لها في هذه الفترة مواقف مؤسفة بالغة الجرأة اعتمدت الإرساليات التبشيرية فيها على نفوذها، وحماية الامتيازات الأجنبية لها، وعلى نفوذ القناصل وضعف الدول الإسلامية. هذا فضلاً عن تركيزها بصورة واضحة على تدريس ثقافة المستعمر وتاريخه ودينه ولغته على نحو واسع الاغراء للشاب المسلم، مبتعدة به عن تاريخه ولغته ودينه بالهجوم والتشكيك ، وإثارة الشبهات والربط بينه وبين تاريخ المستعمر ودينه ولغته ومكانه من الحضارة، والربط بين تاريخ الأمم الإسلامية ودينها وبين وقوعها تحت نفوذ الاستعمار وتخلفها (1).

كما حرص النفوذ الاستعماري أيضًا على تجميد المعاهد الإسلامية الكبرى: كالأزهر والقرويين، والزيتونة، ومعاهد النجف، وأنشأ نظامًا آخر مستقلاً عنه ، له طابعه الغربي الخالص، وخلق خصومة وصراعًا بين المتعاملين وجعل مدارسه ومعاهده هي التي تؤدي إلى المناصب والنفوذ والثروة حين أبقى خريجي المعاهد الإسلامية في درجة منخفضة. وقد كان لهذا الازدواج العلمي وهذه الثنائية أثرهما البعيد المدى في الأخطار التي واجهها العالم الإسلامي طوال هذه الفترة(2).

وهكذا عمل الاستعمار على طمس الهوية الوطنية عن طريق التعليم وبرامجه ومناهجه المختلفة التي انتشرت في غالبية الشعوب الإسلامية، وساعدها في ذلك قوة نفوذ الدول الاستعمارية في البلاد الإسلامية. في حين ضعفت المعاهد والمدارس الإسلامية ضعفًا بيّنا.

التبشير ودوره الاستعماري

في ظل الاستعمار تدفقت البعثات التبشيرية من كافة البلاد الاستعمارية إلى كافة البلاد المستعمَرة ، وبنت مدارسها وكنائسها ومستشفياتها بدعم النفوذ الاستعماري

ص: 198


1- أنور الجندي العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي، ص338
2- المرجع السابق، ص342.

وبدأت تعرض خدماتها على المسلمين قبل الوثنيين. وقد كانت حركات التبشير من أكبر الأعمال التي اعتمد عليها الاستعمار في تركيز وجوده وبقائه، ليس فقط في خلال فترة احتلاله لهذه الأقطار، بل لإعداد ركائز تبقى بعد جلائه عن طريق أجيال تستقطب مفاهيمه وقيمه فحركة التبشير هي في المقام الأول حركة استعمارية لخدمة النفوذ الأجنبي. وكان مقصدها الأول هو هدم الثقافة الدينية الإسلامية في قلوب المسلمين وبيان تخلفها ورجعيتها.

وقد اجتاحت هذه الحملات التبشيرية العالم الإسلامي، وكان أهم أعلامها من العرب جورجي زيدان ويعقوب صروف وفؤاد صروف وفرح أنطون وشبلي شميل وسلامة موسى. وأمام نجاح هؤلاء في مهمتهم اندفع المبشر «زويمر» في جرأة غريبة فدخل الجامع الأزهر ووزع منشوراته بها وقد نجحت تلك الحملات التبشيرية نجاحًا كبيرًا في جنوب السودان، حيث أوجدت فاصلاً كبيراً بين الشمال والجنوب، وحالت بين المسلمين في الشمال والجنوب حتى انحصر الإسلام في الجنوب أمام قوة الحركات التبشيرية المدعومة بالمال، وبالكثير من الخدمات التي يحتاجها الجنوبي، الأمر الذي أدّى في النهاية إلى فصل الجنوب عن الشمال، وأصبحت جنوب السودان دولة مستقلة ليس لها من الهوية العربية والإسلامية شيئًا يُذكر.

وتحت قوة التبشيريين جرت محاولات تجنيس التونسيين بالجنسية الفرنسية وفي المغرب صدر الظهير البربري عام 1930 الذي استهدف إخراج القبائل البربرية المسلمة من حظيرة الشريعة الإسلامية، وإلغاء العلوم التي تُعلَّم باللغة العربية من مناطق القبائل، والعمل على فصل البربر المسلمين عن العرب، ووضع أنظمة خاصة بهم في القضاء والتعليم مستمدة من قوانينهم العرفية القديمة(1). وما زالت الحملات التبشيرية لها اليد العليا في أفريقيا حيث تعمل على تنصير الأفارقة في كل ربوع أفريقيا وأدغالها.

ويرى بعض الباحثين أن الهدف الأسمى للحملات التبشيرية هو نفس هدف

ص: 199


1- المرجع السابق، ص 425

الاستعمار، وهو طمس الهوية الوطنية، فقد «رأى المبشرون والمستعمرون عظمة الثقافة العربية الإسلامية ، وأنها مصدر عزة الشرق وللعرب والمسلمين . ثم أنهم أيقنوا أن أمة لها هذه الثقافة لا يمكن أن تخنع أو تُذل أو تَبيد. وهكذا انصرفت أذهان هؤلاء المبشرين والمستعمرين إلى تشويه وجه هذه الثقافة وإلى الحط من شأنها في نفوس أصحابها» (1)ولذلك عملت حركات التبشير إلى تشويه ما هو إسلامي أصيل والحط من قيمته. وبيان تهافت إسهام العرب والمسلمين في الحضارة الحديثة.

الاستشراق وخدمة الاستعمار

ويعد الاستشراق الحركة الأخطر في فكر الاستعمار، حيث إنها بمثابة المصنع الذي يُعدٌّ الشبهات والطعون ويمدّ بها العاملين في حقل التبشير لإذاعتها وإعلانها «والاستشراق تعبيرٌ أطلقه الغربيّون على الدراسات المتعلّقة بالشرقيين، شعوبهم وتاريخهم وأديانهم ولغاتهم وأوضاعهم الاجتماعية، وبلادهم وأرضهم وحضاراتهم وكل ما يتعلق بهم . وكان هدفهم الأساسي دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية، لخدمة أغراض التبشير من جهة وخدمة أغراض الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية. والمستشرقون: هم الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، ويقدّمون الدراسات اللازمة للمبشرين بغية تحقيق أهداف التبشير ، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار»(2).

وقد تعددت أهداف حركة الاستشراق التي تعمل في الأساس على تفريغ الهوية الإسلامية من مضمونها عن طريق تجنيد أجيال منسلخة من هويتها متأثرة بالمذاهب الغربية الوافدة، وإصدار الموسوعات العلميّة والدوائر المعرفية التي تضم كل ما يتعلق من معلومات اجتماعية ودينية وثقافية وسياسية واقتصادية ..إلخ

ص: 200


1- مصطفى خالدي وعمر فروخ التبشير والاستعمار في البلاد العربية، بيروت، المكتبة العصرية، الطبعة الثالثة، د.ت، ص 218.
2- عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها التبشير - الاستشراق - الاستعمار، كتاب اليكتروني على الرابط التالي:ttp://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?7048-

عن المجتمعات الشرقية لاستغلاله ضد الشعوب الإسلامية عن طريق دس بعض الأكاذيب والضلالات التي تستند إلى حوادث فردية وأحداث استثنائية وقعت في التاريخ الإسلامي للتشكيك وإلقاء الشبهات والمغالطات وافتراء الأكاذيب ودس السموم الفكرية بحيث تكون مرجعًا علميًا للكثير من الباحثين العرب والمسلمين. ولذلك يجب توخي الحذر في الرجوع لمثل هذه الموسوعات والإصدارات العلمية.

ومن ثم كانت حركة الاستشراق هي إحدى أذرع الاستعمار وواحدة من أهم أدواته التي عُنيت بدراسة أوضاع الشعوب والأوطان المستعمرة، تغنيها درسًا وتخطيطاً ومكرًا لتطيل فترة سيطرتها وتستمر في استنزاف خيراتها واستغلال ثرواتها ولتعطل يقظتها وتمنع انبعاثها وهذا ما نلاحظه من الكتابات المتنوعة - العدائية والمغرضة - لكثير من المستشرقين الذين مهدت أعمالهم الطريق لطلائع الغزاة والمستعمرين والصهاينة، ليدخلوا البلاد، ويستعمروا الشعوب، ويزوِّروا الحقائق»(1). وإن كان هذا هو السائد في حركة الاستشراق فإننا لا ننكر وجود بعض المستشرقين المنصفين الذين اتسمت كتاباتهم بالموضوعية والدقة العلمية وعدم التحيّز والإخلاص للعلم والإنسانية.

كما سخّرت الدوائر الاستشراقيّة جهودًا غير عادية للدعوة إلى حرية المرأة على الطريقة الغربية التي تبدو فيها المرأة خارجة على كافة الأعراف والعادات والتقاليد الشرقية، وانطلاقا من تلك الفلسفة الغربية التي تنظر إلى تحرير المرأة من خلال مقولة «النَّدِّية» القائمة على التماثل بين الرجل والمرأة منكرة طبيعة التمايز الطبيعي بينهما، فحلَّت المرأة محل الرجل معتقدة أنها بذلك قد حققت انتصارات لبني جنسها. وبالتزام المرأة الشرقية بهذه الفلسفة الغربية للتحرير(2)تفقد - بصورة تامة

ص: 201


1- منذر ،معاليقي، الاستشراق في الميزان، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1997، ص 8.
2- ويمكن القول أن التحرير الإسلامي للمرأة أعم وأشمل من تلك الندية الغربية، ولا يقدح في ذلك فكرة "القوامة" الإسلامية، فقد كفل الإسلام الحرية للمرأة فجعل لها ذمة مالية خاصة، وأعطى لها الحق في اختيار شريكها، والحق في الانفصال عنه . وما " القوامة سوى درجة استحقها الرجل لتميز طبيعته في ميادين معينة، ولا تعني بحال من الأحوال الانتقاص من مبدأ المساواة، فيقابل "قوامة " الرجل في الأمور التي تناسب طبيعته كرجل "قوامة " المرأة في الأمور التي تناسب طبيعتها كأنثى

وواضحة - هويتها الوطنية، وتتحول - كما يقول محمد عمارة - إلى : «غانية رومانسية أو مسترجلة اسبرطية، أو صورة غلاف، وإعلان سلعة رأسمالية أو جارية مملوكية» (1).

وهكذا تعرضت الثقافة العربية الإسلامية لهجمات ظالمة شنها عليها باحثون ومؤلفون كانوا يمسكون بالأقلام كمعاول للهدم والتجريح والتشويه في عمل ظاهره فيه خدمة العلم والمعرفة والبحث التاريخي، وباطنه الهجوم على التراث العربي الإسلامي وعلى الثقافة الإسلامية(2). وقد قام هؤلاء المستشرقون بذلك للانتقاص من العقلية العربية ومن اسهامها الحضاري بغرض طمس المناطق المنيرة في الهوية العربية الإسلامية والتي يمكن أن تكون منطلقات حقيقية للنهضة الحديثة.

خاتمة

هكذا حاول الاستعمار أن يخدع الشعوب المستعمرَة ويقنعها بأنَّه ما جاء إلا من أجل عمل حضاري وإنساني يهدف إلى ترقية البشرية باعتبار أن الجنس الأبيض هو صاحب الحضارة المسئول عن تمدين الأجناس الملونة فاستعمل هذا المفهوم المخادع والمناقض تماما لمدلول الفعل الحقيقي. فعمل الاستعمار على طمس هوية الأقطار العربية والإسلامية التي وقعت تحت سيطرته الاستعمارية، وتحويل العقلية الإسلامية عن مفاهيمها الأساسية وإثارة الشبهات حول مقومات فكرها الإسلامي. وذلك لتذويبها في الفكر الغربي بصفته هو الفكر العالمي المسيطر بهدف أن يفقد العالم الإسلامي هويته ويَسقط تابعًا للثقافة الغربية. وقد استخدم المستعمِر كافة السبل التي تمكّنه من بسط سلطانه وتمديد فترة احتلاله للأقطار المستعمَرة حتى يتسنّى له استنزاف خيراتها واستغلال ثرواتها ولا مانع من تحويلها إلى أمة تابعة له في ثقافته وفكره ولغته ، ودينه فتظل أبد الدهر منصاعة له محتاجة إليه لا سبيل لها بالإنفكاك عنه ؛ ولذلك كانت مسألة طمس الهوية الوطنية شغله الشاغل وهمَّه

ص: 202


1- محمد عمارة، الغزو الفكري وهم أم حقيقة، القاهرة سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف د.ت ، ص 260
2- عبدالعزيز بن عثمان التويجري مقدمة كتاب محمد فاروق النبهان الاستشراق - تعريفه مدارسه، آثاره، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ايسيسكو، 2012، ص 5.

الأول، حيث إنها السبيل المناسب لتحقيق كل مطامعه وأهدافه الاستعمارية. فعمل على طمس المكونات الرئيسية للهوية العربية الإسلامية المتمثلة في: اللغة العربية والدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية؛ أمّا اللغة فعمل على تغييرها إلى لغة غريبة تمهيدًا لتحويل الشعوب العربية إلى لغته الأصلية، فراح يشيع أنَّ اللغة العربية لغة صعبة كثيرة القواعد لا تفي مفرداتها بمتطلبات النهضة العلمية الحديثة. ومن ثم يجب التخلي عنها والتمسك بلهجات الشعوب العامية وإلغاء قواعدها النحوية، واستبدال الخط اللاتيني مكان خطّها العربي. أمّا الدين فقد أحاطوه بموجات التشكيك وأرجعوا كل أسباب التخلف الذي عمَّ بلاد المسلمين إليه . بل أنَّهم أشاعوا أنه يغذي النزعات العدائية بين الشعوب وهو المنبع الأول لكافة الأعمال الإرهابية والعدائية في العالم. أمَّا الثقافة وهي الوعاء الأكبر الذي يحمل الهويّة الوطنيّة من حيث إنها تقوم على دعامتي اللغة والدين الإسلامي، فقد نالت النصيب الأكبر من حملات النقض والهدم ، فوجهت إليها عمليات الغزو الفكري، وحملات التبشير وحركات الاستشراق . وهكذا كانت خطة المستعمِر لطمس هويات البلاد المستعمرَة بما فيها من خداع وتضليل وتحريف وتشويه لحقائق الأمور. ترمي في النهاية إلى مسخ ونسخ وتشويه هويتنا العربية الإسلامية لتتأبد تبعيتنا الحضارية للغرب ونفقد كل هوية مميزة.

ص: 203

من الهيمنة الاستعمارية إلى النهضة المنشودة:قراءة في مشروع الأفغاني الفكري

اشارة

مصطفی النشار(1)

كان جمال الدين الأفغاني من ذلك الطراز من المفكرين الذين عاشوا فكرهم وعبَّروا بصدق واخلاص عن قضايا مجتمعهم وبلوروا مواقف الناس في عصرهم . وإذا كان قد حدث اختلاف بين الدارسين والشراح حول تفسير بعض أفكاره ومواقفه فإن ذلك قد لا يبرر التناقض التام في تقرير قيمة الرجل بين من يعتبرونه موقظ الشرق، والمقاوم الأكبر للاستعمار، وفيلسوف الاسلام وداعية الأمة إلى النهضة الجديدة (2)وبين من يقللون من دوره ، ومن شأن حصيلته الفلسفية والعلمية، ويعتبرون أن البحث عن

خيط يربط بين أفكاره مضيعة للوقت(3).

ص: 204


1- باحث وأستاذ جامعي - جمهورية مصر العربية .
2- انظر من هؤلاء على سبيل المثال: مالك بن نبي الذي قال عنه أنه موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة ويوم جديد».. نقلاً عن: د. محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص5. شكيب أرسلان الذي قال عنه أنه حكيم الشرق، فيلسوف الإسلام وعالم الكلام وكوكب الإصلاح الذي اطلعه الله في أفق المشرق بعد أن استبد به «الظلام نقلاً عن د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق، ص 42). ارنست رينان الفيلسوف الفرنسي الشهير الذي قال عنه بعد أن التقي به كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن :سينا أو ابن رشد أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين». (نقلاً عن نفس المرجع السابق، ص42).
3- انظر من هؤلاء: د. عاطف العراقي: العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ،1995م ص 132
أولاً: لمحات من حياته الفكرية

أولاً: لمحات من حياته الفكرية(1):

إنه السيد جمال الدين السيد صفتر (أو صفدر) الذي ولد لأسرة عريقة من أقدم الأسر وأكثرها مجداً وشرفاً في بلاد الأفغان - حسب رواية السيد رشيد رضا - لأنها تنتسب إلى السيد علي الترمزي المحدَّث المشهور ويعود في نسبه الأقصى إلى الامام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما .

ويبدو أنه كان لهذه الأسرة سلطة وسطوة وأملاكا كثيرة في بلاد الأفغان ويقال أنها كانت تسيطر على جزءٍ من الأراضي الأفغانية وكانت تحكمة ولها الولاية عليه حتى اغتصبت هذه الأراضي منهم على يد الملك محمد خان. ومن ثم انتقل السيد جمال الدين وأعمامه إلى كابل.

ورغم تعدد الروايات حول أصله وجهة مولده إلا أن تلك الرواية ربما تكون الأصح بين تلك الروايات المتعددة.

ولد السيد جمال الدين عام 1254ه 1839م وقد انتقل مع والده إلى كابل، وهناك عنى بتربيته تربية إسلامية كاملة وقد أبدى الفتى نبوغا لا مثيل له حيث تجاوز العلوم الشرعية لعلوم اللغة العربية ومنهما إلى العلوم العقلية المعروفة في عهده وكانت تضم المنطق والفلسفة العملية أي السياسة والأخلاق بالإضافة إلى الفلسفة النظرية التي تمثلت في الالهيات والطبيعيات، ومن كل ذلك إلى دراسة العلوم الرياضية وبعض نظريات علم الطب والتشريح.

ولما أكمل هذه الدراسات جميعاً سافر إلى الهند ومكث فيها سنة وعدة شهور

ص: 205


1- راجع تفاصيل حياته في د. محمود قاسم: جمال الدين الأفغاني - حياته وفلسفته الهئية المصرية العامة الكتاب بالقاهرة، 2009م، ص 11 وما بعدها. وكذلك في د. محمد عمارة: جمال الدين الأفغاني - موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام، دار المستقبل العربي للنشر والتوزيع القاهرة 1984م، صص 17-94. وأيضا في: د. علي عبد الحليم محمود جمال الدين الأفغاني، دار عكاظ للطباعة والنشر، الرياض 1979م، ص ص . 58-31

ودرس فيها ذات العلوم السابقة وخاصة العلوم الرياضية ولكن على النمط الغربي الأوروبي وعاد بعد ذلك إلى بلاده ومنها إلى بلاد الحجاز ليؤدّي فريضة الحج ثم طال به المقام في بلاد الحجاز لمدة عام وكان ذلك في حوالي عام 1857م الموافق 1273 - 1274ه_. وقد عاود السفر إلى الهند للمرة الثانية عام 1285م ، ومنها إلى مصر في أواخر عام 1286ه_ ، وكانت تلك الزيارة الأولى لمصر زيارة مفيدة استمرت نحو أربعين يوما كان أهم ما فيها أنه التقى بالشيخ محمد عبده الذي تتلمذ على يديه في هذه الأثناء. وكان ما أبداه علماء الأزهر هو ما دفعه دفعاً إلى مغادرة القطر المصري متّجهاً إلى تركيا التي لم يجد فيها أيضا الترحيب اللازم رغم محاولته التقرب إلى علية القوم هناك وعدم اكتساب عداوتهم وقد عاد الأفغاني إلى مصر مرّة أخرى ولكن اقامته طالت هذه المرة حيث استمرت حوالي ثمانية سنوات من عام 1871 وحتى عام 1879م . وفي هذه الزيارة رحبت به مصر حكومة وطلابا حيث خصصت له راتبا شهريا قدره ألف قرش وخصصت له مسكنا بدون مقابل.

وقد كان جمال الدين في كل رحلاته تلك ثائراً على الحكام المستبدين داعيا إلى الثورة ضدهم وكان حلمه هو التخلص من الاستعمار أيا كان لونه لبلاد الشرق.

وقد شغل آنذاك بالمسألة السياسية ووحدة الشرق وكان عام 1876 هو العام الذي قرر فيه أن يعمل بالسياسة، فتصور أن الالتحاق بالماسونية امكانية يساعده على تحقیق أهدافه لبلاد الشرق، لكن ما حدث أنه وجدهم جماعة يعملون لمصالحهم الذاتية، ولم يكن ضمن أهدافهم أبدا تخليص الشرق من الاستعمار والظلم، كما كانوا يدَّعون، أو كما كان يتصور حينما التحق في البداية! ويبدو أن سريان خبر انتماءه إلى الماسونية هو وتلميذه محمد عبده كان وراء خروجه مطروداً من مصر بعد ثلاثة أشهر من تولي الخديوي توفيق حكم مصر، وفي ذات الوقت نفى تلميذه إلى قريتِه، لكن الحقيقة أن الأفغاني ومحمد عبده كانا قد بذرا بذور الثورة في نفوس المصريين بالفعل، ولعله - على حد تعبير محمود قاسم - هو باعث الثورة والنهضة الحقيقية ليس في مصر وحدها بل بلاد الشرق عامة .

ص: 206

وعلى أية حال فقد اتجه السيد جمال الدين الأفغاني من مصر إلى الهند مرة أخرى ووُضع هناك تحت الاقامة الجبرية في حيدر آباد الدكن، ولما قامت الثورة العربية في مصر نقلته حكومة الهند إلى كلكلتا حتى انتهت الثورة. وقد انشغل في هذه السنوات الثلاثة من حياته بكتابة رسالته الشهيرة «في الرد على الدهريين». ولما استقر الأمر للانجليز في مصر، سُمح له بمغادرة المنفى إلى أي مكان شاء بشرط عدم الذهاب إلى بلد اسلامية في الشرق، فاتجه إلى أوروبا قاصداً انجلترا لكن لم تطل اقامته فيها حيث ذهب إلى فرنسا ليواصل كفاحه ونشر أفكاره، ولما استقر في باريس أرسل إلى تلميذه محمد عبده في مصر حيث لحق به واشتركا معاً في تأسيس جمعيتهم الخيرية الشهيرة جمعية «العروة الوثقى» التي صدرت عنها جريدة «العروة الوثقى» التي استهدفت جَمْعَ شمل المسلمين ومحاربة الاستعمار، ومن ثم النهوض بالاسلام والمسلمين وذلك عبر المحاور الأربعة التي حددت لها وهي: الجامعة الإسلامية، الروابط الشرقية، المسألة المصرية، والمسألة السودانية.

ولما حاولت انجلترا استمالته باستدعائه إلى لندن وعرضت عليه حكم السودان مقابل القضاء على الثورة المهدية فيها للتمهيد لاصلاحات بريطانية فيها رفض ذلك قائلا إن السودان ليس مُلكاً لانجلترا حتى تتصرف في عرشه! وعلى كل حال فقد فشلت الثورة المصرية بعد ذلك وقضى عليها الانجليز مما جعل اليأس يدب في نفوس السيد جمال الدين ومحمد عبده وتلاميذه الآخرين وقرّورا حينذاك عدم الخوض مرة أخرى في السياسة والتركيز على إصلاح التعليم. وهذا ماحدا بمحمد عبده الاتجاه إلى بيروت، ولما لم يفلح في مهمته الاصلاحية عاد إلى مصر عام 1306ه- وفي ذات الوقت، اتجه جمال الدين الأفغاني إلى إيران، حيث احتفى به ناصر الدين شاه ولكن هيهات أن يستقر به المقام حيث غادرها بعد ذلك متجها إلى روسيا، ومنها عاد إلى ايران التي خرج منها هذه المرة مطروداً حيث استقر بعد ذلك في البصرة بالعراق لمدة سبعة شهور، ثم غادر بعد ذلك إلى انجلترا مرة أخرى ومنها إلى تركيا بالأستانة حيث رحَّبوا به أجمل ترحيب وعاش مقربا من السلطان، ومن ثم بدأ يبث آراءه الاصلاحية، ويتحدث عن الشورى، وأخذت المشكلات تتصاعد

ص: 207

بينهما على اثر ذلك ،وغيره حتى مرض السيد جمال الدين وأجريت له عملية جراحية وفشلت، وقد توفي اثر ذلك في التاسع من مارس 1897م الموافق للخامس من شوال 1314ه-. وقد قيل حول وفاته الكثير وسرت شائعات عدة أنه مات مسموماً.

وعلى أي حال فقد لقي ما يستحق من تكريم بعد ذلك حينما فطن العالم الاسلامي إلى ضرورة تكريمه باعتباره قد وهب حياته فداء للمسلمين والإسلام حيث نقل رفاته إلى بلده افغانستان عام 1944م ويُحتفل بذكراه منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.

ثانياً: المسألة الشرقية عند جمال الدين:

إن القضايا التي أثارها الأفغاني ويختلف الباحثون حولها كثيرة ومتشعِّبة . لكن ما يربط بین هذه القضايا في اعتقادنا ه- هو تلك الدعوة التي وهب حياته لها وركز حولها جهاده، الدعوة إلى التخلص من الاستعمار الأجنبي البغيض ونهضة الأمة بجهود

أبنائها.

وفي هذا الإطار نجد كثرة استخدامه لاصطلاح «الشرق» في خطابه الإصلاحي سواء المكتوب أو الشفاهي، فقد كتب عن دهري الشرق، وعن المسألة الشرقية، وعن الحكومات الشرقية، وعن الغرب والشرق وعن مصر والمصريين وحكم الشرق، وعن سياسة انكلترا في الشرق. كما شارك في تأسيس «مرآة الشرق». ولما تمرّد على المحفل الماسوني أسس محفلاً وطنياً شرقياً. ولما أسس «العروة الوثقى» هو وتلميذه محمد عبده جعلاها موجهةً إلى الشرق، وداعيةً إلى اتحاد الشرق وأوطانه ضد الاستعمار وأعوانه وكثرت أحاديثه وكتاباته فيها عن الجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية وضرورة اتحاد الشرقيين تحت إمرة حاكم عادل. وبدا في حديثه متفائلاً بصدد مستقبل الشرق رغم أن الظروف التي عايشها جميعاً كانت تشهد بداية حركة الاستعمار الأوروبي الواسعة للكثير من دول الشرق عموما والشرق العربي بوجه خاص!.

فماذا يعني الشرق عند الأفغاني وفي فكره ؟! إن للشرق مفاهيم عديدة منها الشرق القديم وحضاراته ومنها الشرق العربي والشرق الإسلامي، والشرق الأوسط،

ص: 208

والشرق الآسيوي.. الخ فأي شرق يقصد جمال الدين؟! وبأي معنى يفهمه؟! وما هي حدود الشرق عنده؟! وفي مواجهة من كان يدعو لاتحاد الشرقيين؟! وضد من يدعو إلى يقظة الشرق وإلهاب وعي أبنائه؟ وما علاقة الشرق عنده بالإسلام والعروبة: هل هي علاقة تقاطع أم علاقة تكامل ؟ ! وما هو المستقبل الذي ينشده للشرق الذي يدعو إلى اتحاده وتقدمه ؟!.

إن هذه الأسئلة وغيرها تتداعى كثيراً إلى الذهن كلما ذُكر جمال الدين الأفغاني وذُكر معه مصطلح «الشرق». ولعلّنا من خلال الإجابة عنها نكشف عن جوهر جهوده الإصلاحية. ونكتشف بعد مرور قرن على وفاته أنه لايزال يُعبّر عن جانب كبير من الهَمّ «القومي» و«الشرقي» الذي لا يزال جاثماً على عقول المهتمين بالمسألة الشرقية في مواجهة الهيمنة الغربية والاستعلاء الغربي.

ثالثاً: المقصود «بالشرق» عند الأفغاني:

يغلب على معظم الباحثين الظن بأن الشرق عند جمال الدين يقصد به فقط الشرق الإسلامي، وأن الشرقيين عنده هم فقط المسلمون(1).

لكن الحقيقة أنه لم يقصر كلمة الشرق على الشرق الإسلامي، ولم يقصر كلمة الشرقيين على المسلمين وحدهم ، لأنه كان يدرك أن بلاد الشرق لا يقطنها المسلمون فقط، بل بها أيضاً المسيحيون واليهود وأصحاب الديانات الوثنية. والأفغاني لم يكن في يوم من الأيام ممن يفرقون بين مواطني الشرق بسبب العقيدة الدينية التي يدين بها أولئك أو هؤلاء وإنما كان أكثر الفلاسفة توسّعاً بمعنى المساواة وميلا للعمل بها فعلاً بين نوع الإنسان، خصوصاً في الحقوق العامة التي لا يصلح لها معنى إلا بالحرية المعقولة.. كما أنه كان شديد البعد عن التعصّب نفوراً منه وأن ذكر المسلمين في أكثر من مقالة فما ذلك إلا لأنهم العنصر الغالب بأكثريته في الشرق الملّة المسلوبة

ممالكها ومقاطعاتها ولهذا أكثر من ايقاظهم(2).

ص: 209


1- انظر على سبيل المثال: د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق، ص 374.
2- انظر على سبيل المثال: د. محمد عمارة نفس المرجع السابق، ص127-128.

يؤكد ذلك فهم الأفغاني لجوهر الدين ذلك الفهم الذي لا يفرق فيه بين الأديان - رغم ايمانه العميق بالدين الإسلامي ودعوته الدائبة إلى صحوة المسلمين - فالدين فيما يقول قد «أكسب عقول البشر ثلاث عقائد وأودع نفوسهم ثلاث خصال كل منها ركن لوجود الأمم وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية وأساس محكم لمدنيتها.. العقيدة الأولى : التصديق بأن الإنسان ملك الأرض وهو أشرف المخلوقات، والثانية: يقين كل ذي دين بأن أمته أشرف الأمم وكل مخالف له فعل ضلالاً وباطلاً. والثالثة: جزمه بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي.. إلى دار فسيحة الساحات خالية من المؤلمات لا تنقضي سعادتها ولا تنتهي مدتها»(6)(1).

كما أن الروح الدينية التي تحلى بها الأفغاني نفسه ودعى الجميع إلى التحلي بها «لا ترى في الأديان الثلاثة ما يخالف نفع المجموع البشري، بل على العكس تحضه على أن يعمل الخير المطلق مع أخيه وقريبه وتحظر عليه عمل الشر مع أياً كان» (2). «والمقصود بالأديان الثلاثة هنا بالطبع هي الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام».

وقد أرجع الأفغاني الاختلافات في الأديان إلى ما يصنعه «بعض رؤساء تلك الأديان الذين يتاجرون بالدين ويشترون بآياته ثمناً قليلاً ساء ما يفعلون»(3). «إن الأديان في مجموعها - في رأيه - هي الكل وأجزاؤها هي الموسوية والعيسوية والإسلام .. فمن كان من هذه الأديان كلها الحق فهو الذي يتم له «الظهور والغلبة» لأن الظهور الموعود به إنما هو دين «الحق» وليس دين اليهود ولا النصاري ولا الإسلام إذا بقوا أسماء مجردة، ولكن من عمل من هؤلاء بالحق فهناك «الدين الخالص». قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين)(4).

ص: 210


1- جمال الدين الأفغاني: الأعمال الكاملة نشرها د. محمد عمارة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة بدون تاريخ، ص 141.
2- نفسه، ص324 . وانظر أيضاً: محمد عمارة نفس المرجع السابق، ص 129.
3- جمال الدين الافغاني: الأعمال الكاملة، ص 292. وانظر أيضاً: د.محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص129 وما بعدها.
4- جمال الدين الافغانى: الأعمال الكاملة، ص 294.

ويبدو من ذلك بما لا يدع مجالاً للشك أن الأفغاني كان ممن يؤمنون بالتقريب بين الأديان السماوية وردها جميعاً إلى «الدين الخالص» بنص القرآن الكريم. وهناك نصوص كثيرة للأفغاني تشير إلى احترامه كل صاحب دين أياً كان طالما أن دینه يدعوه إلى احترام الآخرين وإلى سلوك الطريق القويم والعيش في سلام مع الآخرين.

لقد كان تصور الأفغاني للشرق بعيداً عن ربطه بالصراع الديني، فعلى الرغم من أنه عرف المسألة الشرقية بقوله إن مختصرها «هو العراك بين الغربي والشرقي وقد لبس كل منهما لصاحبه درعاً من الدين. فالغربي تذرع بالنصرانية، والشرقي بالإسلامية»(1)، إلا أنه كان يرى أنه «إذا كان للضغينة الدينية شيء من الدخل في إيجاد المسألة الشرقية والاحتفاظ بها، فإنها ليست كل أسباب المسألة بدليل أن سلاطين آل عثمان فتحوا وتوغلوا وضموا الممالك وكانوا يدينون بالإسلام، ومن دخل في ملكهم وتحت سيطرتهم كانوا نصارى وأشد تمسكاً بالنصرانية مما هم الآن. فلو كان الدين هو الباعث على كل هذا الحقد والمناهضة لكان الأولى أن يظهر إذ ذاك وعدم ظهوره بل رضوخ الطوائف والإمارات النصرانية للحكم العثماني الإسلامي أكبر دليل على أن مسألة الدين لم تكن هي وحدها الفاعلة في أمر المسألة الشرقية»(2).

ومن جانب آخر فإن الأفغاني حينما كان ينتقد الشرق والشرقيين لا يختص المسلمين وحدهم بنقده؛ فهو يأسف غاية الأسف على أمراء الشرق ويخص من بينهم أمراء المسلمين حيث سلّموا أمورهم ووكّلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية للأجانب عنهم، بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولّوهُم خدمتهم الخاصة بهم في بطون بيوتهم. بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكهم في ممالكهم(3).

ونلمح نفس هذه الرؤية العامة للشرق والشرقيين في خطاب الأفغاني الإصلاحي التحرري في قوله حينما احتلت مصر «إنه قد بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم ،نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته خصوصاً في المسلمين منهم؛

ص: 211


1- نفسه، ص 228
2- نفسه ، ص 228 - 229.
3- نفسه، ص 400 .

فمنهم ملوك أُنزلوا عن عروشهم جوراً، وذوو حقوق في الأمرة حُرموا حقوقهم ظلماً، وأغنياء أمسوا فقراء ..الخ حتى لم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم» (1)

ولعل خطابه الثوري إلى الهنود لكي يثوروا على المحتل البريطاني يُعد أبرز دليل على اتساع مفهوم الشرق عنده ليشمل كل أمم الشرق المستعمَرة بصرف النظر عما يؤمنون به من أديان وحفّزها جميعاً على الثورة على الغربي المستعمر، ذلك الخطاب الذي قال فيه «يا أهل الهند وعزة الحق وسر العدل لو كنتم وأنتم تعدون بمئات من الملايين ذباباً مع حاميتكم البريطانيين، ومن استخدمتهم من أبنائكم فحمَّلتهم سلاحها لقتل استقلالكم واستنفاد ثرواتكم وهم بمجموعهم لا يتجاوزون عشرات الألوف. ولو كنتم أنتم مئات الملايين كما قلت ذبابا! لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمى ويجعل في آذان كبيرهم المستر «غلادستون» وقراً ولو كنتم أنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله فجعل كلا منكم سلحفاة وخضتم البحر بجزيرة بريطانيا العظمى لحررتموها إلى القعر وعدتم إلى هندكم أحراراً»(2).

إن الحديث عن الشرق إذن كان المقصود به عند الأفغاني عموم الأمم الشرقية بكافة طوائفها وبلادها ودياناتها دون أن يقتصر الأمر على المسلمين وحدهم.

وإن كنا نلمح أنه ركز في حديثه على الأمة الإسلامية من بين الأمم الشرقية الأخرى، فإن ذلك كان لضرورة يحتمها انتماؤه الديني والوطني؛ ذلك الانتماء الذي جعله يتنازل عن حلم إيقاظ البشرية جميعاً وأهل الأديان جميعهم، إلى الدعوة إلى ايقاظ بلاد الشرق الإسلامية وحدها. وها هو يعبر عن انكسار حلمه الطوباوي العالمي وتحوله إلى حلم متواضع - وإن ثقل حمله - لإيقاظ الشرق الإسلامي بقوله: «ثم جمعت ما تفرق من الفكر ولممت شعث التصور ونظرت إلى الشرق وأهله فاستوقفني الأفغان وهي أول أرض مس جسمي ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي،

ص: 212


1- نفسه، ص 485
2- نفسه، ص 517 .

فإيران بحكم الجوار والروابط وإليها كنت صرفت بعض همتي فجزيرة العرب من حجاز مهبط الوحي ومشرق أنوار الحضارة، ومن يمن وتابعاتها وأقيال حمير فيها، ونجد وعراق وبغداد والأندلس وحمراؤها. وهكذا كل صقع ودولة من دول الإسلام في الشرق وما آل إليه أمرهم فيه اليوم. فالشرق الشرق وقد خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه وتحري دوائه»(1).

لعلنا لاحظنا حتى الآن مما سبق، أن الشرق عموماً كان الهاجس الذي أرّق جمال الدين الأفغاني ولم يكن يفرق بين مسلم ومسيحي أو بين مسلم ويهودي، فكلها أديان الله التي تعود إلى «الدين الحق الخالص»بمفهومه القرآني الشامل !

ولكن لما كان الانتماء إسلامياً والاسلام هو آخر الأديان السماوية الثلاثة وهو من عاش أهل الأديان الأخرى في كنفه سعداء أمنين، ولما كان المسلمون هم العنصر الغالب في بلاد الشرق فضلاً عن أنهم الملة المسلوبة ممالكها ومقاطعاتها في ذلك العصر، فقد وجه الأفغاني خطابه الإصلاحي إليهم وركز همه في إيقاظهم.

وبهذه اللغة المفعمة بالعاطفة المغلفة بالرمز الغني بالدلالات التاريخية حدد وجهة تركيزه على كل ما هو شرقي مسلم. وتحدث أحياناً عن الكل وقصد الجزء، أو عن الجزء وقصد الكل، فالكل يتضمن مجموع أجزائه، والجزء إشارة إلى الكل الإسلامي الشرقي الذي ينتمي إليه وينضوي تحت لوائه. فلقد تحدث ووحد في حديثه أحياناً بين العربي والشرقي»(2)وأحياناً بين الشرقي والمصري(3)، إلخ. لكنه في كل الأحوال كان يخاطب الإنسان الشرقي المسلم بصفة عامة دون أن يميز بين الطوائف أو بين البلدان. فالكل عنده كانوا في الهم سواء!.

ولعله يجدر بنا الآن أن نتساءل عن الكيفية التي أدى بها الأفغاني رسالته الاصلاحية للأمم الشرقية وخاصة الإسلامية منها؟!

ص: 213


1- نفسه، ص .296-295
2- انظر نفس المصدر، ص 453.
3- انظر نفس المصدر ونفس الصفحة .

إنه قد أدى هذه الرسالة مستخدماً كل الوسائل المتاحة أمامه، فقد جاب العالم شرقه وغربه، استقبل كبطل هنا وكمنفي منبوذ هناك، قوبل بترحاب في أماكن عديدة، وقوبل في غيرها بالسجن والاستهانة به وبمكانته وكان في كل مكان يحل فيه لا هدف له ولا عمل يؤديه إلا محاولة كشف المستور من هموم الشرقيين وما يعانونه من استعمار واستعباد وهوان، وهو يكشف عن ذلك المستور بعقليته التحليلية الناقدة الثاقبة فيظهر أمام القارئ أو السامع علل هذا الهوان وذلك التخلف الذي يعاني منه أهل الشرق. ولا يتوقف عند حد تشخيص الداء وبيان أسبابه وإنما يقدم لكل داء الدواء المناسب بحسب الحالة التي يشخصها ومستوى المخاطب الذي يخاطبه. وصدق الإمام محمد عبده حينما وصفه قائلاً «كأنه حقيقة كلية، تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله»(1). لقد كان الأفغاني يؤدي رسالته فيما يكتب أو يقول محافظاً على مستويات الخطاب ومراعياً مكانة ومستوى

المخاطب.

أما المضمون الذي حمله خطابه فكان دائماً على صورتين؛ صورة سلبية يكشف فيها عن الداء محدداً المرض الذي يعاني منه المجتمع الشرقي وأفراده حكاماً ومحكومين، وصورة إيجابية يحدد فيها الدواء لهذا المرض محاولاً إقناع المريض بشتّى الوسائل أن يتجرعه وإن كان طعمه مراً. فلقد كان الأفغاني مدركاً أن الأمراض والعلل التي يعاني منها الإنسان الشرقي في مختلف البلدان أمراضاً فتاكة وعللاً طال بها الزمن وتخللت أركان المجتمع فاستسلم لها وتكيف مع أضرارها! وكان مدركاً في ذات الوقت أن علاج هذه العلل والأمراض ليس مستحيلاً؛ فإن كان من الصعب على المريض تجرع الدواء؛ فإن جسده لا يزال قادراً على التحمل. وإن كان الجسد منهكاً فإن الروح لا تزال موجودة قادرة على أن تتيقظ وتوقظ معها الجسد وتتغلب على أمراضه وخموله!!

لقد حدد الأفغاني لنفسه الهدف وهو النهوض بهذه الأمة الشرقية المسلمة. أما

ص: 214


1- نقلاً عن : نشرة محمد عمارة الكاملة للأعمال الكاملة، الدراسة التي كتبها عن الافغاني، ص 99.

وسيلة تحقيق الهدف فهي تحليل الأسباب التي أدت إلى إخفاق الشرق عموماً والشرق الإسلامي خصوصاً، ثم النظر في كيفية التخلص من هذه الأسباب التي كان أهمها بالطبع الاستعمار الأجنبي ومحاولة الغربيين الهيمنة والاستيلاء على مقدرات بلاد الشرق.

رابعاً: أسباب تخلف بلاد «الشرق» وكيفية نهوضها:

تحدث الأفغاني عن أسباب كثيرة لتخلف بلاد الشرق منها ما يتعلق بما يجري داخل بلاد الشرق ولدى مواطنيه ، ومنها ما يدبر لها من خارجه وإن كان قد أدرك أن الارتباط بين الأسباب الداخلية والخارجية ارتباط لا تنفصم عراه. ولذلك تحدث عن هذه الأسباب بشكل متداخل وحدد مع كل منها كيف يمكن التغلب عليه لتحدث النهضة المرجوة. ويمكننا إجمال هذه الاسباب وعوامل التغلب عليها لديه فيما يلي:

أ) من «الإحساس بالدونية» إلى الإحساس بالحمية والقوة:

لقد أدرك الأفغاني أن من أشد الأشياء وطأة على الإنسان الشرقي هو ذلك الإحساس بالدونية الذي ينتابه إذا مانظر إلى تخلفه وتردي أوضاعه بالقياس إلى تقدم الغرب وما ينعم به أفراده من به أفراده من سعادة ورخاء. ويزداد الأمر خطورة إذا ما استشرى هذا الإحساس بالدونية بين الشباب الذين هم عدة المستقبل والأمل في غد أفضل. وقد لاحظ الأفغاني أن «الناشيء الشرقي يعتقد أن كل الرذائل ودواعي الحطة ومقاومات التقدم إنما هي في قومه»(1). ويترتب على ذلك أن هذا الناشيء «يجري مع تيار غريب من امتهان كل عادة شرقية ومن كل مشروع وطني تتصدى له فئة من قومه أو أهل بلده ويأنف من الاشتراك في أي عمل لم يشارك فيه الأجنبي ولو اسما ويسارع لتقديس وتصويب كل خطأ أتيه الغريب ويسهِّل له كل صعب ويطّلع على هنات قومه وزللهم

وموقع الضعف منهم. وبالاجمال يكون الآلة القاطعة الفاعلة للغريب في جسم قومه »(2).

ص: 215


1- جمال الدين الأفغاني: نفس المصدر، ص 190.
2- نفسه.

ولا شك أن الإحساس بالدونية حينما يسيطر على أبناء أمة ما يكون ايذانا بخمولها وإصابة أفرادها بالاحباط وعدم القدرة على الفعل والإبداع. ولكن إذا كان هذا الإحساس بالدونية قد استشرى فعلاً بين أفراد الأمّة وسيطر على شبابها - وما أشبه اليوم بالأمس - كما ألمح إلى ذلك وكشف عنه جمال الدين، فكيف يرى الخروج من هذا الإحساس؟!

إنه لا يرى مخرجاً من هذا الإحساس الذي يعاني منه أصحابه إلا باشتداد الأزمة وقوة الضغط حتى يفقدوا بقية ما تُرك لهم من شبه الراحة التي أُخلدوا إليها أو سعة العيش الضيق الذي سوَّل لهم الخمول والرضاء به وحتى يُزَاحَموا على مالا يخطر لهم ببال من دين لا يتمكنون من التعبد به كما يرومون، ومن تجارة لا يجدون لها مالا أو مجالا ، ومن حرية شخصية يفقدونها، ومن قهر وإذلال الأعزاء وتعزيز الأذلاء السفهاء وحتى يحيق بالمجموع بلاء يساوي بين الكل ويكون في المسلم الشرقي وأخوه المسيحي سواء(1).

وحينما يشتد البلاء وتعم الأزمة الجميع ويحسون بوطأة الاحتلال وفقدان الاستقلال والحرية بكافة أشكالها، حينئذ يمكن لأي أمة أن تنهض وتتولد الحمية لدى مواطنيها ويتحدوا في مواجهة ما يجابههم من مشاكل وتحديات.

وفي رأيه ربما يكون في العودة إلى درس الماضي، ماضي هذه الأمة علاجاً الأمراضها الحاضرة وخروجاً من مهانة الاستكانة وذل الحاجة وحالة الخمول والكسل الذي يحس به أبناءها. وهو يقول في ذلك: «أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئاً مذكوراً ثم انشق عنها عماء العدم فإذا هي بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان عليها سياج من شدة البأس ويحيطها سور من منعة الهمم، تخمد في ساحاتها عاصفات النوازل وتنحل بأيدي مدبريها عقد المشاكل، نمت فيها أفنان العزة بعد ما ثبتت أصولها ورسخت جذورها وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها ونفذت منها الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة فاستعلت آدابها

ص: 216


1- نفسه.

على الآداب وسادت أخلاقها وعاداتها وأحست مشاعرها سواها من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورد شريعتها. وصارت وهي قليلة العدد كأنها للعالم روح وهو لها بدن عامل»(1).

إن الأفغاني هنا يذكر شباب الأمة بماضيها الذي انتقلت فيه من عماء العدم إلى أن أصبحت المثل الأعلى الذي تطمح إلى محاذاته بقية الأمم. ورغم ادراكه لصعوبة العودة إلى محاذاة ذلك الماضي العظيم لأنه «ليس من السهل ردّ التائه إلى الصراط المستقيم. وهو يعتقد أن الخلاص في سلوك سواه» (2). إلا أنه لا يملك إلا التأكيد على أن ذلك هو العلاج الوحيد الذي على الأمة أن تسلك طريقه؛ ««فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته وارشاد العامة بالمواعظ الوافية وتهذيب الاخلاق وإيقاد نار الغيرة وجمع الكلمة وبيع الأرواح الشرف الأمة ولا سبيل لليأس والقنوط»(3).

ورب قائل يقول: وهل العود إلى الماضي القديم يعد طريقاً قويماً للنهضة الحديثة المطلوبة؛ أليس في ذلك - كما يقول دعاة العصرانية من العلمانيين اليوم - عودة إلى الوراء ودعوة للجمود والتخلف ؟!

وعلى ذلك التساؤل والتعجب يجيب جمال الدين الأفغاني وكأنه يقرأ مايجول في أذهان البعض منا بعد مرور أكثر من مائة عام على وفاته، يجيب قائلاً: «من يعجب من قولي أن الأصول الدينية الحقة المبرأة من محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل، وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية، فإن عجبي من عجبه أشد !! ودونك تاريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات واتيان الدنايا والمنكرات حتى جاءها الدين فوحدها وقواها وهذّبها ونور عقلها وقوّم أخلاقها وسدد أحكامها فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة

ص: 217


1- نفسه، ص 191.
2- نفسه، ص 192
3- نفسه، ص 198.

العدل والانصاف. وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها ونقلوا إلى ديارهم طب بقراط وجالينوس، وهندسة اقليدس وهيئة بطليموس، وحكمة أفلاطون وأرسطو وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا»(1)

وإذا استمر قائلنا في حجاجه قائلاً: إن العودة إلى أصل الدين ليس هو دائماً الطريق إلى نهضة الأمم. واستدل على ذلك بنهضة دولة شرقية مثل اليابان التي ارتقت وتقدمت بتقليد الغربيين وبدون توسط الدين!!

لأجاب الأفغاني في تجرد وموضوعية وفهم عميق للتجربة اليابانية:«نعم إن الدولة اليابانية وهي أمة شرقية لا تختلف عن أهل الصين في شيء لا في المذهب والاقليم، ولا في العوائد والأخلاق واللسان. وقد عزت ونمت وارتفعت وما كان الفاعل في كل ذلك إلا أخذها بالأحسن والسير في تقليد المرتقين في المدنية على أحسن خططهم وانتهاج أقوم صراطهم ومناهجهم.. فظفروا ببغيتهم ووجدوا ضالتهم بأقرب الأوقات وأقصر الأزمنة»(2)،«إن اليابان لم ينتفعوا بالوثنية من حيث هي دينهم لأن الديانة الوثنية وإن كانت لا تخلو من آداب وأخلاق فليس في أصولها ما ينفع في أحكام أمور الدنيا» (3).

أما إذا كان الدين هو الدين الإسلامي الذي «في أصوله ما ينفع في الأمور الدنيوية أيضاً، فلا بد أن يكون من جملة أصوله الحث على التحلي بالفضائل والاستكثار من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة والاستزادة من نافع العلوم والفنون»(4). وإذا كان الدين الإسلامي كما جاء في القرآن فعلاً قد حث على العلم وأبان عن جليل فضله وعظيم منفعته، فما أحوجنا لأن نأخذ به ونعود إلى التمسك بأصوله مستلهمين كل ما فيه من دعوى للتقدم ومن وسائل للارتقاء والرفعة(5).

ص: 218


1- نفسه، ص 198-199.
2- نفسه، ص 199.
3- نفسه.
4- نفسه، ص 199 - 200.
5- انظر نفسه.

إن ما يريد الأفغاني أن يلفت أنظارنا وانتباهنا إليه هنا هو أن التقدم لا يتم دائماً عن طريق تقليد الآخرين، بل قد يتم أحياناً عن طريق العودة إلى الماضي واستلهام ما فيه من قيم إيجابية خاصة إذا كان هذا الماضي هو العصر الذهبي للمسلمين والعرب ذلك العصر الذي نجح المسلمون فيه عن طريق العمل بموجب عقيدتهم الدينية الداعية إلى العلم والحاضة على الأخذ بكل أسباب الرقي والتقدم في أن يسودوا العالم ويؤسسوا حضارة رائدة استفاد منها الغربيون أنفسهم في بناء نهضتهم الحديثة.

وليس كلام الأفغاني ببعيد عن الفهم أو التصديق حتى بالنسبة لأولئك العلمانيين العصرانيين؛ فالنهضة الغربية الحديثة قد قامت هي الأخرى على أساسين أحدهما وأهمهما هو العودة إلى التراث الغربي اليوناني القديم ونقله إلى اللغات الغربية الحديثة والاستفادة من عناصره الايجابية ونقد جوانبه السلبية. وثانيهما الاستفادة من إنجازات الحضارة العربية - الإسلامية في مختلف جوانب الحياة المدنية والحضارية.

والسؤال الذي ينبغي أن يتوقف أمامه المعنيون بنهضتنا الحديثة هو: إذا لم يكن في استلهام ماضينا العريق ما يعوق تقدمنا، وإذا كان فيه ما يساعدنا على التقدم ويزودنا بأسبابه ودوافعه، فلماذا لا نعود إليه وإلى الأخذ به والعمل بموجبه وتطوير ما ينبغي تطويره فيه باستخدام ما استجد من آليات ووسائل نافعة !!

ب) من التقليد الأعمى للغربيين إلى العودة إلى الأصول الدينية الحقة:

إن من أهم أسباب الدونية والتخلف التي يعاني منها الشرقيون كما لاحظ الأفغاني، شیوع ورسوخ عادة التقليد لكل ما هو غربي بدعوى أنه الأكثر مدنيّة وحداثة ودون وعي بمخاطر التقليد والجمود عند حدود كل ما يأتي من الآخر وتقبله في خمول

وسلبية.

وحتى لا نُسيىء فهم الأفغاني نسارع إلى القول بأنه لا يرى في تقليد النافع أيا كان مصدره أي غضاضة. بل على العكس؛ فقد قال «إن تقليد النافع الذي ثبتت منفعته أولى من التقيد بمألوف ثبتت مضرته»، و «إن ثمرة العقول لا تجتني إلا بإطلاقها من

ص: 219

قيودالأوهام» و«إن من قال أن الدين يأمر بالعسر دون اليسر وبالضار دون النافع لمجرد التقليد والمألوف فهو كذاب» (1).

وقد تأكد لنا صدق أقواله تلك من احترامه الشديد للتجربة اليابانية كما أوضحنا فيما سبق، تلك التجربة التي قيمها بقوله إنه تم لها «الفوز بالتقليد النافع وجلب المفيد اللازم من العلوم والفنون والصنائع فبرزت بين صفوف الدول العظام دولة شرقية لها من بأسها منعة، ومن علمها واتحادها قوة تخشى، وحداً يتقى، والناس أبناء ما يحسنون ولله في خلقه شؤون»(2).

ولكن هذا التقدير للتقليد النافع - الذي يعد استثناء في التجربة اليابانية قد لا يقبل التعميم - لم يمنعه من إدراك مضار التقليد الأعمى لإنجازات الآخرين وخطورة ذلك في ضياع فرصة الإبداع لدى أبناء المقلدين.

وقد عبر عن ذلك خير تعبير حينما قال عن المقلدين «علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين لأطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرُّق الأعداء إليها وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم واحتقار من لم يكن على مثالهم شؤماً على أبناء أمتهم يذلونهم ويحتقرون أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلت.. ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبل ويفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون سلطتهم ذلك بأنهم لا يعلمون فضلاً لغيرهم ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم»(3).

ولا يتوقف الأمر عند حد كون المقلد هو البوابة التي يعبر منها الغازي والمستعمر إلى الأمم التي غلب على أبنائها التقليد وعز عليهم الإبداع. بل إن المقلدين يحوّلون أنفسهم وغيرهم من أبناء وطنهم إلى مجرد مسوخ تقلد المظاهر، وتقف عند حدود الضار دون استجلاب النافع!.

ص: 220


1- جمال الدين الأفغاني، نفس المصدر، ص 276
2- نفسه، ص 1 - 20
3- نفسه، ص 196 - 197.

وقد دلل الأفغاني على خطورة التقليد وأوضح الأضرار التي يجلبها المقلدون دون وعي إلى أوطانهم من النظر في التجربة المصرية والعثمانية وتحليل النتائج التي وصلت إليها . وقد عبر عن تأملاته في هاتين التجربتين بقوله:

«شيد العثمانيون والمصريون عددا من المدارس على النمط الجديد وبعثوا بطوائف من شبانهم إلى البلاد الغربية ليحملوا إليهم ما يحتاجون له من العلوم والمعارف والصنائع والآداب وكل ما يسمونه «تمدنا» وهو في الحقيقة تمدن البلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني ! فهل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدموا لأنفسهم من ذلك وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة؟! هل صاروا أحسن حالا مما كانوا عليه من قبل التمسك بهذا الخبل الجديد؟! هل استنقذوا أنفسهم أنياب الفقر والفاقة!! ...الخ. نعم ربما وجد فيهم أفراد يتشدقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية (القومية) وما شاكلها ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها ووسموا أنفسهم زعماء الحرية أو بسِمَة أخرى من السمات ووقفوا عند هذا الحد ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا أوضاع المباني والمساكن وبدّلوا هيئات المأكل والملبس والفرش والآنية وسائر الماعون وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية وعدوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم واعتاضوا أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره فأماتوا أرباب الصنائع من قومهم وأهلكوا العاملين في المهن لهدم اقتدارهم أن يقوموا بكل ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة من الحاجيات الجديدة وأيديهم لم تتعود على صنع لأنف الجديد وثروتهم لا تسع جلب الآلات الجديدة من البلاد البعيدة وهذا جدع الأمة يشوه وجهها ويحط بشأنها. وما كان هذا إلا لأن العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفاجأتهم قبل أوانها»(1).

وبالطبع فإن هذا التحليل الأفغاني لمضار التقليد قد انصب على بيان المظاهر

ص: 221


1- نفسه، ص .196 195

السلبية التي ينقلها المقلدون إلى أوطانهم مما يساعد الأمم الغالبة في السيطرة على الأمم المغلوبة وافقادها صناعتها وصُنَّاعها وثرواتها؛ فقد عاب الأفغاني على المقلدين تركيزهم على المظاهر الاستهلاكية وضياع ثرواتهم وثروات بلادهم في استيرادها، كما كشف النتائج المدمرة للتقليد على الصناعات المحلية ووقف نموها وتطورها الطبيعي!

وكان أبرز ما أدركه الأفغاني من عيوب للتقليد هو تركيز المقلدين على نقل الصنائع والسلع دون الاهتمام بأسرار صناعتها. إن لكل صنعة الأساس العلمي النظري الذي تقوم عليه، وإن غاب عن المقلد معرفة ذلك الأساس العلمي لسر الصناعة وكيفية إحكامها سينتج سلعة مشوهة مليئة بالعيوب مما يترتب عليه بالضرورة شعوره بالدونية والاحباط، فضلا عن الأضرار العامة التي تلحق بأمته ككل ففي ذلك عموماً

«جدع لأنفها وتشويه لوجهها وحط من شأنها»!

ولا شك أن إدراك الأفغاني لهذا الأمر مما يحمد له إذ لا نزال نعاني منه حتى اليوم وبعد مرور أكثر من مائة عام؛ فلا زلنا ننقل التكنولوجيا دون العلم. ولا زلنا نشعر بالاحباط والدونية نتيجة عدم مشاركتنا الفاعلة في التاريخ النظري للعلم، وعدم قدرتنا على استيعاب كل القدرات التكنولوجية للأجهزة الحديثة التي نستخدمها !! وما ذلك إلا لأننا لم نهتم بالتطوير الذاتي للعلم باستخدام مناهج البحث العلمي والآليات الحديثة للتطوير. وانصب كل اهتمامنا منذ البداية على استيراد الأجهزة والاستمتاع الوقتي بها دون معرفة أسرار صناعتها ودون القدرة على تطوير أي شيء فيها (1).

ولعل السؤال الذي يراودنا الآن هو: إذا كان تقليد الغربيين ليس الطريق الأمثل وليس الطريق الصحيح لنهضة الشرق الإسلامي. فما الطريق الذي يراه الأفغاني صالحا لهذه النهضة المأمولة ؟!

يبدأ هذا الطريق في رأيه بإصلاح ديني ضروري وشامل لأننا «معشر المسلمين إذا

ص: 222


1- انظر توصيفاً حديثاً لنفس المشكلة وما نعاني منه فيها فيما كتبناه بعنوان: العقلية العربية بين إنتاج العلم واستيراد التقانة»، مجلة المستقبل «العربي»، التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، العدد (200) - أكتوبر 1995م، ص 136 - 116

لم يُؤسّس نهوضنا وتمدننا على قواعد ديننا وقرآننا فلا خير لنا فيه ولا يمكن التخلص من وصمة انحطاطنا وتأخرنا إلا عن هذا الطريق»(1).

أما أبرز معالم هذا التجديد والإصلاح الديني فيحددها بقول «لابد من حركة دينية تهتم بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها الحقيقي وبعث القرآن وبث تعاليمه الصحيحة بین الجمهور وشرحها على وجهها الثابت من حيث ما يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة. ولابد من تهذيب علومنا وتنقيح مكتباتنا ووضع مصنفات فيها قريبة المأخذ سهلة الفهم لنستعين بها على الوصول إلى الرقي والنجاح»(2).

إن الإصلاح الديني إذن في نظره هو أساس النهضة الحديثة. وهو يفهم هذا الإصلاح بصورة أكثر ما تكون وضوحاً وبساطة؛ إنه يتمثل في العودة إلى صحيح الدين فيما يتعلق بإصلاح أحوالنا الدنيوية ويسعدها والطريف أنه اعتبر أن هذا الإصلاح الديني لا ينفصل بالضرورة عن إصلاح ضروري ومماثل للعلوم وتجديد للمكتبات الوطنية بما يدعم هذا الإصلاح العلمي ويقوده إلى النجاح.

ولكن كأن بجمال الدين يشعر بأن البعض ربما يثور عليه ويحتجون بأن النهضة الأوروبية قامت بعدما تم فصل الدين عن شؤون الحياة والعلم، فيسارع إلى التذكير بأن سبب انقلاب حالة أوروبا من الهمجية إلى المدنية لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر» وتمت على يديه»(3).

وإن كان التوفيق قد جانبه في عد ذلك الإصلاح الديني الذي قام به لوثر هو السبب الأوحد في انقلاب حالة أوروبا من الهمجية إلى المدنية، فإنه لم يجانبه الصواب في أن هذه الحركة الإصلاحية الدينية كانت أحد الأسباب الفاعلة في قبول الأوروبيين الأخذ بأسباب النهضة العلمية والفلسفية الجديدة.

ص: 223


1- جمال الدين الأفغاني: نفس المصدر، ص 327.
2- نفسه، ص 328.
3- نفسه.

على كل حال فإن الأفغاني لم ينس التأكيد على أن هذا الإصلاح الديني يمثل الدعامة الحقيقية للنهضة العلمية والعقلية المنشودة في الشرق الإسلامي، حيث أن التجربة العربية الإسلامية في السيادة الحضارية على العالم إبان العصر الزاهي لها كان دعامتها «القوة والعلم» وها هو يقول «إذا تفحصنا عوامل تغلب الدول الإسلامية على الحكومات النصرانية لوجدناه منحصراً في «القوة والعلم» وهكذا يدور أمر الدول انتصاراً وانكسارا»(1).

وها هو يضيف في خطاب ملؤه التفاؤل بمستقبل الشرق الإسلامي إذا ما دارت الدورة الحضارية وأخذ الشرقيون اليوم بما كان في ماضيهم المجيد من عقيدة نقية ومن علم نافع وعمل جاد مخلص، يضيف قائلاً:

«هاتوا مكتبة بغداد والأندلس والقيروان وما ترجم في عصر الخلفاء العباسيين، وما حقق علماء العرب من المباحث وما ألفوه من الكتب الفلسفية والطبيعية والكيمياء وبعد ذلك طالبوني وألزموني الحجة بعد استيفاء أولئك العلماء مواضيع ما نرى من المباحث في العلوم والفنون الوافدة إلينا عن طريق الغرب اليوم. ودعوا عصر الجليد يستحوذ على أوروبا مرة أخرى، ويدور الدور الفلكي بمفعوله وتأثيره ويجعل الحياة في ذلك الإقليم متعددة كما كانت أولاً وانظروا إذ ذاك إلى نهضة الشرق خصوصاً متى تغير شكل الحكم في أهله فترون الشرق قد عاد مشرقاً بالعلماء زاهراً بحقائق العلوم مثبتاً لكل ما هو نافع ويصلح أن يبقى أثراً»(2).

وبالطبع فإن حلم الأفغاني بعودة عصر الخلفاء العباسيين بالنسبة للمسلمين، وبعودة الجليد إلى أوروبا يعد ضرباً من ضروب المستحيل لأن الزمن لا يعود إلى الوراء، إلا أن هذا الخطاب التفاؤلي يؤكد الثقة المطلقة لمفكرنا في قدرة الشرقيين على النهوض مرة أخرى لأنه لا مانع ذاتي يمنعهم من ذلك إذا ما أرادوه لأنفسهم.

ومع ذلك فقد أدرك الأفغاني فيما يتعلق بسبل النهضة المنشودة أمرين في غاية

ص: 224


1- نفسه، ص 229
2- نفسه، ص 218

الأهمية أحدهما سلبي والآخر إيجابي؛ أما السلبي فهو إدراكه لحقيقة مؤداها «أن الغربيين - رغم تظاهرهم بغير ذلك - يمانعون بطرق خفية ترقية الشرقيين لأنفسهم على طريقة وطنية خاصة بهم ويعرقلون مساعيهم.. بأساليب غاية في المكر والمغالطة والسفطسة والاستعانة ببعض أهل البلاد على ذلك» (1).

أما الأمر الإيجابي فهو إدراكه لحقيقة أخرى مؤداها «أن حياة الشرقيين بالعلم الصحيح موت لحكم الغرب فيهم وفك الحجر عنهم والعكس بالعكس. إذن فلابد من تمام اليقظة والعمل بكمال الحكمة من الشرقيين للوصول إلى الغاية بدأب متواصل وهمم لا تفتر وعزائم لا تكل»(2).

وأعتقد أن إدراك جمال الدين الأفغاني لهاتين الحقيقتين معاً وبهذه الصورة المتلازمة يعني بما لا يدع مجالا لأي شك أنه كان من دعاة التنوير العلمي الوطني بحق، ذلك التنوير الواعي بأن التقدم العلمي لابد أن ينبع من الذات ويقوم على تطوير القدرات الذاتية لعلمائنا وعلومنا؛ ذلك التطوير الذي يأخذ في الاعتبار أنه إذا جاز الاستفادة من خبرات الآخر ومن آليات تقدمه العلمي فإنه لا يجوز الارتكان عليه كلياً، لأن صراع الذوات الحضارية يستخدم التقدم العلمي كسلاح فعال ومؤثر ! ومن ثم فإن الآخر سيحاول إعاقة تقدمنا قدر استطاعته. أما إذا نجحنا نحن في تطوير قدراتنا الذاتية مع الاستفادة قدر الطاقة من تجارب الآخر ومن آليات تقدمه فإن هذا سيكون بداية لموت سيطرته علينا وإيذاناً بدورة حضارية جديدة تكون الغلبة فيها أيضاً «للعلم والقوة».

(ج) من الفرقة واستبداد الحكام إلى الوحدة والحكم بالعدل والشورى:

لقد كان من أبرز ما توصل إليه الأفغاني في تحليله لأسباب تخلف الشرقيين وانعدام فاعليتهم تلك الفرقة والانقسام إلى شيع ومذاهب متعددة بما يحمله ذلك

ص: 225


1- نفسه، ص 278 وانظر بيانه لبعض هذه الأساليب في إطار المقارنة التي عقدها بين الشرق والغرب في نفس المصدر ص454 - 457.
2- نفسه، ص 279

من صراع بين بلدانهم واستبداد حكامهم. فركز جل التركيز في كل ما قال أو كتب على بحث أسباب هذه الفرقة وحاول قدر طاقته البشرية أن يزيل هذه الأسباب. وقد أدرك بثاقب بصيرته وعميق تأملاته أن أول وأهم هذه الأسباب هو بعد المسلمين عن الإسلام بصورته الصحيحة النقية(1). ورد هذا البعد إلى تقصير العلماء في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي لا يفرق بين المؤمنين به إلا بالتقوى وينهاهم عن الخلاف والفرقة والضعف والركون إلى الراحة والخمول كما رده أيضاً إلى تقصير الحكام الذين لم يحكموا بين الناس بما أنزل الله ولم يحرصوا على إشاعة العدل والرحمة بينهم وسعوا إلى تحقيق مصالحهم الشخصية الأنانية وغلّبوها على مصلحة الأمة ووحدة شعوبها(2).

ولقد أخذ الأفغاني يعدد في ثنايا ذلك الصور التي تجلت فيها تلك الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة. وكان من أبرز ما ركز عليه في هذا الصدد، ذلك التمييز المصطنع بين السنة والشيعة، ذلك التمييز الذي كان سبباً مباشراً في كثير من صور الفرقة والضعف الذي عانى منه المسلمون.

وقد حاول قدر جهده واجتهاده اقناع الفريقين بضرورة العودة إلى الأصل وهو وحدة المسلمين ووحدة الإسلام. واتخذ في هذا الاقناع منطقاً عملياً واقعياً مباشراً يغلب المصلحة العامة على المصلحة الجزئية لأحد الفريقين وتأمل في ذلك قوله:

«لو أجمع أهل السنة اليوم ووافقوا المفضلة من الشيعة (من عرب وعجم) وأقروا وسلموا بأن علي بن ابي طالب كان أولى بتولي الخلافة قبل أبي بكر فهل ترتقي بذلك العجم أو تتحسن أحوال الشيعة؟ أو لو وافقت الشيعة أهل السنة بأن أبا بكر تولى الخلافة قبل الإمام علي بحق فهل ينهض ذلك بالمسلمين السنيين وينشلهم مما وقعوا فيه اليوم من الذل والهوان و عدم حفظ الكيان؟ أما آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة؟ ومن هذا الموت قبل الموت؟! يا قوم وعزة الحق إن أمير المؤمنين

ص: 226


1- انظر: د. علي عبد الحليم محمود، نفس المرجع السابق، ص 330
2- انظر نفس المرجع، ص 334 - 344.

علي بن أبي طالب لا يرضى عن العجم ولا عن عموم أهل الشيعة إذا هم قاتلوا أهل السنة أو افترقوا عنهم لمجرد تفضيله على أبي بكر وجميعهم يحسنون أمر دنياهم «والناس أبناء ما يحسنون» وكذلك أبو بكر فلا يرضيه أن تدافع أهل السنة عنه وأن تقاتل الشيعة لأجل تلك الأفضلية التي مر زمنها والتي تخالف روح القرآن الآمر أن يكونوا «كالبنيان المرصوص»(1)

بهذا الجدال العقلي، وعلى هذا النحو العملي حاول الأفغاني إزاحة السبب الأول والأصلي للخلاف بين الشيعة والسنة من المسلمين، ليجمعهم على كلمة سواء في خدمة دينهم الواحد وحول تحقيق هدفهم المشترك.

وقد استخدم جمال الدين الأفغاني نفس هذه الطريقة في الإقناع في إزالة أسباب الخلاف بين الدول الإسلامية بعضها البعض ليتوجهوا جميعاً للتفرغ لمواجهة الأخطار الخارجية التي تحيط بهم من كل جانب؛ فها هو يدعو مثلاً قومه من الأفغان وجيرانهم من الإيرانيين إلى العودة إلى «رابطة الدين الإسلامي» وهي أشرف الروابط وأن يُزيلوا عبر ذلك تلك الاختلافات الفرعية بينهم لأن استمرار الخلاف بينهم يجلب الضرر عليهم وعلى إخوانهم من المسلمين والهنود. وقد عبر عن ذلك في كلمة موجزة جامعة قال فيها «إن على الفارسيين والأفغانيين أن يُراعوا الكلمة الجامعة والصلة الجنسية ولا يجعلوا الاختلاف الفرعي في المذهب سبباً في خفض الكلمة الإسلامية وقطع الصلة الحقيقية»(2).

وعلى هذا النحو نجده يدعو بشكل عام إلى تجاوز العصبيات والنزاعات الإقليمية التي سادت بين المسلمين لأن هذه النعرة العصبية أو الإقليمية كانت أحد أسباب تخلفهم وتفرق كلمتهم. وفي هذا الإطار كان دائما ما يذكّر الجميع بأن الأصل الذي يجمع بينهم هو الرابطة الدينية الإسلامية، وأن هذه الرابطة هي السبيل إلى التجاوز عن هذه النزاعات وقد نبه الجميع إلى أن استمرار الخضوع والاستسلام لهذه

ص: 227


1- جمال الدين الأفغاني: الأعمال الكاملة، ص .326-325
2- نفسه، ص 319 - 320

النزاعات القائمة على دعاوى العصبية والمصالح الإقليمية الجزئية هو الذي سيقود الأمة الإسلاميّة كما قادها في الماضي إلى الانهيار والضياع(1).

ولقد كان حرص الأفغاني كبيراً على أن يعي الجميع حكاماً ومحكومين هذه الحقيقة. وأن لا يتوقفوا عند حد الوعي بها، بل دعاهم إلى ضرورة العمل بموجب هذا الوعي. وبداية هذا العمل يتلخص في العودة إلى الاعتقاد الأصيل بأن الأصل الذي يجمع بين الشرقيين هو الإسلام الواحد وأن كل دولة من الدول الإسلامية تزداد قوتها ويتضح فضلها وترتفع مكانتها في إطار ذلك الكل الواحد، «الإسلام» و «الشرق».

ومن هنا كان سعيه الدائب يدور حول العمل على عودة الخلافة الإسلاميّة . وقيل أنه ترك الإقامة في أوروبا عام 1886م - 1303ه- - متوجها إلى الشرق وإلى شبه الجزيرة العربية بالذات على أمل السعي إلى إقامة خلافة إسلاميّة عصرية في منطقة بعيدة عن النفوذ والاستعمار الأوروبي، ومؤهلة للاستقلال عن الأتراك العثمانيين(2).

ولم يكن هذا السعي إلى إقامة الخلافة الإسلاميّة أو الدعوة إلى الجامعة الإسلاميّة يتناقض عنده مع الدعوة إلى اقامة حكومات إسلامية تقوم على الشورى والعدل. لأنه كان مؤمناً أشد الإيمان بأنه «لاتحيا مصر ولا يحيا الشرق بدولهِ وإماراته إلا إذا أتاح الله لكم منهم رجلاً قوياً عادلاً يحكمه بأهله على غير طريقة التفرد بالقوة والسلطان، لأن بالقوة المطلقة الاستبداد، ولا عدل إلا مع القوة المقيدة. وحكم مصر بأهلها

إنما يعني به الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الصحيح»(3). إن الأفغاني يرى ان الحكم العادل القائم على اختيار الناس للحاكم ولمن ينوب عنهم هو أساس الحياة الكريمة لهم وهو أيضاً أساس نهضتهم. ولكن هذا الحكم العادل الذي يشارك فيه الناس ويختارون شكله لا يتحقق إلا لدى أمه نال أهلها استقلالهم وحريتهم، وبينما

ص: 228


1- انظر : د. علي عبد الحليم نفس المرجع السابق، ص 349 وما بعدها. وانظر أيضاً : ، د. محمد عمارة نفس المرجع السابق، ص 133 وما بعدها.
2- د. محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص 71 - 72
3- جمال الدين الأفغاني: نفس المصدر، ص 477 - 478.

يمكن للناس أن يغيروا شكل حكوماتهم بالمناقشة والحوار والإقناع بينهم وبين بعضهم وبينهم وبين حكامهم في ظل دولهم المستقلة الحرة، فإنه لا يمكنهم ذلك بالطبع في ظل الاحتلال أو فقدان الحرية والاستقلال. وقد كان الأفغاني ممن أدركوا هذه الحقيقة بشكل واضح وعبر عن ذلك بقوله :«إن الحرية والاستقلال للوطن لا توهبان وإنما «تحصل عليهما الأمم أخذا بقوة واقتدار يجبل التراب منها بدماء أبناء الأمة الأمناء أولى النفوس الأبية والهمم العالية»(1). أما «تغيير شكل الحكم المطلق بالشكل النيابي الشوري فهو أيسر مطلباً وأقرب مثالاً إذ يكفي فيه أحيانا ارشاد الملك ونصحه من عقلاء مقربيه فيفعله ويشرك معه أمته ورعيته»(2).

ولكن يبدو أن الأفغاني حينما قال ذلك كان حسن الظن أكثر من اللازم بالحكام المحليين للأمارات الشرقية آنذاك ؛ فقد جرب هو نفسه أن ينصح بذلك أمير مصر وشاه إيران ناصر الدين ولكنه فشل في إقناعهما ولم تتم الاستجابة لدعوته للحكم النيابي لا من أمير مصر (3)ولا من شاه إيران(4).

على كل حال، فلقد كان الأفغاني مؤمناً بأن اعطاء الحرية للشعوب لتختار حكامها وتشاركهم في الحكم مسألة ضرورية لإطلاق حريات الإبداع والمشاركة في كل مجالات الحياة الحضارية وخاصة بعد المعاناة الرهيبة التي عاناها أبناء الأمم الشرقية طوال تاريخهم من استبداد الحكام واستعباد المستعمرين(5).

ص: 229


1- نفسه، ص 478
2- نفسه.
3- انظر نفس المصدر السابق ص 473
4- نفسه، ص 475 وانظر أيضاً : د. محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص 73.
5- لقد كان الأفغاني شديد التعاطف مع الشعوب التي عانت طويلا من ظلم الحكام والمستعمرين وكان في كل ما قال أو كتب نصيراً لهم لكي ينالوا حقوقهم في الحرية والحياة الكريمة، وذلك على الرغم من أنه في كثير من الأحيان، كان شديد القسوة على هذه الشعوب وكثير النقد لها لأنها سكتت طويلاً على ما استبدوا بهم وظلموهم . (انظر في ذلك على سبيل المثال خطابه لأهل مصر، ذلك الخطاب الذي يبدو فى ظاهره شدة القسوة على المصريين لأنهم قبلوا بالاستبداد ورضخوا للاستعباد طوال العصور السابقة، إلا أنه في باطنه الرحمة بهم لأنه يتضمن تلك الدعوة التي لا تلين لأن ينهضوا ويشقوا صدور المستبدين ليعيشوا كباقي الأمم أحرار سعداء.) نص الخطاب في : د. محمد عمارة: نفس المرجع السابق، ص 60-61 وانظر أيضاً الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني حيث يقول في ص 479 (إن مصر أحب بلاد الله إلي.

لقد كان يرى أن هذه تمثل الخطوة الأولى على طريق اتحاد الأمم الشرقية الإسلامية في مواجهة أطماع الغربيين الاستعماريين، وهي أيضاً الخطوة الأولى نحو تأسيس النهضة المأمولة لأبناء الأمة الإسلاميّة تحت مظلة جامعة إسلامية أو خلافة إسلامية(1)، لا يهم الاسم وإنما الذي يهم هو العودة إلى الأصل الأصيل، ألا وهو وحدة الإسلام والمسلمين ففي وحدتهم قوتهم ونهضتهم، وفي تفرقهم ضعفهم وتخلفهم.

والحقيقة أن جمال الدين لم يؤسس جمعية العروة الوثقى في مختلف البلاد الإسلامية إلا لخدمة هذا الهدف والعمل على تحقيقه(2). وقد ظهر ذلك جلياً حينما أسس أيضاً بالاشتراك مع تلميذه النجيب محمد عبده جريدة «العروة الوثقى» لتكون لسان حال الشرقيين في توضيح هذه الأهداف والعمل بموجبها والدعوة إلى تحقيقها في مختلف بلاد الشرق(3).

لقد كان إيمان الأفغاني بالوحدة راسخاً لأنه اعتبر أن

وحدة الأمة هو الطريق الوحيد لسيادتها وعزتها وتأمل معي قوله في ذلك «أمران خطيران تحمل عليهما الضرورة تارة ويهدى إليهما تارة أخرى، وقد تفيدهما التربية وممارسة الآداب. وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه بل يستلزمه وبهما نمو الأمم وعظمها ورفعتها واعتلائها وهما الميل إلى وحدة تجمع ، والكلف بسيادة لا توضع»(4).

فالوحدة والسيادة إذن أمران ضروريان لأي أمة تريد أن تنهض وتسود والدعوة إلى تلازمها يحض عليها الدين، وتحتمها الضرورة ويساعد التعليم والتربية في بث الإيمان بهما في النفوس.

ص: 230


1- انظر ما كتبه محمد عمارة عن الجامعة الإسلامية وجهود الأفغاني في الدعوة إليها في نفس المرجع السابق، ص 115 وما بعدها.
2- انظر في التعريف بهذه الجمعية وأهدافها .د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق ص 76 -83.
3- انظر فى منهج العروة الوثقى وأهدافها ما كتبه جمال الدين الأفغانى فى نفس المصدر السابق، ص 533. وانظر تعريفا بالجريدة وأهدافها في د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق، ص 83-84. وقد صدقه أحد الباحثين حينما وصف دور هذه الجريدة وتأثيرها بقوله أنها تعد أم الجرائد الحاضرة على الإطلاق والتي لم يزل الناهضون من بني الشرق يسيرون في دعوتهم إلى النهوض على أثرها فيليب دي طرازي: تاريخ الصحافة العربية، بيروت 1913 ، ص 261 262 ، نقلا عن د. علي عبد الحليم نفس المرجع، ص84.
4- جمال الدين الافغاني، الاعمال الكاملة، ص 353

وقد بنى الأفغاني تفاؤله بمستقبل أي أمة على إيمان أبنائها وميلهم إلى تحقيق تلك الوحدة وهذه السيادة وها هو يقول معبراً عن ذلك «فإذا احسست من أمة ميلاً إلى الوحدة فبشرها بما أعدّ اللّه لها في مكنون غيبه من السيادة العليا والسلطة على متفرقة الأمم»(1) وهو لا يشك في أن أبناء الأمم الشرقية - الإسلاميّة لديهم هذا الميل إلى الوحدة وإن كان ينقصهم العزم على تحقيقها عبر الوسائل التي أشرنا إليها فيما سبق.

وما أحوجنا في هذه الأيام إلى إعادة قراءة هذه الأفكار المهمة للأفغاني، فكأني به یعیش بيننا رغم مرور أكثر من مائة سنة على رحيله عنا، وكأني به لا يزال بما كتب وما قال قادراً على كشف أسباب إخفاق الأمة، إذ لا تزال الأسباب التي ألمح إليها أو كشف عنها هي هي لم تتغير ولم يتبدل من أمرنا معها شيئاً. وكان ما التمسه وسائل للإصلاح والنهوض هي الوسائل التي إن آمنا بها وعملنا بما فيها نجونا من المصير الشائن الذي ينتظر أمتنا في التحدي الحضاري الراهن.

إن الصراع اليوم لا يزال في مجمله صراعاً حضارياً بين غرب لا يزال عنصرياً ومتعالياً وطامعاً، وبين الآخر! والآخر بالنسبة للغربيين هو الشرق ولا فرق بين شرق عربي أو إسلامي، وبين شرق آسيوي وثني ولذلك فإن دعوة الأفغاني إلى وحدة الشرق عموماً والشرق الإسلامي خصوصاً في مواجهة الغرب والاستعلاء الغربي لا تزال دعوة ينبغي أن ننظر إليها بعين الاعتبار على الصعيدين النظري والعملي. فربما يكون فيها بداية الوعي بجوهر الصراع في عالم اليوم، وبداية الوعي بما ينبغي فيه أن نتعامل مع الغرب ومن يتحالفون معه بالحذر المطلوب رغم كل ما يبدو على السطح من تقاربنا الزائف معه ! فهذا التقارب معرض للانهيار في أي لحظة ولأتفه الأسباب.

ص: 231


1- نفسه.

ظاهرة الاستعمار:بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني

اشارة

ماهر عبدالمحسن(1)

لا يمكن إغفال أهمية وخطورة الاستعمار كظاهرة تاريخية وعالمية كان لها كبير الأثر على كافة بلدان المعمورة، على كافة المستويات، سواء أكانت بلدان مستعمرة (بكسر الميم) أو مستعمَرة (بفتح الميم). كما لا يخفى خصوصية هذا الأثر في البلدان الأخيرة، وبالأخص البلدان العربية والإسلاميّة .

ولما كان للاستعمار تاريخ طويل وآثار بعيدة المدى، فإن البلدان والمجتمعات التي كانت واقعة تحت نير الاحتلال لم تقف مكتوفة الأيدي، وإنما عملت - دائماً - على التحرر من ذلك الكابوس على المستويين العسكري والفكري. وفي هذا الأخير ظهرت الكثير من الدراسات الناقدة والمحللة للاستعمار، حتى تأسس - في السنوات الأخيرة - ما يُعرف بالدراسات ما بعد الكولونيالية، وهي دراسات تُعنى بإعادة كتابة التاريخ والثقافة من وجهة نظر البلاد التي كانت محتلة، بحيث تملك الحق والحرية

ص: 232


1- دكتور وباحث من جمهورية مصر العربية.

في التعبير عن نفسها بمعزل عن الصندوق الأسود الذي ظلت البلدان الأوربية المستعمرة محتفظة به ومحتكرة لأسراره ، وهي في الحقيقة ليست أسراراً معبرة عن حقائق بقدر ماهي ميراث وهمي ضخم من الحيل والأكاذيب.

وبالرغم من أن بداية الدراسات ما بعد الاستعمارية يُؤرخ لها دائماً بكتابات المفكر الفرنسي فرانز فانون في الخمسينيات والستينيات، وكتابات المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في السبعينيات، إلا أن الجهود الفكرية العربية حول الاستعمار بدأت قبل ذلك ربما مع بداية القرن وحركة الإصلاح الديني التي قامت على أكتاف الأفغاني ومحمد عبده، ولم تتوقف حتى الآن. غير أن هذه الجهود كانت - في أغلبها - تتسم بالنزعة الدينية الإسلامية، خاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924 وبات الإسلام في خطر محدق. ولأن هذه الكتابات كانت نابعة من العاطفة الدينية بالأساس فقد غلب عليها اللغة الأدبية والشواهد التاريخية دون اهتمام كبير بالمنهج على نحو ما سنرى لدى أنور الجندي ومحمد الغزالي.

وفي المقابل نجد كتابات أخرى عربية تغلب عليها النزعة الأكاديمية المنهجية التي تُعنى بتحديد المفاهيم والاستشهاد بالنصوص على نحو ما سنجد لدى مالك بن نبي وإدوارد سعيد.

وإزاء هذه الازدواجية، نجد أنفسنا مضطرين إلى دراسة الظاهرة الاستعمارية وفقاً لرؤية تكاملية، تجمع النظرة الدينية مع النظرة العلمانية، وهي رؤية تتسق وقناعاتنا الذاتية بزيف القسمة الثنائية التي تسبب فيها الاستعمار نفسه، بحيث أصبحنا نعيش في غابة متشابكة من التقسيمات الثنائية عروبة وإسلام سنة وشيعة، سلفيون وعلمانيون.

إننا في هذا البحث القصير نحاول إلقاء الضوء على الكيفية التي تناول بها كل من الإسلاميين والعلمانيين ظاهرة الاستعمار، من أجل الاستفادة من وجهتي النظر، وأن النماذج المختارة في هذا البحث إنما هي على سبيل المثال لا الحصر. فكما ذكرنا، فإن التراث الفكري العربي كبير في هذا المجال، كما أننا اقتصرنا على عمل واحد لكل مفكر نظراً لضيق المساحة، ورغبتنا في التركيز والتكثيف لبلورة الفكرة المحورية التي نسعى إليها.

ص: 233

ومن هذا المنطلق سيتم تقسيم البحث إلى مبحثين:

أولاً: ظاهرة الاستعمار في الفكر الإسلامي.

ثانياً: ظاهرة الاستعمار في الفكر العلماني.

أولاً: ظاهرة الاستعمار في الفكر الإسلامي

يربط الكتّاب الإسلاميون بين الاستعمار ،والإسلام وينطلقون في دراساتهم من رؤية ترى في الاستعمار امتداداً للحروب الصليبية، وأنه لم يأت إلا للقضاء على الإسلام والسيطرة على البلدان الإسلامية، وفي هذا المعنى يقول أنور الجندي: «وقد جاء الاستعمار موجة تالية لزحف سابق أطلق عليه اسم الحروب الصليبية التي امتدت على جبهة الشرق (الشام ومصر) كما امتدت على جبهة المغرب (الجزائر وتونس) وقد فشلت الحملات الصليبية واندحرت مهزومة، ثم جاء بعدها المد العثماني الإسلامي الذي حمى عالم الإسلام أكثر من ثلاثمائة سنة من الغزو الغربي،

فلما وهنت القوة العثمانية عاود الغرب محاولته للسيطرة على عالم الإسلام»(1).

وبالرغم من أن الاستعمار - من أجل تحقيق أهدافه - قد عمل على السيطرة على التعليم والثقافة والصحافة من أجل تزييف المفهوم الإسلامي وإفراغه من مضمونه بحيث جعل منه دين عبادة فقط ، لا علاقة له بالنظم السياسية والاقتصادية والقانونية ففرض القانون الوضعي بدلاً من الشريعة الإسلامية والمصرف الربوي بدلاً من الاقتصاد الإسلامي والنظام الديمقراطي الليبرالي بدلاً من نظام الشورى. نقول بالرغم من كل ذلك، إلا أن أخطر ما أحدثه الاستعمار من آثار تخريبية إنما كان إشاعة حالات التمزق والفرقة بين المسلمين، فيقول أنور الجندي «ولقد كان حرص الاستعمار على أن يوقف نمو الإسلام ونمو اللغة العربية، ويعارض القوة القادرة على مقاومته والحيلولة دون وحدة أجزاء هذه الأمة باعتبارها خطراً عليه، والعمل الدائب على تمزيق الجبهات، بالانقسام السياسي والعنصري والطائفي والقبلي وإدامة هذه الفرق حتى لا يلتقي المسلمون على وحدة جامعة»(2).

ص: 234


1- أنور الجندي، الاستعمار والإسلام (القاهرة: دار الأنصار، دون سنة نشر)، ص 4.
2- المرجع السابق، ص 6.

وهذه الرؤية التجزيئية التي تعمل على تفتيت وحدة الأمة وإشاعة روح الانقسام هي ما يتسق مع نقطة انطلاقنا البحثية التي تعمل على إعادة الوحدة وضم وجهات النظر التي تبدو متعارضة بين الفصائل المختلفة وبهذا الاعتبار سنبدأ في تناول دراسة أنور الجندي التي بعنوان «العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي» لأنها تركز على فكرة الانقسام، وتعتبرها قضية محورية في سياق دراسة الظاهرة الاستعمارية. ونحن بدورنا سنعيد قراءتها على النحو الذي يبرز تلك النزعة التجزيئية من ناحية ويفسر التجليات المختلفة للظاهرة الاستعمارية مهما بدت بعيدة عن تلك الفكرة من ناحية أخرى.

1- أنور الجندي والتحليل التاريخي للاستعمار

تهيمن على دراسة أنور الجندي روح الجدل ما بين الوحدة من ناحية والانقسام من ناحية أخرى حتى أنه يطرح تاريخ العالم الإسلامي كله باعتباره حركة مترددة من الوحدة إلى الانقسام ومن الانقسام إلى الوحدة ومن هذا المنظور يمكن قراءة وفهم هذه الدراسة وفهم الظاهرة الاستعمارية على نحو ما يدرسها الجندي. فيستهل كتابه قائلاً:«كان العالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ قبل الغزو الاستعماري الغربي

قلّما تنوعت حكوماته ودوله . فقد كانت تجمعه وحدة فكر، ووحدة شعور، ولقد العالم الإسلامي بمرحلة ضعف، وتخلف، شأنه في ذلك شأن كل أمة، وكل حضارة حين تمر بمرحلة بعد مرحلة قوة بعد ضعف وضعف بعد قوة، سُنّة الوجود وناموس الحياة، ولكنَّ العالم الإسلامي لم يلبث أن استيقظ بقوّته الذاتية، استيقظ داخل أعماقه، وبعامل أساسي قار في كيانه»(1).

ويتحدث الجندي هنا عن حالة العالم الإسلامي قبل الاستعمار، وهي حالة الوحدة التي تجد مبرراتها في أكثر من شكل من أشكال الوحدة سواء من ناحية الفكر أو ناحية الشعور. وإذا كان الاستعمار هو المسؤول عن تمزق العالم الإسلامي وتقسيمه،

ص: 235


1- أنور الجندي، العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي (بيروت: دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، سنة 1983م)، ص 9.

إلا أنه ليس المسؤول عن يقظة هذا العالم على نحو ما يدّعي الغربيون، وإنما هي نابعة من قوته الذاتية المستمَدّة من مقومات فكره الأساسية. فالتاريخ الإسلامي، إنما هو تاريخ صعود وهبوط ثم صعود والصعود يرتبط بالوحدة، بينما يرتبط الهبوط بالفرقة، والذي يحرّك هذا التاريخ هو جدل الصراع بين القوى التي تعمل على لمِّ الشمل وتلك التي تعمل على الفرقة والتشرذم «فالغربيون يحاولون إثارة الشبهات المختلفة رغبةً في تمزيق وحدة العالم الإسلامي الفكرية، وإحلال الثقافات الإقليمية والقومية محلّها. ولكن هذه الثقافات ما تزال تستمد مقوماتها من الفكر الإسلامي أساساً. ولذلك فهم يدعونها إلى إحياء تراث قديم جداً سابق للإسلام كالفرعونية والبربرية والفينيقية، وحضارات سالفة في أندونسيا والهند وإيران وتركيا»(1).

وفي المقابل يعتبر الإسلام عامل وحدة تتمثل في رباط العقيدة الإسلامية والفكر والثقافة، بالإضافة إلى كونه نظام اجتماعي كامل يقوم على هذه العقيدة، وهو منهج إنساني شامل العلاقات بين الأفراد والجماعات وبين الشعوب والمجتمعات والدول. وفي هذا السياق يقول الجندي: نعم هو عدد ضخم من البشر يتحد في العقيدة والفكر والشعور لا مثيل له في العالم كله يتميز بأكثر من عامل قوة، أهمها المجاورة في المكان، والتركيز في قلب العالم في منطقة تمتد دون حواجز أو فواصل من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلسي، من روسيا في الشمال والمحيط الهندي، جنوباً إلى ما وراء خط الاستواء»(2).

ومن هذا المنطلق كان العالم الإسلامي مطمعاً للدول الغربية الاستعمارية، كما كان هدفاً لقوى التشتيت والتمزيق. يتضح ذلك في العصر الحديث، فما كاد العالم الإسلامي يستيقظ ليجدد حياته، وليعيد تجميع قواه حتى واجهه الغزو الاستعماري بحركة تطويق ضخمة، لم تلبث أن اندفعت إلى أعماقه، فكانت مهمته مزدوجة: مهمة اليقظة، ومهمة المقاومة وفي معركة مصيرٍ يتحول فيها جدل الوحدة والانقسام إلى

جدل الوجود والعدم.

ص: 236


1- المرجع السابق ص 12
2- نفس المرجع ، ص 14

فيقول الجندي:«ومن ثم واجه العالم الإسلامي معركة طويلة بين المحافظة على وجوده وقيمه، وبين الاستعمار الغاصب، قدم فيها الشهداء والضحايا والدماء، وقاوم بكل ما يملك أهلُه، حتى بالأجساد المتراصّة أحياناً، أمام قواتٍ حديثةٍ الأسلحة، مليئةٍ بالمكر والغدر، ودخل معارك حاسمةً لم ينهزم فيها عن طريق السلاح رغم قلّة العدد والعُدد. ولكن هُزم بالمؤامرة والخداع»(1).

وإذا كان الاستعمار قد انتصر في جولته الأولى، فإنّه قد تعرض للهزيمة الجولات التالية، فقد استطاع العالم الإسلامي أن يواجه التحدي وأن يرُدّ بقوة وصلابة جيشاً من الطامحين الغزاة، وخطا المسلمون خطوات واسعة نحو التحرر، فاندلعت ثورات الهند وأندونيسيا ومصر والجزائر والمغرب وليبيا والسودان وتركستان والقوفاز. ولم يتوقف المسلمون عن مقاومة الاستعمار ، سواءً في نطاق الدعوات الإسلامية، أو الدعوات الوطنية، أو الدعوات القومية، أو في سياق مقاومتهم للتبشير والصهيونية ومذاهب الإلحاد والإباحة وسيراً على نفس الحركة الجدلية، ونفس المنطق الذي كان يحكم العلاقة التي بين المسلمين والاستعمار، وإزاء هذا التحدي والصمود من قبل المسلمين لم يجد الاستعمار أمامه سوى العمل على إثارة الخلافات وإشاعة الفرقة بين المسلمين، فقد حاول الفصل بين العرب والمسلمين وبين الترك ،والعرب وبين المسلمين ،والنصارى وبين المسلمين والهندوس وآثار الخلافات القديمة بين السنة والشيعة والبربر والعرب، وجمّد الاستعمار المجتمعات البدوية، وجمّد القبليات، وحرص على عدم انصهارها في المجتمعات الكبرى، حتى لا تسود الأمة وحدة شاملة»(2).

وإذا كان الجندي على هذا النحو يقوم بتحليل الظاهرة الاستعمارية من وجهة نظر تاريخية تستند إلى حركة ترددية قوامها الصراع بين القوى الإسلامية التي تسعى إلى الوحدة والقوى الغربية التي تسعى إلى الانقسام فإن أبرز مظاهر هذا الصراع يمكن أن نعثر عليها في المباحث التي خصصها الجندي لحركات الوحدة في العالم

ص: 237


1- نفس المرجع ، ص 15
2- نفس المرجع، ص 16.

الإسلامي من قبيل: الوحدة الإسلامية والجامعة الإسلامية، والخلافة الإسلامية، وتلك التي خصصها للحركات الغربية الهدامة مثل البهائية والقاديانية والماسونية. ونحن نختار هذين النموذجين من قوى الصّراع لأنهما يمثلان الوجه الفكري للصراع العسكري بين المعسكرين الإسلامي والغربي الاستعماري.

ينطلق الجندي في طرحه لمفهوم الوحدة الإسلامية - كأداة لمواجهة الغرب الاستعماري - من فكرة الخلافة باعتبارها النواة أو الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه أي حركة إسلامية تهدف إلى التوحد ونبذ الفرقة والانقسام ، ف- «الخلافة في الاصطلاح الفقهي الإسلامي هي الأمانة الكبرى، وإمارة ،المسلمين والمقصود بها أصلاً الولاية العامة على شؤون المسلمين من دينية ودنيوية»(1).

ومن خلال الخلافة العثمانية نبعث فكرة الجامعة الإسلامية في مرحلة حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1908) وكان مصدرها الأساسي الدعوة إلى

تجمع المسلمين في جبهة واحدة لمواجهة النفوذ الاستعماري الغربي الزاحف. وترجع الفكرة إلى جمال الدين الأفغاني الذي جاء إلى مصر 1871، وهو يحمل لواء حركة «اليقظة الإسلامية».. وقد كان يهدف الأفغاني بالأساس إلى تحرير العالم الإسلامي من الجمود والتخلف والنفوذ الاستعماري والتفكك.

ولم تجد فكرة الأفغاني صدى في مصر أو فارس أو السودان، وإنّما وجدته لدى السلطان عبد الحميد الذي اعتبرها خير سلاح يحارب به النفوذ الاستعماري الغربي، خاصة أنه كان يهدف إلى توحيد المسلمين تحت لواء الخلافة الإسلامية، وإن لم يكونوا أجزاءً من الدولة العثمانية مثلما هو الحال بالنسبة لمسلمي الهند وإيران وأفغانستان والجزائر والملايو وأفريقيا.

وفي سياق التنظير لحركات الوحدة الإسلامية المتأسسة على فكرة الخلافة يرد الجندي على القائلين بسياسية دعوة الأفغاني ولا دينيتها،فيقول:«قال بعض الباحثين

ص: 238


1- نفس المرجع، ص 161.

في دعوة جمال الدين إلى الخلافة الإسلاميّة (Pam Islamism) بأن أساس الفكرة عنده «سياسي لا ديني» وهذا مما يخلط به الكثيرون ممن لا يفهمون أن الإسلام نظام متكامل، ديني وسياسي واجتماعي واقتصادي وقانوني معاً».

ومن نفس المنطلق ينتقد الجندي كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي جاء ثمرة للصراع السياسي الذي كان دائراً في مصر في ذلك الوقت (1924) بين حزب الأحرار الدستوريين والملك فؤاد الذي كان يعد نفسه لتولي الخلافة بعد سقوط السلطان عبد الحميد في تركيا فيقول: «وفي الحق أن كتاب علي عبد الرازق لم يكن يهدف إلى إعلان رأي في الإسلام خالص لوجه العلم بقدر ما كان يهدف إلى استغلالٍ فقه الإسلام وتشريعه وتاريخه إلى تأييد رأي باطل عن الخلافة هذا الرأي ليس له أهمية ولا خطر إلا بقدر ما يتعرض لأصل من أصول الإسلام، وهو قول، بالباطل إن الإسلام ديني روحي لا صلة له بالمجتمع ولا بالسياسة منكراً أكبر معلم من معالم الإسلام الذي يختلف به اختلافاً أساسياً عن الأديان الأخرى»(1).

ولما كانت فكرة الوحدة الإسلامية تمثل واحدة من القناعات الأساسية التي يؤمن بها الجندي ويفسّر على أساسها الصراع التاريخي بين المسلمين والغرب الاستعماري، فإنه يستخدم هذا المفهوم لمناهضة الحركات الهدّامة التي جاءت لفصم هذه الوحدة وإشاعة عوامل الفرقة والانقسام في العالم الإسلامي. ومن هذا المنطلق يكشف عن المؤسسات الماسونية وإرساليات التبشير، ويفضح الدعوات البهائية ودعوات الإقليمية الضيقة والحركات ذات الطابع الإسلامي مظهراً، والتي تحمل مفهوماً منحرفاً أو مضللاً كالقاديانية. ومن المفارقات التي تستحق التأمل هو أن الجندي رغم إيمانه بالوحدة» ومناهضتة «للانقسام» إلا أنه يدرس ظاهرة الاستعمار الرامية إلى الفرقة والانقسام، وهو واقع تحت تأثير هذه الأخيرة بحيث لم يستطع أن يستوعب الآراء المغايرة التي صدرت عن مفكرين عرب ومسلمين من أمثال علي عبد الرازق وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وانطون سعادة وأحمد

ص: 239


1- نفس المرجع ، ص 198

لطفي السيد، بل إنه اعتبر بعضهم دعاة وقادة للحركات الهدامة، فما زال الجندي يدور في فلك الفكر الإسلامي الخالص دون محاولة الاستفادة من المنجزات الثقافية والفكرية التي قدمها الغرب وتأثر بها المفكرون العلمانيون. فهو يفهم وحدة الإسلام على أنها مكتفية بذاتها في غير حاجة إلى التداخل والتفاعل مع المصادر الأخرى للمعرفة.

فيقول : «ومن هنا كانت دعوة التجديد أو العلمانية أو تحرير الفكر إنّما تحاول أن ترمي هذا المفهوم بأنه تعصب، وكان مفهوم تسامحها وتحررها إنما يهدف إلى تقبل الاستعمار الغربي تقبُّل الرضا والإعجاب والتقدير والموالاة، وموالاة النفوذ الأجنبي، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بتغيير أصل جذري أصيل في مفهوم الإسلام وهو إلغاء باب الجهاد. ولذلك فقد كانت الدعوة إلى التماس الإسلام الأصيل المستمد من القرآن الكريم هي عامل المقاومة الأكبر للنفوذ والتغرير»(1).

إنه يبحث عن إسلام خالص يستمد معارفه من المنابع الأصلية الصافية، وهذا مطلب مشروع، إلا أنه - على هذا النحو - من شأنه أن يهدر العوامل التاريخية التي تعمل على تخصيب الأصول الأولى، وتدفع حركة الجدل الفكري إلى الأمام. كما أن سيكولوجية المقاومة والدفاع عن الإسلام التي يتبناها المفكرون الإسلاميون تجعلهم يفسرون موقف الآخر المخالف على أنه موقف عدائي ينطوي على ولاءٍ للمستعمر حتى لو كان هذا الآخر ينتمي إلى الذات باعتباره ابناً لثقافاتنا العربية والإسلامية مثل علي عبد الرازق والعقاد وطه حسين. ويكفي أن نعلم أن الجندي انتهى من كتابة هذا المؤلف عام 1940 ، أي دون أن يعلم أن الغيب كان يخبئ للعالم شخصية فذة مثل إدوارد سعيد تعلَّم في الغرب وعاش في أكاديمياتهم العلمية واستوعب دروسهم ومناهجهم النقديّة، ثم استطاع أن يوظف كل ذلك من أجل تأسيس علم جديد لمناهضة الاستشراق ، أحد أهم الأدوات الاستعمارية، هو الحقل المعرفي المعروف ب_«الدراسات ما بعد الكولونيالية». وهو مجال معرفي أصبح له أدواته ومصطلحاته

ص: 240


1- نفس المرجع ، ص 440

الفنية الدقيقة التي أتاحت لأبناء المستعمرات المعاصرين أن يعيدوا كتابة تاريخهم بعد أن فنّدوا مزاعم الغرب الاستعماري على أسس علمية ومنهجية رصينة، أحدثت دوياً في الأكاديميات الغربية المتخصصة وزعزعت الكثير من الثوابت التي تغلغلت كذباً، في نفس وعقل المواطن الغربي.

الشيخ الغزالي والتحليل النفسي والأخلاقي للاستعمار

يتناول الشيخ الغزالي ظاهرة الاستعمار من خلال كتابه «الاستعمار أحقاد وأطماع» ومن العنوان يتضح الاتجاه الذي ينوي أن يمضي فيه الغزالي. فالأحقاد والأطماع مسائل تنتمي إلى المجال النفسي الداخلي أكثر من المجال المادي الخارجي. ولا يعني ذلك الفصل بين العالم الداخلي للمستعمر وبين السلوك الخارجي في العالم المحيط، لكنه - بالأحرى - يعني أن الدافع النفسي الداخلي هو المحرك للسلوك الخارجي، ومن خلاله يمكن فهم وتفسير ما يصدر عن المستعمر من أفعال إزاء العالم وإزاء الآخر القاطن في ذلك العالم ، والذي سيُعد موضوعاً للذات المستعمرة، وأداة لتحقيق أهدافها وأحلامها غير المشروعة.

والحقيقة أن الغزالي لا يدرس ظاهرة الاستعمار باعتباره باحثاً متجرداً، لكنه يتناوله من وجهة نظر إسلامية، ومن موقعه كمفكر مسلم يقف من الآخر موقف المدافع عن الإسلام، فتراه يصرّح قائلاً: «ونحن - المحامين عن الإسلام - كنا نود لو صحت هذه الأمنية، وظفرت أرجاء العالم بحظوظها من الحريات الكاملة وفي مقدمتها الحرية الدينية»(1)

ولأن الغزالي يعي موقفه كباحث إسلامي يتناول ظاهرة معادية للإسلام، فهو يحرص على تقديم المسوغ الشرعي لحالة الغضب التي استشعرها القراء في الطبعة الأولى للكتاب حتى أن بعضهم اتهمه بالعنف، وهو بعضهم اتهمه بالعنف، وهو عندما يقدم هذا المسوّغ إنّما يقدمه في شيء من التحليل النفسي للذات ما يعني أن البعد النفسي هو المهيمن

ص: 241


1- الشيخ محمد الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة سنة 2005م ) ، ص3.

على الدراسة، سواء على مستوى الذات أو على مستوى الآخر، فيقول:«هل شدة السّخط على الباطل، ورفع العقيرة في استنكاره يعدان عنفاً؟ ما أظن ذلك حقاً! إن المستقيم من طبائع الأشياء أن تغضب إذا وجدت الناهبين والمُغيرين يمضون في طريق الحياة، وكأنهم لم يصنعوا شيئاً يؤاخذون به»(1).

والطبيعة النفسيّة للإنسان المسلم لا تنفصل عن طبيعة الإسلام، فيقول:«لا أدري أهي طبيعتي أم طبيعة الإسلام في نفسي، تلك التي جعلتني أهش مثلاً لتصريحات البطريرك الماروني «بطرس المعوشي» في مأدبة الإفطار التي أقامها لعلماء المسلمين بلبنان في رمضان 1276ه_(2).

وبالرغم من أن الغزالي يحرص على الربط بين الطبيعة النفسية والطبيعة الإسلامية، وينظر إلى الاستعمار باعتباره غارات صليبية جديدة لم تغيّر هدفها القديم وإن تغيرت أحياناً الوسائل، إلا أنه لا يرى في الاستعمار نزوعاً دينياً حقيقياً وإنما أطماع سياسية متخفية في رداء الدين ومن هذا المنطلق ينأى بالنصرانية الحقيقية من أن تكون سبباً في هذا الظلم والجور الذي يمارسه المستعمرون تجاه أبناء البلاد المستعمَرة، فيقول:«وحاشا للنصرانية التي جاء بها عيسى ابن مريم أن تكون سرّ هذا الحيف إن الصليبية المعتدية ليست إلا وثنية أخذت طبيعتها في غلاف سماوي، غير أن هذا الإخفاء ما لبث أن تلاشى ودلّ السلوك الشائن على أن المستعمرين ليس لهم دين إلا دين السطو والفتنة» (3).

وبنفس النهج يقدم الغزالي تحليلاً نفسياً وأخلاقياً لطبائع الأمم. فالناس عنده معادن تكشف المعاملات عن سرائرهم وهم أحاد، وتكشف ، عن طبائعهم وهم جماعات ومعادن الأمم تتداخل في تكوينها عناصر كثيرة منها سلوك الأفراد وخصائص الجنس ومستويات الثقافة وسياسات الأمة الرامية إلى المنافع العامة. غير

ص: 242


1- نفس المرجع، ص 5.
2- نفس المرجع، ص 6.
3- نفس المرجع ، ص 10

أن أهم ما يميز هذا التحليل هو ربطهِ لطبيعةِ الأمة بطبيعة الدين من خلال الرسالات السماوية التي يتلقاها البشر. وفي هذا الصدد يقول الغزالي: «إذا التقت طبيعة أمة ما مع طبيعة الرسالة التي تحملها كان هذا الالتقاء قوة كبيرة للأمة ورسالتها معاً. وتعزز ثمرات الخير الناشئة عنه إذا كانت هذه الرسالة قائمة على الإيمان والحق، محكمة السير فيما تقدم للعالم من بر ورحمة»(1).

غير أن الغزالي لا يقف عند هذه الأمور الطوباوية الحالمة، لكنه يتساءل:«.. ولكن هل هذا الالتقاء ميسور دائماً؟«.. يجيب الغزالي بالنفي، فالممارسة العملية، وما يشهد به التاريخ يثبت دائماً وجود حالات كثيرة تخرج عن هذه النظرة المثالية. وفي هذا السياق يَعقد الغزالي مقابلة بين أثر الرسالة الإسلامية في نفوس معتنقيها من العرب، وأثر الرسالة المسيحية في نفوس معتنقيها من الأوربيين، وهي مقابلة ينتصر فيها لطباع المسلمين على طباع الغربيين من أجل إبراز المفارقة التي أفرزت الحركة الاستعمارية، فيقول عن العرب المسلمين: «لقد اعتنق العرب الإسلام، فاستطاع هذا الدين في فجر دعوته أن يذيب العصبيات المفرقة التي أكلت هذا الجنس، وبددت قواه، واستطاع ان يحوّل تهوّره إلى شجاعة حكيمة، واعتداده بنفسه إلى اعتدادٍ بالحق ورسالته فحسب»(2).

وفي حديثه عن الرسالة المسيحية يميّز الغزالي بين النصرانية الأولى التي لها كتاب منزل ومنهج سماوي مقدس وتعاليم سمحة أتى بها السيد المسيح، وبين الصلیبیة التي تهيمن الآن على الأوربيين والأمريكيين ، فلهذه الصليبية الغالبة خواص لابد من كشفها منها: «أنها انسجمت مع طبائع الغربيين الذين اعتنقوها، وأرخت العنان لما يكمن فيها من قسوة ومنها أنها نقضت الإحساس بمعنى الجريمة وعقباها السيئة. ذلك أن نظرية الفداء وما تضمنته من أن عيسى قُتل كفّارة لخطايا بني آدم، جعلت الألوف المؤلفة من مصدّقيها يستهينون بالآثام المحظورة، ويُقدمون عليها وهم آملون أن تحمل عنهم . وهذه العقيدة كانت سبب مصائب كبيرة حلت بالأمم المهزومة(3).

ص: 243


1- نفس المرجع، ص 14
2- نفس الموضع
3- نفس المرجع، ص 18

ويدعم الغزالي تحليله للظاهرة الاستعمارية المتأسسة على فكرة الفداء المستمدة من المسيحية بإضفاء بعداً سيكولوجياً على الصليبية المتوحشة التي اتبعت سياسة البطش الشنيع ضد غيرها من الأمم، وخاصة الأقطار الإسلامية، فيقول: «ثم إن الصليبية كانت تعاني مما يسميه علماء النفس «عقدة الضعة»، فهي تعرف مجافاتها للعقل، وبُعدها الساحق عن منطقه السليم. ومن ثم فهي تستعيض عن الهدوء في عرض نفسها، والجدال بالتي هي أحسن، تستعيض عن ذلك بغضب ظاهر على المذاهب والأديان الأخرى. كأن عاطفة الحنق على المخالفين سوف تضفي عليها حقاً فاتها من ضعف الدليل وانهيار الحجة»(1).

ومن الملاحظ أنه بالرغم من وجود أسباب موضوعية للحركات الاستعمارية، إلا أن الغزالي يميل في هذه الدراسة إلى تحليل الذات الأوربية المستعمِرة في محاولةٍ للكشف عن الأبعاد الذهنية والنفسية التي تدفع الأوربي لغزو البلدان الأخرى، واستخدام أقسى وأعنف الوسائل للتنكيل بأبناء المستعمرات. وهو هنا عندما يقوم بهذا التحليل، إنما يؤكد على أن ما يصدر عن الأوروبيين المستعمرين إنما ينجم عن فطرة وطبيعةٍ وحشيةٍ متأصلةٍ في نفوسهم، ومن ثم فإن ما يقومون به من سلوكيات تجافي النظرة الإنسانية السليمة تجنح نحو الظلم والجور والهمجية، إنما هو ليس بالأمر الجديد المستحدث، لكنه طبيعة أصيلة موجودة من القدم لدى الآباء والأجداد، ويشهد التاريخ الدموي للأوروبيين على ذلك فيقول:«هذه الفظائع المروّعة ليست في الصليبية الغربية سجية محدثة إن القوم يسيرون على النهج الذي سلكه آباؤهم قبل، فالخلف والسلف على اختلاف الأمكنة والأزمنة، تُحرّكهم طبائع واحدة وتحدوهم غاية واحدة أنهم مع خصومهم لا يعرفون للحرب أدباً، ولا للرحمة موقعاً، إلا إذا تكافأت القوى، وخافوا الثأر العاجل، فهم عندئذ يعاملون العدو، اتقاء للعقوبة لا اتقاء لله، أما إذا امنوا الثأر العاجل، فلن يُتوقع منهم إلا بطش الجبابرة»(2).

ص: 244


1- نفس المرجع، ص 19.
2- نفس المرجع ، ص 26

ويُلاحظ أخيراً أن الغزالي مثل الجندي، ومثل الكثيرين من المفكرين الإسلاميين له موقف معادي للفكر العلماني باعتباره نتاجاً للغزو الفكري الاستعماري، وباعتبار المفكرين العلمانيين عملاء وأدوات يحركها الغرب الاستعماري لتحقيق مآربه، حتى أنه يصف عملية التلاقح الفكري بين العرب والأوربيين ب_«البغالة»، فيقول:«والبغال في ميدان القلم والتوجيه العام كثيرون وآثارهم في إفساد الذوق والوعي شائعة منكرة !! هؤلاء نزت على أخلاقهم ومسالكهم - بل على نفوسهم وعقولهم أولاً - أفكار دخيلة وآراء دنيئة تتصل بالحياة والإنسان، والوجود الأعلى، فكان هذا التلقيح الفكري مغيّراً طبائعهم كما تتغير الذراري في الواقع الحيواني المختلط»(1).

ولا يتوقف الغزالي عند هذا الوصف القاسي والمهين لقضية التعاطي الفكري مع الآخر، بل إنه يتناول بعض النماذج من مفكري الأمة الذي يرى أنهم سقطوا في مستنقع الغرب الاستعماري وأصبحوا خدماً يُنفّذون أوامره ويحققون أمانيه وتطلعاته التي عجز عن تحقيقها عسكرياً بالقوة المادية، فجاء ليحققها عن طريق القوة الفكرية الناعمة، وبأيد أبنائه المهجنين المنتمين شكلاً واسماً، للإسلام، وللأمة الإسلامية.

فيقول عن زكي مبارك:«ولا ندري هل رجع الدكتور زكي إلى الله بعد هذا الكفران المبين، أم مات على زيغه؟ لقد كتب بعد ذلك كتابات حسنة في التصوف وإن كان الرجل ظل يدمن الخمر حتى صرعه السكر ، وقضى على حياته وهو نشوان». وفي نفس الموضع قال عن طه حسین: «ولنتجاوز الدكتور زكي مبارك إلى قنطرة أخرى من قناطر الغزو الثقافي الصليبي، أعني الدكتور طه حسين، فإنّ هذا الرجل كان بوقاً عالياً لآراء المستشرقين ودسائسهم العلمية، وضغائنهم الدينية...»(2).

ص: 245


1- نفس المرجع، ص 209
2- نفس المرجع ، ص 216.
ثانياً: ظاهرة الاستعمار في الفكر العلماني

تختلف الروح التي يتعامل بها العلمانيون مع الظاهرة الاستعمارية عن تلك التي يتعامل بها الإسلاميون على نحو ما رأينا في دراستي أنور الجندي ومحمد الغزالي. فالمفكر العلماني ليس في قطيعة مع الآخر، حتى الغربي الاستعماري، فليس لديه مشكلة في التعاطي معه والاستفادة من منجزاته، كما أنه لا ينظر لتراث الأنا باعتباره ينبغي حمايته والوقوف للذود عنه، بل على العكس قد يقف منه موقف الناقد المدقق الذي يعمل على الكشف عن السلبيات التي تَعْتَوِرُ هذا التراث، والتي تكون معوقة للنهضة والسير باتجاه التقدم والإسهام الحضاري. وبهذا المعنى لا يكون الدين عقيدة فحسب بحيث لا يتم التعامل معه إلا من باب التسليم والإيمان القلبي، وإنما هو ظاهرة إنسانية وتاريخية ينبغي أن تخضع للبحث والدرس. وعلى ذلك، فلا يستغرب أن نجد كتاباً يحمل عنوان «الظاهرة القرآنية» لمالك بن نبي. ومالك بن نبي تحديداً هو الذي قارب الظاهرة الاستعمارية من جهة المستعمر (بفتح الميم)، واستطاع - في نوع من النقد الذاتي - أن يكشف عن الأسباب الداخلية للاستعمار فيما أسماه ب_ «القابلية للاستعمار» فهو القائل:«لكيلا نكون مستعمَرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار». وبالرغم من أن بن نبي يُلقّب بالمفكر الإسلامي، ويحسبه البعض على التيار الإسلامي، إلّا أن المعيار لدينا هو المنهج والطريقة، والروح التي يتعامل بها مع موضوعات بحثه. فهو لا يجد غضاضة في الاعتماد على الآخر الغربي فكرياً فيقول في مقدمة كتابه «شروط النهضة»: ولعلّي لم أكن فيما عرضت لهذه النقطة في الطبعة السابقة قد أوفيتها حقها من التفصيل وذلك لاقتناعي بالتفسير المختصر للدور الذي تقوم به الفكرة الدينية في التاريخ، ولما اعتمدت عليه من آراء لكسر لنج H.Kesserling في الموضوع، أعني تلك الآراء التي استخلصها من دور الفكرة المسيحية في تركيب الحضارة الغربية» (1).

فكيف استطاع بن نبي أن يدرس الظاهرة الاستعمارية في ضوء السياقات الاجتماعية

ص: 246


1- مالك بن نبي شروط النهضة، ت: عبد الصبور شاهين ( دمشق: دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر سنة 1986م، ص 12

والحضارية للشعوب المستعمرة ؟ هذا ما سنتعرف عليه في السطور التالية:

1- مالك بن نبي والتحليل الحضاري للشعوب المستعمرة

في كتاب شروط «النهضة» يخصص بن نبي فصلاً عن الاستعمار بعنوان «الاستعمار والشعوب المستعمرة»، وهذا الفصل موضوع دراستنا غير أننا قبل الدخول في تفاصيل هذا الفصل نود أن نشير إلى حرص بن نبي على تحديد المنهج الذي اتبعه في كتابه، وهي شيمة الكتاب العلمانيين الذين يصدِّرون كتاباتهم من منطلقات علمية ومنهجية. وهو هنا - خلافاً للغزالي - يرضخ لمطالب قراء الطبعة الأولى، ويعمل على تعديل منهجيته بحيث تلبّي لهم حاجتهم المعرفية التي لم تستوف في الطبعة السابقة، فيقول: «... فقد شعرت أن القارئ ينتظر في هذا الموضوع أكثر من شهادة التاريخ.. إنه ينتظر وصفاً تحليلياً يجد فيه المعلومات التي تقدمها الدراسات الموضوعية لهذه الظاهرة. أعني الدراسات التي تتناول الأشياء في كنهها لا في مظهرها. ولقد حاولت تلبية هذه الرغبة المحقة فخصصت في هذه الطبعة فصل«أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة» سالكاً هذه المرة مسلك التحليل النفساني الذي يبين بوضوح جانب من «الظاهرة» في هذا المركب، إذ يكشف عن التأثير المباشر للفكرة الدينية في خصائص الفرد النفسية»(1).

وإذا عدنا إلى الفصل موضوع دراستنا فسنجد بن نبي يحدثنا عن «المعامل الاستعماري» وتأثيره على نهضة البلاد «العربية والإسلامية». وبن نبي يميز بين العرب والمسلمين لأنه لا يحصر نفسه في دائرة الدفاع عن الدين الإسلامي لكنه يسعى إلى ما هو أعم وأشمل ، إنه يهدف إلى نهضة الإنسان العربي عموماً، المسلم وغير المسلم. كما يتوجه بحديثه إلى المواطن الجزائري، لكنه - في الوقت نفسه - يعمم نظرته بحيث تشمل العربي والمسلم الجزائري، وغير الجزائري.

وهنا يقدم ابن نبي تحليلاً علمياً لهذا المعامل الاستعماري. فللفرد قيمتان: الأولى

ص: 247


1- نفس المرجع ، ص 13

خام طبيعية، والأخرى صناعية، اجتماعية، الأولى موجودة في كل فرد بحكم تكوينه البيولوجي وتتمثل في استعداده الفطري لاستعمال عقله وترابه ووقته، والأخرى التي يكتسبها من وسطه الاجتماعي تتمثل في الوسائل التي يجدها الفرد في إطاره الاجتماعي لترقية شخصيته وتنمية مواهبها.

وهذه الأخيرة هي الوظيفة المنوطة بالهيئة الاجتماعية التي تصنع للإنسان ما يمده في رفع مستواه من مدرسة أو مستشفى أو إدارة تسهر على مصلحته.

ومن هذا التحليل ينطلق بن نبي لتحليل الظاهرة الاستعمارية. فالمجتمع الذي يتقاعس عن تنمية أفراده جسدياً وعقلياً وروحياً، فإنه يتسبب في جعل هؤلاء الأفراد فريسة سهلة للاستعمار يسيره حيث يشاء وكيفما يشاء، وفي هذا الصدد يقول:« وبديهي أنه في حالته هذه لا سبيل له لأن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يقدّره الاستعمار له فهو يعيش كأن يداً خفية وتارة مرئية تشتت معالم طريقه، وتقصي باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، فلا يدركه أبداً»(1).

ومن المفارقات التي تستحق الذكر، والتي تكشف عن الطريقة المرنة والحركة الحرة التي يمارسها بن نبي في التفكير أنه يرى في الاستعمار - الذي هو سبب نكبة العرب والمسلمين - سبباً ليقظتهم فيقول:«ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعماري فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذي استسلم لنوم عميق، بعد الغداء الدسم الذي أكله عندما كان يرفل في نعم حضارته والتاريخ قد عودنا أن كل شعب يستسلم للنوم، فإن اللّه يبعث عليه سوطاً يوقظه»(2).

وهى رؤية تختلف عن رؤية أنور الجندي والشيخ الغزالي الذين يعزيان الصحوة الإسلاميّة إلى عوامل ذاتية مستمدة من طبيعة الدين الإسلامي ذاته. وإذا كان بن نبي ينطلق من النقد الذاتي ويعمل على تنمية الأفراد ونهضة الأمة، فإنه إنما يجعل من هذه الاستراتيجية مقدمة أو مدخلاً، أو نقطة انطلاق نحو حضارة إنسانية تضم البشر

ص: 248


1- نفس المرجع، ص 147.
2- نفس المرجع، ص 150

جميعاً. وفي تأسيسه لهذه الحضارة يميز بين العبقرية الرومانية التي تهيمن عليها الروح القيصرية وبين الإسلام الذي تسوده روح الإنسانية وهو يضع الإنسانية في خيار مصيري بين الطريقين، فإما أن يكون مستقبلها نوماً تغط فيه إلى الأبد، ولا تستطيع النهوض من مشرق فجر جديد، فتعجز عن تجديد حضارة لا تحمل طابعاً خاصاً من شعب متكبر، يسوم الإنسانية سوء العذاب من غير ضمير يردع، ولا قانون يمنع وإما أن تأتي بحضارة تكون للبشر جميعاً، تستخدم مواهبهم المتنوعة، وتطور قواهم المتعددة»(1).

ويُلاحظ من الصياغة أن بن نبي يرجح كفة الإسلام، وهو بهذا المعنى لا يناقض توجهه نحو الإنسانية، وإنما يرغب في الوصول إلى هذه الإنسانية من خلال الإسلام الذي هو دين وسياسة وأخلاق وحضارة. ونظراً لوعي بن نبي بأن حل المعضلة واختيار الطريق إنما هو رهن بإرادة القادة وأولي الأمر الذي يطلق عليهم «الكبار» وهي مسألة محل تساؤل «فهل هم يريدون حلّها لصالح الإنسانية؟».

فإنه يبدأ من الفرد الذي هو «غير كبير» ويطالبه بتنمية ذاته وقدراته الخاصة التي هي بمثابة خط الدفاع الأول والأخير ضد التوحش الاستعماري البغيض والخبيث، الذي يتسلل بنعومة إلى خلايا العرب والمسلمين بحيث يؤثر في نفوسهم وسلوكهم بأيديهم هم أنفسهم، فيقول:«وإن الواجب ليقضي على كل «غير كبير» أن يشعر بما تنطوي عليه شخصيته من قيمة جوهرية، هي تراثه الخاص الذي لا سلطان لأحد عليه، فكما أنه ليس للاستعمار أن يتصرف في الزمان والمكان، فكذلك لا يستطيع أن يتحكم في عبقرية الإنسان»(2).

والحقيقة إذا عدنا إلى دراسة أنور الجندي، ودعوته إلى إحياء عقيدة الجهاد الإسلامية التي عمل الاستعمار على طمسها وإقصائها من الثقافة الإسلامية حتى يتمكن من السيطرة العسكرية على البلاد الإسلامية المستعمرة، فإن بن نبي يمكن

ص: 249


1- نفس الموضع
2- نفس الموضع.

قراءته على النحو الذي يجعل من دراسته للظاهرة الاستعمارية دعوة لإحياء عقيدة الجهاد بمعناها الأكبر، أي الجهاد النفسي وليس العسكري الذي دعى إليه الجندي.

والحقيقة أن جهاد النفس الآن ربما كان هو الأنسب. أولاً، لأن الجهاد المسلح لا يملكه سوى أولي الأمر، أي القائمين على الحكم، والذين يملكون سلطة اتخاذ القرار، وهم من وصفهم بن نبي ب_«الكبار». ثانياً، لأن الاستعمار الآن بات فكرياً وروحياً واجتماعياً وحضارياً أكثر من كونه عسكرياً. وهو ما يتلاءم مع النظرة الحضارية التي ينطلق منها بن نبي، وفي هذا الصدد نجد تركيزاً على الأبعاد النفسية للفرد التي يعوّل عليها بن نبي كثيراً في إحداث التغيير، خاصة أن الاستعمار نفسه لم ينجح في السيطرة علينا إلا عندما درس نفسيتنا واستطاع أن يقف على حقيقة أبعادنا الداخلية، فيقول:«إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته من حيث نشعر أو لا نشعر ، ومادام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال ولا أمل في حرية مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين: أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم»(1).

ومن المفارقات الصارخة أن المستعمر قد خرج من أرضنا بالفعل لكنه مازال مستوطناً في نفوسنا. فمازلنا نحيا في اغتراب وفي انقسام في المأكل وفي الملبس وفي طرائق العيش والتفكير إنها المدنية الزائفة التي زرعها الاستعمار ومازال يعمل بجد على ري الأرض التي اغتصبها ذات يوم، ثم تركها لأهلها يجنون حصادها المر. ومن أهم النتائج التي حققها الاستعمار لصالحه في الشعوب المستعمرة هو التأثير الذي مارسه على مفكري الأمة وكتابها بحيث صاروا أبواقاً له. وهنا يمكننا أن نلحظ كيف عالج بن نبي هذه الظاهرة التي سبق وأن تناولها الغزالي في صورة مجازية قاسية ومهينة أطلق عليها «البغالة»، فيقول بن نبي:«إن الاستعمار لا يتصرف في طاقاتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسةً عميقةً، وأدرك منها موطن الضعف،

ص: 250


1- نفس المرجع ص ص 154 - 155

فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتاج لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث فيها، وأقلاماً يكتب بها، إنه يسخِّرنا وأقلامنا، لأغراضه، يسخِّرنا له، بعلمه وجهلنا»(1).

لقد غلبت على الغزالي العاطفة الدينية وغلبت على بن نبي نزعته العلمية، إلا أنهما اتفقا على رصد الظاهرة واستنكارها غير أن بن نبي - خلافاً للغزالي وللإسلاميين عموماً - لا ينظر لهذا الفصيل من المفكرين نظرة إدانة أخلاقية بقدر ما يعتبرهم واقعين تحت مؤثر خفي يقوم بفعله فيهم من حيث لا يشعرون، فيقول:«إننا لم ندرس بعد الاستعمار دراسة علمية، كما درّسنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية، وحتى الدينية من حيث نشعر أو لا نشعر»(2).

2- إدوارد سعيد وتحليل الخطاب الاستعماري

بالرغم من أن دراستنا ليست تاريخية، ولا ترصد تطوراً زمنياً معيناً يمكن أن يُستخلص منه نتيجة ما، إلا أننا هنا في تناولنا لإسهام إدوارد سعيد في الكتابة حول الاستعمار، إنما نعتبر أنفسنا قد وصلنا إلى ذروة التطور المنهجي في هذا النوع من الكتابات. ذلك أن سعید قد انطلق من خلفيات ثقافية ومنهجية مسبقة ارتبطت بعمله الأكاديمي وتخصصه الدقيق في الأدب المقارن، واطلاعه على مدارس النقد المختلفة وإسهامه المتميز في هذا المجال. لذلك أتى كتابه «الاستشراق : المفاهيم الغريبة للشرق» كواحد من أهم الدراسات ذات الريادة في حقل «الدراسات ما بعد الاستعمارية».

لهذه الأسباب سيكون تركيزنا في هذا المبحث على قضايا وإشكاليات المنهج الذي استخدمه سعيد في هذا الكتاب لنرى إلى أي مدى يمكن الاستفادة من المنجزات المنهجية والنظرية الغربية في دراسة الغرب نفسه، وكيف أن الإنسان العربي والمسلم يمكنه أن يجمع بين العاطفة الدينية من ناحية وبين العقلية العلمية المنهجية من ناحية أخرى، دون أن يكون ذلك - بالضرورة - تخلي عن الأصول وعن

ص: 251


1- نفس المرجع، ص 155
2- نفس الموضع .

الهوية والذوبان في الآخر، أو العمل كسخره تحت إمرته بحيث نحقق أغراضه ونردد أقواله ومفاهيمه وثقافته دون وعي كالببغاء.

وفي الحقيقة أن إدوارد سعيد قد وضع مقدمة طافية يمكن أن تغطي تماماً هذا المسعى المنهجي من جانبنا، ومن جانب أي باحث يود أن يقف على حقيقة المعضلة المنهجية التي غابت عن المفكرين الإسلاميين طويلاً تحت تأثير العاطفة الدينية المشبوبة والغيرة الشديدة على الدين، وهي مسألة مشروعة لا يجوز المصادرة عليها. لأن الدين بالنسبة للعربي عموماً وللمسلم على وجه الخصوص هو الذي يحفظ الهوية والوجود ويحدد المصير.

وإذا أردنا أن نمضي مع سعيد في منهجه لدراسة الاستشراق، الذي هو واحد من أهم الأدوات الاستعمارية لفرض هيمنة الغرب على الشرق، فسنلاحظ أن سعيد يستهل مقدمته بمحاولة رصد وتحديد الصورة الذهنية للشرق في الوعي الأوروبي.والأميركي. وهي خطوة منهجية بامتياز لأنها ستكون نقطة الانطلاق للتحديد الدقيق لما يُعرف ب_«الشرق». والملاحظة النيرة التي يلتقطها سعيد هي أن مفهوم«الشرق» أو صورته تختلف لدى الأوربيين الذين يمثلون الاستعمار القديم) عن صورته لدى الأميركيين (الذين يمثلون الاستعمار الحديث). ولأن الشرق بالنسبة للأوروبيين جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافة الأوربية، فإنه يرتبط بحركة الاستشراق الذي يعبّر عن هذا الجانب ويمثله ثقافياً وفكرياً باعتباره أسلوباً للخطاب، وبهذا المعنى سيكون عمل سعيد هو تحليل هذا الخطاب.

وبالرغم من أن للاستشراق معاني عدة، فإن سعيد يتعامل مع الاستشراق بمعناه الأعم والأشمل فالاستشراق موضوع دراسة سعيد هو أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمّى «الشرق»، وبين ما يسمّى (في معظم الأحيان)«الغرب»(1).

ص: 252


1- إدوارد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ت: د. محمد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، سنة 2006م ) ، ص 45

ويعني ذلك أن كل من يجعل نقطة انطلاقة هذا التمييز بين الشرق والغرب يدخل ضمن الاستشراق سواء أكان من الشعراء أو الروائيين أو الفلاسفة، أو أصحاب نظريات سياسية أو اقتصادية. وعلى ذلك يمكن لهذا اللون من الاستشراق أن يضم أيسخولوس، وفكتور هوجو ودانتي وكارل ماركس.

وبتأثير من فكرة ميشيل فوكوه عن «الخطاب» التي عرضها في كتابيه «علم آثار المعرفة» و «التأديب والعقاب» يؤكد سعيد على ضرورة دراسة الغرب باعتباره أحد أشكال «الخطاب»، فيقول: «... إننا مالم نعرض الاستشراق باعتباره لوناً من ألوان «الخطاب» فلن نتمكن مطلقاً من تفهّم المبحث البالغ الانتظام الذي مكّن الثقافة الأوربية من تدبير أمور الشرق - بل وابتداعه - في مجالات السياسة وعلم الاجتماع وفي المجالات العسكرية والأيديولوجية والعلمية والخيالية، في الفترة التالية لعصر التنوير»(1).

ومن هذا المنطلق يرى سعيد أن الاستشراق لا يمكن تحديده بعامل واحد، ولكن بشبكة كاملة ومعقدة من المصالح المتداخلة، والتي تشارك في أي مناسبة تتعلق بذلك الكيان الغريب الذي يسمّى «الشرق» . فكتاب الاستشراق - على نحو ما يصرح سعيد - هو محاولة للكشف عن الكيفية التي زادت بها الثقافة الأوربية من قوتها ودعمت هويتها من خلال وضعها لذاتها في مقابل الشرق باعتبارها ذاتاً بديلة أو حتى دفينة. وفي هذا السياق يقول :«ولكن ظاهرة الاستشراق التي أدرسها هنا ليس موضوعها مدى اتساق الاستشراق في تصوير الشرق الحقيقي»، ولكن موضوعي الرئيسي هو الاتساق الداخلي للاستشراق والأفكار التي أتى بها عن الشرق (كالقول بأن الشرق حياة عملية) بغض النظر عن أي صدق أو كذب في تصوير الشرق الحقيقي»(2).

ولا يقف سعيد عند المعنى الشامل لمفهوم «الشرق»، وإنما يرمي إلى دراسة القوة المحركة للاستشراق، فالخيال وحده ليس هو الذي خلق صورة الشرق، وجعله

ص: 253


1- نفس المرجع، ص 46.
2- نفس المرجع، ص ص 48 - 49.

يتخذ الصورة التي رسمها المستشرقون ، ولكن العلاقة التي بين الغرب والشرق، والتي هي علاقة قوة وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركبة. فكما أن الاستشراق ليس خيالاً، فهو أيضاً ليس مجرد مجموعة من الأكاذيب أو الأساطير التي يمكن دحضها فتذهب أدراج الرياح، بل هو خطاب يتّسم بقوة متماسكة متلاحمة الوشائج والروابط بينه وبين المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمنحه القوة والقدرة الفائقة على الاستمرار،«إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه أنشأه واستثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة على مر أجيال عديدة. وقد أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهباً معرفياً عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين»(1).

ومن الملاحظ أن النتيجة الخطيرة التي توصل إليها سعيد في هذا السياق، إنما لا تقتصر على وعي المفكرين والباحثين الغربيين ولكن تمتد إلى الثقافة العامة، بحيث یصبح ما يقول به الاستشراق بمثابة الحقائق والمسلمات العلمية التي يتم قبولها والبناء عليها دون نقد أو تمحيص والمسألة هنا على هذا النحو إنما تذكرنا ب_«معامل الاستعمار» الذي حدّثنا عنه مالك بن نبي، غير أن المسألة هنا تصل إلى أبناء الغرب المستعمِر نفسه وليس فقط الشعوب المستعمَرة. ويؤكد كلامنا، ما قام به سعيد من تحليل لبنية الخطاب الاسشتراقي التي تقوم على إظهار التفوق الغربي من جانب، والتخلف الشرقي من جانب آخر.

ولا يكتفي سعيد بطرح فرضياته التي سيشتغل عليها في الكتاب، لكنه يفرد مساحة مقدمة الكتاب لشرح ومناقشة منهجه في البحث والكتابة - وهو منهج خاص ابتكره لنفسه في هذا الكتاب - من خلال ثلاثة جوانب مستمدة من واقعه الشخصي على نحو ما صرح هو نفسه.

الجانب الأول، هو التمييز بين المعرفة البحتة والمعرفة السياسية، وهو في هذا

ص: 254


1- نفس المرجع ، ص 50.

الجانب لا يعترف بالبحث النزيه أو الدراسة الموضوعية التي تطالب بها أو - بمعنى أدق - تدّعيها الأكاديميات الأميركية، خاصة فيما يخص البعد السياسي فالسياسة - في كل الأحوال - هي عنصر فاعل في البحث العلمي، مهما حاول الباحث أن يتظاهر بعكس ذلك، وفي هذا الصدد يقول سعيد:«إنني أدرس الاستشراق باعتباره صورة للتبادل أي التفاعل الدينامي بين المؤلفين الأفراد والمشاغل السياسية الكبرى التي شكّلتها الامبراطوريات العظمى الثلاث البريطانية والفرنسية والأميركية وهي التي نبتت في تربتها الفكرية والإبداعية كتاباتهم»(1).

الجانب الثاني هو المسألة المنهجية، وتمثل نقطة الانطلاق في البحث المتعمق الذي ينوي أن يجريه سعيد . ولما كانت المادة من الضخامة بحيث لا يستطيع أن يحيط بها جميعاً فإنه يجعل نقطة البداية متمثلة في الخبرة البريطانية والفرنسية والأميركية بالشرق باعتبارها وحدة متماسكة، إلى جانب الخلفية التاريخية والفكرية التي أتاحت تكوين هذه الخبرة، وكذلك نوع وطابع هذه الخبرة، ليس هذا فحسب بل ويقصرها على الخبرة الأنجلو فرنسية والأميركية بالعرب والإسلام ولما كانت علاقة الغرب بالشرق تتدخل فيها الأبعاد السياسية من ناحية وعلاقات القوة من ناحية أخرى، فإن سعيد يطرح منهجه في تحليل السلطة على النحو التالي:«أما وسائلي المنهجية الرئيسية لدراسة السلطة هنا فتنحصر في اثنتين يمكن أن نطلق على الأولى تعبير «الموقع الاستراتيجي»، وأعني به طريقة وصف موقع المؤلف في أحد النصوص إزاء المادة الشرقية التى يكتب عنها، والثانية هي " التشكيل الاستراتيجي، وأعني به طريقة تحليل العلاقة فيما بين النصوص، والوسيلة التي تتمكن بها مجموعة من النصوص، أو أنماط النصوص، بل وأجناس النصوص من اكتساب الصلابة والكثافة والقوة المرجعية فيما بينها أولاً ثم في الثقافة بصفة عامة بعد ذلك»(2).

ومن الأمور اللافتة في هذا الجانب المتعلق بالمنهجية هو وعي سعيد بأنه إنما يؤسس لعلم جديد أو مجال معرفي جديد يحتاج إلى جهود أكبر من قبل باحثين

ص: 255


1- نفس المرجع، ص 61.
2- نفس المرجع، ص ص 68 - 69.

آخرين، فيقول:«وكان عزائي لنفسي أن قلت إن هذا الكتاب حلقة من حلقات، وآمل أن يبدي غيري من الباحثين والنقاد الرغبة في حلقات أخرى... وقد يكون أهم عمل على الإطلاق هو القيام بدراسات في البدائل المعاصرة للاستشراق، أو التساؤل عن كيفية دراسة الثقافات والشعوب الأخرى من منظور تحرري أو بريء من القمع والتلاعب»(1).

الجانب الثالث هو البعد الشخصي، ونحن نعتبره أهم جانب بالنسبة لدراستنا الحالية، لأن فيه يكشف سعيد بكل صراحة ووضوح عن الأسباب الذاتية والقومية التي دفعته لدراسة الاستشراق.

وهو في تصريحه بهذه الأسباب والدوافع إنما يؤسس لمنهجية جديدة تعترف بالبعد الذاتي والنفسي من ناحية، وبالسياق السياسي من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد يعترف بأن شرقيّته هي التي كانت وراء إقدامه على هذا العمل، وهي «شرقيّة» كثيفة محمّلة برصيد كبير من الخبرات الحياتية والتاريخية التي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها ، فيقول:«ومعظم رصيدي الشخصي الذي استثمره في هذه الدراسة مستمد من وعيي بأنني «شرقي» باعتبار أنني نشأت طفلاً في مستعمرتين بريطانيتين،أما تعليمي في هاتين المستعمرتين (فلسطين ومصر) وفي الولايات المتحدة، فقد كان كله غربياً، ومع ذلك فإن ذلك الوعي المبكر العميق ظل قائماً»(2).

ومن الناحية التاريخية يرصد سعيد أسباب شيطنة الغرب للشرق العربي والإسلامي ويحددها في ثلاثة عوامل(3): الأول، هو تاريخ التعصب الشائع في الغرب ضد العرب والإسلام، وهو الذي يتجلّى مباشرة في تاريخ الاستشراق والعامل الثاني هو الصراع بين العرب والصهيونية الإسرائيلية وتأثير ذلك الصراع في اليهود الأميركيين وفي الثقافة المتحررة وفي السكان بصفة عامة، والعامل الثالث هو الانعدام شبه التام لأي موقف ثقافي يتيح للفرد التعاطف مع العرب أو الإسلام ، أو مناقشة أيهما مناقشة غير انفعالية.

ص: 256


1- نفس المرجع ، ص 74
2- نفس المرجع ، ص 76.
3- نفس المرجع ، ص 78

ونلاحظ أن سعيد يحرص على الفصل بين العرب والمسلمين من ناحية، وضمهما في فئة واحدة هي «الشرق» من ناحية أخرى. وفي كل الأحوال لا يميز بينهما حين التعرض لتحليل العلاقة بين الغرب والشرق، فكلاهما عانى من الاستعمار، وكلاهما كان موضوعاً لأطروحاتٍ مضلِّلةٍ قدّمها المستشرقون وباتت مسلماتٍ في الوعي الثقافي الغربي العام.

كما يُلاحظ أن سعيد لا يقف - مثل الجندي والغزالي - مدافعاً الدین ضد الهجمات الاستعمارية، لكنه يقف منصفاً لشرقيته ولعروبته، ولإنسانيته، فخبرته في الحياة في أميركا كشفت له كيف أنه غير موجودٍ سياسياً، وإذا سُمح له بالوجود فإنهم يعتبرونه إما مصدر إزعاج أو شخصاً شرقياً وحسب. ومما يؤكد نزعته اللادينية في الكتاب قوله : «ولقد تمكنت من استخدام مشاغلي الإنسانية والسياسية في تحليل ووصف موضوع دنيوي إلى حد كبير وهو نشأة وتطوير وتدعيم الاستشراق»(1).

وأخيراً، نلاحظ كيف استطاع سعيد أن يستفيد من المنجزات المنهجية الغربية في مجال العلوم الإنسانية ويوظفها بحيث تكون أداة لكشف وفضح مثالب وعيوب الاستشراق، خاصة في رجوعه إلى فيكو وميشيل فوكو، وأنطونيو جرامشي.

وفي كل الأحوال، نعود لنكرر أننا في حاجة إلى كلا الرؤيتين الدينية والدنيوية، وإلى كلا المعرفتين النقلية والعقلية، وإلى كلا الخطابين العاطفي الأدبي والعلمي المنهجي. وإذا كان ثمة تناقض ظاهر في المواقف المتباينة بين المعسكرات المتعارضة، فإن العداء المشترك للغرب، والخضوع المشترك لهيمنته والشعور المشترك بالقهر والظلم ،تجاهه، من شأنه أن يوحِّد الفصائل المتباعدة ويضم الجهود المشتتة، ويستكمل الرؤى المتشظّية والمجتزئة، حتى يمكن تصحيح الرؤية، وتركيز القوى، ومن ثم إحداث التغيير.

ص: 257


1- نفس المرجع ، ص 79

السيطرة كرؤية فلسفية إلى العالم:نحو مقاربة لفهم الظاهرة الاستعمارية عند روجيه غارودي

اشارة

نصرالدین بن سرای(1)

إن البحث في أصل تشكّل الأفكار يُعدّ في كثير من الأحيان أهم من البحث في تمظهرات الفكرة على أرض الواقع، ولعل أهم تلك والشأن في ذلك كالبحث حول تشكّل فكرة الاستعمار وغزو العالم، حيث أصبح الغزو عبارة عن رؤية فلسفية إلى العالم، سواء كان لإثبات الأنا الغربية وتمركزها ، أو لإشباع أنانيتها وإبراز التوّفق العرقي.

وقد كان الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي من بين أهم الفلاسفة الذين اهتمّوا بتشريح تلك الفكرة - الغزو - ومناقشتها ، والبحث عن جذورها في العقلية الأوروبية الحديثة، إذ أرجع مبدأ تشكّلها إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي جعله عرّاب الاستعمار الغربي بسبب تلك الرؤية إلى العالم التي أراد تكريسها، والتي تُعنى أساساً بتحديد موقفنا من العالم الذي رآه أنه في شكل صراع مع الطبيعة، لتنتقل هذه الفكرة في رحلتها داخل العقلية الغربية إلى مزيد من السيطرة على عالم الإنسان وغزو الإنسان للإنسان.

ص: 258


1- دكتور في فلسفة القيم والابستمولوجية والعلوم الإنسانية - الجزائر.

ثم بدأ جارودي بتفتيت تلك الرؤية ونقدها، إذ بحث عن الذرائع التي استخدمت لتبرير الاستعمار في العالم، والتي اعتبرها ذرائع موهومة تستبطن رؤية فلسفية مسبقة، إلى غزو العالم. وقد كان السؤال الرئيس لهذا المقال الذي ارتأينا الإجابة عليه كالآتي: ما قصة تشكّل فكرة غزو واستعمار العالم، من وجهة نظر روجيه جارودي؟

أولاً: الغزو كرؤية إلى العالم أو مَنَابِتُ جذور الاستعمار:

يعد رينيه ديكارت (1)(René Descartes) مؤسِّساً للفكر الحداثي، وعرّاب الفكر الفلسفي للحداثة الغربية، وقد أقام فكره على أساس عقلاني؛ فجعل من العقل معياراً للحكم على العوالم إذ يقول:«فإنّنا لا نخطئ إذا استخدمنا بحكمة العقل الذي منحنا إياه، ولكن هذا يعني أنّنا لن نخطئ أبدا، ثم أعرف بخبرتي الشخصية أن الله قد وهبني ملكة من خصائصها أن تحكم، أو أن تميز بين الصائب والخطأ... فمن الثابت أنّه لم يهبني تلك الملكة لتقودني إلى الخطأ، إذا استعملتها كما هو لازم، إذن لا مفر من الاستنتاج أننّي لا أنخدع»(2).

هذه الملكة (العقل) هي من الهبات التي يمكن أن تكون معياراً للوجود وللمقايسة، كيف لا وهي كما يوصفها (ديكارت) :«.... بأنّها أعدل أشياء الكون توزعا بين الناس، إذ إن كلاً يعتقد أنه قد أُوتيَ أنه قد أُوتي منه الكفاية... فالمقدرة على الحكم الجيد والتمييز بين الحقيقة والخطأ... متكافئة بالطبع لدى جميع الناس، وكذلك على أنّ تنوع آرائنا لا يحصل من كون البعض أكثر تعقّلاً من البعض الآخر، بل من كوننا نسوق أفكارنا

ص: 259


1- رينيه ديكارت أول فيلسوف محدث وواحد من أعظم الرياضيين فى الأزمان قاطبة، ولد في لاهاي (ديكارت) 1596 من آثاره المقال في المنهج تأملات ميتافيزيقا، كتاب العالم، انفعالات النفس... فتاريخ الفلسفة الأوروبية الحديثة يبدأ مع رينيه ديكارت) الذي جاء فعله الثوري مطابقا تماما لروح أمته، فقد بدأ بتحطيم كل اتصالية بالفلسفة القديمة، وقد بنى القرن السابع عشر صروحه العقلانية طبقا لقواعد المنطق، فهو الذي نظم الانتفاضة العلمية ، وهو الذي رسم خط الفاصل بين العلوم القديمة والحديثة، زهو الذي غرس الراية التي انضوي تحت لوائها الطبيعيون ليهاجموا اللاهوتيين، وهو الذي انتزع صولجان العالم من يدي الخيال ليضعه بين يدي العقل، ووضع المبدأ الشهير لا يجوز للإنسان أن يصدق سوى الأشياء التي يقرها العقل وتؤكدها التجربة، ذلك المبدأ الذي صعق الخرافة، وغير الوجه الخلقي لكوكبنا، توفي (ديكارت) سنة 1650 في ستوكهولم ( جورج طرابيشي ، معجم الفلاسفة، مرجع سابق، ص 300 ، 302 بتصرف.
2- رنيه ديكارت تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال ،الحاج ط4 (التأمل الرابع في الصواب والخطأ)، بيروت لبنان منشورات عويدات، 1988، ص 41، 42.

على دروب مختلفة، ولا نعتبر الأشياء نفسها، إذ لا يكفي أن يكون الفكر جيداً، بل الأهم من ذلك أن يطبق تطبيقا حسناً»(1).

يظهر لنا أنّ التصور الديكارتي ينظر للعقل نظرة جديدة تتجاوز الفهم الفلسفي التقليدي، كالمنطق الأرسطي ، وطرائق التفكير المختلفة، (كطرق السفسطائيين) في عرض قضاياه لعقمه وبيان ذلك من منظور ديكارت حيث يقول:«وتطالعنا التجربة أن السفسطائيين الأكثر براعة من غيرهم، لا يخادعون في العادة أبدا الإنسان الذي يستعمل عقله ... فنحن نتخلى عن تلك الصور المنطقية باعتبارها مناقضة، ونبحث بدلاً منها عن كل ما يمكن أن يساعدنا على شد انتباه فكرنا باستمرار»(2).

فقد صاغ (ديكارت) التصوّر الجديد البديل عن تلك التصورات القديمة، حيث كان المنطق الأرسطي هو المنهج الوحيد في التعاطي مع الوجود وتصوره. لكن مع «(دیكارت) تأخذ الرّياضيات محل المنطق الصوري، ونجد داخل عقلانية (ديكارت) جميع مميزات العقلية السقيمة ... (والتي تكمن في ما يلي):

الإدعاء المنهجي، بأنّ كلّ حقيقة تُستنبط من يقين أوّلي واحد (أنا أفكر، إذاً أنا موجود).

النزعة المحوّلة التي ترد الإنسان إلى بعد واحد من أبعاده، أي العقل: (أنا مادة یكمن جوهرها كله وطبيعتها في التفكير فقط).

التطلب الملزم سواء إزاء الطبيعة بحيث نجعل من أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها)»(3).

فقد أراد (ديكارت) أن يجعل المرجعيّة للذات ،العارفة من خلال اعتمادها العقل

ص: 260


1- رينيه ديكارت حديث الطريقة، ترجمة عمر الشارني، ط1، لبنان بيروت المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص ص 41-42-43.
2- رینیه دیکارت قواعد لتوجيه الفكر، ترجمة وتقديم سفيان سعد الله ،تونس دار سراس للنشر، 2001.ص77.
3- روجيه غارودي، في سبيل إرتقاء ،المرأة، ترجمة جلال ،مطرجي، ط1، دار الآداب، بيروت لبنان، 1982، ص 143.143.

في فهم الوجود والتعاطي مع العالم الذي نحيا فيه وسيكون الإنسان الجديد الذي حدده (ديكارت)، معتمداً فقط على ذاته وقدراته العقلية ولا يركن إلا إلى هذه المرجعية.

هذا المبدأ الذي كرّسه (ديكارت) جاعلاً من الغزو والسيطرة هدف الذّات العارفة، إذ ينطلق من مبدأ الكوجيتو القائل:«أنا أفكر، إذاً فأنا كائن، على نحو من اليقين والثبات، بحيث لا تستطيع أن تزعزعها أكثر افتراضات الرّيبيين شططا»(1)، هذه الذات التي تسعى إلى الهيمنة على العالم من خلال الثقة واليقين والثبات الذي لا يمكن أن يتخلله الشك والوهم في معارفها المستلهمة من ذاتها.

هذا التصور الذي أعطى معنى جديداً للإنسان الحديث بقدرته على معرفة العالم معرفة عقلية والسيطرة عليه تقنيا، فالإنسان الذي يمّم وجهه شطر النور الطبيعي... فالعقلانية الحديثة تُبرز بقوةٍ ضرورةَ التحرّر من الماضي »(2).

لقد اعتبر (روجيه غارودي) أن من الأفكار الأساسية التي كونت الحداثة الغربية، ما قّدمه (ديكارت) من خلال فكرة الغزو العقلي للطبيعة والسيطرة عليها. وما أفكار الحداثة ومفاهيمها «كالتقدم والتنمية والنمو» (3)إلا حوصلة لتلك الأفكار «التي هي وريثة المفاهيم السابقة، ولد كل ذلك من ثقافة عرفتها النهضة من خلال ثلاثة فروض أساسية الفرض الأساسي (لديكارت) جعلنا أسياداً وملّاكاً للطبيعة، الطبيعة المنتقصة المختزلة في شكلها الميكانيكي، إذن هي علاقات سيطرة على الطبيعة مجردة من كل غاية خاصة »(4).

فالمعارف الجديدة النافعة لدى (ديكارت) هي التي تمكّنه من أن يحقق سيطرته على الطبيعة «إذ تبين لي منها أنه بالإمكان التوصل إلى الفلسفة

ص: 261


1- رينيه ديكارت حديث الطريقة، مرجع سابق، ص 162.
2- سفيان سعد الله عقلانية الحداثة ديكارت نموذجا ط 1 ،تونس منشورات كارم الشريف، 2015 ، ص141، 142
3- روجيه غارودي، حفارو القبور الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها ترجمة عزة ،صبحي، ط3، القاهرة مصر، دار الشروق، 2002،ص .94
4- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

النظرية التي تدرّس بالمدارس على فلسفة عملية؛ إذا عرفنا من خلالها ما للنار والماء والهواء والكواكب، والسماوات وكل الأجسام الأخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال (معرفة)، لا تقل تميزاً عن معرفتنا لمختلف حِرف صنّاعنا استطعنا أن نستخدمها بالكيفية نفسها في كل الأعمال التي تلائمها وأن نجعل أنفسنا بذلك أسياداً للطبيعة ومتملكين لها(1)، وهو أمر ليس محبذا فقط من أجل اختراع ما لا يحصى من الوسائل التي تجعلنا نتمتع دون أي عناء بثمار الأرض وكل المنافع الموجودة فيها»(2).

وهكذا تتحدد علاقة الإنسان مع الطبيعة في النموذج الفكري الغربي؛ من خلال ما صمّمه رينيه (ديكارت) في تلك المسلَّمة، التي سيبقى حضورها بارزا في التصورات الرؤيوية للعالم في النظرة الحدثية، «ففي العصر الحديث لم تعد الطبيعة رحم كل نظام اجتماعي وأخلاقي، ولم تعد انعكاساً ولا مقياساً للانسجام الأزلي؛ إنّها مستودع القوى المنتجة التي يتصرف فيها البشر ويعطونها قيمة من خلال عمل مكثف، وفعال أكثر فأكثر، ما عاد الإنسان خاضعا للطبيعة، بل غدا في مواجهتها، وما عاد يعدّ نفسه عنصرا من عناصرها بل سيّداً لها، ولعلّ تلك هي خصوصية المجتمع الغربي الحديث»(3).

وعلى حد تعبير (بول) فالاديي Paul Valadier) : إن ما يطبع مجتمعنا هو مبدأ

ص: 262


1- هذا التوجه الفكري لديكارت يتمثل في ) إمكانية جعل النظرية تنفذ إلى داخل الفعل، ويعني ذلك إمكانية تحويل الذكاء النظري إلى واقع أو إمكانية التكنولوجيا والفيزياء معا وفي آن واحد، وتجد هذه الإمكانية تعبيرا وضمانا لها في هذه الظاهرة المتمثلة في أن الفعل الذي به يفكك الذكاء آلة ويعيد بناءها والذي يمكنه من فهم ترتيبها وإدراك هيكلها ووظائفها مختلف الدواليب التي فيها متماثل تمام التماثل مع الفعل الذي به يفكك معادلة ويرجعها إلى ضواربها، ويفهم هيكلها وهيئتها، وليس تقدم الفنون الصناعية تقدما عفويا على يد الصناع الذين يشتغلون بهذه الفنون، هو الذي يهم (ديكارت)، بل أن تحول النظرية إلى ممارسة هو الذي يجعله يأمل وينتظر التقدم الذي سيجعل من الإنسان سيدا للطبيعة ومتملكا لها Alexandre Koyre. Etudes d'histoire de la pensée philosophique. bibliothèque des idées (Paris) ;Gallimard، 1971)، p، 346. نقلا عن رينيه ديكارت حديث الطريقة، مرجع سابق ص 341.
2- رينيه ديكارت حديث الطريقة، مرجع سابق، ص 340 341 342. -
3- نور الدين الشابي، نيتشه ونقد الحداثة، دار المعرفة للنشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، تونس، ط1، 2005 ص.54

الغزو العقلي للطبيعة»(1). إن الطريقة التي شكلت تلك المُسلَّمة الديكارتية باعتبارها مسلَّمة رئيسة عند (روجيه غارودي) في البناء النسقي للفكر الحداثي، تدعونا لنتتبع الجذور الفكرية لهذه التصورات وسبب ميلادها «ولهذا السبب لم تكن هناك عقلانية (Rationnalisme) قبل (ديكارت) لأن هذه العقلانية نتاج عصري تماماً، وهي نزعة تشد من أزر النزعة الفردية (Lindividualisme) لأنّها لا تعني شيئا سوى إنكار أي ملكة فوق المستوى الفردي»(2).

يتتبع (غارودي) الخطوط الناظمة للتصور الديكارتي فيقول: «وحتى نستطيع أن نتتبع طريقه فإنه من الضروري أن نتأمل نقطة الانطلاق التي بدأ منها، وهي الاقتناع الأول الذي ينبثق منه النظام ككل:(هل يجب أن أشك في كل شيء؟ إنه من المؤكد أنني أشك: أنا أفكر إذاً أنا موجود»(3).

بذلك يخط التصور الديكارتي توجهه نحو ذاته لإثباتها، ثم الانطلاق من هذه الذات المحدودة ليفهم من خلالها جميع العالم بل وليخضعه لسيطرته وتحت ملكه، ولتكريس الفردانية،«أنا أفكر إذاً أنا موجود» من الصعب أن نقول كلّ هذا العته في تلك الكلمات المعدودة... والحق يقال أيضا، إن هذا الإنسان الفردي، الذي أقام متاريس حول نفسه الأنانية، رأى أوروبا بمثابة مركز العالم: كل الآخرين مجرد غوغاء أو بدائيين»(4).

هذه النزعة الفردية التي تكرّست مع الكوجيتو الديكارتي، من خلال حديّة العقلانية الديكارتية، التي تريد أن تعقلن كل الوجود، حتى الذات الإنسانية بأبعادها المختلفة، لا يمكن لها إلا أن تعقل من خلال عمليّة التفكير، حيث برزت نتائج هذه الحدّية العقلية، «وكان أول هذه النتائج وضع العقل المحدود La Raison» في

ص: 263


1- Paul Valadier. Essais sur la modernité. Nietzsche et Marx. Paris. Cerf-Desclée. 1974. p. 12 نقلاً نور الدين الشابي، نيتشه ونقد الحداثة، مرجع سابق، ص 54.
2- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر، ترجمة سامي محمد عبد الحميد، ط 1 ،مصر ، دار النهار للطبع والنشر والتوزيع، 1996، ص90 89.
3- روجيه غارودي، كيف صنعنا القرن العشرين ترجمة ليلى ،حافظ ط 2 ،مصر، دار الشروق، 2001، ص 74
4- المصدر نفسه، ص 74-75

المرتبة الأسمى فوق ما عداه، وذلك بسبب إنكار الحدس العقلي، وكان معنى ذلك اعتبار هذه الملكة الإنسانية البحتة والنسبيّة الجانب الأسمى في الذكاء، أو حصر الذكاء كله فيها، ويمثل ذلك أسس العقلانية ومؤسسها الحقيقي (ديكارت)، ولم يكن هذا الحصر للذكاء إلا خطوة أولى، فإنّ العقل المحدود نفسه لم يلبث طويلاً حتى انحطت منزلته شيئاً فشيئاً ليقتصر على القيام بدور عملي... فإن النزعة الفردية أدّت بصورة حتمية إلى نشأة المذهب الطبيعي (Naturalisme)... فالمذهب الطبيعي وإنكار الميتافيزيقا إنمّا يمثلان شيئاً واحداً»(1).

هذه العقلانية الديكارتية صورت العالم تصوراً آلياً قائم على الميكانيكا، هذا الذي يعتبر من التبسيط الملازم للعقلانية الديكارتية،«أي كل ما هو ضمن المجال الفردي في المظهر الحسي أو الجسمي فقط، وفي النهاية لا يبقي من هذا إلا ركام بسيط من التعيينات الكمية وبلا عناء نرى كيف أنّ هذا كله يتسلسل بدقة، مشكّلا مراحل ضرورية لنفس التدهور الحاصل في التصورات التي ينشئها الإنسان فيما يتعلق به هو نفسه وبالعالم... ويتمثل أولا في اختزال ماهية الرّوح بجملتها إلى الفكر، واختزال طبيعة الجسم في الامتداد وهذا الاختزال الأخير هو الأساس نفسه للفيزياء الميكانيكية، ويمكن القول إنه كان نقطة الانطلاق لفكرة علم ذي طابع كمي مطبق»(2).

وبهذا يكون رينيه (ديكارت) إوالي(3)النزعة ، فهو ذو نزعة آلية مادية؛ حيث إن المذهب المادي تمثله النظرية الديكارتية في أحد تصوراتها حسب التصور الميكانيكي للطبيعة أو للعالم، «والحق أن المذهب المادي يمثل ببساطة واحدا من شقي الثنائية الديكارتية (روح) ومادة)، وهو بالضبط الشق الذي طبق عليه مبتدعه أي (دیکارت) المفهوم الإوالي؛ وحينئذ يكفي إهمال، أو إنكار الشق الآخر، أو ادعاء أن الواقع كلّه محصور في الشق الأول (أي الجسم والمادة) وهو ما يؤول إلى نفس

ص: 264


1- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر، مرجع سابق، ص 111.
2- رينيه غينون هيمنة الكم وعلامات آخر الزمان ترجمة وتعليق عبد الباقي مفتاح، ط 1 ، إربد الأردن، عالم الكتب الحديث، 2013 ، ، ص 106
3- الإوالية الفلسفية ) مذهب قائل بأن جميع حركات الكون ناشئة من قوى آلية والإوالي هو القائل بالمذهب الإوالي والكلمة الفرنسية Le materialisme mécaniste وتترجم بالإوالية المادية) المرجع نفسه، هامش، ص 113.

النتيجة للوصول تلقائياً إلى المذهب المادي، فقد أجاد (ليبنيز) حين بيّن في رده على (دیكارت) وأتباعه قصور فيزياء إوالية، والتي هي بحكم نفس طبيعتها لا يمكن أن تعرف إلا الظواهر الخارجية للأشياء، وهي عاجزة على تفسير أي شيء في حقيقة جوهرها... إنّه ليس للإِوَالية إلا قيمة وصفية فقط، وليس لها قيمة تفسيرية بتاتاً... وهكذا هو الحال حتى في مثال بالغ البساطة كالحركة، وهو مع ذلك ينظر إليه عادة كمثال نموذجي يمكن تفسيره ميكانيكياً»(1).

إن ما أحدثه (ديكارت) أن فصل التصورات الحديثة عن تلك التصورات الكلاسكية القديمة، حيث إنّه أضفى مفهوماً ورؤيةً جديدةً تحدد علاقتنا مع الطبيعة، فلسنا أجزاء منها، بل منفصلين عنها في علاقة صراع ضدها وإذا حاولنا «مقارنة علم الطبيعة القديم بمجموع علوم الطبيعة كما عليه الآن... هنا يكمن الاختلاف الجوهري بين التصورين، فالتصور التقليدي يربط العلوم جميعاً بالمبادئ على أنّها تطبيقات خاصة، بينما التصور الحديث لا يقرّ هذا الارتباط، وكان (أرسطو) يرى الفيزيقا تأتي في المرتبة الثانية بعد الميتافيزيقا من حيث الأهمية، أي أنّها تابعة لها وأنّها في الحقيقة ليست إلا تطبيقا في مجال الطبيعة للمبادئ الأسمى من الطبيعة، وأن قوانين الطبيعة ما هي إلا أثر لهذه المبادئ... أما التصور الحديث فإنه على العكس من ذلك يطمح إلى أن يجعل العلوم مستقلة عن طريق إنكار ما يسمو عليها، أو على الأقل بإعلان أنّه مجهول لا تكتنه حقيقته، ورفض النظر إليه بعين الاعتبار

وذلك معناه إنكار وجوده»(2).

فمن الطبيعي جدا أن نجد التصور الذي يريد أن يعقلن الطبيعة، ويسيطر عليها وأن يجعلنا أسيادا عليها، لقد تم تأسيس الرؤية الجديدة مع (ديكارت) الذي هدف إلى جعل العلاقة مع الطبيعة في صدام والسعي العقلاني إلى ترشيدها من خلال غزوها واستباحتها؛ لأجل الإنسان المهيمن النّهم لتتأسس بذلك علاقة الصراع معها؛«إذعلى الإنسان أن يحافظ على بقائه، ومن ثمة وجب أن يعمل على غزو الطبيعة (صيد، قنص...)

ص: 265


1- المرجع نفسه، ص .114.113
2- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر ، مرجع سابق، ص 95 96.

فضلا عن أنه لا يكتفي بما تجود به عليه الطبيعة بل يحوّل ما تنتجه، ومن ثمة تشكل الطبيعة مادة أولية يبني منها الإنسان ما يعتبره قوام حياته الفردية والجماعية... غير أن المنعرج الأساسي الذي انبثقت عنه مقولة الهيمنة على الطبيعة في المجتمع الحديث... بالنسبة للإنسان الحديث معضلة تقنية ينبغي حلّها: ليست الطبيعة مبدأ كلياً مفسراً لكلّ شيء بل هي الخارج، وهي فضاء أو مادة ينبغي غزوها وترتيبها وإخضاعها ... لذا أسس (ديكارت) الحداثة الفلسفية بوضع مبدأ الذاتية كأساس لليقين وكقيمة مطلقة، وخطا فاصلا بين عالم الآلهة القديم وعالم الإنسان الحديث»(1).

لقد أصبح الإنسان الحديث في عالم مستقل يستمد وجوده من ذاته المتعالية، التي ينطلق منه في فهم الوجود والسيطرة عليه، وما الطبيعة إلا موضوع من الموضوعات التي تريد الذات كشف سرها والبحث عن الجوانب الغامضة فيها قصد ترويضها لتلك الذات. فقد استطاع الإنسان الحديث أن ينزع السحر عن العالم «منذ اللحظة التي نزع فيها الإنسان عن الطبيعة قناعها أصبحت هذه الأخيرة مجال التصرف التقني والعلمي أن قيمة اللحظة الديكارتية تكمن في ذلك التأليف الذي يقيمه بين الهندسة والتحليل، مؤسساً بذلك الهندسة التحليلية، ومن ثمة مفتتِحاً إلى جانب (غاليلي) عهد السيطرة العقلية الرّياضية على الطبيعة، بحيث يكمن إسهام (ديكارت) في بناء مشروع حديث هو مشروع تحكم الإنسان عقلياً في الطبيعة»(2). هذه العملية - أي نزع القداسة عن الطبيعة - التي مُورست من طرف الرؤية الحداثية أفقدها رمزيتها، وإحاءاتها الميثولوجية بدليل أن الطبيعة كان يُنظر لها على أنّها أنثى خيّرة معطاءة ومحبة، وما كانت الكوارث الطبيعية في الذهنية اليونانية إلا تعبيراً عن سخطها وعصيانها.

وبذلك يتأكد لنا القول بأنّ رينيه (ديكارت) بتبنيه للطابع الرؤيوي العقلاني، من خلال فكرة العقلنة والغزو العقلي للطبيعة قد دعم تلك التصورات التي كانت تريد الفكاك عن التصورات السكولائية القديمة، وبذلك تكون الفلسفة الحديثة قد وجدت «الروح الحديث ذاته في فلسفة (ديكارت) واكتسب من خلالها وعياً أوضح بذاته عن

ص: 266


1- نور الدين الشابي، نيتشه ونقد الحداثة، مرجع سابق، ص 55.
2- المرجع نفسه، ص 55.

ذي قبل، نضيف أنّ أي حركة بارزة في أي ميدان مثلما كانت عليه فلسفة (ديكارت) في المجال الفلسفي إنمّا هي م دائما وليست منطلقاً حقيقياً»(1).

فالفيلسوف الفرنسي أمام محكمة الاتهام في هذا القرن، فهو صانع الأزمة بتلك التصورات التي لم تنتج لنا إلا علوماً تساهم في تكريس مقولات القوة، التملك، السيطرة، سيادة العالم...، تلك المفاهيم التي جعلت الإنسان مغترباً عن جميع العوالم حتى مع ذاته، «انطلاقا من (ديكارت)، في الحقيقة، أخذ علمنا الغربي من حيث المبدأ، يجهل الإنسان، وقبل كل شيء بعده الأساسي، التسامي، وأصبح ال (علم) كميّا صرفا ؛ كل الحقيقي، الواقعي، كما كتب (برغسون) يضمحل في دخان الجبر، وقد انطوى الإنسان على ال (أنا) المنعزلة، الجزرية، على الكوجيتو وتغدو

الفعالية هي المعيار الوحيد للعلم، والتقنية غرضها الأوحد أن يجعلنا (أسياد ومالكي) الطبيعة وفقا لبرنامج (ديكارت) في كتابه بحث في الطريقة فالحياة نفسها انتقصت إلى هذه الآلية، فمن قبل الحيوانات بالنسبة ل (ديكارت) ما هي إلا آلات، بالنسبة لخلفه لاميتري La Metrie ليس الإنسان بدوره سوى آلة»(2).

ويؤكد (غارودي) أن العلم الديكارتي وتلك المفاهيم التي نسجها، قد تمخضت عنها مفاهيم لا إنسانية فشلت في النهاية.«إن الكمية إن إرادة القوة والنمو، إن الفردانية، كأهداف قد ثبت فشلها فما من حضارة يمكن أن تشيد على هذه الأسس، قد أمضى العلم والتقنيات التي نشأت على هذا التَيرَبِ إلى نتائج متعارضة تماما المشاريع ووعود النهضة الغربية»(3).

كما يبين روجيه (غارودي) فلسفة (ديكارت) لا تكمن مشاكلها هنا فحسب فقد «نادی (( دیکارت) بصورة جلية أيضا بضرورة فصل مشاكل الإيمان والأخلاق عن مجال العقل، يقول في آرائه المقتضبة أن الغايات والأغراض والتسامي لا علاقة لها بالعقل، وكتب في تأمله (28) قائلا أنّه من العبث أن نسأل لماذا فعل اللّه ذلك

ص: 267


1- رينيه غينون، أزمة العالم المعاصر، مرجع سابق، ص 113
2- روجيه غارودي، وعود الإسلام ترجمة ذوقان ،قرقوط، ط ،2 بيروت لبنان دار الرقي، 1985، ص 109، 110.
3- المصدر نفسه، ص 111.

الشيء؟ ولكن ينبغي أن نسأل فقط كيف فعل ذلك؟... ومنذ زمان (ديكارت) توقف الغرب عن سؤال ( لماذا ) ، وأصبح اهتمامهم منصبا على كيف؟»(1).

وهنا تصير الذّات العارفة هي التي تركن إلى ذاتها، ولا تبحث عن الحكمة والغاية من الوجود، بل تسعى لتحصيل الإجابة على كيف نستطيع الفعل، وهنا تصبح الذّات مصدر إلهام لما تريده «أما التسامي فيفقد أسبابه عندما يتظاهر المرء أن الوجود بوصفه دليلاً نهائياً له افتراض يقول: (أنا أفكر إذا أنا موجود) وأن وجود أي شيء من الأشياء يأتي في آخر عملية التفكير التي تنطلق من تلك القاعدة مروراً بسلسلةٍ من القياسات المنطقية الاستنتاجية»(2)، يمكن إرجاع هذا التصور إلى الجانب النفسي للإنسان، لأنّه يصور نفسه كائناً أعلى على جميع عناصر الموجودات، هذه الفكرة الديكارتية حول سيادة الإنسان على الطبيعة نجد تبريرها عند الفيلسوف الألماني (كانط) ؛ ولأن الإنسان«بكونه الكائن الوحيد على الأرض الذي يملك عقلاً، وبالتالي قدرة على أن يضع لنفسه غايات كما يحلو، فهو من هنا بكل تأكيد سيد الطبيعة المسمّى، وفي ما لو نظرنا إلى الطبيعة على أنّها منظومة غايات، فلاشك في أنّه هو من حيث مصيره ، الغاية النهائية للطبيعة»(3). فلما كان الإنسان الغاية الأخيرة للطبيعة؛ فإن هذه الغاية تمتاز بالكمال وصفة العقلانية ومن ثم جاز للسيد أن يتصرف فيها كما يشاء. فهذا الكيان الفعّال (العقل) هو الذي يربط المعطيات ويضيف عليها العلاقات؛ لتتحوّل الحقائق إلى كلّيات.

ويوضح لنا (غارودي) ما تم تخطيطه من قبل (ديكارت)، قد تم الوصول إليه بتقديمه لبراهين ونماذج من الواقع العالمي المتأزم،«وسنكتفي الآن بتقديم كشف حساب لمشروع (ديكارت): أن نصبح أسياد الطبيعة وملاكها هذا الهدف تم التوصل إليه بجدارة عن طريق العلوم والتكنيك الذي أعطانا القدرة على تدمير تلك الطبيعة»(4).

ص: 268


1- روجيه غارودي، كشف حساب الفلسفة الغربية، ترجمة أبوبكر الفيتوري، مجلة كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس ليبيا عدد 7 ، 1990 ص 634
2- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3- إمانويل كنت نقد ملكة الحكم، مرجع سابق، ص 392.
4- روجيه غارودي، كيف صنعنا القرن العشرين، مصدر سابق، ص .85

فالمشروع الفلسفي الديكارتي الذي ما فتئ يشكّل تصورات فكرية ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر وعلى مدى قرون في خلق الأزمات العالمية خاصة في الطبيعة التي استبيحت لصالح الذّات النّهمة للسيطرة والغزو. لذلك يرى (غارودي) أن «الواجبات إزاء الطبيعة من الواجبات إزاء الملكية؛ فلا الأفراد ولا الجماعات يستطيعون أن يدَّعُوا لأنفسهم امتياز استنفاذها أو تشويهها، أو تدمير ثرواتها من أجل ملذاتهم الخاصة. إن الطبيعة كما ورثناها اليوم قد أُنسِنَتْ في جزئها الأعظم بعمل أجيال شتّى، فلا يمكن اعتبارها إذن مستودعاً غير محمودٍ للثروات من أجل إرضاء شهوات اللحظة ولا مصبّاً لفضلاتنا»(1). فالعلم الحديث يظهر أنّه من منطق براديغم الديكارتي، ينظر للطبيعة والأشياء عموما باعتبارها ميّتة؛ فهو يُعنى فقط بالوقوف عند الدلالات الموضوعية، وتقديم المعلومات الدقيقة تبعا لهذه الدلالات، ولكن هذه الممارسة أو بالأصح هي استباحة لرمزية الطبيعة على أنّها أمًّا حاضنة لنا.

فالطبيعة مُسخّرة من الله للإنسان وليس في علاقة صراع معها، قال الله تعالى «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» الآية 13 سورة الجاثية، وهي أمانة والواجب الإنساني أن نحافظ على الأمانة، كما وهبت لنا فهي:«ليست ملكاً لمليارات الموتى الذين أخصبوها ، بل وأيضا للمليارات ممن لم يولدوا بعد، ومن واجبنا أن ننقلها وهي أعظم خصبا وجمالا مما تلقيناها دون الربط بالمستقبل»(2).

لمتسائل أن يقول : ماذا يبقى عن حضور المعاني السامية، في هذا النظام الميكانيكي الديكارتي(3).، لا سيما المعاني الإنسانية، والشعور بالوجود الآخر، بعد أن أقصي الوجود الطبيعي؛ الذي اختزل في شكل صراع بينه وبين الإنسان، وليس لهذا الأخير

ص: 269


1- روجيه غارودي، الولايات المتحدة الأمريكية طليعة الانحطاط، ترجمة صياح الجيهم، ميشيل خوري، ط2، بيروت لبنان دار عطية للنشر، 1999، ص 171.
2- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3- إن هذا التصور الميكانيكي الذي اعتمده (ديكارت) كان قد « استمده من الرياضيات هو الذي أسس النظرة التجريبية للطبيعة، وقوّض الميتافيزيقا المدرسية الوسيطة، وحول الفلسفة إلى علم السيطرة على الطبيعة السيد ولد أباه الدين والسياسة والأخلاق، ط 1 بيروت لبنان جداول للنشر والتوزيع، 2014، ص 290.

إلا أن يُخضع الوجود، وأن يجعل من نفسه سيداً على الطبيعة ومالكاً لها حقاً»ف (ديكارت) دفع هذا التدمير إلى نهايته الحب الإبداع الجمالي، حتى الفعل في حد ذاته (غير التكنيكي) أين مكانهم؟ أيمكن أن نُخرج من (ديكارت) شيئاً جمالياً؟ أو نتعلم منه ما هو الحب؟ في إحدى الليالي حينما يستبد بك الحزن ستبحث تلك

عن الدراسة الميكانيكية، والتي تُسمى بهذا الاسم الغريب دراسة الأشواق»(1). هذا ما يظهر لنا عن ذلك التصور الذي تمت صياغته من طرف (ديكارت)(2)، أما عن تجلياته السلبية وأنه جزء من الأزمة القيمية للرؤية الحداثية إلى العالم سنورده في الفصول الآتية كمظهر لتجليات تلك الأزمة.

ثانياً - نحو فهم غزو العالم واستعماره:

لا زالت الحداثة الغربية وفيّة لمبادئها وأفكارها التي انطلقت منها في صياغة رؤيتها إلى العالم، لاسيما فكرة (ديكارت) و (هوبز) وهي: «مسلمة ديكارت، التي تجعل (الإنسان سيدًا ومالكًا للطبيعة)، ومسلّمة هوبز، التي تجعل (الإنسان ذئباً بالنسبة للإنسان)(3).

تلك المسلمتان اللّتان تدعوان إلى غزو الطبيعة والسيطرة عليها، وتأسيس العلاقة مع الآخر على أنّها علاقة صراع. فقد تم تعدية المسلّمة الديكارتية إلى

ص: 270


1- روجيه جاودي، كيف صنعنا القرن العشرين؟ ، مصدر سابق، ص 75، 76.
2- ما فتئت ابستومولوجيا الحديثة تكشف عن قصورها وميلاد مضادّها التكميلي، المتمثل في: قواعد فهم جديدة فكر النمذجة ( بديلة لتلك التي صاغها (ديكارت)، وهي على التوالي فكرة الوجاهة والتي تفيد أن ادراكنا للموضوع مرتبط ضمنيا بمقصد المنمذج، وعلية فتغير إدراكنا وفهمنا للموضوع رهين لمقاصد هذا المنمذج. أما الفكرة الثانية في ابستومولوجيا النمذجة تسمى بالإجمالية التي ترى أن موضوع المعرفة المطروح من قبل العقل، يدرك من البداية بصفة كلية، وهذا نقيض للمبدأ الديكارتي، الذي ينبغي اتبعاه في دراسة موضوع بضرورة تحليله إلى وحيدة بسيطة . وعليه فلا حاجة إلى الانشغال تبعا لذلك بتكوين صورة صادقة لهذه البنية الداخلية (الموضوع الذي يطرحه العقل)؛ لأنه لن يكون لها نفس الوجود والوحدة بعد احتكاكها بالمحيط . لتأتي فكرة الغائية ضمن هذه الإبستمولوجيا لتؤكد لنا أن فهمنا للموضوع مرتبط بسلوكه لا ذاته دون حاجة لتسبيق فكري لهذا يحب على المنمذج الإتجاه نحو السلوك والوسائل المسخرة للمشروعات، وهذا التحديد هو عبارة عن فعل عقلي افتراضي يتعذر البرهنة عنه. الفكرة الأخيرة الدمجانية، التي تعتبر كل تمثل انحياز بصورة قصدية من خلال انتقاء المنمذج للعناصر الموجهة من العناصر المطروحة والمعتبرة. لنبذ الفكر الديكارتية القائلة بالإحصاء الشامل، أنظر بيار بيريي وآخرون، مقالات في النمذجة وفلسفة العلوم، ترجمة هدى الكافي وآخرون، ط1، تونس، دار سيناترا، 2012، ج2، ص 210،211.
3- روجيه غارودي، الإسلام والحداثة، مصدر سابق

غزو واستعمار الآخر ونهبه، «فعصر النهضة يستند إلى نوع من علاقة الإنسان بأقرانه، وهذه العلاقة فردية المنزع بصورة أساسية ، ومنها سيولد رجل المشروع بالمعنى الأفضل والمعنى الأسوأ لهذه الكلمة، وهذه الإرادة؛ إرادة الربح والسيطرة أيضا إرادة الغازي الذي لا يتردد في اقتحام تخوم العالم المعروف ، ولا في

تدمير القارات والحضارت» (1).

فقد كان بزوغ فجر الثورة الصناعية بداية لبروز تحولات كبرى في العالم، التي سيكون الاستعمار وغزو القارات الثلاثة الصورة التي تحملها تلك الثورة وامتداد الحركة الاستعمارية والكشوفات الجغرافية لأجل البحث عن المواد الخام لتزويد المصانع، فقد أدت الثورة الصناعية إلى حد كبير في قيام حركة التوسع الإستعماري في القرن التاسع عشر، وقد أدت الحاجة إلى مزي-د م-ن المواد الخام للمصانع، ومزيد من الأسواق لمنتجات تلك المصانع إلى ذلك التوسع الاستعماري، فاقتسمت أروربا دول إفريقيا وآسيا، وأنشأت مستعمرات فيهما»(2).

وتتراصف إلى جانب الأسباب السابقة لإنتشار التوسع الاستعماري، أن الدول الأوروبية قد قامت بإلغاء نظام الرق» بحسب ترتيب دخولها في نطاق الثورة الصناعية، انكلترا أولاً، ثم فرنسا، عندما أخذ الريع الحاصل عن الرق بالتضاؤل شيئا فشيئا، ولم يعد قادراً على خدمة النّمو الإقتصادي، وعندئذ جرى الانتقال من نخاسة العبيد إلى الحركة الاستعمارية بالمعنى الصحيح»(3).

فلم تعد تجارة العبيد واستغلالهم في المزراع والأعمال بالتجارة المربحة، التي تحقق الربح الذي يريده الرجل الأبيض، بل إن اكتشاف المعادن الثمينة، والبحث عن مصادرها لتحقيق النمو والإزدهار الإقتصادي ؛ حيث ينقل (غارودي) هذا التصور

ص: 271


1- روجيه غارودي، في سبيل حوار الحضارات، مصدر سابق، ص 33.
2- الموسوعة العربية العالمية، مرجع سابق، ج16، ص 62.
3- المصدر سابق، ص 53.

للبحث عن المال والذهب من رواية دون كيشوت :ل سارفانتس (1) الذي يُعتبر شاهداً على ذلك العصر، فيقول - على لسان دون كيشوت -: «ماذا أرى هناك؟ إنه الذهب المعدن الأصفر اللامع والنفيس، القليل من هذا الذهب يكفي ليحوّل الأسود إلى أبيض، القبيح إلى جميل والظالم إلى عادل والوضيع إلى نبيل المسن إلى شاب، إنّه سيُبعد عن منابركم قساوستكم وخدّامكم، ويسلب الوسادة من المريض. هذا المال الذهبي سيلحم ويقطع التعهدات سيبارك الملعون، وسيجعل المجذوم يُعبد وسيضع اللصوص بعد منحهم الألقاب والإحترام والثناء على منصة النوّاب، وهو ما سيجعل الأرملة الحزينة تقرر الزواج مرة أخرى، وسيحوّل مستشفى المرضى القرحة التي تبدو كئيبة وتثير الغثيان إلى رائحة عطرة، إلى الأمام، أيها العفار الملعون المبتذل لكل أنواع البشر، أريد أن أعيد لك مكانتك في الطبيعة»(2). هكذا جاء الوصف من (سارفانتس) باعتباره شاهداً على ذلك العصر، فتحول بدءا توجه الغرب الحادث إلى البحث على الثروة التي ستنطلق معها حركة السيطرة على الشعوب التي تمتلك تلك الثروة الخام، فقد كان للحداثة تعصباتها الخاصة بها وفيما وجد البعض العصر الحديث محرِّراً وآسِراً خبره آخرون بصفته قامعاً وعدوانياً توسعيّاً ومدمراً»(3).

إن الاستعمار العالمي لم يكن ينتقل إلا تحت غطاء، وحجاج ليبرر موقفه وأعماله التوسعية. وتكاد تكون تلك الحجج في ظاهرها إنسانية إذا ما التفتنا إليها أول وهلة، فقد كان من الواضح في عهد الاستعمار الأوروبي أن التاريخ لم يكن إلا سرداً تاريخياً؛

ص: 272


1- ميغيل دي ثربانتس (سرفانتس) سابيدرا 1619 - 1547 Miguel de Cervantes Saavedraكاتب رواية ومسرحية وشاعر إسباني ولد في الكلادي إينارس Alcal de Henares وتوفي في مدريد، ويُعدُّ من أشهر الكتاب الإسبان، كما يُعد عمله الرئيسي دون كيخوته أو دون كيشوت دي لامانشا Don Quijote de la Mancha أكثر المؤلفات باللغة الإسبانية شهرة، وترجم إلى أغلب اللغات، وبحث فيه نقاد من جميع أنحاء العالم، واقتبس منه مراراً إلى أجناس أدبية أخرى، واستلهم منه الكثير من الأعمال التشكيلية والراقصة والموسيقية والسينمائية... وكان ثربانتس بطلاً لعدد من المعارك البحرية في المنطقة ما بين جنوبي إيطالية واليونان وتونس ومنها معركة ليبانتو الشهيرة. وبعد نهاية تجربته العسكرية وفقدانه ذراعه الأيسر في الحرب ركب سفينة عائدة إلى بلده، ولكنَّها هوجمت وأجبرت على التوجه إلى الجزائر العاصمة، حيث بقي من عام 1575 إلى عام 1580... يعد دون كيخوته أهم عمل أدبي لثربانتس، وقد تمتع بنجاح كبير وبإقبال شعبي منذ الطبعة الأولى للجزء الأول في مدريد عام 1695 الموسوعة العربية، بإشراف مسعود ط1، دمشق سوريا، الهيئة الموسوعية العربية، 1998، ج 7، ص 27.
2- روجيه غارودي، كيف صنعنا القرن العشرين مصدر سابق، ص 45، 46، 47
3- کارن آمسترونج مسعى البشرية الأزلي، مرجع سابق، ص 255

للغزو المشروع لأراضٍ جديدةٍ في سبيل جلب الحضارة إلى الشعوب المتخلفة، وهكذا فإن أي اجتياح أو عدوان استعماري كان مبرراً شرعاً باسم المدنية»(1).

ثالثاً الذرائع النزعة الاستعمارية:

أ- الذريعة الاقتصادية:

بالنسبة للحجة الاقتصادية فإن نظرة الدول الاستعمارية إلى الدول المستعمَرة، هي عبارة عن سوق لتسويق المنتوجات أو مصدر للمواد الخام لتزويد المصانع، «فالمستعمرات هي بالنسبة إلى البلدان الغنية سوق مميزة لتوظيف الرساميل؛ ولقد قدَّم (ستيوارت ميل) الشهير البرهان على ذلك، ويضيف (جول فيري): إن تأسيس مستعمرة يعني إنشاء سوق» (2).

من الغريب كيف يتصور العقل الغربي فكرة الحريّة؟ إذ نجد (جون استوارت ميل) الذي يؤكد على مطلب الحرية للأفراد ولبلاده، ثم ما يلبث أن يمنحها لغيره ثم يسلبها بطريقة ذكية أو متناقضة، حيث يرى:« أن الدول الحرة قد تكون لها أقاليم تابعة حصلت عليها بالغزو أو بالاستعمار، وبلدنا - إنجلترا - هو أكبر بلد من هذا النوع ... ومن أهم المسائل: معرفة كيف تحكم هذه التوابع ؟ هذه العبارة بما فيها من عنجهية ، وعنصرية، حاول (مل) طوال كتابه أن يتخلص منها ويخلّص منها مواطنيه، فإذا هو يرضاها كما يرضاها بلده؛ بالاستعمار لغيره من البشر ... كما قدّم بعد ذلك آراء تفوح منها رائحة العنصرية الكريهة» (3).

إن هذه الدول التوابع ستبقى تابعة للدول المستعمرة إقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وما يبدو في الغالب انتشار موجة الاستقلال للدول المتخلفة خاصة في القرن

ص: 273


1- روجيه غارودي، الاستعمار الثقافي والصهيوينة والتمسك بالأسطورة بدلا من سرد الحقائق في تدريس التاريخ، ترجمة هشام حداد ،سوريا، مجلة الآداب الأجنبية، العدد 108 أكتوبر 2001، ص .14
2- روجيه، غارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، مصدر سابق، ص 19.
3- مصطفى النشار، جون ستيوارت مل وفلسفة الحرية مجلة التفاهم عدد 39، مرجع سابق، ص 149.

العشرين يبقى استقلالا في الظاهر فقط. ذلك أن النظام العالمي الجديد الذي وضعته الدول الكبرى هو إمتداد طبيعي للمد الاستعماري، ولكن بطريقة تكاد تكون متخفية؛ حيث يؤكد (غارودي) ذلك مستشهداً بكلام (لجورج بوش)؛ حيث يقول: «إن ما يسميه بوش النظام العالمي الجديد (1)هو دعم وامتداد لهذه العلاقات الاستعمارية بین عاصمة واحدة وباقي العالم علاقات استعمارية تعني تبعية اقتصادية وسياسية وعسكرية تسمح للمسيطرين أن يجعلوا مستعمراتهم ملحقة باقتصاد المركز، أو أن يفرضوا شروطا للتبادل وتعريفات جمركية تفيد المسيطرين فقط، وهذا الهدف الذي طالما أعلن عنه القادة الأميركيون»(2).

فالنظام العالمي الجديد يقوم بالهيمنة والسيطرة بطرق أكثر لباقة، ولكنها مجحفة في حق دول الجنوب، بعد أن ولىّ عهد الاستعمار التقليدي الذي كلّف الميزانية الاقتصادية للدول العظمى تكلفات كبيرة. فقد آثرت الدول الاستعمارية إكمال اللعبة بطرق أكثر ذكاء، فقد فقدت القوى الصناعية المركزية اهتمامها بالجنوب وأعدّت إلى شكل جديد من الاستعمار الحديث، وزادت من إحتكارها للاقتصاد العالمي وتقويض العناصر الديمقراطية في الأمم المتحدة، واستمرت في ترحيل الجنوب إلى الطبقة الدنيا. ولعل هذا هو المسار الطبيعي للأحداث في اعتبار طبيعة العلاقات بين القوي والضعيف وفلسفة ممارسة هذه العلاقات... عبرّ عنها (ونستون تشرشل) بقوله: «فلو أن حكومة العالم كانت في أيدي شعوب جائعة سيكون الخطر دوما محدقا ... إن قوّتنا تضعنا فوق الجميع، فنحن أشبه برجال أغنياء يعيشون آمنين في مساكنهم»(3). وهكذا

ص: 274


1- فقد بين استطلاع للرأي أن الخوف من أمريكا في العالم ازداد بشكل غير طبيعي، وهذا نتيجة لممارساتها الخارجية مع العالم الثالث التي تقوم على السيطرة والقوة والإحتلال حيث يقول نعوم تشومسكي : وفي مستهل عام 2003، كشفت الدراسات عن أن الخوف من الولايات المتحدة قد بلغ ذرى عالية جدا في جميع أنحاء العالم، مشفوعا بارتياب شديد بقيادتها السياسية، فكان نبذها لأبسط حقوق وحاجات الإنسان لا يضاهيه سوى ازدراؤها بالديمقراطية ازدراء يصعب على المرء أن يتذكر مثيلا له... وهو ازدراء مصحوب بمجاهرة علنية بالإخلاص الصادق لحقوق الإنسان والديمقراطية، والأحداث التي تشكل فيما بعد، كان لابد من أن تثير حفيظة أولئك الذين يحملون هم العالم الذي سيورثونه لأحفادهم». نعوم تشومسكي، الهيمنة أم البقاء ترجمة سامي الكعكي، ط1، بيروت لبنان، دار الكتاب العربي، 2004، ص 10
2- روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 32.
3- نعوم تشومسكي النظام العالمي القديم والجديد، ترجمة عاطف معتمد عبد الحميد، ط1، مصر، نهضة مصر للطباعة والنشر مارس ،2007 ، ص .10

يبيّن (تشرشل) أن الحكم لابد أن يكون في يد الأقوياء الأغنياء الذين من حقهم العيش في أمان ويحيون في سلام، ومن الخطر أن تترك حكومة العالم السيطرة على العالم في يد الشعوب الجائعة الضعيفة لأنّها ستشكل خطراً عليه.

ويشير (غارودي) إلى أشكال أخرى أيضا من الاستعمار المعاصر؛ عبر استعمال آليات متعددة لتحقيق الهدف منها:«الآلية البسيطة تتم الموافقة على استثمارات عبر القروض والمعونات للبلاد الفقيرة، هي من حيث المبدأ تساعدها في أن تتصنع، ولكنّها في الواقع تسمح للشركات المتعددة الجنسية في الشمال بزيادة أرباحها عن طريق انتقالها للإقامة في بلاد تتميز برخص اليد العاملة، وفي الوقت نفسه تنخفض أسعار المواد الخام في هذه البلاد، مما يجعل التبادلات تمعن في التغابن مع مرور الزمن... أيضاً إن سداد القروض يمثل أضعاف رأس المال المقترض، كما أن سداد الفوائد يعادل في الغالب إجمالي التصدير، مما يجعل كل تنمية مستحيلة. لا يتعلق إذن بالبلاد النامية - كما نطلق عليها من باب المجاملة أو النفاق - ولكنّها بلاد محكوم عليها ببؤس متزايد وتبعية متزايدة»(1). ولكن تبقى هذه البلدان دائما في طور التبعية ولا يمكن لها الفكاك عن تلك الشركات ولا تنمية تحصل في تلك البلاد النامية، إذ تبقى تسمى في طور النّمو الذي لا يمكن أن ينتهي أبدا، وكل ذلك يتم وفق استراتجية تبخيس المواد الخام مقابل وعود للتنمية التي ستكون مستحيلة واقعا في ظل هذا الغبن .

ب الذريعة السياسية :

أما بالنسبة للذريعة السياسية التي تعتمدها المنظومات الاستعمارية، فهي تخوض حروباً استباقية تحت مظلّة الدّفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرب على الإرهاب ونشر قيم العدالة والديمقراطية. فمن «السهل تعداد الأمثلة عن استخدام هذه الذرائع لمكافحة الإرهاب أو للتدخل الإنساني، والدّفاع عن حقوق الإنسان، لتبرير اعتداءات مباشرة ضد المتهمين أو إقامة عوائق لمعارضة اتفاقيات تجارية معهم»(2).

ص: 275


1- المصدر السابق ص 32
2- روجيه غارودي، أمريكا طليعة الإنحطاط، مصدر سابق، ص 12

كما هو الشأن أيضا في التدخل العسكري الأميركي في العراق بحجة الدّفاع عن الحق الدولي، وإجلاء العراق من الكويت. فبعد أن تم إجلاء العراق من الكويت، تم غزو العراق عام 2003 للسيطرة على النفط ونهبه. لذا فقد حدد هدف جديد» في شرم الشيخ عام 1996 من قبل حكومة إسرائيل : فمكافحة الإرهاب، مثل التّدخل الإنساني ذريعتان جديدتان للاستعمار الحديث المتكامل؛ وقد أشار (شمعون بيريز) دون أي دليل إلى (إيران) كمركز للإرهاب العالمي، وبالطبع فهذا الإرهاب يشمل كل أشكال مقاومة الشعوب المدافعة عن استقلالها، ويستبعد كل أشكال إرهاب الدولة المهدد لهذا الإستقلال» (1).

ج- الذريعة الإنسانية:

الذريعة التي تنطلق منها القوى الاستعمارية هي جلب الحضارة وتحضير الشعوب المتخلّفة ونقل المدنيّة إليها. حتى وإن وجدوا في البلاد المستعمَرة «مدنية مزدهرة، فهم لا يجدون ازدهاراً سوى في ما ينطبق على معاييرهم الخاصة، ويبتعدون بهذا عن التواضع العلمي المثير للإعجاب، بل عن الموضوعية والشمولية الفكرية التي ضرب (لفي ستراوس) مثلا عليها في كتابه «العرق والتاريخ»، حينما قال كانت العصور القديمة تسِم كل من لم يسهم في الثقافة اليونانية - الرومانية بأنّه همجي، أما المدنية الغربية فقد استخدمت مصطلح (متوحش) من أجل المعنى ذاته... وهذا يعني أنه من الغابة مما يستدعي نمطا من الحياة الحيوانية مقابل الحضارة»(2).

وإن من المستغرب كيف تُنقل الحضارة إلى أمم والوسيلة في ذلك هي القوة، هل من المعقول ؟ يقول السيد (يلّتان) ما هذه الحضارة التي تفرض بقوة المدفع ؟... لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا ه-و م-ن التاريخ؛ إنه من الميتا فيزيقيا السياسية، أيّها السّادة لابد من الكلام بصوت أرفع

ص: 276


1- المصدر نفسه، ص 11.
2- روجيه غارودي، الاستعمار الثقافي والصهيوينة، والتمسك بالأسطورة بدلا من سرد الحقائق في تدريس التاريخ مصدر سابق 14.

وبحقيقة أكثر، يجب القول بصراحة : إن للأعراق العلي-ا حقا عمليا على الأعراق السفلى»(1).

وهذه الذريعة الإنسانية تتكىُ في الغالب على الرؤية الإنثربولوجية الثقافية إلى العالم، التي تحاول أن تفسر العالم وتفهمه في تلك الأطر العرقية الضيقة.

إن حالة التطور والنمو والإزدهار الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي عليه العالم المتقدم اليوم، لم يكن لينبجس في لحظة زمنية فارقة،«ولم يكن الإدخار هو الذي وهب الغرب البترول الذي أصبح محرك نموّه إنّه التقسيم بعد الحرب العالمية الأولى - كغنيمة حرب - الذي أتاح لإنجلترا ولفرنسا ثم للولايات المتحدة ممارسة هيمنتهما على كلّ آبار البترول في الشرق الأوسط. هذا التجميع الأول ثمرة خمسة قرون من اللّصوصيّة الاستعمارية، سمح بنشأة تبادلات غير متكافئة بين العواصم الاستعمارية والمستعمراتها»(2).

وعليه يمكن القول أن الغزو الغربي للعالم - مهما كان له من ذرائع؛ ليتستر بها ويجمّل بها أفعاله التدميرية - هو غزو مادي بحت؛ يرنو إلى مزيد من النمو المادي على حساب القيم والأخلاق التي لم تكن توضع في قاموسه وهو ينطلق للبحث على تجميع العناصر المادية لمزيد من القوة. الغزو الغربي إنّما هو غزو المادية بكل أشكالها، وهو لا يمكن أن يكون غير ذلك، وكل أساليب المواربة التي تتسم بالنّفاق وكل الحجج الأخلاقية وكل العبارت ذات النزعة الإنسانية الرّنانة، وكل أساليب المهارة التي تستخدم في دعاية تتّخذ سبيل الخداع في الوقت المناسب لتصل إلى هدفها التخريبي. وكل ذلك لا يغير شيئا من هذه الحقيقة التي لا يطعن فيها إلا أناس سذّج أو لهم مصلحة حقيقية في هذا العمل الشيطاني»(3). وهذا الغزو - تحت هذه الذّرائع - يجد أصله البعيد في الرؤية الحداثية إلى العالم المبنيّة أصلا على واحدية الوجود في المادة.

ص: 277


1- روجيه، غارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، مصدر سابق، ص 20.
2- روجيه غارودي، حفارو القبور، مصدر سابق، ص .139.138
3- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر، مصدر سابق، ص 161
خاتمة:

وفي الختام نشير إلى أن النظرة إلى الطبيعة على أساس الصراع والغزو ، هي الخيط الناظم لتشكل النزعة الإستعمارية الغربية حيث ارتكزت جهود الفكر الحداثي على الهدف الأساسي وهو اخضاع الطبيعة للإنسان باعتباره سيداً، ثم ليكون هذا السيد سيداً على بقية شعوب العالم المستضعفة، التي ترى القيمة الوحيدة هي القوة والسيطرة، وهذا ما سعت الرأسمالية إلى تحقيقه لتفصل القيم عن الممارسة الاقتصادية في العالم، وتحصر وتقلل من شأن ما يسمى أخلاق في الصعيد الاقتصادي، مما أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي والإنساني وإحداث الصراعات، والنزاعات الدولية، خاصة الاستعمار، وغزو العالم الثالث تحت ذرائع متعددة.

كما أن البحث على ثقافة الرفاه في العيش قد كانت شيمة وخاصيّة من خصائص المجتمعات الحديثة، حيث تحول الرّفاه من مطلب إنساني إلى هوس هستيري لأجلها يتم دوس الأسس الأخلاقية، والقيمية وتمجيد الإباحية والعدمية.

وقد أدى كل ذلك إلى أزمة في القيم تجلّت في خلوّ وفراغ العالم من المعنى منها : نزعة التمركز حول الذات وفرض الحضارة الغربية، ومصالحها على جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات، فالغرب هو المركز والباقي هو الهامش وهي الثقافة التي تدّعي الإنسانية في الظاهر ثم لتفرض نفسها بقوة البارود.

ص: 278

العنف وإزالة الاستعمار:قراءة الثورة الجزائرية وفق نظرية فرانز فانون

اشارة

جلة سماعین(1)

تناقش هذه الدراسة الجدل والمناقشات المتعلقة بمسار الثورة الجزائرية المنقسم بين فريق الداعين لأسلوب المقاومة والكفاح المسلح لتحقيق الاستقلال، وفريق آخر يرى في النضال السياسي والكفاح السياسي السلمي الطريق الوحيد إلى ذلك، وهم من اعتبرتهم فرنسا نموذجاً «للاعتدال السياسي». ولإبراز أهمية المقاومة المسلحة في إزالة الاستعمار، تتناول الدراسة فئة اجتماعية ثورية يمثلها الفلاحون وسكان الأرياف من خلال نظرية فرانز فانون عن العنف والحرية. لقد كانت هذه الفئة عصب الثورة ورمزاً لاسترجاع الأرض ،والسيادة، ولكنها بالمقابل تعرضت للتهميش وانتقصت من أدوراها بعض النخب السياسية والثقافية، سواء إبان الثورة التحريرية أو بعد الاستقلال.

على الرغم من الإنجازات التاريخية التي قدّمتها الحركة الوطنيّة الجزائريّة منذ

ص: 279


1- باحث متخصص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية - الجزائر.

تأسيس حزب «الجزائر الفتاة» على يد الأمير خالد الهاشمي، حفيد الأمير عبد القادر، في 1919 وصولا إلى حزب نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب الجزائري وباقي الأحزاب والجمعيات الوطنية لغاية 1954، والتي ساهمت كلّها في الدفاع عن حقوق الجزائريين وتطوير وعيهم القومي وتلقينهم أصول العمل السياسي، فإن الاستعمار الفرنسي الذي كان يعطي هذه الأحزاب جرعات من الممارسة الديمقراطية بهدف تحسين صورته داخل وخارج القطر الجزائري كان في الجانب الآخر يكشف عن وجهه الوحشي وقوته الاستعمارية بتجويع الشعب ومصادرته أراضيه، ومحاصرة تحركاته وقمع نشاطاته وتدجين هويّته. وتُعد أحداث 8 ماي 1945 في الشرق الجزائري التي راح ضحيتها قرابة 45000 جزائري خير دليل على منطق الاستعمار في التعامل مع الشعوب المستعمَرة وأبلغ حجة على عنصريته وجرائمه وحقيقة «المهمّة من أجل التحضّر» (mission civilisatrice) التي أراد إنجازها في الجزائر وباقي المستعمرات.

حين أدرك مجموعة من المناضلين في المنظمة الخاصة (OS)؛ وهي منظمة عسكريّة سريّة تأسست في 1947 من قبل بعض مناضلي «الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية» (MTLD) التي كان يرأسها مصالي الحاج (وهي غطاء رسمي لحزب الشعب الجزائري الذي أسسه مصالي وحلّته السلطات الفرنسية في 1939 وأتم نشاطه فی السريّة). استحالة تحقيق الاستقلال واسترداد الحقوق بلغة السياسة؛ خصوصا بعد مأساة مجزرة ماي 1945 وتزوير فرنسا لانتخابات 1947 التي شارك فيها حزبهم. بادرت إلى تجميع الأسلحة والتخطيط لاندلاع ثورة كبرى تشمل كل مناطق الجزائر وتُشرك فيها مختلف الشرائح في المدن كما في الأرياف. وبعد أن اكتشف الاستعمار في 1950 أنّ المنظمة سيُقْدمُ بعض أعضائها في 23 مارس 1954 لتشكيل «اللجنة الثورية للوحدة والعمل» (CRUA) ؛ وهي طرف ثالث محاید بین طرفین متصارعين من حزب الشعب MTLD المصاليون المطالبون بسلطة مطلقة لرئيس الحزب مصالي، والمركزيون (الإصلاحيون) الذين أرادوا تغليب قرارات اللجنة المركزية للحزب. سيكون لأعضاء اللجنة الثورية بعد نجاحهم في عقد اجتماع الأعضاء 22 الدور الرئيسي في إطلاق شرارة أول نوفمبر 1945 أين يعلن عن ميلاد جبهة التحرير الوطني.

ص: 280

كان محمد بوضياف (الرئيس الجزائري المغتال في (1992) هو المحرّك والمدبّر الأساسي للثورة، وقد تم تعيينه منسِّقا لها في إطار مجموعة الستّة التي صاغت بيان أوّل نوفمبر والمكوّنة من : مصطفى بن بولعيد ديدوش مراد العربي بن مهيدي، رابح بيطاط كريم بلقاسم ومعهم المناضلين الموجودين في القاهرة وهم: أحمد بن بلّة، حسين آيت أحمد لقد آيت أحمد ومحمد خيضر. سمح الكفاح المسلح الذي يقوم على مبدأ القيادة الجماعيّة بتجاوز استبداديّة بعض رموز الحركة الوطنية وانفرادها بتقرير مصير الشعب كما كان الأمر مع مصالي الحاج أو فرحات عباس وبعض علماء جمعية العلماء المسلمين. لتضع الثورة الجميع أمام واقعية النضال وأساليبه الفعّالة لتحقيق الاستقلال، ولتستجيب لطموحات الجماهير الثائرة التي طال انتظارها لهذه اللحظة.

غير أن موقف الأحزاب الجزائرية كان يسير في عكس حماسة أصحاب نوفمبر، فقد عارضت منهجيّة العمل العسكري الذي يديره حسب اعتقادهم مجموعة من الشبّان المغامرين أقدموا على تصرفات فردية غير محسوبة، والتي لربما ستعصف بسنوات النضال السياسي التي خاضوها مع الاستعمار وستقوض مشروعهم السلمي لتحقيق الاستقلال (رغم الاضطهاد والسجن المستمر الذي تعرض له رؤساء هذه الأحزاب)، فمصالي الحاج رئيس حزب الشعب (يُوصفُ من قبل بعض المؤسطرين لشخصيّته بأب القومية والحركة الوطنية) ظل لغاية استقلال الجزائر معارضاً لهذا النهج الثوري واعتبر كلاً من المصاليين والمركزيين في جريدتيهما الصادرة باللغة الفرنسية أن انفجارات نوفمبر العظيمة هي مجرد «أحداث (événements) خطيرة» وهی «اعتداءات».(1) (attentas) واللافت أيضاً أن الحزب الشيوعي الجزائري المرتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي لم يساند الكفاح المسلح أو يقبل بمنهجه، وهو الذي يرفع شعارات الثورة والصراع ضد الرأسمالية والاستغلال. «لقد كان يرى الشيوعيون أن الثورة لا يمكن أن تقع إلا نتيجة الصراع الطبقي، ولكن ثورة أول نوفمبر لم تكن كذلك، بل هي ثورة فلاحين ومثقفين محرومين تدفعهم الروح الوطنية

ص: 281


1- أنظر مولود قاسم نایت ،بلقاسم ردود الفعل الأولية داخلا وخارجا على غرة نوفمبر الجزائر: دار الأمة، (2007) ص ص 62.

وتغذيهم المبادئ الإسلامية»(1)، غير أن بعض الشيوعيين سيلبّون بشكل فردي نداء الجبهة. أما فرحات عباس، رئيس حزب «الاتحاد لأجل البيان الديموقراطي»، فقد علّق بأن الكفاح المسلّح وليلة أول نوفمبر تعبّر عن «اليأس والفوضى والمغامرة»(2)، ولكنّه انضم لاحقاً للثورة (في ميدانها السياسي) وترأّس الحكومة المؤقتة الجزائرية المشكلّة في 1958. وبخصوص موقف جمعية العلماء المسلمين، فقد كان متذبذبا ولم تعبّر الجمعية عن مساندتها لبيان أول نوفمبر ومجموعته الثورية، وهذا ما يظهر في افتتاحيات جريدتها «البصائر» وبررت موقفها باجتناب «التسرع» في اتخاذ موقف أحداث غير معروفة هويّتها، لتتخلَّف بذلك الجمعية بقصد أو بدون قصد عن نداء نوفمبر، بل واعتبرت ثورة نوفمبر نتيجة استياء الشعب الجزائري من الأوضاع السوسيو - اقتصادية والسياسية المتدهورة وعلى فرنسا الإسراع بتحسينها، لكن مواقف الجمعية ستتغير لاحقا وسينضم العديد من أعضائها لركب الثورة، خصوصا في أواخر 1995 بعد ظهور جناح على يد العربي التبسي والشيخ حماني ورضا حوحو يؤيد الكفاح المسلح ويدعو للجهاد، وبعد الحزم الذي أبدته قيادة جبهة التحرير الوطني مع علماء الجمعية(3).

كان تخوف قادة الحركة الوطنية الجزائرية من الثورة ينبع من الاعتقاد بعدم أهليّة المجتمع الجزائري لخوض الكفاح المسلح ، واعتبروه مجتمعاً هشاً، مفككاً ومحاصراً لا يملك الإمكانيات الماديّة والجاهزيّة الفكرية بل حتى الوعي القومي لمجابهة فرنسا، إحدى أكبر القوى العالمية آنذاك. لذلك أبدوا انزعاجهم وتشاؤمهم من اندلاع ثورة نوفمبر التي انطلقت دون أن يكونوا جزءا من قيادتها، بل وراهنوا على فشلها لأنها تفتقر للنخبة السياسيّة الحكيمة وخبرة التعامل مع الاستعمار كما يتمتعون هم بذلك. وبعد الاستقلال برزت نقاشات أكاديمية وسياسية تُعيد تقييم تجربة الكفاح المسلح

ص: 282


1- محمد العربي الزبيري الثورة الجزائرية في عامها الأول (قسنطينة دار البعث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، (1984) ص166
2- المرجع نفسه، ص 151.
3- لمزيد من التفاصيل أنظر مولود قاسم نايت بلقاسم المرجع السابق، 65-68 و ص ص 70-77. ولمزيد من التفاصيل حول تعامل جبهة التحرير الوطني من طريق القيادي عبان رمضان بتردد الجمعية أنظر محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول ، مرجع سابق، ص ص 181-191.

وبرز فريق يؤكد أنه كان بالإمكان تحقيق الاستقلال دون حصيلة بشرية هائلة تجاوزت المليون ونصف الميلون ،شهيد، ويعتقدون أنه لولا «مغامرة نوفمبر» التي راهنت على عامة الشعب وسكان الأرياف الذين لا يفقهون تدابير السياسة ولا يفهمون «عقل المستعمر»، لتمكن زعماء الحركة الوطنية أمثال مصالي الحاج وفرحات عباس من تحقيق الاستقلال بالأساليب السياسيّة وتفادوا تدمير المجتمع الجزائري الذي مارس ومورس عليه العنف. لكن رغم كل هذه المواقف التي أبدتها الحركة الوطنية اتجاه جبهة التحرير الوطني وثورة نوفمبر ، لا يمكن بأي حال من الأحوال الحكم بخيانتها أو تخاذلها أو نقص في روحها الوطنيّة وعدم إيمانها باستقلال الجزائر، بل كانت ترى أن هناك منهجية أخرى لتحقيق هذا الاستقلال، وهي حالة عايشتها وتعيشها تقريباً كل حركات التحرير الوطني عبر العالم. نتطرق فيما يلي إلى هذا الجدل مبرزين وفق منهج فرانز فانون وضعيّة الفلاح الجزائري ودور العنف والثورة في إزالة الاستعمار.

أولا: الفلاح وإزالة الاستعمار العنف التحرّري في مواجهة العنف الكولونيالي

إن عمليات التأريخ الجزائري مليئة بالمناقشات حول تكوّن الوعي السياسي والقومي لطبقة الفلاحين والريفيين بصفة عامة حول أصوله ومميزاته ومستوياته داخل البنيات الاجتماعية التي لطالما اعتبرتها العديد من المؤرخين وعلماء الاجتماع منقسمة ومتصارعة، وفي المقابل دافع عن أدوارها آخرون أكدّوا أنّ أولى ردود الفعل السياسيّة والدفاعيّة منذ الغزو الاستعماري الفرنسي كانت في الريف، وتعززت في ثورة الأمير عبد القادر وغيرهم إلى غاية تمرد 1871 يشرح عالم الاجتماع الجزائري مصطفى لشرف ذلك فيقول:«هذا التضامن الجماعي كان ثمرة شعور وطني غير صريح، ولكنه مع ذلك متمكّن من النفوس، كما أنه وليد الإحساس بوضعية واحدة هي وضعية الفلاح في بلد تقاليده الريفيّة عريقة وظروفه المعايشة قاسية أحيانا غدَّارة، وتعاون سكانه في المحن والأهوال والشدائد معروف ولا يحتاج إلى دليل»(1).

ص: 283


1- مصطفى لشرف، الجزائر الأمة والمجتمع. ترجمة: حنفي بن عيسى (الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، طبعة (1983 ص 13

وهكذا يتبين أن وطنيّة الفلاحين في الجزائر كانت في الفترة الممتدة ما بین و 1871 ظاهرة عمَّت سائر أرجاء البلاد وتغلغلت في النّفوس، ولئن لم تتبلور تلك

الظاهرة في فكر عقائدي واضح، فقد كانت بدون جدال ذات أبعاد قوميّة»(1).

ومن الجانب النظري هناك عدة تفسيرات تتساءل عن قيمة الدور الثوري للفلاحين ودوافعه باستعمال مناهج التاريخ المقارن وفحص أنظمة الحكم السائدة في المجتمعات لعلّ أكثرها علميّة وأصالة تحليلات بارينجتون مور (Moore Barrington) في كتابه (الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: اللورد والفلاح في صنع العالم الحديث) حيث حاول الكشف عن كيفيّة وصول بعض المجتمعات في مسارها التاريخي إلى الديمقراطية وأخرى إلى الدكتاتورية من طريق ثورات الفلاحين وبفعل صراع اقتصاد المزارع ضد الاقتصاد الصناعي، فقام بعقد تاريخ مقارن بين التجارب الفرنسية والانجليزية والأميركية ودول آسيا، وبرهن على دور هذه الطبقة في القضاء على الإقطاع والرأسمالية الصناعية الناشئة: «لذلك من الإنصاف الاعتقاد بأنّ طبقة الفلاحين كانت الفيصل في الثورة، وإن لم تكن قوّتها المحركة الأساسية، فقد كانت قوة على قدر كبير من الأهميّة، وإن كانت مسؤولة إلى حد بعيد عما يبدو - إذا نحن عدنا إلى الوراء - الانجاز الأهم والأطول بقاءً، وهو القضاء على الإقطاع»(2). ويتجه بعض المؤرخين لتفسير نضال الريف في التجربة الجزائرية أحيانا بصراع المجتمع الزراعي ضد المجتمع الصناعي الرأسمالي ويتعاملون مع الأمر من منظور طبقي ومن خلال تطبيق النماذج الماركسية، لعل أبرزها تحليلات روزا لكسمبورغ في كتابها (تراكم رأسمال) حول صراع الطبقات في الجزائر، بحيث «تعتبر أن أشكال المقاومة لا تعبّر عن ردة فعل ذات حسّ وطني، لأن المسألة القومية بالنسبة لها ليست سوى خدعة، ولكنها تعطي أهمية لهذه القوى التي ستترجم كصراع ضد السياسة الإمبريالية»(3).كما ذهب مور إلى اعتبار «أنّ

ص: 284


1- المرجع نفسه، ص 135
2- بارينتجون مور، الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: اللورد والفلاح في صنع العالم الحديث. ترجمة أحمد محمود (لبنان): المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية (2008) ص 112
3- René Gallissot, Marxisme et Algérie (Alger: ENAG Editions 1991) pp 173- 175.

السّمة الأساسية المميزة لثورات القرن العشرين المعادية للاستعمار هي السعي إلى إقامة شكل جديد من المجتمع ذي عناصر اشتراكية، بحيث يمثّل التخلّص من النير الأجنبي وسيلة لتحقيق تلك الغاية»(1).

بالرغم من عمق هذه التحليلات، فإننا نرى أن هناك دوافع أخرى لثورة الفلاح تتعدى العقار والملكية، وعدالة التوزيع، إلى ما يسمّيه فانون صراع المستعمِر والمستعمَر، أين تتبدل المهمَّة لتصبح مهمة إزالة الاستعمار،«فالقيمة الأساسية عند الشعب المستعمَر هي الأرض، لأنّها هي القيمة المحسوسة الملموسة، الأرض التي تكفل الخبز والكرامة طبعا»(2). فإن نجحت الماركسية في تفسير كيف يجد الفلاح الخبز دافعا للثورة، فإن الكرامة والحرية والسيادة ستشكل معالما أخرى للتحليل الثقافي للثورة.

ولكن لماذا فانون؟ وما ميزة طرحه ؟ إن اختيارنا لفانون جاء بعد أن وجدناه يُجيب على العديد من الأسئلة التي يمكن أن تواجهنا، والعديد من المعضلات والتناقضات التي تعترض الباحث خلال محاولة اطلاعه على دور الريفيين في الثورة، خصوصا الجدل الدائر حول نشاط المدينة السياسي و «تهوُّر» الريف، أو كما فعل حربي في ادِّعاءه أسطرة دور الفلاحين في الثورة» ضمن ثلاثية الأساطير التي أسندها لحزب جبهة التحرير الوطني (FLN). نجد لدى فانون الإجابة عن سؤال مركزي شبيه بما أثاره مور في بحثه : «هل كان العنف ضروريا للحرية ؟(3)إلى سؤال آخر:«ما تكلفة عدم القيام بثورة» (4).

قبل التطرق لكتاب فانون، وجب إعطاء بيوغرافيا موجزة. فقد ولد فانون في 20 يوليو 1925 في بلدة ال (فور دو فرانس) في جزر (المارتنيك) من عائلة الموظفين شارك في الحرب العالمية الثانية، وأُرسل في بعثة تطوعيّة عام 1943 إلى شمال إفريقيا ومكث

ص: 285


1- مور، المرجع نفسه، ص 151.
2- فرانز فانون معذبو الأرض ( الجزائر، موفم للنشر ENAG. طبعة 2007، طبعة خاصة بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة العربية ص 10
3- مور المرجع نفسه، ص 10
4- المرجع نفسه ص. 13.

ببجاية، غير أن إصابته بجروح بالغة عام 1945 ستعيده إلى المارتنيك أين سيواصل دراسته، ويتلقّى تعليمهُ على يد أستاذه ايمي سيزار في عام 1947 سافر إلى فرنسا بعد حصوله على منحة دراسيّة، وأنهى أطروحته عام 1951 وحضر لامتحان الداخلية المستشفيات الطب النفسي، صدر له من دار سوي (Seuil) كتاب (سود الوجوه، بيض الأقنعة) الذي يبرز فيه تأثيرات العنصرية وحقيقة المنظومة الاستعمارية، وفي عام 1953 نجح في مسابقة الالتحاق (ميديكا Médicat) لمستشفيات الأمراض العقلية والتمس منصبا في البليدة (Joinville) ساهم كجزائري في ثورة التحرير وجمع الأدوية للمجاهدين، والتحق عام 1956 بلجنة التنسيق والتنفيذ (C.C.E)، ومثَّل الجزائر في مؤتمر الشعوب الإفريقية عام 1958 و 1960 ، وعُيِّن ممثلا دائما للحكومة المؤقتة الجزائرية بأكرا عام 1960، أصيب بسرطان الدم وأرسلته المنظمة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وتوفاه الأجل يوم 6 ديسمبر 1961 ، بعدما أتم كتاب «معذبو الأرض»، وشاهد نسخة الكتاب الأولى في نوفمبر من نفس السنة، وقام جون بول سارتر بوضع تقديم له في النسخة الفرنسية التي ستصدر عن دار ماسبيرو عام(1) 1962.

المسألة الأساسية التي يعالجها فانون في كتابه هي محو الاستعمار،وسيصبح هذا الكتاب كما أوضح ستيوارت هال بأنه «إنجيل إزالة الاستعمار the Bible of Decolonization(2)) ، والعنف هو أساس هذه الإزالة،«لأن الاستعمار إنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى»(3)، واستطاع أن يصل إلى ذلك عبر تجربته النضاليّة داخل جبهة التحرير الوطني، ويتأكد بأن المشكلة الرئيسية بين المستعمِر والمستعمَر تحلّ بالثورة:«إن العنف هو الطريقة المثلى، لأنّ الإنسان المستعمَر يتحرر في العنف»(4). فتصفية الاستعمار يعطي المعنى الوجودي لحياتهم.

أدرك فانون من خلال تشريحه لنفسيّة المجتمع الجزائري الجماعيّة ومعرفته آلام

ص: 286


1- مقتبس من تقديم كلودين شولي (بتصرف) لكتاب معذبو الأرض، المرجع نفسه، ص ص VIII-XIV.
2- Robert J. C Young, Postcolonialism, an historical introduction (UK: Blackwell Publishing, 2001) p281.
3- فانون، المرجع نفسه ص 28
4- المرجع نفسه ص 10

الفرد المضطهد والمشوّش أن حقيقة النظام الاستعماري لا تعرف في الخطابات والتشريعات وجرعات من الديمقراطية الانتخابية لهذا الحزب أو ذاك، ولكنها تعرف من تجسّدها كواقعة فعلية في التعذيب الممارس على الفرد، فاستطاع من خلال هذا الفرد أن يصوّر آلام كل المجتمع الجزائري، إذن «فتحليله يتأسس حول نتائج الاستعباد ليس فقط للشعب ولكن للذوات وشروط تحريرهم، التي هي قبل كل شيء تحرير الفرد إنها تمثل انعتاق الذات من الاستعمار»(1).

لكن «إذا كان محو الاستعمار هو حدث عنيف دائما»(2)، فإن ذلك يعني القيام بالثورة، وهذا أمر فيه نوع من الخطورة، وحسب مواقف بعض رموز الحركة الوطنية الجزائرية هو «مغامرة» وأخذ البلاد إلى «المجهول»، أو هو عمل حسن «لكن يجب الانتظار»، أو أنه مجرد «طيش وحماس شبّاني». لا يهمل فانون تلك الشكوك التي يمكن أن تهدم فلسفته في الثورة، ويتساءل مكانهم متى يمكن القول أن الوضع قد نضج إلى الحد الذي يجب فيه القيام بحركة تحرير وطني؟ ومن هي الطليعة التي أن تقوم بتلك الحركة ؟» (3). يجيب فانون عن التردد الذي تعرضت له الأحزاب

السياسية حول استعمال القوة لإزالة الاستعمار، وموقفها من طبقة الفلاحين ومراهنتها على تفريغ العنف بطرق سياسيّة فيقول:«إن الدعاية التي تتقدم بها الأحزاب السياسية تغفل طبقة الفلاحين دائما مع أنّ الواضح أن طبقة الفلاحين في البلاد المستعمرة الطبقة الثورية الوحيدة، إن هذه هی الطبقة لا تخشى أن تخسر بالثورة شيئا، بل تطمع أن تكسب بالثورة كل شيء، والفلاح، المنبوذ الجائع، المستغَل الذي يكتشف قبل غيره أن العنف هي الوسيلة المجدية، إنه امرؤ ليس عنده حل وسط، والقوة وحدها هي التي تحدد بقاء الاستعمار أو زواله»(4).

لم يكن هذا الدور الطليعي لطبقة الفلاحين جديدا ، وإن وصف أحياناً تمرداً أو

ص: 287


1- Alice Cherki, Préface, Frantz Fanon, Les damnés de la terre (Paris: Éditions La Découverte Syros, 2002) p 90.
2- قانون المرجع نفسه ص 10
3- المرجع نفسه، ص 25
4- المرجع نفسه، ص ص 28،27.

حرباً، فإنه لا جدال شكَّلَ ثورةً وهذا ما أكّده لشرف في كتاباته يعلن بصراحة :«إننا نقول بأن مقاومة الفلاحين الطويلة يمكن أن تعتبر إلى حد ما مقاومة ثوريّة، لأن الفلاحين هم الفئة الوحيدة التي كان نضالها مستمراً نسبياً، وهذا يرجع إلى أن الغزو الفرنسي وابتزاز الموارد الطبيعية، وحرب التحرير، كل ذلك وقع في ثلاثة أرباع سكّانها من أبناء الريف الذين كانوا من أنصار الكفاح المسلح»(1)، فالأرض التي صوِّرت على أنها مصدر اقتصادي وفقط، ستبعث بروحها الصلبة إلى قلب الفلاح «وستصبح القضية هي قضية استرداد الأراضي من الأجانب، هي قضية كفاح وطني هي

قضية ثورة مسلحة، الأمر بسيط وواضح»(2).

حول موقف فانون من الأحزاب السياسية، يمكننا أن نؤكد على أن غرضه كان إقامة الضديّة بين المستعمِر والمستعمَر، وتهجّمُه على البرجوازية الوطنية لم يكن لذاتها، وإنما نقدا لممارساتها السياسية والانتخابية التي ترى في الريفي (صوتا) وليس إنسانا يطلب حريته وأرضه. ونقده منصّب حول هذه النظرة التي لا تختلف عن نظرة المستوطنين يشرح ذلك فيقول:«إن الأكثرية في الأحزاب الوطنية تشعر اتجاه الجماهير الريفية بحذر كبير، وارتياب شديد وما يلبث أعضاء أحزاب الحركة الوطنية من عمّال المدن والمثقفين أن يصبح رأيهم في سكان الأرياف كرأي المستوطنين» (3). واصفين إياهم باللاّعقلانية السياسية أو القصور في الرؤية القوميّة، وبعد اندلاع الثورة «فإن صمت المدن يولد في نفس الفلاح شعوراً مُراً بأن قسماً بكامله من الأمّة يكتفي بمشاهدة المعركة ولا يزيد على عد الضربات»(4).

مهما يكن من أمر ، هناك مواقف تعتبر فانون منظّر الثورة الجزائرية بعد التحاقه بجيش التحرير، وفي هذا الصدد لا يكف الأكاديميون عن طرح السؤال: هل خدمت الثورة التحريرية نظريّة فانون أم هو نظَّر لها؟ يجيب أحد أصدقاء فانون: «إن عنصر

ص: 288


1- لشرف، المرجع نفسه ص 36
2- المرجع نفسه، ص 95
3- المرجع نفسه، ص 75
4- المرجع نفسه، ص 110.

الريف والفلاحين والقيمة التي أعطيت لهما في الثورة الجزائرية كانت موجودة في الجزائر منذ اندلاع الثورة، بل وحتى قبل نوفمبر 1954 والثورة الجزائرية تطورت بالريف وتمركزت بالريف حتى قبل أن يلتحق بها ،فانون، وقبل أن يعرفها بل أن 10 نوفمبر 1954 نفسه كان إلى حد ما نتيجة لانتصار المفهوم المنادي بالاعتماد على الريف في الثورة ضد الدعوة الأخرى التي ترى أن أيّ تغيير سياسي لا يمكن أن يتم إلا عبر المدن إذن فالتأثير الحاسم في هذا المجال كان من الثورة الجزائرية في اتجاه فانون وليس العكس»(1)

ويبرز سؤال آخر: ما الفرق بين ما قدَّمته الماركسية الثورية وفانون؟ فالواضح أن هذه الأفكار الثورية كانت تشكل فلسفة الحركات التحرّرية آنذاك، زد على ذلك ففي المؤتمر الثاني للأمميّة الشيوعية وتحت «مسودّة أوليّة لموضوعات في المسألة القوميّة ومسألة المستعمرات (1920)» دعوة للفلاحين إلى التمرّد ضد أشكال الإقطاعية، دعوة صريحة إلى :«السعي لإعطاء حركة الفلاحين طابعا ثوريا ما أمكن مع تحقيق تحالف ما أمكن بين البروليتاريا الشيوعية في أوروبا الغربية وحركة الفلاحين الثورية في الشرق في المستعمرات والبلدان المتأخرة بوجه عام»(2). نؤكد حول هذه النقطة أن فانون تجاوز الشّعار اللينيني والتقسيم الطبقي للجماهير،«فهنا، ومن خلال إعادة بناء ديناميكيّة ،الطبقة، يقوم فانون بتنقيح جوهري لتصنيف ماركس، وتحويل الصراع الطبقي إلى الانقسامات التي هي بين المستعمِر والمستعمَر، على الرغم من أن مشابهة طبقة المستعمِر والمستعمَر وجدت كحالة مماثلة تم تعميمها، بعد التمييز الذي قدمه سلطان غالیف Sultan Galiev بين الأمة الرأسمالية والأمة البروليتارية، غير أن نموذج فانون يبقى قبل كل شيء ملائماً للمجتمعات المستوطنة»(3).

ص: 289


1- محمد الميلي، فرانز فانون والثورة الجزائرية الجزائر : دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 2010 ص 53.
2- لينين عن التحرر الوطني والاجتماعي. ترجمة: الياس شاهين (موسكو، دار التقدم (1976) ص 295
3- Robert J.C Young, Ibid..m279.
ثانياً: فانون versus بورديو وحربي

أمام هذا التباين في طبيعة المسار الثوري الذي كان يجب أن تسلكه الجزائر نحو الاستقلال، نلجأ إلى عقد محاورة افتراضية بين حربي وفانون بالرجوع إلى ما كتبه كل واحد منهما، فهما يحملان طرحان مختلفان للثورة. فالأول يركز على دور الفئات الاجتماعية في المدينة (نخب سياسية وحركات عماليّة ونقابيّة) وعلى عملها السياسي والنقابي والتي كان بمقدورها تحقيق الاستقلال بطرق سلمية دون اللجوء إلى العنف والثورة، تماما كما حصل مع السنيغال في استقلالها عن فرنسا بقيادة الشاعر والنقابي ليوبولد سنغور ، بينما يركز فانون على حتميّة الكفاح والثورة من أجل انتزاع الاستقلال والحريّة والتي أبطالها طبقة الفلاحين.

حربي:«بالنسبة لمن عايش التجربة الوطنية الجزائرية يمكن تلمس بذور أفكار فانون بأشخاص التقوا به، ويتعلق الأمرب«عمر أو صديق» الذي مهّد له معرفة تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية وساهم معه في تشكيل برنامج المجلس الوطني للثورة عام 1959، وعليه فيجب أن نفهم أو صديق لكي نعرف ما اقتبس منه فانون»(1). ولكن ما ميزة الأفكار التي كان يحملها أو صديق ليترك كل ذلك الصدى في نفس فانون؟ طرح حربي:«فإنه كان يخلط عناصر التقاليد الريفيّة وعناصر النزعة الوطنية والثورية، ففي عام 1949 كان من بين أولئك الذين اتهموا قيادات حزب الشعب الجزائري بالجزائر العاصمة بأنهم مجرد مؤيدين للاستراتيجيات الانتخابية، وأوضح أن المناطق الريفية هي مستقبل البلاد، في الواقع فإنّ تاريخ الريفيين كمستقبل للبلاد ساهم في تشكيل تصور ، تماما كما نجده لدى عالم الاجتماع المؤرخ ابن خلدون»(2).

لا يمكن الذهاب بعيدا مع هذا الطرح لسببين في اعتقادي :

1. أن تجربة فانون النظريّة حول دور الفلاحين لا يمكن أن تُختزل في موقف

ص: 290


1- Sonia Dayan- Herzbrun (dir), Vers une pensée politique postcoloniale à partir de Frantz Fanon. (Paris: Editions Kimé, Tumultes (Cahiers du Centre de Sociologie des Pratiques et des Représentations Politiques), numéro 31, octobre, 2008) p 11.
2- Herzbrun, Op.cit. p 12.

عمر أو صديق، لقد عايش فانون الواقع الجزائري وتعرف عن كثب على الصراعات السياسية التي كانت تدور بالجزائر منذ اشتغاله كطبيب نفسي في البليدة في ديسمبر 1953 ، بل إنه اختزن آلام الفرد الجزائري من خلال تطبيقاته الميدانية، التي ستساهم فيما سيكتب لاحقا في (معذبو الأرض). فالكتاب لم يكن إطارا نظريا إلا بعد أن تعرف على الأدوار البطولية للريفيين ودور (العنف) كاختيار سياسي لتحرير الأرض، بعدما خيب الشيوعيون الفرنسيون أمله يقول الميلي حول هذه النقطة :«ومما ساعد على تداخل وغموض هذه النقطة بالنسبة للباحثين الغربيين أن هنالك عنصرا بارزا من عناصر التعاطف بين فكر فانون وبين فكر الثورة الجزائرية يتمثل في الفلاحين والريف، فالكتّاب السياسيين الزنوج الذين أعجب بهم فانون في المرحلة الأولى لتكوينه الفكري مثل ايمي ،سيزار كانوا قد استداروا نحو الفلاحين ونحو الريف بحثا عن قيم يمجدونها، ولو كانت قيما فلكلورية، حتى يعتزوا بها في وجه الثقافة الغربية وتياراتها الكاسحة التي تريد تذويب كل شيء في ثناياها»(1).

2. إن فانون قد فوجئ بالثورة، وتأكد له دور الريف لاحقا من خلال مساره الذي كان جزءا منه «ومما لاشك فيه أن احتكاك فانون قبل نوفمبر 1954 ببعض الأوساط الأوروبية من جهة وببعض أوساط النخبة الجزائرية من جهة أخرى، لم يساعد على إعداده لتقبّل هذه الثورة من أول يوم»(2).

حربي: «الكفاح المسلح أحدث اضطرابا في الشروط المألوفة للوجود، ورمى بالأفراد في زمن مقلق، وأظهر الفتن التي ستصيب المجتمع في أعماقه. ولكن، وبواسطته، لم يستطع أن ينتج أشكالا جديدة للحياة»(3).

ص: 291


1- محمد الميلي، المرجع نفسه، ص 25.
2- المرجع نفسه، ص 78.
3- Mohammed Harbi, 1954, la guerre commence en Algérie (Alger: Editions Barzakh, Décembre 2009) p 167.

فانون: «إن محو (إزالة) الاستعمار، وهو حدث عنيف دائما لا يمكن أن يّعبر عبوراً دون أن يلاحظه أحد، لأنه يتناول الوجود، لأنه يغيِّر الوجود تغييراً أساسياً، لأن أناسا مشاهدين يسحقهم، إنهم ليس لهم ماهيّة ، يأتي محو الاستعمار هذا فيحيلهم أناسا فعّالين ممتازين يدخلون تيار التاريخ دخولاً رائعاً»(1).

حربي: «فكرة الثورة بالريف تعطي الأولويّة للتحليل السياسي، وتهمل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم فهي غير قادرة أن تأخذ في الحسبان تناقضات القومية الجزائرية وتعقد مسارها»(2).

فانون:«إن عقيدة طبقة الفلاحين عقيدة بسيطة : اجعلوا الأمة موجودة ليس ثمة برنامج ولا خطب ولا قرارات ولا اتجاهات. المشكلة واضحة يجب أن يرحل الأجانب»(3).

حربي:«عزل الاستعمار الفرنسي الثورة الجزائرية عن قاعدتها الاجتماعية في الريف، بحصاره حوالي مليوني ريفي داخل المحتشدات»(4).

فانون:«لكن الفلاح الذي يبقى في مكانه يحمي تقاليده في عناد وإصرار، وهو في المجتمع المستعمَر يمثّل العنصر الانضباطي الذي يظل بناءُه الاجتماعي قائما على التواصل بين أفراد الجماعة وعلى ارتباط بعضها ببعض ارتباطا قويا»(5).

حربي:«كان لجبهة التحرير الوطني صعوبات في الاتصال بالريفيين»(6).

فانون: لكن العفويّة هي المسيطرة في هذه المرحلة والمجابهة مجابهة محلية، ففي كل المناطق تنشأ حكومة تستلزم زمام الأمور، ونرى سلطة وطنية في الوديان

ص: 292


1- فانون، المرجع نفسه، ص 20.
2- Harbi, Ibid., p 167.
3- المرجع نفسه، ص 97.
4- Harbi, Ibid., p 13.
5- فانون المرجع نفسه، ص ص .78.77
6- Herzbrun, Ibid., p 13.

والغابات في الأدغال والقرى، إن كل فرد يثبت بنضاله وجود الأمة، ويعمل على أن يكفل لها النصر في المنطقة التي هو فيها (1)»

حربي:«لقد نظمت جبهة التحرير الوطني الفئات الاجتماعية في المدن من خلال إنشاءها العديد من التنظيمات لكن فئتين لم تعرف ذلك الريفيون والنساء»(2).

فانون الفلاحون يندفعون في الثورة بحماسة عظيمة خاصة وأنهم لحظة عن الثبات على طراز من الحياة يعادي الاستعمار بطبيعته... إن أنفة الفلاح وإحجامه عن النزول إلى المدن واشمئزازه من مقاربة العالم الذي بناه الأجنبي»(3). أضف إلى ذلك :«أن الفلاحين الذين ينضجون معارفهم من اتصالهم بالتجربة، يبرهنون أنهم قادرون هم أيضا قيادة الكفاح الشعبي، فالمؤسسات التقليدية تقوى وتعمّق، حتى أنّها قد تتبدّل تبدّلاً حقيقياً:«مجالس الجماعة» التي تفض في الخلافات وتفصل في المنازعات، ومجالس القرى تستحيل إلى مجالس ثورية ولجان سياسية فيظهر في كل جماعة من جماعات المقاتلين وفي كل قرية رجال يتولّون التوجيه السياسي»(4). ويمتد دورهم في تحمّلهم سياسات النخب في المدن، بحيث في بعض الأحيان يحمّل الفلاحون العبء على المدينة حين تتناول حملة القمع البوليسي الحزب الوطني»(5).

حربي:«الخطاب الجدلي حول أن الريفيين كانوا الجبهة الأمامية للحرب يراد منه مصالح سلطوية أكثر مما هو معطى اجتماعي وتاريخي»(6).

فانون:«إن بعض المثقّفين قد قاموا، أثناء فترة الاستعمار بحوار مع برجوازية البلاد الاستعمارية، لقد كان الاستعماريون لا يرون أهل البلاد المستعمَرة إلا كتلة غير متميزة»(7).

ص: 293


1- فانون، المرجع نفسه، ص 98.
2- Harbi, Ibid., p 14.
3- فانون، المرجع نفسه، ص 105
4- المرجع نفسه، ص 110
5- المرجع نفسه، ص 84.
6- Sonia Dayan- Herzbrun (dir), Ibid., p 15.
7- قانون المرجع نفسه، ص 10

لقد شكل الريف الجزائري دعامة للثورة ولأدوار المجاهدين العسكرية والقيادية وهذا ما فصل فيه ميثاق الجزائر 1964 بعد ظهور بوادر الصراع السياسي بين نخبة الاستقلال حول دور المدينة أم الريف، حول أولوية السياسة أم الثورة في التغيير، جاء فيه«مُغفِلِين دور العنف، ويدعون إلى تقديم تنازلات بأي ثمن في تصرفاتهم بأن بذل جهد أكبر في الحرب يقوّض سبل التوصل إلى حل وسط، فإن مؤيدي السياسة المحضة لم يتمكنوا من استيعاب أن قيادة الثورة ليست قضية عسكرية بحتة، بل تمثل قضية سياسية وضعتها برامج ووجهات نظر»(1). وربما هي إجابة مقنعة عن التساؤل الذي أوردناه سابقا على لسان بارينجتون مور.

غير أنه لا يمكن إنكار أن الثورة تدين فى الكثير من إنجازاتها إلى تلك البطولات الفكرية النخبوية، بإنتاجها الصحفي ومقالاتها السياسية.وإلى«السياسة» كبعد ثوري، ولتلك الأعداد من القاعدة المهمّشة داخل الأحزاب الوطنية، إلى«ذلك المناضل الوطني الذي يقرر أن يهجر لعبة التخفّي التي كان يلعبها مع الشرطة، وأن يربط مصيره بمصير جماهير الفلاّحين الذين يغطونه كمعطف»(2). فالثورة «ألغت الحدود الجغرافية بين الريف والمدينة، وانهارت الحواجز الجمركية بينهما، وبذلك فقدت الجغرافيا خاصيتها المادية الطوبوغرافية الهندسيّة، لتأخذ بعداً وطنياً شمولياً»(3). إن الثورة هي ثورة الشعب والأدوار هي كل المساهمات لأولئك الذين لم نعرفهم في الكتب، ولو أنه يتم بطريقة أو بأخرى تركيز الضوء على الشخصيات، فتاريخ الثورة ليس تاريخ الرموز بل هو تاريخ الحركات الاجتماعية التي دعمتها، كما أن محاكمة ذلك الشخص أو ذاك لا تنتقص من نضالات حركته.

إن تجربة جبهة التحرير يمكن أن تلخّص في هذه العبارات من فلسفة الثورة عند

ص: 294


1- Front De Libération Nationale, La Charte d'Alger: Ensembles des textes adoptés par le 1er congre du parti du FLN du 16 au 21 avril 1964 (Commission Centrale D'orientation). Imprimée Sur Les Presse Du Journal AN NASR/Constantine) p 23.
2- قانون المرجع نفسه، ص 92.
3- لعكايشي عزيز، الحضور والغياب لمتخيل الريف ومتخيل المدينة في الشعرية الجزائرية الحديثة»، مجلة العلوم الإنسانية، عدد 25 جوان ،(2006، ص 151

فخته الذي «جعل عبر الثورة،كل ثورة مشروعة. ليس هناك أي حالة مستقرة، ولا

أي عقد نهائي، فالفرد، كما الجماعة، لا يمكن أن يكون مستلبا، والذين خرجوا من الاتحاد القديم بإمكانهم إذا تشكيل اتحاد جديد وتقوية ارتباطهم عن طريق الانضمام الإرادي لعدد أكبر، ولهم الحق في ذلك بلا جدال وأخيرا إذا كان الاتحاد القديم لم يعد له منضوون إليه، وإذا كان الجميع قد تحوّلوا إراديا إلى اتحاد جديد، فإن الثورة بكاملها قد تمت بشكل مشروع»(1). وعليه :«فما هو ملحوظ حول موقف جبهة التحرير الوطني ،وفانون، هو أن يستند ذلك إلى اعتناق الفضائل وضرورة العنف، مع إشارة قليلة إلى أن المجتمع قد اتبع التحرير الذي يفضله»(2). وهذا شكل من أشكال التعبير الديمقراطي حسب وصف المجاهد والسياسي رضا مالك في مذكراته والذي كان موقفه أنه :«على عكس النخبة التي كانت تحاول تحقيق الاستقلال عن طريق الانتقال عبر المراحل، فإن الجماهير كانت جاهزة بشكل كلي، وآنية في حركتها، إن الوعي الثوري الجزائري هو تعبير قوي عن حركة الوعي السياسي لدى الجماهير»(3).

والسؤال المطروح عن دور الفلاح والريف عموما هو كيف استطاع الريف الجزائري المدمَّر والمحاصر سكّانه أن يشكّل الدعامة الرئيسية في التحرير؟ وهل انتفاضته يشكلها وعي سياسي قومي أم ردة فعل على وضع اقتصادي متناقض؟ الواقع أن هذين التساؤلين أنتجا تيارين فكريين متصارعين في تناول أدوار الريف، وقد أشرنا إليهما عبر مناظرة حربي وفانون. لكن العمل المتميز لصياد وبورديو حول الاجتثاث Deracinement (4)كرّس نزعة حداثية ومنظور اقتصاد مجالي في تعريف الريف الجزائري، ونظرية في التغيير الثقافي للمجتمعات التقليدية والريفية. ولا بأس بالإشارة إلى بعض نتائج هذا البحث لأن براديغم الاجتثاث بتعبير كولونا

ص: 295


1- جورج لابيكا، روبسبيير سياسة للفلسفة. ترجمة : منصور القاضي ( لبنان : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع دار ،مجد الطبعة الأولى (1994) ص 19.
2- Robert J.C Young, Op. cit. p 278.
3- Réda Malek, Guerre de libération et révolution démocratique: écrits d'hier et d'aujourd'hui (Alger: Edition Casbah 2010) p 111.
4- Pierre Bourdieu Et Abdelmalek Sayad, Le déracinement: la crise de l'agriculture traditionnel en Algérie (Paris: Editons De Minuit 1964).

سيُقدّم كثيرا كمصطلح وإجماع علمي حول الريف، وستبني عليه السياسة التنموية التحديثية فيما بعد، مثل إصلاحات الثورة الزراعية والقرى الاشتراكية، ورغبة الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث بفعل التحديث كل هذه السياسات ستؤثر على الريفيين، فالسياسة وبفعل هذه الأطروحة، ستدخل التاريخ والزمن لتعريف المجتمع الريفي سواء عبر النظر إلى دوره الثوري، أو بادعائها تدارك التأخير الذي هو فيه»(1). وستنخرط النخب السياسية في تحديث المجتمع رغما عنه»، كما أن البراديغم سيفسر لاحقا تدخل الدولة لإعادة هيكلة الريف.

يقوم البحث الميداني الذي أعده عبد المالك صياد، وبيير بورديو في العديد من المناطق (القالة ،كركرة ، عين ،أغبال القبائل مطماطة الجبابرة) «على الدراسة المونوغرافية للوحدات الاجتماعية المختارة بطريقة منهجية، ساعياً إلى معرفة نتائج سياسة التجميع عبر مختلف الظروف، ومعرفتها من خلال تحليل الثوابت، والكشف عن منطق هذا التطور المتسارع والذي قاد في سنوات قليلة المجتمع الريفي وبشكل نهائي إلى قطيعة مع ماضيه»(2). والدراسة مساهمة في الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاقتصاد الريفي، تبرز كيف تغيرّت سمات الحياة الاجتماعية التقليدية بفعل تجميع السكان في مراكز مراقبة عسكريا بعد ترحيلهم و»اعتبر ترحيل السكان هذا الأكبر وحشيّة الذي عرفه التاريخ»(3)، وتَمَّ في ظل «زوبعة من النزوح الفوضوي يحددها العمل القمعي»(4)، وظهرت بفعله عادات جديدة، فانقسمت العائلة، وتراجعت المزايا الرمزية لملاك الأراضي الكبار وللشيوخ وتغيرت الهرميّة التقليدية، وتمّ التخلي عن زراعة الأرض، «فالزراعة لم تنتزع عنها القدسيّة وفقط، ولكن تراجعت قيمتها كذلك»(5)، وظهر تقسيم جديد للعمل، أغلب ما يميزه ظهور الأجور والتعاملات النقدية. فلم يعد يعني العمل الزراعي مهنة وشرف ولكن أصبح يمثل أجرا»،

ص: 296


1- Colonna, op.cit, pp 68- 75.
2- Bourdieu Et Sayad, Ibid., p 46.
3- Ibid., p 13.
4- Ibid., P 12.
5- Ibid., P 95.

و«بالموازاة، يتجه نحو التطور نوع جديد من التضامن ليس مبني على القرابة، ولكن شبيه بمثل الذي في الأحياء الفقيرة الحضريّة» (1)فهؤلاء «الحضريّون بلا مدينة» (2)سيتطبعون بسلوك فرداني - اقتصادي حضري، باعتبار أن مراكز التجميع همزة وصل بین المدينة والريف. «فالاتصال مع عالم ،مختلف يمثل في هذه الحالة تقليداً عفوياً استثنائياً»(3). وسيلجأ الفلاح بعد أن فقد كل شيء العمل في مزارع المستوطن ذات المكننة الحديثة، في ظل ثنائية اقتصادية تقليدية وحديثة. ويدخل في تناقضات نفسية، يجسدها الاستعداد «الهابتوس Habitus)»(4) الذي هو : «هيئة عامة ودائمة أمام العالم والغير والفلاح يمكنه أن يظلّ فلاحاً، حتى ولم يعد له القدرة على التصرف كفلاح»(5).

هناك ضرورة منهجية يفرضها هذا العرض وهي توضيح كيف أن «الاجتثاث» سيصبح تقليداً أكاديمياً للتقليل من الأدوار السياسيّة والاستراتيجية للريف إبان الفترة الثانية من سير الحرب باعتبار أن سكانه كانوا محاصرين، أو أن التثاقف الذي سيحصل مع أهل المدن سيمكّنهم من إدراك وعي قومي سياسي. فالمؤرخ الفرنسي بنيامين سطورا يعتبر أن النضال السياسي للفلاحين داخل الحركة الوطنية كان ضعيفاً، وأن «معظم الكوادر الوطنية هم مُجتثين (مُستأصَلين) بعد قطعم مع بيئتهم الأصلية، ويؤدي اندماجهم الاجتماعي غالباً ليصبحوا «ثوَّاراً محترفين»، فالحركة كانت تضم عدداً محدوداً من الفلاحين والمثقفين والذين كانوا بعيدين عن العمل السياسي والتحقوا به في فترة متأخرة»(6). ويمثل قاموسه البيوغرافي لحوالي 800 شخص

ص: 297


1- Ibid., p 134.
2- Ibid., p 117.
3- Ibid., p 123
4- سيشكل الاستعداد الهابتوس Habitus) الصيغة النظرية البورديوية في الفعل الاجتماعي التي صاغها بعد بحوثه بمنطقة القبائل وهو نسق الاستعدادات التي ينشأ عليها الفرد ويكتسبها وهي تتعلق بأربعة مستويات العرفاني والخلقي، وهيئة الجسد والجمالي وهي عموما استعدادات تشتغل وفق أواليات معقدة داخلية تكون حدود النسق وتشكله أي انشاءه الذاتي في استقلالية عن محيطه وتخرج للناس ممارسات تعبر عن الهوة الاجتماعية لصاحبها». بيير بورديو وجون كلود باسرون إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم. ترجمة ماهر تريمش (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية (2007) ص 387
5- Bourdieu et Sayad, Ibid., p 102.
6- Benjamine Stora, "Faiblesse paysanne du mouvement nationaliste algérien avant 1954), Vingtième Siècle: Revue d'Histoire, No. 12 (Oct-Dec, 1986) p 59.

مناضل تدعيما لهذا المنطلق(1). وبعد أن تنخرط الدولة المابعد كولونيالية في تحقيق سيوظف براديغم الاجتثاث منطلقا لتطوير هاته المجتمعات، ظنا منها أن

التجميع يمثل صيغة تثاقفية وتحديثية فبورديو يعتبر في المقام الأول، أن تدخل السلطات (يقصد الاستعمارية) هو العمل البسيط لوصل المجموعات المختلفة. فتاريخها الحديث ودرجة تثاقفها تحددان مدى سرعة عملية التغيير الثقافي. لقد استند عمل المسؤولين على عزيمة صريحة أو ضمنية على «تطوير» الشعب الجزائري نحو بنيات ومواقف اجتماعية من الطراز الغربي»(2). وأن مَرْكَزَة السكان «ستبني نوعاً جديداً من التضامن المبني على الجوار، ووحدة الشروط الوجودية»(3).

ويمكن إبداء بعض الملاحظات على هذه الطروحات منها: أن الريف الجزائري التقليدي كان في أزمة حتى قبل هذه المحتشدات وزادت هذه الأخيرة مضاعفتها. لقد«أدّى التجميع في كثير من الأحيان إلى سياسة الأرض المحروقة والمناطق المحرّمة»، وكان هناك إخلاء ممنهج للأقاليم المتاخمة للحدود الشرقية والغربية بالجزائر، وتدفّق اللاجئون إلى المستوطنات المجاورة، ووضعوا في مراكز تجميع جديدة التي أنشأت من قبل الجيش بناءا على استراتيجية عسكرية وليس معايير اجتماعية واقتصادية، ففي بداية 1957 ظهرت سياسة منظمة ذات مبادئ توجيهية رسمية تقترح أن تلك المواقع التي اختيرت بشكل سيء ستصبح مؤقتة، وأن تلك المموضعة جيدا ستصبح مناطق ريفية أو مناطق حضرية فرعية، وستحصل على بعض المال والتخطيط. ففي نوفمبر 1959 كان هناك جهد مدني متأخر لتحويل السياسة العسكرية إلى استراتيجية للتنمية ولكن إلى ذلك الحين فإن الضرر الاقتصادي على الريف الجزائري كان بالفعل قد تم»(4). بالإضافة إلى أن الريف لم يكن محاصراً

ص: 298


1- Benjamine Stora, Dictionnaire biographique de militantes algériens 1926, 1954 (Paris: Editions l'Harmattan, 1985).
2- Bourdieu et sayad, Ibid., p 118.
3- Ibid., p 119.
4- Keith Sutton, "The influence of military policy on Algerian rural settlement", Geographical Review, American Geographical Society, Vol. 71, No. 4 (Oct., 1981), p 38.

كله، وإنما ثلث سكانه(1)، أغلبيتهم شيوخ ونساء. وبخصوص التحديث فالعديد من المراكز (قدرت مراكز التجميع حسب كورناتو 2300 مركز) كانت غير مؤهلة ولائقة، والتركيز على دعم بعض المراكز فقط كي تكون موضوعا لممارسة الدعاية لدعم أنشطة فرنسا بالجزائر(2).

والحقيقة أن المحتشدات لم تولِّد سوى بؤساً وتشاؤماً كبيراً:«فمع تزايد الحرب تدريجياً، كثرت المناطق المحرومة. وبدت معدلات جماهير السكان المحوَّلة مقلقة، ففي المساء آلاف الناس يتجولون على الطريق، ويتجمعون في النهاية في مآوي يرثى لها لقضاء الليل. هذا التشرد المعمّم سيخلق مشكلة للجيش الذي فقد السيطرة على السكان، وسيشكل عبئا من عدة نواح : أولا تكتيكياً على الأرض، كما سيعطي صورة سيئة عن الجيش الفرنسي في الساحة الدولية»(3)، وهذا ما تنبّهت إليه جبهة التحرير فاستعملت الوضع في دعاية مضادة، حيث«قدَّم القوميون برنامج التجميع كسلاح دعاية قوي ضد الفرنسيين، إن البؤس والمرارة التي أحدثها ولّدت أرضا خصبة لانتشار الأفكار القومية، لكن ما هو أهم بكثير هو أن القوميين كانوا قادرين على تركيز الاهتمام الدولي حول هذه المسالة الجزائرية من خلال إظهار أن هذه المراكز قلّدتها فرنسا من معسكرات الاعتقال النازية، فالتجميع بالمقابل ساعد جبهة التحرير الوطني لتحويل الهزيمة العسكرية إلى نصر سياسي وعسكري، ولسوء الحظ، ممكن أن يكون هذا أقل عزاء لتلك المجتمعات التقليديّة التي دمر وجودها وأسلوب حياتها بفعل المحتشدات»(4).

ص: 299


1- يشير ميشال كارنتو إلى السرية وتضارب المعطيات الذي اكتنفها إحصاء سكان المحتشدات: ففي 1960 أحصى مركز الإحصاء العام ،2157000 ، وإحصاء رسمي للمفتشية العامة للتجمعات السكانية (IGRP) ب 1958302. لعرض مفصل عن سياسة التجميع في الفترة الكولونيالية وما بعدها، أنظر Michel Cornaton, Les camps de regroupement de la guerre d'Algérie (Paris: L'Harmattan. 1998).
2- Keith Sutton and Richard I. Lawless, "Population regrouping in Algeria: traumatic change and the rural settlement pattern", Transactions of the Institute of British Geographers, New Series, Vol. 3, No. 3, Settlement and Conflict in the Mediterranean World (1978), p 333.
3- Dmoh Bacha, Palestro Lakhdaria: réflexions sur des souvenirs d'enfance pendant la guerre d'Algérie (Paris: Editions L'Harmattan (collection Gravure De Mémoire), juin 2011) p 152.
4- Keith, Ibid., p 334.

يقدم الاجتثاث قراءتين حول التغيير السوسيو - اقتصادي، الأولى: «استئصال» الريفيين من بيئتهم ما يسبِّب أموراً كارثيةً، والثانية : دور عملية «التأصيل» في بيئة جديدة في التثاقف والتمدين وكيف «يشجع على تطورات مثل التي في الأحياء الحضرية» (1) مستعملاً في ذلك الأدوات الماركسية كالتي تتعلق بصيغة النقود التي يفرضها النظام الرأسمالي، مع الوفاء لمنهجية دوركايمية لشرح الديناميكات الداخلية لمجتمع قبائلي مغلق عبر الكشف عن الممارسات المكانية - الزمانية للمارسات الفردية، ودور التمازج الثقافي (métissage culturel ) في التغيير بحيث «أن أصل «تَغير الأزمة» هو خارجي عن الهابيتوس، وفي الحالة القبائلية يأتي من الحداثة الأوروبية»(2). لقد أشارت العديد من نظريات الثقافة إلى التثاقف، لكن ذلك يتم في الحالات العاديّة كالتطوّر، وليس في حالة الاستعمار. فالفلاح المنتمي للقبائل التي أرهقت العدو يعي أنه حوصر كاستراتيجية من هذا الأخير للتهدئة، وعلى مستوى الثقافة «فالسمة الثقافية تقبل، مهما كان شكلها ومهما كانت وظيفتها، قبولا أفضل وتدمج إذا تمكنت من اكتساب دلالة متوافقة مع الثقافة المتقبِّلة. نجد في هذا الصدد، فكرة إعادة التأويل العزيزة على هر سكوفيتس»(3)، فالواضح أن عدم الاستقرار يعني وقتية الأحداث وصعوبة انغراس العادات الجديدة في النفسية الفردية بشكل كلّي، بالرغم من أن التغيير في السلوكيات والممارسات المجتمعيّة لدى الأفراد يستوجب تعديل وملائمة بعض الاتجاهات لتنسجم مع الوضع الراهن المتبدّل. إن سياسة التفكيك النفسي الثقافي لا يمكن أن يعبّر عنها كمهمّة منجزة» بالكامل، وأنه تم بالفعل تهديم التمثلات التقليدية الماضية، فالحاصل عموما أن بعض الاختيارات الثقافية منها ما هو طوعي ناتج عن الوعي الجديد، وأخرى مجبر عليها الأشخاص تحدث

ص: 300


1- Bourdieu Et Sayad, Op. cit. p 153.
2- Paul A Silverstein, «De benracinement et du déracinement », Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 150, (décembre 2003), p 29.
3- دنیس کوش مفهوم الثقافة. ص 97.

تحت إرغام الضروري مع وجود رفض نفسي داخلي للكبار لثقافة (العيب)(1) المتفشية بين الشباب والتي تتم بعنوان الاندماج والانفتاح.

إن الاجتثاث عمليّة عرفتها العديد من المجتمعات ولم يؤدي سوى إلى الهدم حتى في فرنسا نفسها، تقول مثلا إحدى مفكريها:«لقد كان اجتثاث الفلاح في السنوات الأخيرة خطرا قاتلا للبلاد مثله مثل اجتثاث طبقة العمال، ومن بين الأعراض الخطيرة التي كانت في السبع أو الثماني سنوات، هي إخلاء الأرياف،متبوع ذلك بأزمة بطالة حادة»(2). سنجد أن الريف الجزائري قد وُضع بعد الاستقلال أمام براديغميين متصارعين : الأول يجسده فانون متفائل بالريف وبالفلاح ويؤكد على أصالته، والثاني يقدمه بورديو المتشائم من وضعية «الفلاحين المتشائمين»(3).

ص: 301


1- في الورقة الأصلية لنتائج البحث يعبر بورديو عن مفهوم الثقافة بمستواها البسيط وتتمثل في الأنشطة العادية اليومية التي تجسدها شخصية الوضعية. فتظهر عادات جديدة في المحتشدات، خصوصا لدى التردد على المقهى لعب النرد عمل المرأة ... الخ ويفسرانها على أساس رغبة في التخلي عن عبء التقليدية. هذه الممارسات الجديدة تثير استهجان الكبار الذين انتقصت هيبتهم ورمزيتهم وهم يعتبرون أن هذه الممارسات الجديدة تشكل عيبا إذا ما قزرنت بثقافة القبيلة. صاغ الباحثان هذه النتائج نظريا في كتاب ( الاجتثاث) مع اختصار العديد من الملاحظات أو تعديلها. انظر مقالة الباحثان: تلك Pierre Bourdieu And Abdelmalek Sayad, Paysans déracinés: bouleversement morphologiques et changements culturels en algérie », Études Rurales (EHESS), No. 12 (Jan. - Mar., 1964), pp. 56-94.
2- Simone Weil, L'enracinement: prélude à une déclaration des devoirs envers l'être humain, (Paris: Les Éditions Gallimard, 1949) p 60.
3- Deborah Reed-Danahay, ""Tristes paysans": Bourdieu's early ethnography in Béarn and Kabyli", Anthropological Quarterly, Vol. 77, No. 1 (Winter, 2004), p101.
خاتمة

على الرغم من تأكيد بورديو على الحرية الفردية داخل هذا الفضاء فإنه يهمل أن الفعل الفردي بحد ذاته كان تحت الإكراه والانصياع لقواعد المحتشَد أو «السجن الكبير» وأن هذا المكان المحدود في مساحته هو عالم مصطنع بفعل السياسة الاستعمارية العسكرية وليس عالماً طبيعياً. يقودنا ذلك إلى فهم العديد من الأوضاع التي تصادف علاقة المستعمِر بالمستعمَر ويُبرز الاستراتيجيات الحقيقية الكامنة في سياسات تحويل المكان يمكن أن نشير في هذا الصدد إلى قطاع غزة وباقي المدن الفلسطينية، فقد حوّل الكيان الإسرائيلي القطاع إلى محتشد مراقب، وبرزت نقاشات في الدوائر الإسرائيلية الأكاديمية والسياسية عن تحويل القطاع إلى سجن بمعنى الكلمة بما يعيق أيّة تنمية ويشكل للفلسطينيين فضاءً للتدمير الذاتي، أو على العكس يتم تنمية القطاع وتكثيف الخدمات فيه وإنشاء البنى التحتية بشكل قد يؤدي إلى خلق أجيال غير مقاومة حداثيّة وليبرالية، تعهد شروط الحياة الرغدة، وتحرص على الحفاظ عليها، ترفض المقاومة والعنف وهي سياسة اتّبعها ديغول مع الجزائريين، فعمد إلى بحث مشاريع البناءات الكبرى في المدن وفتح مناصب شغل للعاطلين عن العمل بهدف تشكيل فضاء لتعايش المعمّرين مع الأهالي. كما أن المحتشدات الاستعمارية هي استراتيجية عسكرية وليست مدنية بمعنى أنها تعمل على عزل الجماهير التي يتخوف من نشاطاتها الثورية.

إنه من بين أخطر أشكال الاستعمار هو الاستعمار الاستيطاني لأنه يجتث شعباً من أرضه ليمنحها لشعب (أو شعوب) لا يملك فيها الحق التاريخي والقانوني، وما دامت النيّة والأهداف مبنيّة على اغتصاب الأرض، لا يمكن بأي حال من الأحوال تسوية الوضع بالمفاوضات أو النضالات السياسيّة فقط، والتي تطول في مدّتها وتخلق حالة من التهدئة (pacification) وتتسبب في فقد المستعمَر المزيد من الأراضي، كما أن الشعب المعمّر لن يقبل لاحقاً إزالته من الأرض التي ربما بطول عمر المفاوضات وحالة التعايش والاستقرار سيمنح نفسه صفة الأصلي (ينطبق ذلك على

ص: 302

حالة الجزائر وفلسطين، فالمعمّرون الذين أمضوا سنوات في البلدين المستعمَرين إدّعوا لأنفسهم حقوقاً تاريخيةً وقانونيةً أكثر من الشعب الأصلي، بل اعتبروه درجة ثانية في المواطنة). أما بخصوص المراهنة على السياقات الدولية والقانون الدولي فهذا القانون الذي يصمت عن اغتصاب الأرض للوهلة الأولى ولا يدين أعمال المحتل، لا يمكن التعويل عليه مستقبلاً باتخاذ موقف شرعي ونزيه لإعادة الأرض لأهلها. من جهة أخرى، أثبتت الثورة الجزائرية أن العمل السياسي لوحده غير كاف لتحقيق الاستقلال، بل أن المقاومة والعنف الثوري كفيل بتحشيد الجماهير وإزالة الوضع الكولونيالي، وتنشئ هذه المقاومة لنفسها هيئة سياسية تعبّر عن مواقفها وصوتها، وتحدد موقعها ضمن السياسات الوطنية والعالمية، ووحدها بنية سياسية - عسكرية كما مثلت بنجاح جبهة التحرير الوطني كانت قادرة على تحقيق النصر المنشود وإقامة الدولة الجزائرية المستقلة

ص: 303

قابلية الاستعمار:قراءة مقارنة بين مالك بن نبي وابن خلدون

اشارة

قتیحة شفیری(1)

شكّل التصادم الحضاري بين المستعمَر والمستعمِر محور اهتمام المفكرين منذ عقود طويلة ومازال قائماً لحد الآن ليسعى هؤلاء إلى إماطة اللثام في كل مرة عن مكونات الثقافة الغالبة والمغلوب عليها، ومدى تغير هذه المكونات في ظل أنساق اجتماعية وثقافية تطرحها السيرورة الزمنية. وتتعدد هذه الدراسات بتعدد المنشغلين فيها ونذكر على وجه التحديد ما طرحه عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون والمفكر الجزائري مالك بن نبي وهما يُعّدان مصدر قوة العديد من الدول التي اختارت الإيم-ان بأفكارهما للخروج من دائرة التبعية والانقياد، وهما في ذلك أسبق من غيرهما في تأصيل سبل الحضارة وأسبابها.

وفقا لما سبق نقف عند إشكاليات أساسية في فكر هذين العالمَين منها : كيف هي

ص: 304


1- دكتورة قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة محمد بوقرة بومرداس - الجزائر.

صورة الغالب والمغلوب المستعمِر والمستعمَر ؟ وماهي تداعيات هذه الصورة؟ وما إمكانية تغييرها لبلوغ الحضارة وامتلاك ناصيتها؟

1- صورة الغالب والمغلوب المستعمِر والمستعمَر في فكر ابن خلدون ومالك بن نبي وتداعياتها:

أدرك المفكران أن شعور النفس البشرية بالنقص يدفعها لأن تبحث عن من يكمّلها، لتكون لاإرادياً منساقة له خاضعة لثقافته قابلة لها كليا، فتمنح للطرف الغالب بذلك صفة الكمال ليصبح الأنا القوي / الغالب / المركز وتمنح لنفسها في المقابل صورة الآخر الضعيف/ المغلوب/ الهامش هذا ما عرضه ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته «المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب والسبب في ذلك أنّ النفس أبداً تعتقد الكمال»(1)ويُؤكد مالك بن نبي ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون عن حقيقة النفس البشرية وطبيعتها المجبولة عليها، التي تمنح للطرف القوي استغلال هذا الضعف ونشر الطاقة السلبية فيها .

وتتولد من القوة والضَعف قوتان غير متساويتين هما المستعمَر والمستعمِر، فالغالب/ المستعمِر يسعى لنشر ثقافتين أولا الثقافة المادية من أكل ولباس وعمران «ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها» (2)، وثانيا الثقافة المعنوية المتمثلة في طريقة التفكير والنظر إلى الأمور والقضايا الحياتية المختلفة، أما المغلوب / المستعمَر فيؤسس وفقا لارتباطه بالطاقة السلبية ثقافة التساهل واللامبالاة بشأن هويته وركائزها الأساسية من دين ولغة وأرض.

كما تسمح هذه الطاقة السلبية بالتسليم المطلق بقوة الأنا وضَعف الآخر، لتغدو حسب المغلوب أمرا واقعا غير قابل للمناقشة، بل تدفع الطاقة السلبية هذه بالغالب لاستغلال الوضع وتنميط صورته المؤسسة على القوة والكمال والحضارة ليرفع بالمقابل صورة نمطية أخرى يتوارثها الآخر حاضرا ومستقبلا إنها صورة التخلف

ص: 305


1- عبد الرحمن بن خلدون المقدمة، دار الكتاب العربي، لبنان، ط2، 1998، ص 147
2- المصدر نفسه، ص .146

والتوحش واللاحضارة فسيطرة الأنا الغربي تحققت عندما جسدها في صورة الاستعمار الناهب لخيرات الآخر ،الطبيعية هذه السيطرة التي ستستمر مادام الآخر خاصة العربي المسلم يؤمن بعدم أحقيته في امتلاك هوية أصيلة، هذا ما تنبّه إليه مالك بن نبي ومن قبله ابن خلدون «فهذا الضَعف الذي أصاب الأمة الإسلامية على المستوى النفسي إنما هو ثمرة من ثمار الاستعمار ، غرسها في الشعوب ليحكم قبضته عليها، لأنه جيدا أن الهمم هي التي تُحطم المستحيل وتركب الصعاب» (1)، إنها رسالة الغالب واضحة المعالم.

وللتعبير عن هذا الاستسلام والتساهل وظف ابن خلدون مصطلح «اعتقاد كمال الغالب» يُقابله عند مالك بن نبي مصطلح «قابلية الاستعمار»، وكلا المصطلحَين قائم على أساس مهم وهو سرعة الفناء، والفناء عند المفكَرين معنوي لا مادي، فهو يدفع الشعوب المغلوبة إلى العيش ضمن حالة استعباد مستديمة ارتضتها لنفسها فاسحة بذلك المجال للغالب/ المستعمِر للسيطرة عليها لنكون أمام ظاهرة الانتحال الثقافي «غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب» (2)، إنه دخول الشعوب المغلوبة خندق الضياع الفكري.

إنّ الانقياد للغالب دون شروط ، يعني جعله من المسلمات التي لايجب تجاوزها أو التفكير فيها مطلقا والسبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملَكَ أمرها عليها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها»(3)، وهذا الاستعباد وفقا لما ذهب إليه مالك بن نبي يخدم سياسة المستعمِر خدمة جليلة «إن القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في نفوسنا من استعداد لخدمته» (4)وما يحدث لهذه الأمة المغلوبة في حالة انقيادها أنها سترتبط بالعجز الدائم وغياب المقاومة المستمرة، إنها إذن المذلة التي تجعل من هذه الأمة وشعبها حسب ابن

ص: 306


1- مالك بن نبي تأملات دار الفكر، سوريا، ط 2002، ص 33 ،
2- المقدمة، ص .146
3- المصدر نفسه، ص 147
4- مالك بن نبي شروط النهضة، تر عبد الصبور شاهين دار الفکر، سوريا، 1986، ص 157.

خلدون في حالة من الانكسار المتواصل «المذلة والانقياد كاسران لسَورة العصبية وشِدتها، فإن انقيادهم ومذّلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمُطالبة»(1)، لقد استشرف ابن خلدون خلال ما ذهب إليه واقع الشعوب المغلوبة ،اليوم، فالأنا الغالب فرض عليها ما يُسمى بالعولمة التي اعتبرها الدارسون القدر المحتوم أصبحت العولمة واقعاً لا مفر منه، وقدراً لا ملجأ منه في ظل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المعقدة التي تنتظم العالم والمصالح المتقاطعة التي تؤلف بين حضارات العالم ذات الأصول المتباينة»(2)

كما أنّ تجميد التفكير في التواصل مع الحضارة وأسبابها، يدفع هذه الشعوب المغلوبة/ المستعمَرة بأن لا تفكر في تجاوز حالة التخلف الحضاري التي أُقحمت فيها عنوة، لتذعن لها راضية قنوعة ، بل وتسعى جاهدة للإيمان بها وجعلها قدرا لا مفر منه، وقد وضّح ذلك ابن خلدون في قوله «فيقصر الأمل ويضعُف التناسل والاعتمار، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغَلْب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم»(3)، وهذه المكاسب الحضارية الضائعة أكدها مالك بن نبي حين وقف بدوره على صور التخلف الحضاري المتعددة فهي اتهام الشعوب المغلوبة المستعمَرة بالبدائية وعدم التحضر.

لقد غرس الغالب/ المستعمِر البدائية وعدم التحضر غرساً عند استعمار هذه الشعوب المغلوبة «يريد الاستعمار أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ، ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح حتى نكون قطيعاً محتقراً يسلم نفسه للأوساخ والمخازي»(4)بل وسعى هذا الأنا القوي إلى استمرار فرض ثقافته بكل صورها المتعددة مع استقلال

ص: 307


1- المقدمة، ص 140.
2- محمد بشير محمد البشير، حفظ الثقافة الإسلامية ونشرها في ظل العولمة رؤية تأصيلية في ضوء الكتاب والسنة، مجلة دراسات دعوية، ع8، يوليو 2004، ص 4.
3- المقدمة، ص 147 .
4- شروط النهضة، ص 157.

الشعوب المغلوبة، وهذه حقيقة واقعية يؤكدها مالك بن نبي في مؤلفاته الكثيرة «إن الاستعمار لا يستطيع فعلاً أن يترك بلداً كان يستعمره ولا أن يُغادره هكذا وبكل بساطة، مُخلّياً وراءه المكان للاستقلال الجديد»(1) ، إنّ الوعي الكبير والمتواصل بدور الغالب/ المستعمِر دعا إليه المفكران معاً، لأن هذا يعني إدراك خطورة منظومته الثقافية التي يسعى إلى ضخها بصورة مستدامة، وهذا ما وقف عليه المفكر مالك بن نبي حين قال «إن الدول الصناعية تضخ بكل ما في الكلمة من معنى أدمغة العالم الثالث»(2) وتغليب ثقافة الأنا القوي أرضيتها كما أشار مفكرنا بن نبي العامل الاقتصادي، إنه العامل المساعد على تدجين الشعوب المغلوبة فترة استعمارها وفترة استقلالها ونحن نرى اليوم ما لتأثير هذا العامل في سياسات الدول المغلوبة، حيث تتدفق لعالم الأنا القوي - أوروبا وأميركا الشمالية - العقول المفكرة المبدعة التي لا تجد حسب مالك بن نبي مكانا لها في بلدها المغلوب لتعرفه بامتيازاته العديدة في بلد الغالب.

هي تساؤلات طرحها بن نبي ليكشف مرارة معاناة هؤلاء المفكرين المتواصلة حتى في زمننا الحاضر «سل هذا المهندس الزراعي (وهو في نظري أفضل من في فرعه) لماذا هو في الخارج ؟ وسلْ ذاك الطبيب الجزائري وهو متخصص بطب العيون من الدرجة الأولى، لماذا هو الآن رئيس عيادة في ألمانيا؟»(3)، إنها دعوة لإنزال العقول المفكرة منزلتها اللائقة، ورغبة في أن يتأسس سمو أخلاقي للنخبة الحاكمة لتضمن بذلك تحقيق التقدم والازدهار لشعوبها، إنه أيضا التوجيه الخلدوني الاستشرافي «واعلم أنّ من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون لهم شاهدة بالملك إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وإنزال الناس منازلهم»(4).

ولا يقتصر الأمر في تهميش العقول المفكرة المبدعة بل يتعدى الأمر تطبيق سياسة التجهيل بالهوية وأسسها، فتتخلى بذلك الشعوب المغلوبة كما قال ابن خلدون عن

ص: 308


1- مالك بن نبي، من أجل التغيير دار الفكر، سورياط9، 2015، ص 36.
2- المصدر نفسه، ص .65
3- المصدر نفسه، ص 41
4- المقدمة ص .143

العصبية التي تضمن لها القوة والاستمرارية وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية وأنها هي التي تكون بها المُدافعة والمقاومة والحماية والمُطالبة، وأنه من فقدها عن جميع عجز ذلك كله»(1)، وعند غياب العصبية للهوية وأسسها يعني القبول والاستسلام لما سماه مالك بن نبي بالتفرقة والتشتت هي تفرقة وتشتت مجتمع بأكمله وضياع فرد حاضرا ومستقبلا «وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شَيعاً وأحزاباً حتى يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية كما هم فاشلون في الناحية الاجتماعية»(2).

وما يمكن قراءته من وقوف المفكرَين على سياسة التجهيل المعتمدة هذه، أن /الغالب المستعمَر يسعى للتبئير على الفرد في المجتمعات المغلوبة/ المستعمرة، إنه تكوين فرد جاهل «لقد حلّ الاستعمار بالجزائر وفي البلاد الإسلامية فوجدها مهيأة لمشاريعه التخريبية، فعاث فيها فساداً وغرس داخلها مزيداً من الجهل والفقر والفساد الاجتماعي بكل أنواعه»(3)، ويظل وجود هذا الفرد الجاهل قائماً عندما يوضع في مناصب عالية ليضمن هذا الأنا القوي استمرار سلطته إلى مراحل زمنية لاحقة وعدم التوقف عند الزمن الآني وفي المقابل عدم ترك المجال واسعاً لأصحاب الهمم كما يقول مالك بن نبي خدمة لمصالح هذا الغالب والمستعمِر القوي.

والقراءة الأخرى لما قدمه المفكران عن سياسة التجهيل هذه، أن الغالب/ المستعمِر يسعى إلى تفكيك روح الجماعة التي عُرفت بها الشعوب المغلوبة - الشعوب الإسلامية خاصة ، هذه الروح التي كانت قرينتها عندما كانت تلك الأنا القوية الغالبة الفاتحة التي سعى الإسلام إلى تأسيسها وقولبتها ضمن الأنا الجماعية التي يتحد أفرادها في قوة واحدة مصداقا لقول رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا».

والتفات الأفراد على ذواتهم يؤسس كما يرى ذلك ابن خلدون حالة من ضَعف

ص: 309


1- المقدمة، ص 141.
2- شروط النهضة، ص 157
3- الأخضر ،قويدري لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر مجلة الكلمة، مندى الكلمة للدراسات والأبحاث ،لبنان ، ع 80 ، صيف 2013، ص 148.

مستمر يجعلهم لقمة سائغة في حلق الغالب لأنهم «عجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما حصد الغلب من شوكتهم، فأصبحوا مغلبين لكل متغلَّب وطعمة لكل آكل»(1)، ولا يستبعد مالك بن نبي قيام حالة الضَّعف هذه واستمرارها، إذا ما وجد الغالب قابلية الاستعمار عند الآخر، هذه القابلية التي درسها بعد تمحيص كبير واستراتيجية محكمة، ليستطيع بعدها خلق نفوس مطواعة «إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية، إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، أدرك منها موطن الضَعف فسخرنا لما يُريد كصواريخ موجهة يُصيب بها من يشاء»(2).

ويعكس هذا التشرذم الاجتماعي الحاصل في الدول المغلوبة مدى تفاقم المشاكل وتنوعها التي تتخبط فيها في فترة من المفروض أن تكون فترة بناء وتواصل حضاري بأسباب التقدم، وتخبط هذه الدول في مثل هذه المشاكل يعني تواصل تبعيتها للدول الغالبة «ثم ماذا بعد ذلك؟ الاستقلال هنا، ومشكلاته هنا أيضا، وهي تُلح أكثر من أي وقت مضى. إن الآلام التي تثقل كاهل شعوب العالم باتت أشد ما يمكن من الإقلاق»(3)، وتضييع الهوية يعني إلغاء الشعوب المغلوبة لذواتها إلغاءّ تاماً والتواصل مع ما يُسمى بالتماهي والتوحد مع هوية وثقافة الآخر، ويَعتبر ابن خلدون هذا الالغاء أمراً طبيعياً في وجود قوة غالبة مسيطرة، مثلما كان حال الفرس في ظل الحضارة العربية الإسلامية «واعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة، ولما تحصلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلاً، ودُثروا كأن لم يكونوا، ولا تحسبَنّ أن ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان ،شملهم، وإنّما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره وصار آلة لغيره»(4)، وهذا الانصهار الذي حصل ومازال يحصل تتُرجمه قَبول الشعوب المغلوبة المطلق لكل ما يصدره الغالب القوي من انتاج فكري واقتصادي، وهذا الوضع الحالي القائم قد استشرفه عالمنا للاجتماع ابن خلدون المدوّن في أكثر من موضع في كتابه «المقدمة»، وصادقه في ذلك مفكرنا مالك بن نبي.

ص: 310


1- المقدمة، ص 147.
2- شروط النهضة ص .159.
3- من أجل التغيير، ص 64.
4- المقدمة، ص .147

وَصفُ ابن خلدون للداء المسبب للغلبة، وَصَفَهُ مالك بن نبي أيضا الذي أعلن صراحة رفضه القاطع لاستمرار هذا الداء واعتباره من المسلمات، فإذا أرادت هذه الشعوب بناء حضارة فيجب ألا تُكرس هذا الداء من خلال استيرادها اللا مشروط لأفكار وأشياء الأنا الغالب «ومن هنا كان مالك بن نبي حانقاً على عملية استيراد الأشياء والأفكار من العالم الغربي لأنها لا تغدو أن تكون تكديساً للحضارة»(1)فالحضارة عند مفكرنا لا تعني تكديس وتقديس ثقافة الغالب، بل هي حسبه تكامل مؤسس بين الشعوب الإنسانية القائم على احترام الذاتية والخصوصية.

ومع تضييع العصبية أو الهوية والخصوصية الثقافية تدخل الشعوب المغلوبة بعد تحقيق رغبة الغالب - الانقياد المطلق - حالة من العبثية، فلا تأخذ القيم الأخلاقية مركز القيادة كما هو مفترض، بل تتلاشى إيجابيها عندما تنقلها نفسية هذه الشعوب المستسلمة إلى الضفة السلبية، ولأن العبثية أصبحت قرينة القيم الإيجابية فقد دخلت هذه الشعوب حالة متواصلة من الاغتراب النفسي زادها انعزالا عن التطور الحضاري، بل وأفرغ روحها من أي أمل في تغيير إيجابي.

2 - تفكيك صورة الغالب والمغلوب المستعمر في فكر ابن خلدون ومالك بن نبي:

يُؤمن الإنسان في هذه الحياة بحقيقة وجودية هي بناء الذات الذي يتأسس على أرضية الثقافة والهوية بمكوناتها من دين ولغة وأرض «فالناس لا تهمهم أمور الاقتصاد والسياسة أكثر من الثقافة والهوية والدين، فالإنسان مستعد أن يموت دفاعاً عن حضارته وخصوصياته الثقافية»(2)، ويُحافظ كل فرد على هويته إذا ما وجد احتراماً من الفرد الآخر ليتحقق وفقاً لذلك التعايش الحضاري فترتقي الشعوب الإنسانية إلى مصاف التطور بكل جوانبه المختلفة.

ص: 311


1- لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر، ص 149.
2- عبد الغني بوالسكك الهوية والاختلاف بين التواصل والتصادم السؤال عن الهوية، في التأسيس... والنقد... والمستقبل، إشراف وتنسيق البشير ربوح، دار الأمان المغرب، ط1، 2016، ص 59.

وارتباط الشعوب المغلوبة بالهوية والخصوصية الثقافية يعني أنها راغبة في تجاوز تبعيتها وروح التماهي مع الشعوب الغالبة، هي إذن استعادة للروح الأصيلة وتواصل الجذور التي لن تبقى ظلالاً أبداً، فالحداثة الصحيحة تلك التي تنطلق من إيمان الأمم بماضيها مع الانفتاح في الوقت ذاته على العصرنة القائمة لكن «ما يُلاحظ أن أغلب أفراد مجتمعاتنا يُفضلون انتهاج المسلك الثاني - الإيمان بالعصرنة فقط - الذي يُؤدي في نهاية الأمر إلى الارتماء في أحضان الحياة الغربية، وهم يفعلون ذلك مختارين أحيانا ومجبرين أحيانا أخرى»(1).

وهذا الارتباط بالهوية والخصوصية الثقافية يعادله مفهوم العصبية عند ابن خلدون الذي تعيه حسبه روح الجماعة، وهذا المفهوم لن يتحقق إلا إذا أدركته هذه الروح إدراكا سليما مجسدة إياه في أرض الواقع، فتُتحقق سيادتها وتَتنعم بملكها «العصبية التي تكون بها المُدافعة والمُقاومة والحماية والمُطالبة»(2)، وهذه الممارسة الفعلية للعصبية يعني أن هذه الجماعة قهرت ذاتها وتجاوزت مرحلة الرغبة في التغيير إلى القدرة على التغيير، لتضمن بذلك عدم تعرضها المطلق للإذلال والانقياد، إنها بذلك الغالبة لا المغلوبة، المركز لا الهامش، وعلى الشعوب المغلوبة الاستفادة من الاستشراف الذي أسسه ابن خلدون في مقدمته «وإذا انقرضت العصبيّة قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلا عن المطالبة ، والتهمتهم الأمم سواهم»(3)، وبالتفات هذه الشعوب حول هويتها يعني ضمانها هواء نقيا تتنفسه «وعن قيمة الهوية يتساءل المفكرون وعلماء الثقافة والحضارة ، ليُجيبوا بأن الهوية مثل الهواء الذي نتنفسه، فلا يُمكن لشعب أو أمة ما أن تكون أو توجد دون هوية»(4)، وتغلب هذه الجماعة على ضَعفها يعني أنها استطاعت أن تتخلص من ربقة قابلية الاستعمار إلى فضاء الحرية والتحرر، وهنا يصف مالك بن نبي هذه الحالة ويُعطيها مصطلحاً إيجابياً هو البناء الحضاري «يرى مالك بن نبي أنه من الذات إذن يبدأ البناء الحضاري، علماً بأن هذا

ص: 312


1- لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر ، ص 152
2- المقدمة، ص 141.
3- المصدر نفسه، ص .140
4- الهوية والاختلاف بين التواصل والصدام، ص 61.

البناء ليس مجرد تكديس لمنتجات الآخر، بل هو إبداع يتأسس على المعطيات الذاتية والمقدرات الداخلية»(1)، والبناء الحضاري حسب مفكرنا يجب أن يتحول إلى ممارسة فعلية مجسدة لا أن تكون رهينة رغبة داخلية قرينتها حلم زائف تغرسه الإمبريالية الظل الملازم للروح الاستعمارية «الإمبريالية سلبت العالم سحره وشاعريته، لقد سلبتنا بذلك حقنا في مزايا الشباب»(2)، إنها دعوة من المفكر المستمرة الصالحة في زمننا هذا بأن تتحرر الشعوب المغلوبة من وهم الفشل الذي غرسته في نفسها. وأرضية البناء الحضاري مؤسسة على فهم الأفكار التي تصنع الحضارة ووعيها ثم ترجمتها في أرض الواقع، وبهذا تتخلص هذه الشعوب من سلطة الاستعمار وروحه الإمبريالية «يجب ألا نتهم، بل أن نفهم لم تستطع الإمبريالية بضربة من عصا سحرية أن تُحطم مشاريعنا المُبشّرة لنا بالخير أحيانا ومن ثم الخطرة عليها»(3)فالانشغال بقذف التهم للغالب لن ينفع المغلوب في شيء، بل سيبقيه حسب مفكرنا في خندق التبعية والتخلف.

وفهم الأفكار المبني على تقدير الشعوب لذاتها هو أيضا انفتاح هذه الشعوب على العالم الغربي الذي يمُثل القوة والسيطرة، إنه إذن تجنب العيش في صراع وتصادم حضاري مستديم فهذا الانفتاح سيعمل على وعي كل طرف بوجود الآخر المؤسس حسب مالك بن نبي على انتظام العلاقات المتبادلة فليس المراد أن يقطع - أي العالم الإسلامي - علاقاته بحضارة تمُثل ولا شك إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن تُنظم هذه العلاقات معها»(4)، وهذا التنظيم يتأتى عندما تتجنب الشعوب المغلوبة تكديس ثقافة الآخر أفكاراً وأشياءً وعدم التسليم بذلك، بل كما يدعو مفكرنا أن تنتج هذه الشعوب حضارتها المؤسسة على ثقافة تميزها، ولا يتوقف الأمر عند مفكرنا في تجنب تكديس ثقافة الآخر، بل دعوته أيضا إلى تعليم هذه الشعوب مفهوم المسؤولية الذي كان على نخبتها المختارة غداة الاستقلال الوعي بذلك «إن الحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تُحضّرها نُخبتها لتحمّل مسؤوليات

ص: 313


1- لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر، ص 149.
2- من أجل التغيير، ص 78.
3- المصدر نفسه، ص 80.
4- وجهة العالم الإسلامي، ص 138.

استقلالها»(1)، لقد أشرنا سابقاً أن العامل الاقتصادي وتحكم الغالب في صياغته يجعل الشعوب المغلوبة خاضعة له دون مناقشة، ويأخذ هذا العامل عند ابن خلدون صورتين هما المغارم والضرائب «ويُلحق بهذا الفضل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب، فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رَضوا بالمذلة فيه، لأن في المغارم والضرائب ضَيما ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية»(2)، ولن يُنجي هذه الشعوب المغلوبة من هذا الثقل الاقتصادي - المغارم والضرائب - إلا بالارتباط الوثيق بالعصبية لتنتقل بذلك من الشعوب المطَالبة إلى القوة المطَالِبة «المغْرَم مُوجب للذّلة، هذا إلى ما يصحبُ ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر، فإذا رأيت القبيل بالمغارم في رِبقة من الذل فلا تطمعنّ لها بملك آخر الدهر»(3).

وإذا رأى ابن خلدون أن العصبية حل للتخلص من الذل والمطَالبة، فإن مالك بن نبي رأى في تثمين فكر الفرد الحل الأنسب للتحرر من الاستعمار وتدخله في تسيير شؤون الشعوب المغلوبة /المستعمَرة خاصة ما تعلق بالشؤون الاقتصادية باعتبارها عصب الأمة وسر تقدمها وجوهر تأثيرها في غيرها، فوجود مثل هذه العقول المفكرة ستخدم مصلحة شعوبها خدمة كبيرة تجعلها متحررة من أي تبعية قهرية، وهذا ما تحتاج إليه الشعوب الإسلامية حاليا لتؤسس ما دعا إليه مفكرنا بالكومنولث الإسلامي أو الاتحاد الإسلامي على منهج الكومونولث البريطاني الذي تأسس لمواجهة الوضع الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الأولى.

فمثلما كانت هذه الشعوب كذلك في عز نهضتها التي كانت أرضية النهضة الأوروبية، فحبّذا لو تسترجع هذه الزعامة في وقتنا الحاضر ولن يتأتى ذلك إلا بوضع المصلحة العامة في الحسبان قبل المصلحة الشخصية إنها استنفار روح الجماعة التي اهتم لها المفكران كثيرا ، فهي من أهم الحلول حسبهما في تجاوز ثقافة الغلبة، وتحقيق المجد كما نبه إلى ذلك ابن خلدون كل هذا مقترن عنده بحسن الأخلاق «وقد ذكرنا أنّ المجد له أصل يُبنى عليه وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير

ص: 314


1- من أجل التغيير، ص 64.
2- المقدمة، ص 141
3- المصدر نفسه ص .142.141

وفرع يُتمَمُ وجوده ويُكمله وهو الخلال»(1)، وتوفر هذه الخلال يعني خروج فرد هذه الشعوب من شرنقة العبثية، ليعود إلى تقييمها وتجسيدها في أرض الواقع، بل ويستطيع حماية حياض هويته من أي روح تغريبية يسعى الأنا الغالب إلى زرعها في أرضه «الهوية أساس التعبئة الثقافية لأفراد المجتمع من حيث إنها تدفعهم إلى مواجهة أي خطر قومي أو إقليمي أو إيديولوجي، وهي التي تمكّن من الوحدة في عالم يسعى فيه القوي إلى فرض سيطرته الثقافية والحضارية على باقي العالم باسم الكونية والعولمة»(2)، ولكي يتحقق هذا الخروج من شرنقة الغالب يجب كما ذهب إليه مالك بن نبي توخي الحذر الشديد من السياسة البطريركية المركزية التي يمارسها الغالب القوي «عند الاستعمار معلومات عنا أكثر بكثير مما عندنا عنه، إنه يُكيف بكل بساطة موسيقاه وفقا لانفعالاتنا ولعُقدنا ولنفسيتنا»(3)، وبهذا الحذر تخرج الشعوب المغلوبة من وحل صنعه انقيادها ونفذته بجدارو واستحقاق.

خاتمة

اهتم ابن خلدون ومالك بن نبي ببناء الذات بناءً حضارياً من خلال دعوتهما إلى استثمار إرادة هذه الذات وقدرتها الفعلية على امتلاك العصبية على حد قول صاحب المقدمة، وعلى حماية خصوصيتها الثقافية حسب صاحب شروط النهضة، لكن دعوتهما هذه لا يعني انغلاق هذه الذات على نفسها والانعزال عن حضارات قائمة، بل دعا إلى أن تتعايش الذات مع هذه الحضارات وتنفتح عليها انفتاحاً تضمن فيه كرامتها لا ذلّها وانقيادها، ومع وقوفنا على هذه المرجعية الثقافية الغنية للمفكرَين نصل إلى القول إن ابن خلدون ومالك بن نبي استبقا عصرهما وقدّما خلاصة تجربة ستفيد الشعوب المغلوبة للخروج من طوق القوى الغالبة، وتُصبح المطَالِبة بعد أن كانت المطالَبة ، إنه استشراف يتحتّم الأخذ به للخروج من بوتقة صنعها الأنا القوي ودخلها باستسلام تام التابع المغلوب.

ص: 315


1- المصدر ،نفسه ص 142
2- الهوية والاختلاف بين التواصل والصدام، ص 63.
3- من أجل التغيير، ص 105.

القومية والإرث الاستعماري: في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى

خوان ریکاردو.ا.کول(1)

دنیز کاندیوتی(2)

تمت إعادة تنشيط دراسة القومية من خلال المناقشات حول الموضوع في الثمانينات والتسعينات(3). ويمكن تقسيم معظم الكتّاب الذين كتبوا حول الموضوع إلى معسكرين: أولئك الذين ينظرون إلى الشروط المادية والموضوعية لصعود الدول القومية كتشكيل اجتماعي، وأولئك الذين يركّزون على كيفية بروز الوعي الوطني (في السنوات الأخيرة، صنف هذا التقسيم الماركسيين التقليديين ومنظري

ص: 316


1- مؤرخ أميركي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا في جامعة ميشيغتم.
2- كاتبة وباحثة تركية في مجالات العلاقات بين الجنسين وسياسات التنمية، حائزة على درجة الدكتورا من كلية لندن للاقتصاد. - المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط 34 (2002)، 189-203. طبعت في الولايات المتحدة الأميركية (International Journal of Middle East Studies) - ترجمة إيمان سويد.
3- Among the more important contributors to these debates have been Eric Hobsbawm, Miroslav Hroch, Ernest Gellner, Anthony Smith, Benedict Anderson, Partha Chatterjee, and Prasenjit Duara.

التحديث في جهة في مقابل المنظرين في مجال ما بعد الحداثوية ودراسات التبعية (subaltern) يشير المصطلح إلى السكان الذين هم اجتماعيًا وسياسيًا وجغرافيّا خارج بنية السلطة المهيمنة في المستعمرة والوطن الاستعماري). وعند النظر في هذه المجموعة من العمل، يمكن للمرء إجراء تمييز مماثل لذلك المفصّل المشهور ل إي. بي. تومسون في تاريخ العمال (مستمداً من ماركس)، وذلك بالتمييز بين فئة في حد ذاتها وطبقة لذاتها بين طبقة اجتماعية مثل عمال المصانع التي شكلتها حقائق موضوعية لوجودها المادي وبين مجموعة اجتماعية واعية ذاتياً لنفسها كطبقة بحيث تطلق النقابات والأحزاب العمالية. فالأولى (الطبقة الاجتماعية) لا تلقائياً أو دائماً في الأخيرة (مجموعة اجتماعية). وسوف نناقش هذه النظريات فيما يتعلق بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبالعمل النظري الضئيل الذي تم إنجازه حول قوميات شرق أوسطية. فالعديد من المؤلفين يتحدثون كما لو أن «القومية» هي مجموعة موحدة من الممارسات والمعتقدات التي لها تاريخ طبيعي، فالولادة في وقت معين والنضوج على المدى الطويل ظاهرة ثابتة إلى حد ما. بيد أن بارثا تشاترجي ( Partha Chatterjee) أظهر أن طبيعة القومية تتغير على حسب ما إذا كانت ظاهرة حضرية أو ظاهرة استعمارية. فضلا عن ذلك، وبحسب ما هو مفهوم ضمنا في كتابه، فإن ذلك يعني أن القومية - أو على الأقل، صنع وتصور القومية - تستمر في فترة ما بعد الاستعمار، لترفع وتطرح بذلك قوى وآفاق جديدة تعارض صياغات سابقة لها(1). ويشعر معظم الكتاب بالقلق حول كيفية نزوع الثقافة القومية نحو خلق صورة إيجابية عن الأمة بصفتها متجانسة بينما تعرف عن نفسها ضد «آخر» أو مجموعة من «الآخرين» المكروهين والمحتقرين(2). فالجدل حول الخصوصيات للإرث الاستعماري وتأثيره الطويل الأمد على المستعمَر شكل التيمة المركزية لعلم

ص: 317


1- Partha Chatterjee, Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1993 [1986]); idem., The Nation and Its Fragments: Colonial and Postcolonial Histories (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1993).
2- Chatterjee, The Nation and Its Fragments; Homi Bhaba, “DissemiNation: Time, Narrative and theMargins of the Modern Nation," in Nation and Narration, ed. Partha Chatterjee (London: Routledge andKegan Paul, 1990), 300 -303.

ما بعد الاستعمار وأولئك المشاركون في المناقشات المتباينة - عن القومية ومرحلة ما بعد الاستعمار - بحاجة إلى معالجة مخاوف كل منهم حتى الآن، تركزت معظم المناقشات حول ظروف ما بعد الاستعمار على جنوب آسيا، وهدفنا هو فتح هذا النقاش من خلال الأخذ بالاعتبار الحالات المختلفة جدا للشرق الأوسط وآسيا الوسطى اللذان تعرضا للاستعمار الأول تعرض للاستعمار الرأسمالي والأخير للهيمنة القيصرية، تَلَتها التجربة السوفياتية، مع كل الغموض الذي أدخلته في العلاقات بين الحواضر الكبيرة والمحيط الخارجي (الأطراف).

يجب أن نبدأ ببعض التعاريف . يمكن تقسيم الحقبة «الكولونيالية» لمعظم الدول الشرق أوسطية وآسيا الوسطى إلى عدة فترات: الإمبريالية غير الرسمية، الهيمنة الاستعمارية الرسمية والاستعمارية الجديدة. إن الانحدار أو الطبيعة المعقدة للكولونيالية الجديدة في العقود الأخيرة تؤدي إلى عصر ما بعد الاستعمار، تكون فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي/ روسيا غير قادرتين على فرض إرادتيهما على دول مثل إيران وأفغانستان والعراق، على الرغم من الإرث المستمر في منطقة عصر الإمبريالية والقوى العظمى المتنافسة في الحرب الباردة.

من الواضح أن هذه الفترة تبدو مختلفة في كل منطقة ولا تناسب البعض منها جدا. فقد شهدت الجزائر استعماراً رسمياً مبكراً بالنسبة للشرق الأوسط (ابتداء من العام 1830) وحصل البلد على استقلاله في وقت متأخر (عام 1962)، في حين لم يكن العراق مستعمراً حتى وقوع الحرب العالمية الأولى وأصبح مستقلاً رسمياً بحلول عام 1932، وذلك على الرغم من فترة طويلة من الهيمنة الاستعمارية البريطانية الجديدة التي استمرت حتى عام 1958 على الأقل. أما إيران فكانت محتلة رسمياً من قبل القوى العظمى خلال الحرب العالمية الثانية فقط، وشعرت أجزاء فقط من تركيا بوجود أقدام القوات الاستعمارية الأوروبية على أراضيها لفترة وجيزة جداً بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث أنه في كلا هذين البلدين كانت فترة «الهيمنة الاستعمارية الرسمية» غائبة أو مختصرة للغاية. لقد كان هناك أوجه تشابه كبيرة

ص: 318

للاستعمار القيصري لتركستان في آسيا الوسطى في ستينيات القرن التاسع عشر مع مشروع «شمال أفريقيا الفرنسي»، إلا أن الفترة السوفييتية المتداخلة، 1917-1991، مثلت خصوصيات وخصائص في العلاقة بين الحواضر الكبيرة والأطراف، الأمر الذي يعقّد القصة بشكل هائل. مع ذلك، لقد عايش معظم سكان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى طوال القرنين الماضيين هذه المراحل الأربع، حتى لو كان ذلك في أوقات مختلفة وبدرجات متفاوتة من الحدة.

نعني ب_«القومية» و«الدولة القومية» مجموعة من الممارسات الاستطرادية والمؤسسية المتغيرة التي تختلف عن المفاهيم الذاتية ما قبل الحداثوية وعن الترتيبات السياسية. فالأمة الحديثة تتكون من مواطنين لديهم التزام عاطفي وخلاق للتماهي مع مواطنين مشتركين (خاصة من نفس المدينة أو البلدة). فالأمة لديها دولة تحكم إقليماً معيّناً وتسعى لفرض هوية مشتركة على جميع المواطنين من خلال التعليم الرسمي، مع التركيز عادة على الوحدة اللغوية، وهذا يمثل وحدة سياسية وديبلوماسية واقتصادية مع سيادتها الخاصة في جميع هذه المجالات والقومية هي النظير الذاتي للأمة، مساحة من الحيز الداخلي الذي ينظر للأمة على أنها جانب من جوانب «الذات»، فضلا عن أيديولوجية تمُنح فيها الأمة تاريخاً مرقعاً (وغالبا ما يكون مسروقاً)، وتراثاً ثقافياً متميزاً، ومصالح مشتركة تقف كلها عند حدود الدولة القومية.

فالقومية تعني القدرة على التماهي مع مجموعة كبيرة من الناس الآخرين، ولكنها تنطوي أيضا على تشكيل أولئك الناس خارج الأمة بصفتهم «الآخر» بأسلوب قوي.

في الأصل، تعني كلمة «أمة»، وببساطة، «شعباً» أو «عرقاً». ومن الواضح أنه كانت هناك شعوب - أو ما يسميه أنتوني سميث (Anthony Smith) «عرقيات» - لفترة طويلة جداً(1). وهذه الشعوب شكلت نفسها بناء على مزاعم الأصل المشترك، أو اللغة المشتركة، أو الدين المشترك، أو مجموعة أخرى ما من القواسم المشتركة التي كانت هذه الشعوب تشعر بأنها تميزهم بطريقة ما

ص: 319


1- 4Anthony D. Smith, The Ethnic Origins of Nations (New York: Basil Blackwell, 1986).

عن غيرهم من مثل هذه الجماعات. ولا يزال التميز بين الدلالات الموضوعية للهوية والوعي المتعلق بهذه الهوية بارزاً هنا. فبعض السكان الذين لديهم لغة مميزة لم يشعروا بأن لغتهم هي الجزء الأكثر أهمية من هويتهم وسَرَّهم أن يتمّ إدراجهم في مجموعة تم تشكيلها على أساس آخر ما (يميل الأرمن الناطقون بالتركية إلى النظر لأنفسهم كأرمن بدلاً من أتراك بحكم انتمائهم إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأرمينية). فإبان القسم الأكبر من الفترة العثمانية، كان الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لمعظم المتحدثين بالعربية هو أنّهم مسلمون ورعايا خاضعين للسلطان وليس نطقهم العربية في الداخل. وقال بنديكت أندرسون (Benedict Anderson) بأنه كان للقرويين وسكان المدن في العصور الوسطى وأوائل العالم الحديث هويات محليّة منبثقة من اللهجة، وهويات أوسع نطاقاً منبثقة من انتمائهم إلى أديان عالمية (الإسلام، المسيحية، الهندوسية، اليهودية) أو بصفتهم رعايا خاضعين لإمبراطوريات متعددة اللغات. وأدى توحيد اللغات القُطرية مع ثورة الطباعة والنهوض الجماهيري لمحو الأمية إلى ازاحة الإمبراطورية والدين كدلالة أساسية على الهوية، مما سمح بحصول تطور تدريجي ل- «تصور» جديد(1). إن توظيف أندرسون للدين كمساهم في الصيغة السلالية الحاكمة في التنظيم السياسي كان لا بد وأن ينهار كهوية مركزية في نفس الوقت الذي تنهار فيه هذه الأنظمة الملكية. إنه يتجاهل الطرق التي تدعم بها الإثنية الدينية العديد من القوميات في «جنوب» العالم والطريقة التي يمكن أن يتم فيها، وبنجاح، اختیار تكوينات اجتماعية «عالمية» مفترضة لأغراض ومقاصد وطنية (بعد كل شيء، غالبا ما كان نفس الشيء صحيحًا في اللغة والإيديولوجيات مثل الاشتراكية). ويشير مقال سامي زبيدة في هذه القضية إلى النواحي التي تطرح

بها قضية العراق مشكلات بالنسبة للنهج الأندونيسي في الدين والقومية.

يركز سميث على تلك المجموعات التي طورت هويات معينة في عالم ما قبل الحداثة، بما في ذلك المجتمعات الدينية في الشتات مثل اليهود والأرمن، وتلك

ص: 320


1- Benedict Anderson, Imagined Communities, 2nd rev. ed. (London: Verso, 1991).

الإقليمية المدمجة مثل الدروز والموارنة. بيد أن سامي زبيدة، الذي يبحث في نفس المادة التي يبحث فيها سميث قال بأن الإثنيتين الأخيرتين بحد ذاتهما (الدروز والموارنة) كانت الدولة قد ولدتهما(1)، بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يبسِّط تحليل سميث مجموعة معقدة للغاية من الهويات المتداخلة التي تغيرت بشكل جذري مع مرور الوقت ولم يكن لديها نوع من الهوية الأساسية الجوهرية لنوع ما قبل القومية التي يعزوها إليها.

عند النظر إلى العشائر في جبال الشوف الذين حدث أنهم ينتمون إلى الدين الدرزي الباطني المستمد من الشيعة كقوميين بدائيين (proto-nationalists) أو حتى كمجموعة منفصلة يعني أن نراهم من خلال منظور القومية الحديثة. فقد انقسمت العشائر بسبب الخلافات الداخلية؛ ولم يشارك «الحكماء» في الديانة الدرزية الباطنية معتقداتهم الدينية الأساسية مع العلماني الخالص؛ ويمكن للعشائر الدرزية أن تتحد مع الشيعة السنة، أو مسيحيين ضد عشائر درزية أخرى. وبعد كل شيء، وفي الفترة التي سبقت الحروب الأهلية في القرن التاسع عشر، كانت مثل هذه العشائر التي تم تعريفها دينيا قد انتشرت تماما ولم تكن مضغوطة للغاية في مناطقها. إن الجماعات التي يناقشها سميث صغيرة نسبيا ولم يكن لديها تطلعات أو مزاعم «وطنية» قبل منتصف القرن التاسع عشر (إذا كان هناك من مزاعم آنذاك).

بالتالي، إن الجماعة الإثنية لدى سميث ليست الأمة بالمعنى الحديث، وربما لا علاقة لها حتى بالأمة. ما يعني، أن الدول الحديثة تدعي في كثير من الأحيان التراث الثقافي والتاريخي لمجموعة عرقية أو لغوية معينة من الماضي، لكنه ادعاء بأثر رجعي وعادة ما يكون موضع شك. في الواقع، إن نظرية البدائية (primordialist :theory :تفسر العرق باعتباره سمة ثابتة من سمات الأفراد والمجتمعات) للأمة،

التقرير الشهير ل_ كليفورد غیرتس (Clifford Geertz) عنها كما وجدها بين الأندونسيين الذي أجرى مقابلات معهم، هي أن الدولة القومية تنشأ عندما تتمكن

ص: 321


1- 6Sami Zubaida, "Nations: Old and New," Racial and Ethnic Studies 12 (1989): 329-39.

هوية إثنية موجودة من قبل من تحقيق الدولة أخيرا مما يعني أن أندونيسيا كانت موجودة طوال الوقت في شكل الهوية الإندونيسية ولكن تم قمعها من قبل السلطنات المنقسمة، ثم الاستعمار الهولندي، إلى أن تم أخيرا تحرير «الأمة» الإندونيسية من أغلالها وحققت تجسيدها الكامل في دولة ما بعد الاستعمار (في الواقع، لقد اختلف الأندونسيون بشكل ملحوظ في مفاهيمهم للهوية الوطنية، واندلعت أعمال العنف حول هذه القضايا في منتصف الستينات ومرة أخرى في أوائل القرن 21) ليس هناك من شخص أكاديمي يقبل الصيغة البدائية (primordialist) في شكلها الصريح المكشوف أو البسيط، لأن أي مؤرخ أو عالم اجتماع يرى أشكال الانقطاع والتشتت التي تميز اثنيات ما قبل الحداثة، مما يجعل من المستحيل رؤيتها كصيغة مرادفة أو حتى تأسيسية للدولة بطريقة غير معقدة ربما يكون سميث، الذي يعطي هذه المركزية للجماعة ،العرقية، أقرب إلى إضفاء الشرعية على شكل من أشكال الحجة البدائية، لكنه أذكى وأكثر تعقيدا من ذلك، وليس عدلا اعتباره شخصا بدائيا (primordialist) ونقطة على السطر. ولكن حتى حجة سميث التي تقول ببناء الدول غالب الأحيان حول المجموعات العرقية، حيث قال بأن فرنسا بُنيت حول البوربون، هذه الحجة تعترف جدا بالبدائيين (primordialists)، الذين يشددون على هويات إثنية داخلية عبر تاريخ غارق في سبات عميق أو يتم قمعه ومن ثم تنبيهه، ليجسدوا بذلك أنفسهم في الدول القومية في القرن العشرين (أطلق رونالد سوني Ronald Suny) على رؤيته (الرومانطيقية) اسم نظرية الجميلة النائمة للقومية»). فالسؤال هو عمّا إذا كانت الهويات الإثنية الموجودة من قبل يمكن اعتبارها بمثابة متغيرات سببية في صعود الدول القومية، ونعتقد هنا أن من الواضح أنه لا يمكنهم اعتبارها كذلك لم يتم تأسيس أي دولة لمجرد وجود إثنية. هناك أعداد كبيرة من المجموعات اللغوية والدينية وغيرها التي ليست لديها دولة، ولا يبدو أنها تريد دولة؛ ولا تبدو أنها متناقضة ومترددة حول هذا الموضوع. فضلا عن ذلك، هناك العديد من الدول المتعددة الإثنيات التي أقيمت ففي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كانت بدايات الدول القومية كلها تقريباً نتيجة للحدود الاستعمارية المفروضة من الخارج التي لا

ص: 322

علاقة لها بالحدود الإثنية الموجودة من قبل والتي كانت على أي حال حدودا سهلة الاختراق ونادراً ما شكلت حدوداً فعلاً).

أظهرت الإثنوغرافيا (الأجناس البشرية) والتاريخ السوفياتي، وبشكل مثير للاهتمام متغيّراً قوياً للطبيعة البدائية (primordialism) من خلال استخدام مفهومي «المجموعة الإثنية» (ethnos) و«تشكل وتطور مجموعة إثنية» (ethnogenesis). وكان من الضروري إجراء تعديلات مختلفة لجعل مفهوم «المجموعة الإثنية» (ethnos) بمثابة مجموعة من الخصائص الدائمة وتتجاوز الحدود التاريخية والتي تتلاءم مع التسلسل التطوري التقليدي للتشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية التي افترضها ستالين.

وقد حل «معهد الإثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية» (Institute of Ethnography of the USSR Academy of Sciences ) هذه المشكلة من خلال الاحتجاج بمفهوم «الكائن الاجتماعي - الاقتصادي» (ESO) . هذه الفكرة أدرجت على حد سواء،«الاتنيكوس» (etnikos) - وهي السمات المشتركة الثابتة للغة والثقافة وعلم النفس والوعي الذاتي التي تميز جماعة - وأنواع المجتمعات الأوسع نطاقا (البدائية والإقطاعية والرأسمالية) التي شكلت جزءًا منها. هذه الخطوة جعلت من الممكن طرح «الجماعة العرقية» (ethnos) كشيء ثابت دائم، وموضوعي في الوقت الذي يتم التشدق بالتسلسل الماركسي - اللينيني للتكوينات الاجتماعية - الاقتصادية. ووفقاً لهذا المخطط، فإن المجتمعات الصناعية هي وحدها التي يمكن أن تشكل دولاً (natsiia)، في مقابل المجتمعات القائمة على القرابة أو القبائل التي تظل «شعوباً» فقط (narodnost). ليس مستغربا ، كما هو واضح من مساهمة تاينشتيكبيك تشارويف (Tyntchtykbek Tchoroev في هذا المجلد، أن تكون هذه النظرية قد أصبحت موضوعا للطعن والخصومة المريرة بالنسبة للمؤرخين ما بعد الاتحاد السوفييتي لآسيا الوسطى التي تنطوي إعادة التفسير لماضيهم على البحث عن السوابق التاريخية لدولتهم الحديثة ومخرجاً من النسخة السوفيتية المقتطعة من «دولتهم». بيد أنه كان هناك فى كثير

ص: 323

من الأحيان استبدالاً لأشكال جديدة من البدائية من أجل القديمة (استعادة الأمة المفقودة»)، والتي يمكن أن نجدها أيضًا في المراحل الأولى لبناء الأمة في مكان آخر.

صحيح أن المثقفين والسياسيين قد انجذبوا بشكل متكرر إلى فكرة الوجود المفترض لإثنية قديمة من أجل مواصلة مشاريع سياسية تجعل من إنشاء دولة قومية أمرا ممكنا، إلا أن صياغتهم لمثل هذه الهويات القديمة المفترضة تختلف كثيراً مع مرور الوقت لدرجة لا يمكن إخفاء طبيعتها الاعتباطية. وهكذا، فإن القوميين الألمان الذين كانت مكوناتهم مبعثرة جغرافياً مالوا إلى الاحتكام إلى اللّغة، في حين أن الصهاينة احتكموا إلى اليهود المتعددي اللغات والمشتتين بنفس القدر على أساس الإثنية الدينية، معتبرين اليهود «عرقا» أو «أمة»، وليس اليهودية كدين. إلا أن الصهيونية كانت متنوعة كمفهوم ذاتي، وتم استحضارها مؤخراً لقبول الإثيوبيين الفلاشا إلى إسرائيل، بحيث أن الإثنية الدينية يمكن أن تكون معقدة بسبب العرق. فأولئك الذين ينظرون إلى «دولهم» على أنها ينبغي أن تتمتع بمكونات أكثر اندماجا كانوا يميلون إلى التحدث عن فترة طويلة أمضاها مجتمع تاريخي على أرض محددة وعدم الالتفات كثيرا إلى اللغة والدين (لم يقم القوميون المدنيون الفرنسيون بإقصاء الهوغوتينيين (أعضاء كنيسة فرنسا الإصلاحية البروتستانتية) أو البريتانيين (مجموعة إثنية موجودة في منطقة بريتاني في فرنسا). بالإضافة إلى ذلك، تغيرت الاستراتيجيات مع مرور الوقت. وقد أشار إريك هو بسباوم (Eric Hobbawm) إلى أن التحول الذي حصل في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا إزاء مفهوم الأمة بناء على الإثنية جاء جزئيا، نتيجة لتوحيد ألمانيا وإيطاليا، تقسيم النمسا والمجر، الثورات البولندية، والحركات القائمة على الإثنية بين شعوب البلقان من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية(1). مما يعني أن هناك اشكالية بخصوص فكرة سميث نفسها عن «الإثنية» كأساس للقوميات لأن المفكرين القوميين انتقوا «الإثنيات» من أجل

ص: 324


1- 7Eric J. Hobsbawm, Nations and Nationalism Since 1780: Programme, Myth, Reality (Cambridge: Cambridge University Press, 1990), 23.

مقاصدهم الخاصة من مقدار كبير من الهويات المتضاربة القائمة بالفعل، وأجروا أنواعاً مختلفة من الاختيارات اعتمادا على ظروفها المتغيرة. فالإثنيات ما قبل الحداثة نفسها تمت إعادة تشكيلها من خلال النظرة القومية وهي دائما ما تكون هويات مبنية إلى حد ما.

في العصور الوسطى، وحتى في أوائل العصر الحديث في كثير من الأحيان، لم يترك عدم وجود توحيد اللغات وخمود التدين الشعبي إلا شكا ضعيفًا فيما يتعلق بطبيعة تعدد لغات الإمبراطوريات التي شيدت آنذاك(1). فالمجتمعات المتنوعة والمتباينة التي شكلت رعايا تابعين لهذه الإمبراطوريات حاربت بعضها البعض بصفتها تابعة لسيادة هذه الإمبراطوريات، وليس كأفراد في أمة تقاتل «أخرى» إثنية. بعض هذه المجتمعات ما يمكن أن نطلق عليه الآن اسم الأفغان خدموا إيران، بينما خدم آخرون المغول، وقد يكونوا وجدوا أنفسهم بسهولة في جيوش معارضة. ولم تدرك معظم شعوب ما قبل الحداثة الذين كان ينطقون بما نعرفه الآن على أنها عائلة من اللهجات التي تشكل لغة واحدة منفردة أنها قامت بذلك، لأنه في غياب الطباعة،ومحو الأمية على نطاق واسع، والتعليم الوطني، كانت العديد من اللهجات، وعلى نحو متبادل، غير مفهومة. هذه الصعوبة في التواصل عبر اللهجات لا تزال تؤثر على الأكراد(2). فضلا عن ذلك، يتأسس مفهوم القومية التركمانية (Pan-Turkic: الحركة السياسية القومية التركية ظاهرة نشأت في القرنين التاسع عشر والعشرين. كانت في جزء منها ردا على تطور القومية السلافية والقومية اللاتينية في أوروبا، وتأثرت بالقومية الإيرانية في آسيا) في كثير من الأحيان على المفردات الهامة وحتى على الاختلافات النحوية بين لغة الأناضول التركية ولغات مثل الكازاخستانية والأوزبكية. وفي الشرق الأوسط، كان جيش إيران الصفوية مستمدا بشكل رئيس من القبائل الناطقة بالتركية وهذه القبائل الناطقة بالتركية حاربت وبكل سرور الأتراك العثمانيين لصالح البيروقراطية الفارسية التي كانت تستخدم اللغة الهندية - الأوروبية. وحارب ضباط

ص: 325


1- 8Ernest Gellner, Nations and Nationalism (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1983), 8- 18.
2- 9To give another example, at the time of Italian unification only about 2.5 percent of the population knew standard literary Italian: Hobsbawm, Nations and Nationalism Since 1780.

يتحدثون العربية من ما يطلق عليه الآن اسم لبنان ما يطلق عليه الآن اسم اليمن نيابة عن الدولة العثمانية التي يغلب عليها التركمان وفي آسيا الوسطى، أبقت إمارة بخارى سجلاتها الاستشارية باللغة الطاجيكية الفارسية، على الرغم من الطابع التركي إلى حد كبير للنخبة الحاكمة.

يركز كل من ميروسلاف هروش Miroslave roch وإرنست غيلنر (Ernest Gellner) بطريقتهما الخاصة على الظروف المادية لظهور الأمم. ويفترض هروش الماركسي، أن هذا التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية اقتضى ضمنا تنامي القومية. و عکست صيغة هورش نظرية المرحلة الستالينية، بحيث أن التغيير في القاعدة المادية کان هو الذي أدى إلى إنشاء بنية فوقية جديدة للدولة القومية. وهكذا نمت الدولة القومية بالترادف مع الرأسمالية الحديثة، وافترض ثلاث مراحل لظهور الدول في القرن التاسع عشر. المرحلة الأولى صعود مجموعة من المثقفين المهتمين بالثقافة المحلية، الذين يجمعون الفولكلور ويجرون دراسات لغوية، غالبا من دون أي أجندة سياسية. وفي المرحلة الثانية لهورش يحاول المفكرون والسياسيون المحليون، الذين يسعون إلى قدر أكبر من الحكم الذاتي أو يشعرون بأنهم منعوا من التقدم المهني من قبل مسؤولين في الحواضر الكبيرة، يحاولون تجميع الرموز الأصلانية ( nativist)، واجتذاب الطبقات الوسطى والعمال والفلاحين للعمل معاً من أجل الحكم الذاتي. أما في المرحلة الثالثة، فيتم تحقيق دولة منفصلة، والتي بدورها تفرض على الشعوب داخل أراضيها هوية وطنية(1). حدوث مثل تلك العمليات يبدو واضحا، على الرغم من أن التاريخ الطبيعي لتكشفها وظهورها كمراحل كما قدمها هورش يبدو تخطيطيا للغاية. ويعترض غيلنر على اللغة الإقطاعية والرأسمالية، مفترضا أن الدولة القومية تنشأ أثناء التحول من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي(2). ومن وجهة نظر غيلنر كعالم أنثروبولوجيا، تقوم مجتمعات ما قبل العصر الحديث

ص: 326


1- Miroslav Hroch, Social Preconditions of National Revival in Europe, trans. Ben Fowkes (Cambridge: Cambridge University Press, 1985).
2- 11Gellner, Nations and Nationalism, 8- 52; see also his reply to Hroch in Encounters with Nationalism (Oxford: Blackwell Publishers, 1994), 182- 200.

على روابط الرعاية القرابية، ويُعطل المجتمع الصناعي تلك الروابط من خلال خلق حركة جغرافية واجتماعية واسعة، حيث يتم تفكيك العشائر وانتقال العمال إلى حيث تحتاجهم الصناعة، في حين أن هيكليات الترقيات والمكافآت تكون وفق مسوغات غات تستند إلى الجدارة بدلاً من المحسوبية. ففي مرحلة ما قبل المجتمعات الصناعية كانت الأرباح تذهب إلى جيوب أبناء العمومة للمرء، الذين يزعمون بأن لهم يدا في نجاحه، بينما في المجتمع الصناعي يمكن للمرء أن يراكم رأس المال. لذا تحل الدولة القومية محل القرابة كمركز للولاء. ومن وجهة نظر غيلنر، الأنظمة القوية القائمة على العشائر دلالة على أن الأمة الصناعية لم يتم تجسدها تماماً. ويبدو أن كل من هورش وغيلنر يعترفان بمزاعم هو بسباوم عن أن «السمة الأساسية للأمة الحديثة وكل شيء مرتبط بها هي حداثتها»(1). بيد أن بر اسنجیت دوارا Prasenjit) Duara) انتقد التمييز التبسيطي بين الحديث وما قبل الحداثة، مشيراً إلى الهويات السياسية المتطورة المتاحة لسكان شرق آسيا في القرون الوسطى وأوائل الحداثة(2). وفي الصين، بعد كل شيء، كانت الكتب المطبوعة بالقوالب الخشبية موجودة ولديها القدرة على خلق جمهور نخبوي صغير قارئ منتشر على الصعيد الجغرافي، وأهمل نظام الامتحانات للبيروقراطية المدنية خلفية الأسر في تلك القرون الممتحنة قبل أن تتوقف المحاباة والمحسوبية بصفتها أدوات التوظيف الأساسية للبيروقراطيات الأوروبية. مع ذلك، يعترف دوارا بأن «الفكرة ليست وجود الهوية الوطنية في العصر الحديث»، وإنما المسألة، وببساطة،هی أن هناك تناقض ثنائي صارخ بين الوعي السياسي الحديث وما قبل الحديث المحلي والذي لا يلتقط تنوع الهويات السياسية في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، حيث نمت في بعض الأحيان أشكالا من الهوية السياسية التي تشبه الهويات الوطنية.

قد يكون من المغالاة القول أن الحجة بخصوص صعود القومية على أساس التحول في نمط الإنتاج إلى الرأسمالية أو إعادة تنظيم الإنتاج والأسرة في المجتمع

ص: 327


1- 12Hobsbawm, Nations and Nationalism Since 1780, 14.
2- 13Prasenjit Duara, Rescuing History from the Nation (Chicago: University of Chicago Press, 1995), 52-56.

الصناعي عديمة القيمة تماماً. ولكنها تبدو غير ذات صلة بأصول القومية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. فالعديد من المجتمعات الفردية التي برزت فيها حركات شبيهة بالحركات القومية كانت زراعية إلى حد كبير - على سبيل المثال، البلقان العثماني سابقا في القرن التاسع عشر الأراضي العربية في العشرينات، والهند البريطانية. لقد انبثقت أو نشأت معظم القوميات الشرق أوسطية مع نشوب الحرب العالمية الأولى (فترة تاريخية بالنسبة للهند مع حركة الخلافة دعما للسلطان العثماني الذي كان حليفا للألمان ضد البريطانيين)، على الرغم من ظهور إجماع على أن الهوية القومية في معظم الدول العربية الاستثنائية مثل مصر وسوريا لم تغزوها بصلابة حقا إلا بدءا من العام 1920 فصاعداً(1). لقد صيغت هويات آسيا الوسطى في جدلية بين الحركات الشعبية وسياسة القوميات السوفيتية بعد عام ،1917، كما تقول نادرة عبد الرحيموفا (Nadira Abdurakhimova) وماريان كامب (Marianne Kamp) في هذه المسألة. لم يكن هناك من تصنيع على نطاق واسع سبق صعود القوميات الشرق أوسطية؛ ولا تحرك كبير للعمال؛ ولا قطع للالتزامات التي تفرضها روابط الأقارب، قد حدث في هذه المناطق في الواقع ، وحتى يومنا هذا، لا يمكن اعتبار معظم بلدان المنطقة صناعية؛ إذ لم يتم تعطيل الشبكات العشائرية والقرابية بالكامل بالطريقة التي يصفها بها غيلنر. إذا كان لأحد أن يدلي بدلوه بشأن تغيير في تنظيم الإنتاج الذي حدث كخلفية لصعود القوميات الشرق أوسطية، فإن بإمكانه أن يركز على المحصول النقدي على نطاق واسع للسوق العالمي، والذي يطلق عليه البعض «الرأسمالية الزراعية». فقد اعتمدت الدولة الوفدية في مصر الدولة البهلوية في إيران والدولة الكمالية في تركيا، وكلها ساحات أولى للأيديولوجية القومية في فترة ما بين الحربين - وفي المقام الأول على الرأسمالية الزراعية أو مختلف أنواع الإيجارات لدخلها، وكانت كلها منخرطة في نوع من أنواع الصراع مع القوى الاستعمارية الأوروبية التي تسيطر على اقتصاداتها الوطنية.

ص: 328


1- Rashid Khalidi, Lisa Anderson, and Reeve S. Simon, ed.,The Origins of Arab Nationalism (New York: Columbia University Press, 1991), and James Jankowski and Israel Gershoni, ed., Rethinking Nationalismin the Arab Middle East (New York: Columbia University Press, 1997).

على الرغم من أن عصر الرأسمالية الزراعية شهد ثروة من الأراضي التي تركزت في أيدي عدد قليل جدا من العائلات (عادة ما بين 2000 أو 3000 فقط في أماكن مثل مصر والعراق)، فقد تم التقليل من شأن مقاومة الفلاحين من خلال إنشاء مجمعات تشبه العزبة (المزرعة) ومن قمع واسع النطاق مدعوم من الدولة. ومن الممكن أن تكون هناك أحزاب «قومية» متعددة الطبقية معادية للإمبريالية في عشرينيات القرن العشرين مثل حزب الوفد قد اعتمدت على المحسوبية والشبكات الاجتماعية الأخرى التي انبثقت عن هذه الرأسمالية الزراعية لكبار المالكين، ولهذا كانت المجمعات التي تشبه المزارع هي السبب في صعود القومية وفي قدرة السياسيين ملاك الأراضي في حزب الوفد على تعبئة فلاحهيم لأغراض سياسية. أما في الهند، فقد قيل العكس أن الصراع بين الفلاحين وكبار المالكين في العشرينات وما بعدها كان المرجع الذي تم فيه إطلاق الوعي القومي في أوساط الطبقات الاجتماعية الثانوية التابعة (subaltern). وفي أي من ،الحالين فإن الرأسمالية الزراعية، ومهما كانت تعتبر عاملا عظيما (بطرق مختلفة وطارئة واضحة) إلا أنه لا يمكن الأخذ بها لانجاز العمل الذي أراد غيلنر من نظريته عن الانتقال إلى المجتمع الصناعي أن تنجزه، بقدر ما أنها لا تؤثر على روابط القرابة وأخيراً، وفي آسيا الوسطى، أسفر النهج السوفياتي للزراعة الجماعية وتنظيم المجتمع والسياسة إلى جانب السياسة الحزبية عن نتائج مختلفة عن «قاعدة» المحصول النقدي من محاصيل القطن وبعد ذلك التصنيع الخفيف.

من الأسهل الاستنتاج أنه في بعض الحالات في بداية أوروبا، ربما كان للتغيرات الاقتصادية الواسعة النطاق وظهور البرجوازية الصناعية والطبقات العاملة آثارا على تطور القومية من نوع غريب متميز. بيد أن النخب من مجتمعات زراعية إلى حد كبير يمكن أن تستغل فكرة الدولة القومية، لتطبيق أشكال مختلفة من الظاهرة على ظروفهم المختلفة جدا، التي تعقدت بسبب تحدي الإمبريالية الأوروبية. وكما سيحاجج ويقول سامي زبيدة في هذه القضية، فإن العنصر الرئيس في تشكيل القومية في جنوب العالم هو تحكم طبقة اجتماعية نخبوية بدولة بيروقراطية عقلانية، مع

ص: 329

تأثيرها الواسع على الاقتصاد والحياة الثقافية. مما يعني، وبما يتعلق بكلمة «القومية» في كلام غيلنر،«أن القومية هي التي تولد الأمم ، وليس العكس»(1). يجب أن نستبدل عبارة «الدولة». وعلى الرغم مما يقوله كل من هورش وغيلنر، إلا أن من الواضح أن النخب الزراعية التي تسيطر على دولة في مرحلة ما بعد الاستعمار يمكن أن تشق طريقها معاً وإجراء ترتيبات سياسية «وطنية» جديدة من دون أن تخضع بلدانهم لتحول واسع النطاق من بلد زراعي إلى صناعي أو من الظروف القائمة على القرابة إلى الظروف القائمة على الفرد إن إضفاء مثل هذه المركزية على الدولة لا ينتقص من المساهمات الحقيقية للوعي القومي من مختلف الطبقات الاجتماعية بما في ذلك الفلاحين والعمال في بعض الحالات؛ إنه يشكل سياقا أساسيًا فيه يميل الخيال السياسي لهذه الطبقات إلى الإنطلاق.

الدولة تنجز مهمة إنشاء وطن بطرق عديدة، بما في ذلك من خلال إقامة نظم مدرسية وطنية تضع معيارًا لغويا منفردا ، وتاريخ «وطني» مرصوف، وتأسيس جيوش مجندة تأتي بالشبان من جميع أنحاء البلاد وتجمعهم معا وتشكل الروابط العاطفية فيما بينهم فالدولة القومية، وكما كان يعتقد جيل سابق من الماركسيين لا تنشأ ببروز سوق إقليمي، بل أن الدولة القومية هي التي تُنشىء سوقا وطنيا ولا يمكن المبالغة بأهمية مركزية الدولة وقد حاجج عدد من علماء الاجتماع بشكل مقنع وقالوا بأن الدول المعاصرة، التي كانت أقاليم يحكمها الاتحاد السوفياتي في السابق كانت في جوانب مهمة من صنع سياسة القوميات السوفياتية(2).

إن النظر في الدولة يؤدي إلى إدراك العنف والإكراه المتأصلين في عملية صنع الأمة. يجب على الدولة إخضاع الفلاحين وتطويقهم، وغالبًا ما يترافق ذلك مع

ص: 330


1- Gellner, Nations and Nationalism, 55- 56.
2- See, for instance, Ron Suny, The Revenge of the Past: Nationalism, Revolution and the Collapse of theSoviet Union (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1993); Rogers Brubaker, Nationalism Reframed: Nationhood and the National Question in the New Europe (Cambridge and New York: Cambridge University Press, 1996); and the sources cited in Deniz Kandiyoti, "Post-colonialism Compared: Potentials and Limitations in the Middle East and Central Asia," International Journal of Middle East Studies 34 (2002):279- 97.

الكثير من سفك الدماء، أو يجب إعادة تنظيمهم في مجمعات أو تعاونيات، أو يجب تفويض مثل هذا التأديب لخيالهم لكبار الملاكين وقانون الملكية الخاصة وغالباً ما برز صراع القرويين ضد نخبة محلية من ملاك الأراضي أو ضد دولة استعمارية في تعاظم هؤلاء إزاء الوعي القومي. ومن خلال تجنيد الفلاحين في الجيش الوطني والالقاء بهم في مقابل قوة أجنبية أيضاً تكون الدولة قد استخدمت عنفاً هائلاً لتشكيلهم كأمة وبدءاً من الخمسينات حاولت بعض الدول كمصر والهند مع بعض النجاح اختيار الفلاحين المعتدلين لمشروع بناء الدولة ما بعد الاستعمار من خلال مهمة إصلاح الأراضي.

وفي حين يرى غيلنر أن القومية شكل من أشكال الوعي الخاطئ، كذبة جماعية واسعة ذات مغزى مدمر ، فإن أندرسون يتحدث بدلاً عن ذلك عن «مجتمع متصور»، مجتمع يدعو إلى أن يكون دولة إقليمية وهذا بدوره يخلق الأمة(1). ويرى أندرسون أن هذا التصور الخيالي بنّاء وحقيقي. قد يبالغ ربما في الدور الذي لعبته البرجوازية والمفكرون في هذه العملية، ويلطف الكثير من الاختلافات في الأفكار حول الهوية الوطنية والتنظيم عندما يطلق على القومية اسم «وحدات بناء»،كما لو كانت مجموعة أدوات قابلة للتحويل بسهولة. وأصرَّ آخرون على أهمية العمال والفلاحين الذين يجب عليهم، لأسباب خاصة بهم، التخلي عن مفهومهم الأكثر محلية مبدئيا من أجل حركة وطنية عالمية قوية في الواقع، وعلى النقيض من الرؤية الاجمالية والأحادية اللون التي أظهرها العديد من المنظرين، الأمر مهم عندما تكون الهويات السياسية قد تشكلت (سواء كانت في العصر الحديث أو ما قبل الحداثة، أو في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين)، والأمر مهم سواء كانت القومية قد تطورت في حاضرة كبيرة قوية أو بظل ظروف مناهضة للإمبريالية أو ظروف ما بعد الاستعمار.

ولكن بما هو أبعد من مسألة المصفوفة التاريخية والاجتماعية لأي حركة معينة، هناك نموذجان رئيسيان، أو «نمطان مثالیان» (ویبیریان Weberian) من القومية

ص: 331


1- Anderson, Imagined Communities; for a clear discussion of the differences between Gellner and Anderson, see Chatterjee, Nationalist Thought.

ويناقش هو بسباوم هذين النموذجين الأول هو مفهوم ثوري - ديمقراطي أو «مدني» للأمة لا يرتبط بهوية إثنية، كما في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن الثامن عشر. وفي آسيا الوسطى، أدانت الأيديولوجية السوفييتية الشوفينية وروجت لنوع من القومية المدنية، ولكن في نفس الوقت كانت تتلبس قوميات اسمية ذات امتیازات خاصة ما دام يُنظر إليها كذلك من أجل تجنب قومية على أساس إثني (والتي كانت تحمل دلالات سلبية للغاية). والثاني في مناقشة هو بسباوم، هي القومية الخصوصية، والتي ترتبط بشكل رئيس في عقول أنصارها بالعرق واللغة. وكما أشرنا في وقت سابق، يؤكد هوبسباوم على أنها لم تتطور حقاً في أوروبا بشكل جدي حتى منتصف القرن التاسع عشر. أما المفكرون الشرق أوسطيين المتأثرين بعمق بالفكر الأوروبي مثل فتح علي اخوندزاده (Fath _Ali Akhundzadeh)، ضياء كوك ألب Ziya Go kalp)، ساتي الحصري Sati_ al-Husri)، وبعد ذلك جورج أنطونيوس (George Antonius)، فيميلون إلى تبني هذه الفكرة القومية القائمة على الإثنية.

بيد أننا، بالإضافة إلى ذلك، سوف نعرض (مع العديد من كتابنا) مقترحاً يقول بأن الدين، مثل اللغة و«العرق» أو الإثنية، يمكن أيضاً أن يشكل أساساً للقومية الخصوصية. فالحجة القائلة بأن الأديان عالمية ومستبعدة للغاية من مسألة لعب مثل هذا الدور المحدد هي حجة خاطئة للغاية. بادئ ذي بدء لا يوجد دين عالمي بالفعل بغض النظر عن ادعاءاته، على الرغم من أن بعض الأديان واسعة الانتشار. ثانياً، اللغات عابرة المحدود الوطنية أيضاً. وبالتالي، إن كل من اللغتين الإنكليزية والعربية هي بمثابة لغات لعدد من الدول القومية، ومع ذلك، وكما هو الحال مع حركة «الإنكليزية فقط» فی ولاية كاليفورنيا أو فرض اللغة العربية على كردستان العراق (منطقة غير ناطقة بالعربية)، يمكن للغة أن تندمج وتنصهر مع المعنى القومي والخصوصي. ومن الصحيح القول أن جعل الدين أساسا للقومية يمكن أن يثير تناقضات واضحة . (ما الذي يصنعه المرء من الأديان المشتركة خارج الدولة القومية القائمة على الدين؟ إنها، وإلى حد كبير، مشكلة لإيران الشيعية في علاقتها مع الشيعة في لبنان والبحرين. وما الذي يصنعه المرء من السنّة والمسيحيين الإيرانيين في هذه الجمهورية الشيعية؟). مع ذلك، هذه

ص: 332

التناقضات لا تقف في طريق تطبيق القوميات الدينية، كما شهدنا في باكستان وإيران وأفغانستان (وإلى حد أقل في الآونة الأخيرة في الهند مع انتصار الحزب القومي الهندوسي بهاراتيا جاناتا). ففي كل دولة من هذه الدول، تلعب القومية الدينية دوراً مركزياً في الهوية الوطنية، إلى جانب العرقية واللغوية وعوامل أخرى. وعاد الخطاب الأكاديمي إلى تصنيف القومية الدينية كشكل من أشكال القومية، على الرغم من أن من الصعب أن نرى من الناحية التحليلية، أن القومية التي تعتمد على الشعور بالهوية الدينية تكون بطبيعة الحال أقل حجية من الحركات الإثنية أو اللغوية العلمانية.

إن ملاحظات سامي زبيدة وأنطوني هايمان( Anthony Eyman) في هذه القضية تعارض فكرة الهوية الدينية باعتبارها بقايا من أزمان السلالات الحاكمة الشمولية التي جعلتها غير مناسبة ولاغية بالنسبة للقوميات الخصوصية.من ذلك، بدلا ينطوي المشروع الوطني على افتراض وجود شعب مختلف عن شعوب أخرى على أرض ذات دولة، ومحايد إلى حد كبير فيما يتعلق بالمصطلح الأساسي الذي يفسح المجال للشمول والإقصاء. هذا المصطلح يمكن أن يكون لغويّاً، استنادًا إلى مفاهيم الأصل أو العرق المشترك أو على أساس الدين (مفاهيم غير دقيقة وغير علمية). إذ تقتصر «شمولية» التقاليد الدينية العظيمة عند الفحص الدقيق، تقتصر على بضع موضوعات مجردة في الواقع إن الأديان «العالمية» تعمل كمظلات لمعتقدات محلية وممارسات اجتماعية متنوعة، فتربطها معاً بدلاً من أن تكون فضفاضة عن طريق الاحتكام إلى بعض المواضيع البسيطة، الأساطير ، والطقوس المشتركة. وبقدر ما يكون الدين في الغالب محليا بطبيعته على الرغم من عالميته الظاهرة يكون بالإمكان اختياره للأغراض القومية عادة. وبالتالي، لقد شكل مزيج الباكستان المؤلف من الفقه الحنفي؛ من تعاليم الجشتية السهروردي والنقشبندي والقادري الصوفية؛ من حركات إصلاحية مثل الديوبندية والبريلوية؛ من حداثة إقبال وتأثيره الواسع؛ من البنجابية الشيعية بتراثها الصوفي الغريب المميز، ومن المكانة المحلية للدعاة والعلماء الصوفيين الذين غالبا ما يعظون باللغات الإقليمية شكلت كلها مجموعة هامة من المشابك التي يمكن أن تشكل دولة باكستان الإسلامية بنكهتها الخاصة

ص: 333

والتي تميز باكستان عن جيرانها المسلمين في كل من إيران وأفغانستان. ولجعل الأمور أكثر تعقيدًا حتى تم تناول هذا الجانب الديني إزاء القومية الباكستانية وأخذ على محمل الجد وغير الجد في نقاط مختلفة من الخطاب الوطني والممارسات السياسية والقانونية. فالدين، مثل أي هوية أخرى، هو مجال للخصومة والتنافس أكثر مما هو جوهر ثابت والنضال حول تعريف ومكان الدين يمكن أن يكون مفصلا بشكل متناسب مع إحساس وطني بالهوية يتسم بحد ذاته بالسلاسة والتغيير.

حيث تهيمن القومية الإثنية والدينية على دول متعددة الإثنيات والأديان، يمكن ان تسهم القاعدة الخصوصية للإيديولوجية بقدر كبير من الصراع الداخلي، كما هو الحال في لبنان أو العراق أو البوسنة. مع ذلك، وحتى في الدول التي تبنت القومية المدنية، يمكن لمشاريع إمبريالية مثل مخططات الولايات المتحدة وفرنسا في فيتنام أن تؤدي إلى تعاريف جينغوية (قومية متطرفة) للمصلحة الذاتية الوطنية، مع عواقب مدمرة للغاية. يجب أن نتذكر أيضا أن هذه القوميات المدنية في فرنسا والولايات المتحدة غالبًا ما تختلط مع نوع من القومية العرقية غير المعلنة، والمشاعر التي لعبت

عليها جان ماري لوبان في فرنسا والعنصريون البيض في الولايات المتحدة.

الهوية السياسية ليست شيئاً جديداً في التاريخ، لكن «تصور» الدولة القومية له ميزة جديدة تختلف عن الهويات الإثنية المحلية أو الإمبراطورية - الإقليمية. وقد تعزز هذا التصور في الأصل من خلال إعادة تنظيم واسعة للمجتمع الزراعي في انتظار صعود الصناعة (في شمال المحيط الأطلسي) أو الرأسمالية الزراعية، صعود الدولة البيروقراطية الحديثة والصراع الطبقي المتعدد ضد الإمبريالية (في جنوب العالم). وفي حين أن تأكيد أندرسون على الطباعة وانتشار معرفة القراءة والكتابة، والجريدة والصحيفة والرواية والمتاحف عبارة عن رؤية نظرية رئيسية لفهم جوانب القومية، فإن هذه الظواهر أثرت على زوال عدد ضئيل من الأشخاص في الفترة الأولى من المشروع القومي في المناطق التي نحن مهتمون بها، وكان لمشاريع الطباعة والتعليم ذات الصلة بالدولة تأثير أوسع بكثير.

ص: 334

إن عملية بناء الأمة مستمرة. ففي قسم كبير من جنوب العالم، حدث ذلك في سياق الاستعمار ومرحلة ما بعد الاستعمار ويمكن الاحتجاج بجميع دلالات الهوية الرئيسية التي ركز عليها مؤيدو القومية في القوة الخطابية الخاصة في الأوضاع الاستعمارية وما بعد الاستعمار «العرق»، اللغة والدين وغالبا ما تكون دلالات اجتماعية تختلف بشكل صارخ بين المستعمِر والمستعمَر ويمكن لبناة الأمة القوميين الاحتكام إليها. كما أن وجود الفترات الاستعمارية وما بعد الاستعمار الأخرى يسمح أيضاً للسكان المحليين المتنوعين فعلا بالاستمرار بوهم التجانس النسبي ضد الهيمنة الأجنبية، مما يساهم في التماسك «الوطني».

بيد أنه في فترة ما بعد الاستعمار ، فإن هذا الأمر الذي حقق الوحدة ينهار أحيانًا ويتصاعد التحدي والخصومة الداخلية بين السكان المتنوعين في الدولة الجديدة. وقد تندلع حركات النضال الانفصالية، كما هو الحال بين الشماليين والجنوبيين في نيجيريا في فترة ما بعد الاستعمار أو يمكن لمجموعات أو طبقات الحالات المستبعدة الاحتكام إلى الرموز الدينية الوطنية من أجل تحدي نخب ما بعد الاستعمار المتحصنة، مثل فئات البازار التي وظفت إعادة صياغة الخميني للإسلام الشيعي ضد «علمنة» برجوازية كبيرة في إيران الشاه (ظاهرة مشابهة ظهرت في الهند الجزائر وإلى حد ما في أوزبكستان). قد يكون التراث الوطني أكثر تباينا بحيث يتم إعادة رسم الحد الفاصل بين الذات والآخر . ففي المرحلة المناهضة للاستعمار في النضال الهندي من أجل الاستقلال، تم استحضار أمجاد تاج محل حتى من قبل الهندوس كدليل على المجد الوطني الهندي في الماضي، في حين أننا رأينا في الهند المستقلة التسعينات مجموعات هندوسية قوية تدعو إلى هدم هذه الآثار الإسلاميّة باعتبارها بقايا من زمن الهيمنة الأجنبية . إن استمرار أهمية الإرث الاستعماري في تشكيل الأمة الحديثة يثير مشاكل الهوية الحادة في سياق القومية التي غالبا ما تصور نفسها بأنها أصلانية (nativism) نقية (وهذا واضح مع استمرار أهمية اللغة والثقافة الفرنسية في أوساط الطبقات الوسطى والغنية في الجزائر، واللغة والثقافة الروسية في أوساط نفس الطبقات في آسيا الوسطى).

ص: 335

إن ظهور التصنيع على نطاق واسع الصناعات الخفيفة عادة أو الصناعات المرتبطة بالسلع الأولية مرتفعة الثمن مثل (النفط) منذ حوالي عام 1960 هو ما یمیز فترة ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط. فبعض الدول التي لديها واقع أو توقعات بمداخيل مرتفعة من ريع السلع الأولية، مثل إيران والعراق، حصلت على استقلال كاف عن المجتمع الدولي للخروج بنفسها والقيام بشيء جديد ومستقل عن الآخرين وتطوير أنظمة شعبوية استبدادية ذات إمكانات مؤكدة ومجربة للتعبئة الجماهيرية غير المرحب بها لدى القوى العظمى. فقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى ظهور الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية القديمة في آسيا الوسطى كدول قومية مستقلة، والتي لديها علاقات معقدة مع موسكو. وشهد بناء الأمة في جنوب العالم إنجازات ونجاحات ملحوظة. مع ذلك، فإنّ الإبادة الجماعية الرهيبة التي ارتكبت ضد شيعة وأكراد العراق من قبل النظام البعثي العراقي، ومذابح الشيعة والطاجيك من قبل طالبان في أفغانستان الحرب الأهلية البوسنية، الحرب الأهلية الطاجيكية، ومذابح أيوديا وبومباي للمسلمين في الهند هي بمثابة تذكير للكيفية التي يمكن أن يتحول فيها التصور الوطني ما بعد الاستعمار نحو أوهام الهيمنة الإثنية السوداء وحتى تحقيق التجانس، تماما كما حصل مع بعض القوميات الأوروبية. فغالبا ما كانت أنظمة ما بعد الاستعمار تتسم بالهيمنة من قبل «جمهور» ضيق يبرز النخبة السياسية الرئيسية . فظهور جماهير مناهضة للتبعية التي هزت هيمنة حزب المؤتمر في الهند والتي أفسدت السياسة التركية عندما استولى الإسلاميون على رئاسة الوزراء في أواخر التسعينات، هو ما تحدى نظام ما بعد الاستعمار. إذ لم تشهد دول آسيا الوسطى حتی الآن، باستثناء قرغيزستان إلا القليل من العمل في طريقها نحو الديمقراطية الحقيقية، وأدت التقاليد المستمرة للسلطوية المتجذرة في الممارسات البيروقراطية السوفييتية إلى انشقاق أولئك الذين يشعرون بالحرمان. أما كيفية تعامل النخب مع هذه التطورات فسوف يساعد على استمرار بروز الفكرة الوطنية في كما هي مجسدة في الوضع الراهن في جنوب العالم.

سوف يكشف المؤلفون الممثلون في هذا الإصدار تداعيات الإرث الاستعماري

ص: 336

في تشكيل الوعي الوطني في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ونبدأ مع الفترة الاستعمارية، مع مقال بقلم سامي زبيدة يدرس فيه حالة العراق. ويشير سامي زبيدة إلى المجتمعات المتباينة التي تقطن المحافظات الثلاث الواقعة على نهري دجلة والفرات في ظل الحكم العثماني، مع الانقسامات بين وداخل السنة، الشيعة، العرب والأكراد. ويشكك زبيدة بالاقتراح الذي طرحه أندرسون، ويقول بأن الأمة الخصوصية، ومن نواحي عديدة تحل محل دين عالمي وتزيحه. ويشير إلى أن ،العراق، على أي حال لم يكن لديه هوية دينية واحدة في العهد العثماني، وبأن العراق ما أن خرج إلى الوجود ورسمت حدوده عن طريق الاحتلال الاستعماري البريطاني، فإن الدين استمر في التعبير عن « الأمة » ودخل «مجال النزاعات القومية». ويطرح محمد توكلي تارجي القضايا في التمثيل الجنساني للأمة في إيران في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي على الرغم من أنها لم تكن مستعمرة رسمياً، إلا أنها كدحت وأرهقت في ظل الاجتياحات الإمبريالية تحت عنوان ترسيم القوى العظمى لمجالات النفوذ.

إنه يجد جاذبية قوية للوطن كالجاذبية للأم ، ولكن شرفها كان منتهكا من قبل الغرباء - إما مغتصبة أو مصابة بأمراض موهنة - والذي لا بد أن يعيده إليها أطفالها. فإذا كان العراقيون في مرحلة ما بعد الاستعمار، بحسب طرح زبيدة، يشعرون بأن لديهم دولة ولكن ليس أمة موحدة وقوية، فإن المفكرين الإيرانيين بالنسبة لتوكلي تارجي كان لديهم تصور بحلول القرن التاسع عشر عن أمة وطنية عمرها 6000 عام (!) تفتقر إلى دولة قوية ترعاها .

تنظر المقالات التي كتبتها كل من عبدالرحيموفا وكامب في جوانب تشكيل الهوية في آسيا الوسطى الحديثة، وتعالج بدورها الفترة الكولونيالية القيصرية ومن ثم الفترة الكولونيالية السوفياتية الأولى وتعارض نادرة عبد الرحيموفا ميل المؤرخين السوفييت والروس المستمر لترميز الفتوحات والإدارة الاستعمارية لما يطلق عليه اليوم اسم اوزبكستان وأجزاء من كازاخستان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن

ص: 337

العشرين ووصفها ب- «التقدمية» . بدلاً من ذلك، فإنها تستمد من المحفوظات صورة تفصيلية لأجهزة الدولة الاستعمارية ،القمعية غير العادلة في أعمالها والمرتبة في المقام الأول من أجل راحة الإداريين والمستوطنين الروس في الوقت الذي كان يتم فيه استغلال السكان المحليين في آسيا الوسطى. وتشكك عبد الرحيموفا بهؤلاء المؤرخين السوفييت الذين يصوّرون الإمبريالية الروسية التقدمية في المنطقة بينما يقدّمون السكان المحليين في دور الناس «التقليديين» الجاهلين الغارقين في الهويات البدائية والمؤسسات الاجتماعية الرجعية.

تُظهر عبد الرحيموفا كيف نهض الدستوريون الديمقراطيون المسلمون في المنطقة، بحلول عام 1916 ضد الاستبداد القيصري، ليتم اخمادهم فحسب من قبل المناهضين للديمقراطية الروسية البلشفية في العام 1918. ومن المهم بالنسبة لموضوعات هذا الاصدار التأكيد على أن باحثة محلية مثل عبد الرحيموفا لم تكن قادرة على التعبير عن نفسها في الفترة السوفييتية.

تعزز كامب الخطوط العريضة الرئيسية لحجة عبد الرحيموفا حول الفترة الاستعمارية في تركستان، ولكنها تمضي بدراسة دور رمزية الجنس والكشف عنه في تشكيل الهوية الوطنية الأولية الأوزبكية في أوائل الفترة السوفييتية. وتشير إلى القرار الرئيس لصانعي السياسة السوفيتية المتعلق بتقسيم تركستان وغيرها من آسيا الوسطى في خمس جمهوريات سوفييتية على أساس الهيمنة في منطقة ذات مجموعة عرقية معينة (تفهم من خلال منظور الإثنوغرافيا الروسية). واحدة من هذه الجمهوريات هي جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفياتية، التي تجمع إمارات خيوة القديمة (خوارزم القديمة) بخارى، وقوقند الإسلامية والمؤلفة من سكان ناطقين باللغة التركية وسكان ناطقين باللغة الفارسية ((الناطقون باللغة الفارسية يشكلون ثلث السكان على الرغم من أن تمايزهم كان مسكوتاً عنه إلى حد ما، لأنهم أصبحوا ثنائيي اللغة إلى حد كبير في اللغة الأوزبكية). وتحتجّ كامب بقولها أن مدارس وجامعات الدولة الجديدة والتوظيف في مؤسسات الدولة السوفياتية

ص: 338

في بعض المستويات من قبل الآسيويين الأوسطيين المدربين في تلك المدارس ساعدت على تحويل الآسيويين الأوسطيين بمرور الوقت إلى موظفي خدمة مدنية في جمهورية أوزبكستان السوفييتية الاشتراكية، وذلك بتشجيع الرجال والنساء، على حد سواء، على تبني اللغات الرسمية الأوزبكية والروسية بدلا من اللهجات التركية الأصلية من أجل الحصول على هذا العمل الحكومي المربح. بالإضافة إلى ذلك، تشير المؤلفة إلى أهمية حملة ( هجوم ) الحزب الشيوعي ضد حجاب النساء الأوزبكيات والطاجيكيات والذي كان دلالة أساسية على المكانة لدى العائلات

المسلمة من الطبقتين الغنية والمتوسطة في أماكن مثل بخاری و سمرقند.

وقد نُفِّذت إجراءات جماهيرية عامة لنزع الحجاب كجزء من مشروع الأمة الأوزبكية. وواجهت حملة الحزب مقاومة هائلة، بما في ذلك المقاومة العنيفة، ولكن الصراع ذاته ساهم في تشكيل مجتمع متصور جديد للأوزبكيين في أوساط كل من النساء والرجال (يفهم على أنه وعي الأوزبك، والطاجيك، وغيرهم من الجماعات العرقية التي تعيش في جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفياتية بخصوص وجود هوية سياسية مشتركة ضمن النظام السوفياتي). ومن المفارقات، أن الإيديولوجية الماركسية السوفياتية العالمية القائمة على الطبقية عملت كقابلة من أجل تجميع مجموعة جديدة من القوميات.

ينتقل النصف الثاني من هذا الإصدار إلى معالجة العمليات المستمرة والمختلفة لبناء الأمة في حقبة ما بعد الاستعمار، مع التركيز على أفغانستان، تركيا، أوزبكستان، وقيرغيزستان. وتبدأ دنيز كانديوتي (Deniz Kandiyoti) هذا القسم بلمحة عامة عن المناقشات حول مرحلة ما بعد الاستعمارية (post-coloniality)، مشيرة إلى التمايز في الأدبيات بين هذا المصطلح الأخير كحقبة تاريخية وبين مصطلح ما بعد الاستعمار (post-colonialism- كشكل معين من أشكال التحقيق الفكري وتم تقسيم هذا الأخير بدوره إلى نقد ما بعد الاستعمار، وذلك بتمييز عمل المثقفين المناهضين للإمبريالية الذين ينتقدون الإرث الاستعماري بأسلوبٍ سياسيٍ وحس ٍ

ص: 339

منطقي سليم، ونظرية ما بعد الاستعمار، والتي تستخدم النظرية الأوروبية المرتفعة لتحليل «النظم الاستعمارية للتمثيل والإنتاج الثقافي». وفي جميع الحالات، يسعى منظور ما بعد المستعمرة (post-colony- إلى إزاحة أوروبا عن دورها المميز كبطلة رواية الحداثة التي يميل عالم الاجتماع إلى تعريفها به واستعادة صوت المستعمر إلى مركز الصدارة. وتشير كانديوتي إلى تأثير نظرية التحديث غير المعلنة في كثير من الأحيان في العلوم الاجتماعية الغربية والسوفياتية على حد سواء، في المناقشات حول تأثير الاستعمار وتشير إلى أن أوجه القصور الواضحة بشكل متزايد لهذا النموذج التنموي كانت من بين الحوافز لتحقيق منظور جديد ليس غارقا بالمثل في معارك ثنائية عقيمة بين الشرق والغرب، والتقاليد والحداثة، والشعوب الأصلية والأجنبية. مع ذلك فهي تكرر تحذير ستيوارت هول (Stuart Hall) من عدم إقامة مفهوم ما بعد الاستعمارية (post-coloniality) كمفهوم أحادي اللون يدحض الاختلافات الكبيرة بين التجارب الاستعمارية ومرحلة ما بعد الاستعمار وهي تشير بإسهاب إلى الطرق التي يعقد بها المشروع السوفييتي في آسيا الوسطى أي تصنيف سردي بسيط للهيمنة الغربية و الاستعمارية لغير الغربيين.

يحلل مقال الراحل أنتوني هايمان (Anthony Hyman) الألغاز القومية أفغانستان، البلد الذي عانى من السيطرة الاستعمارية البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومحاولة دمجه في المشروع السوفياتي في الثمانينات وتم إحباط هذا الأخير (المشروع السوفياتي) من خلال حرب أهلية واسعة النطاق وبفعل التدمير الهائل وصعود عدد من الإيديولوجيات الإسلامية المنفصلة والمتحاربة، واحدة منها أصبحت مهيمنة في أواخر التسعينات - أي طالبان. ويؤكد هايمان على أن الوعي الوطني الأفغاني ضعيف ومجزأ (كما يمكن للمرء أن يتوقع بالنظر إلى الضعف وعدم الاستقرار على مستوى الدولة) لكنه يشير إلى الطرق والمفارقات الساخرة بحيث أن خطر الانفصال الذي كان قائما في التسعينات عزز في نهاية ذلك العقد الالتزامات القومية حتى بين الأقليات القلقة. ولم يعش هايمان ليرى الحرب الأميركية - الأفغانية التي بدأت في عام 2001، ولكن استنتاجاته الشاملة حول

ص: 340

استمرار القومية الأفغانية في مواجهة انقسامات سياسية وأيديولوجية ودينية وعشائرية عميقة بدت ثابتة عندما ذهب هذا الإصدار إلى الطباعة.

هناك نوع مختلف من الانهيارات يقوم بتحليله أليشر إلهامو (Alisher Ilkhamov)، الذي يقول بأن تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور وحدات مثل أوزبكستان المستقلة أمر متجذر في مستويين من الصراع. فعلى مستوى النخبة السياسية، كانت المنافسة قائمة بين النخب الإدارية الاقتصادية السوفييتية بالكامل والنخب السياسية السوفييتية الذين كانوا، بدلاً من ذلك، متجذرين في جمهوريات محددة من الاتحاد. فقد ظهرت النخب في الجمهوريات خلال موجة التوطين في الستينات، لكن سُمح لهم، من خلال الرقابة أو التصميم، بتطوير قواعد وشبكات القوة المحلية من الزبائنية لتصبح بذلك أكثر استقلالاً عن المركز السوفياتي مما كان عليه مثل هؤلاء المسؤولين الحزبيين الإقليميين بكثير. وعندما رأى هؤلاء أن الاتحاد السوفييتي يعاني من أزمة ركود اقتصادي، استخدموا سيطرتهم الجديدة على «الشرطة المحلية، المحاكم الشرعية وسائل الإعلام» «والقطاعات الصناعية» لتقديم عرض ناجح للاستقلال عن المركز المترنح وينطوي المستوى الآخر من تحليله على التجمعات السياسية المحددة، كما اتضح عن طريق الاقتراع، والتي كانت موجودة في أوزبكستان ما بعد الاتحاد السوفياتي على وجه الخصوص، والتي ساهمت في تشكيل ثقافة سياسية جديدة هناك. ووجد أربعة أنواع من هذه الاتجاهات في التسعينات: اشتراكيو الطبقة العاملة (الحنين إلى الاتحاد السوفياتي)؛ التقليديون الدينيون والإثنيون (الراغبون في إحياء وتعزيز العادات الإسلامية)؛ الاشتراكيون الكوزموبوليتانيون من الطبقة الوسطى الذين فاتهم الإتحاد السوفييتي (cosmopolitan socialists : الاشتراكيون، إذا كانوا أصليين هم أمميون وعالميون لذلك يعتقد وبشكل أساسي أنه يجب أن يكونوا مناهضين للقومية)؛ والثقافة الفرعية للمنشقين الليبراليين، التي لعبت دوراً رئيساً . معارضة وتفكيك النظام السوفياتي في روسيا وبعض المناطق الأخرى، ولكنها ظلت أضعف بكثير فى أوزبكستان.

ص: 341

وقد شهدت الجمهوريات المختلفة نتائج متفاوتة، ولكن النخب الحزبية المحلية في جزء كبير من آسيا الوسطى حولت نفسها إلى قادة وطنيين افتقار هذه

ومع النخب إلى الدعم من جانب الطبقة الليبرالية الضعيفة المنشقة، فإنها أقامت «أنظمة استبدادية شبه ليبرالية». ومن المثير للاهتمام، أن إلهاموف (Ilkhamov) يحدّد مكانة دولة ما مثل أوزباكستان، ليس في التكوين الإثني (السلالات البشرية) ولا في نظرية الصراع الطبقي على النمط السوفييتي، بل في تحليل متطور للمنافسة من مختلف أنواع النخب السياسية الفاعلة ذات قواعد القوة المختلفة، وفي التناقضات بين المركز والأطراف في الثمانينيات، وفي وجود أو غياب الشركاء على مستوى القاعدة أو المنافسين مع النخب السياسية المحلية في أوساط المنشقين أو الاشتراكيين أو القوميين الدينيين.

تدرس بشرى إرساني Busrasani دور كتب التاريخ في إنشاء القوميات التركية والأوزبكية، وهو دور يجب أن نتوقع أن يكون محوريّاً إذا كان سامي زبيدة وغيره على صواب بشأن مركزية الدولة في صنع الأمة. ويكتسب تحليلها أهميته من نهجها المقارِن لمجالين حيث تسود اللغات التركية. إنها تربط ربطاً وثيقاً الشكل المتغير للدولة بصور الماضي في كلا البلدين. ففي الثلاثينيات، عندما كانت تركيا نظاماً جمهورياً، علمانياً، أحادي الحزب وسلطوياً، حاولت الكتب المدرسية التقليل من أهمية المركزية للإمبراطورية العثمانية وإسلامها الرسمي إزاء الهوية التركية، لتؤكد بدلاً من ذلك على الأصول الإثنية الوهمية الآسيوية الوسطى المفترضة لسكان الأناضول ومحاولة رفع اللغة إلى موقع اللسان الأصلي المشتقة منها كل الألسنة الأخرى. وفي التسعينات، انتقلت تركيا، بشكل متقطع، إلى نظام حكم برلماني أكثر شمولا أصبح فيه حتى الإسلاميون شركاء في الحكم، وبدأت الكتب بالاعتراف بالتاريخ العثماني، على الرغم من أن تاريخ الفترة الجمهورية أثمر بتجاهله «تعددية الحياة السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والإثنية بعد العام 1945».

ص: 342

في أوزبكستان، وبحسب ما ترى بشرى إرسانلي، تم التقليل من أهمية الإمارات والخانات (منطقة يحكمها خان) الإسلامية ما قبل الحداثة في الكتب المدرسية في الفترة السوفياتية، التي ركزت على وسائل الإنتاج التي يفترض أن تكون قد نفضتها، وأعطت مكاناً بارزاً ل-«التشكيل السياسي الثقافي الروسي السوفييتي» (أمر كنا على استعداد له من جانب عبد الرحيموفا) بعد الاستقلال حدث صراع بين أولئك الراغبين بالاستمرار في وضع الكتب المدرسية وفق النمط السوفياتي القديم وأولئك الذين أرادوا التركيز على التاريخ الأوزبكي. وفاز الذين أرادوا التركيز على التاريخ الأوزبكي، على الرغم من أن معظمهم تمكنوا، كما تقول إرسانلي، من تجنب ما قد يسمى التمجيد «الشوفيني» للأوزبك على حساب الشعوب التركية الأخرى، والخط المؤيد للترك واضح لدى البعض. وهناك تركيز جديد على أهمية الحركة الإصلاحية الإسلامية الجديدة في الخمس الأول من القرن العشرين كما هو واضح من سلالة الحداثة الأوزبكية الآن. وقد أكمل فصل تشارويف (Tchorov) تحليل إرسانلي عن تحول تركيز الكتابة التأريخية عن التأريخ الرسمي لقرغيزستان ما بعد المرحلة السوفياتية، الذي تتبع خطوات بعيدة عن نهج الماركسية اللينينية في مقابل تركيز أكبر على الارث الثقافي القرقيزي (كما في ملحمة ماناس العظيمة)، والنزاعات حول مدى التقدمية في الفترة الاستعمارية الروسية. وهو يشير على وجه الخصوص، إلى إعادة تفسير المواد المتعلقة بخبرات الدولة في وقت مبكر من قيرغيزستان، وإعادة قراءة تاريخهم الإثني، وإعادة رد الاعتبار الشخصيات وطنية كانت تعتبرها المؤسسة السياسية والعلمية السوفييتية «رجعية» في السابق.

ص: 343

هيجل وإفريقيا في نقد ضحالة الوعي الاستعماري

اشارة

مونیس بخضرة(1)

ظلت إفريقيا ولا تزال كذلك تشكّل حلقة غامضة مليئة بالأسرار، وبعيدة كل البعد عن البحث الفلسفي بشتى فروعه في الثقافة العربية والإسلامية معاً، دون الحديث عن بعض الدراسات التي لامست إفريقيا من جوانب مختلفة كالدين والثقافة والجغرافيا والتاريخ، إلا أنها تبقى منعدمة في الدراسات الفلسفية ومن معاينة المفكرين والفلاسفة لها، خاصة وأنها تشكل مادة خام حيوية للتفكير الفلسفي وللإلهام العقلي، بأنها مشكل موضوعة مشبعة بالأسئلة المهمة التي تساعده على ممارسة التفلسف وأهميتها تعود إلى الضرورة الفكرية الخالصة التي تحوز عليها إفريقيا كرافد للتفكير بما أنها لا تزال تحتفظ بصورة تضايف الفكر مع الطبيعة ومكوناتها ومع صور الفن وشبكات المعتقد، وهي اللحظة الأولى التي انبنت عليها الفلسفة ذاتها، بما أن الإفريقي ورغم استفحال التقنية وشبكات العولمة واجتياح مظاهر التمدن في العالم إلا أنها استطاعت أن تحافظ على لمستها الأولى التي رسمتها لنفسها في الوجود . حيث ظلت إفريقيا مشبعة بالأسئلة المصيرية التي تخص الإنسان والقدر والوجود والموت والله... إلخ. وهي أسئلة بقت في التاريخ في

ص: 344


1- باحث وأستاذ في الفلسفة المعاصرة - جامعة تلمسان - الجزائر.

صورة تأملات ساهت بشكل إيجابي في حراك الفرد والمجتمع معاً في نسق واضح المعالم جعلت منها قبلة للتنوع الثقافي المحملة بالثقافات المحلية البسيطة التي عبرت بشكل جيد عن أساليب العيش وراء اللون واللهجات المحلية وتقاليد غالباً ما وُصفت أنها صانعة للسحر. حيث إن هذا التنوع والسخاء الذي وفرته إفريقيا دفع بأجناس كثيرة على التفكير وغزو إفريقيا خاصة منهم الأوربيين، وهذا الذي حصل في القرنين الماضيين، الذي فيه تَعرّفٍ العالم على إفريقيا من خلال مشاريع الاستعمار. ولكن وللأسف لم يكن تعرفاً قائما على مبدأ التقابل بقدر ما كان قائماً على مبدأ السيادة والاختزال والاخضاع، والذي عنه اندفع الإفريقيون بمختلف أطيافهم لتبني استراتيجية النضال بهدف بناء عالم الحرية خاص بهم، وتعلموا مفهوم التحرر بالخبرة وكان لهم ما تعلموه واليوم هي بحاجة لنظرة شاملة ولمراجعة دقيقة خاصة من قبل نخبها ومثقفيها. ومهما حصل نتيجة هيمنة الثقافات الأخرى التي استطاعت أن تنسينا إفريقيتنا إلى حد ما، خاصة نحن المغاربة الذين نتناطح مع أوروبا دون أن نلتفت ولو لبرهة إلى الخلف وإلى الحضن الطبيعي والامتداد الجغرافي، ومن أجل هذه العودة ارتأينا أن نفتح هذه الدراسة للتحسيس أكثر منها للتعريف بأهمية أفريقيا وعلى الضرورة أن نجعل منها بنية لبراكسيس التفلسف والتفكير.

بناء على أهمية إفريقيا الفلسفية والثقافية بشكل عام، سنحاول في هذه الدراسة عرض موضوع لطالما طرح كثير من الأسئلة في الفلسفة، وبالتحديد علاقة هيجل بإفريقيا ودعمه للنزعات الاستعمارية الأوربية لها دراسة نقدية، ومواقفه الشهيرة من الفكر الإفريقي والتي غالبا لم تخدم صورة إفريقيا الطبيعية ولم تستوف حق منتجها الثقافي العام هي انتقادات تداولتها بعض الدراسات حول رؤية هيجل لإفريقيا.

الفلسفة والاستعمار:

سبق للفيلسوف المعاصر«كارل بوبر» وأن ربط حمى صِدام الحضارات والثقافات بالمشاكل العميقة للحضارة الأوربية، وما انجر عنها من مآسٍ وأزمات مسّت البشرية في جوهرها ظهرت في الاستعباد وحركات الرق والحملات الاستعمارية على الشعوب غير أوربية. وفي هذا الشأن يقول كارل بوبر يرتبط اهتمامي بصدام الحضارات باهتمامي بمشكلة كبرى مشكلة خصائص حضاراتنا الأوربية ومنشئها.

ص: 345

في رأيي أن ثمة إجابة جزئية عن هذا السؤال تكمن على ما يبدو في حقيقة أن حضارتنا الغربية مشتقة من الحضارة الاغريقية، ولقد نشأت الحضارة الاغريقية - تلك الظاهرة الفذة - في صدام الثقافات، صدام ثقافات شرق المتوسط. كان هذا أول صدام رئيسي بين الحضارات الغربية والشرقية. ولقد كانت له أثار بالغة الوضوح. ولقد أحاله هوميروس إلى فكرة مهينة في الأدب الاغريقي وفي أدب العالم الغربي(1).

يتساءل المفكر «كافيين رايلي» في كتابه «الغرب والعالم» عن إن كانت عنصرية المجتمع الغربي الحديث ظاهرة جديدة وفريدة أم أنها كانت موجودة دائما؟ وهل استئصالها أمر ممكن؟ خاصة وأنها مرتكزة على دعائم ثقافية وفلسفية عميقة الجذور كما يقول (2).

بالرغم من أن العنصرية وغريزة استعباد الأخرين متأصل في الجنس البشري وهي قديمة بقدمه، إلا أن العنصرية الغربية الحديثة فاقت كل الحدود المتخيلة وتحوّلت إلى مشروع له ضوابط وأهداف محددة، وصارت واجهة المجتمع الغربي الحديث عنيفة وعنصرية أكثر من أي وقت مضى مقارنة بواجهات المجتمعات الأخرى، وغرقه الشديد في لعبة التمييز العرقي والديني واللوني والثقافة وإنهاك حريات الشعوب، وعنها أنتج تصنيفات للمجتمعات بعيداً عن المساواة وأصول التقارب والتجاور.

ولتمكين رؤيته العنصرية هذه، وظف كل الوسائل المادية والمعنوية والثقافية من فلسفات وفنون وآداب وعلوم الإنسان بصفة عامة على غرار الأنثروبولوجية التي تساعد على فهم العادات والطباع وأمزجة الأفراد للوقوف على مكامن الضعف والنقص.

فقد سبق للأنثروبولوجي الفرنسي «كلود ليفي شتراوس» وأن اعتبر ظاهرة العنصرية والاستعباد قديمة قدم الإنسان ذاته، وأشار إلى وجود شيء من المفارقة عندما تصف الشعوب المتحضرة الحديثة غيرها من الأجناس بأنها (أجناس همجية). فهو يرى هذا الموقف العقلي الذي يخرج الهمج أو أي شعب يقرر الإنسان أن يعده همجيا من عداد الجنس البشري، هو بعينه أخص خصائص هؤلاء الهمج أنفسهم. وعندما كانت الأجناس البشرية المختلفة تلتقي فإن أعضاءها عادة ما كانوا

ص: 346


1- کتاب کارل بوبر، بحثا عن عالم أفضل ترجمة أحمد مستجير، مكتبة الأسرة، 1999، ص150.
2- كافيين رايلي الغرب والعالم ، ج2 ، ترجمة: عبد الوهاب المسيري، هدى عبد السميع حجازي، عالم المعرفة(ع97) 1986 ، الكويت، ص81.

يتساءلون عمًّا إذا كان الآخرون بشراً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد سنوات قليلة من اكتشاف كولومبوس لأميركا بعث الإسبان لجان تحقيق ما إذا كان للهنود (الشعوب الأصلية) لهم نفوس أم لا، حتى يمكن اعتبارهم من البشر أم لا(1).

ويذكّرنا ليفي شتراوس أن ثقافة العنصرية والاستعمار هي اختراع قديم، وفي المقابل تم تسويق ثقافة المساواة والأخوة الإنسانية في العصر الحديث كذبا. فالقارئ للفلسفة اليونانية، سيجد مدى تمجيد بعض فلاسفتها للعنصرية واختزال الشعوب غير اليونانية في مصاف العبيد والرق، لا يحق لهم مقاسمة الإثنيين الحقوق نفسها، وهنا نتذكر تقسيمات أفلاطون وأرسطو وممارستهما للإقصاء حتى لبعض المكونات المجتمع الواحد مثل ذوي العاهات الجسمية والعقلية والأيتام، وهذا الذي أسس النزعات القومية المتطرفة في الثقافة اليونانية والرومانية معاً.

أما الأنثربولوجي (ميشيل ليريس) فله وجهة نظر مختلفة، فهو يرى أن أول نقطة تظهر لنا بعد دراسةٍ للمعلومات والظواهر الاجتماعية التي يزودنا بها علم (الأثنوغرافيا) والتاريخ أن التحيز العنصري والاستعمار ليس أمراً عاماً، وإنما هو حديث ظهر مع التحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا بداية من القرن الخامس عشر.

لقد آمن الينونانيون القدماء أن الأسيوييين والأفارقة جبناء وغير مثقفين، ولكن حكمهم هذا لم يكن وليد اللون وإنما وليد الثقافة الممارسة، فهيبوقراط على سبيل المثال أرجع عدم كفاءة الصينيين عسكريا إلى نظامهم الذي لم يكن يمنح الجنود المكافأة المناسبة لشجاعتهم، فكانت ثمرات النصر من نصيب السادة لا الجنود.

و(ليريس) يعيد ويذكرنا أن موجة العنصرية الحديثة التي صاحبت نمو الرق كانت أوسع نطاقا من ما شهده التاريخ. ومما له دلالته أن الأوربيين الغربيين كانوا هم الذين نظموا بشكل منسق، قوى كبيرة من الأجناس الأخرى (الأفارقة والهنود الأميركيين) في العمل في المزارع والمناجم ، وهو العمل الذي ينطوي على أقصى درجات الاستغلال، لقد كان هؤلاء الأوربيون هم الذين نقلوا جماعات سكانية بأسرها إلى عالم آخر وحطموا عائلاتهم ومحوا شخصياتهم وتراثهم وعاملوهم معاملة الحيوانات، وهم

ص: 347


1- كافيين رايلي الغرب والعالم (ج2)، مرجع سابق، ص 28

الذين طورا النظريات ومشاعر التفوق العرقي والعنصري، التي تجاوزت نظيراتها في تاريخ الظاهرة(1).

تميزت العنصرية الغربية بتفردها وشموليتها، فهي لم تكتف بتسميم الثقافة الأوربية بل نشرت أفكارها في أنحاء العالم كله، إلا أن جميع النزعات الاستعمارية في أميركا، ازدهرت بفعل ممارسة الإبادة في حق السكان الأصليين، وتكريس العمل العبودي في إفريقيا، وحتى الأراضي الإفريقية أصبحت خلفية لمؤسسات العنصرية الأوربية، وتسويق العبيد أو ما يعرف بظاهرة الرق الزنجي وفي القرن التاسع عشر نشرت النزعة الأوربية على رؤى تضع الصينيين واليابانيين في مستوى دون الإنسانية. وقد تحولت العنصرية في المجتمع الغربي الحديث فقد أصبحت أسلوباً للحياة لدى القارة التي يسكنها الأوربيون ثم في القارات التي فتحوها . 87

طورت النزعات العنصرية الأوربية موجات الرق، وخاصة ذلك النوع العنصري من الرق الذي طورته أوروبا في تعاملها مع إفريقيا، فقد بنت فيها مجتمعات عبودية حقيقية فيها، فقد وصلت العنصرية الأوربية إلى أبعاد قاسية ومتطرفة بسبب استرقاقهم للإفريقيين نظرا لتطورهم العسكري والتكنولوجي، واستخدموا هذه التكنولوجيا في غزة المجتمعات الإفريقية من شمالها إلى جنوبها، انطلاقاً من تشجيع الثقافة الأوربية ذاتها لهذا الاسترقاق والغزو بما فيها بعض الفلسفات التي كانت تمجد النزعة القومية الأوربية وتفوقها العرقي على غرار ما ذهبت إليه الفلسفة الهيجلية مثلاً.

ظلت دراسة الحقائق الإفريقية ولوقت طويل، يُنظر إليها من خلال شروط القبائل والنزعات التي صارت الوجه الأساسي لها، سواء للباحثين أو للإعلام والرأي العام. فما حدث في كينيا وأوغندا ومالاوي والصومال واليوم الكونغو ونيجيريا هو تفسير مبتذل للحقائق الإفريقية بعيد عن الصواب، وهو تفسير شجعه الوعي الغربي ودوائره الإعلامية، والذي يريد أن يزيغ الناس عن رؤية أن الاستعمار ما يزال السبب للعديد من معضلات أفريقيا. وقد وقع، لسوء الحظ، عدد من المثقفين الأفارقة ضحايا لهذه الخطة، وإلى حد لم يعد فيه بعضهم قادراً على الشفاء، ولا على معرفة الأصول الاستعمارية ذات قاعدة (فرق تسد)

ص: 348


1- كافيين رايلي الغرب والعالم (ج2) مرجع سابق، ص.86

تفسير الاختلافات الثقافية والصدمات السياسية تفسيراً يستند إلى الأصول الإثنية للمختلفين.

يقول مثلا في هذا الشأن الكاتب «نيغوجي واثينغو»: أن مقاربتي ستكون مختلفة، سأنظر إلى الحقائق الإفريقية، كما هي، متأثرة بالصراع الكبير بين قوتين متضادتين في أفريقيا اليوم: تراث استعماري من ناحية وتراث مقاوم من الناحية الأخرى(1).

التراث الاستعماري في إفريقيا اليوم تُحافظ عليه البرجوازية العالمية مستخدمة الشركات متعددة الجنسيات، وبالطبع، الطبقات الحاكمة الملوّحة بالعَلَم الوطني، وتنعكس التبعيّة الاقتصادية والسياسية لهذه البرجوازية الإفريقية - كولونيالية.

إن الاستعمار لدى هؤلاء المدافعين الوطنيين عن الثقافات المناضلة للشعب الأفريقي، ليس شعاراً، إنه حقيقي وملموس، محتوى وشكلا، وفي وسائله وتأثيراته.

إن حرية رأس المال الغربي والاحتكارات فوق القومية التي تحت مظلته، في الاستمرار بسرقة بلدان وشعوب أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وبولينيزيا هي حرية محمية، اليوم، بالأسلحة التقليدية والنووية. فالاستعمار الذي تقوده الولايات المتحدة يتقدم إلى شعوب الأرض المناضلة وكل الداعين إلى السلام والديمقراطية والاشتراكية بإنذار نهائي: قبول السرقة أو الموت.

هيجل وضحالة الوعي الإفريقي:

لم يذكر هيجل إفريقيا بالاسم في فينومينولوجيا الروح، وإنما حلّل بنية الوعي المشابهة لبنية الوعي الإفريقي، خاصة وأنه في كتابه سماه بالحالة الأنثروبولوجية،وهي الحالة نفسها التي تناولها في نصّه «فينومينولوجيا الروح» باسم «أنثروبولوجية الوعي»

والإفريقي هنا هو تجسيد للآخر المطلق.

ولفهم مضمون هذه المقاربة وجب شرح البنية النمطية التي حللها هيجل بخصوص بدائية الفكر وتعانقه مع الطبيعة، خاصة ما ورد في القسم الأول من كتاب

«فينومينولوجية الروح» (1807) إذ سبق لهيجل وأن اعتبر الفكرة الخالصة هی

ص: 349


1- نغوجي واثيونغو، تصفية استعمار العقل، ترجمة سعدي ،يوسف دار التكوين 2011، دمشق، ص 16.

الجنس المجرد ، فإن الطبيعة عنده هي الفصل بلغة المنطق، في حين أن العقل الذي تعين بالفصل قد أصبح الآن نوعاً (هو الإنسان). فقد تحوّلت الفكرة الخالصة في الطبيعة إلى ضدها، وأصبحت غريبة عن نفسها (أصبحت لا عقل ولا فكر)، لكنها في فينومينولوجيا الروح تعود إلى نفسها غنية من ضدها(1).

الفكرة في الطبيعة هي في لا عقل، ولكنها مع الروح تحرر نفسها من تلك العبودية، وتصبح موجودة بوصفها روحاً حراً وهذه هي غايتها، إذ تعرض علينا فلسفة الطبيعة الهيجلية الخطوات التدريجية للعملية التطورية التي خلصت الفكرة نفسها عن طريقها من اللامعقولية المطلقة. وهذا التطور من اللاعضوية إلى الكائن الحيواني هو العود التدريجي من ضدها المطلق، وهو المادة المصلّبة إلى نفسها، أي إلى المعقولية واكتمال هذا المسار هو الروح ومع ذلك فهناك حسب هيجل مراتب في مملكة الروح، مثلما كانت هناك مراتب في مملكة الطبيعة. فإذا كان المطلق يتجلى في الإنسان، فإن ذلك لا یتم إلا بواسطة تطور ديالكتيكي للمعرفة، فهو مسار تطور طويل وشاق. فالروح يضع نفسه في الحال على أنه روح مطلق، ولكنه يبدأ من مرحلة دنيا من مراحل نموه كما هو ظاهر في الوعي الإفريقي حسب هيجل بما أنه لم يتطور كثيرا ، لم يبلغ تحققه الذاتي الكامل بعد، ومهمة فينومينولوجيا الروح هي أن تتعقب هذا التطور التدريجي وتكشف آليات عمله خطوة خطوة في التاريخ.

والأداة التي يستخدمها هيجل في هذه المهمة هي الأداة نفسها التي استخدمها في جميع أجزاء نسق فلسفته ألا وهي المنهج الديالكتيكي.

وفي سياق وضع الوعي الإفريقي، يؤكد فانون في قراءته لهيجل أن الإفريقي شخص مصلوب لا ثقافة له ولا حضارة، وهو من غير ماض ولا تاريخ يعرف ،به وبهذا العراء يكون وجود الزنجي وكينونته عقدة نقص له لا تفارقه، وتنشأ هذه

ص: 350


1- ولتر ستيس هيجل، فلسفة الروح، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ط3 2005 بيروت ص 07.

العقدة لدى كل شعب يمر بتجربة موت أصالة الثقافة المحلية(1). أما الذين يتحدثون منهم باللغات الأوربية فهو بمثابة نفاق ثقافي، ذلك أن دور اللهجة المحلية في نظر فانون لا يقتصر على تعيين مكان المرء جغرافيا واجتماعيا، بل إنها طريقة للتفكير والتأمل، إذ تمثلت هذه المشكلة بقوة لدى الفرد المغاربي في شمال إفريقيا، فكثير منهم وخاصة الذين نشأوا على اللسان الفرنسي اعتقدوا أنهم فرنسيين ثقافياً، فكيف يمكن للفرد المغاربي أن يكون فرنسياً؟ فهم تمثلوا الثقافة الفرنسية بكل الطرق، إلا أن الأصالة تتجسد في الثورة، لا في قبول المرء أن يحوله الآخرون موضوعاً لهم، وعلى هذا الأساس اعتبر فانون تحت تأثير الفلسفة الهيجلية والوجودية المعاصرة، أن الذات اليهودية والمغاربية والإفريقي بصفة عامة في صراع مستمر وهي تحاول أن تفر من كينونتها الأصلية والفرار من الآخر ، فهم مغتربون عن أجسادهم، وحياتهم انقسمت إلى شطرين شطر يسعى فيه وراء حلم مستحيل مضمونه الأخوة العالمية في عالم يقابله بالرفض والاختزال، وشطر يمثل عقدة النقص التي يحللها فانون في كتابه بشرة سوداء أقنعة بيضاء»، وبسببها بقت شعوبا تتجاذب مشكلات زائفة في الأساس بما أنها تعيش حياة زائفة(2).

يرى فانون أن توصيف هيجل في كتابه (العقل في التاريخ) أنه نموذج أصلي متميز للمشروع الكولونيالي في رؤيته للإفريقي بوصفه الآخر المطلق. إذ يجري وصف إفريقيا في الفكر الغربي بأنها مكان للطاقة والأحاسيس المتدفقة، وبانعدام الحركة وبأنها عالقة في الزمن ويستوجب وصف أفريقيا رحلة من العقل إلى الإحساس، لا من الإحساس إلى العقل. وفي هذا الشأن يقول هيجل : إن الزنجي مثال على الرجل الحيوان بكل همجيته وخروجه عن القانون، وإذا أردنا أن نفهمه أصلا، يجب علينا أن نتجرد من كل توقير وأخلاقيات، ومن كل ما نسميه عواطف. سنجد في شخصيته كل ما هو غريب على رجل في وجوده المباشر، ولا شيء مما هو منسجم مع الإنسانية. ولهذا السبب يمكننا أن نشعر بأنفسنا على نحو مناسب في طبيعته، لا أكثر من شعورنا في طبيعة كلب.

ص: 351


1- نايجل سي. غابسون فانونن المخيلة بعد الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2013 ، ص52.
2- نايجل سي. غبسون فانون، المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص55.

الأساس الجغرافي للفكر العالمي

ويقول أيضا في نص العقل في التاريخ: إن العلاقة مع الطبيعة التي تساعد على إنتاج روح شعب ما، إذا ما قارنا بينها وبين شمول الكل الأخلاقي، وبين وحدة تلك الفردية التي هي مبدأها الفعال تبدو عنصراً خارجياً. لكن بمقدار ما ينبغي أن ننظر إليها على أنها الأرض التي تتحرك عليها الروح وتؤدي دورها، فإنها تكون أساساً جوهرياً وضرورياً، ولقد بدأنا بالقول : إنه في تاريخ العالم تظهر فكرة الروح في تجسدها الفعلي على أنها سلسلة من الصور الخارجية تتكشف كل منها بوصفها شعباً موجوداً بالفعل(1).

هذا الوجود حسب هيجل يندرج تحت مقولة الزمان والمكان على طريقة وجود الأشياء الطبيعية، والمبدأ الذي يجسده كل شعب من شعوب التاريخ يكون بمثابة خاصة طبيعية له، وحين تتخذ الروح هذه الصورة من صور الطبيعة تدفع أوجهها الجزئية إلى اتخاذ طابع الوجود المنفصل، لأن الاستعباد المتبادل هو نوع الوجود المميز للطبيعة الخالصة، وهذه الفروق الطبيعية يلزم أن نعدها في بادئ الأمر إمكانات خاصة تتولد منها روح الشعب، ومن هذه الإمكانات يحدد هيجل إمكانات الأساس الجغرافي التي تمثلها أمة من الأمم باعتبارها موقعاً محلياً خارجياً. فمجال اهتمامنا حسب هيجل هو معرفة النمط الطبيعي للموقع المحلي من حيث صلته الوثيقة بنمط الشعب وشخصيته التي هي ثمرة لمثل هذه التربية هذه الشخصية ليست أكثر ولا أقل من الحالة والصورة التي تظهر بها الأمم في التاريخ وتأخذ مكانها ومركزها فيها(2).

فمن المؤكد حسب هيجل أن جو «أيونيا» المعتدل مثلا قد أسهم بشكل كبير إضفاء الصفاء والرقة على أشعار هوميروس، ولكن هذا الجو لا يخلق لنا شعراء من طراز ،هوميروس، كما أنه لا يظل يأتي بمثلهم. ففي العهد التركي لم يظهر شعراء، وعلينا هنا أن نأخذ في اعتبارنا أولاً تلك الظروف الطبيعية التي ينبغي أن تستعاد مرة واحدة وإلى الأبد من دراما تاريخ العالم.

ص: 352


1- هيجل : العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة 1987، ص157
2- المصدر نفسه، ص 157

ففي المنطقة المتجمدة والمنطقة الحارة مثلا، لا يوجد الموقع المحلي المناسب لظهور شعوب التاريخ العالمي حسب هيجل. ذلك لأن الوعي المستيقظ يظهر محفوفا بالمؤثرات الطبيعية وحدها، وكل تقدم له انعكاس الروح على نفسها في مقابل الطبيعة المباشرة، والطبيعة هي وجهة النظر الأولى التي يستطيع منها الإنسان أن يظفر بحريته داخل ذاته، وينبغي ألا تقف العقبات الطبيعية حائلاً في وجه هذا التحرر.

إن الطبيعة في مقابل الروح هي كتلة كمية، ويلزم ألا يكون لها من القوة ما يجعلها قادرة على كل شيء، ففي المناطق المتطرفة لا يستطيع المرء أن يكون حراً في حركته. فالبرد والحر في تلك المناطق من القوة بحيث لا يسمحان للروح أن تقيم عالماً لذاتها، لكن هذا الإلحاح والضغط الشديد في المناطق المتطرفة لا تخف وطأته، ولا يمكن تجنبه ويضطر الإنسان إلى أن يوجه اهتماماً مباشراً مستمراً إلى الطبيعة، إلى أشعة الشمس، أو إلى الجليد المتجمد . وعلى ذلك فإن مسرح التاريخ الحقيقي هو المنطقة المعتدلة أو بالأحرى النصف الشمالي منها ، لأن الأرض فيه تمثل شكلاً قارياً ولها صدر واسع كما قال اليونانيون قديماً(1).

تمثل فينومينولوجيا الروح عند هيجل وفق هذا الطرح، مذهباً يصف تطوّر الوعی من الحالة الحسية إلى الحالة العقلية فهي بمثابة قصة للوعي البشري histoire de la conscience humaine وارتفاعه نحو المعرفة المطلقة، وهي قصة تصف تجارب الوعى وصفاً دقيقاً. والنقطة الأساسية هنا هي عرض تجربة الوعي وهو يتكون ويصير روحاً، وتحليل الأشكال المتتالية التي يتخذها في أثناء صعوده(2).

إذا، فنحن إزاء جدل صاعد يقودنا إلى المعرفة المطلقة عبر محطات مختلفة من أنماط الوعي التي تظهر في الأشكال التي ينتجها هذا الوعي بما فيها أنظمة الأخلاق والمؤسسات والأدوات، وهذا الجدل يعكس حقيقة التواءات الحياة والكرامة المهدَّدَتين باستمرار، والمأساة ناشئة عن الصراع بين الفعاليات والمَذاهب والمواقف. ولعل من أهم ما تضطلع به فينومينولوجيا الروح في شرح أنماط الوعي هو خلع نظام

ص: 353


1- جان .هیبولیت دراسات في ماركس و هجيل ترجمة جورج صدقني منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القوم دمشق 1971 ص 29.
2- فرنسوا شاتلي. هيجل ترجمة جورج صدقيني، مراجعة الأب فؤاد جرجس بربارة منشورات وزارة الثقافة دمشق 1970 ص 80

عليها يتيح للعقل التأمل فيها واستخلاص ما فيها من دلالات مختلفة ولا تخلو الفينومينولوجيا من طابع تربوي (pédagogique)، فهي تتناول الوعي في مباشرته، أو في سذاجته وفي حالته الفطرية كما هو الحال في إفريقيا، إنها ذلك السبيل الذي يسمح بالمضي من اللامعرفة إلى المعرفة، فهي المدخل الوحيد الممكن للفلسفة حسب هيجل، حينما ظلت تعرض مستويات تحول الوعي نحو روح(1).

كثير من المتتبعين للفلسفة الهيجلية من اعتبر أن تحليل الذاتية وتطورها المعرفي، هو الإنجاز الأكثر أهمية الذي عمل عليه هيجل لتحقيقه في فينومينولوجيا الروح وتحليل طرق الانتقال من ما هو ساذج إلى ما هو منطقي، فيها وصف هيجل خصوصيات بناء الذاتية الفردية تطورها التاريخي وهي الذاتية الأوروبية، لأنها في الوقت نفسه وصف لبناء الشعور الأوروبي وتطوره كما فعل هوسرل في أزمة العلوم الأوروبية واعتبر هذا الوصف مرادفاً للمعرفة العلمية، على ألا تعني المعرفة العلمية هنا معرفة موضوعية مجردة، بل معرفة تطور الروح وتحقق المفهوم والفكرة في الروح.

والحق أن هيجل لم يقتصر فقط على القول بأن الذات منخرطة في الوجود الواقعي فحسب، بل هو قد ذهب أيضا إلى أنها مصبوغة دائما بالصبغة الاجتماعية، فهي تحمل كل تراث الثقافة والتاريخ، وكأنها هي نفسها مجرد ثمرة لنوعها وعملها ولشتى منجزاتها(2).

ما هي إفريقيا؟ إنها قارة مقطوعة عن التاريخ على الأقل في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى - وهي الصحراء التي تقطع القارة (بصورة طبيعية) إلى جزأين: وأفريقيا مقطوعة عن العالم ومحددة بجغرافيتها وحيواناتها ونبتاتها غير الإنسانية الغابات الكثيفة التي لا نهاية لها الزواحف المتسلقة، والنباتات الخانقة السريعة النمو. إن حكايات الرحّالة عن الوحوش الضارية والزواحف والأفاعي والبعوض خصوصاً عن قرود الغوريلا، ذلك الحيوان الهجين بامتياز، لا تُصّور العمود الفقري لإفريقيا فحسب بل جوهرها ومعناه أيضاً(3).

ص: 354


1- المرجع نفسه ص 95.
2- Garaudy: La Pensée de Hegel, p 41.
3- نایجل سي. غابسون ،فانونن المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص59

إن تَنكَّر الغرب بالاعتراف بالإفريقي كإنسان مستقل زاد من حصار معناه. فالرجل الأبيض الذي أخضع الشعوب الإفريقية واستعبدها واستعمرها يحوّل السيطرة إلى فانتازيا جنسية، فهو يرغب في الأسود الذي ينظر إليه على أنه مصدر للرجولة والفحولة المفرطة، وصاحب الدوافع الشهوانية الجامحة في حضارة البيض، فالأسود هو الآخر جنسي منحرف ومفرط في ممارسة الجنس وشهواني. صورة الإفريقي في نظر الغرب، هو عبارة عن جسد يتكون من مجموعة من الأعضاء الخارجية ذو شعر شبيه بالصوف، أنف أفطس، شفاه غليظة، وخصوصاً اندفاعات جنسية خارجة عن السيطرة، يعيش في عفوية وشهوانية متدفقة، لا يمكن التحكم بهما وهو خارج نطاق الأخلاقية والذكر الأسود مرادف للقوة الجنسية، يمكن مقارنته بالفينوس الهونتية (نسبة إلى شعب جنوب أفريقي ذي بشرة داكنة ضاربة إلى الصفرة).

تقع فينومينولوجيا الروح في ثلاث محطات كبرى رئيسية نوضحها النحو التالي: المحطة الأولى: وهي المحطة التي تمثل تطورها الذاتي، ويسميها هيجل بالروح الذاتي ومضمون هذه المحطة، هو الكشف عن العقل البشري من وجهة ذاتية محضة، بما هو عقل الذات الفردية، وتفرعاته تشكل الوعي الفردي المشكل من : الحس والشهوة والفهم والعقل الخيال الذاكرة ... إلخ . مرحلة تظهر فيها الروح الذاتية مضمرة ومطمرة وهو ما يمكن إسقاطه على الحالة الإفريقية(1).

المحطة الثانية: محطة تبدأ فيها الروح في الخروج من ذاتها إلى الآخر، وهو ما يسميه هيجل بالروح الموضوعي خلالها تصير الفكرة في تخارج وهي بذلك تخلق عالماً موضوعياً خارجاً، لكن هذا العالم ليس هو المادة الجامدة، وإنما هو العالم الروحي، إنه عالم التنظيمات والمؤسسات الروحية institutions spirituelles)، كالقانون والأخلاق والدولة. فهي موضوعات خارجية تماماً مثلها مثل الحجر والنجم، ولكنها متحدة في هوية واحدة مع الذات والأنا خارجة عنها لأنها ليست إلا تموضعا للأنا. صحیح أنها ليست تموضعاً لذاتي الفردية، لي أنا شخصياً بوصفي فرداً جزءاً خاصاً، لأنها لا تتحد مع أهوائي وميولاتي الشخصية، ولكنها تتموضع لذاتي الكلية، للعقلي للعنصر المشترك الذي أشترك فيه مع البشرية كلها. أي تموضع للروح الكلية للإنسان.

ص: 355


1- Jean Hyppolite, Etudes Sur Marx et Hegel, p30.

فقوانين الدولة تجسد الحياة العقلية الكلية للمجتمع، فهذه التنظيمات والمؤسسات بقدر ماهية موضوعية وخارجية من ناحية، ولكنها تبقى روحية بما أنها عبارة عن تجلي العقل والوعي، ولهذا السبب فإنها تقع تحت اسم الفلسفة(1).

المحطة الثالثة: وهي محطة الروح المطلق، محطة يتمثل فيها الروح البشري على نحو ما يتجلّى في الفن والدين والفلسفة، وتقسيم يمثل الجمال والدين والفلسفة (فلسفة على الفلسفة Philosophies sur la philosophie)، والروح المطلق هو اتحاد الروح الذاتي والروح الموضوعي هنا يكمل الروح تحققه النهائي، يصير حراً حريةً مطلقة، كما يصبح لا متناهياً وعينياً تماماً، والمطلق يتخذ الفلسفة آخر مراحله على أنها الحقيقة الواقعية كلها، ذلك أن المطلق الفلسفي يرى العالم على أنه تجلي للفكر، أي تجلي لنفسه. فالعالم ليس إلا ذاته فحسب، موضوعه متحد مع ذاته في هوية واحدة، وبذلك فإن الفلسفة هي الوحدة النهائية للذاتية والموضوعية، ولهذا السبب فالمطلق هو مركب الروح الذاتي والروح الموضوعي، وفي الفلسفة تكتمل عودة الفكرة إلى نفسها، لأن الإنسان صاحب الفلسفة هو أعلى تجلي للعقل أو للفكرة في العالم(2).

الفكرة تعمل على العودة إلى نفسها، هذا العمل هو موضوع دراستنا فهذا العمل هو سرُّ حركة العالم mouvement du monde de)، حركة الباطنية والظاهرية، لأن الفلسفة الحقة ينبغي عليها أن تبرر وجود قيم عُليا وقيمٍ دنيا، فيسير الروح من الفكر

إلى الطبيعة إلى الفلسفة.

إن مرحلة الوعي الذاتي والتي نربطها نحن في مقاربتنا هذه بالوعي الإفريقي أنماط الوعي المشابهة، وهي مرحلة ينظر إليها العلم المعاصر على أنها تدرس

وباقي مواضيع علم النفس تشمل مراتب ووظائف عقل الفرد وملكاته في صورها الدنيا (الغريزة، الوجدان ،الإحساس الشهوة)، إلى صورها كما تبدو في العقل والفهم والنشاط العملي ، ومن هنا فهي تهتم بدراسة عقل الفرد كفرد في جميع مراتبه الظاهرية.

يقسم هيجل الروح الذاتي إلى ثلاث مراحل وفقاً للعمل الديالكتيكي على النحو التالي:

ص: 356


1- Ibid, p31.
2- ولتر ستيس هيجل، فلسفة الروح، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص .90

1- علم أنثروبولوجيا النفس

2- علم الظاهريات

3 علم النفس (الروح)

وهذه الأقسام، لا يظهر معناها إلا من خلال سيرها الديالكتيكي، ولكن يمكن أن نعتبر أن النفس عند هيجل هي أدنى مرحلة في الروح، فهي مرحلة أولى لم تصل إليها بعد حتى إلى مرحلة الإدراك الحسي ، ولكنها لا تزال نصف وعي غامض ومعتم لا يحقق شيئا، ويزال في رقبة الطبيعة أسير داخل الجسد، وهو المرحلة التي تعلو الحيوانية مباشرة. فكلمة الأنثروبولوجيا عند هيجل تعني دراسة النفس بهذا المعنى، النفس، الوعي، الفهم ، العقل (1).

1- الأساس الطبيعي للوعي الإفريقي(2)

يقسم هيجل إفريقيا جغرافيا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يقع جنوبي الصحراء الكبرى، وهي المناطق الجبلية التي تكاد تكون مجهولة لنا تماما. والقسم الثاني يقع شمالي الصحراء وهو أفريقيا الأوربية وهو عبارة عن أرض ساحلية. أما القسم الثالث فهو منطقة نهر النيل وهي أرض الوادي الوحيدة وهي تتصل بآسيا.

ظلت إفريقيا في نظر هيجل على أصالتها مغلقة أمام جميع أنواع الاتصال مع بقية أنحاء العالم - إنها أرض الذهب المضغط داخل ذاته - أرض الطفولة بتعبير هيجل، مختفية وراء نهار التاريخ الواعي لذاته، يلفها الليل الأسود، ولم تنشأ شخصيتها عن طبيعتها الاستوائية فحسب، وإنما من تكوينها الجغرافي الأساسي، عبارة عن حزام من أراضي المستنقعات مع الخصوبة الهائلة من النباتات وهذا الموطن الأثير لدى الوحوش الضارية والثعابين من جميع الأنواع وهي أرض تخوم يعتبر جوها مسموما للأوربيين، وتشكل هذه التخوم أساساً سلسلة دائرية من الجبال العالية.

ص: 357


1- ولتر ستيس هيجل فلسفة الروح، مرجع سابق ص 15.
2- الذات هي كل ما يقابل الأنا و يطلق على الغير، أي أنها تطلق على الغير فيشعر في مقابلها الأنا على أنه الغير Lalande, Vocabulaire Technique et Critique et de la philosophie,P.U.F ?Paris 2em 1972 p 173.

ونحن لا نعرف ما إذا كانت قد حدثت حركة في الداخل أم لا، وإذا كانت قد حدثت في نوعها، وكل ما نعرفه عن قبائل البدو هذه هو التضاد بين سلوكهم في حروبهم وغزواتهم ذاتها، التي يتجلّى فيها أعظم قدر من اللاإنسانية الوحشية. والهمجية البغيضة وبين سلوكهم عندما زال غضبهم وأعني في أوقات السلام، التي ظهروا فيها أناساً طيبين يُبدون الودَّ نحو الأوربيين، ويصدق ذلك على قبائل (الفولاني) وقبائل(ماندونجو) في السنغال وغامبيا(1).

أما القسم الثاني من إفريقيا فهو الذي يشمل منطقة وادي النيل، ويعني به مصر التي كانت مهيأة لأن تصبح مركزاً قوياً للحضارة المستقلة حسب هيجل، ولذلك فهي تبدو معزولة ومنفردة في إفريقيا مثلما تبدو إفريقيا نفسها في علاقتها بالأجزاء الأخرى في العالم والجزء الشمالي من إفريقيا، الذي يمكن أن يطلق عليه بصفة خاصة أرض الساحل وفي هذا الشأن يقول هيجل : إن مصر كثيراً ما كانت ترتد إلى نفسها بواسطة البحر المتوسط يقع هذا القسم على البحر المتوسط وعلى المحيط الأطلنطي وهو إقليم رائع كانت توجد فيه قرطاجة فيما مضى، وتوجد به الآن مراكش الحديثة والجزائر وطرابلس، ولقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوروبا ولا بد بالفعل أن يرتبط بها، ولقد بذل الفرنسيون أخيراً جهوداً ناجحة في هذا الاتجاه (يقصد هيجل بهذا التعبير حركة الاستعمار الفرنسي على بعض الدول الإفريقية والذي دعمها وأظهر إعجابه بها) (2) .

في مقاربته للتأثير الطبيعي على الوعي، يرى هيجل في البداية أن الروح تضع نفسها على أنها نفس طبيعية، ويمكن استنباط خصائصها من أنها البداية المطلقة للروح فهي مباشرة، يقول هيجل إن المعرفة التي نبحث عنها في هذه المرحلة تتسم بالمباشرة »(3). فالعلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة هي علاقة مباشرة وتتمثل المباشَرة هنا في أن الوعي لا يستنتج وجود الموضوع، بل إن الموضوع يمَثُل

ص: 358


1- هيجل. العقل في التاريخ، مصدر سابق، ص 173.
2- من الدهشة أن نجد هيجل هنا يدع محركة الاستعمار الأوربي على شمال إفريقيا، ويظهر اعجابه بها خاصة للفرنسيين، وهو من كبار الفلاسفة الذين دافعوا عن الحرية والكرامة الإنسانية، وما ساقه من مبررات عقلية للاستعمار الفرنسي لا معنى لها، وهنا يظهر النقص المعرفي لهيجل بما يتعلق بإفريقيا وبالمجتمعات المغاربية.
3- Hegel, Phénoménologie de l'esprit, tr. Jean pierre, le févre Aubier 1991 p174.

أمام الوعي إن علينا أن نستقبل هذه المعرفة كما تُعطى لنا)(1)، موضوعها إذن مستقل من الوعي، ويمكن أن نُطلق عليه الاتصال المباشر بموضوع ما ندركه دون أن نحاول فهمه أو وصفه(2)، وبما أنها كانت مباشرة، فإن خاصيتها الوحيدة هي مجرد الوجود فليس في استطاعتنا أن نقول عنها سوى أنها موجودة فحسب، لأن انعدام كل توسط فيها يعني:

1- أنها لا تتوسط نفسها أو هذا يعني أنها لا تحتوي على أية تميزات نفس فارغة ).

2- يعني أنها لا يتوسطها شيء خارجي كالعالم الموضوعي، فقدانها للذي يواجهها، وبالتالي لا تتميز بأي علاقة مع أي شيء آخر؟ ومن هنا، لا تنطبق عليها مقولات الماهية التي هي دائرة العلاقة والتي تربط الأشياء فيما بينها، وإنما تنطبق عليها مقولات الوجود فحسب. وكما أن أولى مقولات المنطق هي مقولة الوجود، كانت عبارة عن فراغ متجانس للفكر، فإننا نجدها كذلك أنها أول مرحلة من مراحل الروح ، وهي إن صح التعبير مجرد فراغ متجانس في دائرة الروح(3).

ونحن مع موضوع النفس في بداية الروح الواعية، فإننا على قمة السلم المعرفي في عالم الطبيعة (بداية تكوّن المعرفة في تاريخها) وكل حركة واعية إلا وتستمد تصوراتها من الطبيعة وهذا ما يفسّر غرق الوعي الإفريقي فيما هو طبيعي ونسج الأساطير وبناء الأحكام انطلاقا من الطبيعة. وقد نسأل هنا أنفسنا إلى أي حد ترتفع النفس الطبيعية عن الطبيعة ذاتها؟ والجواب هنا هو بما أن النفس، بعدما كانت نفس طبيعية مجرد فراغ للوجود، تفتقر تماماً إلى أية خصائص روحية محددة لها، فإننا نستطيع أن نقول أن مقدار التقدم الذي أحرزته النفس الطبيعية في عالم الطبيعة ليس كثيرا، إذ لا تزال مرتبطة بالطبيعة ارتباطاً تاماً وخاضعاً لها في جملتها، وهي لهذا السبب تسمّى بالنفس الطبيعية (4).

هذا الشأن يقول هيجل على هذا الطريق سوف يتبيّن أن الوعي الطبيعي، إنما

ص: 359


1- Ibid. p9.
2- إمام عبد الفتاح إمام المنهج الجدلي عند هيجل، دار التنوير للطباعة والنشر ط2 1982 ص 33.
3- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche, Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l'esprit de Hegel, Lectures Ccontemporainse p54.
4- ولتر ستيس هيجل، فلسفة الروح مرجع سابق ص 16.

هو تصور للمعرفة أو معرفة غير متحققة، ولكن هذا الوعي إذا كان يرى نفسه مباشرة على أنه المعرفة المتحققة، فهذا الطريق سوف يعدل في نظرته ضياعه، لأنه يفقد على هذا الدرب حقيقته، وفي هذا الطريق كأنه طريق الشك أو بعبارة أصوب كأنه طريق اليأس (1)désespoir».

فحالة النفس هذه هي المرحلة التي لا تزال هي نفسها حياة الطبيعة، متماهية مع بيئتها، وهذه البيئة من العالم المحيط ، الذي يتألف من الموضوعات الطبيعية. ولكن رغم أننا نعرف ذلك إلا أن تلك النفس لا تعرف التنوع ، فهذا التنوع الطبيعي موجود لأجلنا ( La diversité naturelle existe pour nous) وليس موجوداً من أجل ذاته. أما النفس الأولية خلال هذه المرحلة لا تعني هذه العلاقة (علاقتها بمواضيع الطبيعة)، ومادام لا يوجد شيء خارجها، فإنها بذاتها تؤلف مجموع الوجود الفعلي الكلي كله - فكل ما هو موجود لا بد أن يوجد فيها - ومن ثم فإن الحالات المختلفة التي تشكل فيها بواسطة البيئة environnement ، تبقى عبارة عن خصائص أو كيفيات خاصة بها دون تأثر ، وما دامت حياتها كلها هي مجرد مشاركة في حياة الطبيعة العامة، فإن تلك الخصائص أو الكيفيات سوى تكون خصائص طبيعية أو فيزيائية، وتلك الخصائص أو الكيفيات التي تعتبر جانباً من الجسد الحيواني بمقدار ما تعتبر جانباً من النفس(2).

ينُكر هيجل عينية النفس الطبيعية، ويعلن أنها غير محسوس، لا تعدوا أن تكون كتلة من العناصر الخاصة ذات الأوجه العديدة، فضلا عن كونها من ناحية أخرى سلسلة من التجريدات المأخوذة من تلك الأكوام الطبيعية عن طريق الإدراك، فالعالم الحسي عالم تنقصه الوحدة ومكوّن من أجزاء تم إلصاق بعضها البعض، وهذا كله هو المجرد في نظر هيجل والمجرد هو إدراك أي شيء من جانب واحد منفصلا عن كل ارتباطاته الأخرى، وعلى ذلك كله(3)يُرتّب هيجل هذه الخصائص الفيزيائية على النحو التالي:

النفس تشارك في الحياة العامة للكون، وتشعر بتغيرات الجو، وتقلبات الفصول وساعات النهار ... إلخ. ولا تتجلى حياة الطبيعة هذه بوضوح، أي لا تظهر لنا نحن

ص: 360


1- هيجل. فينومينولوجيا الفكر، ترجمة مصطفى صفوان المكتبة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981، ص 06.
2- ولتر ستيس هيجل فلسفة الروح، مرجع سابق ص17.
3- عبد الفتاح ديدي. فلسفة هيجل، مكتبة الأنجلو المصرية، 1970 ص .111

العقلاء، إلا في حالة الإعياء الكامل أو اضطراب النشاط العقلي، وقول هيجل «إن نقاط التعاطف هذه تتدرج في حالة الإنسان المتمدن بل تكاد تختفي تماماً تحت الاستجابة لتغيرات الفصول وساعات النهار ، سوى تأثيرات طفيفة على المزاج ولا تظهر بوضوح إلا في الحالات المرضية(1)».

لا يبدأ تاريخ العالم الإنساني بالصراع بين الفرد والطبيعة، مادام الفرد في واقع الأمر نتاجاً متأخراً في التاريخ البشري، بل إن الشمول أو الاشتراك بين الإنسان والطبيعة (Entrel homme et la nature)، يأتي أولاً وإن كان يأتي في صورة جاهزة (مباشرة)، وهذا الاشتراك لم يصح بعد اشتراك عاقلا(2). ولا تكون الحرية صفة من صفاته، ومن ثم فإنه سرعان ما ينقسم إلى أضداد متعددة، ويُسّمي هيجل هذه الوحدة الأصلية في العالم التاريخي باسم (الوعي conscience)، وبذلك يؤكد من جديد أننا دخلنا عالماً يتسم كل شيء فيه بطابع الذات.

إن أول شكل يتخذه الوعي في التاريخ ليس شكل وعي بل وعي كلي، ربما كان خير ما يمثله هو وعي جماعة بدائية (groupe primitif)، تندمج فيها كل فردية داخل المجتمع المشترك، فالمشاعر والإحساسات والمفاهيم لا تنتمي في واقع الأمر إلى الفرد، فإن كلا من طرفي التضاد، وهما الوعي أو موضوعاته، له صورة الذاتية كما هي الحال في كل أنواع التضاد الأخرى في عالم الذهن(3).

فهذا اللون من التعاطف نجده أحيانا يتجلّى وسط القبائل البدائية Les tribus primitives) بما فيها بعض المجتمعات في إفريقيا التي لا زالت حبيسة هذه المرحلة، وهيجل في هذه المرحلة يميز جيّداً بين النفس وهي موضوع الأنثروبولوجيا وبين الشعور أو الوعي وهو موضوع الفينومينولوجيا، والروح هي موضوع علم النفس. فالروح في هذه المرحلة تحاول بكد أن تخرج من حالة الطبيعة إلى مرحلة تحاول فيها أن تحدد ذاتها بذاتها(4).

ص: 361


1- نقلا عن ولتر ستيس فلسفة الروح، مرجع سابق ص17.
2- G.W.F Hegel: Encyclopédie des Sciences Philosophiques ) Philosophie de la Naturep13.
3- هربرت ماركيوز العقل و الثورة هيجل و نشأة النظرية الاجتماعية المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979 ، بيروت، ص 91.
4- عبد الرحمان بدوي. شلينج، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1981، بيروت، ص 126

فالنفس الطبيعية هي تجريد أكثر رقة من الإحساس العادي، وهي لا توجد على أي صورة من الصور في الإنسان، فهيجل هنا ينظر إلى الإحساس في حالة مجردة عن العقل وكذلك تمارس الفلسفة هنا هذا الحق نفسه. فإن معظم مراحل الروح التي يبحثها هيجل في الأنثروبولوجيا مجردة، وأولوية لدرجة أننا نصادف بعض الصعوبة فى إدراكها داخل أنفسنا، فلقد ظلت فترة طويلة حتى اندرجت تحت عتبة الوعي ورغم ذلك فهي تظهر في التغيرات الطفيفة للمزاج وفي الحالات المرضية كما أشار هيجل نفسه. حيث يقول وليس فقط وعيه لهذا الفراغ، بل حتى النهائية التي هي فحواه، ولكي تحقق مكسب الجوهر الذاتي يجب على الفلسفة أن تحل غلق الجوهر فترتفع به إلى الوعي - بالذات»(1).

إن التحولات الفيزيائية (Les transformations physiques) والكيفيات التي طرأت على النفس الآن، هي كتلك التغيرات التي يمر عليها الإنسان (طفولة، شباب، رجولة)(2). يقول هيجل«إذا أخذنا النفس على أنها ،فرد فإننا نجد تنوعاتها». أي كيفيّاتها الفيزيائية «قد أصبحت تحولات بداخل الذات الواحدة الدائمة وكمراحل في مجرى تطورها»(3). وهذه الكيفيات الفيزيائية المتنوعة تحتوي على الاختلاف والتحول بعضها إلى بعضها الآخر، ولكن على الرغم من أن التغير يتضمن يقيناً التنوع والاختلاف، وقد حصرها هيجل في النقاط التالية:

1- الطفولة الشباب الرجولة والشيخوخة.

2- العلاقات الجنسية : التحول الموجود في الفرد الذي يبحث في نفسه ويجدها في شخص آخر.

3- تغيرات النوم واليقظة ولقد قدم لنا هيجل استنباطاً للمظاهر الأساسية لهذه المرحلة، وفي حين أن النفس الطبيعية كانت من أولى مظاهرها فراغاً وتجانساً كاملين خالية من كل تمييز داخلي فإنه يوجد فيها الآن التميز الضمني بين ذاتها، أي الفراغ

ص: 362


1- هيجل. فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت 2006، ص .122
2- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche, Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l'esprit de Hegel, Lectures Ccontemporainse p108.
3- نقلا عن ولتر ستيس . مرجع سابق، ص 19.

المتجانس (vide homogene) الذي بدأ منه وبين التأثيرات بيئتها التي ظهرت فيها، على أنها كيفيات وتحولات فيزيائية من ناحية أخرى.

وإذا كان هيجل قد أطلق على الأولى (اسم الوجود المباشر)، فيمكن أن نسمي الثانية، اسم مضمون هذا الوجود، وعندما تميز الفردية الآن في داخلها بين مضمونها وبين وجودها المباشر المحض. يكون لدينا حالة يقظة، أما النوم من ناحية أخرى، فهو يمثل انزلاقها إلى حالة وجودها المباشر، فالنوم هو إن صح التعبير، فقدان المضمون de content (1)Perter والعودة إلى حالة الشمول والتجانس (Le cas de inclusion et la cohesion)، التي تعود فيها النفس إلى مرحلتها الأولى، أي مرحلة الوجود المحض ويمكن أن ينظر إليها على أنها الشعور الخالي من كل مضمون، أي الشعور بالعدم أو اللاشعور(2).

إن التميز الداخلي الضمني بين الوجود المباشر للنفس، وبين مضمونها يؤدي إلى ظهور الإحساس أو الحساسية، لأن النفس ميّزت الآن بين مضمونها أو تأثيراتها وبين ذاتها، وعلى ذلك، فبدلاً من أن تكون هذه الخصائص كيفيات لها تصبح الآن إحساساتها. فلما كانت هذه الخصائص والكيفيات شيئاً متميزاً عن ذاتها، فإنها بالتالي شيئا موجودا شيئا يبدو أن له وجودا ضمنيا قائما بذاته مستقلا عن النفس ذاتها ومن ثم فهي ليست جزءاً من النفس، على نحو ما كانت الكيفيات، ولكنها تأثيرات موجودة بداخلها على أنها شيء آخر غير ذاتها، أي أنها إحساسات، وحيازة هذه الإحساسات هو ما يسمى بالحساسية sensibilité(3).

يقول هيجل «وليس فقط لهذا الفراغ، بل من النهائية التي هي فحواه، ولكي تحقق مكسب الجوهر الذاتي يجب على الفلسفة أن تحل غلق الجوهر، فترتفع به إلى الوعي - بالذات، حتى تقيم الشعور بالماهية وألا تتعهد بالفهم بقدر تعهدها بالتشييد،

ص: 363


1- المضمون Contenu: يقوم تحليل المضمون على الكشف من معدل ظهور بعض الموضوعات بعض الكلمات، أو بعض الأفكار داخل نص معين. جان فرانسوا دورتيه معجم العلوم الإنسانية، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للنضر والتوزيع، ط1، 2009، بيروت، ص 994.
2- ولتر ستيس . فلسفة الروح، مرجع سابق، ص20.
3- المرجع نفسه، ص 20

عن طريق الرغبات والميولات إنما الجميل والمقدس والأزلي والدين والحب طعم واجب تتأجج الرغبة في الروح الذاتي فليس المفهوم المحكم بل بالفتنة التي تثري الجوهر. التي تناظر إنغراس البشر في الحسي والمشترك والفردي، وتصويب أبصارهم قبل النجوم، بدلا من التنعم مثلهم مثل ديدان الأرض بالغبار والماء» (1)

ولكن رغم هذه الإحساسات من استقلال، إلا أنها لا تزال موجودة داخل النفس ذاتها، ولا تزال النفس بالنسبة لنفسها تمثل الوجود، فلا شيء خارجها، فليس هناك موضوع خارجي يقع في مقابل الذات والإحساس ليس شيئا آخر غير النفس .ذاتها إنها مرحلة فحسب من مراحل تميز نفسها بما هي كذلك عن النفس، وتمثل الإحساسات التي لا تنسبها إلى أي مصدر خارجي، لكنها تكمن داخل أنفسنا كالجوع والتعب والألم الداخلي ما يقصده هيجل بهذه الفكرة(2). فأنا أميز بين نفسي وبين هذه الإحساسات، فأنا لست الجوع، رغم أنه موجود بداخلي، فهو ليس بإحساس بموضوع كما هي الحال في الإحساس الخاص بالرؤية حين أرى شجرة أو منزلا(3). ولكنه إحساس ذاتي خالص، فليس ثمة شيء خارجي أمام نفسي.

2 - حسيّة الذات الإفريقية

إن السمة البارزة للحياة الزنجية هي أن الوعي لم يبلغ بعد مرحلة التحقيق الفعلي لأي وجود موضوعي جوهري مثل : الله أو القانون اللذين ترتبط بهما مصلحة الإنسان وفيها يحقق وجوده الخاص والإفريقي في وجوده العيني الموحد، الذي يتسم بالتجانس والتخلف، لم يبلغ بعد تلك المرحلة التي يميز فيها بين ذاته بوصفه فردا وبين كلية وجوده الجوهري، بحيث أنه يفتقر تماماً إلى معرفة أن هناك وجودا مطلقا أخر أعلى من ذاته الفردية. فالرجل الزنجي كما لاحظنا من قبل، يمُثل الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروّضة تماماً ولا بد لنا يقول هيجل، إن أردنا أن نفهمه فهما حقيقياً سليماً، أن نضع جانبا كل فكرة عن التبجيل والأخلاق، وكل ما نسميه شعوراً أو وجداناً،

ص: 364


1- هيجل . فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العولني، مصدر سابق، ص123.
2- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche,Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l'esprit de Hegel, Lectures Ccontemporainse p157.
3- أي المفارق لكل تعيين محدد. كأن يكون ليلا أو نهارا بالنسبة للآن أو شجرة و منزلا بالنسبة للهنا (بتصرف).G.W.F Hegel, Encyclopédie des Sciences Philosophieques (2) Philosophie de la Nature p19.

فلا شيء مما يتفق مع الإنسانية يمكن أن نجده في هذا النمط من الشخصية، والروايات الغريزة والمفصلة التي يرويها المبشرون تؤكد ذلك تماما.

وحسب هيجل كان للعقيدة الإسلامية دوراً مهما في إدخال الزنوج في نطاق الحضارة، وأيضاً فهم المسلمون أفضل من الأوروبيين كيف ينفذون إلى داخل هذه الجغرافيا، ويمكن أن نقدّر على نحو أفضل درجة الحضارة التي يمثلها الزنوج إذا ما تأملنا المرحلة التي يمثّلها الدين عندهم(1).

إن ما يشكِّل أساس التصورات هو الوعي من جانب الإنسان بقوة عالية - حتى على الرغم من أن الإنسان قد يتصور هذه القوة على أنها قوة طبيعية فحسب - يشعر أمامها بأنه موجود ضعيف متواضع، فالدين يبدأ من الوعي بأن هناك شيئا أعلى من الإنسان.

ينعت هيرودوت الزنوج بالسحرة، على أن الإنسان في حالة السحر لا يكون لديه فكرة الله ولا فكرة الإيمان الأخلاقي، ذلك أن السحر ينظر إلى الإنسان على أنه القوة العليا، وعلى أنه يشغل ولوحده مركز الأمر المسيطر على قوى الطبيعة، ومن ثم فلسنا أمام شيء من العبادة الروحية لله أو ملكوت الحق. فالإله يرعد لكننا لا نتعرف عليه بأنه الله، وعلى هذا الأساس إذن الله لا بد أن يكون أمام الروح البشري أكثر منه صانع للرعد، لكن الأمر يختلف عن ذلك عند الزنوج(2). فعلى الرغم من أنهم على وعيٍ تامٍ باعتمادهم على الطبيعة لأنهم يحتاجون إلى الأثار المفيدة للعواصف والمطر وتوقف فترة الأمطار، فإن ذلك لا يؤدي بهم إلى الوعي بقوة ،أعلى، إنهم هم الذين يسيطرون على عناصر الطبيعة، وهذا ما يطلقون عليه اسم السحر. وللملوك في إفريقيا طبقة كهنة يتحكمون من خلالهم في التغيرات التي تحدث في عناصر الطبيعة، وكل موقع له سحرته الذين يقومون بتأدية طقوس خاصة، وبجميع أنواع الحركات الجسمية

ص: 365


1- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 157.
2- المفروض في الديانة المتطورة أنها تفصل بين العقل الكلي الذي هو الله، وبين العقل الجزئي الذي هو الإنسان بحيث يصبح هدف الدين كله عبور هوة الانفصال هذا، والتوفيق بين الله والإنسان وحيثما لا يكون هناك الانفصال لا يكون هناك دين الدين والصورة الأولى المباشرة للدين عند هيجل هي السحر، وهي التي نجدها عند الزنوج، ولا يوجد في هذه الديانة فصل بين الكلي والجزئي. فالكل وهو الله وليس موجودا، وإنما يصبح كل شيء جزئيا، فليس ثمة سوی هذه الشجرة وهذا النهر وهذا الإنسان، ومن هنا لا يستطيع أن يميز الإنسان نفسه عن الطبيعة، لكن سمو الروح لا بد أن يظهر إلى الوعي بعض الشيء، فيشعر الإنسان بأنه يعلو على الأحجار والصخور والشجر، ومن ثم فهو يسيطر عليها بحيث تمتد إرادته فيكون في استطاعته أن يأمر العواصف والمياه والسحب فتنصاع لأمره وذلك هو السحر. ص.175.

والايماءات وألوان الرقص والصخب ووسط هذا الخليط المضطرب يبدأون في ممارسة تعاويذهم وسحرهم.

أما العنصر الثاني في ديانتهم، فيبرز في إعطاء شكل خارجيٍ لهذه القوة التي تعلو على الطبيعة مسقطين قوتهم الخفية على عالم الظواهر بواسطة مجموعة من التصورات، ولذلك ما يتصورونه قوة ليس شيئا موضوعيا حقيقيا له وجود جوهري قائم بذاته ومختلف عنه، وإنما هو أول شيء يصادفونه ، وهذا الذي يصادفونه يأخذونه بغير تمحيص ويرفعونه إلى مرتبة: الجنّي أو الروح الحارس، وقد يكون حيوانا أو شجرة أو حجرا أو صورة خشبية وهي تلك تميمتهم (fetish) وهي كلمة كان البرتغاليون أول من تداولها، وهي مشتقة من كلمة (feitizo ) البرتغالية التي تعني : السحر، والتميمة تمثل لون من الاستقلال الموضوعي في مقابل الخيال العشوائي عند الفرد. لكن لما كانت الموضوعية لا تعدو أن تكون خيال الفرج وقد أسقطه في المكان، فإن الفردية البشرية تظل مسيطرة على الصورة التي اتخذتها(1). وباختصار ليست هناك علاقة تبعية في الدين. غير أن هناك مظهرا واحدا يشير إلى شيء فيما وراء الواقع وهو عبادة الموتى، التي ينظرون فيها إلى أسلافهم وأجدادهم الموتى على أنهم قوة مؤثرة على الأحياء، وفكرتهم أن هؤلاء الموتى يمارسون الانتقام والأذى على الإنسان، ومع ذلك فهم لا يَعتبرون قوة الموتى أعلى من قوة الأحياء، لأن الزنوج يتحكمون في الموتى ويضعون لهم سحراً ورقياً. وعلى هذا النحو تظل هذه القوة على الدوام، وبطريقة جوهرية، خاضعة لسيطرة الذات الحية. ولم ينظر الزنوج إلى الموت على أنه قانون طبيعي كلي، بل اعتقدوا أنه يأتي من سحرة الأشرار. وتتضمن عقيدتهم هذه بالتأكيد الاعتقاد بأن الإنسان يعلو على الطبيعة إلى حد أن الإنسان ينظر إلى هذه الأشياء الطبيعية على أنها أداة ووسيلة ولا يعطيها شرف معاملتها على أنها تتحد بذاتها بل يتحكم فيها هو.

لكن القول بأن الإنسان يُنظر إليه على أنه الأعلى، يترتب عليه أنه لا يعطي لنفسه احتراماً، ذلك أنه لا يصل إلى وجهة نظر تلهمه احتراماً حقيقياً إلا عن طريق الوعي بوجودٍ أعلى، إذ لو كان الاختيار العشوائي هو المطلق، أي لو كان هو الموضوعية الجوهرية الوحيدة التي تتحقق لما استطاعت الروح أن تكون على وعي بأية كلية،

ص: 366


1- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 176.

ومن هنا أطلق الزنوج لأنفسهم العنان في الاحتقار الكامل للبشرية(1)، الذي هو السمة الأساسية لجنسهم من حيث صلته بالعدالة والأخلاق. كذلك لا يوجد لديهم أي فكرة عن خلود الروح رغم اعتقادهم بأشباح الموتى.

لقد رأينا أن الإحساسات موجودة في النفس حسب هيجل، والإحساسات من ناحية متميزة عن النفس ذاتها، وهي من ناحية أخرى موجودة بداخلها وبالتالي جزء منها، وبما أنها متميزة عن النفس فإن النفس قد أدركت فعلا أن هذه الإحساسات موجودة. فوفق هذه الوجهة من النظر، نجد أن هذه الإحساسات هي التي تؤثر في النفس، أي أنها إيجابية نشطة (Active) في حين أن النفس سلبية متقلبة. ولكن(2)هذه الإحساسات من ناحية أخرى موجودة بداخل النفس وهي جزء منها، فإنه ينتج من ذلك أن ما هو إيجابي، وما يؤثر في النفس ليس سوى النفس ذاتها، ومن كانت النفس إيجابية، وإحساساتها هي فعلها الخاص، إن النفس تحس وتشعر، وما كانت كذلك فهي النفس الحاسة، وهي الحالة التي لا تزال تسود الذات الإفريقية، بما أن الإحساسات بقت مورداً لحركة الوعي للأنا الإفريقية.

يقول هيجل «فكل يقين حسي متحقق بالفعل لا ينحصر في كونه هاته المباشرة الخالصة، بل هو أيضاً مثل من أمثلتها، ومنه تخرج إلى الضوء فروق لا حصر لها، تشترك جميعها في احتوائها على هذا الفرق المبدئي، وأعني به أن الوجود المحض ينشق في كل خبرة حسية إلى شقين هما سميناهما بالهاذين هذا الأنا وهذا الموضوع»(3).

الذات الحسية هنا، تريد الشيء المحسوس، لا من حيث هو شأن مباشر كما ادعى سلفه وإنما من حيث هو شأن كلي. فموضوعه إذا الشيء (الحامل لخاصيات متعددة)، وهي خاصيات غير مباشرة لأنها تتحدد على ضوء علاقتها

ص: 367


1- المصدر نفسه، ص 177.
2- سلبية Nécativité عند هيجل سمة النقيضة الأطروحة المضادة لحظة ديالكتيكية من لحظات الفكر). أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية المجلد الثاني، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت ، باريس، ط2، 2001، ص 1119
3- من البين أن كلا الطرفين الموضوع و المعرفة قائم بالآخر ، فأما عند الوعي الطبيعي في مبدأ خبرته، فالموضوع هو وحده الشيء الجوهري، بينما المعرفة أمر عارض و ثانوي (بتصرف). هيجل فينومينولوجيا الفكر ، مصدر سابق ص84.

بغيرها، ولكنها تنتمي في الوقت نفسه إلى شيء واحد، إن الإدراك يشتمل في اهيته على الشيئية(1).

فالإحساس السابق ذكره (في النفس الطبيعية)، وبين الحس أو الشعور الذي نحلل الآن، هو أن الإحساس يؤكد سلبية النفس في تأثيراتها، في حين أن الشعور يؤكد إيجابياتها، فالنفس في ذاتها تشعر أو هي حاسة.

رغم أن النفس الحاسة (الشاعرة): بما هي كذلك إيجابية، فإن نشاطها وإيجابياتها لا تتحقق في أول مرحلة مباشرة لها، يعني أصبحت ذاتا، فهو يتضمن الإحساس بالذات أو الأنا أو الشعور بأن الذي يعمل هو أنا، ويتضمن ذلك بدوره التفرقة بين الأنا الذي يعمل وبين الشيء أو الموضوع الذي أجعله ميدانا أمارس فيه فعلي(2). وأهم الأمثلة التي ساقها هيجل حول هذا الموضوع، هي حالات النفس عند الطفل الذي لا يزال في رحم أمه، وحالة النفس في التنويم المغناطيسي (hypnose)، فمشاعر الطفل وهو في رحم أمه ليست في الحقيقة مشاعره الخاصة، لكنها مشاعر أمه، إنها نفس الأم التي تحكم وتسيطر على نفس الجنين. يقول هيجل «ومع ذلك فإنه ليس عسيراً أن يُدرك المرء أن زماننا زمان ميلاد ومرورا إلى طور جديد، فالروح قد قطع كيانه وتصوره، ويضع في المفهوم أن يغط كل ذلك في المكان وفي العمل على تكرير إخراج تشكله، والأكيد أن الروح لا يحصل قط في سكون، بل في حركة رابية أبدا، وهو كحال الطفل قد ولد كذلك الروح المتكون يشتد عوده ببطء وبصمت، قبل الشكل الجديد، لكن هذا الجديد لا حقيق تماماً له، إلا بالقدر اليسير الذي للطفل المولود للتو وهذا أمر مهم لا يجب غض النظر فيه»(3).

أما الشعور بالنفس أو الإحساس بالذات موجود ضمنا في الحالات السابقة، والنفس الآن تميز بصراحة بين إحساساتها ومشاعرها وبين ذاتها، فالآن أصبحت النفس تعرف بأن إحساساتها ومشاعرها جوانب جزئية من ذاتها، ويرى هيجل أن الإخفاق في إخضاع الجوانب الجزئية (الإحساسات والمشاعر) للنفس على نحو

ص: 368


1- شیخ محمد فلسفة الحداثة في فكر هيجل الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2008، ص .164
2- Jean Hyppolite, Etudes Sur Marx et Hegel, editions Marcel Riviere et cie, Paris, 1955, p34.
3- هيجل . فنومينولوجيا الروح مصدر سابق ص.125

مناسب، والميل إلى ترك جانب جزئي واحد يخضع جميع الجوانب الأخرى لإمرته، وبالتالي يسيطر على الحياة بأسرها هو الجنون (1).

أما العادة (habituellement)، فهي تميز النفس الآن ما بداخلها بين وجودها المباشر الذي هو الشمول المتجانس غير المتميز من ناحية، وبين مضمونها الذي يتكون من الإحساسات والمشاعر وهي كثرة متنوعة من الجزئيات من ناحية أخرى. هذان هما النصفان اللذان تنشطر إليهما النفس والنصف الأول هو بذاته صورة فارغة تماما للكلية والشمول (2)والثاني هو بذاته، خليط أعمى، ومن هنا فأحدهما جوهري كالآخر سواء بسواء، ولا يمكن لهما أن يوجدا في حالة انفصال ومن ثم فإن الكلية الفارغة لكي توجد لا بدّ لها من أن تُوجِدَ نفسها في الجزئيات، وأن تُوجَد فيها بواسطتها، وهي حين تفعل ذلك فإنها تضع بطابعها الكلي الإحساسات والانطباعات الجزئية وغيرها، وهذه الكلية التي تظهر الآن في الجزئيات هي في ما يقول هيجل كلية منعكسة فحسب، أي أنها مجرد كلية عددية توجد في الشيء مكررة في سلسلة نفسها، على هذا النحو فإنها تؤلف ما يسمى بالعادة. في هذا الشأن يقول هيجل «فمبتدأ الروح الجديد، إنما هو نتاج تبدل متصل لصور من الثقافة متنوعة، وهذا المبتدأ إنما هو الكل الذي يؤوب إلى نفسه من بعد التعاقب كما من سروحه، إنه المفهوم البسيط والمتصيّر الذي لعين الكل، لكن حقيق هذا الكل البسيط، قوامه أن هذه التشكلات التي استحالت لحظات، إنما تتنامى من جديد وتتشكل، لكن في أسطقسها الجديد وفي المعنى الذي قد استحال»(3). الذات الفردية تبرز عند هيجل، حينما يكون الفرد مضطراً إلى أن يتحكم في جسمه العضوي ومتطلباته استجابة تعرضها قواعد ونماذج مقبولة من المجتمع، وفي هذه الشروط يكون الفرد مسوقا إلى التمييز بين ذاته وبين جسمه العضوي، وتلك القواعد والنماذج الكلية، لا تمليها الطبيعة بل الثقافة (culture)(4).

ص: 369


1- ولتر ستيس فلسفة الروح مرجع سابق ص.23
2- G.W.F Hegel, Encyclopédie des Sciences Philosophieques (2) Philosophie de la Nature, Bernard Bourgeois Librairie Philosophique, j, Vrin, Paris, 2004, p50.
3- هيجل. فنومينولوجيا الروح، مصدر سابق ص125
4- هربرت ماركيوز أساس الفلسفة التاريخية - نظرية الوجود عند هيجل - ترجمة ابراهيم فتحي، دار التنوير للطباعة والنشر، ط3 2007 بيروت ص 12.

لقد كان لضعف الأميركيين الأصليين البدني سبباً رئيساً في جلب الزنوج الأفارقة إلى أميركا واستخدامهم في الاعمال التي ينبغي أن تتم في العالم الجديد، ذلك لأن الزنوج كانوا أكثر تقبلا للمدينة الأوروبية من الهنود حسب هيجل.

استعبد الأوربيون الزنوج وباعوهم في أميركا والعبودية منتشرة بصفة مطلقة في إفريقيا، ذلك لأن المبدأ الجوهري للرق أو العبودية هو أن يكون الإنسان قد وصل إلى مرحلة الوعي بحريته وينحدر بالتالي إلى مرتبة الشيء المحض، أي يصبح موضوعا بغير قيمة. والمشاعر الأخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة، فالأباء يبيعون أبناءهم كلما سنحت الفرصة لأولئك، ولقد اختفت بسبب انتشار العبودية عندهم جميع روابط الاحترام الأخلاقي. وكثيرا ما يكون الهدف من ممارسة نظام تعدد الزوجات عند الزنوج الحصول على عدد كبير من الأطفال ليباعوا كرقيق. وهكذا فإن السمة التي يتميز بها احتقار الإنسانية عند الزنوج ليست هي إزاء الموت كما عبرّ عنها هيجل في جدلية السيد والعبد بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة نفسها، وينبغي أن نعزو الشجاعة العظيمة عندهم إلى سمة افتقارهم لاحترام الحياة هذه التي تدعمها قوة بدنية كبيرة.

يرى هيجل أن النظم السياسية عند الأفارقة ليست متطورة، فهم ينقادون بالرغبة الحسية العشوائية، مضافا إليها كافة الإرادة ما دامت القوانين الروحية الكلية (مثل قوانين أخلاق الأسرة) لا يمكن أن يعترف بها هنا، إذ لا توجد الكلية عندهم إلا كاختيار ذاتي عشوائي، ولذلك فإن الروابط السياسية عندهم لا يمكن أن يكون لها طابع القوانين الحرة التي توحد الجماعة، ولا شيء يقيد الإرادة العشوائية ولا شيء يمكن أن يربط الدولة لحظة واحدة سوى القوة الخارجية : فالحاكم يتربع على رأس الدولة، لأن الهمجية الحسية لا يمكن أن تكبح جماحها سوى القوة المستبدة، ويتمتع الملوك إلى جانب ذلك بامتيازات خاصة أخرى : فالملك عند الأشانتيين (وسط غانا) يرث كل الثروة التي يخلفها رعياه بعدموتهم، وفي بعض المناطق يأخذوا نساءهم وأطفالهم، وإذا غضب الزنوج من ملكهم أسقطوه وقتلوه بالتمرد الشامل(1).

إن تلك النظرة الأوربية المسكونة في آن واحد بكراهية الجسد الأسود والخوف

ص: 370


1- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 179.

منه والقلق إزاءه والرغبة الجنسية فيه. وهكذا فإن هذه النظرة العرقية تعاني وعيا منفصماً مزدوجاً، وعي التفوق ووعي عدم الكفاءة،وعدم الاكتمال، وعدم اكتمال يتجسد في الرغبة البصرية للآخر، الآخر الزنجي(1).

إنه يجعل من الأسود موضوعا ويختم على مصيره بأنه أسود. إن الآخر الأبيض يختزل الأسود إلى موضوع مسبب للفوبيا (الرهاب) يعبر عن الرغبات المكبوتة لدى المجتمع الأوربي وهو الضعف الجنسي حسب فانون.

يقول فانون: في أعمق أعماق العقل الباطن الأوربي، تم صنع صورة لرجل أسود أجوف بصورة جامحة تكمن فيها أكثر الدوافع للانحطاط الأخلاقي وأكثر الرغبات مدعاة للعار. وكما أن كل إنسان يصعد نحو البياض والضوء، فإن الأوربي حاول إنكار ذاته غير المتحضرة التي سعت لأن تدافع عن نفسها. وعندما وقع اتصال الحضارة الأوربية بالعالم الأسود، بتلك الأقوام الهمجية، اتفق الجميع على أن: أولئك السود هم مبدأ الشر في العالم. فالأسود هو رمز الشر، رمز السادية، رمز الشيطان، رمز القذارة الأخلاقية، ورمز الخطيئة. وهذه الرموز بعد إسقاطها على الأسود مرة تلو المرة، تخلق الأساس لعقدة النقص، إذ يصبح الآخر الأبيض عماد انشغالاته.

تتميز الشخصية الزنجية في نظر هيجل بالافتقار إلى ضبط النفس وتلك حالة تعجز عن أي تطور، ولهذا كان الزنوج باستمرار على نحو ما نراهم اليوم والرابطة الجوهرية الوحيدة التي وجدت ودامت بين الزنوج والأوربيين هي رابطة الرق والعبودية، ولا يرى الزنوج في هذه الرابطة شيئا مشينا لا يليق بهم، بل أن الزنوج عاملوا الانجليز أنفسهم على أنهم أعداء لأنهم بذلوا جهدا كبيرا في إلغاء الرق(2).

والنظرية التي نستنتجها من حالة الرق وهي أن حالة الطبيعة ذاتها هی حالة من الظلم، فهي انتهاك للحق والعدل. وكل درجة متوسطة بين هذه الحالة وبين التحقيق الفعلي للدولة العقلانية كما كان يتوقع المرء بجوانب وعناصر من الظلم، ولهذا نجد الرق حتى في الدولة اليونانية والرومانية. لكن الرق حين يوجد في دولة ما على هذا النحو يشكل مرحلة متقدمة بالقياس إلى الوجود المادي المحض المنعزل، أي

ص: 371


1- نايجل سي. غابسون فانون المخيلة بعد - الكولونيالية، مرجع سابق، ص 60.
2- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 181.

مرحلة تعليم ونوع من المشاركة في أخلاق عُليا وثقافة ترتبط به: إن الرق في ذاته ولذاته، ظلم، لأن ماهية الإنسان هي الحرية. ولكن لا بد لتحقيق هذه الحرية من أن ينضج الإنسان، ولذلك فإن الإلغاء التدريجي للرق أحكم من إزالته فجأة. والواقع أن ما نفهمه من اسم إفريقيا هو الروح غير المتطور الذي لا تاريخ له ولا تطور أو نمو حسب هيجل، والذي لا يزال منغلقاً تماماً وفي حالة الطبيعة المحض، والذي كان ينبغي أن يعرض هنا بوصفه واقعاً على عتبة تاريخ العالم فحسب، وعليه فلا بد لشعوب شمال إفريقيا أن لا ينسوا أنهم في امتدادٍ مستمرٍ لإفريقيا ثقافة وجغرافيا (1).

فانون ناقداً لهيجل : الرجل الأبيض هو من أوجد الرجل الأسود!

ينتقد فانون في كتابه «جلد أسود وقناع أبيض» نظرة هيجل المقصر في حق الكينونة الإفريقية، وعلى أنها كانت عرجاء ولا ينطبق عليها سير ديالكتيك وهو النص الأكثر ثباتا لنقد ديالكتيك هيجل بشأن جدلية السيد والعبد وادعاءه أن: الإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر ما يحاول أن يفرض وجوده على إنسان آخر من أجل الحصول علی اعترافه به.

إن صورة الإفريقي حسب فانون توجد بصورة مطلقة من أجل الآخر (2)فمن أجل امتلاك اللغة يفترض وجود ثقافة وعالم تُعبر عنهما تلك اللغة، وتماما كما يَعتبر هيجل فی فينومينولوجيا الروح أن اللغة هي عنصراً مهماً عنصراً مهماً في التبادلية، فوفق هيجل التبادلية بين أنواع الوعي الفردي تتطلب لساناً مشتركاً أي لغة، اللغة والاعتراف يستلزم كل منهما الآخر، التكلم مع آخرين يعني الاعتراف بهم ومعرفتهم كأشخاص، وحيثما لا يوجد هذا النوع من اللغة ينشب الصراع.

وعلى هذا الأساس يعد ديالكتيك السيد/ العبد لدى هيجل هو بدء الصراع حتى الموت، ويتوقع المنتصر خدمة لا خطابا وفق قراءة فانون وفي الوضع الاستعماري الخطاب لا يحقق التبادلية المفروضة بين طرفين وبما أن المستعمر لا يحترم ثقافة الآخر، فإن اللغة الوحيدة التي يتكلمونها هي لغة العنف والترهيب والإقصاء، وفي هذا الشأن يقول فانون كل شعب مستعمر - وبعبارة أخرى - كل شعب نشأت

ص: 372


1- المصدر نفسه، ص .183
2- نایجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص69.

روحه عقدة نقص نتيجة موت ودفن أصالته الثقافية المحلية - يجد نفسه وجها لوجه مع لغة الأمة ناقلة الحضارة.

إن لغة السيد هي أداة للتقدم في العالم الأبيض، لكن الأسود الذي يتكلم لغة البيض يظل محروما من الاعتراف مهما تملق فيها ويبقى بياض الوجه المعيار المعتمد لتحديد الاستقامة والتفوق وبالتالي في نظر فانون فإن الوعي المؤسَس على وعي التشابه يصل إلى طريق مسدودة. فالعبد الذي يعتنق كلام السيد يمكن أن يصل بأقصى أمله إلى اعتراف زائف فقط - إلى قناع أبيض، وفي ظل هذه الظروف، لا تتقدم لغة السيد من إحساس وبناء عليه، فإن التبادلية في صميم الديالكتيك الهيجلي لا تكون ممكنة عندما نقوم بإسقاطها على علاقة الأبيض بالأسود حسب فانون.

يعد نقد فانون لهيجل هو نقد أصيل، ويتمثل أحد أوجه هذه الأصالة في وصفه للديالكتيك بأنه (غير مرتب) أو أنه مفتوح النهاية. إن إدخال فانون عامل العرق في ديالكتيك السيد / العبد الهيجلي أربك نوعا ما قانون عمل هذا الديالكتيك، وهو مساهمة فعالة وأصيلة جرى تطويرها في سياق فلسفة هيجل في فترة ما بعد الحرب في فرنسا.

وعليه فانون في خضم نقده قدمه على أنه ديالكتيك سلبي الأطراف.

وبناءا على هذا النقد، يدعو فانون إلى ضرورة تصحيح الأخطاء الثقافية من قبل الأسود ذاته، ومن أجل تصحيح هذه الأخطاء من منظور فينومينولوجي، يعود فانون إلى تحليل التجربة المعاشة الخاصة بالكائن الأسود في مجتمع عنصري، وهذه الطريقة التي يسميها بطريقة (النكوص)، والتي هي أهم طريقة للنضال في نظر فانون.

وكما يرى فانون أن الوقوف على مصدر اغتراب الأسود من ناحية التحليل النفسي يتطلب الذهاب إلى المرحلة السابقة لعقدة أوديب، وبالتحديد إلى مرحلة التنشئة الاجتماعية ما قبل الأوديبية، فإن الوصول إلى ديالكتيك السيد/ العبد من منظور العرق يتطلب العودة إلى لحظة اليقين الذاتي السابقة للرغبة، ومن المفارقات أن هذه العودة تبدو أنها تعيد إنتاج الموقف الكولونيالي والهيجلي نمطياً إزاء الأفريقي بوصفه طفلاً يغوص في الغرائز.

يرى فانون أن الديالكتيك الهيجلي يجبر على التراجع إلى مرحلة سابقة للرغبة

ص: 373

في كتاب فينومينولوجية الروح وبالتحديد إلى مرحلة بناء الوعي الذي شرحناه سابقا، حتى يجد معياريته الذاتية. وفيما يتعلق بوعي الأسود يعلن فانون أن الديالكتيك يدخل الضرورة في أساس حريتي ويخرجني من ذاتي، وبتعبير آخر، إن الحركة من اليقين الذاتي تنشأ من الضرورة التاريخية للنضال من أجل الحرية ، لكن شكلها لم يحدده تطور أوروبا بعد(1)، وفانون بخلاف هيجل ،و سارتر يرى فانون أن المنهجية الارتكاسية هي السبيل الوحيد للخروج من طريق الديالكتيك المسدودة، أي إن الخطوة الوحيدة هي العودة إلى الخلف وبالتحديد إلى نقطة البداية.

حسب فانون ظل حلم الزنجية مثلا هو التحول إلى امرأة بيضاء حتى تتوحد مع العالم الأبيض وبالتالي بالمجتمع الراقي، يجسد مفهوم هيجل بشأن (اليقين الذاتي وقد اصبح جسداً)، وحقيقة هذا الوعي المتيقن من الاحاسيس تعكس عالماً مقلوباً، حيث المنظر من فوق يسيطر على الحياة من تحت والاقتصاد العنصري للمدينة الكولونيالية المعهود منذ أيام الطفولة يغدو جسداً في اليقين الذاتي لدى المرأة السوداء، ويشير فانون إلى أن من السهل رؤية ديالكتيك الوجود والامتلاك في هذا السلوك، فبالنسبة إلى الأسود، لا مخرج من البنية الاجتماعية إلا من خلال العالم الأبيض. وهكذا فإن الديالكتيك الهيجلي مسدود الطريق يتسم بالاغتراب بما أن الرجل الأسود لا يجد أية فرصة لاختيار وجوده عبر الآخرين، لأن كل أنطولوجيا تصبح مستحيلة المنال في مجتمع مستعمر، وبتعبير آخر أن تكون أسود لا يغدو وجوداً ذا معنى إلا في علاقتك بالأبيض، مع أن العكس ليس كذلك، ويُعلق فانون على ذلك بقوله: أن هذا الشكل من أشكال الاعتراف لم يكن هيجل قد تصوره في فلسفته إذ تنشأ علاقة غير متكافئة على أساس واقع لا يعترف بالثقافات الأصلية والمحلية والتي قام بمحوها مما يجعل الديالكتيك بلا حركة(2).

إن التبادلية المطلقة التي يؤكدها فانون بوصفها أساس الديالكتيك الهيجلي تبدو مستحيلة في عالم العلاقات بين السود والبيض. فبدلا من الصراع يمنح السید

ص: 374


1- نايجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد الكولونيالة، مرجع سابق، ص 82.ة
2- نایجل سي. غابسون ،فانون، المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص84.

الأبيض الحرية للعبد الأسود، ومن دون مجازفة بالحياة، لا يمكن للعبد أن يحصّل حقيقة (الاعتراف كوعي ذاتي مستقل) ولأن الحرية هنا ليست نتيجة النضال، لا تنشأ قيم جديدة ولا تكون كلفة الحرية معروفة حسب فانون.

خاتمة

مما تقدم نخلص إلى أن الغرب بمؤسساته ومرجعياته الثقافية والفلسفية والدينية والسياسية ومنذ عصر النهضة، تبنّى استراتيجية استغلال الشعوب في ذواتهم ومهاراتهم ومواردهم ومنتجاتهم وهي استراتيجية لا تتم بدون مخططات ثابتة تساعد على تحقيقيها، ومن أبرز هذه المخططات نجد خيار الاستعمار والاستغلال والتهميش والاحتكار وهي مخططات في مجملها تمت بوسائل عرف بها الغرب الحديث، بتفعيله لعنصر القوة بهدف تدمير حضارات الشعوب وطمس معالمها المعنوية والمادية، ولعنصر المعرفة والعلوم والتقنية التي لم يدخر جهدا لتطويرها وتوجيهها لهذا الغرض.

إن ارتباط المعرفة بالقوة والسيطرة في فجر العصر الحديث في أوروبا لهو دليل قاطع على نوايا الغرب الاستعمارية، بفعل مجهودات بعض فلاسفته الذين نظروا لهذا الاتجاه، على غرار ما فعل «رينيه ديكارت» في فلسفته التي نشدت ضرورة توظيف العلم للسيطرة على الطبيعة واعتباره بعض الكائنات الحية مجرد آلات خالية من الروح، وأيضاً في السياق نفسه سار فيه الفيلسوف الإنجليزي «فرنسيس بيكون» الذي رأى أن وظيفة المعرفة تكمن بالأساس في إخضاع الطبيعة لسلطة الإنسان، وهي الوظيفة التي اعتمدت فيما بعد على الإنسان نفسه، وصار الإنسان في ظلها عبداً لذاته، وفتح الباب من جديد لعصر الصراع والاستغلال والتطهير النوعي، بتأثير من النظريات العلمية الجديدة مع داروين وسبنسر في البيولوجيا وهيجل وشبنهاور

ونيتشه في الفلسفة، نظريات غدّت النزعات المتطرفة .

تعد فلسفة هيجل من أبرزت الفلسفات الغربية عنصرية في حق شعوب العالم غير أوربية، والدارس لنصوصه سيقف حتماً على تصنيفاته الاقصائية للكثير من

ص: 375

منجزات شعوب العالم العقلية والعلمية والحضارية بصفة عامة،وهي آراء جعلت من الحضارة الغربية تتوج تاريخ النوع البشري في مجمله، كما حصر محاولات المجتمعات الشرقية والأفريقية والشعوب اللاتينية بمثابة مدخل لتاريخ الحضارة الغربية، وهي محاولات أبقت الشعوب الإفريقية في مصاف الحيوانية مثلما تناوله كتابه «العقل في التاريخ» وكتابه «العالم الشرقي» ودروسه في فلسفة التاريخ، التي فيها نظّر لسمو العرق الجرماني وتفوقه الحضاري، معتبراً إياه عرقاً بشرياً نموذجياً.

إن كتابات هيجل العنصرية في حق الشعوب الإفريقية والأسيوية كانت مرجعاً لدوائر الحكم الأوربية في عصره، ومبرراً مباشرا للغزو الإمبريالي على المجتمعات بهدف تحضيرها وادماجها في تاريخ الغرب، وتثقيفها بثقافته، وهي كلها أفكار مركبة ومنتزعة من تراث الغرب ذاته وبالضبط من الثقافة اليونانية والرومانية والمسيحية التي تؤمن بفكرة التميز والتفوق، وأيضاً من التحولات الثقافية والعلمية الكبرى التي عرفتها أوروبا في العصر الحديث، التي تخدم هذه الأفكار، ومن هذه الزاوية قدّم هيجل تبريراته الفلسفية لهذه النزعة، حيث أن نسقه الفلسفي بمجمله وبفروعه الفلسفية من فلسفة التاريخ وفلسفة الحق والجمال والدين كلها خدمت هذا التوجه.

وعليه يجب قراءة كتاب هيجل «فينومينولوجيا الروح» من هذه الزاوية ككتاب فاتح للعالم بأعين غربية محضة، فهو تأويل دقيق لصعود الأنا الغربية وهيمنتها على العالم منذ نشأة الأنا الغربية الواعية إلى غاية نابليون بونبارت وفتوحاته العسكرية الذي اعتبره هيجل بمثابة العقل الكلي صانع الحريات، وهي كلها اعتبارات تقوي شوكة التفرقة العنصرية والتصنيفات غير الشرعية كمنهج للاختزال والاقصاء والتهميش.

ص: 376

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح ،والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار»كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًا بالالتباس والغموض. تعريفاته وشروحه وتأويلاته تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغلٍ بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب

المنهجى على بابين رئيسيين:

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المك الخالد الراس ان الامة التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 377

المجلد 2

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الثالث

نحن وأزمنة الاستعمار

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018 م

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر - الطبعة الأولى - بيروت [لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439 ه-. = 2018.

4 مجلد : ايضاحیات ؛ 24 سم.

يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

ISBN: 978-9922-604-11-4

1. ما بعد الاستعمارية .2 الاستعمار . 3. الامبريالية 4 العراق -- الاستعمار الف. حيدر محمود، محرر ومقدم. ب. العنوان.

JV51 .N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز : لماذا هذه السلسلة؟ ...6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي ...9

محمود حیدر... 9

الفصل الخامس : تجارب استعمارية ...19

«علماء الحوزة العلمية وصناعة التاريخ» ...20

:الدكتور محمد أمين الكوراني ...20

أدباء الحوزة العلمية في النجف الأشرفو مقارعة الاستعمار ...49

حسين الساعدي ...49

موقف علماء الحوزة العلمية من القضايا العربية والإسلامية ...77

حيدر عبد الهادي علي العذاري ...77

أهمية العراق الإستراتيجية للسياسة البريطانية ...99

صباح كريم رياح الفتلاوي ...99

الاستعمار البريطاني للعراق ...131

صلاح خلف مشّاي...131

الإدارة الاستعمارية البريطانية في العراق (1914-1920م ) ...150

سيف عدنان ارحيم القيسي ...150

ص: 4

الهيمنة الأميركية في العراق ...175

عامر عبد زيد الوائلي ...175

آثار الاستعمار على الأديان ...199

أحمد فاوسي أوغونبادو ...199

تاريخ الاستعمار في البلاد الإسلامية ...217

عبد الله الفاتح ...217

مناهضة الاستعمار الإنجليزي في السودان ...241

أحمد عبدالله محمد - حاتم الصديق محمد ...241

أشكال الجهاد والمقاومة إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب ...273

أنس صنهاجي...273

المجتمع المغربي في النص الرحلي الجاسوسي الفرنسي خلال القرن التاسع عشر ...313

محمد بوعزة ...313

الاستيطان الأوروبي في المغرب ...339

جلال زين العابدين ...339

مقاومة الكوفة للاستعمار البريطاني في ثورة العشرين ...354

محمد عبد الرحمن عريف ...354

الإيديولوجية الصهيونية والغرب ...394

أشرف بدر...394

ص: 5

مقدمة المركز: لماذا هذه السلسلة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن، مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولىّ وانقضى.. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة .. ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس صحیح أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت لكن هذا الانتداب يعود

ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

* * *

ص: 6

فی مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها ، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماضٍ يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّة مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمِر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعةٍ معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلّب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة

للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرقيّ والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب، وتنمية وعيه الثقافي ولا سيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما ندمّ الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط.

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى:«يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» (الحشر - 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين.

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه-

ص: 8

مدخل تاسیس:نقد مباني العقل الإمبريالي

محمود حیدر(1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أم بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً مفهوم «ما بعد الاستعمار»كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظّاً بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضادّاً للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةٍ تمكّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَين متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة ال«الما بعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه، أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءٍ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «المابعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه «الما بعديات» ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، أو «نهاية التاريخ»،«ما«ما بعد الميتافيزيقا»،«ما بعد الإيديولوجيا».. وأخيراً وليس آخراً ما «بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمة تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثٍ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياقٍ تنظيريٍّ بدأت مقدماته

مع نقد مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقدياً بعصرالتنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُّبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

* * *

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضية: إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما :

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

اما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعِ آخرَ من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو - إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً تستدعي تحليلاً

ص: 11

من نوع جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضِية «الما بعدية» لا مبرر لها».

* * *

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطّر عليها.

من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري.

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً : نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة:"اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها" وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن

طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعيٍ. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المُهَيْمَنُ عليه غافلاً المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال".. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهطٌ من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بينةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً ،تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية : لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطِّرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً المزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتِ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أميَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول

العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنيّ:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدٍ لحل مشكلات العالم تتجرد الذات الإنسانية من كلّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر «عقلانياً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة «الحروب العادلة» التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم الى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقِّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه. المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَين، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقياً وروحيا)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائقَ واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً : إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلات تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسببٍ من عقلانيتها البتراء حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييبٍ لأحكام العقل وقوانينه، كأنمَّا انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

* * *

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ. زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوى متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية. المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هی التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازِمه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فضّةٍ تسوّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من «الميديا البصرية والسمعية» - أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء.

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدّ «الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات ثبت بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل الخامس:تجارب استعمارية

اشارة

ص: 19

«علماء الحوزة العلمية وصناعة التاريخ »:فتاوى الجهاد تُسقط التآمر على العباد والبلاد

اشارة

محمد امین الکورانی(1).

تعتبر الحوزة العلمية وريثة الرسالة المحمدية والقاعدة المتكاملة وحلقة وصل الإمامة بين ما اجتهد ونطق من فكر وعلوم أهل البيت وما ظهر عن إرساله للتطبيق لكافة المسلمين دون استثناء، نظراً لامتدادها العقائدي في مسار الرسالة الإسلامية المحمدية بدءاً من رسولنا الكريمصلی الله علیه و آله و سلم إلى الأئمة علیهم السلام ثم نواب الإمام حتى زمن مراجعنا العظام.

وقد اختار الشيخ الطوسي مدينة النجف الأشرف داراً لهجرته عندما خرج من بغداد إثر حوادث السلاجقة في تتبع الشيعة فيها بالتنكيل والتقتيل. مضافاً إلى مجاورته لمرقد الإمام علي أمير المؤمنين علیه السلام، ولأن الشيخ الطوسي كان مرجع الشيعة في بغداد بعد وفاة أستاذه الشريف المرتضى فحين اضطر إلى هذه الهجرة القسريّة، انتقل

ص: 20


1- أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإسلامي - لبنان. المؤتمر الدولي حول التجديد في صناعة التاريخ وكتابته - جمهورية العراق كربلاء المقدسة - العتبة العباسية المقدسة - (15-16) اذار 2018 م 1439 ه- 21

مركز المرجعية معه، وحلَّ أرض النجف المقدسة طلاّبه ومريدو فضله، والتفّ حوله مَن فيها من الفقهاء والطلاب، ووفد إليها آخرون من حواليها وأطرافها والبقاع القريبة منها والنائية عنها.

وغدت الجامعة الكبرى للشيعة الإمامية وعاصمة المذهب الجعفري، يتخرج منها المئات من المجتهدين والعلماء في كل جيل طيلة الألف عام، ومرت بظروف مختلفة قوة وضعفاً لكنها حافظت على محوريتها في الحركة الفقهية الحوزوية والجهادية عند الشيعة. غير أن الحوزة العلمية في النجف لم تتوقف العطاء حتى عن مع بزوغ نجم الحلة واستمرت في رفد الميدان العلمي عند الشيعة بالعديد من العلماء المرموقين.

من خلال قراءتنا للتاريخ السياسي للعراق والمنطقة، لا نجد أيَّة شائبة في أن المؤسسة الدينية الشيعية وعلى رأسها المرجعية هي الأساس في تحريك السواكن داخل المناخ السياسي والاجتماعي، بالشكل الذي يحقق الإعتدال والإصلاح في المجتمع، وهذا ما نجده من خلال تتبعنا للدور المتميز لهذه المؤسسة منذ نهايات الحكم العثماني، وبدايات الاحتلال الأجنبي وصولاً إلى دورها في رسم أحداث ثورة العشرين الكبرى كحلقة تتبعها حلقات أخر، وإلى يومنا هذا في إصدار فتوى صادعة وتاريخية لمواجهة الفكر التكفيري وقوات الظلام التي هاجمت مدينة الموصل

العراقية وما تبعها من تجاوزات على الأهالي الآمنين في مختلف مناطق العراق.

كانت السلطة العثمانية في بغداد تحسب للمرجعية في النجف الأشرف ألف حساب كونها كانت تتمتع بكيان ديني وسياسي واسع يحظى بتأييد رموز إسلامية عالمية معروفة، ولذلك انتهجت حكومة الأتراك سياسة التّغاضي والتجاهل بشكل عام اتجاه السياسة العامة للسلطة الدينية في النجف الأشرف(1).

ص: 21


1- النفيسي، عبدالله- دور الشيعة السياسي في تطور العراق -الحديث - ترجمة دار النهار - بيروت - 1973- الكتاب هو رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة كمبردج 1972. ( الصفحات الأولى من الكتاب - بتصرف).

وقد عاش الشيعة في العراق في العصر العثماني حالة من الاستقلال النّسبي، ناشئ عن ارتباطهم بالمرجعية الدينية، بما تشكّله من استقطاب ثقافي وروحي وإدارة مالية مستقلّة، تؤدّي وظائفها على خلفية مفهوم صلب للشرعية. ومن جهة أخرى كان تواجد القبائل العربية الشيعيّة على طول نهر الفرات ضمن تنظيمات عشائرية تقليديّة، سنداً للقيادة الدينية بقوّة السلاح. ومن هنا كانت المدن المقدّسة وما يحيط بها من قبائل ترفض الخضوع للحكم العثماني.. ولا شك أنّ الصّراع التاريخي على العراق بين العثمانيين والدولة الصّفويّة ثم بينهم وبين الدولة القاجارية في إيران، قد ركّز هذا الواقع الخاص للعراق. ولما بدأت المرجعية مسيرتها الجهادية في أوائل القرن التاسع عشر ضد الاحتلال العثماني للعراق، كانت قد ورثت إرثاً ثقيلاً من التخلف والإستبداد . هذا الإرث دفع المرجعية لقيادة مشروع حركة التغيير المعاصرة بهدف اللّحاق بركب الحضارة الإنسانية المتوثبة وقد تحدد شعار الحركة الإسلامية والوطنية في محاربة المحتل ونيل الاستقلال. ولا شك أن هذه المقاومة ذات النهج لحسيني الأصيل كان لها الحق المشروع للدفاع عن الدين والوطن والنفس وأنها انطلقت ضد النهج القاسي للمحتل الهادف إلى تفكيك المجتمع العراقي طائفياً وعنصرياً وتغريبه عن لغته وتراثه ليتسنى له السيطرة الكاملة على مقدراته وثرواته بعد التحطيم الكامل لكيانه العتيد ولا ينسى العراقيون مجزرة كربلاء في زمن الوالي العثماني المملوكي سليمان باشاعام 1802 عندما هجم الوهابيون على المدينة بصورة فجائية وقتلوا الناس في الشوارع وفي داخل البيوت وخربوا قبة الإمام الحسين الله وسرقوا خزائن المرقد ومجوهراتها ولم يتركوا المدينة إلا بعد أن عاثوا فيها الفساد والدمار(1).

وفي عام 1808 شهدت الزيارة الأربعينية في كربلاء مظاهرات جماهيرية صاخبة لعموم سكان العراق يتقدمها رجال الدين الأجلاء قدموا من الحوزة العلمية في

ص: 22


1- الساعدي، كريم محمد حاتم الغزوات الوهابية على الأضرحة المقدسة في كربلاء والنجف خلال القرن التاسع عشر الميلادي - موقع موسسة النور للثقافة و الأعلام - 2014/10/29.

النجف الأشرف احتجاجاً على السلطات العثمانية لتقاعسها في صد الغزوات الوهابية المتكررة على مدن العراق كما هزت هذه الاعتداءات حماس الغيارى من أبناء الشعب العراقي وأججت مشاعر الإستياء لأقطاب المرجعية الدينية الذين شدّوا العزم وأرسلوا أعداداً كبيرةً من الشباب خريجي المدارس الدينية إلى المناطق الوسطى والجنوبية من العراق بهدف تذكير أفراد العشائر بمعاناة الشعب من جور الاحتلال

وإثارة روح الحماس الوطني في نفوسهم وتحريضهم على التمرد والعصيان(1).

من جهة أخرى، كان تواجد القبائل العربية الشيعية على طول نهر الفرات ضمن تنظيمات عشائرية تقليدية، سنداً للقيادة الدينية بقوة السّلاح. ومن هنا كانت المدن المقدّسة وما يحيط بها من قبائل ترفض الخضوع للحكم العثماني... ولا شك أن الصراع التاريخي على العراق بين العثمانيين والدّولة الصّفويّة ثم بينهم وبين الدولة القاجارية في إيران.. قد ركّز هذا الواقع للعراق... وإزاء التّغيرات التي حدثت في الحرب العالمية الأولى، اكتسحت المنطقة تلك الغزوة الاستعمارية العسكرية، حيث راح الإنكليز يخططون لتكوين أمبراطورية بريطانية تمتد من الهند إلى مصر إلى ممتلكاتهم في شرق أفريقيا. وكان العراق ضمن هذا المخطط الإنكليزي(2).

إن الوعي السياسي الجديد في العراق أخذ يتجسد عبر مواقف سياسية جريئة تتواتر على رؤية واضحة للموقف المتخذ وأصبحت محاربة الاستبداد مبدأ متكاملّ لدى علماء الدين في الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف الأمر الذي دفعهم للتعاون مع حزب (الاتحاد والترقي) التركي ضد استبداد السلطان عبد الحميد الثاني واستمر التعاون بينهم لمدة ثلاث سنوات (انهارت وانتهت مع بروز سياسة التتريك (الطورانية) التي شرع الاتحاديون بانتهاجها)(3).

ص: 23


1- الكركولي - دراسات في عشائر العراق- 1995.
2- كاظم عباس محمد - ثورة العشرين سلسلة نحو حضارة إسلامية - عدد 18/ 1984 ص: 120.
3- ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية) - مؤسسة الأعراف للنشر - ط-1-1999 ص: 63.

إن البدايات الأولى في الوعي السياسي لهذه المؤسسة ظهر في نهاية القرن التاسع عشر، إذ كان هناك سبب أساسي لهذا النمو متمثلا بالفتوى التي أصدرها السيد محمد حسن الشيرازي في مدينة سامراء لتحريم امتياز التبغ في إيران عام (1891) والتي جاءت لتمثل تيار عكسي ضد النفوذ الأجنبي في إيران، إذ مثّل هذا التصدي الدور الأساس في التخلص من الأزمة وتحقيق النصر ضد المطامح البريطانية (1).

وبناءً على هذه السياسات البريطانية الهادفة إلى الإنقضاض على العراق وانتزاعه من السيطرة العثمانية، حاول الإنكليز مراراً التواصل مع الشيعة في العراق باعتبارهم أقليّة الوسط العثماني السنّي بغية استغلال ضعفهم والظلم الواقع عليهم ، لاستمالتهم أحد

ناحية مشروعهم الاستعماري وإحدى هذه المحاولات كانت عام 1900، ففي أزقّة سامرّاء أصيب الإمام محمد حسن الشيرازي بحجر طائش - وهو صاحب فتوى تحريم التبغ - وعندما علم القنصل البريطاني ببغداد بالخبر توجه إلى سامرّاء لمقابلة الإمام الشيرازي فرفض مقابلته، وعندما أبلغه القنصل بأنه مستعد للاقتصاص ممن أساء للإمام ولو أدّى ذلك إلى إرسال إنذار للحكومة العثمانية، فرفض عرضه قائلاً: إنّه لا يعتقد بوجود عداء بينه وبين أهل سامرّاء، وإنّ ماحدث كان نتيجة الصدفة ولا يرى حاجة لدسّ أنف بريطانيا فى هذا الأمر الذي لايعنيها، لأنّه والحكومة العثمانية على دين واحد وقِبلة واحدة وقرآن واحد، ولم يسمح الإمام الشيرازي لأزمة الشيعة في ظل الدّولة العثمانية أن تتحول إلى خنجر بريطاني يشرخ الوحدة(2). ولاحقاً وقف الشيعة إلى جانب العثمانيين في خندق واحد للدفاع عن البلاد عندما بدأ الاجتياح الإنكليزي خلال الحرب العالمية الأولى. لقد أثبت التاريخ ومنذ قرن من الزمن على الأقل وفي تاريخ العراق الحديث أنّ من أهم أولويات المرجعية الدينية، الدفاع عن الوطن، وهو تاريخ حافل بهذه المسؤوليات ومن خلال قراءتنا للتاريخ السياسي للعراق

ص: 24


1- صاغية، حازم - صراع السلام والبترول في إيران بيروت دار الطليعة - ط1-1978- ص: 85-86.
2- الرهيمي، عبد الحليم - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق - ص: 128 عن علي البازركان - الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية : ط 4 - بغداد 1954

والمنطقة، لا تطالعنا أية شائبة في أنّ المؤسسة الدينية الشيعيّة وعلى رأسها المرجعيّة، كانت الأساس دائما في تحريك السّواكن داخل المناخ السّياسي والاجتماعي بهدف الإصلاح في المجتمع منذ بدايات العهد العثماني إلى بدايات الاحتلال الأجنبي مروراً برسم أحداث ثورة العشرين كحلقة أولى تبعتها حلقات أُخر، إلى يومنا هذا في إصدار فتوى صادعة وتاريخيّة لمواجهة الفكر التكفيري وقوّات الظلام التي عبثت بسوريا والعراق وأقطارٍ أخرى.

وتقول المصادر التاريخية أنّه : لمّا بلغ أهل النجف نبأ توجه الوهابيين الغزاة عام 1802 نحو مدينتهم أعدّ الزعيم الديني الشيخ جعفر كاشف الغطاء وبمساعدة العلماء قوّة جماهيرية هيّأ لها السّلاح وما يحتاجون من عدّة الدّفاع عن الأرض، ودُفع الغزاة عن النجف وتمكن الشيخ جعفر وثلة من العلماء من دفع ودحر القوّة الغازية(1). وهاهم المراجع العظام يصدرون فتوى الدّفاع عن ليبيا عندما غزاها الإيطاليون عام 1911 وفيها يشحذون الهمم ويستنفرون المسلمين في كل البقاع وخصوصا مسلمي العراق للدفاع والجهاد وردع المعتدي نقتطف منها مايلي: «... عليكم أيها المحامون والمدافعون عن الدين والحافظون لبيضة الإسلام ألا يخفى عليكم أن الجهاد لدفع هجوم الكفار على بلاد الإسلام وثغوره مما قام إجماع المسلمين وضرورة الدين على وجوبه.... هذه كفرة إيطاليا قد هجموا على طرابلس الغرب التي هي من أعظم الممالك الإسلامية وأهمها فخرّبوا عامرها وأبادوا أبنيتها وقتلوا رجالها ونسائها وأطفالها مالكم تبلغكم دعوة الإسلام فلا تجيبون، وتوافيكم صرخة المسلمين فلا تغيثون، أتنتظرون أن يزحف الكفار إلى بيت الله الحرام، وحرم النبي والأئمة عليهم السلام ويمحوا الديانة الإسلامية عن شرق الأرض وغربها وتكونوا معشر المسلمين أذل من قوم سبأ .... فبادروا إلى ما افترضه الله عليكم من الجهاد في سبيله، واتفقوا ولا تفرقوا، وأجمعوا كلمتكم وابذلوا أموالكم وخذوا حذركم وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم لئلا يفوت وقت الدفاع وأنتم

ص: 25


1- محبوبة، جعفر - ماضي النجف وحاضرها - دار الأضواء ط-2 - 1986 -ج-1 ص: 326

غافلون وينقضي زمن الجهاد وأنتم متثاقلون) وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبه- عذاب أليم)». وقد وقّعها المراجع العظام: محمد كاظم الخراساني وعبدالله المازندراني وشيخ الشريعة الأصفهاني وعلي رفيش ومحمد حسين القمشة وخدام الشريعة: الغراء حسن بن المرحوم صاحب الجواهر والسيد علي التبريزي ومصطفى الحسيني الكاشاني ومحمد آل الشيخ صاحب الجواهر ومحمد جواد الشيخ مشكور وجعفر ابن المرحوم الشيخ عبد الحسن ومحمد سعيد الحبوبي(1).

.. ومع بداية القرن العشرين بدأ علماء الشيعة يشعرون مدى حاجتهم إلى العديد من التصورات والأفكار التي تؤمّن تعاملهم مع مشاكل العصر التي بدأت تواجه المجتمعات الإسلامية وخاصة دول الجوار وحفزت النقاشات والسجالات حول طبيعة هذه الأحداث والتعامل معها(2).

وقد مثّل اندحار العثمانيين في العراق ودخول قوات الحلفاء تجدد المشروع الشيعي بقصد استثمار هذه المرحلة وبناء دولة مستقلة وعلى هذا فقد كان الوعي الشيعي حاضراً في صناعة الواقع العراقي وصياغة مستقلة حتى تجلى بظهور العديد من الندوات(3).

كما إن موقف المؤسسة الدينية لم يكن مقتصراً على تحريك الأحداث السياسية العراقية الداخلية أبان تلك المدة بل تعدى إلى المساندة الإقليمية في الأحداث التي تتعرض لها المنطقة بأسرها خصوصاً في عام 1911 عندما اجتاحت القوات الروسية شمال إيران إثر الخلاف المائي الحاصل بينهما وقيام القوات البريطانية باحتلال

ص: 26


1- (العدد /22/ مجلة كلية التربية الساسية للعلوم التربوية واإلنسانية / جامعة بابل آب/2015م، ص: 527 (محمد سعید الطريحي، المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي : الغزو الإيطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911 - مجلة الموسم - العدد السادس - بيروت - 1990 - ص: 381 - 382 مجلة العلم النجفيه - المجلد السابع - الجزء السادس - تشرين الثاني - 1911- ص : 249.
2- عودة، جهاد- تقدير الأزمة الإستراتيجية في العالم العربي - الناشر: المكتب العربي للمعارف - ص: 147.
3- المصدر السابق ص : 148

جنوب إيران حين برّرت تلك الدولتان بأن الهجوم على إيران جاء استناداً على اتفاقية عام 1907(1)كما وعمدت القوات الروسية إلى قتل علماء الدين في تبريز وإشاعة الرعب في صفوف الناس(2)، وعندها أعلن علماء الدين في العراق وخاصةً في النجف الأشرف الجهاد ضد القوات الروسية الغازية ومنهم الأخوند الخرساني الذي أوعز بنصب الخيام خارج مدينة النجف لتعبئة الجماهير استعدادا لمواصلة الجهاد ضد الغزاة.

وعندما قصفت القوات الروسية مرقد الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام اجتمع علماء الدين في مدينة الكاظمية وهم السيد مهدي الحيدري والشيخ مهدي الخالصي والسيد إسماعيل الصدر والسيد عبد الله المازندراني والشيخ فتح الله الأصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني والسيد علي الداماد والسيد مصطفى الكاشاني والسيد محمد تقي الشيرازي المقيم في سامراء (3).

وبرزت هذه المواقف للمؤسسة الدينية وخاصةً المواقف السياسية على أنها لم تأت من فراغ بل كانت بداياتها متمثلة بنمو الحركة الإسلامية في المدن الشيعية المقدسة، وكيف شكلت هذه المدن الاتجاه الفكري السياسي والرئيس خلال المدة الممتدة بين أوائل القرن العشرين وحتى الاحتلال الإنكليزي للعراق عام 1914 حيث تمثل ذلك النمو بعدد من المظاهر السياسية والفكرية للتيارات التي تولدت عنها وكانت النجف وكربلاء وعلى الرغم من أهمية المدن الشيعية الأخرى قد شكلتا المركز القيادي الأساسي للحركة الإسلامية ومظاهرها الفكرية وتياراتها.

وفي هذا الوقت قام كبار علماء المسلمين الشيعة بإصدار فتوى تدعو إلى الجهاد ومقاومة الاحتلال الإنكليزي وتأييد العثمانيين في الحرب على الرغم من أنهم كانوا

ص: 27


1- الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية) - مصدر سابق ص: 47.
2- الوردي، علي - لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث - قم - انتشارات الشريف الرضي - 1413ه-ط 1- ج 4 - ص: 57 - 59
3- الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية)، المصدر السابق، ص: 65.

على يقين بأن العثمانيين لا يمثلون الوجه الإسلامي الصحيح إلا أن شرّهم أهون عليهم من خطر الإنكليز الكفار(1)،حيث قاموا بتعبئة سكان المدن والعشائر وحثهم على الجهاد وتنظيم تطوع المجاهدين وقيادتهم إلى جبهة الحرب(2).

وعبر هذين التطورين الهامين دخلت المؤسسة الدينية حقبة جديدة وهامة من تطورها السياسي والفكري الذي امتد نحو عقد من الزمن كانت المواجهة المسلحة هي السمة البارزة لهذه الحقبة. وقد سجل المؤرخون مواقف علماء الشيعة، والمراجع العظام في الدفاع عن الدولة العثمانية رغم قناعتهم بطائفيتها الحمقاء، وعنجهيتها القومية، لكنهم أمام الغازي الأجنبي أعلنوا الجهاد المقدس، وتوجّهت الجموع الزاحفة إلى البصرة للدفاع عن الوطن، وشاركت القيادة المرجعية في المسيرة، وكان طليعتهم العلماء الأعلام من النجف.. وكان لهم موقف مشرّف في الدفاع عن الوطن(3).

كانت بريطانيا تدرك مسبقاً أنها ستواجه مشكلة كبيرة في العراق، العراق، هي موقف علماء الشيعة من احتلال العراق حيث إنها كانت تدرك أنّ علماء الشيعة لا يمكن أن يتقبلوا الاحتلال البريطاني، وذلك من خلال المواقف التي تبنّوها إزاء الاحتلال الاستعماري للأقاليم الإسلامية، وتصدّيهم لأي محاولة استعماريّة تستهدف كيان المسلمين السياسي(4).

كان للفتوى التي أصدرها السيد الشيرازي في 1919/1/23 الأثر العميق في نفوس الأوساط الشيعية وأوساط المعارضين للاحتلال الأجنبي وقد تطابقت مع عدد من الآيات القرآنية التي نصت على أن يطيع المسلمون أولي الأمر منهم، وتعدُّ هذه

ص: 28


1- الرهيمي، عبد الحليم - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق 1900 - 1924) - ط 1 (الدار العالمية للطباعة والنشر - بيروت، 1985) - ص: 163.
2- المصدر نفسه ص: 164.
3- لمحات من تاريخ العراق - مصدر سابق-ج-4 ص: 147-148
4- الجبوري كامل سلمان - النجف الأشرف وحركة الجهاد مؤسسة العارف للمطبوعات - بيروت- ط1--2002 ص: 8

الفتوى هي الأولى خلال السيطرة البريطانية الفعلية على العراق حين أعطى فيها السيد الشيرازي رأياً علنياً ضد البريطانيين الأمر الذي أضفى على الحكم الوطني مباركة دينية، وكان لهذه الفتوى انعكاساً ايجابياً كبيراً في نفوس الناس، وبذلك توازن موقف العلامة الشيرازي في كربلاء مع مواقف رجال الدين في النجف (1).

وكانت أولى المواجهات المسلحة هي التي قادها واشترك فيها رجال الدين والعلماء الشيعة ضد الاحتلال والتي شكلت تجربة مهمة ومتقدّمة لمواجهتين مسلّحتين هما ثورة النجف عام 1918 وثورة العشرين عام 1920، وجدد السيد اليزدي دعوته للجهاد في خطبة ألقاها في صحن الإمام علي علیه السلام حرض فيها الناس على الدفاع عن البلاد الإسلامية وأكد وجوب ذلك حتى على الفتى العاجز بدنا(2).

لقد كانت مدينة كربلاء في مقدمة المدن العراقية التي استجابت لحركة الجهاد التي قادها العلماء الأعلام حيث إن اجتماعا كبيرا عُقد في المدينة حضره كبار رجال الدين كان في مقدمتهم السيد إسماعيل الصدر الذي سار بالحاضرين إلى صحن الإمام الحسين علیه السلام.

أما في مدينة الكاظمية فقد كان لها الموقف المشرّف بالوقفة الأصيلة في الدفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين ، إذ برز فيها مجتهدان كبيران هما السيد مهدي الحيدري والشيخ مهدي الخالصي قادا الدعوة للجهاد وأشرفا على تطوع المجاهدين حيث بادر الأول بعد احتلال الفاو إلى إرسال برقيات إلى النجف وكربلاء وسامراء عبرّ فيها عن رغبته في الاجتماع بهم ويقصد رجال الدين لبحث أمر الاحتلال فضلاً عن مساهمته الفعالة في حثّ الناس على الجهاد من خلال المنبر في الصحن الكاظمي الشريف(3).

ص: 29


1- الشريفي، أحمد باقر علوان كربلاء بين الحربين العالميتين - رسالة ماجستير - معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا - بغداد - 2004 ص: 48.
2- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث - المصدر السابق- ج 4 ص 128-131
3- عبد الدراجي عبد الرزاق جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق - بغداد (1978)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة بغداد ص4240

أما الشيخ مهدي الخالصي فقد أصدر حكماً شرعياً أوجب فيه على المسلمين (صرف جميع أموالهم في الجهاد، حتى تزول غائلة الكفر، ومن امتنع عن بذله وجب أخذه كرها)(1). هذا فضلاً عن أنه أصدر رسالة عنوانها: (السيف البتار في جهاد الكفار) تعرض فيها إلى مسألة الجهاد في الإسلام وما يترتب على الأمة الإسلامية للقيام بشروطه وقواعده وأركانه(2).

وقد لقت فتاوى العلماء بكل العراق استجابة واضحة وكبيرة من قبل عامة الناس حيث انضم العديد من الأهالي إلى صفوف المجاهدين، وهذا الأمر يدلّل على عمق الترابط بين الناس ومقلّديهم داخل المؤسسة الدينية التي اعتبرت الموجه الأول للأحداث والقائد الأوحد للعمليات الجهادية. هذا فضلاً عن أن الصرخة الجهادية لم تنطلق من كربلاء أو النجف وحدهما باعتبارهما مركزاً للمؤسسة الدينية بل إن الصرخة كانت بوقت واحد في جميع مدن العراق ذات النفَس الشيعي وإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنه يدل على عمق الترابط الروحي والعقائدي بين رجال الدين والعلماء وطلبتهم خاصةً وأنهم أكثر الناس إدراكا لعظم المسألة التي تحيط بأفكارها وطموحاتها الاستعمارية في جسم العراق وأهله.

ولم تكن مدينة سامراء بعيدة هي الأخرى عن الروح الجهادية التي اكتنفت مدن العراق من النجف وكربلاء والكاظمية إذ كان لها دورها المشارك والفعال والذي جاء على لسان السيد محمد تقي الشيرازي الذي أوجب محاربة الكفار الإنكليز وأرسل نيابة عنه نجله محمد رضا إلى الكاظمية للانضمام إلى المجاهدين.

وعلى أي حال نجد أن مشاركة رجال الدين والعلماء تمثل وجهين الأول المشاركة

المباشرة في أغلب المعارك التي شنها المجاهدون ضد الجيش البريطاني.

ص: 30


1- المصدر نفسه ص 41.
2- تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 - 1924) - مصدر سابق- ص 167.

أما الوجه الثاني تمثل بالوجه الإرشادي والتوجيهي لزعماء العشائر الذين يقودون المجاهدين في عشائرهم (1).

ولبيان الدور الأساس لرجال الدين والمؤسسة الدينية إبان ثورة النجف لابد من الرجوع قليلا للأسباب والدواعي التي أوجبت على المؤسسة الدينية اعتناق ذلك الدور، إذ شكلت النجف ومنذ بداية الاحتلال الأجنبي للعراق مركزاً أساسياً لحركة الجهاد، حيث أقام زعماؤها المحليون إدارة ذاتية لتسيير شؤون المدينة

وهي إدارة كانت أشبه بحكومة مؤقتة وخلال تلك السنتين الأخيرتين التي تمتعت بهما المدينة بوضع مستقل(2).

قام السيد الشيرازي بتعزيز القيادة الدينية في معارضة المشاريع الإنكليزية ومقاومة الاحتلال وحل بعض المشاكل التي تواجهها حركة المقاومة الإسلامية وذلك قبل أن يتخذ موقفاً حازماً وحاسماً للبدء بمواجهة شاملة ومسلحة ضد الاحتلال حتى يتمكن من تحقيق وإنجاح جميع السبل القادرة على تحقيق النجاح في الحالة الثورية كما جعل وبشكل أكبر من المؤسسة الدينية عامل جذب لجميع أنظار أبناء الشعب وتمكن من حل المسألة المهمة الخاصة بالتناحر والصراع بين العشائر عن طريق خلق التآلف والتقارب في الوجهات المختلفة بالشكل الذي يمكن من خلال ذلك الاستفادة منهم في مقاومة المحتل.

إن التحول في موازين التأثير الذي حدث كان من خلال علماء الشيعة ومؤيديهم من رؤساء العشائر في العراق. وفي الوقت نفسه، ثمة صلة لاانفكاك عنها مع العالم العربي المتّسع إلى ماوراء حدود العراق؛ جعلت هذه الصّلة ما يحدث في العراق أمراً يهم العرب إلى حد كبير، وما يحدث للأقطار العربية مصدراً لإلهام العراقيين(3).

ص: 31


1- الحسني، عبد الرزاق - الثورة العراقية الكبرى -بيروت - 1978 - ط -4 ص 55.
2- دور الشيعة السياسي في تطور العراق الحديث - مصدر سابق- ص 63 - 130.
3- ثورة - 1920- مصدر سابق دار -التنوير - ط1 بيروت 2014 - ص49.

وعلى الطرف الآخر للعراق، وبالمقابل في لبنان وسوريا، كان هناك علّامتان مجتهدان كبيران من أساطين العلم والاجتهاد خرجا من رحم الحوزات العلمية في النجف وكربلاء وغيرهما المجتهد العلامة الكبير، السيد عبد الحسين شرف الدين في جبل عامل - لبنان والمجتهد العلامة الكبير السيد محسن الأمين في سوريا. وها هو السيد شرف الدين يعلن الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي بقوله : « .. وكان استقبالنا للاحتلال الفرنسي استقبالاً صاخباً محتجا يواجهها بالرفض والمصارحة والميل عنها ميلاً لا هوادة فيه ولا لين»(1). كان السيد شرف الدين راسخ اليقين، دائب الحركة يدور مع المحتلين مدافعاً أو مطارداً وعندما أفتى بالجهاد ضدهم حكموا عليه بالإعدام وطاردوه ولم يتزحزح عن مواقفه المبدئية قيد شعرة. وكان يردّد دائماً أينما حل«الهاشمي لا تعصب سلماته ولا تقرع جنباته... فكيف يلين الهاشمي لحادث، أو يلبس لباس الخوف، حاشي حفاظ بني الحسين»(2). تزامن انفجار الثورة في جبل عامل سنة 1920 ضد الاحتلال الفرنسي مع انفجار الثورة في العراق في نفس العام ضد الإنكليز. وما أن اندلعت الثورة في جبل عامل حتى تزامن أيضاً إصدار الفتاوى في النجف الأشرف من المراجع الكبار بضرورة التصدّي للاستعمار الإنكليزي في العراق (3). ثم اندفع المستعمر الفرنسي بحقده وحكم على السيد شرف الدين بالإعدام ثم خفّفه إلى النفي وأحرق داريه ومكتبته العامرة بنفائس المخطوطات والكتب.

أما في سوريا فإن المجتهد الكبير السيد محسن الأمين العاملي قد وقف في نفس الفترة بل في نفس العام 1920 لقيادة الحركة السياسية الكبيرة في سوريا، والتي كان لها الأثر البالغ في توطيد عرى الوحدة الوطنية في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وقد استطاع من خلال ذلك أن يجسّد صورة القائد الإسلامي الذي يحمل هموم الأمة ويدافع عن قضاياها، ويعيش مضحياً من أجلها، فغدا رمزاً من رموز التحرير في

ص: 32


1- شرف الدين السيد عبد الحسين - بغية الراغبين المخطوط - ص 62.
2- من مخطوطات السيد شرف الدين، ص 5 (نسخها ونقلها ولده المرحوم السيد جعفر شرف الدين.
3- كوراني، محمد أمين (صاحب البحث)-الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل- دار الهادي بيروت - ط2 - 2005 - ص 148.

العالم الإسلامي،كما اشتهر بمواقفه الوطنية والإسلامية المشرّفة، ودفاعه عن القضايا العربية في وجه الانتدابين الإنكليزي والفرنسي(1).

وكما كافح في سبيل استقلال سوريا فإنه لم ينسَ فلسطين حين أطلق فتواه الجهادية يستصرخ الأمة : «... أيها العرب أيها المسلمون: إنّ لكم في فلسطين تراثاً، وإن لكم في كل غور وحزَن دماً عُجن به ترابها واختلط به ماؤها ونباتها، وإنّ أربعة عشر قرناً زاخراً بالمفاخر والمآثر تحدق بكم اليوم، وأمجاداً من عليا معدِ ونزار، ترفرف أرواحٌ في آفاقكم تستفز عزائمكم، وتستصرخ نجدتكم»(2). ومن فتاواه التي أصدرها في سنة 1928 كتاباً تحت عنوان: (التنزيه لأعمال الشبيه) حول الممارسات العنيفة والدموية في أيام عاشوراء يستنكر فيه تلك الممارسات، وأيده عدد العلماء من في النجف، ولكن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وقف في مواجهة قرار الحكومة العراقية بحظر الشعائر الحسينية، ودافع عنها قائلا:«إنها أعظم رموز المذهب الشيعي وإنها ضرورية لوجوده، وحذر من أن تقييدها سيؤدي إلى اختفاء التشيع كله»(3).

يبدو من خلال المطالعات للتأريخ السياسي وما تتناقله كتب المؤرخين ومقالات الباحثين من أهمية لثورة العشرين التي قادها جهابذة العلماء في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء حيث نزل إلى ميدان الجهاد معظم عشائر الجنوب، بقيادة العلماء، واستمر هذا العطاء بثورات وحركات لم يهدأ العراق معها حتى يومنا هذا.

فالدستور الإنكليزي الاستعماري لثورة 1920م وإبعاد الغالبية السكانية، لا يُبعد النجف الأشرف عن القيادة الثورية ولا يطفئ شعلتها الجهادية، وستبقى النجف قبلة المسلمين ومحط المراجع العظام والعلماء والشعب الثائر مهما جار عليها الزمن لأن حمايتها بحاميها وهو سيّد الوصيين وإمام المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فهو حامي بيته ومَن يلوذ به والله المعين.

ص: 33


1- المصلح الإسلامي السيد محسن الأمين الناشر : المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق - 1992 ص 167
2- المصدر السابق ص 170.
3- كاشف الغطاء النجفي، الشيخ محمد الحسين - الآيات البينات في قمع البدع والضلالات- دار المرتضى، بيروت - لبنان - ص 10 - 11

وحول مواقف النجف السياسية: فإن المرجع الأعلى الميرزا محمد حسن الشيرازي قاد الحركة الوطنية في إيران من مقره في سامراء - العراق، وأفتى تلك الفتوى المشهورة بتحريم استعمال التنباك.

وكذلك في بداية الحرب العالمية الأولى، رأى مجتهدو النجف الأشرف في هجوم الإنكليز على العراق تدخلاً سافراً على وطنهم، فأفتوا بالجهاد فانخرط الشعب في أثرهم بقيادة المجتهد العالم السيد محمد سعيد الحبوبي ومعه كتائب العلماء وطلاب النجف وساروا مدججين بالسلاح إلى ساحات القتال في معركة (الشعيبة) ،وغيرها ملبين نداء الجهاد ضد البريطانيين.. وقد جاء النّداء بعد فترة وجيزة من اعتداء الأتراك على بيوت شيوخ بارزين كانوا يقبعون في سجون الأتراك.. لكن هؤلاء استُبِقوا بفرض الجهاد ضد البريطانيين لكونهم قوات غير مسلمة يقاتلون ضد العثمانيين المسلمين ، وإن كانوا ظَلَمَة(1).

وبعد الاحتلال الإنكليزي للعراق وإعلان الانتداب، دعا المرجع الأعلى الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي - من مقرّه في كربلاء - الشعب العراقي لمقاومة الاحتلال والثورة على الانتداب فهب الشعب حاملاً سلاحه فكانت الثورة العراقية الكبرى التي أرغمت المحتلين الإنكليز على إعلان الحكم الوطني، وقد أكدت هذه الثورة على التلاحم الجماهيري الديني والعشائري (القبائل) مما أكّد على تفاعل قوي شدّ هذه الجبهة ضد الاستعمار وتصميم صادق على محاربة العدو مهما كانت قوته، وقد أفتى السيد الشيرازي بأن«مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية الأمن والسلم، ويجوز لهم التوسّل بالقوة الدّفاعية إذا امتنع الإنكليز عن مطاليبهم» وطلب بتشكيل حكم عربي إسلامي دستوري متحرر من الاستعمار في العراق، وأصبحت الثورة رمز البطولة الوطنية العراقية في سبيل الدفاع عن الأمة والأرض من أجل غزو أجنبي محتل (2)وتوفي الشيخ الشيرازي فقاد

ص: 34


1- ثورة 1920 - مصدر سابق - ص 161.
2- العلوي، حسن - الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990- دار الثقافة للطباعة والنشر - قم، إيران - ص 97.

الثورة خلفه الشيخ فتح الله النمازي المعروف بشيخ الشريعة، وقد كانت العشائر في العراق تقف مع صوت المرجعية، وكان هذا العامل من جملة العوامل التي جعلت ثورة العشرين تنجح في دحر الاستعمار البريطاني حيث كان لفتوى المرجع الديني الميرزا محمد تقي الشيرازي أثر كبير في نفس ابن العشيرة وشيخها حيث يعتبرها واجباً مقدساً يلتزم به ، وبهذا الترابط القوي بين الشعب والمرجع تفجرت الثورة وتألقت تقدماً وأنزلت ضرباتها على المستعمر الذي حاول بمخططاته وضع كثير من الحواجز بينهما، وبذل الأموال لشراء ضمائر بعض ذوي النفوس الضعيفة

واستدراجها إليه.

وأصبحت مدينة النجف الأشرف - حينذاك - غرفة عمليات الثورة، جهاداً ومصدراً للبطولة والفداء حتى سرت الثورة إلى جميع محافظات العراق، والجنوبية بالذات.

وللدين الدّور الأساس في قيام الثورة لأنّ بذور التشيع في فكرة التحرك الثوري مدعاة لتكون الانطلاقة شيعية وإن انضمّ إليها شخصيات سياسية ودينية غير شيعية لما فيها من أصالة عقائدية، وصدقيّة في المسيرة. ومما يدلّل على ذلك صدقية الثورة ونبل الأخلاق العالية واتباع التعاليم الإسلامية وفتاوى المراجع والعلماء، حُسْن معاملة أسرى الحرب البريطانيين بفتوى من المجتهد البارز شيخ الشّريعة إلى حرّاسهم، مبيّنا أن المعاملة الحسنة للأسرى «واجب ديني ومدني وإنساني». وقد استُخدمت هذه الفتوى لدحض خطاب آرنولد ويلسون في 30 آب 1920 إلى شيخ الشريعة(1).

كان لدور العلماء - كما أشرنا - في تعبئة الجماهير للثورة أثره الكبير في الإستجابة لهم فالشيخ مهدي الخالصي والسيد هبة الدين الشهرستاني كانا حلقة الوصل بين القيادة وبين علماء الدين في الكاظمية وجماهيرها، كما أن السيد أبو القاسم الكاشاني

ص: 35


1- ثورة 1920 - مصدر سابق - ص 190

كان حلقة الوصل بين القيادة وإيران والميرزا أحمد الخراساني كان الحلقة بين القيادة وجماهير وعشائر النجف الأشرف، والأخيران كانا حلقة الوصل مع عشائر الفرات الأوسط.

إن منهج الإمام الشيرازي في القيادة كان يعتمد على الشورى، ومن هنا فقد شكّل في البداية مجلس شورى للعلماء، كما شكّل فيما بعد وعلى أثر فتواه بجواز حمل السلاح ضد الإنكليز مجلساً لإدارة الحرب ضد القوات الإنكليزية، يتشكل من رؤساء العشائر الثائرة، ومن الوجهاء وكبار زعماء الثورة(1)، كما كان منهج الإمام الشيرازي في الثورة قد تميز بما تميزت به الحركة الثورية الإسلامية في ذلك الوقت من المبادئ

الثلاثة:

-1 النفي المطلق للاستعمار ورفض المهادنة معه.

-2- الوحدة الإسلامية.

3 الاعتماد على الفكر الإسلامي في الحركة.

كما كان الإمام الشيرازي منذ توليه الزعامة الدينية والسياسية، قد سعى عبر توجيهاته ووكلائه ورسله، إلى تهيئة الأرضية الشعبية لتفجير الثورة بوجه الإنكليز، وقد أصدر عدة فتاوى حدّد فيها واجب الشعب في قضية الاستفتاء وفي حرمة التعاون مع السلطات المحتلة. ولم يكن الإمام الشيرازي تنقصه الشجاعة في إصدار فتوى يُلزم فيها الشعب بوجوب حمل السلاح، إنما كانت حكمته تقتضي أن يجعل الفتوى كفّ مسلّط على رأس الإنكليز دون استخدامه إلاَّ في الحالات التي تُفقد فيها جميع الآمال والحلول(2). وانتشرت

ص: 36


1- كمال الدين، محمد علي (تقديم علي الخاقاني) - معلومات ومشاهدات من الثورة العراقية لسنة 1920 - ط العراق 1971 - ص 100.
2- المصدر السابق ص 284

الفتوى على نطاق واسع في كل مكان مع مبعوثين خصوصيين من علماء الدين لتحريض الجماهير على حمل السلاح ومقاومة القوات الإنكليزية بالقوة، وكان بعض العلماء والخطباء والشخصيات الدينية من أقدر الناس على تعبئة الجماهير من أمثال أبو القاسم الكاشاني والسيد صالح الحلي، والسيد محمد الصدر(1).

ويلاحظ أنّه من الأمور المعروفة أن الزعامة الدينية الشيعية في العراق والتي لعبت دوراً خطيراً في تفجير وتأجيج ثورة 1920م الوطنية، كانت تنطلق في تفكيرها السياسي من منطلق ديني إسلامي عام لا يختص بطائفة مذهبية معينة، شيعية أو سنية، ولا بفئة إثنية دون أخرى عربية أو كردية أو تركية أو غيرها.

لقد ذهب علماء الدين الشيعة العرب منهم والإيرانيون على رأس قوافل المجاهدين إلى ساحات القتال في الشعيبة وغيرها لمحاربة القوات البريطانية(2).

يقول الأستاذ عبد الحليم الرهيمي: في مدينة النجف قام عدد كبير من العلماء بأدوار مهمة في حركة الجهاد، وكان أبرزهم المجتهد محمد سعيد الحبوبي، وأن السيد الحبوبي قام بدور رئيسي في الثورة، حيث كان أول من بادر إلى قيادة مجموعات المجاهدين والتوجه بهم إلى الجبهة وقد التف حوله عدد من العلماء في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية الذين قاموا بدور فعال في تعبئة عشائر الفرات الأوسط وحتّها على الجهاد(3).

أما ما يخص موقف علماء الدين فإن من أسباب الثورة واندلاع لهبِها في نظر الكثير من الباحثين والمؤرخين هو مواقف رجال الدين ولا يخفى أن المجتهدين من علماء الشيعة الإمامية، هم مرجع جميع أبناء هذه الطائفة في تلقّي الفتاوى والأحكام

ص: 37


1- المصدر نفسه ص 287.
2- المصدر نفسه 299.
3- الرهيمي، عبد الرحيم - تاريخ الحركة الإسلامية في -العراق- بيروت الدار العالمية - 1985 ص 165.

الدينية، وهم يعتقدون أنّ علماء هم نوّاب أئمتهم فلا يخالفون لهم أمراً، ولا فتوى، ولا حكماً من الأحكام الشرعية(1).

والنجف أول مدينة عراقية فكّرت بالتخلص من الاستعمار البريطاني، بالنظر لما قد تشبّعت من روح الحرية والنزوع إلى الديمقراطية، بسبب ما كانت تتلقاه من دروس متواصلة عن فلسفة نهضة الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي علیه السلام ، وبسبب كونها مهد العلماء ومركز الروحانية، ولذا فقد اهتم بها الحاكم الملكي العام اهتماماً عظيماً (2).. ولثورة العشرين أهمية خاصة، حيث أن 130 ألف ثائر من الفلاحين والبدو وسكان المدن شهروا السلاح في وجه أقوى دولة إمبريالية في ذلك الحين، وقاتلوا قواتها المتفوقة عدداً وعدة لأكثر من خمسة أشهر بشجاعة لم يسبق لها مثيل(3).

بعد ثورة العشرين كانت مطالب مراجع الدين وزعماء الثورة تأسيس دولة عربية وحكومة عربية، لكن السياسة البريطانية حاولت أن تتلاعب بهذه الإرادة العراقية عن طريق تمرير معاهدة انتداب تُبقي العراق تحت الانتداب البريطاني... وتنبه المجتهد الأكبر الشيخ مهدي الخالصي إلى هذه اللعبة الخطيرة فأصدر فتواه الشهيرة بتحريم المشاركة في الانتخابات، وجاء فيها:«من دخل أو تداخل أو ساعد فيه فقد حاد الله ورسوله، ومن يحاد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها، ذلك الخزي العظيم». وأيد هذه الفتوى مرجعيّان دينيان من مراجع الدين في النجف الأشرف، هما: السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني، والشيخ ميرزا محمد حسين الغروي النائيني، وقد كان لهذا الموقف السلبي من الانتخابات أثره الكبير في إحجام الجماهير عن المشاركة، وكان رد الفعل البريطاني نفي العلماء المعارضين لسياستهم إلى خارج العراق(4).

ص: 38


1- الرهيمي، عبد الرحيم- تاريخ الحركة الإسلامية في العراق بيروت الدار العالمية-1985- ص 165
2- المصدر السابق - ص 40.
3- ل . ن كونلوف ( ترجمة عبد الواحد كرم ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق - دار الحرية للطباعة - -بغداد-1971- ص 267
4- بحر العلوم، السيد محمد - النجف الأشرف والمرجعية الدينية - مجموعة بحوث ومقالات، ص90.

إن الانتفاضات التي قام بها الشعب العراقي كان انطلاقها من المدن المقدسة ابتداءاً من النجف الأشرف وللنجف دور خاص في ثورة العشرين حيث دفعت بسريانها ضد الاستعمار البريطاني خلال 1920 و 1924 و 1926 و 1927 و 1928م والانتفاضة الجبارة التي حدثت خلال الأعوام 1935 - 1938م والتي سجلت أحداثاً مجيدة في تاريخ النضال التحرري للشعب العراقي(1).

بعد أن أظهرت ثورة العشرين كوامن المجتمع العراقي، ارتأت الإدارة الاستعمارية البريطانية تشكيل حكومة وطنية الشكل، يمكنها اكتساب بعض التأييد الشعبي لتخفيف حدّة المعارضة العراقية وسحب البساط من تحت أقدام الوطنيين والاستقلاليين الشيعة. وإذا كانت ثورة العشرين مشروعاً سياسياً بأدوات عسكرية غير منظمة وغير مدروسة لم تعطِ ثمارها، رغم الإنجازات التكتيكية الكبيرة والضربة القوية التي وجّهتها للوجود البريطاني، وفي العموم كانت حركة قصيرة الأجل لم تصل إلى حد الاستثمار السياسي بالنسبة للشيعة، رغم تأثيرها العميق في مستقبل العراق الموحد(2).

لم يختلف موقف علماء الدين من حركة مارس/ آذار عام 1941م التي قام بها رشيد عالي الكيلاني، ففي هذه الحركة أصدرت حكومة الثورة في عام 1941م كراساً حوى صور فتاوى علماء النجف وكربلاء والكاظمية وبغداد ومعظمها بخطوطهم الشريفة، دعت أبناء العراق إلى نصرة حركة مارس / آذار والرفض للنفوذ البريطاني (3). ولاشك أن الأحداث الجسام التي مرت بها المرجعية منذ حرب الجهاد وحتى ثورة النجف وثورة العشرين قد جعلها تركز على مهمتها الرئيسة ، وهي المهمة العلمية والشرعية التي من أجلها قامت واستمرت عبر القرون، ولم يكن ذلك بسبب الضغط السياسي الذي مورس عليها من قبل الحكومات الحليفة لبريطانيا، لأننا نجد لها

ص: 39


1- ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق مصدر سابق - ص 270.
2- ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق مصدر سابق - ص 270
3- الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990- مصدر سابق ص189-190.

حضوراً سياسياً في ثورة العشائر في الفرات وسوق الشيوخ سنة 1935 وثورة مارس/ آذار سنة(1) (1941م.

ولم تغفل الحوزة العلمية عن قضايا الأمة، وقد رافقت كل القضايا والمحن التي مرت بها الأمة الإسلامية فناصرتها بما يمليه الشرع والواجب كالقضية الفلسطينية، فمنذ عام 1931م، حينما حضر الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء مؤتمر القدس

وحتى نكبة 1948م وما تلاها من حروب قامت مع الكيان الصهيوني الغاصب. واستمر العراق بعطائه حتى كانت اتفاقية بورتسموث 1948م حيث أحبطها الشعب بثورته ومزق اتفاقيتها(2).

وامتدت أعوام الجهاد حتى عام 1956م عندما قام العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على مصر، فكان الشعب العراقي يقف بالمرصاد لحكومة العراق فتظاهر مستنكراً، وسقط الضحايا في رصاص نوري السعيد، وكان للنجف موقف مشرّف بشجب هذا الإعتداء، فخرجت تظاهرات في الشوارع والأسواق، واستمر الإضراب في النجف أسبوعاً كاملاً اتخذ العنف طابعاً له، فعمدت السلطة إلى القوة، وأطلقت النار على بعض المتظاهرين في مرقد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فقتل اثنان، ولم تتوقف إلا بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958م، إضافة لتأييدها لحركات التحرر العربية في ليبيا والجزائر والمغرب العربي وغيرها (3) .. وها هو طود شامخ من رجالات الحوزة العلمية في الجانب الآخر، في وغيرها(3).. ،لبنان، إنه السيد عبد الحسين شرف الدين يطلق صرخاته للجهاد والاستشهاد على أرض فلسطين للملوك وللرؤساء العرب. وها هو يهيب بملوك العرب المجتمعين في عمّان قبل النكبة بقليل بنداء، بل بفتوى مدوية: «... الآن، وقد أسفر الصبح لكل ذي عين وأعلن الطائرون إلى الظل والماء، تردّدهم في خوض المحنة ودفع

ص: 40


1- المصدر السابق ص 203
2- موقع وكالة أنباء براثا ثورة العشرين في العراق والمرجعية الدينية فيها.
3- السراج، عدنان ابراهيم - الإمام محسن الحكيم - دار الزهراء - بيروت - 1993 ص 203.

الكارثة، أروا الأمّة ما عودتموها عليه - بني هاشم - من هبوبكم للأخذ بكظمها كلما ارجحنّت الخطوب وابتسموا لها في ثنايا ليلها الفاجع على مفترق الدروب. وليس ذهاب فلسطين فاجعاً لولا أنه ذهاب لريح العرب وعزّ الإسلام، وكرامة الإنسان المُسترَقٌ في غد هذا الشرق القريب»(1). ثم أعقب النداء ببرقية إلى الملك عبد الله ملك الأردن في اليوم الذي أعلن اليهود فيه قيام دولة إسرائيل وذلك على أثر انعقاد مؤتمر عمّان لإنقاذ فلسطين:«كرامة العرب الجريح تنظر إلى مؤتمركم من مأساة لا موضع فيها للصبر . تَنَمُّرُ الصهاينة يتحدى رسالة القرآن. انبعثوا على بركة الله بذات محمد الشعب العربي يجيش بثورة ضارية، فكونوا من وراء تضحيته، يكفكم الله عدوان شُدّاذ الآفاق»(2). ثم راح السيد شرف الدين يطلق الفتوى تلوى الأخرى يحث الأمة على القتال والإستشهاد من أجل فلسطين: «أيها العرب أيها المسلمون: هذا شهر المحرم الدّامي الذي انتصرت فيه عقيدة وبُعث فيه مبدأ. ألا إنّ قتلة الحسين عليه السلام، بِكر في القتلات، فلتكن قدوتنا فيه بكراً في القدوات. ولنكن نحن من فلسطين مكان سيد الشهداء من قضيته ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من مجد وخلود أيها العرب أيها المسلمون: لقد حُمَّ الأجل وموعدنا فلسطين. عليها نحيا وفيها نموت والسلام عليكم يوم تموتون شهداء ، ويوم تبعثون أحياء»(3). وفي أواخر أيامه كان السيد شرف الدين قد شارف على التسعين من عمره وقد وقع العدوان الثلاثي على مصر فأطلق فتواه من إذاعة الشرق الأوسط في القاهرة مدوية، إلى علماء الدين في العالم الإسلامي، جاء فيها: «... أناشد إخواني في الله تعالى علماء الدين في كل مكان أن يقولوا كلمتهم، فتدوي صارخة توقظ النائمين وتدفع الواقفين إلى الدفاع عن معقل هو أعز معاقلنا تحت راية الحق... وأهيب بالجميع ... إلى الاشتراك في معركة المصير هذه، وإعلان الحرب على الاستعمار .... ألا وإنّ الاستعمار الغربي يغزونا في عقر دارنا، معتدياً غاشماً. ألا ومن مات دون حفنة من تراب وطنه مات

ص: 41


1- السيد شرف الدين - بغية الراغبين - الدار الإسلامية - بيروت -1-1991 ج-2 ص 461
2- المصدر السابق ص 461.
3- السيد شرف الدين مخطوطة بخط ولده السيد جعفر شرف الدين ص 31.

شهيداً»(1). مرت المنطقة والعراق بالذات بعد نكبة فلسطين بمتقلبات كثيرة سادتها انعطافات سياسية واجتماعية عديدة وما رافقه من موقف المرجعية في الدفاع عن الوطن وإبعاد يد الاجنبي عنها، كذلك حرمة الاقتتال الداخلي بين المسلمين وأبناء الوطن الواحد، كالفتوى التي أصدرها السيد المرجع الحكيم في حرمة مقاتلة الأكراد وحرمة غزو البلدان المجاورة مثل الكويت.

وفي عام 1959م وعندما كان المد الشيوعي في العراق قد تفاقمت تصرفاته، امتدت الهجمة الشيوعية لتطال التيار الديني والمرجعية في النجف، وبدأت حالة من المواجهة في النجف بعد وضع علامة (لا) على دور علماء الدين بغية مهاجمتها ليلاً(2).

إن هذه النماذج من المواقف التي وقفتها النجف الأشرف بمراجعها العظام وعلمائها الأعلام وشعبها المتفاني، جعلتها تكون غرفة عمليات للمجاهدين للانطلاقة الأولى للثورة ابتداءاً من سنة 1917م بدء الحركة الجماهيرية ضد الاستعمار الإنكليزي وامتداداً واستمراراً بجميع الأحداث والانتفاضات والحركات التي مرت على العراق الأبى حتى يومنا هذا.

وفي قمة صعود المد (الماركسي) في العراق، وما شهده من انتهاكات فاضحة للقيم الدينية والأخلاقية، انبرت المرجعية الدينية بفتوى شجاعة بأن «الشيوعية كفرٌ وإلحاد»، رافقتها مواقف في كربلاء المقدسة، من لدن المرجع الديني الراحل الميرزا السيد مهدي الشيرازي بمواجهة الإلحاد وتبيين معالم الرموز المقدسة والنماذج العظيمة، عبر إطلاق مشروع الاحتفال العالمي بذكرى مولد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في الثالث عشر من شهر رجب، وتكرار البرنامج كل عام، ودعوة الأدباء والشعراء والشخصيات الدينية والسياسية لحضور هذا

ص: 42


1- بغية الراغبين- مصدر سابق ص322 .
2- الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990- مصدر سابق - ص: 219.

المهرجان الكبير في كربلاء المقدسة. وكانت أول تجربة ناجحة لهذا المهرجان عام(1) 1960م.

وفي مرحلة الستينيات من القرن الماضي، امتازت المرجعية بإرادة وقوة ووقفت ضد كل المؤامرات فعمد آية الله السيد محسن الحكيم المرجع الأعلى الشروع بزيارة العتبات المقدسة واستمرت زيارته شهراً كاملاً، وقد شعرت دوائر الاستكبار، بمغزى هذه الزيارة وعرفت قوة تأثير المرجعية في أوساط المجتمع العراقي، وفي عام 1964م عقد مؤتمر بدعوة من عبد السلام عارف للحصول على فتوى شرعية يجوّز بموجبها قتال الأكراد، وقد وجهت دعوة إلى علماء النجف للحضور فيه إلا أنهم قاطعوه، وحضر المؤتمر من غير العراقيين شيخ الأزهر آن ذاك وأصدروا فتاوى مفادها أن الأكراد بغاة يجوز قتالهم ورداً على ذلك دعا السيد الحكيم إلى عقد مؤتمر في كربلاء، أعلن فيه فتواه التي حرم بها قتال الإخوة الأكراد، كان ذلك أواخر 1964م، فقد زرعت هذه الفتوى حباً بين الأكراد والعرب لموقف المرجعية النبيل والشجاع والتي حفظت بها دماء المسلمين دون النظر إلى نوعية المكوّن المذهبي، كما أصدر فتاوى تاريخية وسياسية منها حرمة الإنتماء إلى الحزب الشيوعي، وعند وصول البعثيين إلى السلطة عام 1968م كانت هنالك مواجهات مع مرجعية السيد الحكيم، وقد تجنب حزب البعث الإحتكاك المباشر مع المرجعية، وخاصة أن المرجعية كان لها تأثير واضح وقوة على إرادة الجماهير، فعمد الحزب لتشويهٍ في سيناريو مملوء بالكذب والأباطيل هواتهامه أحد أولاد المرجع الكبير السيد الحكيم وهو السيد الشهيد يوسف الحكيم بالجاسوسية لخلق حالة الثقة عدم بین أوساط الجماهير وعزل المرجعية عنها(2). وأصدر السيد محسن الحكيم فتاوى بدعم العمل المقاوم لليهود في فلسطين والدفاع عن المقدسات الإسلامية في القدس، وموقف الإمام الخميني في هذه القضية كان مبكراً منذ بدايات تحركه السياسي في الحوزة (1963م)، وكان موقفاً مميزاً بين أقرانه

ص: 43


1- مجلة الهدى الشهرية، 2014/9/11
2- الأسدي، صادق غانم المشروع السياسي والجهادي للحوزة العلمية في العراق ص3.

المراجع والمجتهدين، وتجاوز التعاطف مع القضية ليصل إلى مساندة المجاهدين مالياً من خلال الحقوق الشرعية.

وفي الختام: إن النجف الأشرف شارك بجامعته العلمية وحوزته الدينية، وبكل ثقله وإمكاناته الفكرية المحن التي مرت بها شعوبنا العربية الإسلامية، وسجل في كل قضية مصيرية لهذه الأمة، طوال العقود المنصرمة موقفاً مشرفاً أملاه عليه الواجب الأخوي، والغيرة العربية، بداية من القضية الفلسطينية، ومروراً بالجزائرية، والتونسية، والمغربية والسورية والمصرية، وأخيراً الكويتية. وسجل كل ذلك - بكل فخر واعتزاز - في صفحات تاريخ هذا البلد العربي العراقي جهاداً، وفكراً.

إن الشيعة عندما ثاروا قبل ثورة العشرين واستمروا في ثورة العشرين وما بعدها وطردوا المستعمر الانكليزي شرّطردة من بلاد الرافدين فاشترك الشعب قيادته العلمائية المتمثلة بالمرجعية الرشيدة... دفعوا ثمن ذلك العمل البطولي حيث نفذ ما سنّه الإنكليز من دستور طائفي بغيض مدركين أن كل حاكم يستلم زمام الحكم في العراق يسارع إلى تطبيق الدستور ليتجاهل الأغلبية السكانية في الوقت الذي يصرح الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية في مذكراته التي أصبحت وصية بعده بقوله:«إنّ الضرائب على الشيعي، والموت على الشيعي، والمناصب للسني ما الذي هو للشيعي؟»(1).

المرجعية العليا للشيعة في العالم، تلك المؤسسة الدينية والعلمية المستمرة بالقرب من ضريح الامام علي علیه السلام منذ نحو ألف عام، والتي ارتبط حضورها بتاريخ العراق الحديث وبالتحديد منذ الحرب العالمية الأولى ارتباطا وثيقا حتى أنه لا يمكن لأي باحث في هذا التاريخ إلا أن يجعلها قطب الرحى في كل ما عاشه العراق ودول عدة وبالتحديد إيران من أحداث وتطورات والحديث عن دور النجف التاريخي

ص: 44


1- الأزري، عبد الكريم - مشكلة الحكم في العراق، ط لندن 1991، ص 4.

وارتباط الشيعة الروحي والسياسي بها يحتاج بطبيعة الحال إلى أن يفرد له فصل خاص، ولكن لا بد من الإشارة ولو لماما ، إلى أن هذه المرجعية، التي أجبرت عام 1896م شاه إيران على إلغاء امتياز التنباك مع الإنكليز بعد الفتوى الشهيرة للمرجع الميرزا حسن الشيرازي والتي أيدت نظام المشروطة» في إيران عام 1907م (أي اقامة ملكية دستورية)، وقادت عام 1915م الحرب ضد القوات البريطانية إلى جانب الأمبراطورية العثمانية والتي فجرت عام 1920م الثورة المشهودة ضد الإحتلال البريطاني، هي اليوم في واقع لا يسمح له بالاضطلاع بأدوار كبرى تضاهي أدوارها التاريخية هذه. والمعلوم أن المراجع أنفسهم هم الذين كانوا يرسمون أدوار مرجعية النجف ويمسكون بيد واحدة المرجعية الروحية والزعامة السياسية. ولعل آخر هذه المراجع التي توفر لها أداء هذا الدور كان السيد محسن الحكيم (توفي عام 1970م)، فهو ومنذ أن ثنيت له وسادة المرجعية أواخر عقد الخمسينات، بعد وفاة المرجع الشهر وردي، دخل في سجال حاد مع العهود التي تعاقبت على حكم العراق، وآخرها عهد حكم البعث وقد بلغت درجة صدامه معه أن أفتى في أواخر أيامه بتحريم الإنتساب إلى هذا الحزب، أو التعامل معه. وقد كان هذا العداء، الذي سبقته سلسلة صدامات دامية سبباً في اندفاع حزب البعث العراقي لاحقاً إلى محاصرة المرجعية الشيعية والقضاء على دورها وحضورها، والذي بلغ ذروته عام 1980م بإعدام المرجع الشيعي السيد محمد باقر الصدر وبعده مئات العلماء وأيا كان الأمر، فبعد عام 1980م تركزت فاعلية المرجع السيد الخوئي الذي خلف السيد الحكيم، في سدة المرجعية على الصمود لإبقاء ما تيسر من الحوزة العلمية على أساس أنه خير من زوالها».

ص: 45

مکتب البحث:

1- المصلح الإسلامي السيد محسن الأمين الناشر : المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق 1992.

2- الأسدي، صادق غانم - المشروع السياسي والجهادي للحوزة العلمية في العراق.

3- الأزري عبد الكريم - مشكلة الحكم في العراق، ط لندن 1991.

4- بحر العلوم، السيد محمد - النجف الأشرف والمرجعية الدينية - مجموعة بحوث ومقالات.

5- الجبوري كامل سلمان - النجف الأشرف وحركة الجهاد مؤسسة العارف للمطبوعات بيروت - ط1-2002.

الغرباوي، ماجد الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية) - مؤسسة الأعراف للنشر - ط1- 1999.

6- الحسني عبد الرزاق الثورة العراقية -الكبرى - بيروت- 1978 - ط4.

7- الرهيمي عبد الحليم - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق 1900 - 1924)- ط1 _الدار العالمية للطباعة والنشر - بيروت، 1985.

8- الساعدي، كريم محمد حاتم الغزوات الوهابية على الأضرحة المقدسة في كربلاء والنجف خلال القرن التاسع عشر الميلادي - موقع موسسة النور للثقافة و الأعلام - 2014/10/29.

9- السراج، عدنان ابراهيم - الإمام محسن الحكيم - دار الزهراء - بيروت 1993.

10- السيد شرف الدين عبد الحسين بغية الراغبين - الدار الإسلامية - بيروت ط1

- بغية الراغبين المخطوط.

ص: 46

11- الشريفي، أحمد باقر علوان كربلاء بين الحربين العالميتين - رسالة ماجستير - معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا بغداد 2004.

12- صاغية، حازم - صراع السلام والبترول في إيران بيروت دار الطليعة - ط1-1978.

13- الطريحي، محمد سعيد - المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي: الغزو الإيطالي للقطر

الليبي وحرب طرابلس سنة 1911.

14- عودة، جهاد- تقدير الأزمة الإستراتيجية في العالم العربي - الناشر: المكتب العربي للمعارف.

15- العلوي حسن الشيعة والدولة القومية في العراق 1914 1990 - دار الثقافة للطباعة والنشر - قم إيران -29.

16-عبد الدراجي، عبد الرزاق جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق- (بغداد 1978)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة بغداد.

17- الغرباوي، ماجد الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية)- ط1- مؤسسة الأعراف للنشر 1999.

18- الكركولي - دراسات في عشائر العراق 1995.

19- كاظم عباس محمد - ثورة -1920- دار التنوير - ط1 بيروت.

20- كوراني، محمدأمين - الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل- دار الهادي- بیروت - ط2 - 2005.

21- كاشف الغطاء النجفي، الشيخ محمد الحسين - الآيات البينات في قمع البدع والضلالات دار المرتضی، بیروت - لبنان.

22- كمال الدين محمد علي (تقديم علي الخاقاني) - معلومات ومشاهدات من الثورة العراقية لسنة 1920 - ط العراق 1971.

ص: 47

23- ل ن كونلوف ( ترجمة عبد الواحد كرم - ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق - دار الحرية للطباعة - بغداد - 1971.

24 - الكاتب، أحمد - المرجعية الدينية الشيعية - .. آفاق وتطور- ط 2 العراق 2007- ص 11-12 .

25 - محبوبة ، جعفر - ماضي النجف وحاضرها - دار الأضواء - ط2 - 1986.

26 - النفيسي، عبدالله - دور الشيعة السياسي في تطور العراق -الحديث - ترجمة دار النهار، بيروت

.1973.

27 - الوردي، علي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث قم- انتشارات الشريف الرضي- 1413ه-- ط1.

28- موقع وكالة أنباء براثا - ثورة العشرين في العراق والمرجعية الدينية فيها.

29- مجلة كلية التربية الساسية للعلوم التربوية والإنسانية - العدد /22 / جامعة بابل آب/2015م

ص 527.

مجلة الموسم-العدد السادس - بيروت - 1990 - ص 381-382

- مجلة العلم النجفيه - المجلد السابع - الجزء السادس تشرين الثاني 1911 ص249.

- ثورة العشرين (عباس محمد كاظم): سلسلة نحو حضارة إسلامية- عدد1984/18.

- مجلة الهدى الشهرية ، 2014/9/11 -30-

ص: 48

أدباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف ومقارعة الاستعمار:شعر الشيخ محمد رضا الشبيبي أنموذجاً

اشارة

حسین الساعدی(1)

إنّ المرجعية الدينية هي الامتداد الطبيعي لخط الرسلة المتمثل بالرسول الاکرم (ص) كما أنها الامتداد الطبيعي لخط الرسلة المتمثل بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام حيث كانت المرجعية الدينية حماة للدين وأمنا في حفظ شريعة سيد المرسلين ولقد أدّت المرجعية الدينية دوراً أساسياً في استيعاب ونشر العلوم لسد حاجات المجتمعات ولم تدخر في هذا المجال جهداً إلا بذلته فقد بينت وبلغت الأحكام الإلهية ومسائل الحلال والحرام، وبذلت قصارى جهدها في تعليم المفاهيم الإسلامية الحقيقية، وفضلاً عن الدور الأساسي الذي قام به العلماء في مجال بيان الأحكام الإلهية وحفظ التراث الشيعي فقد اهتموا بإصلاح المجتمع وتحسين أوضاع الناس والدفاع عن المقدسات الدينية والكرامات الوطنية فيعتبر الشيخ محمد رضا الشبيبي من أدباء وشعراء العراق الأفذاذ وثوّاره الأحرار جمع إلى جانب أشعاره الوطنية

ص: 49


1- الباحث في علوم اللغة العربية - العراق. ترجمة : الأستاذ المساعد الدكتور عبيات قسم اللغة العربية وآدابها جامعة ،فرهنگیان طهران، جمهورية ايران الإسلامية.

والوجدانية المليئة بالعواطف والأحاسيس الملتهبة مواقفه البطولية في سوح الجهاد، فكان مثالاً حياً للإنسان الوطني المخلص الذي يطمح إلى الحرية لبلاده والتحرر من أغلال الاستعمار، كما كان أنموذجاً رائعاً لقادة الفكر وحاملي لواء النهضة الفكرية والاجتماعية ليس في العراق فحسب بل في جميع البلدان التي تسعى للنهوض والتقدم فكانت مبادئه السامية ومواقفه المشرفة نبراسا تهتدي به الأجيال جيلاً بعد جيل، شهد الشبيبي في الفترة التي عاشها أواخر الحكم العثماني على العراق وبعده الاحتلال البريطاني ثم الحكم الملكي في فترة الانتداب والاستقلال وانتهت في عهد الجمهورية. عيّن وزيراً للمعارف عدّه مرّات في مختلف الوزارات كما أُنتخب أيضاً عضواً في مجلس الأعيان ورئيساً له عدّة مرّات. كان ينظر إلى السياسة بأنّها وسيلة لخدمة الشعب ولذا دائماً يقدّم مصلحه الشعب على الألاعيب السياسية. ومن هذا المنطلق كلّما أحسّ بهضم حقّ المواطنين لصالح السياسة، استعفى من منصبه السياسيّ، فلهذا كان يعرف بين وسط السياسيين بالسياسيّ ذي النزعة الشعبية. وأمّا في الجانب الأدبي، فهو يعد شاعراً من أبرز شعراء العراق الحديث وكاتباً ضليعاً ومورخاً بحّاثه وناقداً أدبياً بعيد النظر حديد البصر دقيق الملاحظة. وكان عضو مجامع اللغة في دمشق وبغداد والقاهرة.

فهذه الدراسة التي اعتمدت على المنهج الوصفي - التحليلي تهدف إلى معالجة مفاهيم المقاومة في شعر الشبيبي ومن اهمها رفض ظلم الاستعمار وانتقاد سياساتهم والتنديد بالحرب والدعوة إلى وحدة الشعب، والثورة على الطغيان والاستبداد سبيل نيل حرية الوطن.

الكلمات الدليلة المقاومة الاستعمار الوطن النجف العراق، الشيخ محمد رضا الشبيبي.

لا شك إن الشعر من مظاهره العظيمة استنهاض همم الشعوب ضد إرادة الطغاة الذين لا يعرفون إلا الكبت والقمع، وانعكس صداها واضحاً في مجمل الإنتاج الشعري وتميّز بنزوع واضح نحو الاندماج بالمجتمع وقضاياه السياسية تحديداً

ص: 50

ومعايشة الهم الوطني الذي حمله الشعراء في ضمائرهم وحوّلوا قصائدهم إلى أسلحة حقيقية تعرّي وقاحة الطغاة والمحتلين وتدفع الشعوب وحُراكها الوطني إلى محطات الفعل الثوري، ولقد ورث الأدب العراقي المعاصر ومن قبله الأدب الحديث هموم المجتمع العراقي وإنعكست الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مضامینه بشكل كبير بسبب حالة الفوضى السياسية والتبعية والاحتلال الأجنبي، إلا أن المنجز الفني الذي تحقق للشعر على يد مجموعة من الشعراء لا سيما شعراء مدرسة الشعر الحر قد أسهم في إحداث نقلة كبيرة خلّصت الشعر من التبعية الفنية التي نألفها عند شعراء الاتجاه الكلاسيكي ومنهم الكاظمي والزهاوي والرصافي والشبيبي، فقد كان الشاعر قبل ذلك يعيش حالة من الانفصام عن الواقع على الرغم من تعلقه بمجريات الأحداث السياسية. وعندما نتكلم عن أدب المقاومة، سرعان ما يتبادر إلى الذهن محاربة الظلم والفساد الذي تنعكس فيه القضايا الإجتماعية والسياسية والأيدولوجية والاخلاقية. لأن العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة قديمة وكما يؤثر الأدب على المجتمعات تؤثر المجتمعات على الأدب. بتعبير آخر إن العادات والتقاليد والعقائد والنهضات التي انعكست في الأدب هي في نفس الوقت وليدة الآثار الأدبية» لا شك أن شعر المقاومة يُعدّ نوعاً من التصدي لكل أشكال الاستعمار والاستبداد؛ كما لا يخفى أنّ شعر شعراء المقاومة ينمّ عن مشاعرهم القلبية من حبِّ وغضب وحرمان والشاعر المقاوم يجمع بين مصيره ومصير ويتحمل السجن والمنفى والاضطهاد ليقوم فى وجه أعداء شعبه وينفض عن أمته غبار التخلف والعذاب والتوتر.

يعتبر أدب المقاومة ضمن الأدب الملتزم والسياسي الذي يعبّر عن جهود شعب تعرّض لهجوم عسكري أو ثقافي أو ديني أو ... وعن تضحياته وكفاحته ومظلوميته، وهو يعاني من الحرمان والمتاعب في هذا الطريق، وخلافاً لما كان في الماضي العتيق عند العرب بأنّ الشعرَ ديوانهم وسجل أيّامهم بل هو بُني على تفاعله مع المجتمع وثقافته و همومه ومعاناته وسروره و انتصاراته، وقضاياه المختلفة والمتنوّعة؛ فيعتبر انعكاساً لأحوال، وآمال وتطلّعات أبناء ذلك المجتمع.

ص: 51

تحتوي مادة الشعر المقاوم، الصمود والدفاع عن النفس والحرية والحياة الاجتماعية وارساء مبدأ الديمقراطية والتداول السليم للسلطنة. وشعراء المقاومة هم الذين يصوّرون في أناشيدهم قهر الظالمين والمصائب الواردة على المظلومين وتحريضهم على أخذ حقوقهم من المستكبرين ودعوتهم إلى النضال ضدّهم.

لم تكن لتلك الكوكبة من الشعراء مسمى واضح إلا في منتصف القرن العشرين عندما احتلت إسرائيل فلسطين ونهبت الأرض والعباد فمنذ ذلك الزمن ظهر شعر المقاومة وشعراؤها بشكل خاص كما نراه اليوم.

فالعراق يعد من أكثر البلدان مقاومةً للمحتلين والغزاة وبسبب موقعه المتميز عان الويلات من الطامعين والمحتلين وشهد أسوء الأدوار ومنها: عهد الحكم العثماني (القرن (19) والاستبداد البريطاني، ثم حكومة حزب البعث العراقي (القرن (20) و أخيراً الاحتلال الأميركي.

لا شك أنّ الحروب العثمانية والاستبداد البريطاني والفساد والاختناق الحاكم في المجتمع العراقي كان لها تأثير بالغ في إثارة مشاعر الناس لا سيما الشعراء ومنهم جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي والشيخ محمد رضا الشبيبي والحبوبي الذين خلقوا نوعاً جديداً من الشعر في ذلك المجتمع باسم «الشعر المقاوم» احتجاجاً بوجه الظالم.

تاريخ العراق السياسي

إنّ العراق بسبب موقعه الاستراتيجي كان محط أنظار البلدان الأجنبيّة منذ القدم، فتاريخ ،العراق، تاريخ ثورة وكفاح وإخفاقات تكسر القلوب وتحزنها. كان العراق في العهد العباسي - 656 - (132) من أهم حواضر العلم والثقافة والمدنية وأخصبها. لكنه قد اعتورته ضروب شتى من المحن والتدهور إثر هجوم هولاكو خان في سنة 656 ه- فأصاب من عزّته وازدهاره وأوهنه الضعف والتّخلف (الفاخوري، 1995م ص : (515) وقد مرّت بالعراق شتى الأدوار السياسيّة التي أضاعت شخصيّته وأفقدت أصالته ومسخت حضارته. فقد تداولته عدة أنظمة مستبدة وحكّام أجانب.

ص: 52

الدولة العثمانية

تولّى الأتراك العثمانيون أمور المسلمين بعد انهيار الخلافة العباسيّة وسقوط عاصمتها بغداد بأيدي التتار فصار المسلمون ميراثاً لبني عثمان بعد أن كانوا ميراثاً لبني أميّة ثمّ بني هاشم هم دخلوا في الإسلام وأدانوا به، فاستقاموا عليه حيناً وشرّدوا حيناً آخر. إنّ العثمانيين تلقوا راية الإسلام بقوة، لكنّ عاطفتهم نحو الإسلام كانت أقوى من فقههم فيه وحماستهم له أشدّ من تفهّمهم لروحه (الغزالي، 1997م: ص 206- 104) «مؤسس هذه الدولة أرطغرل بن سليمان شاه التركماني، قائد إحدى قبائل الترك النازحين من سهول آسيا الغربية إلى البلاد آسيا الصغرى. ولما توفي أرطغرل سنة 687 ه- عيّن الملك علاء الدين مكانه وهو عثمان مؤسس الدولة العثمانيّة» (عبد الحكيم 2004م ص354). بدأ العهد العثماني في العراق بانتصار السلطان سليمان القانوني على الصفويين واستيلائه على بغداد عام 1534م وقد دام حكم العثمانيين أربعة قرون على التقريب وانتهى باحتلال القوات البريطانية للعراق والعاصمة بغداد سنة 1917م. تعدّ الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني، العصر الذّهبي لأنّ في عهده توسّعت التّجارة وظروف المعيشة والاقتصاد وبُنيت أبنية جديدة في المدن العراقيّة لاسيما بغداد. توفّي سليمان القانوني سنة 1566م. فقد جاء بعده ملوك عدّة لكنّهم لم يتعقبوا خطوته ولم ينهجوا منهجه. ثمّ وصلت الخلافة إلى السلطان سليم الثالث سنة 1769م وكانت الدولة في الضّعف والتفّسخ والاحتلال وكانت الانكشاريّة (هم من الجيوش العثمانية معروفة بالهمجيّة والنهب) على رأس هذه الأمور، يعملون الأعمال الشنيعة ويسيرون وفق أهدافهم والبلاد في فوضى حتى ترسّخت فكرة الإصلاح في أذهان العثمانيين. فبدأ السلطان محمود باصلاح الأمور من الوجهة الإدارية والعسكرية وأخذ ببعث المنشورات الإصلاحية إلى الولاة لكنّه مات وبعد ذلك استمر رجال الدولة بتلك الحركة الإصلاحية إلى عهد السلطان عبد الحميد والسلطان عبد العزيز.

فألّفت القوانين العديدة التي كانت مقتبسة من القوانين الفرنسيّة مع مراعاة نصوص

ص: 53

الشريعة الإسلامية . فرجال الدولة دوّنوا قوانين متعدّدة لكلّ شأن من شؤونات الدّولة وسمّوه بالدستور. لكنّ نظام الحكم كان مطلقاً ورأي السلطان وإرادته فوق كلّ قانون، حتى وصلت الخلافة إلى السلطان عبد الحميد سنة 1876م، فزادت في زمنه شدّة سوء الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفتن الطائفية (أبو الشّباب، 1988م: ص : 11) في العهد العثماني «إنحطّ الأدب العربي إلى أسفل الدرك لشيوع التركيّة المخاطبات والمراسيم والدواوين وتسلط الخمور على العقول، والتقليد على المعاني والصناعة المقيتة في الأساليب» (الفاخوري، 1380م: ص861) وساد الأمّة العربيّة ثالوث الفقر والمرض والجهل، وأخذ الحكّام العرب يفرضون الضرائب الثقيلة على الشعب ويسوطونه بالاستبداد هكذا انتهى الحكم العثماني بدخول العساكر البريطانية إلى بغداد سنة 1917م.

الاحتلال الإنجليزي

كان العراق ولاية عثمانية منذ عام (1516م - 922ه- ) وحتّى (1917م - 1335ه-) وتنافست لاحتلاله الدول الأجنبية من مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا. ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة (1332ه-- 1914م) تحركت القوات البريطانية من الهند لاحتلال العراق ففازت هذه الجيوش واستولت على بعض المدن العراقية كالفاو والبصرة وسيطرت على جنوب العراق تدريجياً سنة (1333 ه- - 1915م) وفي سنة (1335ه- - 1917م) احتلت المدن الأخرى مثل: بغداد والموصل وفي النهاية أعلنت بريطانيا انهاء تبعية العراق للدولة العثمانيّة.(عبد الحكيم ، 2004م: ص: 444) انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانيّة، أدى إلى تقسيم المشرق العربي إلى دويلات بموجب إتّفاقية «سايس بيكو» في مؤتمر «سان ريمو» سنة (1338ه- - 1920م) إذ جُعل العراق تحت حماية الدولة البريطانية. (أبو الشباب، 1988م ص 12) بعد ذلك دخل العراق مرحلة جديدة من حياته السياسيّة وواجه لوناً جديداً من الاحتلال وهو لبس جلباب التدين والإسلام دون أن يراعى فيه الإسلام وقوانينه الإلهيّة. إن من أهم أسباب هجوم الإنجليز على العراق واحتلاله، هو تمتّع

ص: 54

العراق بالثروات الزراعيّة والمعدنيّة الكثيرة مما يجعله محط أنظار الأجانب، ثمّ كون العراق على شواطىء الخليج واقترابه من بلاد الهند حيث يمكن من خلاله الوصول إلى الهند في أقلّ وقت.. ومن المميّزات التي تتميّز بها الهند التي تتميّز بها الهند هي ارتقاء مستواها الاقتصادي والتجاري مما يجعل العراق في أحسن موقعها الاستراتيجية. (قدورة، 1985م: ص: 130-129) من الجليّ أنّ الدولة البريطانيّة دفعت التعويضات الكبيرة لإسقاط الحكم العثماني حتى بلغ عدد قتلاهم أكثر من مائة ألف نسمة. (فوستر،

1938م ص 156)

ثورة (1920م)

احتلّ الإنجليز كلّ المدن العراقيّة على التقريب. والشعب العراقيّ لم يقاوم تجاه هذا العمل الإجراميّ في بداية الأمر، لأنّه لم يكن راضٍ على الحكومة العثمانية وطريقة حكمها الجائر والمتسلّط ، فوصل الأمر إلى حدّ أن القبائل كانت تساند القوّات البريطانية وتعاونها في أمر خروج العامل العثماني من البلد. لكنّ سرعان ما رفع الإنجليز البرقع عن وجهها وعرف العراقييون أهداف بريطانيا الشيطانية ونيّاتها غير السليمة، فبدأوا بالمقاومة تجاه قواته المحتّلة وقاموا بثورة (1920م) على إثر مؤتمر سان ريمو وتقرير وضع العراق تحت الحماية البريطانيّة وانتشرت الثورة في كلّ أنحاء البلد من الموصل إلى البصرة وحدثت مظاهرات في كربلاء والحلّة يطالبون استقلال العراق وتشكيل الدّولة العراقيّة العربيّة، فاسترجعوا مدنهم من الإنجليز المحتلّ واحدة تلو الأخرى ولم يبق في أيدي الإنجليز سوى البصرة وبغداد والموصل. إثر اندلاع هذه الثورة في العراق بقيادة علماء ومراجع التشيّع وسائر العشائر والقبائل العراقية، قرّرت المقامات البريطانية أن تنشىء حكومة وطنية في العراق فجعلوا السر برسي كوكس مسؤولاً لهذه القضية. فصمّم كوكس أن يقيم في أول الأمر وزارة مؤقتة برئاسة النقيب أعلن تشكيل الوزارة في 25 تشرين الأول وعند تشكيل الوزارة النقيبية المؤقتة بدأت سياسة تقليص عدد البريطانيين والهنود وتكثير العراقيين في الوظائف الحكومية. (الوردي، 1992م : 40 -9) والمجلس المذكور تولّى إدارة البلد حتى صار

ص: 55

فيصل ملكاً للعراق قد أصاب الإنجليز خسائر فادحة إثر ثورة 1920م منها: قتل 426 فرداً، وجرح 1228 فرداً، وأسر 615 فرداً، إضافةً إلى أضرارٍ جسيمةٍ في الأموال. (نفيسي، 1364ه-.ش : ص : 144).

بداية الحكم الملكيّ (1958م - 1921م)

للتخلص من الحكم المباشر ولإزالة الغضب عن الشّعب العراقي اكتفى الإنجليز بالسلطة غير المباشرة. فاتخذ القرار بتعيين شخص عربي ملكاً للعراق. فعرضت بريطانيا عرش العراق على الملك فيصل مع تأسيس حكومة عربية تحت الوصاية والانتداب البريطانيّ. فدخل العراق في المرحلة الجديدة من حياته السياسيّة، المرحلة التي على رأسها حاكم عربيّ لكنّه كان رهن إشارة الإنجليز. (الواعظ، 1974م: ص: 128-129) تقرر أن يكون التتويج في يوم 23 آب وقد اختار فيصل نفسه ذلك اليوم؛ لأنّه يوافق يوم 18 ذي الحجة حسب التقويم الهجري. هذا اليوم الذي سمّاه الشيعة عيد الغدير، وقد أراد فيصل بانتخاب هذا اليوم تذكير الشيعة بأنّه من سلالة الإمام علیّ علیه السلام وتتويجه حدث في نفس اليوم الذي نُصِّب فيه جدّه للخلافة. (الوردي:عليّ 1992م: ص: 120).

العراق عضو في عصبة الأمم المتحدة

أنتخب نوري السعيد رئيساً للوزراء من جانب الإنجليز سنة 1930م. وهو كان عميلاً تنفيذياً لخطط الإنجليز الدنية وأبرم معاهدة مع الإنجليز تؤدي إلى تسلّط الإنجليز على مصادر العراق النفطية طوال سنين طويلة بشرط قبولها عضواً في عصبة الأمم. وهذه المعاهدة جعلت العراق في أظفار الاستبداد أكثر من ذي قبل وجعل العراق في أزمة سياسية واقتصادية وعسكرية واستمر الوضع المتأزّم حتى سقوط الحكومة الملكية في سنة 1958م . ( الجميلي، 1370م: ص: 24) مات الملك فيصل سنة 1933م وتولّى الملك غازي الحكم بعده تزامن حكمه بالاضطرابات والفتن وحدثت الثورات المختلفة في أنحاء البلاد واختلّ سير الإدارة وأهين الدستور. فقُتل الملك غازي سنة 1939م وتلاه فيصل الثاني وهو حديث السن، فصار عبد الإله

ص: 56

ونوري السعيد نائبين له في إدارة البلد. فاندلع لهيب الحرب العالمية الثانية في تلك السنة وفي هذه الفترة تحمل العراق خسائر فادحة لا تعوّض الحسني، 2008م ص:45).

ثورة رشيد الكيلاني (1941م)

في اليوم الأول من شهر نيسان سنة 1941م قام رشيد عالي الكيلاني مع أصدقائه بانقلاب على حكومة ولي العهد عبد الإله ففرّ الملك ونوري السعيد من البلد وتألّفت الوزارة برئاسة الكيلاني. كانت بريطانيا تخاف من أن يقوم الكيلاني بوقف إمدادات النفط إلى الدول الغربية، ومن أجل هذا قامت بغزو العراق واستعادة الملكية مرّة أخرى، فعاد الملك ونوري السعيد إلى البلد وقبضا على دفّة الحكم مرّة ثانية. (الواعظ، 1974م: ص129-128) تألّفت خمسون حكومة خلال الفترة الملكية وهذا يدلّ على عدم استقرار الحكومة وعدم ثباتها أيضاً.

الحكم الجمهوري (1968-1958م)

قام ضباط الجيش بانقلاب في 14 تموز عام 1958م أدّى إلى القضاء على الملكية، فتألّفت الحكومة الجمهوريّة برئاسة عبد الكريم قاسم وقد حدثت في الحكومة الجمهورية إصلاحات منها رجوع المنفيين إلى البلد تساوي حقوق النساء والرجال إحداث سكّة الحديد، بناء البنايات الجديدة وتأسيس المعامل والمصانع وإحداث المتنزّهات العامة .... (الجميلي 1370م ص : 6372)

حياة الشيخ محد رضا الشبيبي

الشيخ محمد رضا بن الشيخ جواد بن محمد بن شبيب بن إبراهيم بن صقر البطايحي الشهير بالشبيبي ولد في النجف الأشرف، رمضان عام 1306ه- المصادف 6 أيار عام 1889م والأسرة الشبيبية من أشهر الأسر العلمية في النجف الأشرف، قدمت من جنوب العراق وبالتحديد من مدينة البصرة وهي فرع من قبيلة بني أسد درس الشبيبي على أشهر علماء عصره كالشيخ محمد حسن المظفّر، والسيد مهدي

ص: 57

آل بحر العلوم، والسيد حسين الحمامي، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد حسين القزويني والشيخ هادي آل كاشف الغطاء، وأيضاً تتلمذ على أبيه الشيخ محمد جواد الشبيبي الذي تعدّه المدرسة الدينية من ألمع أساتذتها فضلاً عما امتاز به من قوة شخصية إثر مواقف وطنية هامة، إلى جانب ملكته الشعرية.

وفي مطلع شبابه عاش واقع العراق الصعب في وقت كانت الدولة العثمانية آيلة إلى السقوط ، ثم وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني عام 1918م. ولا يخفى ما كان عليه واقع العراق آنذاك من تخلف شامل (آقابزرگ تهرانی ، 1373 ق: ج2، ص: 745-747).

وفاته وتشيعه:

- توفي فجر يوم الجمعة 1965/11/25 إثر نوبة قلبية ألمَّت به وكان وفاته بعد يوم واحد من عودته من القدس حيث كان مشاركاً في أنشطة الاحتفال بالاسراء والمعراج الذي عقد في القدس. وقد شُيّع جثمانه تشيعاً مهيباً من مسكنه في الكرادة الشرقية إلى الكاظمية ومنها إلى جسر الخير سيراً على الأقدام مسافة طويلة تحمل الأكف خلالها النعش في خشوع واجلال، ثم نقل إلى كربلاء في موكب فريد ضم أكثر من ألف سيارة ثم شيع إلى النجف الأشرف ودفن في مقبرة آل الشبيب واشترك في تشييعه كبار الأدباء والعلماء والمسؤولين في الدولة.

أعماله الشعرية ومؤلفاته:

خلّف الشبيبي العديد من الآثار يقف في مقدمتها ديوانه الذي طبع في القاهرة عام 1940م (والديوان عبارة عن نماذج اختاره المترجم له من شعره الكثير)، ويضمّ عدّة أبواب منها الشعر الحماسي، والشعر الحكمي، والشعر الاجتماعي والسياسي والرثاء، وله مجموعة مراث في زوجته تعد من أجمل الأشعار الوجدانية ومن بين الأغراض النادرة في الشعر العربي، وقد نشرها الباحث قصي سالم عثمان في ذيل دراسته بعنوان: «الشبيبي شاعرًا»، وهذه المجموعة بعنوان : «رنين على الأجداث»، كما وردت نماذج كثيرة من شعره ضمن كتاب: «شعراء الغري» (وأغلبها مما أسقطه

ص: 58

الشاعر من ديوانه لأنه ينتمي إلى مرحلة البدايات الفنية)، وله مؤلّفات منها: ابن خلّكان وفن الترجمة، مؤرّخ العراق ابن الفوطي في جزئين، بين مصر والعراق في ميدان العلاقات الثقافية، التربية في الإسلام. وله عدد من المؤلفات الإبداعية والأدبية منها مذكرات الشبيبي (نشر منها عدة فصول في مجلة البلاغ)، وكتابان في أدب الرحلات بعنوان: «رحلة في بادية السماوة» - «رحلة إلى المغرب الأقصىم»، وله عدد من الدراسات والمحاضرات والتراجم والتحقيقات منها: (تراثنا الفلسفي حاجته إلى النقد والتمحيص)، و(القاضي ابن خلكان ومنهجه في الضبط والإتقان) و(التربية في الإسلام)، و (أدب المغاربة والأندلسيين في أصوله المصرية ونصوصه العربية) محاضرة ألقاها في معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة. (عبد شناوة، 1995م ص : 25).

شاعرية الشبيبي

يقول الجواهري، وهو من المولعين بشعر الشبيبي: «شاعر مجيد.. واسع البال.. رقيق أسلوب النظم حلو الصناعة... رقيق التعبير.. سارت بقصائده الركبان وتغنت ببدائعه البدو والحضر، شعره في الطبقة العليا .. عذب الألفاظ رقيقها صحيح المعاني فخمها .. ».

وقال روفائيل بطي: «خيال جميل صناعة عراقية، عليها مسحة عباسية».

وقال علي الخاقاني: «شاعر فحل قوي الديباجة جزل الألفاظ، مبدع في الخواطر، مرهف الحس يحمل نفساً كبيرة وروحا ،ثابة، وقلباً مفعماً بحب الدين والوطن، وله لفتات وفلتات قد لا يزاحمه عليها غيره وقالوا في وصفه مير بصري الذي لازمه سنين طويلة، وحضر مجالسه وأنس بزياراته وأحاديثه ونعم بصداقته ومودته: «أضفى الزمان على الشاب الأنيس وقار المشيب وجلال الشيخوخة دون أن يفقد جمال نفسه وصفاء سريرته. وقد زادته الأيام حنكةً وحكمةً، دون أن تزيده ثروةً ومالاً» .. وقال عنه روفائيل بطي في كتابه «الأدب العصري»: «شاب أنيس، منخفض

ص: 59

الصوت، تبدو عليه سيماء العلماء الذين أكمد لونهم الدرس الطويل، آية الأناة في تفكيره وكلامه وكتابته، غير مكثر من النظم والنثر ، لا ينظم باقتراح البتة، وهو الذي قال لي يوم طلبت إليه ان يعارض قصيدة «ياليل الصبّ»: لا أعرف أمراً يقال له الطلب إلى الشاعر أن ينظم كيت وكيت والشعر شعور تجيش به النفس ويصدر من القلب». وقال عنه عبد الكريم الأزري: رجل ،محنك حكيم مجاهد، واقف للحق وقفة. (المصدر نفسه، ص:202).

نشاطاته السياسية

لا يمكننا الفصل بأي حال بين الجانب الأدبي والفكري لهذه الشخصية وبين جانبها السياسي؛ فقد مثل الشبيبي واحداً من أكبر الشخصيات التي لعبت دوراً أساسياً ومؤثراً في السياسة العراقية في الفترة التي نشط فيها (العهد العثماني، عهد الاحتلال البريطاني والعهد الملكي وسنوات الانتداب وحتى عهد تأسيس جمهورية العراق الحديثة) (1908-1965م)، ويظهر دوره السياسي جلياً في المناصب العديدة التي تقلدها خلال حياته اعتباراً من وزارة المعارف وحتى مجلس الأعيان ومجلس النواب ودوره في حركة المعارضة في العهد الملكي حيث عُرف بالجرأة والصراحة وعدم الممالأة والمداهنة على حساب مبادئه ووطنه حتى «أن جرأته كانت نادرة ... لا ينافق ولا يمالق ولا يداهي ولا يداجي، ولا يقول إلا ما يصح في معتقده، ولا يعتقد إلا ما يصح في رأيه «على حد تعبير أحمد حسن الزيات، كما كانت له إسهامات سياسية خارج العراق تمثلت في رحلاته إلى الأردن والحجاز، ويمكننا القول إن دراسة حياة الشبيبي السياسية هي في الحقيقة تسليط للضوء على مراحل هامة من تاريخ العراق السياسي. وقد تأثر الشبيبي في أفكاره الإصلاحية والسياسية - كما كان حال معظم المثقفين الثوريين في تلك المرحلة - بأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا التحررية الإصلاحية التي كانت تصل العراق عن طريق مجلتي العروة الوثقى» و«المنار» وغيرهما، كما تركت ثورة الاتحاديين عام 1908م تأثيراً كبيراً على الشبيبي ولا سيما مدحت باشا الذي كان العراقيون من أشد المعجبين به بحكم

ص: 60

احتكاكهم المباشر بإصلاحاته في بلادهم، وكان أهم ما دفع الشبيبي إلى الترحيب بثورة الإتحاديين هو ما علقه آمال كبيرة عليها بأن تؤدي إلى انعتاق العراق من مشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفاقمت بصورة خاصة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م) فكان من شأن شعارات الاتحاديين (الحرية والعدالة والمساواة) أن تهز وطنياً متحمساً ومخلصاً مثل الشبيبي ولكن سرعان ما أصيب الشبيبي كأقرانه الوطنيين بخيبة أمل كبيرة من سياسة الاتحاديين التي انصبت في اتجاه قومي متعصب معاد للطموحات المشروعة للشعوب غير التركية في الإمبراطورية العثمانية (الشربتي، 1982: ص: 89).

نظرة الشبيبي للدين والعلم

على الرغم من إجلال الشيخ الشبيبي للدين النابع من إيمان المؤمن العليم وعن نشأته نشأة دينية بحتة فإنه كثيراً ما كان يهاجم رجال الدين عندما كان يجدهم أصبحوا حجر عثرة في سبيل التقدم أنه أراد أن يُفهم القوم أنَّ الدين ليس «عادات معطلة» بل أنه «تحليل وتحريم» فتوجه إليهم في العام 1911م طالباً منهم أن لا يجعلوا «آلة التفريق دينهم» لأن الدين «عن وصمة التفريق معصوم».

أجل إن الدين في نظر الشبيبي لم يكن «عادات معطلة» لذا فأنه دان بقوة وقناعة التقاليد البالية والخرافات، فهي التي أدت إلى تأخر الشعب فكرياً وثقافياً، وهي التي كانت تؤثر سلباً على مسار النضال من أجل التحرر والانعتاق.

يضع الشبيبي مع ذلك وغير ذلك الدين في المقام الأول بالنسبة لكل شيء في حياة المجتمع، فيرفض أن يكون غير الدين محوراً لكل ما فيه خيره وسؤدده، فا لأخلاق عنده تستقيم بالدين، ومن دون الأخلاق يذهب العلم ذهاب الزبد. والشبيبي بذلك يربط بين الدين والعلم بأسلوب صوفي مبدع، ودون أن يكون سلفياً، إنه على العكس تماماً من ذلك، واقعي في تفكيره، متفائل، فهو يفكر في «اليوم والغد» بل وحتى في «ما بعد الغد» لذلك يعد الشبيبي حقاً الأنموذج

ص: 61

المعبّر عن حقيقة أن العلم أداة لتهديم قلاع الظلم والاستبداد والتخلف وضمان السير نحو المستقبل الأفضل فهو يريد العلم العملي لكل شيء وفي كل ميدان ومجال سوى المدارس الدينية وحدها يستثنيها من ذلك، مع العلم أنه لم يفصل العلم عن الدين فإن الأول كلما بلغ به التطور ساعد أكثر على تجلي عظمة الخالق، كما أكد في بحثه عن الاكتشافات الفلكية بل أنه يذهب أبعد من ذلك بكثير حين جعل الدين والعلم أخوين إرتضيا رحماً واحداً غير مقطوع ولا منفصل. لقد كان الجهل لدى الشبيبي يعادل الموت. (نقلاً عن موقع المدى للإعلام والثقافة والفنون www.almadasupplements.com).

إهتمام الشبيبي بالاقتصاد

كان الشبيبي يبدي إهتماما للاقتصاد العرقي وخاصة القطاع الزراعي ويدعو إلى تشجيع الزراعة . كما كان يقف وبصلابة ضد هجرة أبناء الريف إلى المدن، ويقول أن ذلك يؤثر سلباً على الإنتاج الزراعي. وبعنوان (مرافق منسية) كتب الشيخ محمد رضا الشبيبي مقالاً بصحيفة الزمان بعددها في 27/4/ 1957 قال فيه في البلاد مرافق إقتصادية قليلة ولكنها منسية محرومة من العناية وفي مقدمتها مرافقنا الزراعية، وهذه المرافق أحق من غيرها بالحماية والتشجيع، لأن العراق بلد زراعي قبل كل شيء، وقد دلت التجارب على أن الحركة التجارية في جميع الأسواق تتوقف على إزدهار المواسم الزراعية وكثرة الطلب عليها من الخارج.

وها نحن نرى كساداً ظاهراً في الأسواق التجارية تردي المواسم الزراعية في السنوات الأخيرة، وعدم التمكن من تصريف منتجات العراق بأسعار حسنة، ويشمل ذلك كافة المحاصيل من الحبوب والتمور وغيرها من المنتجات.

من ذلك نفهم أن مرافقنا ومحاصيلنا الزراعية بحاجة إلى حماية قوية فعلى المسؤولين أن يبذلوا جهودهم، لترويج ما يصدر من العراق، والسعي إلى إيجاد الأسواق الخارجية. إننا نستورد بضائع مختلفة من البلدان الاجنبية تبلغ قيمتها أكثر

ص: 62

من مائة مليون دينار، وهي ثروة طائلة تتسرب إلى تلك البلدان الأجنبية، يجري كل ذلك من سمع المسؤولين وبصرهم ولا يحرك ذلك منهم ساكناً، لحفظ التوازن بين تجارة التصدير والاستيراد، والأنكى من ذلك أن أسواقنا تغص بالكماليات من تلك الحاجيات المستوردة، ولا يقتصر الاستيراد على الضروريات، كما يجري ذلك بالبلاد نظرة عابرة إلى المخازن التجارية في جميع أسواق العراق تكفي لمعرفة أننا مغبونون، وأننا عالة على غيرنا. ((المصدر نفسه)

إهتمام الشبيبي بالعلم والعلماء
اشارة

كان الشيخ محمد رضا الشبيبي يبدي إهتماماً كبيراً بالعلم والعلماء، ويدعو إلى الأخذ بأيديهم من أجل تقدم البلاد وتطورها. ففي /1957/15/5 كتب الشيخ الشبيبي عموداً في جريدة الزمان البغدادية بعنوان (المواهب الضائعة) تساءل فيه متى يكون بلدنا مقبرة تدفن فيها مواهب الموهوبين وكفايات الاكفاء؟ متى تكون مدنه ميداناً يصول فيه الجهل ويجول وتحترم فيه البلادة والغباء وتنقلب المقاييس؟ متى تعمم الدراسات العلمية والبحوث الأدبية؟ من يشجع ذويها ويأخذ بيدهم بدون تفريق أو تمييز؟ نقول يقع ذلك بل يقع أسوأ منه في كل بلد لا يبالي بالعلم وذويه. وفي العراق في هذا الوادي الحبيب أي وادي الرافدين ذلك الوادي الذي إنبثقت منه أنوار الحضارة والعلوم والفنون بأسرها حقباً غير قليلة في هذا الوادي الحبيب وادي الرافدين مهد الحضارة بقية باقية من ذوي المواهب والكفايات العلمية والأدبية، تقتل لياليها سهراً بالتجهيز والكتابة وتنشئ ما تنشيء من القطع الفنية منثورها ومنظومها، فهل سأل سائل في هذه البلاد عن الفئة المذكورة؟ وكيف تعيش وكيف تسد رمقها وكيف تطعم أطفالها وكيف تكسوهم وأين يقيمون ويسكنون؟ ومن هو الذي تفقد هذه الفئة المغمورة وعني بأمرها وبإنتاجها؟ وهيهات أن يتفقد متفقد أصحاب المواهب والكفايات في بلد يطغى فيه التكالب والنزعات المادية البحتة، وتطاحن المتطاحنون فيه على حطام زائل لا يبالون كيف حصل بأيديهم ذلك الحطام، وهل جاءهم من وجوه مشروعة أو غيرها ؟ لا شك أن هناك قوماً مسؤولين دائماً عن هذا

ص: 63

الضرب من التقصير بحق ذوي المواهب والكفايات وهو في الوقت نفسه تقصير في حق الوطن، وفي تفهم مصالحه وأسباب حياته والعمل على إنهاضه من كبوة الخمول. (المصدر نفسه)

ج - أدب المقاومة في شعر الشبيبى

المقاومة أُخذت من فعل«قاوم» وقاوم فى اللغة يعني «ثبت، صمد، لم يضعف، خاصم، شاجر و«المقاوم: من يعلن المقاومة» و«المقاومة: صمود في وجه المهاجم». (حموي، د.ت مادة قوم) «في هذه الكلمة دلالة وإشارة كافية على أصل معنى الصمود والتحدي وما تنطوي عليه الكلمات من الرفض والعصيان والثورة، وتقع المقاومة بين الحرية والعدوان حيث الحرية هي السعي للتخلص من إضرار ومن حيث إن العدوان هو التهكم والاحتقار والإرهاب بكل أشكاله» (معروف ، 1362 ه-.ش، ص: 663) تحدث المقاومة حينما لا يشعر الشخص بالأمن والراحة في حياته الفردية والاجتماعية أو حينما يرى أنّه يفقد كرامته الإنسانية وعزته الذاتية فيبدأ بالدفاع عن شرفه وعزته المهدورة بما عنده من القوى. «إذن الاحتلال يولد المقاومة وما دام الاحتلال قائماً فإنّ وجود المقاومة ضرورة ملازمة له». (الحمد، 1999م: ص: 56) وأدب المقاومة في الاصطلاح «أدب الصرخة الشجاعة بوجه الظالم وصيحة المظلوم بوجه الغاصب المستبد يدعو أبناء الأمة لنبذ المذلّة عن أعناق عباد الله» شعر المقاومة هو المقاومة أمام التشرد والإخراج لأجل البقاء في الأرض المقاومة أمام المنع وإزالة الهوية الثقافية والوطنية. أما التعريف الشامل والكامل لأدب المقاومة «أطلق اصطلاح أدب المقاوم إلى الآثار الأدبية التي تبدو عند ظهور المجالات الخاصة ككبت الحرية والاستبداد الداخلي ثم عدم الحرية الشخصية والاجتماعية أو الاغتصاب الخارجي والمقاومة أمام تيارات ضد الحرية». إذن أدب المقاومة هو الذي يحث الناس على التحدي أو الهرب والنجاة ممن يحاولون السيطرة عليهم.

المصدر نفسه.

أدب المقاومة (نشأته وتطوره)

ص: 64

المقاومة هی الثبات والدفاع عن النفس والكرامة الإنسانية والحياة ويمكن القول بأنّ كل شعر يستوعب هذه الأفكار فهو شعر مقاوم. وشعراء المقاومة هم الذين يتكلمون عن حقوق الشعب الضائعة ويحرضون الشعب على استرجاع حقوقهم من الظالمين وينبهونهم على عدم الخضوع للمستكبرين. لم يكن لهؤلاء الشعراء اسم خاص حتى عام 1948م؛ عندما حدثت كارثة فلسطين وشُكّلت الدولة الصهيونية. فبدأ شعر المقاومة وظهر شعراؤها. إنّهم كانوا يتكلمون عن آلام الشعب العربي المضطهد عامةً وفلسطين المغتصبة خاصةً . يُعتقد «أنّ إبراهيم طوقان يُعتبر المؤسس لهذا النوع من الشعر أي أدب المقاومة». لكننا إذ ندقق النظر، نرى مظاهر أدب المقاومة بأشكالها المختلفة في شعر الشعراء بكل عصر من العصور؛ لأنّ من أهم محاور أدب المقاومة هي قضية الحرب والنضال حيث إنّ عمر الحرب يكاد أن يساوي عمر الإنسان على الكرة الأرضية «منذ معركة قابيل وهابيل والصراع بينهما».(كياني، 1388ه-.ش : ص: 128).

أدب المقاومة في العصر الحديث

بعد استيلاء المغول ثم العثمانيين والمماليك على البقاع العربية، مُلِئت البلاد العربية بالظلم والاستبداد والنهب والخراب فكان الناس يعانون من مرارة العيش وكان الشعراء هم لسان الشعب - منذ الجاهلية فصاعداً - فالتجأوا إلى ذكر مظالم الأتراك، وإلى المدائح النبوية والاستشفاء بالأولياء انتهى العهد التركي بحملة «نابوليون بونابرت» على مصر فبعد دخول العوامل الأجنبية إلى بلاد العرب، صار الأدب ميداناً للصراع السياسي، والتزم بأمور الشعب حتى صار مرآة تعكس الحياة الاجتماعية وآلام الشعب وما مرّ به من الظلم والاضطهاد كما وقف ضد هؤلاء الظالمين الأجانب. الأدباء ومنهم الشعراء بدأوا بإنشاد الشعر السياسي والثوري الذي يتمحور حول هذين المحورَين

المحور الأوّل: المقاومة ضد الاستعمار الأجنبي وتحريض الناس للثورة عليه.

ص: 65

المحور الثاني: الاعتراض على الحكام العرب الذين صاروا دمى بأيدي الأجانب، وكشف الستار عن أوجههم الحقيقية.

وأما من أهم العوامل التي خلقت شعر المقاومة في الوطن العربي الحديث هي ثورة الشعب العربي ضد سلطة الأجانب للتخلص من مظالمهم وتعذيبهم واحتلالهم، منها:

- انتفاضة الشعب المصري بقيادة «عرابي باشا» ضد الإنجليز التي أدت إلى احتلال بريطانيا لمصر.

- ثورة الشعب العراقي ضد الاحتلال الإنجليزي سنة 1920م برئاسة علماء التشيّع وثوار العشائر.

- وثبة شعب الجزائر وليبيا ضد الاحتلال الفرنسي والايطالي بغية الاستقلال والتخلص من حبال الاستعمار.

- نهضة جمال عبد الناصر في المعركة بين العرب وإسرائيل.

الثورة الفلسطينية ضد الحكومة الصهيونية. وهذه الأخيرة من أهم العوامل التي برّزت النوع الجديد من الأدب باسم «أدب المقاومة» في الوطن العربي. (محسني نيا، 1388ه-.ش : ص : 148)

في منتصف القرن العشرين ذهب الأدب إلى ساحة المقاومة للغزو الصهيوني لأرض فلسطين ومنذ سنة 1948م صارت فلسطين من أهم محاور أدب المقاومة في بلاد العرب بحيث لا نرى شاعراً إلا وقد خصّص الكثير من أشعاره للقضية الفلسطينية كما أنهم قد اكتسبوا مكانة مرموقة في ساحة أدب المقاومة إثر المقاومة الفلسطينية. منهم الشعراء الفلسطينيون «كمحمود درویش»، «عز الدين المناصرة»، «سميح القاسم» و «فدوى طوقان». والشعراء الآخرون غير الفلسطينيين «كأمل دنقل»، «نزار القباني»، «عبد الوهاب البياتي»، «سعدي يوسف» و«بلند الحيدري». وصفوة القول

ص: 66

أنّ أدب المقاومة في العصر الحديث تطور بتطور الزمن ، لظهور العوامل الأجنبية في بلاد العرب والمقاومة ومظاهرها التي صارت جزءاً لا ينفك عن الأدب والشعراء كانوا أداة مهمة للتعبير عن المشاعر الوطنية، وكان الشعر يتمحور حول أحاسيس الناس وآلامهم ومشاكلهم ويهدف وراء ذلك إلى إذكاء روح المقاومة والوعي لدى العامة.

أدب المقاومة العراقية

إنّ الأدب كمرآة تعكس جميع زوايا الحياة البشريّة. والشعر نوع من الأنواع الأدبيّة، له مهمّة ورسالة وهي «الدعوة إلى إصلاح ما فسد من شؤون المجتمع بل العالم نحو الأفضل»(دلشاد، 1388ه.ش ص 3) فالشاعر العربي منذ القدم كان لسان قومه الصارم ويدافع عن حياضه وهو لا ينسى مهمّته البشرية تجاه قضايا شعبه الذي يعاني القهر والعسف والظلم هو أديب ملتزم شجاع لا يخاف من أيّ شيء«فالخوف من السجن ومن الاضطهاد، أمر يتنافى مع توجه الشاعر الملتزم بقضايا شعبه ومشاكل مجتمعه وتناقضاته». (أبو الشباب 1988م ص : 63) والشاعر العراقيّ الحديث لا يستثنى من هذه القاعدة. بعد أن ساد الشعب العراقي ثالوث الفقر والجهل والمرض بسبب احتلال الأجنبي لمقدراته وأرضه، أدرك الناس عامّة والشعراء خاصة ضرورة التخلص من نير الإستعمار والثورة على العادات والقوانين التي وضعها الاستعمار لهم. هم ينتهزون أيّ فرصة مناسبة ليعبّروا عن آرائهم السياسيّة، ويهتفون لتحرّر العرب وطرد المعتدين، والتفاخر بالشخصيّة العربية، ودعوة الجماهير إلى الثورة ضدّ حكم الأجانب المستكبرين. ويمكن القول إنّ شعر المقاومة لدى شعراء العراق بدأ منذ القرن التاسع عشر مع ظهور الظلم والاضطهاد من قبل الأتراك الأجانب «كان أغلب الشعر العراقي في القرن التاسع عشر، لا جميعه يقوم حول ما يمكن أن يُدعى بالموضوع السياسي الثوري، ويشكّل هذا النوع من الشعر السياسي أرقى مثالاً في العربية الحديثة للشعر الذي تجدد بتأثير العوامل الخارجية السياسية والاجتماعية». ( الجيلوسي، 2007م: ص: 4) فالأدب العراقي، أدب حيّ يحمل في طيّاته آمال الأمّة

ص: 67

الناهضة المتطلعة إلى الحريّة والاستقلال، الطامحة إلى العلم والرخاء بعد عصور طويلة من الجهل والفقر والتخلف... ولم يخل من التطلع إلى الماضي وأمجاده الزاهية».( بصري 1999م ص : 25)

حب الوطن والحرية

في غمرة النضال من أجل الحق والعدالة وبناء كيان عراق متحرر من قيود التقاليد البالية ورواسب الجمود انطلقت شاعرية الشبيبي ترسم الأحرار طريق الحرية والنور وتبنى لهم من ثقاب رأيها وصدق مبدئها وأمانة عقيدتها الوسيلة الناجحة للوصول إلى الهدف الأمثل ألا وهو الاستقلال التام والانعتاق من الظلم والجور والطغيان الذي تمثل في مآسيه لدرجة أن الحزن والأسى أصبحا ملازمين لطبيعته النفسية وقد وضح الشاعر هذه الفكرة في مقدمة ديوانه إذ قال كنا في رهط من الشباب العراقيين وغيرهم نفکر تارة رسم أهدافنا وطوراً في الوسائل التي توصلنا إليها. ولم نكن نستهدف في الواقع إلا الحياة في ظل نظام تُحترم فيه الحقوق والحريات، وتفلح في كنفه المساعي تيسر النهوض بالبلاد الشبيبي نذر نفسه لخدمة رسالته المقدسة وضحّى بكل غالٍ وثمين من أجل إعلاء كلمة الحق وإرساء راية العدالة الخفاقة على ربوع العراق ورافديه وهو يختار أقسى مرحلة من مراحل بنائه وتوطيد كيانه الحر المستقل فالقارئ لو اطلع على عناوين قصائده الموسومة بالوطنيات وحاول أن يتحسس بما وراء تلك العناوين من روح متحمسة وقلب كبير وعقل ثائر لأدرك بأن الشبيبي عاش ومات في (سبيل الشرق) وسكب عواطفه الحارة وأشواقه الملتهبة في كلمات مؤثرة بليغة وهو يتحدث عن العراق ودعوته الصابرة الشريفة لنيل استقلاله وحريته (فالثورة على الأتراك) بكل ما فيها من شكوى وعتاب و (قصيدة الباكية) وهو يتحدث عن (دمشق وبغداد) تلك القصيدة التي نظمها في أول تشرين الأول سنة 1918م حينما أذاع الإنكليز في العراق أنهم - لا العرب - أخذوا دمشق الشام والتي يقول فيها:

ماذا بنا وبذى الديار يراد؟ *** فقدت دمشق وقبلها بغداد

ص: 68

من موطن الميلاد قامت نازعاً *** خيل لهن بجلق ميعاد

ساءت وقائعها. ما سرت بها *** لا الهجرة الأولى، ولا الميلاد

وردت مياه الرافدين مغيرة *** شقر من انقب البطون وراد

هجن طردن من الجياد كرائماً *** عربینه كأنهن جياد

بردى وأودية الفرات ودجلة *** والنيل غص بمائك

(الشبيبي، 1940م: ص: 45)

فقد شارك الشبيبي بوجدانه المتدفق وعقليته المتحررة الوقادة في بناء الحكم الوطنى وكافح الاستعمار في كل أشكاله في عهد الاحتلال وبعده وكان في طليعة المشتغلين باخلاص ووفاء بالقضية العربية والعراقية.

الجانب الفكري
اشارة

الفكر ، سمة من سمات الشاعر المجدد، وقد طبعت هذه السمة أغلب شعره، فهو يرى مثلاً في الظلم أقبح صفة يتخلق بها الجائرون الظالمون، فحز ذلك في قلبه، وهو يراهم يعملون ما يشاءون، فيقول فيهم:

يقولون اتيان الكبائر جائز *** وفعل الخطايا المنكرات مباحُ

أخي هذه الأخلاق للجنس نهضةٌ *** وللبشر الآتين منه فلاحٌ

يريدون للدنيا ضماداً وأنهم *** بجثمان هذا الاجتماع جِراحٌ

فالنهضة التي يتطلع لها الشبيبي لابد أن يساهم أبناء شعبه فيها، إلا أنه يرى شباباً لا يدركون معنى الاصلاح وقيمة الفكر التجديدي، وشيباً عاجزين عن فعل شيء، فيصرخ قائلاً:

ص: 69

شبابٌ طائشٌ نزق *** و شبب مابهم رمقٌ

وشعب طالب ثقةً *** فدلوه بمن يثقُ

ففی آرائنا شِيع وفي أحزابنا فرق

والأروع ما قاله في الجانب الفكري اعتقاده على أن الحقيقة الكاملة معنىّ مجازياً، وكُلّ يقرؤها بمنظوره الخاص ويعتقد جازما أنها الحقيقة، فكتب قصيدته بعنوان «الحقيقة لا تدرك» وهي نقداً للتقليد والجزمية والتطرف في إطار البحث العلمي، فيقول:

يسوق له دلیل تخرّصاتٍ *** ويمنع خصمه أن يستدلا

يؤلفها قياساً منطقيا *** تمُثله قضايا الوهم شكلاً

رويدك قد فتنت بها نفوسا *** رأتك لأن تهذبهنّ أهلاً

دجی التقليد مات *** ولو تقرّى شؤون المستقلين استقلا

يصوب دونهم طرفاً غضيضاً *** ويقبض دونهم باعاً أشلاً

فمأسورٌ وإن قالوا طليقٌ *** ومأخوذ وإن قالوا مُخلّى

بماذا يا نصير الجهل قل *** لي تميس تغطرساً وتميل دلاً

وما طاوٍ يهاب الوحشُ منه *** عملس يسحب الذيل الرقلاً

بأغدر منك إذ تبتزّ مالاً *** يحرّمه النُهى وتراه حلِاً

إذا وجد المريب بأرض جُبنٍ *** تولاها، وإن شجت تولىّ

(عبدالحمید، 2004، ج2، ص: 196)

ص: 70

ج. الجهاد ضد الاستعمار

هكذا أظهر أثر هذا الوعي في الشعر بارزاً وواضحاً عند شعراء العراق البارزين والذين يعدون في الطليعة، فقد نظم الشيخ محمد رضا الشبيبي قصيدة أيضاً وهاجم فيها الاستعمار مهاجمة عنيفة وتعني هذه القصيدة صورة من فضل وجهاد الشاعر في

الذود عن حياض المسلمين:

عم الثغور الموشحات ظلام

ودَجت لأنك ثغرها السامُ

طوت الفياق نكساً أعلامها

إذ ليس تخفق بعدك الأعلامُ

رابطت في ثغر العراق وثغرها

يحمى الحجاز بسه والشامُ

سقط الذي شيدت من أركانه

وأعيد فيه النقض والابرامُ

صالت على تلك المنية أختُها

وسطا على ذلك الحمام حمامُ

طالت عليك فكل شهر عام

لله سعة أشهر قضيتُها

(الشبيبي، 1940 ، ص : 180)

وللشاعر قصيدة أخرى يتحدث فيها عن واقعة شعيبة والتي تعد من أعظم المعارك، والواقعة المهمة الأولى في حياة الحرب بالعراق، استنفر فيها العراقيون فقد جاء القائد سليمان عسكري بك، ومعه فريق من الجنود الأتراك متجهين نحو البصرة،

ص: 71

وهناك حدثت معركة كبيرة جرح فيها القائد التركي سليمان عسكري بك، وبعد أن القائد سليمان عسكري بك في هجومه الذي شنه على الانكليز ذهب إلى بغداد للتداوي في المستشفى العسكري (خسته خانة المجيدية) ولم يمكث غير أيام قلائل حتى عاد إلى أسلحة الحرب وقد شوهد هذا القائد راكباً عربة ولايزال مضطرباً من جرحه، ينتقل من مكان إلى آخر فيسوق الجيش ويدربه وبعد أن رأى الجيش على شفا جرف هرب موليّاً الأدبار وأن معونته قد ضعفت فما كان من القائد إلا الانتحار ألماً وحسرة بعد أن أبدى من الإخلاص والوفاء ما استحق به أن يخلد مع الابطال وقد سجل محمد رضا الشبيبي هذه المعركة الرهيبة وأتى على كثير من تفاصيلها فيرى فيها أشهر أيام الحرب العراقية، فقد كانت مناجزة شديدة هزم في آخرها العثمانيون، وتركوا نصف ذلك الجيش بين قتيل وجريح وأسير وفقيد وقد جسد لنا وقائع تلك الموقعة في قصيدة سماها يوم الشعيبة تحدث فيها عن معاناة الجيش العثماني الذي أقام ثلاثاً في خنادقها خالي الحقائب من ماء ومن زاد رغم موفور ماء الفراتين وحبهما وهو يبلغ الذروة حين يحدد سبب ذلك الخلل، فإن أقواتنا - في بطون الذر أكثرها، لا في بطون صعاليك وأخباد وما إلى ذلك فيقول:

نبت الربا حمر أشلاء واوراد

منثورة لك بين القصر فالوادي

دون الشعيبة اجساد موزعة

في البيد توزيع أعضاء بأجساد

جيش أقام ثلاثا في خنادقها

خالي الحقائب من ماء ومن زاد

(المصدر نفسه، ص 47-48)

د. مجد ثورة النجفيين

كان صراع الشبيبي مع الدولة العثمانية من وجهتين إحداهما أنها حائدة عن

ص: 72

الطريق القويم للسلام، يتضح ذلك بظلمها، والأخرى لأنها غاصبة حقوق العرب الذين قامت الدولة الإسلامية على أيديهم، ولكن الزمان أدى بها إلى هؤلاء ولذلك يقول:

أما صفحنا عن الماضي لاعينكم *** اما ادیلت لكم ايامنا الاول

(المصدر نفسه ص (27)

فالشبيبي يشعر بمجد العرب ولذلك يثور بعنف وقوة أثر ثورة النجفيين في عام 1915م تلك الثورة التي انتهت بطرد الترك وحكم الاهالي لأنفسهم، حتى إذا جاء الإنكليز استطاعوا إخضاعهم ففي هذا الحادث يقف ثائراً ومفاخراً يقول في قصيدته «ثورة على الأتراك»

لا الجبن فأطفانا ولا البخل *** الثأر والحقد بالأقوام والدخل

لو كان ما بهم جنبا لما انتقموا *** وفي طريق بلوغ النقمة الأجل

السيف قرب منا كل قاصية *** لا المنطق الفصل من قوم ولا الجدل

(المصدر نفسه)

ه-- التنديد بسياسية الاستعمار في ثورة العشرين انتفض الشعب العراقي في ثورة العشرين، ثم تلتها حركات أخرى تميزت بالبذل والفداء وإرخاص المهج والأرواح وذلك للتخلص من تعسف المتعسفين واثره المستأثرين، غير أنها كانت شرراً ينبعث من الثورة الكبرى وعاد التاريخ يعرّى أغراض أولئك الذين ناوأوا الوثبة الأولى وساموا قادتها العذاب ومقصدهم الوصول إلى المناصب الوثيرة وحوربت وتألبت عليها قوى الشر بالمال والنعرات الهدامة وبذور الشقاق والأنانية والجشع والاثرة. لذلك يقف الشبيبي ازاء هذه الفعلة النكراء فيقول:

ص: 73

أخطأ الحق فريق بائس *** لم يلومونا ولاموا الزمنا

خسرت صفقتكم من معشر *** قد شروا العار وباعوا الوطنا

ارخصوه ولو اعتاضوا به *** هذه الدنيا لقلت ثمنا

يا عبيد المجد خير منكم *** جهلاء يعبدون الوثنا

(المصدر نفسه، ص 105)

وهكذا يندد الشبيبي بالإنكليز وأتباعهم، ويصف الصراع بينهم وبين العشائر حينما طلبوا أسلحتهم وكان الطلب من هؤلاء حجة ظاهرة للانتقام منهم.

نتيجة البحث:

وصل البحث إلى القسم الأخير ، وهو تسجيل النتائج المتحصلة منه في النقاط التالية:

كان الشبيبي مجاهداً من أجل استقلال العراق وهو الذي صرخ في وجه الحاكم الانكليزي للإعتراف باستقلال بلاده و هو صاحب دعوة أن يتحد الشام والعراق.

يعتبر الشبيبي من أهم أركان أدب المقاومة على الساحة العربية عموماً وعلى الساحة العراقية خصوصاً.

تمثلت عناصر المقاومة في شعر الشبيبي كالتالي:

إشارة إلى القمع وفقدان الحرية والمخبرين وإظهار النقمة عليهم.

تحريض الشعب نحو الثورة ضد الاستبداد.

الدفاع عن الطبقات الفقيرة والمضطهدة.

لقد تضمّن شعر الشيخ محمد رضا الشبيبي حشداً كبيراً من المفردات ذات البعد الديني وهذا يدل على أنّ الشاعر ذو ثقافة دينية واسعة.

ص: 74

يصوّر الشاعر من خلال عدسة شعره حالة الاختناق والكبت والرعب والمأساة التي يعانيها الشعب العراقي من الاستعمار وسياساته.

يمتاز شعر الشبيبي بالصّدق الفنّي والوضوح والبساطة أو السهولة التي تميّز شعره من الشعراء المعاصرين الرّمزيين ويسهل فهمه للعموم؛ لأنّه شاعر الشعب.

قائمة المصادر

أبو الشباب، واصف، القديم والجديد في الشعر العربي الحديث دار النهضة العربية للطباعة

والنشر، بيروت، 1988م،

آقابزرگ تهرانی محمد حسن، الذريعة الى تصانيف الشيعة، دار الاضواء، بيروت، 1373 ق بصري، مير أعلام الأدب في العراق الحديث، دار الحكمة، لندن، 1999م.

الجميلي ،ع، نگاهي به تاریخ سیاسي عراق، ترجمه محمد حسين زوار كعبه، حوز هنري تبلیغات اسلامي ،تهران 1370ه.ش.

الجيلوسى، سلمى الخضراء الاتجاهات والحركات فى الشعر العربي الحديث الترجمة عبد الواحد لؤلؤة، الطبعة الأولى، بيروت. 2001م.

الحسني عبد الرزاق تاريخ العراق السياسي الحديث دار الرافدين، بيروت، 2008م.

الحمد، جواد و إياد البرغوثي، دراسة في الفكر السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)،

ط : 2 عمان مركز دراسات الشرق الأوسط، 1999

1م.

حموي، صبحي، المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، بلاتاريخ.

دلشاد جعفر وآخرون، الغربة في الشعر العراقي نموذجاً، مجلة العلوم الانسانية الدولية، العدد 15، 2008م.

الشبيبي، محمدرضا، الديوان، مطبعة لجنة التأليف والنشر، القاهرة ، 1940م.

الشربتي، أحمد حامد الشبيبي في حكمه وأمثاله، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1982م. عبد الحكيم ، عمر ، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية . لا . مط، بيروت، 2004م.

عبد شناوة، علي، محمد رضا الشبيبي ودوره الفكري والسياسي حتى العام 1932 ، دار كوفان

للنشر، العراق، 1995م.

عبدالحمید صائب، معجم مؤرخي الشيعة، مؤسسة دائرة معارف الفقه الاسلامي، قم، 2004م الغزالي، محمد الإسلام والاستبداد السياسي، دار النهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع مصر، 1997م.

ص: 75

فاخوري، حنا ، تاريخ الأدب العربي، ،توس ،تهران 1380ه.ش.

فوستر هنري نشأة العراق الحديث، ترجمة عبد المسيح ،جويده، مطبعة الشعب، بغداد،p1938.

قدورة زاهية تاريخ العرب الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، 1985م.

كياني، حسين وسيّد فضل الله میرقادري، «شهيد وجانباز در شعر إبراهيم طوقان، شاعر مقاومت فلسطين» نشريه أدبيات پايداري سال ،أول شماره 1 دانشگاه شهید باهنر کرمان، 1388ه.ش.

محسني نيا، ناصر،«مباني أدبيات مقاومت معاصر إيران و عرب . نشریه ادبیات پايداري، سال

أول، شماره 1 دانشگاه شهید باهنر کرمان 1388ه.ش.

معروف، لويس المنجد في اللغة والإعلام نشر اسماعيليان، تهران، 1362 ه.ش.

نفيسي، عبدلله فهد نهضت شیعیان در انقلاب إسلامي عراق مترجم کاظم چایچیان

انتشارات أمير كبير ،تهران، 1364ه.ش.

الواعظ، رؤف، الإتجاهات الوطنية في الشعر العراقي الحديث، دار الحرية للطباعة، بغداد، p1974.

الوردي علي لمحات إجتماعية من تاريخ العراق. الجزء السادس، لا.ب: لا. مط، 1992م.

www.almadasupplements.com

ص: 76

موقف علماء الحوزة العلمية من القضايا العربية والإسلامية: الاحتلال الايطالي لليبيا - أنموذجاً -

اشارة

حيدر عبد الهادي علي العذاري(1)

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على النبيّ الأمين وآله الطاهرين..

وبعد: فقد اخترت النقطة الخامسة من المحور الأول من محاور البحث المؤتمر الدولي حول (التجديد في صناعة التاريخ وكتابته) فسلطت الضوء على مرحلة جديرة بالدارسة والتحليل والبيان تتألق فيها الحوزة العلمية برجالها الذين حملوا أقلامهم بيدٍ وسيوفهم بيدٍ أخرى لينبروا مدافعين عن قضايا مصيرية عصفت بأُمّتنا العربية والإسلامية، فتألّموا حينما تألّم المسلم في أبعد المعمورة، ودافعوا عنه بما أتيح لهم من فرصة وامكانية ، والدليل هو الفتوى الخالدة لعلماء حوزة النجف الأشرف لما تداعت جيوش الاستعمار الكافرة في مطلع القرن الماضي، فدنست

ص: 77


1- أستاذ في الفلسفة - العراق- المؤتمر الدولي حول التجديد في صناعة التاريخ وكتابته 1439ه- - 2018م.

أرضنا العربية الإسلامية في (ليبيا) وغيرها، ووقتئذ لا الطائفية منعتهم ولا الحدود حجزتهم ولا بعد المسافة أعاقتهم عن نصرتهم، والوقوف إلى جانبهم، فبثت تلك الفتوى روح الجهاد والمقاومة والعزيمة فكانت كالروح تدب في جسد ميت.

المبحث الأول وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف مختصر بالحوزة العلمية وعلمائها

الحوزة العلمية مصطلحٌ يطلقُ على المراكز الدراسية التي تضمّ طلبة العلوم الدينية من شيعة أهل البيت، والتي تقع تحت إشراف وإدارة المراجع العظام والعلماء الكرام. وتحظى باستقلال مادي واقتصادي. فلا تخضع في مواردها المالیة و الاقتصادیة الی الدعم الحکومی بل یقوم مراجع التقلید بتامین ما تحتاج الیه الحوزات العلمیة من خلال الوجوه الشرعیة کالاخماس والزکوات و هدایا المومنینو الاوقاف...

وقد اختارت الحوزة العلمية وعلى مرّ التاريخ منهجاً دراسياً خاصاً يقسّم إلى ثلاث مراحل هي مرحلة المقدمات، والثانية مرحلة السطوح، والثالثة مرحلة الخارج.

وأهم مركز للحوزة العلمية هو النجف الأشرف ثم كربلاء المقدسة ثم قم المشرفة ثم سامراء ومشهد وأصفهان وبغداد والحلة وغيرها.

ويمكن القول: أن نواة الحوزات العلمية كان مع بزوغ فجر الإسلام وتأسيس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة؛ فلما كانت المدينة المنورة هي المنطلق الأول للرسالة الإسلامية، فلا غرو إذا كانت (المدرسة الأولى للفكر الإسلامي). واستمرت في عطائها كمركز علمي حتى عصري الإمامين الباقر والصادق.

وجاء بعد المدينة دور الكوفة بعد أن انتقلت مدرسة الفقه الشيعي من (المدينة) إلى (الكوفة)، ومع تأسيس بغداد واتخاذها عاصمة للدولة العباسية تحولت هي الأخرى إلى مركز علمي استقطب علماء الشيعة لما توفر فيها من مشايخ كبار كالشيخ الكليني والشيخ المفيد، وكانت المدرسة البغدادية ما بين (260) ه-) إلى (327ه-)

ص: 78

المعروفة بفترة الغيبة الصغرى تدار من قبل النواب الأربعة، ثم تواصلت الدراسة والنشاط العملي فيها إلى أن أثيرت الفتنة في منتصف القرن الخامس وتم إحراق مكتبة دار العلم ممّا اضطر الشيخ الطوسي إلى الهجرة منها إلى النجف عام (448 ه- ) ليؤسس هناك المدرسة النجفية التي تحولت بعد مدرسة بغداد إلى المركز الأمّ للدراسات الشيعية.

ثم ازدهرت بعد النجف حوزة الحلة العلمية التي تمكنت من حمل راية المرجعية العلمية على يد فقهاء ومراجع كبار كالعلّامة الحلّي والمحقق الحلّي وابن فهد الحلي.

وكذلك كان لجبل عامل نصيب كبير في دعم الحركة العلمية الشيعية لما جادت به يراع کبار علمائها کالشهيدين الأول والثاني.

ثم ازدهرت حوزة قم حين حل بها الشيخ عبد الكريم الحائري ثم ازدهرت أكثر في عهد السيد البروجردي ولا تزال .

وسر قوة الحوزة يكمن في عمق الدراسة وتقوى الدارسين واستقلالها من النواحي المتقدمة الذكر، فهي الإرث الحقيقي لأهل البيت (عليهم السلام) وامتداد المشروعهم الهدايتي في الأمّة.

المطلب الثاني: ليبيا قبل الاحتلال وبعده

خضعت طرابلس الغرب (ليبيا) للسيطرة العثمانية منذ عام (1551م)، وقسّمت البلاد إبّان عهد العثمانيين إلى ثلاثة أقسام رئيسية: هي أقاليم، (طرابلس، وبرقة، وفزان)، وطيلة القرن التاسع عشر كانت سيطرة العثمانيين على المناطق الساحلية قوية، في حين سيطرتهم على المناطق الداخلية ضعيفة،(1)وخلال الأعوام الأولى من ، القرن العشرين زادت أطماع إيطاليا في ليبيا، ولا سيما بعد احتلال فرنسا لمراكش بعد الجزائر وتونس واحتلال بريطانيا لمصر(2).

ص: 79


1- مجلة المؤرخ العدد 39 / بغداد 1988/ص13.
2- تاريخ العرب الحديث / ص 419.

ونتيجة لذلك بدأ التغلغل الإيطالي في ليبيا، فقد بلغ عدد الجالية الإيطالية في ليبيا عام (1900م) حوالي ألف ومائة شخص، وأنشأوا بنك روما في طرابلس عام (1907م)، وفتحت له فروع في باقي الأقاليم، وبذل البنك المذكور جهوداً حثيثة من أجل شراء الأراضي من الأهالي بأضعاف أسعارها، واتّباع سياسة الإقراض والاستملاك في حال عجز أفرادها عن الوفاء بالالتزامات مع البنك، وسيطر الايطاليون تدريجياً على صادرات البلاد من الصوف والحبوب وعشب الحلفا، وريش النعام(1).

وتمّ إرسال بعثة علمية آثارية إلى طرابلس عام (1910م) وظاهر عمل هذه البعثة هو التنقيب عن معدن الفوسفات وإجراء حفريات لإكتشاف المناطق الآثارية، ولكن مهمتها الأساسية في واقع الأمر هي وضع المصورات والخرائط الجغرافية اللازمة للعمليات العسكرية(2).

ويمكن القول إنّ الاجراءات الايطالية لاحتلال ليبيا خطط لها منذ أعوام، فقد اِستغل الإيطاليون حالة الفقر والفاقة التي عانى منها سكان ليبيا خلال تلك المرحلة التاريخية من أجل تنفيذ مخططاتهم الاستعمارية ولاقت تلك الخطط ثمارها، وفق مجتمع تعامل مع الطرف المقابل بحسن النية، ولكن أثبتت الأيام إن ما يبتغيه الإيطاليون ليس الأعمال الخيرية بل السيطرة على موارد هذه المنطقة مدفوعين

بروحهم الصلسة.

أكملت إيطاليا استعداداتها العسكرية لاحتلال ليبيا، أواخر عام (1911م)، وبلغت القوات العسكرية المعدة للغزو أربع وثلاثون ألف جندي، وستة آلاف وثلاثمائة حصان، وألف وخمسين عربة، وثمان وأربعون مدفعاً ميدانياً، وأربع وعشرين مدفعاً

جبلياً، ومائة وخمس وأربعون سفينة حربية، ومائة وأربعة عشر قطعة بحرية أخرى ضدّ القوات العثمانية المكونة من خمسة آلاف مقاتل في طرابلس وألفين في برقة، وكانت حجّة الإيطاليين هي مقتل شخصين إيطاليين في ليبيا عام (1908م)، وهي

ص: 80


1- مجلة المؤرخ العدد : 39 / بغداد 1988 ص39.
2- تاريخ العرب الحديث / ص 419.

حجّة واهية، و زعمت أن أملاك الإيطاليين وحياتهم في خطر، على الرغم من محاولة العثمانيين استرضاء الإيطاليون إلا أنهم لم يلقوا أذن صاغية لذلك(1).

أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية في ليبيا يوم 29 أيلول 1911م)، ولم یكن أمام الدولة العثمانية إلا إعلان موقف الحياد.

وممّا زاد الطين بلّة هو قيام الحكومة العثمانية بسحب معظم قواتها من ليبيا عام (1910م) بحجة أن وضعها في اليمن والبلقان حتم عليها ذلك، فضلاً عن سحب أسلحتها الاحتياطية في ليبيا والتي قدرت بأربعين ألف بندقية، إلى جانب سحبها الضباط الأكفاء ولاسيما العرب، وتركت البلاد بسبعة آلاف جندي، وتمّ إهمال تموين البلاد، في ظلّ تلك الظروف الحرجة التي أشتد فيها الجوع والقحط.

المطلب الثالث: موقف علماء الحوزة العلمية من الاحتلال

لقد حملت المرجعية لواء الجهاد دفاعاً عن حرمة الإسلام والمسلمين، بغض النظر عن الولاءات المذهبية والحدود الإقليمية والانتماءات العرقية، فحينما وقع الاحتلال الإيطالي لليبيا عام (1911م)، وقفت القيادة الدينية - الشيعية بكل إمكانياتها إلى جانب الدولة العثمانية في سبيل الدفاع عن ليبيا(2).

يقول الأستاذ محمّد سعيد الطريحي أصدر الشيخ الخراساني فتوى للجهاد والدفاع عن ليبيا ضدّ الاحتلال الإيطالي لها، وقد أكّد هذه الفتوى بعد وفاته، اثنان من كبار المجتهدين هما: السيد محمّد سعيد الحبوبي، والشيخ محمّد (صاحب الجواهر)، وقد أرسلت (الهيئة العلمية) إثنين من أعضائها إلى ليبيا لغرض الاستطلاع، ودرس إمكانية الاشتراك في حركة الجهاد هما: السيد مسلم زوين وعزيز بك، قائم مقام النجف المستقيل عن الاتحاد والترقي ، فسافرا إلى طرابلس ومنها إلى الآستانة.

ص: 81


1- جهاد الأبطال في طرابلس الغرب ص 35.
2- المرجعية الدينية الشيعية، مواقف مبدئية ضد الاحتلال مقال الكتروني للدكتور محمد جواد مالك موقع مكتبة العتبة الحسينية المقدسة : -2013/html http://imamhussain.194/09/lib.blogspot.com

و تتابعت فتاوى الجهاد من العلماء السنّة والشيعة لمقاومة الاحتلال الإيطالي وعلى أثرها تشكلت - في جميع أنحاء العراق - لجان للدفاع عن لیبیا من السنة والشيعة ولعب الشيعة فيها دوراً مميزاً رغم أن المعاملة التي كانوا يتلقونها من السلطة العثمانية سيئة جداً ..

وفي كربلاء عقد الأهالي اجتماعاً عاماً عند ضريح الإمام الحسين، وألقيت الخطب الحماسية، ثم جرى جمع التبرعات، وفي يوم (12 تشرين الأول 1911م)، تظاهر ما يقارب الألفين من الأهالي.

وشهدت مدينتا النجف وسامراء تظاهرات مماثلة خلال يومي (17،11) تشرین الأول، وألقيت فيها الخطب الحماسية، ودعا الخطباء إلى نبذ الخلافات الطائفية وتوحيد الجهود)(1).

وانعكس ذلك في مهرجانات الأدب والشعر التي كانت تلهب أحاسيس الناس وتدفعها للجهاد، وقد ذكر الأستاذ إبراهيم الوائلي مجموعة من الشعراء الذين وظفوا أقلامهم لنصرة هذه القضية في مقاله : الشعر العراقي وحرب طرابلس المنشور في مجلة كلية الآداب جامعة بغداد العدد السابع ،بغداد ،1964، ص: 202-217. نذكر منهم الشاعر الشيخ علي الشرقي إذ قال:

كيف أصبحت فأفصحي يا بلادي*** افيك ما يعقد الرطاب الفصاح

إن دعونا أرائك الجور طاحت*** يا دم الأبرياء كنت المطاحا

ما لروما فلا استوی عرش روما *** فتلت ذيلها وعجّت نباحا

جنبت عن نضال كل قويٍّ *** فأغارت على الزوايا اكتساحاً

نطحت ،برقة، وبرقة واحات*** من النخل ما عرفن النطاحا

ويقول الشيخ باقر الشبيي في قصيدته - ايتاليا وإعلان الحرب:

ص: 82


1- مجلة الموسم : العدد السادس : ص377 - 425.

فيا ايتاليا اعتقدي بأنّا *** سننشرها بأجنحة الظلامِ

ونضرب بالسيوف لكم رقاباً *** ونحمي بالدفاع حمي حمى الحريم

سلوا إن شئتم اليونان عنا ***وإن شئتم سلوا حرب الصريم

نصول بكل هدّار هزبرٍ *** إذا اشتد الوغى أسد هجوم

نذبّ عن الحقيقة في حماها*** ونحمي حوزة الوطن القديم

وللشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء قصيدة نهضوية هادفة بعنوان (حرب الطليان والبلقان (1)) يقول فيها :

أيها المسلمون هبّوا فليس ال***موت إلا حياتكم بهوان قد دهاكم ويلٌ فماذا التمادي *** وأتاكُمُ سيلٌ، فماذا التواني

جاءكم جارفُ من الغرب تيّار *** يهدّ البناء رأس المباني

يستغيث الإسلام فيكم فيلقي *** عنه منكم تصامم الآذان

صارخاً فيكُمُ فهل من سمیعٍ *** صرخات الإسلام والقرآن

أفيرجو الإسلام لقيان سلم *** (بعد حرب الطليان والبلقان)..

المبحث الثاني: نص الفتاوى التي صدرت باسم علماء الحوزة العلمية لاستنهاض المسلمين ضدّ المستعمر الإيطالي المحتل..

عقد مجتهدو النجف الأشرف وعلماؤها مجالس عديدة، واجتماعات مكثّفة وعطّلوا الدروس والجماعة تمخضت اجتماعاتهم في ذهاب السيد مسلم زوين

وعزيز بك (قائم مقام النجف) إلى ليبيا لدراسة إمكانية الاشتراك في ..الجهاد.

ص: 83


1- هناك الكثير من الشعراء الذين كتبوا عن هذه القضية لم أذكرهم في متن البحث وذلك لكثرتهم ومنهم: محمد حسين أبو المحاسن، والشيخ محمد رضا الشبيبي، وعبد العزيز الجواهري وغيرهم. وللمزيد من التفصيلات عن أولئك الشعراء ينظر إبراهيم الوائلي الشعر العراقي وحرب طرابلس مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد السابع ،بغداد، 1964 ، ص 202-217

أمر السيد اليزدي بعقد اجتماع عام، وأعلن بذلك، ونادى المنادي يطلب خروج الناس إلى وادي السلام فسارع عموم النجفيين ذكوراً وإناثاً صغاراً وكباراً، حتى كادت تخلو المدينة تقريباً، وغص الوادي بالناس ينتظرون رأي السيد وكلمته الأخيرة في أمر الجهاد، ودفاع العدو، وألقى الخطباء خطباً حماسية أبكت العموم، وأثارت فيهم نيران الحمية، فعلت الأصوات، وكثر الضجيج.

وقبل ساعة من أذان المغرب وصل السيد اليزدي بين تهليل وتكبير، وارتقى منبراً عالياً فضجّ الناس بالبكاء والعويل فرحاً...

وبعد برهة هدأ الجميع، وألقى خطبة أوضح فيها ما تمر به الأمة الإسلامية، ومؤامرات المستعمرين، ودعا للمدافعين عن بلاد الإسلام، ثم أعقبه الشيخ جواد الجواهري فرقى المنبر وشرح بعض مقاطع الخطبة وما حوته من مغازي. (1)

فتوى السيد محمد كاظم اليزدي

بسم الله الرحمن الرحيم

في مثل هذا اليوم حملت الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية من كلّ جهة، فمن جهة هجمت إيطاليا على طرابلس الغرب، ومن جهة أخرى روسيا على شمالي ،إيران، وإنكلترا على جنوبها، وهذا يهدّد باضمحلال الإسلام. لذا يجب على عموم المسلمين من العرب والعجم أن يهيؤوا أنفسهم للدفاع عن البلاد الإسلامية ضد الكفر، وأن لا يقصّروا ولا يبخلوا في بذل أنفسهم وأموالهم في تقديم الأسباب التي يمكن من خلالها إخراج جيش إيطاليا من طرابلس الغرب، وجيش روسيا والإنكليز من شمالي وجنوبي إيران، وهذا من أهم الفرائض الإسلامية، حتى تبقى المملكتان العثمانية والإيرانية مصونتين محفوظتين بعون الله تعالى من هجوم الصليبيين.

حرر يوم الاثنين خامس ذي الحجة الحرام سنة 1329ه- الموافق للسادس والعشرين من تشرين الثاني سنة 1911م . (2)

ص: 84


1- - النجف في ربع قرن: 148-149.
2- - السيد محمّد كاظم اليزدي، سيرته وأضواء على مرجعيته ومواقفه ووثائقه السياسية : 199-200.

أما بيان الشيخ كاظم الخراساني، والسيد إسماعيل الصدر، والشيخ عبد الله المازندراني، وشيخ الشريعة الاصفهاني قد جاء فيه:

إن هجوم روسيا على إيران وإيطاليا على طرابلس الغرب، موجب لذهاب الإسلام واضمحلال الشريعة الطاهرة والقرآن فيجب على كافة المسلمين أن يجتمعوا ويطالبوا من دولهم المتبوعة رفع هذه التعديات غير القانونية من روسيا وإيطاليا.. جهاداً في سبيل الله كالجهاد في بدر وحنين . (1)

نص فتوى أخرى لمجموعة من علماء النجف الأشرف

بسم الله الرحمن الرحيم

علماء النجف الأشرف إلى كافة المسلمين الموحدين، وممن جمعتنا وإياهم جامعة الدين والإقرار بمحمد سيد المرسلين ..

السلام عليكم أيها المحامون عن التوحيد والمدافعون عن الدين، والحافظون لبيضة الإسلام. لا يخفى عليكم أن الجهاد لدفع هجوم الكفار على بلاد الإسلام وثغوره مما قام إجماع المسلمين وضرورة الدين على وجوبه قال الله سبحانه « انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ » .

هذه جنود إيطاليا قد هجموا على طرابلس الغرب التي هي من أعظم الممالك الإسلامية وأهمها فخربوا عامرها وأبادوا أبنيتها وقتلوا رجالها ونسائها وأطفالها مالكم تبلغكم دعوة الإسلام فلا تجيبون وتوافيكم ضرخة المسلمين فلا تغيثون أتنتظرون أن يزحف الكفار إلى بيت الله الحرام، وحرم النبي والأئمة عليهم السلام ويمحوا الديانة الإسلامية عن شرق الأرض وغربها وتكونوا معشر المسلمين أذل من قوم سبأ، فالله الله بالتوحيد الله الله في الرسالة الله الله في نواميس الدين وقواعد الشرع المبين، وفيما بعد التوحيد إلا التثليث ولا بعد الإقرار بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم إلا عبادة المسيح،

ص: 85


1- شيخ الشريعة: 114

ولا بعد استقبال الكعبة إلا تعلق الصليب، ولا بعد الأذان إلا قرع النواقيس فبادروا إلى ما افترضه الله عليكم من الجهاد في سبيله، واتفقوا ولا تفرقوا، وأجمعوا كلمتكم وابذلوا أموالكم وخذوا حذركم (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) لئلا يفوت وقت الدفاع وأنتم فاعلون، وينقضي زمن الجهاد وأنتم متثاقلون (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

خادم الشريعة المطهرة محمد كاظم الخراساني

الأحقر الجاني عبد الله المازندراني

الجاني شيخ الشريعة الأصفهاني

الأقل علي رفيش

أقل خدام الشريعة محمد حسين القمشة

أقل خدام الشريعة الغراء حسن بن المرحوم صاحب الجواهر

الأحقر الجاني السيد علي التبريزي

الأقل الجاني مصطفى الحسيني الكاشاني

الراجي عفو ربه محمد آل الشیخ صاحب الجواهر قدس سره الراجي عفو ربه الغفور محمد جواد الشيخ مشكور ق س الأحقر جعفر ابن المرحوم الشيخ عبد الحسن ق س بسم الله الناصر المعين أنا وكل المسلمين نستعين الأقل محمد سعيد الحبوبي (1)

ص: 86


1- - السيد محمد كاظم اليزدي : ص197-198. شيخ الشريعة: 111-112
المبحث الثاني: قراءة تحليلية لنصوص تلك الفتاوى
اشارة

إن القراءة التحليلية الفاحصة لنصوص تلك الفتاوى المتقدمة تنتج لنا ما يلي:

حددت تلك النصوص أن الحرب قائمة بين جهتين الأولى هي : الحلف الأوروبي ووصفتهم الفتوى بالكفر ونعتت الحملة بالصليبية، والثانية: هم المسلمون..

تكشف لنا تلك النصوص بأن علماء الحوزة العلمية الشيعة في النجف الأشرف لم يفرقوا بين ليبيا ذات الصبغة السنية وبين إيران ذات الصبغة الشيعية فما حتّوا عليه من دفاع هنا هو عينه ما حثوا عليه هناك..

لقد شخص علماء الحوزة أن نتائج الاحتلال تتلخص في (اضمحلال الإسلام وذهابه، واضمحلال الشريعة والقرآن ونص تعبير الفتوى وفيما بعد إلا التثليث، ولا بعد الاقرار بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم إلا عبادة المسيح، ولا بعد استقبال الكعبة إلا تعلق الصليب، ولا بعد الأذان إلا قرع النواقيس).

لقد ندبت الفتوى العرب والعجم - كما عبرت - بلا فارق أو تمييز...

طلبت الفتوى وشجعت المسلمين على بذل الأنفس والأموال لشراء مرضاة الله تعالى ..

تحريك الرأي العام العالمي بأن ما تقوم به الدول المحتلة غير قانوني مطلقاً بل هو يخالف المعايير القانونية فضلاً عن المعايير الأخلاقية والدينية..

إعلان أن هذا الجهاد ليس جهاداً عن الوطن والعرض والمال وحسب بل هو جهاد عن التوحيد والدين وبيضة الإسلام..

الإشارة إلى أن مستند ومدرك الفتوى هو (إجماع المسلمين، ثم الاستدلال بقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ) .

تدل نصوص الفتاوى على أن العلماء المُفتُون قد اطلعوا على مدى آثار الاحتلال

ص: 87

وقد بينوا ذلك بقولهم: (فخربوا عامرها وأبادوا أبنيتها وقتلوا رجالها ونسائها وأطفالها).

تدل الفتاوى على أن العلماء استشرفوا مراحل الاحتلال وحذروا من السكوت عنه بقولهم أن بعد احتلال ليبيا سيتجهون لاحتلال البيت الحرام وحرم الرسول وآله الأطهار..

أكدت الفتاوى وحثت على الاتفاق والتوحد ونبذ الخلاف والتفرق بين جميع

المذاهب والفرق وتشخيص وتحديد العدو المشترك لمواجهته ودحره ..

المطلب الثالث: أصداء الفتوى في العراق

(النجف - الشامية - المشخاب - كربلاء - الكاظمية - البصرة - الأعظمية - سامراء)

تقول الدكتورة رنا سليم شاكر العزاوي، والباحث وائل جبار جودة النداوي في بحثهما المشترك في مجلة كلية التربية الأساسية جامعة بابل:

هبّ خطباء المنبر الحسيني من أجل التثقيف لتلك الفتوى، وخرج آلاف المتظاهرين في بغداد ولاسيما في باب المعظم والكاظمية، وكذلك في النجف وكربلاء والحلّة والشامية والبصرة، من أجل تلبية نداء المرجعية، وجمع المتظاهروين التبرعات لدعم المجاهدين في طرابلس(1).

وزعت الفتوى التي أسلفنا ذكرها في جميع أنحاء العراق وأمتد صداها إلى كل المسلمين في إيران وروسيا والهند وغيرها من البلاد الإسلامية، واندفع الناس بحماس كبير من أجل التطوع والتبرع..

وبدأت الصحف بالكتابة لدعم المجاهدين الليبيين، ونقل خطباء المنبر الحسيني فتوى المرجعية الدينية للجماهير وشرحوها لهم، وهذا الأمر زاد حماس الناس وتطلعاتهم للمشاركة في الجهاد إلى جانب إخوانهم في ليبيا، وأقيمت الاحتفالات ذات المظهر الديني لدعم المجاهدين هناك(2).

ص: 88


1- مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية / جامعة بابل / العدد (22) / آب 2015م.
2- الغزو الايطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911 مجلة الموسم، مجلة فصلية مصورة تعنى بالتراث والآثار العدد السادس، بيروت، 1990 ، ص .380

واحتشد الأهالي في بغداد بعد الهجوم على طرابلس في ساحة باب المعظم وتقدموا بتسجيل أسمائهم للتطوع، وفي يومي السادس والسابع من تشرين الأول عام 1911م، سارت مظاهرات أخرى في ذات المنطقة ضمت ما يقارب العشرة آلاف شخص كانوا ينقرون الطبول ويرددون أهازيج الحرب..

في الثامن منه تظاهرت حشود كبيرة من النساء والأطفال ورجال العشائر العربية في أزقة بغداد، وجرت مظاهرات مماثلة في الكاظمية حيث احتشد الأهالي عند الضريح وتكلم خطباؤهم فهاجموا إيطاليا ودعوا السنة والشيعة إلى توحيد صفوفهم ونبذ الخلافات الطائفية، وابتهلوا أن ينصر الله العرب الطرابلسيين في محنته..

وفي التاسع من تشرين الأول توجه المتظاهرون من مدينة الكاظمية عبر الجسر الخشبي إلى مدينة بغداد وكانوا يرددون هتافات بنصرة الطرابلسيين ويمزجونها بابتهالات دينية، ثم نظموا مظاهرة أخرى في العاشر من تشرين الأول عند ضريح الإمام موسى الكاظم علیه السلام.

وأثناء المظاهرات أطلقت العيارات النارية التي كانت بمثابة انذار للأوروبيين الموجودين في بغداد، وردد المتظاهرون عدة شعارات معادية لهم من بينها لعن الله كل أبو شفقه»(1).

وقام عدد من أعيان الشامية بتأليف جمعية في القضاء المذكور، وكان الشيخ مبدر الفرعون وأخوته من أوائل المتبرعين لها، حيث دفعوا ثلاثمائة ليرة، وتبرع الشيخ نفسه بخمسمائة ليرة أخرى، فضلاً عن ذلك عقد أهالي كربلاء اجتماعاً عاماً عند ضريح الإمام الحسين علیه السلام، وألقيت فيه الخطب الحماسية، ثم جمعت التبرعات فبلغت ستمائة ليرة يوم الرابع من تشرين الأول وسبعمائة ليرة في يوم الثامن من تشرين الأول.

ص: 89


1- الحركة القومية في العراق بين 1908 - 1914 اطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب جامعة بغداد عام 1980، ص 423-425

وتظاهر في الثاني عشر من تشرين الأول ما يقارب الألفين من الأهالي ثمّ احتشدوا عند ضريح الإمام الحسين علیه السلام ، وألقى السيد جواد الروزخون كلمة أثنى فيها على شجاعة الطرابلسيين.

وشهدت مدينتا النجف وسامراء مظاهرات مماثلة يومي الحادي عشر والسابع عشر من تشرين الأول، وألقيت الخطب الحماسية، ودعا الخطباء إلى نبذ الخلافات الطائفية وتوحيد الجهود، ثمّ تمّ جمع التبرعات فجمع أهالي النجف مائة وأثنين وأربعين ليرة خلال يوم واحد(1).

وتآزر المسلمون والمسيحيون على تشكيل لجان خاصة لمساعدة الطرابلسيين في حربهم، وفي اليوم السابع والعشرين من تشرين الأول، أعلنت أسواق البصرة إضراباً عاماً وتجمهر الأهالي خارج المدينة للاحتجاج على إيطاليا، وبدأوا يرددون أهازيج الحرب ويلوحون بأعلامهم ويطلقون العيارات النارية، وانضم إليهم أعداد كبيرة من الزنوج وهم ينقرون على الطبول والتحق بهم أعداد غفيرة من أهالي الزبير، فبلغ عدد المتجمهرين ما يقارب الثلاثة آلاف مواطن (2).

المبحث الثالث: المواقف المشابهة للحوزة العلمية في مواجهة المعتدين في زماننا المعاصر

لم يقتصر دور الحوزة العلمية وقادتها الربانيين على الموقف التاريخي الخالد تجاه الاحتلال الإيطالي لليبيا عام (1911م) بل تفاعلت النجف مع قضايا مفصلية في العالم العربي والإسلامي منها الوقوف مع المغرب العربي بعد الاحتلال الاسباني والفرنسي عام (1912م) ، والموقف من قضية الجزائر وثورة العراق الكبرى ضد الاحتلال البريطاني بقيادة المراجع العظام وعشائر الفرات الأوسط عام (1920م) ، ووقوف النجف مع فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي وقد ساهم الشيخ محمّد

ص: 90


1- شيعة العراق والقضية القومية العربية : الدور التاريخي قبيل الاستقلال مجلة المستقبل العربي، الأعداد 42-44 بيروت 1982، ص 81-82
2- المصدر السابق، ص 428

حسین كاشف الغطاء في مؤتمر القدس في كانون الأول (1931م) ونادى بمقاطعة المنتوجات الصهيونية وأمَّ المسلمين في صلاة الجمعة وانبرى علماء النجف وأدبائها وصحفها ومفكريها بمساندة الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد المستعمرين الغزاة وقد بين الدكتور محمد حسين الصغير دور شعراء النجف في تلك القضية في كتابه (فلسطين) في الشعر النجفي، واحتجاجات النجف المدوية ضد العدوان الثلاثي على مصر عام (1956م)..

ولا زالت مرجعية النجف العليا تقف مع قضايا المسلمين في العالم سيما مع القضية الفلسطينية، وإليكم أنموذجاً من بيانات مكتب السيد السيستاني حول الاعتداء الصهيوني على الشعب الفلسطيني عام ( 1423ه-) :

(الْعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) صدق

اللّه العلي العظيم.

يواجه إخوتنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة في هذه الأيام عدواناً صهيونياً متواصلاً قلّ نظيره في التأريخ الحديث. وتعجز الكلمات عن بيان أبعاده الوحشية، فقد عمّ الجميع ولم يسلم منه حتى الشيوخ والنساء والصبيان، وتنوعت أساليبه قتلاً وتعذيباً وترويعاً واعتقالاً وتشريداً وتجويعاً وهتكاً للحرمات واستباحة للمقدسات وتخريباً للمدن والمخيمات وتدميراً للبيوت والمساكن وبلغ حتى الممانعة من إسعاف الجرحى والمصابين ودفن أجساد الشهداء، ويجري كل ذلك بمرأى ومسمع العالم أجمع ولا مانع ولا رادع، بل إنه يحظى بدعم أمريكي واضح.

وإذا لم يكن من المترقب من أعداء الإسلام والمسلمين إلا أن يصطفوا مع المعتدين والغاصبين فإنه لا يترقب من المسلمين إلا أن يقفوا مع إخوانهم وأخواتهم في فلسطين العزيزة ويرصّوا صفوفهم ويجندوا طاقاتهم في الدفاع عنهم ووقف العدوان عليهم .

ص: 91

إن الوضع المأساوي الذي يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني المظلوم يقتضي أن لا يهنأ المسلمون في مطعم أو مشرب إلى أن يكفوا عن إخوانهم وأخواتهم أيدي الظالمين المعتدين.

لقد رُوي عن النبي الأعظم صلی الله علیه و اله و سلم أنه قال : (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)، ولذلك نهيب بالمسلمين كافة أن يهبّوا لنجدة الشعب الفلسطيني المسلم ويستجيبوا لصرخات الاستغاثة المتعالية منهم ويبذلوا قصارى جهدهم وإمكاناتهم في ردع المعتدين عليهم و استرداد حقوقهم المغتصبة وإنقاذ الأرض الإسلامية من أيدي الغزاة الغاصبين.

نسأل الله العلي القدير أن يأخذ بأيدي المسلمين إلى ما فيه الخير والصلاح ويمنّ عليهم بالنصر على أعدائهم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم)(1).

واليوم نشهد انتصارات الشعب العراقي الصامد على الهجمة الجاهلية الداعشية بفضل الموقف العظيم لمرجعية النجف الأشرف وفتواها الخالدة التي أنقذت العراق أرضا وشعبا وفكرا من مخطط مظلم رهيب لكن المرجعية وبتسديد من الله تعالى استطاعت أن تلعب دورها المرجو كما كانت بالأمس وخلصت العراق من الاحتلال والغزو فهي اليوم تنتفض كذلك وقد شهد لها القاصي والداني والقريب والبعيد بل العدو والصديق بحكمتها وعطفها وأبوّتها ودورها وستبقى كذلك إلى أن يرث الصالحون الأرض وتتحقق العدالة وينتشر القسط في ربوع المعمورة إن شاء الله تعالى..

أما تلك الفتوى الذي أذاعها ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي بتاريخ ( 14 شعبان / 1435ه-، 2014/6/13م) فقد جاء فيها:

(لا بد أن يكون لدينا وعي بعمق المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فهي مسؤولية شرعية ووطنية كبيرة).

ص: 92


1- (الموقع الرسمي لمكتب سماحة السيد علي الحسيني السيستاني. https://www.sistani.org/arabic/statement/1460/.

وأكد أنّ العراق وشعبه يواجهان تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً .. موضحاً أن الارهابيين لا يستهدفون السيطرة على بعض المحافظات مثل نينوى وصلاح الدين فقط، وإنما يستهدفون أيضاً جميع المحافظات، كما أعلنوا، ولا سيما بغداد وكربلاء والنجف، وجميع العراقيين في جميع مناطقهم.

وشدد على أنه لذلك فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مهمة الجميع ولا تخص طائفة دون أخرى أو طرف دون آخر.

وأضاف إن التحدي وإن كان كبيراً إلا أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمّل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من هذه التحديات والمخاطر.

وقال: إن المسؤولية في الوقت الحاضر هي حفظ بلدنا العراق ومقدساته من هذه المخاطر وهذه توفر حافزاً لنا للمزيد من العطاء والتضحيات في سبيل الحفاظ على وحدة بلدنا وكرامته وصيانة مقدساته من أن تهتك من قبل هؤلاء المعتدين ولا يجوز للمواطنين الذين عهدنا منهم الصبر والشجاعة والثبات في مثل هذه الظروف أن يدب الخوف والاحباط في نفس أي واحد منهم، بل لا بد أن يكون ذلك حافزاً لنا لمزيد من العطاء في سبيل حفظ بلدنا ومقدساتنا.

وأضاف: إن دفاع أبنائنا في القوات المسلحة وسائر الأجهزة الأمنية هو هو دفاع مقدس، ويتأكد ذلك حينما يتضح أن منهج هؤلاء الارهابيين المعتدين هو منهج ظلامي بعيد عن روح الإسلام يرفض التعايش مع الآخر بسلام ويعتمد العنف وسفك الدماء وإثارة الاحتراب الطائفي وسيلة لبسط نفوذه وهيمنته على مختلف المناطق في العراق والدول الأخرى.

وقال : إن منتسبي القوات المسلحة أمام مسؤولية تاريخية ووطنية وشرعية..

وخاطبهم قائلاً اجعلوا قصدكم ونيتكم ودافعكم هي الدفاع عن حرمات العراق

ص: 93

ووحدته وحفظ الأمن للمواطنين وصيانة المقدسات من الهتك ودفع الشر عن هذا البلد المظلوم وشعبه الجريح.

والمرجعية تحثكم على التحلي بالشجاعة والبسالة والثبات والصبر وإن من يضحي منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله وأعراضهم، فإنه يكون شهيداً إن شاء الله تعالى، والمطلوب أن يحث الأبُ ابنه والأمُّ ابنها والزوجة زوجها على الصمود والثبات دفاعاً عن حرمات هذا البلد ومواطنيه».

وشددت المرجعية على أن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن، وأهله وأعراض مواطنيه، وهذا الدفاع واجب على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الارهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ،ومقدساتهم، وعليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية.

ومن الجدير بالذكر أن المرجعية الدينية العليا لم تفت بالجهاد يوم اعتدى التكفيريون على مقدسات الشيعة في سامراء ففجروا قبة مرقد الإمامين العسكريين علیهما السلام عام ( 2007 م) ، بل أوصت بالصبر وقتها، ودرءاً لفتنة كادت أن تحرق الأخضر واليابس لولاها، كما أنها طالبت بالعض على الجراح والصبر على الألم وكظم الغيظ يوم استشهد أكثر من ألف زائر شيعي في المجزرة المعروفة بجسر الأئمة في ذكرى استشهاد كاظم الغيظ الإمام الكاظم علیه السلام في 2005 م، وغير ذلك

من الشواهد.

ولولا أن يكون الاختصار شرط من شروط المشاركة لبيّنا المزيد عن تلك المواقف والأدوار الجديرة بالدراسة، ليتعرّف العالم على هذه المؤسسة الربانية التي قالت

كلمتها الطيبة، واليوم أصبحت شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..

ص: 94

نتائج البحث

أثبت البحث أن الحوزة العلمية في النجف الأشرف غير منعزلة عن العالمية والإقليمية والمحلية فهي تراقب وترصد وتستشرف وتحلل وتشخص وتعالج ..

إن الحوزة العلمية في النجف الأشرف تتحرك حينما يكون هناك داعي لتحركها وفقاً لمعطيات مدروسة فهي تقدر الزمان والمكان والأسلوب المناسب للتحرك وكل ذلك من موقع المسؤولية الكاملة والشعور الحقيقي بها..

أثبتت المرجعية الدينية أن تعاملها مع القضايا العربية والإسلامية تعامل الإنسان تجاه أخيه الإنسان وتعامل المسلم تجاه أخيه المسلم، فهي فوق الطائفية والعرقية وغيرها والمدار هو الإنسانية والإسلامية ليس إلا..

كشف البحث مدى التفاعل الشعبي مع فتوى المرجعية عن طريق المظاهرات في المدن المقدسة وبقية المدن الأخرى وحملة التبرعات لنصرة الليبيين في طرابلس.

أثبت البحث وفاء الشعب العراقي لمرجعيته الدينية من خلال الاستجابة التامة لنداءات النصرة ..

ظهر من خلال البحث مدى تفاعل الشعراء وخطباء المنبر الحسيني والصحفيين مع فتوى المرجعية الدينية في ذلك الحين..

إن من يساهم في صناعة التاريخ المشرق وفق الكلمة الطيبة والموقف الشريف الشجاع سيخلده التاريخ وإن تعمد تجاهله المؤرخون والأسماء التي وردت في البحث (من العلماء المجاهدين) خير دليل على ما ندعي..

ص: 95

التوصيات

أولاً: أوصي بإقامة مؤتمر تعريفي بعلماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف لبيان مواقفهم الجهادية تجاه القضايا العربية والإسلامية سيما موقفهم من الايطالي لليبيا يقام في النجف الأشرف أو كربلاء المقدسة بالتعاون مع المقدسة وتدعى إليه شخصيات ليبية (سياسية ودينية وثقافية) معتدلة ليطلعوا عن قرب على تلك المواقف، مع تغطية إعلامية هادفة..

ثانياً: صناعة فلم وثائقي وفقا للموازين العلمية والفنية التخصصية يسوق للقنوات الفضائية التي ترغب في بثه ونشره..

ثالثاً: اصدار دراسة موضوعية تسلط الضوء على تلك المواقف لتنشر في كتاب مستقل أو مجلة محكمة، ويعمل على نشره في ربوع المعمورة سيما تلك الدولة

المعنية ..

المصادر والمراجع

* الجابري محمّد هليل الحركة القومية في العراق بين 1908-1914، اطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب جامعة بغداد عام 1980م.

* الجبوري كامل سلمان السيد محمد كاظم اليزدي سيرته وأضواء على مرجعيته ومواقفه ووثائقه السياسية، برهان ، ط: 1- 2006م. قم المشرفة.

* الجبوري كامل سلمان، وثائق الثورة العراقية الكبرى، دار المؤرخ العربي/ النجف الأشرف / ط : 1 - 2009م.

* حامش محمّد علي عمر المختار وحركة المقاومة المسلحة في ليبيا ضد الاستعمار الايطالي -1911-1931، مجلة المؤرخ ، العدد 39، بغداد، 1988.

* حرز الدين الشيخ محمّد معارف الرجال، ط: 1/ مطبعة النجف الأشرف، 1964م-النجف.

* الحسني السيد سليم دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار 1900م-1920م، ط/ بيروت 1995م.

* الحلي الشيخ عبد الحسين وضع تتمته كامل سلمان الجبوري، شيخ الشريعة، دار القارئ 2005 ، بيروت

ص: 96

* الخاقاني علي شعراء الحلة المجلد 3 المطبعة الحيدرية، النجف، 1953م.

* الزاوي الطاهر أحمد جهاد الأبطال في طرابلس الغرب، دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت، 1970.

* السبحاني الشيخ جعفر، موسوعة طبقات الفقهاء، دار الأضواء / بيروت - لبنان.

* السماوي الشيخ محمد الطليعة من شعراء الشيعة ، تحقيق: كامل سلمان الجبوري، دار المؤرخ العربي، ط: 1 / 2001م.

* شبر السيد جواد، أدب الطف، ط 1 دار المرتضى / بيروت - لبنان.

* الطريحي محمّد سعيد، المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي: الغزو الايطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911م، مجلة الموسم العدد السادس، بيروت، 1990م.

* الطهراني آغا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط 1 ، دار الأضواء، بيروت - لبنان.

* الطهراني آغا بزرك طبقات أعلام الشيعة نقباء البشر) ، مطبعة الآداب، النجف 1969م.

* العاملي محسن الأمين، أعيان الشيعة، ط: بيروت - 1963م.

* العذاري السيد حيدر حياة العالم الرباني الشيخ علي رفيش / ط :1 / دار الفضائل - 1438ه- .

* العذاري السيد حيدر محمّد رضا آل ياسين حياته - وفاته) ط: 1/ دار الفضائل - بيروت / 1437ه-.

* العذاري السيد حيدر، محمّد علي الأردوبادي / ط :1/ دار الفضائل / 1436ه-.

* قدوري زاهية تاريخ العرب الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، 1967.

* كمال الدين محمّد علي النجف في ربع قرن تحقيق وتعليق: كامل سلمان الجبوري، ط بيروت 2005م.

* مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية جامعة بابل/ العدد 22 / آب 2015

* محبوبة جعفر باقر، ماضي النجف وحاضرها، ط1 النجف 1958م.

* محمّد علي عبد الرحيم المصلح المجاهد الشيخ محمّد كاظم الخراساني، ط: النجف 197م.

* نظمي ميض جمال شيعة العراق وقضية القومية العربية الدور التاريخي قبيل الاستقلال مجلة المستقبل العربي، الأعداد ،42-44، بيروت، 1982.

ص: 97

* الوائلي إبراهيم الشعر العراقي وحرب طرابلس مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد السابع، بغداد، 1964.

* موقع سماحة السيد السيستاني.

* موقع العتبة الحسينية المقدسة.

* السيرة العلمية للباحث

* الباحث حيدر عبد الهادي علي العذاري

* ولد في النجف الأشرف عام 1980م / 1400ه-.

* حاصل على البكلوريوس في الفلسفة.

* درس النحو والبلاغة والفقه والأصول والتاريخ والتفسير وعلم الأديان المقارن في الحوزة العلمية في النجف الأشرف منذ عام 1998م ، والآن طالب مرحلة البحث الخارج.

* من أساتذته: السيد عدنان البكاء ، الشيخ حسن الجواهري، السيد أحمد الأشكوري، السيد عبد الحسين الطباطبائي القاضي السيد البدري، وغيرهم.

* مارس تدريس العقائد والفقه والتفسير والتاريخ لمجموعة من طلبة العلوم الدينية.

* اعتقل عام 1999م في مديرية أمن النجف ثم أطلق صراحه.

ص: 98

أهمية العراق الإستراتيجية للسياسة البريطانية:قراءة في دوافع وتطورات العلاقات البريطانية - العراقية حتَّى عهد الانتداب 1922م

اشارة

صباح کریم ریاح الفتلاوی(1)

إنَّ التنافس الاستعماري من أجل الحصول على مناطق نفوذ جديدة بدأ من القرن السابع عشر، وقد عَرَّض المنطقة العربية للسيطرة الأجنبية، فالتنافس الفرنسي - الإنكليزي أدى بالأخيرة إلى احتلال مصر 1882م إلَّا أنَّ هذا التنافس قد تلاشى ظاهرياً بعد أن وجدت هاتان الدولتان ما يُهدد مصالحها بظهور ألمانيا دولةً قوية منافسة لهما، حيث توطّد الوفاق بين الدولتين والذي ظهرت آثاره خلال الحرب الأولى في توزيعات سايكس - بيكو.

وفي الوقت الذي تُعلن فيه الدول الاستعمارية المُتنافسة أهدافها الظاهرية في تخليص المنطقة من السيطرة العثمانية، كما تُعلن أنّها تهدف إلى تطوير المنطقة وإنمائها، نراها في حقيقة الأمر تُخطِّط من أجل أهدافها الجوهرية الرامية إلى خدمة

مصالحها الاستعمارية.

ص: 99


1- أستاذ مساعد ودكتور في جامعة الكوفة / مركز دراسات الكوفة العراق. Dr. Sabah Kareem Reah Al-Fatlawi- Kufa Studies Center- University of Kufa. Iraq's strategic importance to British policy Reading the motives and developments of the British Iraqi relations until the mandate of 1922.

وبعد الحرب الأولى وفي الوقت الذي ركّزت بريطانيا نفسها في مصر بإعلان الحماية عليها، وتركيزها بالذات في قناة السويس على اعتبارها القاعدة البريطانية البحرية في منطقة الشرق الأوسط، كانت تحاول في الوقت نفسه إيجاد مناطق أخرى للدفاع الجوي، فاتجهت نحو العراق باعتباره موقعاً وسطاً بين مصر و والهند وهكذا تجسّدت المواقف البريطانية بناءً على إستراتيجيةٍ واضحة، بدفع من الرأسمال البريطاني التجاري في محاولةٍ لإيجاد أسواق وموارد كالمواد الأولية مع تصاعد أهمية المنطقة من الناحية الدفاعية والإستراتيجية .

وفي هذهِ الدراسة سنُسلِّط الأضواء على دوافع وتطورات العلاقات البريطانية - العراقية حتّى عهد الانتداب ،1922م من خلال النظرة البريطانية إلى أهمية العراق الإستراتيجية آنذاك.

تضمَّنت الدراسة مقدمة ومبحثين تناول المبحث الأول بإيجاز علاقة بريطانيا بالعراق وعوامل الاهتمام البريطاني بهِ، بينما تطرق المبحث الثاني إلى أثر الأوضاع الدولية في علاقات بريطانيا بالعراق وعوامل الاهتمام البريطاني به، وجاءت خاتمة الدراسة بأهمِّ الاستنتاجات والخلاصة في تحديد عوامل وتطورات علاقة بريطانيا بالعراق، فيما احتوت قائمة المصادر على جملةٍ من الكتب والوثائق باللغتين العربية والإنكليزية فضلاً عن الكتب المُعربة.

المبحث الأول : أثر الأوضاع الدولية في علاقات بريطانيا بالعراق وعوامل الاهتمام البريطاني بهِ

ارتبط مفهوم العلاقة بين بريطانيا والعراق منذ البدء بالمصالح والأطماع والاستعمار، وكان ذلك مع أوائل القرن السابع عشر حين كان العراق لا يزال ولايات ثلاث تابعة للدولة العثمانية (The Ottoman Empire المُترامية الأطراف، ومع مرور الأيام توسَّعت وترسَّخت هذه العلاقة، حتَّى أخذت شكلها الاستعماري بقيام بريطانيا بغزو وادي الرافدين واحتلالهِ أثناء الحرب العالمية الأولى، ومع النتائج المعروفة

ص: 100

التي آلت إليها تلك الحرب، أُسِّست دولة العراق المعاصر كدولةٍ واقعة تحت الانتداب البريطاني، بيد أنَّ ذلك لم يكن شيئاً عابراً، فقد ترسَّخ في العقل الجَمعي العراقي، مفهوم الاستعمار المُرتبط ببريطانيا، فهي التي احتلت العراق في الحرب العالمية الأولى بعد حرب دامية مُكلفة استغرقت أربعة أعوام بحجَّة التحرير، وهي التي فرضت عليه الاحتلال وهي التي أسَّست الجيش العراقي، ثمَّ قامت (بإنشاء) الدولة المعاصرة من الولايات العثمانية السابقة (بغداد البصرة، الموصل)، وفرضت عليه الانتداب ونصّبت عليهِ ملكاً من الحجاز، ثمَّ كبّلته بالمُعاهدات الاستعمارية، وأنشأت فيه القواعد العسكرية (1).

لقد تركت هذهِ العلاقة المعقَّدة بصماتها الواضحة بعُمق على الدولة والمجتمع العراقي، فكان بناء العراق المعاصر، والانتقال بهِ من المجتمع المتخلف، يحمل بصمات وطبائع وأهداف بريطانية، فبريطانيا كانت وراء إنشاء كل مؤسَّسات الدولة الجديدة، وأصبحت اللغة الإنكليزية هي اللغة الثانية في العراق، وكانت هي اللغة الأولى والسائدة في مؤسَّساتٍ كثيرة كالتعليم العالي والسكك والموانئ والطيران، وهذا يعني من بين أمور أخرى انعكاس الأنظمة البريطانية على مناحٍ كثيرةٍ من الحياة في العراق مما يتطلَّب وجود جالية بريطانية كبيرة فيه، لا سيّما أنَّ كثيراً من مؤسَّساتهِ كانت تُدار بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة من الإنكليز كشركات النفط والمصافي، وأنَّ الأمر يتطلب وجود المستشارين كما في كلِّ الوزارات والجيش والدوائر المهمة الأخرى، الأمر الذي أوجد دوراً مهماً وخطيراً للسفارة البريطانية في بغداد، إذ جعلها تتحكّم في كلّ أمور الحياة(2). ولسعة وتشعب هذهِ العلاقة، سنقف على أهمِّ المحطَّات التي تخدم الغرض من هذهِ الدراسة وبحدود ما يسمح بهِ البحث.

العراق والسيطرة العثمانية:

بعد سلسلةِ حروبٍ متصلة بين الدولتين العثمانية والصفوية، أصبح العراق جزءاً

ص: 101


1- العطية غسان العراق.. نشأة الدولة (1908-1921م)، ترجمة: عبد الوهاب الأمين (لندن، دار اللام، 1988م)، ص 130
2- المرجع نفسه، ص ص 133-134.

من الدولة العثمانية وذلك منذ القرن السادس عشر الميلادي، عندما احتل السلطان سليم الأول(1)مدينة بغداد في العام 1534م ، ومن المعروف أنَّ الدولة العثمانية استمرت تبسط سلطانها على المنطقة العربية في قلب الشرق الأوسط ما يقرب من أربعة قرون، لحين زوال تلك السلطة نهائياً من هذهِ المنطقة في القرن العشرين عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، وعلى هذا فإنَّ مصير (العراق) ومستقبله كان قد تقرر استناداً إلى علاقات الدولة العثمانية مع الدول الأوربية، لا سيّما أنَّ التوجهات العثمانية نحو الشرق قد اصطدمت بجدار دولة فارس الصفوية (2).

كانت ملامح الضعف والتراجع في الدولة العثمانية قد بدأت في الظهور أواخر القرن الثامن عشر، وقد شغل أذهان الساسة في أوروبا التفكير في مصير هذهِ الدولة ووراثة أملاكها، ومنذ ذلك الوقت المُبكِّر وأثناء القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا وروسيا وفرنسا هي الدول الأكثر اهتماماً بمصير الدولة العثمانية ومصير أملاكها، فبريطانيا رغبت في تأمين طُرق مواصلاتها إلى الشرق الأقصى والهند خصوصاً، سواء عن طريق قناة السويس والبحر الأحمر أو عن طريق الخليج العربي ونهري دجلة والفرات، أمّا روسيا فقد أرادت أن تجد لها منفذاً من البحر الأسود إلى البحر المتوسط بالاستيلاء على القسطنطينية ومضايق البسفور والدردنيل، فضلاً عن أحلامها في الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي(3)، بينما أخذت فرنسا على عاتقها منذ زمنٍ مبكِّر حماية مصالح رعايا الدولة (المسيحيين في شرق المتوسط)، إنَّ هذهِ الدول الثلاث كما

ص: 102


1- السلطان سليم الأول : سليم الأول بن بايزيد الثاني، تاسع سلاطين الدولة العثمانية . ولد في مدينة اماسية بالأناضول في 1470م اتصف بالشجاعة والإقدام، وتولى مناصب عدة في عهد والده، وبعد وفاة والده في مايس 1512م تولى عرش السلطنة. هزم الجيش الصفوي بقيادة الشاه إسماعيل في معركة جالديران 1514م وأنهى احتلالهم للعراق، دخل في حروب مع المماليك والبرتغاليين. توفي في 22/ أيلول /1520م للمزيد يُنظر : المحامي، محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، القاهرة، دار النفائس، 2006م)، ص186.
2- المرجع نفسه، ص 144
3- أوصى بطرس الأكبر (1682) Peter the Great-1725م) قيصر روسيا القياصرة الذين جاءوا من بعده بالوصول إلى مياه المحيط الهندي الدافئة، بعد أن استطاع بموجب معاهدة 1723م، مع الدولة العثمانية، السيطرة على الأقاليم الفارسية المجاورة لبحر قزوين ينظر نورس علاء موسى كاظم العراق في العهد العثماني.. دراسة في العلاقات السياسية (1700-1800م) ، (بغداد، دار الرشيد للنشر 1979م) ، ص 96؛ ويذكر كرزن أنَّ إنشاء ميناء روسي على الخليج العربي هو حلم الوطنيين المتحمسين من أهل الفولكا نهر) مشهور يمر في موسكو)، لكن هذا الحلم سيكون عنصر اضطراب في الخليج العربي حتّى في وقت السلم، وسيضر بتوازن القوى الذي فرضته بريطانيا بعد مجهود شاق. للمزيد عن الموضوع، يُنظر : 49.Gurson. G. N., Persia and the Persian, London: question, 1892, Vol.2, p.

سنرى فيما بعد هي الدول التي شاركت في رسم قسمة أملاك العثمانيين، «رجل أوروبا المريض»(1) أثناء الحرب فيما عُرف باتفاقية (سايكس - بيكو)(2).

المسألة الشرقية:

المسالة الشرقیه(3):

ركَّزت الدول الأوروبية عند النظر في مصير الدولة العثمانية، على ضرورة المُحافظة على توازن القوى، وعدم الإخلال بالتوازن الدولي في أوروبا. ولقد ترتَّب على محاولة الوصول إلى حلِّ لمشكلة مصير الدولة العثمانية وأملاكها في القرن التاسع عشر وحتّى أوائل القرن العشرين، أن برز ما صار يُعرف باسم «المسألة الشرقية». وانبرى كثيرون لتعريف هذا المصطلح في ضوء المُحاولات التي هدفت للتوفيق بين مصالح الدول المتُضاربة على حساب الدولة العثمانية (4)، وكان واضحاً أنَّ أكثر اهتمام الدول الأوربية كان موجَّهاً لتقرير الكيفية التي يمكن بها ملء الفراغ الذي ينجم من تقلص الحكم العثماني في أوروبا (البلقان)(5)، بيد أنَّ الدول الأوروبية تمكَّنت من إيجاد

ص: 103


1- الرجل المريض: أسم أطلقه قيصر روسيا نيقولاي الأول (1825) Nicholas-1855م على الدولة العثمانية سنة 1853م بسبب ضعفها، ودعا بريطانيا إلى أن تشترك معه في اقتسام أملاك الدولة، ثمَّ شاع هذا الأسم بعد ذلك واستعملته الدول الأوربية الأخرى للمزيد يُنظر : الصلابي، محمد علي الدولة العثمانية .. عوامل النهوض وأسباب السقوط، (القاهرة، 1979م) ، ص ص 22-24.
2- اتفاقية سايكس - بيكو ((sykes-Picot Agreement): هي الاتفاقية التي وقعت في 16 أيار/1916م، بين بريطانيا وفرنسا وانضمت إليها روسيا، وبموجبها حصلت بريطانيا على العراق وفلسطين وحصلت فرنسا على سوريا، أما روسيا فحصلت على ولايات أرضروم و طرابزون وبتليس وجزء كبير من شمالي كردستان يمتد إلى الحدود الفارسية. للمزيد، ينظر: مصطفى، أحمد عبد الرحيم في أصول التاريخ العثماني، (بيروت، 1983م)، ص ص 190-192.
3- المسألة الشرقية : المقصود بها النزاع بين الدول الأوربية الكبرى في المدة من أواخر القرن الثامن عشر حتى انتهاء الدولة العثمانية في 1923م، وتمحور هذا النزاع حول الدولة العثمانية بشأن البلاد الواقعة تحت سلطانها، وبعبارة أخرى هي مسألة وجود الدولة العثمانية نفسها في أوربا، وقد استخدم مصطلح المسألة الشرقية لأول مرة في مؤتمر فيرونا الذي عقده المحفل الأوربي سنة 1822م للمزيد يُنظر : التكريتي، هاشم صالح المسألة الشرقية.. المرحلة الأولى (1856-1774م) ، (بغداد بيت الحكمة 1990م ص 21 حسين فاضل ،وآخرون التاريخ الأوربي الحديث (1815- 1839م)، (بغداد، 1982م)، ص ص 52-58.
4- أنيس محمد والسيد رجب حراز الشرق العربي في التاريخ الحديث والمعاصر، القاهرة، دار النهضة العربية، د.ت.)، ص 199.
5- حرب البلقان في تشرين الأول من عام 1912م اشتعلت الحرب بين دول البلقان المتحالفة (بلغاريا والصرب واليونان والدولة العثمانية، تمكنت خلالها دول البلقان من تحقيق انتصارات سريعة على الدولة العثمانية، واستطاعت الدول الكبرى من خلال مؤتمر لندن أن تضع حداً لهذه الحرب في أيار من عام 1913م، وتحقيق السلام الذي اضطرت الدولة العثمانية بموجبه إلى التخلي عن جزيرة (غاليبولي) التي كانت تحت سيطرتها منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي. للتفاصيل، يُنظر .ه-. أ. ل. فشر، تاريخ أوربا في العصر الحديث (1789-1950م)، تعريب: أحمد نجيب هاشم وديع الضبع ط8 ، (القاهرة 1984م)، ص ص 453-454

حلّ للمسألة الشرقية عن طريق مؤتمر برلين (1878م)، إذ استطاعت تصفية القسم الأكبر من هذهِ المسألة باستقلال دول البلقان(1)، وهكذا يصح القول أنَّه أمكن تسوية المسألة الشرقية قبل قيام الحرب العالمية الأولى.

من الواضح أنَّ التسوية التي تمَّ الاتفاق عليها قد تركَّزت في أملاك تركيا في البلقان، ولذلك لم تفقد تركيا من أملاكها العربية سوى ليبيا، إذ بقيت الدولة العثمانية محتفظةً بسلطانها الفعلي أو بحقوق سيادتها أو بنفوذها الإسمي على المنطقة العربية في الشرق الأوسط، حتّى قيام الحرب العالمية الأولى(2).

تجدد البحث في مصير الدولة العثمانية وأملاكها التي بقيت لها بعد الحروب السابقة، منذ أن بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وذلك لانضمام تركيا إلى جانب ألمانيا والنمسا ضدّ دول الوفاق الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وروسيا) في هذهِ الحرب. ولهذا فإنَّ كسب الحرب وهزيمة الدولة العثمانية كانا أمرين ضروريين لتحقيق هدف تجريد الدولة العثمانية من أملاكها وإنهاء نفوذها في الشرق الأوسط، قبل معالجة موضوع ملء الفراغ الذي نشأ في تلك المنطقة، ويبدو أنَّه على خلاف ما حدث عند تسوية المسألة الشرقية، لم تشأ دول الوفاق أن يملأ الفراغ المنتظر حدوثه وحدات سياسية ذات كيان مستقل، كالدول التي أُسِّست في البلقان، بل أرادت إخضاع المنطقة إمَّا لسلطانها الفعلي وإمَّا لنفوذها غير المباشر(3).

وكانت مسألة التعجيل في هزيمة الأتراك وإخراجهم من الشرق الأوسط هي الشغل الشاغل لدول الوفاق - لا سيّما بريطانيا ، إذ رأت تلك الدول أنَّ الحلّ يكمن في تحريض العرب في تلك المنطقة على الأتراك؛ لذلك حرك الإنكليز بواسطة جواسيسهم ورجالهم في المنطقة ومنهم (لورانس)(4)القبائل العربية في الحجاز

ص: 104


1- المرجع نفسه،ص200
2- مجموعة من الأساتذة العراقيين العراق في التاريخ بغداد، مطبعة الثورة، 1983م)، ص 633.
3- المرجع نفسه، ص 634.
4- توماس إدوارد لورنس (1888) Thomas Edward Laurence-1935م): مغامر سياسي بريطاني، عمل في المخابرات التابعة للجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى في مصر، ثمَّ انضم سنة 1916م إلى القوات العربية المحاربة ضدَّ الدولة العثمانية بقيادة فيصل الأول، ألف كتباً كثيرة، أهمها أعمدة الحكمة السبعة ينظر الكيالي، عبد الوهاب وكامل زهيري الموسوعة السياسية، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974م)، ص463.

لإعلان الثورة، وسعوا لاستمالة الشريف حسين بن علي شريف مكَّة(1)إلى جانبهم، ومساعدته في إعلان الثورة، بيد أنّ مطامح الإنكليز كانت ترنو بشغف ورغبة كبيرة إلى منطقة وادي الرافدين(2).

أكَّد السير مكماهون (3)في رسائل عدَّة بعث بها إلى الشريف حسين، ضرورة قيام العرب بالثورة ضدَّ الأتراك، ووعد بمساعدتهم في نيل الاستقلال، وجاء في بعضٍ من تلك الرسائل ما يلي: «أمَّا في خصوص ولايتي بغداد والبصرة، فإنَّ العرب تعترف انَّ مركز بريطانيا العظمى الموطَّدة ومصالحها هناك تستلزم اتخاذ تدابير إدارية، لا سيَّما لوقايةِ هذه الأقاليم من الاعتداء الأجنبي، وزيادة خير سكَّانها، وحماية مصالحنا الإقتصادية المتبادلة»(4)، وأكَّد السير مكماهون للشريف حسين: «أنَّ حكومة بريطانيا العظمى كما سبقت فأخبرتكم مستعدة لأن تعطي كلَّ الضمانات والمساعدات إلى المملكة العربية، ولكن مصالحها في ولاية بغداد تتطلَّب إدارة ودية ثابتة كما رسمتم، على أنَّ صيانة هذهِ المصالح كما يجب تستلزم نظراً أدق وأتم مما تسمح بهِ الحالة

الحاضرة والسرعة التي تجري بها هذهِ المفاوضات»(5).

بريطانيا والاهتمام بالعراق:

يرجع تفكير بريطانيا في العراق إلى عهود سابقة طويلة سبقت الحرب العالمية

ص: 105


1- الشريف حسين بن علي شريف مكة: هو الحسين بن علي بن مُحمَّد بن عبد المعين من آل عون، ولد في إستانبول عام 1853م، ثم انتقل مع أسرته إلى مكة عام 1855م عند إسناد منصب الشرافة لجده، وفي عام 1893م عين عضواً في مجلس شورى الدولة، وفي تشرين الثاني 1908م عين أميراً لمكة وبقي على شرافتها إلى أن أُجبر على التنازل عن الملكية لابنه الكبير الشريف علي في أيلول 1924م، ونُفي إلى جزيرة قبرص في حزيران 1925م. توفي في 4/ حزيران/1931م. للمزيد، يُنظر : جار شلي إسماعيل حقي أوزون أمراء مكة المكرمة في العهد العثماني، ترجمة: خليل علي مراد (البصرة، مطبعة جامعة البصرة (1985م)، ص ص 182-185.
2- P. Graves, The life of sir Persy Cox, London: 1941, p. 182.
3- سير هنري مكماهون Henry McMahon : ولد في 28 نوفمبر / 1862م في الهند. الممثل الأعلى لملك Sir بريطانيا في الهند. عمل مديراً في الهند، اشتهر بمراسلاته مع شريف مكة الحسين بن علي بين عامي (1915-1916م) خلال الحرب العالمية الأولى. توفي في كانون الثاني من عام 1949م في لندن. للمزيد، ينظر: The New Britannic Encyclopedia, London: 1973, vol. 3, p.993.
4- مذكرة السير مكماهون الثانية إلى الشريف حسين بن علي القاهرة 24 تشرين أول/1915م،:مقتبس من: العطية، مصدر سابق، ص 182.
5- مذكرة السير مكماهون الثالثة إلى الشريف حسين بن ،على القاهرة 13/ كانون أول/1915. مقتبس من: العطية، مصدر سابق، ص 191.

الأولى، فنظراً لموقعهِ الجغرافي ومركزه السوقي، وعلاقته الوثيقة بجنوب إيران وخليج البصرة، فإنَّه من غير الطبيعي أن تغفل عنه دولة استعمارية وتجارية كبرى كبريطانيا العظمى(1)، ولم يكن الاهتمام بسلامة المواصلات الإمبراطورية والمحافظة على طريق الهند (درَّة التاج البريطاني) الحافز الوحيد للتفكير والاهتمام بأرض ما بين النهرين(2)، إذ كانت هناك أسباب مهمة أخرى لاهتمام بريطانيا بالعراق، منها:

1. إنَّ موقع العراق الإستراتيجي بين الشرق والغرب، كان عاملاً جوهرياً وأساسياً في توجيه انتباه البريطانيين وتحديد مسارات تغلغلهم ونفوذهم فيه، وإنَّه قلب الشرق الأوسط، وخطورة موقعهِ هذا تُفسّر جوانب من صراعهِ الطويل مع قوىّ أجنبية عديدة (3).

إنَّ لكلّ دولةٍ من عالمنا هذا موقع جغرافي له ميزاته الخاصة، ولكن هناك دول لَعِبَ موقعها الجغرافي أخطر دور في تاريخها، ومن هذهِ الدول (العراق)، فهو معبر عالمي بين الشرق والغرب، كما أنّه قلب العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه يقع على الطرف القصي الشرقي للوطن العربي(4). ويقع العراق في موضع يجعله طريقاً عالمياً، وفي الوقت نفسهِ مُلتقى لطرق العالم كلِّها ، ولقد كانت هذهِ القطعة من الأرض تبدو بالنسبة إلى القطعان البشرية الجائعة خلال العصور كنزاً للكثير من أولئك الذين كان يحركهم الشعر القائل «وطن الإنسان هو المكان الذي يجد رفاهه فيه»، فأين يمكن العثور على منطقةٍ مثل هذه كبيرة كانت أم ،صغيرة، قد منحت العالم، أو أخذ منها العالم هذا الشيء الوفير»؟(5).

وفي ظلِّ اشتداد التنافس الاستعماري الذي شَهِدته المنطقة في القرن التاسع عشر، تمكَّنت بريطانيا من تحقيق الأرجحية في العراق، حتّى غدا يشغل حيزاً كبيراً تفكيرها الإستراتيجي.

ص: 106


1- البزاز عبد الرحمن العراق من الاحتلال حتَّى الاستقلال، ط3، (بغداد، مطبعة العاني، 1967م)، ص42.
2- المرجع نفسه، ص43.
3- ویلسون، آرنولد تي، بلاد ما بين النهرين بين ولائين ترجمة فؤاد ،جميل، ط2، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1991م)، (المقدمة)، ج 1، ص (أ).
4- نوار، عبد العزيز سلمان، المصالح البريطانية في أنهار العراق، (القاهرة، مكتبة الإنجلو المصرية، 1968م)، ص3.
5- فوستر هنري نشأة العراق الحديث، ترجمة: سليم طه التكريتي (بغداد ، المكتبة العالمية، 1989م)، ج 1، ص7.

إنَّ ثلاثة عقود من القرن التاسع عشر (1830-1860م) كانت خطيرةً جداً في تاريخ العراق، إذ تميَّزت بتضخم مصالح بريطانيا، وتعدد مشاريعها واستقرار نفوذها في ربوعهِ، فقد كان الهدف الإستراتيجي البريطاني في تأمين السيطرة على خطوط المواصلات الدولية المؤدية إلى الهند يعني الدفاع عن وجود الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، والعراق عظيم الأهمية من وجهة نظر الدفاع عن هذهِ الإمبراطورية وحفظ مواصلاتها(1).

2. كان الموقف السياسي في العراق أثناء القرن الثامن عشر، يساعد على تغلغل النفوذ البريطاني، فقد كان المماليك يحكمون العراق منذ العام 1704م، وكان هؤلاء رغم تبعيتهم الإسمية للسلطان العثماني ينفردون بالحكم في العراق، ولذلك هم في حاجة إلى المساعدة وتأييد دولة كبرى ضدَّ أيَّ محاولة من جانب السلطة العثمانية لإرجاع نفوذها المباشر في العراق، وفي الوقت نفسهِ ضدّ محاولات فارس في بسط نفوذها على العراق، وقد نتج عن ذلك تقارب بين ولاية بغداد والسلطات البريطانية في بومباي، فقد وافق ولاة بغداد على تطبيق قاعدة الامتيازات التي كانت تمنحها الدولة العثمانية للأوروبيين، كما أنَّ بغداد كانت في أشدِّ الحاجة إلى مساعدة بريطانيا لمواجهة الخطر الوهابي الذي ظهر في نجد، جنوب العراق(2).

3. الصراع الدولي فقد شَهِدت منطقة الخليج العربي منذ بداية القرن السابع عشر صراعاتٍ دامية بين الدول المتنافسة، فكان الصراع البريطاني البرتغالي، ثمَّ الصِدام البريطاني الهولندي، وانتهت الأمور أخيراً لصالح السيادة البريطانية في الخليج، ففي أواخر القرن الثامن عشر أصبحت لبريطانيا العظمى الأرجحية تجارياً وسياسيا(3).

لكن التطور الخطير في سياسة بريطانيا وموقفها ليس تجاه الخليج العربي فحسب، بل تجاه وادي الرافدين ومنطقة الشرق الأوسط حدث مع بداية القرن التاسع

ص: 107


1- المرجع نفسه، ص7.
2- أنيس ، مرجع سابق، ص ص 100-103.
3- غازي علي عفيفي علي الصراع الأجنبي على العراق والجزيرة العربية في القرن التاسع عشر، بيروت، دار الرافدين، 2015م)، ص ص 11-16.

عشر، وعند ذلك لم يعد إحراز الأرجحية في نظر بريطانيا مجرد أمر مُحبَّذ أو مرغوبٌ فيه، بل لا بدَّ منه لصيانة مصالحها، وهيبتها في هذهِ البقعة من العالم، ولقد كان العامل الأكبر في حدوث هذا التطور الخطير، ظهور منافس عتيد على مسرح الشرق، ذلك هو نابليون بونابرت (1)بقيامه بغزو مصر، واتضاح خطره على الهند، فكان عصر نابليون هو العصر الذي أسَّس فيه النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط بصورةٍ جدية(2).

وكان على العراق أن يتحمل المزيد من عبء الصراع الدولي الذي أخذ أبعاداً أكثر تعقيداً وخطورة، لا سيّما مع التقارب التركي الألماني والأطماع الروسية في فارس والخليج العربي، ومعها دخلت المصالح الإستراتيجية البريطانية في العراق مرحلةً جديدة شَهِدت أوجهاً أخرى من التغلغل البريطاني، من خلال العديد من المنافذ والوسائل ومنها خطوط السكَّك الحديد المواصلات التلغرافية، مشاريع التنقيب الآثاري، مؤسَّسات التبشير الجاليات البريطانية تعدد القنصليات، فضلاً عن زيادة عدد الشركات التجارية والمِلاحية البريطانية. وهذا يعني أنَّ أهمية العراق الإستراتيجية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، لم تزد إلاَّ قوةً وتأكيداً، بل إنَّ العراق أصبح منطقة نفوذ بريطانية فعلاً، لذلك عبَّر أحد الإنكليز المهتمين بالسياسة والتاريخ، قائلاً: «لم يكن ليغيب عن بال الجميع في العراق، أنَّ مستقبل بريطانيا العظمى في العراق سائرٌ إلى الأهمية لا محالة، وربما ليصبح شيئاً أعظم» (3).

4. العامل الاقتصادي، فقد كان العراق مصدراً مهماً للموارد الاقتصادية والمواد الأولية التي تغذي الصناعة البريطانية، كما يُعد سوقاً مهماً لصناعتها وبضاعتها التي تحتاج إلى أسواق لتصريفها(4).

ص: 108


1- نابليون الأول Napoleon Bonaparte : هو قائد عسكري و حاكم فرنسا وملك إيطاليا وإمبراطور الفرنسيين (1769-1821م)، خاض معارك عديدة احتل بها نصف أوربا، وفي النهاية خرج مهزوماً على أيدي بريطانيا وحلفائها للمزيد، ينظر : سليمان علي حيدر، تاريخ الحضارة الأوربية الحديثة، بغداد، دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع، 1990م)، ص ص 199-216.
2- صالح، زكي، بريطانيا والعراق حتّى عام 1914م، (بغداد، مطبعة العاني، 1968م)، ص57.
3- لونكريك، ستيفنسن هيمسلي، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر الخياط، ط6، (بغداد، مكتبة اليقظة العربية، 1985م)، ص 336.
4- Mohammed A. Tarbush, The Role of the military in politics,.. a case study of Iraq to 1941, Isted, London: 1983, p.31.

ولقد قامت بعثات الخبراء البريطانيون وفي المقدمة منهم مهندسو الري بإرسال بعثةٍ فنية للقيام بمسح مشاريع الري القديمة في العراق وتحديث التصاميم اللازمة لإحيائها، وإنَّ مهمة بعثة الري الفنية هذهِ التي استمرت زهاء سنتين، تمكَّنت دراسة مختلف نواحي العراق وطبيعة أرضهِ وتضاريسهِ، وهي خطوة مهمة عززت فيها بريطانيا من نفوذها في العراق قبل نشوب الحرب العالمية الأولى(1).

وفضلاً عن النفوذ التجاري والاقتصادي المُتزايد فقد سعى البريطانيون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الكشف عن سُبُلٍ جديدة للتوغل في أرض ما بين النهرين، فأنشؤوا مثلاً دوائر بريد بريطانية هندية في بغداد والبصرة، وكذلك كانت طريقاً لأسلاك البرق التي تصل الهند بإنكلترا، التي تربط الأسلاك البرية للخط التركي بأسلاك بحرية تتصل عبر مدينة الفاو، كما وضعوا الخطط اللازمة لإنشاء خط سكَّة حديدية يمتد من بغداد إلى البصرة؛ لاستخدامها في المواصلات العسكرية والاقتصادية التي تخدم مصالح بريطانيا الحيوية داخل العراق وخارجهِ من خلال ربطهِ بالخليج العربي(2).

إنَّ المصالح الاقتصادية كما هي الحال عَبرَ التاريخ، تجلب معها النفوذ السياسي والتدخل الاجنبي، فقد تحول خليج البصرة إلى بحيرةٍ بريطانية هندية، الأمر الذي دفع ب- «اللورد كرزون» نائب الملك في الهند(3)إلى القول بأن:«العلاقة بين بريطانيا والخليج قد انفصلت عن دفاتر التجارة إلى حقائب السَّاسة»(4).

ص: 109


1- نظمي، وميض جمال ،عمر الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية (الاستقلالية) في ،العراق، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية (1984م ، ص ص 400-401 البزاز، مرجع سابق، ص 59.
2- إبراهيم عبد الفتاح على طريق الهند (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2004م)، ص 72 Zaki saleh, Mesopotamia (Iraq) (1900-1914), Baghdad: 1957, Pp. 153- 154.
3- اللورد كيرزن 1859) Lord George Curzon-1925م : سياسي بريطاني معروف، تولي مناصب إدارية وسياسية عديدة في حكومة الهند البريطانية حتّى أصبح نائباً للملك في الهند بين (1899-1905م)، ثم أصبح عضواً في مجلس اللوردات عام 1908م، وظلّ في هذا المنصب حتَّى وفاته. للتفاصيل، يُنظر: The New Encyclopedia Britannic، vol.3, London: 1973, p.807.
4- آیرلاند فيليب العراق.. دراسة في تطوره السياسي، ترجمة: جعفر الخياط، بيروت، دار الكشاف للطباعة، 1949م)، ص 37

5. الحرب العالمية الأولى، فهناك عوامل عدَّة ربطت دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى بالعراق. ومن أبرز تلك العوامل ما يأتي:

أ. إنَّ العراق جزء من الدولة العثمانية التي انضمت إلى جانب ألمانيا والنمسا ضدَّ دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية)، فمن الطبيعي أن تهاجم بريطانيا (العراق) بوصفهِ من أملاك الدولة العثمانية، فضلاً عن ميراث الموقع والثروات والخصائص الأخرى التي يمتلكها.

ب. النفط: حصلت بريطانيا بواسطة المهندس البريطاني (وليام دارسي)(1) في سنة 1901م من مظفّر الدين شاه(2) على امتياز التنقيب عن النفط، واستخراجه في منطقة جنوب إيران لمدة ستين سنة، فتشكَّلت (شركة النفط الإنكليزية الفارسية)، لتتولَّى القيام باستثمار ينابيع النفط الأراضي الإيرانية(3)، ولمَّا نشبت الحرب العالمية الأولى، تبيَّن للجميع بأنَّ لا سبيل إلى النصر إلاَّ بتأمين إمدادات النفط، إذ أصبح النفط المحرك الرئيس لماكنة الحرب، بيد أنَّ هناك كان يعتقد أنَّ الدفاع عن مصالح شركة النفط البريطانية في إيران هو الباعث إلى حملة العراق، مع أنَّ الحكومة البريطانية كانت تعتقد أنَّ النفط وحده لا يدعو إلى إرسال حملة كحملة العراق، فثمَّة مصالح أخرى ذات أهمية بالغة وذات جذور تاريخية دعت إلى تلك الحملة، ولكن سرعان ما ازداد الأمر أهميةً بعد أن أصبح النفط المُجهَّز من حقول عبَّادان، العامل الأول في تحقيق أهداف الحرب، الأمر الذي جعل الشركة تُضاعف

ص: 110


1- ولیم نوکس دارسي (1849) William N. Darcy-1917م) مهندس بريطاني هاجر إلى أستراليا، وعمل في مناجم الذهب فجمع ثروةً كبيرة، ثم عاد إلى بريطانيا، وفي عام 1901م حصل على امتياز النفط على سواحل الخليج العربي في إيران وبعد سنتين على منح الامتياز قام دارسي بتأسيس شركة لاستثمار النفط برأسمال مقداره (600) ألف جنيه إسترليني، وحصل دارسي على أرباح كبيرة خلال أعماله في حقول النفط الإيرانية، وقدَّم بعدها طلباً إلى الحكومة العثمانية للحصول على امتياز النفط العراقي. للتفاصيل، يُنظر : ميكائيل بروكس، النفط والسياسة الخارجية، ترجمة: غضبان السعد، (بغداد، 1951م)، ص42 S. H. Longrrigg, Oil in the Middle East, London: Groom Hel, Mltd., 1968, Pp. 17-36.
2- مظفر الدین شاه (1853-1907م) : خامس ملوك أسرة آل قاجار، اختاره والده ناصر الدين شاه ولياً للعهد وهو في سن الخامسة من عمره، اتصف بالثقافة والتحدث بأكثر من لغة كان ضعيف الشخصية مما أدى إلى سيطرة حاشيته على مقاليد الحكم للتفاصيل، يُنظر : المالكي، لازم لفته ذياب إيران في عهد مظفّر الدین شاه (1896-1907م)، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة البصرة ، كلية الآداب، 1979م، ص ص 39-43.
3- إبراهيم، مرجع سابق، ص174.

جهودها، فقد زاد إنتاج شركة النفط الإنكليزية الفارسية من (270) ألف طن في عام 1914م، إلى (900) ألف طن في نهاية الحرب(1).

كانت بريطانيا تنظر إلى ولاية البصرة أثناء تلك الحِقبة، بوصفها جزءاً وثيق الصِلة بالقسم الجنوبي من إيران والخليج، فكثّفت جهودها لتثبيت مركزها العسكري والسياسي والاقتصادي في البصرة وإيران والخليج ولقد كانت البصرة وما يُحيط بها ذات أهمية حيوية للإنكليز، أمَّا القسم الشمالي (بغداد والموصل) فلم يكن يمثل الأهمية الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية، وكان هذا التقسيم واضحاً في أذهان البريطانيين منذ العام 1898م، إذ إنَّ النصف الجنوبي من العراق يؤلف جزءاً من الخليج، وهو المنطقة «التي خلقت فيها الدبلوماسية البريطانية لمدة قرنين وضعاً فريداً، تتداخل فيه المصالح الإنكليزية والملاحة البحرية، والطريق الإستراتيجي إلى الهند جميعاً»(2).

كتب لويد جورج(3)رئيس وزراء بريطانيا في أواخر أيلول 1914م:«أصبح واضحاً أنَّ تركيا ستنضم إلى الدول العدو على الأرجح، وهذا الأمر جعل من المهم على الفور اتخاذ خطواتٍ للمحافظة على تجهيز النفط في الخليج والتي كانت مملوكةً لشركة النفط الإنكلو - فارسية، كوسيلةٍ لتأمين تجهيزات الوقود النفطي للبحرية»(4).

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م تحركت قوة عسكرية بريطانية نحو جنوب البصرة وفي 6 تشرين الثاني نزلت في الفاو، ثمَّ تقدمت إلى البصرة فاحتلتها ويمكن الاستنتاج بأنَّ الهدف البريطاني الأساس لم يكن احتلال كل ،العراق، بقدر ما كان ضمان المصالح البريطانية في الخليج وجنوب إيران، ولكن فيما بعد وللسهولة التي أحرزتها القوات البريطانية الهندية في احتلال البصرة وانسحاب

ص: 111


1- بولارد ،رید، بريطانيا والشرق الأوسط، ترجمة: حسن أحمد السلمان (بغداد، مطبعة الرابطة، 1956م)، ص 97.
2- (40) Stephan H. Longrigg, Iraq 1900 to 1950: Apolitical, Social and Economic History, London: Oxford University Press, 1953, p.3
3- ديفيد لويد جورج (1) David Lioyd-George/كانون الثاني/1863-26/آذار /1945م): سياسي بريطاني، عضو في مجلس العموم للمدة من (1890-1945م)، تولى لأول مرة منصب وزير التجارة سنة 1905م، ثم وزيراً للخزانة للمدة (1915-1908م)، عُين وزيراً للحربية لبضعة أشهر سنة 1916م، حتّى أصبح رئيساً للوزارة، استقال من رئاسة الوزارة سنة 1922م للاختلاف حول الميزانية. للمزيد، ينظر : 28...1.The New Encyclopedia Britannica, op. ct., Vol.
4- نظمي، وميض جمال ،عمر، مرجع سابق، ص 401.

القوات التركية شمالاً، واستثماراً للفوز الذي حصل ، ومع الواقع السياسي الجديد والتحالفات الناشئة، فقد اندفعت القوات البريطانية شمالاً حتّى أكملت احتلال العراق مع نهاية الحرب(1).

وكان من الواضح قبل الحرب العالمية الأولى أنَّ العراق قد أصبح من مناطق النفوذ البريطانية المهمة، فتعمَّقت مصالح بريطانيا في هذا الجزء من الدولة العثمانية وتشعَّبت، وكان منها وضع العراق الزراعي وأهميته كمجال حيوي لاستيطان عددٍ كبير من السكَّان الذين يفيضون عن قابلية الهند، وأيضاً أطماع بريطانيا الإقليمية في العراق ورغبتها في احتلال القسم الجنوبي منه على وجه الخصوص وربطهِ بالهند، ولذلك قامت بريطانيا بعد احتلال البصرة باتخاذ إجراءاتٍ على الأرض، لربط الجزء الجنوبي من العراق بنظام حكومة الهند البريطانية، وذلك باعتماد النُّظُم والقوانين الإدارية الهندية؛ لغرض ضمِّ جنوب العراق للهند تحقيقاً للسياسة التي أنتجتها المدرسة الهندية البريطانية من رجال الاستعمار البريطاني، التي كانت تُهيمن على دائرة نائب الملك في بومباي(2)؛ لذلك فإنَّ تلك السياسة قد تمَّ تثبيتها تماماً مع بداية الحرب، ففي 28 تشرين ثاني/1914م كتب ويلسون (الذي أصبح وكيل الحاكم البريطاني العام في العراق)(3): «أود أن أُعلن أنَّه من الضروري ضم ما بين النهرين إلى الهند كمُستعمرةٍ للهند والهنود، بحيث تقوم حكومة الهند بإدارتها وزراعة سهولها الواسعة بالتدريج، وتوطين أجناس البنجاب المُحاربة فيها» (4).

لقد كانت سياسة ويلسون ومشروع ربط العراق بالهند. من أخطر المشاريع الاستعمارية البريطانية التي لو حالفها النجاح لغيرت مستقبل العراق والمنطقة

ص: 112


1- حميدي، جعفر عباس، تاريخ العراق المعاصر (1914-1968م)، (بغداد ، دار عدنان للطباعة والنشر، 2015م)، ص ص 16-21
2- Gurson, Op., cit., p.49.
3- آرنولد ويلسون 1884) Arnold Talbot Wilson-1940م) عسكري بريطاني، خدم في الهند ثمَّ في الأحواز ، وقَدِمَ مع الحملة البريطانية على العراق عام 1914م ، وعُين وكيل الحاكم المدني في العراق منذ عام (1918-1920م)، غادر العراق نهائياً على إثر قيام انتفاضة 1920م والنتائج التي ترتبت عليها. قتل في معركة جوية خلال الحرب العالمية الثانية في الأول من حزيران عام 1940م. للمزيد، ينظر: Encyclopedia Britannica, Vol. 15, p.312.
4- نظمي، مرجع سابق، ص.399.

بالكامل، ومن المعروف والمُسلَّم بهِ أنَّ ثورة 1920م في العراق كانت هي العامل الحاسم الذي أطاح بتلك السياسة وذلك المشروع.

المبحث الثاني:

مشاريع بريطانيا في الاهتمام بولادة العراق المعاصر

اهتمت بريطانيا بتعزيز طموحاتها في بسط سيطرتها على بلاد وادي الرافدين، من خلال العديد من المشاريع والوسائل، منها:

مشروع سكَّة حديد بغداد:

يُعد مشروع سكَّة حديد بغداد، أحد أهم أسباب اهتمام بريطانيا بالعراق، فضلاً عن كونهِ أحد أهم الدوافع التي أدت إلى خوض غِمار الحرب العالمية الأولى.

كانت بريطانيا تنشد منذ أوائل القرن التاسع عشر طريقاً سهلاً قصيراً إلى جوهرة إمبراطوريتها يومذاك (الهند)، وفي سنة 1837م أنفقت مالاً كثيراً على مسح وادي الفرات لهذهِ الغاية، وحصلت من تركيا على امتياز مدِّ خط سكَّة حديد تصل الإسكندرية على البحر المتوسط بالخليج العربي وكان ذلك سنة 1851م، إلاَّ أنَّ بريطانيا نبذت مشروع الملاحة في الفرات سنة 1876م عندما استطاعت شراء ما قيمته (4) أربعة ملايين باون من أسهم قناة السويس، ورأت أنَّ الإفادة من القناة أفضل من الاستفادة من مشروع مِلاحة وسكَّة حديد عَبرَ الفرات وواديه(1)، وقبل الحرب العالمية الأولى أخذت ألمانيا تفكر في مشروع سكَّة حديد تمتد من برلين فاستانبول فبغداد فالبصرة، وهذا شيء أقلق مضاجع الساسة البريطانيين، وهم الذين كانوا يسعون جاهدين إلى الحفاظ على حياد تركيا وإبعاد النفوذ الألماني عنها، فلقد أراد الألمان من وراء سكَّة حديد برلين البصرة، التقرب من الهند وخلق المتاعب وإثارة القلاقل في أرجاء العالم الإسلامي، لخلخلة كيان الإمبراطورية البريطانية من جهة، وتهديد استثمار النفط، إذ تعمل شركة النفط الإنكليزية الفارسية منذ سنة 1906م

ص: 113


1- حافظ طالب حسين النفط والسياسة في العراق بغداد، دار الكتب العلمية 2017م)، ص 47.

في جنوب إيران وتمتد أنابيبها ومصافيها إلى عبَّادان على شطِّ العرب(1)، هذا فضلاً عن الامتيازات الإقتصادية المُتحققة من مدَّ خط السكَّة، عن طريق الاستثمار(ومنها النفط) على جانبي امتداد الخط في منطقة بين النهرين.

لقد كان مشروع سكَّة حديد بغداد من أشدّ مشكلات الاستعمار التي جابهتها الدول الأوربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعقيداً، ومن أقوى العوامل في سوق هذهِ الدول للانغمار في أتون الحرب الأولى، وكان أيضاً من أهمِّ الدوافع التي جعلت بريطانيا تقرر استعمار العراق والسيطرة على المنطقة العربية لضمان سلامة أقصر طرق المواصلات إلى الهند وإبعاد التهديد الأوروبي عنها، فقد شكَّل هذا المشروع تنافساً استعمارياً، وصراع قوى بين أهم الدول الفاعلة آنذاك على الساحة الأوروبية : بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا (2).

لقد أثيرت في بريطانيا قضية إنشاء الطريق البري للوصول إلى الهند أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، بعد أن شرع الفرنسيون في فتح قناة السويس، فقد شعرت بريطانيا أنَّ إيجاد طريق مختصرة كلِّياً لفرنسا للوصول إلى الهند هو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لوجودها ومصالحها في تلك المنطقة من العالم، وهكذا أُثيرت في بريطانيا مسألة إنشاء الطريق البري نحو الهند على أساس إقامتهِ كمنافس وبديل بريطاني لقناة السويس، بمدِّ سكَّة حديد من السويداء على خليج الإسكندرية حتّى قلعة جابر في أعالي الفرات، وكان الأمر معقوداً أن تكون هذه السكَّة حلقة وصل بين البحر المتوسط والطُّرُق النهرية في الفرات، وفي الوقت نفسهِ إمكانية مد السكَّة المذكورة نحو بغداد ومنها إلى البصرة(3).

وضمن تقرير اللجنة التي شكَّلتها الحكومة البريطانية في مجلس العموم البريطاني برئاسة السير نورثكوت لدراسة المشروع، وردت النقاط المهمة الآتية(4):

ص: 114


1- ويلسون، مرجع سابق، ص 11.
2- حافظ، مرجع سابق، ص47.
3- بحري لؤي سكة حديد ،بغداد بغداد، شركة الطبع والنشر الأهلية، (1967م)، ص ص 10-12.
4- حسين علي ،ناصر تاريخ السكك الحديدية في العراق (1914-1945م)، (بغداد، 1986م)، ص 21 E. M. Earle, Turkey The Greet Power and The Baghdad Railway, A study in Imperialism, New York: 1966, p.135.

أولاً: إنَّ قضية موضوع بناء سكَّة حديد وادي الرافدين كما أسمتها اللجنة (TRANS MESOPOTMIAN RAIL WAY) هو أمر في غاية الضرورة لبريطانيا ومصالحها الحيوية في المنطقة، وهو من الناحية الأخرى يؤمن سرعة نقل البريد نحو الهند والخليج العربي، وله مزايا وفوائد اقتصادية مهمة لبريطانيا.

ثانياً: إنَّ من الممكن استعمال السكَّة للأغراض الحربية الخاصة بنقل القطعات والأسلحة والمؤن نحو الهند ويمكن عدَّها حاجزاً لإيقاف أي توسع روسي تجاه الخليج العربي(1).

وبما أنَّ المشروع كان موضوعاً للمنافسة والصراع الاستعماري، فقد تقدمت روسيا القيصرية بعرضٍ لمدِّ سكَّة حديد من طرابلس على البحر المتوسط إلى الكويت على الخليج العربي عَبرَ الصحراء، على أن يُربط بالعراق بواسطة طريق فرعي يمتد نحو كربلاء(2). كما أنَّ فرنسا تبنّت أيضاً إنشاء مشروع سكَّة حديد بغداد، الأمر الذي رأت فيه بريطانيا تهديداً مباشراً لمصالحها، فإنَّ ذلك إلى جانب حصة فرنسا الواسعة في قناة السويس يعني سيطرتها على الطريق البري نحو الهند، الأمر الذي يُشكِّل تهديداً مباشراً لمصالح وسياسة بريطانيا في الشرق الأوسط والهند(3). ولأسبابٍ عدَّة لم تلقَ كلَّ تلك المشاريع موافقة السلطان العثماني(4).

وفي الجانب الألماني كان استلام القيصر وليام الثاني (5)الحكم عام 1888م قد

ص: 115


1- Zaki Saleh, Op. cit., p.154.
2- حسین مرجع سابق، ص422 135.Earle, Ibid., p.
3- حسین مرجع سابق، ص 22
4- حري، مرجع سابق، ص 21
5- ويليام الثاني (1859) William II-1941م): ملك بروسيا وإمبراطور ألمانيا، والدته ابنة الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا، سعى إلى تبني سياسة النهج الجديد التي أكدت حق ألمانيا في زعامة العالم، تلك السياسة التي أثارت البريطانيين ،ضده، كان يُعاني من عقدة الشعور بالنقص بسبب عوق في يده اليُسرى، وفي تشرين الثاني من عام 1918م تنازل عن العرش بعد أن انهزمت ألمانيا في الحرب، ونفي خارج ألمانيا، وعاش في المنفى حتى وفاته في عام 1941م. آلان بالمر، موسوعة التاريخ الحديث (1789-1945م) ، (بغداد، دار المأمون للطباعة والترجمة والنشر، 1992م)، ج 2، صص 391-392 Encyclopedia Americana, New York: 1968, Vol.28, p.779; Paul Kennedy Randon, The Rise and Fall of the Great Powers, U.S.A: 1987, p.25.

شكَّل تغييراً جذرياً إزاء سياسة التحفظ الألمانية حيال الإمبراطورية العثمانية، تحت تأثیر حاجة الاقتصاد الألماني لإيجاد أسواق جديدة في الشرق، ودخول ألمانيا مُعترك التنافس التجاري والسياسي مع الدول الرأسمالية الكبرى، إذ كان القيصر الألماني يُحبّذ فكرة التوسع الألماني في الدولة العثمانية، ويرى في الأمر تقويةً للمراكز الألمانية في آسيا كلّها(1).

وفي سنة 1898م قام القيصر وليام الثاني برحلة إلى بيت المقدس في فلسطين عَبرَ إستانبول، وكان لهذهِ الرحلة تأثيراً عميقاً في نفس السلطان عبد الحميد(2)، إذ كان الرأي العام الأوروبي ناقماً عليه نقمة شديدة من جراء مذابح الأرمن(3)التي وقعت حوادثها قُبيل هذهِ الرحلة، على أنَّ المنافع الاقتصادية كانت هي الأصل في هذهِ الرحلة كما يتبيَّن من مذكرة الفون بولو وزير الخارجية الألماني، التي نوَّه فيها بالمنافع التي عادت بها الرحلة، فقال: «... ومما يجب أن ننوه بهِ هنا ذكر تصميم إيصال سكَّة حديد الأناضول ببغداد، وهو ما نأمل أنْ نُحقِّق بهِ إكمال الفتح الاقتصادي في آسيا الصغرى»(4).

ونتيجةً لهذا التقارب الألماني التركي، فاز الألمان في 27/ تشرين الثاني/ 1899م باستحصال موافقة السلطان العثماني المبدئية على منح البنك الألماني امتياز إنشاء سكَّة حديد تمتد من قونية إلى بغداد فالخليج، وبعد مرور ثلاث سنوات صدرت الإرادة السلطانية بمنح الامتياز نهائياً إلى الألمان في العام 1902م، وكانت الشركة الألمانية قد أكملت أثناء هذهِ المدة أعمال المسح ووضع الخرائط(5).

ص: 116


1- بحري، مرجع سابق، ص.22.
2- السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918م) : سلطان عثماني، حكم من (1876-1909م)، كان عهده طافحاً بالحروب، حكم البلاد حكماً استبدادياً قاسياً، أكره على منح دستور للبلاد عام 1908م ، وفي عام 1909م أجبرته حركة تركيا الفتاة على التنحي عن الحكم. وتوفي عام 1918م يُنظر : علي أورخان محمد السلطان عبد الحميد الثاني وأحداث عصره، بغداد، مطبعة الخلود 1987م ، ص ص 371؛ والدي عائشة عثمان ،أوغلي، السلطان عبد الحميد :ترجمة صالح سعداوي صالح (عمان) ، (1991م، ص ص 11-48
3- مرت القضية الأرمنية بثلاث مراحل تاريخية : حقبة السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، والاتحاديين الطورانيين (1909-1919م)، وحقبة تركيا الكمالية (1919-1923م). للمزيد عن القضية الأرمنية، يُنظر اليافي نعيم وخليل موسى نضال العرب والأرمن ضدَّ الاستعمار العثماني، اللاذقية، دار الحوار، 1995م)، ص21.
4- إبراهيم، مرجع سابق، ص102.
5- المرجع نفسه، ص ص 113-115.

أعطي الامتياز النهائي لسكَّة حديد بغداد في 5/آذار 1902م، ونص الامتياز على موادٍ عدَّة، يمكن إجمال أهمها في ما يلي:

1. الحق لشركة سكَّة حديد الأناضول بتمديد الخط من قونية إلى بغداد والبصرة ، عَبرَ أو عند أقرب نقطة من قونية ونصيبين والموصل وتكريت وبغداد وكربلاء والنجف والزبير مع إقامة فروع للخط إلى مناطق عدَّة، أهمها حلب وخانقين ونقطة على الخليج العربي يتفق بشأنها فيما بعد بين الحكومة التركية وأصحاب الامتياز والمُلاحظ أنَّ نص الامتياز لم يُشر صراحةً إلى أسم الموقع الذي تمَّ الاتفاق عليه في الخليج العربي لتشييد فرع السكَّة إليه من الزبير، غير أنَّه من المعروف عموماً أنَّ الكويت كانت تلك هی النقطة المُقترحة كي تكون نهاية سكَّة حديد بغداد.

2. حددت مدة الامتياز بتسعة وتسعين عاماً.

3. أعطيت الشركة الحق في استغلال كُلَّ المناجم التي يُعثر عليها لمسافة عشرين كيلو متراً من جانبي الخط(1).

لقد كانت إحدى النتائج المهمة التي أدت إليها زيارة القيصر الألماني إلى تركيا والأراضي المقدسة، أن عجّلت بريطانيا بالسعي للقيام بعدد من الإجراءات الهادفة إلى حماية خطوط مواصلاتها نحو الهند، إزاء تقدم ألماني مُحتمل في منطقة وادي الرافدين عن طريق تنفيذ سكَّة حديد بغداد، وقام اللورد كرزون نائب ملك بريطانيا في الهند باستمالة الشيخ مبارك شيخ الكويت (2)، لعقد معاهدة حماية سرية بين بر بريطانيا والكويت في حزيران 1899م ، وفرضت المعاهدة المذكورة على شيخ الكويت عدم قبول أي ممثل لدولةٍ أجنبية في إمارتهِ دون الحصول على موافقةٍ مُسبقة من الحكومة

ص: 117


1- البحري، مرجع سابق، ص ص 69-71.
2- مبارك الصباح: الشيخ مبارك بن صباح الصباح، حاكم الكويت السابع والمؤسس الحقيقي لها، ولد عام 1837م في الكويت، تولى الحكم في 17 مايس / 1896م بعد أن قتل أخويه محمد وجراح، لقب بمبارك الكبير، ازدهرت الكويت في عهده تجارياً، وشيَّد فيها أول المدارس النظامية والمستشفيات. توفي في 28/نوفمبر/1915م. للمزيد، ينظر: براي، ن، مغامرات لجمن في العراق والجزيرة العربية ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، بغداد، دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع، 1990م)، ص42.

البريطانية، كما منعته من رهن أي جزء من أراضيه أو بيعه أو إيجاره دون الحصول على تلك الموافقة نفسها(1).

امتازت الحِقبة التي أعقبت إعطاء امتياز سكَّة حديد بغداد عام 1902م وحتّى إعلان الحرب العالمية الأولى بكونها حقبة المفاوضات والمناورات السياسية العنيفة بين الدول الأوروبية الكبرى لأجل التوصل إلى المُساهمة أو منع مساهمة الآخرين في مشروع السكَّة. لقد كادت تلك المفاوضات والمناورات التي كانت تسير صعوداً ونزولاً أن تعطي نتائج قائمة على أساس تفاهم الأطراف المعنية لولا قيام الحرب العالمية الأولى. ولقد عدَّت المشكلات الدولية المتعلقة بسكَّة حديد بغداد من العناصر الرئيسة للخلافات الأوروبية التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولى(2).

على أنَّ كلاً من بريطانيا وفرنسا وروسيا التي لها أطماعها ومصالحها في تلك المناطق، لم تنظر إلى المشروع بعين الرضا والقبول عندما شرع الألمان في مدِّ السكَّة، فبريطانيا مثلاً اشترطت وفق اتفاقية /15/ حزيران/1914م مع ألمانيا، على أن تكون البصرة نهايةً للسكَّة مهما كانت الظروف، وكذلك عدم القيام ببناء ميناء أو محطَّة للسكك الحديد على الخليج العربي، على أنَّ الدبلوماسية الألمانية لم تألُ جهداً في محاولةِ إنهاء معارضة الدول الكبرى لمشروع السكَّة ووضع حدِّ لتلك المعارضة، ولكنها لم تتمتع بمتَّسع من الوقت لجني ثمار جهدها الدبلوماسي وتحقيق حلمها بربط برلين ببغداد، ينقل الوجود الألماني إلى أبواب الهند والشرق، فما أن كادت تصل إلى الاتفاق مع أكبر منافسيها وهي بريطانيا حتَّى اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى.

وبقيام الحرب العالمية الأولى إنهار مشروع سكَّة حديد بغداد الذي تمَّت المباشرة بهِ تواً، وتحولت الأنظار الأوروبية واهتمامها نحو الصراع الحربي الدائر(3).

الملاحة النهرية في العراق:

كان القرن السادس عشر قرن الانطلاق عَبرَ المُحيطات للاستكشافات والاستعمار،

ص: 118


1- البحري، مرجع سابق، ص ص 51-52.
2- المرجع نفسه، ص 52.
3- فوستر ،هنري مصدر سابق، ج1، ص ص 59-65

وتزعمت هذه الحركة الكبرى كل من إسبانيا والبرتغال فكانت الضربة التي وجَّهتها البرتغال للتجارة العربية في مياه المُحيط الهندي والخليج العربي حاسمةً ومروعة، وفشلت مجهودات مماليك مصر ثمَّ سلاطين الدولة العثمانية في إعادة السيطرة الإسلامية على المياه الجنوبية.

وكانت إنكلترا في القرن السادس عشر تسعى إلى الحصول على شيءٍ من ثروات التجارة البحرية، فقد كان الأسطول الإسباني البرتغالي حتّى الثلث الثاني من القرن السادس عشر هو المتحكم في البحار والمُحيطات، لكن البحرية البريطانية استطاعت أن تكسر قوة ذلك الأسطول في عام 1588م عندما انتصرت على الأرمادا الإسبانية The Spanish Armada)، وبذلك أصبحت الطُّرق البحرية إلى المُحيط الهندي مفتوحةً أمام السفن البريطانية، إذ أسّست شركة الهند الشرقية البريطانية (1)في عام 1600م ، وبعد أنْ تمَّ طرد البرتغاليين من هرمز في العام 1622م انفتح الخليج العربي أمام السفن الإنكليزية الذاهبة إلى البصرة، وبذلك أصبحت البصرة واحدةً من أهم مراكز التبادل التجاري مع شركة الهند الشرقية(2).

ونظراً لاتساع نطاق العلاقات السياسية والاقتصادية بين بريطانيا والدولة العثمانية، فقد دارت مفاوضات بين الدولتين، انتهت بعقد معاهدة 1675م التي وضعت أُسس امتيازات المصالح البريطانية في العراق وتوطيدها بصفة عامة وفي نهري دجلة والفرات بصفةٍ خاصة، فقد تضمَّنت معاهدة عام 1675م امتيازاتٍ عدة فيما يخص المِلاحة النهرية(3).

ص: 119


1- شركة الهند الشرقية الإنكليزية The English East India Company شركة تجارية أسست للمتاجرة مع الشرق في 31/كانون الأول /1600م ، وكان هدفها استيراد البضائع الشرقية مقابل تصدير البضائع الإنكليزية. للاستزادة عن شركة الهند الشرقية، يُنظر: محمد أمين عبد الأمير، التنافس بين الشركات التجارية الإنكليزية في منطقة الخليج العربي والأقطار المجاورة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر مجلة كلية الآداب، (مجلة)، بغداد، ع48، 1963م؛ Bennett, Thomas Jewell, the past and Present Connection of England with the PERSIAN Gulf», Journal of the Society of Arts, London: June, 13, 1902, Pp.634- 652.
2- نوار مرجع سابق، ص ص 23-24
3- تضمنت المعاهدة ما يلي حق مجيء الإنكليز إلى أراضي السلطان العثماني للتجارة بسفنهم الكبيرة والصغيرة - والمتوسطة، وأن يقوموا بالشراء والبيع. أن تُعامل إنكلترا معاملة الدولة الأكثر رعاية. للمزيد، يُنظر : J. Hurewit, Diplomacy in the Near and Middle East, London: 1958, Vol.I. Pp.25-32.

لقد تظافرت عوامل عدَّة وراء اهتمام بريطانيا بالمِلاحة النهرية في العراق، ومن بين أهم تلك العوامل:

1. كان أمر حماية الهند وتقريب المسافة بينها وبين لندن، من أهمِّ الدوافع في اهتمام إنكلترا بوادي الرافدين فقد قام الإنكليز بمحاولاتٍ كثيرة لتمهيد طرق المِلاحة في الفرات ومدَّ السكك الحديد بين البحر المتوسط وسواحل الخليج.

2. قیام نابليون بونابرت بغزو مصر.

3. الخوف من نشوء دولةٍ قوية في مصر تقف في وجه الأطماع البريطانية، ولذلك فقد قاومت بريطانيا مُحمَّد علي باشا(1) لمَّا أراد أن يوحِّد سورية ومصر ويؤسِّس دولة حديثة قد تمتَّد إلى العراق وتوحد منطقة الشرق العربي.

4. المباشرة بإنشاء قناة السويس تحت رعايةٍ فرنسية.

5. مقاومة توسع النفوذ الروسي في الدولة العثمانية وأطماعها في الخليج، فإذا قبضت روسيا على الفرات سهل اجتياح سوريا والساحل الشرقي للبحر المتوسط وآسيا الصغرى(2).

لقد تداخلت أهمية الملاحة في وادي الفرات مع سكَّة الحديد، إذ إنَّه مهما يكن لقناة السويس من الأهمية لأوروبا، فإنَّه يمكن غلقها بسهولة، وإنَّها بمنزلةٍ ثانوية لسكَّة حديد وادي الفرات التي يمكن أن توفر الميزات الآتية:

1. إنَّها تُهئ السبيل لمنع روسيا من التقدم في آسيا الصغرى.

ص: 120


1- محمد علي باشا (1769-1849م) : ضابط عثماني ألباني الأصل، ولد في مدينة قولة الألبانية، جاء مع الفرقة الألبانية التي أرسلتها الحكومة العثمانية بهدف إخراج الغزاة الفرنسيين الذين سيطروا على مصر عام 1798م، وبسبب ذكاء هذا الضابط وبمساعدة الظروف له استطاع أن يكون والياً على مصر وأنْ يُثبت مركزه، وكان الشخصية الأكثر شهرةً في تاريخ مصر، إلا أنَّ الدول الأوربية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا أوقفت طموحاته في معاهدة لندن عام 1840م. توفي عام .1849. للمزيد يُنظر : شبارو، عصام محمد المقاومة الشعبية المصرية للاحتلال الفرنسي والغزو البريطاني، (بيروت دار التضامن للطباعة والنشر والتوزيع 1992م)، ص ص 100-102
2- حافظ مرجع سابق، ص 53.

2. إنَّ المشروع يربط البحر المتوسط بالخليج، ولذلك أهمية كبرى من الوجهتين السياسية والتجارية.

3. إنَّه يقصر المسافة بين الهند وإنكلترا ألف ميل، ويُقلل المدَّة اللازمة لقطعها من عشرين يوماً إلى عشرة أيام.

4. سيُضاعف من قوة إنكلترا الحربية، ويجعل آسيا الصغرى وسوريا والعراق وإيران مناطق نفوذ لها، كما أنَّ سيطرة إنكلترا عليه أمر متيسر إذ يسيطر أسطولها على طرفيه في البحر المتوسط والخليج(1).

وابتداءً من سنة 1728م أصبح للإنكليز قوارب في نهر دجلة تُبحر بين بغداد والبصرة وتطور النشاط البريطاني خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد بدأ الإنكليز باستخدام قوتهم البحرية ضدَّ هجمات العشائر، وضدَّ حكَّام العراق إذا ما اتخذوا موقفاً معادياً للأطماع البريطانية، وضدَّ إيران إذا تعرضت المصالح البريطانية في البصرة للخطر(2)، وفي أعقاب نزول الحملة الفرنسية إلى السواحل المصرية في العام 1798م تمَّ إرسال سفينةٍ حربية بريطانية لحماية المُقيمية البريطانية في بغداد، واستمرت هذهِ السفينة مع جنودها مُرابطةً في بغداد رغم فشل الحملة الفرنسية وانسحابها من مصر، وقد كانت المدة التي حكم فيها علي رضا (3)قائداً للجيش العثماني الذي بعثه السلطان محمود الثاني(4)، ليضع نهاية لحكم المماليك في العراق والتي امتدت من (1831-1841م)، هي الحقبة التي وضع فيها الإنكليز

ص: 121


1- Sir A. T. Wilson, Loyalties, Mesopotamia (1914-1917), London: 1930, p.102.
2- صالح مرجع سابق، ص.28
3- علي رضا اللاظ: ولد في طرابزون الواقعة على البحر الأسود عام 1779م، اتصف بالشدة ضد المماليك حيث ذبح منهم نحو مائتي مملوك ومن بينهم ابن داوود باشا، إلا أنه أحسن معاملة داوود باشا، إذ حافظ على حياته وجعله يرحل إلى أسطنبول بسلام. كما اتصف بميله إلى الطرق الصوفية، ومنها البكتاشية. توفي في إسطنبول عام 1846م. للمزيد، :يُنظر : العزاوي عباس، تاريخ العراق بين احتلالین ، بغداد ، 1955م) ، ج 7، ص 19؛ همسلي، مرجع سابق، ص322.
4- محمود الثاني (1784-1893م) : سلطان عثماني من (1808-1839م) ، أجلس على العرش بعد خلع أخيه مصطفى، تابع ما بدأه السلطان سليم الثالث من إصلاحات استمرت في عهده الحرب البروسية - العثمانية (1806-1812م) والتي فقدت فيها السلطنة بساربيا، وعوضتها باسترجاع صربيا سنة 1813م، قضى على ثورة اليونان بمساعدة محمد علي باشا، وقد غزا في عهده محمد علي فلسطين وسوريا والأناضول (1833-1839م). للمزيد، يُنظر: غربال، محمد شفيق، الموسوعة العربية الميسرة، بيروت، دار الفكر، 1974م)، ص1633.

أُسس حقوقهم في المياه العراقية، بعد أن قام خبراؤهم وابتداءً من سنة 1830م بدراسة نهري دجلة والفرات ومسحهما(1).

لقد تكلَّلت أعمال المسح النهري بتأسيس شركة مِلاحة غالباً ما تُعرف بشركة «بيت لنج » (2)وتُعرف رسمياً ب-«شركة المِلاحة البخارية في دجلة والفرات» التي أُسَّست في سنة 1860م، والتي كانت تُسيِّر باخرتين تجاريتين في دجلة، لقد اتَّسع نطاق أعمال الشركة وتعاظمت أهميتها أثناء الربع الأخير من القرن التاسع عشر نظراً لزيادة النفوذ البريطاني، إذ إنَّ الشركة اعتمدت أثناء الحِقبة التي سبقت الحرب العالمية الأولى على حماية الحكومة البريطانية.

حظيت أعمال شركة لنج بأعلى اهتمام من قبل الحكومة البريطانية؛ لأنَّ المصالح السياسية تتطلَّب توطيد المصالح التجارية، فهذا لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني يكتب في 18/كانون أول/1906م قائلاً:«إنَّ من الحكمة، جراء كون نهر دجلة هو أحد خطوط المواصلات المهمة إلى الخليج الفارسي والهند، أن نحذر لئلا يخرج النهر من قبضتنا، ثمَّ إنَّ مركزنا الممتاز في النهر يغدو الآن أكثر قيمةً جراء اقتراب سكّة حديد بغداد، وجراء احتمال أن تكون المِلاحة هي وسيلة النقل الوحيدة ورأس السكّة

في بغداد والبصرة(3)، وقد منحت الحكومة التركية، تحت الضغط البريطاني المُستمر،الإذن المطلوب لشركة لنج في العام 1907م لتشغيل باخرة ثالثة في دجلة(4).

ولادة العراق المعاصر:

رأينا من خلال ما سبق أنَّ السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، قد اهتدت تقليدياً بالضرورة السياسية والنزعة النفعية، وكانت كُلّ من فرنسا وروسيا

ص: 122


1- المرجع نفسه، ص33.
2- تحولت مؤسسة (لينش) إلى شركة للملاحة البخارية في أنهار العراق عام 1861م تحت مسمى (شركة السادة لينش للملاحة البخارية في نهري دجلة والفرات) Messrs Lynch of the Euphrates and Tigris steam Navigation Company»، وظلت قائمةً حتّى تمت تصفيتها عام 1951م للمزيد يُنظر نوار، مرجع سابق، ص 398
3- العطية العراق.. نشأة الدولة، ص 105.
4- المرجع نفسه، ص 105

وألمانيا تُحيط بالمصالح البريطانية، لاسيَّما منذ مغامرة نابليون في مصر. لقد حثَّ الوهن السياسي والاجتماعي والاقتصادي للرجل المريض (الدولة العثمانية) على التنافس بين القوى العظمى، كما مهَّد ذهاب تركيا إلى المعسكر الألماني، والحاجة إلى الإبقاء على روسيا حليفةً لبريطانيا في أي حرب أوروبية، مهَّد إلى ابتعاد السياسة البريطانية عن نهجها المُعلن في الحفاظ على إعلان وحدة تركيا، فقد ألزمت الحرب بريطانيا باتباع سياسة تفكيك النظام السياسي العثماني، وكان هذا التوجه قد حظي بترحاب أنصار «الإمبريالية الجديدة» (New Imperialism) التي بلغت ذروتها في حكومة لويد جورج David Lloyd George) (1945-1863 1م) (1)

لقد ظهرت المرحلة الأولى في نيل أهداف إمبريالية عزيزة على «الإمبرياليين الجدد» عندما نزلت قوات الاستطلاع الهندي في الفاو على الخليج العربي في 6 تشرين الثاني 1914م ، فقبل ذلك لم تكن بريطانيا قادرةٌ على الانتفاع من كونها أقوى دولة في المنطقة، كما كان يتوجَّب على رجال السياسة البريطانيين والإستراتيجيين تعزيز الحلقات الواهنة في سلسلةِ الدفاع عن الهند، ولقد أطلق احتلال القوات البريطانية للبصرة البوابة الإستراتيجية للعراق، الطموحات الأسيرة لدُعاة الضم في الهند ودار الحكومة البريطانية، فلقد أبرق السير برسي كوكس بعد احتلال البصرة بأنَّه من الصعوبة بمكان «تغاضي أخذ بغداد»(2).

أثارت النجاحات المُبكِّرة في احتلال البصرة جدلاً سياسياً عسكرياً بريطانياً بشأن القضية الكبرى في ماهيَّة المصالح الأساسية البريطانية في العراق، وكيف يمكن بلوغها والذود عنها، فحاجج «الإمبرياليون الجُدد» بأنَّ على بريطانيا أن تبسط مجال نفوذها على العراق كافّة، وإلاَّ فإنَّ القوى المنافسة الأخرى ستتحرك، فالعراق لا يمكن الدفاع عنه بالاحتفاظ بالمنطقة الجنوبية وحسب، لذا لا بدَّ من بلوغ الحدّ الأقصى من الحدود الطبيعية(3)، وقد كانت (وزارة الهند) من أولى الدوائر التي

ص: 123


1- نعمة، كاظم الملك فيصل الأول، (بيروت، الدار العربية للموسوعات، 1988م)، ص10.
2- P. Graves, The Life of sir Persy Cox, London: 1941, p.182.
3- نعمة، مرجع سابق، ص.12.

حاولت وضع سياسة خاصة بالعراق، فكتب السير آرثر هرتزل السكرتير السياسي في الوزارة المذكورةً مذكرةً مفصلة بتاريخ 14/آذار 1915م عن مستقبل بلاد ما بين النهرين، فاستناداً إلى نظرية الري في نشوء الدول ووحدتها، كتب يقول: «إنَّ الدولة التي تعتزم أن تطور ولاية البصرة يجب أن تكون هي الدولة التي تطور ولاية بغداد، وأن تكون كذلك هي الدولة التي تُسيطر على المجاري العليا للأنهار حتَّى الموصل والرقَّة». وهو يطمح من ذلك إلى أنَّ مشاريع الري ستُتيح فرصةً طيبة لهجرة الهنود إلى العراق لحاجتهِ إلى العمَّال من جهة، وكذلك لأسبابٍ أخرى أيضاً، منها إنشاء مستوطنة هندية في العراق (1).

وفي خضمِّ هذا الجدل تقرر التقدم نحو بغداد واحتلالها؛ لأنَّ ذلك سيؤمن أهداف بريطانيا في العراق، بضمِّ البصرة وبغداد والجزء الأكبر من الموصل، وإنَّ احتلال بغداد سيرفع السُّمعة البريطانية في الشرق الأوسط، وسيقطع خطوط المواصلات الألمانية مع إيران، ويؤمِّن الدفاع عن حقول النفط، وأخيراً وليس آخراً فإنَّ بغداد «كوكب جذاب» و اسم رومانسي قد يُثير مخيلة البريطانيين، إذ كانت بغداد هي الجائزة المتلألئة التي تتجه إليها جميع الأنظار (2). وهكذا ففي 11/آذار/1917م، احتلت القوات البريطانية بغداد ، ثمَّ جرى احتلال مدينة الموصل بتاريخ 8/ تشرين الثاني/1918م وذلك بعد ثمانية أيام فقط من عقد الهدنة مع تركيا، وبذلك انتهت الحرب العالمية الأولى والولايات الثلاث جميعها، البصرة وبغداد والموصل تحت السيطرة البريطانية.

اتفاقية سايكس بيكو:

لمَّا دخلت تركيا ،الحرب، بدأت الرغبات الاستعمارية الحبيسة تتحسّس طريقها نحو التجسد، فأرادت روسيا أخذ القسطنطينية والمضايق، وطالبت فرنسا بسوريا، وبدأت إنكلترا تحس بحاجتها إلى طريق برية إلى الشرق، وتود أي شيء آخر ضروري يمكن أن يشل أثر المطامح الفرنسية والروسية، كما أنَّ حكومة الهند كانت تصوب

ص: 124


1- العطية، مرجع سابق، صص174-175.
2- المرجع نفسه، ص 200. -

أطماعها بقوة نحو العراق، فافتتح باب المفاوضات في أوائل العام 1915م وأُبرمت بين تلك الدول سلسلةً من المُعاهدات السرية لاستقطاع أراضي الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب، فيما كانت بريطانيا في الوقت نفسهِ تعقد عهوداً جديدة تُناقض عهودها التي أعطتها للعرب بواسطة السير «مكماهون» في سنة 1916م، وكانت أولى تلك المعاهدات هي اتفاقية سايكس بيكو Picot Agreement - The Sykes)، (The وقد عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في ربيع 1916م، فلم يكد السير

مكماهون يُنجز صفقته مع الشريف حسين، حتّى بدأت وزارة الخارجية البريطانية مباحثاتٍ في لندن مع الحكومة الفرنسية، هدفها الوصول إلى تدبيرٍ ما ، بحيث يمكن التوفيق بين ما تدَّعيه فرنسا من حقِّ في بلاد الشام وما تعهدت بهِ بريطانيا للعرب ولأسبابِ مختلفة آثرت وزارة الخارجية البريطانية أنْ تُخفي عن فرنسا شروط الاتفاق الذي عقدته مع الشريف حسين(1). وكان المندوب الفرنسي هو المسيو جورج بيكو (François Marie Denis Georges-Picot) (1951-1870م)، أمَّا زميله الإنكليزي فهو السير مارك سايكس (Sir Tatton Benvenuto Mark Skes) (1919-1879م)، ورسم المندوبان مشروعاً لاحتياز تلك الأجزاء التي ترغب كل من بريطانيا وفرنسا أخذها من الإمبراطورية العثمانية ، ثمَّ توجها بعد ذلك إلى بطرسبرغ لبحث مقترحاتهما مع الحكومة الروسية، وابتدأت المفاوضات في آذار 1916م ونتج عنها تفاهم ثلاثي تبلورت عنه مسودات التفاهم رسمياً في نيسان وأيار من تلك السنة(2).

وفيما يخص دراستنا فقد احتفظت فرنسا لنفسها بالقسم الأعظم من سوريا

ص: 125


1- أنطونيوس، جورج، يقظة العرب.. تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة: ناصر الدين الأسد وإحسان عباس ط6 (بيروت، دار العلم للملايين 1980م ص ص 348-349. إنَّ من أهم الأسباب التي دعت وزارة الخارجية البريطانية () ، إلى إخفاء شروط الاتفاق الذي عقدته مع الشريف حسين، يعود لخشيتها من تعارض الاتفاق مع ما تريده فرنسا، فضلاً عن عدم رغبتها في الإيفاء بتعهداتها للشريف حسين وخوفها من تحالف الأخير مع فرنسا فيما لو كشفت الأخيرة سر ما تُضمره بريطانيا، ناهيك عن إحساس بريطانيا بحاجتها إلى طريق برية إلى الشرق ورغبتها في عمل أي شيء ضروري يمكن أن يشل أثر المكاسب الفرنسية والروسية من اتفاقية سايكس - بيكو، إضافةً إلى أنّ حكومة بريطانيا وعدت الشريف حسين بتنصيب ولده فيصل ملكاً على سوريا دون أن تُعلم حليفتها فرنسا بذلك، وكانت مخاوف حكومة بريطانيا في محلها، إذ أخرج الفرنسيون فيصلاً من سوريا بعد احتلالهم لها في معركة ميسلون آذار 1920م.
2- وقعت الاتفاقية بين مندوب الحكومة البريطانية مارك سايكس Mark Sykes ومندوب الحكومة الفرنسية شارل فرانسو بيكو Charles Frances Pico، سنة 1916م ، لذا عُرفت بهذا الأسم ووضعت ولايتي البصرة وبغداد تحت الوصاية البريطانية، أما ولاية الموصل فقد وضعت تحت الولاية الفرنسية. يُنظر البراوي، راشد، البترول في الشرق الأوسط، القاهرة، مطبعة دار العرب 1955م ، ج4، ص ص 121-122.

وبحصَّةٍ غير صغيرة من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل، أمَّا حصَّة بريطانيا فكانت تتألَّف من شريطٍ يمتد من أقصى جنوب سوريا عِبرَ العراق ليشمل بغداد والبصرة وكلَّ المنطقة الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة المُخصَّصة لفرنسا، وأيضاً مينائي

حيفا وعكًا في في فلسطين مع قطعةٍ صغيرة من المنطقة الداخلية، وهناك مناطق اخری تضم منطقةً

من فلسطين لتكون تحت حكم دولي خاص(1). إلاَّ أنَّ انتصار الثورة البلشفية في روسيا نهاية العام 1917م، وقيام السلطة الجديدة فيها بنشر بعض الوثائق السرية الموضوعة في محفوظات وزارة الخارجية القيصرية ومن بينها نصوص اتفاقية سنة 1916م، أدى إلى فضح اتفاقية سايكس بيكو وانسحاب روسيا منها(2).

وفي كانون الأول 1918م حاول كليمنصو (3)رئيس وزراء فرنسا أن يُقنع لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا الاعتراف باتفاقية سايكس بيكو من جديد، ولكن لويد جورج طالب بتعديل الاتفاقية فيما يخص ولاية الموصل وفلسطين، ومن ثمَّ وافق كليمنصو على نقل ولاية الموصل إلى منطقة النفوذ البريطاني على شروط، منها أن تنال فرنسا حصَّةً من نفط الموصل(4). بيد أنَّ الحلفاء اتفقوا في أثناء مؤتمر الصُّلح في باريس، على توزيع الانتدابات، وقد أعطيت بريطانيا الانتداب على العراق وفلسطين، وأعلنت هذهِ القرارات في /26/ شباط /1920م ، إذ كان المفروض أنَّ الانتداب قد وجد كحلّ وسط بين سياسة الاستعمار القديمة ووعود د الحلفاء في أثناء الحرب، وذلك وفقاً للمادة الثانية والعشرين من ميثاق عُصبة الأمم(5).

ص: 126


1- أنطونيوس يقظة العرب، ص ص 348-349.
2- المرجع نفسه، - ص 438.
3- جورج كليمنصو (1841 George Clemencea-1929م : من أبرز السياسيين الفرنسيين، رأس الوزارة مرتين (1909-1906م) و (1917-1919م)، انتخب عضواً في مجلس النواب عام (1876-1893م)، وفي مجلس الشيوخ عام 1902م، وفي عام 1906م أصبح رئيساً للوزارة ووزيراً للداخلية، وفي تشرين الثاني 1917م أصبح رئيساً للوزراء مرة ثانية، وأقام حكومة ائتلافية حكومة الاتحاد المقدس)، واصلت الحرب حتَّى إحراز النصر ، اعتبر كليمنصو معاهدة فرساي ( غير كافية لضمان سلامة فرنسا للمزيد، يُنظر بالمر ،آلان مرجع سابق، ج 1، ص 190.
4- حافظ مرجع سابق، ص 60.
5- عُصبة الأمم League of Nations : هي إحدى المنظمات الدولية السابقة التي تأسست عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919م والذي أنهى الحرب العالمية الأولى التي دمرت أنحاء كثيرة من العالم وأوربا خصوصاً، دولية هدفت إلى الحفاظ على السلام العالمي . للمزيد، يُنظر : وهي أول منظمة .The New Encyclopedia Britannica, New York: Vol. VI, p.244

لقد كانت الحرب العالمية الأولى نهاية قصَّة طال أمدها وتشعَّبت فصولها، وبداية مرحلة جديدة في تاريخ البلاد التي أصبحت تُعرف بالمملكة العراقية، ثمَّ استمرت العلاقات البريطانية العراقية تجري بواسطة أجهزة وأساليب جديدة وفي ظروفٍ تختلف جوهرياً عن كلّ ما سبق، غير أنَّ الإستراتيجية بقيت على حالها من حيث الباعث والهدف وغموض المصير، وفي ظلِّ آمالٍ ووعودٍ وشكوك غدا العراق تحت الانتداب البريطاني، وبقيام ثورة العشرين انقلبت كلَّ الخطط وعصفت بها الثورة إلى حيث لا رجعة فقد انتهت وإلى الأبد مشاريع ربط العراق بالهند وتقسيمه، فكان تشكيل أول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب (1)(25/ تشرين أول/ 1920م)، وتتويج فيصل ملكاً على العراق (23) آب / 1921م)(2)، واستعاضت بريطانيا عن صکِّ الانتداب بمعاهدة تحالفٍ مع العراق (1922م)(3).

وبرز في تلك المرحلة دور النفط في سياسة السيطرة البريطانية على العراق واستخدمه في دائرة مساوماتها السياسية معه، وهو دور لا يقل عن الاعتبارات الإستراتيجية التي كانت تشغل أذهان المسؤولين البريطانيين تجاه العراق، وكان خبراء النفط البريطانيون قد درسوا إمكانيات العراق النفطية منذ السنوات الأولى من القرن العشرين، وبعد الحرب أتم أولئك الخبراء وضع تقارير شاملة لأغلب مناطق النفط في العراق (4). وغَدَت قضية النفط وامتيازاته في الحِقب اللاحقة، أحد أبرز صور الوجود البريطاني في العراق ونفوذه واستغلاله.

ص: 127


1- عبد الرحمن النقيب (1854-1927م) : من رجال السياسة والحكم في العراق، ولد في بغداد وتعلم فيها، وتولى نقابة الأشراف فيها، تولى أول وزارة عراقية بعد ثورة العشرين، ثم بعد تولي فيصل الأول عرش العراق تولى رئاسة الوزارة مرتين، عُقدت في عهده المعاهدة العراقية - البريطانية عام 1922م. توفي في بغداد عام 1927م ودفن فيها. للمزيد ينظر : كحالة، عمر رضا، معجم المؤلّفين، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1967م)، ج 5، ص 156.
2- الملك فيصل الأول (1883-1933م) (1921-1933م) : ولد في مدينة الطائف في العشرين من أيار عام 1883م. ودرس في أسطنبول، شارك في الثورة العربية الكبرى التي اندلعت في العاشر من حزيران عام 1916م، إلا أنَّ الفرنسيين أزاحوا فيصلاً عن عرش سوريا بعد موقعة ميسلون في الرابع والعشرين من تموز عام 1920م، وفي آذار 1921م رشحت بريطانيا فيصلاً ملكاً على العراق في مؤتمر القاهرة، فى الثالث والعشرين من اب 1921م اعتلى عرش العراق. توفي في ليلة السابع على الثامن من أيلول عام 1933م للتفاصيل، يُنظر التكريتي، عبد المجيد كامل عبد اللطيف فيصل الأول.. ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة (1921-1933م)، (بغداد (1991م ص ص 10-15
3- حافظ، مرجع سابق، ص 61.
4- المرجع نفسه، ص 61.
الخاتمة:

لقد كان الجانب المادي الاقتصادي السبب الكبير والواضح من وجهة النظر الاستعمارية في احتلال بريطانيا المناطق المختلفة من العالم، خاصةً المنطقة العربية ومنها ،العراق، وفق إستراتيجيةٍ بُنيت على أساس الأسواق الجديدة والمواد الأولية المعدنية منها ، والزراعية إضافةً إلى أهمية الموقع الإستراتيجي والدفاعي الذي يدخل ضمن الحفاظ على هذهِ المصالح.

إنَّ اهتمام بريطانيا بالعراق قد سبق تدخلها العسكري المباشر فيه، ولكن بعد الحرب وبعد نزول القوات البريطانية في ولاية البصرة في شهر تشرين الثاني 1914م وجدت السلطات البريطانية، وخصوصاً وزارتي الخارجية والهند واللجنة الوزارية للشؤون الشرقية، أنَّه لا بدَّ من التفكير في مستقبل الولايات العثمانية الثلاث: البصرة، ،بغداد الموصل. وقد ازدادت الحاجة لبلورة سياسة مُحدَّدة على هذا الصعيد مع التطور في المعارك الحربية وتوسيع القوات البريطانية في احتلال أراضي ما بين النهرين (Mesopotamia)، وقد كانت هناك أسباب مهمة أخرى لاهتمام بريطانيا بالعراق ومنها:

أولاً: إنَّ موقع العراق الإستراتيجي بين الشرق والغرب، كان عاملاً جوهرياً وأساسياً في توجيه انتباه البريطانيين وتحديد مسارات تغلغلهم ونفوذهم فيه، أنَّه قلب الشرق الأوسط، وخطورة موقعهِ هذا تُفسِّر جوانب من صراعهِ الطويل مع قوىٌ أجنبية عديدة.

ثانياً كان الموقف السياسي في العراق أثناء القرن الثامن عشر يساعد على تغلغل النفوذ البريطاني، فقد كان المماليك يحكمون العراق منذ العام 1704م، وكان هؤلاء رغم تبعيتهم الإسمية للسلطان العثماني ينفردون بالحكم في العراق، ولذلك هم بحاجة إلى المساعدة وتأييد دولة كبرى ضدَّ أيَّة محاولةٍ من جانب السلطة العثمانية لإرجاع نفوذها المباشر في العراق، وفي الوقت نفسهِ ضدَّ محاولات فارس في بسط نفوذها على العراق. وقد نتج عن ذلك تقارب بين ولاية بغداد والسلطات البريطانية

ص: 128

بومباي، فقد وافق ولاة بغداد على تطبيق قاعدة الامتيازات التي كانت تمنحها الدولة العثمانية للأوروبيين، كما أنَّ بغداد كانت في أشدِّ الحاجة إلى مساعدة بريطانيا المواجهة الخطر الوهابي الذي ظهر في نجد، جنوب العراق.

ثالثاً: الصراع الدولي: شَهِدت منطقة الخليج العربي منذ بداية القرن السابع عشر صراعاتٍ دامية بين الدول المتنافسة، فكان الصراع البريطاني البرتغالي ثمَّ الصِّدام البريطاني الهولندي، وانتهت الأمور أخيراً لصالح السيادة البريطانية في الخليج، ففي

أواخر القرن الثامن عشر أصبحت لبريطانيا العظمى الأرجحية تجارياً وسياسياً.

رابعاً: العامل الاقتصادي:كان العراق مصدراً مهماً للموارد الاقتصادية والمواد الأولية التي تغذي الصناعة البريطانية، كما يُعد سوقاً مهماً لصناعتها وبضاعتها التي تحتاج إلى أسواق لتصريفها.

خامساً: الحرب العالمية الأولى : هناك عوامل عدَّة ربطت دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى بالعراق. ومن أبرز تلك العوامل ما يأتي:

1. إنَّ العراق جزء من الدولة العثمانية التي انضمت إلى جانب ألمانيا والنمسا ضدَّ دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية)، فمن الطبيعي أنْ تُهاجم بريطانيا (العراق) بوصفه من أملاك الدولة العثمانية، فضلاً عن ميراث الموقع والثروات والخصائص الأخرى التي يمتلكها.

2. النفط : حصلت بريطانيا في سنة 1901م من مظفّر الدین شاه على امتياز التنقيب عن النفط واستخراجه في منطقة جنوب إيران لمدَّة ستين سنة، فتشكَّلت شركة النفط الإنكليزية الفارسية، لتتولىَّ القيام باستثمار ينابيع النفط في الأراضي الإيرانية، ولمَّا نشبت الحرب العالمية الأولى، تبيَّن للجميع بأنَّ لا سبيل إلى النصر إلاً بتأمين إمدادات النفط، إذ أصبح النفط المحرك الرئيس لماكنة الحرب.

سادساً: كان من الواضح قبل الحرب العالمية الأولى أنَّ العراق قد أصبح من

ص: 129

مناطق النفوذ البريطانية المهمة، فتعمَّقت مصالح بريطانيا في هذا الجزء من الدولة العثمانية وتشعَّبت، وكان منها وضع العراق الزراعي وأهميته كمجالٍ حيوي لاستيطان عددٍ كبير من السكَّان الذين يفيضون عن قابلية الهند، وأيضاً أطماع بريطانيا الإقليمية في العراق ورغبتها في احتلال القسم الجنوبي منه على وجه الخصوص وربطهِ بالهند.

(Footnotes)

1. المجموعة الكاملة لأشعار الصافي، تقديم: د. جلال الخياط، 11.

2. الوافي في أحوال آل السيد الصافي محمود السيد محمد رضا الصافي، 38.

3. ديوان هواجس أحمد الصافي النجفي، 28.

4. ديوان الشلال: أحمد الصافي النجفي 52.

5. المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي غير المنشورة، تقديم: د. جلال الخياط: 73.

6. أشعة ملونة احمد الصافي النجفي: 19.

7. المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي غير المنشورة، 209.

8. المصدر نفسه : 435.

9. ثورة 1920 في الشعر العراقي: عبد الحسين المبارك : 96.

10. ديوان حصاد السجن الشاعر أحمد الصافي النجفي: 97.

ص: 130

الاستعمار البريطاني للعراق:دور بريطانيا وتأثيرها على تشكيل الحكم الملكي

اشارة

صلاح خلف مشَّای(1)

إنَّ احتلال الأوطان هو العلامة البارزة في تاريخ الدول الأوربية، فهي تَعمد على اختیار مستعمراتها وفق المواقع الاستراتيجية المهمّة وتتخذ من الظروف المعاشيّة الصعبة وعدم التحضر والابتعاد عن المعرفة الحقّة ذريعة ومبرراً لإحتلالها.

هذا بالضبط ما عملته بريطانيا حينما احتلت العراق الذي كان راضخاً تحت الاحتلال العثماني المتخلّف، فوظَّفت كُلَّ إمكانياتها المادية والإعلامية تمهيداً لاحتلال ذلك البلد، ذي الموقع الإستراتيجي المهم القريب من مُستعمرتها الكبرى في الهند.

عَمَدت بريطانيا على إشاعة أنَّها قادمة لتحرير العراق، وهدفت من ذلك إلى حشد همم العراقيين ضدَّ السلطات العثمانية وإضعافها في الحرب العالمية الأولى، لكن الذي حصل هو العكس تماماً، فعَمَدت إلى احتلال العراق واستغلالهِ اقتصادياً.

ص: 131


1- أستاذ مساعد ودكتور في جامعة بابل / كلية التربية للعلوم الإنسانية - العراق.
أهداف الدراسة:

1. إظهار الدور الذي تؤديه الدول الاستعمارية في استغلال الشعوب وإضعافها.

2. بيان ماهيّة الخطط التي تتبعها الدول الاستعمارية في احتلال الأوطان.

3. إظهار أهمية العراق الإستراتيجية ودور بريطانيا في تشكيل الحكم الملكي في العراق.

تقسيمات الدراسة:

قُسّمت الدراسة إلى مبحثين الأول: أهمية العراق الإستراتيجية في السياسة البريطانية. أمَّا المبحث الثاني فتناول دور بريطانيا وتأثيرها على تشكيل الحكم الملكي في العراق.

المبحث الأول: أهمية العراق الإستراتيجية في السياسة البريطانية

لقد مهَّدت الأوضاع السيئة التي عاشها العراق تحت ظلِّ الاحتلال العثماني، إلى دخوله مرحلةً أخرى مظلمة من تاريخه تمثَّلت في الاحتلال البريطاني، والذي بدأ في العام 1914م تزامناً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، فدخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا حليفها المهم ضدَّ بريطانيا وفرنسا، ومن ثمَّ أصبحت أراضي الدولة العثمانية ومنها كل دول المشرق العربي كالعراق وسوريا ولبنان هدفاً ومطمعاً لهجمات بريطانيا وفرنسا، وحتّى قبل إعلان الدولة العثمانية دخولها الحرب، كانت بريطانيا قد أمرت قواتها المُرابطة في الهند بمهاجمة العراق، وكان هدف بريطانيا الأساس آنذاك هو تأمين إمدادات النفط الإيراني، الذي تمَّ اكتشافه في العام 1908م ، وإذا ما علمنا أنَّ بريطانيا بدأت منذ عام 1909م، تغير اعتمادها على مصادر الطاقة من الفحم إلى النفط، تتضح لنا أهمية العراق الإستراتيجية، لاستمرار تدفق النفط الإيراني إلى الإمبراطورية البريطانية من خلال أراضيه(1).

وتأتي أهمية العراق الإستراتيجية لبريطانيا، نتيجة موقعهِ على طريقين مهمين هما

ص: 132


1- بيل، المس غيرترود، فصول من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر ،الخياط، ط2، بيروت، دار الكتب 1971م)، ص1.

الطريق الجنوبي، أو ما يُعرف ب- (طريق الهند المار بقناة السويس، والطريق الآخر هو طريق الهند البري المار بآسيا الجنوبية، والخليج العربي من العراق إلى البحر المتوسط عِبرَ سوريا، وإنَّ هذين الطريقين لتأمينهما، هناك حاجة أولاً إلى تأمين كلاً من ولايتي(1) البصرة والموصل، وهذا يعني السيطرة على العراق من شمالهِ إلى جنوبِه(2).

وفي تشرين الثاني من العام 1914م، بدأ الاحتلال البريطاني للعراق من خلال نزول كتيبة عسكرية في مدينة الفاو، وبعد أسبوعين، أي في 23 تشرين الثاني/1914م، احتُلت البصرة وطُرد منها الأتراك، وفي 11/آذار / 1917م، احتلت بغداد من قبل القوات البريطانية(3).

البريطانيون في سعيهم لتثبيت سلطتهم في العراق، عَمَدوا إلى إدارة كلَّ الشؤون العراقية بما فيها الشؤون المدنية كالضرائب والزراعة والطرق والإدارات العامة وقد حكم العراق طول المدة الممتدة من العام 1914م وحتّى العام 1920م ضباط عسكريون كان همهم الأول دعم الجيش البريطاني، وتدعيم سيطرتهم العسكرية، فقد عَمَد البريطانيون إلى مجموعةِ تغييراتٍ قانونية منها إلغاؤهم قانون العقوبات التركي، والكثير من مواد القانون المدني(4)، ومع دخول القوات البريطانية بغداد بحلول آذار من العام 1917م، أعلن الجنرال (ف. س. مود)(5)، القائد العام للقوات

ص: 133


1- أحد النواب العراقيين في مجلس المبعوثان، قال مخاطباً المجلس: «تصوروا أيها السادة محاكمة تجري في أحد محاكم العراق ، الحاكم (القاضي)، يجهل اللغة العربية، والمتهم يجهل التركية، ويقوم الكاتب أو المباشر بمهمة الترجمة، فأي ظلم هذا الذي يجري باسم القانون حين يخطأ المترجم». للمزيد يُنظر: الرهيمي، علاء حسين، : المعارضة البرلمانية في عهد الملك فيصل الأول، ط2، (بيروت، دار الكتب العراقية، 2010م)، ص44.
2- ديب كمال، زلزال في أرض الشقاق.. العراق (1915-2015م)، (بيروت، دار الفارابي، 2003م)، ص52.
3- ظهر مفهوم (الولاية) مع صدور قانون الولايات العثمانية في العام 1864م ، وقد طبق هذا القانون في العراق مع وصول (مدحت باشا) حاكماً عليه في العام 1869م ، إذ قسم العراق إلى ثلاث ولايات، وفي القانون وضحت حدود كل ولاية، والتقسيمات الإدارية الملحقة بها، وكانت بغداد العاصمة لارتباط ولايتي الموصل والبصرة بها، ولأنَّها كانت أي بغداد مقراً للجيش العثماني السادس للمزيد يُنظر الحسني عبد الرزاق العراق قديماً وحديثاً، ط4، (بيروت، مطبعة دار الكتب، 1971م)، 8 ص ص 90-94.
4- الخطّاب، رجاء حسين العراق بين (1921-1927م)، (بغداد، دار الحرية للطباعة، 1976م)، ص ص17-18.
5- ستانلي مود Sir Frederick Stanley Maude ولد مود في مقاطعة جبل طارق عام 1864م، وهو من أصل بريطاني، تخرج من كلية الأركان في كاميري، وشغل مناصب مهمة في مصر وفي حرب البوير جنوب أفريقيا وفي الحرب العالمية الأولى شغل منصب رئاسة أركان فيلق ثمَّ آمرية لواء وقيادة الفرقة (13) في العراق. كان مود قائد القوات البريطانية التي احتلت مدينة بغداد في 11/آذار /1917م. وتوفي بمرض الكوليرا ببغداد في /18/ تشرين الثاني / 1917م. لمزيد من التفاصيل، يُنظر نديم شكري محمود, حرب العراق (1914-1918م), (بغداد, شركة النبراس للطباعة, 1964م), ص 113.

البريطانية في العراق بيانه الشهير، والذي أكَّد فيه أنَّ الإنكليز ما دخلوا فاتحين بل دخلوا محررين، مؤكَّداً على أنَّه كقائد عام للجيش البريطاني في العراق أولي سلطة عليا تامة في جميع المناطق التي يقوم فيها الجيش البريطاني بعملياته، وأضاف مود أنَّ إرادة ملك بريطانيا وشعبها، وإرادة جميع الشعوب العظيمة المتحالفة مع بريطانيا، هدفها أنْ يكون العراق أمَّةً مزدهرة وخاطب مود العراقيين قائلاً ما نصه:«لا ينبغي أن يتبادر إلى أذهانكم أنَّ الحكومة البريطانية ترغب في أن تفرض عليكم أنظمة ومؤسَّسات غربية لا ترضون عنها ، بل الأمر على نقيض هذا، فإنَّ الحكومة البريطانية تأمل في أن تتحقق يوماً الأماني والآمال، التي كان يحلم بها مفكروكم وأدباؤكم»(1).

إنَّ إعلان الجنرال مود وما تلاه من الإعلان الإنكليزي - الفرنسي المشترك الصادر في 8 تشرين الأول 1918م، أي قبل استسلام ألمانيا بثلاثةِ أيام وانتهاء الحرب العالمية الأولى، عززت الآمال لدى بعض العراقيين في أنَّ بريطانيا ستحترم وعودها، وتمنح العراقيين استقلالهم، فقد أكَّد البريطانيون والفرنسيون في بيانهم على أنَّهم حاربوا في الشرق لغرض تحرير الشعوب التي رزحت أجيالاً تحت نظام التُّرك، وأنَّ هدفهم النهائي هو تحرير هذه الشعوب، وإقامة حكوماتٍ وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختياراً حراً، ومن ضمن هذهِ المناطق العراق وسوريا، كما أكَّد البيان على أنَّ كُلاً من فرنسا وإنكلترا لن تسعيا أبداً إلى فرض الحكم الذي تريدانهِ على أهالي العراق وسوريا، بل أن تساعد الحكومات التي ستنشأ على إقامة العدل والمُساواة بين الجميع ، وأن تساعد في إحياء الاقتصاد، ونشر العِلم، والقضاء على الخلافات القديمة، وهنا إشارة إلى الخلافات المذهبية(2).

وقد عَمَدت السلطات البريطانية أيضاً إلى نشر المبادئ الأربعة عشر الشهيرة

ص: 134


1- للمزيد من المعلومات عن احتلال العراق وتفاصيله يُنظر : مجيد, خدوري, أسباب الاحتلال البريطاني للعراق الموصل, 1933م)، ص ص 12-16.
2- العنجهية البريطانية كانت واضحة جداً في حكم العراق حتّى عام 1920م، ففي إحصائية أُجريت عام 1920م، تبين من خلالها أنَّ (96 % من الضباط السياسيين الإنكليز الحاكمين بالعراق في مختلف مناطقه كانوا دون سن الأربعين من العمر، وأنَّ الثلثين من هؤلاء ال- (96) كانوا دون الثلاثين، وأنَّ (23%) من ال- ( 96 ) كانوا دون ال- ( 25 ) سنة من العمر، بل إن نائب الحاكم المدني (إي. تي. ولسون نفسه كان دون ال- 35 سنة من العمر. يُنظر : النفيسي، فهد عبد الله، دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث، ط2، الكويت، ذات السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع، 1990م)، ص 155.

للرئيس الأميركي توماس ويلسون(1) في العراق، ومنها المبدأ الثاني عشر، الخاص بتقرير مصير الشعوب التي كانت خاضعةً للحكم العثماني(2).

هذا ما كان يُعلنه الإنكليز عن رغبتهم في مساعدة الشعوب التي (حرروها)، وإقامة حكم ،وطني، ومؤسَّسات ذات مقبولية شعبية، لكن الواقع كان مختلفاً، ففي التاسع من أيار عام 1916م، وقّع كلاً من عضو البرلمان البريطاني والخبير في شؤون الشرق

الأوسط السير مارك سايكس(3)، مع ممثل الحكومة الفرنسية فرانسوا جورج بيكو(4) فی لندن، ما عُرف لاحقاً باتفاقية (سايكس بيكو)، والتي كان فحواها تقسيم المناطق الخاضعة سابقاً لسيطرةِ الدولة العثمانية في المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا، حيث خضع العراق عدا (الموصل) إلى إنكلترا، وحظيت فرنسا بكلِّ من سوريا ولبنان(5).

ص: 135


1- توماس وودرو ويلسون Thomas Woodrow Wilson ولد عام 1858م ، وهو سياسي وأكاديمي أميركي شغل منصب الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة من عام 1913 إلى 1921م ولد ويلسون في مدينة ستونتون في فرجينيا، وقضى سنواته الأولى في أوغستا جورجيا وكولومبيا، ساوث كارولينا حصل ويلسون على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جونز هوبكنز The Johns Hopkins University، وشغل منصب أستاذ وباحث في مختلف المؤسسات قبل اختياره رئيساً لجامعة برنستون Princeton University ، وهو المنصب الذي شغله في الفترة من عام 1902 إلى 1910م وفي عام 1910م ، ترشح عن الحزب الديمقراطي في انتخابات حكومة ولاية نيوجيرسي، وانتخب ليكون الحاكم الرابع والثلاثين للولاية من عام 1911 إلى 1913م ترشّح ويلسون في انتخابات الرئاسة عام 1912م واستفاد من انقسام الحزب الجمهوري ليفوز بالمنصب، وحصل على أغلبية كبيرة في المجمع الانتخابي و (42) من عدد الأصوات الشعبية في السباق الذي جمع أربعة مرشحين. وكان أول جنوبي يُنتخب رئيساً منذ انتخاب زكاري تايلور Zachary Taylor في عام 1848م . توفي عام 1924م. للمزيد يُنظر: Blum، John Morton, Woodrow Wilson.. and the Politics of Morality, Boston: Little Brown, 1956, Pp10-18.
2- استقبل العراقيون هذه المبادئ بكثير من الأمل، إذ اعتقدوا أنَّ أميركا ستساعد على تطبيق ونشر مبادئ الرئيس ولسون، حتَّى أن بعض مراجع الدين في النجف، كتبوا إلى الرئيس الأميركي يُطالبونه بتطبيق مبادئه التي دعا إليها وتبناها في العراق لكن الواقع أثبت أنّ هذه المبادئ لم تعدو كونها شعارات ليس إلا . للمزيد عن هذا الموضوع، يُنظر : الخيون، رشيد، النزاع : على الدستور بين علماء الشيعة المشروطة والمُستبدة) ، ط2، دار مدارك للنشر، دبي، 2011م)، ص ص 13-14.
3- مارك سايكس Sir Tatton Benvenuto Mark Sykes ولد عام 1879م ، هو ابن البارون السادس من سيلدمير، مستشار سياسي ودبلوماسي وعسكري ورحالة بريطاني، كان مختصاً بشؤون الشرق الأوسط ومناطق سوريا الطبيعية خلال فترة الحرب العالمية الأولى، وقع عام 1916م على اتفاقية سايكس بيكو عن بريطانيا مع بيكو عن فرنسا، لاقتسام مناطق النفوذ في أراضي الهلال الخصيب التابعة بمعظمها آنذاك للدولة العثمانية المتهاوية. توفي عام 1919م. للمزيد، ينظر : 231.Encyclopedia Britannica, vol.11, p.
4- (12) فرانسوا ماري دينيس جورج بيكو François Marie Denis Georges-Picot : ولد في باريس عام 1870م، كان سياسي ودبلوماسي فرنسي ، وقع اتفاقية سايكس بيكو عن الجانب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى لاقتسام مناطق النفوذ مع بريطانيا في منطقة الهلال الخصيب وأراضي أخرى كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية. فيما بعد كان مسؤولاً عن إلحاق مناطق المشرق العربي للنفوذ الفرنسي والتأسيس للانتداب الفرنسي على سوريا. توفي عام 1951م. للمزيد، ينظر : 10.31.Encyclopedia Britannica, vol (5) -
5- تمَّ نشر نص هذه الاتفاقية في العام 1917م بعد الثورة البلشفية في روسيا، وتضمنت (12) مادة تناولت الحدود، والشكل المقترح للسلطة في المناطق التي خضعت للنفوذ البريطاني الفرنسي، وللإطلاع على النص الكامل لهذا الاتفاق، يُنظر ،سعيد الثورة العربية الكبرى، ص ص 147-151.

ومع نهاية شهر تشرين الأول من العام 1918م انتهت الحرب العالمية الأولى ووقِّعت هدنة (مودرس)(1)، لإنهاء الحرب بين بريطانيا وفرنسا وحلفائهما من جهة وبين ألمانيا وحلفائها ومنهم الدولة العثمانية من جهةٍ أخرى، ومع انتهاء الحرب كانت القوات البريطانية قد أصبحت على مشارف الموصل فقامت باحتلالها، ولقد أدرك الإنكليز عَقِب توقيع إتفاقية سايكس بيكو عام 1916م أنَّهم أخطأوا بالسماح لفرنسا بضمِّ الموصل (ولاية الموصل تضم إضافةً إلى الموصل محافظات إقليم کردستان الحالي الثلاثة)؛ وذلك لأنَّ الموصل كانت غنيةً بالنفط، كما أشارت إلى ذلك الاستكشافات النفطية هناك، ولذا تمَّ احتلال الموصل من قبل القوات البريطانية عام 1918م ، فأصبحت فرنسا أمام الأمر الواقع، وعلى أساس ذلك تمَّ تعديل اتفاقية سايكس بيكو، لتصبح الموصل خاضعةً بموجب التعديل لبريطانيا بدل فرنسا(2).

وقد بادرت بريطانيا من جانبها عَقِب انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى تأليف لجنة لوضع تصور حول سياستها في الشرق الأوسط، وفي المناطق التي من الممكن أن تبقى تحت سيطرة البريطانيين، وكانت الآراء منقسمةً حول هذا الموضوع، فمع الإعلان البريطاني - الفرنسي المشترك في 8 تشرين الثاني 1918م ، ظهر مفهوم (الحكم الوطني)، من خلال إنشاء حكم محلِّي في المناطق التي تحتلها بريطانيا، وكان هذا رأياً مقبولاً عند كثيرٍ من صُنَّاع القرار الإنكليز، وفي مقابل ذلك كان هناك رأيٌ آخر، يذهب إلى ضرورة الإبقاء على الحكم الإنكليزي المباشر للأراضي الواقعة تحت سيطرة البريطانيين، ومنها العراق(3).

وخلال حقبة انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتأليف اللجنة البريطانية المعنية

ص: 136


1- (14) أنهت هدنة مودروس الموقعة في 30/أكتوبر 1918م العمليات القتالية في القتال في الشرق الأوسط بين / الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، وقد وقعها وزير الشؤون البحرية العثماني رؤوف أورباي بك والأميرال البريطاني سومرست آرثر ،غوف على متن السفينة (إتش إم. .أس. أغاممنون) في ميناء مودروس في جزيرة ليمنوس اليونانية. أعقب الهدنة احتلال اسطنبول، وتقسيم الإمبراطورية العثمانية، ألغيت في وقت لاحق بعد معاهدة لوزان 24/ يوليو / 1923م عقب انتصار الأتراك في حرب الاستقلال التركية. للمزيد يُنظر: الحسني العراق قديماً وحديثاً،صص 53-56.
2- (15) الخطّاب، مرجع سابق، ص.112.
3- (16) غيرترود ،بیل فصول من تاريخ العراق الحديث، صص 335-337.

بدراسة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرة البريطانيين ومنها العراق، كان على رأس الإدارة البريطانية المدنية في العراق أحد أكثر الداعمين لفكرة الحكم المباشر للعراق وهو (إي. تي. ولسون)(1)، والذي حلّ محل المندوب المدني بيرسي كوكس(2)، الذي نُقل سفيراً للمملكة المتحدة لدى إيران، وكان ولسون يحمل صفة المندوب المدني وكالةً، كان ولسون من الرافضين للبيان الإنكليزي - الفرنسي المُشترك الذي صدر في /8/تشرين الثاني/1918م ، وكان يصف هذا البيان بأنَّه مُخالف ل- ( وعد بلفور)(3) الصادر في العام 1917م، والقاضي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبأنَّ هذا البيان لم يأخذ بعين الاعتبار حقوق الأقليات كالمسيحيين والأقليات الأخرى، ولإثبات وجهة نظره طلب من مكتب الهند البريطاني والذي كان العراق يقع تحت سلطتهِ، السماح له بإجراء استفتاء لبيان رأي العراقيين حول طبيعة وشكل السلطة التي يدعمونها، ولبيان موقفهم من الوجود البريطاني في العراق ومع نهاية تشرين الثاني من العام 1918م، وصلت الموافقة على إجراء استفتاء يضم ثلاثة أسئلة، هي(4):

1. هل يُؤثِر الأهلون إقامة دولة عربية واحدة تمتد من الحدود الشمالية لولاية

الموصل إلى الخليج الفارسي تحت وصايةٍ إنكليزية.

ص: 137


1- (17) أرنولد ويلسون Sir Arnold Talbott Wilson (1940-1884م): عسكري وسياسي بريطاني قدم مع الحملة العسكرية البريطانية إلى العراق عام 1914م تحت إمرة المقدم بيرسي كوكس ، وكان ويلسون آنذاك ضابط برتبة نقيب)، ثمَّ عين حاكماً عاماً بالوكالة بعد استدعاء بيرسي كوكس وتعيينه سفيراً في طهران، اتهمته الصحافة البريطانية بأنه يسعى إلى (تهنيد) العراق، أي جعله تابعاً إلى الهند، قتل ويلسون خلال الحرب العالمية الثانية أثناء أدائه للخدمة العسكرية في القوة الجوية البريطانية. يُنظر : فؤاد قزانجي، العراق في الوثائق البريطانية (1905-1930م)، تقديم ومراجعة عبد الرزاق الحسني (بغداد 1989م) ، ص 26 مذكرات سندرسن باشا (طبيب العائلة الملكية في العراق) (1918-1946م)، ترجمة سليم طه التكريتي، ط2، ،(بغداد، 1982م)، صص55-54
2- بيرسي كوكس Zachariah Cox: ولد عام 1864م، سياسي بريطاني ساهم في رسم السياسة البريطانية في العالم العربي بعد انهيار الدولة العثمانية، حيث شارك قوات الثورة العربية الكبرى في محاربة قوات الدولة العثمانية. وقد عمل بمنصب المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي والعراق، وكان له علاقة مع شيوخ دول الخليج العربي، وتربطه ببعض القبائل علاقات ودية. توفي عام 1934م. للمزيد، ينظر : 267.Encyclopedia Britannica, vol. 13. p.
3- (19) وعد بلفور أو تصريح بلفور Balfour Declaration : هو الأسم الشائع المُطلق على الرسالة التي أرسلها - آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2/نوفمبر / 1917م إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، يُشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، حين صدر وعد بلفور كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن (5%) من مجموع عدد السكان. وقد أرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطاني فلسطين، يُطلق المناصرون للقضية الفلسطينية عبارة «وعد من لا يملك لمن لا يستحق لوصفهم الوعد للمزيد يُنظر : Yapp. M. E., The Making of the Modern Near East 17921923-, Harlow, England: Longman, 1987, p.290.
4- الأدهمي، محمد مظفر ، المجلس التأسيسي العراقي، ط2، (بغداد، دار الشؤون الثقافية (1989م ، ج 1 ، ص 46

2. وفي حال قبول الأهلين بهذا، هل يرضون أن يكون على رأس هذهِ الدولة أمير أو شريف عربي.

3. في حال قبول هذا المبدأ، فمن يريدون أن يكون على رأس هذهِ الدولة.

لقد كان ولسون حريصاً على أن تكون نتائج الاستفتاء متوافقة مع توجهاتهِ الرافضة لمبدأ الحكم الوطني، وهكذا في 25 شباط / 1919م سافر ولسون إلى لندن حاملاً معه نتائج الاستفتاء الداعمة لبقاء الحكم البريطاني المباشر للعراق وبناءاً على هذهِ النتائج قدَّم ولسون رؤيته لحكم العراق، حيث اقترح أن يُلغى تعيين أمير عربي على رأس الدولة العراقية، وأنْ يُستبدل بمندوب سامي بريطاني، وأنْ يُقسَّم العراق إلى أربع ولايات هي بغداد والبصرة، والفرات، والموصل وإذا ضمَّت المناطق الكردية التي يسكنها الأكراد يكون عدد الولايات خمس كما اقترح ولسون أن يكون اشتراك العراقيين في مجالس حكم هذهِ الولايات استشارياً وليس تشريعياً، وقد لاقت مقترحات ولسون القبول من قبل لجنة الشرق الأوسط المُكلَّفة بدراسةِ أوضاع المناطق الخاضعة لبريطانيا، وتمَّ قبولها في 6 نيسان 1919م، في جلسةٍ حضرها ،ولسون، لكن الموضوع جُمّد لحين انتهاء مؤتمر الصُلح في فرساي بفرنسا عام 1919م، والذي كان عقده مقرراً لإنهاء ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى(1).

لقد كانت النتائج الحقيقية للاستفتاء ليس كما نقلها ولسون، فقد كانت مُجمل الآراء تذهب إلى ضرورة إقامة دولة يرأسها أحد أنجال الشريف حسين(2) شريف مكَّة، كما أنَّ ولسون بالغ كثيراً في نقل مدى موافقة العراقيين على استمرار النفوذ البريطاني

ص: 138


1- المرجع نفسه.
2- حسين بن علي الهاشمي : مؤسّس المملكة الحجازية الهاشمية، وأول من نادى باستقلال العرب من حكم الدولة العثمانية، ولد في إسطنبول سنة 1270ه- / 1854م حينما كان والده منفياً فيها فألم باللغة التركية، وحصل على إجازات في المذهب الحنفي، عاد إلى مكة وعمره ثلاث سنوات، قاد الثورة العربية الكبرى متحالفاً مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية لجعل الخلافة في العرب بدل الأتراك في 1916م، ولقب بملك العرب. توفي عام 1931م. للمزيد، يُنظر: علاء جاسم محمد الملك فيصل الأول.. حياته ودوره السياسي في الثورة العربية وسورية والعراق (1883-1933م)، (بغداد، مطبعة الخلود 1990م، ص 154 ؛ عبد المجيد كامل التكريتي الملك فيصل الأول ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة (1921-1932م) ، (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1991م)، ص97.

في العراق، وكانت من الشخصيات التي باتت تُخالف ولسون في توجهاتهِ، الموظَّفة الإنكليزية البارزة في العراق غيرترود بيل(1)، إذ باتت بيل ميالة أكثر إلى تشكيل دولةٍ عراقية يحكمها الإنكليز بشكلٍ غير مباشر(2).

وفي الحقيقة لم يكن موقف ولسون حول ضرورة الاستمرار في الحكم الإنكليزي المباشر للعراق نابعاً من العدم، بل إنَّ كثيراً من الشخصيات العراقية ذات النفوذ العشائري والديني والاجتماعي كانت داعمة لبقاء الإنكليز في العراق، وكانت تُعلن ذلك بدون تردد، فقد كانت بريطانيا تدفع لبعض شيوخ العشائر وبعض الوجهاء عشرات الآلاف من الجنيهات بصفةِ هدايا، وعطاءاتٍ لضمان استمرار ولائهم(3).

وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان نقيب أشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني(4) من الداعمين للوجود البريطاني في العراق، والذي أصبح لاحقاً أول رئيس وزراء في الدولة العراقية الجديدة، حيث كان الكيلاني من المُقرِّين بحقِّ بريطانيا في حكم ،العراق، وكان لا يتردد في إعلان ذلك، فهو القائل: «إنَّ أحسن ما تعملونه هو تستظلوا بظلِّ الحكومة البريطانية»(5)، ويُضيف قائلاً: «إنني اعترف بانتصاركم وأنتم الحكّام وأنا المحكوم وأنا من رعايا المنتصر، إنَّ الإنكليز فتحوا هذهِ البلاد وبذلوا ثروتهم من أجلها كما أراقوا دماءهم في تربتها، ولذلك فلا بدَّ لهم من التمتع بما

ص: 139


1- غيرترود .م. ل . بيل Gertrude Margaret Lowthian Bell (1926-1886م) : رحالة وسياسة بريطانية، عملت في المخابرات البريطانية منذ شبابها ، وزارت العراق ثلاث مرات لذلك الغرض قبل أن تلتحق بالجيش البريطاني في البصرة عام 1916م، وكانت حلقة وصل بين الإدارة البريطانية والأهالي والعشائر، وبعد دخول الجيش البريطاني إلى بغداد عُيِّنت بمنصب السكرتيرة الشرقية في السفارة البريطانية ببغداد ، ثمَّ تولّت مديرية الآثار العامة. وقد توفيت ودفنت في بغداد عام 1926م فؤاد قزانجي، العراق في الوثائق البريطانية، ص 137.
2- بطاطو، حنا، العراق: الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية في العهد العثماني حتّى قيام الجمهورية، ترجمة: عفيف الرزاز، قم، منشورات ،فرصاد (2005م، ج 1، ص ص 117-123.
3- المرجع نفسه.
4- هو: عبد الرحمن بن السيد علي أفندي ولد في بغداد سنة 1845م ولقب ب- (الكيلاني)، كلَّفه الملك فيصل الأول بتشكيل ثلاث وزارات وبعد استقالته من رئاسة الوزراء عام 1922م ترك السياسة ولازم داره حتى وفاته سنة 1927م. الخطاب عبد الرحمن النقيب.. حياته الخاصة وآراؤه السياسية وعلاقته بمعاصريه، بغداد, ينظر : رجاء حسين المؤسسة العربية للدراسات، 1985م)، ص ص 9-13.
5- المقتطفات أعلاه هي جزء من مذكرة رفعتها غيرترود بيل إلى الخارجية البريطانية عقب لقاء جمعها مع الكيلاني، وفي هذا اللقاء أيضاً يتناول الكيلاني مواضيع ذات صبغة طائفية مقيتة تُظهر توجهاته الطائفية، وللإطلاع على النص الكامل لهذه المذكرة ، يُنظر : غيرترود ،بيل، مرجع سابق، ص ص 472-481.

فازوا به»(1)، بل إنَّ الكيلاني يذهب إلى أبعد من ذلك، ويؤكِّد أنَّ ما حصل من وهنا يُشير إلى الاستفتاء الذي أجراه ولسون على ما فيهِ من تضليلٍ وكذب، يصفه بأنَّه حماقة، مؤكِّداً على أنَّه لا يصلح لحكم العراق إلاَّ رجل مثل بيرسي كوكس، ولم يكتفِ الكيلاني بذلك بل ذهب إلى ما هو أبعد منه، حيث يقول مُخاطباً (المس بيل):«إنَّ معظم أولئك الذين تكلموا ضدكم هم رجال لا سمعة لهم ولا شرف»(2).

وفي /18 كانون الثاني 1919م ، افتتح مؤتمر الصُلح ب-(فرساي) في فرنسا، وكان طرفاه الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى والدول الخاسرة، وما يميز هذا المؤتمر أنّه ظهرت خلاله فكرة (الانتداب)، وهو مقترح تقدم به مندوب جنوب أفريقيا إلى المؤتمر، وكانت الغاية من تقديمهِ هو (مساعدة) تلك الشعوب والدول التي كانت خاضعةً لسيطرة الدولة العثمانية، وغيرها من الدول الخاسرة في الحرب العالمية الأولى، وكانت غاية المساعدة المقدمة من خلال الانتداب، هي نهوض الدول الخاضعة تحت الانتداب والوصول بها إلى المرحلة التي تستطيع فيها إدارة شؤونها بنفسها، من خلال وضعها تحت انتداب دولٍ راقية ومتطورة(3).

وفي نيسان من عام 1920م، وقَّع الحلفاء اتفاقية (سان ريمو)، والتي ثبَّتت بشكلٍ نهائي مناطق الانتداب لكلِّ من فرنسا وبريطانيا، حيث دخل العراق بما فيه لواء الموصل تحت الانتداب البريطاني بشكلٍ رسمي(4).

ص: 140


1- المرجع نفسه.
2- المرجع نفسه.
3- للإطلاع على تفاصيل مؤتمر الصلح بفرساي عام 1919م، وتفاصيل مؤتمر سان ريمو بايطاليا، يُنظر: عيسى، حامد ،محمود القضية الكردية في العراق من الاحتلال البريطاني إلى الغزو الأميركي (1914-2004م)، (القاهرة، مكتبة ،مدبولي ،2005م)، ص ص 110-119
4- المرجع نفسه، ص ص 120-123.
المبحث الثاني: دور بريطانيا وتأثيرها على تشكيل الحكم الملكي في العراق

شَهِدَ شهر آب من عام 1920م التنازل الرسمي من قبل الدولة العثمانية عن، المناطق الواقعة ما بين النهرين في معاهدة (سيفر)، وفي هذهِ المعاهدة ولأول مرة تمَّت الإشارة إلى إمكانية استقلال المناطق الكردية، وإقامة دولة كردية عليها، لكن هذا الأمر لم يتم أبداً(1).

لقد مهَّدت الاتفاقيات والمُعاهدات المذكورة آنفاً إلى تضمين مبدأ (الانتداب) في ميثاق عُصبة الأمم ، والذي نصَّت المادة (22) من الفصل الأول منه على ذلك، وقد علَّل ميثاق عُصبة الأمم إقراره لمبدأ الانتداب، بعجز سكَّان تلك المناطق على حكم بلادهم ذاتياً، في ظلِّ الأوضاع الصعبة التي يعيشها العالم الحديث آنذاك، وقد أكَّد الميثاق على أنَّ رفاهية الشعوب الواقعة تحت الانتداب وارتقاءها وديعةٌ مقدسةٌ من ودائع المدنية(2).

وبعد أن حصلت بريطانيا على الاعتراف الأممي بحقها في أن تكون دولة الانتداب على العراق، مُستعينةً بالفقرة الرابعة من المادة (22) من ميثاق عُصبة الأمم، والتي نصَّت على ما يلي:«إنَّ بعض البلاد كانت في القديم تابعةً للإمبراطورية العثمانية، وقد بلغت درجةً راقية يمكن معها الاعتراف مبدئياً بكيانها كأمم مستقلة، على أن تشهد الإرشاد والمُساعدة من دولةٍ أخرى...»(3)، وانطلاقاً من هذهِ الفقرة، أُعلنت

ص: 141


1- الخطاب، مرجع سابق، ص.26.
2- نصَّت الفقرة (1) من المادة (22) من ميثاق عُصبة الأمم ، على ما يلي: في المُستعمرات والأراضي التي لم تعد بعد الحرب تابعة لسيادة الحكومة التي كانت خاضعةً لها سابقاً، والتي يعجز سكانها عن القيام بالحكم الذاتي في بلادهم، تحت الظروف الصعبة في العالم الحديث، يجب أن يُطبق المبدأ القائل بأنَّ رفاهية هذه الشعوب وارتقاءها، وديعة مقدسة من ودائع المدنية، وأن يتضمن هذا الميثاق الضمانات اللازمة للقيام بهذه «الأمانة». كما نصت الفقرة (2) من المادة (22) من ميثاق عُصبة الأمم ، على ما يلي: «إنَّ الطريقة المثلى لتحقيق هذه المبادئ عملياً، هو تسليم وصاية هذه الشعوب إلى الأمم الراقية..... للإطلاع على النص الكامل للمادة (22) من عصبة الأمم، يُنظر: الأدهمي المجلس التأسيسي ،العراقي، ص ص 243-244 وللإطلاع على النص الكامل للائحة الانتداب البريطاني على العراق، يُنظر: المرجع نفسه، ص ص 244-248.
3- المرجع نفسه.

لائحة الانتداب البريطاني على العراق، والتي تضمَّنت عشرين مادة تناولت وضع الدستور العراقي، وحقوق بريطانيا كدولةٍ منتدبة على العراق، وما يترتَّب عليها وعلى العراق جراء هذا الانتداب (1).

وبناءاً على التطورات الدولية الجديدة، باتت رؤية الحاكم المدني وكالةً ولسون لحكم العراق غير صالحة، ولهذا فقد أعلن في بيانٍ رسمي نُشر في 17/ حزيران/1920م، أنَّ هدف بريطانيا هو:«تحقيق استقلال ،العراق، وضمان هذا الاستقلال من قبل عُصبة الأمم، وأنَّ مؤتمراً عراقياً منتخباً من الشعب بمحض اختيارهِ سيُعقد لسنّ القانون الأساس، والتي ستبدأ إجراءات عقده في الخريف القادم، وهذا بناءاً على إعلان لائحة الانتداب البريطاني»(2)، والتي نصَّت مادتها الأولى على ما يلي: «المُنتَدِب يضع في أقرب

وقت لا يتجاوز ثلاث سنوات من تاريخ تنفيذ الانتداب قانوناً أساسياً للعراق...»(3).

إنَّ الشعور الوطني الذي عبرَّ عنه الكثير من العراقيين خلال العامين (1919- 1920م) كان واضحاً، حيث صدرت بعض الصُحف التي كانت تدعو إلى دولةٍ يحكمها الدستور وإلى حكومةٍ وطنية، وإلى إبعاد النفوذ الأجنبي عن العراق، لكن تعنُّت بريطانيا وحاكمها المدني بالوكالة كان واضحاً ومستفزاً لمشاعر العراقيين، مما دفعهم إلى العمل المُسلَّح ضدَّ القوات البريطانية، فيما عُرف لاحقاً ب- (ثورة العشرين)، والتي يُسمِّيها البعض ب- (ثورة التأسيس)، حيث كان من أبرز نتائج هذهِ الثورة إسراع بريطانيا بتشكيل الحكومة العراقية الأولى(4).

لقد عَمَدت بريطانيا رغبةً منها في إنهاء الثورة، إلى مجموعةٍ خطواتٍ كان أولها استبدال الحاكم المدني بالوكالة (إي. تي. ولسون)، والذي كان موقفه

ص: 142


1- جميل حسين الحياة النيابية في العراق (1925-1946م) ،(بغداد، مكتبة المثنى 1983م)، ص18
2- المرجع نفسه.
3- المرجع نفسه.
4- كان من أبرز تداعيات ثورة العشرين في العراق، قتل (500) جندي بريطاني، وجرح أكثر من (1200) جندي آخرين. للمزيد عن خسائر القوات البريطانية خلال ثورة العشرين وللمزيد عن ثورة 1920م في العراق، يُنظر الطاهر، جواد، ثورة العشرين ،بغداد مجموعة العدالة للصحافة والنشر 2010م؛ عیسی ،ندیم الفكر السياسي لثورة العشرين (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1992م).

الرافض من منح العراقيين حكماً وطنياً من الأسباب المهمة لنشوب ثورة العشرين، فاستُبدل ولسون بالسير بيرسي كوكس، والذي كان حاكماً مدنياً للعراق حتَّى أيار من العام 1918م ، قبل إيفادهِ إلى إيران بصفتهِ سفيراً، والذي عاد للعراق في 11/ تشرين الأول / 1920م، أي بعد نحو أربعة أشهر من اندلاع ثورة العشرين(1).

لقد كان للعامل الاقتصادي الأثر الأكبر في قبول بريطانيا فكرة إنشاء حكم وطني عراقي، حيث سَعَت بريطانيا من خلال ذلك إلى أن تتحول إلى الحكم غير المباشر للعراق من جهة، وتخفيض تكاليف حكمها المباشر للعراق من جهة أخرى، حيث انخفض عديد القوات البريطانية في العراق من (33) كتيبة و (6) أفواج خيالة و (16) بطاري-ة مدفعية و (6) سرايا هندس-ة وألغام، وسواها من القوات، إلى (1.5) سرية عربات مدرعة و (4) أسراب من سلاح الجو فقط، في الفترة من 1921م إلى 1929م(2).

عَمَد كوكس بُعيد وصولهِ للعراق إلى تأليف أول حكومة عراقية في /25/ تشرين الثاني 1920م برئاسة عبد الرحمن الكيلاني(3)، وكانت هذهِ الحكومة تعمل تحت إشراف المندوب السامي البريطاني (كوكس)، وسُمِّيت ب- (مجلس الدولة)، وتشكَّلت من رئيس وزراء و(8) وزراء بحقيبة، مع (12) وزيراً بدون حقيبة مثَّلوا مجلساً استشارياً داعماً للحكومة، وقد أكَّد كوكس في كتاب التكليف أنَّ هذا المجلس هو مجلس مؤقَّت لحين جمع المجلس التأسيسي ،العراقي، والذي سيُقرر الشكل النهائي للحكم

في العراق.

واستكمالاً لخطوات إنشاء حكم وطني في العراق، عَمَد الإنكليز إلى عقد

ص: 143


1- المرجع نفسه، ص 31
2- جمیل، مرجع سابق، ص 29.
3- كان عبد الرحمن الكيلاني يرفض رفضاً قاطعاً تولي أي منصب سياسي، ويؤكد أنَّه (درويش)، وإنَّ تولي أي منصب سياسي حتى لو كان رفيعاً، هو ضد أشد مبادئ عقيدته تأصلاً، وأنه يرغب في أن يقضي السنوات المتبقية من عمره في الدرس والتأمل، وأكد الكيلاني بضرس قاطع أنَّه لن يتراجع عن موقفه الرافض لتولي أي منصب سياسي، حتّى إذا كان ذلك يعني الدمار التام للعراق !؟ . للمزيد ، يُنظر : غيرترود ،بیل مرجع سابق، ص ص 480-481.

مؤتمر في القاهرة رأسه ونستون تشرشل(1)، وزير المُستعمرات البريطاني آنذاك في آذار من عام 1921م كان هدفه تقرير نوع الحكم في العراق، والذي تمَّ تثبيته على أنَّه حكم ملكي دستوري، على أن يكون الملك هو فيصل بن الحسين(2)، ثالث أنجال الشريف حسين بن علي شريف مكَّة ، لكن المشكلة التي واجهت المؤتمر هي كيف سيتم اختيار فيصل، فهناك حاجة إلى أن يظهر الاختيار على أنَّه مطلب شعبي، ولذا تمَّ الإيعاز إلى الحكومة المؤقتة للمُناداة بفيصل ملكاً على العراق(3).

وفي تموز من العام 1921م نادت الحكومة العراقية الأولى بفيصل ملكاً على العراق، بشرط أن تكون حكومته ،دستورية نيابية، ديمقراطية مقيدة بالقانون، وقد وافق كوكس من جانبه على ما اقترحته حكومة الكيلاني الأولى، وأعلن أن موافقته مرهونةً بقبول العراقيين فيصل ملكاً على العراق ولمعرفة آراء العراقيين عَمَدت حكومة الكيلاني إلى إجراء استفتاء ع--ام للشعب العراقي لمعرفة رأيهم في أن يكون فيصل ملكاً على العراق، وأظهرت نتيجة الاستفتاء ما يلي: أنَّ (97%) من العراقيين وافقوا على أن يكون فيصل ملكاً على العراق، فيما تذكر المصادر البريطانية أنَّ نسبة الموافقين كانت (%69) من المصوتين، وأنَّ نسبة المعارضة ضدَّ فيصل جاءت بشكلٍ أساس

ص: 144


1- السير ونستون ليونارد سبنسر تشرشل Sir Winston Leonard Spencer-Churchill : ولد عام 1874م في ،لندن، كان رئيس الوزراء في المملكة المتحدة من عام 1940 وحتّى عام 1945م إبان الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1951م تولى تشرشل المنصب ذاته إلى عام 1955م ، يُعد تشرشل أحد أبرز القادة السياسيين الذين انبلجوا على الساحة السياسية خلال الحروب التي اندلعت في القرن العشرين قضى تشرشل سنوات حياته الأولى ضابطاً بالجيش البريطاني، ومؤرخاً، وكاتباً، بل وفناناً، كلَّ في آن واحد تشرشل هو رئيس الوزراء الوحيد الذي يحصل على جائزة نوبل في الأدب، وكان أول من تمنحه الولايات المتحدة المواطنة الفخرية، وينحدر تشرشل من سلالة عائلات الدوقات الأرستقراطية بمارلبورو؛ وهي أحد فروع عائلة سبنسر الأشهر ببريطانيا، كان والده اللورد راندولف تشرشل أحد الساسة ذا الشخصية الكاريزمية، الذي تولى منصب وزير الخزانة آنذاك، وكانت جيني جيرودر والدة تشرشل عضواً بارزاً في المجتمع الأميركي في تلك الآونة. توفي عام 1965م ودفن في بلادون للمزيد ، يُنظر: .Encyclopedia Britannica, vol.7. p.178
2- فيصل بن حسين بن علي الهاشمي ولد عام 1883م، وهو ثالث أبناء شريف مكة حسين بن علي الهاشمي وأول ملوك المملكة العراقية (1921-1933م)، وملك سورية (مارس 1920- يوليو 1920م). توفي عام 1933م. محمد، علاء، مرجع سابق، ص.4.
3- المرجع نفسه.

من الأكراد، الذين وُعِدوا في معاهدة (سيفر) بالاستقلال ثمَّ تخلَّت بريطانيا وحلفاؤها عن وعودها لهم(1).

وفي /23/ آب/ 1921م توّج فيصل ملكاً على العراق، وألقى خطاب التتويج الذي بيَّن فيه أنَّ أبرز مهامه كملك هي(2): مباشرة الانتخابات التي ستفرز مجلساً تأسيسياً يضع الدستور بمشورة الملك، والمُصادقة على المعاهدة العراقية - البريطانية.

ولم يكن العراق في ظلِّ الاحتلال البريطاني أفضل حالاً منه في ظلِّ الاحتلال العثماني، ولكن ما اختلف هو الآليات والوسائل التي استعملها البريطانيون، والتي كانت أكثر حداثةً من تلك التي استعملها ومارسها العثمانيون، لكن ما هو ثابت أنَّ البريطانيين ظلُّوا ينظرون إلى سكَّان العراق على أساس مذاهبهم وطوائفهم، فحين أراد الحاكم المدني وكالةً ولسون إجراء استفتاء عام لمعرفة رأي العراقيين حول تفضيلهم بقاء الإنكليز كقوةٍ مسيطرة من عدمهِ طالب ولسون القاضيين الشرعيين في بغداد السُّنِّي والشيعي بانتخاب (25) شخصاً سُنياً، و(25) شخصاً شيعياً للحديث معهم حول هذا الاستفتاء، ولكن الرائع في هذه المسألة أنَّهما رفضا، وبدلاً عن ذلك تمَّت الدعوة إلى حشدٍ كبير في جامع الحيدر خانة ببغداد، وهناك تمَّ انتخاب ممثلين عن أهالي بغداد بمختلف طوائفهم للحديث مع ولسون، وهذا إنْ دلَّ على شيء فهو يدل على رغبة التعايش بين العراقيين، رغم كل محاولات تفرقتهم، ولم يعمد البريطانيون إلى محاولة تقسيم العراقيين على أساس المذهب فقط، بل إنّهم عمَّقوا الشرخ الذي كان موجوداً أصلاً بين الريف والمدينة، وذهبوا إلى إقرار القانون

ص: 145


1- (45) كان الاستفتاء أشبه بالبيعة، فقد وقّع بعض أهالي المحلات الذين تم اختيارهم على مضابط لذلك، وقد كانت غالبية العراقيين لا تعرف ما هو الاستفتاء وماذا يحوي وقد بيّنت النتائج أنَّ أهالي بغداد وقعوا (157) مضبطة مؤيدة لفيصل ، لكن (68) منها طالبته بالابتعاد عن النفوذ الإنكليزي، وبعقد مؤتمر وطني، وفي البصرة كانت هناك (47) مضبطة مؤيدة دون شروط ، وفي الموصل كانت هناك (68) مضبطة اشترطت (6) منها حماية حقوق الأقليات والأكراد، و (7) اشترطت استمرار الانتداب البريطاني، وفي كركوك كان عدد المضابط المؤيدة (صفر) ، في مقابل (21) مضبطة رافضة، كما اشترطت بعض المضابط المؤيدة في كلّ من لوائي الحلة والدليم استمرار الانتداب البريطاني. للإطلاع على النتائج مفصلةً، يُنظر : صلاح عبد الرزاق الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الإسلامي (1905-1920م)، ط4، (شركة الأنس للطباعة والنشر، د.ت.)، ص ص 161-162.
2- للإطلاع على النص الكامل لخطاب التتويج، ينظر الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج 1، ص ص 35- 37.

العشائري، وهو عبارة عن مجموعةٍ من الأعراف القبلية كانت تطبقها العشائر فيما بينها، ولا زال بعضها معمولاً بهِ حتّى اليوم، وفيما بعد جعلوه نصاً دستورياً ضمَّنوه القانون الأساسي العراقي عام 1925م، علماً أنَّ هذهِ الأنظمة العشائرية قد اعترف الإنكليز بها رسمياً منذ تموز من عام 1918م ، لذا فقد بقي العراق حتّى عام 1958م، حيث حصل التغيير السياسي وانتهى الحكم الملكي خاضعاً لنظامين قضائيين الأول خاص بالمدن، والثاني خاص بالريف العشائري(1).

لقد تجاوز الإنكليز كلَّ المعايير وذهبوا إلى أبعد من الطبقية، حيث عملوا على فصل أولاد مشايخ العشائر ، وعزلهم عن أقرانهم من الناس العاديين، وعملوا على بناء مدارس خاصة بهم، ففي تقرير بريطاني يعود إلى العام 1918م، يؤكِّد البريطانيون فيه على ما يلي:«يجب عدم إرسال أولاد هذهِ الطبقة إلى المدارس الحضرية ليختلطوا بأبناء المدن، فتُفسدهم الرذائل المتنوعة للمدينة العراقية، وألاَّ يرافقوا أولئك الذين ينظر آباؤهم إليهم على أنَّهم أدنى منزلةٌ»(2)، والنص السابق يُظهر مدى وحدة التمييز الذي كان البريطانيون يمارسونه، ويزرعونه في عقول البعض(3).

أمَّا التمييز على أساس مذهبي فكان هو الأكثر وضوحاً، فقد أُقصي الشيعة من أغلب المراكز المهمة، وعلى الرغم من أنَّ الشيعة كانوا في مطلع القرن العشرين يمثلون نحو (60%) من مجموع سكان العراق، إلا أنَّهم أُقصوا بشكل متعمد عن دوائر صنع القرار، وعن هذا الأمر تتحدث الموظَّفة البريطانية المهمة في العراق غيرترود بيل، قائلةً: «أنا شخصياً فأبتهج وأفرح أن أرى الشيعة الأغراب يقعون في مازق حرج، فإنَّهم من أصعب الناس مِراساً وعناداً في البلاد»(4)، أمّا بيرسي كوكس فذهب إلى القول في العام 1918م إلى: «إنَّ الذين تُناط بهم مسؤولية التعاون مع الإدارة البريطانية هم الطائفة اليهودية، والوجهاء والأشراف العرب من سكان مدينتي

ص: 146


1- الجدة، رعد، النظام الدستوري في العراق، ط2، (بغداد المكتبة القانونية، 2007م)، ص303.
2- حنا بطاطو، مرجع سابق، ج1، ص 43.
3- المرجع نفسه، ج 1، ص 120.
4- غيرترود ،بیل مرجع سابق، ص 478 .

بغداد والبصرة، والملاَّكين، والأغنياء، والشيوخ، والأكابر للعشائر المتواطئة»(1)، كما أنَّ أهم المناصب في العراق أُسندت إلى شخصياتٍ أقل ما يُقال عنها أنها كانت نفعية، لا همَّ لها إلا إرضاء الإنكليز، وتثبيت مصالحهم الخاصة، حتّى وإن كان ذلك على حساب العراقيين الآخرين ، فمثلاً كان رئيس الوزراء العراقي الأول (عبد الرحمن الكيلاني)، يُخاطب المِس بيل قائلاً:«أقول لكِ أن تكوني حذرة من الشيعة، إذا رجعتِ إلى صفحات التاريخ ستجدين أنَّ أبرز ميزة تُميّز الشيعة هي خفتهم، التقلب والوثنية تجتمعان فيهم، إياكِ أن تعتمدي عليهم»(2).

إنَّ شكل العلاقة مع العراقيين اختلفت مع تتويج فيصل ملكاً على العراق في العام 1921م، ففي السابق كانت بريطانيا متفردة بإدارتها للشأن العراقي، ولكن مع وجود ملك وحكومة بات للبريطانيين شريكٌ في إدارة الشأن العراقي، على الرغم من أنَّ النفوذ البريطاني ظل قوياً.

وبعد اكتمال تنصيب فيصل وتشكيل حكومة عراقية جديدة بدأت الأنظار تتجه نحو إقرار المعاهدة العراقية البريطانية من أجل تنظيم العلاقة بين بريطانيا والعراق عَقِب إقامة حكم وطني عراقي، حيث وافق مجلس الوزراء العراقي في حزيران عام 1922م على المعاهدة العراقية البريطانية، ولكنه اشترط أن يوافق عليها المجلس التأسيسي العراقي أيضاً(3).

لقد كانت المُعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922م تتضمن عدَّة فقرات، كان أهمها: أنَّ بريطانيا ستأخذ بيد الدولة العراقية الجديدة وتهيؤها للانضمام إلى عُصبة الأمم المتحدة، وأنَّ تحالفاً عسكرياً سيقوم بين بريطانيا والعراق، إضافةً إلى احتفاظ بريطانيا ومن خلال مندوبها السامي بمسألةِ السيادة الجوية في العراق(4).

ص: 147


1- المرجع نفسه.
2- المرجع نفسه.
3- الأدهمي ، المجلس التأسيسي العراقي، ص33.
4- المرجع نفسه.

وبما أنَّ المُعاهدة العراقية البريطانية لكي تصبح نافذة

يجب مُصادقة المجلس التأسيسي العراقي عليها، وهذا المجلس كان من أبرز ما أشار إليه الملك (فيصل) في خطاب التتويج، حيث أُجريت انتخابات المجلس التأسيسي وعُقدت أولى جلساته في آذار من عام 1924م ، وقد ضمَّ هذا المجلس شيوخاً للعشائر وبعض المثقفين والمحامين وعددٍ من أكراد العراق وبعض المسيحيين واليهود(1).

ولأنَّ المجلس التأسيسي العراقي لم يُصادق لغاية حزيران من عام 1924م على المعاهدة العراقية البريطانية، وُجِّه تهديد بحلِّ المجلس من قبل المندوب السامي البريطاني إلى الملك فيصل في حال عدم إقرار المعاهدة، وقبل انقضاء ليل العاشر من حزيران عام 1924م صادق المجلس التأسيسي العراقي على المعاهدة، حيث صوَّت للمعاهدة (37) من أصل (69) عضواً حضروا المجلس(2). وبهذهِ المعاهدة اكتملت خطوات البريطانيين بتثبيت حكمهم غير المباشر للعراق.

الخاتمة والاستنتاجات:

إنَّ بريطانيا خدعت الشعب العراقي حينما أعلنت أنَّها ستحرره من الاستعمار العثماني.

إنَّ بريطانيا عَمَدت إلى تمزيق وحدة الشعب العراقي، إذ إنَّها أقصت أبناء المذهب الشيعي من المشاركة في الحكم.

لم يكن الحكم الملكي في العراق، ولاسيَّما في بدايتهِ، مستقلاً عن السياسة البريطانية.

شكَّلت ثورة الشعب العراقي عام 1920م رفضاً عملياً للاحتلال البريطاني.

ص: 148


1- المرجع نفسه.
2- المرجع نفسه.

جاءت بريطانيا بشخص غير عراقي ليحكم العراق، وهو مخالف لكلّ ما وعدت بهِ قبل احتلالهم لذلك البلد.

عَمَدت بريطانيا نتيجةً لتأثيرات ثورة العشرين إلى حكم العراق حكماً غير مباشر وهذا تغير كبير أحدثتهُ ثورة العشرين في السياسة البريطانية.

إنَّ الشعب العراقي استمر في رفض السياسة البريطانية، وهو ما تمثل برفض المرجعيات الدينيَّة الشيعية التعامل مع الإنكليز، فضلاً عن ثورات العشائر في الجنوب والوسط والشمال كلَّها دلائل بارزة على ذلك الرفض.

ص: 149

الإدارة الاستعمارية البريطانية في العراق (1914-1920م ) الموقف حیال القومیات والاقلیات الدینیَّة

اشارة

سیف عدنان ارحیم القیسی(1)ارتبط العراق من الناحية الجيولوجية بالكتلتين العربية والإيرانية الواقعة بين منطقة جبال زاجروس The Zagros Mountains وطوروس (The Taurus Mountains)، ولا زال يُشكل هذا الموقع أهميةً في النواحي السياسية والجيولوجية والبشرية، فيُلاحظ أنَّ حدوده الطبيعية مفتوحةً أمام معظم المناطق والدول المجاورة خلال مراحل الحرب والسِّلم وعِبرَ كل حِقَب التاريخ بما فيها خضوعه للنفوذ والسيطرة العثمانية ولأكثر من أربعةِ قرونٍ مضت فقد ارتبط بالدولة العثمانية (The Ottoman Empire في ظروف قوتها وضعفها، ولذلك أضحت مميزات موقعه الجغرافي وموارده وإمكانياته محط أنظار القوى الدولية الكبرى (بريطانيا، فرنسا، روسيا، ألمانيا)، فضلاً عن ذلك الاستحواذ على خيراتهِ، وفي مقدمتها إمكانية

ص: 150


1- أستاذ جامعي - العراق.

وجود النفط في العراق بعد اكتشافهِ في إيران، إضافةً إلى استغلال شبكة المواصلات، ولهذا تغلغلت الشركات التجارية فى ولايات العراق الثلاث.

كتب بعض الرحالة الأجانب مؤلَّفاتٍ وثَّقت الجوانب الحياتية والجغرافية والدينية والاجتماعية في العراق، ومنها رحلة المُقيم البريطاني في بغداد كلوديس جيمس ریج(1) (James Rich Claudius) وما بعدها في الموصل عام 1820م ، كما تعرف الرحالة والسياسيون البريطانيون على مكونات المجتمع العراقي من المسلمين واليهود والمسيحيين والقوميات المتعددة كالعرب والكُرد والتركمان تجمعهم روح التعايش السلمي، فحاولوا خرقها بكلِّ وسائلهم والطرق المُتاحة لهم، ومنها توثيق العلاقات مع العشائر العراقية العربية والكردية في محاولة إضعافها وتحديد صلتها بالدولة العثمانية، ولم يكتفوا بذلك بل عملوا على تشجيع القوميات والطوائف على إقامة دول مستقلة بذاتها، تدعمها بكل الإمكانيات المادية والمعنوية، ولا شكّ أنَّ تلك السياسة حقَّقت بعض خطوات النجاح عن طريق استمالتها بعض مَنْ وعدتهم بالاستقلال عن الدولة العثمانية، من دون أن تُظهر لهم حقيقة ما دار في كواليس الغرف المغلقة بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية من تقسيم الدول العثمانية والولايات التابعة لها، ومنها العراق ليكون في إطار مطامع بريطانيا بموجب اتفاقية سایکس - بيكو عام 1916م.

ولكن السؤال هل كان الهدف من التقارب بين الجانبين ورفع راية الدفاع عن حقوق الأقليات هدفه صيانة حقوقهم، أو الهدف منه خلق مكونات مجتمعية منقسمة قد تفجر أزمة داخلية في أي وقت؟

لقد استغلت الإدارة العسكرية البريطانية التناقضات الدينية والمذهبية والمناطقية القائمة في العراق لتوظفها لمصلحتها وديمومة وجودها، فضلاً عن ذلك شجعَّت

ص: 151


1- كلوديوس جيمس ريج (1787-1821م): هو مُستشرق وعالم آثار إنكليزي، شَغَل منصب المقيم البريطاني في العراق خلال الفترة (1808-1821م)، وكان مندوباً عن شركة الهند الشرقية البريطانية، توفي عام 1821م بمدينة شيراز بعد إصابته بوباء الكوليرا. للمزيد يُنظر : باسم حطّاب ،الطعمة، تغلغل النفوذ البريطاني في العراق (1798-1831م)، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الآداب جامعة بغداد 1985م ص 85

القوميات والطوائف على تحقيق الانفصال وتجزئة المجزأ ؛ وهذهِ إشكالية العراق اليوم؛ ومنها تنطلق إشكالية هذهِ الدراسة التي نحن بصددها.

تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على الإدارة العسكرية البريطانية وآلية تعاملها مع القوميات والأقليات الدينية في العراق من عشية الاحتلال عام 1914م وحتّى إعلان الحكم الأهلي في العراق 1920م، مبينةً بالشواهد والوقائع التاريخية كيفية افتعالها للأزمات الداخلية في العراق، ولاسيَّما موضوع الأقليات، وهي فرصة لها للبقاء والنفوذ وهذا ما حصل واقعاً.

تمهيد: العراق في الإستراتيجية الاستعمارية أواخر القرن التاسع عشر

إنّ حقيقة فهم فحوى سياسات الدول الكبرى في المشرق العربي يُلزم العودة إلى سياساتها أواخر القرن التاسع عشر وبيان الدوافع السياسية والاقتصادية والعسكرية والدينية، ومنها الأطماع الأوربية الممثلة ببريطانيا وفرنسا، وقد ساعدتها عوامل فرضت هيمنتها على المنطقة ومنها الأقليات القومية والدينية في الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية التي ازدادت ضعفاً وتفككاً(1).

لا شكٍّ أنَّ عوامل الضعف التي شَهِدتها الدولة العثمانية كانت قد أسهمت في تسهيل مهمة القناصل ووكلاء الدول الأوروبية وزادت من تدخلهم في الشؤون الداخلية للدولة(2)، فقد كان النشاط البريطاني على أشدهِ في العراق(3)، كما كان للبعثات التبشيرية دور مهم في بثّ المفاهيم الأوروبية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ومنها تأسيس المدارس كمدارس (الإليانس) اليهودية التي تأسَّست في مدن العراق وفي الموصل والكاظمية والحلَّة والعِمارة تحت إشراف الدكتور دبليو

ص: 152


1- علي محافظة، موقف الدول الكبرى من الوحدة العربية بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1985م)، ص ص 13-14.
2- علي ناصر حسين الإدارة البريطانية في العراق (1914-1921م) ، بغداد، ص ص 15-16.
3- إيناس سعدي عبد الله، تاريخ العراق الحديث (1258-1918م)، (بغداد، مكتبة عدنان، 2014م)، ص 405.

أي. ويكرام(1) W.E .Wikram .، إذ نشطت في شمالي العراق وجنوبهِ وأسَّست لها مدرسة في العَمَادية، كما أنَّ دعم القنصل الفرنسي للإرساليات الدينية الكاثوليكية كان على أشدهِ، وفي الوقت نفسهِ تأسَّست مدرسة ألمانية لأول مرةٍ في الموصل عام 1909م ولكنها لم تستمر طويلاً، وبعدها كثر تردد البعثات الألمانية للتنقيب عن الآثار العراقية(2).

لم يقتصر النشاط التبشيري على البعثات التبشيرية البريطانية والفرنسية، بل تعدى الأمر إلى البعثات التبشيرية الأميركية هذهِ المرة التي بدأت مع كونها لم تشترك بأي نشاط في ذلك الصراع، إلَّا أنَّها خاضت صراعاً من أجل الحصول على الأسواق لتصريف منتجاتها الصناعية والاشتراك في التجارة العالمية، وكشفت الوثائق الأميركية بدورها وبشكلٍ واضح عن نشاطات المبشِّرين التجسسية في تزويد حكوماتهم بمعلوماتٍ تفصيلية عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأخذت البعثات التبشيرية الأميركية البروتستانتية بالتزايد في الأقسام الشمالية من العراق ولاسيَّما في الموصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان مدعوماً من قبل بريطانيا المُساندة للبروتستانتية تجاه الكاثوليكية الفرنسية، والتي شكَّلت تهديداً خطيراً لمصالحها، وبسبب تلك الظروف المساعدة تتابع قدوم المبشرين الأميركان من أمثال بركنز (Perkins وفورد (Ford) إلى الموصل والمناطق الكُردية أيضاً، وكانوا يقدمون لهم الخدمات الطبية والتعليمية التي يفتقر إليها سكَّان تلك المناطق بسبب إهمال السلطات الحكومية لها(3).

سجلت وقائع الحرب العالمية الأولى المحك الذي ركَّزت بريطانيا نفسها فی مصر ثمَّ لتحدد نقاط بقائها في العراق بوصفهِ موقعاً وسطاً بين مصر والهند،

ص: 153


1- هو : لاهوتي اسكتلندي، مثقف وأديب وسياسي، قدم في زيارة مكث فيها زهاء عشر سنوات في شرق كردستان مبعوثاً دينياً من لدن رئيس أساقفة كانتربري لاستصلاح أحوال الأثوريين الدينية في موطنهم بكردستان، له مؤلف بعنوان مهد) (البشرية)، يتناول فيه أوضاع مسيحيي العراق. للمزيد ، يُنظر الموقع الإلكتروني: http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=761586.0
2- فؤاد فزانجي، العراق في الوثائق البريطانية (1905-1930م) ، (دار المأمون، بغداد، 1989م)، ص 60.
3- سعاد رؤوف شير محمد، التغلغل الأميركي في العراق (1921-1939م) ، (بغداد، مؤسسة ثائر العصامي، 2016م)، صص 36-38.

وهكذا تجسَّدت المواقف البريطانية بناءً على إستراتيجيةٍ واضحة بدفع من الرأسمال البريطاني التجاري في محاولةٍ لإيجاد أسواق وموارد أولية قد تصاعد مع أهمية المنطقة من الناحيتين الدفاعية والإستراتيجية(1).

الأساليب البريطانية في استيعاب الأقليات وتوظيفها في العراق

سعی القناصل والوكلاء البريطانيون إلى كسب ثقة طوائف العراق بهدف الحصول على نفوذٍ في البلاد، وعملوا على اختراق منظومة العشائر الكردية وإثارة مشكلة العشائر العربية(2).

وكان للمناطق الشمالية التي يقطنها الأكراد بوصفها أجزاءً غنية ومهمة من الناحية الإستراتيجية مكان خاص في التوجهات البريطانية، مما دعا مسؤوليها وبعض تجارها للسعي بمختلف الوسائل لتعزيز نفوذهم فيها ، بغية تأمين الطرق البرية الموصلة إلى الهند، والسيطرةٍ على منطقةٍ واسعة وحساسة من الشرق الأوسط، من خلال إحكام السيطرة على شمالي ،العراق، وتحديد الطرق المهمة والمواقع الإستراتيجية التي وصلها عدد من الضباط البريطانيين(3).

لقد كرست الإجراءات التي اتخذتها الإدارة البريطانية في تعزيز نفوذها في العراق

ومن هذهِ الإجراءات لجوؤها إلى منح التأييد القوي للمصالح التجارية البريطانية ولاسيَّما في العراق، فلما طلب خط المِلاحة العائد لشركة لينج(4) إذن الحكومة العثمانية بتشغيل باخرة ثالثة في دجلة، أولت الحكومة البريطانية دعمها التام للشركة،

ص: 154


1- فاروق صالح العُمر ، العلاقات العراقية - البريطانية (1922-1948م)، (بيروت، دار ومكتبة البصائر، 2014م)، ص6.
2- عبد العزيز سليمان ،نوار تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حكم مدحت باشا (القاهرة دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1968م، ص301.
3- صالح إدريس، سياسة بريطانيا تجاه كرد العراق، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد، كلية التربية ابن رشد)، - عبد الرحة ص ص 39-40.
4- هي شركة نهرية بريطانية، أسستها أسرة لنج في عام 1841م، عندما سجلها ستيفن فينس لنج في لندن بماركة الحكومة البريطانية مع أخويه هنري بلوس وتوماس كير، باسم «شركة لنج إخوان المحدودة»، وتنوع نشاط الشركة بین النقل والتجارة، ولقيت مُساندة من الوكيل السياسي البريطاني في العراق، وحصلت رسمياً على الحماية من وزارة الخارجية البريطانية.

فقد كتب لويد جورج(1) Lord George إلى السير تشارلس هاردنغ (Charles Hardinge) في 18 كانون الأول / 1906م يؤيد له دعم الشركة: «أن أبادر القول أنَّ أيَّ إضعاف لوضعنا الحاضر في دجلة لا يعني فقط إضعاف مركزنا برمتهِ في بلاد ما بين

النهرين، بل يعني كذلك زيادة مقابلة في التجارة ونشاط الألمان»(2)، وقد اتسع هذا النشاط واكتسب بُعداً آخر مع اتساع أساليب الاستعمار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأصبح عاملاً مهماً للتصارع بين الدول على إخضاع البلاد المضطهدة، فلم يكن الاستعمار مقتصراً على القوة العسكرية والنشاط الاقتصادي، بل عملوا على إتباع سياسة قائمة على الأمور الآتية:

1. إغراء القوميات المنضوية تحت لواء الدولة العثمانية بمنحهم الاستقلال في حال الانتفاض على الدولة العثمانية.

2. استخدام الأساليب الإنسانية لتحقيق أهداف وتوسعات استعمارية في العراق عن طريق حماية الأقليات الدينية(3).

ويظهر أنَّ هذا التقارب مع القوميات أخذ بُعداً أكثر قوةً من قبل، لاسيَّما بعد انقلاب الاتحاديين عام 1908م، عندما صرّح قادة جمعية الاتحاد والترقي: «أنّ الأمة العثمانية كانت وستظل هي الأمة الحاكمة في السلطنة العثمانية، وأنَّ العثمانيين يتمتعون بحقوق وامتيازات سامية بصفتهم ،فاتحين فلا مجال إذاً للاعتراف بحقوق مساوية للعناصر العرقية الأخرى»(4)، وكان هذا التصريح كافياً ليولِّد شعور بالتمرد على الدولة العثمانية آنذاك.

مع ذلك فإنَّه لم يحدث أيَّ تعديلٍ في سياسة الأوساط العثمانية الحاكمة إزاء

ص: 155


1- لويد جورج (1863-1945م): سياسي بريطاني، وعضو في حزب الأحرار، انتخب عدة مرات عضواً في مجلس العموم البريطاني منذ العام 1890م، شغل منصب رئيس الوزراء للفترة (1916-1922م)، ومُنح لقب لورد. للمزيد، يُنظر :.Encyclopedia Britannica Ultimate Reference Suite, Chicago: 2013 .105
2- غسان العطية، نشأة الدولة (العراق)، ترجمة: عطا عبد الوهاب (لندن، دار ،اللام (1988م ، ص 105.
3- عبد العزيز سليمان نوار وعبد المجيد نعنعي التاريخ المعاصر لأوربا، (القاهرة، 1975م)، ص ص 308-309.
4- محمد إبراهيم محمد، مقاومة العرب للاضطهاد العثماني، بغداد، دار الجواهري، 2011م)، ص33.

الشعوب غير التركية بعد انتصار الاتحاديين في عام 1908م ، بل على العكس من ذلك سرعان ما ظهرت منطلقات جديدة وهي خيبة في نفوس هؤلاء السكَّان تجاه ،الاتحاديين، ومنها أمور أخرى بدأت تمس حياة الفرد اليومية بصورةٍ مباشرة، والتي أسهمت في انتقاد الاتحاديين ليوظَّف ذلك الموقف ضدهم(1)، وفي تقرير بريطاني أوضح أهداف دولته تجاه السكَّان المحليين مستفيدين من موقف السكَّان العدائي للاتحاديين:«لم يكن لدينا سبيل للاعتقاد بأنَّهم كانوا معادين كلِّياً للعثمانيين، وفعلاً فإنَّ المليون أو أكثر من السكان لم يكونوا كذلك، ولكن أملنا يعتمد على قدراتنا في إقناعهم منذ البداية أن ينتابنا نحوهم ونحو معتقداتهم طيبة وبذلك نستطيع إبقائهم على الحياد، فبدعوتنا نسوي خلافاتنا . العثمانيين دون التأثير عليهم»(2).

وكان من بين جهود تعزيز مركز بريطانيا إرسال الإرساليات ومنها الإرسالية الطبية في الموصل العائدة إلى الجمعية الإرسالية لكنيسة إنكلترا فيما بين النهرين وكادت أنْ تُنهي أعمالها لعدم توفر الأموال لولا تدخل الموظَّفين البريطانيين لضمان استمراريتها، وبهذا كتب لويد جورج في مذكرة بتاريخ 3/أيلول/1907م، قائلاً:«يجب أنْ نُدرك بوضوح من وجهة النظر السياسية، أنَّ وجود الإرسالية وعملها لهما أهمية عظيمة وبعيدة المدى، ومن المتعيَّن على المصالح البريطانية كذلك، إمَّا أن تتطور سريعاً، أو أن تتدهور على مدى العقد القادم من السنين، نظراً للتطور الذي بشَّر بفتح هذهِ البلاد للاستثمار والمنافسة الأجنبيتين، ويبدو أنَّ من غير المُستحسن جداً التفريط بمثل هذهِ الوسيلة القوية من وسائل نشر الحضارة والنفوذ السياسي»، وقد أمكن للإرسالية في الموصل أن تستمر في البقاء بمعونةٍ من القنصلية البريطانية في ،بغداد، وقد زوّدت القنصلية اعتباراً من 1906م إحدى المدارس اليهودية بأموالٍ لقاء المباشرة بتدريسها للغة الإنكليزية(3).

ص: 156


1- عبد الرزاق أحمد النصيري دور المجددين في الحركة الفكرية والسياسية في العراق (1908-1932م)، (بغداد، مكتبة ،عدنان (2012م ، ص 218.
2- فؤاد قزانجي، العراق في الوثائق البريطانية، ص 4.
3- غسان العطية، مرجع سابق، ص ص 105-106.
الاحتلال البريطاني للعراق وتشكيل الإدارة العسكرية:

عند اندلاع الحرب العالمية الأولى في آب من عام 1914م وانضمام الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، وانضمامها إلى كتلة الوسط في الخامس من تشرين الثاني عام 1914م نزلت القوات البريطانية مدينة الفاو في السادس من تشرين الثاني عام 1914م، ومن ثمَّ خاضت غِمار حرب ضدَّ القوات العثمانية المتواجدة في العراق، واستمرت الحرب على العراق خلال المدة (1914-1918م)(1).

وحينما أكملت الجيوش البريطانية احتلالها للعراق انتهت مهمة المراكز التجارية ودبلوماسية تعزيز النفوذ إلى السيطرة البريطانية المباشرة، وإتباع أساليب تثبيت الوجود البريطاني القائم على أساس تكريس سياسة الاستيلاء والسيطرة، وإقامة نظام احتلال مطلق وهو ما عُرف بالإدارة العسكرية البريطانية للعراق (1914-1920م)، وبدأت الإدارة البريطانية في العراق ببناء تنظيماتها على شكل مؤسَّساتٍ يُديرها القادة العسكريون، وكانت سياساتهم قائمة على فرض القوانين والأنظمة الهندية التي أثارت امتعاض السكّان منها(2)، وعلى ما يبدو أنَّ الإدارة العسكرية البريطانية وجدت ضالَّتها في الأقليات من اليهود والمسيحيين لشغل الوظائف الحكومية.

ومع الاعتراضات على نظام الإدارة العسكرية البريطانية بيَّنت بريطانيا عن عزمها البقاء في العراق، حتّى لو شكَّلت حكومة تمثل الشعب العراقي، فيُشير أحد الضباط البريطانيين في العراق برترام توماس(3) (Bertram Tomas) عن الاستقلال بقولهِ:«كيف نعطي الاستقلال الناجز والنهائي لشعب لا يعي معنى السياسة، وفي كثير من الأماكن لا تجد ذكراً أو معنى لكلمة حكومة على الإطلاق، كيف تُقيم حكومات

ص: 157


1- للمزيد، يُنظر: جعفر عباس حميدي، تاريخ العراق المعاصر (1914-1968م) ،(بغداد، مكتبة عدنان، 2015م)، صص 16-21
2- ياسين طه ظاهر، دار الاعتماد البريطانية وتكوين الحكم الوطني في العراق ،(1920-1932م)، (بغداد، مكتبة أحمد الدباغ، الب 2011م)، ص ص 28-29
3- برترام توماس (1893-1950) : موظف مدني ورحالة إنكليزي خدم في عدة وظائف حكومية في العراق خلال المدة (1916-1918م)، وفي الأردن (1922-1924م)، شغل بعدها منصب وزير المالية لسلطان مسقط وعُمان من (1932-1925م). للمزيد يُنظر : مذكرات برترام توماس ترجمة كامل سلمان الجبوري وعبد الهادي فنجان (بيروت مؤسسة العارف للمطبوعات، 2002م).

وإدارات وطنية تقودهم إلى التخلص من التخلف، وتمكينهم من حق الاختيار في بلدٍ غالبية رجالهِ من الجهلاء»(1).

وثمَّة مجموعة من الافتراضات حول الحكم كانت أكثر تعقيداً من المفهوم الصريح للحكم الاستعماري المباشر، وبات على البريطانيين إقامة دولة تستمد فيها الحكومة من ساكني ،البلاد، ومع ذلك سيحتفظ البريطانيون بما يكفي من السلطة السياسية لضبط السياسات والقرارات غير المقبولة التي تتخذها الحكومة الوطنية، وتمثل الأمر اللازم بإفساد علاقاتها مع الدولة العراقية(2).

وهذا ما دفع بريطانيا لتوظَّف من بقائها بعد فرض الانتداب البريطاني على العراق بشكل رسمي، بموجب صك الانتداب الصادر من عصبة الأمم في 25/نيسان/1920م التي أبرمت كنتيجة لتصفية الدولة العثمانية وإدخال مبدأ «حماية الأقليات» في صكوك الانتداب لتبرير وجودها الدائم والعمل على التفتيت القومی(3).

بل تحولت مسألة حماية حقوق الأقليات الدينية والعِرقية إلى عقبةٍ في تشكيل المملكة العراقية في عام 1921م عندما أجري استفتاء حول ترشيح فيصل بن الحسين (1933-1881م) ملكاً على العراق، فلقد طالب أصحاب الديانات والأقليات بإضافة بند في التصويت ينص على حماية حقوق الأقليات السياسية والثقافية(4).

اتفاقية سايكس - بيكو (1916م) ومشروع التقسيم:

ركَّزت بريطانيا نشاطها في العراق بعد تزايد النفوذ الألماني، ومحاولتهِ مد سكَّة حديد بغداد - برلين التي أثارت جدلاً واسعاً في أروقةِ الدول الأوروبية المنافسة لألمانيا، فخشيت بريطانيا أن تتزعزع سيادتها على البحار، وأدركت أنَّه لم يبقَ بعد

ص: 158


1- برترام توماس مخاطر ورحلات في الجزيرة العربية ترجمة عبد الهادي فنجان الساعدي، بغداد، دار مصر ، ،مرتضى 2009م)، ص 76.
2- عديد دويشا، عراق الحقبة الملكية، ترجمة: مصطفى نعمان أحمد ، بغداد، دار مصر مرتضی، 2012م)، ص29.
3- شامل عبد القادر ومحمد جبير يهود العراق.. المقدمات التاريخية والخطاب الثقافي بغداد، دار ،الجواهري 2013م)، ص 26
4- (25) عدید ،دویشا مرجع سابق، ص95.

هذا السبيل إلى التفاهم مع ألمانيا، فتقدمت إلى فرنسا تتقرب إليها حتّى عقدت معها اتفاقية عام 1904م، ثمَّ توسَّطت فرنسا بين بريطانيا وروسيا القيصرية فتمَّ الاتفاق بينهما على تقسيم مناطق النفوذ في عام 1907م(1).

وبعد قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م ومحاولات الشريف حسين بن علي شريف مكَّة البحث عن مشروع الدولة العربية الكبرى، الذي وِعَد بهِ من قبل البريطانيين في حال إعلانهِ الثورة على الدولة العثمانية لتتحفظ بريطانيا على الحدود التي حددها الشريف حسين بن علي، ولذا وجدت بريطانيا من الضروري التوصل مع حليفتها فرنسا إلى تسويةٍ حول تقسيم المشرق العربي، فطلبت بريطانيا أنْ تُحدد لها مندوباً لوضع اتفاقية التقسيم، فعيَّنت فرنسا مستشار سفارتها الأول بلندن فرانسوا جورج بيكو (Francois Georges-Picot) (1951-1878م)، لتُعين بريطانيا من جانبها مارك سايكس

(Mark Sykes) (1919-1879م)، لتبدأ مفاوضات التقسيم السرية بينهما(2).

وفي حقيقة الأمر إنَّ اتفاقية سايكس - بيكو لم تكن في حقيقتها إلا رداً على تحركات الشريف حسين بن علي والقادة القوميين الذين طالبوا بالوحدة العربية القومية، والذين كانوا يأملون بأنَّ الطريق بات مفتوحاً أمام تنفيذ المشروع القومي العربي، الذي كان محور نشاطهم وتفاهمهم مع بريطانيا، والتي أثبتت التطورات اللاحقة أنَّ هذا التفاؤل لم يكن في محلِّهِ(3)، مع أنَّ بريطانيا لم تكن عازمةً على تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية، وكان لها موقف معروف منذ أن برزت روسيا كقوةٍ كبرى مناوئة لجارتها الدولة العثمانية ومزاحمةً لبريطانيا في مناطق نفوذها، وكان رأي بريطانيا المحافظة على سلامة الدولة العثمانية، ومنع روسيا من الوصول إلى البحر المتوسط(4) The Mediterranean Sea bud!

ص: 159


1- عبد الفتاح إبراهيم على طريق الهند (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1978م)، ص130.
2- ه- . أ. ل. فِشر، تاريخ أوربا في العصر الحديث (1789-1950م)، ترجمة: أحمد نجيب هاشم ووديع الضبع (القاهرة)، دار المعارف، 1958م)، ص 573.
3- رغيد الصلح، حربا بريطانيا والعراق ،(1941-1991م) ،(بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013م)، ص 37 .
4- جورج لنشوفسكي، الشرق الأوسط في الشؤون العالمية، ترجمة: جعفر خياط، بغداد، مكتبة دار المتنبي 1964م ، ج 2، ص 105.

ولكن الموقف تغير بالنسبة لبريطانيا بسبب تدخل الدول الأوربية فى شؤون الدولة العثمانية بطرق وأساليب مختلفة، وذلك استناداً إلى الامتيازات الممنوحة من قبل الدولة العثمانية للأجانب في تواريخ مختلفة، لذا أصبحت الدول الأوربية تعد تلك الامتيازات بمثابة حقوق مُكتسبة لها ولرعاياها، ودخول ألمانيا كحليف للدولة العثمانية هو ما أثار بريطانيا المحافظة على بقاء الدولة العثمانية فرأت بضرورة اقتسام أملاكها(1).

ولم تَكَد الدولة العثمانية تدخل الحرب حتَّى بدأت المفاوضات السرية بين دول الوفاق ترى النور لاقتسام أملاكها، فقد تمَّ الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا وروسيا في آذار من عام 1915م على أن تكون القسطنطينية من نصيب روسيا، ووافقت هذه الدول في معاهدة لندن المُنعقدة في 26 نيسان/1915م والتي انضمت إليها إيطاليا على أن يُحفظ التوازن السياسي في البحر المتوسط بمنح إيطاليا عند اقتسام الدولة العثمانية حصّة مُعادلة لحصّة بريطانيا وفرنسا وروسيا، وأُعيد النظر في 26 نيسان/1916م بمعاهدة لندن وعُقدت على أساسها معاهدة (زازونوف - باليولوك السرية) بين فرنسا وروسيا لتعيين حصَّتهما من البلدان العثمانية، وفيها مُنحت روسيا ولايات طربزون وأرضروم وبتلسيس، ومُنحت فرنسا ما يُعادل حصّة روسيا من البلدان المُحاذية لها من جهةِ الجنوب، على أنْ تُعيَّن الحدود بمفاوضة بريطانيا والاتفاق معها، وعلى إثر ذلک جرت المفاوضات وتمَّ الاتفاق بين الدولتين على اتفاقية سايكس – بيكو في آيار من عام 1916م، فعُيِّن لفرنسا بلاد الشام (سورية ولبنان) وولاية الموصل(2).

وفي ظلِّ الانتقادات الموجّشهة لاتفاقية سايكس - بيكو بكونها أجهضت مشروع الوحدة العربية الذي دعا إليه الشريف حسين بن علي، يتساءل الحاكم العسكري فيما بعد على العراق آرنولد ولسون (Arnold Wilson) (1920-1918م): «إنَّ تحقيق آمالهم المزعومة بالوحدة بأن يتحالف وهابية نجد وعسير وسادة الكويت والعرب

ص: 160


1- محمد إبراهيم محمد مرجع مر سابق، ص 105.
2- للمزيد، يُنظر: جورج لنشوفسكي، مرجع سابق، ص ص 105-106 ؛ عبد الفتاح إبراهيم، على طريق الهند، ص ص .230-229

في سورية والعراق فما هو مصير تلك الأقليات»(1)، ولم تكتفِ بتقسيم مناطق نفوذ بل وجدت بريطانيا وفرنسا فيما بعد حجة قائمة وهی انَّه يجب أن يضع العهد الجديد بعد الحرب على كواهل الدول الأوروبية التزامات لا نحو الأقليات العنصرية والدينية التي تعيش بين ظهرانيها فحسب، بل أيضاً التزامات نحو الجماعات الضعيفة المتأخرة التي بسطت عليها الدول القوية سيطرتها، وأن تقوم علاقاتها بتلك الجماعات على مبدأ الوصاية(2).

الإدارة العسكرية البريطانية والكُرد:

كانت بريطانيا قد بحثت عن مناطق نفوذ لها في العراق وبمختلف الطُّرق، وكانت المناطق الكردية أحد تلك المنافذ لتحقيق أهدافها منذ نهاية القرن التاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين ، وهذا يعود إلى العلاقة بين الكُرد والدولة العثمانية التي مرت في حالاتِ مدٍّ وجزر ، وسياسة المركزية التي اتبعتها الدولة العثمانية، وأمَّا العلاقات بين سلطات الاحتلال البريطاني وبين الكُرد فقد اتَّسمت بالتذبذب حسب أهداف بريطانيا الإستراتيجية، بما فيها خيارات الحرب مع الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية وهو أنَّ الموقع الجغرافي وانعدام وجود منفذ على البحر قد أسهم في تأخر وصولهم إليها(3).

تعود بدايات الاتصال بين بريطانيا وكُرد العراق إلى أعقاب الحرب الروسية - العثمانية (1877-1878م) إذ عيَّنت وزارة الخارجية البريطانية الميجر أ. ج. تروتر (Trotter J .A.Megger) قنصلاً لعموم كردستان العثمانية، قام بإرسال التقارير إلى لندن والنظر إلى الكُرد في أحد تقاريرهِ ما نصه: «لا شكّ أنَّ الكُرد في العديد من الأماكن يعانون من سوء الحكم أكثر من المسيحيين واتصالهم بالقناصل الأوربيين

ص: 161


1- سیر آرنولد تي ويلسون بلاد ما بين النهرين بين ولائين ترجمة فؤاد جميل ،بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1992م)، ج 2، ص 32.
2- ه-. أ. ل . فشر، مرجع سابق، ص573.
3- أوفرا بينغيو، كرد .العراق.. بناء دولة داخل دولة، ترجمة: عبد الرزاق عبد الله بوتاني، بيروت، دار الساقي، 2014م)، ص 23.

ضعيفاً، وأنا لا أرى أيَّ داعٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال يمنع خضوع الكُرد المستقرين إلى ذات القوانين والمؤسَّسات التي يخضع لها المسيحيون»(1).

تطورت علاقات الإدارة العسكرية البريطانية مع أكراد العراق(2) في وقتٍ مبكر من قيام الحرب العالمية الأولى، وذلك بإقامة مسح شامل أجرته الاستخبارات البريطانية عن أهمِّ العشائر الكردية في الوضع السياسي العام، ونجحت في كسبِ ود بعض زعماء القبائل الكردية المتنفذة مما عرَّض بعضهم للنفي من السلطات العثمانية بعدما نظر إليهم بعين الخشية بسبب ميولهم للجانب البريطاني(3).

وشدَّد الضباط البريطانيون المنتشرون في كردستان والألوية المُحيطة مراقبة الأوضاع في كردستان وأرسلوا التقارير المفصلة للأحداث والمعلومات، بيَّنت الواقع المرير في المنطقة(4).

ولا شكّ أنَّ اكتشاف النفط قد عزّز من صلات بريطانيا بالشيوخ الكُرد، ولاسيَّما خلال السنوات الأولى من القرن العشرين وقد نظرت إليه بريطانيا بأنَّه كنز لا يمكن تجاهله، وعلى هذا النحو عزّزت الإدارة العسكرية من رجالات استخباراتها فی المنطقة ومنهم الميجر سون(5) (Soan) Megger) الذي عُدَّ خبيراً في الشؤون الكردية (6).

وعشيّة قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م قدَّمت شخصيات كردية تعاونها مع دول الوفاق الودي، إذ أجرى البعض منهم اتصالاتٍ مع روسيا حليفة بريطانيا،

ص: 162


1- سعد بشير إسكندر، من التخطيط إلى التجزئة.. سياسة بريطانيا العظمى تجاه مستقبل کردستان (1915-1923م)، السليمانية، منشورات بنگه ژین - مطبعة ،شفان 2007م)، ص 46.
2- حنا بطاطو، العراق.. الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتّى قيام الجمهورية، (الكويت) منشورات دار القبس 2011م)، ج 1، ص 31.
3- عبد الرحمن صالح إدريس، مرجع سابق، صص 29-31
4- المرجع نفسه، ص ص 35-36 -
5- ضابط بريطاني، تجول في كردستان العراق قبل الحرب العالمية الأولى، متنكراً بزي رجل فارسي تحت اسم (ميرزا غلام حسين شيرازي)، عُين ضابطاً سياسياً لمندلي عام 1917م، ثمَّ للسليمانية 1919م، توفي عام 1923م. للمزيد يُنظر: عبد الرحمن صالح إدريس، مرجع سابق، ص32
6- سعد بشیر ،اسکندر مرجع سابق، ص49

وأجرى محمد شريف باشا خندان أحد الشخصيات السياسية الكردية وشيخ عشيرة (بلباس) في السليمانية اتصالاتٍ مع بريطانيا في كانون الأول 1914م، عارضاً مساعدته للحملة العسكرية البريطانية مقابل حصوله على ضماناتٍ حول استقلال المناطق الكردية، إلاَّ أنَّ بريطانيا شكَّكت في إمكانيتها بالاستقرار في مناطق شمالي ،العراق، ولكن بعد احتلال بغداد في 17 آذار / 1917م تغيرت موازين القوى لصالح البريطانيين، فتطلَّع الكُرد نحو بريطانيا بعد إنكارهم للسياسة التي اتبعتها القوات الروسية في المناطق الكردية ومن ثمَّ انسحابها بعد قيام ثورة أكتوبر 1917م، وأصبحت الفرصة كما يبدو مؤاتية لهم لإحياء فكرة الحكم الذاتي، بعد تصريح القائد البريطاني ستانلي مود Stanley Maude) (1917-1864م) عند دخولهِ بغداد وإبداء تعاطفهِ مع العرب في الحصول على الاستقلال، بعد أن تغيرت سياسة بريطانيا التي أخذت تهتم بكُرد ،العراق، وتسعى إلى كسب المزيد من الزعماء الكُرد المحليين إلى جانبها(1).

وأنَّ تعزيز صلاتها وبناء جسور علاقاتها مع الأقليات في العراق بحجَّة حمايتهم ما هي إلاَّ ورقة ضغط تستخدمها عندما ترى أنَّ مصالحها في خطر، وأنَّ الأقليات أنفسهم يربطون بقائهم ببقاء بريطانيا في العراق، وقد زرعت الإدارة البريطانية قواتها في العراق، وهذا ما أكَّده المفوض السامي البريطاني هنري دوبس (Henry Dobbs) (1934-1871م) قائلاً: «لو انسحبت القوات البريطانية من العراق أعتقد أنَّ الحكومة العراقية كانت إمَّا تلاشت كلياً خلال أشهر قليلة، أو بقيت ملتصقةً بشكلٍ بائس بشريط من الأرض على امتداد دجلة بين سامراء والكوت فقط، بينما انشقت بقية البلاد»(2)، واستقبل بعض الزعماء العشائريين ومنهم زعماء كردستان بالترحاب(3)، وقد يكون ذلك بسبب الإغراء وشراء الضمائر.

ص: 163


1- عبد الرحمن صالح إدريس ، مرجع سابق، ص ص 65-66
2- حنا بطاطو، مرجع سابق، ج 1، ص 43.
3- سير آرنولد تي ويلسون، مرجع سابق، ص 16.

لقد تفهمت الإدارة العسكرية البريطانية من جانبها رغبة الكُرد في الاستقلال السياسي، وذلك عندما قرروا تعيين الشيخ محمود الحفيد(1) حاكمًا للسليمانية، رد الشيخ الحفيد الذي ذهب أكثر من طموحهِ بإعلان نفسه ملكاً على كردستان، وهذا الأمر لم يُرضهم فشرع بالثورة ضدهم، الأمر الذي ولَّد ردود فعل معاكسة لدى بريطانيا فناصبوه العداء وعملوا على إخماد ثورتهِ(2).

عزز (نوئيل) الضابط السياسي البريطاني في السليمانية الذي جرى تعيينه في تشرين الثاني 1918م ، والذي بدأ بتوطيد نفوذ دولتهِ حتَّى بعد تعيين محمود الحفيد حكمدار لكردستان لم تكن في حقيقتها كما ذكر في أحد تقاريره بأنَّه:«أعير لنشر النفوذ البريطاني بين العشائر الكردية، وفرض النظام والشرعية، ومما لا شكّ فيه أنَّ البريطانيين حققوا بعض النجاحات في بادئ الأمر، وقد انتشر شعار كردستان للكُرد والذي قصد بهِ أنْ يكون تحت الحماية البريطانية»(3)، فلم تدع خطوات الإدارة العسكرية البريطانية في العراق بعد هدنة مودورس(4) حتَّى كشفت بريطانيا عن سياستها الحقيقة في العراق وتجاه الكُرد، عندما بدأت تعمل على إعادة القوانين والنظام إلى نصابهما، وبالدرجة الأساس للمناطق الكردية التي بدأت على ما يبدو تُشكل خطراً على مصالحها.

وبعد أن فرضت بريطانيا سيطرتها على العراق عقب هدنة مودورس في 30 تشرين الأول/1918م الأول / 1918م لتعطي الكُرد أبعاداً دولية من خلال إعطائهم حقوق دولية بموجب المادتين (62-64) من معاهدة سيفر المنعقدة في 10/آب/1920م، بأن يوضع مشروع للاستقلال المركزي للمناطق الكردية في شرقي الفرات وجنوب غربي أرمينيا،

ص: 164


1- الشيخ محمود الحفيد البرزنجي (1882-1956م) من مواليد السليمانية، ينتمي إلى أسرة دينية صوفية، وبسبب مكانته الدينية التف حوله الكرد، شغل الحكومتين البريطانية والعراقية بحركات مُسلّحة خلال المدة (1918-1919م)، أعلن نفسه ملكاً على كردستان سنة 1922م لتجرد ضده حملات عسكرية أنه تحركاته المسلحة. توفي في بغداد عام .1956م للمزيد يُنظر : عبد الرحمن صالح إدريس، مرجع سابق، ص 53.
2- عديد دويشا، مرجع سابق، ص50.
3- م. س. لازاريف المسألة الكردية (1917-1923م)، ترجمة: عبدي حاجي، ط2، (بيروت، دار الفارابي، 1981م)، ص 63.
4- هي: هدنة وقعت في 30/تشرين الأول/1918م بين بريطانيا والدولة العثمانية، والتي أنهت القتال في منطقة الشرق الأوسط، واستسلام القوات العثمانية في الولايات العربية ومنها العراق. للمزيد ، يُنظر: جعفر عباس حميدي، تاريخ العراق المعاصر، بغداد، مكتبة عدنان 2016م)، ص21.

وشمالي الحدود التركية المُتاخمة لسوريا والعراق، وذلك في خلال ستة أشهر من تاريخ دخول هذه المعاهدة حيّز التنفيذ(1)، وفي ظرف سنة واحدة من تاريخ هذهِ المعاهدة فاتح الكُرد مجلس عصبة الأمم وأعربوا عن رغبتهم في الانفصال عن تركيا، وأقر المجلس رغبتهم في ذلك(2).

لقد تفهَّم البريطانيون الأهمية الاقتصادية للمناطق الكُردية ودورها في استقرارها، وينظرون لهم بوصفهم قوة انفصالية غير راغبة بالمشاركة في بناء مجتمع عراقي موحَّد(3)، وهو ما يبدو ما كان يطمح إليه البريطانيون لتستخدم هذهِ الورقة عند الضرورة.

وحقيقة الأمر أنَّ بريطانيا أولت اهتمامها بالمناطق الكردية بهدف استثمار النفط، ومن ثمَّ تحويلها قاعدة للتوسع القادم في الجبهات الشمالية والغربية والشرقية، والعمل على مواجهة الحركة الكردية القومية الناشئة فيها بالحركة العربية التي اشتد عودها أيضاً في العراق، ومن ثمَّ توطيد السيطرة البريطانية في البلاد كلها، وقد تمّ تنفيذ جميع هذهِ المخطَّطات في مراحل متفاوتة(4).

الإدارة العسكرية البريطانية ويهود العراق:

أبدت الطائفة اليهودية من جانبها ترحيباً بالاحتلال البريطاني للعراق، كون البريطانيين في نظرهم سيُنقذونهم من سوء مُعاملة العثمانيين لهم خلال فترات حكمهم للعراق(5).

ص: 165


1- أوفرا بينغيو، مرجع سابق، ص24.
2- بعد تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق في 23 / آب / 1921م غیرت بريطانيا من سياستها تجاه انفصال الكُرد لتضمها إلى المملكة العراقية، وبعد تقرير اللجنة الأممية التي حسمت قضية بقاء الموصل جزءاً من الدولة العراقية، وأوصت اللجنة ببقاء المناطق الكردية ضمن المملكة العراقية، بعد أن ضمنت لهم حقوقهم القومية في الدستور العراقي، وهذا الموقف الذي عزز من موقع الكرد في واقعة يعود إلى أن بريطانيا أصبحت سيدة الوضع في العراق، وبدأت تشدد من ضغطها على القيادة الكردية للعمل ضمن الدولة العراقية، ولكنها من جانب آخر أسهمت في إرغام الكرد على خدمة مصالحها العسكرية والسياسية في المنطقة، وتبين أنَّها آثرت في المرحلة الأولى في اتخاذ إجراءات ذات طابع سياسي مع استغلال مشاعر الكُرد القومية في الاستقلال. للمزيد، يُنظر : عبد الرزاق الحسني العراق في دوري الاحتلال والانتداب (بغداد، دار الرافدين، 2013م)، ج 1، ص ص 296-300 م. س. لازاريف، مرجع سابق، ص57.
3- عديد دويشا، مرجع سابق، ص52.
4- م. س. لازاريف مرجع سابق، ص.64.
5- إيستر مائير غليتشتاين، رحيل يهود العراق (1948-1951م)، ترجمة مصطفى نعمان أحمد (بغداد، دار میزوبوتامیا، 2016م)، ص 16.

ومع دخول البريطانيين البصرة أواخر شهر تشرين الثاني من عام 1914م، وجدوا اليهود «فيها على استعداد لقبول فرص التعاون معهم، لا سيّما في الجوانب الاقتصادية التي عُرفوا فيها بمجال تفوقهم، لاسيَّما بغداد والموصل والبصرة(1).

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كانت لهم علاقات مع التجار العراقيين اليهود المُهيمنين على التجارةِ في البلد(2)، وقد بدأ النشاط اليهودي هو الآخر على أشدّهِ بعد تزايد البعثات التبشيرية الأوروبية، ففي تقرير بريطاني أوضح أنَّه قد وُزّع بين اليهود في بغداد منشور تحريض طُبع باللغةِ العبرية، وطبعه مُبشِّر يهودي أميركي يُدعى ويليام بلاكتون (Blackton William)، وقد اتخذ المبشرون الاحتياط لمغادرة بغداد قبل ان يوزع المنشور، وقد تضمن المنشور بيان الطريقة التي تعامل بها اليهود في العراق، وما دام اليهود يُعاملون بلا مودة فعليهم ألاَّ يُظهروا منها شيئاً، وأضاف أنَّ الحكومة العثمانية فاسدة، وأنَّ السلطة المركزية العثمانية فاسدة، وقد جاز زمن اليهود للكفاح»(3).

ويبدو أنَّ الآراء المتطرفة لبعض يهود العراق واستغلالهم الأزمة الاقتصادية خلال سنوات الحرب العالمية الأولى دفعت الوالي العثماني فائق بك، ومدير شرطة بغداد سعد الدين الخنَّاق قبل أسبوع واحد من سقوط بغداد عام 1917م بالقبض ليلاً على عددٍ من الصيارفة، بحجَّة أنَّهم سببوا هبوط سعر الأوراق المالية التركية إثر تلاعبهم بسعرها، وامتناعهم عن تبديل الليرة الورقية بالليرة الذهبية، فنكَّل بهم تنكيلاً شنيعاً، وجُدعت أنوفهم، وقُطعت آذانهم ، وسُمِلَت عيونهم، ثمَّ وضعوا في أكياس وأُلقيت جثثهم في نهر دجلة(4).

إنَّ من الأسباب التي أدت إلى هبوط سعر الصرف والتي اتُّهم فيها اليهود يعود في حقيقتهِ إلى صدور «النوط» العُملة الورقية التي أصدرتها الدولة العثمانية لتحل محل

ص: 166


1- أحمد برهان الدين باش أعيان النشاط الصهيوني في العراق (1941-1952م) .. أوضاع اليهود العراقيين، بحث غير منشور 2013م. نسخة منه لدى الباحث.
2- غسان العطية، مرجع سابق، ص 63.
3- فؤاد قزانجي، مرجع سابق، ص93.
4- نبيل عبد الأمير الربيعي اليهود في العراق .. منذ السبي الآشوري والبابلي وإلى تهجيرهم القسري في منتصف القرن العشرين ،،بغداد، دار الرافدين 2013م)، ص 24.

العملة الذهبية والفضية، فانخفضت قيمة العملة لكونها لم تلقَ رواجاً في الأسواق العالمية، وخسر اليهود من تلك الخطوة الكثير؛ لأنَّ أغلب الصرافين هم من اليهود، وبدورها وجهت السلطات العثمانية التهم لليهود(1).

ومهما يكن من أمر فقد أصاب يهود العراق خلال سنوات الحرب الضرر البالغ، لا سيّما رجال الأعمال فقد خضع التجار اليهود والصرافون لرقابةٍ شديدة، لِمَا كانوا يُتهمون بهِ من تخزين البضائع، ومن مُضاربة الأسعار، وليس هذا فحسب بل حاول بعضهم تحاشي الخدمة العسكرية، كما حاول بعض المُجنَّدين الهرب من الجيش، وقد شُنق علناً من قُبض عليه منهم بتهمة الفرار، كما شُنق آخرون بتهمة التجسس، فليس من المُستغرب أن تُرحّب الطائفة اليهودية بدخول القوات البريطانية ترحيباً حاراً، وقد أصبحت هذهِ الطائفة السند الأقوى للإدارة البريطانية(2).

اتضح أنَّ اليهود كانوا أكثر ارتياحاً بالوجود البريطاني فقد كان عددهم في بغداد يومذاك خمسين ألفاً، وخرج معظمهم هاتفين للبريطانيين(3)، وهذا الترحيب بدأ مع نزول القوات البريطانية للبصرة لم تُسجل الطائفة اليهودية موقفاً جديداً بترحيبها بالمُحتلين البريطانيين الجُدد الذين وصلت قواتهم إلى مدينة الفاو في 6/تشرين الثاني/1914م، ومع دخول القوات البريطانية بغداد في 11/آذار/1917م عدَّ اليهود هذا اليوم وهو يوم دخول القوات البريطانية بغداد بقيادة الجنرال ستانلي مود يوماً «معجزة»، احتفلوا بذكراه عدَّة سنين متوالية كونه يومٌ «حَسَن» بالنسبةِ إليهم، إلى حدِّ أنَّهم لم يسجدوا فيه على وجوههم في صلاة الصبح، وأطلقوا أيضاً على هذا اليوم اسم «يوم الأعجوبة»، مدَّعين أنَّهم تنفسوا فيه الصُّعداء باحتلال الإنكليز لبغداد، ووصفوهم بالمنقذين فاستقبلوهم بالتهليل والترحيب(4).

ص: 167


1- أزهار عبد علي حسين الربيعي، موقف النخبة اليهودية في العراق من الهوية العراقية (1920-1952م)، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الآداب جامعة بغداد، 2011م، ص 20.
2- غسان العطية، مرجع سابق، ص131.
3- علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (بیروت، دار الراشد 2005م)، ج4، ص 397.
4- للمزيد، يُنظر : صالح حسن عبد الله، تهجير يهود العراق (1941-1952م)، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية جامعة تكريت ،2003م ، ص 28 نور محمد العبدلي، ساسون حسقيل ودوره السياسي والاقتصادي في العراق (1932-1860م)، (بغداد، مكتبة النهضة العربية 2017م)، ص 73.

وعلى هذا النحو شبَّه أحد الكُتَّاب البريطانيين دخول ستانلي مود إلى بغداد بدخول كورش الأخميني إلى بابل، عندما أعاد لهم نفائسهم التي سُلبت منهم أيام البابليين، فقد شعر اليهود بأنَّ الاحتلال البريطاني كان لهم كالاحتلال الفارسي الذي أنقذ أسلافهم من الأسر البابلي ومن الطرائف التي أُشيعت بين اليهود المقولة الشهيرة:«ايش ما يقول لك الصاحب قُل له يس»(1).

ولم يكتفِ اليهود بالتعبير عن فرحهم بدخول البريطانيين بل أقامت مدرسة الإليانس اليهودية(2) في 16 تشرين الثاني 1917م حفلةً على شرف القوات البريطانية، حضرها قائد القوات البريطانية ستانلي ،مود وتَذكر المِس غيروترود بيل Miss) Gertrude Bell) (1926-1868م) التي رافقت (مود)، عن أحوال اليهود، قائلةً:«إنني عازمة على الانصراف إلى العناية بالطائفة اليهودية، والوقوف على الكثير من التفاصيل المُتعلِّقة بها وبنشاطها العام، مما لا شكّ فيه أنَّ هذهِ الطائفة سيكون لها في يوم ما شأن كبير»(3).

وبالرغم من ذلك فإنَّ اليهود استطاعوا من خلال تشعُّب نشاطاتهم التجارية وانتشارهم في المدن العراقية تمكنوا من ترسيخ قوتهم الاقتصادية بالتدريج، والسيطرة على أغلب الحلقات التجارية ليستفيدوا من وقوع الحرب العالمية الأولى بالتقارب

مع الإدارة العسكرية البريطانية في العراق(4).

وفي أعقاب انتهاء العمليات العسكرية تهافت اليهود بدورهم على التوظف في الدوائر الرسمية، وملأ شبابهم بوجهٍ خاص دوائر المالية والمحاسبات والكمارك والمكوس والبريد والبرق والسكك الحديدية وميناء البصرة، ولم تخلُ منهم دوائر

ص: 168


1- علي الوردي ، مرجع سابق، ج4، ص397.
2- مدارس الإليانس اليهودية هي المدارس التي أنشأها الاتحاد الإسرائيلي العالمي نهاية القرن التاسع عشر في العديد من الدول، وكان لها فروع في البلدان العربية ومنها العراق، فأسست أول مدرسة للإليانس في العراق سنة 1864م. للمزيد، :يُنظر : نوال كشيش محمد الزبيدي، موجز تاريخ اليهود في العراق، بغداد، دار ضفاف، 2015م)، ص86.
3- إليزابيث بيرغوين جيرتروود بيل من أوراقها الشخصية (1914-1926م)، ترجمة: نمير عباس مظفر، (بیروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2002م، ص 122
4- نوال كشيش، مرجع سابق، ص 20.

وزارة الداخلية والعدلية والجيش والشرطة، وشغلوا وظائف شركة النفط وسائر المؤسَّسات البريطانية والوطنية (1)

ويبدو أنَّ سبب تهافت اليهود على الوظائف يعود إلى سياسة بريطانيا، وتقربها إلى الأقليات ومنها اليهودية، فاستخدموهم ووثَّقوا بهم شأنهم في التعامل مع الأقليات في كُلِّ مكان، ولأنَّهم كانوا أكثر إخلاصاً لهم، فتحوا لهم أبواب المؤسَّسات الحكومية، كما فتحوا أبواب المدارس، وكانت مكاتب الحكومة غاصَّةً بهم، حتَّى شغل بعضهم مناصب رفيعة وصلوا إليها في سنوات الاحتلال(2).

درست الإدارة العسكرية البريطانية من جانبها أحوال الطوائف الأخرى ومنها اليهودية بحجَّة سوء أوضاعها في العراق، ففي تقرير سري للحاكم العسكري البريطاني في العراق بيَّن الأوضاع المتردية للمدارس اليهودية في العراق، موضحاً انَّ سبب عدم التحاقهم بالمدارس الأخرى واقتصارهم على مدارس الطائفة المُكتظة بالطلبة:«أنَّهم أُرسلوا إلى المدرسة لا ليتعلَّموا، بل لمجرد أن يبتعدوا عن الأذى من الطوائف الأخرى»، وطالب التقرير بضرورة تزويد بعض المدارس اليهودية بالمال(3).

وبهدف تنظيم الأوضاع في العراق عزمت بريطانيا على تشكيل حكومةٍ محلية في العراق بعد أحداث ثورة 1920م(4)، وناقش الحاكم العسكري أوضاع الطائفة اليهودية في العراق في ظلِّ تشكيل أيِّ كيانٍ سياسي جديد مما أثار اعتراض اليهود، ولتخوفهم من احتمال ظهور كيان سياسي متعصب ضدهم، يُشير تقرير بريطاني أنَّهم أرسلوا التماساً يطلبون فيه أن يُسمح لهم أن يكونوا رعايا بريطانيين إذا ما أُقيمت

ص: 169


1- مير بصري، أعلام اليهود في العراق الحديث (لندن، دار الوراق 2006م)، ص42.
2- صادق حسن السوداني، النشاط الصهيوني في العراق (1914-1952م) ، ،(بغداد، دار الحرية للطباعة والنشر، 1980م)، ص 15.
3- تقارير إدارية لسنة 1918م عن بعض الأقسام المدنية في مناطق العراق المحتلة. للمزيد ، يُنظر : العراق في سجلات الوثائق البريطانية (1914-1966م) ، المحرر: الف دي . ل . ،رش، محرر البحوث جين بريشود، ترجمة: كاظم سعد الدین، بغداد، بيت الحكمة 2013م، المجلد الثاني، ص 134.
4- تُشير الباحثة في تاريخ يهود العراق أنَّه عقب ثورة العشرين اعتمدت الإدارة البريطانية على الأقليات للحصول على دعم في ترسيخ كيانهم. للمزيد، أنظر إيستر مائير، مرجع سابق، ص 16.

حكومة عربية في العراق؛ ليشذوا بموقفهم هذا من جديد عن الشعب العراقي، إلَّا أنَّ المندوب السامي البريطاني في العراق السير برسي كوكس هدَّأ من روعهم، بتقديمهِ الضمانات لحمايتهم من أيِّ شكلٍ من أشكال الاستبداد، بل وأشرك ساسون حسقيل (1932-1860م) كوزير للمالية في أول حكومةٍ عراقية شكلها عبد الرحمن النقيب (1927-1845م) في الخامس والعشرين من تشرين الأول 1920م،(1) ليتعزز موقفهم في ظلّ المملكة العراقية التي ترأسها الملك فيصل بن الحسين في الحادي والعشرين من آب 1921م ، والذي بدورهِ أكِّد على المُساواة في ظلِّ الهوية العراقية.

الإدارة البريطانية العسكرية والطائفة المسيحية في العراق:

إنَّ مسألة الأقليات لا تُعد مشكلةً في حقيقة الأمر، فهذهِ الأقليات ومنها المسيحية التي كان يُقدَّر عددها عند دخول القوات البريطانية ب- (80000) حسب إحصاء نيسان 1920م، وينفرد المسيحيون من بين الأقليات الدينية بالاحتفاظ بمدارسهم الخاصة، فهم إجمالاً أفضل تعليماً من العربِ والكُرد(2)، ففي ظلِّ هذا التنوع القومي والديني لولايات العراق الثلاث لم يكن هدف بريطانيا فقط البحث عن الطرق التجارية وإقامة مراكز تجارية فحسب، بل بدأت تُوظِّف قضايا جوهرية لتتدخل بشكلٍ ممنهج في شؤون الدولة العثمانية، لتجد لها منفذاً آخر من دعمها للأقليات القومية والدينيَّة، وهم أصحاب الديانة المسيحية الذين يُشكِّلون جزءاً من المجتمع العراقي، الذي سَعَت بريطانيا في إيجاد قواعد لها بداخلهِ لتتمحور من خلالها إلى الدولة العثمانية بحجَّة حماية الأقليات المُضطهدة.

عملت بريطانيا من جانبها أن تجد لها موطئ قدم بين الأقليات الدينية ومنهم المسيحيون، لاسيَّما من خلال البعثات التبشيرية، ففي تقرير للموظَّفين البريطانيين بعد أن قررت الجمعية الإرسالية لكنيسة إنكلترا الطبية في الموصل أنْ تُنهي أعمالها بسبب الضائقة المالية، كتب لويد جورج Leorge) عضو مجلس العموم

ص: 170


1- العراق في سجلات الوثائق البريطانية، مرجع سابق، م2 ، ص274 صالح ،حسن مرجع سابق، ص ص 30-31.
2- اللورد لويد دولبران العراق من الانتداب إلى الاستقلال (1914-1932م)، ترجمة: مجموعة مترجمين، (بيروت، - الدار العربية للموسوعات (2002م)، ص 209 .

البريطاني في مذكرةٍ بتاريخ 3/أيلول/1907م: «يجب أن نُدرك بوضوح من وجهةِ النظر السياسية أنَّ وجود الإرسالية وعملها لهما أهمية عظيمة وبعيدة المدى، ومن المُتعيَّن على المصالح البريطانية كذلك إمَّا أن تتطور سريعاً، أو أن تتدهور على مدى العَقد القادم من السنين ، نظراً للتطور الذي يُبشِّر بفتح هذهِ البلاد للاستثمار والمنافسة الأجنبيتين». وقد أمكن لهذهِ الإرسالية أن تستمر في الموصل(1).

ومع بوادر الحرب العالمية الأولى انضم المسيحيون الآشوريون من مناطق حكاري (المنطقة الواقعة بين سهل نينوى وبحيرة وان(2) إلى جانب بريطانيا بهدف التخلص من سيطرة الدولة العثمانية من جانب والتخلص من مضايقات بعض العشائر الكردية والإيرانية من جانب آخر، فاضطروا إلى ترك مدنهم والدخول تحت حماية القوات البريطانية في العراق، حيث دخلت أول المجاميع من وان والقفقاس في شهر آب 1918م بلغ تعدادهم (50) ألف، فقد استغلت بريطانيا من جانبها الوضع السيء للآشوريين، وقررت أن تؤلّف قوات من هؤلاء تستخدمهم في الحملات التأديبية في المناطق المُحتلة، وليُعرفوا فيما بعد بقوات «الليفي»(3).

والمسيحيون هم الآخرون أظهروا تقربهم من الإدارة البريطانية؛ لأنَّهم كانوا بالأمس قد ذاقوا الأمرين من بلايا التجنيد والنوط والمُصادرة وغيرها، ثمَّ وجدوا تلك البلايا تزول عنهم بين عشيةٍ وضحاها، وشعروا بإزاحة كابوس ثقيل كان جاثماً على صدورهم(4).

وقد تقلّد البعض منهم وظائف إدارية والعمل كمترجمين مع القوات البريطانية، في دوائر الدولة الأخرى، لكن الآثوريين الذين استقروا بعد الحرب العالمية الأولى في العراق كان لهم نصيبٌ أوفر من الرعاية البريطانية، ومن الواضح أنَّ أسباب

ص: 171


1- غسان العطية، مرجع سابق، ص 106.
2- Van Gola Lake Van : أكبر بحيرة في تركيا، وتقع في منطقة شرق الأناضول، وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالي (12,500) كيلو متر مربع بعمق (174) متر في المتوسط. والبحيرة مالحة، كما يتواجد في البحيرة عدة جزر صغيرة وتطل على البحيرة عدة مدن منها مدينة (وان) ومدينة خلاط)، وقد عُرفت البحيرة قديماً باسم (بحيرة أرجيش). للمزيد، يُنظر الموقع الإلكتروني: Van_Lake/wiki/org.wikipedia.en//:https
3- وليم خمو وردا، الحماية الدولية للأقليات.. دراسة حالة الحماية الدولية للمسيحيين العراقيين، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2013م، ص ص222-223.
4- علي الوردي ، مرجع سابق، ج4، ص396.

ذلك تعود إلى ما قدمه هؤلاء من مساعداتٍ للسلطات البريطانية في حالة حدوث اضطرابات عن طريق وجودهم في أفواج قوات الليفي(1)، أي أصبحوا قوةً يمكن أنْ تقف بوجهِ أيِّ قوةٍ محلية تحاول تقويض مركز بريطانيا في العراق.

ويُشير باحث معاصر بأنَّه «لم يكن إقدام البريطانيين للآثوريين حدثاً عادياً، وإنمَّا أرادوا بوساطتهم تنفيذ برامجهم في العراق، فجعلوهم يتصورون أنَّ قيام بريطانيا بإسكانهم في العراق هو مكافأة لهم مقابل مساندتهم إياهم في الحرب، وأفهموهم بأنَّهم لن يستخدموهم للدفاع عن العراق، بل وعدوهم بالعودة إلى أوطانهم، فكانوا يأملون من حلفائهم البريطانيين المساعدة بعد عودتهم إلى مواطنهم السابقة، إلى (تأسيس حكم ذاتي) تحت الحماية البريطانية»(2).

ويُشير إلى ذلك آرنولد ولسن القائد العسكري للإدارة البريطانية في العراق عن المسيحيين ومنهم الآثوريون بقولهِ : «لقد جاء معهم مطارنتهم وقسسهم من النساطرة والكلدان والأرمن والكاثوليك والأورثوذوكس، وكان هؤلاء بالنسبة للإشراف الروحي في عهدةِ رأس القساوسة العسكريين»(3).

وبدأت الإدارة البريطانية تجد لها في الأقليات وسيلةً من وسائل التأثير على الواقع الاجتماعي في العراق، عندما بدأت تُثير القلاقل بين السكَّان المحليين بحجَّة حماية المسيحيين، كما حدث في واقعةِ الكويان في قضاء زاخو أحد أقضية لواء الموصل في كانون الأول من عام 1918م عندما طرح أحد الرهبان واقع المسيحيين في القضاء، والتعصب الديني ضدَّهم مع حاكم القضاء (بهسن) ليُثير في نفسهِ العصبية الدينية، وبدأ (بهسن) بإثارة قبائل الكويان فيما بينهم، والتي أدت في النهاية لمقتلهِ وإثارة الفوضى في القضاء، لتُجرد القوات البريطانية بمعية الآثوريين في الخامس من آيار عام 1919م حملةً عسكرية لتحرق القرى، وإخضاع العشائر المتمردة ضدهم(4).

ص: 172


1- أنعام مهدي علي السلمان، بريطانيا وتكوين الدولة في العراق.. أثر السير هنري دوبس في السياسة العراقية (1923- 1929م)، (بغداد ، دار الشؤون الثقافية 2016م)، ص 148.
2- ریاض رشيد ناجي الحيدري الآثوريون في العراق (1918-1936م)، (القاهرة، مطبعة الجيلاوي، 1977م)، ص95
3- سیر آرنولد تي ويلسون مرجع سابق، ج2، ص 114.
4- عبد الرزاق الحسني العراق في دوري الاحتلال والانتداب بغداد، دار ،الرافدين (2013م)، ج 1، ص ص 41-42.

وفي محاولة من قبل الإدارة العسكرية البريطانية إشراك المسيحيين في عددٍ من الوظائف الحكومية، ذكر تقرير بريطاني مؤرخ في 27 نيسان/ 1920م بصدد ذلك:« لا يمكن أن يذكر بين المسيحيين البارزين في بغداد أي شخص يستطيع الكلام أو

الكتابة بلغةٍ أوروبية»(1).

ولعلّ ما يؤشر تقرب الإدارة البريطانية إلى مسيحيي العراق هو مشاركة وفد مؤلَّف من (40) شخصية عراقية أغلبهم من اليهود والمسيحيين، المؤيدين للسياسة البريطانية الذين قابلوا آرنولد ويلسون لعرض مطاليبهم الوطنية(2)، وأضاف التقرير البريطاني حول ذلك اللقاء أنَّ أوضاع المسيحيين في ظلِّ تشكيل كيان سياسي في العراق قلق، وصرحوا أنَّ موقف المسلمين منهم أصبح قاسياً»(3).

وهذهِ الإشكالية التي خلقتها ظروف السياسة الاستعمارية في المنطقة العربية والعراق على نحوٍ خاص موظَّفةً التنوع العِرقي والديني، لتصبح إشكالية مُستديمة تواجه الحكومة العراقية، لا سيَّما بعد تشكيل الحكومة العراقية في 23/آب/1921م، وقد عبَّر الملك فيصل الأول عن شكواه من ذلك بمرارةٍ عندما أشار بمذكرتهِ الشهيرة عن العراق:«إنَّ البلاد العراقية من جُملةِ البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية المللية والدينية، فهي والحالة هذهِ مبعثرة القوى منقسمة على بعضها، يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء مادةً ،ومعنىً غير مجلوبين لحساسياتٍ أو أغراضٍ شخصية أو طائفية أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوةِ معاً»(4).

ص: 173


1- العراق في سجلات الوثائق البريطانية، مرجع سابق، م2، ص 240.
2- طارق مجيد تقي البلداوي، مقدمة في تاريخ العراق السياسي المعاصر، (بغداد، مؤسسة ثائر العصامي 2016م)، ص 64.
3- العراق في سجلات الوثائق البريطانية (1914-1966م)، مرجع سابق، م2، ص275.
4- عبد الكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق .. تحليل للعوامل الطائفية والعنصرية في تعطيل الحكم الديمقراطي في العراق والحلول الضرورية للتغلب عليها، بيروت، د.م.، 1991م)، ص2.
الخاتمة

لم يكن اهتمام الإدارة البريطانية العسكرية بالعراق فحسب، بل عَمِلَت على إيجاد سياسةً أخرى للتعامل مع القوميات والأقليات الدينيَّة، ومنها استمالتها إلى جانبها، وتوظيفها في المناصب الحكومية إلى جانبها كي تكون ملتصقةً بها، كونها صاحبة الفضل في تبوئها تلك المناصب.

من جانبٍ آخر بروز ظاهرة القمع والإذلال المُتعمد في التعامل مع أبناء البلاد، من خلال مظاهر الاستبداد السياسي والقمع العسكري، محاولةً إثارة الفُرقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع العراقي، بوسائل سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة (كالحروب أو الصراعات الداخلية)، أو ((الشللية) - الكتل الحزبية أو العشائرية أو الدينية أو الطائفية أو العنصرية... إلخ). من خلال عناصر حاولت ربط مصالحها الخاصة مع مصالح المُحتل الأجنبي، ليس في مراحل الاحتلال العسكري المباشر فحسب، وإنمَّا في مرحلة ما قبل الاحتلال وبعدهِ، فضلاً عن الإسقاطات التي قد يخلقها المرتبطون والمستفيدون من المُحتلين بعد رحليهم أيضاً، ولعلَّ واحدةً من نتائج الاحتلالات الأجنبية المستمرة للعراق، أنَّها أدت إلى محاولات تزويق وتعميم ثقافة الفُرقة بين أفراد المجتمع الواحد، واستغلال بعض العناصر الداخلة في تكوينة المجتمع العراقي(1).

مهما يكن من أمر فإنَّ الإدارة البريطانية وسياسة التجزئة التي اعتمدتها تجاه العراق توضح مدى اعتمادها على الأقليات القومية والدينية؛ لتُحقق بدورها مآربها في المستقبل، وتلعب على وتر تلك الأقليات بحجَّة الدفاع عن حقوقها المسلوبة، للضغط على الحكومة العراقية، وهذا ما تحقَّق فيما بعد من خلال استخدام ورقة الآثوريين والكُرد، مستغلةً مشاعرهم الدينية والقومية الرافضة لحكم الأكثرية العربية، وهذا ما جعل فيما بعد بريطانيا تحقق من خلالهِ مصالحها، الأمر الذي أحدث شرخاً في داخل بُنية المجتمع العراقي، حتّى بقي يُعاني منه إلى الوقت الحاضر نتيجةً لتكريس تلك السياسة.

ص: 174


1- عبد الرحمن البزاز العراق من الاحتلال حتّى الاستقلال، ط2، بغداد، 1967م)، ص39.

الهيمنة الأميركية في العراق: مقاربة في الاستعمار الجديد

اشارة

عامرعبد زید الوائلی(1)

هذا العالم الذي يصور نفسه بأنه متساوٍ في حضارة واحدة نعيش جميعاً فيها لأول مرّة طيلة تاريخ طويل من التمايز والنفي المزدوج، لكن تبقى هذه الحضارة الإنسانية الواحدة مجرّد طلاء طلي العالم محاولاً إخفاء القسمات المتوحِشة للاستعمار والهيمنة والفقر والنفي العنصري التي عانى فيها عالمنا الثالث من هيمنة، العالم الأوّل، وما زال وطني يعاني منها كل يوم.

إنّ استراتيجيّة التمثيل ونشر الديمقراطيّة المعزّزة بالقوة الطاغية التي تريد أن تفرض قيمها وأولويّاتها على الآخر بالقوة بدلاً من الحوار والتعاون والتثاقف

وهي لا تَعْيَ من تاريخ الصراع، فهو لا ينجم عنه؛ إلا مزيداً من العنف وتاريخاً من الحرمان والتمييز المشترك، والتباين تغذيه فلسفات عنصريّة كما تتجلى اليوم فكر المحافظين الجدد، وتوظيفها الذرائعي للدين وتبريراتها التي تختلق تقابلاً وتضاداً مع العالم الإسلامي بدلاً من بحثها عن أشكالٍ من التعاون القائم على النديّة

ص: 175


1- أستاذ ودكتور في كلية الآداب قسم الفلسفة - العراق.

عوضاً عن الإخضاع والتبعيّة. مما يجعل هذا العالم الحديث الذي يقدم حقوق الإنسان كأهم منجز له نجده يهدر هذه الحقوق على يد نظريّة العدو التي يعتمد عليها المشروع الإمبراطوري الجديد في عصر القوة الأميركيّة في تعاملها مع الآخر وتصنيفه كعدو؛ لأنّه يختلف عقائدياً أو فكرياً أو يعدُ مستقلاً اقتصادياً يتم نفيه وتحويله إلى عدو حقيقي أو افتراضي. إنها صنوفٌ من التفرعن والتعسف، تتعارض مع مشاريع التحديث والتعدد والديمقراطيّة.

فما حدث وما يحدث بحاجة إلى ضربٍ من المراجعة، في ظلِّ مشاريع الحداثة بمختلف مستوياتها الإدراكيّة فهي تختلف عن الفكر التقليدي، فهذا الأخير ليس بمقدوره الخروج على ذاته ونقدها، فما تفتقد له مجتمعاتنا التقليديّة هو القدرة على دراسة أخطائها وروح النقد والشجاعة في الكشف عن عيوبها وأزماتها المزمنة، مثلما يحدث في الفكر المعاصر الذي يتوجب عليه ممارسة نقد الأفكار الشمولية القائمة على الهيمنة واحتلال الشعوب والتلاعب في مصائرها .

وسوف نحاول أن نستعرض الإستراتيجيّة الأميركية من خلال تأصيل الرؤيّة والمنهج في نظرتنا إلى الموضوع في تمهيد منهجي، ثم حاولنا التركيز على دور الشركات ومراكز البحوث في إدامة الصراعات ومشاريع التسلح بالمنطقة، ومن ثم

عودة أميركا بشكل آخر، عبر مشروعها الجديد في العراق.

تأصيل الرؤية والمنهج

إن روح النقد ديدنه وهي أن تضع كل سند أن تضع كل سند موضع الشك، وظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها. وقد تنتهي من بحثها هذا إلى الإنكار ، أو إلى الإقرار، فنحن نواجه أشكالاً جديدة من الفكر الإمبراطوري الأميركي الذي ينشد فرض إرادة الهيمنة على الآخر وإعادة رسم سياسته بأشكال متنوعة من الهيمنة السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة وأحياناً باستعمال العنف والإرهاب وأشكال من الفوضى الخلّاقة.

ص: 176

الأطروحة:

فهي بالتأكيد تعبر عن موقفنا النقدي مما يجري في بلدنا من أحداث وصخب وعنف متوحِّش، فنحن نتأثر وننفعل لهذه الأحداث إذ ندفع الثمن غالياً لما يحدث لهذا البلد.

هذه المقاربة النقديّة يجب أن تُخضِع كل ما يحدث في المنطقة التي تهيمن عليها أميركا ومن ضمنها بلدنا وكل الأطاريح السياسيّة والإستراتيجيّة تبين هذا الأمر بأنّه بمثابة شكل جديد من الهيمنة الكونياليّة؛ لكنّه يحدث بآليّات جديدة نعم إنّ (الاستعمار ليس مجموعةً من المصادفات، إنه أنشئ في حوالي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وبدأ يؤتي ثماره في حوالي 1880م، ودخل في حدود الانهيار عَقِبَ الحرب العالميّة الأولى وهو اليوم يرتد على الأمّة المستعمرة)(1): لكن يبدو اليوم أنّ هناك إعادةَ صياغةٍ للاستعمار بمسمّيات جديدة من قبل مراكز البحوث المدعومة من لوبيّات ومراكز قرار وشركات النفط والنتاج العسكري فكلها تتعاضد في فرض سيطرتها على مراكز الطاقة إذ تحوّلت إلى مناطق قلقة حتى تشغلها بالصراعات الإثنيّة والقوميّة(2).

راهنيّة المشكلة :

أعتقد أنّ هناك حاجة ماسّة إلى حد كبير للبحث في هذه القضيّة وهذه الحاجَة تسوّغ الاهتمام بها كراهنيّة تدفعنا إلى الكشف عن واقعنا الراهن الذي نعيشه الآن هنا في العراق وبكل النتائج الكارثيّة التي جعلت من الضرورة أن نطرح هذه المشكلة، ولكن بطريقة نقديّة تهدف إلى ممارسة آليّة القلب الكامل لهذا التمثيل الذي تقدِمه مراكز البحوث الأميركيّة وهي تشرعن إلى الهيمنة وتسوِّغها من الطرف المهيمن (أميركا) كونه يبحث عن مصالحهِ وحماية أمنهِ الوطني ومن ناحية المهيمَن عليه

ص: 177


1- جان بول سارتر، الاستعمار الجديد، ترجمة عايده وسهيل ادريس دار الآداب، ط2، بيروت، 1966م، ص 21.
2- انظر: نصر محمد علي، دور لوبي المجمع الصناعي العسكري في الاستراتيجية الأمريكية، المركز الثقافي للطباعة والنشر ،ط1 ،بابل 2003م . وكانت تلك الشركات وهي تغدق بتبرعاتها تفضّل الجمهوريين على الديمقراطيين... الجمهوريون أكثر ميلا لتنفيذ الهيمنة باستعمال القوة العسكرية...74-75.

(العراق)؛ كونه يعاني من أزمات اجتماعيّة وسياسية وفساد وحروب فضلاً عن الإرهاب، وهو بحاجة ماسة إلى مساعدات اقتصاديّة وأمنيّة وهذا يسوّغ تدخل أميركا؛ كونها تقدم العون للعراق كونهما شركاء في محاربة الإرهاب وتقديم العون الأمني والاقتصادي فهذه المبررات بحاجة إلى التحليل والتفكيك وإعادة التوصيف لها . إنّ من يتقبل ظاهر النصوص من دون أن يخضعها إلى التحليل والفهم يكون فهمه قاصراً على الرغم من أنّ البعض كما يقول سارتر (إذا اكتشفت سبباً آخر لعدم الفهم، أعطوك في بلدك جائزة برهافة الحس)(1)وهذه كناية عن تشجيع الصمت على ما هو سائد.

الأطروحة المنفية:

أي التي نحاول هنا الاستدلال على تهافت التمثيل الأميركي لشرعنة الهيمنة التي نضعها من ضمن «مقولة الاستعمار أو الكونيالية الجديدة» إذ يعد مفهوم الاستعمار/الكونياليّة من المفاهيم التي ارتبطت بحقبة معيّنة من تاريخ الغرب خاصّة وتاريخ العالم عامّة والذي ارتبط بجملة من الأفكار والمظاهر الثقافيّة في توصيف وتمثيل الآخر، فمن توصيفات ظاهرة الاستعمار أنها تسعى إلى فرض سيطرة الدول القويّة على مقدَّرات الدول الضعيفة من أجل استغلال خيراتها في المجالات (الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة)، وهي بالآتي ينتج عنها نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمَرة، فضلاً عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة على الرغم من أنّ معظم المستعمرات منفصلة عن الدولة المستعمِرة ببحار ومحيطات. وغالباً ما ترسل الدولة الأجنبيّة سكاناً للعيش في المستعمَرات وحكمها واستغلال مصادر ثرواتها. وهذا ما يجعل حكام المستعمَرات منفصلين عرقياً عن المحكومين

فهذه التوصيفات للظاهرة كانت نتيجة لما تركته من آثار وأفكار تبين أنّها تمثيل محض وشرعنة إلى القوة وتبرير لها، إذ تمّ تطويع المعرفة حتى تبرر الهيمنة؛ فظهر

ص: 178


1- جان بول سارتر، الاستعمار الجديد، ص 5.

الكثير من الأفكار في مجال المعرفة وفلسفة التاريخ والاستشراق تُبرِر الهيمنة وتعدها محاولةً لتحويل وتحديث تلك الدول.

ولعل هذا ما يمكن استنتاجه من سير تلك المعارف وما كانت تحاول أن تقدمه من أطروحة معتمدة على سندات علمويّة واهية معرفياً وبالآتي فإنّ أطروحة الاستعمار تمثَّل هنا الأطروحة السلبيّة التي نحاول بيان نواقصها وارتباطاتها التي هي مجرد هيمنة محضة ليس أكثر. (1)بعدما انهار المشروع الإقصائي الكونيالي وظهرت بدلاً عنه عوالم جديدة سرعان ماتمّ تدجينها في عالم ثنائي القوة؛ لكن بعد ما انهار هذا العالم بدأت تظهر سيناريوهات تحاول إن تبني تصوُّرات جديدة وهي تحلم بالسيطرة المنفردة على مقدّرات العالم: وذلك من خلال ترسيخها الصراع بوصفه مصيراً حتمياً(2).

المبحث الأول: علاقة العراق بالولايات المتحدة الأميركيّة

على المستوى العمودي:

وهي مرتبطة هنا بالحقبة الاستعماريّة، اذ لم تمنع سياسة العزلة التي عُرفت بها الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر الميلادي من اتجاهها نحو فتح آفاق مع بقيّة دول العالم؛ وذلك لضمان أمنها الاقتصادي، وقد دخلت المصالح الأميركيّة إلى العراق في البداية عبر البعثات الاستكشافيّة (بعثة شوفلدت -1878م) والتي اعقبها تعيين قناصل ونوابهم في بغداد، بعد أن كانت القنصليّة البريطانيّة في بغداد هي التي تتولى الإشراف على شؤون الرعايا الأميركيين بصفة غير رسميّة.

وقد استطاعت الولايات المتحدة من الحصول على حصّة في الامتيازات النفطيّة في شركة نفط العراق بعد الحرب العالميّة الأولى. إذ كان النفط هو الدافع الأساس السياسة الأميركيّة تجاه ،العراق، إذ جاء الاهتمام به في المرتبة الثالثة بعد إيران

ص: 179


1- في مجال نقد الاستعمار هناك كثير من الأسماء المهمة يمكن العودة اليها في هذا المجال منها: هومي.ك.بابا، موقع الثقافة، ترجمة، ثائر ديب المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 2006م.
2- انظر اشبینجلر، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة احمد الشيباني، بيروت، 1964.

والمملكة العربيّة السعوديّة حتى أصبح النفط يدرج من ضمن اهتمامات الأمن القومي للولايات المتحدة وبعد نهاية الحرب العالميّة الثانيّة مرّ بمراحل، فقد تركّز على متابعة القضايا الاقتصاديّة بالدرجة الأولى عبر تعزيز الاتفاقيات التجاريّة والامتيازات النفطيّة في مطلع القرن العشرين وفي هذه المرحلة الاستعماريّة كان العراق يعتمد على بريطانيا في تسليح جيشه.

أما في أعوام الخمسينيّات من ذلك القرن تتّضح أهميّة العراق من خلال التفكير السياسي والإستراتيجي الأميركي عبر مقولة الرئيس دوايت إيزنهاور:«إن العراق حصن الاستقرار والتقدم في المنطقة»(1). وفي هذه المرحلة كان هناك مظهران للتعاون في المجال الأمني بين العراق والولايات المتحدة الأميركيّة، تمثّل، أوّلها: في عقد اتفاقيّة المساعدات العسكريّة التي أطلق عليها توصيف (اتفاقية الأمن المتبادل في عام 1954م). وثانيهما عندما أصبح التوجه الأمني نحو العراق يرتبط بسياسة الأحلاف، فكان تأسيس حلف بغداد بقيادة بريطانيّة وبمشاركة كلٍ من : (تركيا وإيران وباكستان) إلى جانب العراق، ولكن برعاية أميركيّة مباشرة(2). وشهدت مرحلة السبعينيات محاولة أميركيّة واضحة لربط ما سمي آنذاك بأزمة الطاقة بالأمن القومي الأميركي، وبدأ الحديث عن خطر تلك الأزمة وتأثيره في الأمن القومي الأميركي وفي الدول الصناعيّة والتي تقف في مقدمتها أوروبا واليابان(3).

وفي عام 1991م ، وفي إطار أزمة الكويت وأبان العدوان الأميركي على العراق فيما سمي ب- (حرب الخليج). أطلق على تلك المرحلة بمرحلة (سياسة الاحتواء).

على المستوى الأفقي:

الانتقال من سياسة الاحتواء إلى الحرب، فعلى طول أعوام التسعينيات كان العراق

ص: 180


1- كوثر عباس الربيعي استحقاقات المشروع الأمريكي في العراق مجلة الشؤون العراقية العدد الأول، 2008م . ص 212
2- وانظر: جهاد مجيد محي الدين العراق والسياسة العربية (1941-1958م)، مركز دراسات الخليج العربي، جامعة - البصرة، 1980م، ص .258
3- كوثر عباس الربيعي استحقاقات المشروع الأميركي في العراق، ص 213.

هدفاً لإستراتيجية الاحتواء المزدوج والحصار، لكن بعد وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول 2001م وجدت الإدارة الأميركية في تلك الأحداث فرصة لتصفيّة حساباتها مع العراق وإسقاط نظام الحكم فيه. وقد كانت أهداف الحرب تكمن في فرض وجود عسكري أميركي مباشر في المنطقة لضمان التفوق في هذا المجال وبسط السيطرة على نفط العراق الذي يشكل ثاني احتياطي في العالم، وحماية أمن اسرائيل بتأثير اللوبي الصهيوني، وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط على وفق المصالح الأميركية، وهذا ما كشف عنه التقرير الذي صدر من وزارتي الخارجيّة والدفاع الأميركيتين بعد الاحتلال الأميركي للعراق بمدّة وجيزة (قال الرئيس جورج دبليو بوش في 2003/12/20 إنّ الولايات المتحدة لم تقم بغزو العراق؛ لكي تنسحب منه، ولكنّها ذهبت من أجل مصالح وأهداف ينبغي تحقيقها، وأوصى التقرير بعدد من الاجراءات لتحقيق تلك المصالح والأهداف)(1).

يبدو أنّ أميركا قد استفادت من الحرب العراقيّة الإيرانيّة إذ تمّ الاحتواء المزدوج إلا أنها قرّرت تدمير العراق يوم دعمت تدخله في الكويت وأوحت له بعدم تدخلها الأمر إلا أنها قررت بعدها تدمير العراق وقد علّلت هذا (بأنّ إرسال قوات إلى العراق جاءت بطلب من (فهد) حقاً، وبهدف ردع العراق والدفاع عن صديق)(2)وقد ورد في مذكرات جورج بوش هو بحثه الجدي عن كيفيّة إقناع الكونغرس والشعب بأنّ هذه الحرب القادمة لن تكلِفهم الكثير، وأن أرباحها ضخمة. هكذا كان يتم تبرير الحرب عبر البحث عن منافع وإن كانت تتسبّب في دمار شعوب أخرى مثل العراق الذي تعرّض إلى الاحتواء والحرب ثم الحصار ثم الاحتلال ومن خلاله الحرب الأهليّة ثم ،داعش والآن الانفصال والتشرذم وقد يكون مرد هذا كما يقول مايكل شوير: (إنّ الأميركيين قد تورطوا في مثل هذه الحرب، لأنهم خطّطوا جيدا للغزو

ص: 181


1- كوثر عباس الربيعي استحقاقات المشروع الأمريكي في العراق 215-216. وانظر: شيرين حامد فهمي إستراتيجية إعادة النظر: وضع حد للإخفاقات الأميريكية، نشر تقرير واشنطن (الكترونية) على الانترنيت العدد 114:23 يونيو/ حزيران 2007م
2- المرحلة الحرجة للأمة الأمريكية في مذكرات جورج بوش الأب . مجلة رؤية الثقافية، ع 2»ن مركز ابن إدريس الحلي، 2010م، ص74.

لكنهم أهملوا الفترة التي تلي إسقاط النظام، وكيفيّة إدارة العراق وأي دور سيسند إلى العراقيين في تقرير مستقبلهم)(1).

يبدو لي أنّ الأمر ليس بهذه الشاكلة؛ بل أنّ أميركا بعد احتلال العراق رفعت سقف تطلعاتها إلى طرحها إستراتيجيّة الشرق الأوسط الجديد من أجل توسعها؛ ولهذا حاولوا أن يجعلوا من العراق نقطة انطلاق، فقاموا بمخططاتهم الإستراتيجيّة المتمثلة بالآتي: أوّلاً أن تسهم الولايات المتحدة وبشكل مباشر في تحديد معالم النظام السياسي المستقبلي في العراق. وثانياً عدم التسرع في سحب القوات الأمريكيّة قبل تأمين الأوضاع السياسيّة وقبل انتقال تلك القوات إلى قواعد دائمة في العراق. وثالثاً التعامل مع القواعد الأميركيّة في العراق كونها من أهم ضمانات النفوذ الأميركي في العراق. ورابعاً ربط العراق بسلسلة من الاتفاقيات امنيّة والاقتصاديّة. فيما جاء خامساً توسيع السفارة الأميركيّة في بغداد إذ لا يقل عدد العاملين فيها عن ثلاثة آلاف موظف في مختلف الاختصاصات الأمنيّة والاستخباريّة. وسادساً: إعادة النظر في أواخر 2006م ووضع المبادئ الأساسيّة لاستراتيجيّة جديدة في العراق والتي عدّت بمقتضاها الخطر الإيراني وعودة تنظيم القاعدة (2)؛ إلا أنّ لكل إستراتيجيّة لابد أن يكون لها مقاومة تختلف معها في المنطلقات وتحاول من إفشال مخططاتها.

فهذا جاء رد فعل الدول التي كانت تتوجس من التواجد الأميركي في العراق والمخطط المعلن عن الشرق الأوسط الجديد اذ اتّسمَ موقف دول الجوار من التواجد الأميركي بالرفض إذ يمكن القول (إنّ الدول المجاورة للعراق انقسمت ما بين رافض للوجود الأميركي ومؤيد له. وتمثّل الرفض بكل من إيران وسوريا بوصفهما يواجهان ضغوطاً أميركيّة منذ احتلال العراق في نيسان/ أبريل 2003م. وإنّ بقاء القوات الأميركيّة يشكّل تهديداً لأمنها القومي) (3). هذا ما يمكن وصفه بالإستراتيجيّة وموجهاتها والقوى المستهدفة.

ص: 182


1- مايكل شوير السير نحو الهاوية (أمريكا والإسلام بعد (العراق) ضمن مجلة رؤية الثقافية ، ع 5) ان مركز ابن إدريس الحلي، 2010م، ص 101
2- المرجع السابق، ص 216 وانظر: غراهام فولر إلى متى تدوم الامبراطورية الامريكية في الشرق الاوسط، الجزيرة نت في 2003/7/13م.
3- عامر كامل احمد ، مواقف الدول الإقليمية من آلات مرشحي الرئاسة الأميركية حيال ،العراق، مجلة شؤون عراقية العدد الاول تشرين الأول 2008م، ص109.
أهم المرجعيات الإستراتيجية الأميركية في العراق:

إنّ الشعارات المعلنة عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان ونصرة الشعوب لا توجِه الاستراتيجيّة الأميركيّة بل توجهها المصالح الأميركيّة(1)، ومن يحدد هذه المصالح هي قوة أميركا المتمثلة بالقوّة الضاغطة لأصحاب المصالح من صنّاع السياسة، ومراكز البحوث والشركات التي تبحث عن أسواق لها هذان العاملان مهمّان في فهم واستيعاب الهيمنة الأميركيّة (فيما يتعلّق في بنية المجتمع، إذ إنه يتكون من تحالف شركات الدفاع (جماعة المصالح) والبنتاغون (البيروقراطيّة) ولجان القوات المسلحة في مجلسي الشيوخ والنوّاب (الكونكرس) إضافة إلى مراكز الأبحاث المرتبطة بالبنتاغون)(2)وبالآتي فإنّ بنية المجتمع الصناعي العسكري تقوم على شراكة تضم: مالكي الصناعات ذات الإنتاج الحربي، وهم يمثِّلون جماعة ضغط، والمسؤولون الحكوميون الذين لهم سلطة أو مصالح في الإنتاج الحربي، والنوّاب الممثلون لولايات تستفيد اقتصادياً من

الاتفاق الحربي(3).

فمراكز البحوث تحاول تبرير تلك الحاجات ومنحها مصداقيّة من خلال إقناع المحتل الأميركي من ناحية والعراق من ناحية أخرى بقبول الهيمنة كونها تقدم له العون في مواجهة الإرهاب والتفكك والفساد عبر المعونات الاقتصاديّة والتدريب ودعم التفاهمات بين الأطراف المتنازعة من ناحية ثانية.

أسهمت بدور كبير في تأكيد الحضور الأميركي كقوة (Super power) على مستوى العالم. إن كثيراً من المشكلات والأزمات الاقتصاديّة قد تم حلها عبر متغير الحرب والسلام. إنّ هذه المؤسسات لم تنفك يوما عن إمداد الماكنة الانتخابيّة للرؤساء الأميركيين بالمال في حملاتهم الانتخابيّة تدعم حركة الأبحاث وتستثمرها

ص: 183


1- انظر: سعد سلوم امبراطورية العقل الأمريكي، مسارات، ط1، بغداد، 2006، ص .129
2- نصر محمد علي، دور لوبي المجمع الصناعي - العسكري في الإستراتيجية الأمريكية، ص 20-21. وانظر: .Stephen V.Monsma, op. cit.p.204
3- المصدر السابق نفسه ص 21 وانظر فؤاد موسى المجمع الصناعي - العسكري الإسرائيلي، مجلة المنار باريس، ع ،477 ، 1988، ص 27.

لصالح المؤسسة العسكريّة، على الرغم من كون هذه المخترعات تم توظيفها في القطاع المدني فيما بعد(1).

وإذا نظرنا إلى الوضع العراقي من خلال تلك المعادلة نجد أنّ النوازع البرغماتيّة لدى أصحاب المصالح هي المحركة وهذا يذكرنا ببداية الاحتلال، (فما أن تحقق احتلال بغداد عسكريا ، حتى لحقت بالحملة أسراب من رجال المصالح والشركات واللوبيات كلٌ يبحث عن فرصته التي انتظرها طويلا، غايتهم في ذلك أن يقتنصوا ما يقدرون عليه، وتمثيل جماعتهم أو لوبياتهم)(2).

المبحث الثاني: المرجعيّات السياسيّة والإعلاميّة والإستراتيجيّة

في بحثنا عن المرجعيات السياسيّة والإعلاميّة والإستراتجية، من الضرورة إدراك أهميّة الرأي العام إذ (جميع موظفي الدرجة الأولى في الولايات المتحدة ابتداءاً من رئيس الجمهوريّة إلى الوزراء إلى أعضاء الكونغرس بمجلسيه، يقعون تحت ضغوطات الرأي العام الهادف إلى معرفة كل التفاصيل الخاصّة بالشخصيّات العامّة فی البلد)(3)، فالداخل الأميركي وما يتعلق بالرأي العام (تعد الانتخابات والاقتراع شكلاً من الأشكال التي تحقق مكانة مهمّة في الرأي العام ودوره في العمليّة السياسيّة باعتبارها الإطار العام الذي يشهد بلورة وتحديد السياسة العامّة)(4)، فالتأثير في الرأي العام يبرز هنا مرجعيّات فكريّة سياسيّة وإعلاميّة، لقد هذا الخطاب الأميركي خلفيّة فكريّة متمثلةً في الفكر السياسي لدى المحافظين الجدد الذي يعود إلى تلك المرجعيات السابقة يضاف إليها اثر شتراوس كما تجلّت في هارفي مانسفيلد(5)

ص: 184


1- عبد علي كاظم المعموري انكفاء الامبراطورية الامريكية...، ص 133.
2- R.Alen Hays - How speaks for the poor? National interest Groups and social policy, Garland press forthcoming 2001.
3- Leonard Levy - The Emergence of a free press-oxford up 1985,p 47.
4- نصر محمد علي جماعات الضغط والمصالح والسياسة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، المركز الثقافي للطباعة والنشر، ط1، بابل، 2014م، ص 147. وانظر منصف السلمي، صناعة القرار الأمريكي، مركز الدراسات العربي - الأوربي، واشنطن، ط1، 1997م، ص.257
5- سمير مرقص ، الامبراطورية الامريكية ثلاثية الثروة والدين ،والقوة، بحث منشور على الانترنيت: ttp:llwww.islamonlie.coml2005

وتلميذه فرانسيس فوكوياما الذي يعد أحد قطبي التفكير الإستراتيجي أمّا القطب الثاني فهو: صاموئيل هنتنغتون وقد كانت مقولة الأول: (فوكوياما) تتمثّل في نهاية التاريخ والتي تُظهر المرجعيّة الليبراليّة بكل آثارها السلبيّة في كونها تعد لحظة اكتمال السقوف النهائيّة التي وضعها المنظرون الليبراليون(1). أمّا الثاني: فقد تمثّل في مقولته الموسومة ب- ( صراع الحضارات) الذي يتّسم بضيق الأفق الفكري والتاريخي وإنما مع المدى المتوسط الذي يفرز وقائع تشكل نمطاً من أنماط السلوك مع التكرار(2). فقد رسم صاموئيل هنتغتون صورة الغد والحضارات ببعضها والتجمعات الإثنيّة.. والقوميّة في عالمنا ،اليوم، فالصراع البشري مستمر وسيستمر إلا أنّه انتقل من صراع تقليدي إلى صراع أيديولوجي كان محكاً لاختبار تجارب القرن الماضي في آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينيّة إذ يرى أنّ الخلافات الثقافيّة سوف تأخذ موقعاً عالمياً متقدماً تلك الخلافات القائمة على الاتجاه الاقتصادي الجديد وعالميّة السوق الحرّة، وتحويل الفكر الإنساني وثقافته إلى سلع استعماريّة من ضمن منهج استهلاكي، لكن تظل العلامات الثقافيّة جوهراً للصراع القادم إذ سيكون المصدر الثقافي هو المسيطر على النزاع(3).

إننا نستطيع أن نقول إنّ الاجترار الإعلامي قد حوّل هذه العلامات إلى رأي عام وابتداءاً من كونها رأياً كونياً. فهي تدخل من ضمن آليّات جديدة أخذت تطبع عالمنا المعاصر لا هي بالآليات المنطقيّة ولا بالآليات الأيديولوجيّة، مع ما يفترض فيها من تشويه ،وقلب وإنما هي آليّات تجعل الأشياء حقيقة بمجرد التأكيد على أنها كذلك»(4).

فإنّ تلك الأطر النظريّة التي تحاول أن تضع مقدرات العالم في منظار أميركي

ص: 185


1- انظر فرانیس فوكوياما ، نهاية التاريخ ترجمة ،وتعليق حسين الشيخ دار العلوم العربي، لبنان، 1993م. وانظر: فرانسس فوكوياما، التصدع ،العظيم، ترجمة عزة حسين كبة بيت الحكمة، ط1، بغداد، 2004 ص .290 251-
2- انظر: صاموئیل هنتنغتون صدام الحضارات ترجمة مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق بيروت -1995م.
3- هنغتنون صاموئيل، صدام الحضارات، ص 17-19
4- عبد السلام بن عبد العالي في الحوار بين الثقافات والصراع بينها المحور ، م / نقد وفكر.

تكون بها أميركا ممثلةً للعالم الحر من ناحية وتضادها مع العالم الإسلامي ممثلاً بالإرهاب وأشكاله المتطرفة. فإنّ معالجة هذا الأمر في خلق خطاب سياسي يرسم الأبعاد الإستراتيجيّة ويمنحها إطاراً فكرياً ينطلق من مقولة «صناعة العدو»(1)وهي مقولة قديمة في الخطاب الإستراتيجي الأميركي كما عبرّ عنه هنري كيسنجر (هناك مشكلة عقلانيّة عميقة في سياستنا الخارجيّة اليوم، و تتمثل في أن أي غياب لتهديد منفرد وساحق من مثل التهديد الذي واجهناه في سنوات الحرب الباردة، سيجعل من الولايات المتحدة فاقدة لحاسة الاتجاه الذي تسلكه)(2). اذ يعد العدو هو الذي يوجه المسار، سواء أكان عدواً حقيقياً أم افتراضياً إلى جانب هذا العدو هناك طموح لدى كل رئيس أميركي أن يضع له بصمةً في تاريخ العنف الأميركي بحق الآخر وهذا ما يشير له كولن باول: إنّ كل رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأميركيّة يحتاج إلى تخليد لذاته(3). يمكن أن نأخذ بُعْدَيْن في تبيان السياسة الأميركيّة بشكلها العام وموقفها من العراق اليوم من خلال استعراض مفهوم الفوضى الخلاقة أوّلاً ، ثم موقف أميركا اليوم من العراق ثانياً:

أولاً: مقولة «الفوضى الخلّاقة فى الاستراتيجيّة الأميركية:

لعلّ أبعاد صناعة العدو تتجلى من خلال مفهوم «الفوضى الخلاقة Creative Chaos)».

يبدو أنّ هذا المفهوم أساساً يعتمد على بعدين الأوّل في مجال العلوم أما الثاني فيتعلق بالتوظيف في مجال السياسة وهي بالشكل الآتي:

1 - المرجعيات العلمية لمفهوم الفوضى الخلاقة:

ينطلق من مرجعيّات علميّة تختلف مع التصورات القائلة بالتطور الخطي

ص: 186


1- انظر صموئيل هنتننغتون من نحن؟، ترجمة حسام الدین ،خضور، دار الأي للنشر ، ط 1 ، دمشق، 2005، ص 263.
2- المصدر نفسه، ص 137. وانظر فخري الهواري، هل يشهد القرن الواحد والعشرين انهيار الولايات المتحدة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجيّة ، القاهرة ع / 126،1996م، ص 51.
3- المصدر نفسه، ص 146 ویری حسنين هيكل ان بثبات فكرة أن لكل رئيس أمريكي صولة عسكرية في العالم، يراد لها أن تسجل في التاريخ الأميركي كمنجز تعبيري..... انظر: محمد حسنين هيكل حرب الخليج وأوهام القوة، مركز الاهرام للنشر، القاهرة 1992م، ص 216.

المتصاعد نحو قراءة فيزيائيّة مختلفة تعرف بالفوضى يمكن أن نرصدها في حركة داخل الذرّة في غياب القصديّة، ف-(الفوضى)(1)هي فرع جديد من فروع العلم، التي تُعنى بدراسة ظواهر الاضطراب والاختلال واللانظام واللاخطيّة، في مختلف المجالات كالمناخ ، وأجهزة الجسم عند الإنسان وسلوك التجمعات الحيوانيّة، فضلاً عن الاقتصاد والتجارة وحركة الأسواق الماليّة، تطوراً نحو حركة المجتمعات الإنسانيّة والسياسة. تبتدئ نظريّة الفوضى (كايوس)، من الحدود التي يتوقف عندها العلم التقليدي ويعجز. فمنذ أن شرعَ العلم في حل ألغاز الكون، عاني دوماً من الجهل بشأن ظاهرة الاضطراب، مثل تقلبات المناخ، وحركة أمواج البحر، والتقلبات في الأنواع الحيّة، وأعدادها والتذبذب في عمل القلب والدماغ. إنّ الجانب غير المنظّم من الطبيعة غير المنسجم وغير المتناسق والمفاجئ والانقلابي، أعجز العلم دوماً.)(2)، إذ يمكن لكل علم أن يستفيد من الاكتشافات والأطروحات والاختراعات التي تأتي بها العلوم الأخرى وتكتشفها (وبعد عشر سنوات من تلك الجهود، صار مصطلح الفوضى (الكايوس) اختياراً لحركة متصاعدة أعادت صوغ المؤسسة العلميّة عالمياً) (3).(فإنّ هذا المصطلح عندما يحل ويحاول تقديم تفسير يفسرِ الفوضى التي عجز العلم الكلاسيكي عن تفسيرها، فما دام للعالم علماء يبحثون في قوانين الطبيعة، فسوف يعاني من إهمال لظاهرة : الاضطراب في الغلاف الجوي وفي البحار والمحيطات، وفي ظاهرة التقلب في التجمعات الحيوانيّة البريّة، وظاهرة تذبذب القلوب والعقول. فالجانب غير المنتظم من الطبيعة أي الجانب الذي يفتقر إلى الاستمراريّة ويمتلئ بالأخطاء، يمثل «لغزاً» للعلم وللعلماء. وقد كانت هناك جهود كبيرة في هذا المجال حتى عمل مديرو البرامج الحكوميّة المنوط عليها تدبير الموارد

ص: 187


1- الموسوعة الحرة : https://ar.wikipedia.org/wiki والمعنى القديم للمفهوم كايوس كاوس هو الربة الأولية لهذا الكون في الميثولوجيا الإغريقية وهي الربة التي تجسد المكان غير المحدد والمادة التي لا شكل لها والتي سبقت كل خلق وكل خليقة وكل ما هو معروف، أما الشاعر أو فيديوس (OBiotos) فقد وصف الربة كاوس بأنها المادة الخام المنفجرة التي لا حياة فيها وهى الربة التي لا حدود لها ولا تكوين إنها عبارة عن مجموعة بذور متضاربة تعمها الفوضى العادلة. وهي القاع الذي لا نهاية لعمقه وكل ما يقع فيها يكون منجرفاً إلى ما لا نهاية هي نقيض الأرض «غايا (Taia) ( المنبثقة منها، هي المكان الذي لا اتجاه محتمل فيه إن وقع فيها شيء تناثر في كل الاتجاهات، وهي الفضاء القاسم والفاصل ما بين السماء والأرض بعد انفصالهما عن بعضهما البعض.
2- جايمس غليك، نظرية الفوضى للامتوقع ترجمة، أحمد مغربي، الساقي، ط1، بيروت، 2008م، ص 16.
3- المرجع نفسه، ص17.

اللازمة للبحث العلمي في القوات المسلحة، وفي وكالة المخابرات المركزيّة، وفي وزارة الطاقة على توفير مزيد من الاعتماد لبحوث «الفوضى»، بل واتجهت إلى إنشاء وحدات ماليّة خاصّة لهذا الغرض. ويذهب أقوى الداعين لهذا (العلم الجديد) إلى حد القول بأنّ علم القرن العشرين، سوف يُخَلّد في التاريخ بسبب ثلاثة عوامل هي:(النسبية - الميكانيكا الكميّة - الفوضى)، ويذهبون إلى أبعد من ذلك إذ يعلنون أنّ (الفوضى) هي ثالث أعظم ثورة في العلوم الفيزيائيّة في القرن العشرين.

2. نظريّة الفوضى في المجال السياسي:

لقد جاءت التحولات الجديدة التي رافقت العولمة بمتغيرات كبيرة إذ أدخل العالم بعالم ما بعد الدولة القوميّة وأصبح العالم عابر للدولة من خلال (التجارة والثقافة والإعلام الرقمي) وكلها أسهمت إلى حد كبير بإحداث إزاحات كبيرة في العالم في ظل العولمة وهنا كان لابدّ من تفهم هذا العالم الحر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وضعف سيطرة الدولة على الشعب والمكونات فأصبحت هناك تحوّلات وغليان يعيد ترسيم الحدود وتنفجر الإثنيّات التي كانت شبيهةً بلعبة «طاولة بليارد» التي يتوسطها مثلث يحتوي على كل من الكرات الملوّنة، فهي شبيهة بالإثنيات المطوّقة بحدود الدولة وجاءت العولمة والإعلام الحر والتبادل للحر للتجارة والمعلومات فاكتشفت أُصولها والتي تريد أن تعود إليها هكذا (كانت البوسنة والعراق ولبنان واليمن) وغيرها كثير(1).

وقد ظهرت دراسات كثيرةٌ وكان من نتائجها الدعوة إلى إحداث تغيير في الطريقة التي يصنع بها رجال السياسة والاقتصاد والثقافة قراراتهم فيما يتعلق بالتعامل مع الأحداث الجديدة، وفي الأسلوب الذي ينظر به علماء الفلك إلى النظام الشمسي، وفي الطريقة التي يتحدث بها «المنظرون السياسيون» عن الضغوط التي تؤدِّي إلى صراع مسلح.

ص: 188


1- نحن هنا بين تفسيرين الأوّل يجد أنّ الأمر حالة مرتبطة بالتحولات لما بعد الدولة القوميّة وكأنّ الأمر ظهر بفعل العولمة، الرأي الآخر يعد هذه الاحداث كجزء من استراتيجية غربية في تفتيت المكونات التي قامت عليها الدول التي لم تقم على اساس دولة الأمة والدمج القسري للمكونات كما حدث في فرنسا إذ كانت دولة الأمة، وكأنّ الأمر مرتبط بصناعة وتفتيت الدول بشكل مخطط له غربياً وأمريكياً في صناعة العنف او الفوضى الخلاقة.

لكنّ هذا الأمر لا يعني جعل البلد يعيش في حالة من الفوضى والحرب الأهليّة ويتم تقسيم أرضه؛ بحجّة تقرير المصير أو الفوضى بل حتى (الشعب الأميركي فقد كانت حالة الفوضى التي شهدها العراق من دون تدخل القوّات المحتلة، دفع الرأي العام الأميركي والعالمي أيضاً إلى أن يصف عدوان الولايات المتحدة على العراق بأنه حرب من أجل النفط مهما أضيفت على نفسها من دعاوى أخلاقيّة وإنسانيّة ذات تأثير مباشر في الجمهور الأوسع)(1).

لكن لو عدنا إلى التأويلات التي قدّمها الخبراء في تفسير الفوضى سياسياً، سنجد هناك رؤيتين في معالجة هذه الفوضى ما بعد الدولة التي صاحبت العولمة والخطاب الرقمي، الأوّل مثّلهُ (مايكل ليدن)، والثاني نقدي مثّلهُ : (هيدلي بول):

1-2 فيما يتعلق بنظرة (مايكل ليدن):

إذ تمثّل في توجيه الاستراتيجيّة الأميركيّة في التعامل مع الأحداث السياسيّة التي تجتاح الشرق الأوسط بعد تحولات العولمة وما أحدثته من ظهور لكثير من المظاهر السياسيّة، فكانت رؤيته تحاول من أن تتعامل مع الوقائع وليس بالأفكار النظريّة المسبقة، فالواقع يفرض نفسه ويدفعك إلى التأمل في مسوغاته وأسبابه. وهذا بدوره يسهم في تشخيص البيئة المحددة له ليقول إنّه لا بدّ من التعامل مع معطياته وتطوراته . وهو يأخذ بنظر الاعتبار ما جاءت به النظريّة العلميّة وما جاء به التصور الجديد عن النظام العالمي ما بعد الدولة، وكل هذا دفعه إلى اجتراح ضرورة أن يكون لأميركا تأثيرها في إحداث تحوّلات كبيرة في المنطقة تسهم في خلق حلول لما تعانيه من مشاكل متراكمة وهذا كان يفترض أن يُحدث تحوّلات عميقة في الشرق الأوسط الذي يعاني من هيمنة الاستبداد والتأخر الاقتصادي الذي يسهم من دون شك في إنتاج ثورات اجتماعيّة لابدّ أن تكون لها نتائج وخيمة على الشرق والغرب معاً. مما جعلهُ يمضي في تقديم حلولٍ وتوجيهات تحدث تحوّلاً كبيراً في الشرق،

ص: 189


1- حميد حمد السعدون الرأي العام ومجموعة أصحاب المصالح وتأثيرها على المشروع الإمبراطوري الأمريكي، مجلة شؤون عراقية، عدد 1 ، تصدر عن مركز العراق للدراسات ،بغداد تشرين الأول 2008م . ص 53

ومن هنا نستطيع أن نفهم رد الوزيرة الأميركيّة عن الشرق الأوسط وما يفترضه من تحوّل ديمقراطي وتعدد ثقافي وسياسي يسمح بحريّات أكبر وبمشاركة فعالة في إدارة المجتمع، بالطبع لا نستطيع أن نغيّب الأهداف البعيدة لأميركا في المنطقة، فهي مَنْ دعمت الاستبداد والاستيطان وتشريد الفلسطينيين وبالآتي من أجل إحداث تحوّل لا بدّ له من أن يخلق أفقاً جديداً للحوار، هذا لا يشكل شعاراً في طريق المشروع الإمبراطوري الأميركي من ناحيّة والأنظمة المتسلّطة من ناحية أخرى فلا شكَ أنّ تلك القوى سوف تخلق فوضى أكبر متمثلة بالإرهاب والحرب وإلخ. وذلك لتعميم الأنموذج الأميركي باعتباره صورةً للمستقبل ولوضع هذا النشوء المستمر لمجتمع كوني مشترك في إطاره الجديد على وفق نظام المؤسسات والذي يجب أن يعزز التعاون بين محورين أساسيين: العلاقة الثلاثية بين الدول الأغنى والديمقراطيّة في أوروبا وأميركا وشرق آسيا، من خلال الولايات المتحدة الأميركيّة، باعتبارها محوراً للعمل الأوسع والممثل الأكبر للسياسة الدوليّة، يتطلب ذلك دعماً مقصوداً للدور السياسي الأميركي؛ لكي تصبح أميركا أميركا جديدة أكبر وأكثر فعاليّة في رسم السياسة الدوليّة وحركة الاقتصاد العالمي من خلال النظام الجديد الذي يربط أميركا بمنجزات هذه الشراكة في صناعة المستقبل(1).

2-2- أما النقد الذي قدمه (هيدلي بول)

في عام 1977م ، نشر بول عمله الرئيسي في الجمعيّة الفوضويّة. ويعد من الكتب الرئيسة في مجال العلاقات الدّوليّة على نطاق واسع، ويعدُّ كذلك النص المركزي في ما يسمى ب-«مدرسة اللغة الإنجليزيّة» للعلاقات الدوليّة في هذا الكتاب يقول بول: إنه على الرغم من الطابع الفوضوي على الساحة الدولية، ولا يتميز هذا عن طريق تشكيل مجرد نظام من الدول، ولكنّ مجتمع الدول له متطلبات لكيان يطلق عليه ب-(الدولة)، فهي التي يجب أن تطالب بالسيادة على (ط) مجموعة من الناس (ب) أرض محددة، ويجب أن يكون لدينا حكومة. وتشكّل الدولة النظام عندما يكون

ص: 190


1- بريجنسكي، زبغينور ،الفوضى الاضطراب، عند مشارف القرن الحادي والعشرين ترز مالك فاضل، دار الأهلية للنشر والطباعة عمان، 1998م، ص194.

لديها درجةٌ كافيةٌ من التفاعل والتأثير في القرارات؛ وذلك لأنها «تتصرّف - على الأقل إلى حد ما - كأجزاء من كل «نظام من الدول يمكن أن توجد من دون أن يكون أيضاً مجتمع الدول مجتمع الدول التي تأتي إلى حيز الوجود» عندما تُشكِل مجموعة من الدول، واعية لبعض المصالح المشتركة والقيم المشتركة في المجتمع بمعنى أنها تصور نفسها على أن تكون ملزمة من قبل مجموعة مشتركة من القواعد في علاقاتها مع بعضها البعض، ومشاركة في عمل المؤسّسات المشتركة».

مجتمع الدول هو وسيلة لتحليل وتقويم إمكانيات النظام في السياسة العالميّة. ويتابع حجته بإعطاء فكرة النظام في الحياة الاجتماعيّة وآليّات: ميزان القوى، والقانون الدولي، والدبلوماسيّة، والحرب والقوى العظمى الأدوار المركزيّة. ويخلص في النهايّة أنه على الرغم من وجود أشكال بديلة ممكنة للمنظمة، ونظام الدول هو أفضل فرصة لنا لتحقيق النظام في السياسة العالميّة(1).

وكان رأي (بول): أنه لا بد من وجود عرض أنموذجي للأسلوب الذي ينبغي أن نصوغ بموجبه آراءنا حيال المطالب بإحداث التغيير، فهو لم يتجاهل التغيير، لكنه دعا إلى التأني في «تحليل عمليّة التغيير»، وكان ثابتاً في رأيه، بأن الاتجاهات والمظاهر المعاصرة التي تبدو من نماذج «الحداثة» والتي تتراوح بين الشركات متعددة الجنسيّات، وخصخصة العنف على شكل جماعات إرهابيّة أو أمراء حروب، إذ ستظهر لنا بشكل مألوفٍ وبدرجة أكبر حين ندرسها من خلال «منظور تاريخي» طويل المدى بشكلٍ كافٍ، وأنه يمكننا أن نكسب كثيراً من خلال مقارنة الحاضر بحقب سابقة من التغيير.

كما أنّ العلاقات الدوليّة لا يمكن أن نفهمها أو أن ندرسها من «منظور الأقوياء» حصراً، وإنّ مجتمعاً دولياً راسخاً، لابد أن يرتكز على معنى من المعاني الأخلاقيّة والشرعيّة، وأنّ هذا بدوره يجب أن يبرز مصالح الأعضاء «الأضعف» في المجتمع الدولي، والقيّم السائدة لديهم.

ص: 191


1- الموسوعة الحرة بالانكليزي https://en.wikipedia.org/wiki/Hedley_Bull

فالعولمة و«نشر الفوضى»، قد بلغا حداً كبيراً في ممارسة ضغوط شديدة من أجل تحقيق التجانس والتقارب في العالم - بشكل وهمي - ولكنهما أيضاً دفعا العالم في اتجاه مقاومتهما وانعكاس تياره عليهما، وأصبح من الواضح أيضاً، أنه كما يتحرك «النظام القانوني الدولي» بشكل أكبر في اتجاهي التضامن، وتخطّي«الحدود القوميّة»، وانخفاض «منسوب السيادة»، كذلك يرتفع المستوى السياسي للاختلاف الاجتماعي والثقافي، وللقواعد الدوليّة المتعلقة بحقوق الإنسان وبحقوق الشعوب، وبمجموعة متعاظمة من القضايا الاقتصاديّة والبيئيّة، بما لها من أثر بالغ العمق في (التنظيم الأهلي للمجتمع).

تعدُّ الجمعيّة الفوضويّة إحدى روائع العلوم السياسيّة والنص الكلاسيكي على طبيعة النظام في السياسة العالميّة. ونشرت أصلا في عام 1977م، فإنه لا يزال لتحديد الانضباط وتشكيلهِ في العلاقات الدوليّة.

يبدو أنّ نظريّة الفوضى الخلّاقة وجدت تحققها في العراق وصولاً إلى ظهور تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة، ومنها العراق وقد ترك آثاره العميقة في وعي الناس ثم جاءت لحظة المواجهة والتحدِي فبعد فتوى الجهاد الكفائي استطاع الشعب والحكومة من تحرير الموصل وغيرها من المحافظات والآن العراق في طريقه إلى تحرير الحويجة.

في هذه الحقبة ظهر تقرير يشرف عليه السفير الأميركي السابق في العراق يحاول التأصيل إلى عودة أميركا إلى العراق.

ثانياً: شرعنة الهيمنة الأميركية في العراق ما بعد داعش.

غاية التقرير(1) تتمثل في أمرين: الأوّل، من أجل هزيمة دائمة للتنظيم، الأمر الثاني: لضمان مصالح الأمن القومي الأميركي في العراق على المدى الطويل. إذاً يجد التقرير

ص: 192


1- مجموعة عمل مستقبل العراق تحقيق استقرار طويل المدى لضمان هزيمة داعش، الرئيس السفير ريان كروكر المدير التنفيذي: د. نسيبة يونس

أنّ هنالك تلازماً بين هزيمة داعش، وبين ضمان الأمن القومي الأميركي في العراق، لا أدري كيف جمع بين الأمرين معاً، فهما يتعلّقان بمصلحة أميركا وبقاء سيطرتها على العراق فهو يتّخذ من هذا الأمر كأطروحة يدافع عنها التقرير على الرغم من كونها أطروحة لا تراعي العراق بالمرّة بل يُراعَى فيها بقاء النفوذ والمصالح الأميركيّة في العراق وكأنّ التقرير يريد يجمع بين الباحثين الأميركيين الذين يهمّهم أمن أميركا في الداخل وهيمنتها في الخارج وبين الباحثين العراقيين الذين يريدون من الأميركيين أن يعملوا على إقرار الأمن في العراق ويحرضونهم من خلال التذكير بالمنافع التي سوف تعود على أميركا، وغائيّة هؤلاء أن يحققوا الأمن في العراق، وتناسى هؤلاء إنّ هذا لا يحقق الأمن بل يحافظ ويشرعن الهيمنة الأميركيّة على العراق وأنّ أميركا تتوافق مصلحتها مع الإرهاب إذ مكنها من الهيمنة على العراق، فغياب الأمن وانتشار الفساد ليس سوى رد فعل للهيمنة الأميركيّة على العراق وليس العكس.

لكن المروجين للهيمنة ومانحيها الشرعيّة يقاربون الأمر من خلال المقاربة الآتية فهؤلاء يريدون أن يقولوا: إنّ وجود الأميركيين يسهم في محاربة الإرهاب من ناحية ومن ناحية ثانية يسهم في ظهور دعم أميركي عسكري وتقني للعراق، متمثلاً في بناء المؤسسات التشريعيّة وهو ما نفهمه من الفقرات الآتية (يشهد العراق الآن حالة الاضطراب المدني، أفسحت المجال أمام الجماعات الإرهابيّة، مثل تنظيم داعش الذي يهدِّد مصالح الأمن القومي الأميركي بشكل مباشر. ورغم أن القوّة العسكريّة يمُكنها أن تَحُدّ من قدرة الجماعات الإرهابيّة، فإنها لا تستطيع القضاء على الأسباب الكامنة وراء ظهور هذه الجماعات فوحدها فقط حكومة فعالة وسريعة الاستجابة وشرعيّة يمكنها أن تعالج الأسباب الجذريّة للتطرف. وهذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة يجب أن تشارك في برنامج بناء الأمة على نطاق أوسع، بل يجب على الأرجح أن تدعم التقدم المحرز في البرامج التشريعيّة الرئيسيّة ومبادرات الإصلاح، التي تعالج المظالم العراقيّة بشكلٍ مباشر).

هنا يعالج الأوضاع بطريقة يسوِغها هو فالإرهاب الداعشي، وكأنه وليد فوضى

ص: 193

داخليّة خلقت ظهور هذا التنظيم، الذي سوف يهدد الأمن القومي الأميركي، وكأنّ الإرهاب قد تمدد تأثيره في العراق حتى شمل أميركا وأمنها فهو سوّغ أمرين:

الأول يتمثّل في ظهور الإرهاب والتدخل الأميركي معاً في العراق. والأمر الثاني إنّ العلاج العسكري وحده لا ينفع فلابدّ من معالجة أسبابه، وهذا لا يتحقق إلا من خلال برنامج أميركي للإصلاح في العراق وعن كيفيّة حدوث هذا الأمر يقول: من خلال رفع المظالم.

نحن هنا نقرأ لتأويل أميركي وباحثين وسياسيين عراقيين يحاولون الدعوة إلى التدخل الأميركي وبالآتي شرعنتهِ من أجل مصالح أميركا أوّلاً؛ لأنها دولة برغماتيّة لا تعمل بدافع المصلحة، وهنالك فكرة ساذجة تماماً من قبل مثقفين مهرجين عراقيين علمانيين وليبراليين يريدون إزاحة خصومهم من التيارات الإسلاميّة، ومن ناحية ثانية هو تأويل خبيث من قبل استراتيجيين ومراكز بحوث وشركات تحاول دفع الحكومة الأميركيّة إلى مواصلة سيطرتها على العراق.

فالغباء من طرف العراقيين المسوّغين للتدخل الأميركي ينسى أو يتناسى أنّ التواجد الأميركي هو السبب الرئيس والأساس في محنة العراق وليس هو الدواء أو الترياق لها؛ فالخطاب الأميركي ودعوته إلى بناء الشرق الأوسط الجديد هو من آثار دول الإقليم ضد تدخلها في العراق وقاد إلى انسحابها وظهور دولة في العراق ومؤسّسات سياسيّة وهو السبب الذي قاد أميركا والعرب الداعمين لها إلى دعم وإثارة العنف الذي بدأ بالاعتصام وصولاً إلى تهيئة الظروف إلى دخول داعش وجعل العراق أمام محنة الإرهاب من أجل أن يعود إلى الحظيرة الأميركيّة.

اذاً التدخل هو ليس الحل بل يعد استمراراً للهيمنة وردود دول الإقليم على التواجد الأميركي في العراق؛ لأنه يهدد استقرار تلك الدول.(1) ويمضي التقرير في تسويغ التدخل الأميركي في العراق فيؤكِّد على (إنّ تعزيز المصالح الأميركيّة في

ص: 194


1- مجموعة عمل مستقبل العراق تحقيق استقرار طويل المدى لضمان هزيمة داعش الرئيس السفير ريان كروكر المدير التنفيذي .: د. نسيبة يونس

العراق سيكون له أثرٌ إيجابيٌ على مصالح الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط متمثلاً في النقاط الآتية:

- حرمان الجماعات الإرهابيّة في العراق من الملاذ الآمن يقلل من العمق الإستراتيجي للمجموعات المرتبطة العاملة في سوريا، ويحد من قدرتها على تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

- دعم الولايات المتحدة للحكومة العراقيّة سيقلل - في نهاية المطاف - من تعرض العراق للنفوذ الإقليمي، ولا سيما الإيراني، إذ يحدّ هذا الدعم من قدرة إيران على بسط نفوذها في الشرق الأوسط.

- من شأن إعادة العمل في طرق التجارة الرئيسيّة بين الأردن والعراق، أن يساعد في تعزيز الاقتصاد الأردني، وبالآتي استقرار هذا الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة، بدلاً من تعرضه للخطر.

- توفير إمكانيّات تصدير النفط والغاز في العراق وتحديث اقتصاده، يمكن أن يطلق محركاً جديداً وقوياً للنمو الاقتصادي الإقليمي والعالمي، مما قد يقوِّض من نفوذ الأيديولوجيّة المتطرِّفة بين الشباب في الشرق الأوسط).

هكذا يتم تسويق التدخل من قبل مراكز البحوث المدعومة من قبل الشركات التي تريد من أن تحافظ على مصالحها فتحاول أن تسوّغ التدخل متزامنةً مع انسياق المثقفين العراقيين العاملين في تلك الورش وهم يبررون ذلك بسعيهم إلى تطوير العراق وهي المفارقة العجيبة.

فتحليل تلك الفقرات يبين الأطروحة الاستعماريّة الأميركيّة الجديدة في شرعنة تدخلها في العراق؛ فهي تحاول تسويغ التدخل من خلال الفوائد العائدة على أميركا ودفعها الأخطار من ناحية أخرى.

فالفقرة الأولى التي تتناول حرمان الجماعات الإرهابيّة في العراق من الملاذ

ص: 195

الآمن، وتحدّ من قدرتها على تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، فإنها لا تعالج الأسباب ولا تعمل على إزالتها، بل تحدُّ من أثرها بمعنى أنها تحافظ على استمرارها؛ وتجعلها تحت السيطرة. لانها تسوّغ تدخله فإنّ استمرار الإرهاب يعني استمرار الحاجة إلى بقاء التدخل الأميركي من قبل الشعب الأميركي؛ لأنه يدفع الإرهاب وفي العراق إنّه يحمي المواجهة ويديمها ليس إلّا.

أمّا الفقرة الثانية: فبدلاً من أن تعالج أسباب الإرهاب، والجَّهات الداعمة فإنها تنقل الأمر إلى مواجهة أخرى مع إيران فيقول:إنّ وجود الولايات المتحدة مع الحكومة العراقيّة سيقلل - في نهايّة المطاف - من تعرض العراق للنفوذ الإقليمي ولا سيما الإيراني هذه الفقرة موجهة إلى دول الإقليم العربيّة من ناحية ومن ناحية ثانية إنّ الإرهاب في صراع عقائدي مع إيران وهي من دعمت العراق في مواجهة ،داعش، فهذه الفقرة ملغومة وهي لا تحث على الاستقرار بل العكس في ميلها إلى تهديد دول الجوار.

أمّا الفقرة الثالثة فهي لاتهم العراق بقدر ما تحشِّد القوى ضد إيران وتبحث عن مسوِّغات لا تهم العراق فالفقرة تؤكد على المصالح الأردنيّة وعن علاقاتها بأميركا. وكأنّ الفقرة تقول: إنّ الوجود الأميركي سوف يحافظ على الأردن المعتمد على الاقتصاد العراقي والأخير سوف تعود عليه الحماية الأميركيّة في مبيعات النفط.

بالآتي فإنّ هذه الفرضيّات كونها مسوِّغات إلى التدخل الموجه إلى اللاعب الأميركي ودول المنطقة ومن ثم العراق. ومن ثم فإنّه لا يقدِم مسوغات لها عمقها وأثرها في العراق ومصالحه بقدر ما يريد تبرير الهيمنة وكأنّها تحقق مصالح عراقيّة أميركيّة وكأنّ الأمر محاولةً لترويج ظاهره إقناع الشعب الأميركي وباطنه تبرير الهيمنة؛ لكونها تعبر عن مصالح عراقيّة. ولهذا يقدم التقرير المبررات الآتية: الأوّل ما يتعلق بالعنف والدعم الأميركي في مواجهته وتدريب القوات العراقيّة والأمر الثاني: في مواصلة الضغط عن طريق الضغط على الحكومة العراقيّة وحكومة إقليم كردستان؛ لتلبية احتياجات الشعب العراقي بشكل أفضل. وعلى المدى القصير عن طريق دعم

ص: 196

إجراء انتخابات برلمانيّة وانتخابات على مستوى المحافظات حرّة ونزيهة على الرغم من أنّ هذا الأمر قد تكرّر من قبل في تصريحات المرشح الأميركي الجمهوري (حول التعامل مع الملف الكردي في العراق هي باتجاه استكمال الإستراتيجيّة الأميركيّة

للإدارة الحاليّة حول إعطاء الأكراد المزيد من الحقوق السياسيّة»(1).

إلى جانب الدعم الاقتصادي للاقتصاد العراقي عن طريق: (الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمعونات متعددة الجنسيات). وهي أمور تمّ التطرق لها كثيراً إلا أنها غير فعالة في مواجهة الأوضاع العراقيّة بقدر ما تدفع العراق إلى تحقيق الهيمنة الأميركيّة على مقدّرات العراق وجعله دولة تعاني من مديونيّة للبنك الدولي. وقد كان للولايات المتّحدة دورٌ مؤثرٌ وفعّال في العقوبات التي فُرضت على العراق بعد دخول الجيش العراقي إلى الكويت، وهي عقوبات ليس لشعب العراق من دور بها(2)، ونجد التقرير يفصِّل نقاطاً مهمّةً منها :

من المسوِّغات إلى التدخل الأميركي كونه المتوسط بين بغداد وحكومة إقليم کردستان في هذه النقطة يحاول التقرير توصيف المشكلة (فقدان كبير للثقة ولحسن النيّة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان وذلك مع اعتقاد حكومة إقليم كردستان بأنها ضحيّة لبغداد، بينما تعِدُّ بغداد نفسها مُستغلَّةً من قِبل حكومة إقليم كردستان. لكنّ التدهور المستمر للعلاقة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان ليس من مصلحتهما، وبدوره فهو لا يخدم مصالح الولايات المتحدة.

ولا يوجد شك في أنّ معظم الأكراد العراقيين يريدون دولة مستقلة لهم، إلا أنّ هناك خلافات كبيرة بين الأكراد أنفسهم حول كيف ومتى يمكن أن يحدث ذلك. وهناك إجماع أكبر على أنّ العمليّة يجب أن تُدار بطريقة تجعل إقليم كردستان المستقل له علاقة وثيقة مع بغداد، وخاصّةً في المجالين الاقتصادي والأمني).

ص: 197


1- عبد الجبار المرهون، أمن الخليج والمتغير الأمريكي، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 328 حزيران / يونيو 2006م.
2- للمزيد ممكن العودة إلى : حكمت شبر، الحروب العدوانية وما أفرزته من قروض وتعويضات بحق العراق، م طبعة آزاد هورام كركوك 2008م.

(فيما تكون الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي يثق به كل من بغداد وحكومة إقليم كردستان لتوجيه هذه الجهود على المدى الطويل والقصير. ويمكن للولايات المتّحدة أيضاً أن تستعمل مساعدتها المستمرة بشكل استراتيجي لتشجيع التعاون بين حكومة إقليم كردستان و بغداد. وعلى سبيل المثال من خلال دعم مشاريع البنية التحتيّة المشتركة في المناطق المتنازع عليها التي تخدم الاحتياجات المحليّة. وبإيجاد حوافز للتعاون المستمر بين الجانبين يمُكِن أن يحاول الطرفان تجاوز الإدارة المستمرة للأزمات والتوجه نحو حالة من العلاقات الإيجابيّة).

الخاتمة:

هذا العالم الذي يصوّر نفسه أنه متساو، هذا مجرد ادعاء فارغ، ومجرد زيوت وأصباغ تحاول من أنْ تستر القسمات المتوحشة للاستعمار ،والهيمنة والفقر والنفي العنصري التي يعاني فيها عالمنا ولأجل كشف تلك الهيمنة لا بدّ من رؤيّة نقديّة تهدف إلى ممارسة آليّة القلب الكامل لهذا التمثيل الذي تقدمه مراكز البحوث الأميركيّة وهي تشرعن إلى الهيمنة وتسوّغها من الطرف المهيمن (أمريكا) كونهُ يبحث عن مصالحهِ وحمايةِ أمنه الوطني ومن ناحية المهيمن عليه (العراق) كونه يعاني من أزمات اجتماعيّة وسياسيّة وفساد وحروب مع الإرهاب؛ فهو بحاجة إلى مساعدات اقتصاديّة وأمنيّة وهذا يسوِغ تدخل أميركا كونها تقدِم العون للعراق كونهما شركاء في محاربة الارهاب وتقديم العون الأمني والاقتصادي. وهي تبقى إحدى تجليات ظاهرة الاستعمار كونها تسعى إلى فرض سيطرة الدول القويّة على مقدّرات الدول الضعيفة من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة)، وهي بالآتي تؤدي إلى نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمرة، فضلاً عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار

على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة.

وهذا ما يتجلّى في السياسة الأميركيّة سواء كانت على مستوى الداخل الأميركي أو ما يصدر عن الاتجاه الآخر من دعاية إعلاميّة هي في جملتها لا تقدِّم ما يتناسب مع العدالة بل مجرد هيمنة وتفرعن ونفي للآخر.

ص: 198

آثار الاستعمار على الأديان:تجربة جنوب غربيّ نيجيريا

اشارة

احمد فاوسی اوغونبادو(1)

يُعرّف الاستعمار أنّه استغلال دولة قويّة لأخرى ضعيفة أو استخدام موارد البلد الأضعف لتقوية البلد الأقوى وإثرائه، وقد خبرت مناطق كثيرة في العالم عامة وفي أفريقيا خاصة هذه الظاهرة ما بين العام 1861 إلى العام 1960 تعرضت نيجيريا للاستغلال من جانب بريطانيا العظمى ما ترك آثاره على الكثير من الصعد في هذا البلد الأفريقي المهم، إنّ في السياسة أو في الاقتصاد أو الدين أو التعليم أو الهيكلية الاجتماعية المراد من هذا البحث تقصي آثار هذه الظاهرة على الأديان في جنوب غربيّ نيجيريا، وتاليّا يتناول هذا البحث الديانتين اللّتين كانتا معروفتين في

ص: 199


1- دكتور في الفلسفة قسم الإنسانيات والعلوم الاجتماعية جامعة البخاري الدولية، ألور ستار، قدح، ماليزيا. - Impacts of Colonialism on Religions: An Experience of Southwestern Nigeria. Ahamad Faosiy Ogunbado, Ph.D. (School of Humanities Social Sciences, Albukhary International University, Alor Setar, Kedah, Malaysia). IOSR Journal of Humanities And Social Science (JHSS) ISSN: 2279- 0837, ISBN: 2279- 0845. Volume 5, Issue 6 (Nov. - Dec. 2012), PP 51 - 57 www.Iosrjournals.Org

تلك المنطقة قبل مرحلة الاستعمار بكثير وهما الدين التقليدي والإسلام، كما يدقق في إيجابيات هذه الظاهرة وسلبياتها ويُظهر حركات مقاومة شعبية لها وكيفية تغلب الحكومة البريطانية عليها. هذا البحث هو دراسة أكاديمية ما يعني أن كل المعلومات والمستندات والوثائق أُخذت من كتب أو مقالات أو مجلات أو مواقع الكترونية ذات صلة ضمن إطار منهجية البحث النوعي هذا البحث يكشف وجود دیانتین قبل وصول الاستعمار الذي أضاف ديانة جديدة إليهما وهي الديانة المعروفة بالمسيحيّة، كما يظهر أن آثاره السلبيّة تفوق تلك الإيجابيّة.

الكلمات المفتاحية آثار استعمار ،إسلام مسيحيّة دين دین موروث، يوروبا

تمهيد

تعريف الاستعمار أنّه استغلال دولة قويّة لأخرى ضعيفة أو استخدام موارد البلد الأضعف لتقوية البلد الأقوى وإثرائه Worldweb Online Dictionary)، وهو ظاهرة خبرتها قارات آسيا وأفريقيا بشكل خاص على أيدي القوة الأوروبية العظمى. كما يمكن تعريفه أنّه حالة تحكّم للدولة القادرة بالأخرى الضعيفة وتأسيسها لتجارتها ومجتمعها الخاص بها في تلك الدولة (Longman Dictionary2000).

لهذه الظاهرة أسباب عدة: (1) إلغاء تجارة العبيد التي تنامت في القرنين السابع عشر والثامن عشر أدى إلى البحث عن تجارة قانونية بديلة (2) الثورة الصناعيّة وارتفاع الطلب على المواد الخام التي لم تكن الزراعة المحلية قادرة على تأمينها . (3) البحث عن أسواق لمنتوجات المصانع الأوروبيّة. (5) التمدّن: حيث إن النزوح إلى المدن وما رافقه من انخفاض الإنتاج الزراعي والريفي أدى إلى ارتفاع الطلب على الإنتاج الغذائي لتلبية التضخم السكاني في المدن الأوروبية. هنا تجدر الإشارة إلى:

اجتماع القوى الأوروبية في مؤتمر برلين 1884-1885 وتقريرها مصير أفريقيا. وقد كانت بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا والبرتغال المشاركين الرئيسيين في هذا المؤتمر الذي استغرق ثلاثة أشهر وانتهى بتقسيم أفريقيا بين الأسياد الأوروبيين المستعمِرين وفرض حدود اصطناعية على رعاياهم الجدد.

ص: 200

أدى هذا المؤتمر إلى تفكيك أفريقيا بأكثر من طريقة وتمكنت القوى الاستعماريّة من فرض حيّزها على القارة الأفريقية. مع عودة الاستقلال في الخمسينيات كان هذا الحيز قد ترك إرثًا في التشظي السياسي لا يمكن إلغاؤه أو حتى توظيفه بشكل مرض. نيجريا «عملاق أفريقيا» و «أكبر أمة سوداء في العالم» من الدول المهمة التي عانت هذه الظاهرة. في الواقع فإن إسم نيجيريا نفسه أطلقه عليها السيد المستعمر بعد تشويه الحدود المثبتة والطبيعية مستبدلاً بها الحدود المصطنعة تماشيًا مع مصالحه.إنّ الجنوب الغربيّ من هذا البلد مستوطن بالدرجة الأولى من قوم اليوروبا الذين يشكلون في نيجيريا، بل في دول غرب أفريقيا قاطبة، أكبر تجمع ثقافي له تاريخه في الوحدة السياسية والإرث التاريخي المشترك. (Coleman1971). هذا البحث يهدف إلى النظر في آثار الاستعمار في أديان المنطقة التي أهلها اليوروبا، و«يوروبا» اسم يطلق على الشعب ولغته على حدّ سواء، ويستعرض بشكل إجمالي الدين التقليدي والإسلام قبل قدوم الدخلاء، ويقسم آثار هذا التدخل إلى قسمين: الإيجابي والسلبي ويبحث في كل منهما، كما يبين مقاومة عدة جماعات لهذا الاستعمار وكيفية تغلب البريطاني عليهم.

الديانات في المنطقة قبل الحقبة الاستعمارية:ما هو الدين؟

لا يوجد تعريف موحد للأديان بسبب تباينها الكثيرون يرون أن الدين هو «منظومة متّسقة من الاعتقادات والشعائر والتعبد تتمركز حول الرب الواحد المهيمن او تجلّياته الإلهيّة،«بينما يرى غيرهم «أن الدين يمكن أن يشمل آلهة أو تجليات إلهية

متعددة»، (1990,16:196 ,The world book encyclopedia -(197) ويرى البعض بعدم ضرورة اشتمال الأديان على أي إله أو آلهة كما يوجد من يعرّف الدين على أنه «مجموعة نظم ثقافية وعقائدية ورؤى للعالم تصل الإنسانية بالروحانيات وفي بعض الأحيان بقيم أخلاقية».على الرّغم من تباين التعريفات نجد أنّ معظم اتباع الأديان يرون أنّ العالم خلقته قوة علويّة لها أثرها في حيواتهم. بمعنى آخر تتشارك معظم

ص: 201

الأديان بشكل كلي أو جزئي عدّة خصائص : (1) الإعتقاد بالله أو بالتجلّيات الإلهية، (2) رسم صراط للخلاص (3) اتّباع ناموس سلوكي وخلقي، (4) استخدام القَصص المقدس، (5) ممارسة شعائر وطقوس ومناسك دينية محددة. (Ibid). لا تختلف الأديان في جنوب غربيّ نيجيريا عن غيرها في ما خصّ هذا، وهي كانت قبل قدوم السيد المستعمر دينين اثنين سنقوم بشرحهما لاحقًا وهما الدين التقليدي والإسلام.

من المهم أن نشير هنا إلى استحالة فصل كلمة الدين عن كلمة الثقافة، وهو ما رأيناه في التعريف الأخير للدين بوصفه «مجموعة نظم ثقافية...» وهذا ما نجده في إقتباس أمبونساه عن قاموس علم الاجتماع الأميركي والتي عرّفت الثقافة كما يلي:

اسم يشمل كلّ النماذج السلوكية المكتسبة اجتماعيًا ويتم تداولها اجتماعيًا باستخدام الرموز . إنّه إذّا اسم لإنجازات مميّزة لجماعات بشريّة، ولا يتضمن فقط منتخبات كاللغة وصنع الأدوات والصناعة والفن والقانون والدولة والأخلاق والدين، بل يشمل أيضًا أدوات ماديّة أو مصنوعات يدويّة تجسّد الإنجازات الثقافية [ك]، والتي من خلالها يتم إضافة انطباع عملاني للميزات المعرفية والثقافية نذكر منها على سبيل المثال الأبنية والأدوات والماكينات ووسائل التواصل والأعمال الفنية إلخ ... (2010:597, ,Amponsah).

دين اليوروبا التقليدي

الدين متأصّل وله التأثير الكبير في حياة شعوب جنوب غرب نيجيريا حيث أن كل مساعيهم على علاقة به ومن الصواب القول باستحالة فصل دين اليوروبا عن ثقافتهم. هذا ما رصده دوي في إحدى اعماله حيث يقول:

ليس هناك حدث في حياة أي شخص من اليوروبا لا يحمل بعدًا دينيًا، فهو لا يبرأ متدينًا من مهده إلى لحده ولا يمكن لأيّ غريب أن يفهم دين اليوروبا إلا من خلال إرتباطه الوثيق بهذا الشعب وفهمه لطرق حياتهم ومبادئهم الدينية.(Doi, 1992:121)

ص: 202

هذا ما خلص إليه كاتب آخر في مقالة عن الدين الأفريقي التقليدي حيت يقول :

الدين متأصّل وله التأثير الأكثر أهمية في حياة معظم الأفارقة ربما. على الرّغم من ذلك تبقى مبادئه الأساسية مجهولة للغرباء المسؤولين بالدرجة الأولى عن سوء فهم معتقدات الأفارقة ورؤيتهم إلى العالم الدين يغشى حياة الأفارقة من كل جانب، ولا يمكن دراسته بذاته بمعزل عن دراسة حياة الشعب الذي يطبقه . (1996:1 Awolalu).

في دين اليوروبا التقليدي يعتقد الناس بوجود الإله المهيمن الذي يدعونه أُلرون (رب الفردوس) أو الودوماره (الإله الأسمى أهل الإجلال)، وفي بعض الأحيان يجمعون الاسمين معًا فيلفظ الورونلودوماره ويستعملونه كاسم مركّب ليعبّروا عن الكائن العلوي المستقر في الفردوس. رغم ذلك نجدهم يقدّسون تجلّيات إلهية كوسطاء يصلونهم برب الفردوس لاعتقادهم بعدم إمكانية التواصل معه بشكل .مباشر. هذه الفكرة تطورت من الاحترام الذي كانوا يكنّونه ،لملوكهم، ففرضيتهم إن كان من غير الممكن لهم رؤية ملوكهم بشكل مباشر دون وسيط فكيف الحال بملك الملوك (أوبا أون أوبا)، والوسطاء الذين يصلونهم بالعزيز يعرفون بالأريساس.

(2001 .Johnson, 1921, reprinted ed) و (2010 ,Ogunbado).

الأريساس أو التجلّيات الإلهية وفيرة ونذكر منها أغون وسانغو وأُباتالا وإسو وأُيا وأُسون ويمِوجا، وكلّ مدينة أو قرية أو جماعة في جنوب غربيّ نيجيريا يقدّسون الأريساس الخاصّة بهم. في بعض الأحيان تُطلق أسماء عدة على التجلّي الإلهي نفسه بتعدد الأمكنة، فعلى سبيل المثال تُسمى أُريسالا أُلوفين في منطقة إيوفين وأُريساكو في أكو وأُريساغِيان في إجيغبو وأُريساكير في إيكيره وأُريساوفو في أُوو

وأريساجايه في إجايه.

الإسلام

الإسلام دين تأصّل بشكل كبير هو الآخر في جنوب غربيّ نيجيريا قبل قدوم الاستعمار، وهو دين توحيدي مبني على وحدانيّة الإله كلمة الإسلام مصدر مشتق

ص: 203

من فعل أسلمَ الذي يعني تسليم النفس للإقرار الإسلام، (Hastings, Selbie Gray (1908 كما أنها مشتقة من كلمة سِلم التي تعني السلام والصفاء والتسليم والطاعة. ببساطة يمكن فهم كلمة الإسلام على أنّها الخضوع لمشيئة الإله أو (الاستسلام لمشيئته)، كما يمكن تعريفها على أنها «القبول التام بتعاليم الله وإرشاداته كما بيّنها النبيّه محمد صلی الله علیه و اله و سلم (World Assembly of Muslim Youth, n.d).

من الصعب تحديد الوقت الدقيق لدخول الإسلام إلى جنوب غربيّ نيجيريا، لأن هذا الدخول لم يكن «مخططاً أو معلنًا»، كما أنّ المسلمين الأوائل في منطقة البحث كانوا يتعبّدون بشكل سرّي، (1978 ,Gbadamosi) وعلى الرّغم من ذلك فمن المعلوم أن التعبّد بالإسلام قد مورس في أُيوإيلي حيث شُيّد مسجد يعود إلى سنة 1550 ميلاديّة. (1990 ,Al-Alari). وقد دوّن أن أثر الإسلام غدا محسوسًا فی حقبة الملك ألافين أجيبويده ، وهنا نذكر أنّ رجل دين يدعى بابا كِوو أرسل لهذا الملك مبعوثًا «ليحتج على ظلمه وأعماله العدوانية بداعي الانتقام لولده الذي مات في الحقيقة ميتة طبيعية» . (2001:164 .Johnson,1921,reprinted). كما نجد أنّ الألوري (1965) Al-Alari) أشار إلى معرفة اليوروبا بالإسلام في حقبة منسا موسى إمبراطور مالي (توفي عام 1337م) عبر تجّار وسفراء مالي الذين سكنوا أيوإيلي عاصمة إمبراطورية أيو الغابرة، وربما يكون هذا وراء تسمية البعض «الإسلام» «إسين إيماله» بما معناه «دين الماليين» أو «الدين الذي أتى من مالي».

تمكّن الإسلام من اكتساب أرضيّة في بلد اليوروبا وقد تعايش الدينان معّا لعدة قرون قبل تدخل الرجل الأبيض، ويمكننا تقصّي ذلك في بعض التعاليم الإسلامية التي تتقاطع ودين اليوروبا التقليدي وثقافتهم . على سبيل المثال : (1) الدين التقليدي يعتقد بوجود كائن أسمى ويتفق بذلك مع الإسلام على الرّغم من وجود اختلاف في التطبيق، حيث أن أتباع الدين التقليدي يقدّسون الأريساس كوسيط بينما نجد أنّ الإسلام يرفض ذلك جملة وتفصيلا . (2) ونجد أنّ الدينين يقدّسان الزواج ويسمحان

ص: 204

بتعدد الزوجات مع فارق أنّ عدد الزوجات المباح في الاسلام أربعة وغير محدود في الدين التقليدي. (3) كما نجد أن الأخلاق والقيم كالتواضع والاحترام جزءٌ لا يتجزّأ من كلا الدينين.

ربما وبسبب التوافق والسكينة والتعايش بين الدينين لحقبةٍ زمنية طويلة إفترض قوم اليوروبا أنّ الدينين من موروث أسلافهم، وهذا ما ينعكس في إحدى أغانيهم الشعبية:

أيه لابا إيفا، أيه لابا إيمول

أوسان غانغان نيغبابو وُلِه دِه

إلتقينا بالعرّافة في هذا العالم

إلتقينا بالإسلام في هذا العالم

أما المسيحيّة فقد أتت آخر النهار

مقدم الأسياد المستعمرين والمسيحية والتعليم الغربي.

يمكن تقسيم غزو الرجل الأبيض إلى مرحلتين المرحلة الأولى كانت في القرن الخامس عشر مع الاستكشافات الجغرافية التي قام بها الأوروبيّون في بحثهم عن طريق إلى الهند، ووصل البرتغاليون إلى بنين سنة 1477 (Erio2012 بينما يرى فافونوا (2002 ,Fafunwa) أنّ التجّار البرتغاليين وصلوا إلى لاغوس وبنين سنة 1472. في سنة 1485 كان هؤلاء التجّار قد تمكنوا من جعل أهل بنين ينخرطون في

تجارة البهار، وعليه أرسل أوبا ملك بنين مبعوثًا إلى البلاط الملكي في البرتغال.

على الرّغم من أن اهتمام البرتغاليين بدءًا كان محصوراً في التجارة، ولكنهم رأوا لاحقًا أنّ عليهم تحضير الأفارقة ليصبحوا مستهلكين جيّدين، والتحضير بحسبهم هو تنصيرهم وجعلهم يتبعون مبادئ التعليم الغربي. بدأ النشاط التبشيري في

ص: 205

بنين سنة 1515 عبر مبشرين كاثوليكيين أسّسوا مدرسة للأمراء المتنصرين ولأولاد الوجهاء في بلاط أوبا. (Ibid). في السنة نفسها بعث غاسبر أسقف أبرشية ساو تومه رهبان أغسطينيين لزيارة واري وقد نجحوا في تعميد أحد أبناء ملك واري وسمّوه سباستيان. فيما بعد خَلف سباستين والده وأعطى المبشرين البرتغاليين دعماً واسعًا، أما ابنه دومينغوس فقد أُرسل إلى البرتغال لتعليمه الكهنوت. على الرّغم من وجد البرتغاليون من العوائق ما فاق الخدمات المقدّمة لهم ما جعلهم يتخلّون عن مشروعهم. أما المرحلة الثانية والتي آثارها ما زالت مستدامة فقد بدأت في أيلول من العام 1842 مع وصول أول المبشّرين الإنكليز إلى باداغري. في تلك المرحلة كان العبيد المحررون في سيراليون منخرطين في التجارة في مناطق اليوروبا ويعملون على نشر الدين المسيحي ويسيطرون على أول كنيسة أنشِئت في تلك المنطقة. أما المبشّرون فكانوا مؤتمنين على التعليم الذي استعمل كأداة للتنصير، لأنّ التعليم حينها كان يهدف إلى إنتاج مسيحيين يمكنهم قراءة الإنجيل وإقامة الشعائر. هنا نقتبس من ويليام بويد قوله:

«... يجب التذكير بأنّ الكنيسة أخذت على عاتقها مسألة التعليم لا لأنها ترى التعليم أمرًا جيدًا بذاته، ولكنّها وجدت أنّه لا يمكنها أداء دورها من دون توفير القدر اللازم من التعليم لأتباعها، وبشكل خاص لكهنتها ليتمكنوا من دراسة النصوص المقدسة وتأدية مهامهم الدينية. (2002:70 ,Fafunwa).

في هذا المقطع نستنتج أنّ قدوم الأسياد المستعمرين أدّى إلى إدخال المسيحيّة كدين جديد إلى جانب الدين التقليدي والإسلام، كما أنّ نمط التعليم الغربي تسلّل عبر المسيحيّة الوافدة، تاركا آثاره الإيجابيّة والسلبيّة على الأديان المتواجدة على تلك الأرض. وقد بيّنا سابقا في هذا البحث أنّ مفهوم الدين لا يقتصر على الشعائر فقط، ولكنّه يتخطاها إلى الثقافة والإقتصاد والسياسة وجوانب أخرى من سعي الإنسان وهو ما طالب به الإسلام على الرّغم من ذلك سنحقق في الجوانب الإقتصادية والسياسية من منظور الدين فقط وليس من منظور علمي الإقتصاد والسياسة.

ص: 206

الآثار الإيجابية للاستعمار في جنوب غربي نيجيريا

قدوم الأسياد المستعمرين استتبعه دخول دين جديد إلى المنطقة وهو المسيحيّة كان يُنظر إليها على أنّها دين البيض (إسين أوون أينبو). الاستعمار والمسيحيّة الملازمة له ساعدا على إلغاء الشعائر التي كانت تدور حول البشر أو تتضمّن أضاحٍ بشريّة. بمعنى آخر ساهمت هذه الظاهرة في إلغاء بعض شعائر الدين التقليدي التي تتضمن التضحية بالبشر لإرضاء الآلهة.

حلول الاستعمار مصحوبًا بظهور المسيحية جلب معه التعليم الغربي الذي يعدُّ قاطرة للازدهار الحضاري، وأدخل معه الزيّ المدرسي حيث أنّ التلاميذ والتلميذات كان عليهم أن يلبسوا ويتصرّفوا ويتكلّموا كالأوروبيّين.

كما أنّ مجيء البيض، لا سيّما في المرحلة التي سبقت إلغاء تجارة العبيد، عزز الحالة الاقتصادية للملوك وبعض الوجهاء الذين تعاملوا معهم بهذه التجارة، وقد ساهمت هذه التجارة في نقل الدين الأفريقي التقليدي إلى بلدان أميركا اللاتينيّة كالبرازيل وكوبا. أما بعد إلغاء تجارة العبيد فقد أدى التفتيش عن تجارة بديلة إلى اغتناء التجّار الذين أدّوا دور الوسيط بين التجار البريطانيين المتواجدين على الساحل والمزارعين في داخل البلاد.

نضيف أنّ رغبة الأسياد المستعمرين بالتوغّل في البلاد استوجبت إنشاء شبكات النقل كسكّة الحديد التي ظهرت أولاً في جنوب غربي نيجيريا، حيث بدأ إنشاؤها في لاغوس سنة 1896 لتصل أبِيوكوتا سنة 1900 وأبيدان بعدها بسنة والحدود الشمالية لنيجيريا سنة 1909 (2001 ,Olubomehin). أما أوّل طريق فقد أنشئ سنة 1906 بین أبيدان وأيو لربطها بسكّة الحديد، وفي سنة 1907 استكمل 30 ميلاً لربط ايو بأغبو موسو و 27 ميلاً لربط أيو بإيسِيين، وفي عام 1910 وما بعده تم إنشاء طريق بين إكيرون وإيلا وبين أسوغبو وإِلسا وهكذا دواليك. (Tbid). وقد أدّى هذا التوغّل إلى ظهور المرافق الاجتماعية كالمستشفيات والكهرباء وما شابه على الرّغم من ذلك يمُكننا بعد التدقيق إثبات أن الآثار الإيجابية هي في حقيقة الأمر سلبيّة، كما ستُظهر في المقطع التالي.

ص: 207

الآثار السلبية للإستعمار

ترك الاستعمار آثاره السلبيّة على الأديان الكائنة عبر إدخاله دينًا جديدًا أي المسيحيّة ما جعل أتباع الدين التقليدي والإسلام يشعرون بالتهديد حيث أن المبشّرين كانوا يجهدون في تنصير الكثير من أتباع الدين التقليدي والإسلام زارعين الاضطراب فيما بينهم. لم يقف حكّام اليوروبا حماة الدين التقليدي ورجال الدين المسلمون مكتوفي الأيدي ليسمحوا للمبشّرين بإخصاء دينهم، ولكنهم وظّفوا جلّ مجهودهم لمقاومة التنصير.

عمل المستعمِرون والمبشّرون يدًا بيد لتحجيم الأديان الموجودة وهذا ما نلمسه في شهادة فافونوا (2002:71,Fafunwa): «لقد اعتمد المبشّرون على الأوروبيّين لتكبيل الزعماء الأفارقة المتمردين حيث إن السلطات الأوروبيّة أملت أن تستولي عبر الإقناع الديني على ما لم تقدر عليه بالسلاح». ما نستنتجه من هذه الشهادة أنّ هدف السيد المستعمِر من إقحام المسيحيّة لم يكن دينيًا خالصًا مرتبطًا بحبّه للأب والابن والروح القدس إنما كان هدفه بالدرجة الأولى تثبيت هيمنته.

كما رأى البعض أنّ إقحام المسيحيّة يجب أن يهدف إلى اقتلاع القواعد السلوكية الموجودة من باب أن «الأديان البدائية مصيرها الزوال والتلاشي»

(1938:230 ,Kraemer)، وهذا ما يعبر عنه الاقتباس التالي بشكل جليّ :

المبشِّر ثائرٌ وعليه أن يكون ذلك لأنّ الوعظ وغرس المسيحيّة يعني الهجوم الصدامي على العقائد والعادات ومفاهيم الحياة والعالم وضمنًا - لأنّ الأديان القبليّة قبل كل شيء حقائق اجتماعية - على البنى والأسس الاجتماعية للمجتمع البدائي وعلى المؤسسة التبشيرية أن لا تخجل من ذلك لأنّ الإدارة الإستعمارية ومزارعيها وتجّارها والاختراق الغربي إلخ... يقومون بهجومٍ أكثر ضراوةً وتدميراً. (Ibid).

سبق وذكرنا أنّ الاستعمار والمسيحيّة جلبا معهما التعليم الغربي والحضارة، لكن المثبت حاليًا أنّ الجوانب السلبية لذلك فاقت الإيجابية (1) فالمدرسة استخدمت

ص: 208

كأداة للتنصير لتحويل المنتفعين إلى المسيحيّة. (2) كما يبدو أنّ التعليم الغربي والدين الملازم له ركّزا على الجوانب الروحية وبعض من الاجتماعية للحياة، بينما لم يبذلا أي جهد، وبأحسن الأحوال القليل منه، ما تعلق بالجوانب الإنسانية الأخرى كالأخلاقيّات والسلوكيّات الاجتماعيّة البينيّة، ونضيف أنّ الدين الغربي ركّز على العقيدة أكثر منه على التطبيق . (3) كان التعليم الغربي أو الاستعماري أدبيّا في معظمه، يرتكز على القراءة والكتابة والحساب والإلمام بالإنجيل والأدب المسيحيّ وما شابه، ويهدف لإنتاج مسيحيين بمقدورهم قراءة الإنجيل وخدمة أسيادهم المستعمرين كتّابًا أو وكلاء أو مترجمين لتسهيل تجارتهم . (4) نُضيف أنّ التعليم الغربي/ الاستعماري دفع التعليم الكائن إلى الاندثار، فعلى سبيل المثال كان التعليم العربي/ الإسلامي مزدهرًا قبل قدوم التعليم الغربي حيث إن لغة اليوروبا كانت تكتب بالأبجديّة العربية المعروفة بالعجميّة حتى تم اقتلاعها واستبدلوا بها الأبجديّة الرومانية التي ما زالت تُستخدم حتى يومنا هذا. كما أن نظام التعليم التقليدي كان يسمح بتعليم الأخلاقيّات وما شاكل خارج نطاق المدرسة، بينما نجد أن نظام المدرسة الداخليّة في التعليم الغربي حَرَم التلاميذ من هذه الفرصة الذهبيّة. (1998 ,Omotosho) (,Ogunbado . (2011.

زعم البعض أنّ تجارة العبيد ساهمت في نشر دين اليوروبا التقليدي خارج النطاق المحلي وساهمت بتعزيز الاقتصاد، وهذا يحتاج للتدقيق حيث إنّ العبيد الذين أُخذوا إلى البلدان الأجنبية تم نقلهم بالإكراه للخدمة في مزارع أسيادهم، ولم يُسمح لهم بممارسة دينهم وأُجبروا على اعتناق المسيحيّة، إلا قلّة بقيت على دينها وتمكّنت من ممارسته بعد تحررها نذكر أيضًا أنّ الأغلبيّة منهم ماتت خلال الرحلة وتم رميهم في المحيط، ناهيك عن الآثار الكارثية لترحيلهم على عائلاتهم ومجتمعاتهم لأنهم كانوا الأعمدة والأجسام القادرة (القوى العاملة) في مجتمعاتهم. الأقلية فقط من المتعاملين مع الاستعمار تمكّنوا من تعزيز وضعهم الاقتصادي بينما عانت الأغلبية

من نتائجه.

ص: 209

على الرّغم من إنشاء الإدارة الاستعمارية للمرافق الاجتماعية إلّا أنّ التمحيص في هذا الزعم يُظهر أنّ جلّ ذلك كان منطلقًا من دوافع أنانية، فشبكة النقل التي ربطت المدن الكبرى والأسواق والسواحل بعضها ببعض أُنشئت لتسهيل نقل المواد الخام من المصدر إلى الساحل ليتم شحنها بالسفن لاحقًا إلى أوروبا. كذلك لم يهدف بناء الطرق إلى رفع منسوب الرفاهية عند الناس ولكن إلى تمكين الضبّاط البريطانييّن من الوصول إلى داخل البلاد لجمع الأتاوات والضرائب، وإلى تسهيل إيصال المواد الخام إلى السكّة الحديدية التي لم تكن تغطّي كلّ الداخل. الظاهر أنّ معظم الطرق الأولى ارتكزت على طرق المشاة القديمة التي كانت تصل القرى بالمزارع والأسواق، وجلّ ما فعله الأسياد المستعمرون هو توسيعها وتقويمها حتى أن بعضها تُرك بلا تزفيت 198,Omotosho). نذكر هنا أنّ الحكومة الاستعمارية عارضت بدايةً إنشاء السكّة الحديدية بسبب تكلفتها التي تم تغطيتها لاحقًا بواسطة الضرائب. يحضر عامل الاستعمار الديني في هذا المشروع أيضًا كما نجد في كلام أحد دعاته المقتبس عن كولِمان (Coleman1977:55): «فكّروا بالمنافع التي ستحصل عليها إنجلترا عبر تزايد الأسواق لمنتوجاتها الصناعيّة وحصولها على إنتاج إضافي في المقابل،... هذا سيحضّر الهمجي ويهيّئه لتلقّي رسالة المبشّرين».

بذريعة الحضارة أفسد البريطانيون المؤسّسات التقليدية والثقافة الدينية، وجردوا الأوبا (الملوك) من حقوقهم وأبعدوهم وجعلوهم أتباعًا للهيمنة البيضاء، كما أنهم استبدلوا بالحدود الطبيعية والثقافية أخرى مصطنعة ما أدى إلى تقسيم بلاد اليوروبا

بين الهيمنة البريطانية في نيجيريا والإمبريالية الفرنسية في بنين.

المقاومة وردّ المستعمِر وأعماله الوحشية التنكيليّة

فى الحقيقة لا يوجد أيّ يوجد أي مجتمع يمكن أن يقف مكتوف الأيدي ويسمح بهيمنة الأجنبي على أرض أبائه، وهذه حال اليوروبا في جنوب غرب نيجيريا الذين لم يُذعنوا للإمبريالية، ولم يسمحوا بحلول الآثار السلبية دفعة واحدة، ولم يقبلوا الإخلال بمؤسساتهم التقليدية وثقافتهم الدينية، وأظهروا بعض المقاومة. كان قرار البريطانيين

ص: 210

وغيرهم من الأسياد المستعمرين هو استخدام القوة المفرطة ليتغلّبوا على الزعماء التقليديين وأتباعهم الذين كانوا يقاومون الهيمنة الأوروبية في مناطقهم، وقد وُظّف هذا التكتيك لإخضاع اليوروبا في جنوب غربيّ نيجيريا.

بدأ استعمار نيجيريا برمتها وجنوبها الغربي تحديدًا من لاغوس المدينة الساحلية في جنوب غربيّ نيجيريا . قامت الإمبريالية ابتداءً بابتداع معاهدة تمنع الاتجار بالعبيد ليُوقّعها الزعماء الأفارقة مع التهديد بأخذ إجراءات بحق رافضي ذلك، وقد كان أوبا لاغوس كوسوكو أول من طولِب بالتوقيع.

نظر الأوبا كوسوكو إلى المعاهدة على أنّها تدخّل في شؤون بلاده ورفض توقيعها ما جعل البريطانيّين يكيدون له ولمؤيّديه. في سنة 1851 حاول جون بيكروفت إقناع کوسوكو بالتوقيع من دون نجاح ما جعله يأمر السفن الحربية الأربع المرافقة له بقصف لاغوس إلّا أنّ كوسوكو ورجاله أظهروا شجاعةً بالتصدي وقاموا بالرد على النيران ما أدّى إلى قتل ضابطين وجرح ستة عشر آخرين. (1977 ,Ikime). كانت هذه المقاومة وهذا الردّ عاراً على البريطانيين الذين انسحبوا ليعودوا مع قوة مكتملة لقصف لاغوس في السادس والعشرين من كانون الأول من العام 1851. في النتيجة تم نفي كوسوكو من لاغوس وتُوّج خصمه في العرش أكينتويه الذي قام بتوقيع المعاهدة لتصبح لاغوس بعد بضعة أشهر مستعمرةً بريطانيّة، لكنّ كوسوكو، الذي صادف أنه مسلم ، وأتباعه تمكّنوا من إعادة بناء كيانهم وإحياء دينهم في إبه.

بعد نجاحهم في إخضاع لاغوس رغب التجار البريطانيّون والسلطة في لاغوس (المستعمرة البريطانية) الحيازة على منفذٍ لبناء علاقات مباشرة بداخل البلاد، وقرّروا الاصطفاف إلى جانب الإيجِبو كوسطاء، إلا انهم أرادوا نشر المسيحيّة في داخل بلاد اليوروبا أيضًا وهو ما لم يستسغه الإيجِبو الذين رأوا ذلك عائقًا لتجارتهم وانتهًاكا لسيادتهم. نظّم الإيجِبو تظاهرة عدائية خلال زيارة الحاكم الاستعماري سنة 1889، وهو ما عدّته السلطة الاستعمارية إهانة لها وطالبت الإيجبو بالإعتذار. وعندما أرسل الأووجالا وفدًا إلى لاغوس للترحيب بالحاكم الجديد أُكره هذا الوفد على التوقيع

ص: 211

على معاهدة ما رفضوه بشدة استثمرت السلطة الاستعمارية هذا الرفض لاجتياح الإيجِبو وفي التاسع عشر من أيار سنة 1892 حدثت معركة طاحنة، وعلى الرّغم من دفاع الإيجِبو المستميت إلّا أنّ الأسلحة البريطانية القاهرة تمكّنت من سحقهم.

في كانون الأول من العام 1893 استلم النقيب روبرت ميستر باور مهامّه كأوّل مندوب سام مقيم في أبيدان ومتنقّل في أرض اليوروبا الداخليّة جنوب غربيّ نيجيريا، وكان ضمن مهامّه فرض المعاهدات لتوطيد سلطة الإدارة البريطانية في تلك المنطقة. بدأ باور تعاطيه مع زعماء الأبيدان بإخافتهم وترهيبهم ليذعنوا للإمبريالية البريطانية. أعتقل بالوغون أبيدان الزعيم أكينتولا سنة 1894 خلال مهرجان شعبي تقليدي، كما اعتُقِل أوسي بالهِ ،زعيم ،فاجيمي، وقد كان الزعيم سانوسي قد اعتُقِل بدوره قبل ذلك، وحُمّل هؤلاء الزعماء مسؤولية مواجهات أتباعهم مع الضباط البريطانيين. Ajayis) 2008). كذلك تم اعتقال قائد للإكيتيبارابو - مجموعة مقاومة – وهو الزعيم أُعِْدِنقبه وأولاده وتم نفيهم لاحقًا إلى زعيم الإوو.

لم يكن النقيب باور سعيدًا برفض ألافين أُيو وشعبه للإمبرياليّة البريطانيّة، وكان الألافين يمارس دوره كما لو أنّه الحاكم الأعلى في بلاد اليوروبا ويرى أن الاستسلام للأينبو (البيض) تحقيراً لنظامه وحضارته. إستغلّ المندوب السامي الفرصة عندما أصدر الألافين حكمًا بإخصاء رجل جامع زوجة أسِيين من أسِيين، ووصف باور هذا الحكم بالبربري وأمر الألافين وزعماءه بالسجود أمامه في سوق المدينة. رفض الألافين هذا الأمر بشدة وتم تكبيل أسيين وضربه في العلن ما استتبعه قصف البريطانيين لأيو سنة 1895 Ibid.) و (1997 ,Lasisi). ثار الناس في أيو وإبادان ومدن رئيسيّة أخرى في جنوب غربيّ نيجيريا ضدّ الإمبريالية بطريقةٍ أو بأخرى ورفضوا التعليم الأجنبي الذي كان أداة للتنصير. كتب قس أُيو ج. بورتون في الخامس من كانون الأول من العام 1910:

الإسلام يكتسب أرضية بشكلٍ تصاعديّ في المنطقة الغربيّة لإرسالية يوروبا التبشيريّة. المسيحيّة تحقق تقدمًا بسيطًا في أُيو وأُغبومسو وإسيين ولكنّ المساجد

ص: 212

الإسلاميّة موجودة في كل مكان هذا الدين الإسلامي ذو طبيعة فظّة، وجهل أتباعه يجعل العمل بينهم صعبًا ومحبطاً بشكل استثنائي . هناك الكثير من المدارس الإسلاميّة في أيو حاليّا، وليس من الغريب رؤية الأطفال يحملون ، ألواحًا من النصوص العربية التي يتعلّمونها بشكلٍ ببغائي (1911351 ,The Muslim world).

على نحوٍ مماثل كتبت المعلمة التبشيرية أنّا في مذكّراتها بتاريخ الأول من تشرين الأول من العام 1853 عن تجاوب أهل ابيدان مع التعليم الغربي ونقتبس النص من فافونوا 85 Fafunwa, 2002:61 and): «لا نشهد تزايدًا لعدد التلاميذ في مدرستنا حاضرًا، السكّان يخافون من إرسال أولادهم إلينا ويظنّون أنّ «الكتاب» سيجعلهم جبناء، ولكنّ التلاميذ الموجودين عندنا يتجاوبون بشكل رائع».

خلاصة

الاستعمار مسألة لن تُنسى أبدًا في نيجيريا عامةً وفي جنوب غربها خاصةً بسبب آثاره المستديمة الاستعمار اصطلاحًا هو استغلال دولة قويّة لأخرى ضعيفة، أو إستخدام موارد البلد الأضعف لتقوية البلد الأقوى وإثرائه، وقد ظهر بسبب إلغاء تجارة العبيد وبزوغ الثورة الصناعية والبحث عن أسواقٍ جديدة للمنتوجات الصناعيّة إلخ ... آثار هذه الظاهرة راسخة في الكثير من جوانب حياة المستعمَرين. هذه المقالة بحثت حصرًا في آثار الاستعمار في الدين الذي هو بحسب تصورنا غير محصورٍ بالشعائر ولكنّه يتسع ليشمل الثقافة أيضًا.

هناك آثار إيجابيّة وأخرى سلبيّة لهذه الظاهرة، أما الإيجابيّة فتتضمن ظهور دينٍ جديد وقدوم التعليم والحضارة الغربيّة وإبطال الأضحيّة البشرية وشبكة النقل والكهرباء والمرافق الاجتماعية الأخرى. أما السلبيّة فتتضمن إضعاف الأديان الكائنة وتشويه الثقافات التقليدية القبلية والقيم والقواعد السلوكية، وتشمل أيضًا استحداث حدود مصطنعة والخضوع لسلطة أجنبية واستعمال أكثر الأسلحة تطورًا في ذلك الزمن لإرهاب الشعب. كما أنّ الاستعمار حارب المؤسسات التقليدية وفرض

ص: 213

ديكتاتوريته لإجبار الزعماء التقليديين على الخضوع للمعاهدة الإمبرياليّة لإرضاء المصالح الاستعماريّة.

مقاومة الجماعات والمدن المتعددة تُظهر أنّ اليوروبا لم يقفوا مكتوفي الأيدي ولم يضحّوا بسلطتهم للحكم الأجنبي. لقد خبرنا العديد من الوطنيين الشجعان الذين بذلوا حياتهم للدفاع عن أرضهم وسلطتهم، ونشدّد هنا على أنّ إحياء ذكراهم أمرٌ ضروريّ جدًا. لقد تمّ سحقهم بجبروت الأينبو (البيض).. برأي كاتب هذه المقالة أنّ على البريطانيين وغيرهم من الأسياد المستعمرين التعويض على مستعمراتهم جرّاء الخراب الذي سبّبوه لها.

المصادر والمراجع

[1]-Wordweb online dictionary.

[2] -Longman dictionary of contemporary english.

[3] -De Blij H.J. and Muller P. O, (1997). Geography: Realms, region, and concept. N.p :John Wiley Sons, Inc.

[4] -Coleman, J. S. (1971). Nigeria: Background to Nationalism. Berkeley: University of California Press.

[5]-http://www.thefreedictionary.com/Yorubas (accessed 3-March-2012).

[6] -The World book encyclopedia, vol 16:197.

[7] -http://en.wikipedia.org/wiki/Religion (accessed 5-March-2012) .

[8] -Amponsah, S. (2010). "Beyond the boundaries: Toyin Falola on African. cultures» in Niyi Afolabi, (Ed). Toyin Falola: The Man, the mask, the muse. North Carolina: Carolina Academic Press.

[9] -Doi, A. R. I. (1984). Islam in multi-religious society. Nigeria: A case study. Kuala Lumpur: A.S. Noordeen.

[10]-Awolalu, J. O. (1996). «What is African Traditional Religion?» Studies

in Comparative Religion, Vol. 10, No. 2:1. World Wisdom, Inc. www.

studiesincomparativereligion.com.

آثار الإستعمار على الأديان

ص: 214

[11]-Johnson, S. (1921, reprinted ed. 2001). The History of the Yorubas. Lagos: CSS Press.

[12]-Ogunbado, A. F. (2010). Islam and its impact in Yoruba land (South-west Nigeria). Paper presented at The Fourth International Malaysia-Thailand conference. on Southeast Asian Studies. Co-Organized by UKM-MAHIDOL. On 25- 26 March 2010. At Bangi, Malaysia.

[13]-Hastings J., Selbie J.A. and Gray L., (1908) Encyclopedia of religious and ethics. Edinburgh: TT Clark.

[14]-World Assembly of Muslim Youth, (n.d). Islam in concert, Riyadh: The

Cooperative office for call and guidance.

[15]-Gbadamosi, T. G. O. (1978). The Growth of Islam among Yoruba, 1841-

1908. London: Longman Group Limited.

[16]-Al-Aluri, A. A. (1990). Nasimu al-soba fi Akhbar al-Islam wa ‘Ulamah

bilad Yoruba. Cairo: Maktaba Wahaba.

[17]-http://www.alaafin-oyo.org/main/alaafin/genealogy. (accessed 6-June- 2011).

[18]-Al-Aluri, A. A. (1965). Mujiz tarikh Nigeria. Beirut: n.p.

[19] -Erivwo, S. U. (2012). History of Christianity in Nigeria, the Urhobo, the

Isoko and the Itsekiri.http://www.waado.org/UrhoboCulture/Religion/Erivwo/ HistoryOfChristianity/ChapterOne.html. access 5-march-2012

[20]-Omenka, N. I. (1989). The School in the Service of Evangelization: The

Catholic educational impact in eastern Nigeria 1886-1950. Leiden, E.J. Brill.

[21] -Fafunwa, Babs. (2002). History of education in Nigeria, Ibadan: NPS

Educational Publishers Ltd.

[22]-Olubomehin, O. O. (2001). The development of road and road transport in

South-Western Nigeria, 1906- 1920. NJEN No 4: 14- 24. www.ajol.info/index.php/njeh/article/viewFile/3649225497/ (accessed 5-March-2012).

ص: 215

[23] -Kraemer, H. (1938). The Christian message in a non-Christian world,

London: Harpers.

[24]-Omotosho, A. O. (1998). The impact of colonial education and culture

on the Muslim of Nigeria. Journal of Arabic and Islamic Studies, April/May 1998. Pp5261-.

[25]-Ogunbado, A. F. (2011). Muslim Education in Oyo Alaafin: Challenges and developments. Paper presented at International Conference on Islam in Africa: Intellectual Trends, Historical sources and Research Methods. Co-organized by The Federation of the Universities of the Islamic World (FUIW), International Islamic

University Malaysia (IIUM), and Islamic Educational, Scientific and Cultural

Organization (ISESCO). 19th-21st July, 2011.

[26] -Ikime O., (1977). The fall of Nigeria: The British Conquest, London:

Heineman.

[27]-Ajayi, S. A. (2008). Bower tower: A historical monument in Ibadan,

Southwestern Nigeria. The Social Science 3 (1) 2008: 45-50.

[28]-Lasisi, R. O. (1997). «Muslim Traditional Rulers in Nigeria: The Alaafin of Oyo during the Last Phase of British Colonialism, 1945- 1960. » Journal of Muslim Minority Affairs, Vol 17, No. 1, 1997: 31- 41.

[29]-The Muslim World, Vol. 1, No.3 July 1911.

ص: 216

تاريخ الاستعمار في البلاد الإسلامية:تجربة الشعب الصومالي مع الاستعمار

اشارة

عبدالله الفتاح(1)

يعد الشعب الصومالي من أكثر الشعوب الإسلامية التي إكتوت بنيران الاستعمار والقهر ردحاً من الزمن، تعرض من خلالها لهجمة شرسة استخدم فيها كل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية لإحداث اهتزاز في ثقة الأمة بمبادئها الإسلامية وقيمها الحضارية من أجل إخضاعها والنيل من كبريائها.

ورغم ذلك كله تميزت حركة الجهاد الإسلامي ضد القوى الاستعمارية في الصومال بأنها أكثر عمقاً وأشد صلابة، عن غيرها من الحركات المقاومة والجهاد في بقية أجزاء القارة الإفريقية، ولعل ذلك يرجع في المقام الأول الی أن هذه المنطقة عرفت الإسلام قبل غيرها وشهدت التحامات المسلمين

والمسيحيين منذ فجر الدعوة الإسلامية.

وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أخذ هذا الصراع منحاً تصعيدياً حيث تكالبت القوى الاستعمارية الكبرى على الصومال لاخضاعه بالقوة

ص: 217


1- بكالوريوس إعلام - دبلوم ترجمة - ماجستير في الصحافة الإلكترونية- جيبوتي.

المسلحة وتقسيمه لاحقاً بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا بالإضافة إلى إثيوبيا التي استفادت من عمليات التقسيم وقامت بحملة توسعية على حساب جيرانها.

وهكذا بدأ عصر القهر الاستعماري الأوروبي في الصومال والمنطقة عموماً، ليواصل الشعب الصومالي كفاحاً طويلاً من أجل استعادة حريته واستقلاله وتوحيد أراضيه المقسمة.

عندما استقل الإقليمان الشمالي (الصومال البريطاني) والجنوبي (الصومال الإيطالي) في عام 1960م، كوّنا دولة واحدة في ظل جمهورية الصومال.

ودخلت الدولة الوليدة عقب استقلالها مباشرة في صراعات مع جيرانها من أجل تحرير الأقاليم الأخرى ومنها إقليم الصومال الغربي الذي اقتطعته بريطانيا ومنحته لإثيوبيا، وإقليم (N.F.D) الذي منحته بريطانيا لكينيا.

وهكذا أصبح شعار الصومال الكبير مدعاة لصراع مستمر بين الصومال ودول الجوار، مما أثر سلباً في استقرار وأمن الدولة الوليدة.

هيكل الدراسة:

إحتوت هذه الدراسة على مقدمة ومدخل تمهيدي وأربعة محاور رئيسية وخاتمة اشتملت النتائج والتوصيات، حيث تضمن المدخل التمهيدي إطلالة عامة على واقع العالم الإسلامي، ويتطرق إلى ضبط مفهوم العالم الإسلامي والأمة الإسلامية لإزالة اللبس والغموض، وبعدها يسلط الضوء على أهميته الجيوبولتيكية للوصول إلى تصور شامل لواقع العالم الإسلامي من جميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى المشاكل والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الأمة الإسلامية.

أما المحور الأول فيعالج أسباب ودوافع الدول الاستعمارية للسيطرة على البلاد الإسلامية، بينما اهتم المحور الثاني بتجربة الشعب الصومالي مع الاستعمار، في حين احتوى المحور الثالث على الهجمة الاستعمارية على

ص: 218

الصومال وتقسيمه إلى خمسة أجزاء، أما المحور الرابع فقد تضمن عرضا تفصيلياً لمسار حركة الجهاد والمقاومة ضد الاستعمار في الصومال، فيما تحتوي الخاتمة رؤية وتصوراً شاملاً للخروج من هذا المأزق التاريخي الذي جعل الأمة الإسلامية فريسة سهلة لأطماع القوى الاستعمارية.

مدخل تمهيدي: إطلالة عامة على واقع العالم الإسلامي:مفهوم العالم الإسلامي

لا يوجد تعريف جامع ومانع للعالم الإسلامي، ولعل تعدد التعريفات عائد إلى المعايير والأطر المعرفية للمعرِّف، وتعدد الرؤى الإيديولوجية والفكرية والدينية للدارسين والباحثين بالمسألة الإسلامية، فقد استخدم الغربيون هذا المصطلح للدلالة على بلاد المسلمين التي تمتد من الغرب الأقصى إلى المحيط الأطلسي غرباً، إلى الصين شرقاً، ومن آسيا الوسطى شمالاً، إلى إفريقيا المدارية جنوباً(1).

ومع أن معظم العالم الإسلامي يقع جغرافياً في سرة العالم، إلا أنه ليس من السهل تحديده بإقليم جغرافي موحد نظراً لترامي أطرافه، بالإضافة إلى كونه عالم فكرة لا عالم حدود(2).

وبما أن الحكم على الشيء يعد فرعاً من تصوره، فإن رؤية المفاهيم تشكل في نظر هذه الدراسة مسألة في غاية الأهمية فهي الخطوة الأساسية التي نستطيع من خلالها تحديد المصطلحات وضبط مضامينها ودلالاتها، وهناك عدة معايير لتحديد مفهوم العالم الإسلامي، ولذلك ستعم-ل ه-ذه الدراسة على توضيح تلك المعايير ومن أبرزها:

ص: 219


1- د. أحمد صدقي الدجاني، آفاق التعاون بين العالم الإسلامي والمجتمعات الأخرى واستشرافها بالحوار (الإسلام اليوم) عدد (12)، 1949م، ص 10.
2- محمد طاهر ،روبله التعددية في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة وعلاقتها بالمشروع الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 2008م، ص22.
المعيار العددي:

يطلق العالم الإسلامي على مجموعة الأقطار التي تتميز بأكثرية سكانية من المسلمين وبنسبة تفوق 50% من عدد سكانها ، أي أن أكثرية سكانها مسلمون(1) .

المعيار الدستوري:

يطلق العالم الإسلامي على مجموعة من الدول التي تعلن في دساتيرها وقوانينها بشكل صريح بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، أو أن الشريعة الإسلامية هی المصدر الوحيد في التشريعات، أو مصطلحات أخرى مقاربة لهذه المعاني(2).

المعيار التنظيمي:

يطلق العالم الإسلامي على الدول التي تشكل منظمة المؤتمر الإسلامي حيث تقوم هذه المنظمة على فكرة التعاون والتنسيق فيما بين الدول الإسلامية وصولاً إلى التكامل الذي يؤدي مع الوقت إلى تفاعل أكبر، قد يقود - في المستقبل - إلى وحدة كاملة بين هذه الدول(3).

وفي عام 1994م كان عدد الدول الأعضاء في المنظمة إحدى وخمسين دولة، فيما بلغ عدد أعضائها في عام 1998م، ثلاث وخمسين دولة، ثم قفز عدد أعضائها - مرة أخرى - ليصل إلى سبع وخمسين دولة في عام 2002م، وذلك خلال مؤتمر المنظمة في الدوحة(4).

مفهوم الأمة الإسلامية

هناك تعريفات عديدة لمصطلح الأمة الإسلامية، فقد عرفه علماء

ص: 220


1- عبد سعيد إسماعيل، أرقام وحقائق العولمة والعالم الإسلامي، دار الأندلس الخضراء، جدة، ط1، 200م، ص .132_
2- المرجع نفسه، ص 132
3- المرجع نفسه، ص 132 133.
4- محمد طاهر ،روبله المصدر السابق، ص 22

العقيدة، بأنهم المصدقون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعرّف الإمام النووي الأمة الإسلامية بأنها :«من صدق النبي (ص) وآمن به واتبعه فيه، وهذا هو الذي جاء مدحه في القرآن كقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (1)، وقوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس)(2).

وعرّف عبد سعيد اسماعيل الأمة الإسلامية بأنها ذلك الكيان الذي يجمع كل المسلمين الذين يقرّون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مضيفاً أن هذه الأمة تميزت عن غيرها من الأمم بهذا الدين الخالد، وبصفاء عقيدتها (3).

وهنا نلاحظ أن مفهوم الأمة الإسلامية أكثر شمولية من مفهوم العالم الإسلامي، لأن الأخير يقتصر على أقاليم جغرافية معينة، بينما مفهوم الأمة الإسلامية يشمل جميع الناس الذين تجمعهم عقيدة واحدة، بغض النظر عن الإقليم الجغرافي الذي يعيشون فيه.

ثانياً: الموارد البشرية والطبيعية التي يمتلكها العالم الإسلامي تعداد المسلمين في العالم

يقدر عدد المسلمين في العالم بأكثر من (1250 مليون) نسمة، وفقاً المعظم الدراسات، ويشكل المسلمون نحو 23% من سكان العالم، ويقيمون % على 19% من مساحة العالم، ويتوزعون على 56 دولة مستقلة، بالإضافة إلى فلسطين المحتلة، وفضلاً عن ذلك هناك تجمعات إسلامية تضم أكثر من 400 مليون مسلم في دول خارج نطاق منظمة المؤتمر الإسلامي(4).

ص: 221


1- سورة البقرة الآية 143
2- سورة آل عمران الآية 110
3- عبد سعيد إسماعيل، المصدر السابق ص 144.
4- محمد طاهر ،روبله المصدر السابق ص 24
النمو السكاني في العالم الإسلامي

يتميز العالم الإسلامي بأنه عالم ولود يتكاثر بسر بأنه عالم ولود يتكاثر بسرعة مذهلة، بحيث يعتبر الأكثر نمو في العالم سكانيا، ويرجع الفضل في ذلك إلى النصوص الشرعية الداعمة للتناسل، والمشجعة على الزواج.

فقد بات الإسلام ينتشر في العالم أكثر من أي دين آخر، لا سيما في إفريقيا وآسيا، حيث يكتسب معتنقين جدد كل يوم وذلك بسبب بساطة عقيدته

المنطقية ويسر فرائضه.

واللافت للإنتباه أن أكثر من نصف المسلمين يعيشون في الوقت الحاضر في أقطار لم يسبق لها أن خضعت لسيطرة الإسلام السياسية على الإطلاق(1).

الموارد الاقتصادية للعالم الإسلامي

يتمتع العالم الإسلامي بجانب الموقع الاستراتيجي الهام بموارد اقتصادية هائلة، كافية لإشباع حاجاته، وتحقيق التنمية التي تتنافس بها الأمم اليوم، غي--ر أن معظم هذه الموارد تذهب لإنتاج كماليات ودرجات من الرفاه لبعض الأفراد أو الفئات، بينما تعاني الأكثرية من نقص حاد وخطير في الحصول على كثير من احتياجاتهم الضرورية.

ثالثاً: المشكلات التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر

يمر العالم الإسلامي بمرحلة صعبة ودقيقة من تاريخه ويتعرض لهجمة شرسة تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية، لإحداث اهتزاز داخلي في ثقة الأمة بمبادئها وقيمها الحضارية.

وقد حملت مرحلة ما بعد الاستعمار العسكري مجموعة من التحديات

ص: 222


1- د. عماد الدين خليل نظرة الغرب إلى حاضر العالم الإسلامي ومستقبله، دار النقاش، بيروت، الطبعة الأولي، 1999م، ص 28

يمثل بعضها امتداد لمرحلة الاستعمار وكان البعض الآخر نتاجاً لانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر، وطبيعة الكيانات السياسية الناجمة، وطبيعة النخب الحاكمة وممارساتها(1).

التحديات الداخلية:

منذ أن انجلى الاستعمار العسكري الأوروبي عن معظم البلاد الإسلامية - بعد تضحيات جسيمة دفعتها كافة الشعوب المسلمة التواقة للحرية - والدول الإسلامية تعاني من مخلفات الاستعمار وتبعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وبالرغم مما تمتلكها البلدان الإسلامية من موارد بشرية واقتصادية كافية لنهضتها وتحقيق التنمية التي تتنافس بها الأمم اليوم، إلا أن معظم الدول الإسلامية تعاني من مشاكل جمة وخطيرة، تتمثل بضعف التنمية الشاملة في التعليم والصحة والبنية الفكرية والبحث العلمي والنزيف المستمر في هجرة العقول والكفاءات وذوي الرأي والاختصاصيين، وذلك بنتيجة لغياب الحريات وسوء استخدام الموارد الاقتصادية والمالية وتوجيهها لمؤسسات رسمية غير منتجة، مما يجعل العملية التنموية غاية في الصعوبة في ظل تلك الأوضاع السياسية(2).

التحديات الخارجية:

يواجه العالم الإسلامي تحديات جمة وصعوبات عديدة، مفروضة عليه من الخارج، بالإضافة إلى التحديات الداخلية التي سبق ذكرها.

ولعل من أهم التحديات والصعوبات الاستراتيجية التي تواجه معظم الدول الإسلامية على الصعيد الخارجي، ما يلي:

ص: 223


1- لمزيد من التفاصيل أنظر ، د حمدي عبد الرحمن حسن الاسلام في افريقيا من الإرث الاستعماري إلى تحديات العولة.
2- محمد طاهر روبله، المرجع السابق، ص42.

* النهب المنظم لثروات العالم الإسلامي.

* تكريس سياسة تبعية الدول الإسلامية للغرب.

* الديون الخارجية وفداحتها.

* التهديد المباشر والاحتلال العسكري.

وهنا يبدو جلياً أن التحديات الاستراتيجية التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر، هي تحديات داخلية وخارجية مزدوجة، ولا شك أن التحديات الداخلية تبقى أكثر خطورة وأشد ضراوة من التحديات الخارجية، لأن التحديات الخارجية لا يمكن أن تؤدي أثرها الفعال إذا كان الداخل محصناً.

المحور الأول: الاستعمار الأوروبي وتمزيق العالم الإسلامي:

لا بد من العودة إلى التاريخ لسبر غور التأثير العميق للاستعمار الأوروبي في تمزيق وتقسيم العالم الإسلامي، وتشكيل أوضاعه وحدوده السياسية الراهنة.

فمنذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، تعرض المد الحضاري الإسلامي لجزر شديد، ولأزمة حقيقية وخانقة خلصت انتشاره واشعاعه.

وقد ظهرت في الأفق قوى استعمارية جديدة بدأت تمد أطرافها إلى كل مكان في العالم وتضع أقدامها عند كل نقطة استراتيجية أو مركز تحكم في العالم، وذلك في وقت أخذت الدولة الإسلامية في التدهور الحضاري بعد أن أصابتها أمراض التمزق والخلافات السياسية والمذهبية، الأمر الذي ساعد كثيراً أن تمد القوى الاستعمارية الجديدة نفوذها وترث الدولة الإسلامية التي هرمت وضعفت قواها (1).

وهذه القوى الجديدة تمثلت بالإمبراطوريات الأوروبية الناشئة والمتطلعة

ص: 224


1- صلاح الدين ،حافظ صراع القوى العظمى حول القرن الإفريقي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 49، يناير عام 1978م ص 35.

إلى بسط نفوذها على العالم والسيطرة على طرق التجارة الدولية وكل شبر يوجد فيه ثروة.

وهكذا تغيرت موازين القوة في العالم، وبدأ العصر الاستعماري، الذي قسم العالم إلى مناطق نفوذ، وفعلاً كانت إفريقيا وآسيا أساساً هي «الكعكة» التي قسمت بل شرحت إلى فطائر متناثرة رقيقة لكثرة الضعف والوهن ، وهذه الحالة ما زالت سائدة حتى الآن فيما يسمي بالعالم الثالث، وفي مقدمتها البلدان الإسلامية(1).

دوافع الاستعمار للسيطرة على العالم الإسلامي

لقد كانت ملابسات اجتياح الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي مدعاة لأن نقف متأملين في دوافعها وأسبابها، وعند إعمال مقاييس المنطق والواقع، نلاحظ أن هناك عوامل عديدة دفعت الدول الأوروبية إلى السيطرة على البلاد الإسلامية ومنها:

الدوافع العسكرية والسياسية

لعل من أهم ما عنيت به الدول الاستعمارية هو المصلحة العسكرية والسياسية التي أولتها أكبر الأهمية، وقد تعددت الأهداف السياسية التي حدت بكل دولة من هذه الدول إلى توسيع نفوذها ونشاطها الاستعماري، حيث استخدمت معظمها العنف والغلظة ضد أبناء المستعمرات المغلوبين على أمرهم حتى لا يحاول الفكاك من قبضتها الحديدية.

ولم تكتف بعض الدول كبريطانيا بإحكام تلك القبضة القوية على المستعمرات القائمة، بل إنها زحفت أيضاً نحو بلدان أخرى شعرت بضرورة الاستيلاء عليها بغرض تأمين موقفها وتثبيت مواقعها العسكرية.

ومن جهة أخرى تكالبت الدول الأوروبية على العالم الإسلامي بشكل

ص: 225


1- المرجع نفسه، الصحفة نفسها.

فظيع بعد ثمانينات من القرن التاسع عشر، لأن الخطط المرسومة تلخصت في استئثار هذه الدول والاحتفاظ عليها كترسانة بشرية في الحروب، وعمق استراتيجي في أيام السلم، وكانت فرنسا أولى الدول التي نفذت تلك الاستراتيجية السياسية عندما احتلت تونس في عام 1881م.

وشهدت تلك الحقبة مولد عصر التنوير في بعض البلدان الإفريقية وفي مقدمتها مصر، إلا أن القوى الاستعمارية أحسّت بخطورة ترك هذا التنوير الحضاري يتنامى وينضج ، فقررت ضرب بؤر الاستنارة في مصر، فمزقوا أسطولها في موقعة (نافارين) وسحقوا جيشها وقلص-وا تأثيرها وحاصروها داخل حدودها الجغرافية ليتم احتلالها بشكل كامل فيما بعد في عام 1882م(1).

الدوافع الفكرية

كان الاضطهاد الديني الذي ظهر في أوروبا في القرن الخامس عشر نتيجة لتعسف سلطة الكنسية والممارسات الاقطاعية التي كانت تحاك باسم المسيحية سبباً في خروج المستعمرين من بلادهم والتوجه نحو العالم الإسلامي.

الدوافع الاقتصادية

سعت الدول الاستعمارية للسيطرة على اقتصاديات البلاد المستضعفة كواحدة من أهم أهدافها التي أملت عليها دخول هذه المستعمرات.

ونتيجة للجهود الحثيثة التي بذلتها الدولة الاستعمارية، انتقلت ملكية وسائل الإنتاج والمشاريع الإنتاجية من المواطنين الأصليين إلى البيض في المستعمرات، خصوصاً الإسلامية منها، حيث سيطرت الدول الغربية جميع على اقتصاد المسلمين بأساليب في غاية الده-اء والحنكة، وكان أوله-ا إنشاء المصارف وبيوت الأموال التي بدأت ببنك الجزائر الذي أنشأه المستعمرون

ص: 226


1- صلاح الدین حافظ، المرجع السابق، ص 36.

الإيطاليون في عام 1851م، ثم أنشأوا بعده فرعاً لمصرف روما في مدين-ة طرابلس الليبية في أبريل 1907م.

وجاء إنشاء ذلك المصرف قبيل الاحتلال ليساعد الحكومة الإيطالية في بسط نفوذها الاقتصادي إبان فترات الاستيطان (1).

المحور الثاني: تجربة الشعب الصومالي مع الاستعمار:

تقع الصومال في شرق القارة الأفريقية على موقع استراتيجي مه-م في (القرن الإفريقي) على طول الإمتداد الجنوبي حتى باب المندب والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، كما تمتاز بطول سواحلها الممتد على خليج عدن وعلى المحيط الهندي، حيث يزيد مجموعها على ثلاثة آلاف كيلومتر(2).

ويحدها خليج عدن شمالاً، والمحيط الهندي شرقاً، وإثيوبياً غرباً، وكينيا من الجنوب الغربي، وجيبوتي من الشمال الغربي وتبلغ مساحتها 637.657 کیلومتر مربع ، فيما يقدر عدد سكانها 12 مليون نسمة(3).

ويوجد في الصومال عديد من الثروات الطبيعية مثل : اليورانيوم وخامات الحديد والنحاس والقصدير والغاز الطبيعي، وقد تم التأكد من وجود النفط بكميات تجارية.

وتعد الثروات الحيوانية الصومالية الهائلة في قمة الصادرات، فتكون بذلك الصومال من الدول الرئيسة في تصدير اللحوم ومشتقات الألبان كما يتمتع الصومال بمنتجاته الزراعية المختلفة وشوائطها الممتدة الغنية بثروة سمكية كبيرة وهي معرضة للنهب والسرقة وبحاجة ماسة لتأمين وتصنيع وتصدير.

ص: 227


1- د. عوض إبراهيم عوض المرجع السابق، ص21.
2- د. عبد الرحيم حاج يحي العربية الفصحى في اللغة الصومالية مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، الطبعة الأولى، 2006م، ص 13
3- أبشر الإمام أمين (الموقع الجغرافي للصومال وأثره في بنائه السياسي)، (جغرافيون العرب)، الرياض، 2011م، ص 2.
الصومال وحضارات العالم القديم

تميزت الصومال - عبر تاريخها القديم - بعلاقات وطيدة مع سكان سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي والجزيرة العربية ومصر، وعلاقات تجارية

مع مناطق الحضارات الكبرى في العالم القديم وكان من نتائج هذه العلاقات التجارية، أن ازداد عدد المهتمين بالكتابة عن الساحل الشرقي لإفريقيا، وكان البحارة والربابنة القادمون يطوفون بسفنهم التجارية على طول السواحل الصومالية، فسجلوا ما شاهدوه ونقش الفنانون بعض ذكرياتهم وانطباعاتهم عن تلك الزيارات في الرسوم الأثرية الفرعونية كتلك الرسوم الموجودة في الدير البحري في الأقصر بمصر والتي سجلت أعمال بعثة الملكة حتشبسوت إلى

الصومال(1).

ومن أهم الشعوب التي اتصلت بشرق إفريقيا والصومال منذ القدم شعوب الجزيرة العربية وساعد على ذلك عامل القرب الجغرافي، ونظام الرياح الموسمية في المحيط الهندي.

وقد نظم العرب رحلاتهم وفقاً لنظام هذه الرياح، وهناك العامل الاقتصادي الذي دفع العرب لارتياد سواحل شرق إفريقيا.

الهجرات العربية الإسلامية في العصر الإسلامي

وقد أعطى ظهور الإسلام أبعاداً جديدة للعلاقات بين جزيرة العرب وسواحل شرق إفريقيا، ومنذ الفجر الإسلامي تواصلت هجرات عربية متعاقبة إلى هذه المنطقة لأسباب دينية وسياسية، فضلا عن العامل الاقتصادي الذي كان بارزاً في جميع الهجرات.

فهناك هجرة الصحابة إلى الحبشة مخافة الفتنة وفراراً من قمع قريش، ويرجع

ص: 228


1- د. عبد الرحيم جاج يحي، المرجع السابق، الصفحة 15

ذلك عندما نصح النبي صلى الله علية وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة نظراً المعرفة العرب بأرض الحبشة خلال الاتصالات التجارية القديمة ولما عرف به ملكها من العدل.

ويبدو أن الرسول صلى الله علية وسلم لم يأمر أصحابه الهروب بالدعوة الإسلامية من مكة إلى الحبشة لمجرد الهروب ولكنه بالتأكيد أختار هذه الأرض لأسباب سياسية ودينية وأمنية وذلك بعدما تأكد أن أصحابه سوف يلاقون بالحماية اللازمة ومن ثم فسوف تظل بذور الدعوة الإسلامية في مأمن من

قريش وبطشها .

وتؤكد كل شواهد التاريخ بأن منطقة القرن الإفريقي عرفت الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المرجح أن جعفر بن أبي طالب خلال هجرته أسس مركزاً لنشر الدعوة الإسلامية في المنطقة بمساعدة القبائل العربية المستوطنة هناك والتي اعتنقت الإسلام، ثم تتابعت الهجرات العربية إلى الساحل الأفريقي الشرقي منذ عهد الخلفاء الراشدين، وازدادت بشكل كبير في عهد الدولة الأموية والعباسية.

لقد كان للخليفة العباسي هارون الرشيد اهتمام خاص بهذه المنطقة، ودفع برجاله إلى الهجرة إليها، ربما اقتفاء لآثار الأمويين وربما طلباً لتوسيع النفوذ السياسي والديني والتجاري للخلافة العباسية.

وفي تلك الحقبة توافدت على سواحل الصومال مجموعات كبيرة من دعاة الإسلام من عرب وفرس ،وغيرهم، لإنشاء مراكز إسلامية ثابتة لنشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بين القبائل الإسلامية في المنطقة(1).

وهكذا ظلت الهجرات العربية الإسلامية تتدفق على المنطقة طوال العصور الوسطى سواء كان ذلك هرباً من الاضطهاد السياسي والديني أو طلباً للتجارة

ص: 229


1- المرجع السابق . ص 16-17

والاستقرار أو رغبة في التوسع السياسي، لكن النتيجة النهائية هي ذلك الانصهار الحضاري بين العرب وشعوب المنطقة(1).

وفي القرن الرابع عشر، شهدت السواحل الصومالية بإنشاء عدد من الممالك الإسلامية حملت اسم إمارات الطراز الإسلامي، وهنا بدأت ملامح الحضارة العربية الإسلامية في المنطقة، تتبلور بشكل أكثر وضوحاً من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية.

وظلت هذه الممالك الإسلامية تتبادل أدوار الزعامة على منطقة القرن الأفريقي، إلى أن آلت القيادة لمملكة أوفات وأصبح الجزء الأكبر لهذه المنطقة - التي تعرف اليوم باسم جيبوتي - واقعا ضمن نفوذ المملكة.

وتعتبر ممكلة أوفات قاعدة الحضارة العربية الإسلامية في القرن الأفريقي، وكان لها مساهمات كبيرة في ترقية العلوم والثقافة العربية الإسلامية.

وقد برز في هذه المنطقة، أئمة عظماء من الفقهاء والعلماء والدعاة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر(2).

الإمام فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي المتوفي (743ه-).

الإمام المحدث جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي المتوفي (762ه-).

العلامة الشيخ عثمان بن علي الزيلعي المتوفي (872ه-) .

وكان لعلماء الزيلع شهرتهم في مكة والمدينة وفي مصر أيضاً، وتحلق حولهم طلاب العلم من كل بقاع العالم الإسلامي(3).

وقد وثق أ. د. حسن مكي في دراسته طائفة كثيرة من المخطوطات العلمية

ص: 230


1- صلاح الدين حافظ، المرجع السابق، ص 33-32
2- د. عبد الرحيم حاج يحي، المرجع السابق، ص - 19.
3- المرجع نفسه.

واللغوية والأدبية التي تمثل الثقافة العربية الإسلامية في الصومال، وقال إذا نظرنا نظرة مقارنة لحركة الثقافة الصومالية مع نظيرتها في السودان في ظروف ما قبل الهجمة الاستعمارية، فإننا نجد أن هذه الثقافة تتفوق على رصيفتها في السودان.

المحور الثالث: الاستعمار الأوروبي وتقسيم الصومال: جذور الصراع التاريخي بين الصومال والقوى الاستعمارية

منذ فجر التاريخ الإسلامي شكلت منطقة القرن الإفريقي نقطة إنطلاق الإسلام إلى شرق ووسط إفريقيا، لأن هذه المنطقة عرفت الإسلام قبل غيرها وشهدت التحاماً بين المسلمين والمسيحيين منذ فجر الدعوة الإسلامية مما جعلها منطقة احتكاك وصدام بين المسلمين ومحاولات الهيمنة الأوروبية المتدثرة بالمسيحية.

ويعتبر القرون ما بين (960 - 1413م) العصر الذهبي لإنتشار الإسلام في شرق إفريقا، حيث بدأت ملامح الحضارة الإسلامية تتضح في الساحل الصومالي، وتبلورت من الناحية السياسية في بروز عدد من الإمارات الإسلامية عرفت باسم «ممالك الطراز الإسلامي».

وظلت هذه الإمارات تتبادل أدوار الزعامة على منطقة القرن الإفريقي إلى أن آلت القيادة لمملكة أوفات التي وحدت الإمارات الإسلامية تحت رايتها.

وكان هذا الأمر يتعارض مع مشروع مملكة الحبشة المسيحية التي قامت على أساس اللغة الأمهرية والعقيدة الأرثوذكسية وأسطورة الدماء المقدسة التي تجري في عروق ملوك الحبشة من قومية الأمهرة(1).

ومنذ ذلك التاريخ صارت منطقة شرق إفريقيا وبلاد الصومال مسرحاً لحركة صليبية ضخمة لم تكن فقط نابعة من الصراع التاريخي بين مملكة

ص: 231


1- ا.د. حسن مكي، المرجع السابق، ص 35.

الحبشة والممالك الإسلامية التي كانت تحيط بالحبشة إحاطة السوار بالمعصم، بل جاءت نتيجة التحام القوى الاستعمارية التي راحت تتعقب المسلمين بعد طردهم من الأندلس، حيث بدأت القوات البرتغالية حملة عسكرية واسعة لاحتلال الصومال نظراً لموقعها الاستراتيجي في المنطقة، ومع ان هذه القوات الغازية واجهت مقاومة صومالية شرسة أجبرتها على الانسحاب إلا أن محاولات الاستعمار لاحتلال الصومال ظل قائماً (1).

ففي القرن السادس عشر الميلادي، وبالتحديد عام 1517م، استولى الأسطول البرتغالي على مينا زيل--ع وأحرقه، وبدورها انتهزت مملكة الحبشة فرصة وجود الأسطول البرتغالي في مياه البحر الأحمر والمحيط الهندي وأبدت رغبتها في التفاوض مع ملك البرتغال، لعقد تحالف عسكري معه، من أجل نقل قواتها لغزو الصومال وإغلاق البحر الأحم-ر عن-د باب المندب، وكانت هذه الرغبة المسيحية تمثل فصلاً جديداً من صراع المسلمين والمسيحيين في المنطقة(2).

الإمام المجاهد أحمد «جري» والفتح الكبير

في مطلع القرن السادس عشر، ظهر عامل جديد غيِّر مسار الصراع التاريخي بين الإمارات الإسلامية وملوك الحبشة، تمثل باكتساح المسلمين على جميع بلاد الحبشة، بقيادة الإمام المجاهد أحمد بن إبراهيم (3).

وقد استطاع الإمام أحمد«جري» من وقف التمدد المسيحي في المنطقة وإلحاق هزيمة ساحقة للأحباش الذين اندفعوا إلى غزو إمارة هرر الإسلامية في عام 1527م ، ولم يقف الإمام عند حد الإغارات الخاطفة، بل إنه استجمع كل قواته وتابع كره على الملك لبنادنجل في قلب الحبشة.

ص: 232


1- د. عبد الرحيم حاج يجي، المرجع السابق، ص 20.
2- د. عبد الله عبد الرزاق إبراهيم المرجع السابق، ص 176.
3- د. عبد الله خضر أحمد (2014م) أثر الهجرة في تكوين الإمارات الإسلامية في إفريقيا، مجلة قراءات إفريقية، المنتدى الإسلامي، العدد التاسع عشر، ص 18

وشهد عام 1529م ، المعركة الحاسمة بين الإمام والإمبراطور لبنادنجل حيث تعرض الأحباش لهزيمة عسكرية ساحقة، وفر الإمبراطور، وأصبح طريداً حتى مات في عام 1541م (1)، وهذه الانتصارات العسكرية مكنت الإمام من السيطرة على معظم بلاد الحبشة، كما دان لحكمه جميع الشعوب في الحبشة، ما عدا الأسرة المالكة التي استغاثت بملك البرتغال الذي أرسل قوة عسكرية كبيرة مجهزة بأسلحة نارية متطورة لمناصرة الأحباش ضد الجهاد الإسلامي(2).

ودارت المعركة بين قوات الإمام والقوات البرتغالية الغازية عند بحيرة الشانجي عام ،1542م ، وقد أصيب الإمام خلال المعركة واضطر إلى الاستنجاد بالوالي العثماني في زبيد الذي أرسل إليه قوة قوامها تسعمائة جندي من حملة البنادق وعشرة مدافع.

وفعلاً عاود الإمام هجومه على البرتغاليين والأحباش ولكن مع ضعف الدولة العثمانية ومضاعفة القوات البرتغالية الغازية ضرباتها العسكرية على الصومال، بدأت تتغير موازين الصراع التاريخي لصالح القوات المسيحية.

في منتصف القرن السادس عشر، تمكنت القوات البرتغالية من قتل الإمام المجاهد أحمد (جري) ، لكن حركة الجهاد لم تتوقف بوفاته، بل استمرت المقاومة لفترة طويلة قاوم فيها الصوماليون بشراسة كافة المخططات المسيحية للسيطرة على المنطقة.

الاستعمار الأوروبي وتقسيم الصومال

أدت التحولات الكبيرة التي شهدها العالم أواخر القرن التاسع عشر إلى تعاظم دور الدول الاستعمارية التي تفردت بإعادة تشكيل خارطة العالم

ص: 233


1- المرجع نفسه، ص 20.
2- عبد الله عبد الرزاق إبراهيم المرجع نفسه، ص 177.

الإسلامي، من أجل فرض سيطرتها وسطوتها العسكرية على الأمة الإسلامية.

وكان لتلك التحولات والتداعيات التي سادت هذه الحقبة تأثيراتها البالغة على الصراع التاريخي في منطقة القرن الإفريقي(1).

وفي تلك الفترة بدأ التنافس بين القوى الاستعمارية من أجل تقسيم أملاك الصومال بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، كما استفاد الأحباش من عمليات التقسيم، فتوسع-وا على حساب جيرانهم طبقاً لقرارات مؤتمر برلين لعام 1885/1884 .

وفي عام 1884م تمكنت بريطانيا بالاستيلاء على الجزء الشمالي للصومال بعدما أجبرت الإدارة المصرية على الخروج من مدينتي زيلع وبربرة، وفي العام نفسه فرضت فرنسا حمايتها على الساحل الصومالي المعروف حالياً ب(جيبوتي).

وقد تطورت الأحداث بشكل كبير - بعد الحرب العالمية الثانية - وفوجئ الجميع بقيام بريطانيا بتسليم الجزء الغربي للصومال (أوغادين) لإثيوبيا ومنطقة (NFD) لكينيا(2).

وفي مايو عام 1887م، تم الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا، اعترفت الأولى بالوجود والسيادة الفرنسية على جيبوتي، فيما تنازلت فرنسا على ميناء زيلع لبريطانيا، وبموجب هذه الاتفاقية رسمت الحدود السياسية بين الصومالي البريطاني الفرنسي(3).

وهكذا ظل الشعب الصومالي يتعرض لهجمات استعمارية كبيرة قسمت أرضهم وشتت شملهم.

ص: 234


1- محمد عمر جيدي، أبعاد الصراع التاريخي في القرن الإفريقي، ورقة بحثية غير منشورة.
2- الجزيرة نت موجز تاريخ الاستعمار في الصومال،
3- عبد الله الفاتح، المرجع السابق، ص 33.
المحور الرابع: الثورات الصومالية ضد الاستعمار:

قاوم الشعب الصومالي القوى الاستعمارية التي تكالبت عليه، وكان كل صومالي يرى أهمية التصدي للغزاة والدفاع عن الإسلام وشرف الأمة بأنها واجبه الأول، ولذلك شهدت الصومال ثورات عديدة ضد الاستعمار، إلا أن أخلدها وأشدها وقعاً على الاستعمار، كانت الثورة التي قادها الشيخ المجاهد محمد عبد الله حسن ضد المستعمرين في عام 1899م، والتي استمرت لمدة عشرين عاماً، سجلت فيها ملاحم جهادية بطولية كثيرة وانتصارات باهرة على جيوش المعتدين.

ثورة الشيخ محمد عبد الله حسن

ولد الشيخ محمد عبد الله حسن في 17 أبريل عام 1864م، بقرية (قوب فردود) في شمال الصومال ومنذ طفولته كانت تبدو علي-ه دلائل النباهة والذكاء، كما كان مولعاً في ممارسة الفنون الفروسية والحربية(1).

و في السابعة من عمره التحق بمدارس القرآن، حتى أصبح مساعداً للمعلم وهو في الثالثة عشر من عمره، ومن ثم بدأ مرحلة جديدة من حياته استهلها بالاتصال للعلماء والشيوخ المحليين بقصد التزود بالمعارف الإسلامية والعلوم الشرعية والأدبية.

وفي التاسعة عشر من عمره حاز لقب «الشيخ» وهو لقب لا يناله غالباً إلا من كان على مستوى رفيع من المعرفة الدينية، وقد استطاع الشيخ محمد عبد الله بذكائة وسرعة استجابته أن يحقق لنفسه مكانة مرموقة بين أهل الفقه ورجال الدين الذين أخذوا برأيه ولمسوا فيه التقوى والصلاح.

وفي عام 1885م ، قرر الشيخ محمد عبد الله التوجه إلى الجزيرة العربية لأداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة، وكان بصحبته في هذه الرحلة ما لا

ص: 235


1- جامع عمر عيسى تاريخ الصومال في العصور الوسطى والحديثة، القاهرة، 1965م، ص54.

يقل عن ثلاثة عشر رجلاً من خيرة أصدقائه المخلصين لدعوته، وقد أتاحت له الرحلة فرصة للتعرف على عدد كبير من العلماء والفقهاء والمشايخ من بينهم الشيخ محمد بن صالح الرشيدي السوداني - مؤسس الطريقة الصالحية - والذي أعجب به الشيخ محمد عبد الله حسن وبطريقته(1).

وخلال وجوده في الحجاز وقف على أحوال العالم الإسلامي من ضعف الخلافة العثمانية ومحاولات القوى الاستعمارية بتقطيع أوصال الأمة الإسلامية، إضافة إلى مساعي البعثات التبشيرية لنشر المسيحية في بلاد عرفت الإسلام منذ زمن طويل.

كما أنه تأثر بأخبار الثورة المهدية التي كان يقودها الإمام محمد أحم-د المهدي في السودان لتخليص وادي النيل من النفوذ الأجنبي(2)، وهذه العوامل كانت سبباً في ازدياد روحه الثورية لمقاومة الاستعمار الأوروبي في الصومال، والتصدي للتمدد الحبشي الذي يطمع في السيطرة والتسلط على بلاده، إلى جانب هدفه الأكبر في نشر الدعوة الإسلامية بين الشعوب في المنطقة(3).

وباختصار كانت هذه الرحلة بالنسبة للشيخ محمد عبد الله حسن بمثابة مرحلة الإعداد لهذه المهمة الكبيرة وتلك الأهداف النبيلة.

وفي عام 1895م، قرر الشيخ محمد عبد الله حسن العودة إلى الصومال عن طريق عدن، وعندما هبط أرض اليمن أحس بمرارة العداوة للمسيحيين وما أن التقى أحد البريطانيين حتى طلب منه هذا الرجل مشاهدة المظلة التي كان يحملها في يده، ورفض الشيخ الاستجابة لهذا الأجنبي، وذهب بعيداً

ص: 236


1- د. حسن البصري (2015م) الصومال في القرن العشرين حصاد الأسبوع مركز مقديشو للبحوث والدراسات، مقديشو، العدد 69، ص 22
2- شبكة الشاهد الصومالي، الشيخ محمد عبد الله حسن .. العالم الصومالي المجاهد).
3- د. عبد الله عبد الرزاق إبراهيم المرجع السابق، ص 180.

عنه، لكن البريطاني تبعه وحاول أن يريه المظلة بالقوة، فما كان للشيخ إلا أن دفعه بيده فسقط الرجل في مياه البحر، فتجمع البريطانيون وكلهم في دهشة من هذا الرجل الذي يتجرأ على ضرب أحد الأوروبيين، ولولا تدخل رجال الشرطة في عدن لدخل الشيخ السجن هناك.

ومنذ تلك الحادثة أدرك الشيخ أن التفاهم مع الأجانب أمر صعب، وأن التعامل معهم سيكون أكثر صعوبة وقسوة ، فازداد حقداً وكراهية لهم.

وعندما وصل إلى ميناء بربرة في شمال الصومال، تلقى معاملة قاسية من رجال الجمارك الذين طلبوا منه رسوم جمركية على أمتعته، فكان جوابه من الذي أعطاكم تصريحاً بالدخول في بلادنا، وهذه القصة تدل على روح الشيخ اليقظة والتي اتصفت بالشجاعة والجرأة وعدم قبول الضيم.

وذات يوم التقى بمحض الصدفة بمجموعة من الأطفال الصغار وهم في طريقهم إلى مدرسة البعثة الكاثوليكية الرومانية في بربرة، وعلم أن البعثة تقوم بتغيير أسمائهم إلى أسماء مسيحية، وقام على الفور بإرسال شكوى إلى المقيم السياسي البريطاني في بربرة، يطالب فيها بإبعاد المسيحيين والمبشرين عن أرض الصومال الإسلامية، وزاد الأمر اشتعالاً حادثة القس البريطاني الذي كان يسكن بجوار أحد المساجد في بربرة، وكان الأذان يؤرق مضجعه، فقام بإطلاق النار على المؤذن، وقد ترك هذا الحادث أثراً عميقاً في نفس الشيخ والمجتمع الصومالي في المنطقة بشكل عام وهذا كان سببا كافياً لقيام

الشيخ محمد عبد الله بثورته ضد الاستعمار الأجنبي في الصومال.

وفي عام 1897م ، أسس الشيخ حركته الجهادية التي أطلق عليها بالدراويش واختار قرية (قريو ويني) في وسط الصومال مقراً لقيادته ولم يكن البريطانيون قد وصلوا بعد إلى تلك المنطقة الداخلية.

وقد وصلت المقاومة ذروتها بإعلان الشيخ محمد عبد الله حسن

ص: 237

الجهاد ضد جميع المستعمرين في عام 1899م، واستمرت الحركة الجهادية في كفاحها المسلح ضد القوات البريطانية لمدة عشرين عاماً، سجلت من خلالها ملامح جهادية بطولية كثيرة وانتصارات باهرة على الغزاة دفاعاً عن الإسلام وشرف الأمة.

وفي عام 1908م، عقد مجلس الوزراء البريطاني اجتماعاً غير عادي، قرر فيه شن هجوم واسع للقضاء على الشيخ محمد عبد الله وحركته الجهادية في الصومال مهما كانت التكلفة.

وفي عام 1920م ، شنت بريطانيا هجوماً مركزاً بالقوات الجوية والبرية على معقل المقاومة في قلعة «تليح» وكانت الهزيمة هذه المرة محققة، حيث أدت عمليات القصف الوحشي إلى تفكك القيادة العسكرية والسياسية للمقاومة وانتشار الرعب في المنطقة.

ونتيجة لضربات الطائرات الحربية البريطانية التي استخدمت فيها لأول مرة في المعركة، اضطر الشيخ مع عدد من قواته باللجوء إلى إقليم الصومال الغربي، لكن معظم رجاله مات هناك بسبب البيئة السيئة والأوبئة والمجاعة.

وفي أكتوبر 1920م، تمركز الشيخ مع عدة مئات من أنصاره في منطقة (إيمي)، وبدأ ينظم المقاومة من جديد رغم تفشي المجاعة والأمراض في المعسكر.

وفي 21 ديسمبر عام 1920م، توفي الشيخ المجاهد محمد عبد الله حسن، ودفن في مقبرة صغيرة في المنطقة، وعندما علم أنصاره أن القوات البريطانية

تبحث عن جثته، قاموا بفتح القبر ونقلوا جثمانه إلى مكان مجهول(1).

بعد وفاة الشيخ محمد عبد الله حسن استمرت مسيرة الجهاد والمقاومة

ص: 238


1- موقع مجلة قراءات إفريقية، الشيخ محمد عبد الله حسن العالم الصومالي (المجاهد)

في الصومال بأشكال مختلفة، وفي الأربعينيات من القرن الماضي، تسلمت الحركات الوطنية زمام المقاومة والكفاح ضد الاستعمار، وكان من أبرزها حزب وحدة الشباب الصومالي في جنوب الصومال والرابطة الوطنية الصومالية والحزب الصومالي المتحد في شمال الصومال، والرابطة الشعبية الأفريقية للاستقلال، وجبهة تحرير الساحل الصومالي في جيبوتي.

وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1940م، استطاعت إيطاليا أن تحتل الصومال البريطاني، كما فرضت حصاراً خانقاً على الساحل الصومالي (جيبوتي) التي كانت تحتلها فرنسا، غير أنه في العام الثاني ألحقت بريطانيا هزيمة بالقوات الإيطالية وتمكنت من فرض سيطرتها على الصومال الإيطالي.

وتطورت الأحدات في عام 1948م، حيث فوجئ الجميع بقيام بريطانيا تسليم إقليم الصومال الغربي للإثيوبيا وإقليم (NFD) لكينيا.

وفي نوفمبر عام 1949م، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة حق الصومال الإيطالي في الاستقلال، كما قررت وضعه تحت الوصاية لمدة عشر سنوات ابتداء من 1950م ، فاختار الصوماليون إيطاليا وصية عليهم عوضاً عن بريطانيا، وبذلك استعادت إيطاليا سيطرتها مرة أخرى على محميتها القديمة، وهكذا تم تقسيم الصومال بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإثيوبيا وكينيا، وقد سمي ك-ل قسم باسم الدول المستعمرة.

وفي ديسمبر عام 1959م، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بمنح الصومال الإيطالي استقلاله مطلع يوليو 1960م.

وفي أواخر يونيو 1960م، استقل الصومال البريطاني، وبعدها بثلاثة أيام أي في 1 يوليو 1960م، استقل الصومال الإيطالي، واتح-د الاثنان تح--ت اس--م جمهورية الصومال.

ص: 239

وبقي الصومال الفرنسي (جيبوتي) تحت الاحتلال، إلى أن استقل في 27 يونيو 1977م ، وأعلن نفسه جمهورية مستقلة(1).

أما إقليم الصومال الغربي (أوغادين) فما زال تحت الاحتلال الإثيوبي حتى الآن وكذلك الأمر بالنسبة لإقليم (N.F.D) في كينيا.

و دخلت الصومال عقب استقلالها مباشرة في صراعات عسكرية مع جيرانها من أجل تحرير أراضيها التي اقتطعته بريطانيا ومنحته لإثيوبيا وكينيا.

وتذكيراً بهذه التقسيمات الاستعمارية التي تعرض لها الصومال، فإن العلم الصومالي يتكون من نجمة خماسية بيضاء على لون أزرق سماوي، حيث ترمز النجمة إلى الأجزاء الخمسة للصومال، كما يشير اللون الأزرق إلى الأفق حيث يلتقي البحر بالسماء.

وهكذا أصبح شعار الصومال الكبير مدعاة لصراع مستمر بين الصومال ودول الجوار، مما انعكس سلباً في استقرار الدولة الوليدة.

ص: 240


1- لمزيد من التفاصل أنظر عبد الله الفاتح (2015)، خريطة الأحزاب السياسية قي جيبوتي، حصاد الأسبوع، مركز مقديشو للبحوث والدراسات ،مقديشو، العدد 69، ص18.

مناهضة الاستعمار الإنجليزي في السودان: قراءة في تجربة السيد إسماعيل الأزهري

اشارة

أحمد عبدالله محمد(1) - حاتم الصديق محمد(2)

تتناول هذه الدراسة الدور الذي قام به الزعيم إسماعيل الأزهري في السودان خلال فترة نشوء الحركة الوطنية السودانية، وذلك بالوقوف على دوره في مناهضة الاستعمار الإنجليزي للسودان في الفترة الممتدة من العام 1930م وحتى العام 1953م، وهي الفترة التي شهدت البدايات الأولى لبزوغ فجر هذه الشخصية، علماً بأن السيد إسماعيل الأزهري له أدوار نضالية عديدة لا تكفي دراسة واحدة للوقوف عليها لذلك ستكون المراحل التالية من حياته محوراً لدراسات أخرى لتكتمل الصورة عن كفاح وجهاد هذه الشخصية حتى توجت بأن ينال السودان استقلاله.

ص: 241


1- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المشارك - جامعة الجزيرة - السودان.
2- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المشارك - جامعة الزعيم الأزهري – السودان.

هو السيد إسماعيل بن السيد أحمد إسماعيل الأزهري بن أحمد الأزهري بن الشيخ إسماعيل الولي بن عبد الله البديري الدهمشي ووالدته ست البنات من عائلة الشيخ ود دوليب الشهيرة بمنطقة خرس بالقرب من مدينة بارا بإقليم كردفان، ولد بمدينة أم درمان عام 1900م التحق بالمدرسة الوسطى بمدني من الخلوة مباشرة في عام 1913م وذلك بعد أن جلس للإمتحان وكان الأول على جميع الممتحنين وفي سنة 1917م انتقل أثناء مرحلة الدراسة الوسطى إلى مدرسة أم درمان التي أكمل تعليمه بها وكان أول دفعته في امتحان الشهادة السودانية، وظل كذلك طيلة فترة دراسته (1917-1921م)، كان يجيد اللغة الإنجليزية ويتكلمها بطلاقة ثم عمل مدرساً في عطبرة الوسطى في أكتوبر 1921م وذلك بعد إكماله للسنة الرابعة في الدراسة الثانوية لذكائه وتفوقه الدراسي، نقل سنة 1924م إلى مدرسة أم درمان الوسطى وهو أول شاب سوداني دون العشرين يحظى بالسفر إلى بريطانيا في عام 1919م كان ضمن وفد السودان بزعامة السيد علي الميرغني وعضوية كل من السيد عبدالرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي، أوفد إلى بيروت في العام 1927م ضمن مجموعة من المتفوقين لتلقي الدراسة بالجامعة الأميركية في العام 1930م ونال شهادة البكالوريوس في الآداب ودرس العلوم الاقتصادية والتجارية بجامعة بيروت بلبنان وعاد إلى الوطن ليعمل أستاذاً للرياضيات بكلية غردون في العام 1930م صدر له كتاب بعنوان (الطريق إلى البرلمان) في العام 1931م أُنتخب سكرتيراً دائماً لنادي الخريجين بأمدرمان وأول سكرتير لمؤتمر الخريجين عام 1938م، كما أنتخب أول رئيس للدورة السنوية للمؤتمر وظل رئيساً له باستثناء دورتي (1944-1942م) وفي العام 1943م صار رئيس لحزب الأشقاء وظل رئيساً له حتى انصهر في الحزب الوطني الاتحادي في العام 1953م وظل رئيساً للحزب وقائداً له خلال فترة الحكم الذاتي وأصبح أول رئيس وزارة لحكومته 6 يناير 1954م. توفي في أغسطس 1969م.

ص: 242

تخرج السيد إسماعيل الأزهري من كلية غردون التذكارية ونقل بعد ذلك للعمل في مدرسة عطبرة الوسطى ثم مدرسة أم درمان الوسطى وبعد ذلك أُنتخب سكرتيراً للجنة نادي الخريجين بأم درمان فبرزت بعد ذلك مكانته وقدراته في إدارة نادي الخريجين حيث كان النادي يضج بالعديد من النشاطات الرياضية والثقافية ثم اختير بعد ذلك لبعثة دراسية للدراسات العليابالجامعة الأميركية في بيروت في العام 1927م وقد شكلت هذه الفرصة إضافة حقيقية لمسيرة الزعيم الأزهري العلمية والسياسية (1).

بعد وصول الزعيم الأزهري إلى بيروت كان يرغب في دراسة التاريخ ودافعه في وجود عدد من الأساتذة أصحاب باع كبير في هذا التخصص من سوريين ولبنانيين وقد برعوا في كتابة وتحليل التاريخ الإسلامي على وجه الخصوص والتاريخ العربي والشرقي عموماً، ثم إتجه بعد ذلك إلى دراسة الرياضيات التي رع وأجاد فيها ونتيجة لما وفرته له الجامعة الأميركية في بيروت من نشاط ثقافي عن طريق الجمعية الأدبية بالجامعة، فقد انطلق في هذا النشاط الأدبي الأمر الذي ساعده مستقبلا في نقل هذا النشاط إلى السودان، كما استطاع أن ينقل كل الخبرات التي اكتسبها مثل نظم إدارة الإجتماعات وغيرها من الخبرات التي وضُحت بعد ذلك في شخصيته وفي من حوله ويعد ذلك النواة الأولى لما أصدره لاحقا في كتابه الطريق إلى البرلمان (2).

تخرج الزعيم الأزهري من الجامعة الأميركية في بيروت بنجاح ونال درجة البكالوريوس في العلوم الرياضية وبعد عودته للسودان تم تعيينه أستاذاً في كلية غردون وقد أتاح له العمل في كلية غردون معاينة الأوضاع عن كثب في الكلية والإلمام بكل التفاصيل داخل وخارج الكلية. اتصل بعد ذلك الزعيم الأزهري بنادي الخريجين الذي كان عضواً فيه منذ أن كان يعمل بالتدريس في المدارس الوسطي،

ص: 243


1- جعفر محمد حامد رجال وتاريخ، وزارة الثقافة والشباب والرياضة، سلسلة ثقافية للجميع، حصاد للطباعة والنشر، الخرطوم، 2003 ، ص 19.
2- المرجع نفسه، ص20.

وقد كان النادي في ذلك الوقت نقطة تجمع للصفوة المستنيرة من خريجي المدارس السودانية كما أصبح هذا النادي محط أنظار كل السودانيين وتتعلق به أمالهم (1).

قامت جمعية أدبية في كلية غردون مشابهة لنادي الخريجين في أم درمان، وكان (المستر بليك) مساعد الكلية وأستاذ التاريخ بالكلية قد رشح نفسه لرئاسة الجمعية الفخرية، وانتخب عبدالرحمن علي طه رئيساً لها. وقد نشأت مدرستان في كلية غردون الأولى تحت قيادة عبيد عبد النور والثانية تحت قيادة عبد الرحمن علي طه، وقد ظهر الزعيم الأزهري في ذلك الوقت وسط مجموعات الخرّيجين وطرح نفسه كقائدكما قام بطباعة كتابه (الطريق إلى البرلمان) والذي شرح فيه تكوين الجمعيات والندوات والمناقشات والقراءة فكان شعاراً ملفتاً طغى على كل ما يدور في كلية غردون (2).

كان الزعيم إسماعيل الأزهري من الأستاذة المحبوبين في كلية غردون، وقد كان مسؤولاً عن مراقبة الألعاب الرياضة في الكلية، كما كان مشرفاً على الجمعيات الأدبية التي هدفت إلى تهذيب نفوس الطلاب وتعويدهم على الاستفادة من أوقات فراغهم مفيد، كما أن الزعيم الأزهري كان مسؤولاً كذلك عن ثلاث جمعيات وهي جمعية الموسيقى، وجمعية الآداب والمناظرة، وجمعية التمثيل. كان يهتم بالموسيقى ويعمل على توجيه أعضاء جمعيتها وجدت جمعية الآدب والمناظرة إهتماماً واضحاً من الزعيم إسماعيل الأزهري ومنبع إهتمامه بها لأنها تمثل مدرسة يتعلم فيها التلاميذ الخطابة وحُسن الأداء وكذلك المناظرة والمجادلة من خلال منطق سليم وحقائق واضحة. وقد اهتم كذلك بجمعية التمثيل حيث كان يحرص على التجويد والاندماج فی الأدوار وتقمص شخصيات الأبطال وكان يختار من الروايات ما هو هادف ومفيد (3).

ص: 244


1- جعفر محمد حامد، مرجع سابق، ص 21
2- دريه عبدالله ميرغني، عبدالله ميرغني (ب د)، 1999م، ص 66.
3- بشير محمد سعيد، من تاريخ السودان السياسي، الزعيم الأزهري وعصره، مطبعة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1990م، ص6-5 .

كان الإنجليز في الكلية يقيمون المناظرات والمساجلات التي كان يتزعمها الأزهري في الكلية حيث إنه اِقتحم هذا المجال واستحوذ على مشاعر الطلبة وكسب ودَّهم. -م أقام الطلبة في الكلية مناظرة بين التعليم الأولى والتعليم العالي، وأقاموا لكل إتجاه منبراً يصعده المتكلم المؤيد لإحداهما، وقف الأزهري في منبر التعليم الأولى وأيده ثم نزل وسار للمنبر الآخر، وأيد التعليم العالي لأن البلاد لا تتقدم بدونه عندها الطلاب فصاح المستر (كرايتون) المشرف على المناظرة أنا أكره جمباز إسماعيل الأزهري، ومذ ذلك الوقت تعلق الطلبة بالزعيم إسماعيل الأزهري وأصبح يتردد صداه على مستوى القطر كله (1).

كسب الزعيم الأزهري ودَّ الطلاب في كلية غردون بتواضعه وحبِّه لهم واهتمامه الواضح بتعليمهم طرق الخطابة وتنويرهم من خلال الجمعية الأدبية في الكلية، ومن الواضح كذلك أن الإدارة البريطانية لم تكن راضية عن نشاط الزعيم الأزهري في كلية غردون والدليل على ذلك حالة الغضب التي تلبَّست المستر (كرايتون) بعد مناظرة الزعيم الأزهري.

كانت الصحف والمجلات العربية محظورة على طلبة كلية غردون وبعد أن إلتحق الأزهري بالكلية كأستاذ عمل مع عددٍ من زملائه على توطيد اللغة العربية وإتاحة الفرصة لها من خلال جمعية (الآداب والمناظرة) وقد وقف معه في هذا الأمر البشير الفضل ، والمرحوم الشيخ المصري، والأستاذ عبيد عبد النور، والأستاذ عبد الفتاح المغربي، وقد ازدهرت الجمعية الأدبية بصورة واضحة، كما أن الزعيم الأزهري وهو في كلية غردون قام بمعارضة تدريس مادة التاريخ الإسلامي باللغة الإنجليزية، ووافق الشيخ البشير الفضل على مقترح الأزهري وهو تدريس هذه المادة باللغة العربية، وبعد ذلك، وبمجهودات الأزهري ومن معه ظهرت إلى حيز الوجود مجلة كلية غردون التي احتجبت في العام (1940م) (2).

ص: 245


1- - دريه عبدالله ميرغني، مرجع سابق، ص 67-66 .
2- محمد عمر باشري ، رواد الفكر السوداني، دار العالم الاسلامي، بيروت، 1981م، ص 58.

حدث إضراب كلية غردون في العام (1931م) أي بعد مجيء الزعيم الأزهري من الجامعة الأميركية في بيروت بعام واحد وكان سبب هذا الإضراب خفض المرتبات عند تخرجهم وقد كان الطلبة قبل هذا الإضراب على صلة وثيقة بمعلميهم الذين عادوا من بيروت إلى السودان وهم يحملون أفكاراً ورؤى جديدة عن الحياة الجامعية ومن هؤلاء الأستاذة: عبيد عبد النور، وعبد الفتاح محمد المغربي ومحمد عثمان ميرغني، ومحجوب الضوى وبشير محمد سعيدا (1)

ساهم إضراب طلبة كلية غردون في إعطاء الحركة الوطنية دفعة قوية، وقد جاء الإضراب بعد سبع سنوات من القضاء على ثورة 1924م وقد كان سبب الإضراب تخفيض مرتبات الخريجين من ثمانية جنيهات في الشهر إلى خمسة جنيهات ونصف وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية التي دفعت الحكومة لتخفيض المرتبات وتخفيض عدد الموظفين (2).

نتيجة للظلم الذي وقع على خريجي الكلية تقدم طلاب الكلية بشكوى للحكومة، وبعد ذلك تكونت لجنة من كبارالسودانيين وهي لجنة العشرة في يوم26 یونیو 1931م وقد تدخلت الزعامات الطائفية كما تدخل السيد عبد الرحمن المهدي لأن إبنه الصديق كان طالباً بقسم الهندسة واختلفت وجهات النظر وبعد ذلك سافر السيد عبد الرحمن إلى القاهرة ولم يسهم في حل المشكلة (3)

تدخل السيد عبد الرحمن بعد ذلك ووعد بحل المشكلة من خلال إطعام ستين مسكينا ليحل الطلبة من القَسَم الذى قطعوه بأن لا يعودوا للدراسة إلا إذا استجابت الحكومة لمطالبهم، وقد كان تدخل السيد عبد الرحمن الهدف منه تحجيم اندفاع الشباب وتماشياً مع سياسة الحكومة البريطانية (4).

ص: 246


1- بشیر محمد سعید، مرجع سابق، ص 37.
2- محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحديث (1821-1956)، ط2،مطبعة جامعة افريقيا العالمية، الخرطوم، ص 459 .
3- محجوب عمر ،باشري معالم الحركة الوطنية في السودان المكتبة الثقافية، بيروت، 1996م، ص 243-244 .
4- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، ص 460.

قامت الحكومة البريطانية بعد ذلك بإدخال إمتحان عرف بإمتحان الخدمة المدنية لجواز تعيين أي خريج ولن يتم التعيين إلا بعد النجاح في هذا الإمتحان، كما تمت إضافة شرط آخر للتعيين وهو النجاح في إمتحان الهيئة وهو إمتحان مقابلة ودراسة لشخصية الطالب (1)

رأت الحكومة البريطانية أن من الأسباب التي أدت إلى تمرد طلب-ة كلي-ة غردون يعود إلى وجود عدد من المدرسين اللبنانيين والسوريين وخريجي الجامعة الأميركية في بيروت والمتحمسين لفكرة اليقظة العربية. كما أنه-ا ق-د وجهت الإتهام إلى السيد إسماعيل الأزهري وعبد الفت-اح المغربي وعبيد عبد النور المدرسين بالكلية والمتخرجين من الجامعة الأميركية في بيروت بأنهم وراء هذه الاضطرابات (2).

كان السيد عبد الرحمن المهدي شديد الاهتمام بالخريجين وكان يتبرع بسخاء لجمعياتهم الخيرية ويساعد غير المقتدرين منهم. مواصلة دراستهم كما استضاف البعض منهم في داره وكان أيضا يغدق بسخاء على المناسبات الدينية والاحتفال بها، ونتيجة لذلك وصفته المخابرات البريطانية في العام (1934م) بأنه الزعيم السياسي لطبقة الخريجين وقد تنبه السيدعبدالرحمن مبكراً لدور هذه الطبقة ولدورهم القيادي ولأن أتباعه (الأنصار) من مناطق الإنتاج التقليدي ولا يمكنهم قيادة الحركة السياسية (3).

سعی السيد عبد الرحمن المهدي إلى كسب عطف الخريجين عليه واستطاع نهاية الأمر أن يضم حوله عدداً منهم تزعمهم كل من علي شوقي ومحمد صالح الشنقيطي. كما ظهرت مقالة في مجلة الفجر بقلم يحيى الفضلي قدمت السيد عبد

ص: 247


1- محجوب عمر باشري، معالم الركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 244.
2- محجوب عمر ،باشري معالم الركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 245.
3- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، 461.

الرحمن كرجل استطاع أن يُثبت مقدرات فذة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وأن له قدرات هائلة لقيادة البلاد سياسياً (1).

مجموعات المثقفين بمن فيهم السيد إسماعيل الأزهري والسيد يحيى الفضلي والسيد عبد الله ميرغني والتي انضمت للسيد عبد الرحمن المهدي كان دافعهم وطنيّاً في المقام الأول وقد نظروا لشخصية السيد عبد الرحمن المهدي الوطنية وقد تعاونت هذه المجموعة مع السيد عبد الرحمن والتقوا من حوله كما التفَّ آخرون (2).

في العام (1931م) انتخب الزعيم الأزهري سكرتيراً لنادي الخريجين بأم درمان وكان وكيل النادي في تلك الدورة السيد محمد علي شوقي وهو من كبار الموظفين المصلحة القضائية وقد أصبح بعد ذلك عضواً ومؤسساً لحزب الأمة كما أنه كان أصدقاء السيد عبد الرحمن المهدي ومستشاره وقد بدأ الصراع الطائفي يطل برأسه ويهدد وحدة الخريجين (3)

أصبح نادي الخريجين في أم درمان مسرحاً للصراع بين الخريجين، وجاءت انتخابات النادي عام (1931م) لتنتقل بالصراع إلى معارك عملي-ة فق-د أب-دت مجموعة من الشباب تذمرهم من سيطرة محمد علي شوقي وجماعته على النادي، ولذلك خطط الأبروفيون للاستيلاء على لجنة النادي وذلك من الوقوف خلف السيد الفيل ليضمنوا تأييد السيد علي الميرغني هذا وقد أصبح الأبروفيون يسيرون خلف الطائفة بعد معارضتهم لها . استطاع الشوقيون اكتساح الانتخابات بفضل قدرات الأشقاء التنظيمية ومقدرات السيد إسماعيل الأزهري وتحالفهم مع السيد عبد الرحمن المهدي، وقد كان الأشقاء يمثلون سند السيد عبد الرحمن السياسي والتفوا حوله من منطلق الولاء الشخصي وقد عبر يحيى

ص: 248


1- محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان مرجع سابق، ص 184
2- محجوب عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 437.
3- بشیر محمد سعید، مصدر سابق، ص 38.

الفضلي عن ذلك الإعجاب في مقال بمجلة الفجر بعنوان (هاؤم اقرأوا كتابيه) وقال فيه أن السيد عبد الرحمن كان قريباً من الشعب وأن علاقته به ستظل متصلة ما بقي عاطفاً حادباً على هذا الشعب(1).

حاول شباب الأبروفيين خلق حركة جديدة داخل نادي الخريجين وتغيير الأوضاع القديمة وذلك من خلال تنفيذ برنامج اصلاحي يدعو إلى الاصلاح والتجديد فخططوا مقاعد لجنة النادي ماعدا منصب وكيل النادي الذي أوكل للسيد (أحمد لشغل جميع السيد الفيل) (2).

كان التنافس بين الطائفتين الختمية والأنصار قد بلغ ذروته وكل منهما يسعى لزيادة سنده الطائفي ولذلك من أجل أن يظهر السيدين أمام الحكومة بمظهر الزعيم القوي صاحب الأتباع الكُثر وقد كان هذا التنافس يشبع رغبات بريطانيا والتي تشجع مثل هذا التنافس انطلاقاً من مبدأ فرق تسد(3).

بعد الخلاف الذي نشب بين الخريجين حاول الزعيم الأزهري العمل على إرجاعهم للنادي ولم يكن يحب أن يرى التباعد والتشاحن بينهم وكان يردد قول المستر (سمسون) أن هذا النادي سيلعب دوراً هاماً في تاريخ السودان. وبعد انصراف الخريجين عن النادي اتجهوا إلى تكوين الجمعيات الأدبية في أحياء أم درمان وهي جمعيات للقراءة والمناقشة ومن هذه الجمعيات جمعية أبي روف وجمعية الهاشماب والتي نشأت في حي الهاشماب في منزل المهندس محمد عشري الصديق(4).

المحور الثالث : موقف الزعيم الأزهري من اتفاقية 1936م:

بدأت المفاوضات بين بريطانيا ومصر لعقد معاهدة (الصداقة والتحالف) وثم وقعت اتفاقية (1936م) بين الدولتين واتجهت أنظار السودانيين نحو مصر أملا في أن

ص: 249


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحديث، مرجع سابق، ص 462.
2- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص .65
3- بشیر محمد ،سعید، مصدر سابق، ص 38.
4- المصدر نفسه، ص .40-39

تنوب عنهم في الدفاع عن حريتهم وذلك لأن السودانيين لم يكونوا ممثلين كطرف في المفاوضات(1).

لم تُحدث اتفاقية (1936م) تغيراً جذرياً في إدارة السودان حيث إنها استمرت كما هي حسب اتفاقية (1899م) وقد علقت اتفاقية (1936م) مسألة السيادة على السودان ولكنها في الوقت نفسه أعادت لمصر بعض نفوذها الذي فقدته سنة (1924م) وقد سمحت هذه الاتفاقية بعودة أورطه من الجيش المصري إلى السودان على أن تكون تحت قيادة الحاكم العام وبهجرة المصريين الجماعية للسودان. ونصت المعاهدة على أن يعين الحاكم العام ضابطا مصريا ليكون سكرتيراً له واستيعاب المصريين في بعض الوظائف الفنية التي لا يوجد سودانيين مؤهلين للعمل فيها . وارضاءً للشعور الوطني السوداني اضافت المعاهدة نصا مبهما وغامضا فحواه أن الهدف من حكم السودان هو رفاهية أهله دون تحديد لهذه الرفاهية والطرق لتحقيقها(2).

كما نصت الاتفاقية فى الفقرة السادسة عشر من المحضر المتفق عليه بين بريطانيا ومصر إلى أن حكومة مصر ترسل فوراً بمجرد نفاذ المعاهدة ضابطا مصريا عظيما يستطيع الحاكم العام استشارته في الأمور الخاصة بالجنود المصريين الذين يمكن الاستعانة بهم للخدمة في السودان كما تم الاتفاق على تعيين ضابط مصري سكرتيراً حربياً للحاكم العام، كما تم الاتفاق على انتداب خبير مصري اقتصادي للخدمة في الخرطوم لتوثيق الروابط الاقتصادية بين السودان ومصر(3).

اعتبر السودانيون أن تعبير (رفاهية) مائع ومبهم ، الأمر الذي دفع السيد عبد الرحمن المهدي صديق الإنجليز للسفر إلى بريطانيا ومصر ليستوضح معناه ولقد دفعت تلك المعاهدة بالمثقفين والمتعلمين للتفكير في أمرهم بعيداً عن دولتي الحكم الثنائي.

ص: 250


1- عبداللطيف عبدالرحمن لمحات من الحركة الوطنية في السودان، شركة الطباعة والنشر المحدودة، الخرطوم، 1987م ، ص 13
2- حسن أحمد ابراهيم تاريخ السودان الحديث، (18821-1956م)، دار النشر الخرطوم، ط6، 1987م، ص 127- .128
3- يواقيم رزق مرقص، السودان في البرلمان المصري، (1924-1936م)، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، القاهرة 1989م، ص 67

تأثر المتعلمون بكفاح حزب المؤتمر الهندي، واستهواهم أسلوبه في الكفاح السلمي الذي يبعدهم عن الصدام المسلح بعد المرور بتجربة ثورة (1924م) وافتتنوا بشخصية (المهاتما غاندي) ومنهجه (1).

أدرك السيد عبد الرحمن أن اتفاقية 1936م تجاهلت سيادة السودانيين على بلدهم كما وجدت الاتفاقية رفض واضح من المستر (بريدن) (gr. bredin) وهو رجل مثقف تخرج من اكسفورد انضم للخدمة في السودان في العام 1921م وعمل مفتش مركز ثم عمل في مكتب السكرتير الإداري مُشرفاً على الشؤون السياسية ومتخصصا في دائرة المعلومات الخاصة بالمتعلمين، ثم عُيِّن مديراً للنيل الأزرق من عام 1941- 1948م(2).

كانت رؤية الزعيم الأزهري للاتفاقية أنّها صادمة حيث لم يتم أخذ رأيهم في الأمر ولم يتم الاهتمام بهم ولكن هناك نص في الاتفاقية وفي مادتها السادسة عشر يقول (... أنه يمكن للطرفين المتعاقدين أن يدخلا في مفاوضات بناء على طلب أي منهما في أي وقت بعد انقضاء مدة عشرين سنة على تنفيذ المعاهدة، بما يلائم الظروف السائدة حينذاك ...) كما نصت المعاهدة على أنه يمكن في أي وقت بعد إنقضاء مدة عشر سنوات على تنفيذ المعاهدة الدخول في مفاوضات ترضي الطرفين المتعاقدين بقصد النظر فيها(3).

ذكر الزعيم الأزهري أن هذا النص قد ساعد في إيجاد بصيص من الأمل في نفوس السودانيين ولذلك رأوا أن يهيئوا أنفسهم لمواجهة الموقف لإعادة النظر في المعاهدة أو تعديلها ليحصِّلُوا للسودان ما فاته ولقد كان ذلك حافزاً آخر لتوحيد الكلمة والصف مما أدى إلى مولد مؤتمر الخريجين العام(4).

ص: 251


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، ص .470-469
2- محجوب عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 248.
3- بشير محمد سعید، مصدر سابق، ص 51-52
4- المصدر نفسه، ص 52
موقف الأزهري من فكرة مؤتمر الخريجين:

كان موقف الزعيم الأزهري أو رأيه حول مؤتمر الخريجين أنه يعمل على إعادة وحدة الخريجين ولذلك تم أخذها منذ البداية مأخذ الجد، ثم بعد ذلك تنظيم اجتماعات اسبوعية يتم فيها تبادل الآراء حول التنظيم الجديد، كما طلب من بعض الخريجين بواسطة الزعيم الأزهري أن يعملوا على إعداد مذكرات عن فكرة تطرح للمناقشة في النادي، وبعدما تمت دراسة المقترح بصورة مستفيضة تم تدوين الأفكار والمقترحات حول المؤتمر في أوراق لكي يخرج منها مشروع دستور المؤتمر، وقد كان رئيس اللجنة التحضيرية لهذا العمل الأستاذ جمال محمد أحمد ومن الأعضاء البارزين والذين أسهموا مساهمةً فاعلة في الدراسة الدكتور مكي شبيكة الذي كان يمثل في ذلك الوقت سكرتير النادي والأستاذ علي محمد أحمد من أعضاء لجنة النادي ويحي الفضلي وإسماعيل عثمان صالح وخضر حمد وغيرهم(1).

ذكر الزعيم الأزهري أنهم وفي نادي الخريجين عملوا على نشر فكرة الخريجين على نطاق واسع، وعملوا على حشد الناس والحماس له كما كان يرجو أن يحقق هذا المؤتمر وحدة الخريجين وجلب المنفعة للسودان، وكان طموح الزعيم الأزهري جعل المؤتمر مؤسسة تعمل مع النادي وبالتعاون معه لتحقيق الخير العام وخدمة مصالح الخريجين، كما أوضح الزعيم الأزهري أن فريقا منهم كان يرى أن تقتصر عضوية المؤتمر على أعضاء النادي والغرض من ذلك تشجيع الخريجين على العودة إليه بعد أن هجروه، ورأى فريق آخر أن يكون المؤتمر منظمة منفصلة عن النادي، هدفها أن تعد النفوس لمواجهة الموقف عند إعادة النظر في معاهدة (1936م) أو تعديله(2).

بدأت فكرة مؤتمر الخريجين إثر احتفال كلية غردون في العام (1935م) بطلبتها القدامى، حيث إنه كان هناك عرف في الكلية يدعُوا كلَّ عام الطلاب لتجديد الولاء والعهد لها ويتعرفوا على أوجه النشاط الثقافي والرياضي كتب السيد خضر حمد

ص: 252


1- المصدر نفسه، ص 56.
2- بشیر محمد سعید، مصدر سابق، ص 57 .

بعد هذا الاحتفال مقال في عموده (في الهدف) الذي كان يُنشر في ذلك الوقت في جريدة السودان تحت توقيع (طوبجي) اقترح أن يجعل هذا اليوم مؤتمراً تبحث فيه الأمور الهامة التي تتعلق بالبلاد حاضرها ومستقبلها(1).

عقَّب على ذلك المقال الأستاذ أحمد خير المحامي في خطاب بعث به للسيد خضر حمد نشرته جريدة السودان بتاريخ 24 يوليو 1935م اقترح فيه لمن يهمه الأمر علاجا للموقف الحالي في نادي الخريجين واقترح أن يسير النادي بخطوات أوسع ليصبح منارة للخريجين كما نبّه إدارة النادي والذي يمثل الزعيم الأزهري أحد أركانها للدفع بالنادي نحو أفاق أكبر وأرحب والطريق إلى ذلك يكون عبر (مؤتمر الخريجين)(2).

لم تكتف جمعية ود مدني الأدبية بتقديم الاقتراح لإنشاء المؤتمر على لسان الأستاذ أحمد خير المحامي ومناقشته ومن ثم تأييد المقترح في صحيفتي (الفجر)و(النيل) فقد قامت بإرسال أربعة من اعضائها إلى نادي الخريجين في أم درمان حيث سلّموا نص المحاضرة التي نادت بقيام نادي الخريجين للسيد الزعيم الأزهري رئيس النادي، وجد هذا المقترح من قبل الخريجين كل الترحيب وقاموا بالثناء على محاضرة الأستاذ خضر حمد في نادي الخريجين في ود مدني التي اشتملت على أراء صادقة كانت تدور في نفوسهم، ومن الأشياء التي تُحسب لجمعية ود مدني الأدبية أنها صاحبة المبادرة والفكرة لمؤتمر الخريجين والنداء للمهرجان الأدبي ويوم التعليم(3).

يلاحظ أن جمعية ود مدني الأدبية قدمت خدمة جليلة للسودان والسودانيين من خلال المبادرات التي قدمتها، واقتراحها قيام مؤتمر للخريجين، والاحتفال بالمهرجان الأدبي، والاحتفال بيوم خاص للتعليم، كما يرجع الفضل في ظهور هذه المبادرات إلى مجموعة مدرسة أبي روف الأدبية الذين انتقلوا للعمل في ود مدني

ص: 253


1- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص 67.
2- المرجع نفسه، ص .68
3- بشیر محمد سعید، مصدر سابق، ص 55.

واتخذوا من نادي الخريجين في تلك المدينة نقطة انطلاق لنشاطهم الأدبي والثقافي.

كان الباعث الحقيقي للتفكير في قيام مؤتمر الخريجين هو إهمال دور السودان والسودانيين في معاهدة (1936م) بين بريطانيا ومصر، وقد ذكر الأستاذ أحمد خیر المحامي في كتابه (كفاح جيل) أن الدعوة للمؤتمر ما كان أن يكتب لها النجاح لو لم تكن تعبّر عن أماني جماعة من الرجال، كانت تُنتظم الجمعية الأدبية بنادي ود مدني ولقد أُخذت كلمة (مؤتمر) من (المؤتمر الهندي) ويرجع الفضل لجمعية أبوروف أو الأبروفيين في تكوين جمعية ود مدني الأدبية فقد نقل إلى هناك كل من إبراهيم عثمان إسحاق وإسماعيل العتباني وطه صالح وحماد توفيق كما أن صلة الأستاذ أحمد خير بالأبروفيين كانت قديمة (1).

المحور الرابع: قيام مؤتمر الخريجين 1938م:

انعقد الاجتماع التأسيسي للمؤتمر في 12 فبراير 1938م بنادي الخريجين بأم درمان وكان اجتماعاً مشهوداً حضره الخريجون من العاصمة المثلثة ومن الأقاليم القريبة مثل الجزيرة وبعض مناطق النيل الأزرق وعطبرة وشندي، وقد بلغ عددهم 1180 خريجاً، وقد بلغت الحماسة بالمؤتمر قمتها فكاد أن ينفرط عقد النظام لولا تدخل الزعيم إسماعيل الأزهري رئيس النادي ورئيس ذلك الاجتماع حيث تجلت مهارته في إدارة دفة الاجتماع بكل مهارة وحنكة وقد عمل على ضبط حماس الكثرين من المؤتمرين وقد عبر الكثير من الخريجين عن فرحتهم بميلاد المؤتمر وعبروا عن ذلك شعراً ونثراً وقد تغنّى شاعر المؤتمر على نور ببعض الأبيات حركت مشاعر الخريجين حيث قال (2) :

هذى يدي لسماء المجد أرفعها *** رمزاً يشير للمستقبل الحسن

لما نرجيه تحت الشمس من وطر*** وما نفديه بالأرواح من وطن

ص: 254


1- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص 69.
2- دريه عبد الله ،ميرغني مرجع سابق، ص 57

زفوا البشائر للدنيا بأجمعها *** وللعروبة من شام إلى يمن

إِنَّا هممنا وأرهفنا عزائمنا *** على النهوض بشعب للعلا قمن

الله أكبر هذا الروح أعرفه *** إذا تذكرت أيامى ويعرفني

کنا ننمیه سراً في جوانحنا *** حتى استحال إلى الإجهار والعلن

سيطر المؤتمر على مجرى الحركة الوطنية منذ تأسيسه في العام 1938م وحتى العام 1945م هناك عدد من العوامل الداخلية والخارجية ساعدت في التطورات التي شهدتها هذه الفترة والتي منها اتِّساع فرص التعليم الذي أدى إلى تزايد عدد الخريجين وتمركزهم في المدن الكبرى وازدياد مشاركتهم في أجهزة الحكم وأصبحوا يُعرفون بالأفنديّة، كما شهدت هذه الفترة صدور عدد من الصحف مثل جريدة النيل برئاسة عبد الرحمن أحمد وهي ذات ميول مصرية وختمية وفي العام 1939م صدرت جريدة صوت السودان تحت رعاية السيد علي الميرغني وأصدرت الحكومة مجلة (هنا السودان) عام 1940م بغرض مواجهة الدعاية النازية وفي العام 1943م صدرت جريدة السودان الجديد كل هذه الأشياء أعطت للخريجين إحساس التفرد(1).

تركز نشاط المؤتمر في السنوات الأولى حول التنظيم والقضايا الاجتماعية والثقافية والتعليمية كما بدأ محاولات أولية لإبراز بعض القضايا السياسية وكان كل ذلك في جو يسوده الود والاحترام وتشكلت لجان المؤتمر في مختلف المدن الكبرى، وباشرت جمع التبرعات من العضوية وبدأ المؤتمر بأول محاولة للتصدي للقضايا المطلبية مثل القضايا التي تخص الموظفين لكن الحكومة رفضت ذلك واعتبرته تدخلاً في علاقة العمل بين الحكومة والموظفين، كما نبهت المؤتمر إلى أنّه تنظیم قومي لا يمكن أن يحصر نفسه في قضايا فئويّة(2).

صدرت مجلة شهرية باسم المؤتمر وتم اعتماد أربعة أعياد في العام للاحتفال

ص: 255


1- محمد سعيد القدال مرجع سابق، ص 468
2- المرجع نفسه، ص 472.

بها وهي المهرجان الأدبي، وعيد العمال، وعيد يوم التعليم، ويوم السودان الرياضي وتم تنفيذ هذه اللأعياد بالفعل، وكانت تنتقل من مدينة إلى أخرى كل عام، كما دَعَى المؤتمر إلى تخفيض المهور وقتل الشعور الطائفي والقبلي وحارب تعاطي الخمور في بعض النوادي الوطنية وقد نجح في بعض المناطق كما درس المؤتمر أحوال الطلاب السودانيين في مصر فقام بتقديم الإعانات لهم وهيَّأ لهم بيت السودان في القاهرة بجهد شاركت فيه الحكومة المصرية وأصبح المؤتمر وبتفويض من مصر المسؤول عن اختيار الطلاب للدراسة بمعاهدها وجامعاتها فلا يتم قبول الطالب إلا بتوصية من المؤتمر(1).

اتجه المؤتمر كذلك ناحية الجنوب حيث طالب بإلغاء قانون المناطق المقفولة حيث إن هذا القانون ساهم في عزل الجنوب عن الشمال، وطالب المؤتمر كذلك بنشر الدين الإسلامي وتوحيد المناهج الدراسية ورفض توسّع الجمعيات التبشيرية في الجنوب وطالب أن تتولى الحكومة مسؤولية التعليم في الجنوب والشمال. كما نظم المؤتمر مسابقات للدراسات والبحوث عن جنوب السودان تشمل التكوين القبلي والعادات وسبل المعيشة والمجالات الاقتصادية(2).

قدم المؤتمر للحكومة مذكرات ودراسات منها مشروع إصلاح وتطوير المعهد العلمي بأم درمان ومذكرة أخرى عن التعليم في السودان حاضره ومستقبله واقترح في هذه المذكرة أن يكون الاتجاه الأساسي قائماً على الثقافة العربية الإسلامية، لا إلى الثقافة الغربية نسبة لصلات السودان الوثيقة بالعالم العربي. نجحت فكرة يوم التعليم والمهرجان السنوي للمساهمة الشعبية، وكان عيداً شاملاً تنظمه لجنان المؤتمر كل السودان، نجح نجاحاً باهراً حيث تم إنشاء (45) مدرسة وسطى للبنين والبنات و (8) مدارس ثانوية وبذلك أصبح ما قدمه المؤتمر في عشر سنوات أكثر مما قدمته الحكومة في نصف قرن(3).

ص: 256


1- عبد اللطيف عبد الرحمن مرجع سابق، ص 20.
2- المرجع نفسه، ص 21
3- المرجع نفسه، ص 21-22

شجّع الإنجليز قيام المؤتمر، ووقفوا معه، وسمحوا للموظفين من الخريجين الاشتراك فيه وكذلك الكتابة في الصحف على أن تكون معتدلة خالية من العداء للإنجليزي وكانوا يطمحون في قيام حركة سودانية خالصة تبعد عن مصر ولكن تأييد الإنجليز لم يكن مطلقاً حيث كان مقروناً ببعض المخاوف والحذر، وقد ظهر ذلك بصورةٍ جليّةٍ في الرد الرسمي الذي تمَّ به التصديق على قيام المؤتمر. فقد جاء فيه (... ما دامت أغراض المؤتمر ثقافية واجتماعية وما دامت عضويته قاصرة على الخريجين ومادام الخريجون بعيدون عن الخوض في السياسة فالحكومة لا تعترض على قيام المؤتمر...)(1).

وفي إطار العلاقة الجيدة بين الخريجين والحكومة البريطانية وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية أعلن المؤتمر تأييده لبريطانيا وحلفائها وقبل دعوة الحكومة له بتنظيم حملة لتجنيد السودانيين في قوة دفاع السودان وعندما أنشئت إذاعة أم درمان عام (1940م) شارك المؤتمر في إدارتها، وسمح له بإذاعة بعض الأنباء عن نشاطه فيها. وسعت الحكومة البريطانية إلى تسريع التعاون مع الخريجين فشرعت لجنة (دي لأور) التي كُلّفت بدراسة تطوّر التعليم في السودان حيث وصّت هذه اللجنة في تقريرها بزيادة عدد المدارس وإقامة جامعة في البلاد ووجدت هذه التوصيات الترحيب الكامل من أعضاء المؤتمر، وبتوجيه من (استيورت سايمز) أقام الموظفون البريطانيون علاقات صداقة مع بعض المثقفين السودانيين كما أنشأ مركز ثقافي اجتماعي في العاصمة ليلتقي فيه الإنجليز بالسودانيين(2).

بعد أن بدأ المؤتمر فى محاربة القبليّة سلّطت عليه الحكومة البريطانية الإدارة الأهلية لكي تعمل على إضعافه، كما أن مصر شكت في نوايا هذا المؤتمر، ولكي تتأكد من ذلك زار السودان في فبراير 1942م رئيس الوزراء المصري علي ماهر ومنذ هذه الزيارة تحول المؤتمر إلى أداة سياسيّة ثم بعد ذلك علا صوت الطائفية وبدأت بوادر الانشقاق كما ظهر تيار الوحدة مع مصر واستطاعت مصر استقطاب الشباب(3).

ص: 257


1- عبد اللطيف عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 22
2- حسن أحمد ابراهيم، مرجع سابق، ص 130.
3- محمد عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 256.

بعد هذه الزيارة اقتنع علي ماهر أن المؤتمر ليس صنيعة بريطانية بل هو هيئة يمكن التعاون معها ضد الاستعمار البريطاني، كما أن المؤتمر طلب من علي ماهر عون مصر المالي حتى يتمكن من تحقيق أهدافه الاجتماعية والتعليمية وكانت ردة فعل الحكومة البريطانية أنها اعتبرت اتصال المؤتمر بالحكومة المصرية فيه تجاوز لها وأي اتصال بمصر يجب أن يكون عن طريقها وبذلك تدهورت العلاقة بين المؤتمر والحكومة البريطانية عقب زيارة علي ماهر(1).

نشاط الزعيم الأزهري السياسي داخل مؤتمر الخريجين:

بدأ نشاط الزعيم الأزهري في مؤتمر الخريجين منذ نشأته في العام 1938م حيث كان الزعيم الأزهري أحد أعضاء اللجنة التحضيرية التي ضمت مجموعة من النخب السودانية أمثال مكي شبيكة وإسماعيل عثمان صالح وأحمد محمد ياسن وغيرهم، كما تم انتخاب الزعيم الأزهري أول أمين عام للمؤتمر وقام بدوره بإخطار السكرتير الإداري السير (أنجس جيلان) بتكوين المؤتمر الذي رحب بذلك في خطاب رداً على خطاب الزعيم إسماعيل الأزهري واشترط أن يكون هدف المؤتمر خدمي وليس سياسي(2).

أحرز الزعيم الأزهري أعلى عدد من الأصوات الانتخابية وأنتخب سكرتيراً عاماً للمرة الثانية. وعين السيد حماد توفيق سكرتيراً مساعداً والسيد عبد الله ميرغني أميناً للصندوق ولأول مرة أقسم كل من أعضاء الجمعية الستينية القسم التالي (أقسم بالله العظيم وكتابه الكريم بأن أرفع من شأن دستور المؤتمر وأكون مخلصاً له) وتكونت بعد ذلك عدد من اللجان لجنة الشؤون الاقتصادية والاصلاح الاجتماعي والتعليم وشؤون الطلبة والعمال والموظفين والتزمت كل لجنة بمهمة إعداد تقرير وبرنامج عمل كل في مجال اختصاصها(3).

ص: 258


1- حسن أحمد ابراهيم، مرجع سابق، ص 130.
2- محمد عمر ،باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 252-253
3- محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 202.
المحور الخامس: الزعيم الأزهري ومذكرة تقرير المصير 942م:

في العام (1942م) انتخبت لجنة جديدة لمؤتمر الخريجين كان العمل السياسي أول بند في أجندتها، كما أصبح السيد إبراهيم حمد رئيساً. وأعتبر انتخابه انتصاراً للعناصر المرنة غير المتطرفة والمنادين للتعاون مع الإنجليز، كما شهدت هذه الفترة تدخل واضح من قبل السيدين في الشؤون السياسية للمؤتمر كما لم يعد المؤتمر هيئة خاصة بالخريجين وحدهم بل أصبح هيئة متغلغلة في صفوف مؤيدي السيدين، ومن ثم أصبح كل طرف منهما مهتماً ومتأثراً بالآخر وهكذا تكونت القوى الوطنية من أعضاء مؤتمر الخريجين من ذوي الاتجاهات الحديثة والطوائف الدينية التقليدية(1).

قبل انعقاد الدورة الخامسة للمؤتمر حدثت تطورات عالمية وإقليمية هامة كان لها انعكاسها على السودان فقد شهدت الفترة ما بين (1940-1941م) انعطفا هاما في مجرى الحرب العالمية الثانية. فمنذ احتلال إيطاليا لإثيوبيا عام (1935م) ثم اندلاع الحرب في العام 1939 أصبح الخطر الإيطالي يهدد السودان واِحتلت كسلا في العام 1940 واخلتها في العام التالي 1941م وشاركت قوة دفاع السودان في الحرب وعملت على مطاردة القوات الإيطالية بمساندة القوات الهندية حيث إن القوات الهندية خسرت ما بين 4000 5000 مقاتل ووصلت القوات الهندية والسودانية إلى مشارف مدينة كرن الأريتيرية

وتحقق الانتصار الحاسم وظهرت بسالة الجندي السوداني في هذه المعركة (2) .

يذكر أنه وقبل دخول قوات دفاع السودان الحرب إلى جاب بريطانيا لهزيمة القوات الإيطالية في الحبشة وأرتيريا حضرت مجموعة من الضباط السودانيين للسيد عبد الرحمن المهدي وذكروا له أنهم لا يرغبون في دخول الحرب إلى جانب بريطانيا فما كان من السيد عبد الرحمن إلا أن طلب منهم المشاركة في الحرب لأن الانتصار فيها يعنى مطالبتهم بعد ذلك بالاستقلال(3).

ص: 259


1- المرجع نفسه، ص 209
2- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، ص 475.
3- مذكرات الامام عبد الرحمن المهدي مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1996م، ص 60.

كان لمشاركة قوة دفاع السودان في الحرب العالمية الثانية الأثر الطيب في نفوس السودانيين وذلك من خلال مساهمتهم في طرد الخطر الإيطالي عن شرق السودان وبعد مشاركة قوة دفاع السودان بدأ التفكير في اتخاذ خطوات سياسية وهي خطوات دفعت بها رياح الحرب ودور بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وأضف لذلك ظهور الميثاق الأطلنطي الذي بشر بحق الشعوب المستعمَرة في تقرير مصيرها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبذلك أصبح في يد الشعوب المستعمَرة حجة للمطالبة بالاستقلال وبعد ذلك تصاعد احتجاج حزب المؤتمر الهندي الأمر الذي أرغم بريطانيا على ارسال وزيرها السير (كرستوفر كربس) للتفاكر مع حزب المؤتمر حول المقترح المقدم من قبله حول مستقبل الهند، لكن حزب المؤتمر الهندي طالب بالاستقلال الفوري ووقعت الإضطرابات في الهند وتم اعتقال كل من غاندي، ونهرو، وأبو الكلام أزاد ومر (كربس) بالسودان وما زالت أحداث الهند يتردد صداها بعنف والتقى بالأستاذين أحمد يوسف هاشم وإسماعيل اعتباني في مطار الخرطوم. ثم التقى بالسكرتير الإداري (نيوبولد) ونصحه بالتفاهم مع مؤتمر الخريجين(1).

تقدم كل من السيد إسماعيل الأزهري، وعبد الحليم محمد، وعبد الله ميرغني وأحمد خير المحامي بمسودة مذكرة ترفع للحاكم العام، قبلتها اللجنة التنفيذية للمؤتمر على الفور، وقد احتوت المذكرة على عدد من المطالب تتمثل في:

1. اصدرا تصريح مشترك في أقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنجليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير المصير بعد انتهاء الحرب مباشرة.

2. تأسيس مجلس أعلى للتعليم أغلبيته من السودانيين وتخصيص على ما يقل عن 12% من الميزانية للتعليم.

3. تأسيس هيئة تمثيلية عن السودانيين لإقرار الميزانية والقوانين

ص: 260


1- محمد سعيد ،القدال مرجع سابق، ص 475-476.

4. فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية

5. إلغاء قوانين المناطق المقفولة ورفع قيود مزاولة التجارة والانتقال داخل الأراضي السودانية عن السودانيين.

6. وضع تشريع يحدد الجنسية السودانية.

7. وقف الهجرة إلى السودان فيما عدا ما قررته المعاهدة الانجليزية المصرية.

8. عدم تجديد عقد الشركة الزراعية بالجزيرة.

9. تطبيق مبدأ الرفاهية والأولوية في الوظائف من خلال:

أ. إعطاء السودانيين فرصة الاشتراك الفعلي في الحكم بتعيين سودانيين في وظائف ذات مسؤولية سياسية في جميع فروع الحكومة.

ب. قصر الوظائف على السودانيين، أما المناصب التي تدعو الضرورة لملئها بغير السودانيين، فتملأ بعقود محددة الأجل، ويتدرب فيها سودانيون لشغلها في نهاية المدة.

10- تمكين السودانيين من استثمار موارد البلاد التجارية والزراعية والصناعية .

11- وضع قانون يلزم الشركات والبيوتات التجارية بتحديد نسبة معقولة من وظائفها للسودانيين.

12- وقف الإعانات للمدارس الارساليات وتوحيد برنامج التعليم بين الشمال والجنوب (1).

كان لسان المؤتمر يطالب بالحكم الذاتي وكانت حاجة السودانيين للتدريب في الوظائف الحكومية أمراً معترف به من جانب الإدارة البريطانية، أما المطالب الخاصة

ص: 261


1- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص سابق، ص 80-81

بتغيير نظم التعليم والجنوب والبعثات التبشيرية ومشروع الجزيرة فقد كانت مطالب مشروعة بل كانت موضع نقاش بين المثقفين السودانيين من زمن بعيد(1).

كانت أولى ثمار مذكرة (1942م) إدراك الإدارة البريطانية بضرورة اتخاذ خطوات إيجابية بإشراك السودانيين في تصريف شؤونهم العامة ذكر السيد إسماعيل الأزهري أن رد الحكومة على المذكرة وإعادتها للمؤتمر تعتبر أكبر إهانة وجّهت إليه والخريجين، ورد المؤتمر على تصرف الحكومة بإرسال مذكرات للحكومة البريطانية ممثلة في الحاكم العام تمسَّك فيها المؤتمر بمطالبه وقد قام (نيوبولد) بدعوة رئيس المؤتمر السيد إبراهيم أحمد وبعض أعضاء اللجنة التنفيذية لاجتماع خاص ذكر لهم رغم عطف الحكومة على المؤتمر إلا أنها لا تعتبره ممثِّلاً لأهل السودان ولا معبِّراً عن رأيهم وبهذا لا تسمح له بتقديم أي مطالب باسم السودانيين كما حاول السير (دوقلاس ثيو بولد) أن يخفف على المجتمعين من خلال قوله لهم أن الحكومة البريطانية تعمل على إشراك السودانيين في الحكم وهو يأمل أن يجد لدى المؤتمرين التعاون في هذا الصدد(2).

وأشار السير (دوقلاس ثيو بولد) إلى الخطاب الذي تسلّمه المؤتمر في مناسبة تأسيسه وإلى خطابه إلى المؤتمر بتاريخ 20 اكتوبر 1940 والذي يأكد أنّ في حالة طرح المؤتمر نفسه كممثل للسودانيين أو حين يحاول أن يتحول لتنظيم سياسي فإنّ الحكومة ستجد نفسها مضطرة لوقف التعامل معه وربما سحبت اعترافها به(3).

كان رأي السير جيمس روبرتسون أن الحاكم العام (هد لستون) في ذلك الوقت لم يكن موفّقاً في عدم رده على المذكرة وكان عليه أن يرد عليها بلطف وأن يلفت نظر أعضاء المؤتمر لظرف الحرب العالمية الثانية وأنهم لا يمثلون كل الشعب السوداني(4).

ص: 262


1- محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 212.
2- بشير محمد سعید، مصدر سابق، ص 94-95
3- خالد حسین ،عثمان مؤتمر الخريجين ونشأة الاحزاب السياسية كتابات ،سودانية كتاب غير دوري، العدد الخامس أغسطس 1994 مركز الركز الدراسات السودانية، القاهرة، ص 49.
4- جيمس ،روبرتسون السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال (ترجمة) مصطفى عابدين الخانجي، دار الجيل بيروت، 1996م، ص 135.

واضح أن المذكرة قد أحدثت بلبلة بين المؤتمر والحكومة ومارست الحكومة البريطانية بعض الضغط، واتصل السكرتير الإداري السير (دوقلاس نيوبولد) ببعض المعتدلين وأبدى لهم تعاطف الحكومة مع مطالبهم نجح السكرتير الإداري في خطته حيث استمال بعض العناصر لسياسته الناعمة ومنعت الحكومة بعد ذلك الموظفين السودانيين من العمل السياسي وبذلك تكون الحكومة وقد بدأت مرحلة إضعاف المؤتمر الأمر الذي أوصل الحكومة والمؤتمر إلى طريق مسدود، وفي هذا الظرف الحرج ظهر رأي المعتدلين القائل بإعطاء الحكومة البريطانية فرصة لكي تثبت حسن نواياها ووعدها بالتدرج بالسودان نحو الحكم الذاتي ثم الاستقلال(1).

كانت الإدارة البريطانية ترغب في ترويض المؤتمر ولا تريد أن تظهر بمظهر الضعف أمامه أو قمعه ولذلك تسعى إلى أن يسير المؤتمر حسب رغباتها، ورغم أن بعض البريطانيين حاولوا الاتصال بأعضاء المؤتمر لكن رد المؤتمر كان حاسماً في هذا الشأن حيث حظر على أتباعه الاشتراك في مناقشات فردية أو جانبية مع البريطانيين وهكذا تم إغلاق الباب بين الطرفين(2).

بعد اتساع الشقة بين الحكومة البريطانية والمؤتمر شرع المؤتمر في تركيز نشاطه أكثر على الأعمال الإدارية والتنظيمية ومشروعات التعليم وحشد لهذا الأمر الكثير من الأعضاء الجدد من التجار والموظفين وقبل عضويتهم في المؤتمر وشكل مجلس من رجال المال والأعمال ليدعم المؤتمر بتقديم الاستشارات فيما يتعلق بالمسائل المالية والاقتصادية وزادت الإعانات للمؤتمر كما تم إنشاء عدد من المدراس في السودان باسم المؤتمر(3).

برز بعد ذلك معسكرين في المسرح السياسي السوداني أحَداهما معسكر المعتدلين بزعامة إبراهيم أحمد والذي يرى التعاون مع الحكومة رغم إهانتها

ص: 263


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحدیث، مرجع سابق، ص 477.
2- عثمان حسن أحمد ابراهيم أحمد حياة انسان بين الاصالة والتحديث، أفروجراف للطباعة والتغليف، الخرطوم، 1996م، ص .65-64
3- محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 214.

للمؤتمر، والمعسكر الآخر بزعامة الزعيم إسماعيل الأزهري الذي كان يرى عدم جدوى الحوار مع الحكومة ولذلك يجب مواجهتها مواجهة سياسية مباشرة بكل صلابة وقوة وأن ذلك لن يتحقق إلا عبر الإطاحة بقيادة المؤتمر المتمثله، في إبراهيم أحمد ومجموعته(1).

في العام (1943م) تم انتخاب السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للمؤتمر وأمين زيدان سكرتيراً. واستقال العدد المتبقي من المعتدلين في اللجنة التنفيذية وأصبح الطريق مفتوحاً أمام مقترح الأزهري المصادم للحكومة. بعد هزيمة إيطاليا في عام (1943م) أرسلت لجنة المؤتمر برقية للحاكم العام مهنئة الحلفاء بالنصر ومعبرة عن رغبتها في أن تتم الاستجابة للمطالب السودانية في إطار ميثاق الأطلنطي لدى تحقيق النصر النهائي(2).

عندما أحست بريطانيا بنجاح المؤتمر في توجيه الرأي العام ونجاحه كذلك في العديد من المشاريع الاجتماعية والخدمية وميولهم نحو مصر أخذوا يروّجون الإشاعات المريبة ليزعزعوا ثقة المواطن السوداني والمصري حول المؤتمر كما عملوا على إدخال التفرقة بين أعضاء المؤتمر عن طريق الحزبية السياسية(3).

المفاصلة بين الزعيم الأزهري والسيد عبد الرحمن المهدي:

كانت انتخابات مؤتمر الخريجين التي انعقدت في العام (1943م) من أعنف الانتخابات في تاريخه وانقسم أعضاء المؤتمر إلى مجموعة الأشقاء ويساندهم الأبروفيون ويقف معهم عبد الله الفاضل الذي كان يسعى للحصول على مركز سياسي في مواجهة عمّه السيد عبد الرحمن المهدي وابنه الصديق الذي ظهر في المسرح السياسي في ذلك الوقت ويرغب في أن يكون خليفة لوالده. والمجموعة الثانية تحت قيادة محمد علي شوقي ومعه مجموعة من الأنصار الذين يعارضون تحالف عبدالله الفاضل مع الزعيم الأزهري ويقف معهم محمد الخليفة شريف الذي

ص: 264


1- المرجع نفسه، ص .215
2- محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية في السودان ص .216-215
3- محمد نجيب، رسالة عن السودان، المطبعة الأميرية، القاهرة 1943م ، ص 14

رأى أن هذا التحالف يهدد مكانة ابن أخته السيد الصديق وقد حمل هذا الخلاف بدايات نشأة الأحزاب السودانية(1).

بعد اكتساح الزعيم الأزهري للانتخابات حصل على أربعين مقعد في الهيئة الستينية وعلى ثلاثة عشر مقعدا في اللجنة التنفيذية وأصبح بذلك رئيسا للمؤتمر، وحدثت بعد ذلك تحولات سياسية بدأت بفض التحالف بين الزعيم الأزهري وعبد الله الفاضل ،المهدي، وكان فض التحالف نتيجة لتمايز المواقف السياسية لكلا الجانبين، بعد ذلك تأكد للسيد عبد الرحمن أن الزعيم الأزهري والأشقاء ما عادوا يمثلون موقفاً معتدلا من الإدارة البريطانية، وتدخل محمد الخليفة شريف مع بعض شباب الأنصار بعد أن وجدوا الدعم من السيد عبد الرحمن المهدي وطلبوا من السيد عبد الله الفاضل فض الائتلاف القائم مع الأشقاء ونتيجة لذلك استقال عبدالله الفاضل من الهيئة الستينية ومن اللجنة التنفيذية(2).

نتيجة لذلك زاد التعاون بين السيد علي الميرغني والأشقاء الذين ظهر ضعفهم بعد فض تحالفهم مع السيد عبدالله الفاضل، وفي الوقت نفسه كان الأشقاء يهتمون بالتحالفات ذات العائد السريع، ثم بعد ذلك يبحثون عن العمل الجماهيري، بعد ذلك بدأ الاهتمام المصري بالسودان حيث قام السيد إسماعيل الأزهري بزيارة لمصر في الفترة 1943-1942م واتصل بقادتها وبذلك انفتح باب الدعم المصري للأشقاء لمواجهة مقدرات السيد عبد الرحمن المالية صادف ذلك تنبّه السيد علي الميرغني للعلاقة بين السيد عبد الرحمن والإدارة البريطانية وزادت مخاوفه عندما أحس أن السيد عبد الرحمن يرغب في أن يصبح ملكاً على السودان من خلال (قوله .... أنه يفضل أن يرى هيلا سلاسي إمبراطور الحبشة ملكاً على السودان من أن يرى السيد عبد الرحمن ...)(3).

عندما أيد السيد عبد الرحمن حزب الأمة كان من الطبيعي أن يساند السيد علي الميرغني حزب الأشقاء الذي أسسه الزعيم الأزهري في العام 1943م الذي كان

ص: 265


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع نفسه
2- المرجع ص 478-479. سابق، ص .478
3- محمد سعي القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق ص 479.

ينادي بالوحدة مع مصر وكان تأييد السيد علي الميرغني لحزب الأشقاء لأنه يعتبر إحدى الضمانات ضد عودة المهدي مرة أخرى للسودان(1).

وضَّح السير جميس روبرتسون في خطاب بعث به للحكومة البريطانية أنه اجتمع بالسيد علي الميرغني ولامه على دعمه لحزب الأشقاء والزعيم الأزهري وهم حسب تصنيف الحكومة البريطانية لهم هيئة معارضة لها عندها أكد له السيد علي الميرغني وبكل صراحة أنهم طالما يداعبون السيد عبد الرحمن المهدي بالطموحات الملكية فإنه سوف يؤيد أيَّ حزبٍ يعادي السيد عبد الرحمن(2).

ساهم كل من السيد محمد نور الدين والشيخ أحمد السيد الفيل في ربط جماعة الأشقاء (جماعة يحي الفضلى والأزهري) بطائفة الختمية والسيد علي الميرغني(3).

ذهاب الأزهري إلى مصر (وفد السودان 1946م)

عندما تقرر عقد مفاوضات بين مصر وبريطانيا لتعديل معاهدة 1936م رأت اللجنة التنفيذية لمؤتمر الخريجين أن تبعث بوفد إلى مصر بغرض عرض وجهة نظرهم على المسؤولين المصريين والبريطانيين وتكونت لجنة من الممثلين من كافة الأحزاب أسموها (لجنة الأحزاب المؤتلفة) وكان السيد عبد الماجد أحمد رئيساً لها وتم الاتفاق على عدد من النقاط منها :

1. قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحادٍ مع مصر وتحالف مع بريطانيا.

2. قيام لجنة مشتركة نصفها تعينه دولة الحكم الثنائي والنصف الآخر يُعينه المؤتمر.

3. ضمان حرية الصحافة والتنقل والاجتماعات والتجارة.

ص: 266


1- حسن أحمد ابراهيم مرجع سابق، ص 131
2- بشير محمد سعيد، خبايا واسرار في السياسة السودانية (1952-1954م)، دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1993م، ص .52-51
3- عثمان حسن أحمد، مرجع سابق، ص 69.

سافر الوفد الذي تكوَّن من ممثلي الأحزاب السياسية برئاسة إسماعيل الأزهري وسكرتارية عبد الله ميرغني(1).

يعتبر سفر وفد الأحزاب السودانية في العام 1946م تحركاً سودانياً تجاه التوحّد والخروج بالقضية السودانية إلى الخارج وذلك من خلال وفد السودان الممثل لكل الأحزاب السودانية الذي تقرر أن يذهب إلى مصر بغرض الاشتراك في المفاوضات المصرية - البريطانية بشأن السودان أن أمكن ذلك ومراقبتها ومتابعتها أن تعذر على الوفد الاشتراك الفعلي(2).

أخفقت مهمة وفد الأحزاب السياسية الذي ذهب لمصر لمناقشة وضع السودان وذلك بسبب عدم قبول الساسة المصريين إلا لبرنامج حزب الأشقاء بزعامة إسماعيل الأزهري المطالب بالاتحاد مع مصر تحت تاج واحد(3).

موقف الزعيم الأزهري من برتوكول صدقي - بيقن أكتوبر 1946م:

تم الاتفاق بين الحكومة المصرية والبريطانية حول السودان فيما عرف ببرتوكول صدقي - بيفن في أكتوبر 1946م حيث زعم صدقي باشا رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت أنه قد منح مصر السيادة على السودان مما أثار غضب السودانيين خاصة الاستقلاليين حيث فكر بعضهم الاستقالة من المجلس الاستشاري لشمال السودان وأن لا يتعاونوا مع قوم ثبت خيانتهم وغدرهم للسودانيين. أما البريطانيين فقد التزموا أن لا يقطعوا بأمر في شأن مستقبل السودان إلا بعد استشارة السودانيين بالطرق الدستورية(4).

تكونت بعد ذلك جبهة عرفت بالجبهة الاستقلالية ضمت أحزاب (الأمة، القوميين، الأحرار ، الحزب الجمهوري) وقدمت هذه الأحزاب مذكّرة إضافية

ص: 267


1- دريه عبدالله ميرغني، مرجع سابق، ص 86.
2- المرجع نفسه، ص .103
3- محمد عبد الحميد أحمد الحناوي معركة الجلاء ووحدة وادي النيل (19450-1954م) الهيئة المصرية العامة للنشر، القاهرة، 1998م، ص .250
4- عثمان حسن أحمد، مرجع سابق، ص 98.

للحاكم العام تنتقد فيها بروتكول صدقي - بيفن ، ووجدت المذكرة الترحيب من مؤتمر الخريجين الذي يهيمن عليه حزب الأشقاء بزعامة السيد الزعيم إسماعيل الأزهري، وسيّر موكباً ضخماً ابتهاجا به والملفت للنظر أن حزب الاتحاديين عارض البروتكول من خلال ممثله الأستاذ عبد الله ميرغني والأستاذ أحمد الخير المحامي وقد حاولا حَمْلَ الأشقاء وحلفاءهم على معارضة البروتكول ووفّقوا أخيراً في استصدار بيان يعارض البروتكول. بالإضافة للأحزاب السودانية كانت هناك عدد من الأحزاب المصرية التي عارضت البروتكول منها حزب الوفد المصري وقوى اليسار ،المصرية، وفي السودان نظم حزب الأمة عدداً من المظاهرات هاجمت إحداها مقر مؤتمر الخرجين وحطمت أثاثه. وسافر السيد عبد الرحمن لبريطانيا كما سعى لمقابلة الحاكم العام وصدقي باشا لكنه لم يوفق لكن نجح في مقابلة عدداً من الزعماء البريطانيين وإطمأن على حق السودان في السيادة على أراضيه وأنهم سوف يصرون على حق السودانيين وحدهم في تقرير مصيرهم(1).

ساهمت المصدامات التي حدثت بين مؤيدي حزب الأمة والأحزاب الاتحادية سواء في المدن أو الأرياف نتيجة معارضة برتوكول صدقي - بيفن في خلق مرارات عميقة بين الفريقين وأصبحت وأخذت العلاقة بينهم طابع الحدة والتنافر ولما تعذر الاتفاق بين مصر وبريطانيا سواء عن طريق الاتفاق أو مجلس الأمن لجأت بريطانيا إلى الخطط التي وضعتها من أجل التطور الدستوري في السودان والتي تهدف إلى إشراك السودانيين في الحكم من خلال الجمعية التشريعية والمجلس الاستشاري لشمال السودان(2).

ص: 268


1- المرجع نفسه، ص 98-99
2- محمد عمر بشیر، تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ص 222-223
المحور السادس: موقف الزعيم الأزهري من المؤسسات الدستورية 1948م:
أ. المجلس الاستشاري لشمال السودان:

كوَّن نيوبولد لجنة صغيرة من كبار المثقفين بغرض تقديم المشورة له، وكان من نتائج هذه اللجنة تكوين المجلس الاستشاري لشمال السودان في العام 1944م؛ وهو عبارة عن جهاز استشاري يتكون من 28 عضوا يتم تعينهم من المديريات الشمالية فقط. وجد هذا المجلس انتقادات عنيفة من مؤتمر الخريجين لكونه لا يتمتع بأي سلطات تنفيذية ولأنه لا يمثل كل أهل السودان وفي الوقت نفسه يتكون من تشكيل واسع من الأعضاء المعنيين، كما المجلس يناقش قضايا التعليم ومشروع الجزيرة وتعريف من هو السوداني، كانت قرارات المجلس تجد القبول من الحكومة رغم رئاسة ثيوبولد له، وفي الوقت نفسه كان ثيوبولد يحس بالغضب والضغوط الشديدة وهو يدير هذا المجلس وقد ظهر ذلك عليه منذ افتتاح المجلس في مايو 1944م(1).

نص قانون المجلس على أن غرضهُا استشاري وهو تقديم النصح للحكم العام في المسائل التي بحثها المجلس كما أن المجلس جَمَع بين الحكم المباشر وغير المباشر وغالبية عضويته من أعضاء الإدارة الأهلية وقد اقتصر على المديريات الشمالية بحجّة أن أهل الجنوب لم يصلوا بعد المرتبة التي تؤهلهم ليُمَثَّلُوا في المجلس وقد فشل المجلس في أن يكون أداة إدارية فعّالة ولم يوسع المشاركة للسودانيين فيه لذلك تكوّن مؤتمر إدارة السودان واجتمع في أبريل من عام 1946م وأصدر توصية بإنشاء جمعية تشريعية لكل السودان ومجلس تنفيذي(2).

هاجم مؤتمر الخريجين المجلس واعتبره خطوة نحو فصل الجنوب عن الشمال

ص: 269


1- جيمس ،روبرتسون، مصدر سابق، ص 138.
2- فدوى عبد الرحمن علي طه السودان في عهد الحكم الثنائي (1899 - 1956م) ، مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية أم درمان 1997م، ص 53-54

وأنه مجلس وهمي بغير فاعلية يمثل تجمعاً لامتصاص المواجهة الشعبية وتكريساً للسياسية البريطانية التي فشلت من قبل في مصر والهند(1).

ب - الجمعية التشريعية:

اشتد الصراع بين مصر وبريطانيا حول مسألة السودان ولذلك رفعت مصر قضية السودان إلى مجلس الأمن في العام 1947م، وبعد نقاش طويل داخل المجلس تم تعليق الأمر برمته ولم يصدر فيه قراراً قاطعاً. أما الادارة البريطانية في السودان فقد واصلت مساعيها الرامية لتطوير مؤسسات الحكم الذاتي فاقترح الحاكم العام الجديد السير روبرت ها و على مصر وبريطانيا تكوين جمعية تشريعية ومجلس تنفيذي عارض مصر هذه المقترحات، ولكن الحاكم العام أصدر في عام 1948م وبموافقة بريطانيا قانونا كوَّن بمقتضاه الجمعية التشريعية والمجلس التنفيذي(2).

تم افتتاح الجمعية التشريعية في 23 ديسمبر 1948م وتعتبر هذه الجمعية أول برلمان سوداني حسب رأي السكرتير الإداري جيمس روبرتسون(3).

عارضت الأحزاب الوحدوية هذا القانون كما عملت على مقاطعة انتخابات الجمعية التشريعية ونظمت ضدها المظاهرات الصاخبة ولكن الحكومة البريطانية استخدمت القوة لقمع هذه المظاهرات، كما عملت على اعتقال عدد من المتظاهرين على رأسهم الزعيم إسماعيل الأزهري، أما حزب الأمة والأنصار فقد رحّبوا بالجمعيّة التشريعية واشتركوا في انتخاباتها اختلفت الجمعية التشريعية عن المجلس الاستشاري في أنها مثلت السودان كله مما يعني تخلِّي الحكومة البريطانية عن سياستها السابقة الرامية لفصل الجنوب عن الشمال (4).

كانت مشاركة حزب الأمة في الجمعية التشريعية منطلقة من سياسته الرامية

ص: 270


1- محجوب عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 289.
2- حسن أحمد ابراهيم، مرجع سابق، ص 134.
3- جیمس ،روبرتسون، مصدر سابق ص 183.
4- حسن أحمد ابراهيم مرجع ،ابراهیم مرجع سابق، ص 134-135.

للمشاركة في مؤسسات الإدارة البريطانية وذكر عبدالرحمن علي طه أن مشاركتهم تأتي من كونها هيئة دستورية تمكنهم من مواجهة الإنجليز في الداخل ومن الاتصال بدولتي الحكم الثنائي وهيئة الأمم المتحدة إذا دعا الحال كما ذكر السيد عبد الرحمن المهدي أن اشتراكهم في الجمعية يأتي لكونها تمثل فرصة لتدريب السودانيين على أساليب الحكم، وعاد وذكر أن دستورها كان ناقصا وسلطتها مبتورة(1). قاطع حزب الأشقاء كل مؤسسات الإدارة البريطانية ورغم تعديل قانون الجمعية التشريعية إلا أنّهم استمروا في المقاطعة وذكروا أن تعديل قانون الجمعية يزيد الأمر سوءً وذكروا كذلك أن هذه التعديلات والمؤسسات التي يقيمها الاستعمار تهدف إلى إطالة بقائه (2).

مثلت مقاطعة الأحزاب الاتحادية على رأسها حزب الأشقاء للمؤسسات نكسة حقيقية للإدارة البريطانية لأنها كانت تطمح في أن تكون الجمعية أكثر تمثيلاً من سابقها المجلس الاستشاري لشمال السودان، وقد حاولت الإدارة البريطانية إقناع الأحزاب الاتحادية على رأسها حزب الأشقاء بالمشاركة في الجمعية لكن محاولتها باءت بالفشل واستمر رفض حزب الأشقاء للمؤسسات الدستورية وللحكم البريطاني، كما أن الحزب استفاد من هيمنته على مؤتمر الخريجين لبناء سند شعبي قوي ضد هذه المؤسسات (3).

حاول الختمية تقديم العديد من المقترحات للدخول للجمعية التشريعية لكن الزعيم إسماعيل الأزهري أدان أي اقتراحات يقدمها الختمية بعد الدخول للجمعية التشريعية وقال (... لن ندخلها ولو جاءت كاملة مبرأة من كل عيب...) كان بعض الختمية يرغبون في الدخول للجمعية التشريعية . الأمر الذي أدّى لحالةٍ من الفتور بين الختمية والأشقاء وكان السيد علي الميرغني يرغب في أن يحضر الزعيم إسماعيل الأزهري من مصر ويواجه الاستعمار البريطاني من السودان وكان يخشى أن تسلّم بريطانيا السودان للسيد عبد الرحمن المهدي ويصبح ملكا عليه ولذلك عاد الزعيم

ص: 271


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، ص 5050
2- المرجع نفسه،ص 509
3- فدوى عبد الرحمن علي طه مرجع سابق، ص.56

إسماعيل الأزهري من القاهرة ليقود النضال ضد الاستعمار البريطاني من السودان ويحقق الاستقلال المنشود(1).

المصادر والمراجع

جعفر محمد حامد رجال ،وتاريخ وزارة الثقافة والشباب والرياضة سلسلة ثقافية للجميع حصاد للطباعة.

دريه عبد الله ميرغني عبد الله ميرغني، (ب.د)، 1999م.

بشير محمد سعيد، من تاريخ السودان السياسي، الزعيم الأزهري وعصره، مطبعة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1990م.

محمد عمر باشري، رواد الفكر السوداني، دار العالم الاسلامي، بيروت، 1981م، ص 58.

محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحديث (1821-1956)، ط2، مطبعة جامعة افريقيا العالمية، الخرطوم.

محجوب عمر باشري، معالم الحركة الوطنية في السودان المكتبة الثقافية، بيروت، 1996م. عبداللطيف عبد الرحمن لمحات من الحركة الوطنية في السودان شركة الطباعة والنشر المحدودة، الخرطوم.

حسن أحمد ابراهیم، تاريخ السودان ،الحديث (18821-1956م)، دار النشر الخرطوم، ط6، 1987م.

يواقيم رزق مرقص ، السودان في البرلمان المصري، (1924-1936م)، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، القاهرة ، 1989م.

مذكرات الامام عبد الرحمن المهدي، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1996م.

خالد حسین عثمان، مؤتمر الخريجين ونشأة الاحزاب السياسية، كتابات سودانية، كتاب غير

دوری العدد الخامس أغسطس ،1994 مركز الدراسات السودانية، القاهرة.

جيمس روبرتسون، السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال (ترجمة) مصطفى عابدين الخانجي، دار الجيل، بيروت، 1996م.

عثمان حسن أحمد ابراهيم حياة انسان بين الاصالة والتحديث، أفروجراف للطباعة والتغليف الخرطوم، 1996م.

محمد نجيب، رسالة عن السودان المطبعة الأميرية، القاهرة، 1943م.

بشير محمد سعيد خبايا واسرار في السياسة السودانية (1952-1954م)، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1993م.

محمد عبد الحميد أحمد الحناوي معركة الجلاء ووحدة وادي النيل (19450-1954م) الهيئة

المصرية العامة للنشر، القاهرة 1998م.

فدوى عبد الرحمن علي طه السودان في عهد الحكم الثنائي (1899-1956م)، مركز محمد عمر بشير، للدراسات السودانية، أم درمان، 1997م.

ص: 272


1- محجوب عمر ،باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 322-321

أشكال الجهاد والمقاومة إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب

«منطقة دكالة أنموذجاً»
اشارة

انس صنهاجی(1)

عقب قصف الفرنسيين لمنطقة الشاوية (الدار البيضاء وأحوازها) واحتلالها وجعلها نقطة انطلاق لاحتلال المغرب كتب المكلف بالأشغال الفرنسي «سان أولير» (Saint Oulir )إلى وزير خارجيتهم «بيشون» (S.Pichon)، في الرابع من اوغست / آب سنة 1907م، يُطلعه على الوضع بمدينة الجديدة، وعلى ضرورة التحرك لحماية الأجانب من ردود فعل الأهالي بعد قنبلة الشاوية، ملتمساً منه إرسال سفينةٍ حربيةٍ لمرسى الجديدة باعتبار فرنسا هي المخولة بحماية الأجانب، وفي الوقت ذاته، طلب القنصل الفرنسي بالجديدة من قائد الأسطول الفرنسي بالدار البيضاء، إرسال قوات لاحتلال المدينة التي أصبح فرسانها خطراً على الأجانب، خاصة مع إعلان المولى عبد الحفيظ الجهاد، إثر بيعته بمراكش يوم 16 من اوغست / آب سنة 1907م (2)وسيطرة مناصريه على بادية الجديدة ومدينة أزمور، غير أن السفن الحربية

ص: 273


1- أستاذ التاريخ المعاصر - المغرب.
2- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع الفرنسية بدكالة في بداية القرن العشرين ط 2 ندوة علمية بعنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010 ، ص. 146.

الرابضة قبالة المدينة اقتصرت على المراقبة والانتظار، وبمجرد اعتلاء المولى عبد الحفيظ رسمياً سُدَّة الحِكم، تخلّت فرنسا عن الخيار العسكري، وعوّضته بسلاح الاستتباب السلمي عن طريق التحالف مع القواد الضعاف الذين في حاجة إلى من يعزز مكانتهم ويقوّي حضورهم ، ومن هؤلاء القواد الذين رُصِدوا لإنجاز هذه المهمة، القائد عيسى بن عمر، الذي عملت فرنسا مع أمثاله على توسيع نفوذهم وتجميع عدة مناطق تحت سلطتهم. وفي إطار السياسة نفسها استغلت فرنسا الطاعون الذي ضرب إحدى مناطق دكالة، وعينت بعثة صحية لمحاصرة المرض والقضاء عليه، بمعيّة فيلقين يتكونان من الكوم، وعساكر بأحصنة(1).

وهكذا ساقت الظروف الداخلية والخارجية التي استبدت بالمنطقة إلى إجهاض مشروع الاحتلال المباشر لمدينة الجديدة سنة 1907م، والتي من أهمها:

- تقيّد الحكومة الفرنسية بمعاهدات دولية تثنيها عن التوسع والاحتلال.

- نقض قواد الجديدة لبيعتهم للمولى عبد الحفيظ واعترافهم من جديد بالسلطة العزيزية.

- الخوف من تأذي الجالية الأوروبية واليهودية جراء القصف وانتقام الأهالي.

- تكبّد القوات الفرنسية لخسائر جسيمة في حربها مع قبائل الشاوية(2).

ورغم المحاولات التي قامت بها القبائل الدكالية لصد الزحف الفرنسي، فإنها سقطت في الأخير تحت نير الاحتلال، بعدما أبرم السلطان المولى عبد الحفيظ صك الحماية الفرنسية على المغرب في 30 من مارس سنة 1912، لتنطلق بعدها أرتال القوات الفرنسية من الشاوية وتحتل المنطقة.

وقد عاشت مدينة أزمور رد الفعل عينه الذي شهدته مدينة الجديدة، الأمر الذي

ص: 274


1- A.N.R, Carton n°P15, Lettre à monsieur le contrôleur civil chef de la circonscription des Doukkala, 1919, p. 2.
2- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، صص. 150-151

دفع الجنرال «داماد» (Damad) إلى استغلال الفرصة والتفكير إجرائياً في جعل أزمور في تماس مباشر مع قوات الاحتلال الفرنسي على طول واد أم الربيع، وتأمين الحدود الشمالية الغربية للشاوية (1)فخرج يوم 27 من يونيو سنة 1908م، يقود طابوراً فرنسياً من البيضاء وبرشيد قوامه 2000 جندي، وبعد وصوله في 30 من يونيو، وجد أبواب المدينة مغلقة، والمراكب المستخدمة في عبور النهر مربوطة على ضفته اليسرى. وقد شهدت أزمور قبيل وصوله هجوماً في صباح اليوم عينه من قبل وحدات ،عزيزية، غير أن المدافعين عن المدينة ردّوها على أعقابها وغنموا ما كان معها من مدافع ومعدات.(2)وقد آزرت قوات «داماد» (Damad) طرادة فرنسية رابطت على مصب النهر بقيادة الأميرال ( فليبير) (Filiper)، وبعد مفاوضات قصيرة، اضطرّ القائد الحفيظي حسي الكلاوي إلى مغادرة المدينة صحبة جنوده صوب مراكش. وهكذا فتح المجال إلى دخول القوات الفرنسية دون قتال.

وقد استند التدخل الفرنسي في مدينة أزمور، على جملة من المسوغات، والتي من أبرزها:

- تجفيف منابع الأسلحة المهرّبة لصالح الثورة الحفيظيّة .

مساعدة المخزن العزيزي لاستعادة أزمور.

تأمين الاتصالات والمبادلات التجارية بين الجديدة والبيضاء.

حماية مصالح الأجانب ومحمييهم المغاربة على وجه الخصوص(3).

التضييق الذي أصبح يتعرض له الفرنسيون بأزمور(4).

ص: 275


1- الشياظمي ((محمد)، أزمور بعد الجلاء البرتغالي سنة 948/1541، معلمة المغرب»، ج 2، م.س، ص. 360.
2- B.E.S, Azemmour, vol VI, n°16, Avril 1937, p. 116.
3- الهيوز) بديعة ، موقف فرنسا من احتلال داماد لأزمور من خلال وثيقة غير منشورة ندوة علمية تحت عنوان: أزمور حاضرة دكالة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الجديدة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص. 127.
4- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص ص 152 - 153.

وما لبثت قوات «داماد» أن دخلت المدينة حتى انسحبت منها، بعد ما جاءها الأمر بالعودة فوراً إلى قاعدتها بالشاوية، وبالفعل ففي السادس من يوليو سنة 1908م، تحركت القوات في اتجاه خط العودة(1) ، بعدما تركت حراسة بحرية مستقدمة من الرباط، ومحلة عسكرية مخزنية قوامها 400 عسكري (2)، هذا بالإضافة إلى مجلس بلدي محلي، يضم 13 عضوا مهمته مساعدة العامل الجديد على تسيير شؤون المدينة.

وكان من بين أبرز البواعث التي دفعت «داماد»، إلى الانسحاب من المدينة هي:

- اعتبار هذا الاحتلال نقضاً لمبدأ الحياد الذي التزمت به فرنسا في إطار الصراع بين الأخوين.

- خرق فرنسا للفصل الأول من ميثاق الجزيرة الخضراء، الذي لا يُجيز للشرطة الفرنسية التدخل في ميناء أزمور(3).

كما أصدرت الحكومة الفرنسية مجموعة من المبررات التي حاولت من خلالها إخلاء مسؤوليتها المباشرة وهي:

- إصدار تقرير يبين فيه عدم رضاها عن عمل قائدها «داماد».

- مراسلته وتذكيره أنه لا يسمح له بعبور أم الربيع.

- الانسحاب فوراً من المدينة إلى مركز أعماله (الشاوية).

لكن يبدو أن السبب الرئيس والمنطقي لانسحاب «داماد» من أزمور، هي الأزمة التي كانت ستتفجر بين فرنسا وألمانيا جراء ذلك(4) الأمر الذي أجبر القيادة الفرنسية (5)إلى تسفيه عمل «داماد»، واعتباره خارج حدود الأوامر والاتفاق.

ص: 276


1- Bellaire) M,(Villes et tribus..., t 1, op. cit., p. 64. op.cit.,
2- B.E.S, Azemmour ), vol VI, n°16, Avril 1937, op.cit., p. 56.
3- الهيوز بديعة ، موقف فرنسا ...، م.س، ص. 127.
4- الهيوز ) بديعة ( ، موقف فرنسا ...، م.س، ص. 128
5- نفسه.

وفي غمرة ذلك استغل القائد التريعي هذه الأحداث المستجدة، وقام بقيادة هجوم ضد العزيزيين في المدينة، تكلل بإسقاط سلطتهم والقضاء على عاملهم الذي قتل مع نجله، ثم مُثِّل برأسيهما على أبواب مدينة أزمور(1)، كما قام القائد التريعي باعتقال ثلاثة أفراد من قبيلة الحوزية كانوا يوالون غرماءه، حيث رمى الأول في بئر سحيق، وأحرق الثاني، وقتل الثالث رمياً بالرصاص(2)، ولم يقف عند هذا الحد، بل نكّل بكل من ثَبُت تورّطه مع السلطة المندحرة(3). وهكذا أصبحت أزمور مركزاً سياسياً وعسكرياً متقدما لمواجهة العدو الفرنسى من جهة الشاوية(4)بعدما فشلت محاولة الاحتلال الأمر الذي فرض واقع سياسة شد الحبل بين السلطات الفرنسية والمقاوميين الدكاليين حتى فرضت الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912م(5).ليبدأ فصل جديد من الصراع الفرنسي - الدكالي، تصدر بطولته القائد التريعي.

ففي 23 من يوليو من السنة نفسها احتل الكولونيل «مانجان» (Mangin) مدينة أزمور، وجعلها نقطة مركزية لعمليات «التهدئة» بدكالة، حيث استهل إجراءاته بالمنطقة ب- :

* جعل دكالة والشاوية تحت إدارة واحدة.

* إخضاع المنطقة بالطرق السياسية.

* تجنب قدر الإمكان التدخل العسكري.

* القضاء على القائد التريعي وشيعته.(6)

فقبل غزو مانجان ( (Mangin) بشهرين ونيف مدينة أزمور، دخل القائد التريعي

ص: 277


1- ميشوبلير، أزمور وضواحيها، م.س، ص. 83.
2- Feucher)Christian(, Mazagan (15141956-), l'Harmattan, Paris, 2011, p. 179.
3- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 155.
4- B.E.M, « Azemmour, vol VI, n°16, Avril 1937, op.cit., p.116.
5- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 152.
6- A.N.R, Carton n° P15, Lettre à ..., op. cit., p. 3.

تحت حماية القنصلية الإسبانية بمساعدة كاتب القنصلية ديجول (Dujol) ، ووساطة اليهودي المغربي جوزيف راهون (Joseph Rahon)، ورغم المعارضة التي أبدتها الإدارة الفرنسية، ووزراء مغاربة أمثال محمد الجباص، فإن إسبانيا رفضت بشدة سحب هذه الحماية (1).

وبمجرد ولوج «مانجان» المدينة، اتّجه مباشرة صوب قصبة القائد التريعي لإسقاط آخر معقل يمكن أن يهدد الوجود الفرنسي بالمنطقة (2). غير أن رد فعل القائد كان سريعاً، حيث تسلل إلى دار اليهودي سيكسو) (Siksou) التي كانت على مقربة من مدينة الجديدة ليلة الثالث من اوغست / آب سنة 1912م،(3) ما دفع «مانجان» إلى تعقبه ومحاصرة ملجئه، هذا الإجراء جعل القنصل الإسباني يستشيط غضبا،ويحتج بشدة على الخارجية الفرنسية، بحكم أن القائد التريعي هو محمي إسباني، وأي تصرف ضده هو فعل خارج عن القانون(4).

وفي الخامس من غشت حاول مؤيدو القائد التريعي على الساعة التاسعة ليلا اقتحام الجديدة لتخليصه من الحصار فوقعت اشتباكات بينهم وبين الرماة ،الفرنسيين استمرت زهاء إحدى عشرة ساعة،(5)وفي اليوم الموالي قاد «مانجان» حركة ضد المهاجمين، معزّزاً في الوقت نفسه حصاره بفرقة من الرماة، (6)وفي التاسعة ليلاً عاود الغريمان التراشق بالرصاص لمدة عشر دقائق، دون أن يُسفر ذلك عن أي نتيجة(7).

وفي السادس من الشهر نفسه أصبحت جل المتاجر والمؤسسات البنكية

ص: 278


1- ركوك (علال)، المقاومة وأحداث من التاريخ الإجتماعي في الأدب الشفوي المغربي (1890-1956)، منشورات المندوبية السامية لقدماءالمقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة بني يزناسن ،سلا، 2001، ص 203.
2- للتوسع في الموضوع ، أنظر مجلة المناهل العدد 90/89، السنة 2011، ص. 213. .A.N.R, Carton n°P15, Lettre à..., op. cit., p. 3
3- Feucher)Ch,(Mazagan, (1514- 1956), op. cit,. p. 179.
4- Idem.
5- Idem.
6- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 156.
7- Feucher)Ch,( Mazagan (1514- 1956), op. cit., p.180.

والتجارية والإدارية خدماتها معلقة وسكان المنطقة متقوقعون في منازلهم، بعدما توجَّسوا من الاستعدادات العسكرية المتأهبة لاقتحام ملجأ القائد التريعي، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فبعدما نال التعب والقيظ والنوم من انتباه الجنود المحاصرين اندفع الفارس المغربي في الواحدة بعد الزوال، محفوفاً ببعض رجاله وهو يشق صفوف جنود «مانجان»، حاملاً ابنه الصغير في إزار معقود بطوق حزامه(1). ونظراً للمفاجأة والارتباك الذي أصاب الجنود، خابت كل الطلقات النارية التي سددت صوبه (2)، وإثر ذلك استطاع القائد التريعي الإفلات من قبضة «مانجان»، غير أن بعض أتباعه قبض عليهم، فحكم على خمسة منهم بالقتل واثنين بالسجن(3)، في حين ظل مصير القائد التريعي يكتنفه الغموض، فهناك من أورد أنه انخرط في الجهاد ضد الفرنسيين إلى جانب أحمد الهيبة، وشارك في معركة سيدي بوعثمان وهناك من أشار إلى مشاركته في الجهاد إلى جوار موحا أوحمو الزياني بالأطلس المتوسط(4)، ثم انتقل بعد ذلك إلى سوس ونزل في ضيافة القائد العربي الدردوري لكن ملاحقة الباشا الكلاوي له دفعته للفرار إلى تزنيت ثم إلى الصحراء وبعدها إلى كرسيف، ليحط رحاله أخيرا في بني وبالضبط بمنطقة بواوزغت حيث وافته المنية بها سنة 1929م(5).

وهكذا يتضح أن تصفية القائد التريعي والمقاومة التابعة له، كانت من أولويات الحملة العسكرية على دكالة، وذلك من أجل تصفية الأجواء للمشروع الكولونيالي بالمنطقة وصرف النظر عما قامت به فرنسا من خروقات حيال ميثاق الجزيرة الخضراء ومن تعسفات اتجاه الساكنة (6).

وبعد أن نجح «مانجان» في تصفية أو إبعاد خصومه من جهة دكالة، بدأ يتطلع إلى

ص: 279


1- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 156.
2- ركوك ) علال ( ، المقاومة وأحداث...، م.س، ص. 204.
3- جريدة السعادة، حادثة الجديدة، العدد 579 ، الأربعاء 10 اوغست / آب 1912، ص. 3.
4- دوتوي (جان)، ترجمة عوام (عبد اللطيف) ، ( إعلان الحماية على مدينة آزمور»، مجلة المناهل، ع 31 يونيو 2011، ص 243.
5- ركوك ) علال ( المقاومة وأحداث، م.س، ص. 204.
6- دوتوي ) (جان)، إعلان الحماية ...، م.س، ص. 243.

إخضاع كل هوامشها المتاخمة لمدينة مراكش، منتهجاً سياسة بقعة الزيت المعتمدة على التوغل السلمي، وقد استهل عمله بالاتصال بعم السلطان الشريف العمراني، لإقناع القواد الناشزين الامتثال لسلطة الحماية مقابل مبالغ مالية وامتيازات سياسية (1). لكنه لم يكن في مستوى المهمة، حيث كان يقضي معظم وقته في أبناك الجديدة يعد الدورو(2).

مجمل القول إن تضافر مجموعة من العوامل والحيثيات جعلت منطقة دكالة على وجه الخصوص، تسقط لقمة سائغة في متناول المستعمر الفرنسي، ويُعزا ذلك بالأساس إلى واقع الإمكانيات المتباينة بين الغريمين على أكثر من صعيد، ما فرض

خضوع منطقة دكالة لإدارة الاحتلال بمنطق الغالب.

وإذا كانت مناطق مغربية معروفة، استأسدت في الدفاع عن مجالها مثل منطقة الريف، والأطلس المتوسط .... فلأن ظروفها أنتجت أولاً قيادةً حصيفةً واعيةً بقضيتها وإمكاناتها، ثانياً استقرارها بمناطق تغلب عليها الحواجز الجغرافية، ما يجعلها صعبة الاختراق وهذا ما يفتقده المجال الدكالي فالمعلوم أنه بعد اختفاء القائد التريعي، فُقد من ينهج نهجه أو يُتم ما بدأه ، بل على العكس من ذلك، سارع جل قواد دكالة للاستسلام للسيد الجديد، إما حفاظاً عن مواقعهم الاجتماعية أو القبلية ...، أو طلباً للسلامة.

وانطلاقاً من هذه الاعتبارات نستنتج أن المقاومة الدكالية إيَّان هذه الفترة، اتّسمت بالضعف والتسليم لأسباب عدة يمكن إجمالها في:

* طغيان الطابع السهلي المنبسط، الذي جعل المجال فاقداً للمناعة التضاريسيّة والمصدّات الجغرافية (3)، الأمر الذي جعل كل تحرك دكالي مسلح هو ضرب من ضروب الانتحار.

ص: 280


1- Feucher(Ch), Mazagan (1514- 1956), op.cit., p. 181.
2- A.N.R, Carton n°P15, Lettre à ..., op. cit., p. 4.
3- جمال عبد اللطيف المجال الجغرافي والمقاومة المسلحة نموذج منطقة دكالة ، ط2، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط 2010 ص53.

* تواضع القدرات العسكرية وقِدم المعدات الحربية الدكالية.

* غیاب قيادة كاريزمية تلتف حولها القبائل الدكالية لقيادة غمار المقاومة.

* سيادة المصالح الذاتية الضيقة لبعض النخب الدكالية.

فضعف المقاومة الدكالية لأسباب جغرافية وعسكرية، ليس وليد مرحلة الحماية بل بدأ منذ الاستعمار البرتغالي للمنطقة، حيث يؤكد الباحث أحمد بوشرب، أن دكالة المنطقة الوحيدة التي استطاع البرتغاليون الحصول فيها على مكتسبات سهلة، مع باقي مناطق الساحل المغربي،(1) والسبب في والسبب في اعتقاده هي التضاريس المنبسطة، وكثافة السكان القريبة من الثغور التي سهّلت على المستعمر مهمّة التحكم في المنطقة، حيث يقول:«لم تكن القبائل تجد مأوى تلجأ إليه، ذلك أن الجبل الأخضر، وجبال بني ماكر غير منيعة ...» وبهذا تكون دكالة فاقدة لعامل وازن استفادت منه قبائل الشمال على وجه الخصوص، وهو قرب الجبال المرتفعة من الثغور المحتلة،(2)هذا فضلاً عن التفوق الواضح للبرتغاليين من حيث نوعية السلاح المستعمل، والذي كان نارياً، في الوقت الذي كان فيها السلاح الدكالي بدائياً.(3)

1- خيار المقاومة السلمية بدكالة ظروفها وأساليبها (1930- 1952)

1 - الحركة الوطنية بدكالة وتدابيرها في مواجهة الحماية: سجّلت منطقة أولاد فرج أول انتفاضة ضد الاستعمار الزراعي، وذلك عقب صدور ظهير التحفيظ العقاري سنة 1914م ، غير أن آلة القمع الكولونيالية استطاعت محقها في مهدها(4). وقد جدّت الحركة الوطنية في المدن منذ فرض الحماية على دعم المقاومة المسلحة في البوادي

ص: 281


1- بوشرب (أحمد) ، دكالة والاستعمار ...، م.س، ص. 10.
2- نفسه، ص.22
3- جمال عبد اللطيف)، المجال الجغرافي...، م.س، ص. 52.
4- A.N.R, Carton n°F 160, Une lettre de chef de l'annexe de Sidi Benour à monsieur le contrôleur civil chef de la circonscription des Doukkala, 1919, p. 4.

والأرياف بالأسلحة والعتاد وفي هذا الصدد تشير التقارير الفرنسية الصادرة سنة 1915م، أن سلطات الاحتلال نجحت منذ اندلاع الحرب الكونية الأولى من کشف مكامن الذخائر والعتاد في مدينة الجديدة وأحوازها، وإعدام كل من تبث تورطه في جلبها أو تخزينها أو التستر على مخابئها، وعليه تم إصدار أحكام الإعدام بمحكمة الدار البيضاء العسكرية سنة 1916 في حق 38 مقاوماً دكالياً، وكل العملاء والمجندين المتعاونين معهم من الجنسيات الألمانية والسويسرية والإسبانية، التي نشطت بقوة في خلايا منظمة غداة الحرب، بغاية إضعاف الجبهة الداخلية الفرنسية وإرباكها وزعزعة استقرارها وهزمها من الداخل(1).

وقد أدّى انهزام المقاومة المسلحة بمنطقة دكالة سنة 1912م، واندحارها في الريف وجنوب المغرب إلى نهج خيار المقاومة السياسية كسبيل لنيل الاستقلال وقد استهل هذا النهج حضوره مع الظهير البربري سنة 1930م، الذي بلور معارضة حضريّة أغلبها من الشباب المثقف، عبر تأسيس أول حزب سياسي مغربي باسم كتلة العمل الوطني سنة 1934م، غير أنه انقسم على نفسه إلى حزبين سنة 1937م: الحزب الوطني الذي تحول إلى حزب الاستقلال سنة 1943م، والحركة القومية التي تحولت بدورها إلى حزب الشورى والاستقلال سنة 1946م، فما بين 1934 و 1937م، تمكنت حركة المعارضة من استقطاب بورجوازية صغرى من الصناع والتجار التي كانت ظروفهم صعبة، فتمخض عن ذلك انتفاضة جماهيرية اشتعلت شرارتها في جميع المدن المغربية، عقب تحويل مياه نهر بوفكران الذي كان يزود أحياء مدينة مكناس ومساجده لفائدة الكولون، غير أن هذه الانتفاضة انتهت في أواخر سنة 1937م، إثر القمع العنيف الذي حاق بها، والاعتقالات التي تعرضت لها قيادات الحزب الوطني (2)، الأمر الذي جعل اللجنة التنفيذية للحزب بالرباط، تعقد مؤتمراً مساء يوم من أكتوبر سنة 1937م بحضور فروع المدن المغربية، لإعلان نهج المقاومة الفعالة ضد سياسة الحماية الجائرة، والدفاع عن الحريات المغربية، لكن

ص: 282


1- محمد البكراوي، تساؤلات وملاحظات حول العمل الوطني المغربي قبل ،1930 ندوة علمية دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب دار أبي رقراق منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير، ص 58.
2- عياش (ألبير) ، المغرب والاستعمار ...، م.س، ص ص. 388 - 394.

في يوم 25 من أكتوبر ، أصدر المقيم العام قراراً بإلقاء القبض على علال الفاسي ونفيه إلى الكابون ثم إلى إفريقيا الاستوائية، أما محمد اليزيدي وعمر عبد الجليل وأحمد مكوار فنقلوا إلى مراكز مختلفة في الصحراء المغربية(1).

ولم تكن أسباب الاستياء والتذمر تنقص البورجوازية الحضرية الصغرى، لأن الرخاء الذي أحست به بعد الحربين كان عابراً، ولذلك تفاقمت المشاكل التي كانت تعاني منها بسبب الأزمة التي أضعفت في الوقت نفسه الاقتصاد العالمي، أما أوضاع الصناع الذين مثلوا وقتها أكثر من ثلث سكان المدن فقد أصبحت صعبة للغاية، حيث كانوا يعانون من مزاحمة المواد المصنعة المستوردة، ومن ضياع الأسواق التقليدية مثل الجزائر والسنغال، هذا فضلا عن تقلص القدرة الشرائية لزبنائها القرويين والحضريين. أما اليد العاملة المستخدمة في الأوراش التي فتحت خلال فترة الازدهار، فقد سرحت أو خفض عددها، وأجورها أصبحت لا تكفيها لسد رمقها، أما الفلاحون الذين تعرضوا من قبل لنزع أراضيهم، فقد تأثَّروا بالتدهور الكبير لأثمان المنتجات الزراعية ونوائب الأوبئة، كما تعرض سكان الجبال للتفقير

نظرا لاندماجهم في اقتصاد السوق، ولم يعد بحوزتهم أي مصدر للعيش(2).

لقد كان لحالة ضيق العيش المعمّمة هذه انعكاسات على التجارة وبصورة خاصة تجارة التقسيط فأصبح التجار إلى جانب الصناع يعانون من الكساد، وكان المثقفون الذين ينحدرون في معظمهم من هذه الأوساط الحرفية والتجارية، يكابرون بدورهم من مشاكلهم الخاصة، حيث وجد معظم هؤلاء أنفسهم وقد تلقوا تعليما تقليديا في الزوايا وفي جامعة القرويين - مبعدين من المناصب الإدارية التي كانت قبل الحماية بمثابة التتويج الطبيعي لدراستهم، وقد وُجد بجانبهم شباباً تلقوا تعليماً عصرياً في الثانويات الفرنسية - الإسلامية، وسمح من المحظوظين منهم بولوج ،المعاهد، ثم الذهاب لمتابعة دراستهم العليا في باريس، وهناك كانوا يتصلون برجال

ص: 283


1- الفاسي (علال)، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي دار الطباعة المغرب تطوان دون تاریخ ص ص. .220-218
2- عياش (ألبير ) ، المغرب والاستعمار ...، م.س، ص. 389.

السياسة من اليسار، غير أن علاقتهم بطلبة شمال إفريقيا كانت أوثق، كما أنهم تأثروا بتيارات الفكر التي اجتاحت شعوب الشرق الإسلامي ، وقادتهم إلى مواجهة الإمبريالية الغربية(1). وقد كان من هؤلاء الأفذاذ، نخبة من الوطنيين الجديديين المنحدرين من أصول فاسية ودكالية وسوسية (2)منخرطة في أنشطة الكتلة الوطنية سواء في اجتماعاتها الوطنية، أو في تحقيق أهدافها على المستوى الجهوي ، حيث كان من بين المؤسسين للعمل الوطني بالجديدة أسماء في مقدمتها: عبد الرحمان المسفر، قاسم العراقي، عبد السلام السراج، عبد الواحد التازي، عبد القادر جسوس، عبد الرحمان جسوس، أحمد الحلو الشيخ محمد المسفر، الحاج عبد الله خالد يحي، الطالب بنجلون، عبد الواحد القادري(3). وكان قاسم العراقي - مندوب فرع حزب الاستقلال في الجديدة - على رأس الحركة الوطنية بالجديدة، إذ كان يملك مكتبةً (النجاح) لم يتورع في تحويل مرأبها إلى مخزن للمناشير، ومكمنا لتوزيعها على الساكنة وأصحاب الدكاكين حين تفرض الضرورة ، وهذا ما جعل نصف حياته يقضيها بين السجن والتحقيق، الأمر الذي جعله مثار تقدير وإكبار من لدن ساكنة الجديدة وأحوازها، وحسبنا في ذلك ما قاله في حقه حسن هيكل (مدير مدرسة التهذيب الخاصة إبان الفترة المدروسة) مشيداً بالقول: إن الرجال مثل قاسم العراقي قليل وأمثاله يشكلون ثروة وطنية(4). وبعد تأسيس حزب الاستقلال رسمياً سنة 1944م استمر هؤلاء الرواد - باستثناء عبد السلام السراج الذي انضم إلى حزب الشورى والاستقلال - يناضلون ضمن فرع الحزب في الجديدة، الذي تشكل مكتبه على المنوال التالي:

* قاسم بن العربي العراقي: كاتب الفرع

* إدريس بن امحمد بن إدريس المسفر : الكاتب الثاني

ص: 284


1- نفسه صص. 389-390.
2- عز الدين) التاريخ الشفوي، المجلد الثالث منشورات المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، جسوس بيروت، 2015. ص.237
3- المسفر (إدريس)، صفحات من تاريخ الكفاح الوطني بالجديدة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2005، ص ص. 17-27.
4- جسوس (عز الدين) التاريخ الشفوي، م.س، ص.237

* عبد الواحد بن مولاي اليزيد القادري : أمين الصندوق.

* أحمد بن بوشعيب بن الجيلالي الزموري: مستشار

* عبد الله بن محمد الجيلالي: مستشار

* بوشعيب بن علال بن مبارك العيادي عضو رئيسي

* بوشعيب بن علال بن الحاج أحمد: عضو رئيسي

* عبد الرحمان بن الجيلالي بن علي عضو رئيسي:

* محمد بن الطاهر بن الحاج أحمد: عضو رئيسي

* أحمد بن بوشعيب بن لحسن فرجي: عضو رئيسي

* محمد بن عزوز بن عبد الكريم بنكيران عضو رئيس(1).

وعلى غرار ما كانت تقوم به الحركة الوطنية بمختلف فصائلها في أقاليم المغرب، قام عبد الرحمان المسفر والقاسم العراقي، بإنشاء مدرسة حرة بالزاوية الناصرية بدرب الطويل خلال سنة 1937م وهي المدرسة التي تحولت إلى مدرسة التهذيب على يد قاسم الزهيري وأسس عبد السلام السراج مدرسة أخرى بشارع الزرقطونى، وأنشأت مدرسة ثالثة على يد عبد الرحمان المسفر والحاج عبد الله يحي خالد وإدريس المسفر سميت بمدرسة الصفا الحسنية سنة 1945م. وكانت هذه المدارس الحرة، إلى جانب منظمة الكشفية الحسنية، والفرق المسرحية والموسيقية، بداية للعمل الوطني المنظم ، حيث كان الهدف منها تعليم أبناء المدينة وخاصة الأسر الفقيرة منها المحافظة على الهوية العربية الإسلامية، وزرع روح الوطنية والاستقلال في نفوس النشء الصاعد.

وقد جاء التعليم الحر كرد فعل على السياسة التعليمية الكولونيالية، التي كان من

ص: 285


1- المسفر (إدريس) ، صفحات من تاريخ الكفاح الوطني بالجديدة، م.س، ص 126

بين أهدافها خلق متعلم مفتون بالثقافة الفرنسية وقيمها الحضارية، وهذا ما دفع بعض مناضلي الحركة الوطنية منذ سنة 1919م إلى فتح ورعاية مدارس خاصة بالتعليم الحر، بغية محاربة الجهل وبث الروح الوطنية، وتعميق الشعور بالمواطنة ودعم الحركة الوطنية، وكانت المدرسة التي أسسها محمد باليماني الناصري في الرباط سنة 1919م، فاتحة هذه التجربة المتميزة، لتعرف مدن ،سلا، فاس، الدار البيضاء، مكناس، أسفي مراكش الصويرة، تطوان، بركان الجديدة... التجربة نفسها. وفي ثلاثينيات القرن العشرين دخلت الحركة الوطنية على الخط، فتوسع الاهتمام بفتح مدارس حرة كسبيل لإثبات الذات والتصدي للمخططات الكولونيالية في المجال التعليمي، ورغم ما أدته هذه المدارس من دور في إعداد وتعبئة نخبة واعية ومثقفة، قادرة على مجابهة استبداد الحماية ،وأنصارها فإنها عانت الكثير من المشاكل الهيكلية والتنظيم، كما كانت مقراتها وبرامجها فضلا عن روادها ومعلميها وأساتذتها عرضة لمضايقات سلطة الحماية ورقابتها (1)، وكان اقتصارها في الغالب على الأقسام الابتدائية، نقطة ضعف مركزية في هذه التجربة التعليمية، ومدعاة لانخراط تلامذتها في الثانويات الفرنسية، كما أن هذه المدارس ورغم الجهود التي بذلت، ظلت قاصرة عن تغطية كل المراكز والقرى المغربية(2). وقد احتضنت مدينة الجديدة مدرستين حرتين خلال الفترة المدروسة، الأولى باسم مدرسة التهذيب، والثانية باسم مدرسة الصفاء الحسنية التي عانت الأمرين قبل خروجها إلى حيز الوجود.

وتقرر تأسيس مدرسة الصفاء الحسنية في اجتماع للجنة التعليم التابعة لفرع حزب الاستقلال بالجديدة، لاستيعاب تلاميذ الحي الفقراء البالغين سن التمدرس، وقد أحدث لهذا الغرض لجنة لتنفيذ مشروع المدرسة تحت إشراف الحاج عبد الله بن ابراهيم، وخالد يحيى، وإدريس المسفر، وبعض وجهاء الحي الذي من بينهم الحاج عبد الرحمان الحنصالي، وعبد الرحمان ،الحمري والحاج أحمد الحمري، ومحمد

ص: 286


1- المحمودي (أحمد) ، حول التعليم الحر بمغرب الحماية، أعمال ندوة بعنوان: دور المدارس الحرة للحركة الوطنية في النضال الوطني من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الدار البيضاء، 2003 ص 12.
2- نفسه، ص 53.

ولد السايب والسيد المعطي وكانت مهمة اللجنة تتركز في السهر على إخراج مشروع المدرسة إلى النور ، وتهييئ الظروف المادية والأدبية لذلك(1).

وبرزت في البداية مشكلة رخصة فتح المدرسة، إذ كان أمر الحصول عليها صعبا، لذلك قررت لجنة التعليم أن تكون مدرسة الصفاء فرعا لمدرسة التهذيب، التي كان يديرها الأستاذ قاسم الزهيري، على أن تكون المدرسة مستقلة في إدارتها، وقد أسندت إدارة المؤسسة الجديدة لإدريس المسفر ، ليتم التعاون بمعيته مع الحاج عبد الله بن إبراهيم في البحث عن مكان لإقامة المدرسة، فوقع الاختيار على دار كبيرة في قلب حي الصفاء، كانت في ملك المرحوم الحاج إسماعيل بن دغة، وبعد

إدخال بعض التعديلات عليها صارت مكونة من ستة فصول، ومجهزة بما يلزم من التجهيزات التعليمية الضرورية، وعلى إثر خلاف سببه رفض قاسم الزهيري السماح للقيمين على مدرسة الصفاء تسجيل التلاميذ دون إشرافه أعلن أعضاء لجنة المدرسة في اجتماع قرار استقلال المدرسة التام عن أي مؤسسة (2)، ثم قدموا بعد ذلك ملفاً رسمياً إلى مندوبية التعليم بغرض أخذ رخصة قانونية تسمح بفتح المدرسة، وفي الوقت ذاته تم إيفاد لجنة من المدرسة لمقابلة السلطان المغربي محمد بن يوسف للتعجيل بالرخصة، وبالفعل كتب العاهل المغربي إذناً مؤقتاً يفي بالغرض ريثما يجهز الوصل الرسمي للرخصة، لكن بعد أسبوع تم استدعاء إدريس المسفر مدير المدرسة من طرف المندوب المخزني والباشا يأمرانه بإقفال المؤسسة، لكنه رفض ذلك معللاً أن المدرسة قد استهلت نشاطها التعليمي، وأن نشاطها لن يتوقف إلا بتصريح كتابي من قبل المندوبية أو الباشوية، لكن هذا التصريح لم يبعث، فظلت المدرسة تمارس نشاطها حتى انتقلت إلى بناية جديدة سنة 1947(3). وقد جاءت ملابسات هذا الانتقال إثر تقادم بناية المدرسة، فقرر أعضاء لجنتها بمساعدة الحاج عبد الله البحث عن أرض جديدة لبناء المدرسة ومصادر تمويلها، وفعلاً تم الاتصال

ص: 287


1- المسفر ( إدريس) ، صفحات ... م . س، صص. 53 - 54.
2- نفسه، ص ص 57 - 58.
3- المسفر ( إدريس) ، صفحات .... م. س، ص. 58.

بأعيان حي الصفاء، الذين باركوا الفكرة وأبدوا استعداداً كبيراً للمساعدة، وعلى هذا الأساس، تم الاتصال بالسيد أحمد الشرقاوي - وهو صاحب شركة للنقل - لإقناعه بوهب قطعة أرض تبلغ مساحتها ستمائة متر مربع كان يملكها بالحي، وبعد حيازة الأرض بدأت الاستعدادات الأولى للبناء، وبعد إتمام الخرائط والدراسات قدم طلب رخصة لبناء المدرسة لكنه قوبل بالرفض، غير أن إعادة تقديم الطلب بصيغة تحايلية مفادها السماح ببناء رياض لفائدة عائلة المسفر نجحت فشرع في بناء المؤسسة التي كانت عبارة عن قاعات دون نوافذ خارجية تطل على الشارع العام (1) ، والشرعنة تحويل هذا المبنى إلى مدرسة كتب مهندس من البلدية تقريراً يؤكد فيه أن البناية آيلة للسقوط، وأن وضعها يهدد التلاميذ في كل وقت وحين، وبعد ذلك سجل في محضر أن السيد إدريس المسفر مالك الرياض يعير الرياض الجديد ليكون مقراً مؤقتاً لإيواء التلاميذ ريثما ترمم بنايات المدرسة القديمة، وقد ظلت هذه المؤسسة قائمة حتى بعد نهاية الفترة المدروسة(2).

وهكذا شكلت المدارس الحرة المستحدثة إطاراً تعليمياً وتربوياً، غايته الحفاظ على الشخصية الثقافية والحضارية للإيالة المغربية، وتجنيد كل متمدرسيها صفوف الحركة الوطنية لمجابهة الوجود الفرنسي ، فالدفاع عن الهوية المغربية (3)بكل أبعادها كان من أهم الأهداف التي دفعت رواد الحركة الوطنية إلى فتح مدارس حرة في مختلف ربوع المغرب، بيد أن المحتل لم يقف مكتوف الأيدي، بل جد في التضييق عليها وسحب رخصها القانونية، ووضع القائم منها تحت المراقبة الصارمة السلطة الحماية(4).

وكانت التبرعات والإعانات أهم مصدر مالي لتمويل هذه المدارس وأنشطتها التربوية، حيث كانت هناك صناديق خاصة تقدم في الخفاء للمتبرعين، كما أسست

ص: 288


1- نفسه ص 76.
2- نفسه، ص 77
3- المحمودي ( أحمد) ، حول التعليم ... ، م . س ص ص. 49 - 50
4- ياسين (محمد)، سوسيولوجيا الخطاب الكولونيالي، ج 1، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ،فاس 1992-1993، ص. 481.

فرقة خاصة تزاوج بين نشر الوعي الوطني وتطوير موارد هذه المدارس. وكانت هذه الأنشطة التعليمية والثقافية والسياسية والترفيهية تخفي من ورائها حزبا رصينا يتزايد أعضاؤه باستمرار، وتتنوع أساليبه النضالية السلمية حتى سنة 1952م(1)، وكان الزيارة الزعيم علال الفاسي للجديدة عقب عودته من منفاه، الدور الكبير في رصِّ صفوف الوطنيين، إذ اعتبرها المراقبون زيارة تاريخية ألهبت الحماسة وقوَّت عزائم المناضلين الدكاليين، حيث أقيم على شرفه حفل ليلي بمنزل والد إدريس المسفر وخلال الحفل قام تلاميذ مدرسة الصفا الحسنية بتقديم رواية خالد بن الوليد، كما ألقى الزعيم كلمة على الحاضرين مفادها، أن نجاح الحركة الوطنية رهين بتمسك أفرادها بالإسلام الصحيح ومباشرة بعد الحفل، عمدت السلطات إلى استدعاء والد إدريس المسفر، حيث طالبوه بإعطاء توضيحات حول ما حدث في بيته، مدّعين أن أحد الحاضرين سب فرنسا بقوله تسقط فرنسا، فأنكر الوالد هذه الاتهامات، وعلل أن الاحتفال كان بمناسبة ليلة المولد النبوي، الذي تزامن مع وصول الزعيم علال الفاسي إلى الجديدة، وحضروه جاء باعتباره عالما كبيراً، وأن الحفل مرَّ بسلام ولم تصدر من الحاضرين أي كلمة نابية في حق أحد. وبعد ذلك أخلي سبيل الوالد بعد تحميله مسؤولية ما سوف يحدث بعد ذلك(2).

2 - اغتيال فرحات حشاد وإضراب الثامن من دجنبر سنة 1952م.

ظل هذا اليوم موشوما في الذاكرة النضالية الدكالية، فمن خلال الإضراب الذي قام به التنظيم الوطني بالجديدة، استطاع المناضلون إبراز الحاضرة بصورة المدينة الرائدة في مضمار النضال الوطني، إلى جانب مدن الدار البيضاء وفاس ومكناس.... وأنها تشارك إخوانها داخل الوطن وخارجه آلامهم وتآزر قضاياهم، حتى تنقشع الغمة على المغرب والمغرب الكبير. ومن ومضات ذلك، مشاركتها بقوة في إضراب الثامن من دجنبر 1952م على خلفية اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد في الخامس

ص: 289


1- المهناوي (محمد) المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص ص 188-187.
2- المسفر (إدريس) ، صفحات ...، م.س، ص ص 80-79.

من دجنبر من السنة نفسها، وبسبب هذا الحدث الجلل استدعت الأمانة العامة الحزب الاستقلال بالرباط مندوبها وكاتب فرع مدينة الجديدة السيد قاسم العراقي، للتشاور حول الإجراءات الواجب اتخاذها لإدانة الفعل الإجرامي، وجعل المناسبة فرصة لفضح وإحباط المخططات التي تحاك ضد العرش والشعب، غير أن وعكة صحية جعلته ينيب عنه السيد إدريس المسفر الذي رافقه بوشعيب العيادي، وقد دار موضوع الاجتماع حول تدابير وصم ،الاغتيال والإواليات الضرورية لمواجهة تعنت المحتل بالشجاعة والصرامة اللازمتين مقابل تقديم تضحيات كبيرة تسمع صوت الشعب في المحافل الدولية ونقض كل المؤامرات التي تستهدف القصر أو رموز حزب الاستقلال. وعند نهاية اللقاء عاد إدريس المسفر وصاحبه يحملان التعليمات الجديدة التي أبلغاها للمناضلين الاستقلاليين، فتقرر تصعيد وتيرة الاجتماعات لتعبئة الوطنيين والوطنيات، وفي يوم الأحد سابع دجنبر من السنة نفسها سلّم محمد بوستة رسالة من الأمانة العامة لحزب الاستقلال إلى السيد إدريس المسفر، فحواها يحث المناضلين على تنظيم إضراب عام وشامل يوم الاثنين الثامن من دجنبر، وبمجرد تلقيه الرسالة اجتمع مع رفقاء ضرب النضال في بيت عبد الواحد القادري لتوزيع الأدوار، حيث تكفل الحاج عبد الله بن إبراهيم خالد يحي، بإبلاغ

أصحاب محلات البيع بالجملة (الهريان)، وتكفل إدريس المسفر بإبلاغ سكان حی الصفا، وتكفل الحاج الحسن الشلح بإبلاغ التجار المنحدرين من سوس، بينما تكفل عبد الله النعماني والعربي الزموري بحي المستشفى، وعهد لمحمد التازي بمهمة الاتصال برجال التعليم والجدير بالذكر أن اليهود نفذوا تعليمات الحزب وشاركوا في الإضراب، لكنهم عادوا وفتحوا محلاتهم تحت ضغط سلطات الحماية، التي بدأت في تكسير أبواب المحلات المغلقة(1).

وقد بدأ الإضراب بإغلاق جميع المحلات التجارية الخاصة ببيع الأثواب ودكاكين البقالة وحوانيت الحلاقين والحرفيين المسلمين، وثلاث محلات لبيع الدخان، وفي الليل تعرضت الكنيسة الكاثوليكية بالمدينة للتخريب والإحراق

ص: 290


1- المسفر (إدريس) ، صفحات ...، م.س، صص. 103-94

وأتلفت أغلب محتوياتها، بينما اتسم مساء يوم التاسع من ديسمبر/ كانون الأول، بتطور الهيجان الشعبي داخل المدينة إلى حد إقامة متارس بالطرق الرئيسة بها، وكانت هذه المتارس على شكل سد منيع، تتكون من مواد مختلفة وأسلاك ضخمة ومصدات للسيارات. وأمام تصاعد الغضب الشعبي بالجديدة، قررت السلطات الفرنسية التحرك على النحو التالي:

* اعتقال احتياطي لقاسم العراقي وإدريس المسفر باعتبارهما المسؤولين عن هذه الفوضى».

* اعتقال احتياطي للحاج لحسن بن عبد الله الشلح أمين البقالين.

* البحث عن مدبري هذه الإضرابات والمشاركين فيها (1).

وعلى هذا الأساس بدأت مرحلة مطاردة الوطنيين بالجديدة، ومهاجمة بيوتهم ومحلاتهم المهنية، وبعد قضاء أكثر من شهر في التحقيق الذي وصفه العميد «لويس بريتي» بالمضني، كانت المحصلة اعتقال عشرات الوطنيين بالمحجوزات التالية:

* عشر لوائح بها أسماء المناضلين، وبرنامج اجتماع كان من المقرر أن يتم سراً عند بوشعيب بن مبارك بن أحمد العيادي.

* منشوران سیاسيان مرقونان بالعربية عند عبد الله بن الحاج أحمد.

* منشور سياسي مرقون بالعربية عند إدريس بن أحمد بن يوسف.

* منشور سياسي مرقون بالعربية عند الحاج لحسن بن محمد بن عبد الله(2).

وقد أوقف هذا التحقيق سلطات الحماية بالجديدة على مدى التنظيم الحقيقي

ص: 291


1- المهناوي (محمد) المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب المهناوي (محمد)، المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953-1952 ، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، صص. 190-189.
2- المسفر (إدريس) ، صفحات ... ، ط 1 ، م.س، ص ص . .125-124.

المجموعات العمل النضالى بالمدينة المرساة قواعده منذ عدة سنوات والمحيّنة هيكلتة قبل وقوع هذه الأحداث بوقت قريب، وبالضبط منذ شهر سبتمبر/ أيلول السنة نفسها. وقد أكد تقرير سري بتاريخ 14 من يناير سنة 1953م، أمضاه رئيس شرطة حفظ الأمن بالجديدة، يفيد أن إعادة الهيكلة هاته تمت بدار قاسم العراقي «الزعيم المحلي»، كما ركز التقرير بالأساس على تنظيمات المكتب المحلي لحزب الاستقلال بالمدينة، ورؤساء خلاياه وخطته في توسيع قاعدة التنظيم جماهيريا، واستقطاب عناصر جديدة للعمل الوطني، ليخلص التقرير إلى أن قاسم العراقي هو الذي أصدر التعليمات بإضراب الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، عن طريق رؤساء الخلايا، والاجتماع الذي ترأسه بمكتبة النجاح. وكانت الأوامر التي أعطيت، نقلا عن محضر اعترافات بوشعيب بن أحمد بن مبارك العيادي على الشكل التالي:

* إغلاق جميع الحوانيت يوم الاثنين.

* تعطيل إجباري لكل المأجورين.

* إخبار المواطنين وإشاعة التعليمات بينهم(1).

والأكيد أن هذه التعليمات كانت مصحوبة بديباجة توضّح الأسباب والغايات من الإضراب، إلا أن العميدين في تقريرهما تحاشياً ذكر ذلك بشكل واضح. وبهذا استطاعت سلطة الحماية أن تضع يدها على أهم تنظيم نضالي بالمدينة.

وقد لاحظ رئيس شرطة حفظ الأمن بالجديدة، وجود ممثلين عن جميع الشرائح الاجتماعية بهذا التنظيم، إذ رغم هيمنة العناصر المنتمية للبروليتاريا، فإن ذلك لم يمنع من وجود بعض البورجوازيين وخاصة منهم التجار، وكذلك بعض الفلاحين مثل عبد الله بن محمد بن الجيلالي النعامي وأحمد بن عبد الله بن الحاج عباس سرغيني، الذي أرسل برقية ولاء وإخلاص إلى القصر الملكي بمناسبة عيد العرش باسم الفلاحين في بداية عام 1952 وإلى هيئة الأمم المتحدة.

ص: 292


1- المهناوي (محمد)، المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952 ، ندوة علمية تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص. 191-190.

وكان المكتب المحلي لحزب الاستقلال، يقوم بتأطير الخلايا ويوجهها، أما الأوامر والتعليمات فتصدر باسم قاسم العراقي، وكان صلة الوصل بين هذا الأخير ورؤساء الخلايا في غالب الأحيان هم: عبد الله بن محمد النعامي، وأحمد بن بوشعيب بن الحسن ،فرجي والحسين بن أحمد اليوبي. وكان قاسم العراقي هو الذي يعين رؤساء الخلايا ويحدد أفرادها، كما كان يعقد في بيته اجتماعات خاصة مع رؤساء الخلايا كل ثلاثة أشهر، باستثناء الحالات المستعجلة، وآخر اجتماع لرؤساء الخلايا صحبة المكتب كان في نونبر سنة 1952م بدار الكاتب العام إدريس المسفر.

وكانت الأوامر والتعليمات تنقل إلى أعضاء الخلايا بواسطة رؤوسائهم. وكانت أكبر خلية من حيث العدد، هي تلك التي كان يرأسها محمد بن عزوز بنكيران، حيث تضمت أزيد من ستة وعشرين فرداً، وكان القسم إجبارياً لأي عضو يريد الانخراط في إحدى خلايا الحزب، إذ يقسم ويده اليمنى على نسخة من القرآن الكريم، بأن يلتزم بالإخلاص لله والوطن والتنظيم، وبأن ينفذ الأوامر وألا يخون رفاقه. كما يلتزم كل عضو منخرط مبدئياً بدفع مساهمة شهرية لا تتجاوز في الغالب الخمسين فرنكاً، تدفع لأمين مال كل خلية، الذي يسلمها بدوره لأمين الصندوق بالمكتب أو لقاسم العراقي مباشرة. ولتضليل سلطة الحماية والإفلات من عيون شرطتها السرية، كانت الخلية تعقد اجتماعاتها ليلاً وفي محلات مختلفة فخلية بوشعيب العيادي على سبيل المثال، المتكونة من عشرين إلى خمسة وعشرين عضواً، كانت آخر اجتماعاتها حسب الترتيب التالي : حيناً عند محمد بن بوشعيب (أمين الخلية بحي القلعة، وحيناً عند محمد بن بوشعيب بن عبد الله قرب مصانع بويسون (Bisson)، وفي أحايين أخرى عند عبد الله السلام بن محمد العبدي بدرب غلف، وكانت هذه الاجتماعات تتم مرة كل خمسة عشر يوما أو خلال كل الشهر، وذلك تبعاً للظروف والمستجدات وكان برنامج الاجتماع يتم على النحو التالي:

* لائحة بأسماء المتغيبين.

* لائحة بأسماء الحاضرين.

ص: 293

* التعريف بأهداف وتاريخ الحركة الوطنية.

* عرض لمظاهر التوتر الذي يشهده المغرب.

* وتنتهي الاجتماعات بقراءة جريدة العلم والمناشير ونشرة الأسبوع، وبعد شرح هذه المناشير ومداولة محتوياتها يتم إحراقها.

وفي ضوء هذه المعلومات التي تحصلت عليها الإدارة الكولونيالية لمدينة الجديدة، قامت بترحيل قاسم العراقي و إدريس المسفر إلى سجن أزيلال دون محاكمة، وتقديم أعضاء مكتب فرع حزب الاستقلال التسعة للمحاكمة، بصحبة رؤساء الخلايا، وأعضائها التسعة والعشرين الذين توزعوا على المنوال التالي:

* الخلية الأولى: رئيسها محمد التازي يشرف على تسعة أفراد.

* الخلية الثانية : رئيسها محمد التازي يشرف على سبعة أفراد.

* الخلية الثالثة: رئيسها بوشعيب العيادي يشرف على سبعة أفراد.

* الخلية الرابعة : رئيسها محمد بنكيران يشرف على ستة أفراد.

وبالمقابل أفرجت سلطات الحماية على ثمانية وثلاثين فرداً بعد اعتقالهم واستنطاقهم وهم:

* خلية محمد التازي : أحد عشر فرداً.

* خلية بوشعيب العيادي: خمسة عشر فرداً.

* خلية محمد بنكيران: إثنا عشر فرداً.(1)

وبعد ثلاث جلسات بمحكمة باشا مازغان (7 فبراير و 9 فبراير و 5 مارس 1953م) نطق القاضي بالحكم في حق ثمانية وثلاثين مناضلاً، تراوحت بين ثلاثة أشهر وسنة،

ص: 294


1- المسفر (إدريس)، صفحات ... ، ط 1 ، م.س، ص ص . .128-127

فهناك من سجن بتهمة التحريض في المساجد، مثل المناضل أحمد بن بوشعيب الزموري، وهناك من سجن بتهمة السب والقدح مثل المناضل عبد السلام بن محمد بن الحبيب، وهناك من سجن بتهمة إحداث الفوضى والاجتماع السري مثل المناضل محمد بن عزوز، وهناك من سجن بتهمة إنشاء مجموعات إرهابية مثل المناضل أحمد بن عبد الله بن الحاج عباس سرغینی و مناضلون آخرون سجنوا بتهمة الشهادة الكاذبة، أو المشاركة في المظاهرات، أو إحداث البلبلة(1).

وهكذا استغلت الآلة القمعية الكولونيالية، إضراب الثامن من دجنبر سنة 1952م لتضرب بقوة التنظيمات الوطنية الحزبية والنقابية، حيث تم حظر الحزب الشيوعي المغربي، وحزب الاستقلال الذي صودرت صحيفته واعتقل قادته، ليخيم عقب ذلك نظام الإرهاب البوليسي على المغرب كله(2).

وإذا كان التنظيم الوطني الاستقلالي بالجديدة وخارجها، قد تلقى ضربة قاسية إثر هذه المحاكمات فإن هذا لم يقف حائلاً أمام مواصلة العمل النضالي، فأغلب هؤلاء الذين سجنوا عادوا لممارسة العمل النضالي فور تسريحهم صحبة عناصر أخرى، لينخرط الجميع في مقاومة الاحتلال بشراسة أقوى، إثر نفي السلطان محمد بن يوسف سنة 1953(3).

11 - خيار المقاومة العنيفة بدكالة : بواعثها وأساليبها (1953-1955)
1 - المقاومة المسلحة بدكالة : أسبابها وحيثياتها

كان لنفي السلطان محمد بن يوسف وعزله عن عرشه وشعبه الدور الحاسم انتقال العمل الوطني من طوره الكلاسيكي المعتمد على المفاوضات ولغة النقد

ص: 295


1- المسفر (إدريس)، صفحات ... ، ط 1 ، م.س، ص.ص. 129-128
2- عياش (ألبير) المغرب والإستعمار ...، م.س، ص ص .412.
3- المهناوي (محمد)، المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952 ، ندوة علمية تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص 199.

والتعاليق السياسية والصحفية إلى العمل المباشر القائم على تبني الخطاب العنيف والمجابهة بالسلاح أي سيادة لغة البيانات والمنشورات المحرضة على التصفيات الجسدية، وضرب المصالح الفرنسية، وقد برز في هذه المرحلة فدائيون أبلوا البلاء الحسن في زعزعة الاستقرار وترويع المستوطنين وعملاء الاحتلال، أمثال الخطابي المعروف بشقربل، والفاطمي الطرمونية، وحمو الطرمونية، ومحمد الكافي، ومبارك أبو قاسم، ومحمد بناجح، وأحمد طالب، والحاج بوشعيب الطاوسي، وأحمد الأزرق وصابر مصطفى ...(1)وفي خضم ذلك كان الدكاليون الوطنيون خارج وداخل دكالة، يشاركون إخوانهم المغاربة في التظاهر والتعبير عن رفض السياسة الكولونيالية، سواء أحداث سنة 1944 أو 1952 أو 1955م، مستعدين لتقديم أرواحهم وحريتهم قربانا الكرامة الوطن والشعب والسلطان.

ففي يوم السبت 20 اوغست / آب بعد الزوال، تجمهر في ساحة مولاي يوسف و درب غلف و درب ،بوشريط شباب وكهول النضال الوطني قدِّروا ب ستمائة متظاهر، ممتشقين صور السلطان محمد بن يوسف والأعلام الوطنية، وزغاريد النسوة تحفهم من جانب، وهم على صوت واحد يصدحون بعودة السلطان الشرعي إلى البلاد وإنهاء الاحتلال، بيد أن التدخل العنيف لقوات الاحتلال لثني المواطنين على المظاهرة، دفعت المتظاهرين إلى تكسير وتخريب كل ما تأكد ملكه للكولونياليين، فراغوا يهشِّمون ويكسِّرون زجاج السيارات ويضرمون النار في محلات بيع التبغ بساحة مولاي الحسن وساحة غاليني المعروفة اليوم بساحة عبد الكريم الخطابي وبعض منازل المستوطنين الفرنسيين بالحي البرتغالي، الأمر الذي فرض على سلطات الاحتلال نقل مستوطنين فرنسيين ومغاربة يهود إلى القاعة الرياضية المغطاة، خوفا من أن يطالهم مكروه. وفي الساعة الخامسة من مساء اليوم نفسه، طفقت قوات الاحتلال تبث في مختلف مناطق المدينة قوات الأمن والحراسة لتشديد المراقبة على مداخل المدينة ومخارجها، وضبط مفاصلها الرئيسة، وفي الساعة الثامنة مساء أعلنت حظر التجوّل أملاً في احتواء الانتفاضة، لكن الوضع ظل على ما هو عليه، فحتى

ص: 296


1- جريدة الصباح الإلكترونية، نصب تذكاري تكريما لرموز المقاومة بدكالة، الثلاثاء 22 يناير 2013، ص. 4.

الساعة الثانية ليلاً، والقوات في استنفار تام ورجال الإطفاء يخبون النيران المستعرة في مناطق متفرقة، ويخمدونها في منزل العميل المعاشي(1). وفي هذا الصدد يروي لنا المهندس الطبوغرافي ورئيس المجلس البلدي السابق عبد الكريم بنكيران عن حيثيات الانتفاضة وتفاصيلها بالقول: «في البداية كنا أربعة شبان مولاي مصطفى أبو مروان الملقب بالعلوي، وأحمد خشلاعة، ومصطفى بنكيران، وعبد ربه، كنا قد اتفقنا على القيام باحتجاج نعبر فيه عن سخطنا جراء تعرض محمد الخامس للنفي. اتفقنا على الالتقاء بساحة غاليني أمام مقر محكمة الباشا. ونحن في الطريق كان بعض رفاقنا ينضمون تدريجياً إلى مجموعتنا مثل أحمد رمزي وبوشعيب بوشتيه والعربي بلفقير وعبد الرحمان الريفي. كان أخي مصطفى بن كيران يحمل في يده اليمنى لوحة رسمها لمحمد الخامس لأنه كان يجيد الرسم بحكم عمله معلما في مدرسة الصفاء. أما أبو مروان فكان يحمل سكينا. حين وصلنا إلى شارع مولاي عبد ،الحفيظ، مرت أمامنا سيارة الشرطة ولم تنتبه إلى صورة محمد الخامس المرفوعة، بعد ذلك قررنا أن يعود كل منا إلى حيِّه ليستنفر أصدقاءه، للالتحاق بصفوف المستنكرين لخلع السلطان ونفيه بساحة قرب ضريح سيدي الضاوي. وفي الساعة الثانية بعد الزوال من يوم السبت بدأ وصول المتظاهرين إلى النقطة المعلومة، وما إن تكاثر المتظاهرون حتى أخطرت سلطات الحماية ووصلت تعزيزاتها الأمنية، كان المتظاهرون يهتفون بحياة الملك، ثم شرعنا في رشق سيارات «الجيب» البوليسية بالحجارة الرابضة بعين المكان فما كان المكان، فما كان منهم إلا أن باشرونا بوابل من الرصاص الحي، فتفرقنا على إثر ذلك إلى مجموعتين مجموعة أبو مروان التي شرعت في حرق مباني السلطات الفرنسية بسانية بلعبارية (حيث اليوم مدرسة التريعي للبنات) ومجموعة عبد الكريم بنكيران التي يممت وجهها صوب السوق القديم ودرب الطويل لتخريب وإحراق المتاجر والمحلات الفرنسية ودور العملاء، وكانت هذه المجموعة تزداد أعدادها كلما تقدمت في السير. غير أن المجموعة الأولى أصيب فيها أبو مروان برصاصة في فخذه اليسرى وألقي عليه القبض وفي هذا السياق حكى

ص: 297


1- Feucher) Christian(, Mazagan (1514- 1956), l'Harmattan, Paris, 2011 p.223.

مصطفى نجمي أنه شاهد من سطح منزله المنتصب حذو مزرعة «بيريز» عصبة من المنتفضين حاولوا إشعال النار في مزرعة المذكور ، لكنه استطاع أن يوقفهم بعد أن أردى اثنين بسلاحه الناري وكلاب مزرعته(1) . ورغم الاعتقالات الكبيرة التي طالت معظم المنتفضين بعد استعمال الرصاص الحي، فإن الانتفاضة استمرت حتى اليوم الموالي في جل أحياء المدينة رغم القمع الذي طال المظاهرة. وقد كانت حصيلة الانتفاضة مريرة من حيث الخسائر البشرية، إذ أمْنَتْ خمسة شهداء، وقصفت أرواح عميلين للاستعمار الفرنسي: الأولى تدعى زهراء الزخ، والثاني مراسل محلي لصحيفة الوداد المعروفة بولائها لسلطات الحماية، والمساندة لقرار خلع السلطان محمد بن يوسف المدعو التباري المهاجي وشهرته المعاشي، صفي بمقر سكناه بدرب طويل على يد الفدائيين، واتهم أحمد التجاني الملقب بالزنبقي مع ثلاثة من رفقائه بتهمة قتله(2). أما الجرحى فبلغوا ثمانية، ومن أبرز هؤلاء المدعو مصطفى أبو مروان والملقب بالعلوي، إذ يروي صديقهُ أحمد خشلاعة (نائب سابق لرئيس المجلس البلدي بالجديدة)، أنه وقتها كان على رأس المظاهرة يحمل في اليد اليمنى صورة كبير الصورة السلطان محمد بن يوسف، وفي اليد الأخرى سكينا وهو ينادي بملء صوته عاش الملك(3). وكان من بين المعتقلين في المظاهرة عبد الله شاكر وأبو بكر البركاوي وعبد القادر مديح وبوشعيب ،اللباط، وقد ارتفع عدد المعتقلين إلى الذي ضاقت بهم مفوضية الشرطة وسجن الجديدة، فاضطرت سلطات الاحتلال إلى نقلهم إلى سجن أزمور الذي قضوا به ثلاثة أشهر في وضعية جد سيئة، ثم نقلوا إلى مخازن التعاونية الموجودة بطريق مراكش بالجديدة، لمواصلة التحقيق معهم(4). ولم يتم تسريحهم إلا بعد عودة السلطان إلى عرشه(5).

ص: 298


1- الجماهري (المصطفى)، مظاهرات 20 اوغست / آب بالجديدة من خلال الشهادات والوثائق، مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 23 العدد 23 ، ص 37
2- الرايس مصطفى ملاحظات أولية حول علاقة شيوخ الزوايا بالاستعمار في الخمسينيات من خلال صحيفة الوداد)، مجلة المناهل يونيو 2011، ص 273.
3- Jmahri) Mustapha), « Souvenir marocain el Jadida au temps du protectorat», les cahiers d'El Jadida, Avril 2009, p. 26. 37. ...، م.س، ص.
4- الجماهري (المصطفى)، مظاهرات 20 غشت .... م.س،ص 37.
5- جسوس عز الدين، التاريخ الشفوي، ص. 244.

أما الخسائر المادية التي ترتَّبت عن الانتفاضة، فتمثلت في إحراق أكثر من أربعين منزلاً بدرب الحجار، والحي البرتغالي، وحي بن إدريس، وحي الركبة وحي ماشان(1)، ودرب بنيس وزنقة العرصة، ودرب النخلة، وزنقة مولاي عبد الحفيظ، وتخريب محلات خاصة بزنقة إسحاق حمو، وتخريب منقولات في ملكية أجانب أمثال الطبيب فيردي والصيدلي إنكرو والميكانيكي ريكس، وهذا ما يدل على أن الاحتجاجات مست كافة أطراف المدينة(2). وتؤكد الرواية الشفهية أن ما حدث كان بإشراف وتنسيق قاسم العراقي وإدريس المسفر وعبد الواحد القادري.

وإذا كانت مدينة الجديدة قد اقترن ذكرها في تلك الأيام الصعبة بسجن العذير، فلأن أسماء بارزة من الزعماء الوطنيين المغاربة زجت في زنازنه أمثال: عبد الرحيم بوعبيد، محمد الفاسي، أبو بكر القادري وغيرهم، أو تم إقبار رفاتهم بعد إعدامهم، أمثال عبد العالي وعبد العزيز بن شقرون ، والعربي بن محمد(3).

وحينما انطلقت المقاومة المسلحة في مختلف مناطق المغرب، كان أبناء دكالة من بين السبّاقين إلى الانخراط فيها، حيث كان المقاوم أحمد بن الحاج على سبيل المثال يزوّد بعض الدكاليين بالمسدسات والقنابل التي كان يخبِّئها عند أسرة مقاومة تحمل لقب مستعين بقبيلة العونات، والجدير بالذكر أن أم هذه الأسرة كانت العقل المدبِّر للعمليات الفدائية التي كان أبناؤها يقومون بها(4)، وكان مقاومو منطقة «متوح» من أشهر المناضلين الذين واجهوا سياسة «جوان» الاستعمارية، حيث نشطوا فی مختلف الخلايا الفدائية، سواء داخل دكالة أو خارجها، بحكم وجودهم في مدينة الدار البيضاء، التي باتت تختزل كل شروط وعناصر الصراع التي أنتجتها المرحلة

ص: 299


1- المرجع نفسه.
2- بوهادي بوبكر، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص ص 207 - 206
3- المرجع نفسه، ص ص 207 - 206
4- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة ...، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com

الكولونيالية، فالمقاوم علي بن المكي كان من أشهر الفدائيين الدكاليين الذين كانوا ينفذون العمليات الفدائية بالدار البيضاء (1) .

وانصبت مجهودات المقاومين ،بالخصوص على ضرب مصالح الاحتلال الفرنسي بدكالة، والمتجسدة في ضيعات المعمِّرين المنتشرة في المنطقة، حيث تم إلحاق أضرار جسيمة بها سواء عن طريق إتلاف المعدات الفلاحية ونهب المواشي وقطع الأشجار المثمرة، وتخريب المرافق الأساسية بها، أو عن طريق إضرام النار في مخازن الحبوب والتبن وإحراق المحاصيل، هذا إلى جانب مهاجمة الكولون وتصفية البعض منهم (2)، ولعل أشهر حادثة في هذا المجال، هي القنبلة التي فجرها المقاومون بأربعاء العونات في إحدى ضيعات الكولون(3)، الشيء الذي خلق جواً من الرُّعب في أوساطهم اضطرت بعضهم إلى الانتقال إلى مدينة الدار البيضاء(4).

ولم يفلت من عقاب المقاومين رقاب المتعاونين مع الاستعمار، فالمقاوم التجاني من قبيلة العونات كان معروفا بهذا النوع من الاغتيالات(5)، كما لجأ مقاومو مدينة الجديدة إلى التنسيق مقاومي الدار البيضاء لتصفية عملاء الاستعمار مثل الشرطي العميل الحمدوني الذي قتل في 20 من اوغست / آب سنة 1954م بسبب تعقب الوطنيين وإمعانه في تعذيبهم أثناء الاعتقال (6)، واعتماداً على رواية الخلفي فإن اغتيال الحمدوني انبرى له في الجديدة كل من العربي القرطبي ومحمد بن شقرون(7)، اللذان نفذا العملية بنجاح لكن الحظ شاكلهما حين اكتشف أمرهما وأودعا السجن، والمصير نفسه لقيه العميل المعاشي الكاتب العدل وموثق العقود،

ص: 300


1- نفسه.
2- بوهادي ( بوبكر)، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص ص . 207 - 206.
3- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة...، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www.
4- Siraj.3abber.com ) - بوهادي (بوبكر) ، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، صص.
5- سراج الدين (عبد اللطيف) ، دكالة .... م . س ، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com .206-207
6- جريدة الصباح الإلكترونية، نصب.... الثلاثاء 22 يناير 2013 ، م.س، ص. 4.
7- جسوس عز الدين التاريخ الشفوي، م.س، ص.242.

الذي فرّ من الدار البيضاء إلى الجديدة بعدما توعّده وطنيوها بالقتل، لكن أيدي الفدائيين طالته في مظاهرات اوغست / آب 1955، إذ أكدت رواية البركاوي أنه ذبح أمام داره بعد أن تم إحراقها(1). أما المحلات والمتاجر الفرنسية خاصة محلات التبغ أو المعروفة ببيع بضائع المحتل، فكانت مرتكز أهداف عمليات تخريب وتفجير الفدائيين، هذا إلى جانب قطع أسلاك الهواتف، وإتلاف المعدات وكل ما من شأنه تأمين شروط العيش الرفيه للأوروبيين بدكالة.

ولم يقتصر النشاط النضالي للدكاليين فقط على مدينة الدار البيضاء، بل شاركوا مع إخوانهم المغاربة في مدن أخرى في تظاهراتهم ومنظماتهم وخلياتهم السرية، كما هو الشأن بالنسبة للطوسي بوشعيب الذي استشهد في أحداث خريبكة يوم 20 اوغست / آب سنة 1955م، وبنطريق امبارك الذي نشط ضمن مجموعة حمان الفطواكي في مدينة الدار البيضاء و مراكش وتجنباً للمتابعة أو الاعتقال، انتقل العديد منهم نحو مدن شمال المغرب، وقاموا هناك بمد يد المساعدة للفارين من المنطقة ،الفرنسية ونشطوا في جمع وإرسال السلاح للمقاومين مثل عبد الله الناصري الذي استقر بمدينة القصر الكبير، كما التحق العديد منهم بفرق جيش التحرير وخاضوا معه أهم المعارك (2).

أما داخل منطقة دكالة، فقد تميز العمل الفدائي بتنوعه، حيث تراوح مابين العمل النضالي المنظم ضمن مجموعات فدائية وخلايا استقطبت العديد من أبناء دكالة، والعمل الفدائي العفوي الذي لم يخل في بعض الأحيان من تجاوزات ومبالغات، اتخذت صبغة أعمال انتقامية وتصفية حسابات، وهذا شيء يقترن عادة بالفترات التي يعمِّها الغليان الشعبي.

ومن المنظمات التي ارتبط ذكرها بأعمال المقاومة بدكالة نذكر على سبيل المثال: المنظمة السرية، المنظمة الحسنية، اليد السوداء، نصيب من جهنم، وقد اتخذت هذه المجموعات مقراً لها ولأعمالها أهم التجمعات الحضرية والسكانية بدكالة، سواء

ص: 301


1- المرجع نفسه، ص 243.
2- جريدة الصباح الإلكترونية، نصب .... الثلاثاء 22 يناير 2013 ، م.س، ص ص 208 - 207

بالجديدة أو سيدي بنور أو العونات أو الزمامرة أو أولاد فرج، ومن الأسماء التي نشطت تلك المجموعات هناك الأشهب ، وبلجو ،مبارك، والحسن الناصري، وصابر الفاطمي، ومستعين والمصدق، والتباري، والنعامي، وبدري...، هذه الأسماء منها من استشهد ومنها من عذَّب، ومنهم من بقي في السجن حتى إعلان الاستقلال(1).

ولم تكن المرأة الدكالية غائبة عن المقاومة السلمية منها والمسلحة، إذ كانت النساء تشكل السند الحقيقي لأزواجهن وأهلهن، فلا ننسى أن اجتماع مختلف هياكل التنظيمات الوطنية كانت تتم في المنازل. وكانت راضية المسفر زوجة قاسم العراقي نموذجا للمناضلة الدكالية حيث كانت حاضرة في كل المحطات النضالية التي شهدتها المنطقة، إضافة إلى دورها في التعبئة والتوعية والتعريف بأهمية المقاومة للنساء اللائي يجهلن ملابسات القضية الوطنية، لتحفيز أهلها على الانخراط في العمل الوطني، وتعزيز صفوف خلايا فرع حزب الاستقلال بالجديدة. وقد بدا نشاطها واضحا عندما ألقي القبض على زوجها قاسم العراقي،(2)إذ كانت على رأس النساء الجديديات في الاحتجاجات، كما كانت من الموقعات على عرائض المساندة لوثيقة الاستقلال، ولم تتخلف عن المشاركة في أحداث الثامن من دجنبر سنة 1952م استنكاراً لعملية اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد(3). وعند نفي السلطان كانت هي المسؤولة عن الحركة النسائية بمدينة الجديدة تندد وستنكر على طليعة المظاهرات النسائية بالمدينة خلع السلطان وجرائم الحماية إلى جانب مقاومات أخريات أمثال خديجة وفطومة وجميلة الصديقي وزوجة أحمد بن بوشعيب الزموري وفاطمة النعامي وعيشة النعامي، وعند عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه أصبحت هي المسؤولة عن الحركة النسائية الوطنية بالجديدة(4).

ص: 302


1- بوهادي ( بوبكر) ، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها ، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص 209.
2- المكاوي (أحمد)، سجن العذير و محاولة قمع حركة المقاومة المغربية، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص 199.
3- موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب، الجزء الثاني، المجلد السادس، صص 885-886
4- المسفر (إدريس)، صفحات...، ط1، م.س، ص. 131-130.

وإلى جانب راضية المسفر اشتهرت عيشة النعامي أخت المقاوم عبد الله النعامي بنضالها المتفاني، رغم منع زوجها وتهديدها بالطلاق بسبب مشاركتها في العمل الوطني، وخروجها في المظاهرات، وجمعها للمناضلات في بيتها، وحضورها المجمل الاجتماعات واللقاءات المنعقدة بمقر حزب الاستقلال أو ببيت إحدى المناضلات الدكاليات وبعد نفي السلطان اتشحت السواد وأقسمت ألا تخلعه حتى يعود من منفاه ويملأ عرشه، وللتعجيل من هذا المرتجى سعّرت مع بقية المؤمنين بالقضية وهي في شهور الحمل من أُوار المقاومة والنضال، عبر توزيع السلاح وتخزينه وتفريق المناشير المناهضة للاستعمار، إلى جانب رعاية أسر السجناء والشهداء والمتابعين، وإذكاء روح الوطنية في نفوس النساء والتوعية بعدالة القضية الوطنية بينهن....، بيد أن نشاطها الوطني الذي طبق آفاق مدينة الجديدة وأحوازها، جعل المحتل يزمع اعتقالها سنة 1953 بدار العريفة الكائن بدرب النخلة الذي قضت به سنة كاملة قبل أن تخرج بصراح مؤقت(1).

ولازالت الذاكرة الجديدية تذكر نساءها اللائي أبلين بلاء الأبطال، حين خرجن في مظاهرات 20 من اوغست / آب سنة 1955 لمد الفدائيين بقنينات البنزين والغاز المخبأ بين ثنايا الحايك لتفجير محلات بيع التبغ (2). كما لم تنس المرأة الدكالية القروية ومساهماتها في المقاومة المسلحة من خلال تخزين السلاح وإيصاله للمقاومين وتخبيء الفدائيين وتمويه سلطات الحماية، ومن أبرز هذه الفدائيات نذكر عائشة زوجة العربي، وأم أسرة مستعين المنتميتان إلى قبيلة العونات(3) ، والأكيد أن كل قبيلة ودُوَّار ومدشر في دائرة دكالة كانت فيها نساء قدمن تضحيات جسيمة في سبيل نيل حرية الاستقلال.

صفوة القول، لقد استهدفت أعمال المقاومة الدكالية سواء من خلال العمل

ص: 303


1- ماجدة بنحيون، جوانب من تاريخ المقاومة النسائية بالمغرب (دكالة نموذجا)، الذاكرة الوطنية، العدد 24، 2015، ص. .97-96.
2- جماهري (المصطفی) مظاهرات 20 غشت...، م.س، ص. 37 .
3- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة ... ، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com

التلقائي أو المنظم ضمن المجموعات السالفة الذِّكر، رموز الاستغلال الاستعماري والمتعاونين معه، وتفاوتت مابين التحريض وتوزيع المناشير بالأسواق والدواوير، والتخريب والتصفية الجسدية، وقد استفاد المقاومون في نشاطهم من قربهم من مدينة الدار البيضاء(1)، ومن الدعم الذي يقدمه حزب الاستقلال.

2- أساليب قمع حركة المقاومة الدكالية : السجون والمعتقلات أنموذجاً

شكلت المعتقلات والسجون بالمغرب أداةً من الأدوات العديدة التي وظفتها سلطة الاحتلال الفرنسي لإرهاب الوطنيين المغاربة، وكسر شوكتهم وإحباط تطلعهم نحو الحرية والاستقلال، حيث تجرَّع المقاومون بين جنبات الزنازن وردهاتها ألوان العذاب والهوان بل تحوّل جزء من مجالها إلى مقبرة لباقةٍ من الشهداء، الذين أصدرت في حقهم المحاكم العسكرية حكم الإعدام ، ومن أشهر السجون التي اشتهرت بفظاعتها في التنكيل بالوطنيين نذكر:

أ- سجن العذير

يقع سجن العذير على بعد أحد عشر كيلومترا من مدينة الجديدة، على الطريق الرئيسة رقم 8 الرابطة بين أزمور والجديدة، وقد شرع في بنائه سنة 1916 في هذه المنطقة للأسباب التالية:

* خصوبة أراضي العذير.

* تشغيل المعتقلين والسجناء بأجور بخسة، أو دون مقابل في الأراضي التابعة للسجن أو أراضي الكولون.

*الهدوء النسبي الذي عرفته منطقة دكالة قياسا بمناطق أخرى.

وقد سلمت إدارة الفلاحة ثلاثمائة هكتار من أراضي العذير لمصلحة السجون، مقابل استخدام المعتقلين والسجناء في أشغال الفلاحة لفائدتها، وقد ظلت هذه

ص: 304


1- نفسه.

المساحة تتسع إلى أن وصلت إلى 1515 هكتاراً سنة 1956م(1). وقد مورست قسوة على المعتقلين في هذه المؤسسة قل مثيلها، حيث يروي المعتقل أبو بكر القادري على الأسلوب السادي في استقبال النزلاء الجدد الذين كانت رؤوسهم تتفصد دماً والآلام تستبد بأجسامهم جراء شفرة الحلاقة غير المشحوذة التي تُحلق بها شعورهم (2)، أما عبد الرحمان بوعبيد الذي قضى أربعة أشهر بالعذير، إثر الأحداث التي تلت تقديم عريضة الاستقلال، فقد وصف أيامه فيه قائلاً:«تمرُّ في ذهني الآن صور من حياتي في السجن كشريط تمتزج فيه القسوة والألم والعذاب بحكايات لا تخلو من الطرافة (3) ...».

وعقب المظاهرات المطالبة بالاستقلال التي عمَّت شوارع وجدة سنة 1944م، ألقي القبض على مجموعة من المتظاهرين، وقبل أن ينقلوا من السجن المحلي إلى عين علي مومن ،والعذير خاطبهم مدير السجن قائلاً: «... إن من يذهبون إلى العين سيجدون أمامهم الرئيس «كونتي» وهو لطيف ويعرف بعضكم وسأتصل به لأوصيه بكم خيراً، أما الذاهبون إلى العذير فسيجدون بعض الصعوبات...» وفي السياق ذاته أورد قدور الورطاسي أحد المعتقلين الوطنيين ما نصه وصباح الجمعة 19 من فبراير سنة 1944 نقل واحد وعشرون أخاً منَّا إلى العذير وقد علمنا أنَّهم واجهوا أنواعاً من الشقاء والتنكيل(4).

وفي شهادات حية عن معانات الوطنيين والمقاومين في هذا المعتقل الرهيب، نجد رواية إبراهيم لهلالي الذي يلخص معاناته فيه - إثر الأحداث التي أعقبت نفي السلطان محمد بن يوسف - فيما يلي:

ص: 305


1- المكاوي (أحمد)، سجن العذير ومحاولة قمع حركة المقاومة المغربية، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010 ، ص ص. .219-220
2- القادري (أبو بكر) ، مذكراتي في الحركة الوطنية من 1930 إلى 1940 الجزء 1 مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ، 1992 ، ص 456-454.
3- جريدة الإتحاد الإشتراكي، سجن العذير ، 13 يناير 1992، ص ص 6-5
4- جريدة العلم، جحيم العذير ، الأربعاء 10 يناير 1988، ص. 7.

* القيام بالأشغال الشاقة في الحقول والمقالع وتحت سياط الحراس، وإذا اشتكى السجين من العياء أو من ضخامة الحمولة (حبوب تراب، حجر ...)، أو ضبط متراخيا، فكنت لا أسمع إلا تحرك ... آه.... أدفع ... أجبد... أتقعد لامك، أهنا ماكين وطنية (1)...».

* العمل في ضيعات المعمرين التي توجد على بعد عشرة إلى ثلاثين كيلومترا عن السجن، حيث يتحتم على السجين قطع هذه المسافة الطويلة مشياً.

* غياب النظافة سواء تعلق الأمر بغرف النوم أو اللباس، بحكم العمل طول النهار وعدم استبدال البذلة الجنائية وغزو الحشرات للغرف.

* ندرة زيارة الطبيب، بل هذه الزيارة تتحول أحياناً إلى عسف إضافي إذا اعتبر الطبيب السجين متمارضاً، إضافة إلى ما يصاحب الزيارة من ركل ورفس وكلام ساقط.

* رداءة الوجبات الغذائية، وكان المحكوم عليهم بالإعدام أكثر تضرّراً، لأنه يمنع عليهم تناول أيّ وجبةٍ غير مهيأةٍ داخل السجن، وتلخص رسالة الشهيد مولاي علي بن مولاي العربي إلى محاميه الفرنسي، وضعيته بإحدى زنازن العقاب بالقول:«إن صحتي في خطر نظراً لكوني أسكن زنزانة بصحبة رفيق، طول الزنزانة متر وأربعين سنتمتراً وعرضها متر وخمس وعشرون سنتمترا، الشيء الذي يسبب لي صعوبات في جهاز التنفس، حيث لا يوجد بهذه الزنزانة لا نافذة ولا ماء ولا مرحاض ، وأؤكد لكم أنها خاصة بالعقاب، ولم أستطع تناول الطعام والشراب داخلها (2)».

وكرد على قساوة هذا السجن ومنها استمرار حمل الأصفاد ليلاً، شن المعتقلون المحكوم عليهم بالإعدام إضراباً عن الطعام خلال يومين من شهر أكتوبر سنة

ص: 306


1- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي رمز الأمة الهمام أحكام من شهور وأعوام إلى الإعدام (سجن العذير من 20 / 8 /1953 - إلى 1955-11-20) ، مطبعة نجم الجديدة، 1986، ص. 170.
2- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي...، م.س، ص 161.

1954م، وتكررت الإضرابات خلال شهري مارس وأبريل من سنة 1955م، كما نُظمت مظاهرات بهذه المؤسسة السجنية في فبراير سنة 1956م، وهو ما جعل مسؤولي السجن يضطرُّون لطلب التعزيزات العسكرية من جنود ودركيين(1)، وبسبب الإهمال والقمع، توفي بسجن العذير عدد من الوطنيين (2)منهم :

* المصطفى بن محمد المصطفى من تافوغالت مات في 23 من فبراير سنة 1955م، بعدما حوكم بتهمة إعادة تنظيم حزب ممنوع.

* أوسيدان أوقسو أوحساين من آيت ورير مات في 19 من يونيو سنة 1955م، بعدما حوكم بتهمة سب حاكم.

* الهاشمي البكاي بن بركان مات في 4 من يوليو سنة 1955م، بعدما اتهم بإخلال النظام.

* الفقير علي قتل على يد حارس فرنسي برصاصة من خارج شباك السجن، إثر مشادة كلامية بينه وبين القاتل، بسبب ضبطه وهو يقرأ خلسة جريدة تتحدث عن وقائع إضراب ديسمبر 1952م(3).

وقد انضاف إلى هؤلاء الشهداء، مجموعة من المقاومين الذين حوكموا أمام محاكم عسكرية، وصدرت في حقهم عقوبة الإعدام، وقد بلغ عددهم تسعة عشر شهيدا، وكانت لائحة المنفذ فيهم حكم الإعدام، مرشحة للتزايد لولا استفادة ثلاث عشر حالة من عفو رئاسة الجمهورية الفرنسية، التي حولت الإعدام إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، كما استفاد عشرة متهمين من العفو الشامل بموجب الظهير الشريف الصادر عن السلطان محمد بن يوسف المؤرخ في 19 من ديسمبر سنة 1955م(4)، ومن بين الذين تمتعوا بهذا العفو، نذكر عباس بن الحاج المدني من

ص: 307


1- المقاومة وجيش التحرير دون ناشر الوثيقة الرابعة، ج 1، مطبعة الرسالة، الرباط، 1986، ص ص 61-42.
2- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي...، م.س، ص 163. .158-159
3- نفسه، ص 173-163
4- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي ...، م.س، ص

مدينة أزمور، أما أحكام الإعدام التي نفذت فتمت مابين 22 من أبريل سنة 1955م والثاني من اوغست / آب من السنة نفسها، واستهلت بإعدام محمد بن أحمد البقال وعلي بن الطاهر بن يحي والعربي بن محمد وانتهت بإدريس الحرزي وعلال الأودي، وعبد الله الشفشاوني(1).

ب- معتقل آيت محمد

وجد هذا المعتقل بين أحضان جبال أزيلال في منطقة مرتفعة تتساقط عليها الثلوج بكثرة، وكانت جدرانه المتآكلة المسربلة بالثقوب، تجعل السجين كأنه وسط ثلاجة، ومن بين المقاومين الدكاليين الذين سجنوا بهذا المعتقل، مناضلو حزب الاستقلال أمثال قاسم العراقي، وإدريس المسفر، وذلك عقب إضراب سنة 1952م المندد باغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، حيث قضوا فيه سنة كاملة قبل انتقالهم إلى سجن أغبالو نكروس (2).

ج- معتقل أغبالو نكروس

معتقل يقع في دائرة مدينة بني ملال، وهو عبارة عن ساحة كبيرة محاطة بالغرف حالته جد مهترئة وشقوقه تسكنها الثعابين والحشرات ، وكان نظام الطعام فيه لا يتحول عن الشعير، حيث يقدم في الصباح للمعتقلين على شكل خبزتين، مصحوبتين بإبريق شاي، وفي المساء يقدم مبخر في إناء مملوء (البلبولة)، وفي يوم كل ثلاثاء وجمعة كان يضاف على الشعير قطع لحم الماعز (3).

وبعد قنبلة السوق المركزي للدار البيضاء لمّت سلطات الحماية المعتقلين السياسيين في السجون الكبرى، الذي كان هذا المعتقل من أبرزهم، وقد تجمع فيه أبرز المقاومين في أحداث تقديم وثيقة الاستقلال، وأحداث إضراب ديسمبر

ص: 308


1- المكاوي (أحمد)، سجن العذير ومحاولة قمع حركة المقاومة المغربية، ندوة علمية تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص 125.
2- المسفر (إدريس) ، صفحات ...، م.س، ص.114.
3- المرجع نفسه.

1952م، والمتهمين في أحداث تفجير المارشي سنطرال...، والذين من أشهرهم: المختار السوسي محمد الفاسي المهدي بن بركة، أحمد اليزيدي، محمد العلمي، أحمد بناني، إدريس المحمدي، إبراهيم الكتاني، عبد الكريم بنجلون التويمي، عنتر ،بنشمسي، الحاج الحسين أحمد المشهوري، مولاي هاشم العلوي، أحمد التبر سعيد أحيزون، بنسالم الكرواني أبا موح من زاوية الشيخ، البشير بلعباس، امحمد بن الجيلالي بناني المهدي الصقلي، فضول الصايغ عبد اللطيف الصايغ، علي بركاش، بسالم الكرواني، إدريس المسفر، قاسم العراقي، أحمد بن الحسين ...(1)، وكانت عتمة هذا السجن لا تضيئه سوى المناقشات الأدبية، والألعاب الرياضية،

والقفشات والمستملحات الطريفة، الصادرة عن بعض المعتقلين السالفي الذكر.

قصارى القول، سامت سلطات الحماية المقاومين المعتقلين مختلف ألوان العذاب الجسدي والنفسي، وقتلت باقة منهم بأعصاب سادية ملؤها الحقد والكراهية، عسى أن تكتم الأصوات المطالبة بالكرامة والاستقلال، غير أن عزيمة وصمود المقاوم الدكالي/ المغربي، كانت أقوى من الآلات الإرهابية التي وظفها المحتل. ولم تفتئ الذاكرة الدكالية تذكر المقاوم أحمد كربوب من منطقة بولعوان يردد إثر اعتقاله «والله ما نسيني ولا نبيع ديني»، وكلما ضربه جلادو سجن سيدي بنور يكيل له بالشتائم عوض أن يستعطفهم. وعلى شاكلته كان المقاوم امحمد سراج الدين، وبالبكاج، وبالخوصة، هذا الأخير كان من فرط التعذيب يفقد وعيه، وحين يستفيق يظل ثابتا على موقفه(2).

خلاصة الفصل الثاني:

تضافرت مجموعة من العوامل والحيثيات في بعث وإحياء مشاهد المقاومة والجهاد في كل ربوع المغرب، إذ تحكمت في خياراتها - السلمية أو العنيفة - أحداث فرضتها ظروف ومؤثرات داخلية انهزام المقاومة المسلحة، الظهير البربري، التنكيل

ص: 309


1- نفسه، ص 114- 141 ص.114-
2- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة ....، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com

برموز الحركة الوطنية، نفي السلطان محمد بن يوسف...) وأخرى خارجية (الميثاق الأطلسي، حركات التحرر العالمية ...)،كانت منعطفاً حاسماً في تغيير منحنيات خريطة الطريق المرصوفة من قبل الحركة الوطنية لتحقيق غاياتها. وقد أسهمت الإستراتيجية الاقتصادية التي انتهجتها إدارة ،الحماية في ضرب مصالح فئات عريضة من التجار والحرفيين في العمق، حينما تم إغراق السوق المغربية بالمنتجات الأجنبية. فالنظام الاقتصادي الرأسمالي الجديد الذي أرست الحماية قواعده، ألحق رجة عنيفة في أسس البنية الإنتاجية التقليدية وأودى بثوابتها، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الكثير من الحرف وتجارتها، بل وإفلاس بعضها هذا الوضع خلق جوا شعبيا مشحونا بالامتعاض والتذمر مهد بشكل أو بآخر إلى تعزيز وتقوية صفوف الحركة الوطنية وجيش التحرير من مختلف فئات المجتمع المتضرر. وفي خضم ذلك استفادت دكالة من نشاط أحزاب سياسية وطنية وازنة (حزب الاستقلال، حزب الشورى والاستقلال، الحزب الشيوعي)، ومن قربها من مدينة الدار البيضاء، التي فتحت معها قنوات الاتصال والتنسيق النضالي، لتصفية رموز الاستغلال الاستعماري وأذنابه، وقد تنوعت أنشطته في هذا المجال مابين التحريض وتوزيع المناشير من جهة، والتخريب والاغتيالات من جهة أخرى، سواء في إطار العمل المنظم أو العمل التلقائي العفوي.

خاتمة:

مرَّت منطقة دكالة منذ القرن الخامس عشر إلى حدود القرن العشرين بتجربتين استعماريتين متباعدتين في الزمن ومختلفتين في شكل وأهداف الاحتلال (الاستعماري البرتغالي والفرنسي)، انسجاماً مع روح العصر الذي نشأت فيه الظاهرة الاستعمارية الأوروبية خلال العصرين الحديث والمعاصر، ولكنهما تجربتين نتجت عنهما نفس ردود الفعل المحلية من طرف السكان الذين أبانوا عن تلقائية الجهاد والمقاومة، وفي مرحلة لاحقة برزت الحركة الوطنية تعبيراً عن رفض الضغوطات الأجنبية الأوروبية.

ص: 310

فمنطقة دكالة كغيرها من المناطق المغربية الساحلية، رسمت تاريخها انطلاقاً من تفاعلاتها مع المجال وخصوصيته المنفتحة على البحر، فكل الحضارات المتوسطية التي انطلقت في بسط نفوذها انطلاقاً من هيمنتها البحرية، كان لها إسهام في ترك بصماتها بهذه المناطق منذ التاريخ القديم مع الفينيقين والرومان... وصولاً إلى مرحلة القرن الخامس عشر الذي شكل انطلاقة مسار تحول شامل ليس فقط على مستوى المجال المتوسطي ، وإنَّما أشَّر أيضاً لبداية التحول الأكبر على المستوى العالمي، حيت تمت النقلة العظيمة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مكرّسة الهيمنة الأوروبية بقيادة الرأسمالية التي انتهت إلى مرحلة الإمبريالية، حيث جدت في مرحلة نضجها الإمبريالي في دمج مجموعة من الشعوب البعيدة عن جغرافية أوروبا في حساباتها وصراعاتها، بحكم التهافت القوي الذي تشكِّل في سياق نشوء الدول الوطنية، واحتدام النزعات القومية بالمركز الأوروبي.

وقد نجم عن التنافس الأوروبي، سواء إبان العصر الحديث أو خلال الفترة المعاصرة، عن تعرض المغرب للضغوطات الأوروبية، تحددت معالمها بقوة في :مرحلتين: مرحلة الغزو البرتغالي ومرحلة الاحتلال الفرنسي، حيث كان الهدف متعدد للاستغلال، ولم تخرج منطقة دكالة عن هذه المشاريع الاستعمارية، بل يمكن القول على أنها شكلت للبرتغال مجالاً إستراتيجياً لا محيد عنه سواء في بعدها الاقتصادي أو الجيوسياسي، الأمر نفسه بالنسبة للفرنسيين الذين حافظوا على الطابع الفلاحي لدكالة محاولين جعلها تلبي حاجياتهم من الموارد الزراعية، ولم يكن من السهل تطبيق هذه المخططات دون الاصطدام مع أهلها الذين دافعوا بكل الإشكال، وفي كل الظروف طلبا في انعتاقهم من نير الاحتلال، وهم واعون ومقدرون للوضع حق تقديره. ومهما قلنا في بطولات أهل دكالة، فلم يكن الهدف الإجرائي هو خدمة هذا الأفق فقط، وإنما قصدنا الوصول إلى خلاصات واستنتاجات نابعة من دراسة مراحل هذا التطور التاريخي وتركته التي لا زالت حية بيننا، نلتقط تأثيرها العميق في المجتمع الدكالي والصورة المكتملة للشخصية الوطنية المدافعة عن التراب بكل ما أوتيت من قوة ورباط الخيل.

ص: 311

لقد أسست منطقة دكالة عبر التاريخ لذاكرة المقاومة المحلية، وجسدت ما تجتمع فيه كل المناطق المغربية بقبائلها فيما تعلق بمواجهة الأجنبي وروح الجهاد التي استمرت قائمة دون نقصان فأي تقييم لحركة الجهاد والمقاومة الدكالية، يجب أن يخضع لمنطق مطابقتها مع وسطها الطبيعي وظروفها السوسيو اقتصادية وتركيبتها البشرية... وكل العناصر المشكلة للذات الجمعية، حتى لا نسقط ضحية الأحكام القيميّة والأحكام الجاهزة التي يمكنها تبخيس التاريخ المحلي والجهوي، وتحتفي القضايا التي حاولت هذه الدراسة إبرازها بأهمية وضرورة كتابة التاريخ الجهوي لدكالة والحفاظ على موروثها بشكل عام دعماً للذاكرة والمجتمع،

خصوصاً ونحن في إطار خطاب الجهوية الموسعة الذي يؤمن بخصوصيات المناطق ويحترم ما يميزها خدمة لأفق الأهداف الوطنية الموحدة، ودكالة مثلت ولا زالت وحدة جهوية متميزة بكل تجليات التميز (الطبيعي - الاقتصادي - الاجتماعي -

الثقافي...).

ص: 312

المجتمع المغربي في النص الرحلي الجاسوسي الفرنسي خلال القرن التاسع عشر:المنطلقات والأهداف

اشارة

محمد بوعزة(1)

أعتبر القرن التاسع عشر مرحلة الازدهار الإمبريالي لأوروبا بعد أن وصلت عتبة متقدمة من التطور في منظومتها الرأسمالية، فزادت مشاكلها الاقتصادية، وتوتُّراتها الاجتماعية واشتدت حساباتها الجيوسياسية، فتقوّى مبدأ الدفاع عن المصلحة القوميّة في خطاب الدول، وتحوَّلَت أوروبا إلى مركزِ صراعٍ بين أقطاب الانشغال بالشعوب الأخرى، منضوية في أحلافٍ ،متعادية تتسابق على رفع شأنها السياسي بكل الوسائل، فأضحت الإمبريالية حلاً متعدّدَ الوظائف لمشاكلها، وتيقَّنت بأن تهدئة الوضع الأوروبي يفرض البحث عن مستقبلها خارج جغرافية قارتها، من خلال الهيمنة على شعوب ما وراء البحار.

واكب هذا التغيّر في مسارات الدّول الرأسمالية وإصرارها على التخلّص من قضاياها المقلقة عن طريق الاستعمار،«تزكية معرفيّة وعلميّة» من المعاهد والجامعات وبعض المفكرين، حيث بدأت الطروحات المؤيدة لسياسة الغزو، بذريعة نشر

ص: 313


1- باحث واستاذ التاريخ المعاصر في كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة سايس - فاس - المملكة المغربية.

الرسالة الحضارية، ودمج الأقطار الأخرى في مدار الحداثة بإخراج مجتمعاتها من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة. وهي مبررات كرَّست معناها لخدمة هدف شرعية الخطاب الاستعماري وجعله مقبولاً في الأوساط العامة، فتجنَّد العلماء والباحثون والمغامرون... لاكتشاف العوالم المجهولة من القارات، وجمع المعلومات عن الشعوب التي لا يعرفون عنها إلا القليل وترابطت هذه الأهداف التي قد تبدو لأول وهلة أنها علمية مع الأهداف الاقتصادية (الموارد الأولية، والأسواق) والأهداف السياسية (التنافس حول المستعمرات) والاجتماعية (التخلص من حالات التوتر التي شهدها المجتمع الأوروبي)، فتحالفت السلطة مع العلوم وتوحَّدتا لتنتجا خطاباً استعمارياً منسجماً متناغماً في المنطلقات، ومتحداً في منتظر الأهداف.

لم يخرج المغرب عن سياق هذا الاهتمام الاستعماري خصوصاً بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830م، فكبُر الهدف الاستعماري المجاور للمغاربة، وتطلع بكل السبل للسيطرة عليهم، فبدأت سياسة الاختراق المتنوعة، ولعل الرحَّالة أبرز من غامر وقاد مشروع التعرّف إلى المغرب وجمع كل المعلومات عن البلاد والعباد... في أفق الاكتشاف والفهم والإدراك لبنية المجتمع المغربي، حتى يتسنّى للسلطة الاستعمارية تطبيق مشروعها على الأرض بأليات مفكّر فيها من قبل، وأدوات متوقعة النتائج من قبل فانطلقت الرحلات تخترق المجالات المغربية، بوادي وحواضر، متخفية تقتنص المشاهد وتسترق السمع وتستطلع مجريات الأمور، وقد كانت هذه الرحلات بإشراف المعاهد والمجمَّعات العلمية الفرنسية، أو أنها مغامرة فردية قادت صاحبها لاكتشاف مجاهل المغرب، فجاءت العديد من الكتب المنشورة في هذا الصدد بعناوينها الملفتة لرغبة الاكتشاف التي استوطنت ذهنية الرحالة .

ونتيجة ذلك، أصبحت صورة المجتمع المغربي في الكتابات الفرنسية، وفي الفهم السائد مبنيَّةً على ما جمعه الرحّالة وكتبوه ونشروه، وبالضرورة حدثت حالات تناقض بين ما يرونه (واقع الحال بالمغرب وبين ما يتمنَّونه (احتلال المغرب)، فسقطت الأحكام الجزافية والاستعلائية مستوطنة متونهم مبررة لصورة التخلف

ص: 314

والبدائية والموت والتفكك والعدائية المتوحشة ... كعناصر مبررة تمنح طموحاتهم الاستعمارية شرعيتها، وهنا تطرح قضيّة الكتابات الرّحليّة وأهميتها باعتبار خط تحريرها ومقاصدها المعرفية في الكتابة التاريخية ورصد تحولات المجتمع المغربي خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فالكتابات الرحلية الفرنسية مهمة في بناء فهم عام. ولكن من الضروري وضعها في سياقها الذي أنتجها، أي التعامل معها بحذر والاستفادة منها مع خيانة بعدها الاستعماري.

1- النص الرحلي وأهميته في كتابة التاريخ
اشارة

لا يحتاج النص الرحلي لكثير عناء من لدن الباحث لتبيان أهميته في البحث التاريخي أو للكشف عن مركزيته في بناء المعرفة التاريخية، فالأمر محسوم من لدن المؤرخين الذين تنبَّهوا مبكراً إلى نوعيته فقد ساهموا في إخراجه للفضاء العلمي بعد تحقيقه ودراسته، فبرزت المصنفات التاريخية في هذا المجال، وعرف بين المتخصصين العديد من الباحثين المؤرخين الذين استوطنوا حقل الاهتمام به حتى أصبحت أسماؤهم ملصقة بهذا الصنف من الكتابات والمصادر التاريخية التي لا يمكن تجاهلها، ويعتبر هذا الاهتمام انعكاساً لترسّب الوعي العلمي بقيمة كتب الرحلات في استجلاء ما أهملته المصادر التاريخية السياسية أو التقليدية بحكم أنها لم تكن في إمكانها الاحتفاء بأكثر ما ركزت عليه على اعتبار قدرة الرحالة في تجميع عناصر معلوماتية عن كل ما أحاط به خلال رحلته مشاهدةً وسمعاً ومعايشةً. فما هي المميزات الأساسيّة لنصوص الرحلة؟ وما مظاهر أهميتها بالنسبة للمشتغل في حقل التاريخ؟

1-1 النص الرحلي ومميزاته :

ينضوي النص الرحلي ضمن الكتابات التي ولدت على أثر مخاض رحلة قام بها صاحبها في المكان والزمان فكان الراوي والمتحكم في الأصوات المتعددة ببطن نصّه، وقد عرف هذا الجنس السردي منذ القديم وشهد عبر المراحل التاريخية تراكماً كمياً ونوعياً فازدادت أهميته مع تطور العلوم الإنسانية والإبداع الأدبي وقد

ص: 315

زاد تطوره بتزايد عدد الرحالة والنصوص الرحلية المكتوبة(1) ، ويرتبط مسمّى النص بالرحلي لمصدره الناتج والمرتبط بالرحلة أي السفر والترحال عبر المكان والزمان كما تعنيها لغوياً، أي أن صاحب الرحلة انتقل من مكان لآخر، فما يهمنا منها ونقتصر على الإهتمام به هو الرحَّالة الذي ارتحل عن وعي ورغبة في الاكتشاف ودوّن رحلته وأخرج سرده من الشفاهي إلى المدوّن مؤَسِّساً لميلاد وثيقة مكتوبة، وبالتالي فالمرتحل المقصود في هذا الصدد هو الذي سعى من خلال تنقلاته الرحلية التعرف على عوالم جديدة والأماكن التي لم يكن يعرفها أو كانت مجهولة بالنسبة إليه ولمجتمعه، فحضر الدافع الذاتي والموضوعي لعملية تسجيل وتوثيق رحلته حتى أصبحت وثيقة تاريخية وجغرافية.... مما ينسجم مع روح الرحلة بإعتبارها عملية كشف النقاب عن المجهول من الناس والأرض(2).

وقد أثار هذا النوع من الأشكال السردية نقاشاً بين المهتمّين والمتخصّصين حول مسألة تصنيفه في جنس تعبيري محدد، ولم ينته هذا النقاش أو يتوقف بحكم انفجارية النص الرحلي وتشظيه وانفلاته من عمليّة الموقعة لأنه يرفض الظهور بلون واحد فالتجاذبات التي تستوطنه تجعل الناقد الأدبي والباحث في العلوم الإنسانية أمام حالة سردية متحركة عبر ثلاثة صيغ السرد الوصف، التعليق (3)لينبلج خلالها نصاً لطالما أعاد أدبيات المعارف القديمة المستعملة في كتابة الرحلة حين يمتزج الخطاب السردي في بنائه بين ما هو جغرافي وتاريخي واثنولوجي ولساني وبين الأحلام والأساطير ومقاطع من الكتابة الرومانسية... لأنه يحيك تقنية الاستطراد والتناص، مؤسساً لحالة متوتِّرة داخل المتن بين ما يمثل الواقع وبين ما يمثِّل الخيال والأسطورة، والمتخيل الذاتي لكاتبه (4).. فتقنية الكتابة تجعل عملية السرد تقترب

ص: 316


1- Nedjma, benachour, « voyage et écriture la littérature autrement »,in revue,Synergies Algérie ,N 3,2008,p.202
2- حسين محمد فهمي أدب الرحلات، عالم المعرفة عدد 138، يونيو 1989، ص،15.
3- Grégoire Holtz et Vincent Masse, «ETUDIER LES Récits de voyage: bilan,questionments,enjeux » in, revue d études francaises, N2 ,2012,p. 10
4- Sabine Roux, Le document et de voyage a traces et cheminements hybrides comme médiateurs de savoirs, These de doctorat Universités Toulouse 2 le Mirail, 2012, p. 18

من الرواية وخاضعة لمحددي الكتابة التاريخية (الزمن والمكان) فالبناء يتم على أرضية متحركة - إن صح التعبير - تتجاوز انتظارات القارئ وأفق توقعاته لأن صاحب الرحلة يطوّع الكتابة باعتباره راوياً وكاتباً... ولا يقتصر على التراوح بين هذه الأدوار والحالات لأنه ما يلبث أن يمرَّ نحو التجلي الثالث الأكثر تقلبا حينما يدمج ذاتية وينتقل بها في مرفولوجية نصه ليبرز نوعا ثالثا هو السيرة الذاتية(1).

فهذه المداخل تكشف عن التموجات التي يعيشها النص الرحلي نتيجة الدينامية والحركية التي تسببها مسألة المزج بين مختلف الأجناس التعبيرية وأيضا إختلاف زوايا الانطلاق في عملية سردها والحبكة التي تشكل مسارها مما يُجلي على صعوبة بل يمكن الزعم باستحالة الإمساك بمفاصل هذه التقاطعات والخروج بخلاصة معرفية ومنهجية تمكن من تصنيف كتابات الرحلة إلى حقل سردي معين، وهي قضيّة تتوحد فيها نصوص الرحلات بجميع أصنافها ولغاتها وانتماءاتها الحضارية أي ينطبق عليها نفس الأمر، وهو ما عمل عليه البحاثة من مختلف التخصصات وخصوصاً الذي يشتغل منهم بالتحديد على هذا الصنف من الكتابات والذين أجمعوا على هذه المميزات التي تحكم النصوص الرحلية

وصعوبة إكسابها هوية محددة تنضوي بها في تصنيف معيَّن وثابت(2).

ص: 317


1- Ibid. p.20
2- اشتغل العديد من الباحثين المغاربة والعرب كغيرهم من الباحثين الأجانب على نصوص الرحلات وعملوا على متابعة مسار منوال الكتابة فيها وقد اصدر هؤلاء كم مهم من الكتب والمقالات التي شكلت بيبليوغرافيا متكاملة بين ما يشكل منها المنهجي وبين ما يمثل فيها المعرفي ونسجل ايضا اختلاف مقارباتهم وخلاصاتهم حول نصوص الرحلات مما اثرى المكتبة العربية وتحولت بعض الأسماء إلى أيقونات في مجال الاشتغال بالنصوص الرحلية ومن بين هذه الانتاجات: - شعيب حليفي، الرحلة في الأدب العربي التجنس آليات الكتابة خطاب المتخيل سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002 - حسين فهيم أدب الرحلات : دراسة تحليلية من منظور إثنوجرافي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1989 - جورج غريب أدب الرحلة : تاريخه وأعلامه، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1966 - عبد النبي ذاكر، الواقعي والمتخيل في الرحلات الأوربية إلى المغرب، (دط)، مطبعة منشورات كوثر، الدار البيضاء، ..1997 عبد النبي ذاكر عينات الكتابة، مقاربة لميثاق المحكي الرحلي العربي د.ط، منشورات مجموعة البحث الأكاديمي في الأدب الشخصي، المغرب 1998 عبد النبي ذاكر ، إستراتيجية الغرائبية في الرحلة البطوطية منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، مطبعة ألطوب ريس طنجة 1996. - عبد الرحيم مؤدن ، أدبية الرحلة، ط1، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 19965. - عبد الرحيم مؤدن الرحلة في الأدب المغربي، النص - النوع السياق، إفريقيا الشرق، المغرب، 2006. - . عبد الرحيم مؤدن الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر، مستويات السرد، ط1، دار السويدي للنشر والتوزيع، الإمارات الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، 2006,

و مادام الانشغال بسؤال جدوى تعامل المؤرخ مع نصوصها، فالرحلة لذاتها هي الأهم بالنسبة له، فلا يهمّه منها تسميتها أو تصنيفها كما هو الحال بالنسبة للتخصصات الأخرى وخصوصا التي تشتغل في حقل الآداب، بحكم أن إجرائية النص الرحلي تتجلى في ما يمنحه من آفاق توثيقية وما توفره من معطيات تفيد في رصد تغيُّر معالم المكان عبر الزمان وتتبُّع مظاهر التحولات الشاملة التي تصفها الرحلات فما هي تجليات أهمية كتب الرحلات بالنسبة للمؤرخ ؟

1-2 - النص الرحلي مصدراً أساسياً بالنسبة للكتابة التاريخية:

انتبه المؤرخ المغربي إلى أهمية هذا الصنف من المصادر فاحتضنها وحقق الكثير منها فأخرجها ودرسها لتبرز العديد من كتب الرحلات، التي لم يتوقف النقاش عن معالم جاذبيتها وضرورة الاشتغال عليها باعتبارها تتضمن شواهد وتوثيق للأحداث والمشاهد بكل تفاصيلها، بل يصبح الرحالة الشهود المميزين من خلال شهادتهم عن عصرهم عبر صيغ تفيد المعاينة والمعايشة (رأيت - سمعت ...) فتلتقط الأحداث والأخبار وتسجل في الذاكرة إلى أن تتم كتابتها (بنفس دور الصحفي حاليا)، ولكن هذه الصفة قد تشوش عليها الأحكام السابقة الصادرة عن نفسية وذهنية هؤلاء الرحالة والتي تعمل على تسييج تصوراتهم السابقة المحمولة في ثنايا رؤيتهم العامة لما يكتشفونه ويصطدمون به ثقافياً(1).

والأهمية الأكثر تمييزا للرحلات هی أنها مصدراً مشتركاً لكل التخصصات ومنها تصدر متواليات السرد التي تخاطب القارئ المتعدد فتمنح الصورة الأشمل عن عصرها بكل ما حمله، وما تبقى منه داخل الرحلة يستوطن الكلمات والأشياء التي وصلتنا

ص: 318


1- Sarga Moussa, «Le récit de voyage,genre « pluridisciplinaire» A propos des voyages en Egypte au 19 siecle,in,Sociétés et Repésentation.N 21 ,2006,p. 252

إلى عصرنا باعتبارها علامات عن ما مضى(1)، وإن لكل عصر كلماته وأشيائه التي تعبر عنه وتجسد علاماته التاريخية، وضمن هذا الفهم فإن كل مرحلة زمنية معينة تمارس نوعاً من الوحدة التي تغطي فعل الكتابة وشروطها لتنسكب وفق تصور ينبع من روح الثقافة الناظمة لها وللمجتمع فتأتي نصوص الرحلات مدرجة في هذا السياق التاريخي ومحكومة بصداه وأثره، أي أن المؤرخ لا يهمه منها إلا ما يبحث عنه، فحتى لو كانت الرحلة سيرة ذاتية فإنه يستثمر ويستعمل منها «ما قد يحكيه المؤلف عن نفسه ليفهم به ومن خلاله ما له ارتباط بالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية»(2).

ولا تنعزل أهمية كتب الرحلات بالنسبة للمؤرخ عن ما تمثله من غنى بالنسبة لكل التخصصات الأخرى، فنصوصها المفتوحة تشكل فرصة معرفية ومنهجية أمام الباحثين لإكتشاف عوالم الحياة في شموليتها. ولا يخرج أيضاً المنتج السردي العربي عن هذا الإطار، فحينما يعمل المؤرخ على تجميع مصادره عن التاريخ العربي والإسلامي مثلا لا يكفيه ما قاله المؤرخون عن الفترة التي تشغل باله فقط وإنما ينفتح على كتب ومصادر عديدة (التراجم ، النوازل الفقهية، السير، كتب الجغرافيا ...، وكتب أدبية) بحثاً عن ما يؤثث في نهاية الحقبة التاريخية التي يقوم بدراستها، فالرحلات لا يمكن تفاديها أو تجاوزها في عملية البحث والتنقيب المصدري والتي تمكّن من النظر إلى السرد في شموليته فكلّ ما كُتب خلال المرحلة التي تهم المؤرخ والمنشغل بها يُعتبر مهمّاً وقادراً على كشف ما هو مغيّب عنه، لتنسجم مع ما لفت إليه بنباهة راقية الباحث المغربي «عبد الفتاح كليطو» حينما قال: «إن دراسة السرد لن تتقدم ما دام الجري مستمرا وراء «التخصص» وما دام العديد من الباحثين لم يتفطنوا إلى أن میدان اهتمامهم ينبغي أن يكون (التشديد على الواو بالكسر) السرد العربي بمختلف

ص: 319


1- يعتبر عمل المفكر الفرنسي ميشيل فوكو رائدا في لفت الانتباه إلى ما وصلنا من الكتابة التي تناولت الماضي والتي بالضرورة تنمدج ضمنها كتب الرحلات ملخصا هذا الأمر في عنوان كتابه : الكلمات والأشياء فكل مرحلة تاريخية تحتفي بشروطها المميزة والخاصة التي تميزها عن المراحل الأخرى وتختلف أيضا حول ما هو مقبول وما غير مقبول للمزيد ينظر ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء فريق الترجمة مطاع الصفدي، سالم يفوت جورج ابي صالح، كمال اصطفان، بدر الدين عردوكي، مركز الانماء العربي، بيروت، 1990.
2- عبد المجيد القدوري ، سفراء مغاربة في اوربا في الوعي بالتفاوت، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية بالرباط، 1995، ص 10

فنونه ومظاهره. إن الحواجز التي نضعها بين الأنواع لها ما يبررها، ولكنها تظل نسبية، فهناك خيوط كثيرة تشد الأنواع فيما بينها وعلى عدة مستويات ...»(1).

فهذا الإنفتاح والاشتراك في القراءة والتأويل والأخذ من نصوص الرحلات لا تلغي انتماء القارئ والباحث من تخصصه ولا تفقده رؤيته المنهجية بل تقويه وتسلمه إلى تجربة يكتشف فيها المشترك بين العلوم الإنسانية بالقدر نفسه الذي توجهه إلى ضرورة الإطلالة على علوم مساعدة لفك شفرات النص المشتغل عليه، فتتغذى قدراته وتتقوى أساليبه عبر ما يكتسبه من مهارات منهجية توسع من أفق زاوية نظره للأشياء، و ما دام الحديث هو بصدد أهمية النص الرحلي بالنسبة لعمل المؤرخ فإن العلاقة قائمة ومتداخلة بين ما يتضمَّنه عمل كتابة هذا النص وبين ما ينسجه مع انشغالات المؤرخ، فتعقيد وتركيب هذا النص يتجلى في تداخل ما هو أدبي بما هو تاريخي، وهو ما قد يبدو مربكا عند تحديده فكلّ متنٍ رحلي يأخذ معناه ووجوده من سياقه التاريخي فحتى لغته بكل تركيباتها ومنهجيتها لا تخرج عن هذا السياق، فكأننا أمام مصدر من مصادر تحديد هوية ثقافة وعصر معينين بكل تفاصيلهما ، فقد اعتبر الراحل ««ادوارد سعيد» أن الرحلة شكل هوياتي للإستشراق اشترك مع العلوم التقليدية ورؤية المؤسسات التي سادت في زمن هذه الرحلة بأوروبا بمعنى أن هناك «تركيباً أصيلاً» بين مقاربة تاريخية وأدبية أو بتعبير أخر جاذبية الفائدة المتبادلة لأجل تاريخية النصوص وتناص التواريخ(2).

فالعديد من الموضوعات في البحث التاريخي تم تغطيتها، من حيث المعطيات الخبرية والأحداث والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بفضل كتب الرحلات ونصوصها وهو أمر محسوم بين جل المؤرخين، ففي المجال التداولي العربي والإسلامي شكلت الرحلة أهميتها انطلاقا من ثقافة الرحلة والسفر التي جسدتها الرحلة صوب الحج وطلب العلم بالإضافة إلى الدوافع الأخرى التجارية والاستكشافية.... أو الرحلات الرسمية المبعوثة من طرف الحاكم مثل بعثات السفارات الدبلوماسية... وقد شكل هذا التنوع فضاء بحثيا للمؤرخ أدرك جدواه وحيويته في الحصول منه على

ص: 320


1- عبد الفتاح كليطو الحكاية والتأويل دراسات في السرد العربي دار توبقال. ص6.
2- Grégoire holtz...op,cit.p.11.

ما يمكّنه من إغناء المعرفة التاريخية عبر تجميع عناصر المشهد التاريخي الذي ساد في مكان ما خلال زمن الرحلة (1).

2- النصوص الرحلية الفرنسية (الجاسوسية) في حضرة المجتمع المغربي:

كان الغرض المعرفي من المدخل السابق الذي تم التطرق فيه إلى أهمية النص الرحلي، وخصوصية مناولة المشتغل في الحقل التاريخي عليه، وما يضفيه هذا النص من تنويع في الرؤية للواقع المرسوم عن مرحلة القرن التاسع عشر، واكتشاف أوجه اهتماماتها، هو إبراز دور النصوص الرحلية الفرنسية وخصوصاً الجاسوسية منها في الكشف عن الشخصية

المغربية خلال هذه المرحلة الزمنية، وكيف تجلى حضورها، من خلال منطلقات حددت خط تحرير الكتابات الفرنسية ورؤيتها، وباحت بأهدافها المضمرة والمعلنة. فما هو سياق الرحلات الجاسوسية الفرنسية؟ وما هي منطلقاتها وأهدافها؟

2-1 المغرب في صلب الاهتمام الاستعماري الفرنسي: البدايات والسياق

والمنطلقات

تتضح عناصر السياق التاريخي وامتداداته الأولى بجعل هذه الرحلات ضمن منظور العلاقات التي ربطت بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، وما سجلته من حالات مد وجزر، انتقلت من وضعية التوازن إلى وضعية اختلال التوازن لصالح أوروبا (2)، وبالتالي يمكن اعتبار الرحلات الأوروبية في مغرب ما قبل القرن التاسع

ص: 321


1- نوفل محمد نوري الروايات التاريخية في كتابات الرحالة المسلمين في العصر العباسي بين الحقيقة والاسطورة دراسة تحليلية)، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية مجلد ،11، العدد 2011، 1، ص 251.
2- تحددت العديد من الإصدارات العلمية عن هذه العلائق من خلال كتب الرحلات ، ليست الأوربية فقط وإنما حتى الرحلات المغربية في اتجاه أوربا، وللمزيد من الاطلاع على النوع من الكتابات في هذا المجال ينظر : - عبد المجيد القدوري سفراء مغاربة في أوربا ،1610-1922 ، في الوعي بالتفاوت، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية بالرباط 1995 المغرب وأوربا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، مسالة التجاوز المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 2000. - سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب بالرباط 1995. الطيب بياض رحالة مغاربة في أوروبا بين القرنين السابع عشر والعشرين تمثلاث ومواقف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء 2016.

عشر، قد مهدت للرحلات المعنية بالدرس على مستوى الصورة الاستباقية المنقولة حول المغاربة، بحيث الأولى (رحلات الأوروبين في العصر الوسيط والحديث)كرست النظرة العدائية الأوروبية، إذ كتب الطبيب الانجليزي ليمبريير (Lampriere) لذي أقام في حضرة السلطان سيدي محمد بن عبد الله 1790-1791م، ما يلي(1):

- عندهم جهل تام بالتاريخ السياسي للدول الأجنبية.

- هنا في المغرب يقطن جنس من الأنذال يرجعون في أصولهم إلى أولئك الأعراب المتوحشين الذين يقدمون إلى المدن الكبرى قصد السرقة وقطع الطرق.

وقبله كتب الفرنسي بيدو دون سان اولون (Pidou de saint-olon) الذي بُعث سفيراً لفرنسا سنة 1693م إلى بلاط المولى إسماعيل في قضية افتداء الأسرى، أبياته الشعرية على نفس المنوال(2) :

- اعتبر هذه الأمة السمراء

- أكثر ملعونة

- حيث لا مكان عندها للشرف أو الصدق أو الإيمان

- ودأبها نقض الأقوال وخيانة التعهدات

- عقولهم مغرورة وقلوبهم متبجحة

- وباختصار فهم متوحشو الشعور

- قبيحو المظهر

فهذه النظرة العامة والفرنسية الخاصة تجاه المغربيين لم تكن معزولة عن تاريخ العداء الإسلامي - المسيحي، وأثره على علاقات الدول والشعوب في ما بينها والتصورات التي حملوها وروجوها عن بعضهما البعض، ولم ينكسر هذا الحاجز

ص: 322


1- رولان ،لوبيل، الرحالة في الفرنسيون بلاد المغرب...، ص 66.
2- نفسه، ص 66-67.

العدائي، بل تطور إلى إرادة الهيمنة عند الأوروبيين بعدما إستطاعوا الخروج من جغرافيتهم مع بدايات القرن الخامس عشر في سياق ما عرف بالكشوفات الجغرافية وإستمر تطورهم إلى أن وصلوا درجة مرحلة الإمبريالية، خروجا للبحث عن مستقبلهم مرة أخرى في ما وراء البحار(1).

فجاء حدث غزو الجزائر 1830 من طرف فرنسا ليكبر حلمها بتطلعها لاحتلال المغرب وإدماجه في نسق هيمنتها ، ومجال سلطتها الإمبريالية. خصوصاً وأن اشتداد المنافسة على المستعمرات بين الدول الأوروبية، شجع المؤسسات العامة والخاصة، وحمَّسها للفعل الاستعماري واندمجت في هذا الخضم المراكز الجامعية والعلمية، والكل بدأ بدعم الرحلات الاستكشافية قصد جمع المعلومات الشاملة عن المجتمعات الأخرى. فتطور علاقات المغرب وفرنسا وما راكمته من صدام عسكري ومفاوضات

جعل فرنسا تفكر بجدية في ضرورة توسيع مجالها الاستعماري على حساب المغرب فحشدت قواها ووجهت تركيزها نحو أفق السيطرة عليه وضمه للمتربول، ويؤكد هذا الأمر بوضوح حتى الفرنسيين أنفسهم فيقول أحد الباحثين الذين عايشوا فترة الحماية الفرنسية، واهتم بدارسة الرحلات الفرنسية التي كان موضوعها المغرب قائلاً: «تزامن ظهور المغرب في تاريخنا الأدبي مع ظهوره تقريباً في تاريخنا السياسي...»(2) وفي خضم هذا الانشغال السياسي الإمبريالي برز الاهتمام العلمي والمعرفي في تناغم تام مع المشروع الاستعماري ، وهو ما حول المغرب إلى قبلة للرحالة والمهتمين والباحثين

سواء منهم الجماعين للمعلومات المختلفة أو المهتمين بالقضايا الاجتماعية(3).

فبرزت العديد من الأسماء الفرنسية التي أنتجت كتابات عديدة حول الظواهر الاجتماعية المغربية سعت من خلالها تحويل المجهول معلوما بالنسبة للفرنسيين دولة وشعباً، ومن جملة هؤلاء نذكر على سبيل المثال لا الحصر: اوغست مولیراس ايدموند دوتي ميشوبلير شارل دوفوكو،.... وآخرون أغلبهم لم يستطيعوا الانفلات

ص: 323


1- عبد الكريم غلاب : قصة المواجهة بين المغرب والغرب، دار الغرب الاسلامي، بيروت، 2003، ص. 72.
2- رولان لوبيل، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب من القرن 16 الى ثلاثينيات القرن العشرين، تعريب، حسن بحراوي، دار الأمان، الرباط، 2017، ص 11.
3- نور الدين الزاهي : المدخل لعلم الاجتماع المغربي وجهة نظر الرباط، 2011. ص، 14.

من سطوة وهيمنة الدور المحدد لهم مسبقا في إطار المشروع الاستعماري الفرنسي للمغرب، فخضعوا بذلك إلى انجذابات، يتمّ فيها الانضباط إلى الاختيارات الكبرى للمؤسسة السياسية واملاءاتها بعيداً «عن الموجّه العلمي»، واتباع منهجية مرتكزة على الموضوعية، فتحولت بذلك إلى آلية تتحرك وفق الأهداف الكولونيالية من خلال مهمة تحضير المداخل المعرفية التي تمكن من فهم الواقعة الاجتماعية المغربية وتفسير معطياتها الثقافية (1).

ولا يعني هذا الأمر، أن التوجه الاستعماري الفرنسي كان موحَّداً إزاء المغرب، ولا حتى حول الكيفية التي يجب أن يتم بها اختراقه، بل كانت هناك خلافات واختلافات في النظر إلى ما يجب أن يكون من وسائل عمل، ومن سياسات عن بعد وغيرهما مما يسمح بتجاوز حالة «الخصاص المعلوماتي» الذي تعانيه المؤسسة السياسية والعسكرية والدبلوماسية، بالإضافة للخلافات التي كانت بين أجنحة السلطة سواء في باريس أو الجزائر حول هذه الأمور ، ففي هذا الصدد يقول نور الدين الزاهي:« ظل المغرب منذ 1880م وإلى حدود بداية القرن العشرين موضوع صراع بين فرنسيي المتربول والجزائر . صراع يعكس تضارب المصالح بين الجماعات السياسية والبيروقراطية والاقتصادية المتنافسة، ودرجات تعارضها في الجواب عن السؤال : أية سياسة يجب إتباعها في المغرب؟ في خضم تلك الصراعات لم يكن من المدهش أن يكتشف المرء أن مسالة مراقبة البحث في مجال العلوم الاجتماعية ظلت قضية جوهرية بالنسبة لمختلف هذه الجماعات ... »(2).

فالسياق الاستعماري هو المؤطر لخروج الرحالة من أرض فرنسا بهدف مغامرة في أرض المغرب التي يجهلونها ، لم تكن قضية ترتبط بدوافع ذاتية عنهم، وإنما بدواف

ص: 324


1- للتدقيق أكثر في البناء النظري لهؤلاء الذين اهتموا بالشأن المغربي من الداخل وحاولوا جاهدين فهم بنياته وذهنياته، إنهم ركزوا على المناطق غير المعروفة في غالبيتهم، خصوصا بنية القبائل باعتبار أن المجتمع المغربي تشكل آنذاك ( القرن (19 في اغلبه بالبوادي مقابل ساكنة حضرية قليلة، وبدلك شن هؤلاء الدارسون تركيزهم على المجالات القروية لانها تضم اكثر عدد الساكنة المغربية للمزيد حول هذه المسألة ينظر: المختار الهراس: القبيلة والسلطة تطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب، نشر المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني مطبعة الرسالة، الرباط، 1988.
2- المدخل لعلم الاجتماع المغربي، مرجع سابق، ص، ص: 13-14.

مرتبطة بهذا السياق الذي خلق لهم الجو المحفِّز للقيام بما قاموا به، فقد كان جواً محموماً من التسابق والتنافس حتى بين الرحالة أنفسهم باختلاف جنسياتهم الأوروبية للوصول إلى مجاهل الأماكن الداخلية العميقة في القارات، واكتشاف الشعوب وثقافتها ونقل كنوز معرفية عنها ، فهم يدركون تمام الإدراك ما تعنيه هذه المعلومات في أوروبا، من طرف الفاعلين السياسيين والعسكريين ورجال المال والأعمال ... ..والجامعات... وهي تجليات كشفها الباحث الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في كتابه الرائد والمشهور في هذا المجال «الاستشراق»(1)والذي قلب المعادلات الأوروبية حينما فجر خطابها من الداخل بكشف زيفه الذي هيمن لمدة طويلة، ليبين كيف أن ما نسجه الأوروبيون ضمن ما صنفوه من العلوم والمعارف التي تكون الشعوب الأخرى موضوعا لها، هو في حقيقته مضموناً أكاديمياً لرؤية استشراقية، وأن الرحلات ونصوصها هي الأخرى وظفت في هذا المدار لإثبات وتكريس بداوة وإنحدار وتعصب وعدوانية الشرق، التي تفرض ضرورة تدخل الرجل الأبيض صاحب الرسالة الحضارية.(2).

لقد كان هذا السياق وهذه المنطلقات الاستعمارية، مفروضاً من باب الضرورة المنهجية للحديث عن الرحلات الجاسوسية الفرنسية التي قَدِمت إلى المغرب خلال القرن التاسع عشر، بشكل متواصل وكل منها تكمل الأخرى، ووُسِمت «بالجاسوسية»(3)لإبراز هدفها الحقيقي من جهة، وللفت الإنتباه إلى أهمية معلوماتها،

ص: 325


1- استطاع المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد تكسير الرؤية النمطية التي حفل بها الإنتاج المعرفي الغربي بكل تخصصاته وكشف حقيقة انه ما أسسته هذه المعارف الغربية حول الشعوب الأخرى، هو في حقيقته يضم كثيرا من الأوهام، ويعبر فقط عن تبريرات يراد بها الهيمنة على هذه الشعوب المستعمرة، وان مفهوم الشرق ماهو الا صناعة غربية لا وجود لها في جغرافيا، انه شرقهم الذي بنوه في أساطيرهم المعرفية، ولذلك يعتبر كتابه ( الاستشراق، المعرفة،السلطة، الإنشاء) الصادر سنة 1978، أساس كل باحث يشتغل في مجال الخطابات الكولونيالية وما قبلها.
2- خالد السعيد، ادوارد سعيد ناقد الاستشراق، قراءة في فكره النقدي، مكتبة مؤمن، بيروت، 2011، ص 81-106.
3- عكست الكتابات الناتجة عن رحلات جاسوسية والتي اتخذت من المغرب موضوعا لها طابع التسابق نحو جمع كم هائل من المعلومات وقد شمل هذا التسابق المجتمع والدولة على السواء، فإذا تمكنوا بطرقهم وضغطهم من التعرف إلى بعض مظاهر البنية المجتمعية في البوادي والمدن فإنهم ظلوا على إصرار في اكتشاف القصر السلطاني وحاشيته ودائرته الخاصة... وخصوصا ما حاكوه حول قضية الحريم. وقد حاول البعض اختراق هذا المجال المحرم بالنسبة لهم، إلا أن الرقابة المخزنية الشديدة حالت دون ذلك ومع مرور السنوات تمكن بعض الفرنسيين خلال القرن العشرين من الاقتراب من المجال السلطاني وعلى راسهم كابرييل فير، الذي الف كتابا عن مشاهداته داخل القصر باعتباره مصور وقد جاءت محاور الكتاب الذي ألفه لمشاهد شملت كل المجالات، ومنها عادات وتقاليد وحياة السلطان والحاشية وما إلى ذلك، وهذا تعبير عن قدرة الرحالة والباحثين في استكمال المخطط الامبريالي ومده بالمعطيات الاستخباراتية اللازمة. للمزيد من المعلومات انظر كابرييل فير في صحبة السلطان ترجمة عبد الرحيم حزل، جدور للنشر، الرباط، 2003

بحيث أن البعد الجاسوسي يجعل الرحالة أكثر دقة وأكثر مقاومة لانطباعاته، وإغراءات البعد الغرائبي الذي هيمن على العديد من الرحلات الأخرى، وهو تمييز ضروري، وبالتالي لا يمكن تجاوز الزخم المهم من المادة التاريخية التي تركتها هذه الرحلات الجاسوسية، ولذلك سيتم التركيز على نموذجين من هذه الرحلات أولهما: شارل دوفوكو من خلال كتابه التعرف على المغرب، وثانيهما كتاب المغرب المجهول لصاحبه اوغست مولیراس. فكيف تجلى الواقع المغربي في الرحلتين.؟

2-2 المغرب من خلال جاسوسية شارل دوفوكو(Charles de Foucauld) :

2-2 المغرب من خلال جاسوسية شارل دوفوكو (1)Charles de Foucauld) :

وصل شارل دوفوكو إلى مدينة طنجة - قادماً إليها من الجزائر - يوم 20 يونيو 1883 متخفياً في زي يهودي، مستعيناً بيهودي مغربي يدعى «مردوشي أبي سرور»، وواضعاً كف يده بطاقة لا تتجاوز حجمها خمس سنتيمترات مربعة، وقلم رصاص قصير الحجم أيضاً، حتى تسعفه هذه الطاكتيكات التي يبدو إنها مجربة لديه من قبل، وتضمن له تسجيل معلوماته بأمان دون أن يشعر به المغاربة، فجال العديد من مناطق المغرب لمدة بلغت 12 شهراً، أي إلى حين مغادرته التراب المغربي انطلاقا من وجدة إلى الجزائر يوم 23 ماي 1884 اكتشف فيها المناطق البعيدة عن المدن وغير المعروفة، أي عوالم القبائل والمغرب الداخلي، متمكنا من إنجاز كمٍّ مهمٍّ من الرسومات والبيانات والخرائط، كان يدوّن أي شيء مهما صغر شأنه(2)، ويلتقط جميع المعطيات ويسجل في ذهنه كل المشاهد، لقد كان بمثابة أداة تسجيل وتصوير صوتية ومرئية، بالإضافة إلى ما دونه كتابة وعلى المباشر كرؤوس أقلام لملاحظاته حتى

ص: 326


1- ولد في 15 شتنبر 1858 في مدينة استراسبورغ في عائلة تعود أصولها للنبلاء تميزت بالحفاظ على التقاليد الكاثوليكية، فقد ولديه وهو لا لم يتجاوز سن السادسة من عمره فتكفل به جده القيادي في الجيش الفرنسي، التحق بالمدرسة العسكرية ليعجب بتخصص الجغرافيا الذي كان انذاك بدأ في تطوير اتجاهاته وتجاوز بعد الوصف للطبيعة تضاريسا ومناخا وتشرب الاسس الاخرى للتفكير العسكري وعلم الاستراتيجية والتخطيط، سيرسل إلى الجزائر سنة 1880 ليشارك في محاربة مقاومة بوعمامة فادر كان ساحة الحرب ليست ميدانه المفضل وان الارتباط بالمؤسسة العسكرية ليست اختياره الصائب، ويفسر البعض قراره بما عاشه من صعوبات في بداية حياته، فكان هذا القرر بداية التفكير في مشروعه الذاتي الاكبر الذي هو القيام برحلة نحو المغرب. ينظر : Kninah. Abdeslam, Images Françaises du Maroc avant le Protectorat (siècle 17- 20),thèse de doctorat Université d'Avignon, Année universitaire 2015-2016,p.318-321.
2- شارل دو فوكو، التعرف على المغرب -1883-1884، ترجمة المختار بلعربي دار الثقافة الدار البيضاء ، 1999 ، ص 5.

لا يعول في كل الحالات على عملية الاستذكار ، فهذه الأساليب والتقنيات البسيطة والصبر على ركوب المخاطر، ومواجهة الصعاب جعلته متلبسا حقيقيا بشخصية أي جاسوس مدرِّب، وقد صدر كتابه المعنون التعرف على المغرب سنة (1)1888م.

لم ينطلق في رحلته إلا بعد تنسيق مسبق مع الممثل الدبلوماسي الفرنسي في طنجة، الذي قدم له مساعدات عديدة أفادته كثيرا في أداء مهمته، مما يبرز أن المشروع لم يكن فردياً في بعده العام، وإنما كان هدف كل فرنسي سواء في الجزائر أو في فرنسا، وقد جسَّد هذا الأمر في قوله: «زوَّدني أورديكا (ممثل فرنسا في طنجة) بجميع التوصيات التي قد تكون مفيدة لي من خلال سفري: لم توجد لو رسالة واحدة بين هذه الرسائل لم تخدم مصالحي فيما بعد .. »(2)، فهذه الرسائل باسم ممثل فرنسا كانت موجهة لكل الذين لهم قدرة على توفير الحماية للرحالة، وأبرزهم شريف وزان مولاي عبد السلام الذي وفر له من يحميه من خلال شبكة رجالات الزاوية في العديد من المناطق المغربية، فهذه التغطية الأمنية - إن صح التعبير - المرافقة دعمت عمله الجاسوسي وسهلت مأموريته في مغرب كان من الصعب أن يتنقل فيه أوروبي دون حماية.

2-3 المجال والسكان والسلطة : عناصر ركز عليها شارل دوفوكو

أي جاسوس حينما يقرر بدأ عمله من الضرورة أنه يخضعه لمبدأ: المطلوب في دولته، والذي يكون مجهولاً عندها، يحدد فيه المجالات المركزية في اهتمامه من المجالات الهامشية، فذهنية شارل دوفوكو كانت مرتبة وفق أهداف مسطرة من قبل، يرنو إلى حلم لم يسبقه إليه أي أحد تكوينه المتنوع وتدريبه العسكري سيساعدانه في تطبيق هذه الأهداف، والمتجلية في ضبط المعالم الأساس لطبيعة الأرض

ص: 327


1- اعتبر رولان لوبيل الباحث الفرنسي متخصص في صنف الرحلة، كتاب شارل دو فوكو بأنه : ( يمثل، بدون منازع ، أهم رحلة أنجزت داخل المغرب من طرف اوربي منذ قرن من الزمن... فهو قد وصف لنا مواقع ما تزال ماثلة للعيان، وتوغل في نفسية أناس لم يتغيروا كثيرا رغم كل التحولات التي حصلت من حولهم، وتعمق في طرح قضايا سياسية واقتصادية ما تزال تحافظ على راهنيتها، واجمالا يحمد له انه قد عبد الطريق في اكثر من مكان امام اجيال الباحثين. وكل هطا له وزنه وسيبقى الأمد طويل». انظر ، رولان لوبيل، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب، مرجع سابق، ص 166.
2- نفسه، ص 11.

المغربية ومميزاتها ورصد المجتمع المغربي وبنيته العامة، واختلافاته وثقافته، وطرق تفكيره... وأيضاً معرفة نظام السلطة السياسية وأجهزتها ومدى حجم قدراتها وإمكاناتها المتاحة فأثناء سرد رحلته يجعلك تتابعه وكأنه ممسك بأداة تصوير تصف ما تراه وصفاً دقيقاً، وحينما تسنح له الفرصة بإدخال رؤيته النابعة من طموحاته الاستعمارية، يقحم خلاصاته حول سلوك معين أو مشهد... محاولاً تبيان أفضال

الحضارة الغربية والإعجاب الذي تناله.

يقول في هذا الصدد كنت لاحظت منذ وقت، وهو أمر لم انته من معاينته فيما بعد، إن الحجاج، بصفة عامة، أكثر أدبا وبشاشة من باقي المسلمين» فهذا القول يطرح السؤال، ما السر في هذا الإطراء على الحجاج المغاربة؟ يأتي جوابه حينما یبرر ذلك: «يجعلهم سفرهم الطويل على اتصال بالغربيين فيريهم سفرهم كهذا أولا أن ليس هؤلاء الغربيون بالوحوش المخيفة لهم فيفاجأ هؤلاء الحجاج ويعترفون بالجميل... ثم تجعلهم سفننا البخارية وسككنا الحديدية يعجبون بنا عند رجوعهم من الحج...»(1) لا يترك أي فرصة للكشف عن ما يتمناه للمغاربة ألا وهو انفتاحهم على الحضارة، هذا الانفتاح لن يتأتى إلا تحت قيادة فرنسا طبعاً.

وتَخفِّيه في صفة اليهودي لم تبعده عن إبداء امتعاضه مما تقول به ديانة اليهودية في قضية الراحة الأسبوعية المقدسة يوم السبت، والتي رأى فيها مضيعة للوقت، وأنها ستسرق منه ساعات طوال يمكنه من خلالها جمع المزيد من المعلومات، «يجب أن لا تتفاجأ وأنت تحرر إذ قد يفشى سرك وسيعلم الآخرون أنك لست يهودياً. هل رأيتم يوما في المغرب يهودياً يكتب يوم السبت ؟ إنه محظور»(2). لهفته هذه على عدم تضييع الوقت نابعة فيما يبدو من توجساته التي تصاحب أي جاسوس، يفكر في العواقب التي تلي أمر انكشاف سره، إنها حالة نفسية رافقته طوال رحلته، فكانت محفّزاً على تكثيف وتسريع عملية جمع المعلومات، وفي نفس الوقت الزيادة في الحيطة والحذر.

ص: 328


1- شارل دوفوكو، التعرف على المغرب، مرجع سابق، ص21.
2- نفسه، ص 25

فكل مدينة وصلها إلا ويقدر عدد ساكنيها ويصف بنيتها الداخلية والخارجية ويتحدث عن جوارها دارساً أسباب ضعفها الاقتصادي، انطلاقاً من مقايستها اللاشعورية مع المدن الأوروبية ففي حالة فاس مثلا، وفي صدد الحديث عن التجارة المتشعبة لهذه المدينة والتي تمتد لمناطق بعيدة ومتنوعة يقر بأنه «قد تكون تجارة جد واسعة مثل هذه ثروات هائلة في بلد آخر غير المغرب لكن هنا عدة أسباب تقلل من الأرباح: أولا أثمان النقل المرتفعة والذي يكون على ظهور الجمال أو البغال، ثم أماكن المكس المتعددة الموجودة في طرق شمال جبال الأطلس وأخيرا الخفر الضروري جنوب هذه السلسلة كل هذه المعطيات تضاعف قيمة النفقات على الأقل. ثم يحدث أن تهاجم القوافل باستمرار ... »(1). فهذه التفسيرات المقدمة عن الوضع العام للنشاط التجاري، تجد صداها في واقع الحال آنذاك في مغرب القرن التاسع عشر، وتعد ملاحظات تأملية دقيقة في طبيعة الأعطاب التي واجهت المجتمع المغربي وأعاقت تطوره.

ولم يغفل أي أمر ارتبط بالدولة وطرق تدبيرها للفضاء الاجتماعي والطبيعي والسياسي.... مدفوعاً برغبة الباحث عن نقط الضعف وعن نقط القوة انسجاما مع أهدافه فملاحظاته في عمقه تحيل على رغبة التطابق مع القراءة الموضوعية التي يمكنها أن تمنحه صورة المغرب حقيقته، وفي أرضه، لا المغرب الذي صورته كتابات من سبقوه من الرحالة التي احتفت بمظاهر خيالية لا علاقة لها بحقيقة الوضع المغربي، فالدولة المغربية هي العدو الأول لفرنسا، فهي أضع-ف م-ن توحيد البلاد، ودليله في ذلك انقسام القبائل إلى بلاد المخزن وب-لاد السيبة وبالتالي لا وجود لسلطة ،واقعية، أو مركزية إدارية شديدة يمكنها التحكم في الجهات والأقاليم والحواضر والقبائل، مصوراً الوضع النظامي الع-ام في حالة اهتراء، يكفيه سبباً بسيطاً حتى ينهار، إنه لم يمتلك نفسه أمام جبروت طموحاته وطموحات بلاده الاستعمارية، فقدم هذه القراءة المتعسفة وأصدر بشأنها أحكاماً جزافية، لا يتم التمييز بينها

ص: 329


1- نفسه، ص 34.

وبين الأحكام التي أصبحت نمطية في كل الكتابات الفرنسية حول المغرب(1).

فسيكولوجية نص الرحلة يعيش تشنُّجاً، نتيجة عدم استطاعته تجاوز عقدة التفوق، التي تتحكم في الغربي عموماً والفرنسي خاصة . الناظر في تاريخ ووضع شعب مجاور يختلف عنه تمام الاختلاف، حيث تعمل ذاكرته على الضغط على هذا النص حتى يستضيف مرة تلو الأخرى ما يثبت حاجة المغاربة «للنور الغربي» وبالتالي للهيمنة الفرنسية... وإلا بماذا يفسر كلامه الآتي ؟ : «لهذا كم شاهدت من المغاربة، راجعين من الجزائر ، يحسدون جيرانهم على ما هي عليه وضعيتهم ما أعذب أن يعيش المرء في سلام، سواء ملك الكثير أو القليل ما أعذب أن يستفيد مما يملك دون خوف، الطرق الآمنة، السكك الحديدية، التجارة دون مشاكل احترام الملكية، سلم وعدالة للجميع: هذا ما رأوه وراء الحدود الجزائرية المغربية، كم قد يصير بلدهم البائس إلى حد ما رغم أنه الغنى إلى حد ما، سعيدا في مثل هذه الظروف»(2).

لم يغفل شارل دوفوكو ظاهرة سياسية عرفها المغرب خلال القرن التاسع عشر، وهي عملية العلاقة بين القبائل والسلطان والتي إن ساءت، تبرز عملية عسكرية سلطانية، تحت مسمى «الحركة». فطغى هذا المشهد على مجساته الذهنية والتقطها مناسبة ليكشف ما يخفيه أي إبراز الضعف والوهن المغربي وإن هذه العلاقة محكومة بالعداء وعدم الثقة، حيث خلال وقوفه على حركة السلطان الحسن الأول تادلا سنة 1883 عبر ما حكي له عنها، فاختزلها في ما حكي له عنها، فاختزلها في أنها حركة عسكرية تنظم كل سنتين أو أقل تقريباً ضد القبائل لإخضاعها أو لعملية جمع الضرائب... ليبين بعد ذلك كيف أن هذه الحركة توضح بعدم خضوع العديد من المناطق للمخزن

ص: 330


1- يتجلى هذا الأمر في قوله : ( لا توجد في بلاد المخزن أبدا أداة ادارية ، ولا توجد ابدا عدة قبائل مهمة او عدة مدن من ثمة سلطة مصير اداري واحد لكل قبيلة ذات اهمية بشرية عدد لكل حاضرة لكل اقليم قايد معين مباشرة من طرف السلطان ولا يخضع لسلطة هذا الاخير. يضاف الة هذا، كما هو الحال في العواصم مثل فاس ومراكش وفي القبائل الكبرى مثل حاحا والشاوية فان السلطة موزعة بين عدة عمال يحملون لقب باشا في مدن الاقامة الإمبراطورية مراكش وفاس ومكناس ولقب قايد في باقي الحالات الاخرى. هذا التفتيت الأقصى الغاية منه تجنب الشيء.هم السلطان الدائم أن يسهر على الا يصبح أي كان في مملكته غنيا جدا والا يكون له نفوذ كبير اذ يكفي حدث ضئيل لقلب عرشه المتداعى»، شارل دو فوكو، التعرف على المغرب، الجزء الاول، ص 36
2- شارل دو فوكو، التعرف على المغرب، الجزء الاول، ص 55.

قائلا:«لم يبق للحكومة إلا سكان شواطئ وهي مجموعة بشرية توفر جنودا دون المستوى في هذه الظروف»(1). لكنه يستدرك ليعترف بقدرة السلطان الحسن الأول في تحسين الأحوال عمّا ساد فيها قبله حيث اسكت صوت الصراعات في العديد

من المناطق.

وبنفس الايقاع والوهج تابع مسيرته، في مناطق الصحراء عبر الأطلس المتوسط مخترقا أفاقا تضاريسية متنوعة، مكتشفاً قبائل وتقاليد.. وكأنه يجعل رحلته تختم مراحلها بالخط الشرقي للمغرب المجاور للجزائر ، وهو أمر لم يكن بشكل اعتباطي، وإنما مرتبط بتخطيط مسبق، حتى وصل مدينة وجدة محطته الأخيرة التي كانت نهاية رحلته في مغرب استكشفه باحترافيّة جاسوس مدرب، لقد حقق حلمه، ومنح السلطات الاستعماري في الجزائر وفرنسا كتاباً كشَّافاً للأعلام والأماكن، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، التي تهم المغاربة، مسنوداً في ذلك بتوضيحات كثيرة من الرسومات والخرائط (2).

2-4 اوغست مولیراس (AUGUST MOLIER(AS ) والمغرب المجهول.

يمكن الجزم أن الكتاب الذي خلفه شارل دو فوكو قد أثَّر على العديد من المهووسين بالرحلة الاستكشافية والتجوال الاستخباراتي، ولعل «اوغست مولیراس» يعد أحد هؤلاء، ونجد لهذا التقدير إشارات يسندها العنوان الذي اختاره موليراس «المغرب المجهول». وأيضاً للكم الهائل للخرائط والتفصيل عن الأماكن، والوضعيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشكلها العام بالإضافة إلى أن مسؤولي الجزائر بقوا على نفس منوال الإصرار في ضرورة كشف مجاهل المغرب . فمن هو موليراس؟ وما حيثيات كتابه الجاسوسي؟

ص: 331


1- نفسه، ص ، 88 .
2- تطرق الرحالة في معظم قضاياه إلى توصيف الطرق والمسارات والسكان ( الزي المأكل والمشرب والتقاليد...) وبحث في العلاقات بين العناصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ودور التضاريس والمناخ، والنفسية العامة للمغاربة بما يخدم اهدافه الاستعمارية المنعكسة في متمنياته بان يكون لفرنسا مستقبلا في بلاد المغرب المجهول الذي أصبح بفضل هذه الرحلة الجاسوسية معلوما في عديد اموره وتلزم الاشارة الا ان المترجم قسم عمل دوفوكو إلى جزأن الجزء الاول تضمن المتن كاملا والجزء الثاني خصصه لملحق الخرائط والرسومات.

كان اوغست موليراس أستاذ اللغة العربية في وهران، ألَّف كتابه «المغرب المجهول» دون أن يتنقل إلى المغرب بل أوكل الأمر لشخصية من القبائل الجزائرية يطلق عليها لقب الدرويش ويحمل اسم محمد بن الطيب الذي جال في مناطق الريف وجبالة مدة 23 سنة، وقد وظف صاحب الكتاب عمق معرفته للغة العربية ومعلوماته عن بعض عوائد القبائل فهذا الكتاب المنشور سنة 1885م وسنة 1899م تناول الشمال الغربي للمغرب، أي منطقة الريف وجبالة، حتى أصبح هذا «البحث الأصيل يشكل عملاً ذا قيمة رفيعة»(1)، قيمته المتعددة لكل الباحثين من مختلف التوجهات العلمية، فالكتاب يطرح قضية إشكالية الإنسجام بين زمن الرحلة، التي خاضها رحالته محمد بن الطيب وبين زمن كتابتها من طرف ،موليراس أي بين عملية الحكي وما تعرفه، وبين عملية السرد و ما خضعت له من توجيهات ذهنية شعورية أو لا شعورية من طرف كاتبها، فهذا الأمر يتطلب بدوره تحليلاً دقيقاً في أفق قراءة نقدية تحتويه بالأسئلة في ذات الاتجاه.

فبعيداً عن حيثيات إنتاج الكتاب، ما يهم في هذا السياق هو إبراز نوعية المعلومات التي تصدر عن الذات السردية المتخفية، والتي تضمر البعد الجاسوسي في روحها، لأنها تستطيع بسبب هذا الموجه أن تفصل بين ما ينعكس في داخلها مما تراه وبين ما تحاول نقله «بأمانه»، وأما ذاتيتها فتأتي في الغالب في صفة التعليق والربط بين المظاهر والتحليل والتركيب مما يمكن القارئ استغلال هذه المعلومة بمعزل عن ذاتية كاتبها، تقسيمه للكتاب خضع لتقسيم اثني، مخصصا الجزء الأول للريف والثاني لمنطقة جبالة، التي تصل إلى مقدمة جبال الريف جنوباً، لم يستطع هو الأخر الخروج من نمطية الأحكام الجاهزة، فالريف بالنسبة إليه هو مجرد مجال للتوحش (2)ففي تحليله هي بلاد الفوضى وإنتشار السلاح والعصبية والعداء للأجانب، إنها منطقة لا تعرف استقرارا، مقارناً بين المغرب المهتز أمنياً، وبين الجزائر الذي ينعم في السلم والأمان وكأنه يعيد نفس الترنيمة التي ردَّدَها قبله الرحالة الفرنسيون

ص: 332


1- رولان لوبيل، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب مرجع سابق، ص 183.
2- اوغيست موليراس المغرب المجهول، الجزء الاول اكتشاف الريف ترجمة عزالدين الخطابي، منشورات تیفراس نريف ، 2007، ص 22

الآخرون، فأحكامه لا تقبل المراجعة، ولا تتطلع إلى فسح مساحة الحضور الإيجابي للمغربي الموجود خلف الحدود، إنها بالنسبة إليهم الأرض الموعودة التي يجب الهيمنة عليها ونقل أهلها من «حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة»، وقد حاول تعزيز أحكامه بما اعتبره الفوضى العارمة التي يعيشها المجتمع الريفي، لأنه ينظر إليها انطلاقا من ثقافته الغربية، ومنظومته الفكرية ومرجعيته الاستعمارية، فهذه المحددات لا يمكنها أن تدفعه لرؤية النظام أو الاعتراف بوجوده، لأنه يبرر لوضعية استعمارية آتية في المستقبل يراها قريبة على التحقق، فالمجتمع الريفي يعيش في نظره: «فوضى منظمة، بكل المتعارضات والمتناقضات المحلية لمفهوم من هذا النمط، ويمكن اختزالها بالأساس في غريزة الدفاع وفي روح التعاون»(1).

وفي سياق هذه الأحكام المطلقة، يتناول بالتفصيل خطاطة الأنساب العرقية والأصول البشرية المكونة لساكنة المغرب، معتبراً أن العرق الأمازيغي والعرق العربي يهيمنان على المكونات الأخرى، فالأمازيغ يشكّلون ثلثي الساكنة، والعرب الثلث المتبقي، مبيناً على أن العربي يتميز بكل المميزات السلبية، شُغلهم الشاغل السلب والنهب والحرب، لأنهم لم يخضعوا لنمط النظام والتنظيم، عاشوا في مجالات جغرافية واسعة ومتفرقة، «نصف متوحشين» (2)، ملصقا بهم جميع التهم التي دأبت الكتابات الفرنسية ترديدها في إطار اعتمادها مبدأ الثنائيات عرب/ بربر - قبائل مخزن/ قبائل سيبة.... فمدحه العنصر الأمازيغي الهدف منه خلق هذه الانقسامات، وإثبات واقعيتها وتاريخيتها، حيث يحاول جعل أصول الأمازيغ أقرب إلى الأوروبيين لأن هناك في نظره أوجه تشابه عديدة (3) .

هذه المداخل التي يضفي عليها طابع التحليل الواقعي والعلمي إنما هو مجرد

ص: 333


1- اوغست موليراس المغرب المجهول الجزء الاول، مرجع سابق، ص،21.
2- نفسه، ص 34
3- يقر في ذات السياق من خلال نص في مقدمة الكتاب ما يلي : «فوراء الحدود الوهرانية يوجد ملايين من الرجال حاجة إلى الهداية وتوجد منطقة شاسعة في حاجة إلى الاصلاح واتمنى ان تستحضر فرنشا هذا الامر دوما انني نشأت تحت سلطان فكرتين مازالتا حاضرتين إلى يومنا هذا وهما : معرفة جارنا الغريب - وادراجه ضمن الدائرة الخاضعة لتأثير (فرنسا) انظر المغرب المجهول، المرجع السابق، ص 3

غطاء لما يضمره في خاطره، فحين يناقش مصالح فرنسا في الريف يتطلع بحرقة إلى معرفة ما يحتفظ به المستقبل، إذ يطرح السؤال الذي يعبّر به عن حلمه في الهيمنة على منطقة الريف:«هل من الممكن مستقبلا استعمال هذه البوتقة الشاسعة التي تنفتح بشكل كبير على ريح الشمال عندما تحل الحضارة المتسامحة محل التعصب ؟(1). لكنه سرعان ما يخون شعار الرسالة الحضارية الفرنسية التي يروجها حينما يطمح ليرى فرنسا مهيمنة على البلاد وتاركة العباد في ثقافتها وتقاليدها دون مس بنية المجتمع الثقافية مقابل استغلاله اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا (2)... وكأنه يرى بعين المستقبل ما تحقق فيما بعد ضمن نظام الحماية الفرنسية.

ففي الجزء الثاني سار على نفس المنوال بمتواليات السرد الوصفي للمناطق الجبلية، والظواهر التي تعرفها والصراعات والصفات والتقسيمات القبلية الكبرى التي جعل منها مدخلا لوضع عرض تاريخي واجتماعي واقتصادي، من خلال رصد الأنشطة السائدة، وعادات السكان ومساكنهم وكل ما يهمهم... وهو بذلك يقدم القبيلة تلو القبيلة، يجول بالقارئ في رحابها هذا ما يبرز أهمية هذه المعطيات وتجددها في كل وقت وحين وانفتاحها على كل المناولات، كما خصص صفحات عن المصالح التجارية وتنافس الدول الأوروبية على الامتيازات التجارية المغربية، وكلما منحت له فرصة إلا وفسح المجال لنفسه للاستنقاص من المغاربة وحضارتهم، فعن النظام التعليمي الخاص بهم يقول: «هذا الانغلاق في الظلامية، الذي ليس حكرا على المسلمين وحدهم فقط (يعني اليهود)، لا يسع المرء إلا أن يحلم بثورة جذرية في النظام التربوي الحالي هذا النظام القائم على التعليم الديني الضيق والمتعصب، دون أي نقد فلسفي، أو أية دراسة محايدة لتاريخ الأديان»(3).

وفي اختتام عرض معطياته الاستخباراتية، يفسح المجال للتصريح بمشروعه

ص: 334


1- نفسه، ص 104.
2- نفسه، ص 40-41.
3- اوغست ،مولیراس، المغرب المجهول الجزء الثاني، ترجمة عز الدين الخطابي مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ، 2013 ، ص، 672.

وطموحه الاستعماري انطلاقاً من اهتماماته الذاتية وانشغالاته، وكأنه يدعو السلطة والعلم لأجل تنفيذ ما يطمح إليه كل المعجبين بالظاهرة الإمبريالية، والمستلبين بوهم الرسالة الحضارية لأوروبا، إذ يقول :«يجب أن نرسل إلى المغرب مبعوثين يمثلون الفكر الحر ، لأنهم الوحيدون القادرون على هزم التعصب الإسلامي ويجب أن نشرع في الحملة المقدسة والمسالمة للعقول... ونشر الأنوار وسط ملايين المتعصبين الذين يعتبروننا من أشد أعدائهم، لأننا لا نشاطرهم معتقداتهم الدينية .. والحال أنه بإمكاننا التنبؤ بمستقبل زاهر ومتنور للمغرب من خلال هذه الاستعارة الجميلة الصادرة عن أحد الفلاسفة المتصوفة بالشمال غرب إفريقيا والتي تقول: الغرب مليح وعندنا عليه الأدلة... الشمس تغرب فيه ومنو تطلع الأهلة»(1).

3 - النص الرحلي الجاسوسي في ميزان النقد:

تطرح النصوص الرحلية الفرنسية عامة والجاسوسية منها خاصة، نقاشاً في مدی أهميتها في الكتابة التاريخية المتعلقة بمرحلة القرن التاسع عشر، وحتى الكتابات التي دارت في فلكها وامتدت إلى القرن العشرين، في إطار ما يسمى بالمنتوج الكولونيالي فهي كتابات ودراسات وأبحاث ورحلات حاولت فهم ثقافة المجتمع المغربي برمتها، سواء التي تخص المجال القروي وساكنته أو المجال الحضري وأهله، أو حضورها على مستوى التراتبية الاجتماعية وتمايزها بين الفئات الاجتماعية، بحثاً منها في تحقيق فهم الحركة الداخلية للمجتمع المغربي. لأن النظام الاستعماري كان في حاجة إلى «... جمع المعلومات، وكذا بلورة تمثل لماضي وحاضر هذا المجتمع. ويكشف السياق الاستعماري في المغرب عن وجود علاقة متميزة بين السياسة والمعرفة. فعلا، فالأفكار والنظريات والأساطير المكونة للمعرفة الاستعمارية ستلعب دوراً حاسماً في تحديد العمل السياسي».(2)وهو يؤكد بشكل مباشر ترابط الهدف العلمي بالسياسي في اطار تحالف المعرفة والسلطة لبلوغ المراد الإمبريالي.

ص: 335


1- المغرب المجهول ، مرجع سابق، ص 697-698.
2- عبد الله بلمليح : التاريخ السياسي للمغرب ابان الاستعمار : البنيات السياسية، ترجمة : محمد الناجي، افريقيا الشرق، الدار البيضاء 2014 ، ص243.

وقد ينحو بنا هذا التحليل إلى التشكيك في مصداقية ما قدمته هذه الكتابات الرحلية حول المغرب على أساس طبيعة الرسالة التي حملتها الصورة الاستعمارية المقدمة عنها، وهو ما يؤكده بول« باسكون» بالقول «إن الشعور الوطني الذي رافق بحيوية التوسع الأوروبي لما وراء البحار، قد خلق مناخاً ثقافياً عاماً لم يستطع المثقفون أنفسهم الإفلات منه. فهل هناك فرنسي قبل 1930م مثلا لم يضع علمه في خدمة التوسع الاستعماري» ؟(1).

فهذا الأمر قد يشوش على من يقوم باستنطاق هذه الكتابات، بحثاً عن المادة التاريخية، مما يجعله في حيرة من أمره في العلاقة بما تطرحه من معلومات. خصوصاً أمام قوة حضور الأحكام الجاهزة والانطباعات المتسّرعة، والاستعلاء الحضاري كعناصر مبثوثة في روح أغلب الدارسين الاستعماريين، ولكن رغماً عن ذلك، فلا يمكن تجاوز هذه الكتابات أو حتى تجاهلها في ظل غياب كامل لكتابات أخرى موازية، وهو ما جعل الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي يقر :«... انه من جهة أولى يمكننا من تبين صورة المغرب في مرحلة هامة من مراحل تطوره مرحلة بداية المواجهة بين نمطين من أشكال الوجود السياسي والاجتماعي، والثقافي وذلك على نحو ما تظهر به هذه الصورة عند من كان يعتبر غيرا أو آخر أي مختلف ومخالفا في الملّة والحضارة والوجود، وهو من جهة ثانية يلقي أضواء كاشفة على معرفتنا بثقافة وذهنية من كان المغرب عنده غيراً أو آخراً وهو الاستشراق الفرنسي»(2).

وإنطلاقا من هذه الحيثيّات فقد أصبحت الركائز الأيديولوجية والمرجعية الإمبريالية واردة في مشروع غزو واستعمار المغرب وعقدة التفوق الحضاري، كمؤشرات ثابتة على طبيعة الاستراتيجية التي احتكمت إليها الكتابات الفرنسية، منعكسة في قالب جاهز يعمل على صياغة تنميطات حادة وأحكام جاهزة، وتصنيف ومقارنات متعسفة إزاء مظاهر الثقافة المغربية، ونظمه السياسية والاجتماعية، التي

ص: 336


1- نفسه، 243.
2- سعيد بنسعيد العلوي المغرب في الاستشراق الفرنسي، ندوة المغرب في الدراسات الاستشراقية، مطبوعات اكاديمية المملكة المغربية مراكش 1993 ، ص 38

نظر إليها ضمن سياق ما سبق ذكره، لكن هذه الاستراتيجية كانت في أقصى صور المخاتلة، لأن ظاهرها يحيل على البحث العلمي والموضوعية، وباطنها يكشف عن ما يتمناه الفرنسيون، ومن خلال هذه الدراسات كانت الغاية هي المساعدة على تسليم المغرب إلى إدارة باريس السياسية بعد أن يتم الكشف الكشف عن خباياه وأسراره.

لا يمكن للقارئ والباحث في التاريخ وفي التخصصات الأخرى أن يتنكر للعمل الذي قام به المستشرقون والدارسون والرحالة... الأجانب، بالرغم ممّا قد يسجل عليهم من إغراق في ما تميزت به كتابتهم الموجهة سياسياً وأيديولوجياً، وهو ما بدأه مع مرحلة الثمانينيات المفكرون المغاربة في العلاقة بسؤال التعامل مع الإرث الاستعماري، فمنهم من ارتكن إلى الإكتفاء بإتهام الاستعمار، واعتباره شراً مستطيراً، ومنهم من حاول أن يتعامل مع تركته الأدبية بأسلوب يروم الموضوعية والابتعاد عن الانضباط لردود الفعل الرافضة في إطار نظرة توفيقية والحفاظ على نفس المسافة بين الكتابات الوطنية والأجنبية وهو أمر نكتشفه مع «نجيب بودربالة» الذي أيَّد ضرورة اتخاذ رؤية هادئة حول الاستعمار وأثاره ...(1) أما «عبد الكبير الخطيبي» فقد اختار طريق النقد المزدوج، لأنه يمنح القدرة على التمييز بين الخطابات والمفاهيم المتصفة بقدرة مازال يمكن استعمالها، ومن جهة أخرى يمكن من ضبط المفاهيم التي يجب تصنيفها في تاريخ المعرفة، وبالتالي فتحليل البناء المعرفي أمر حاسم وضروري في نظره كإستراتيجية للتخلص من الاستعمار فعليا (2).

خاتمة

شكّلت الكتابة الرحليّة - ولا زالت نصوصاً مميزة تجمع في أحشائها كل الامتدادات الإبداعية والتعبيرية وتحتضن كل الأصوات والقضايا والإشكاليات... لأنها تنتمي إلى جنس أدبي منفتح انفتاح الرحالة على العوالم التي اصطدم بها جسدياً، وحسياً فوصف

ص: 337


1- نجيب بودربالة من اجل رؤية مهادنة حول الاستعمار، تعريب : محمد بنشقرون المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع عدد 07 ، الرباط، 1984، ص 40.
2- عبد الكبير الخطيبي، تخليص السوسيولوجيا من النزعة الاستعمارية، تعريب زبيدة بورحيل، المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع عدد 07 ، الرباط، 1984، ص7.

ما رآه وما سمعه... سمعه ... وما قفز إلى ذهنه من تمثّلاث عبّرت عن اندماجه الذاتي، وما صحب ذلك من حالة تشنج تثاقفي بحثا عن ما يخالف ثقافته وما يشبهها، فالرحلة هي واقعها تجربة متعددة الحواس لا تخضع لمنطق محدد بعينه، يمكن من خلالها الحكم عليها بضوابط المنهجية التي اعتاد الباحثون والنقاد استعمالها. لأنها تنفلت من الضبط نتيجة الارتباط الشديد بين الوصف الخارجي والحكم الداخلي للرحالة فانتقاله بين الأمكنة والأزمنة خلال مسار رحلته هو في نفس الوقت رحلة داخلية يسلكها تكشف عن تضاريس ومورفولوجية تمثلاته ورؤيته للأشياء والناس والأماكن.

وهي لذات السبب ،وغيره مهمة للباحث في التاريخ، لأنها توفر في عوالمها الداخلية فضاءات من زمن مضى تساعده في إعادة تشكيل الواقعة التاريخية أمام ،نظره فحينما نتحدث عن النص الفرنسي الجاسوسي فالهدف هو هذا البعد إعادة صياغة الوضع نظريا، كيف كان كيف طمحت فرنسا لغزو المغرب، والأساليب التي استعملت في ذلك، وأثر طموحاتها السياسية آنذاك ... بالإضافة إلى الأهمية الإستراتيجية لهذه النصوص في التقاط عناصر التاريخ التي يمكنها إخبارنا عن مغرب القرن التاسع عشر، فبالرغم من أنها كانت كتابات مغرضة إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها ، بل الانفتاح عليها ضرورة معرفية لأجل فتح آفاق المناولة التاريخية لأي موضوع إقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو دبلوماسي أو عسكري... بالضرورة ستجد له تماساً بنوع ما مع كتب الرحلات.

ص: 338

الاستيطان الأوروبي في المغرب: آثاره الاجتماعية والسياسية

اشارة

جلال زین العابدین(1)

أدت الهيمنة الاستعمارية والسياسة الفلاحية التي اتبعتها سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب إلى إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة في الوسط القروي؛ حيث تمَّ هيكلة بناه الإنتاجية على أساس مقتضيات السوق الفرنسية والمراكز الرأسمالية فاحتكر الأوروبيون الفلاحة العصرية المعتمدة على التقنيات والمفاهيم الزراعية الحديثة والتي تحظى بمختلف أشكال الدعم من إقامة بنيات تحتية، ونظام المكافآت المتعددة والمتنوعة للمستوطنين الزراعيين لتسهيل غرس جذورهم في التربة المغربية أولاً ، ولتسهيل اندماجهم في الاقتصاد الفلاحي الفرنسي ثانياً.

وإلى جانب الفلاحة الكولونيالية، نجد الفلاحة المغربية التي أحاطتها سياسة الحماية بحزام من البؤس والتخلف، فكان من نتائجها تجميد وتفتيت هذه الفلاحة رغم أهميتها الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة للسكان الحضريين والقرويين على السواء، فأغلقت أمامها جميع أبواب الطموح لتجاوز وضعية الفلاحة المعاشية، وقد

ص: 339


1- أستاذ التاريخ المعاصر - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء. المغرب.

أدت الأشكال الجديدة من الاستغلال التي رافقت الاستيطان الأوروبي إلى ظهور تناقضات اجتماعية عميقة مست الأسر والقبائل، وأعادت تصنيف المجتمع المحلي حسب المهن والدخل ومستوى المعيشة، كما أدت إلى زعزعة كيان المجتمع المغربي، وإلى تصدع البنى والعلاقات القبلية لتحل محلها علاقات الإنتاج المبنية على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والفردانية والتمايز الاجتماعي، وإلى بروز علاقات اجتماعية لم يألفها المجتمع المغربي الذي كان مبنياً على التآزر والتضامن وعلى أساس علاقات القرابة وروابط الدم وأواصر التضامن القبلي.

أولاً: الفلاحة المغربية في استراتيجية سلطات الحماية الفرنسية
1 - الفلاحة المغربية قبل الحماية

كانت الفلاحة تلعب دوراً اجتماعياً واقتصادياً مهماً في حياة المغاربة، وقد ظلّت لوقت طويل تقوم على علاقات ترتكز على عاملين أساسين الإنتاج المحلي والاستهلاك الذاتي للسكان، فكانت تقوم بتلبية حاجياتهم كماً ونوعاً. غير أنها عانت من توالي سنوات الجفاف التي كانت تمتد أحياناً لفترات طويلة، كان آخرها الجفاف الذي امتد لخمس سنوات بشمال المغرب بين سنتي 1978م ،و 1883م، وإلى سبع سنوات في الجنوب أي إلى حدود سنة 1885. كما عانت من الاجتياح الكثيف لجحافل الجراد، إذ يُبرز نيكولا میشیل Nicolas Michel) أنه بين 1800م و 1912م اجتاح الجراد 32 مرة جهات مختلفة من المغرب في ظل انعدام إمكانية محاربته. يضاف إلى هذه المشاكل مشكل البنية العقارية المعقدة وغير المساعدة، والتي لم تمنح السلاسة والمرونة الكافية للاستثمار في الفلاحة، حيث إن الملكيّة الخاصة للأرض لم تكن منتشرة في المغرب قبل الحماية، وكانت محصورة جداً في أراضي بعض العائلات الكبرى. وكانت الأرض تتوزع من الناحية القانونية إلى :

- الأراضي الجماعية أو أراضي القبائل وهي أراضي في ملكية الجماعة ولا يمكن التصرف فيها أو تفويتها.

ص: 340

- أراضي المخزن، وهي أراضي تابعة للدولة وتشمل الأملاك المخزنية وكل ما لا يمكن امتلاكه لأنه في مصلحة العموم مثل الشواطئ والغابات.

- أراضي الجيش، وهي أراضي تابعة للدولة أقطعتها لبعض القبائل مقابل تقديمها لخدماتها العسكرية لصالح المخزن.

- أراضي الأحباس، وهي ! الأراضي التي تم توقيفها على الأحباس، وهي کذللک لا يمكن تفويتها .

- أراضي الخواص، وهي أراضي في ملكية الأفراد لكن كما سبقت الإشارة إلى ذلك ظل انتشارها محدوداً.

لم يكن التعقيد الذي میَّز البنية العقارية في المغرب محفِّزاً للإنتاج والاستثمار الفلاحي بالنسبة للمغاربة فحسب، بل شكّل حاجز صدٍّ قانوني بالنسبة للأوروبيين الطامعين لامتلاك الأراضي المغربية مما جعلهم يناورون عن طريق المخالطة والحماية القنصلية، قبل أن يطرحوا الموضوع للتفاوض على أساس أحقيتهم في امتلاك العقار مقابل أدائهم للضرائب الفلاحية، وهو موضوع تطرقت إليه المواد 11 و 12 و 13 من مؤتمر مدريد والمادتين 59 و 60 من مؤتمر الجزيرة الخضراء.

وإذا كان إنتاج هذا القطاع قد ظل تحت رحمة التقلُّبات المناخية وعانى من البنية العقارية المعقدة ومن الأساليب التقليدية المستعملة، فإن عوامل أخرى أسهمت في تغییر ملامحه، خاصة الإكراهات الجديدة التي أفرزها التدخل الاستعماري ذلك أن دخول المستعمر إلى المغرب وما تبعه من جحافل المعمِّرين، أدى إلى خلخلة هذا التوازن من خلال استيلائهم على أجود وأخصب الأراضي الفلاحية، فأخذت وسائل العيش تتضاءل بالنسبة للفلاحين تدريجياً بسبب نقص مساحة الأراضى الصالحة للزراعة، ويقول القبطان روميو (Capitaine Rome) في هذا الصدد عن بني وراين «إن دخولنا البلاد قد أخَّل بالتوازن العريق بين أعداد السكان وبين الإنتاج، وهو توازن كان يفيد السكان أنفسهم، فأعطى المعمِّرون أزكى الأراضي التي كان

ص: 341

الناس يستغلونها (...) وحددت مناطق الغابات وأسندت إدارتها إلى مصلحة المياه والغابات وذلك ما اعتبر نقصا من حقوق السكان على هذه المناطق».

2- الاستيطان الزراعي وانعكاساته على الفلاحة المغربية

كان الجنرال ليوطي حذراً منذ البداية في تعامله مع مسألة الأرض في المغرب، فقد كان يدرك أن «مس آلة دقيقة على شاكلة التنظيم الاجتماعي للمغرب (...)، يمكن أن تكون له انعكاسات خطيرة جداً على أمن وتنظيم البلاد. ويجب التحرك باحتياطات

دقيقة وعدم الإقدام على تغيير الوضعية القانونية للأراضي الجماعية إلا بعد ان تكون قواعد الغزو قد ترسخت، وحتى تكون الإدارة قد بدأت تسير بشكل طبيعي». ولم يكن من السهل العثور على صيغة تمنع الابتزاز الذي جرى في الجزائر، وتحول دون تجريد الفلاحين المغاربة من أراضيهم، مع ما عرفوا به من تعلق وارتباط غريزي بأرضهم وغيرتهم عليها، فنشط تفكير ساسة الحماية على مستوى التحليل والتشريع واستنباط الحلول، لوضع أسس بناء ضخم من التأويلات والنظريات والنصوص القانونية، تشرِّع وتبرِّر ابتزاز الفلاحين والسيطرة على أراضيهم، تارة باسم استرجاع أراضي الدولة التي استولى عليها السكان في مراحل ضعف السلطة المركزية، وتارة بحجة الحصول عليها عناصر قيادية في السلطة المركزية، وتارة أخرى لعجز الفلاحين وعدم

بالتواطؤ مع قدرتهم على الإدلاء بالوثائق الضرورية التي تؤكد ملكيتهم للأرض.

وهكذا سنَّت إدارة الحماية مجموعة من التشريعات شكَّلت القاعدة القانونية للنهب والابتزاز، فأصدرت ظهير 12 اوغست / آب 1913م الذي نصَّ على تسجيل العقارات، وضرورة التدقيق في الوثائق المدلى بها. فأصبح لكل قطعة أرض بمقتضاها سند عقاري يحمل اسماً ورقماً وتصميماً للملكية، وسهّل ذلك تسلّط الأجانب على الأرض لجهل المغاربة بالإجراءات القانونية الجديدة. ثم صدر ظهير 7 يوليوز 1914م فجعل الأراضي الجماعية وأراضي الأحباس وأراضي الكيش، غير قابلة للتفويت، ووضعها تحت حماية الدولة التي أصبح لها حق مراقبتها وتسييرها. غير أنه بعد سنتين (1916) تم تأسيس لجنة استعمار الأراضي من أجل تشكيل وتوزيع قطع

ص: 342

الأراضي القروية، وقررت سلطات الحماية انسجاماً مع مبادئ الاستعمار المختبرة، تدعيم الاحتلال العسكري بإسكان عائلات فرنسية في القرى المغربية، وسيكون لهذه العائلات تأثير حضاري على الفلاحين المغاربة بالمثل الذي ستعطيه لهم. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، صدر ظهير جديد في 27 أبريل 1919م جعل الأراضي الجماعية تحت رقابة مجلس وصاية له صلاحيات تفويت أراضي الجماعات الطرف ثالث، فاقتطعت أجزاء مهمة من الأراضي تحت غطاء المصلحة العامة، وسهلت الاستيلاء عليها لفائدة الكولون بطرق شرعية غير منازع فيها، فتدهورت الجماعات ولحق التفقير بأفرادها وتغيرت الهياكل الزراعية التقليدية مما انعكس على الوضع الاجتماعي لسكان البوادي.

إن ما تجب الإشارة إليه هو أن السيطرة والاستيلاء على أراضي الفلاحين في المغرب، قد ارتبط إلى حد كبير بالغزو العسكري، فالمستوطنون المزارعون كانوا يسيرون على حد تعبير أحمد تافسكا، في عصابات مسلحة خلف القوات الاستعمارية التي تتولى إبادة ومطاردة السكان لتتيح المجال للمستوطنين للحصول على أملاك فلاحية، وتزيل كل ما من شأنه أن يشعرهم بأنهم غرباء في مجتمعهم الجديد، وتصفهم الصحافة الاستعمارية بأنهم «طلائع جيش قوي». لذلك قامت السلطات الفرنسية بتمهيد الطريق أمام الاستيطان الزراعي وتدعيمه، لأنه هو الذي يعطي حضوراً واستمراراً للنفوذ الفرنسي بالمغرب، وهو ما يوضحه كاديل (Cadile) بقوله :«لقد تم الاستيطان الرسمي بشرق تازة في ،1924م، وفي الريف ما بين 1926م و 1930م بالموازاة مع التهدئة العسكرية». وقد وصل هذا الاستيطان إلى أقصى تأثيره في حياة الفلاحين، كما يؤكد ذلك ألبير عياش حيث يقول «في الريف الشرقي وسهول ما بين تازة ووجدة وزعت القبائل الرحلية سابقاً فيما بينها أراضي فقيرة تزرعها بالحبوب (...) غير أن الهجرة نحو السهول

المستعمرة تبدو مفروضة».

ونشير إلى أن الاستيطان الزراعي كان قد تعرقل تطوّره في بداية الحماية بسبب تمسك المغاربة بأراضيهم، واستمرار المقاومات المسلحة في عدة مناطق بشكل

ص: 343

أعاق الاستيطان الأوروبي. وبعد القضاء على هذه المقاومات أصبح الفرنسيون أحراراً وسارعوا إلى الحصول على المزيد من أراضي الأهالي المغاربة مما أدى إلى تدمير القاعدة الاقتصادية للفلاحين المغاربة الذين تزايدت أراضيهم المغتصبة والمسلوبة وتحوّل قسم كبير منهم إلى خماسة»، أو إلى عمال في المزارع الأوروبية، كما تحول الوسط القروي إلى مصدر واسع النطاق للهجرة سواء كان داخل البلاد أو إلى خارجها.

وهكذا وجدت تشكيلة من المعمرين نافسوا الفلاحين المغاربة الذين أصبحوا درجة دنيا مقارنة معهم، لأن زراعاتهم التقليدية ذات الإنتاج البسيط لم تصمد أمام الزراعات المنتجة في الضيعات الأوروبية العصرية المستفيدة الأسمدة

من الكيمائية، والبذور المنتقاة، كما أن الفلاحين المغاربة لم يستفيدوا من الامتيازات المختلفة التي منحتها سلطات الحماية للمعمرين الأوروبيين. فرغم أن الظهائر لم تميز بين الأهالي والمستوطنين من حيث حق الاستفادة من المنح والمكافآت، إلا أن إمكانيات الفلاحين المغاربة المتواضعة لا تسمح لهم باستيفاء الشروط المحددة لنيل هذه المكافآت فكيف يمكن الحديث عن إدخال تقنيات وأساليب حديثة في عملية الإنتاج أو الزراعة على الطريقة الأوروبية لفلاحين جُرِّدوا من أراضيهم الخصبة؟

لقد ظل الفلاح المغربي خارج منظومة الإرشاد الكولونيالي، الذي ركَّز على توعية الكولون الأوروبي بأهمية وضرورة استعمال الأساليب العصرية في الفلاحة، كما حرص الفلاحون الأوروبيون على عدم انتقال المعرفة بهذه الأساليب العصرية إلى جيرانهم الفلاحين المغاربة، ليحافظوا على تفوق إنتاجهم، فبقي الفلاحون المغاربة يعتمدون على ما ورثوه عن أسلافهم من طرق ووسائل زراعية تقليدية، وهو ما كان يدفع أحيانا بعض الفلاحين المغاربة إلى «التجسس المعرفي» على الكولون الأوروبي عبر استخدام معارفهم وأصدقائهم العاملين في مزارع الأوروبيين، لاكتشاف سرّ تخلف إنتاجهم عن إنتاج الأوروبيين، أو سرّ عدم تأثّر حقول الكولون بأمراض تجتاح المنطقة، أو طرق تخلص الأوروبيين من أعشاب ضارة تعجز الأساليب التقليدية عن مكافحتها .

ص: 344

وواجه الفلاحون المغاربة بالإضافة إلى تربص المعمرين بأراضيهم، عوامل طبيعية أرهقتهم وزادت من بؤسهم مثل الجفاف والعواصف الرعدية والثلجية والجراد وهو ما أسهم في تأزيم وضعية الفلاحين وتراجع مستواهم المعيشي، كما دفعتهم في العديد من الأحيان إلى الخروج عن القبيلة في إطار هجرات جماعية للبحث عن مصدر عيش ملائم، يعوّض النقص الحاصل في المدخول الفلاحي.

أما الضريبة الفلاحية (الترتيب) فقد شكلت إلى جانب العوامل السابقة عبئا ثقيلاً على الفلاحة الأهلية، مما زاد في تأزيمها ولم تكن مصلحة الضرائب تأخذ في الحسبان ظروف الفلاحة المغربية، حيث كانت تحدد مبلغها بناء على تقديرات اللجنة الجهوية المكلفة بوضع تقديرات إنتاج المغاربة وعلى ضوء ذلك كانت تتم عملية تحديد الترتيب الواجب على كل ،فلاح وكذلك إعداد تقديرات الإنتاج الفلاحي، كما أن هذه التقديرات لم تكن تتم على أساس بحث موضوعي لوضعية الفلاحة والأشجار المثمرة ورؤوس الماشية التي توجد في حوزة المغاربة، بل كانت تتم بناءاً على تصورات أعوان السلطة المحلية التي غالبا ما كانت تجانب الواقع، ليجد الفلاح نفسه ملزماً بمبالغ تفوق إلى حد كبير محصوله الفلاحي.

ثانياً: بعض الإجراءات الاصلاحية للحماية الفرنسية في مجال الفلاحة المغربية

اتخذت الإدارة الفرنسية عدة مبادرات لتظهر أنها تريد النهوض بالفلاحة المغربية التقليدية وإصلاح العالم القروي، فتمَّ التفكير في إنشاء تعاونيات فلاحية تقوم بتخزين المنتوج وتحويله وبيعه وتقديم قروض لصغار الفلاحين لحمايتهم من المُرَابين ويتعلق الأمر بما كان يعرف بالجمعيات أو «الشركات الاحتياطية الأهلية» (Sociétés Indigenes de Prévoyance) أو (SIP) التي أُنشئت ونُظمت بمقتضى ظهير 26 ماي 1917م المغيَّر بظهير 19 يوليو 1917م، وظهير 12 أبريل 1912م، وظهير 28 نوفمبر 1921م، ثم ظهير 28 يناير 1922؛ وهي عبارة عن مؤسسات مدنية تحدث بقرار وزاري يحدد دائرتها الترابية،

ص: 345

تشمل إلزاماً كل الفلاحين الأهليين غير المحميين المسجلين في قائمة الترتيب. وتهدف إلى إعانة الفلاحين بالقروض، مادية كانت أو عينية، ليتمكنوا من مواصلة أعمال فلاحتهم ومن توسيع نطاقها، واعتماد التقنيات الحديثة الضرورية في ميدان الفلاحة وتربية الماشية والمساهمة في تطبيقها، وتهدف أيضا إلى حماية الفلاحين الأهالي من المضاربات العقارية (الربا - الاحتكار)، كما يمكنها أن تقوم مقامهم عند الحاجة بإلغاء كل رهن أو التزام يبدو لها مبالغا أو العمل على الحد منه، والمساهمة

كذلك في عقد تأمينات ضد الكوارث الفلاحية ( حريق، موت المواشي جراد...).

وإضافة إلى تقديم السُّلفات والإعانات كان بإمكان الشركات الاحتياطية الأهلية، إحداث جمعيات تعاونية يعهد إليها هي الأخرى بصيانة المنتوج وتحويله وتسويقه وفق الشروط المتبعة في المؤسسات الصناعية (مضاربة احتكار تحقيق القيمة المضافة ...)، وذلك - كما ينص عليه ظهير 24 أبريل 1937م - بعد الحصول على ترخيص من إدارة الداخلية استنادا إلى موافقة إدارة الفلاحة والتجارة والغابات وكذا المسؤول عن الصناعة التي قد يهمها الأمر وفي هذا الصدد شهدت سنة 1937م بالمغرب تأسيس 11 «تعاونية أهلية فلاحية (Coopérative Indigène Agricole) أو (CIA) بمقتضى ظهير 24 أبريل 1937م في مجموعة من المدن، الرباط، البيضاء، القنيطرة، مكناس، فاس تازة ،وجدة، واد زم مازاكان، آسفي، ومراكش. وحتى لا نعطي لإجراءات سلطات الحماية أبعاداً أكثر من حجمها، نتساءل ماهي حقيقة وفعالية هذه المحاولات التحديثية؟

لم تؤد هذه المجهودات في الواقع إلى النتائج المرجوة من طرف الأهالي لأسباب عديدة، ذلك لأن إدارة الحماية كانت تسعى من وراء كل المبادرات التي اتخذتها في هذا المجال إلى الاستحواذ على أقصى ما يمكن من الأراضي لتوزيعها على المستوطنين، وإلى تكوين «طبقة» متوسطة من الفلاحين الذين يزكون سياستها والحد في الوقت نفسه من الهجرة القروية للحفاظ على حشود العمال الفلاحين الذي يمكن استثمارهم في ضيعات المعمرين فالقبائل

ص: 346

ارتفعت معاناتها من هذه القروض التي كانت تمنحها هذه التعاونيات المحلية بفوائد عالية، كما أن هذه القروض لم يكن يستفيد منها إلا الفلّاحون الميسورون، أما صغار الفلاحين فقد كانوا في حالة عدم تأدية ديونهم في الأجل المحدد عرضة لفقدان أراضيهم، أضف إلى هذا أن عدم إشراك ،الفلاحين، وهم المعنيون الأساسيون بكل ما تقرره الشركات الاحتياطية الأهلية (SIP) والتعاونيات الفلاحية الأهلية (CIA) في اتخاذ القرار أفرغ الجانب التعاوني التي تدعو إليه هذه المؤسسات من كل مضمون حقيقي، وجعل منها مجرد مجال لتكوين الأطر التقنية والمراقبين أكثر منها مجالا لتكوين الفلاحين وتحسين أوضاعهم.

وأنشأت الإقامة العامة إضافة إلى هاتين ،التعاونيتين مركزية التجهيز الفلاحي للبيزانا (Central d'Equipement Agricole du Paysanat) أو (C.E.A.P) بظهير 26 يناير 1945 وهي مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي تهدف إلى تنمية الفلاحة وتربية الماشية، بتقديم قروض للفلاحين وتأطيرهم تقنياً وبيع المعدات الفلاحية أو كرائها لهم.

ولإنجاز مهامها، اعتمدت مركزية ال (C.E.A.P) على مكاتب محلية تقوم بتقديم معلومات حول التكوين الكيميائي للتربة ونوعية الأسمدة التي ينبغي استخدامها وطريقة محاربة التعرية والأمراض النباتية لقطاع التحديث الفلاحي (Secteur de Modernisation du Paysanat) أو (S.M.P) المنشأ بظهير 5 يونيو 1945م، وهو عبارة عن مؤسسة عمومية تسيرها السلطة المحلية، ترمي إلى تحقيق أهداف مادية واجتماعية وأخلاقية ، تتمثل في تحسين الإنتاج وتوجيه الفلاحين نحو زراعات جديدة والعمل على تطبيق مخطط للتنمية وتحسين أوضاع الفلاحين الاجتماعية، وذلك ببناء المدارس والمستوصفات ودور السكن قصد تحسين أوضاع الفلاحين الاجتماعية، وإشراكهم في مداولات مجالس (S.M.P) قصد تهيئتهم لتحمّل مسؤولياتهم مستقبلاً. وعموماً كانت ترمي «البيزانا» من خلال تدخلاتها هاته تحقيق تغيير جذري وإصلاح شامل في حياة الفلاح المغربي. فالتعليم الإجباري والمراقبة الطبية ضد

ص: 347

الأمراض والمساعدة الاجتماعية واستخدام الآلات...، ستسهم في توعية الفلاح وتجعله يتحرر من الاعتقادات الروتينية والقيود التي كانت تقف عائقا أمام تقدمه. وبلا شك فالإصلاح سيكون صدمة نفسية صادرة عن المكننة وهو ما سيؤدي إلى زعزعة أنماط الإنتاج التقليدية والرفع من القدرة الإنتاجية للفلاح ثم تغيير نمط عيشه.. بعد أن فرضت فرنسا سيطرتها على المغرب وتوغلت داخل أراضيه وجدت أمامها عدداً من خدام المخزن وهم الفئات الحاكمة المكونة من شيوخ القبائل والقواد والأعيان وبعض الزوايا وقد أبقى الاستعمار على معظم هذه الفئات وامتيازاتها الأدبية والاجتماعية، ومنحها مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية عند إدخال نظم تسجيل الأراضي لكي تكون دعامة وسنداً للمحتل، ولكنه جرَّدها في المقابل من نفوذها السياسي الحقيقي لأنه أصبح الحاكم الفعلي للبلاد. وظلت هذه الفئات أداة مسخَّرة من طرف الاستعمار حيثما يريد واجهة لإضفاء الشرعية على بعض سياساته الاستيطانية(1).

وقد أدت الهجرة القسرية بفعل التدخل الاستعماري في القرى إلى فقدان المغرب لتوازنه السكاني جغرافياً، حيث أفرغت البادية من سكانها، وازدحمت المدن بعشرات الآلاف من المهاجرين الفلَّاحين، الذين فقدوا كلياً أو جزئياً صلتهم الماضية بعالم الزراعة ولا رابطة تاريخية لهم بعالم المدينة ومجتمعها، وفجَّروا الإطار التقليدي للمدن التاريخية المغربية، وشكَّلوا قاعدة كبيرة من العاطلين وأشباه العمال في خدمة الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي، ووضعوا بذلك اللبنة الأولى في تكوين الطبقة العمالية المغربية (2).

وبإدخال نمط الإنتاج الرأسمالي الاستعماري عملت سلطات الحماية على تفكيك الملكية الجماعية للقبائل المغربية، والتي هي أساس التضامن القبلي. ومركزت سلطات الحماية الملكية الفردية للأرض ووسائل الإنتاج الأخرى، وأصدرت

ص: 348


1- عبد السلام ،أديب الصراع الطبقي والتحولات الاقتصادية والسياسية في المغرب، منشورات النهج الديموغرافي الرباط، 2005 . ص : 82.
2- أحمد تافسكا، تطور ... مرجع سابق، ص : 67.

من أجل ذلك سلسلة من القوانين لتدعيمها وتعميمها واستهدفت من ذلك تسهيل عمليات انتزاع أجود الأراضي، وجعلتها تحت تصرف المعمِّرين. وأدى ذلك إلى فصل الفلاح عن أرضه، وبالتالي عن «جماعته» وعشيرته وقبيلته. ووقع تحول وتدجين لدور «الجماعة» لدى القبيلة، وصدرت قوانين تحدد مهمتها الجديدة(1). ففقدت «الجماعة سلطتها السابقة، وأصبحت تابعة ومراقبة من طرف سلطات الحماية. ونفَذَت عن طريقها إدارة الحماية، بشكل أعمق لنسف جدور الحياة الجماعية القبلية.

وهكذا ظهر نمط الملكية الفردية للأرض، وتحولت العلاقات داخل القبيلة من علاقات عشرية في مفهومها التقليدي القديم إلى علاقات اقتصادية ترتكز على امتلاك رؤساء القبائل والقواد ورؤساء الطرق الصوفية للأراضي الزراعية الواسعة، وتحول سائر أفراد القبيلة بالتدريج إلى فلاحين أجراء في أراضي زعمائهم.

وما لحق الزراعة من تغير في نمط ملكيتها لحق تدريجياً ملكية الماشية، فقد تحولت هذه الأخيرة من ملكية عشيرة مشاعية إلى ملكية أسرية أو فردية، ولكن النشاط الرعوي لم يتطور في وسائله بالدرجة أو السرعة نفسها اللتان تطورت بهما الزراعة في البادية المغربية، لذلك يظل الفائض الاقتصادي المتولد من هذا النشاط والقابل للتوزيع والاستحواذ من خلال الآخرين محدوداً للغاية(2).

إن الاستعمار الذي أدخل الرأسمالية إلى البلاد لم يزد إلا في تأزمها، ولم يسهم إلا في «بلترة» أهاليها وتهميشهم، وتحويل أغلبيتهم إلى خمَّاسَة ومزارعين أو يد عاملة بخسة في متناول المعامل الاستعمارية التي تحول ثروات البلاد إلى بلدها الأصلي. صحيح أن الاستعمار قد ساهم في عصرنة الفلاحة بالمكننة وتقنيات الري الحديثة، ولكن ليس لصالح البسطاء من المغاربة بل لصالح المستوطنين أو لصالح

«الأرستقراطية العقارية» التي ستستولي بعد الاستعمار، على ما سمي ب «أراضي المعمِّرين المسترجعة»؛ ولكن صحيح أيضاً أن الرأسمالية الاستعمارية قد أسهمت

ص: 349


1- Abdeljalil Ben Abdellah, "Société et gestion des ressources dans le haut Atlas central, cas des Ait ougoudid», revue Abhath, n°4, 1994, pp.56-57.
2- عبد السلام أديب، مرجع سابق، ص : 82.

في تفكيك المجتمع المغربي وأشكال تضامناته التقليدية وشردت العائلة وقتلت الآلاف من الأهالي المغاربة تحت ذريعة التهدئة والسلم(1). فكان السلم والتهدئة الكولونياليين «مساهمة فعالة في إيقاف صيرورة التاريخ الاجتماعي الداخلي بتجميد البنيات المحلية، وبإدخال تحول اقتصادي اجتماعي وسلوكي»(2).

ومع تطور نظام ملكية الأرض، وظهور تقسيم العمل ونمو المبادلات التجارية بدأت تتبلور عملية التمايز الاجتماعي. وقد أصبحت هذه العلاقات تحلُّ تدريجياً محل التمايزات القبلية التقليدية القائمة على أساس علاقات القرابة وروابط الدم وأواصر التضامن القبلي. وقد ساهم التغلغل التدريجي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في هذا التحول من غير أن تختفي تماما البنيات التقليدية بل حدثت عملية مزاوجة وتهجين بين الهياكل والتمايزات القبلية التقليدية والعلاقات والتمايزات الرأسمالية الحديثة(3).

وهكذا أخذت عمليات التمايز الاجتماعي تسير في اتجاهات متعددة. فالتغيير الذي أجراه الفرنسيون في شكل الملكية، لم يؤدُّ إلى خراب الفئات الإقطاعية، بل أسهم في تبلورها وصياغة معالمها ورسم حدودها لكي تكون سنداً قوياً للمستوطنين الأجانب. كما ظهرت فئة من المغاربة المكونين من كبار ملاك الأرض الذين لا يقومون بزراعة أراضيهم بأنفسهم . وغالبا ما كانوا يقومون بتأجير أراضيهم للفلاحين أو يستأجرون عمّالاً زراعيين لفلاحتها. وأغلبية هؤلاء الملاك كانوا يقطنون المدن وبهذا لم يكن بينهم وبين قراهم وفلاحيها أية روابط وثيقة أو علاقات شخصية (4). لقد أدت التغييرات الاستعمارية الكبيرة إلى تحول أعداد كبيرة من الفلاحين إلى عمال يتقاضون أجراً، فقد وجدت هذه الفئة من الفلاحين نفسها محرومة الملكية

ص: 350


1- الهادي الهروي القبيلة، الإقطاع والمخزن مقاربة سوسيولوجية للمجتمع المغربي الحديث -1844 -1934، افريقيا الشرق، الدار البيضاء ، 2004، ص: 311-312.
2- Abdelatif Ben chrifa, Culture, Changement Social et Rationalité, in Pratiques et résistances culturelles au Maghreb, Sous la direction de Noureddine Sraib, Ed CNRS,1992, p : 141
3- عبد السلام أديب، مرجع سابق، ص : 85.
4- المرجع نفسه والصفحة نفسها.

وعاجزة عن تطوير مقدَّراتها لامتلاك إنتاجها تدفعها حركة مزدوجة، فعليها من جهة أن تجد عملاً مأجوراً يضمن لها حياتها، وعليها من جهة ثانية، كي لا تفقد كل شيء، أن تحافظ على تضامن تقليدي معين عائلي قروي ورثته من ماضيها. وكان الوصول إلى ظروف العمل المأجور يحصل بعقد فردي شفهي بين العامل وصاحب المزرعة وهذا مما أدى إلى نشوء شكل جديد من تبعية العامل الذي كان قد تحرر من التبعية السابقة للإقطاعيين.

إن هذه الفئة من الأجراء التي نمت ونشأت في ظل السيطرة الاستعمارية قد تضخم حجمها بسرعة كبيرة، وقد حصل هذا التوسع في حجمها بشكل رئيسي على حساب الفئات الاجتماعية الأخرى والتي اضطرها الإفقار المتزايد إلى الالتحاق بسوق العمل، بسبب سياسة الدمج الاقتصادي للسلطات الاستعمارية(1).

ونشير إلى صعوبة التحديد الدقيق لعدد اليد العاملة الزراعية وتوزيعها خلال فترة الهيمنة الاستعمارية، ويزيد في تعقيد هذه المهمة أن الزراعة الأوروبية كانت تعتمد على اليد العاملة المغربية اعتماداً كلياً - وأن الكثرة الساحقة من هذه اليد العاملة موسمية تأتي من المناطق القريبة من مزارع الأوروبيين، أو من أقاليم بعيدة مث-ل س-وس ودرع-ة وتافيلالت والأطلس والريف ودكالة والرحامنة وعبدة وبني حسن، أما العمال الدائمون في مزرعة أوروبية مساحتها 250 هكتاراً فيختلف عددهم باختلاف المناطق والظروف ويتراوح بين أربعة واثني عشر عاملاً في أحسن الأحوال، منهم عامل أو عاملان أوروبيان متخصصان فى تغيير آلات المزرعة والإشراف على عمل العمال المغاربة (2).

وعلى عكس العامل المغربي، كان العامل الأوروبي يتمتع بكثير من الامتيازات منها، عقود عمل مضبوطة، وأجرة مرتفعة، وسكني، ومكافآت تتراوح قيمتها بين ألفين

ص: 351


1- المرجع نفسه، ص:86.
2- أحمد تافسكا، تطور ... مرجع سابق، ص : 89.

وعشرة آلاف فرنك سنوياً بالإضافة إلى امتيازات أخرى منها الاستفادة من خدمات المستوصفات والمدارس لأبنائهم (1) .

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التنظيم النقابي في البادية المغربية قد واجه صعوبات عديدة لعدم استقرار العمال نتيجة للسياسة الاستيطانية والتقاليد الفلاحية وعدم وجود الوعي السياسي والنقابي، وانتشار الأمية، ومحاربة سلطات الاحتلال لأي نوع من النشاط النقابي. أما النضال الطبقي في البادية فقد كان معدوماً أيام الاستعمار الفرنسي لأن التناقض الرئيسي بين الاستعمار والحركة الوطنية قد غطى

كل صراع.

كما تحولت أعداد كبيرة من الفلاحين إلى مزارعين بالمحاصَصَة حيث يحصل المزارع على حصة عينية من المحصول بعمله هو وأفراد أسرته في أرض المالك. وتراوح نظم اقتسام المحصول بين «المرابعة »أي بربع المحصول و «المخامسة أي» بخمس المحصول حسب الترتيبات والأعراف السائدة في الوسط القروي (2).

خاتمة

يتضح من المعطيات السالفة الذكر، أن الاستعمار الفرنسي أحدث تحولات عميقة بالبوادي المغربية تمثلت في تحول أخصب أراضيها إلى مزارع كولونيالية، بعدما قامت إدارة الحماية بنسف المؤسسات والمبادئ التي كان يقوم عليها المجتمع المغربي، والتي كانت تشكل عائقاً أمام احتلال الأرض المغربية، حيث غيرت الوضعية القانونية للأرض بسنِّ ترسانة من التشريعات شكَّّلت السند القانوني للاستحواذ على أراضي المغاربة، وتوزيعها على الكولون الأوروبي، مما أدى إلى حدوث تحولات في شكل البنية العقارية. وحرص الأوروبيون على تطبيق أشكال الاستغلال الرأسمالي في الأراضي المغتصبة، باعتبار الأرض بمثابة رأسمال يدرُّ

ص: 352


1- المرجع نفسه، ص: 90.
2- عبد السلام ،أديب مرجع سابق، ص: 87.

دخلاً أي ينتج فائض قيمة، فركَّزوا على إنتاج مزروعات تسويقية يوجه إنتاجها لتلبية حاجيات الجاليات الأوروبية، ويصدَّر جزء منها إلى الخارج لتلبية متطلبات المتربول، مستفيدين من مساعدة ودعم إدارة الحماية من إقامة للبنيات التحتية، ومن مختلف التسهيلات المالية والتقنية.

أما الفلاحة المغربية المحلية التي كانت تلعب دوراً اجتماعياً واقتصادياً لأكثرية السكان فقد تعرضت خلال فترة الحماية إلى تحولات عميقة، نتجت عما لحقها في علاقتها بالاقتصاد الاستعماري الذي سيطر على أجود أراضي الفلاحين المغاربة بشتى الطرق والوسائل وحصرهم في المناطق القاحلة، فتضاءلت وسائل عيشهم، كما تصدَّعت البنى والعلاقات القبلية على التآزر والتضامن وعلى أساس علاقات القرابة وروابط الدم وأواصر التضامن القبلي، لتحل محلها علاقات الإنتاج المبنية على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والفردانية التمايز الاجتماعي، وهي علاقات اجتماعية لم يألفها المجتمع المغربي بل كانت وليدة التحولات التي رافقت التدخل الاستعماري. وقد دفعت الأوضاع والمتغيرات الجديدة بالعديد ممن نزعت منهم أراضيهم إلى العمل كعمال في ضيعات المعمرين أو الهجرة إلى المدن ليشكِّلوا النواة الأولى «للبروليتاريا».

ص: 353

مقاومة الكوفة للاستعمار البريطاني في ثورة العشرين:(مؤتمر الكوفة نموذجًا)

اشارة

محمد عبدالرحمن عریف(1)

أحاول في هذه الدراسة عرض بعض ما بدأَت به بريطانيا من محاولة لضمِّ العراق لمشروعها في الهند، ودور الكوفة في مقاومة هذا المشروع، متمثلاً في دور ثوار الكوفة ودعمهم لثورة العشرين وتمَّ اختيار (مؤتمر الكوفة نموذجا لهذا الدور).

أحاول كذلك أن أعرِّج على بعض جذور تلك المطامع والمصالح في العراق وأهمية تحققها، وذلك عندما بدأت القيادة العسكرية البريطانية بوضع الخطط العسكرية لاحتلال جنوب العراق عن طريق الخليج العربي، بعد أن شكّلت حكومة الهند لجنة رباعية عام 1911م، جاء في تقريرها في كانون الثاني/يناير 1912م، على ضرورة احتلال العراق من خلال تنشيط القناصل البريطانيين في بغداد والبصرة والموصل على إعداد المعلومات العسكرية والاقتصادية عن الجيش العثماني وتسليحه وتوزيعه، ووضع الخرائط العامة عن العراق ولا سيما التوزيع العشائري.

ص: 354


1- أستاذ في جامعة عين شمس - جمهورية مصر العربية.

قاومت السلطة المحلية العثمانية الاحتلال البريطاني، وأيدها رجال الدين العراقيين في إصدار فتاوى (مقاتلة الكفار) التي اتخذت اشكالاً متباينة في الرد على الاحتلال، إذ هبّ ألاف العراقيين من عرب وأكراد بقيادة رجال الدين في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة لوقف الزحف البريطاني على مدن العراق أبرزها موقعة (الشعيبة) في نيسان/ أبريل 1915م التي تصدَّر المشهد الحربي فيها علماء الدين و مراجع التقليد في الفرات الأوسط فضلاً عن جهود القيادات العشائرية في المناطق الأخرى، ونددت الجرائد العراقية بالاحتلال ودعت المواطنين إلى القتال والتصدي له بكل السبل المتاحة.

الأهداف البريطانية في العراق

لقد كانت خطة بريطانيا في العراق الاكتفاء باحتلال ولاية البصرة فقط، ولكن نجاح قوّاتها في احتلال البصرة جعلها تُغيّر خطتها والتقدم لاحتلال بغداد وفقًا لاعتبارات سياسيّة وجدت فيها تهدئة الحالة في إيران وإبعاد العثمانيين عن التجمع العسكري في العراق الذي سيؤثّر مستقبلاً على المحتلين البريطانيين، فضلاً عن تقوية مركز بريطانيا فى الهند من خلال صعوبة اتصال العثمانيين بأفغانستان وتحريض قبائلها الحدودية مع الهند على الثورة ضدها.

كان واضحًا من السياسة الدولية أن بريطانيا رسمت لوجودها في العراق ما يضمن بقاؤها طويلاً ، فعزمت على تهدئة الحال، ووجدت من الأفضل لها كسب ود الدول المتحالفة معها في منطقة الشرق الأوسط، فأصدرت وفرنسا تصريحًا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1918م، خففت فيه من قيودهما على العرب أيام الحرب العالمية الأولى، وسمحتا بعودة العراقيين إلى بلادهم، وأمَّلتهم على توفير الأمن وفرض النظام والارتقاء ببلادهم خيراً، وتأسيس حكومة وإدارة وطنية تستمد سلطتها من رغبة السكان الوطنيين وإعادة القومية العراقية إلى الحياة، وأن غايتهما في العراق وسوريا (الاعتراف بهذه الأقطار بمجرد تأسيس حكومات تأسيسًا فعليًا. وأن تساعدا على تعميم التعليم والتهذيب وأن تضعا حدّاً للتفرقة التي طالما توخَّاها الأتراك في سياستهم).

ص: 355

ليس احتلال بريطانيا للعراق في أثناء الحرب العالمية الأولى، وليد سياسة آنية أوحى بها إشراك الدولة العثمانية بالحرب، وإنما استجابة لمطامع بريطانية قديمة بأرض العراق، لأهمية موقعه الجغرافي ذي الصلة الوثيقة بين ما يجري في شبه القارة الهندية ومسارها في الخليج العربي، فضلاً عن وجود النفط الباعث الأساسي الآخر لاتجاه بريطانيا نحو العراق، ولضمان نجاح سياستها على أساس الأسواق الجديدة والمواد الخام فيه، وما أن فكرت أنّ سياستها ستصطدم بوابل مقاومة القبائل العربية الخليجية المعارضة لها، حتى أقامت مركزاً تجارياً لها في البصرة وعززت ذلك بنشاط علاقتها بالدولة العثمانية من خلال بعثة (جسني) لمعرفة صلاحية النقل في نهري دجلة والفرات ومسحهما لأغراض الملاحة ظاهراً ولأغراض سياسية عسكرية باطنًا، من خلال بسط نفوذها على العراق تمهيدًا لما يتيسر لها عملها فيه في المستقبل، ساعدتها على ذلك الإرساليات البريطانية الطبية والتبشيرية وفتح دوائر البريد البريطانية في بغداد والبصرة (1).

إن السمة الغالبة على الأفكار والخطط والمشاريع للاحتلال البريطاني في العراق أيًا كانت الجهة التي صدرت عنها الرسمية فيها أو قرارات القادة العسكريين هي تحقيق المصلحة البريطانية قبل كل شيء، فعملت على إصدار القوانين التي تتطلبها الأوضاع المحلية التي تبنتها اللجان العسكرية البريطانية، يجاريها فيما تصبو إليه بعض شيوخ القبائل في المحكومين بأعرافهم العشائرية، ثم رسمت سياستها المستقلة فيما تراه ممكنا على نظام سياسي هيكلي للدولة ككل في أنظمة جزئية ذات وظائف متخصصة كالسلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) مبتغية بذلك تحقيق مآربها الاستعمارية بصورة مماثلة لمحيطها الدولي نظريّا، اختلفت فيه عن الواقع الفعلي، التي اغاضت العراقيين بتلمسهم أن بريطانيا أنكرت وعودها وقراراتها لحماية أمن العراق والالتزام بصون الكرامة واحترام العراقيين، وعملت على إساءة معاملتهم في وطنهم وعظّمت المكانة الاجتماعية لعشائر العراق محاولةً منها

ص: 356


1- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد سياسة الاحتلال البريطاني للعراق في منطقة الفرات الاوسط 1917 1920م ، مجلة كلية التربية الأساسية، جامعة بابل العدد السادس، آزار مارس 2012 ، ص417

لفصلها عن الكيان المدني واستخدامهم كسلاح قوي مع المتغيرات الجديدة، الأمر الذي ولّد جراحات بليغة ومؤلمة على المستويات السياسية والاجتماعية نتج عنها قيام التمردات والثورات (1).

لقد شخصت مظاهر السياسة البريطانية في منطقة الفرات الأوسط خاصة، ما خفي منها في دراسة الوثائق البريطانية السرية وما نشر وقتها في الكتب والصحف المحلية، التي أظهرت واقع العراق السياسي والاجتماعي وما نتج عنها في قيام الثورات والانتفاضات المحلية في معظم مناطق العراق وبالأخص مدن الفرات الأوسط وعشائرها وبتوجيه مباشر من المرجعيات الدينية التي كانت رافضة لسياسة المحتل البريطاني، حتى رضخت حكومة الاحتلال لمطاليب الثوار وأجبرتها على تغيير سياستها في تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1920م ، ورسمت لكل ما سيحدث لها سياسيًا باختيارها وقبولها لميلاد المملكة العراقية في 23 آب 1921م(2).

نمو المصالح البريطانية في العراق

برز أهمية موقع العراق في نظر السياسة البريطانية مع ازدياد أهمية منطقة الخليج العربي دوليًا وتصاعد الصراعات السياسية والاقتصادية العالمية فيها، ولا سيما أن بريطانيا توسعت تجارتها في منتصف القرن التاسع عشر، وأصبح بوسع المقيم البريطاني في العراق أن يحقق مساعي دولته وطموحاتها بكلمة منه إلى الحكام العثمانيين في اسطنبول، والتي لم يفتأ بعض من زعماء العشائر العراقية أن يطلب الحماية أو العون من المقيم في التأثير بالولاة العثمانيين أحيانًا(3).

رسمت بريطانيا طريقاً برياً بامتداد نهري دجلة والفرات وسيرت باخرتين فيهما، المعرفة صلاحية النهرين للملاحة، بعد أن تخلت عن مشروع (بالمرستون) في مد

ص: 357


1- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص417.
2- المرجع السابق، ص 418.
3- ستيفن همسلي لونكريك اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة جعفر الخياط، مطبعة الاديب، ط6، بغداد، 1985م، ص 307.

خط حديدي عبر وادي الرافدين عام 1857م(1) ، وقد شجع ذلك الألمان في وضع خطة لإقامة سكة حديد ترمي الوصول بها إلى بغداد والخليج العربي ثم إيجاد قاعدة بحرية على الخليج، فضلا عن تغلغلها في الدولة العثمانية باعتقادها أن العراق رأس جسر سهل المنال لاقتحام الهند، لذلك أصبحت سياسة الألمان تشكل خطراً على المصالح البريطانية في الهند، الأمر الذي حفّز بريطانيا على سرعة الاندفاع العسكري نحو الشرق الأوسط والعمل على توطيد العلاقات الجيدة مع دول الخليج العربي وعقد المعاهدات، وقد وجدت هذه الدول فيها صيانة لمركزها ضد السلطان العثماني والشاه الإيراني على حد سواء(2)، فضلاً عن بعث بريطانيا إلى العراق دوائر مخابراتها العسكرية والسياسية عملاء بصفة سائحين ومبشرين وآثاريين لتحصل على معلومات أدق عن العراق من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وشيئاً فشيئاً حصل البريطانيون على النفوذ التام في العراق وهابهم الولاة العثمانيون وأصبحوا ذوي سطوة عالية، وفي الأكثر أداروا وكالات قنصليات الدول الأخرى في العراق، ولهم ثلاث قنصليات واحدة في البصرة وأخرى في بغداد وثالثة في الموصل، يديرها وكيل سياسي ثم مقيم، وكانت وظيفتا القنصل والمنقب الأثري تتحدان في شخص واحد، وكان تحت تصرف القنصل باخرة تلازمه في أعماله على الدوام (3).

تمتع الوكلاء البريطانيون بحريَّة التنقل في العراق، وحصلوا على امتيازات كثيرة في الملاحة النهرية ودوائر البريد الهندية، وأصبحت منزلتهم نافذة ومحترمة في الأوساط السياسية والاجتماعية العراقية، واستفاد منهم بعض شيوخ العشائر والتجار، وبذلك حصلت بريطانيا على القسط الأوفر في التجارة بين الشعوب الأوروبية في العراق(4) .

وقد رسخت بريطانيا دوافعها وغاياتها السياسية في العراق بواسطة التستر بإقامة

ص: 358


1- هنري فوستر، نشأة العراق الحديث، الجزء الأول، ترجمة سليم طه التكريتي، مطبعة الفجر، بغداد1989-م، ص 58.
2- المصدر نفسه، ص 68.
3- ستيفن همسلي لونكريك، المصدر السابق، ص 335.
4- Langley K,M, The Industrialization of Iraq,Caambridge,1961,P,24.

المشاريع الاقتصادية وطرح شعارات المصلحة العامة ومنفعة العراق بإطلاق عناوين التمجيد للعراقيين وخدمة الإنسانية، ومحاولات إعادة تذكير العراقيين بماضي بلادهم المجيد وتراث إمبراطورية العرب المسلمين فيها، وتبرير ما قد تقتضيه المشاريع التي سيحققونها من نفقات تضهد خزينة الدولة لإتمام ضبط فيضان نهري دجلة والفرات وإنشاء السدود لمصالح الزراعة، وتنفيذ المشاريع العمرانية والصناعية، التي من شأنها تنمية الرغبة البريطانية في وضع قدمها في العراق، وعلى ذلك سعی البريطانيون إلى أقامة صداقات حميمة وكثيرة مع العراقيين(1).

سعت بريطانيا بواسطة شركاتها (لنج والشركة العثمانية للملاحة النهرية) (2)التدخل بدبلوماسية عالية في أوساط الحكومة العثمانية للحصول على امتيازات اقتصادية كبيرة في ولاياتها ولاسيما في العراق منافسين في ذلك الدبلوماسية الألمانية الناجحة في العلاقات التجارية والاقتصادية مع العثمانيين، وبحنكة الوكيل البريطاني (كلوديوس ريج) دخل العراق حظيرة النفوذ البريطاني، وتمكن من السيطرة على الجهاز الحكومي وأن يكون مهيباً وفي موقع الصدارة والكلمة النافذة في بغداد، وقد سارت العلاقات البريطانية - العراقية من بعده بالشكل الذي حقق المصالح البريطانية في العراق (3)، وكادت الشركات البريطانية أن تحصل على استغلال المناطق النفطية في الدولة العثمانية، إلا أن إصدار السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1909م) فرماناً يقضي بنقل ملكية الأراضي النفطية في العراق من الخزينة الخاصة إلى أملاك الدولة خيب آمال البريطانيين في عقد ذلك الاتفاق(4).

أسباب ومقدمات ثورة العشرين في العراق

وفي وسط تلك التحديات الكبرى تجسد موقف العراقيين الرافض للاحتلال

ص: 359


1- زكي صالح، منشأ النفوذ البريطاني في بلاد مابين النهرين، بغداد1949-م، ص 142.
2- علاء موسى كاظم الدبلوماسية البريطانية في العراق 1808-1823م، مجلة افاق عربية عدد 12 آب 1980م، ص ص 107-108
3- المصدر نفسه.
4- عبد الفتاح ابراهيم على طريق الهند دار الشؤون الثقافية، ط2، بغداد 2004 م ، ص 178

ونظامه الجديد في محاولته تطبيق أسس سياسته في الهند إلى مواقف ثورية وشديدة فقد التزم الأهالي بفتاوى رجال الدين في البلاد الذي رسَّخت في أذهانهم على أن من يعمل مع البريطانيين يعدّ كافرًا، وصاروا يلعنوهم في الشوارع والمقاهي، وكثيراً ما تحول موقف الناس إلى مجابهة مسلحة منتظمة، ففي مدينة النجف الأشرف قادت (جمعية النهضة الإسلامية) السرية الثورة الشعبية ضد الاحتلال والتي كانت لها وقعًا كبيراً على العشائر في تهيأة وتنظيم القتال في المنطقة(1).

تفجرت انتفاضات شعبية ضد البريطانيين في المناطق الكردية كلفتهم خسائر كبيرة ولا سيما في السليمانية، التي سرعان ما أفصحت بريطانيا بعد أن لمست خطورتها على أمن المنطقة وعرقلة سياستهم فيها عن سياستها الجديدة في المنطقة من خلال إخبار الأكراد مضامين كتاب وكيل الحاكم الملكي العام الذي نصَّ على ما يأتي: (خولتني حكومة صاحب الجلالة أن أطمئنكم شخصيًا بأنها لا تنوي انتهاج سياسة انتقامية نحو الأكراد عن الأعمال التي ارتكبت خلال الحرب، لكنها مستعدة لمنح العفو العام عن الجميع... وترغب حكومة صاحب الجلالة أن أطمئنكم بأن المصالح الكردية سوف لا يغض النظر عنها في مؤتمر الصلح) (2)، والتي لم تضمن للأكراد فيما بعد الوفاء بوعدها وتنفيذ مقرراتها، وسايرت سياسة تركيا في مخططاتها تجاههم في سياسة الصهر العنصري والقمع الدموي، وفي كربلاء المقدسة وبابل وبغداد وغيرها من المدن عقدت الاجتماعات والندوات والتي كان لرجال الدين فيها قصب السبق في قيادتها إذ طالبوا بتشكيل حكومة عراقية مستقلة وإنهاء الاحتلال ، ورداً على تلك التحديات ألقت القوات البريطانية القبض على بعض رجالاتها ونفتهم إلى جزيرة هنجام (3).

ترك الاحتلال البريطاني بصماته على المجتمع العراقي من الأوجه جميعًا، على أساس (فرق تسد) القائمة على تعزيز ربطه بأسواقها الخاصة والأسواق الرأسمالية عامة، من خلال الاعتماد المباشر في أقل عدد ممكن من رؤساء ومتنفذي العشائر

ص: 360


1- عبد الرزاق الحسني، ثورة ،النجف، مطبعة العرفان ط5 ، صيدا ، 1983م، ص ص 30-41
2- المس بيل المصدر السابق، ص ص 213-214.
3- محمد حسين الزبيدي، العراقيون المنفيون إلى جزيرة هنجام دار ،الحرية، ط2، بغداد، 1989م، ص44.

العراقية، وأقاموا علاقات معهم منذ الاحتلال في تركيز القوة الاقتصادية (الأرض) والسلطة (الإدارية) بأيدي الشيوخ (1).

رأى العراقيون في الاحتلال البريطاني الغلاء غير المعهود، إذ ارتفع سعر خبزه اليومي خلال سنوات قليلة بمقدار 1.5 2.5 مرة والشاي بمقدار ثلاث مرات والسكر بمقدار خمس مرات، وكثيراً ما أصبحت هذه المواد توزع بالبطاقات (2).

إزاء ذلك قامت السياسة البريطانية على ستر سياستها في إشغال مسؤوليها العاملين في العراق ممن يفتقرون إلى الخبرة الإدارية والحنكة السياسية والجهل بطبيعة المجتمع العراقي في أن العراقيين غير قادرين على الإدارة بنفسهم، وصار الموظفون الأجانب الجدد صارمين في تطبيق الأنظمة والقوانين لا يراعون فيها أحدًا، وكثيراً ما كانوا يعاملون الناس بعدم الاحترام على النحو الذي اعتادوا عليه في الهند بغض النظر عن الفرق بين شخصية ونفسية العراقي والهندي(3)، وتحفظت السلطة البريطانية على عودة الضباط العراقيين من سوريا وتركيا الذين كانوا يؤلفون نخبة المثقفين العراقيين آنذاك، قد جعلها هذا الأمر في مأزق سياسي واجتماعي عندما عزمت على ترشيح الأمير (فيصل) ملكًا على العراق والقبول بشروطه في إدارة الدولة الجديدة(4)، عززه الترحيب الشعبي الكبير بالأمير (فيصل) في معظم مدن العراق.

قلد الحكام البريطانيون أناسًا عوامًا ومنبوذين في المجتمع بعض المناصب الإدارية، وفي أمور الشرطة ألبستهم سراويل قصيرة لم يألفها العراقيون من قبل، وأقامتهم في الشوارع والأزقة، وفرضت على المارة أن يسيروا في الجهة اليسرى من

ص: 361


1- كانت وسيلة مؤثرة على المجتمع في إطاعتهم لرئيسهم الذي وجدوا فيه ضمان حل مشاكلهم والتقرب به من سلطة الاحتلال عند المراجعات الرسمية وضح ذلك في تقرير الحاكم السياسي البريطاني في العمارة قوله (لقد ساعدنا أيام الحرب إبقاؤنا على شيخ واحد في مقاطعات كبيرة ... إن المهمات الآتية جعلت من الضروري والعملي إسناد الشيوخ الكبار. انظر ، محمد سلمان حسن طلائع الثورة العراقية العامل الاقتصادي، الثورة العراقية الأولى، مطبعة النعمان ،ط2 ،بغداد 1958م، صص 17-18.
2- علي آل بازركان الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية، مطبعة الاديب، بغداد- 1954م، ص15.
3- عبد العزيز القصاب من ذكرياتي بيروت 1962م، ص ص 198-199
4- وميض جمال عمر نظمي ثورة 1920م، بيروت 1985 ص173.

الشارع، ومن خالف تلك الأوامر وسلك الجهة اليمنى سهوًا كان يتعرض للإهانة أو يضرب بالسوط يلفحه جنود الانضباط العسكري (1)، الأمر الذي أزعج الفئات الاجتماعية وولّد عندها الاستياء والكره في التعامل أو إنجاز متطلبات الإدارة الناجحة، فضلاً عن سماع الحكام البريطانيين شكاوى الفلاحين من دون الأخذ ببراهين الملاكين، مما أدى إلى التقليل من مكانتهم في المجتمع وأصبحت طبقتهم مستاءة من الحكومة، فانضموا إلى التجمعات والتنظيمات السياسية والسرية ذات الأهمية بين الفئات الاجتماعية والدينية المشتركة (2).

لقد سار الحكام البريطانيون على أسلوب هدر كرامات الناس من خلال الضرب والإهانة والزجر وعلى طريقة ما نقلته قصص ألف ليلة وليلة في خروج الملوك ، فيقدم الشرطي أو العسكري بيده عصا وبخطوات سريعة يصرخ بأعلى صوته (قوموا... قوموا على الجالسين في المقاهي والراجلين في الشوارع ليُحيُّوا الضابط البريطاني المار في ديرتهم، والذي يقوم بدوره بتحية الواقفين بابتسامة ساخرة واستخفاف مقيت، ومن لم ينتبه له لانشغاله بحديث مع زميله أو بابتياع حاجة انهالت عليه السياط (3)، وكمثال على ذلك ولد سلوك حاكم النجف الأشرف الكابتن (كرين هاوس Greenhouse S.F) القسوة والألم والإهانة على مجتمع المدينة من خلال إساءته عند السير في الشارع وهو يدفع أمامه من يستعمل السوط ليضرب به الناس لفسح الطريق أمامه (4).

كما أجبرت شرطة الإدارة البريطانية شيوخ القبائل من العراقيين على النزول من ظهور خيولهم عند دخول المدينة من مسافات بعيدة فضلا عن إصدارهم الأوامر المهينة والمخجلة بإبقائهم واقفين مدة طويلة تحت الشمس الحارقة وإجبارهم

ص: 362


1- على الوردي، الجزء الخامس المصدر السابق، ص 23
2- وبذلك احدث الاحتلال طبقات اجتماعية اصبح فيها المحترم ذليلاً والذليل ،محترم، وسيء احترام الاشراف وذوي النسب الرفيع، الذي كان بارزاً في العهد العثماني. انظر، ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث، الجزء الأول، ص 193.
3- طالب مشتاق اوراق ايامي الجزء الأول دار واسط للدراسات والنشر ، بغداد - 1989م ، ص 90
4- جعفر محبوبة، ماضي النجف وحاضرها الجزء الاول ب ط ، صيدا - 1353ه-، ص249.

بالعمل على جمع فضلات الخيل وإفرازاتها (الروث) إمعانا منهم بالتنكيل والإهانة(1)، ومن كان منهم يخالف نظام السير في شوارع المدينة وفي الجسر بركوب الحيوانات (الحمير، الخيل والإبل) كان يعاقب بالضرب المبرح بعصا غليظة)(2)، ففي مدينة الديوانية وهي مدينة عشائرية أمر (الميجر ديلي) أن يترجل الخيَّال عن ظهر حصانه قبل وصوله إلى البلدة بخمسمائة متر ويخلع عقاله ويسير مشيّا على الأقدام (3).

أما محاكمهم فكانت شاذة ومنافية لأبسط قواعد العدل فيخبر الحاكم السياسي في الديوانية المتنازعين أنه سيرمي العملة النقدية المعدنية على الأرض، فإن كانت صورة (طره) فسيحكم لصالح فلان وإن كانت كتابة (كتبة) فسيحكم لخصمه (4)، وانطوت تلك الأعمال على الاستخفاف بعقول الناس وإذلالهم إذ كانت تلك المحاكمات أشد وطأة من سلوك الولاة العثمانيين.

اتخذت حكومة الاحتلال اجراءات صارمة ضد (الأشقياء) وحملة السلاح، فقد حكمت على من يلقى القبض عليه ليلاً وهو حامل سلاحه بالإعدام، وشاهد المواطنون صباح كل يوم جثثًا معلقة على المشانق ، فولدت تلك السياسة ذعرًا بين الناس وعزموا على التخلص من اسلحتهم برميها في الأنهر والأبار أو بدفنها تحت الأرض، وشاع بين الناس أن المحتلين جلبوا معهم القطط القادرة على كشف السلاح المخبوء في البيوت عن طريق الشم(5).

ركزت السياسة البريطانية على تقويض مقومات الإقطاع وترسيخ دعائمه وتنظيم أسسه قانونيًا من أجل تكوين قاعدة اجتماعية مضمونة يمكن الاعتماد والركون إليها في الحكم، وبذلك عملت على إصدار (قانون دعاوى العشائر المدنية والجزائية) المستمد من النظام الهندي من خلال الاعتماد على أقل عدد من أبرز متنفذي الريف

ص: 363


1- عبود الهيمص ذكريات وخواطر عن احداث عراقية في الماضي القريب، مطبعة الراية بغداد 1991م ، ص 43.
2- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص401.
3- المصدر نفسه، الجزء الخامس، ص 32.
4- عبود الهيمص، المصدر السابق، ص 42.
5- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص 401.

وذلك من خلال تركيز السلطة السياسية والإدارية في أيدي الشيوخ(1) من المتعاونين مع سلطات الاحتلال، وبموجب ذلك القانون فصل المجتمع العشائري قانونًا عن المحاكم المدنية، حيث سمحوا بالعمل بالفصل في أمور العدالة بين رجال العشائر، واحتوى القانون على مواد عقابية لم يألفها الناس حتى قبل الإسلام، فقد عرضت المنازعات على محاكم عشائرية لتحقيق الرضا من خلال دفع دية الدم إلى أهل القتيل أو فصل الاعتداءات بمبالغ يحددها المجلس العشائري وبحضور الضابط السياسي البريطاني ليكون لحكومة الاحتلال نصيب ايرادي من المبلغ المدفوع باعتباره تأكيد المسؤولية الجماعية لسلوك الفرد، لإذلال الشعب العراقي وتمزيق وحدته الاجتماعية وحتى الدينية (2).

ونتيجة للموقف المقاوم لمنطقة الفرات الأوسط للسياسة البريطانية سار الاحتلال تلك المنطقة بسياسة خاصة تمثلت باختيار بعض الشيوخ الموالين لها دون مراعاة للقواعد المتعارف عليها في وراثة المشيخة، من أن الرئاسة العامة في العشيرة الكبيرة تنحصر حسب العرف العشائري في سلالة الرئيس الأكبر دون أخوته أو ابنائه لكن الإنكليز اختاروا لرئاسة العشيرة ممن أبدى لها الصداقة والولاء أو كانت له صلة سابقة بهم في العهد العثماني بغض النظر عن مقامه الحقيقي في عشيرته (3)وكان لتلك السياسة أثر كبير في اندلاع ثورة العشرين وبروز بعض المواقف المؤيدة للمحتل البريطاني فيما شكلت المعارضه الغالبية العظمى لتلك السياسة الهوجاء، وإمعاناً بإذلال الشيوخ وإضعاف مكانتهم، سمحت حكومة الاحتلال بقبول شكاوى الفلاحين ضد شيوخهم وان كانت ملفقه وغير صحيحة والنظر فيها، حتى أصبحت طبقة الملاكين والشيوخ من أكبر المعارضين والمستائين من سياسة الحكومة البريطانية(4).

ص: 364


1- للمزيد من المعلومات عن القانون ينظر: نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية، المصدر السابق.
2- هنري فوستر نشأة العراق الحديث، الجزء الأول، ترجمة سليم طه التكريتي، مطبعة الفجر بغداد 1989م، ص ص .340-339
3- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص 28؛ انظر وثيقة عزل وتنصيب الشيوخ في الملحق.
4- فلاح محمود خضر، عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص442.

مارست حكومة الاحتلال أساليب أخرى منها سياسة التحبب إلى السكان وأظهرت تلك السياسة في مدينة بغداد بصورة خاصة في محاولة لدحض الدعاية العثمانية ضدهم، فصاروا يظهرون الاحترام للمساجد والمراقد المقدسة وسمحوا بإقامة الشعائر الدينية المختلفة وزاروا رجال الدين في بيوتهم لكسب ودِّهم معلنين حبهم للإسلام وخدمتهم ،لرجاله ولعل هذه السياسة أتت أكلها من خلال التقرب من رجال الدين من الطائفة السنية إذ أغروا علماءها بقبول الوظائف والاهتمام بدوائر الأوقاف وأغدقوا عليهم الأموال، وفي المقابل اهتموا بالطبقة الشعبية من الطائفة الشيعية فراعوا مواكبها وطقوسها الحسينية التي تقام في شهر المحرم وقدّموا لهم ما تحتاجه تلك المواكب من مظاهر الحماية والمواد النادرة كصفائح النفط ونسيج الأكفان (1)، وبالمقابل نكلت بقياداتهم الدينية التي وقفت أمام تطلعاتهم في السيطرة على مقدرات البلاد من خلال الفتاوى التي نبهت الأهالي إلى خطورة السياسات الاستعمارية على مستقبل العراق وأهله إن هذه السياسة التي اتبعتها القوات المحتلة أججت من خلالها الطائفية المقيتة بين أبناء البلد الواحد في سعي من سلطة الاحتلال لتمزيق وحدة المجتمع العراقي وممارسة سياسة التنكيل بقياداته الدينية من خلال كيل الاتهامات السياسية لهم أو اعتبارهم من المحرضين على إثارة الفتن وتهويل تلك الأمور في أيام المناسبات الدينية المختلفة (2)ليكون تأثيرها ووقعها أكبر في النفوس من أجل بث الفرقة بين مكونات أبناء الشعب العراقي.

لقد أشاع المحتل البريطاني النعرات الدينية والمذهبية بأسلوب مقيت في أكثر مدن العراق، حيث أشار التقرير الإداري البريطاني لشهر تشرين الأول 1918م أن الإدارة البريطانية تعتزم تعيين قاضٍ سني في مدينة النجف الأشرف، فضلاً عن إصدار تعليمات على العمال العاملين عندها بإجبارهم ارتداء ثيابِ موحدة بحسب انتمائهم القومي والطائفي، فالعمال السنة يرتدون كوفية حمراء وعقال أسود ويرتدي إخوانهم من الشيعة كوفية زرقاء وعقال أبيض ، وربط فئة المسيحيين الدينية بوشائج

ص: 365


1- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص 398
2- فلاح محمود خضر، عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص443.

قوية مستغلين بذلك ما خلفته مظاهر السياسة العثمانية في المجتمع(1)، لتمزيق لحمة الشعب العراقي وإضعافه من خلال تلك السياسة والواضح أن سياستها في إظهار الطائفية سيعود عليها بالنفع السياسي الذي ستجده في تعلق المسيحيين واليهود بحكمها، فضلاً عن تهيئة ورقة رابحة لديها عن طريق بث كوامن الفرقة والحقد أبناء المذاهب الإسلامية أحدها تجاه الآخر، وأصبحت هذه السياسة ورقة رابحة تبرزها متى جاءت الحاجة إليها للضغط على المذهبين بوسائل تصطنعها، وكان أبرز أعمالها لإثارة أبناء الطائفة الشيعية استحواذ السلطات البريطانية على أوقاف الشيعة والإشراف عليها بشكل مباشر (2).

أججت السلطة البريطانية المشاعر العربية للمواطنين في زرع النزاعات القومية والدينية والقبلية وعمدت إلى إهانة السكان من كبار السن والأطفال من العرب والأكراد على حد سواء ولم يتورع ضباطها في الكف عن ذلك، وحطّم جنودها تراثهم الآثاري والحضاري في بعض المدن العراقية القديمة(3)، وعزمت في شمال العراق على كسب الاثوريين الهاربين من زعمائهم في مدينة عقرة وأسكنتهم قرب مدينة بعقوبة والقسم الآخر حلُّوا في بعض المناطق الكردية من أراضي الفلاحين الأكراد التي طردتهم منها، وتعدّ هذه القضية من أوائل قضايا التغيير (الديمغرافي) العرقي والقومي للسكان، الأمر الذي زاد في حدة النزاع بين الأكراد والاثوريين، كما استخدم الجيش البريطاني فوجين من الاثوريين المدربين في بعقوبة لإخضاع مناطق (العمادية والكويان وبرواري السفلى والعليا) (4)، وركزت السلطة البريطانية على زرع الشّقاق بين القوميات والقبائل والأديان المختلفة، عندما دمجت منطقة الأيزيدين بمنطقة جبل سنجار إداريا (5)، لتدب النزاع المستحكم بينهما، مبتغية بذلك استمرار

ص: 366


1- كمال مظهر احمد الطبقة العاملة الكردية، التكوين وبداية التحرك، مطبعة دار الكتب بيروت 1981م، ص ص 44-45.
2- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص443.
3- محمد طاهر العمري الموصلي، الجزء الثالث المصدر السابق، ص 104.
4- المس بيل فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة: جعفر الخياط دار الكتب ط2، بيروت، 1971م، ص 220.
5- ل. ن كوتلوف ، ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق، ترجمة عبد الواحد كرم، دار الحرية، بغداد 1971م، ص 128 .

أعمال العنف والقتال بين المنطقتين وإبعادهما عن مقاتلتها ثم تثبيت سياستها عليهما باسم الحفاظ على أمن المنطقتين (1).

عزمت السلطة البريطانية على تمزيق أواصر العلاقات الاجتماعية العشائرية فيما بین أبناء العشائر مما أدى إلى أن يدبّ بينهم وبين البعض الآخر الحزازات والأحقاد، الأمر الذي وصل في نهاية المطاف إلى حد الاقتتال بين تلك العشائر، فقد أقدمت قبيلة عنزة برئيسها (فهد بن هذال) الموالي لبريطانيا هجومها على مضارب عشيرة (عطية أبو كلل) قرب السماوة المتهم بقتل القائد البريطاني (مارشال) في النجف الأشرف، الأمر الذي أجبره على تسليم نفسه للسلطات البريطانية قبل نهاية نيسان عام 1918م (2) ، ولم تفلح السلطة البريطانية في تمزيق شمل عائلة (آل كمونة) المتنفذة في كربلاء المقدسة وتأجيج خلافاتها مع أسرة (آل العواد)، فضلا عن اعتقال كبيرها فخري كمونة) من لدن السير (بيرسي كوكس) الحاكم الملكي العام وتهديد شقيقه (محمد علي) بالإقامة في بغداد ليبقى تحت أنظار السلطة البريطانية، والتي انتهت سيادتهما ومكانتهما في كربلاء المقدسة بنفيهما إلى الهند عام 1917م(3).

صادرت قوات الاحتلال مطبعة الولاية عند دخولها مدينة البصرة ورأت أن تستخدمها في طبع نشراتها وبياناتها لإطلاع السكان على سیر المعارك في العراق ولتستعين بها على توطيد سلطان سیاستها ومتطلباتها وللحيلولة دون استخدامها من الآخرين ضدهم(4)، وكانت تلك النشرات تقرأ بصوت عال على تجمع حشود الناس في المقاهي، لتؤثر أخبارها في حمل الناس على التأثر بالدعاية المؤيدة للبريطانيين)(5).

ومنعت السلطة المحتلة العراقيين من إصدار الجرائد الوطنية والسياسية، حيث

ص: 367


1- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص444.
2- المس بيل المصدر السابق، ص 126
3- المصدر نفسه، صص-116-115.
4- المس بيل، المصدر السابق، ص 61.
5- هنري فوستر الجزء الثاني المصدر السابق، ص ص 342-343

سمحت فقط بصدور الجرائد الرسمية التابعة للسلطة (جريدة الموصل ونجمة الكركوكية التي تصدر نصفها باللغة التركية والنصف الآخر بالعربية، وجريدتا العرب البغدادية والأوقات البصرية وإلى جانبها صدرت جريدة بصرة تايمز باللغة الإنكليزية) وأصدرت مجلة واحدة بعنوان (اللسان الأدبية) (1)، وكانت كتابات تلك الصحف والمجلات وسيلة دعائية للمحتلين، إذ كانت السلطة المحتلة تدفع لتلك الجرائد أجوراً عالية لمن ينشر مقالاً أو قصيدة يمجد فيها الاحتلال ويعظم قادته، وبذلك أخذت القصائد (العصماء) أو المقالات (الرنانة) تنهال على تلك الجرائد وهي تلهج بمدح سلطة الاحتلال البريطاني وذم الأتراك، وحملت المقالات أسماء بتواقيع مستعارة، فصحيفة العرب وصفت العرب بأهل الحضارة والعلم والشهامة والوفاء، و(الأتراك أهل عبث وجهل وفساد وقد عُرفوا بنكث الوعود)(2) ونعتتهم الجريدة بكلمات مقيته ومشينه في أنهم ما جاؤوا (الأتراك - أي وربك - فاتحين، بل مخربين عائثين) (3)وربطت الجريدة بين سياسة التتريك والتجنيد من أن (غرض الاتحاديين في تجنيد الناس بعد تتريكهم كان لغرض أن يحولوا دون تعلمهم علوم الدين وأداء ،فرائضه ولكي يهجروا المساجد والجوامع (4)، وعلى العكس من ذلك مجدت الجريدة بالاحتلال البريطاني وصورته بأنه كان (بدافع سامٍ محض حينما أقدمت على خوض الحرب في العراق فقُيّض لها النصر، ودخلت جيوشها الباسلة بغداد، مصافحة العرب، مصافحة الحبيب لحبيبته) (5)، لقد ولّدت تلك السياسة مجموعة منافقة ومتقلبة في نظر المواطنين العراقيين، قالت عنهم المس بيل إنّ (الكلمات عند الشرقيين هي مجرد ألفاظ لاتعني شيئا فقد يقولون اليوم شيئا وينقضونه غدا،وهم لايتركون هذه العادة أبدًا) (6)، وبالمقابل عملت سلطة الاحتلال على كبح حرية الكلام والاجتماعات وراقبت السياسيين والنخب المثقفة من خلال جواسيسها، وحددت

ص: 368


1- عبد الله الفياض، الثورة العراقية الكبرى سنة 1920م ، مطبعة ،الارشاد بغداد 1963- م، ص ص 158-159.
2- جريدة العرب في 1918/2/28م.
3- المصدر نفسه في 1917/7/17م.
4- المصدر نفسه في 1917/12/28م.
5- المصدر نفسه في 1917/7/31م.
6- Elizebeth Burgoyne (Certrude Bell) -London 1921- vol. 2,p. 57-58.

مضامين المناهج الدراسية العامة، لتحقيق ما يضمن سياستها وأهدافها في العراق، باعتقادها بأنها الوسيلة الوحيدة لنهضة البلاد الثقافية والاجتماعية مستقبلاً (1).

كما أفشت بريطانيا في العراق تعاطي المخدرات وسمحت علنًا من غير وازع أخلاقي، إذ أمرت أنظمتها على إصدار تعليمات خاصة في زراعة (الخشخاش) الذي يدخل في إنتاج (الأفيون)، وسمحت باستيراده وخصصت رسوم جمركية يدفعها المستورد ومنحت إجازات للبيع العام لتسهيل توصيله إلى جميع أنحاء العراق (2)، ساعية من خلال ذلك إلى تحقيق نتائج اجتماعية سلبية تؤثر على الروابط الاجتماعية، وإضفاء حالة الانتشاء منه بتخدير عقول الشعب وخموله مؤديًا إلى إبعاده عن معتقداته وإيمانه بدينه، وسلوك هاوية الرذيلة والموبقات التي تبعده عن المطالبة بحقوقه وتضعه في الشرك المذموم اجتماعيًا ودينيًا (3).

كانت محصلة سياسة الاحتلال البريطاني تعزيز التناقضات والمشكلات الاجتماعية، التي أدت إلى أن يرزح العراق تحت كابوس أشد وطأة وأكثر خبثًا وتنوعاً عما كان عليه في العهد العثماني، وربطته بأسواقها خاصة والأسواق الرأسمالية عامة، وأصبح الاحتلال في نظر العراقيين واقعا مرفوضا إلى درجة أنهم لم يتأثروا بإجراءاته الإيجابية مقارنة بما سرى عليهم في العهد العثماني، فكان صورة قاتمة للمحتل الذي فرض إرادته بحكم مركزي قوي أفضى بتحقيق أهدافه الاستعمارية(4).

على الرغم من ورود تلك المساوئ في سياسة الاحتلال البريطاني إلا أن هذا الدور لم يخل من محاسن في تهيئة بعض العراقيين للاتصال بالمدنية الغربية اتصالا مباشرا والتأثر فيهما حسبما تقتضيه الأحوال الاجتماعية والفكرية لهم، فقدمت الحكومة البريطانية نموذجاً لحكومة حديثة أكثر حداثة من حكومة العثمانيين في نشر النظام وإطاعة القانون ومعالجة مشاكل البلاد وتوضيح فكرة الحكومة الجديدة

ص: 369


1- فلاح محمود خضر، عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص445.
2- المس بيل المصدر السابق، ص 267
3- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص446.
4- نفس المرجع والصفحة.

وهيأت الظروف الملائمة لقيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921م ، التي أدت إلى حدوث تبدلات جوهرية في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية(1).

ففي مجال مكافحة مرض الكوليرا الذي ظهرت أعراضه في العراق، صدرت أوامر مشددة بفرض التطعيم الإجباري على معظم السكان، ونقل كل مريض مشتبه به إلى مستشفى العزل، وصاحب تلك الإجراءات إجراء بمنع السفر إلا لمن يحمل وثيقة تطعيم ضد المرض(2)، وإن كانت بادرة حسنة وصحية إلا أن الناس ضجرت هذه الإجراءات وتهربوا من رجال التطعيم، وانتشرت وثائق تطعيم مزورة تباع من خفية عن أنظار الحكومة للمسافرين، فضلا عن كتمان أمر المصابين بالمرض عن الحكومة كي لا تنقله إلى مستشفى العزل لاعتقادهم أن هناك من يقتل مرضاهم(3).

وصف التقرير الرسمي البريطاني حالة بغداد الاقتصادية بالآتي: (الصعوبات ناشئة عن قلة وسائل النقل، ولم تتوفر وسائل النقل لتصدير الجلود والصوف والمواد الخام الأخرى التي تجمعت في بغداد قبل احتلالنا، والتي نحن في حاجة ماسة لها في الوطن ويصدق ذلك على التمور أيضاً... وعلى هذا فقد تأثر الوضع المالي في ولاية بغداد في صورة عكسية ولكنه ما لبث أن تحسن)(4)، ومدت الإدارة البريطانية فی وقت قصير جداً عام 1918م خطوطاً حديدية بين بغداد والحلة مع خط فرعي من الحلة إلى الكفل وآخر من الناصرية إلى السماوة، فضلاً عن تحسين الطرق الصالحة لحيوانات الحمل فقط لتمكين المركبات من استعمالها(5)، والتي سهلت عملية جباية الضرائب في لواء الحلة، كما بادرت الإدارة البريطانية إلى إلغاء بعض الضرائب مثل ضريبة الأشغال العامة وضريبة التعليم وغيرها من الضرائب الإضافية، لاعتقادها أن الاستمرار في استحصالها سيؤدي إلى استياء تام، وهو ما حصل في أوساط العشائريين في الديوانية، واشتكى عشائر عفك عام 1919م من تزايد المقادير

ص: 370


1- نفس المرجع والصفحة.
2- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص 400.
3- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص446.
4- -Reports of The Baghdad Wilayat. 1917. P,3.
5- غسان العطية العراق نشأة الدولة، ترجمة عطا عبد الوهاب دار اللام، لندن 1988م، ص .334

المحصلة وتقاوم الدفع سلماً(1)، والذي يدل على مدى الاهتمام الواضح من جانب سلطات الاحتلال بالجانب التجاري والاقتصادي دون الاهتمامات الأخرى لما توفره لهم تلك العملية من أرباح مالية كبيرة وإنعاش للسوق العراقية بعد أن حلت به الأزمة الاقتصادية عند دخول جيوش الاحتلال البريطاني لأراضيه (2).

كان (بيرسي كوكس Persy Kocks) أول من شغل منصب المندوب السامي البريطاني في العراق، ومنحت له السلطات التشريعية والتنفيذية، ثم خلفه المقدم (ويلسون) عام 1917م، الذي عيّن موظفين بريطانيين و هنود لإدارة الوحدات الحكومية، ورفعت منزلة رئيس الحكام السياسيين إلى حاكم ملكي عام له صلاحيات المخابرة مباشرة مع الحكومة البريطانية ترسل تقاريره إلى وزير الدولة لشؤون الهند معتمدين في سلطتهم على القوات المسلحة والشرطة ومجموعة من العملاء

السريين (3).

وجدت بريطانيا في توحيد قياداتها مع رؤساء العشائر الموالين لها والعاملين تحت امرة الضباط السياسيين، وسيلة لحماية طرق المواصلات المارة في مقاطعاتهم، والإسهام في بعض الأعمال الإداريةٍ والقضائية ومنحتهم لذلك صلاحيات واسعة في اعتقال المجرمين والنظر في بعض الدعاوى القضائية، وعلى جمع الضرائب لقاء نسبة معينة (4)، فضلاً عن الاستفادة منهم في تنفيذ السياسة الاستعمارية في مناطقهم، ومساعدتها في كبح الانتفاضات المحدودة، في حين بقيت عشائر (البدو) متمتعة بالاستقلال التام ومعفوة من دفع الضرائب للسلطات البريطانية مقابل اعتراف رؤوسائها بالإدارة البريطانية المدينة عليهم.

اختلفت سياسة الإدارة البريطانية في كردستان على الرغم من خضوع بعض

ص: 371


1- المصدر نفسه، ص ص 334-335
2- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص446.
3- ل . ن . كوتلوف المصدر السابق، ص 114؛ المس بيل المصدر السابق، ص232
4- محمد طاهر العمري الموصلي، تاريخ مقدرات العراق السياسية، الجزء الثالث، مطبعة دار السلام، بغداد1925-م، ص 5.

مناطقها إلى سلطة الضباط السياسيين، إلا أنها لم تتبع السياسة المركزية التي اتبعتها المناطق الجنوبية والوسطى من العراق وقررت تعيين زعماء القبائل الكردية ورجال الدين كرؤساء للوحدات الإدارية (1)، والتي لم تستمر طويلاً حيث أخضعت مدينة السليمانية إلى سلطاتها المباشرة بعد إبعاد الشيخ (محمود البرزنجي) عن السلطة عام 1919م.

ثورة العشرين في النجف

أعلنت الثورة في مدينة النجف الأشرف يوم 21 تموز/ يوليو، بالتشاور بين رجالات الدين وشيوخ العشائر فيها، وعند إعلان الثورة في المدينة انسحب معاون الحاكم السياسي للمدينة حميد خان من السراي الحكومي بهدوء وبدون أي مشاكل وأصبحت مدينة النجف الأشرف بعد إعلان التمرد تحكم نفسها بنفسها وأصبحت لا تخضع السلطة الإدارة البريطانية المتواجدة في العراق حيث تقرر في النجف تشكيل مجلسين هما المجلس التشريعي والمجلس التنفيذي على أن يكون عدد أعضاء المجلس التنفيذي للمدينة أربعة أشخاص وهم رؤساء المحلات الأربعة الموجودة النجف وعلى أن يكون عدد أعضاء المجلس التشريعي ثمانية أشخاص يجرى انتخابهم من المحلات حيث جرت الانتخابات في يوم 25 آب/ اغسطس.

جاءت المفاوضات، وكانت أولى شروط القائد الإنجليزي للوفد هو تسليم الأسرى الذين كانوا معتقلين في خان شيلان بالنجف فجرى تنفيذ الطلب وسلم الأسرى في اليوم الثاني إلى القوات الإنجليزبة ولكن الإنجليز لم يعلنوا جميع شروطهم للوفد وذلك لانشغال قواتهم في القتال في مناطق أخرى وفي صباح يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر تلى الإنجليز على علماء ووجهاء النجف الأشرف بقية الشروط عليهم وذلك بعد أن قاموا بحشد العديد من قواتهم بالقرب من المدينة وقد تم تنفيذ جميع شروط الإنجليز وبعدها دخلت تلك القوات المدينة وقامت بإغلاق باب السور وقامت بمنع الدخول والخروج من وإلى المدينة إلا بإذن منها وقد استمر هذا الحال لمدة 24 يومًا.

ص: 372


1- كمال مظهر احمد، دور الشعب الكردي في ثورة العشرين العراقية بغداد - 1978م، ص ص 79-96.
صراع الإنجليز في الكوفة

بعد هذا التاريخ أضطر رؤساء العشائر المترددين إلى الانضمام إلى الثوَّار تحت ضغط الرأي العام الذي كان يعد كل من لا ينضم إلى الثورة كافرًا نصرانيًا وقام الثوار ومن انضم معهم بحصار الحامية الإنجليزية الموجودة في الكوفة والتي كان يقدر عدد أفرادها ب- 750 شخصًا مؤلفة من الجنود الشبانة الشرطة والموظفين وكان يرأس الحامية الميجر نوربري وقد بدا الحصار الفعلي للحامية في يوم 21 تموز/ يوليو، وأناط الثوار بأمر الحصار بعلوان الحاج سعدون رئيس بني حسن، وقد كانت الحامية قد تحصنت في الخانات المشرفة على النهر كما كانت الباخرة الحربية آير فلاي قد رست في النهر تجاه الحامية لحمايتها، وقد كانت الطائرات الإنجليزية تقوم بالإغارة على الكوفة طيلة مدة الحصار من خلال الإغارة على الحامية وفي يوم 24 تموز/ يوليو ألقت إحدى الطائرات ثلاث قنابل على جامع الكوفة الكبير فأدى ذلك إلى مقتل العديد من الناس الذين كانوا متواجدين في الجامع، وقد استمر حصار الثوار للحامية الإنجليزية زهاء ثلاثة أشهر وفي يوم 17 تشرين الأول/اكتوبر، وعند الساعة الثامنة صباحًا وصلت القوات الإنجليزية إلى الأطراف الشمالية من البلدة وكان الثوار متجمعين في البلدة وبعد معركة ما بين الطرفين استطاعت القوات الإنجليزية دخول البلدة وكان ذلك عند الساعة التاسعة والنصف من صباح نفس اليوم كما تم في اليوم نفسه فك حصار الحامية الإنجليزية وفي يوم 20 من نفس الشهر استعادت القوات الإنجليزية المدفع الذي كان الثوار قد غنموه منهم في معركة الرارنجية والذي كان قد أستعمل في قصق الحامية الإنجليزية أثناء فترة حصارها.

نشطت الأفكار القومية الهادفة إلى تحقيق استقلال العراق بين المثقفين العراقيين في المدن، كقوة ثورية تقف بحزم في المعسكر المعادي للسياسة البريطانية، وساندتهم أعداد كثيرة من الحرفيين والعمال والتجار الصغار، مكوِّنين قاعدة سياسية احتضنتها الأحزاب السياسية السرية التي لعبت دورًا واضحًا وفعالاً في

ص: 373

قيادة العمليات العسكرية ضد الاحتلال، فضمت جمعية (حرس الاستقلال) (1)بغداد النخب المثقفة السياسية ورجال الدين من المجتهدين والشيوخ الوطنيين وأقامت هذه الجمعية علاقات تنظيمية مع المرجعيات الدينية ورؤساء عشائر الفرات الأوسط، ورفعت شعار الاستقلال التام للعراق، وأسهمت في تحشيد الشعب العراقي ضد الاحتلال البريطاني عام 1920م (2)، وفي مدينة النجف الأشرف تشكلت جمعية (النهضة الإسلامية) من علماء ورجال الدين فضلاً عن النخب المثقفة بجناحين الأول (السياسي) يقوم أعضاءه بالاتصالات السياسية والتنظيمية بين المواطنين، والثاني (الفدائي) يسعى إلى محاربة سلطات الاحتلال التي كانت لهما علاقات حسنة مع جمعية حرس الاستقلال (3)، و(الجمعية الوطنية الإسلامية) في كربلاء المقدسة(4)، تحت إشراف آية الله العظمى الشيخ (محمد تقي الحائري الشيرازي)(5)، فضلا عن وجود حزب (العهد العراقي)، الذي رأى رجاله في المفاوضات مع بريطانيا أمراً ضرورياً لنجاح القضية العربية عامة والعراقية خاصة.

بغية تهدئة الحالة السياسية في العراق ورغبة بريطانيا في تحقيق الاستقلال الشكلي وفقاً لما نوّه عنه التصريح البريطاني - الفرنسي في تشرين الثاني 1918م، أظهرت السياسة البريطانية أن العراقيين غير مؤهلين لتحمل الاستقلال الذاتي(6)،

ص: 374


1- جمعية سياسية وطنية تشكلت في نهاية شهر شباط عام 1919م في بغداد برئاسة السيد محمد الصدر وعضوية (جلال) ،بابان محمود رامز شاکر محمود المرافق، عارف حکمت حسین شلال سعيد حقي، عبد المجيد عبد المجيد يوسف عبد اللطيف حميد الحاج محي الدين السهروردي علي افندي واخرون من منهاجها تسعى الجمعية وراء استقلال البلاد العراقية استقلالا مطلقا ولها موقف ومشاركات وطنية في ثورة العشرين عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، المصدر السابق، ص ص .81-79
2- عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، مطبعة دار الكتب ط5 ، بيروت - 1982م، ص ص 77-81.
3- عبد الجبار حسن الجبوري الاحزاب والجمعيات السياسية في القطر العراقي 1908-1958م، دار الحرية، بغداد 1977م- ص ص.55-54
4- المصدر نفسه، ص 54.
5- ولد في مدينة شيراز جنوب (ايران) في سنة 1256ه- / 1840م، ونشأ بها، ثم هاجرها إلى العراق سنة 1271ه-، واقام في مدينة كربلاء وتدرج في الدراسات الدينية وبعدها انتقل إلى مدينة سامراء واصبح استاذا لجمع كبير من طالبي العلم، وبعد احتلال القوات البريطانية مدينة سامراء سنة 1917م ، انتقل إلى مدينة الكاظمية في مدينة بغداد، وبعد مدة توجه إلى مدينة كربلاء في منتصف سنة 1336ه- / 23 شباط 1918م، وتوفي في 10 آب 1920م. للمزيد من المعلومات :انظر کامل سلمان الجبوري محمد تقي الشيرازي، القائد الاعلى للثورة العراقية الكبرى 1920م، مطبعة برهان قم 1427 ه- / 2006م، ص 43.
6- امين سعيد الثورة العربية الكبرى الجزء الثاني مطبعة القاهرة القاهرة - 1935م، ص ص16-17.

ووجوب إجراء الاستفتاء العام خلال المدة من نهاية عام 1918م وبداية عام 1919م، حول نظام الحكم الذي دعت له رؤساء العشائر وممن ارتبطت مصالحهم مع السلطات البريطانية، في التصديق على صيغة معينة تضمن الشروط التي وضعتها في إبقاء الحكم البريطاني المباشر، وجاءت الأسئلة الموجهة إلى سكان العراق بالإجابة عليها (1)وهي :

هل يرغبون في دولة عربية واحدة، تحت الوصاية البريطانية، تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل حتى الخليج العربي؟.

هل يرغبون في هذه الحالة في رئيس عربي بالاسم يرأس هذه الدولة الجديدة؟.

من هو الرئيس الذي يريدونه في هذه الحالة؟.

تفاوتت أراء المواطنين في الإجابة، وظهر للبريطانيين أن سياستهم في ضم العراق إلى مستعمراتهم، تقاوم بأكثرية الشعب العراقي، ورفضهم للمقترحات التي وجدت الفئات السياسية العراقية المثقفة وعلماء الدين وشيوخ عشائر الفرات الأوسط، على ضرورة النضال ضد الاستعمار للحصول على الاستقلال (2)، وعززتها فتوى آية الله الشيخ (محمد تقي الحائري الشيرازي) في كربلاء المقدسة بأن (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإدارة والسلطنة على المسلمين)(3)والتي كانت صفعة قوية للسياسة البريطانية، نسفت أطماعها وأهدافها في العراق، ولكبح نشاط الحركة الوطنية حثت السلطات البريطانية على وضع حدِّ للجماعات النشطة المقاومة الاحتلال بإبعادهم خارج العراق وإيداع الآخرين في السجون.

بعد تعاظم الحركة الوطنية ونشاطاتها البارزة في معظم مدن العراق وبغية تهدئة الوضع ألغت السلطات البريطانية اللجنة الخاصة التي يرأسها (بونكهام كارتر

Bongham Karter) مدير دائرة العدلية في العراق، الذي يقترح فيه تشكيل مجلسين

ص: 375


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص46.
2- محمد طاهر العمري الموصلي، الجزء الثالث، المصدر السابق، ص 60.
3- الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص 49.

الأول (مجلس دولة) كسلطة تنفيذية يتألف من رئيس عربي يتمتع بنفوذ ومنزلة اجتماعية مرموقة وأحد عشر عضواً، ستة من البريطانيين وخمسة من العرب يعينهم أو يعزلهم المندوب السامي، يمثلون دوائر الدولة أو سكرتيرين فيها، وثانياً المجلس التشريعي تعينه هيئات محلية تكون نفسها منتخبة ومن غير أعضاء مجلس الدولة يمثلون المدن والمناطق الريفية حسب عدد السكان فضلا عن تمثيل الطوائف اليهودية والمسيحية فيه، فيصبح العدد الكلي للمجلس حوالي خمسين عضواً لسن الدستور، ويكون رئيس المجلس من غير المنتخبين إن لم يوجد مرشح مناسب للمنصب، وصلاحية المجلس وضع القانون الأساس على غرار قانون الأساس المصري لعام 1913م، كنموذج يحتذى به بعد إجراء بعض التعديلات عليه، وجعل لمجلس الدولة صلاحية إصدار القوانين وفرض الضرائب، وإضافة جملة مواد متعلقة بواجبات المجلس وصلاحياته التي لا تخرج عن التأثير السياسي البريطاني عليه وفي فقرات المشروع الجديد الذي وضعته بريطانيا لنظام الحكم، يحتفظ الموظفون البريطانيون بسلطاتهم الرسمية السابقة، ويهيمن (مجلس الدولة) المتكون من البريطانيين والعراقيين على السلطة التنفيذية، وتحت إشراف المندوب السامي في العراق(1)، الذي لم يضمن للعراقيين صدق اشتراكهم في الحكم، حيث كان في طيات المجلس منح حق الرفض المطلق (الفيتو) للمندوب السامي حول القرارات، فضلا عن عدم إعطاء رئيس المجلس العربي حق التصويت إلا بعد تعادل الأصوات بين أعضاء المجلس والتي كانت مجمل مقررات مجلس الدولة هي صلاحية استشارية، لتثبيت بريطانيا طريقة الحكم بمشروع الدستور الذي ستصدره في العراق.

جرت اتصالات واسعة بين جمعية (حرس الاستقلال) وشيوخ العشائر والمرجعيات الدينية لحث الجميع على الاستعداد للثورة، وقيام التظاهرات والاجتماعات الشعبية، ورفع شعارات تدعو إلى إطلاق سراح المعتقلين، لذلك اضطر (ويلسون) إلى امتصاص نقمة الشعب على سياستهم من خلال اجتماعه بوفد

ص: 376


1- Ireland، P. W. Iraq. Astudy in Political development، London، 1937,P,305; السر ارنولد ويلسن الثورة العراقية، ترجمة جعفر الخياط، دار الرافدين، ط2، بيروت 2004م، ص ص 45-48 -

المفاوضة في حزيران،1920م، الذي ماطل بتنفيذ مطاليب الوفد في إقامة الحكم الوطني المستقل، وتعاظمت إجراءات السلطة البريطانية القمعية بهذا الشأن، حيث أفضى آية الله الشيخ (الحائري الشيرازي) على دعوة المواطنين للانضمام للحركة في بغداد (1)، وأصبح الوضع السياسي في غاية التوتر عندما أفتى آية الله (الحائري الشيرازي) بالجهاد (مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية اذا امتنع الانكليز من قبول مطالبهم) (2)، وبذلك أصبحت الثورة المسلحة ضد بريطانيا عملاً مشروعاً بموجب الشريعة الإسلامية.

لم تكن الحكومة البريطانية راغبة في تغيير سياستها في العراق وعزمت على إلحاقه بمستعمراتها، فقامت بمناورات سياسية لخداع الشعب العراقي من خلال إجراء بعض التنازلات السياسية وشق وحدة الفئات الوطنية، بغية الاستفادة من كسب الوقت في تهدئة الحالة، والقضاء على المظاهر المسلحة وزج القيادات الشعبية في السجون أو النفي إلى جزيرة هنجام، في الوقت الذي حطم مؤتمر (سان ريمو) عام 1920م آمال الوطنيين العراقيين بتثبيته على قرارات (سایكس - بيكو) باقتسام العراق وسوريا ولبنان وفلسطين بين بريطانيا وفرنسا ثم إصداره قرار فرض الانتداب البريطاني على ،العراق، الذي صدم العراقيين بعقم أملهم في إنشاء دولة عراقية مستقلة، وكشف تنكر المستعمرين للوعود التي قطعوها على أنفسهم للشعب العربي، ففشل البريطانيون في تهدئة الحالة من خطورة نفور العراقيين من كلمة (الانتداب) بتبريرهم على لسان المندوب السامي (بيرسي كوكس) [إنني أقرر بأن الكلمة (منتدب) قد طرحت من قبل الشخص الذي اوصى بها، وهو الرئيس ويلسون... أي أنه الشخص الذي يتعهد بتقديم الخدمة إلى الآخر بالنسبة إلى الملكية المودعة في يديه من لدن الآخرين، فالكلمة (الآخرون) يقصد بها عصبة الأمم، في حين أن كلمة انتداب هي العقد الذي تقدم الخدمة بموجبه، غير أن الكلمة في العراق أخذت معناها الآخر الذي يعني

ص: 377


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص ص 129-145.
2- المصدر نفسه، ص 145

بطلب السيادة من لدن دولة ما](1)، ومهما يكن ترتيب العبارات ومضمونها فهي لا تخرج عن معنى الاستعمار.

لم تجدِ نفعاً المفاوضات السياسية التي عقدت بين مندوبي الشعب وأصدقاء الحكومة ومواليهم مع نائب الحاكم الملكي (ويلسن) في 28 مايس 1920م، إذ كانت المفاوضات أشبه بالمناظرة التي يعقدها الفرقاء لكسب الجولة ودحر الخصم دون التوصل إلى حل ينال موافقة الطرفين، وبذلك أظهر للعراقيين أن قضيتهم لا تحل إلا بقيام الثورة المسلحة التي أعلنت في الثلاثين من حزيران 1920م، والتي توقع قيامها وكيل الحاكم السياسي البريطاني ضد حكومتهم في مضمون رسالته إلى الجنرال هالدن في حزيران 1920م قوله (إنه من المحتمل أن تحدث اضطرابات خطيرة في البلاد خلال الشهرين القادمين ) (2)وأكدتها (المس بيل) في رسائلها (لقد مرَّ علينا أسبوع مليء بالحوادث، ازدادت فيه دعاة الوطنيين... وكان المتطرفون يدعون إلى الاستقلال ولا يريدون الانتداب) (3).

أصدرت السلطة البريطانية منشور رقم 70 نشر نصَّه في جريدة العراق حول تحديد سياستها النهائية في العراق من أنها ستجعل فيه حكومة مستقلة تضمن استقلالها جمعية عصبة الأمم ، وإلزامها بتشكيل قانون أساسي واستشارتها أهالي العراق في مسألة تشكيله مع ملاحظة حقوق (الأجناس المختلفة الموجودة في بلاد العراق ورغائبها ومنافعها)(4)، فهو وثيقة رسمية واضحة سوَّغت بريطانيا فيه سياستها الاستعمارية التي ستربط العراق بالقرارات الدولية المهيمنة عليها، وبهذا الشأن لقيت معارضة شديدة من الوطنيين العراقيين، فضلا عن تطور الموقف الحربي في الفرات الأوسط وظهور الحركات المسلحة ضد القوات البريطانية في تلك المناطق.

لقد مارست بريطانيا سياسة الاستبداد في العراق القائمة على اضطهاد سكانه

ص: 378


1- The letters. Vol. 11,PP,535 -536.
2- Haldane. Op, Cit. P,36.
3- The letters، Vol 11,P,397.
4- جريدة العراق في 2 حزيران 1920م.

ومعاملتهم بقسوة في ثورة العشرين ومضت على هذا الأسلوب في محاولةٍ منها لكسب بعض رؤساء العشائر وجعلهم موالين لها خدمة في تحقيق أهدافها ومصالحها، فانضوى بعضهم للخدمة المدنية عند الضباط السياسيين البريطانيين فحققت بذلك سلطة داخلية محكمة لها نفوذ كبير على المواطنين منفذة أوامرهم وخولتهم على قمع المعارضين والسيطرة الأمنية في مناطقهم، فالشيخ (عمران السعدون) قائم

مقام الهندية رافق معاون الحاكم السياسي البريطاني في مدينة ( طويريج) الكابتن (جاردين) في 19 تموز 1920م وسايره في التوسط إلى مخيم الكوفة لإجراء الترتيبات لوقف القتال، وانقطعت تلك المفاوضات مع الثوار(1)، حيث أثَّرت سلباً في العلاقات العشائرية في المنطقة، وعُلم عند العشائر أن ولاء الشيخ (عمران) غير أكيد وحُذِر منه ، فضلا عن معارضته للعشائر التي حررت مدينة الكفل التابعة إدارياً لقضاء الهندية في 20 تموز في كبح نشاط الثوار وهدَّدهم بالتعاون مع البريطانيين في مقاومتهم (2)، وعلى العكس من ذلك عمل الميجر (ديلي Deely) إلى (الحاج مخيف) مكيدة عند حضوره لمقره في الديوانية وأمر باعتقاله وسوقه إلى البصرة ثم نفيه إلى جزيرة هنجام مع المنفيين هناك (3).

كما استخدم المحتلون أسلوب حجز الأشخاص (رهائن) حيث عملت القوات البريطانية في الديوانية على وضع خطة عسكرية للانسحاب منها إلى الحلة، فأطلق الميجر (ديلي) سراح الشيخ (شعلان العطية) رئيس عشائر الأكرع بعد أن حجز شقيقه الشيخ 0جبل العطية) وابنه (موجد الشعلان) كرهائن للبر بالوعد الذي قطعه بعدم مقاتلة الجيش المنسحب في حدود قبيلته (4).

نكثت السلطة البريطانية وعدها بقيادة الميجر (نوربري Noorbery) ولم تفِ بمواثيقها عندما وقعت اتفاقية هدن مع الثوار في الكوفة في تموز 1920م، باتفاق

ص: 379


1- المس بيل المصدر السابق، ص 450
2- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص274.
3- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص214.
4- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص 282.

الإفراج عن المنفيين والمعتقلين العراقيين ووقف القتال في الرميثة وإجلاء الحكام البريطانيين من مناطق الفرات الأوسط وإجراء الاستفتاء والمفاوضات من البريطانيين على أساس منح العراق الاستقلال والحرية مقابل تعهد رؤساء القبائل في فك الحصار عن الحامية البريطانية في أبي صخير الذي تم ت- تنفيذه لدن العراقيين (1)حيث وافتهم القوة البريطانية في مقاتلتهم بعد أن حصلت على مرادها بنقض الاتفاق.

مارست السلطة المحتلة أساليب أخرى منها التجويع والحرمان من خلال قيامهم بإتلاف المزارع والبساتين وقطع المياه عن مدينة كربلاء المقدسة لإيقاع الأذى في سكانها ومزارعها التي قال فيه الجنرال هالدن (لما كانت كربلاء مسؤولة إلى حد غير قليل عن قيام الثورة فإني رغبت في الاستيلاء على ناظم الحسينية الذي كان يبعد عن الفرات بمائتي ياردة، لكي أجعل سكان البلدة يشعرون بعذاب الحرمان من الماء) وتشفَّى بمعاناة ومشقَّات سكان كربلاء المقدسة قائلاً (فالضغط المعنوي الذي نتج عن اظهار مقدرتي على حرمانهم مَعِين الحياة كان بلا شك عظيما) (2)، وسارت سياستهم على حرق بيوت ممن اشتركوا في الثورة في شمال العراق في منطقة دلتاوه ودور الرؤساء الزيباريين والبرزانيين ومصادرة أموالهم(3) ، وأتلفت مزارع وحقول قرى قضاء الهندية وحرق مضيفي الشيخ (شمران) رئيس عشيرة آل فتلة والشيخ (جياد المحمد) رئيس البراجع، وقامت بمصادرة وقتل أعداد كبيرة من رؤوس الأغنام والأبقار والخيل في المنطقة(4)، ولم تُعِر اهتماماً بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان، فأقدمت على إعدام من أسرته من الثوار دون تحقيق أو محاكمة(5).

وتم قصف المدن والقرى بقذائف الطائرات والمدافع التي لم يسلم منها حتى المتعبدين في مسجد الكوفة، وفتكت قنابلهم بأجساد الكثيرين نشر خبره الثوار ببلاغٍ

ص: 380


1- عبد الله الفياض، المصدر السابق، ص 274.
2- Haldane، OP,cit، P,147
3- جريدة العراق في 4 تشرين الأول 1920م ؛ المس بيل، المصدر السابق، ص 227.
4- فريق المزهر الفرعون الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920م ونتائجها، مطبعة النجاح، ط2، بغداد، 1955م، ص 423
5- أمين سعيد، الجزء الثاني، المصدر السابق، ص 70.

إن (جناية الانكليز على المعابد وإلقاء القذائف النارية على مسجد الكوفة، قتل النساك والمتعبدين)(1).

استلمت قيادة الاحتلال البريطاني سبعين ألف بندقية من عشائر الفرات الأوسط بعد ثورة العشرين في حين لم يجمع من عشائر المنتفك أية قطعة سلاح (الأسباب استثنائية )(2)، حيث كان المحتلون يبتغون من ذلك تحقيق أمرين، الأول بقاء هذه العشائر على ولائها وإخلاصها لهم والثاني تكيد بهم كقوة يمكن أن تستغلها في ضرب العشائر الأخرى المعارضة السياستها في مناطقهم.

اعترف وكيل الحاكم المدني العام (ويلسن) بتقريره السري على (انتعاش الروح القومية) وأن ثورة العشرين جعلت (الشك يحل محل اليقين) والذي غير فكره السياسي في تحويل العراق إلى هند ثانية وإقامة حكم بريطاني مباشر(3)، فضلاً عن تزويد الحكومة البريطانية مندوبها الجديد للعراق (بيرسي كوكس) الأكثر هدوءً ودبلوماسية من سابقه في سياسته مع العراقيين تعليماتها السياسية في رسم مستقبل العلاقة بينهم والعراق بموجب معاهدة جديدة لا بصك الانتداب القديم(4)، والعمل على تأليف حكومة عراقية مؤقتة تعتمد العراقيين في إشغال مناصبها الوزارية، الذي سعى بصعوبة على اختيار شاغليها ممن يعرفون ب- (المعتدلين) على حد تعبيره لهم الإلمام بالأمور الإدارية والحكومية، حيث لم يتورع من أجل الحصول عليهم إلا بنشر الإعلانات الرسمية التي حددت فيها العراقيين ممن سبق انتخابهم لمجلس الأعيان ومجلس المبعوثان العثماني(5)، فضلا عن بعثه الكتب الخاصة للعراقيين الموجودين خارج العراق ممن لهم دراية في أمور السياسة والإدارة(6)، فوقع تعيينه

ص: 381


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص 221.
2- ستيفن همسلى لونكريك، العراق الحديث من سنة 1900-1950م، الجزء الأول، ترجمة سليم طه التكريتي، مطبعة حسام بغداد 1988م، ص 205.
3- Wilson، A. T. Mesopotamia، 19171920 - A clash of Layalties، London، 1931، P,54.
4- عبد الله الفياض، المصدر السابق ص 327.
5- جريدة العراق في 12 تموز 1920م.
6- مجید خدوري، عرب معاصرون، ادوار القادة في السياسة، الدار المتحدة للنشر، بيروت - 1973م، ص 58.

على حكومة عراقية برئاسة (عبد الرحمن النقيب) (1)في 25 تشرين الأول 1920م الذي وافق على أن يعمل تحت إشراف المندوب السامي البريطاني، وكانت بريطانيا تريد لهذه الحكومة ان تكون جسراً بينها وبين الشعب العراقي لإقامة شكل نظام الحكم الذي تقرره هي بنفسها، وجعلت على رأس كل وزارة مستشاراً بريطانياً لتوجيه سياستها من خلاله، وبذلك حكمت بريطانيا العراق حكماً مباشراً، فعينت لكل لواء وقضاء حاكماً عسكرياً من ضباط الجيش البريطاني، ممن لم يمارسوا الشؤون الإدارية والمدنية، الذين ازدروا الناس واحتقروهم وعاملوهم بخشونة، ووضعوا نظاماً من عادات وأوضاع غير مألوفة عند العشائر العراقية(2)، واعترفت السلطة البريطانية بالأساليب الإدارية الفوضوية التي مارسها موظفوها في العراق، من خلال استخدامها (الجنود والضباط الذين لم يألفوا الاشتغال في المناصب الإدارية... ولم يطلعوا على وسائل الإدارة ويجهلون الأحوال والظروف التي تحيط بهذه البلاد (العراق)... وإن فريقاً منهم ضعيف في الإدارة... غير كفؤ للقيام بوظائفه ومنهم من كان يرسل تقريراً ويعقبه بأخر يختلف فحواه عن التقرير الأول)(3)، وبذلك وجدت بريطانيا ترشيح الأمير (فيصل بن الحسين) لعرش العراق الأفضل لأداء مهمتها في ،العراق، دون اعتراض شعبي لحل مشاكلها في العراق وإبعاد العراقيين عن اللجوء إلى السلاح مرة أخرى، فضلاً عن تعويضه عما فقده في مملكة سوريا بنظامه المعتدل الذي سيكون في نظرهم خير ضمان لهم في التصدي للتيارين الكمالي والبلشفي الذي ظهر تأثيرهما واضحًا في العراق(4).

ص: 382


1- من وجهاء مدينة بغداد ونقيب اشرافها، ولد سنة 1261ه-/ 1845م وتقلد نقابة الاشراف بعد وفاة اخية سنة 1315ه-/1898م ومنحه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني نيشانا من الدرجة الثالثة سنة 1297ه-/1880م، وكان مقدرا من الحكومة العثمانية وعند احتلال البريطانيين مدينة بغداد عام 1917م ، لقي الحظوة عندهم وعين اول رئيس لوزراء العراق عام 1920م واستقال سنة 1922م، وتوفي سنة 1345ه- / 1927م. أبي المعز السيد محمد القزويني، طروس الإنشاء وسطور الإملاء، تحقيق: جودت القزويني ب ط ، بيروت - 1418ه-/1998م، ص 139.
2- فاضل حسين وعبد الوهاب عباس القيسي ،وآخرون تاريخ العراق المعاصر ، مطبعة جامعة بغداد، بغداد 1980-م، ص 23.
3- Haldane. OP. Cit. P,36.
4- فاروق صالح العمر، حول سياسة بريطانيا في العراق 1914-1921م، دراسة وثائقية مطبعة الإرشاد، بغداد - 1977 م، ص ص 104-105

عانى الملك (فيصل) من الثقل السياسي الذي اكتشفه، في التعامل مع إرث ثقيل خلفه حكم عثماني متخلف واحتلال بريطاني استعماري يشوبه التشابك وعقدة مستعصية، وجد فيصل في تخفيف أثارها (في المراوغة والتلون ونقض العهود) (1)عمل طوال سنوات حكمه العراق من تتويجه يوم 23 أب 1921م وحتى وفاته في 7 أيلول 1933م(2) ، بنشاط منقطع النظير نابع عن رغبة صادقة في إقامة الدولة الحديثة في حدود الإمكان، ونزاهة مشهودة.

مقدمات مؤتمر الكوفة

وسط كل الأحداث السابقة، وفي يوم 17 تموز/ يوليو عقد في مدينة الكوفة مؤتمرٌ لعقد هدنة ما بين الثوار في منطقة لواء الشامية والنجف والإنجليز وقد حضر المؤتمر عن الجانب الإنجليزي الميجُر (توربري) الحاكم الإنجليزي للواء الشامية والنجف (3). ومثَّل الثوار بالإضافة إلى رؤساء العشائر الموجودة في المنطقة كل من الشيخين عبد الكريم الجزائري وجواد الجواهري اللذان كانا مندوبين عن آية الله الشيخ فتح الله الأصفهاني وقد تم الاتفاق أخيراً ما بين الطرفين على هدنة تكون مدتها أربعة أيام ابتداءً من اليوم الأول من شهر ذو القعدة لسنة 1338 هجري الموافق ليوم 17 تموز/ يوليو حيث تنسحب حامية أبو صخير إلى الكوفة من دون أن يصيبها أي أذى وقد تعهد من جانبه الميجر نوربري بمراجعة الحاكم العام ببغداد حول مطاليب الثوار في اللواء وهي: العفو العام عن جميع العراقيين بمن فيهم أهل الرميثة الشامية والدغارة. وتوقف جميع الحركات العسكرية وإصلاح سكة الحديد ونقل القوات العسكرية من مكان إلى آخر. وإطلاق سراح جميع المعتقلين والمنفيين. وتشكيل المؤتمر العراقي(4).

ص: 383


1- أمين الريحاني، ملوك العرب، الإعمال الكاملة، المجلد الأول، الجزء الثاني، ب ط ، بيروت - 1980 م، ص 327.
2- عبد المجيد كامل التكريتي، الملك فيصل الأول ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921-1933م، دار الشؤون الثقافية، بغداد - 1991 م، ص 320 .
3- علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس، ص265.
4- المرجع السابق، ص270.

لم تستمر الهدنة الموقعة ما بين الطرفين التي كان أمدها أربعة أيام إذ تم اِختراقها من قبل كلا الجانبين في اليوم الثالث أي في يوم 19 تموز ويرجع السبب الرئيسي في خرق الهدنة من قبل الثوار هو أن الكثير منهم قد ندموا في إعطاء هذه الهدنة وتخليص حامية أبو صخير من الحصار بعد أن كثر عليهم النقد والتجريح، حيث هاجم ثوار المنطقة خمسة شخاتير وهي محملة بالمُؤن والعتاد لنقلها لغرض إمداد حامية الكوفة وفي الوقت نفسه هاجم نفر من أهل الكوفة السراي الحكومي الموجود في المدينة وقاموا بالاستيلاء عليه(1).

بعد هذا التاريخ اِضطر رؤساء العشائر المترددون إلى الانضمام إلى الثوار تحت ضغط الرأي العام الذي كان يعد كل من لا ينضم إلى الثورة كافرًا (2). وقام الثوار ومن انضم معهم بحصار الحامية الإنجليزية الموجودة في الكوفة والتي كان يقدر عدد أفرادها ب 750 شخصًا مؤلفة من الجنود «الشبانة) الشرطة والموظفين ويرأس تلك الحامية الميجر نوربري وقد بدا الحصار الفعلي للحامية في يوم 21 تموز وأناط الثوار أمر الحصار بعلوان الحاج سعدون رئيس بني حسن(3). وقد كانت الحامية قد تحصنت في الخانات المشرفة على النهر كما كانت الباخرة الحربية آير فلاي قد رست في النهر تجاه الحامية لحمايتها (4).

وقد كانت الطائرات الإنجليزية تقوم بالإغارة على الكوفة طيلة مدة الحصار على الحامية وفي يوم 24تموز ألقت إحدى الطائرات ثلاث قنابل على مسجد الكوفة الكبير فأدى ذلك إلى مقتل العديد من الناس الذين كانوا متواجدين في المسجد(5).

وقد استمر حصار الثوار للحامية الإنجليزية زهاء ثلاثة أشهر وفي يوم 17من شهر تشرين الأول وعند الساعة الثامنة صباحا وصلت القوات الإنجليزية إلى

ص: 384


1- علي الوردي، مرجع سابق، ص 271.
2- علي الوردي، مرجع سابق، ص 272.
3- علي الوردي، مرجع سابق، ص 343.
4- علي الوردي، مرجع سابق، ص 344.
5- علي الوردي، مرجع سابق، ص 348.

الأطراف الشمالية من البلدة وكان الثوار متجمعين في البلدة وبعد معركة ما بين الطرفين استطاعت القوات الإنجليزية دخول البلدة وكان ذلك عند الساعة التاسعة والنصف من صباح نفس اليوم(1).

كما تم في اليوم نفسه فك حصار الحامية الإنجليزية وفي يوم 20 من نفس الشهر استعادت القوات الإنجليزية المدفع الذي كان الثوار قد غنموه منهم في معركة الرارنجية والذي كان قد أستعمل في قصف الحامية الإنجليزية أثناء فترة الحصار لها(2).

الخاتمة

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، تركزت سياسة الاستعمار البريطاني في الهند على العراق من خلال الصلة الوثيقة بين ما يجري في شبه القارة الهندية ومسارها عبر الخليج العربي والتي نتج عنها إجبار العراق على تحقيق أهداف الاستعمار البريطاني بعد ضمَّه إلى المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، في میدان شاسع من السياسة العامة والإدارة، معتقدة أنها ستضمن نجاح سياستها على أساس وجود الأسواق الجديدة والمواد الخام فيه، كما عملت سلطة الاحتلال على إصدار قوانين تطلبتها الأوضاع المحلية والإدارية بعيدة عن واقع العراق السياسي والاجتماعي، تبنتها لجانها العسكرية بمعاونة شيوخ القبائل المؤيدين للاحتلال ببقائهم في حكمهم حسب العرف العشائري، رافقها تصرفات حكامها الحمقى في التعامل مع العراقيين وفي التأثير المباشر في المجتمع العراقي من خلال سياسة (فرق تسد) كان محصلتها تعزيز التناقضات والمشكلات الاجتماعية والسياسية في منظور منشور الجنرال (مود) وهدفها في تضليل العرب وخداعهم بسعيها إلى نهوضهم مرة أخرى واستعادت مكانتهم السياسية وفق مبدأ ( تقرير المصير) الذي وجدت فيه أيسر وسيلة للسيطرة عليهم وتحقيق سياستها الواضحة المنفذة في الهند ومصر.

ص: 385


1- علي الوردي، مرجع سابق، ص.147.
2- Edinburgh 1922 (Haldane (Insurrection in Mesopotamia. P 192

فرضت سلطة الاحتلال الحكم المركزي المباشر على العراق وتفننت استحصال الضرائب القائمة والجديدة، التي أثقلت كاهل العراقيين بأعباءٍ اقتصاديةٍ كبيرة، وأتبعت سياسة التركيز في توسيع نفوذها وترسيخ دعائم الإقطاع وتطوير مقوماته بأسس قانونية من خلال اعتمادها على أقل عدد من عملائها سواء العشائر أو المتنفذين في المدن في حكم العراق من خلال تشريعاتها وقراراتها المكرسة أغلبها بشأن الأرض والعشائر وأحكامها.

توسع الموقف الذي تبناه البريطانيون تجاه استقلال العراق السياسي من شقة الخلاف بينهم وبين العراقيين وفشلت خططهم في حكم العراق حكماً مباشراً وربطه بحكومة الهند وكان لافتقار العاملين السياسيين البريطانيين في العراق إلى الخبرة الإدارية والحنكة السياسية وجهلهم بطبيعة المجتمع العراقي، وراء ايقاعهم في نشاط المقاومة الوطنية المسلحة ورفض الشعب لسياستهم القائمة، وفشلهم في تفكيك أواصر الشعب ولحمته في تأجيج الطائفية نتيجة الوعي الفكري الواضح لدى علماء الدين، ونتيجة لذلك حصل عكس ماكان الإنجليز يخططون له عندما تمسك الناس بمراجع تقليدهم وفتاوى قياداتهم الدينية، التي وحدت موقف العراقيين وجمعت كلمتهم في رفض الاحتلال ومقاومته المسلحة في ثورة العشرين، والتي نتج عنها انهيار مخططات الإنجليز الاستعمارية في جعل العراق مستعمرة لها من خلال تمسكهم بالقرارات الدولية بفرض الانتداب عليه، والتي أجبرها العراقيون على إعادة النظر في سياستهم تجاه ،العراق، بأسلوب ذكي يضمن لبريطانيا مصلحتها في العراق بوسائل جديدة عبر عنها حكامهم في خطاباتهم ومذكراتهم بقول المندوب السامي بيرسي كوكس (إن دولة إنكلترا ارسلتني للمساعدة والاتفاق مع أشراف ورؤساء العراق لنحصل على الغاية المطلوبة للطرفين وتأليف الحكومة العربية حكومة مستقلة بنظارة دولة انكلترا، ولقد جئت لهذا المقصد) (1)، وإن لم يكن هناك حتى قرار متخذ بشأن شكل الحكم في العراق فقد اقترح (بيرسي كوكس) بوثيقة مؤرخة في

ص: 386


1- عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث الجزء الأول، المكتبة العصرية، ط2، صيدا 1957م، ص 157.

نیسان 1918م قائلاً (إن المندوب السامي قد تساعده إذا تطلب الأمر وزارة نصفها من الأهالي ونصفها من الموظفين البريطانيين ، وربما يستندها مجلس إداري أو هيئة ما استشارية تتألف بأجمعها من أعيان البلاد البارزين... وإذا أريد تنصيب رأس رمزي فهو يوصي بنقيب بغداد وهو أحد الذوات المسنين) (1)واعترفت صحفهم بسياستهم الفاشلة بأنها (منحت الشعب العربي من دون ريب درسًا عمليًا في الكفاءة، غير أن هناك أشياء أخرى أعزّ على قلب الإنسان وإلى قلب العربي بصفة خاصة من الكفاءة، ولاسيما حين يتم دفعه بثمن باهظ فالعرب اليوم أقل تمتعًا بالحرية مما كانوا عليه تحت حكم الأتراك، وأنهم الآن يدفعون ثلاثة أضعاف ما كانوا يدفعونه من الضرائب)(2).

لم تكن الحكومة البريطانية راغبة في تغيير سياستها في العراق وعزمت على إلحاقه ،مستعمراتها، فقامت بمناورات سياسية لخداع الشعب العراقي من خلال إجراء بعض التنازلات السياسية وشق وحدة الفئات الوطنية، بغية الاستفادة من كسب الوقت في تهدئة الحالة، والقضاء على المظاهر المسلحة وزج القيادات الشعبية في السجون أو النفي إلى جزيرة هنجام، في الوقت الذي حطم مؤتمر (سان ريمو) عام 1920م آمال الوطنيين العراقيين بتثبيته على قرارات (سایكس - بيكو) باقتسام العراق وسوريا ولبنان وفلسطين بين بريطانيا وفرنسا ثم إصداره قرار فرض (الانتداب) البريطاني على ،العراق، الذي صدم العراقيين بعقم أملهم في إنشاء دولة عراقية مستقلة، وكشف تنكر المستعمرين للوعود التي قطعوها على أنفسهم للشعب العربي، ففشل البريطانيون في تهدئة الحالة من خطورة نفور العراقيين من كلمة (الانتداب) بتبريرهم على لسان المندوب السامي (بيرسي كوكس) إنني أقرر بأن الكلمة (منتدب) قد طرحت من قبل الشخص الذي أوصى بها ، وهو الرئيس ويلسون... أي أنه الشخص الذي يتعهد بتقديم الخدمة إلى الآخر بالنسبة إلى الملكية المودعة في يديه من لدن الآخرين،

ص: 387


1- F. O. 371/ 4148 13298. War Cabinet- Eastern Committee. Secret. 39th Meeting. November 27,1918. Annex. مقتبس عن غسان العطية المصدر السابق، ص 223
2- جریدة المانجستر غاردیان فی 24 تموز 1920م مقتیس عن هنری فوستر الجزء الاول المصدر السابق ص 141.

فالكلمة (الآخرون) يقصد بها عصبة الأمم ، في حين أن كلمة انتداب هي العقد الذي تُقدّم الخدمة بموجبه، غير أن الكلمة في العراق أخذت معناها الآخر الذي يعني بطلب السيادة من لدن دولة ما (1)، ومهما يكن ترتيب العبارات ومضمونها فهي لا تخرج عن معنى الاستعمار.

لم تجدِ نفعاً المفاوضات السياسية التي عقدت بين مندوبي الشعب وأصدقاء الحكومة ومواليهم مع نائب الحاكم الملكي (ويلسن) في 28 مايس 1920م، إذ كانت المفاوضات أشبه بالمناظرة التي يعقدها الفرقاء لكسب الجولة ودحر الخصم دون التوصل إلى حل ينال موافقة الطرفين، وبذلك أظهر للعراقيين أن قضيتهم لا تحل إلا بقيام الثورة المسلحة التي أعلنت في الثلاثين من حزيران 1920م، والتي توقع قيامها وكيل الحاكم السياسي البريطاني ضد حكومتهم في مضمون رسالته إلى الجنرال هالدن في حزيران 1920م قوله (إنه من المحتمل أن تحدث اضطرابات خطيرة في البلاد خلال الشهرين القادمين)(2)وأكدتها (المس بيل) في رسائلها (لقد مر علينا أسبوع مليء بالحوادث، ازدادت فيه دعاة الوطنيين... وكان المتطرفون يدعون إلى الاستقلال ولا يريدون الانتداب) (3).

أصدرت السلطة البريطانية منشور رقم 70 نشر نصه في جريدة العراق حول تحديد سياستها النهائية في العراق من أنها ستجعل فيه حكومة مستقلة تضمن استقلالها جمعية عصبة الأمم، وإلزامها بتشكيل قانون أساسي واستشارتها أهالي العراق في مسألة تشكيله مع ملاحظة حقوق (الأجناس المختلفة الموجودة في بلاد العراق ورغائبها ومنافعها)(4)، فهو وثيقة رسمية واضحة سوغت بريطانيا فيه سياستها الاستعمارية التي ستربط العراق بالقرارات الدولية المهيمنة عليها، وبهذا الشأن لقيت معارضة شديدة من الوطنيين العراقيين، فضلا عن تطور الموقف الحربي في الفرات الأوسط وظهور الحركات المسلحة ضد القوات البريطانية.

ص: 388


1- The letters. Vol. 11,PP,535-536.
2- Haldane Op,Cit، P,36.
3- The letters، Vol 11,P,397.
4- جريدة العراق في 2 حزيران 1920م.

مارست بريطانيا سياسة الاستبداد في العراق القائمة على اضطهاد سكانه ومعاملتهم بقسوة في ثورة العشرين ومضت على هذا الأسلوب في محاولة منها لكسب بعض رؤساء العشائر وجعلهم موالين لها خدمة في تحقيق أهدافها ومصالحها، فانضوى بعضهم للخدمة المدنية عند الضباط السياسيين البريطانيين فحققت بذلك سلطة داخلية محكمة لها نفوذ كبير على المواطنين منفذة أوامرهم وخولتهم على قمع المعارضين والسيطرة الأمنية في مناطقهم، فالشيخ (عمران السعدون) قائم مقام الهندية رافق معاون الحاكم السياسي البريطاني في مدينة (طويريج) الكابتن (جاردين) في 19 تموز 1920م وسايره في التوسط إلى مخيم الكوفة لإجراء الترتيبات لوقف القتال، والتي انقطعت تلك المفاوضات مع الثوار(1)، حيث أثرت سلباً في العلاقات العشائرية في المنطقة، وعُلم المنطقة، وعلم عند العشائر أن ولاء الشيخ (عمران) غير أكيد وحذر منه، فضلا عن معارضته للعشائر التي حررت مدينة الكفل التابعة إدارياً لقضاء الهندية في 20 تموز في كبح نشاط الثوار وهددهم بالتعاون مع البريطانيين في مقاومتهم (2)، وعلى العكس من ذلك عمل الميجر ( ديلي Deely) إلى (الحاج مخيف) مكيدة عند حضوره لمقره في الديوانية وأمر باعتقاله وسوقه إلى البصرة ثم نفيه إلى جزيرة هنجام مع المنفيين هناك(3).

كما استخدم المحتلون أسلوب حجز الأشخاص (رهائن) حيث عملت القوات البريطانية في الديوانية على وضع خطة عسكرية للانسحاب منها إلى الحلة، فأطلق الميجر (ديلي) سراح الشيخ (شعلان العطية) رئيس عشائر الأكرع بعد أن حجز شقيقه الشيخ (جبل العطية) وابنه (موجد الشعلان) كرهائن للبر بالوعد الذي قطعه بعدم مقاتلة الجيش المنسحب في حدود قبيلته (4).

نكثت السلطة البريطانية وعدها بقيادة الميجر (نوربري Noorbery) ولم تفِ

ص: 389


1- المس بيل المصدر السابق، ص 450
2- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص274.
3- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص214.
4- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص 282.

بمواثيقها عندما وقعت اتفاقية هدنه مع الثوار في الكوفة في تموز 1920م، باتفاق الإفراج عن المنفيين والمعتقلين العراقيين ووقف القتال في الرميثة وإجلاء الحكام البريطانيين من مناطق الفرات الأوسط وإجراء الاستفتاء والمفاوضات من البريطانيين على أساس منح العراق الاستقلال والحرية مقابل تعهد رؤساء القبائل في فك الحصار عن الحامية البريطانية في ابي صخير الذي تم تنفيذه من لدن العراقيين(1)، حيث وافتهم القوة البريطانية في مقاتلتهم بعد أن حصلت على مرادها بنقض الاتفاق.

و مارست السلطة المحتلة أساليب أخرى منها التجويع والحرمان من خلال قيامهم بإتلاف المزارع والبساتين وقطع المياه عن مدينة كربلاء لإيقاع الأذى في سكانها ومزارعها التي قال فيه الجنرال هالدن (لما كانت كربلاء مسؤولة إلى حد غير قليل عن قيام الثورة فإني رغبت في الاستيلاء على ناظم الحسينية الذي كان يبعد عن الفرات بمائتي ياردة لكي اجعل سكان البلدة يشعرون بعذاب الحرمان من الماء) وتشفى بمعاناة ومشقات سكان كربلاء قائلاً ( فالضغط المعنوي الذي نتج عن اظهار مقدرتي على حرمانهم معين الحياة كان بلا شك عظيماً)(2)، وسارت سياستهم على حرق بيوت ممن اشتركوا في الثورة في شمال العراق في منطقة دلتاوه ودور الرؤساء الزيباريين والبرزانيين ومصادرة أموالهم(3)، وأتلفت مزارع وحقول قرى قضاء الهندية وحرق مضيفي الشيخ (شمران) رئيس عشيرة آل فتلة والشيخ (جياد المحمد) رئيس البراجع، وقامت بمصادرة وقتل اعداد كبيرة من رؤوس الأغنام والأبقار والخيل في المنطقة(4) ولم تعر اهتماماً بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان، فأقدمت على إعدام من أسرته من الثوار دون تحقيق أو محاكمة(5).

وقصفت المدن والقرى بقذائف الطائرات والمدافع التي لم يسلم منها حتى المتعبدين في مسجد الكوفة، وفتكت قنابلهم بأجساد الكثيرين نشر خبره الثوار

ص: 390


1- عبد الله الفياض، المصدر السابق، ص 274.
2- Haldane، OP,cit، P,147.
3- جريدة العراق في 4 تشرين الأول 1920م ؛ المس بيل، المصدر السابق، ص 227.
4- فريق المزهر الفرعون المصدر السابق، ص 423
5- أمين سعيد، الجزء الثاني، المصدر السابق، ص 70.

ببلاغ إن جناية الانكليز على المعابد وإلقاء القذائف النارية على مسجد الكوفة ، قتل النساك والمتعبدين(1).

استلمت قيادة الاحتلال البريطاني سبعين ألف بندقية من عشائر الفرات الأوسط بعد ثورة العشرين في حين لم يجمع من عشائر المنتفك أية قطعة سلاح الأسباب استثنائية )(2)، حيث كان المحتلون يبتغون من ذلك تحقيق أمرين، الأول بقاء هذه العشائر على ولائها وإخلاصها لهم والثاني تكيد بهم كقوة يمكن أن تستغلها في ضرب العشائر الأخرى المعارضة لسياستها في مناطقهم.

واعترف وكيل الحاكم المدني العام (ويلسن) بتقريره السري على انتعاش الروح القومية) وأن ثورة العشرين جعلت (الشك يحل محل اليقين) والذي غيّر فكره السياسي في تحويل العراق إلى هند ثانية وإقامة حكم بريطاني مباشر (3)، فضلاً عن تزويد الحكومة البريطانية مندوبها الجديد للعراق (بيرسي كوكس) الأكثر هدوءً ودبلوماسية من سابقه في سياسته مع العراقيين تعليماتها السياسية في رسم مستقبل العلاقة بينهم والعراق بموجب معاهدة جديدة لا بصك الانتداب القديم(4)، والعمل على تأليف حكومة عراقية مؤقتة تعتمد العراقيين في إشغال مناصبها الوزارية، الذي سعى بصعوبة على اختيار شاغليها ممن يعرفون ب- (المعتدلين) على حد تعبيره لهم الإلمام بالأمور الإدارية والحكومية، حيث لم يتورع من أجل الحصول عليهم إلا بنشر الإعلانات الرسمية التي حددت فيها العراقيين ممن سبق انتخابهم لمجلس الأعيان ومجلس المبعوثان العثماني(5)، فضلا عن بعثه الكتب الخاصة للعراقيين الموجودين خارج العراق ممن لهم دراية في أمور السياسة والإدارة(6)، فوقع تعيينه

ص: 391


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص 221.
2- ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث الجزء الأول، ص 205.
3- Wilson، A. T. Mesopotamia، 19171920 - A clash of Layalties، London، 1931، P,54.
4- عبد الله الفياض، المصدر السابق ص 327.
5- جريدة العراق في 12 تموز 1920م.
6- مجيد خدوري، عرب معاصرون، ادوار القادة في السياسة الدار المتحدة للنشر، بيروت - 1973م، ص58.

على حكومة عراقية برئاسة (عبد الرحمن النقيب)(1) في 25 تشرين الأول 1920م الذي وافق على العمل تحت إشراف المندوب السامي البريطاني، في حكومة أريد لها أن تكون جسراً بين المندوب السامي البريطاني وبين الشعب العراقي لإقامة الحكم المقرر ، وجعلت على رأس كل وزارة مستشاراً بريطانياً لتوجيه سياستها من خلاله، وحكم العراق حكماً مباشراً، فعينت لكل لواء وقضاء حاكماً عسكرياً من ضباط الجيش البريطاني، ممن لم يمارسوا الشؤون الإدارية والمدنية الذين اِزدروا الناس واحتقروهم وعاملوهم بخشونة، ووضعوا نظاماً مستمداً من عادات وأوضاع غير مألوفة عند العشائر العراقية (2)، واعترفت السلطة البريطانية بالأساليب الإدارية الفوضوية التي مارسها موظفوها في العراق، من خلال استخدامها (الجنود والضباط الذين لم يألفوا الاشتغال في المناصب الإدارية... ولم يطلعوا على وسائل الإدارة ويجهلون الأحوال والظروف التي تحيط بهذه البلاد (العراق)... وإن فريقاً منهم ضعیف في الإدارة... غير كفؤ للقيام بوظائفه ومنهم من كان يرسل تقريراً ويعقبه بآخر يختلف فحواه عن التقرير الأول (3)، وبذلك وجدت بريطانيا ترشيح الأمير (فيصل بن الحسين) لعرش العراق الأفضل لأداء مهمتها في العراق، دون اعتراض شعبي، لحل مشاكلها في العراق، وإبعاد العراقيين عن اللجوء إلى السلاح مرة أخرى، فضلاً عن تعويضه عما فقده في مملكة سوريا بنظامه المعتدل الذي سيكون في نظرهم خير ضمان لهم في التصدي للتيارين الكمالي والبلشفي الذي ظهر تأثيرهما واضحاً في العراق(4).

ص: 392


1- من وجهاء مدينة بغداد ونقيب اشرافها ولد سنة 1261ه- / 1845م وتقلد نقابة الاشراف بعد وفاة اخية سنة 1315ه- /1898م ومنحه السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني نيشانا من الدرجة الثالثة سنة 1297ه- /1880م، وكان مقدرا من الحكومة العثمانية وعند احتلال البريطانيين مدينة بغداد عام 1917م ، لقي الحظوة عندهم وعين اول رئيس لوزراء العراق عام 1920م واستقال سنة 1922م، وتوفي سنة 1345ه- / 1927م. أبي المعز السيد محمد القزويني، طروس الإنشاء وسطور الإملاء، تحقيق جودت القزويني ب ط ، بيروت - 1418ه- / 1998م، ص 139.
2- فاضل حسين وعبد الوهاب عباس القيسي وآخرون، تاريخ العراق المعاصر ، مطبعة جامعة بغداد، بغداد - 1980م، ص 23. .139.
3- Haldane. OP. Cit. P,36.
4- فاروق صالح العمر، حول سياسة بريطانيا في العراق 1914-1921م، دراسة وثائقية، مطبعة الإرشاد، بغداد 1977م، ص ص 104-105.

عانى الملك (فيصل) من الثقل السياسي الذي اكتشفه في التعامل مع إرث خلَّفه حكم عثماني متخلف واحتلال بريطاني استعماري يشوبه التشابك

وعقدة مستعصية، وجد فيصل في تخفيف أثارها (في المراوغة والتلون ونقض العهود) (1)عمل طوال سنوات حكمه العراق من تتويجه يوم 23 أب 1921م وحتى وفاته في 7 أيلول 1933م(2) ، بنشاط منقطع النظير نابع عن رغبة صادقة في إقامة الدولة الحديثة في حدود الإمكان، ونزاهة مشهودة .

الثورة العراقية وإن فشلت عسكريًا، لكنها أسهمت كثيراً في تطور الوعي السياسي والثوري بين السكان، وأظهرت دلائل نضوج سياسي في الفرات الأوسط لاسيما عند بعض كبار علماء الدين الذين حرَّكوا الشارع وشيوخ العشائر في رفض جميع أنواع السلطة المفروضة من خارج العشيرة والرغبة في تجنب الضرائب، فضلاً عن مطالبهم السياسية في تحقيق الاستقلال وتقرير المصير وإقامة حكم وطني في العراق بديلاً عن الحكم البريطاني المباشر.

ص: 393


1- أمين الريحاني، ملوك العرب الإعمال الكاملة، المجلد الأول، الجزء الثاني، بط، بيروت - 1980 م، ص 327.
2- عبد المجيد كامل التكريتي الملك فيصل الأول ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة1921-1933م، دار الشؤون الثقافية، بغداد - 1991م، ص 320.

الإيديولوجية الصهيونية والغرب:رحلة التوظيف من الاستشراق إلى الإسلاموفوبيا

اشارة

اشرف بدر(1)

تنسب المصادر الصهيونية لناثان بیرنباوم (Nathan Birnbaum) ابتكار مصطلح «الصهيونية» سنة 1890، إذ تعرِّف نفسها ك- «حركة تحرر وطني هدفها عودة الشعب اليهودي لوطنهم واستعادة السيادة على أرض إسرائيل»(2)، وهذا ما ذهب إليه المستشرق برنارد لويس (Bernard Lewis) حيث عدَّ الصهيونية حركة تحرر وطني للشعب اليهودي (3). بينما يرى عبد الوهاب المسيري أنه من الصعب تعريف الصهيونية وذلك لعدة أسباب، من أهمها أن المصطلح يشير إلى نزعات وحركات ومنظمات سياسية غير متجانسة بل متناقضة أحياناً في أهدافها ومصالحها ورؤيتها للتاريخ أو في أصولها الإثنية أو الدينية أو الطبقية(4). ومع إقرارنا بصحة ما ذهب إليه المسيري، إلا أن أصول

ص: 394


1- باحث وأكاديمي من فلسطين.
2- Definition of ionism. ttps://www.jewishvirtuallibrary.org/jsource/Zionism/zionism.html Jewish Virtual Library.
3- Bernard Lewis. "The Anti-Zionist Resolution Foreign Affairs. Vol. 55. No. 1. Oct. 1976. pp. 54- 64. https://www.foreignaffairs.com/articles/israel/1976-10-01/anti-zionist-resolution
4- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ط1، (القاهرة: دار الشروق، 1998)، ص: 13.

البحث العلمي توجب اعتماد مفهوم محدد للمصطلحات الأساسية التي يدور حولها البحث، مع العلم بأننا سنصطدم بتعريفات مجزوءة للصهيونية، كتعريف قاموس أكسفورد (Oxford Dictionary) لها بأنها : «حركة سياسية اهتمت بشكل أساسي بإقامة دولة مستقلة للشعب اليهودي، وهي الآن تهتم بتطوير دولة إسرائيل»(1). بالرغم

ذلك، فإننا سنعتمد في بحثنا على تعريف موسوعة السياسة الذي ينص على ان الصهيونية: «دعوة وحركة عنصرية دينية استيطانية إجلائية مرتبطة نشأة وواقعاً ومصيراً بالإمبريالية العالمية تطالب بإعادة توطين اليهود وتجميعهم وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين بواسطة الهجرة والغزو والعنف كحل للمسألة اليهودية»(2)، مع تحفظنا على تعريفها كحركة دينية، فالصهيونية استخدمت الدين كأداة إضافة إلى أن معظم مؤسسي الصهيونية علمانيون.

اختلف الباحثون في مجال الاستشراق حول تعريفه كمصطلح؛ فهل هو حركة أم علم أم ظاهرة فأحمد بهنسي يرى بأنه «حركة علمية غربية (أوروبية) هدفها دراسة شؤون الشرق كافة (سياسية اقتصادية تاريخية جغرافية /أنثروبولوجية) لخدمة الأهداف الاستعمارية للسيطرة على بلدان العالم الشرقي (الإسلامي)(3). بينما نجد أن المستشرق الألماني رودي بارت (Rudi Paret) يذهب إلى أن كلمة الاستشراق مشتقة من كلمة شرق وكلمة شرق تعني مشرق الشمس، وعلى هذا يكون الاستشراق عبارة عن «علم الشرق أو علم العالم الشرقي»(4). أما مالك بن نبي فيرى أن المستشرقين هم الكتاب الغربيون الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي

ص: 395


1- Oxford Dictionaries، Zionism. https://www.oxforddictionaries.com/definition/learner/zionism
2- عبد الوهاب الكيالي (محرر) ، موسوعة السياسة، ط1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1983)، ج3، ص: 659.
3- أحمد بهنسي الاستشراق الإسرائيلي... سمات وأهداف، تقرير القدس الشهري الصادر عن مركز الإعلام العربي، (الجيزة: مركز الإعلام العربي السنة الثامنة، العدد 95 نوفمبر 2006، ص: 91.
4- رودي بارت الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة: مصطفى (ماهر)، (القاهرة: دار الكتاب العربي (1967)، ص: 11.

وعن الحضارة الإسلامية، والذي يمكن تصنيفهم من حيث الزمن إلى طبقة القدماء کجریر دريياك والقديس توما الأكويني (Thomas Aquinas)، وطبقة المحدثين مثل كارًا دوفو ( Carra de Vaux) وغولد تسيهر (Goldziher)، أو تصنيفهم من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين في كتاباتهم؛ فهنالك طبقة المادحين للحضارة الإسلامية وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها(1). وذهب إدوارد سعيد إلى اعتبار الاستشراق ظاهرة ، معرِّفاً إياه بأنه «أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه»(2). في هذا البحث سيُعتمَد على تعريف سعيد، وذلك لدقة رؤيته وتعريفه للاستشراق.

قسّم سعيد الاستشراق في كتابه إلى الاستشراق الجامعي، والاستشراق المسيحي الغربي أو الديني والاستشراق المعلمن المبطن والاستشراق السياسي، بينما يجد أحمد سمايلوفيتش (Ahmed Simillovic) بأنه يمكن تقسيم الاستشراق بناءً على

دوافعه المتعددة، وعلى رأسها: التاريخية والنفسية والاقتصادية، والإيديولوجيا،والدينية والاستعمارية والعلمية(3)، فالاستشراق من وجهة نظره يمثل حركة متواصلة الحلقات يحاول الغرب فيها التعرف إلى الشرق علمياً وفكرياً وأدبياً، ثم استغلاله اقتصادياً وثقافياً واستراتيجياً وجعله منطقة نفوذ له يسيطر فيها على العالم بأسره(4). ويمكننا القول إن رؤية سمايلوفيتش لا تتعارض مع ما ذهب إليه سعيد من ناحية جوهر الاستشراق، فالاختلاف بينهما ليس جوهرياً بل شكليّاً.

يرتبط الإطار النظري للاستشراق (من وجهة نظر سعيد) ببعض الأفكار والمذاهب والاتجاهات المتطرفة التي تسود الثقافة من وقت لآخر، بحيث نجد

ص: 396


1- مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره على الفكر الإسلامي الحديث، ط1، (بيروت: دار الإرشاد، 1969)، ص: 5.
2- إدوارد سعيد الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق (ترجمة: محمد عناني) ، ط1، (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص: 46.
3- أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1998) ص: 40-52
4- المرجع نفسه، ص: 39.

صورة لغوية للشرق وصورة فرويدية (Freudian)، وصورة شبنجلرية (Spen gler) ، وصورة داروينية (Darwinism) ، وصورة عنصرية(1)، وهكذا فإننا نجد أن الأطروحات الخاصة بتخلف الشرق وانحطاطه وعدم مساواته بالغرب، ترتبط بالغ بالأفكار الخاصة بالأسس البيولوجية للتفاوت العنصري، والتي أضيف لها مذهب دارويني يبرز الصحة «العلمية» لتقسيم الأجناس البشرية إلى أجناس متقدمة وأجناس متخلفة(2). فنجد اتفاقاً عاماً بين المستشرقين على إحدى صور الداروينية التي تقول بأن الشرقيين يمثلون البقايا المنحطة لعظمة سابقة (3)، وذلك بهدف تبرير احتلال الشرق واستعماره، وهذا ما التقطه منظرو الصهيونية وبنوا عليه الفكر الصهيوني؛ فبحسب المسيري، بنيت الصهيونية على عدة أسس فكرية من أهمها فكرة الإنسان الطبيعي، وضرورة عودة الإنسان إلى الطبيعة ليعيش حسب قوانينها البسيطة، ومن هنا فإن الدعوة الصهيونية للعودة إلى صهيون (فلسطين) هي عودة للطبيعة، مع ربط هذه الفكرة بفكر فريدريك نيتشة (Nietzsche Friedrich) القائم على الإيمان بالإنسان الأعلى «السوبرمان» (Superman)، الذي يجسد القوة ولا شأن له بالخير أو الشر؛ فنجد أن آحاد عام ( am had a ) ( أحد منظري الصهيونية) قد كتب في مقالة إعادة تقويم القيم»: اليهود ليسوا مجرد أمّة بل هم سوبر سوبر أمّة أو الأمة العليا. إضافة لذلك

استعانت الصهيونية بفكر تشارلز داروین (Darwin Charles) (الفكر الدارويني) القائم على النظر للواقع باعتباره صراعاً لا يهدأ؛ صراع الجميع ضدّ الجميع، البقاء فيه للأقوى، وذلك من أجل تبرير الاستعمار باسم البقاء للأقوى، مع ربط ذلك بنظريته التي تفترض أنّ هنالك تفاوتاً عرقيّاً وبيولوجيّاً وحضاريّاً بين الأجناس (4). بناءً على ذلك نجد أن هنالك قاسماً فكرياً مشتركاً بين الاستشراق

ص: 397


1- إداورد سعيد، الاستشراق، ص: 72.
2- المرجع نفسه، ص: 324
3- المرجع نفسه، ص: 388.
4- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي، ط1، (دمشق): دار الفكر، (2003)، ص: 78-82

والصهيونية قائم على النظرة الاستعلائية العنصرية مع إدعاء النقاء والتفوق وبالتالي فإن الإيديولوجيا الاستعمارية الغربية المبنية على مفاهيم الاستشراق (سنناقش لاحقاً اعتماد الاستعمار على مفاهيم الاستشراق) تعدُّ أحد أهم المصادر للإيديولوجيا الصهيونية.

يصعب تقسيم الاستشراق إلى حقب تاريخية، ومع ذلك يرى عبد الله محمد أن القراءة الغربية الاستشراقية تنقسم إلى ثلاث دوائر تاريخية مرّبها المسلمون :وهي دائرة التراكم العدائي ،المغلوط، وتبدأ منذ بزوغ الإسلام وتنتهي بتضعضع قوة الدولة العثمانية في نهاية القرن ال- 17 ، وتليها مرحلة الإرث الاستعماري، وتبدأ مع إرهاصات انهيار الدولة العثمانية وبروز دور محمد علي في مصر، وأخيراً مرحلة الاستعمار والانطلاق نحو العالمية، وتبدأ بعد سقوط الدولة العثمانية وبزوغ فجر الدولة الحديثة في العالم الإسلامي، حيث يعزو المستشرقون فشل التحديث إلى طبيعة المسلمين والديانة الإسلامية غير المتطابقة مع الديموقراطية، حتى انّ بعض أصحاب المدرسة الاستشراقية الحديثة كبرنارد لويس يدعي أن مناهضة العرب والمسلمين ل- «إسرائيل» يعود إلى تعصبهم وعدم تقبلهم مفاهيم الحداثة التي تؤهلهم للتعايش السلمي مع غيرهم(1).

النظرة الاستشراقية

يتضمن الاستشراق مادة علمية تتخللها أفكار التفوق الأوروبي وشتى ألوان العنصرية والإمبريالية، وقد استمدت الصهيونية نظرتها للعرب من المفاهيم الاستشراقية ومن ثم طورتها استناداً إلى نظرتها العنصرية(2)، يرى سعيد أن الاستشراق في نهاية الأمر هو رؤية سياسية للواقع، وهذه الرؤية مبنية علی

ص: 398


1- عبد الله محمد مؤسسات الاستشراق والسياسة الغربية تجاه العرب والمسلمين دراسات استراتيجية 57، ط1، أبوظبي مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2001)، ص: 8-29.
2- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 52

تعزيز الفرق بين المألوف (أوروبا أو الغرب أو نحن) الأذكياء الموضوعيين/ العقلانيين، وبين الغريب (الشرق أو هم) الأغبياء غير العقلانيين الفاسدين/ غير الموضوعيين(1). فها هو المستشرق الفرنسي رونيه دوشاتوبریان (Cha 1768)(teaubriand_1848) على سبيل المثال يصف سكان مصر من المسلمين بالشعب الغبي المنحط(2)، هذه النظرة الاستعلائية العنصرية جسَّدتها الصهيونية مع بداية نشأتها؛ ففي الاجتماع الذي عقده مارك سايكس (Mark Sykes) (كمندوب عن الحكومة البريطانية) في 1917/2/7 مع قادة الصهيونية للاطلاع على مطالبهم تركزت مطالبهم حول عدم مساواتهم مع سكان فلسطين العرب ، لأنها بلاد متخلّفة، والحقوق المتساوية تكون في البلاد المتقدمة وفلسطين تحتاج من يطوّرها، وذلك موجود عند اليهود (الأوروبيين) وحسب(3). وذهب المستشرق جورج بوش (Bush George) (جدّ الرئيس الأميركي) (1796-1859) في كتابه «محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين» and of The Life of Mohammed: Founder of the Religion of Islam) the Empire of the Saracens إلى وصف العرب والمسلمين بأنهم أعراق منحطة وحشرات وجرذان وأفاعٍ(4)، هذه الأوصاف تكررت في خطبة للحاخام عوفاديا يوسف (Ovadia Yossef) (الرئيس الروحي لحزب شاس «Shas») في آب/ أغسطس 2004 بثتها الفضائيات الإسرائيلية، يقول فيها: «إنّ اليهودي عندما يقتل مسلماً فكأنما قتل ثعباناً أو دودة، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن كلاًّ من الثعبان أو الدودة خطر على البشر ، لهذا فإن التخلص من المسلمين مثل

ص: 399


1- المرجع نفسه، ص: 101+96+95
2- المرجع نفسه، ص: 283.
3- صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 2015/12/28، عدد: 13544، يعقوب الإبراهيم، إعلان بلفور الحلقة 32. http://bit.ly/1RIAtsd
4- انظر عرض ونقد كتاب: «محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين لجورج بوش (1796 (1859)، شبكة الألوكة. http://www.alukah.net/library/018660//

التخلص من الديدان أمر طبيعي أن يحدث»(1)، وهذا يشير إلى تبني الصهيونية للنظرة الاستشراقية للعرب والمسلمين.

تبنَّت وسائل الإعلام الغربية وعلى رأسها وسائل الإعلام الأميركية النظرة الاستشراقية للفلسطينيين بعد الإعلان عن «دولة إسرائيل»؛ من خلال وصفهم بالغباء والتعصب والتخلف الاجتماعي، في مقابل أطفال «إسرائيل» الجدد الذين استولوا على المنازل العربية ونظفوها لمصلحة المهاجرين الجدد الذين يعملون على إقامة حضارة جديدة في المشرق العربي، وقد ظهر ذلك بوضوح في كتاب كينيث بيلبي (Kenneth Bilby) (مراسل صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون New York Herald Tribune في حرب 1948) الصادر سنة 1950 بعنوان نجمة جديدة في الشرق الأدنى(2) (2)New Star in the Near East. وبعد حرب - 1967 - بحسب دراسة لجانيس مونتي بيلقاوي Janice Monti Belkaoui) - صورت وسائل الإعلام الأميركية قادة «إسرائيل» كأبطال أسطوريين شديدي الوسامة، وفي المقابل أغفلت أقوال القادة العرب أو إجراء مقابلات معهم مجری تصوير الإسرائيليين كضحايا يدافعون عن أنفسهم ضدّ هجمات المعتدين العرب (3).

يكمن الاستشراق في كونه دليلاً على السيطرة الأوروبية الأميركية على الشرق أكثر من كونه خطاباً صادقاً حول الشرق (4)، فالعلاقة بين الشرق والغرب علاقة قوة وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركبة ) . وتقوم النظرة الاستشراقية الاستعلائية على أن «القوة والعصا أفضل وسيلة»(5)، و «القطيع يتبدد بإزالة من يقف في المقدمة»، تكثيفاً لمقولة

ص: 400


1- الجزيرة نت عوفاديا يوسف عندما يتحول الحاخام إلى داعية كراهية http://bit.ly/1leH713 .2013/10/7
2- ستيفن بينيت الاستشراق والخطاب التوراتي في وسائل الإعلام الأميركية (ترجمة سميح حمودة)، مجلة حوليات القدس، القدس: مؤسسة الدراسات المقدسية، عدد ،10، شتاء 2010)، ص: .21
3- ستيفن ،بینیت مرجع سابق، ص: 2725.
4- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 50.
5- المرجع نفسه، ص 49.

عالم النفس فرويد الشعوب غير الأوروبية كاذبة همجية عنيفة، كسولة، متخلفة»، وقد تمظهرت هذه النظرة الاستشراقية تجاه الفلسطينيين من خلال تصريحات قادة«إسرائيل»؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير (Yitzhak Shamir) يقول رداً على انطلاق انتفاضة الحجارة سنة 1987: «سوف نخضعكم بالبطش...... أنتم لستم سوى جنادب قياساً بإسرائيل»(1)، وعلى المنوال نفسه نجد أن الحملة الانتخابية لحزب «إسرائيل بيتنا» اليميني سنة 2009 تبنى شعار «فقط ليبرمان ( Lieberman) يفهم العربية»(2)، كناية عن أن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة.

استفحلت مؤخراً النظرة الاستشراقية الاستعلائية في صفوف القادة الإسرائيليين؛ حتى وصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (-Benjamin Netanya hu) للمجاهرة - في معرض تعليقه على تشبيه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية لحادثة حرق عائلة الدوابشة الفلسطينية على يد مستوطنين يهود ببعض الأفعال «الإرهابية» العربية - برفضه تشبيه الإرهاب اليهودي ب-«الإرهاب العربي» بحجة كون «إسرائيل» دولة ديموقراطية بعكس غيرها من الدول العربية(3). فبالرغم من بشاعة الجريمة وحرق عائلة فلسطينية كاملة بما فيها طفل رضيع على يد المستوطنين إلا أن نتنياهو يرى بأنه لا مجال لوصم هذا الفعل بالإرهاب، وعلى ما يبدو ينبع حرص نتنياهو على عدم مساواة العربي باليهودي من رغبته في الإبقاء على الصورة الذهنية للإرهابي ملتصقة بالعربي الفلسطيني دون أن تشمل المتطرفين من اليهود.

قامت المؤسسة الصهيونية بتغطية هذا الإجرام بفتاوى بعض الحاخامات

ص: 401


1- صحيفة القدس، القدس، 2015/11/30 ، أحمد قطامش استحقاقات سياسية وتنظيمية يستوجبها الاشتباك الانتفاضي في الأراضي المحتلة.
2- موقع اليوتيوب، الدعاية الانتخابية لحزب إسرائيل بيتنا 2009 (بالعبرية) http://youtu.be/0mjceh-6Hq4)
3- موقع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي جلسة الحكومة بتاريخ 2015/12/27. (العبرية): .http://www.pmo.gov.il/MediaCenter/SecretaryAnnouncements/Pages/govmes271215.aspx

المتطرفين، فقد تبين أن معظم منفذي العمليات الإرهابية ضدّ الفلسطينيين هم من أتباع الحاخام إسحاق جيزنبيرغ(Yitzhak Ginsburg) حيث اشتهر بفتاواه التي تحرّض بشكل مباشر على قتل الفلسطينيين والفتك بهم وإصدار الفتاوى المحرضة على قتل الفلسطينيين لا تتوقف على جيزنبيرغ؛ فقد أيَّد أيضاً الحاخام دوف ليئور (Dov Lior) (الذي يعد أبرز المرجعيات الدينية لحزب البيت اليهودي Jewish Home Party جريمة إحراق عائلة «دوابشة»، وفي مطلع سنة 2013 أصدر جيزنبيرغ ما يمكن عدّه «المسوغ الفقهي» الذي عملت على أساسه مجموعات «تدفيع الثمن» (Price tag) الإرهابية اليهودية، التي نفَّذت عشرات الاعتداءات في المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وأحرقت عدداً كبيراً من المساجد وثلاث كنائس في الغربية وداخل المدن التي يقطنها فلسطينيو الداخل. وحسب غيزنبيرغ، فإنه يتوَّجب تفهّم جرائم «شارة ثمن» على أنها «مقدمة طبيعية للخلاص اليهودي»، حيث عدّ هذه الجرائم بمنزلة «المخاض الذي تمر به الأمة قبل تحقيق الخلاص». ومما لا شكّ فيه أن أخطر «المصنفات الفقهية» اليهودية التي صدرت حديثاً، وتسوّغ قتل العرب لمجرد أنهم ،عرب، وعدم التفريق بين طفل وبالغ، هو كتاب «شريعة الملك (Torah King s) لمؤلفه الحاخام إسحاق شابيرا (Yitzhak Sha pira)، الذي صدر سنة 2009 وهناك في «إسرائيل» من يرى أن أعضاء التنظيمات الإرهابية اليهودية الذين يتعمدون المس بالأطفال الفلسطينيين تأثروا بمصنف شريعة الملك، لأنه تضمن «مسوغات فقهية» توجب قتل الرضع العرب بحجة أنهم عندما يكبرون سيحاربون «إسرائيل»، لذا فالأجدر أن يُقتلوا مبكراً. المفارقة أنه على الرغم مما يعكسه هذا الكتاب من شطط وخلل أخلاقي وقيمي وديني، فإن العشرات من الحاخامات أيدوا ما جاء فيه، في حين عدّه عدد من أعضاء مجلس الحاخامية الكبرى - التي تعدُّ أكبر هيئة دينية رسمية في «إسرائيل» - «إبداعاً فقهياً»(1).

ص: 402


1- الجزيرة نت 2016/1/1 ، صالح النعامي، الحاخامات وفقه التوحش المسكوت عنه . http://bit.ly/1Ombgjc

يتساءل المرء لماذا يحرص المستشرقون والصهاينة على وصم الشرقيين بصفات غير إنسانية، ولماذا الحرص على ترسيخ معادلة «نحن» و «هم»، الإجابة قد تكون في علم النفس الاجتماعي، حيث حاول هذا العلم تفسير بعض تصرفات الجماهير وكيفية حصول تحول في سلوكياتها، بحيث تتحول من تصرفات عاقلة إلى تصرفات تفتقر للعقل والمنطق؛ وبالتالي يتحول أفراد مُسالمون غيرُ عنيفين إلى النقيض تماماً. على ما يبدو كان لا بدّ للاستشراق كي يمهِّد للاستعمار والصهيونية إقناع جمهوره «الغربي» بتقبل فكرة السيطرة على شعب آخر «الشرقي»، بل ممارسة العنف ضده، وهذا لن يحصل بدون نزع صفة الإنسانية عن «الآخر» من خلال وصمه بصفات التخلف وتشبيهه بالحيوانات بحيث يكون هنالك «نحن» المتحضرون الأذكياء المتفوقون في مقابل «هم» المتخلفين الأغبياء المنحطين، الذين لا يستحقون الحياة ولا حتى الشفقة عند قتلهم كما صرَّح بذلك الحاخام عوفاديا يوسف. تصنيف «نحن» و «هم» هو الخطوة الأولى لذلك، كما حدث في تجربة جَين إليوت

(jane Elliott)(1) مع تلاميذها.

المثال الصارخ على نتيجة نزع صفة الإنسانية عن الخصم في العصر الحديث كان في رواندا عندما قام الإعلام التابع لقبيلة الهوتو (Hutu) بوصف أعدائهم من قبيلة التوستي (Tusti) بأنهم وحوش وآكلي بشر وأنهم عبارة عن ثعابين وجرذان، فكانت النتيجة حرب أهلية راح ضحيتها أكثر من 800 ألف إنسان(2). وهكذا يجري

ص: 403


1- قامت المعلمة جان اليوت عقب اغتيال مارتن لوثر كنغ سنة 1968 بمحاولة إقناع طلابها بخطورة الحكم على الآخرين بسبب لون بشرتهم ولإثبات ذلك قامت بإجراء تجربة على تلاميذها من الأطفال لمعرفة تأثير «التصنيف» في سلوكيات الأطفال من خلال تقسيم الطلاب إلى فريقين فريق الأطفال اصحاب العيون الزرقاء الذين تم وصفهم بالأذكى، بينما الأطفال أصحاب العيون البنية يعدّون أقل ذكاءً وبالتالي لا يحق لهم الشرب من صنبور المياه مباشرة بل يجب أن يشربوا بواسطة الأكواب الورقية ولا يحق لهم اللعب مع الأطفال أصحاب العيون الزرقاء، النتيجة كانت إحباط أصحاب العيون البنية في مقابل فرح أصحاب العيون الزرقاء، وخلال فترة وجيزة قام أصحاب العيون الزرقاء بالتحرش وضرب أصحاب العيون البنية، وأصبح إطلاق وصف صاحب العيون البنية بمثابة شتيمة، وعند تكرار التجربة مع طلبة الجامعات تكررت النتيجة نفسها مع علمهم بأنها تجربة. أنظر http://www.janebelliott.com/
2- https://www.youtube.com/watch?v=jk2-ZXAWkfg Five Steps to Tyranny. BBC.

تحويل «الغرب/ نحن» و «الشرق / هم» إلى «جمهورَين نفسِيَّين»؛ كل جمهور معادٍ للآخر، كما أشار إلى ذلك غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) في كتابه سيكولوجية الجماهير (Crowd Psychology)، حيث يرى لوبون بأن هنالك روحاً للجماهير مكوّنة من الانفعالات البدائية ومكرَّسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية، وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي، كما أنها خاضعة لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها؛ فالقائد يستخدم الصور الموحية والشعارات بدلاً من الأفكار المنطقية والواقعية ليستملك روح الجماهير ويسيطر عليها. يرى لوبون أن الجمهور النفسي عبارة عن تجمع بشري يمر في لحظة معينة بظروف متشابهة تحوِّله لكائن جديد له صفات مختلفة، فيتجمع الأفراد ويصبحون كتلة ذهنية واحدة والكتلة هذه لها صفات مختلفة عن صفات الأفراد المتفرقين، بحيث يتصرف الجمهور بلا وعي أو عقلانية، فتجد الفرد (بغض النظر عن مستواه الفكري) يؤيد جمهوره النفسي وتصرفاته لمجرد أنها خرجت من جمهوره بغض النظر عن صحة التصرف أو خطئه؛ فهو لا يُخضع هذه الأفكار للمحاكمة العقلية لأنها ببساطة صادرة عن «جمهوره النفسي»(1)، وهذا ربما يفسرِّ ما حدث في الولايات الأميركية المتحدة عقب أحداث 2001/09/11 من سقوط ضحايا مدنيين من النساء والأطفال في أفغانستان والعراق بذريعة محاربة الإرهاب»، حيث تظهر بعض الإحصائيات مقتل أكثر من مليون شخص منذ بداية الغزو الأميركي للعراق(2).

الصهيونية بين الاستشراق والاستعمار:

مَهَّدت أعمال بعض المستشرقين الطريق أمام الحملات الاستعمارية الأوروبية بل عمل بعضهم بشكل مباشر في خدمة الاستعمار، وهذا ما أقر به المستشرق جوستاف دوغا Gustave Dugat) بقوله:

ص: 404


1- انظر كتاب غوستاف لوبون، سيكولوجيا الجماهير، (ترجمة: هاشم صالح، ط 1 (بيروت: دار الساقي، 1991).
2- الجزيرة نت 2008/4/6 القتلى العراقيين والغزو الأميركي . http://bit.ly/1UpZqX3

إنّ المستشرقين مُناطٌ بهم بمهمة جديدة، إذ عليهم وهم يجوبون فلك العلم الخالص أن يهتمُّوا بالعالم الحاضر في الوقت الذي تكتسح فيه أوروبا كل المناطق الشرقية، ويقوم أمر تكوين عاملين حضاريين وتلقينهم العلوم الآسيوية قصد غاية سياسية وتجارية (....) على الحكومات الواعية بمصالحها الحقيقية أن تعرف كيف تشجع وتستخدم رجال العلم والإخلاص أولئك فالأمر يتعلق بإلحاق إضافات أخرى إلى محصول الحضارة المكتسبة وذلك لاغتنام الإفادات التي من شأن الشعوب الشرقية أن تعطينا إياها، كما يتعلق بإمداد هذه الشعوب بنصيبها من فتوحاتنا الفكرية والأخلاقية والمادية (1).

ما ذكره دوغا كان واضحاً في حملة نابليون بونابرت (Napoleon Bonaparte) الاستعمارية على مصر والشام (1798-1801) حيث قام بتجنيد عدد كبير من العلماء وأوصى نائبه كليبر (Kleber) بأن يدير مصر من خلال المستشرقين والزعماء الدينيين الإسلاميين الذين يستطيع المستشرقون استمالتهم(2)، وها هو المستشرق الفرنسي سيلفستر دوساسي (Silvester de Sacy)، الذي شغل منصب مستشار للشؤون السياسية الشرقية في الحكومة الفرنسية، يشرف بنفسه على تحرير البيانات والنشرات لجيش نابليون إضافة إلى صياغة النداء الموجه إلى الجيش الفرنسي باجتياح الجزائر سنة 1830(3). أضف إلى ذلك عدة مهام جرى إيكالها للمستشرقين فعلى سبيل المثال أوفدت الحكومة البريطانية المستشرق هنري بالمر (Henry Palmer1840 (1882 خلال أحداث ثورة عرابي بهدف رشوة القبائل العربية في سيناء من أجل تأليبها ضدّ عرابي، كما سخّر المستشرق الهولندي کریستان سنوك (1857) (Christian Souk_1956) أبحاثه في خدمة الاستعمار الهولندي في العالم الإسلامي؛ وخصوصاً في جزر الهند الشرقية(4)، ووصل الأمر

ص: 405


1- سليمان حميش الاستشراق والعقد الاستعماري، مجلة الاجتهاد، 1994، ص: 198+199.
2- إدوارد سعيد الاستشراق، ص : 154153 http://bit.ly/1P0CXzq
3- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام (ترجمة: قصي أتاسي وميشيل واكيم (دمشق: دار الوثبة، 1983، ص: 233.
4- توفيق سليمان، أسطورة النظرية السامية (دمشق: دار ،دمشق، (1982)، ص: 71-78.

بالمستشرق ماكس ميلر (Max Miller) إلى الإشراف على تخريج كوادر الإدارة الاستعمارية في الهند سنة (1)18821، ويُعدُّ الضابط البريطاني المستشرق توماس إدوارد لورانس Thomas Edward Lawrence) لورانس العرب) صاحب الدور البارز الثورة العربية سنة 1916 ضدّ الدولة العثمانية مثالاً صارخاً على تماهي بعض المستشرقين مع الاستعمار؛ فهو يصرِّح بشكل واضح : «عندما أعلنت تركيا الحرب على بريطانيا، انطلقنا نحن الذين نؤمن بالعرب لنعمل على تركيز الجهود البريطانية وخلق عالم عربي جديد في آسيا، ولم يكن عددنا كبيراً بل كنا قلائل نلتف حول كلايتون (Clayton) رئيس إقليم الاستخبارات المدنية والعسكرية في مصر»(2).

برر الغرب الاستعماري إقدامه على احتلال الشرق من أجل معاونته على التحضر ؛ تطبيقاً للفكرة القائلة إنّ على الرجل الأبيض يَقعُ عِبءَ تمدين البرابرة وتثقيفهم (3)، ولم يقتصر جهد المستشرقين على التمهيد للاستعمار بل تجاوزه للتمهيد لتحقيق مشروع الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وهذا ما سنستعرضه في السطور القادمة.

تمهيد الاستشراق للصهيونية

يرى أحمد بهنسي بأن هنالك تداخلاً بين الاستشراق الغربي، واليهودي، والصهيوني والإسرائيلي؛ فالاستشراق اليهودي بدأ بدراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية مع انطلاق الاستشراق الغربي في القرن ال- 18 ، ثم ارتبط المستشرقون اليهود بالحركة الصهيونية بعد انطلاقها سنة 1881، بهدف خدمة الحركة الصهيونية وتأصيل الوجود اليهودي في فلسطين، وأخيراً جاء الاستشراق الإسرائيلي بعد إعلان عن قيام

ص: 406


1- روجيه غارودي، مرجع سابق، ص: 233.
2- توماس لورنس، أعمدة الحكمة السبعة (ترجمة محمد النجار)، ط1، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، (1963)، ص: 25.
3- أرسكين تشايلدرز الحقيقة عن العالم العربي :(ترجمة: خيري حماد، بيروت: المكتب التجاري، 1960) ص: 54.

(إسرائيل) سنة 1948، الذي عمل على دراسة قضايا الصراع العربي الإسرائيلي بهدف تقديم العون للقيادة الإسرائيلية في إدارتها للصراع(1). فعندما نستعرض أسماء أبرز المستشرقين نجد أن عدداً كبيراً منهم أصوله يهودية ، فمنهم على سبيل المثال الفرنسي سولومون مونك (1803) (S. Munk-1867) الذي كتب سنة 1845 «فلسطين وصف جغرافي وتاريخي وأثري (Description Géographique Historique ،Palestine Archeologique ، والهنغاري أرمينوس فامبري (1832) (A.Vambery_1913) الذي توسط ثيودور هرتزل سنة 1901 كي يقابل السلطان العثماني عبد الحميد أما المجري اجنتس غولد تسيهر (1850) (1921E.Goldziher) فقد اهتم بالدين الإسلامي والفرق الإسلامية ومن أهم كتبه دراسات إسلامية». ونجد أن الألماني جوزيف هو رفيتش (1874) (Horovitz 1931 كان عضواً في مجلس إدارة الجامعة العبرية Hebrew University) ، بينما كتب الإنجليزي ريتشارد غوتهيل .

1862) ( Gottheil_193 مقالة الصهيونية (Zionism) فى الموسوعة اليهودية Jewish Encyclopedia) وترأس اتحاد الصهيونيين الأميركيين (Federation of American Zionists) في الفترة 19041898 ، واهتم الألماني ماكس مايرهوف (M. Maeyerhof 1874) (1945) بتحقيق أعمال موسى بن میمون (Moses Maimonides)، وعمل الألماني دافيد بانت (D. Banet) (؟1897) أستاذاً للغة العربية في الجامعة العبرية، وأخيراً نجد أن النمساوي باول كراوس (1904) (1944-P. Kraus) تعلم العربية في الجامعة العبرية ومارس التدريس في جامعة القاهرة(2).

من الصعب التصور أن توجه عدد كبير من الباحثين ذوي الأصول اليهودية للدراسات الاستشراقية قد جاء من قبيل المصادفة، حيث يرى ساندر سلیمان (Sander Suliman)(3) أن اليهود كأقلية في أوروبا توجهوا عن قصد لدراسة العلوم

ص: 407


1- أحمد بهنسي، مرجع سابق، ص : 92.
2- ابراهيم عبد الكريم الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل، ط 1 ، عمان: دار الجليل، 1993، ص: 40-46.
3- رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل مواليد ألمانيا والده فلسطيني ووالدته ألمانية، خبير في الاستشراق.

الإنسانية من أجل التأثير في الأفكار والتوجهات الغربية، وهذا على ما يبدو ما يفسر هذه الظاهرة (1).

هيَّأ الاستشراق من خلال المعرفة كل الشروط لترجمة القوة وفرض سيطرة استعمارية على فلسطين، حيث عملت عدة جمعيات استشراقية على تسهيل مهمة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، من أهمها صندوق الاكتشاف الفلسطيني( Palestine Exploration Fund) الذي أُسّس سنة 1865؛ والذي يهدف إلى القيام بمسح كامل ودقيق لفلسطين، والبحث العلمي في الآثار الوثيقة الصلة ب- «التاريخ التوراتي»، والقيام بحفريات لإلقاء الضوء على فنون «الأمة اليهودية». فعملت اللجان التابعة للصندوق من أجل الإجابة عن عدة أسئلة من أهمها تحديد موقع «هيكل اليهود» (Jewish Temple) الذي بناه سلیمان و هدمه تيتوس (Titus)، إضافة إلى معرفة الطريق الذي سلكه النبي موسى مع بني إسرائيل عند هجرته من مصر إلى فلسطين. وعلى الرغم من أن نشاط الصندوق ينبع من فكرة دينية تستهدف دراسة كل ما يتعلق بالأراضي المقدسة، إلا أن مجالات نشاطه وما قام به من عمليات المسح والحصر ووضع الخرائط لا يمكن إرجاعها إلى مواضع أثرية دينية وحسب، وخصوصاً أن التعاون كان كاملاً بين العاملين فيها من علماء ومستشرقين وضباط في وزارة الحربية البريطانية وسلاح الهندسة الملكية، مثل كوندور Condor)، وولي ولورنس Lawrence) وبالمر (Palmer وكيتشنر ( Kitchener) الذي كان يرى بأن احتلال فلسطين سيضمن تأمين طرق المواصلات الرئيسية، وبأن أرض فلسطين تعود ملكيتها لليهود(2). أما الكابتن تشالرز وارين Charles Warren) فقد دعا كتابه أرض الميعاد (The Land of Promise إلى ضرورة تطوير فلسطين

ص: 408


1- مقابلة شخصية مع د. ساندر سليمان رئيس قسم العلوم السياسية جامعة الخليل في جامعة الخليل بتاريخ .2015/12/20
2- خيرية قاسمي نشاطات صندوق اكتشاف فلسطين 1865-1915، مجلة شؤون فلسطينية، (بيروت: مركز الأبحاث م.ت.ف عدد ،104 تموز/يوليو (1980) ، ص: 71-94.

على يد شركة الهند الشرقية (East India Company عن طريق إدخال اليهود عليها من أجل احتلالها وحكمها(1)، إضافة إلى الكولونيل واطسون (Watson) الذي رأس اللجنة التنفيذية للصندوق واشترك في الحملة المصرية وعُيِّن بدائرة المخابرات في الجيش وقام بوضع كتاب سنة 1915 Fifty years Work in the 1865 1915Holy Land: A record and summary)، وبذلك أسهم الصندوق في تكوين صورة كاملة عن أوضاع فلسطين في مداها الأوسع والأدقّ، فقدم خدمة عظيمة للصهيونية (2). وهذا ما عبرَّ عنه المستشرق كلود كوندور (Claude Conder) في محاضرة ألقاها سنة 1892 بقوله إنه وزملاؤه كان لهم الفضل في تشجيع الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين، من خلال إلقاء الضوء على التوراة بهدف مساعدة سكان فلسطين المستقبليين من اليهود من أجل الحصول على الحقائق الثابتة عن طاقات البلد وإمكانياته(3).

لم يقتصر التمهيد للصهيونية على الاستشراق الفرنسي والبريطاني بل تعداه إلى روسيا القيصرية التي أنشأت سنة 1852 لجنة من المستشرقين هدفها تهيئة الوسائل اللازمة لتأسيس بيوت للمهاجرين اليهود إلى فلسطين، وفي أثناء الاحتفال بالذكرى ال- 90 لتأسيس الجمعية، ألقى المستشرق س.ل. يتحسفكي كلمة قال فيها:«إن جمعية الاستشراق الروسي قد ساهمت مساهمة فعّالة في إنجاز وتحقيق الوطن القومي في فلسطين»(4).

ص: 409


1- أسعد رزوق، إسرائيل الكبرى دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني، سلسلة كتب فلسطينية (13)، (بيروت: مركز الأبحاث م.ت.ف، 1968)، ص: 42.
2- أحمد سمايلوفيتش، مرجع سابق، ص: 142+143.
3- محمود المراش بريطانيه صندوق الاستكشافات الفلسطينية، مجلة شؤون فلسطينية، (بيروت: مركز الأبحاث م.ت.ف عدد 9 أيار/مايو 1972)، ص: .202-200
4- محمد الدسوقي ، الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه، ط1، المنصورة: دار الوفاء، 1995)، ص: 50.
الالتقاء الديني بين الاستشراق والصهيونية

تقع معتقدات عقيدة العصر الألفي السعيد في قلب معظم المعتقدات المسيحية والإنجيلية المتعلقة بدور «إسرائيل» في ما يتعلق ب-«نهاية العالم»، وهو تفسير تنبؤي معقد للنصوص المقدسة المتعلقة بالمجيء الثاني للمسيح ونهاية العالم، بالاستناد على قراءات من مرقس ،13 ومتّى ،24 ولوقا ،21 بحيث يصبح تدفق اليهود إلى «الأرض المقدسة»، وتأسيس «دولة إسرائيل» كمقدمة لسيناريو نهاية العالم(1). وهذا يفسر دور حركة الاسترجاع المسيحية/ البروتستانتية (Protestantism) (الصهيونية المسيحية) التي كانت تطالب بإعادة اليهود إلى «أرضهم الأم» حتى يتسنى هدايتهم وتحويلهم إلى المسيحية، فعودة اليهود وهدايتهم وتنصيرهم كانت تعد شرطاً أساسياً لحلول الألفية السعيدة (التي سيحكم فيها المسيح المخلِّص ألف عام)، وهذا ما جعل الصهيوني ناحوم سوكولوف (Nahum Sokolov) في كتابه تاريخ الصهيونية (History of Zionism) يفسر تعاطف بريطانيا وتفهمها للحركة الصهيونية بالطابع الإنجيلي للشعب الإنجليزي(2). حيث أتاحت حركة الإصلاح الديني البروتستاني الفرصة لانبعاث القومية اليهودية عبر التغييرات اللاهوتية التي جاءت بها، وعلى رأسها الترويج لفكرة أن اليهود أمة مفضلة وضرورة عودتهم إلى أرض فلسطين(3). في السياق نفسه رأى العديد من الإنجيليين حرب 1967 كأنّها التحضير للمجيء الثاني للمسيح، فحثّ القس الأميركي الشهير بيلي غراهام (Billy Graham) «إسرائيل» على عدم التخلِّي عن الأراضي التي استولت عليها، مشيراً إلى أن اليهود هم «شعب الله المختار» وأن أرض فلسطين ملك لهم(4). هذه النظرة الدينية مهَّدت للحركة الاستعمارية «الرأسمالية» والصهيونية وهذا ما ذهب إليه ماكس فيبر

ص: 410


1- ستيفن ،بینیت مرجع سابق، ص: 19.
2- عبد الوهاب المسيري، الايدلوجية الصهيونية، ط2، (الكويت دار المعرفة (1992)، ص: 34432.
3- ريجينا الشريف، مرجع سابق، ص 35.
4- ستيفن بینیت، مرجع سابق، ص: 2725.

(Max Weber) حيث يرى أن النزعة الطائفية البروتستانتية قامت على الربط بين السلوك الديني والرأسمالية، فالمسيحيون «الحقيقيون» وحدهم هم المقبولون في الطائفة (1).

استخدام الدين لم يقتصر على الاستشراق الغربي بل نجده حاضراً بقوة في السلوك الصهيوني، فالعقيدة الدينية لعبت دوراً مهماً في الإيديولوجيا الصهيونية، وكما يرى روجيه غارودي (Roger Garaudy) فإن «الحركة الصهيونية لا يمكن أن تتماسك إلا بالعودة إلى الموزاييك الديني، احذفوا مفاهيم الشعب المختار وأرض الميعاد فستنهار أسس الصهيونية.... إن ضرورة الترابط الداخلي للبنية الصهيونية لإسرائيل فرض على قادتها تعزيز سلطة رجال الدين»(2)، فكما هو معروف أن المتدينين عارضوا في البداية الصهيونية، لكن بعضهم وجد فيها وسيلة لتحقيق «بداية الخلاص» ونزول المسيح المنتظر. كما حاول قادة الحركة الصهيونية التوصل إلى تسويات من أجل وحدة الأمة»(3)، وهكذا نجد رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون Ben Gurion David) في سنة 1956 يبرر مشاركة «إسرائيل» بحرب السويس (بالرغم من كونه ملحداً ويفتخر بعدم التزامه بشروط الدين اليهودي)، بالتصريح في الكنيست أن السبب الحقيقي للحرب هو «استعادة مملكتي داوود وسليمان إلى حدودها التوراتية»(4).

التقى الدافع الديني للاستشراق مع الطموحات الصهيونية، وحصل انسجام كبير أهداف الاستشراق الدينية والصهيونية، حيث يرى محمد إدريس أن الهدف الديني

ص: 411


1- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة: محمد علي مقلد، تحقيق: جورج أبي صالح)، ط1، (لبنان: مركز الانماء القومي، 1990)، ص: 179.
2- موقع إنسانيات، 2007 ، عبد القادر عبد العالي، التصدّع الديني العلماني من خلال الحالة الإسرائيلية. http://insaniyat.revues.org/3167
3- موقع مركز تكنولوجيا التعليم العلاقة بين المتدينيين والعلمانيين في إسرائيل (الماضي/الحاضر/المستقبل). بالعبرية) 17807=http://lib.cet.ac.il/pages/item.asp?item)
4- اسرائيل شاحاك، تاريخ اليهود وديانتهم ترجمة ناصرة السعدون دمشق: دار کنعان (2012)، ص: 41.

للاستشراق كان إضعاف الإسلام وتشويهه والتشكيك في قيمه عن طريق إثبات فضل اليهودية عليه، والزعم بأن اليهودية مصدر الإسلام الأول، لأن الدين الإسلامي كان دوماً المحرك الأساسي لمقاومة الاستعمار والحملات الصليبية(1). وهذا ما عبر عنه المستشرق برنارد لويس بقوله:«كان الإسلام في عيون مسيحيي العصور الوسطى العدو الأكبر، وكانت دراسته تعد ضرورة من أجل أهداف واقعية للغاية، أحدها كان جدلياً الرغبة في فهم هذا الدين بهدف مقاومته وتدميره»(2).

الاستشراق وحل المسألة اليهودية:

بدأت المسألة اليهودية (أو معاداة الساميّة) بالظهور في برلين عقب تأسيس «عصبة اللاساميين» (Antisemitism) عام 1880 في السنة نفسها كتب الأستاذ الجامعي تريتشكيه: «اليهود عنصر غريب في ألمانيا لا يريد ولا يستطيع أن يندمج، مطالبتهم بالاعتراف بحقوقهم القومية تهدم الأسس القانونية للمساواة التي منحت لهم. وتبعه يوجين ديرينغ الذي كتب «العنصر اليهودي هو أسوأ عناصر العرق السامي؛ هدفه التسلط على العالم واستعباد الشعوب الأخرى ... اليهودية تتصف بصفات ضارة غير اجتماعية خصوصاً عندما تنشط فی السياسة أو «الصحافة». واستنتج البريطاني هو ستون تشامبرلين ( Houston Chamberlain) (عاش في ألمانيا) في كتابه «أسس القرن التاسع عشر» (The Foundations of the Nineteenth Century أن تاريخ المدينة (ألمانيا) عبارة عن صراع بين الآريين الصديقين والساميين، تزامن ذلك مع ظهور كتاب برتوكولات حكماء صهيون (The Protocols of the Elders of Zion) الذي يدَّعي واضعوه بوجود زعامة يهودية عالمية تدير العالم، وهكذا بدأت بوادر معاداة الساميّة بالظهور في محاكمة درايفوس (Dreyfus) (ضابط أركان فرنسي

ص: 412


1- محمد إدريس، الاستشراق الإسرائيلي في المصادر العبرية (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 1995)، ص: 84.
2- المرجع نفسه،ص:27.

يهودي اتهم زوراً بالخيانة (1894) رافقها مشاعر كراهية كبيرة؛ أدين ثم بُرِّىَ جزئيا وصدر عفو عنه(1).

يرى صبري جريس في كتابه تاريخ الصهيونية (1862-1948)، أن هنالك عدة أسباب قادت لظهور معاداة السامية من أهمها (2):

- تحميل المسيحية لليهود مسؤولية قتل المسيح.

- سيطرة رأس المال اليهودي.

- سيطرة اليهود على الإعلام.

- اشتراك اليهود في الحركات الثورية.

- شجب الديانة اليهودية من قبل بعضهم من خلال شجب الدين عامة والمسيحية خاصة، واعتبار أنه لا يمكن دمج اليهودي بالمجتمع.

- هجرة اليهود إلى أوروبا الغربية مما أدى لمزاحمة السكان الأصليين.

ويرى المسيري أن البيئة التي ظهرت فيها المسألة اليهودية تتلخص بالتالي(3):

- فشل المسيحية الغربية في صياغة رؤية محددة تجاه الأقليات بشكل عام والجماعات اليهودية تحديداً، فالكاثوليكية (Catholicism) تبنت أن اليهود قتلة المسيح، أما البروتستانت فقالوا إن اليهود أداة للخلاص بعد عودتهم لفلسطين.

ص: 413


1- صبري جريس تاريخ الصهيونية (1862-1948)، (قبرص : مركز ابحاث م.ت.ف»، 1981)، ص: 4745.
2- المرجع نفسه، ص: 49و47.
3- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي، ط1، بيروت: دار الفكر، 2003)، ص: 8669.

- تبنِّي العقيدة الألفية (في آخر الزمان وبعد عودة اليهود لفلسطين سيأتي المسيح المنتظر ويحكم العالم مدة ألف عام).

- تحويل الغرب لليهود كأداة وجماعة وظيفية؛ لا ينظر لها في ضوء إنسانيتها وإنما فی ضوء نفعها للمجتمع، (مثال : حلت البنوك مكان اليهودي المرابي).

- تعثر التحديث في شرق أوروبا وخصوصاً في روسيا بسبب: سرعة معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي لم يتأقلم اليهود مع النظام الجديد، وعزلة اليهود وعدم اندماجهم (ثقافة الغيتو «Ghetto»).

- حدوث انفجار سكاني بين يهود شرق أوروبا في منتصف القرن ال- 19 ما دفع مئات الألوف للهجرة إلى أوروبا الغربية ما أثر في الاقتصاد.

- سُكنى اليهود في مناطق حدودية متنازع عليها ما أضعف ولاءهم القومي.

- تكلس اليهودية الحاخامية وعدم مسايرتها لروح العصر.

- ظهور قيادات يهودية مثقفة فاقدة لهويتها اليهودية ولكنها لم تكتسب هوية غربية.

يستنتج جريس في كتابه أن آراء اللاساميين قد التقت مع الأفكار الصهيونية، حيث نجد أن أبرز أفكار المعادين للسّاميّة كالتالي(1):

- اليهود (دين) وقومية وعرق).

- لا يمكن أن يتعايش اليهود مع الأوروبيين.

ص: 414


1- صبري جريس، مرجع سابق، ص 50.

- يجب عزل اليهود.

- يجب إقامة دولة لليهود في الشرق حيث أصولهم .

ومن ثم كان الحل الصهيوني المقترح للمسألة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من العملية الاستعمارية الغربية. فبحسب أو سكار. ب رابينوفيش(Rabinovitch Oscar) اتفق الاقتراح الصهيوني مع الصيغة الاستعمارية الأوروبية بواسطة تحويل تيار المهاجرين اليهود من إنجلترا إلى أفريقيا وآسيا بحيث تبني الصهيونية موقعاً مهماً لبريطانيا وطرقها عن طريق إنشاء مركز يهودي مستقل(1)، فنجد أن وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور (Arthur Balfour)، الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين، كان محسوباً على المُعادين للسّاميّة حيث كان هدفه منع اليهود من الهجرة إلى بريطانيا، وتوجيههم إلى الشرق من أجل ضمان سيطرة بريطانيا الاستعمارية فترة طويلة(2)، حتى نابليون بونابرت الذي دعا الصهاينة إلى الاستيطان في «بلاد أجدادهم» يُعد من أهم المعادين لليهود(3).

الاستشراق واختراع شعب وأرض «إسرائيل»

بدأ ذلك بنداء بونابرت لليهود في أثناء حملته على مصر والشام حيث حثهم على السير وراء فرنسا حتى يتسنَّى استعادة العظمة الأصلية لبيت المقدس، ووعد بأنه سيعيد اليهود إلى الأرض المقدسة إذا ساعدوا قواته (4)، وخاطبهم بقوله: «سارعوا؛ هذه اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سُلبت منكم لآلاف السنين وهي

ص: 415


1- المسيري، الايدلوجية، ص: 43.
2- Raja Shehadeh (Book Review). Victor Kattan. From Coexistence to Conquest: International Law and the Origins of the Arab-Israeli Conflict (18911949-)، Middle East Policy Council. http://bit.ly/1Pw5PSq
3- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود، ص: 14.
4- Sokolov. Nahum. History of Zionism. 16001918-(vol. 1). New York: KTAV Publishing House. 1964. P: 63.

وجودكم السياسي كأمة بين الأمم»(1). لقد تبنَّت حملة بونابرت طروحات كتاب «وصف مصر» (Description of Egypt)، الذي كتبه المستشرقون الفرنسيون المرافقون للحملة، من تشديد الادعاء بأن اليهود هم ورثة فلسطين الشرعيون وعلى إعادة إنشاء مملكة القدس القديمة»(2)، ما دفع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن (Chain Weizmann) إلى وصف نابليون في رسالته لتشرتشل (Churchill) بأنه: «أول الصهاينة العصريين من الأغيار»(3). في هذا السياق نجد أيضاً مشروع المستشرق أنكتيل ديبرون (1805-1731) (Anquetil-Duperron) الرامي إلى إيجاد مرتكز يهودي في المنطقة، إذ قام ديبرون بكثير من الرحلات ليبرهن على وجود«شعب الله المختار في ماضي فلسطين وحاضرها عبر تتبع أصول اليهودية (4).

التقت أفكار بعض المستشرقين كالفرنسي ألفونس دي لامارتين (Alphonse 1790-1869) (de Lamartine) مع الصهيونية بأن فلسطين صحراء خاوية تنتظر من يزرعها، وأن سكانها من الرحّل الذين لا قيمة لهم ولا حقّ لهم فعليّاً في الأرض(5) ، وربما اعتمد الصهيوني ماكس نوردو (Max Nordau) على هذا الرأي عندما أطلق عبارته الشهيرة:«أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»(6)، هذا الادعاء انعكس على الخطاب الصهيوني وبشكل واضح في تصريح رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير (1974 - 1969) (Golda Meir):«لا يوجد شعب فلسطيني»(7). ولم يقتصر الأمر على إنكار وجود شعب فلسطيني، بل تعداه إلى إنكار الاسم التاريخي لفلسطين، فها هو المستشرق برنارد لويس يدَّعي بأن

ص: 416


1- Franz Kobler. Napoleon and the Jews. Schocken Books. 1976. p: 57.
2- شكري نجار ، لم الاهتمام بالاستشراق ، مجلة الفكر العربي (السنة 5 ، 1983، عدد (31)، ص: 67.
3- Crossman، Richard. A Nation Reborn: The Israel of Weizman، Bevin and Ben Gurion. London: Hamish Hamilton. 1960. P: 130.
4- شكري النجار، مرجع سابق، ص 67.
5- إدوارد سعيد الاستشراق، ص: 7 .437
6- بول فندلي الخداع، ترجمة وتحقيق محمود زاید، ط1، بیروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1993)، ص: 25.
7- إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق (ترجمة وتحرير: صبحي الحديدي)، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996)، ص: 111.

الاسم التاريخي لفلسطين «بلسطينا» لم يكن متعارفاً عليه بين اليهود وأن الاسم المتعارف عليه هو «أرض إسرائيل»(1).

عملت الصهيونية على بناء وطن قومي لليهود، ولم تكن مصرّة في بداياتها على الاستيطان في فلسطين (مع تفضيلها لذلك بسبب وجود الرابط التاريخي) بحسب ما ذكر هرتسل في كتابه «الدولة اليهودية» Jewish State The) (حيث طرحت الأرجنتين ) (2). الدافع الأساسي لاختيار فلسطين على يد الصهيونية كموقع للاستيطان وتفضيلها عن الأرجنتين أو أوغندا كان بحسب هرتسل «قوة الأسطورة، أي الاسم في حد ذاته»(3).

ثمة إجماع بين الحاخامات الأرثوذكس على أن تعبير «الشعب اليهودي» في اليهودية تعبير ديني، يشير إلى جماعة المؤمنين المخلصين الذين يتوجهون بإيمانهم إلى الله الواحد، بل إن انتماء هم مشروط بمدى طاعتهم لله(4)، وهذا ما صرَّح به الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية في بريطانيا سنة 1909 بقوله :«منذ تحطيم الهيكل وانتشار اليهود في العالم، فإنهم لا يشكلون أمة بل نحن طائفة دينية» (5). لقد استخدم التناخ كنص مشكل لهوية وعقيدة اليهود بعدما حرر ونشر في وسط جماعة المؤمنين التي كانت وبحق في أمس الحاجة له(6)، وهذا ما يؤكده الحاخام ساديا ها غاون الذي عاش في

ص: 417


1- Bernard Lewis. Palestine: On the History and Geography of a Name. The International History Review. Vol.2. No. 1. Jan 1980. p:1. http://www.jstor.org/stable/40105058?seq=1page_scan_tab_contents
2- موقع الجامعة الإسلامية بغزة (مترجم)، ثيودور هرتسل الدولة اليهودية ، ص : 19. http://bit.ly/1ZoQRgj
3- Patrai. Raphael. The complete Dairies of Theodore Herzl. (vol. 1). New York: Herzl Press and Thomas Yoseloff. 1960. Trans Harry Zohn. P: 56.
4- عبد الوهاب المسيري، الايدلوجيا، ص: 116
5- صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 2015/12/27، عدد : 13543 ، يعقوب الإبراهيم، إعلان بلفور الحلقة 31. http://bit.ly/1ZwqdUC
6- شلوموساند، إختراع الشعب اليهودي، ترجمة: سعيد عياش، ط2، رام الله مدار، 2013)، ص: 103.

القرن العاشر بقوله «شعبنا هو شعب بسبب التوراة» (1)،حيث يصف اليهود أنفسهم كأمة دينيّة.

تزامن ظهور الصهيونية مع انتشار الحركات القومية التي كانت مبنية إما على النموذج القبلي واللصيق بالطبيعة والأرض أو النموذج الإقليمي السياسي وهو أقل ارتباطاً بالأرض وأكثر ارتباطاً بالدولة، لم يجد مفكرو الصهيونية ضالتهم في كلا النموذجين فقام سيمون دوبنوف (Simon Dubnow) بابتكار القومية اليهودية بالاعتماد على النموذج الروحي المستقل عن الطبيعة لأن وجوده يستند أساساً إلى الوعي بالذات التاريخية؛ حيث يرى دبنوف أن اليهود ينتمون لهذا النموذج أو بلغة أخرى قوميّة الشتات(2).

يعدُّ مفهوم الشعب غير دقيق فهو يدل على جماعة اجتماعية تحمل مزايا مشتركة على مستوى من الأهمية يكفي لبلوغ حدّ أدنى من الوحدة والاستقلالية، أما الشك في طبيعة هذه المزايا (لغة، وثقافة، وتاريخ، وموقع جغرافي) وبالتالي الأساس الموضوعي أو الذاتي لهذا المفهوم (هل يوجد شعب بذاته أو لاعتقاده أنه كذلك بتأثير الممارسات الاجتماعية) فيصعبان عملانيته في العلوم الاجتماعية. في المقابل، نرى أن الاستخدام الإيديولوجي لمفهوم الشعب هو أكثر شيوعاً، إما لتسليمه مقاليد السيادة، وإما لتشريع كل ممارسة تطالب باستقلاله أو خروجه من مجموعة وطنية مبنية مسبقا(3).

قامت عملية اختراع الشعب اليهودي على ركنين أساسيين، وهما فكرة الشتات اليهودي وبأن اليهودية بقيت محصورة في العرق الذي اعتنقه في البداية، الدلالة الرئيسية المتوخاة لهذا الادعاء هی أن الشتات الذي رحل إلى مناطق مختلفة من

ص: 418


1- اسرائيل شاحاك، مرجع سابق، ص: 51. -
2- Rabinovitch، Simon. Alternative to Zion. 2007. P: 55. http://bit.ly/1mW6zUf.
3- غي هرميه وآخرون، قاموس علم السياسة والمؤسسات السياسية (ترجمة: هيثم اللمع)، ط1، (بيروت: مجد، 2005، ص: 252

العالم وكُتب له البقاء يعود من ناحية جذوره العرقية والقومية إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثرت في نقاء العرق اليهودي. وقد جرى تفنيد هذا الإدعاء على يد جمال حمدان في دراسته القيمة التي توصلت إلى أن اليهود الحاليين ليسوا من بني إسرائيل؛ فيهود العالم اليوم مختلطون في جملتهم اختلاطاً يبعدهم عن أيّ أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة، ولا يوجد رابط أنثروبولوجي بين الجهتين، والرابط الوحيد هو رابط الدين(1). وهذا ما يقرُّ به هرتسل ضمنياً في معرض انتقاده لليهود المندمجين في أوروبا بسبب وجود الزواج المختلط في عدة دول أوروبية، خصوصاً في المجر(2)، قام الكاتب الإسرائيلي شلوموساند (Shlomo Sand) أيضاً في كتابه «اختراع الشعب اليهودي» The Invention of the Jewish People بتفكيك هذا الادعاء نفي ما يسمى بالشتات اليهودي الذي تقف وراءه فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، وبدحض الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشيرياً بل بقي محصوراً في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته(3).

تقاطع المصالح بين الاستعمار والصهيونية

ظهرت الحاجة الغربية لمعرفة الشرق الإسلامي وخصوصاً من الناحية الجغرافية والاجتماعية للتعرف إلى موارد الثروة من جهة، ومصادر التوزيع للإنتاج الأوروبي من ناحية أخرى، لذلك وجدنا عدداً كبيراً من المستشرقين يركزون في دراسات الجدوى الاقتصادية لبلادهم وخصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين(4).

ص: 419


1- جمال حمدان، اليهود انثروبولجياً ، (القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1967)، ص: 90.
2- ثيودور هرتسل، مرجع سابق، ص 8.
3- شلوموساند، إختراع الشعب، ص: 179-233.
4- محمد ادریس مرجع سابق، ص 30.
يميز المؤرخون عادة بين نوعين من الاستعمار:

1. استعمار المرحلة الأولى المرتبطة بالرأسمالية المركانتيلية ( Mercantilist Capitalism) (التجارية) الذي تركز في النصف الغربي للكرة الأرضية والجزر ،الاستوائية، وكان الهدف منه زيادة قوة وثروة الدولة المستعمرة من خلال الحصول على المواد الخام من ذهب وفضة ومنتجات استوائية، ولم يكن الاستيطان أحد أهدافه الأساسية.

2. استعمار ما بعد سنة 1870، والذي تركَّز في أفريقيا وآسيا بهدف خدمة بعض طبقات المجتمع وفئاته عن طريق تزويدهم بالأسواق لبضائعهم إضافة للبحث عن المواد الخام وبالتالي سعى الاستعمار في هذه المرحلة لتغيير البنية الاجتماعية للمجتمعات التابعة كي تصبح تابعة للحلقة الرأسمالية الإمبريالية. حاجة دول أوروبا للأسواق أفاد الصهيونية لكون فلسطين ومصر مدخلاً لهذا المسرح الجديد(1).

التعرف إلى الجذور الحضارية لنوعي الاستعمار الاستيطاني التقليدي والإحلالي قد يكون أمراً له أهميته، إذ يبدو أن النوع التقليدي في الجزائر وأنغولا قد نشأ في الدول الكاثوليكية، بينما تعود جذور النوع الإحلالي في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة إلى الدول البروتستانتية. وسيقودنا هذا إلى التساؤل عمَّا إذا كان التفسير الحرفي للعهد القديم وهو التفسير الذي يسود بين كثير من البروتستانت يوجِد حالة عقلية تسهل عملية نقل السكان وتجعلها أمراً طبيعياً لأنها تجري باسم الأوامر المقدسة التي ترد من علٍ؟ قد يمكن القول إن الكنيسة القومية أي الكنيسة القاصرة على مجموعة بشرية لها الانتماء العرقي نفسه أو الإثني نفسه كما هي الحال مع الكنيسة الهولندية الإصلاحية في جنوب أفريقيا التي لا تسمح للسود بالانضمام إليها، مثل هذه الكنيسة تضفي قدراً من القداسة على الأفعال التي يأتيها أعضاؤها وتقدم

ص: 420


1- عبد الوهاب المسيري الايدلوجية، ص: 30.

هي التبريرات الدينية التي تكون عادة ذات طابع إنجيلي، فتسوِّغ عمليات الطرد بأن الآخرين يقعون خارج نطاق الخلاص والتوبة، أما الكنيسة العالمية أي الكنيسة التي تفتح أبوابها لأي إنسان فهي تمنح المؤمن سواء أكان من المستوطنين أم من السكان الأصليين حقوقاً معينةً بغض النظر عن انتمائه القومي أو العنصري وهو ما يجعل من الصعب على المستوطنين الذين يتبعون الكنيسة العالمية تبني النمط الإحلالي من الاستعمار (1).

تقاطعت مصلحة الاستعمار مع الصهيونية، فحاول اللورد بلمرستون (Palmerston)، وزير خارجية بريطانيا سنة 1840 إقناع السلطان العثماني بفوائد السماح لليهود بالعودة والاستيطان في فلسطين، بسبب الأموال التي سيحضرونها معهم لكونهم أثرياء وبالتالي ستزداد ثروات السلطان، ومن ناحية أخرى سيكونون بمنزلة حاجز بشري أمام محمد علي(2). وفي سنة 1860 أشار أرنست لاهاران ) Ernest La

haranne)، سكرتير نابليون الثالث الخاص في كتيِّب بعنوان «المسألة الشرقية الجديدة» Eastern Question New The) إلى المكاسب الاقتصادية التي ستعود على أوروبا من خلال فتح أسواقٍ جيدةٍ في حال استقرَّ اليهود في فلسطين وعودة الدولة اليهودية القديمة (3).

في السياق نفسه قام البريطاني جورج غاولير (George Gaulir)، الذي تولىَّ منصب حاكم في جنوب أفريقيا، وزار فلسطين سنة 1849 ، بوضع خطَّةٍ لإعادة اليهود إلى «بلدهم» هادفاً من وراء ذلك إلى إيجاد منطقة عازلة بين سورية ومصر (4). التقطت

ص: 421


1- المسيري، الايدلوجية ص: 55.
2- Alexander Scholch. Britain in Palestine. 18381882-: The Roots of the Balfour Policy. Journal of Palestine Studies. Vol. 22, No. 1. 199293/ p: 39. http://www.palestine-studies.org/jps/fulltext/39775.
3- Abu-Lughod Ibrahim، and Abu-Laban Baha. Settler Regimes in Africa and the Arab World: The IIIusion of Endurance. Willmette، Illinois: Medina Univeristy Press 1974. P: 22.
4- شلوموساند اختراع أرض إسرائيل (ترجمة) : انطوان شلحت وأسعد زعبي) ، ط 1 ، رام الله مدار (2013)، ص: .176

الصهيونية الفكرة فقام هرتسل بالترويج لها في حال أقيمت الدولة في فلسطين بقوله: «من هنالك سنشكل جزءاً من استحكامات أوروبا في آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية»(1)، ويبدو أن مؤتمر لندن الاستعماري الذي عقد سنة 1907 أخذ بخطة غاولير؛ حيث أوصى رئيس الوزراء البريطاني ب-«إقامة حاجز بشري قوي و غريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوةً عدوّةً لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها»(2).

حينما احتاجت بريطانيا الاستعمارية مستوطنين بيض لتشجيع التجارة في بلاد الشام، ومن ضمنها فلسطين طلبت من الصهاينة تجنيد اليهود لتنفيذ هذه المهمة عبرالاستيطان في فلسطين، وهذا ما ،فلسطين، وهذا ما صرح به الأيرل شافتسبري (Shaftes- Earl of bury): «من هم أكثر الناس في العالم احتراماً للتجارة وهل يجد اليهودي موقعاً أو مجالاً أفضل من سوريا لتنمية نشاطه؟ أليس لبريطانيا مصالحها الخاصة في تحقيق التغييرات الضرورية؟. ولذا أقترح أن تدعم إنجلترا القومية اليهودية» وتساندها»(3)، كما أعد الوزير البريطاني اليهودي هربرت صموئیل Samuel) (1906 Herbert 1915) بعد الحرب العالمية الأولى تقريراً بعنوان عن مستقبل فلسطين (About The Future of Palestine ؛ تحدث فيه عن الصهيونية والفوائد الاستراتيجية التي ستجنيها بريطانيا عبر تشجيع المهاجرين اليهود على الاستقرار في فلسطين حتى يشكِّلوا نسبةً عاليةً من السكان وبذلك تضمن بريطانيا بقاء فلسطين تحت هيمنتها(4).

ص: 422


1- ثيودور هرتسل، مرجع سابق، ص 19.
2- موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وثائق خاصة بالقضية الفلسطينية، توصية مؤتمر لندن مؤتمر کامبل بنرمان http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/Recommendation_of_the_London_ Conference.pdf.
3- Sokolov. Nahum. History of Zionism. 16001918-(vol. 1). New York: KTAV Publishing House. 1964. P:206-207.
4- صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 2015/12/27، عدد : 13543، يعقوب الإبراهيم، إعلان بلفور الحلقة 1-3. http://bit.ly/1ZwqdUC

قام وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور بتبرير استعمار الشرق من خلال النظرة الاستشراقية بقوله:

انظروا أولاً إلى حقائق القضية: إن الأمم الغربية ما إن يبدأ ظهورها في التاريخ حتى تظهر بدايات قدرتها على الحكم الذاتي.... وهي القدرة الجديرة بالتقدير في ذاتها.... ثم انظروا إلى تاريخ الشرقيين برمته في ما يسمَّى بصفة عامة الشرق ولن تجدوا آثاراً تنبِّئُ بالحكم الذاتي إطلاقاً، إذ مرت كل قرونهم العظمى (ولقد كانت بالغة العظمة) في ظلّ الحكومات الاستبدادية والحكم المطلق، كما كانت كل إسهاماتهم الحضارية العظمى (ولقد كانت حقاً عظمى) في ظلّ ذلك اللون من الحكومة...، هل تعود ممارسة هذه الحكومة المطلقة من جانبنا بالخير على هذه الأمم العظيمة والتي أعترف بعظمتها ؟. أعتقد أنها تعود بالخير عليها وأعتقد أن الخبرة قد أثبتت أنها تمتعت في ظلها بحكومات أفضل كثيراً مما شهدته على امتداد تاريخ العالم كله، وهي ليست مفيدة لها وحدها لكنها ولا شكّ مفيدة للغرب المتحضر برمته(1).

يدّعي بلفور بأن الشرقيين أغبياء وقاصرون لا يقدرون على حكم أنفسهم وذلك من أجل تبرير احتلال أراضيهم واستعمارها، فهو يصرح في موضع آخر بأن «السكان الأصليين لفلسطين يتمتعون بالأولوية في امتلاك أراضيهم، ولكنها أولوية لا تداني على الإطلاق السلطة التي يتمتع بها المحتل في الاحتفاظ بهذه الأرض»(2).

مع انبعاث الحركة القومية العربية المعارضة للحكم العثماني اتجه الصهاينة إلى الأتراك ناصحين إياهم بإنشاء مقاطعة يهودية في فلسطين لإيجاد توازن مع 600 الف عربي في فلسطين ومع الدول المحيطة بها (3)، حيث حذر حاييم وايزمن في

ص: 423


1- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 8786
2- المرجع نفسه، ص: 388.
3- المسيري، الايدلوجية، ص: 46.

رسالته لتشرتشل(1)، القوى الاستعمارية من الاعتماد على الولاء العربي - عقب ثورة الشريف حسين ضدّ الدولة العثمانية - وبأن عليها الاعتماد على اليهود الموالين للغرب(2). أكدّ وايزمن على ذلك في رسالة لصديقه بقوله:«إذا دخلت فلسطين في نطاق النفوذ البريطاني، وإذا شجعت بريطانيا عملية استيطان اليهود هناك، وأصبحت دولة خاضعة لبريطانيا، فخلال (خلال عشرين عاماً إلى ثلاثين عاماً) مليون يهودي سيقومون بتطوير البلد وإعادته للحضارة ويشكلون حماية فعالة لقناة السويس»(3).

حتى يومنا هذا لم تتوقف الصهيونية عن ممارسة دور مخلب القط في الشرق الأوسط لمصلحة الدول الاستعمارية، فها هو يعقوب ميريدور (akov Meri - Ya dor) وزير التخطيط والتنسيق الاقتصادي (1982-1984) يصرح في حديث له في الإذاعة التابعة للجيش الأميركي أنه لولا وجود «إسرائيل» كقاعدة وكمنطقة نفوذ وكحليف للولايات المتحدة لاضطرت الأخيرة لبناء عشر حاملات طائرات(4).

من الاستشراق إلى الإسلاموفوبيا

من الاستشراق إلى الإسلاموفوبيا (5)

يرى إدوارد سعيد أن الاستشراق يشبه العداء للسامية، ويذهب إلى أن الاستشراق عبارة عن الفرع الإسلامي للعداء للسامية(6)، حيث نظر كثير من المستشرقين للنبي محمد عليه الصلاة والسلام كدجال؛ واتهموه بنشر تنزيل زائف (7)، فانطوى

ص: 424


1- رسالة كتبت في شهر يوليو 1921 لكنها لم ترسل إلى تشرتشل.
2- Crossman، Richard. A Nation Reborn: The Israel of Weizmann، Bevin and Ben- Gurion. London: Hamish Hamilton. 1960. P:131-132.
3- Abu-Lughod Ibrahim.op. cit. p: 183+ 184 .
4- عبد الوهاب المسيري، الايدلوجية، ص: 65.
5- مصطلح حديث نسبياً، تم نحت المصطلح الذي استعير في جزء منه من علم الاضطرابات النفسية للتعبير عن ظاهرة الرهاب أو الخوف المرضي من الإسلام. (أنظر خالد سليمان ظاهرة الإسلاموفوبيا، مركز الشرق العربي http://bit.ly/20gv5Rz)
6- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 79.
7- المرجع نفسه، ص 128

فهم الإسلام عند الغرب على «محاولة تحويل تنوعه إلى جوهرٍ وحدانيٍّ غير قابلٍ للتطور، وقلب أصالته إلى نسخة منحطة من الثقافة المسيحية، ومسخ شعوبه إلى كاريكاتورات مثيرة للرعب»(1)فها هو المستشرق برنارد لويس يستند في كتابه «ثورة الإسلام» على دعوة السياسيين في مصر سنة 1945م لتنظيم مظاهرات بمناسبة ذكرى وعد بلفور وما رافق ذلك من مهاجمة الكنائس الكاثوليكية والأرمنية والأرثوذكسية اليونانية؛ ليصل إلى نتيجة مفادها أن الإسلام ظاهرة جماهيرية مخيفة تستهدف اليهود والنصارى على حدّ سواء(2)، وفي السياق نفسه نجد المستشرق شالوم زاوي (-Sha lom Zaoui) يؤكد ذلك بقوله :«يفرق المسلمون بين دار الإسلام ودار الحرب، ويجب أن تسلم كل الشعوب بالسيف والجهاد إذا لم يقبلوا دين محمد طواعية» (3).

يرى سعيد أن جذور الخوف من الإسلام «الإسلاموفوبيا» في الغرب وخصوصاً فی الولايات المتحدة تعود إلى فترة حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بين مصر و«إسرائيل»، عندما هددت السعودية بقطع البترول، فتسبب ذلك برفع أسعار الوقود، فجرى تصوير العربي المسلم كإنسان ،عنيف بل ذهب بعض المستشرقين إلى القول بأن العرب سفَّاكون للدماء وأن العنف والخداع كامنان في الجينات الوراثية العربية، كما ادّعى أحد المستشرقين بأن الرابط بين أهل الشرق الأوسط هو كراهية وعداء اليهود وأمّة إسرائيل (4). بينما يرى آخرون أن ظاهرة الإسلاموفوبيا قد انتشرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في خضم بحث الغرب عن عدو بديل، حيث خرجت الصحافة الغربية حينها بعناوين متشابهة تقول بأن:«التهديد الأحمر ذهب وجاء الإسلام»(5)، تعزز ذلك بشكل «علمي» بعد تبني بعض الباحثين لهذه الفكرة أمثال فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) (منظر سابق للمحافظين

ص: 425


1- إدوارد سعيد ،تعقیبات ص 28
2- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 482.
3- محمد إدريس، مرجع سابق، ص: 126.
4- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 439.
5- عبد الله محمد - مرجع سابق، ص: 45.

الجدد(Neoconservatism)(1) وتلميذ ألان بلوم ( Allan Bloom) تلميذ اليهودي الأميركي من أصول ألمانية ليوشتراوس (Leon Strauss) مؤسس فكر المحافظين الجدد في الولايات المتحدة (2)) في كتابه «نهاية التاريخ» (The End of History) الذي أعلن فيه أن الإسلام يعدُّ المنافس الإيديولوجي للديموقراطية الليبرالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي (3)، تبعه في ذلك المفكر صامويل هنتنجتون (Samuel Huntington) في كتابه «صراع الحضارت» (Clash of Civilizations)، الذي « اعتمد فيه على آراء المستشرقين، وخلص إلى نتيجة مفادها أن الصراع الإيديولوجي بين الشيوعية والليبرالية قد انتهى وأن الصراع القادم سيكون صراعاً بين الحضارات ومن ضمنها الحضارة الإسلامية وخصوصاً في الجانب الأخلاقي والديني لكل أمّة (4). هذه الأجواء هيّأت الساحة السياسية في الولايات المتحدة لتولي التيار اليميني الممثل بالمحافظين الجدد أهم مواقع التأثير، وخصوصاً في فترة إدارة الرئيس جورج بوش الابن ( George W. Bush)، فانعكس ذلك على علاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي واستغلت حادثة 11 أيلول / سبتمبر كذريعة لاحتلال وتدمير بلدين إسلاميين (أفغانستان والعراق).

استغلت الصهيونية مخاوف الغرب من الإسلام فعملت على ترسيخ هذه المخاوف كي تطرح نفسها كحليف للغرب ضدّ الإسلام، وهذا ما وضحه بول فندلي (Paul Findley) في كتابه «لا سكوت بعد اليوم» Silent No More)(5)،

ص: 426


1- تراجع فوكومايا فيما بعد عن تأييد فكر المحافظين الجدد وأعلن عن ذلك في كتابه (أميركا على مفترق الطرق) - المنشور سنة 2006.
2- Terence Ball، Neoconservatism، Encyclpaedia Britannica. http://www.britannica.com/topic/ neoconservatism.
3- فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر (ترجمة حسين أمين، ط1، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر (1993، ص: 56
4- صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات إعادة صناعة النظام العالمي (ترجمة : طلعت الشايب)، ط2، (الاسكندرية منتدى مكتبة الاسكندرية، 1999)، ص: 181.
5- بول فندلي، لا سكوت بعد اليوم مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أميركا، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، ط 5، 2010)، ص: 11.

وفي سنة 1992 صرَّح شلومو غازيت (Shlomo Gazit)، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (أمان)، لصحيفة يديعوت (Yedioth) بأن:

المهمة الرئيسية لإسرائيل لم تتغير قطّ(منذ انهيار الاتحاد السوفياتي) وتظل ذات أهمية حاسمة إن الموقع الجيوستراتيجي لإسرائيل في مركز الشرق الأوسط العربي/ المسلم يجعل القدر المسبق لإسرائيل أن تكون الحامي المخلص للاستقرار في جميع الدول المحيطة بها، هو حماية الأنظمة القائمة؛ بمنع أو عمليات النزوع للتطرف أو إيقافها وقطع الطريق أمام توسع الحماسة الأصولية الدينية (1).

وها هو وزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريس (Shimon Peres) يوضح الدافع الأساسي لتوقيع اتفاق أوسلو وهو السعي لبناء نظام إقليمي جديد من أجل مواجهة انتشار المدّ الإسلامي «الأصولي»(2).

استفحلت ظاهرة الإسلاموفوبيا عقب هجوم 11 أيلول/ سبتمبر الذي تبناه تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، وقامت الصهيونية باستغلال الحدث كي تمرر نظرية مفادها بأن «إسرائيل» تحمل القيم الأميركية نفسها (الديموقراطية)، وتحارب الخصم نفسه وهو «الإرهاب الإسلامي». فشُبِّه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بابن لادن(3) في خطوة مكشوفة لإلصاق صفة «الإرهاب» بنضال الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال ونزع الشرعية عن مقاومته تساوق السياسيون الأميركان مع هذه «الفكرة» فوجدنا الرئيس باراك أوباما (Barack Obama) يصرح في خطابه أمام الإيباك (AIPAC) عام 2009 بأن لدى أميركا «قيماً مشتركة» مع «إسرائيل» وأنهم شركاء في الحرب على

ص: 427


1- اسرائيل شاحاك، مرجع سابق، ص: 45
2- شمعون بيريس، الشرق الأوسط الجديد، (ترجمة: محمد حلمي ط1، عمان الأهلية للنشر والتوزيع، 1994)،
3- قصي حامد، الولايات المتحدة والتحول الديمقراطي في فلسطين، ط1، (بيروت) مركز الزيتونة (2009)، ص: 120

الإرهاب(1)، وهذا ما أكّده الناطق باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية أو فير جندلمان (Ofir Gendelman) في معرض تعليقه عن طبيعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية(2). ومع كل هجمة تشنها التنظيمات الإسلامية المتشددة على الغرب تستغل الصهيونية الحدث لتؤكد الفكرة نفسها ؛ فها هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يخاطب السفير الفرنسي عقب الهجوم الذي قام به تنظيم الدولة «داعش» في فرنسا عام 2015 بقوله: «نحن صامدون ولن نسقط، رغم أن البرابرة يوقعون ضحايا في صفوفنا.... نحن فخورون «بقيمنا» وصداقتنا وحريتنا .... عندما تشخّص «القوى المتحضرة» المشكلة لن يبقى أمامها سوى الاتحاد من أجل القضاء على هذه الحيوانات، هذه الحيوانات لها اسم وهو الإسلام المتطرف... نحن ملزمون بالوقوف معاً لنحارب الإسلام المتطرف»(3)، لاحظ استخدام نتنياهو في خطابه لمصطلح البرابرة ذو الدلالة التاريخية عند الغرب وحرصه على ربط العالم الغربي ب-«إسرائيل» لأنهما مشتركان بالقيم نفسها وبالعدو نفسه، وإشارته إلى أن الحرب عبارة عن حرب حضارات.

تقوم استراتيجية نتنياهو على استغلال هجمات «داعش» ضد أهداف غربيّة من أجل الربط بين الإسلام والإرهاب من جهة ومقاومة الإحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى؛ فهو يدَّعي بأنّ «إسرائيل» والغرب يواجهان عدواً مشتركاً، حتى وصل به الأمر للإدعاء أنَّ العمليات التفجيرية ناتجة عن طبيعة الإسلام العدائية لا نتيجة الاضطهاد أو الاحتلال، ولا يتورَّع نتنياهو عن تضليل الرأي العام الغربي من خلال تشبيه محاولة «داعش» إقامة دولة الخلافة بمحاولة الفلسطينيين التخلّص من الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية؛ وقد عبَّر عن ذلك بشكل مباشر في تصريح له عقب هجمات بروكسل وبتاريخ 2016/3/23 بقوله: «إننا نخوض حرباً عالميةً ضدَّ الإرهاب، إنها حرب أبناء

ص: 428


1- موقع اليوتيوب، خطاب أوباما لدى لجنة الشئون العامة الأميركية الإسرائيلية، 2009/6/28. http://youtu.be/KJq6ykarsp0
2- موقع اليوتيوب، أو فير جندلمان: العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة قوية لأنها مبنية على قيم مشتركة، http://youtu.be/uSkRHooFJEU.2015/3/3
3- موقع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، 2015/11/18. (بالعبريةhttp://www.pmo.gov.il/MediaCenter/Events/Pages/eventJpost181115.aspx.

الحضارة ضد أبناء الظلام يضرب الإرهاب في كل مكان إنه يضرب باريس (حيث قتِل في مساء واحد 129 شخصاً)،كما أنه يضرب أنقرة وبروكسل حيث قتِل العشرات، وإسطنبول حيث قتِل أيضاً 3 من مواطنينا وساحل العاج وكاليفورنيا وتل أبيب وأورشليم القدس والقرى والمدن في أرض «إسرائيل»، ولا تأتي الممارسات الإرهابية في كل هذه المواقع انطلاقاً من الشعور بالإجحاف أو بالإحباط، بل إنها تنجم عن العقيدة القاتلة والرغبة في القضاء على الخصم ووراثته، وسبق أن قلت مراراً وتكراراً إنّ الإرهاب لا ينبثق من الاحتلال أو اليأس بل من الأمل، أي من أمل مخرّبي داعش في أن يتمكنوا من إنشاء خلافةٍ إسلاميةٍ على كامل الأراضي الأوروبية ومن أمل المخربين الفلسطينيين في أن يتمكَّنوا من إنشاء دولةٍ فلسطينيةٍ على كامل الأراضي الإسرائيلية. يجب علينا العمل معاً لحرمانهم من هذا الأمل هذه نقطة الانطلاق الأهمّ لمحاربة الإرهاب. لذلك أكدتُ لمحاوريَّ (رئيس الوزراء البلجيكي ووزيرة الخارجية للاتحاد الأوروبي) ضرورة إدانة الإرهاب في أي مكان وضرورة محاربته في أي مكان ولا يوجد أدنى شك في أننا سننتصر على الإرهاب لكن إذا تكاتفت جهود شعوب العالم فإننا سننتصر عليه بسرعة أكبر بكثير»(1).

تظهر المعطيات المتوافرة بأن ظاهرة الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة صُنِعت على يد مجموعة من الصهاينة وهذا ما أشار إليه بول فندلي في كتابه «لا سكوت بعد اليوم»(2) كما توصل بعض الباحثين الأميركيين في تقرير نُشِر سنة 2011 إلى هذه النتيجة، ويشير التقرير إلى أن الممولين لهذه الظاهرة هم عبارة عن سبع هيئات ومنظمات محافظة التوجه، وأغلبها منظمات غير ربحية تدعم مشاريع تعليمية وأخرى خيرية على الأغلب لا يعرفون بأن تبرعاتهم تذهب لتمويل صناعة الإسلاموفوبيا في أميركا. هذه الملايين أُنفِقت على مَنْ يسمَّون ب-«الخبراء» مروّجي الشائعات الذين

ص: 429


1- موقع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي .2016/3/23 http://www.pmo.gov.il/Arab/MediaCenter/Events/Pages/spokrstatmemt230316.aspx.
2- بول ،فندلي، لا سكوت بعد اليوم، ص: 86.

يلفقون أخباراً ومعلومات خاطئة عن الإسلام، عددهم خمسة أشخاص، وهم: فرانك غافني (Frank Gaffiney)، وديفيد يروشلماي David Yerushalm)، ودانيال بايبس (Daniel Pipes) وروبرت سبنسر (Robert Spencer) ، وستيفن إيمرسون (Steven Emerson)، وكلّهم محسوبون على التيارات الصهيونية في أميركا. تلخيص رسالة هؤلاء «الخبراء» للشعب الأميركي هي كالتالي: «الإسلام عبارة عن إيديولوجيا عنيفة تسعى للسيطرة على الولايات المتحدة الأميركية، ما يشكل خطراً على المجتمع الأميركي لأنه يشجّع على قتل اليهود والمسيحيين»، كما أشار البحث إلى المنظمات التي تشكلت وتفرّع منها عدة أفرع في عدد كبير من الولايات الأميركية، واحدة من هذه المنظمات أنشأتها لبنانية مارونية تدعى بريجيت غابريال (Brigitte Gabriel) واسمها افعل من أجل أميركا Act for America . ويذكر التقرير أنها صاحبة مقولة «إن الفرق بين العرب والمسلمين والإسرائيليين هو كالفرق بين الهمجية والتحضر الفرق بين الديموقراطية والديكتاتورية الفرق بين الخير والشر»، إضافةً إلى منظمةِ باميلا جيلير (Pamela Geller) واسمها «أوقفوا أسلمة أميركا» (Stop Islamization of Ameri ca) والتي نظّمت حملة لوقف بناء مركز إسلامي في مدينة نيويورك والمعروف باسم «بارك 51» (51 Park) بسبب قربه من مركزي التجارة العالميين اللذين دُمّرا في أحداث أيلول / سبتمبر. وشنّت باميلا حملةً منظمةً قالت فيها: لا لمسجد أوباما، الإسلام يعني 1400 سنة من الاعتداءات والجريمة، إلا الاستسلام للشريعة، وإلى غيرها من عبارات الكراهية للإسلام وهي صاحبة فكرة وضع ملصقات المترو في نيويورك التي تقول فيها: «عندما يجري تخييرك بين الشخص المتحضر والشخص الهمجي فعليك باختيار المتحضر، ساند إسرائيل واهزم الجهاد»(1).

أضحت ظاهرة الإسلاموفوبيا صناعة متكاملة لأطراف في الغرب تعود عليهم بالربح المادي والمعنوي وتساعدهم في الوصول إلى السلطة، وإن على جثامين

ص: 430


1- Wajahat Ali and others، Fear، Inc. The Roots of the Islamophobia Network in America، August 2011. https://cdn.americanprogress.org/wp-content/uploads/issues/201108//pdf/islamophobia.pdf .

الأبرياء وغير الأبرياء؛ وذلك بحسب ناتان لین (Nathan Lean) مؤلف كتاب «صناعة الإسلاموفوبيا» (The Islamophobia Industry) درس لين المسألة تاريخياً وأثبت أن زرع الخوف في قلوب الأميركيين ليس مسألةً جديدةً وإنما ذات تاريخ طويل، غير مشرِّف، ولا يرتكز إلى حقائق وإنما لهدف محدّد، ويلاحظ أن الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة الأميركية أقوى في 2012م مما كانت عليه قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، بل إنَّ استقصاءات الرأي تبين أن معاداة الإسلام والخوف من المسلمين بعد مضي شهرين على ذلك التاريخ كانت أقل بكثير مما هی عليه الآن، وهذا ليس مصادفة بل نتاج حملة منظمة.

لا يقبل ناتان لين الادعاء بأن أعمال الاعتداء على المواطنين والمؤسسات الأميركية في مختلف أنحاء العالم، إضافةً إلى أخذ موظفي السفارة الأميركية في طهران رهائن سبب ذلك الخوف الذي يغذِّيه اليمين الصهيوني المعادي لكل ما هو ليس صهيونياً، هو يرى أن الجذور تاريخية، ويرى أن أحد أهم جذورها يُعثر عليه في الفكر البروتستانتي المتطرف وغاية في المحافظة، والذي يكفِّر كل من هو ليس مثله، ومن ضمنهم المسيحية الكاثوليكية والشرقية أي الأرثوذكسية. ويثبت صحة رأيه بالإشارة إلى حوادث عديدة وقعت في الولايات المتحدة الأميركية في القرون الماضية، ادعت بوجود مؤامرة عالمية عليها هدفها القضاء على المسيحية الصحيحة، أي البروتستانتية المتطرفة.

ويشير لين إلى دور بارز تقوم به قنوات تلفزيونية أميركية ومنها محطة فوكس (Channel Fox) في التحريض على نثر بذور الفرقة والكراهية والهلع من المسلمين والآخر المختلف، عبر استقبالها قادة تلك التيارات والمؤسسات المصابة بهوس معاداة الآخر المختلف. لكن المؤلف في الوقت نفسه يشير إلى دور صحف يومية أمريكية معروفة في نثر بذور الكراهية ورُهاب المسلمين والإسلام، كل ذلك طبعاً تحت بند حرية التعبير والرأي المستقل والديموقراطية، كما يشير لين إلى الدور الأساسي الذي

ص: 431

تمارسه بعض التجمعات والأحزاب وفي مقدمتها حزب الشاي (The Tea Party)، الذي أنتج بدوره عدداً من المنظمات والمؤسسات هدفها نشر رُهاب الإسلام والتحذير منهم والدعوة إلى تشجيع تنصيرهم ... إلخ ، وينضَمُّ إلى مختلف هذه المجموعات مؤسسات وقوى صهيونية. ويلفت لين الانتباه إلى تحالف اليمين المؤيد ل- «إسرائيل» ودوره في نشر رُهاب المسلمين ودعم بناء المستعمرات في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، وهذا كله متعلق بفكرة تأسيس دولة لليهود في فلسطين وتجميعهم هناك، هذه الفكرة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفكر البروتستانتي الألفي الذي انتشر مذعوراً بعد نجاح الثورة الفرنسية ورفعها رايات الحرية والعدالة والإخاء، التي أرعبت اليمين البريطاني فأطلق هوس اقتراب موعد الألفية ونهاية العالم وعودة المسيح بين شعبه وفي أرضه، أي في

فلسطين.

يرى لين أن الجذور الحقيقية للصهيونية لم تكن يوماً يهودية وإنما بروتستانتية أصولية، وهذا ما يجمع رُهاب الإسلام باللوبي المؤيد للصهيونية و«إسرائيل» ويقدم لها الدعم كبرنامج سياسي - ديني متكامل(1).

صناعة الإسلاموفوبيا في الغرب غير مقتصرة على اللُّوبي الصهيوني؛ بل أصبحت أشبه ما يكون بالتجارة الرائجة لكتاب وصحفيين وسياسيين يتّخذون من الإسلاموفوبيا مادة للتكسّب والربح السياسي، وتعدَّى الأمر كونه خوفاً من الإسلام إلى نوع من الهوس؛ ففي ألمانيا واجهت المستشارة أنجيلا ميرکیل (Angela Merkel) احتجاجات من اليمين تحت شعار منع «أسلمة البلاد» عقب السماح لبضعة آلاف من المهاجرين السوريين باللجوء إلى ألمانيا (2)، وفي فرنسا توقع الكاتب ميشال هو لباك ( Michel Houelle becca في كتابه «سومسيون» (Soumission) (خضوع) تحول فرنسا إلى دولة إسلامية سنة 2022م بعد انتخاب رئيس من حزب إسلامي(3)،

ص: 432


1- الجزيرة نت 2012/12/27 ، زياد منى صناعة الإسلاموفوبيا . http://bit.ly/1niY2Lm ) -
2- صحيفة الشرق الأوسط، ،لندن 2014/12/17 ، ميركل أمام مأزق صعود اليمين المعادي للمهاجرين. http://bit.ly/1GsYomJ
3- موقع فرانس 24 2015/9/7، رواية فرنسية تصور تحول فرنسا إلى دولة إسلامية» في 2022. http://f24.my/1i7qrlc

كما استغل دونالد ترامب Trump Donald)، الرئيس الأميركي المنتخب جديداً المحتمل، حادثة مقتل 14 أميركي على يد زوجين أميركيين مسلمين، للدعوة إلى فرض حظر على دخول المسلمين الولايات المتحدة (1). هذه الشواهد فيض من غيض لكثير من المؤشرات حول استفحال ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب والتي تتغذى على ممارسات بعض التنظيمات الإسلامية المتشددة.

يرى سعيد أن الرأي «المعتمد» لدى المستشرقين بأن الشرقيين يفتقرون إلى تقاليد الحرية (2)، تجدد طرح الفكرة نفسها مع مزجها بالإسلاموفوبيا عقب انطلاق الانتفاضات العربية المطالبة بالحرية ضدّ الأنظمة الشمولية في سنة 2011 أو ما اصطلح عليه ب- «الربيع العربي»، فنجد «الخبير» برنارد لويس في مقابلة أجريت معه في تموز/ يوليو 2011 يرفض إجراء انتخابات حرة ونزيهة في العالم العربي؛ خشيةً من وصول الإسلاميين للحكم وهو ما سيكون كارثياً، مبرراً وجهة نظره بأن الديموقراطية ممارسة غربية نابعة من التاريخ الغربي (3)؛ وبالتالي فهي لا تصلح للعرب. يحاول لويس وأمثاله إخفاء المقصد الحقيقي لهذا الطرح من خلال الادعاء بأن الديموقراطية غير ملائمة للعرب والمسلمين؛ بينما يخفون خشيتهم من نشوء أنظمة ديموقراطية في الدول العربية ترعى مصالح شعوبها ولا تخضع للإملاءات الغربية الفكرة نفسها عبَّر عنها عاموس جلعاد (Amos Gilad) ، رئيس الدائرة الأمنية والعسكرية في وزرارة الدفاع الإسرائيلية في تشرين الأول/ أكتوبر 2013 عندما هاجم ثورات الربيع العربي خلال مؤتمر بالعاصمة الأميركية واشنطن ، وقال : إن «إسرائيل» تفضِّل استقراراً يستند على نفوذ أميركي بالشرق الأوسط بدل ديموقراطية تأتي بالإسلاميين(4).

ص: 433


1- موقع بي بي سي، 2015/12/9، هل يتصاعد العداء للمسلمين في أميركا بعد تصريحات ترامب؟. http://bbc.in/1RX23BG
2- إدوارد سعيد الاستشراق، ص: 373
3- موقع اليوتيوب، برنارد لويس يقارن احتلال بريطانيا وروسيا لمصر ما بين اللبن واللحم. http://youtu.be/IQgHsOigfm0
4- Amos Gilad. Israeli Security Policy in an Uncertain Middle East. The Washington Institute. 111072013/.https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/2013-schiff-memorial-lecture

يرى عبد الله محمد أن مدرسة الاستشراق الحديثة تقوم على ثلاثة محاور رئيسية وهي: تهديد المسلمين ،المتعصبين، ثم حتمية انتصار التغريب، وأخيراً «الحق الإسرائيلي». وعند تشريح هذه المدرسة نجد أن أكثر المنتمين إليها إمّا من اليهود أو الصهاينة وإما مناصريهم، وأن مفهوم الخطر يتجسَّد في الخطر من الإسلاميين، وأن هذا الخطر موجه بالدرجة الأولى إلى «إسرائيل» عاصمة الغرب الديموقراطي في الشرق الأوسط(1). ويذهب عبد الإله بلقزيز إلى أن انحسار ظاهرة الاستشراق ناجم استنفادها دورها المعرفي، نتيجة نضوب ينابيع الإبداع العلمي فيها، وسقوطها في الاجترار والانغلاق الفكري والمنهجي على عالمها الداخلي؛ فلم يعد الاستشراق قادراً على أن يقدِّم أعمالاً مقنعةً بعد رحيل آخر رموز جيله الأخير مكسيم رودنسون (Rodinson Maxime)، وجاك بيرك (Jacques Berque)، وشيخوخة آخرين مثل جوزيف إس فان San Joseph) وانتهاء آخرين مرموقين إلى إنتاج نصوص في غاية السخف والتفاهة (برنارد لويس)، ولم يصدر عن مستشرقي اليوم إلا القليل من النصوص الجديرة بالقراءة مثل كتابات مايكل كوك (Michael Cook)، أو جاكلين الشابي(Chabbi Jacqueline)، أما البواقون فيُكرِّرون أنفسهم في حركة رتيبة لا إبداع فيها ولا تجديد مع تراجعٍ حادٍ في عدد الدراسات، وتدهورٍ ملحوظٍ في المؤسسات العلمية والكراسي الجامعية والمجلات الخاصة بالدراسات العربية والإسلامية في البلدان الغربية، وتوقف كامل للمؤتمرات العلمية ،الاستشراقية، وتراجع في مستوى اكتساب اللغة العربية. ويقترن بهذا الانحسار الكبير لموجة الاستشراق إعادة توزيع الدراسات الإسلامية على ميادين وتخصصات دراسية فرعية مثل العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية، ومع هذا التوزيع الجديد يتبين أن ميدان الاستشراق بدأ يتعرض للتهشيش المتدرج، وأن هشاشته آخذةٌ إياه إلى الانفراط كميدان مستقل، وإلى نجاح تلك الميادين والتخصصات التي تتناهبه في وراثته(2).

ص: 434


1- عبد الله محمد مرجع سابق، ص: 33+34.
2- عبد الإله بلقزيز، سمات الدراسات الاستشراقية وخطوطه المتوازية ، مجلة النهضة، 2015. http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?Type=NPArticleID=674122.

ويرى بلقزيز أن الدراسات التي تصدر عن الإسلام والحركات الإسلامية في هذه الأيام، بل منذ الثورة الإيرانية في سنة 1979 هي في معظمها تجري في نطاق مراكز أبحاثٍ أو معاهد تابعة لوزارات الخارجية والدفاع والاستخبارات في دول أوروبا وفي الولايات المتحدة، أو ممولة من هذه المراكز أو من وكالات أخرى مثل الوكالة الدولية للتنمية (AID Agency for International Development) وهي لهذه الأسباب، موجهة وتضمر اغتراضاً سياسياً ولا توجد من ورائها جدوى علمية. أما الباحثون الذين يعِدُّون دراساتهم، في نطاق هذه ال-«أجندة» الغربية الرسمية، فلم يعودوا باحثين بالمعنى الأكاديمي بل تحولوا إلى «خبراء» في الإسلام والحركات الإسلامية وبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يؤدون سخرة سياسية الحكوماتهم باسم «علم» في غاية الضحالة، ولقد استدرج إلى الفخ مستشرقون مرموقون (سابقاً) من طراز برنارد لويس الذي ارتضى أن يكون لساناً ألسنة المحافظين الجدد إن ما يقوم به الجيل الجديد من الباحثين»/ «الخبراء»، في ميدان دراسات الإسلام، يشبه أن يكون نظيراً لما يكتبه «خبراء» الغرب و«العالم الثالث» في دراساتهم المكتوبة لمصلحة البنك الدولي (World Bank)، وصندوق النقد الدولي (International Monetary Fund)، وبعض المنظمات الفرعية التابعة للأمم المتحدة (United Nations) من تقاريرٍ لا قيمة علمية فيها(1).

ص: 435


1- عبد الإله بلقزيز، مرجع سابق.
الخلاصة والاستنتاجات

تلتقي الصهيونية مع الاستشراق في الجذور الفكرية، فهنالك قاسم فكري مشترك بينهما قائم على النظرة الاستعلائية العنصرية مع إدعاء النقاء والتفوق، وبالتالي فإن الإيديولوجيا الاستعمارية الغربية المبنية على مفاهيم الاستشراق تعدُّ أحد أهم المصادر للإيديولوجيا الصهيونية.

تبنّى كل من الاستشراق والصهيونية النظرة نفسها للشرقيين، وهي رؤيةً مبنيةٌ على تعزيز الفرق بين (أوروبا أو الغرب أو نحن) الأذكياء /الموضوعيين/ العقلانيين؛ وبين (الشرق أو هم) الأغبياء غير العقلانيين/ الفاسدين/ غير الموضوعيين، وذلك بهدف التمهيد للاستعمار الغربي والصهيوني، وإقناع الجمهور «الغربي» بتقبل فكرة السيطرة على شعب آخر «الشرقي» بل وممارسة العنف ضده، وهذا لن يحصل بدون نزع صفة الإنسانية عن «الآخر» من خلال وصمه بصفات التخلف وتشبيهه بالحيوانات، بحيث يكون هنالك «نحن» المتحضرون الأذكياء المتفوقون في مقابل «هم» المتخلّفون الأغبياء المنحطّون، الذين لا يستحقون الحياة ولا حتى الشفقة عند قتلهم.

مهّدت أعمال بعض المستشرقين الطريق أمام الحملات الاستعمارية الأوروبية بل عمل بعضهم بشكل مباشر في خدمة الاستعمار فهيَّأ الاستشراق من خلال «المعرفة» كل الشروط لترجمة القوة وفرض سيطرةٍ استعماريةٍ على فلسطين، كما عملت عدة جمعيات استشراقية على تسهيل مهمة الاستيطان الصهيوني في فلسطين؛ من أهمها صندوق الاكتشاف الفلسطيني.

التقى الدافع الديني للاستشراق مع الطموحات الصهيونية، وحصل انسجام كبير بین أهداف الاستشراق الدينية والصهيونية، ترافق ذلك مع ظهور معاداة السامية في الغرب ومن ثم كان الحل الصهيوني المقترح للمسألة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من العملية الاستعمارية الغربية.

ص: 436

حرص المستشرقون ومن خلفهم الاستعمار على إحياء فكرة «الشعب اليهودي» وعملوا على حثّ اليهود لاستعادة «أرض الميعاد»، بدأ ذلك بشكل عمليٍّ بنابليون بونابرت وتعمق بأعمال المستشرقين الهادفة لإثبات الحق التاريخي لليهود في ،فلسطين، ترافق ذلك مع إنكار المستشرقين لوجود شعب فلسطيني، وإصرارهم على أن التسمية التاريخية لفلسطين هي «أرض إسرائيل».

تقاطعت مصلحة الاستعمار مع الصهيونية سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فتحولت «إسرائيل» إلى أداةٍ استعماريةٍ لحماية المصالح الغربية، وتطورت لتصبح قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في آسيا تمنع أي حركة تحرر وطني تهدف للتخلص من الهيمنة الغربية.

تطورت ظاهرة الاستشراق وتحولت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا، حيث تشترك ظاهرة الإسلاموفوبيا مع الاستشراق في الطروحات نفسها. ظاهرة الإسلاموفوبيا تعززت بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لتصبح بمنزلة صناعةٍ يشرف عليها الصهاينة في الغرب؛ هدفها تعزيز المخاوف من العرب والمسلمين والحؤول دون قيام أيّ نظامٍ ديموقراطيٍّ في الدول العربية، والعمل على نزع الشرعية عن المقاومة الفلسطينية من خلال وصمها ب-«الإرهاب».

يمكننا وصف العلاقة بين الصهيونية والاستشراق بأنها أشبه بالعلاقة الطفيلية، بمعنى أن الصهيونية تغذت على المفاهيم الاستشراقية وتبنَّت النظرة الاستشراقية للعرب ما انعكس على سلوكها الاستعماري العنيف. أما علاقة الصهيونية بظاهرة الإسلاموفوبيا فهي قائمةٌ على استغلال مشاعر الخوف لدى الغربيين من الإسلام، فقامت بتغذية هذه المشاعر وتنميتها، بمعنى أن الصهيونية تغذت على المفاهيم الاستشراقية وقامت في ما بعد بدورها بتغذية ظاهرة الإسلاموفوبيا. بينما يمكننا وصف العلاقة بين

ص: 437

الاستشراق والإسلاموفوبيا بعلاقة تطور حيث تطورت ظاهرة الاستشراق بعد استنفاد أغراضها لتتحول إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا.

نستنتج من خلال استعراضنا لظاهرة الاستشراق وتحولها إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا؛ بأن هنالك ما يشبه الخط غير الظاهر الذي يربط بين أعمال المستشرقين و«الخبراء» ومحاولة إثبات الحق التاريخي للصهاينة في فلسطين بحيث يُعَدُّ أيّ شكل من أشكال «الرفض» لهذا «الحق» «إرهاباً»، وهذا سيقود بالضرورة إلى تصوير الصراع بین الفلسطينيين والإسرائيليين كصراع بين قوميتين متصارعتين على أرض فلسطين لهما الحقوق نفسها القومية الفلسطينية و«القومية اليهودية»، وذلك بهدف التعمية على حقيقة المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين، وحقيقة أن الصراع هو بين مستعمر محتل وسكان أصلانيين.

ص: 438

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح ،والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض . تعريفاته وشروحه وتأويلاته تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن

يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب

التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين :

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المرة الختامي للدراسات الشر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 439

المجلد 2

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الثاني

نحن وأزمنة الاستعمار

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018 م

ص: 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر. - الطبعة الأولى.- بيروت [لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1439 ه- - 2018.

4 مجلد : ايضاحيات ؛ 24 سم يتضمن ارجاعات ببليوجرافیة.

ISBN: 978-9922-604-11-4

1. ما بعد الاستعمارية .2 الاستعمار. 3. الامبريالية. 4. العراق- الاستعمار. الف. حيدر، محمود، محرر ومقدم. ب. العنوان.

JV51.N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز : لماذا هذه السلسلة؟ ... 6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر ... 9

الفصل الثالث : الاستعمار الجديد

الاستعمارية والاستعمارية الجديدة

كوفي أنكوما ... 20

آليات الاستعمارية الجديدة

ديانا حاج ... 26

الهوية الوطنية للأمة بين التأصيل والهيمنة

نبيل علي صالح ... 66

طبخة الاستعمار الحديث

محمود بري ... 89

ظاهرة الاستعمار الجديد

زبير عباس ... 105

دور الحرب الناعمة في مخططات الغرب في استعمار العالم الإسلامي

جاسم يونس الحريري ... 122

الاستشراق والتبشير

الدكتور عبد العالي احمامو ... 146

ص: 4

الفصل الرابع: الاستعمار المعرفي

المثقَّف المستعمَر وما بعد المستعمر

يوسف جيرار ... 172

الإمبريالية الأكاديمية

ج. ك. راجو ... 209

الاستظهار الثقافي للاستعمار الاستيطاني

أمين دراوشة ... 254

علم الاجتماع الاستعماري

رامون ڠروسفوڠيل ... 283

إمبريالية الفن السابع

حيدر محمد الكعبي ... 300

في مواجهة التغريب الفكري

عماد عبد الرازق ... 321

الاستعمار التطبيعي

داري آرووُلو ... 340

التعليم وترسيخ الاحتلال الإنجليزي لمصر 1882-1952

عماد الدين عشماوي ... 356

التعليم في عهد الاستعمار وأثره في صناعة النخب

طارق الفاطمي ... 380

الإمبريالية السياحية

د. عادل الوشّاني ... 402

ص: 5

مقدمة المركز: لماذا هذه السلسلة؟

لماذا هذه السلسلة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن، مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولّى وانقضى .. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة.. ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس.صحيح أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت، لكن هذا الانتداب يعود ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد، متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

٭٭٭

ص: 6

في مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماضٍ يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّه مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمِر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعة معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلّب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة، والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرقيّ والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية. تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب وتنمية وعيه الثقافي ولاسيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما نذمّ الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط.

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر – 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه-

ص: 8

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

اشارة

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر

محمود حیدر (1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمْ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغلٍ بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميَّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضادّاً للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه، وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةٍ تمكِّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب.

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَيْن متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة، أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة ال «المابعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه، أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءِ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «المابعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه «الما بعديات» ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، أو «نهاية التاريخ»، «ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الإيديولوجيا» .. وأخيراً وليس آخراً ما «بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمةٍ تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثِ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات، ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً في مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياق تنظيريٍّ بدأت مقدماته مع نقد مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصر التنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُّبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

٭٭٭

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضِية: إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعماريةً إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [«الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما:

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاجٍ يعبّر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

أما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعٍ آخَر من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو - إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً تستدعي تحليلاً من

ص: 11

نوعٍ جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي، انتهاء الخطاب المتصل به، وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضِية «المابعدية» لا مبرر لها.

٭٭٭

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها. ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطّر عليها .

من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين، يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري.

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً: نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه. هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة: "اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها". وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعيٍ. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المهَيْمَنُ عليه غافلاً عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ «المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها. عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهمٍ إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال».. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهطٌ من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بيّنةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية: لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطِّرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً لمزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتِ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أمْيَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنيّ:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية. في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدِ لحل مشكلات العالم، تتجرد الذات الإنسانية من كلِّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض. ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر «عقلانيّاً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة «الحروب العادلة» التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم الى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقِّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس، والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه. المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَيْن، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقيّاً وروحيّاً)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائقَ واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً: إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسببٍ من عقلانيتها البتراء. حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل، ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييبٍ لأحكام العقل وقوانينه، كأنَّما انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

٭٭٭

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوَّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ. زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوىً متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية. المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هي التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازمِه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقَّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فظّةٍ تسوِّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنَّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من «الميديا البصرية والسمعية» - أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله، كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي «لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء».

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدَّ «الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري. المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات ثَبُتَ بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيّةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف. فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية، ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

٭٭٭

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل الثالث : الاستعمار الجديد

اشارة

الاستعمار الجديد

ص: 19

الاستعمارية والاستعمارية الجديدة

اشارة

قراءة معاصرة لأطروحات سارتر بشأن الاستعمار

كوفي أنكوما

کوفی أنکوما (1)

حين صدر كتاب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» أول مرة قبل بضعة عقود، هبَّت عواصف ثقافية تجاوزت النطاق الأوروبي إلى سائر بلدان العالم في ذلك الوقت. فهذا الكتاب الذي دوَّنه فيلسوف الوجودية في زحمة الجدل الفلسفي كان له أثر سياسي وايديولوجي واسع داخل البيئة اليسارية العلامية في حين كانت ردود التيارات اليمينية المحافظة شديدة القسوة.

في ما يلي إعادة قراءة للكتاب في ضوء التحولات المعاصرة التي عصفت بالعالم، حيث يتبين لنا القيمة المميزة لتوجهات سارتر حيال الاستعمار بأشكاله وتنوعاته وتقنيات سيطرته في زمن ما بعد الحداثة.

ص: 20


1- كاتب أفريقي. مراجعة كتاب «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة لجان بول سارتر (مدخل كتبه روبرت يونج، ومقدمة كتبها عزالدين حدور، وترجمة - من الفرنسية إلى الانجليزية - عزالدين حدور، ستيف بريور وتاري ماك ويليامز) دار نشر روتلدج: نيويورك، لندن. 2001. الصفحات: xxiv + 200 Colonialism and Neocolonialism by Jean-Paul Sartre (With a Preface by Robert J. C. Young and Introduction by Azzedine Haddour; Translated by Azzedine Haddour, Steve Brewer and Terry McWilliams) New York London: Routledge, 2001 . Pp . xxiv + 200 . :ترجمة: بهاء درويش. مراجعة: كريم عبد الرحمن.

أضحى الحديث في الآونة الأخيرة عن «حقوق الإنسان» من حيث كونه أساس التعاون الدولي هو الحديث المتداول والمقبول. فمن أماكن الحماية التي تنطلق منها عملياتهم، يُعَدُّ موظفو وكالات التبرع «حقوق الإنسان» المعيار الأكثر أهمية في تقييم مدى استحقاق المستفيدين المقترح مساعدتهم، حتى في ظل أصعب الظروف مثل وجود أطفال تموت جوعاً وقرار سلبي يحرمهم ما يقتاتون به للاستمرار في الحياة. لقد وصل الأمر بالمرء إلى درجة الشعور بأن «حقوق الإنسان» كانت ولا تزال أهم فكرة نشأت وطُبقت في تاريخ الفكر الغربي.

إلا أن الممارسات لا تدعم مثل هذا الزعم مع الأسف. لقد تم في ما مضى قص الحكاية ولكن يبدو أننا في حاجة لقصّها مرة أخرى. نحكي كيف عاش غالبية الناس في العالم في فقر غير محتمل وحرمان بعضه مطلق وبعضه نسبي. أضف إلى هذا أن غالبية شعوب العالم تعرضت تحت حكم الاستعمار لمعاملة غير آدمية في الوقت الذي كان فيه الناس في الغرب يتصرّفون على النحو الذي يبدو فيه كما لو أنهم لم يعرفوا مصطلح حقوق الإنسان من قبل. لقد قابل الاستعمار مقاومة الظلم بظلم إضافي وأخذت شعوب العالم على عاتقها مسؤولية مقاومة الظلم بكل الوسائل المتاحة لهم. أدركت الشعوب أنها مالم تحارب لتحرير أنفسها من الظلم الشديد، لن يتمكن أي مقال عن ظلم الإنسان للإنسان من نزع سلاح المستعمِر. وعلى الرغم من أن هذا الإدراك جاء متأخراً إلا أن شعوب العالم أدركت أن الطريق للتحرير يكمن فيها هي ذاتها وليس فى غيرها.

مازالت نظرية وممارسة «التمييز العنصري» - النموذج الممثِّل للاستعمار - حية في الذاكرة، تلك التي أسماها رُعاتها «التطور المنفصل» والتي بواسطتها قامت قلة من الأوروبيين باستعباد أربعة عشر مليون شخص من أفريقيا أو ذوي أصول آسيوية أو الدم المختلط دون أي حقوق سياسية. لقد سعی التمييز العنصري لمنع قيام أي وعي وطني بين الشعوب. هذا النظام غير الآدمي حصر خمس وسبعين في المائة من الشعب في قطاعات الحكم الذاتي Bantustans في قطعة من الأرض لا تتجاوز

ص: 21

مساحتها إثنا عشر في المائة من مساحة أرض الوطن ودون أي حقوق ملكية لهم، بينما منحوا ست وثمانين في المائة من الأرض لذوي الأصول الأوروبية. لقد عاشت هذه الشعوب لسنوات طويلة وداخل بلادهم التي ولدوا فيها ممنوعين من إمكانية التصويت أو عقد الاجتماعات العامة أو الانضمام لأية اتحادات تجارية (trade unions). وكان على أبناء هذه الشعوب حمل بطاقات مرور تحدد هويتهم وذلك إذا ما رغبوا في التجوال حتى داخل الأرض المخصصة لهم (قطاع الحكم الذاتي)، وكان عدم وجود مثل هذه البطاقات مبرراً لإلقاء القبض عليهم وما قد يستتبعه من تعذيبهم. لقد كان هذا هو الظلم بامتياز.

باختصار فإن أساس الاستعمار هو التمييز العنصري - رغم أنه أساس اقتصادي وهو ما تصفه إلين ما يكسنز (Ellen Meikins) في كتابها «إمبراطورية رأس المال» (Empire of Capital) بأنه «الوسيلة التي انتقلت بها الثروة إلى السيد»: تمييز عنصري يتجلّى في أوجه كثيرة - يُقوي بعضها بعضاً - للسياسة والمجتمع. فهو يتغلغل في المؤسسات الاجتماعية، وأنماط الإنتاج والتبادل/ التوزيع. تظهر قوّته في طرق ووسائل استعباده لفكر الناس: المستعمرين والمستعمَر. فسوء استخدام حريات الإنسان مستشر والقمع منتشر. الفقر والجهل وما ينتج عنهما من تجريد للصفات الإنسانية هي تأثيرات الاستعمارية والتي لا يمكن توقع سوى ناتج واحد لها وهو المقاومة العنيفة. وعلى كل، فالاستعماريّة هي ذاتها العنف في الفكر وفي الفعل: تعذيب جسدي وذهني للمستعمَر. وإذا ما نتج عنها ناتج جيد فهو ناتج جاء بالمصادفة، أي غير مقصود. فكما قرر كل من سارتر وفانون (Fanon) ليس الاستعمار الفرنسي للجزائر استثناء من هذا. وعلى الرغم من أن الشعوب المستعمَرة كان لها حلفاء في الغرب يؤيدونها في مقاومتها لهذا الظلم، إلا أن القلة هم من اكتسب الشجاعة لمحاربة النظام الاستعماري بشكل صريح. يُعد جان بول سارتر أحد هذه الاستثناءات. فلقد ضحّى بحياته ليكتب ويتحدث ضد النظام الاستعماري في كل أشكاله وذلك على الرغم من التهديدات الكثيرة التي واجهها .

ص: 22

لقد كان كتاب سارتر «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» أسلوبه الذي اختار أن يبيّن به للفرنسيين أن ممارساتهم في المستعمرات التي يحتلّونها تبعد كثيراً عن معتقداتهم في «الحريّة والمساواة». هذا الكتاب هو الترجمة الفرنسية لكتاب سارتر «Vمواقف» (SituationsV) الذي أصدرته دار نشر (Gallimard) عام 1964. إنه تحليله النظري الذي كتبه كنقد تاريخي وردِّ فعل للظلم الاستعماري. لقد كُتبت معظم المقالات عن كفاح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي وأثناء هذه الفترة. هذا الكتاب شهادة حية من مفكر بارز وقف ضد الاحتلال ليس فقط بعقل تحليلي ولكن بقواعد أخلاقية تستحق الاتباع والسير على منوالها. يبيّن هذا الكتاب الصّلة القوية بين ما بعد الاستعمار وحركات ضد الاستعمار ومسائل العالم الثالث. هذا الكتاب تقييم جيد للاستعمارية الفرنسية. يتناول الظلم، كما يمثل جزءاً من انشغال سارتر بظاهرة التمييز العنصري، والتي ناقشها أول مرة في مقاله المعنون «ضد السامية واليهود Anti-Semite and Jew» وفي كتابه «أورفيوس الأسود Black Orpheus». بالنسبة لسارتر يعدّ الصراع لإنهاء الحكم الاستعماري واجباً أخلاقياً يمثل الفعل السياسي بالنسبة له شرطاً ضرورياً. فبدون هذه الثورة الثقافية لا يمكن الحصول على الحرية الفردية والتي يثمنها سارتر جداً ويدعمها بشدة. يبين هذا الكتاب «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» بجلاء النمو والتحول اللذين حدثا في فکر سارتر من الحرية الفردية إلى الفعل السياسي . فلقد أصبح سارتر بدءاً من 1948 أحد المفكرين الكبار المؤثرين الذين وقفوا ضد التمييز العنصري. فلقد أصبح سارتر من المهتمّين والمنشغلين بسياسة الصراعات ضد الاستعمارية وأحد المؤثرين الكبار الذين أثّروا في الناشطين والمفكرين الناطقين بالفرنسية أمثال ليوبولد سنجور (Leopold Senghor)، أليون ديوب (Alioune Diop)، الذي أنشأ مجلة.(Présence africaine) وفرانز فانون (Frantz Fanon) الذي كتب («جلد أسود وأقنعة بيضاء Black Skin White Masks)، استعمارية في طريقها للموت (Dying Colonialism)، بؤس الأرض (The Wretched of the Earth) و «نحو الثورات الأفريقية Towards the African Revolutions»). ثم ألبرت ميمي (Albert Memmi) مؤلف «المستعمر والمستعمَر The Colonizer and the Colonized»هذا بالإضافة إلى آخرين.

ص: 23

يتكون كتاب «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» من مدخل ممتاز كتبه روبرت يونج R. J. C. Young ومقدمة كتبها عز الدين حدور (Azzedine Haddour) بالإضافة إلى ثلاثة عشر مقالاً كتبها سارتر. نجد في هذا الكتاب بحث سارتر عن الاستعماريّة وميوله العاطفية تجاه نزع الاستعمار بشتى الوسائل، بما في ذلك العنف. يقدم سارتر في الكتاب رؤية موسّعة، مفصلة وعارفة بالسياسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر. هذه المقالات كانت قد نشرت من قبل إما كمقدمات لكتب (ثلاثة مقالات) أو كمقالات في جريدة (Les Temps Moderns) (خمسة مقالات) وخمسة مقالات أخرى في (L'Express). (وكانت المقدمة التي كتبها سارتر لكتاب «ميمي Memmi» قد نشرت من قبل كمراجعة في جريدة (Les Temps Moderns) ثم استخدمها كمدخل في طبعة لاحقة).

يبدأ كتاب سارتر «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» بالمقال «من صين واحدة لصين أخرى From One China to Another»، وهو المقال الذي كان مدخلاً لكتاب D'une Chine à l'autre الذي كتبه هنري كارتير بريسون Henri Cartier-Bresson بالاشتراك مع سارتر (طبعة باريس: روبرت دلبير Robert Delpire 1954). هذا المقال - في قدر منه- هو تطوّر لفكرته التي عرضها في مقاله الذي نشر عام 1946 تحت عنوان «تأملات في المسألة اليهودية» . 1946 ,Anti- Semite and Jew) Refléxions sur la Question Juive). لقد قدم سارتر حججاً قوية للتدليل على أن الممارسة والأيديولوجيا يخلقان أنماطاً وتمييزاً عنصريّاً. فكما يقول «يونج» في «المدخل» الذي كتبه (صفحة 11): يرى سارتر - بخلاف الرأي الشائع - أنه «ليست الشخصية اليهودية هي ما تؤدي إلى النزعة ضد اللاسامية... ولكن غير الساميين هم من يخلقون اليهود ... » . لهذا فإنه بالنسبة لأهل الصين، يبرهن سارتر على أهمية أن يفصل الناس أنفسهم من أجل أن يعطوا معنىً للواقعية. فنحن نصبح من نحن من خلال رفضنا العميق والجذري لما قاله الآخرون عنا. يؤكد سارتر على الأهمية القصوى للفرد واختياراته، ويدلل - تماشياً مع فكره في كتابه «الوجود والعدم Being and Nothingness» - على أن الإنسان مقدر له أن يكون حراً. لهذا يجب على الإنسان أن يختار ما يريد أن يكون وكيفيّة ذلك لأن الإنسان يحدد هويته بما يفعل وليس بما يكونه. فمن الضروري علينا أن ننزع الأقنعة التي نرتديها على أعيننا لكي نرى الواقع.

ص: 24

كان فانون، ميمي وسنجور قد ذهبوا - من قبل - إلى ما ذهب إليه سارتر فيما يتعلق بالاستعمارية. ولكن سارتر يتميز عنهم في أنه بذل مجهوداً أكبر في تحريك ضمائر رفقائه. لقد كتب في مقالته «الاستعمارية من حيث كونها نظاماً Colonialis as a System».

لدينا نحن أهل الأرض الأم فرنسا (Mainland) درس يمكن أن نخرج به من هذه الوقائع: الاستعمارية في طريقها إلى أن تدمر نفسها. ولكنها مازالت تفسد الجو المحيط. إنّها عارنا، إذ إنها تسخر من قوانيننا وتصيبنا بعدوى التمييز العنصري. فهي تجبر شبابنا على أن يحاربوا رغماً عنهم ويموتوا من أجل مبادىء النازيّة التي حاربناها من عشر سنوات. إنها تحاول أن تدافع عن نفسها من خلال إشاعة الفاشية أيضاً هنا في فرنسا. من هنا فإنّ دورنا أن نساعدها على الموت، ليس فقط في الجزائر ولكن أينما حلّت (ص 47).

هذا الشكل من أشكال التفكير هو ما جعل سارتر من فرنسا يدعم الجزائريين في نضالهم من أجل الحرية. فالحرية ضرورة أساسية في فكر سارتر. إذ إنه يراها الخاصيّة الرئيسية للإنسان. من هنا جاء تبريره لاستخدام العنف من أجل الحصول على الحرية والقضاء على الظلم الاجتماعي. بالنسبة لسارتر، تأتي السياسة أولاً - تتغلب على المقاومة، تقضي على الإطار، تُخضع وتُرهب من أجل الحصول على الحرية. ولن يتوقف نهب المواطنين إلا بعد حصولهم على الاستقلال. ولكن سارتر يحذر أيضاً من الاستعمارية الجديدة - أي النظام الذي وفقاً له يعمل النواب السود في الأراضي التي كانت محتلة من أجل صالح البيض الذين يمثلونهم في البلاد المستعمرة. يستخدم سارتر واقعة اغتيال باتريك لومومبا Patrice Lumumba دعماً لما يقول. يرى سارتر أنه على الفرنسيين أن يكونوا على وعي بالإرهاب، والعنف والظلم التي تفرزها الاستعمارية والاستعمارية الجديدة. وإذا كان سارتر مقنعاً في تحليله للطبيعة الظالمة والعنيفة للاستعمارية والاستعمارية الجديدة، فإن تأييده للعنف كرد على الاستعمار هو ما يمكن أن يزعج الكثيرين. فلقد قدم أناس أمثال غاندي، نكروماه، مارتن لوثر كنج، ألبرت لوثولي ونيلسون مانديلا أمثلة على أن المقاومة العنيفة لا تقل قوة كرد فعل.

ص: 25

آليات الاستعمارية الجديدة

اشارة

النفوذ الفرنسي والبريطاني الحالي في الكاميرون وغانا

ديانا حاج

دیانا حاج (1)

أصبح مفهوم الاستعمارية الجديدة على مدار الخمسين عاما المنصرمة موضوعًا محوريًا في نقاش السياسيين والنشطاء لتفسير التبعيات المتنامية للمستعمرات السابقة، ومن ثم لا يتفقون على معنى دقيق له وتطور قياسه، ويهدف هذا البحث إلى إثارة مفهوم الاستعمارية الجديدة لتقدير وجوده في بلد ما، وحتى نقوم بهذا فإننا نغطي الإطار المفهوم لمعيار النفوذ السياسي والمالي والعسكري للسلطة الاستعمارية السابقة على مستعمراتها السابقة، ونطبق هذا على حالتي الكاميرون وغانا، وتنتهي الورقة إلى أن هناك علاقة استعمارية جديدة تمارسها فرنسا مع الكاميرون في جميع المجالات، في حين تُبقي بريطانيا على النفوذ الاقتصادي بجانب السيطرة المالية الطفيفة على غانا، وهو اتجاه يحدد تعددية العلاقات وخصخصتها، ويعتبر هذا الإطار المفاهيمي عمليا معتدلا .

ص: 26


1- حصلت المؤلفة ديانا حاج على درجة البكالريوس في الترجمة، وأكملت مؤخرا دراستها للماجستير في العلاقات الدولية في معهد برشلونة للدراسات الدولية (IBEI)، وتعتمد هذه الورقة على أطروحتها للماجستير، الذي أشرف عليها أفائيل جراسا أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوتونوما في برشلونة the Universitat Autònoma de Barcelona، ارتحلت إلى أفريقيا وأمضت عاما في العمل على مشاريع التنمية في جنوب أفريقيا، وهي تتطلع الآن إلى تمديد خبرتها في مشاريع أميركا اللاتينية. - ورقة عمل بمعهد كاتالاه الدولي: 6/2011ICI . برشلونة ديسمبر 2011.

الكلمات المفتاحية: الإمبريالية، المستعمرات، التبعية السياسية، فرنسا، بريطانيا، الكاميرون، غانا.

حين حققت غالبية الدول الأفريقية استقلالها في الستينيات، وبدا مستقبل القارة مزدهرا على المدي الطويل، وتخلصت الدول المستقلة حديثا من الاحتياطات الضخمة من كل المواد الخام، وتطلع إلى أن تكون الظروف الطبيعية والجغرافية والسكان هي السيدة أخيراً، ولم يتحسن وضع القارة بعد مرور خمسين عاما رغم كل الجهود ، ولم تنجح المعونة الألمانية في تحقيق نتائج إيجابية على نطاق كبير (1965 ,Nkrumah)، وبدأ يتزايد عدد الكتاب والناشطين للتنديد بما أصبح معروفاً بالاستعمارية الجديدة في ولاية الرئيس الغاني الأول كوامي نكروما، ووجود النفوذ المستمر للقوى الاستعمارية السابقة، التي لا تزال قائمة بعد الاستقلال، وفي حالات عدة هو مسؤول عن الاستغلال المفرط للموارد الأفريقية، ويكبح سياسة الاستقلال السياسی (1985 ,Martin).

وقد وجد مفهوم الاستعمارية الجديدة من ذلك الحين اهتمامًا سياسيًا واسعًا، وهو يُثير عدة أشكال متباينة للتبعية والتدخل، ومع ذلك لم يُتفق على تعريفه ولاسيما قياسه الذي قد تطور، وغاية هذه الأطروحة هو استكشاف إمكانية تفعيل مفهوم الاستعمارية الجديدة أكاديمياً حتى يمكننا قياس وجوده في دول مختلفة بأزمنة متفاوتة، وتقوم الأطروحة على افتراض أنه من غير الممكن إبداع نموذج يسمح بقياس وجود الاستعمارية الجديدة في دولة بعينها بدرجة معقولة.

وسوف تتضمن منهجية التحليل تأسيس إطار مفاهيمي بمعايير إذا تحققت سوف تقيد استقلال الدولة في البعد الاقتصادي والسياسي إلى حد كبير، وتطبيقه على دراستي حالة، وهذا لتحليل ومقارنة الحالتين بالنظر إلى تبعيتها الاقتصادية والسياسية والمالية والعسكرية الحالية، فضلا عن تقييم فاعلية الإطار.

وسوف يركز التحليل على نفوذ القوى الاستعمارية الكبرى السابقة في أفريقيا،

ص: 27

أعني فرنسا وإنجلترا، وقد اختيرت حالتا غانا والكاميرون لاستقرارهما السياسي والاقتصادي مؤخراً، وتشابههما في الحجم والموقع والجغرافيا ووجود المواد الخام وزمن الاستقلال وحجم السكان والناتج المحلي الإجمالي للفرد، وعلاوة على ذلك تمثل غانا دراسة حالة مثيرة حيث إنها أول دولة أفريقية تحصل على استقلالها، وكان رئيسها الأول من الشخصيات البارزة التي أدانت الاستعمار الجديد، والكاميرون من بين الدول الفرانكوفونية التي تحتفظ بعلاقات حميمة مع فرنسا، وتمثل أيضاً مثالًا جيدا للتنافس الماضي بين فرنسا وبريطانيا في أفريقيا.

وسوف تركز الدراسة على الوجود الحالي للاستعمار الجديد، وهي تحلل الفترة من 2004 حتى 2011 التي توافق الفترات السياسية الماضية والحالية في غانا (فترة أربعة سنوات)، والفترة الحالية في الكاميرون (فترة سبعة سنوات).

وسوف تقدم الأطروحة أولاً إطاراً نظرياً مختصراً تستعرض فيه المعنى الرئيس وتطور مفهوم الاستعمار الجديد، وتضع الإطار المفاهيمي الذي سيعمل على تحليل الحالتين، ويعرض الفصل الثاني خلفية تاريخية موجزة لماضي الدولتين، والجزء الثالث تطبيق للإطار المفاهيمي لدراسة الحالتين، وهو يقدم تحليلا للممارسات الحالية للاستعمار الجديد في الكاميرون وغانا منذ 2004، وأخيرا يقارن الجزء الرابع الخطط الاستعمارية الجديدة لفرنسا وإنجلترا، ويقدم استنتاجات حول وظيفية الإطار المفاهيمي محل الدراسة.

الخلفية النظرية

وحتى نقدم مفهوم الاستعمارية الجديدة سوف نستعرض التصوّرات والتطوّرات باختصار، وبالتالي سوف يخدم الإطار المفاهيمي دراسة الحالتين اللتين أتعرض لهما.

1-1 مفهوم الاستعمار الجديد

رغم الاستعمال الغالب على مدار السنوات الخمسين المنصرمة، فليس هناك تعريف عام أو أصل واضح لمفهوم الاستعمار الجديد، وينسب بعض الكتاب

ص: 28

صکه لجان بول سارتر، وهو شخصية بارزة في الدوائر الناشطة ضد الاستعمارية الفرانكوفونية، وهو أول من استعمله في إحدى كتاباته (Sartre, 1964; Ardant, 1965).

ويرى البعض جذوره في اللينينية (Leninism) عندما استعمل لوصف الشكل الجديد للهيمنة الكائنة بعد الفترة الاستعمارية في الدول المستقلة(; Kabunda Badi,1991Crozier,1964) . ووفقا لهذا الفهم تعتمد اقتصاديات الرأسمالية الغربية كاملة على الموارد والقوى العاملة لمستعمراتها، ولهذا السبب هم في حاجة للاحتفاظ بتبعيتهم أثناء الاستقلال (1964 ,Crozier). والحقيقة أن فاسيلي فاجروشيف (Vasili Vajrushev) عرف الاستعمارية الجديدة بأنّها سياسة استعمارية تقوم بها القوى الإمبريالية بآليات جديدة خفية لتعزيز الرأسمالية وتعظيم النفع والإبقاء على النفوذ الاقتصادي والسياسي والإيدولوجي والعسكري للفترات الاستعمارية(Vajrushev, 1974).

وقد قدم التعريف الرسمي بإجماع كل الشعوب الأفريقية في قرار 1961 بشأن الاستعمارية الجديدة محدداً: بقاء النظام الاستعماري رغم الاعتراف الرسمي بالاستقلال السياسي في الدول الناشئة، التي أصبحت ضحايا للهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والوسائل التقنية بشكل غير مباشر (191.Martin, 1985 p).

ولم يحظ هذا الاصطلاح باهتمام دولي مع نشر كوامي نكروما كتابه عن الاستعمار الجديد، الذي ندد فيه أولاً بوجود تبعية للدول المستقلة حديثا. ويرى نكروما أن ماهية الاستعمارية الجديدة متضمنة في الدولة المستقلة رسميا ولها سيادة، في حين يُدار تخطيطها السياسي والاقتصادي من الخارج (1965 ,Nkrumah). وقد يُنظر إلى الاستعمارية الجديدة في الفهم اللينيني على أنها شكل من أشكال الاستعمار، الذي يفيد من ضعف الدول المستقلة حديثاً ليحقق منافع اقتصادية وسياسية وثقافية (1965 ,Ardant)، عن طريق التخلي عن السلطة للنخب السياسية الموالية(Martin, 1985). وتتشابه الغاية كما هي في الاستعمار للحفاظ على المستعمرات السابقة في

ص: 29

وضعية التابع التي تسمح بالاستغلال الاقتصادي (Kabunda Badi,1991; Ardant,1965).

وأليات التغيير التي تُطبق لضمان التبعية خفية ومتعددة وتختلف وفقاً لحالة وفهم ماهية الاستعمارية الجديدة (Ardan, 1965). وترى الباحثة أن آليات الاستعمارية الجديدة يمكن أن تتضمن السيطرة على السلع الأولية والبضائع المصنعة الذي ينتجها السيد الاستعماري الجديد، والالتزام بشراء كميات بعينها للمنتجات المصنعة وغير التنافسية من السيد المستعمر السابق في مقابل بيع كمية محددة للمواد الخام، واحتكار الحاضرة نقل البضائع، ومشروطية المعونة التي تدعم المصالح التجارية للدولة المانحة (مثل تخفيض الجمارك التجارية، والإلتزام باستعمال جزء من المعونة لشراء البضائع من شركات الدولة المانحة)، ومراقبة رأس المال بفرض أسعار صرف العملات الأجنبية والنظم المصرفية، وفرض الحق للتأثير على القرارات المالية الداخلية، والنفوذ الأجنبي لصناعة السياسات من خلال رشوة الإدارات المحلية أو الدفع بالموظفين المعنيّين في المناصب العليا، والمعاونة في الانقلابات السياسية، ووجود وتدخلات عسكرية السيد المستعمر الجديد (1974,Nkrumah,1965; Vajrushev)، واتفاقيات الدفاع، والدعم المالي للحكومات الموالية والمساعدات التقنية وإلخ (1964 ,Crozier).

ووفقا لأراء كثير من المفكرين تظهر الاستعمارية الجديدة في النفوذ الثقافي والتعليمي من خلال تدريب المعلمين الخبراء والسفراء الثقافيين(Nkrumah,1965)، وكذلك تعليم النخبة الأفارقة في الحاضرة الاستعمارية السابقة التي تشجع على تبني القيم الغربية وأنماط فكرها (1991 ,Kabunda Badi). وفي هذا الإطار تعتمد الاستعمارية الجديدة على نفس عبادة التقدم الذي حدد بالفعل التفاعلات أثناء الاستعمار، وعلاوة على ذلك توفر عقدة النقص عند كثير من الأفارقة أثناء فترة الاستعمار، وكذلك الإقتناع المتفشي بتبعية الحاضرة الأفريقية بمستعمرها السابق أساسا مهما لهيمنة الاستعماري الجديد (1985 ,Martin).

وإن منهج الاستعماري الجديد الأقل مباشرة والأقل وضوحًا يجعل الاستعمارية

ص: 30

الجديدة أعظم خطرًا من الاستعمار حيث يضمن القوة دون حاجة إلى تبرير للسيد، واستغلال دون حماية للدولة التي تخضع له. ويواجه المنهج الاستعماري الجديد المسائل الاجتماعية في المستعمرات السابقة لأن الحكام يستمدون سلطتهم من السيد المستعمر الجديد بدلا من شعوبهم التي تختزل ميلهم إلى تعزيز التعليمِ وحقوق العاملين أو أي شيء من شأنه أن يتحدى هيمنة السيد المستعمر الجديد (Nkrumah, 1965).

ويرى بعض الناس أن الدول المستعمرة كانت مصممة بالفعل في عملية إنهاء الاستعمار على ديمومة تبعية الدول الأفريقية لها بعد استقلالها (1985 ,Martin). وهي تقيم امتيازات عدة تنتهك سيادة الدول الأفريقية من ناحية، وتدمجهم في تكتلات اقتصادية مثل منطقة الفرنك الفرنسية أو منطقة الأسترليني البريطانية (Crozier, 1964). وتتضمن الامتيازات التي تقيمها حفظ القواعد العسكرية والشرطية، والتنازل عن الأراضي، واستحقاقات المواد الخام، والحق في تنفيذ الإدارة، واستثناء بعض الشركات متعددة الجنسيات من الضرائب... إلخ (1965 ,Nkrumah).

ووفقاً لعدة مفكرين تتضمن استراتيجية المستعمر الجديد في غرب أفريقيا ما يسمى التقسيم إلى مناطق عدائية (balkanization) ويعني تفكيك الأقاليم المستعمرة سابقا إلى دول صغيرة غير قادرة على الحياة ولا التنمية المستقلة(Nkrumah, 1965; Ardant, 1965; Amin, 1971 ;Martin, 1985)، وهذا التشظي إلى وحدات ضئيلة اقتصادياً ومنعزلة سياسياً يعوق تطوير الاقتصاد المحلي، وبالتالي يزيد الاعتماد على رأس المال الأجنبي، ويضعف موقف المساومة التجاري، ناهيك عن أنه يثير الصراعات الداخلية الذي تحتاج فيه إلى الدعم العسكري الأجنبي(Nkrumah, 1965; Amin, 1971).

وبالمثل في كثير من المستعمرات كان استغلال المستعمر مسؤولاً عن العجز المالي العام قبيل الاستقلال، وسببا للركود الاقتصادي والإدارة غير الفعالة والتي غالبا ما تكون إرثًا مباشرًا للفترة الاستعمارية (1971 ,Amin).

ص: 31

وقد طبق مفهوم الاستعمارية الجديدة في الأصل لوصف ممارسات الحكام الاستعماريين السالفين مثل فرنسا وإنجلترا (Ardant, 1965; Nkrumah, 1965)، وكان ضعيفا في وصف الهيمنة التي تمارسها قوى عظمى أخرى مثل الولايات المتحدة والصين والإتحاد السوفيتي، وقد يصنف الاستغلال الذي تمارسه الشركات متعددة الجنسية وبرامج التعاون التي تقدمها المنظمات الدولية على أنها استعمارية جديدة (Ardant, 1965; Kabunda Badi, 1991). وهذا الانتشار والتوسع ناهيك عن الإفراط في الاستخدام وسوئه مسئولا عن التجريد وضياع موثقية مفهوم الاستعمارية الجديدة التي اختبرت على مدار الخمسين عاما المنصرمة (1965 ,Ardant).

ومن الجدير أن نضع في أذهاننا أن الاستعمارية الجديدة لم تقتصر على ممارسة الإدانة فحسب التي يمكن تصنيفها بالفعل بل قد تكون أداة قوية للقادة الأفارقة لحشد وتوحيد شعوبهم بعد الاستقلال، وصرف التركيز على المشاكل الداخلية وتجاوز فشلها (1965 ,Ardant).

2-1 الإطار المفاهيمي

حيث إنه ليس هناك تعريف رسمي لمفهوم الاستعمارية الجديدة، ويتشعب المفكرون باختلافاتهم على الأليات التي تشكله، فسوف يستند التحليل لوجود الاستعمارية الحالية في الكاميرون وغانا على فهمنا، الذي لا يمثل سوي جوهر الآليات لهيمنة الاستعمارية الجديدة.

وكما يرى جاي مارتن (Guy Martin) أن الاستعمارية الجديدة هي نظام ناتج عن تحالف القوة الاستعمارية السابقة مع النخبة الحاكمة دون استعمار (excolony) بهدف الدفاع عن المصالح الاقتصادية، وعموما هي عائق للشعوب الأفريقية. وقد يبقى هذا التحالف بالوسائل العسكرية والمالية التي تُبقي الحكام الموالين وتعيد تعيينهم (1985 ,Martin).

وبناء على هذا الوصف يمكن أن تُعرف الاستعمارية الجديدة كنظام ثابت

ص: 32

للهيمنة والاستغلال المركب الذي يحافظ عليه الحاكم المستعمر السابق في الحاكم دون استعمار وفي الوسائل المالية والعسكرية التي تخدم سلطة القادة الموالين، وفرض سياسات تؤمن المنافع الاقتصادية والمالية للمستعمر السابق.

ووفقا لهذا التعريف قد وضعت أربعة معايير وطرق لتحليل الوجود الحالي للاستعمارية الجديدة في دراستي الحالة المختارتين، حيث تفترض الاستعمارية الجديدة دمج التبعية في معانٍ مختلفة، ولا يتحدد وجود الاستعمارية الجديدة إلا إذا توفرت ثلاثة معايير من المعايير الأربعة التالية:

النفوذ الاقتصادي

وجود اتفاق تجاري واحد على الأقل يُمدد أنماط التجارة الاستعمارية بالحفاظ على ما يلي:

تحديد أسعار الاستيراد والتصدير من جانب واحد فرنسا/ إنجلترا

تحديد كميات الاستيراد والتصدير من جانب واحد فرنسا/ إنجلترا

التجاوز الاحتكاري للشركات الفرنسية/ الإنجليزية

الاحتكار الفرنسي/ البريطاني للنقل

أو

توثيق حالة واحدة على الأقل للمعاملة الموالية لفرنسا/ بريطانيا مثل:

توفير ظروف أفضل للشركات الفرنسية / البريطانية أكثر من نظيرتها المحلية

مخالفات قانونية للشركة الفرنسية/ البريطانية دون ملاحقة قضائية

التدخل السياسي

دعم القائد السياسي من المؤسسات أو الشركات الفرنسية / البريطانية في

ص: 33

الانتخابات من خلال:

المجموعات المباشرة للحزب الفائز

التلاعب بأعداد السكان لصالح الحزب الفائز

التلاعب في الانتخابات ذاتها لصالح الحزب الفائز

أو

وجود حالة واحدة للتدخل المباشر الفرنسي/ البريطاني في السياسة الداخلية مثل:

رشوة الساسة المحليين لتؤدي سياسة موالية في اتخاذ القرار

وجود أشخاص فرنسيين / بريطانيين في وظائف اتخاذ القرار

الاعتماد المالي

وجود مراقبة مالية من خلال:

أسعار صرف تثبتها فرنسا/ بريطانيا

نفوذ فرنسي / بريطاني في السياسة المالية لمستعمرتها السابقة

احتياطات نقدية للمستعمرة السابقة تتحكم فيها فرنسا / بريطانيا

أو

حالات سوء استخدام معونة التطوير لأجل:

استثمار فرنسا/ بريطانيا في البنية العسكرية

استثمار شركات فرنسا/ بريطانيا في البنية التحتية

ص: 34

الوجود العسكري

وجود اتفاقیات دفاع بین فرنسا/ بريطانيا والمستعمرة السابقة لضمان الأمن لقادتها مقابل ظروف اقتصادية مناسبة مثل:

المنفذ الحصري أو المناسب للموارد

كمية ثابتة من السلع تستوردها الدولة الأفريقية

أو

حالات التدخلات العسكرية التي تنفذ بهدف:

احتواء الانتفاضات وحماية القيادة الحالية

الدفاع عن السكان الفرنسيين / البريطانيين قبل السكان المحليين

دعم الشركات الفرنسية/ البريطانية

وتهدف المعايير المحددة في الإطار المفاهيمي إلى تركيز صورة الاستعمارية الجديدة المباشرة والمتداخلة التي تمارسها من خلال القوى الاستعمارية السابقة، فهي تستثني ما يمكن فهمه على أنه إرث للنظام الاستعماري مثل عواقب تقسيم المنطقة والهيكل الاجتماعي والسياسي الموروث من الفترة الاستعمارية، ولا تضع في الاعتبار الممارسات الإمبريالية للشركات متعددة الجنسيات في حد ذاتها، وتفهمها على أنها طرف مؤسف للتفاعلات العامة بين الدول الصناعية والنامية، وكذلك ظاهرة جلوبالية ولا تعتبر استعمارية جديدة إن تكن مربوطة مباشرة بالمصالح السياسية للحاكم المستعمر السابق، وبالطريقة نفسها لم يُنظر في دراستي الحالة إلى دور المنظمات الدولية والعوائد الضريبية التي يمكن أن تدعم ممارسات الاستعمارية الجديدة، وبالمثل لا تعتبر المشروطية المرتبطة بالمعونة الثنائية أو متعددة الأطراف أداة للاستعمارية الجديدة، وقد يعتمد هذا على فهم المعونة موجهة بالمصالح في كل الحالات، وأنها جزء من علاقات أعم بين الدول الدائنة والمدينة.

ص: 35

ونظراً لضيق المساحة والوقت سوف يقدم التحليل الحد الأدني للحالات السياسية والاقتصادية والمالية الهامة أو النفوذ العسكري الذي يؤكد وجود الاستعمارية الجديدة، ولن نعتد بالتدخلات التي وقعت خلال فترة التحليل.

2. الخلفية التاريخية

إن الطريقة التي تفاعلت بها فرنسا مع الكاميرون وبريطانيا مع غانا في الماضي كان لها أثرها البالغ في الاستعمارية الجديدة في الوقت الحاضر، ولهذا السبب نقدم استعراضاً موجزاً لتاريخ الكاميرون وغانا المعاصر وتدخّل فرنسا وبريطانيا فيه.

1-2 فرنسا وغانا

كانت الكاميرون في الأصل مستعمرة ألمانية، واستولت عليها فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، وقد تأكد ضمها في معاهدة فرساي، حيث خصصت الأمم المتحدة ثلثي الأقاليم السابقة للإدارة الفرنسية، والمرتفعات الجنوبية – الغربية والشمال للحكم البريطاني. وحصلت الكاميرون الفرنسية على استقلالها بعد فترة من التمرد 1960، ولحقها الجنوب الكاميروني البريطاني في 1961 باستفتاء نظمته الأمم المتحدة، في حين اختار الشمال الكاميروني الانضمام إلى نيجريا(Nations, 2011 Encyclopedia Britannica, 2000; Somalipress, 2009; Encyclopedia of the Historyworld, 2000;). ورُبط التحول للاستقلال بتفاوض المعاهدات الثنائية مع فرنسا، وتحديد الدفاع وسياسة الخارجية والأمور الاقتصادية والمالية وكذلك المساعدات التقنية. ولم يتطلب التنازل فحسب تبني النموذج الدستوري الفرنسي للجمهورية الفرنسية الخامسة بل إضفاء الطابع المؤسسي السياسي والاقتصادي والمالي والتفوق الثقافي الفرنسي على الدولة الكاميرونية الجديدة (1985 ,Martin).

وأسس الرئيس الأول أحمدو أهيدجو (Ahmadou ahidjo) نظامًا سلطويًا قائماً على الحزب الواحد باقتصاد السوق الحر، الذي استولى عليه الرئيس الحالي بول بيا (Paul Biya). وعقدت الدولة أول انتخابات متعددة الأحزاب في 1992

ص: 36

مع المنتصر الفائز بول بيا بعد الضغط المتزايد على التعديلات الدستورية، وقد اتهم في انتخابه في 1992 وفي 1997 بالاحتيال على هيئات محلية ودولية عدة، وقد عانت الكاميرون في 1980 من أزمة اقتصادية طاحنة واجهها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ببرامج التكيف الهيكلي دون نجاح يُذكر (2000; Encyclopedia of the Nations, 2011, Historyworld).

ومَثّلت الكاميرون لفرنسا مصدرًا حيويًا للمواد الخام وخاصة البوكسيت والألمونيوم، فضلا عن كونها سوقاً مهماً للسلع المصنعة ومنفذا للاستثمار الرأسمالي (1985,Martin)، واستعملت الشركات الفرنسية وحدها حوالي 70 % من النفط المستخرج من الكاميرون وأنجولا والكونغو والجابون (1995 ,Martin)، وكما يذكر عدید من الكتاب والمنظمات غير الحكومية NGOs أن فرنسا حافظت على السيطرة القوية على الكاميرون التي كفل لها بيئة مناسبة ومستقرة للأعمال الفرنسية(Survie, 2009). والحقيقة اعتبرت الكاميرون مركزا لمصلحة فرنسا فى أفريقيا بجانب السنغال وساحل العاج والجابون. وقد ساعد ماضيها البريطاني إلى حد ما على زيادة التدخل الفرنسي في مناسبات عدة بغرض كبت توسع المصلحة البريطانية (1997 ,Schraeder).

واعتاد النفوذ الفرنسي أن يعمل على أساس شبكة ضيقة للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي مكنت من السيطرة غير المباشرة على النخبة المحليين والبيروقراطية. وانحصرت القرارات السياسية الكبرى المتعلقة بأفريقيا على الرئيس الفرنسي ومستشاره للشئون الأفريقية حصرا، وشملت لقاءات منتظمة مع القادة الأفارقة وتنظيم اجتماعات الفرانكو - أفريقيا (1997 ,Martin, 1985; Schraeder).

وضمنت اتفاقيات التعاون والدفاع الوصول الحصري أو المميز للمواد الخام، وتسهيل الحفاظ على العلاقات التجارية غير المتماثلة، والحقيقة اقتصر دور الكاميرون على توفير السلع الأولية في حين احتكرت الشركات الفرنسية أنشطة التجارة والتسويق والشحن، وأدى ذلك إلى إيجابية الميزان التجاري لفرنسا بإيجابية (Martin, 1985; Goldsborough, 1979).

ص: 37

وقد أنشئت منطقة الفرنك الفرنسي في 1947 وأسست الفرنك CFA كعملة عامة تتقاسمها دول غرب أفريقيا الفرانكفونية، وربطها بمعدل ثابت هو 1:5 للفرنك الفرنسي الواحد (1) (Schraeder, 1997; Goldsborough, 1979)، وكانت تعني المنطقة النقدية سيطرة فرنسا على إصدار العملة وكل النشاطات المالية وسياسات المالية، وكذلك إدارة الأرباح في الخزانة الفرنسية، مما جعل كل القررات تعتمد على قبول فرنسا (1965 ,Nkrumah). وبعد ضغط الدول الأفريقية من أجل مزيد من الاستقلالية النقدية أجبرت فرنسا على الاعتراف باصلاحات 1955 و1967 و1973، والتي قبلت فيها أن للآخرين الحق في تحويل النقد خارج المنطقة الفرانكفونية، وإمكانية اقتراض الأموال والاشتثمار خارج منطقة الفرانكو - أفريقيا CFA والمفوضية الأفريقية للمجلس التوجيهي (Mensah, 1979)، وخفضت قيمة العملة في عام 1994 استجابة للمبالغة في تقدير قيمة العملة وتهريبها عبر الحدود، ورغم أن تخفيض العملة كان قرارًا منطقيًا معقولاً إلا إن عواقبه كانت وخيمة على سكان منطقة الفرانكوفونية Martin, 1995) CFA).

وحافظت فرنسا بالقدر نفسه على وجودها العسكري بعد الاستقلال، ووضعت اتفاقيات للدفاع والمساعدة العسكرية تسمح بوجود عسكري بسيط، فضلا عن التدخلات الرسمية والسرية الصريحة، وتوفير السلاح والحماية من الانقلابات السياسية أو مؤازرتها (1972 ,Waulthier). وكان وجود القوات الفرنسية في الكاميرون محدوداً مقارنة بدول مثل الجابون أو السنغال أو ساحل العاج، ولم تُحدث أي تدخلات رسمية مباشرة (2006 ,Ministère de la Défense).

وشكل إضفاء الطابع المؤسساتي للروابط اللغوية والثقافية بمستعمراتها السابقة تحت مسمى «الفرانكوفونية» جزءاً مركزياً آخر للنفوذ الفرنسي، وعزز هضم الثقافة والأيدولوجيا الفرنسية عند النخبة المحليين (1985 ,Martin).

ص: 38


1- أعيد تقييمه جزئباً بعد عام 1947 بمعدل ثابت 100:1.

2-2 بريطانيا وغانا

كانت غانا ولمدة طويلة أغنى مستعمرة بريطانية، ويرجع هذا مبدئياً إلى استخراج معدن الذهب على نطاق واسع، وقد اختارت بريطانيا أن توافق على الاستقلال بسبب الدفع المتزايد لاستقلال غانا لتكون أول دولة أفريقية مستقلة في 1957، وقد كان هذا لتتجنب حرباً استعمارية قد تضر بمصالحها الاقتصادية (Nkrumah, 1965; Mongabay, 1994). وواصلت غانا بعد العام الأول من الاستقلال إتباع سياسة اقتصادية ليبرالية، ومن ثم أنشأت شركات محلية تنافس الشركات الأجنبية، وخاصة في تصدير الكاكاو والذهب والأخشاب التي تمثل أهم أسواق البلاد، ومع ذلك لم تنجز إلا قدرا بسيطًا من الوطنية، وواصلت الشركات الأجنبية الهيمنة، وزود النشاط الاقتصادي للدولة ليزيد العجز الوطني (Esseks, 1971; Amin, 1971).

ووضعت أول انتخابات ديموقراطية في 1961 كوامي نكروما في السلطة، التي تهدف سياستها إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي بعديد من التدخلات الحكومية (1994 ,Mongabay). وتمكنت غانا بتقييد الشركات الأجنبية والتوسع التدريجي للشركات الحكومية من تأميم فروع الاقتصاد المتعددة، وتعزيز التصنيع المحلي، ومضاعفة الإنتاج الصناعي في أربع أعوام، ومع ذلك ارتبط هذا التطور الإيجابي بالزيادة الضخمة في أعباء الديون والفساد، وفقدان الدعم السياسي بين نخبة التجارة المحلية، وعزلة المجتمع الدولي (Amin, 1971; Esseks, 1971). وأدى انخفاض مستوى المعيشة الناجم عن التضخم وتهاوي أسعار الكاكاو إلى الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1966، وأطاح بنكروما، وتميزت الفترة اللاحقة بالانقلابات المتكررة، وتحولات السلطة، والعودة إلى سياسات الليبرالية المؤيدة للغرب (1971 ,Amin).

وفي ظل حكومة رولينجز 1981 طبقت سياسات ليبرالية قوية وفقا لتوجهات برامج التكيف الهيكلي للبنك الدولي وحفْزِ الاستثمار الخاص والنمو الاقتصادي، التي عكست في الحقيقة الاتجاه النازل للإنتاج، ولم تتحسن المستويات المعيشية للناس، حيث جاءت البُنى الأساسية لتفيد الأغراض الصناعية في الأساس، وعززت

ص: 39

زيادة تصدير السلع الأولية (الكاكاو والذهب والأخشاب) أنماط التجارة الاستعمارية التي كبتت التصنيع والإنفاق الاجتماعي. وأعيد تشكيل دستور جديد عام 1992، وإجراء انتخابات سياسية ونظام لتعددية الأحزاب، وأسبغ هذا ثباتًا سياسيًا بعينه

(Mongabay, 1994).

وتمثل غانا لبريطانيا موردًا مهما للمواد الخام مثل الذهب والخشب والزيت والماس والمعادن الأخرى، وسوقا للسلع المصنعة ورأس المال. وتمثل بريطانيا لغانا أهم شريك تجاري (British High Commission, 2009)، وفي حين يُسوّق تجار المعادن من خلال شركات غانية مثل أنجاو جولد أشانتي أو شركة بريتش مينيرالز ماركيتينج إلا أن استغلال النفط يخضع برمته تقريباً إلى الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات (Kraus, 2002; Mongabay, 1994). وكانت إدارة التجارة والاستثمار البريطانية هي المسئول الرئيس عن تنسيق المصالح التجارية في غانا، وتقديم تقارير السوق والشركاء الفاعلين والاتصالات الشخصية، خاصة فيما تعلق بتجارة معدات الدفاع فائقة التقنية ومعدات الأمن والتدريب وبرامج الحاسوب وتكنولوجيا توليد الطاقة (2011 ,British High Commission).

وتمارس بريطانيا منذ استقلال غانا نفوذاً قويًا بالحضور القوي للشركات متعددة الجنسيات، ونظرا لتَضْمِيد الصناعات المحلية في السنوات الأولى في حكم نكروما كانت الدولة في موقف مقارنة أكبر نسبيًا مع هذه الشركات الأجنبية وكذلك الأفريقية الأخرى (1965 ,Nkrumah).

وتخرج غالبية صادرات المنجنيز والماس من خلال شركة غانا الوطنية للمنجنيز، وشركة الماس الغانية الموحدة، ويخضع جزءاً من النقل لسيطرة الخدمة البحرية الغانية، الذي يُوزع على ستة سفن شحن، ومن ثم فإن صادرات الأخشاب التي تمثل جزءاً كبيرا من الناتج المحلي الإجمالي GDP تتحكم فيها شركات أجنبية، ويكتنفها إهمال جم مثل التهريب والفساد والسرقة. وقد سيطرت شركات التعدين الأجنبية على تعدين الذهب على الغالب، وقد انخفض الاستغلال إلى حد كبير

ص: 40

في عهد نكروما، ولم ينظر في قانون التعدين والمعادن إلا في عام 1986 الذي زاد المخصصات المالية، وخفض الضرائب، سمح باستخدام الحسابات المصرفية الخارجية. واحتفظت الحكومة الغانية في الأيام الأخيرة بحوالي 25% من شركة أنجاوجولد أشانتي وهي أهم شركات التعدين (1994 ,Mongabay).

ومع أن غانا كانت مستقلة سياسياً إلى حد بعيد، وذلك لأنها من دول عدم الانحياز. وكان هناك شائعات أن الانقلاب العسكري كان مدعوماً من بريطانيا لكن لا يوجد أدلة على هذا (Mongabay, 1994). وعلاوة على ذلك حصلت غانا على استقلالها المالي في وقت مبكر حيث غادرت مجلس عملة غرب أفريقيا الذي كان جزءاً من منطقة الجنيه الأسترليني، وشيدت بنكها المركزي وعملتها فعليا عام 1957 (Mensah, 1979).

وحافظت بريطانيا على وجودها القوي في بريطانيا حتى عام 1971 باتفاقية خدمات التدريب المشترك، التي قدمت التدريب والاستشارة للجيش الغاني، وفي إطار ما قامت به غانا من تنويع مصادر مساعداتها العسكرية الخارجية بقيت بريطانيا واحدة من القوى الرئيسة (2011 ,Mongabay, 1994; British High Commission).

3-2 فرنسا وبريطانيا

عززت فرنسا وبريطانيا مزاحمتها على القارة الأفريقية منذ الفترات الاستعمارية، وواصلت الدولتان بعد استقلال مستعمراتها محاولتها لزيادة تأثيرهما بإنشاء مناطق نقدية واتفاقيات تجارية ودفاعية ومؤسسات مثل الفرانكوفونية والثروة المشتركة (2001 ,Diouf). وخصوصا أن فرنسا كانت تُغذي العداء تجاه بريطانيا، خوفا من تحول الدول الصغيرة الناطقة بالفرنسية إلى بريطانيا، والحقيقة أن فرنسا دعمت المرشحين الفرنسيين للرئاسة بانتظام لتضمن التفوق المستمر للغة والثقافة الفرنسية في الكاميرون (Waulthier, 1972). ومع ذلك انخفضت هذه المنافسة بشكل ملحوظ على مدى العقود الماضية وخاصة فيما يخص النفوذ السياسي (2001 ,Diouf).

ص: 41

3- الوجود الحالي للاستعمارية الجديدة

وسوف يطبق الإطار المفاهيمي للتحليل على الفترة من 2004 حتی 2011 بالنظر إلى العلاقات السابقة.

1-3 الكاميرون

ولتقديم أدلة حول وجود نفوذ مستمر للاستعمارية الجديدة الفرنسية في الكاميرون فقد تم تحليل قضايا الاستقلال الاقتصادي والتدخل السياسي والتبعية المالية والوجود العسكري وفقا للإطار المفاهيمي.

1-1-3 الاستقلال الاقتصادي

ديمومة الأنماط التجارية الاستعمارية: حيث تُعد فرنسا الشريك التجاري الأول بتبادل تجاري حوالي 680 مليون يورو في عام 2009، ومع ذلك الميزان التجاري بالنسبة للكاميرون سلبي بنسبة 597 مليون يورو للصادرات من فرنسا و 263 مليون یورو فقط للصادرات الكاميرونية (2011 ,France Diplomatie).

واتجهت عدة من الاتفاقيات التجارية بين فرنسا والكاميرون على مدار العقود الماضية إلى تزايد أطراف المشاركين مثل الاتفاقيات بين المجموعة الاقتصادية الأوربية ومجموعة دول أفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي، وآخرها اتفاق كوتونو لعام 2000، الذي يحافظ على دول أفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي في دور الموردين الأساسيين، وعلاوة على ذلك لا تزال الممارسات الاحتكارية التي زللها الثنائي القديم سارية، وعلى سبيل المثال احتكرت الشركة الفرنسية بولوره Polore نظام النقل الكاميروني وتحكمت في سكة حديد الكاميرون، والنقل في كل عربة، وأغلب ميناء دوالا (Douala) وكذلك الشحن إلى أوروبا (2009 ,Survey).

المعاملة المناسبة للشركات الفرنسية

هناك حالات لا حصر لها من المعاملة المناسبة للشركات الأجنبية وخاصة

ص: 42

الفرنسية، ولاسيما في ما يتعلق بعدم مقاضاة خروقها القانونية، وأكثرها أهمية لا شرعية استغلال الخشب، حيث تخضع ثلث مناطق قطع الخشب لسيطرة الشركات الفرنسية مثل ثانري وبولوري وكورون وروجير، وتتصرف وفقا للبنك الدولي وإدارة التنمية الدولية البريطانية كليا أو جزئيا بشكل غير قانوني ودون مقاضاة(Forest Watch, 2000; Transoarency International, 2003 Global). و لا يزال الفساد موجودا في الإدارة رغم التدخل في وزارة البيئة والغابات الكاميرونية، والشفافية في معالجة التنازلات ومتابعة الأفعال غير القانونية التي تتزايد (FAO, 2005) مما يؤدي إلى تقييد الوصول إلى الوثائق ذات الصلة وصعوبات المتابعة القانونية (Witness ,2003 Global). وبصرف النظر عن الآثار المدمرة على البيئة والمجتمعات المحلية يؤدي إفلات قطع الأشجار غير القانوني من العقاب إلى خسائر التهرب الضريبي التي تقدر حوالي 5 : 10 مليون دولار في السنة تقريبا (FAO, 2005).

ومن الأمثلة الأخرى على الانتهاكات القانونية بلا عواقب هو الاستيلاء على مزارع قصب السكر من خلال مصادرتها شركة سومديا متعددة الجنسيات من السكان المحليين (2011 ,Primo)، ونزاعات نزع الملكية وانتهاكات حقوق نزع الملكية المسجلة على مزارع بولوري سوكابالم (2011 ,Mujongue).

ويبدو أن شركات مثل بولوري وروجير وإلف Elf تَستعمل مرتزقة لشركة أفريقيا للأمن الكاميروني SARL التي ترد على احتجاجات العمال دوما بعنف دون أن تواجه عواقب قانونية (2011 ,Primo, 2011; Mujongue).

2-1-3 التدخل السياسي

دعم القائد السياسي: حيث فاز بول بايا بالانتخابات الرئاسية عام 2004 بنسبة 70،94 % من الأصوات (African Elections Database, 2011)، ووفقا لمصادر عدة موثوق منها كانت هناك خروق في العملية الانتخابية مثل الحد من تسجيل الناخبين، واستعمال الحبر الذي يمكن محوه (Observer Group, 2004; Cameroononline, 2011; Somalipress, 2009b Laurean, 2005; Commonwealth).

ص: 43

وكان الراعي الرئيس لحملة بايا في كل الانتخابات السابقة شركة النفط الفرنسية إلف أكيتين (Elf Aquitaine)، وفي بيان حول عملية فساد إلف أكد المدير السابق للشركة ما يلي:

«استقبلني في يوم من الأيام الرئيس بول بايا في مقر الرئاسة الكاميرونية، وكان يحتاج إلى 45 مليون دولار لحملته الانتخابية، وكنت معه بمفردي لأن هؤلاء الناس لا يثقون في أحد، وهم في حاجة إلى النقد للهروب من تحكمات وزير المالية، ولهذا السبب تقوم مجموعة شركة إلف بإنشاء شركات خارجية خارجة عن نطاق السيطرة، لأنها لا تتيقن من الاحتفاظ بها حتى من سيطرة السلطات المحلية [......](Survie, 2009 p.104).

ولا توجد أدلة على الممارسات التي استعملت في انتخابات 2004، ولا تزال الإيرادات النفطية غير مدرجة في الميزانية الوطنية والحسابات الخارجية التي تضعها شركة إلف، وعلاوة على ذلك صرح لويك فلوك الرئيس السابق لشركة إلف في بيان رسمي أنه دون دعم شركة إلف لبايا لن يكون في السلطة (The Frontier Telegraph, 2007).

التدخل في السياسة الداخلية: حيث وجود موظفين فرنسيين في مناصب صنع القرار في الإدارة الكاميرونية، وجميع المناصب العليا مثل سكرتير الرئاسة والأمين العام والأمين الشخصي لرئيس الدولة... إلخ الذي أعتيد أن يشغله الرجل الفرنسي من الفترة 1980 إلى 1990 ويشغله الآن الكاميرونيون (Martin, 1985; Republic of Cameroon, 2011).

ومع ذلك فإن الفساد هو المشكلة الرئيسة، ووفقا لمنظمة الشفافية الدولية ومؤشرات الحوكمة في البنك الدولي تعد الكاميرون من أكثر الدول فساداً مع ضعف المساءلة الحكومية وانخفاض احترام سيادة القانون، ويعترف 50% من الكاميرونيين بأنهم يدفعون رشاوٍ ، وهذا الموقف لسوء سلوك الشركات متعددة الجنسيات وضعف

ص: 44

معرفة حالات الرشوة (Governance Indicators, 2010; Somalipress, 2009bTransparency International, 2010; Worldwide).

3-1-3- التبعية المالية

السيطرة النقدية: حيث لا تزال تمارس فرنسا مراقبة نقدية واسعة المدى على مستعمراتها السابقة، فحين أُدخل اليورو في 1999 ربطته الفرانكو أفريكان CFA بالفرانك بمعدل صرف ثابت(Banque de France, a). ولا تزال فرنسا تحافظ على صناعة قرار منطقة CFA وتحتاج وفقاً لاتفاق المفوضية الأوروبية إلى مشورة المفوضية إلا في التحولات المعنية التي تؤثر على المنطقة اليورو (1998 ,Rat der Europäischen Union).

إن الاتفاقيات التي أقيمت مع الدول الأفريقية في منطقة الفرانكوفونية CFA بما فيها الكاميرون تمنح فرنسا تنافسية بعيدة المدى، والحقيقة أن كل القرارات المتعلقة بالسياسة النقدية لكل المنطقة لا تتم إلا بموافقة فرنسا (Banque de France, b; Banque de France, c).

ورغم أن المجلس الإداري للبنك المركزي للمنطقة الفرانكوفونية قد يتألف من أقلية فرنسيين، وأن القرارات المهمة تحتاج إلى موافقة بالإجماع فإن الأغلبية تعطي فرنسا حق الفيتو (2002 ,Nabakwe). وعلاوة على ذلك تُعين الاتفاقية شروطاً تصل إلى حد التدخل في السياسة المالية للدول، «سياسة مالية»(b; Banque de France, c Banque de France) . والأكثر من ذلك كما كان الأمر مع الفرنك الفرنسي فإن منطقة الفرانكوفونية لا يمكنها تحويل اليورو مباشرة إلا من خلال بنك فرنسا، وكذلك فرنك الفرانكوفونية لمنطقة غرب أفريقيا ومنطقة وسط أفريقيا لا يمكن أن تبدله مباشرة دون إذن من المصرف المركزي الفرنسي. وبالمثل تضطر كل دول الفرانكوفونية إلى إيداع 65% من احتياطاتها النقدية في الخزانة الفرنسية، مما یعني هروب رؤوس أموال ضخمة (2001 ,PNB Paribas).

سوء استعمال معونة التنمية حيث توجد هناك حالات عدة لسوء استعمال معونة

ص: 45

التنمية لأجل المصالح الاقتصادية الفرنسية، ووفقا لما يقوله سورفيه (Survie) أن تعود معظم المعونة الفرنسية إلى فرنسا على شكل مشتريات للبضائع الفرنسية وخدمات أو تقدم بنية تحتية تخدم في الأساس الشركات الفرنسية (2009 ,Survie). وقُدِّر معدل المرتجع من المعونة الرسمية بأكثر من 50% في السنوات السابقة (1985 ,Martin). والأرقام الحالية غير متاحة لأن المعونة على مدى العقود الماضية تعددت أطرافها وقنواتها من خلال المؤسسات الدولية المالية(Alliance Sud, 2011) (IFIs).

و من أكثر المشروعات المثيرة للجدل التي أنجزت في الكاميرون بتمويل جزئي من البنك الدولي هو خط أنابيب تشاد والكاميرون في 2003 - 2004، وكان المشروع مشتركا بين عدة شركات نفطية أجنبية بريادة شركة إكسون موبيل، وقد نُفّذ بفضل أموال البنك الدولي، رغم المناهضة الكبيرة من المجتمع المدني المحلي والمنظمات غير الحكومية المعنية، والحقيقة أن كثيراً من التجمعات المجتمعية المدنية دعت إلى وقف المشروع حتى تتعافى قدرة الحكومة وتُعزَّز المؤسسات الديمقراطية حتى يعود المشروع بالفائدة على كل السكان (SIPA; BIC, 2011).

4-1-3- الوجود العسكري

اتفاقيات الدفاع:

لا تتم التدخلات العسكرية الفرنسية إلا بناء على طلب من الحكومة الأفريقية وفقا للمبدأ الرسمي وفي إطار اتفاقية دفاع. ولهذا السبب تشكل الاتفاقيات محور العلاقات العسكرية الفرنسية مع مستعمراتها الأفريقية السابقة (1985 ,Martin). وقد تولدت اتفاقيات الدفاع عموما من الفترات الاستعمارية وتمثل اتفاقا بين فرنسا والحاكم الأفريقي حيث إنها تقدم الحماية العسكرية مقابل الحصول على المواد الخام، ولا يمكن الحصول على تفاصيلها (2010 ,Survie).

إن القرارات العسكرية التي تتعلق بأفريقيا يكون فيها القرار الوحيد للرئيس وفقاً للدستور الفرنسي دون الحاجة إلى موافقة البرلمان. وبدأ الرئيس الفرنسي ساركوزي عام 2008 إعادة التفاوض في ما يتعلق باتفاقيات الدفاع وإعادة صياغتها لتكون

ص: 46

اتفاقیات دفاع مشترك «accords de partenariat de défense» تلك الاتفاقية التي انتهت 2009 الكاميرون. وكان من المفترض أن تُنشر الاتفاقيات الجديدة، ولكنها ليست متاحة حتى الآن، ولهذا السبب قد شُكك في أن إعادة التفاوض ينطوي على نتيجة محددة ورمزية (2010 ,Survie).

ولا تتوافق واقع التدخلات مع الاتفاقيات على الغالب، إلا أن هناك حالات في الماضي للتدخلات دون اتفاقيات، فضلاً عن وجود تدخلات رغم وجود اتفاقيات. والحقيقة أن فرنسا لديها قوات انتشار سريع (FAR) قادرة على التدخل في كل البلاد الأفريقية في زمن يسير من قاعدة في فرنسا (1990 ,Martin, 1985; Grey)..

وفضلاً عن ذلك، توجد اتفاقيات عسكرية ثانوية عدة، وهي اتفاقيات من الصعوبة الوصول إليها، وتدعم العسكرية الفرنسية أو الشركات الفرنسية المرتزقة وجزء من القوات الكاميرونية مالياً (2010 ,Survie). وعلى سبيل المثال تمول شركة البترول توتال (Total) ماليًا ستة من أصل عشرة أقسام من البحرية الكاميرونية حتى تحصل على حماية لمنصاتها البترولية (Survie, 2009b).

التدخلات العسكرية:

تعتبر فرنسا الكاميرون شريكها الأول للتعاون العسكري في أفريقيا (France 2011 ,Diplomatie) حتى لو أقام خمسون جندياً فقط بشكل دائم مقارنة بألفين وتسعمائة جندي في جيبوتي (Deshayes, 2008). ويرجع ذلك لقوة العلاقات العسكرية التجارية على الأرجح، ويتجسد ذلك في الارتفاع الدائم في ميزانية الدفاع الكاميرونية (155.203 2008 Billion CFA in) وتوفير المواد العسكرية بواسطة شركات فرنسية (2009 ,Survie).

ومع ذلك، فإنه خلال الفترة التي شملها التحليل، لم يكن هناك تدخل عسكري فرنسي مباشر، والاحتجاجات التي حدثت في دوالا عام 2008 تجاه تدهور مستويات المعيشة والتغييرات الدستورية المرجوة للسماح بعدد غير محدود من الفترات الرئاسية، قمعها الجيش الكاميروني بعنف

ص: 47

وتسبب في مقتل أكثر من مائة وتسعة وثلاثين شخصاً، وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، ورغم ذلك لم يُسجل أي تدخل مباشر للعسكرية الفرنسية .(Essoh, 2009; Observatoire National des Droits de l'Homme, 2008)

النتيجة:

من الواضح فرنسا تحتفظ بنفوذ اقتصادي قوي على الكاميرون، من خلال الاتفاقيات الثنائية والاتفاقيات متعددة الأطراف التي تدعم أشكال التجارة الاستعمارية بتثبيط تنوع الصادرات وإعاقة التصنيع المناسب هذا من جانب، ومن خلال وجود شركات متعددة الجنسيات تقوض القدرة القضائية للدولة حتى تتمتع بمعاملة يسيرة في فترات عدة.

وهناك أيضاً، تدخل سياسي قوي في الفترة ما بين 2004 – 2011 يتضح من خلال الدعم المالي الذي قدّم لبول بايا وإبقائه في السلطة بعد حوالي ثلاثين عاماً من القيادة. ورغم ذلك قد انخفض النفوذ السياسي في فترة الثمانينيات والتسعينيات، حيث شغل المناصب الإدارية المهمة كلها الكاميرونيون إلى الآن، ومع ذلك يبدو أن الدرجة العالية من الفساد قد تفيد المصالح الفرنسية.

وربما يكون النفوذ المالي هو العامل الأول الذي يحدد تبعية الكاميرون لفرنسا. وتحجم الرقابة النقدية القوية استقلال السياسة المالية الكاميرونية وميزانيتها، ناهيك عن أن هناك حالات سوء استخدام لمعونة التنمية متعددة الأطراف لأغراض تخدم الشركات الفرنسية في الدولة.

وحتى لو لم يكن قد سُجلت تدخلات عسكرية مباشرة في فترة التحليل، فإن فرنسا تُبقي على سيطرتها القوية على الكاميرون، ولاسيما في الحفاظ على اتفاقيات الدفاع مع القيادة الكاميرونية، ومن ثم فإن فرنسا تقبض بوضوح على النفوذ الاقتصادي والتدخل السياسي والتبعية المالية والوجود العسكري، ولهذا السبب يمكن تصنيف علاقتها مع الكاميرون على أنها استعمارية جديدة وفقاً للمعايير المقررة.

ص: 48

2-3 غانا

كما حللنا العلاقة الجارية بين فرنسا والكاميرون سوف نطبق الإطار المفاهيمي على وجود بريطانيا في غانا.

1-2-3- التبعية الاقتصادية

استدامة الأنماط التجارية الاستعمارية : حيث تمثل غانا وبريطانيا جزءاً من اتفاق كوتونو (Cotonou) الذي يتبع اتفاقيتي ياوندي لعامي 1964 و1971 اللذين حددا أسعار وكميات تبادل المواد الخام والسلع المصنعة، واتفاقيات لومي 1975 و1979 و 1984 و 1989 الموقعة بين دول أفريقيا والكاريبي والباسيفيك ACP ومجموعة الدول الأوربية الاقتصادية Martin, 1984; Cortés, 1987; Diouf, 2001) EEC). وقد أدخلت اتفاقيات لومي آليات تأمين(Stabex and Sysmin) التي تحمي دول ACP من فقدان في الأوضاع الاقتصادية والبيئية الصعبة (1984 ,Martin). ورغم ذلك أسهمت الظروف المتباينة المتعلقة بالدعم المالي في استمرارية أنماط التجارة الاستعمارية إلى حد كبير التي تعيق التنوع وتحجم التصنيع ويكفل لها الحصول المستمر على السلع الأولية لدول المجموعة الاقتصادية الأوربية Cortés, 1987; Merinero, 2001) EEC). ومن المفترض أن يكون اتفاق كوتونو عام 2000 محل آليات Stabex and Sysmin بموجب اتفاقيات التبادل الحر. ومع ذلك لا يزال النظام التجاري غير المتكافئ قائماً، حيث تُسيطر مجلس المجموعة الأوربية الاقتصادية EEC على معظم عمليات اتخاذ القرار وتحتفظ بالحمية في بلدانها في حين تفتح أسواق دول Diouf, 2001) ACP)، وهناك احتكارية أخرى واضحة وهي حصول الشركات الأجنبية على الموارد، مع أن الشركات البريطانية لا تشكل إلا جزءا من الشركات الحالية (Mongabay, 1994)، وأما احتكار النقل تتصرف غانا في شركة شحن صغيرة بسفن حاوية (1994,Mongabay).

المعاملة المناسبة للشركات البريطانية: حيث سجلت حالات المعاملة المناسبة للشركات البريطانية خلال الفترة التي شملها التحليل ما يتعلق بوجود خروق قانونية دون

ص: 49

ملاحقة قانونية. وقد اتهمت مراراً شركة أنجلو جولد أشانتي (1) وهي من أكبر شركات التعدين في العالم بتلوث وتدمير الفضاء المعيشي في منجم أوبواسي (Obuasi). وأدى تلوث الماء والأرض المستمر إلى الأمراض وعدم حماية الغذاء، دون أن يُلاحق هذا بدعاوى قضائية أو تعويضات مناسبة للسكان المحليين (2006 ,ActionAid).

2-2-3 التدخل السياسي

دعم القائد السياسي: وفي الانتخابات الرئاسية عام 2004 أُعيد انتخاب ج. كوفور للمرة الثانية 52،45 % من مجموع الأصوات(Database, 2009 African Elections). وقد أعلن المجتمع الدولي وفريق رصد المجتمع الاقتصادي لغرب دول أفريقيا (ECOWAS) وائتلاف مراقبي الانتخابات المحلية والشعب الغاني أن الانتخابات والحملات الانتخابية كانت حرة ونزيهة (2005 ,Guri). وفي الانتخابات الرئاسية عام 2008 انتخب ج. عطا ميللز بنسبة 50،23 % في الجولة الثانية (2009,African Elections Database). ووفقاً لبعثة مراقبة الانتخابات التابعة للإتحاد الأوروبي ومركز كارتر، أن الانتخابات كانت مفتوحة وشفافة واحترمت التنافسية والحقوق الأساسية ووفت المعايير الدولية والإقليمية(EUEOM, 2009; The Carter Centre, 2011). ورغم هذا فإن وفق كوديو (CODEO) كان معدل الخروج محل تساؤل في ضوء الخروق التي تفشت والعنف أثناء تسجيل الناخبين وغياب التحقق المتعمق، ومع ذلك اعتبرت الأحكام القانونية والدستورية لمنع تصويت المجموعات العرقية غير كافية وكذلك اعتبار الإجراءات والمؤسسات غير الرسمية. ومن ثم لم يُصِر أيا من الأحزاب الكبرى على التحقق واعتبرت نتيجة الانتخابات والحملات صحيحة عموما (2009 ,Jockers).

التدخل في السياسة الداخلية: لا توجد حالات للتدخل المباشر، ولكن نظراً لارتفاع نسبة الفساد (بمعدل 37% وفقا لتقرير منظمة الشفافية عام 2009) لا يمكن استبعاد رشوة السياسيين المحليين، وبالنسبة لشغل الوظائف الإدارية العليا يبدو أنها مشغولة بالمحليين (GIMPA, 2011).

ص: 50


1- شركة أنجلو جولد أشانتي تابعة لجنوب أفريقيا وفرع الشركة أنجلو أمريكان التي مقرها لندن.

3-2-3 التبعية المالية

السيطرة النقدية: لا توجد مراقبة نقدية لغانا من جانب بريطانيا، حيث أنشأت غانا بنوكها وصكت عملتها مبكراً وكانت مرتبطة بالجنيه الاسترلينيي حتى عام 1961 وبالدولار الأميركي حتى 1986، واستقلت العملة منذ ذاك الوقت، وتمتلك الدولة احتياطاتها النقدية، ولكن مع وجود بنوك بريطانية عدة .(Amin, 1971; Mongabay, 1994).

سوء استعمال معونة التنمية: حيث هناك حالات نافذة لسوء استعمال معونة التنمية لدعم الشركات البريطانية خاصة في السنوات الأخيرة، وارتكز التعاون على القطاع الخاص على نحو متزايد، واستخدام المعونة لتعزيز المصالح الاقتصادية، وتسهيل الوصول للمواد الخام والأسواق للشركات الخاصة، وأصبحت هذه الممارسة أكثر شيوعا بتعددية مصادر معونة التنمية التي تقدم المعونة الحكومية من خلال المؤسسات المالية (IFIs). وتُظهر بعض الدراسات أن مؤسسة التمويل الدولية (IFC) التي هي جزء من مجموعة البنك الدولي أن ثلث القروض يُستعمل لتعزيز القطاع الخاص، ويُخصص 65% منها للشركات الكبيرة متعددة الجنسيات (Alliance Sud, 2011).

وفي حالة غانا، استحوذت شركة فودافون البريطانية عام 2008 على أكثر من 70 % من شركة غانا تليكوم، وهي شركة اتصالات وطنية، بقرض قيمته 300 مليون دولار من مؤسسة التمويل الدولية، أي غطت أكثر من ثلث التكلفة (2011 ,Alliance Sud).

4-2-3 التدخل العسكري

اتفاقيات الدفاع: لا توجد معلومات متاحة عن وجود ومحتوى لاتفاقيات الدفاع بين بريطانيا وغانا. فقد عارض نكروما بوضوح مفهوم اتفاقيات الدفاع، وانتقد أي تدخل عسكري بريطاني في القارة، ولهذا السبب تجنب تحت قيادته اتفاقيات الدفاع وكان الجيش الغاني إفريقيا (1994 ,Omoigui, 2006; Mongabay). ولكن نوَّع

ص: 51

القادة الموالين للغرب مؤخراً المساعدات العسكرية لأجل الحصول على الدعم من الدول المختلفة (1994 ,Mongabay).

وذكرت المفوضية العليا البريطانية أن الوجود العسكري البريطاني في غانا قد انخفض في السنوات الأخيرة. ومع ذلك لا يزال هناك «برنامج قوي للمساعدة والتعاون العسكري» مع القوات الغانية التي تواظب على حضور الدورات التدريبية في بريطانيا أو التدريبية التي تعقدها بريطانيا في غانا، ويُموَّل معظمها من بريطانيا (British High Commission, 2010).

التدخلات العسكرية: لم يُرصد أي تدخلات عسكرية بريطانية رسمية في غانا في الفترة التي شملها التحليل من عام 2004 - 2011.

5-2-3 نتيجة

تحتفظ بريطانيا بنفوذ اقتصادي نافذ في غانا، باتفاقية كوتونو التي تعزز دور غانا في توريد المواد الخام، فضلا عن الوجود الكثيف للشركات البريطانية متعددة الجنسيات التي تتمتع بمعاملاتٍ مناسبة، ولا يوجد تدخل سياسي بمعنى لا يمكن تحديد أي تدخل في الانتخابات السابقة، ولا يشغل أي موظف بريطاني منصباً إدراياً مهماً في غانا، ومع هذا هناك معدلات كبيرة للفساد و هي تفيد المصالح البريطانية بشكل يصعب قياسه.

وهناك تبعية مالية طفيفة ولكن ليست في السيطرة النقدية بل في المساعدات التنموية التي تُستخدم للحفاظ على وجود الشركات البريطانية متعددة الجنسيات.

وليس هناك وجود عسكري وفقاً للمعايير المقررة، وتحافظ بريطانيا على تعاونها العسكري مع غانا، وليس هناك أدلة على وجود اتفاقيات دفاع قد تضمن الدعم العسكري للقيادة الحالية مقابل معاملة اقتصادية مناسبة، ولم تُسجل أي تدخلات عسكرية مباشرة في الفترة التي شملها التحليل .

ص: 52

وخلاصة القول إن بريطانيا تحافظ على النفوذ الاقتصادي والتبعية المالية الطفيفة، ولا يوجد دليل على تدخل سياسي أو وجود عسكري، ولهذا السبب لا يمكن اعتبار العلاقة بين غانا وبريطانيا استعمارية جديدة وفقا للمعايير المقررة.

أنماط النفوذ الفرنسي والبريطاني

ويمكن أن نستأنف نتائج دراستي الحالة اللتين حللناهما مع مختار ضيوف كما یری هو أنه في حين تحاول فرنسا الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع مستعمراتها السابقة من النواحي الاقتصادية والسياسية والمالية والعسكرية، يبدو أن بريطانيا تُحد من تدخلها في المجال الاقتصادي، وتقدم العون التقني وتأمن الأسواق لشركاتها (2001 ,Diouf). والحقيقة أنه وفقا للإطار المعمول به فإن النتائج تبين أن فرنسا تمارس استعمارية جديدة على الكاميرون، في حين أن علاقة فرنسا بغانا تبدو أكثر في تبعية النفوذ الاقتصادي المحدود والتبعية المالية الطفيفة .

وبغض النظر عن وجود الاستعمارية الجديدة في الكاميرون وغانا فإن مقارنة الحالتین يسمح ببعض الاستنتاجات التي تتعلق بالاستراتيجية الفرنسية والبريطانية، وكشف بعض أوجه التشابه والاختلاف.

1-4 الاختلافات

لا تزال فرنسا متورطة سياسياً في الكاميرون كما هو الحال في المستعمرات الأخرى، رغم إعلان الانسحاب السياسي في قمة عام 1990 في لابولا(La Baule)، حيث كان تعزيز الديمقراطية سمة جديدة للسياسة الأفريقية الفرنسية، ويبدو أن النخبة الفرنسية تحافظ على مشاركتها في المسائل السياسية الأفريقية (1997 ,Schraeder). وسحبت بريطانيا على النقيض سيطرتها السياسية على غانا.

ويمكن ملاحظة الاختلاف نفسه في المجال المالي. ففي حين يُختزل النفوذ المالي البريطاني على استعمال أجزاء من معونة التنمية لمصالحها الاقتصادية، فإن

ص: 53

فرنسا تحتفظ بسيطرتها القوية على القرارات المالية برمتها للكاميرون، لاسيما خلال الوحدة النقدية للفرانكوفونية CFA. والحقيقة أن المناطق النقدية شكلت وسيلة مهمة للحفاظ على سيطرتها على المستعمرات السابقة الكبرى في أفريقيا وتطبيقها بكل القوى الاستعمارية السابقة الكبرى في أفريقيا، ومع ذلك فإن منطقة الفرنك الفرنسية فحسب التي حافظت على نفوذها. وعلى عكس التوقعات التي فهمت انخفاض قيمة فرنك الفرانكوفونية CFA باعتباره بداية لفك الارتباط المال الفرنسي، لا تزال منطقة الفرنك الفرنسي بكرا وحتى امتد العمل إلى الصلات الأخيرة باليورو (2001 ,Faes). وتؤدي السياسات التي تفرضها فرنسا إلى التبعية النقدية، وكما يرى بعض الكُتاب أن هذا يُبقي الدول الأفريقية فقيرة عمداً ويكبح جماح تصنيعها وتنميتها الصحيحة (Kohnert, 1998). ومن ناحية أخرى كانت منطقة الإسترليني أكثر مرونة حيث أقامت غانا مصارفها وصكت عملتها بنجاح بعد استقلالها بفترة وجيزة (1965 ,Nkrumah).

وكان الوجود البريطاني أقل ظهوراً من الناحية العسكرية، إلا أن ذلك يعتمد على أن السياسية البريطانية السرية لا تسمح للجمهور إلا بقدر ضئيل من المعلومات، علاوة على ذلك قد طبقت غانا سياسة ليبرالية لا تعيق النفوذ الاقتصادي البريطاني، وأسهم هذا في تقليل الحاجة إلى الوجود العسكري البريطاني. وعلى عكس هذا لا تزال السياسة العسكرية البريطانية ثابتة إلى حد كبير، وكما يرى بعض الكتاب أن الإصلاح الأخير لاتفاقيات الدفاع لن يترتب عليه انسحاب فعلي لفرنسا من الناحية العسكرية، بل سوف يؤدي إلى تغيير الوسائل المطبقة (Grey, 1990; Survice 2010). ويبدو أن الوجود العسكري المستمر ووجود قوات الانتشار السريع يُحدان من احتمال الانتفاضات الداخلية (1990 ,Grey).

وهناك اختلاف آخر مهم يتعلق بتأثير النفوذ الفرنسي والبريطاني في أفريقيا. ففي حين أن مصالح بريطانيا في غانا غير معروفة إلى حد كبير، وهي لا تخترق وسائل الإعلام، إلا أن السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا كانت معلنة. وإذا كان النفوذ البريطاني

ص: 54

يحدث من خلال وجود شركات متعددة الجنسيات فقليل من الوضوح حول السياسة البريطانية هو المتاح للجمهور. ومن ناحية أخرى قد تولت منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تنفيذ سياسة فرنسا تجاه أفريقيا في التسعينيات، وكان كتاب «أفريقية فرنسا Françafrique» للكاتب فرنسوا كزافييه فيرشاف أول وثيقة تدين الاستعمارية الجديدة لفرنسا في أفريقيا (2001 ,Verschave, 1998; Faes). في حين كان السياسيون الفرنسيون لم يكشفوا عن نواياهم في أفريقيا (1) ، وأصبح الخطاب السياسي أكثر تحفظاً في السنوات الأخيرة (1992 ,Chafer). والحقيقة أن الرئيس میتران أصر في مؤتمر القمة الأفريقية الفرنسية الذي انعقد في لابولا 1990 على أن المعونة الفرنسية سوف تركز في المستقبل على الأنظمة الديمقراطية، ومع ذلك يتضح أن غالبية المعونات الفرنسية المقدمة توجه للأنظمة الفاسدة (1995 ,Martin).

وخلاصة القول إن لتتبع السلطتين الاستعماريتن الكبيرتين السابقتين استراتيجيات متباينة فيما يتعلق بمستعمراتها السابقة في أفريقيا. والعلاقات الحالية المختلفة تنشأ جزئياً من نماذج مختلفة من الاستثمار الذي طبقته فرنسا وبريطانيا على التوالي. فالاستعمار البريطاني استمر من خلال مؤسسات قوية، وأما الاستعمار الفرسي وصل إلى أعمق ما يبتغيه بدمج ثقافته وبُناه الفرنسية في الدولة الخاضعة له.

2-4 التشابهات

يشير النفوذ الفرنسي والبريطاني في الكاميرون وغانا إلى أوجه تشابه من الناحية الاقتصادية حيث يحافظ كلاهما على معدلات التبادل التجاري التي تؤدي إلى غدامة دور غانا والكاميرون باعتبارهما مُورِّدين للمواد الخام ومستوردين للمنتجات المصنعة. ولذلك يوجد لديهما شركات متعددة الجنسيات تحتكر مجالات اقتصادية بعينها مثل قطاعي التعدين والاتصالات في غانا وقطاعي قطع الأخشاب والنقل في الكاميرون.

ص: 55


1- مثل تصريحات فرانسوا ميتران " لن يكون لفرنسا تاريخ فى القرن الحادى والعشرين دون أفريقيا " (Chafer, 1992 p.40)، وقال سكرتير الولة للتعاون الآن جويانديت «إن غرس الشركات الفرنسية في أفريقيا هو الأولوية» . (Survie, 2009 p.7).

وتعكس دراستا الحالة اتجاهين علّق عليهما مختار ضيوف (Makhtar Diouf) وجيرالدين فايز (Géraldine Fees)، أعني الاتجاهات نحو التعددية وخصصة العلاقات بين القوى الاستعمارية السابقة ومستعمراتها السابقة (Diouf, 2001; Faes, 2001).

ويمكن أن نتصور تقدما ملحوظا بالنسب لاتجاه تعددية العلاقات وتحولها من الثنائية إلى التعددية على مدى العقود الماضية خاصة فيما يتعلق بالاتفاقيات والمعونة الإنمائية والتدخلات العسكرية من خلال اتفاقية لومي (Lomé) الرابعة واتفاقية كوتونو الأخيرة. واستُعيض بالاتفاقيات التجارية الثنائية بممارسة متعددة الأطراف تشمل جمیع دول المجموعة الاقتصادية الأوروبية EEC ودول أفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادي ACP. وبالمثل تزايدت المعونة الإنمائية والاستثمار الخاص عن طريق المؤسسات المالية الدولية IFIs مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وزادت كذلك التدخلات العسكرية بقوى عدة وموافقة من الأمم المتحدة. ويرى توني شافر (Tony Chafer) وجي مارتن (Guy Martin) أن هذه التعديدية المتدرجة بدأت في الثمانينات، ولم تُجِد نفعا للدول الأفريقية (Chafer, 1992; Martin, 1985). وقد أسهم تعدد الاتفاقيات التجارية في فتح الأسواق الأفريقية، وهذا يسر لهم الوصول إلى أعضاء المجموعة الأوروبية الاقتصادية، ونفس التبعية المالية التي حافظت عليها فرنسا قد جاءت لصالح أعضاء الاتحاد الأوروبي بربط الفرانكوفونية باليورو، وعلاوة على ذلك أصبح تدفق المعونة من الصعب السيطرة عليه لتعدد أطراف مانحيه.

وقد اقترنت خصصة تعددية الأطراف بخصصة العلاقات، بمعن أن في دوائر العمل قد تكاثر وجود الشبكات السياسية وتحولت إلى جماعات اقتصادية ضاغطة، حيث تفاعلت الشركات متعددة الجنسيات مباشرة مع القادة السياسيين الموالين من أجل الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية (1) ( Verschave, 1994; Faes, 2001; Diouf,

ص: 56


1- هناك أمثلة عدة لربط الأعمال الخاصة بالسياسة، وربط خصصة العلاقة بالدولة الأفريقية، على سبيل المثال جان كريستوف ميتران ابن الرئيس الفرنسي السابق، الذى كان مستشارًا للشئون الأفريقية آنذاك.

2001b). ويبدو أن هذا التطور قد ينبع أساساً من العولمة ومن بزوغ المؤسسات المالية الدولية IFIs وتعزيزها لليبرالية، وأسهم هذا في زيادة قوة الشركات متعددة الجنسيات مقابل الدول (Diouf, 2001b). ويشكل تزايد مكانة هذه السلطة واحتكارية الممارسة أحد العقبات أمام الأسواق المحلية والتصنيع المناسب، وهي مصدر للتلوث والفساد والإفراط في استغلال الموارد والإهمال الاجتماعي (Survie, 2009).

وبالمثل قد خُصص استعمال العنف، وقد ظهر هذا جليا في توظيف القوات المرتزقة لأجل المصالح الخاصة (1979 ,Goldsborogh).

5 - النتائج

إن الهدف من الأطروحة تفعيل مفهوم الاستعمارية الجديدة بتقديم إطارًا من المعايير يسمح بقياس وجود الاستعمارية الجديدة في دولة وتطبيقه على دراستي حالة، ثم الخروج بفرضية أن وجود الاستعمارية الجديدة يمكن قياسه بدرجة معقولة. وقد خلص تطبيق الإطار المفاهيمي لدراستي الحالة إلى أن فرنسا تحتفظ بعلاقة الاستعمارية الجديدة مع الكاميرون من النواحي كلها في الفترة التي شملها التحليل من 2004 إلى 2011، في حين يقتصر وجود بريطانيا في غانا على النفوذ الاقتصادي والتبعية المالية الطفيفة التي لا يمكن تصنيفها بأنها استعمارية جديدة وفقا للمعايير المقررة. كما سمح التحليل بتحديد الاتجاهات العامة نحو التعددية وخصصة العلاقات بين القوى الاستعمارية السابقة والمستعمرات السابقة والتعددية المتعلقة بالعلاقات التجارية، وتقديم المعونة والتدخلات العسكرية، وخصصة ما يتعلق بالعلاقات بين الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات والحكومة المحلية، واستعمال العنف من جانب الشركات متعددة الجنسيات.

وتبرهن هذه النتائج أن الإطار المقرر فعال وأن وجود الاستعمارية الجديدة في الدولة يمكن قياسه بشكل معقول، ومع ذلك كانت النتائج واضحة، وأظهرت المعايير أنها قابلة للتطبيق في معظم الحالات.

ص: 57

ومع هذا هناك بعض القيود الواضحة للتحليل، أولاً: إن تعريف الاستعمارية الجديدة وإقامة معايير لقياسها يعتمد على فهم محدود للغاية، ولهذا السبب فإن النتائج هي صورة تداخلية نوعا ما من الاستعمارية الجديدة فحسب، ولا تستجيب لصور النفوذ الماكرة. ثانيًا: لم يُحلل سوى دراستي حالة، وهما لا يعطيان وزناً كبيراً للنماذج التي نُوقشت، والدولتين اللتين حُللا ليستا في الموقف نفسه على وجه التحديد، فالكاميرون أعظم أهمية بالنسبة لفرنسا من غانا بالنسبة لبريطانيا. ثالثًا: إن بعض الوثائق التي توفر معلومات مهمة مثل اتفاقيات الدفاع ليست متاحة، وهذا يؤثر بدوره على النتائج. فبريطانيا أكثر سرية من فرنسا فيما يتعلق بمصالحها في مستعمراتها السابقة، ويؤدي هذا إلى معلومات غير متماثلة للموقف تعزز نتيجة مشاركة فرنسا في الكاميرون أكثر من بريطانيا في غانا، مع الوضع في الاعتبار تعددية إدراكات مفهوم الاستعمارية الجديدة، ومحاولة وضع قدرًا معينًا لمعيار وثيق الصلة بقياسها يستلزم حتمًا درجة بعينها من الموضوعية.

والقيود المفروضة على البحوث المقدمة تعطي مساحة لإمكانيات بحوث إضافية. وعلى سبيل المثال يمكن تطبيق الإطار المفاهيمي المقترح على مزيد من دراسات الحالة لتوسيع نطاق النتائج، وإضفاء مزيد من الأهمية للنتائج العامة، وكذلك يمكن توسيع الإطار ليتضمن مزيدًا من المعايير. والبحث المتعمق على الاتجاهات الموجودة عن تعدد الأطراف وخصصة العلاقات بين القوى الاستعمارية السابقة ومستعمراتها السابقة قد يكون مهما. وبالمثل بالإمكان تحليل نفوذ القوى الأخرى مثل الصين والولايات المتحدة في الدول المستقلة حديثاً.

ActionAid. "Gold rush - The impact of gold mining on poor people in Obuasi in Ghana. "Accessed September 15, 2011. http://www. actionaid.org.uk/doc_lib/gold_rush.pdf -

African Elections Database. "Elections in Cameroon.” Accessed September 6, 2011. http://africanelections.tripod.com/cm.html -

African Elections Database. "Elections in Ghana." Accessed -

ص: 58

.September 6, 2011. http://africanelections.tripod.com/gh

html:2004_Presidential_Election

.Alliance Sud. "European development cooperation: trend towards self-interest." Last modified April 18, 2011 -

http://www.alliancesud.ch/en/policy/aid/european-development-cooperation

Amin, Samir. Neo-colonialism in West Africa. London: Penguin,1973-

".Ardent, Philippe. “Le néo-colonialisme: théme, mythe et réalité-

.Revue française de science politique 5 (1965): 837- 55

.Bank Information Center BIC. “World Bank announces withdrawal from Chad-Cameroon Pipeline after early repayment.” Accessed September 16, 2011-

http://www.bicusa.org/en/Article.3892.aspx

.Banque de France (a). “Instituts d’emission et monnaies des pays et territories de la zone franc.” Accessed September 16, 2011-

http://www.banque-france.fr/fr/eurosys/telechar/zonefr/liste.pdf

.Banque de France (b). “Convention régissant l’Union Economique de l’Afrique centrale U.E.A.C.” Accessed September 16، 2011-

http://www.banque-france.fr/fr/eurosys/telechar/zonefr/ueac. pdf

.Banque de France (c). “Convention régissant l’Union monétaire de l’Afrique centrale U.M.A.C.” Accessed September 16، 2011-

http://www.banque-france.fr/fr/eurosys/telechar/zonefr/umac.pdf

.British High Commission in Accra. “UK Trade and Investment.” Last modified March 9، 2011. http://ukinghana.fco.gov.uk/en/about-us/working-with-ghana/annual-report/annual report-2009/ukti-

ص: 59

.British High Commission in Accra. “Defence relations.” Last modified in 2010-

/http://ukinghana.fco.gov.uk/en/about-us/ working-with-ghana/defence-relations

.British High Commission in Accra. “UK in Ghana.” Last modified in 2009-

http://ukinghana.fco.gov.uk/en/about-us/working-with ghana/annual-report/annual-report-2009/ukti

.Cameroononline. (2011) “Paul Biya n’organise jamais les élections pour perdre.”Accessed September 2، 2011-

/http://www. cameroononline.org/201114/06//paul-biya-norganise-jamais-les elections-pour-perdre

(Chafer، Tony. “French African Policy: Towards change.” African Affairs 91362/51-37 : (1992-

.Commonwealth Observer Group. Cameroon Presidential Election 11 October 2004: Report of the Commonwealth Observer Group. London: Commonwealth Secretariat، 2004-

.Cortés، José Luis. “Economía del África independiente: una economía de dependencia.” In Africa Internacional: La economía. Madrid: IEPALA، 1987-

.Crozier، Brian. Neo-colonialism. London: The Bodley Head، 1964-

Deshayes، Benoit. (2008) “Afrique: où sont déployés les militaires français?" Last modified in 2008. http://www.linternaute.com/savoir/magazine/dossier/france-afrique/autres-pays.shtml-

.(Diouf، Makhtar. “L’Afrique dans le dialogue Nord-Sud.”Alternatives Sud 83/177-151 :(2001-

.Diouf، Mamadou. “L’influence grandissante des multinationales.” Croissance 446 (2001): 18- 19-

.EcoFin. “Sitzungsprotokoll zur Entscheidung des EU-Rates über Wechselkursfragen in Zusammenhang mit dem CFA-Franc und dem Komoren-

ص: 60

Franc.” Accessed September 16، 2011.http://www. consilium.europa.eu/ueDocs/cms_Data/docs/pressData/de/ecofin/13168.D8.htm

Encyclopedia Britannica. “The history of Cameroon.” Accessed September 2،2011. http://www.sfu.ca/archaeology/museum/ndi/History.html-

Encyclopedia of the Nations. “Cameroon – History.” Accessed September 2، 2011. http://www.nationsencyclopedia.com/Africa/ Cameroon-HISTORY.html-

./Esseks, John. "Political Independence and Economic Decolonization: The Case of Ghana under Nkrumah." The Western Political Quarterly 2464-59 :(1971) 1-

Essoh، Moïse. “Le CODE interpelle le Premier Ministre Français sur la politique de la France au Cameroun.” Last modified in 2009 http://lecode.afrikblog.com/archives/200913817466/21/05/.html-

.European Union Election Observation Mission to Ghana EUEOM. Final Report on the Presidential and Parliamentary Elections 2008. Brussels: European Union، 2009-

.Faes، Géraldine. “Françafrique: Le partage des dépouilles.” Croissance 446(2001): 15- 17-

FAO. “Legal compliance in the forestry sector. Case study: Cameroon. Final report” Accessed September 14، 2011. http:// www.fao.org/forestry/19580-0b266e69b6880da012e1a1875f231 9a15.pd-

France Diplomatie. “La France et le Cameroun” Last modified June 22, 2011. http://www.diplomatie.gouv.fr/fr/pays-zones-geo_833/ cameroun_361/france-cameroun_1114/index.html-

/Ghana Institute of Management and Public Administration GIMPA. “Staffdirectory” Accessed September 12، 2011. http:// www.gimpa.edu.gh/component/option،com_staffdirectory/ Itemid،221/limit،20/mode،search/view،staffsearch-

ص: 61

Global Forest Watch. “An overview of logging in Cameroon” Last modified in 2000. http://www.globalforestwatch.org/common/ cameroon/english/report.pdf-

Global Witness. “Cameroon: Global Witness details cases of illegal logging” Last modified February 5، 2003. http://www. globalwitness.org/library/cameroon-global-witness-details-cases illegal-logging-

.Goldsborough، James. “Dateline Paris: Africa’s Policeman.” Foreign Policy 33 (1979): 174- 90-

./Grey، Robert. “A Balance Sheet on External Assistance: France in Africa.” The Journal of Modern African Studies 2814 - 101 :(1990) 1-

Guri، Ben. “Report on Ghana 2004 Elections.” Accessed September 11، 2011. http://www.kas.de/wf/doc/kas_716130-2-1522-.pdf?050928113914-

./Hilary، John. “Africa: Dead Aid and the return of Neoliberalism.” Race class 5284-80 :(2010) 2-

.Historyworld. “History of Cameroon” Accessed September 2، 2011-

http://www.historyworld.net/wrldhis/PlainTextHistories. asp?historyid=ad39

Jockers، Heinz and Kohnert، Dirk and Nugent، Paul. The Successful-

Ghana Election of 2008 - A Convenient Myth? Ethnicity in Ghana’s

.Elections Revisited. Hamburg: GIGA German Institute of Global and AreaStudies، 2009

.Kabunda Badi، Mbuyi. “El neocolonialismo en África. Sus formas y manifestaciones.”Cuadernos África América Latina 24 (1996): 63 - 68-

:(Kohnert، Dirk. “The Euro، a blessing for Africa? Consequences of the peg of the African Franc CFA to the Euro.” German Institute of Global and Area Studies 5777 (1998-

Laurean، Mbapndah. “Cameroon: Democracy at a Crossroads.” Last modified in-

ص: 62

2005 http://www.monitor.upeace.org/pdf/cameroon.pdf

Le Monde. “La présence militaire française en Afrique.” Last modified April 13, 2006. http://www.lemonde.fr/afrique/ infographie/200613/04//la-presence-militaire-francaise-en afrique_761588_3212.html-

./Martin، Guy. “Continuity and Change in Franco-African Relations.” The Journal of Modern African Studies 3320-1 :(1995) 1-

./Martin، Guy. “The historical، economic and political bases of France’s Africanpolicy.” The Journal of Modern African Studies 23208-189 :(1985) 2-

./Martin، Guy. “African-European Economic Relations under the Lomé Convention: Commodities and the Scheme of Stabilization of Export Earnings.” African Studies Review 2766-41 :(1984) 3-

SIPA. “Chad Cameroon Oil Pipeline Project - a study tool and case study” Accessed September 17، 2011. http://www.columbia.edu/ itc/sipa/martin/chadcam/index.html-

./Mensah، Anthony. “The process of monetary decolonization in Africa.” Utafiti 463-45 :(1979) 1-

./Merinero، María Jesús. “África poscolonial: Los efectos del neocolonialismo.” Estudios Africanos 1542-29 :(2001) 27-

Mongabay. “Ghana.” Accessed September 6، 2011. http://www. mongabay.com/history/ghana/ghana-introduction.html-

Mujongue، Cécile. “L’exaspération des riverains des ‘plantations Bolloré’.” Last modified June 6، 2011. http://survie.org/billets-d afrique/2011202-/mai-2011/article/l-exasperation-des-riverains-des-

/Nabakwe، Ruth. “CFA، the devil is in the detail.” Last modified in 2002. http://findarticles.com/p/articles/mi_qa5391/is_200207/ ai_n21315898-

.Nkrumah، Kwame. Neo-colonialism: the last stage of imperialism. London:Panaf Ldt.، 1968-

Observatoire National des Droits de l’Homme. “Cameroun - Une répression sanglante à huis clos.” Last modified in 2008. http:// www.liberationafrique.org/IMG/pdf/Rapport_Cameroun_ ONDH_fevrier_20092-.pdf-

.Omoigui، Nowamagbe. “Military defence pacts in Africa.” Last modified in 2006-

ص: 63

http://www.dawodu.com/omoigui1.htm

PNB Paribas. “Challenges facing the CFA franc.” Last modified in 2001. http://economic-research.bnpparibas.com/applis/www/ RechEco.nsf/063552/E1AC0D7091EC1256BA30056B490/$File/ C0110_a1.pdf?OpenElement-

Primo، Alice. “Bolloré - Vilgrain: la terre، la sueur et le sang.” Last modified March 21, 2011. http://survie.org/billets-d afrique/2011198-/janvier-2011/article/bollore-vilgrain-la-terre-la sueur-

.Rat der Europäischen Union. “Entscheidung des Rates vom 23. November 1998 über Wechselkursfragen im Zusammenhang mit dem CFA-Franc und dem Komoren-Franc.” Last modified in 1998-

http://eur-lex.europa.eu/LexUriServ/LexUriServ.do?uri=OJ:L:1998:320:0058:0059:DE:PDF

Republic of Cameroon (2011) “La Présidence - Les Proches Collaborateurs du Président.” Last modified in 2011. http://www. prc.cm/index_en.php?link=les_collaborateurs_du_president_ de_la_republique_secretariat_general-

.Sartre، Jean-Paul. Colonialism and Neocolonialism. London: Routledge، 2006-

.Schraeder، Peter. “France and the great game in Africa.” Current History 107 (1997): 206- 11-

.Somalipress. “Modern history of Cameroon.” Last modified September 13، 2009-

http://www.somalipress.com/cameroon overview/modern-history-cameroon-1070.html

Somalipress (b). “Government and Politics of Cameroon.” Last modified September 13، 2009. http://www.somalipress.com/ cameroon-overview government-and-politics-cameroon-1067. html-

.Survie. “Malgré les discours de rupture، l’armée française demeure omniprésente dans ses anciennes colonies africaines.” Last modified February 16، 2010-

http://survie.org/francafrique/ article/malgre-les-discours-de-rupture-l

.Survie. France-Afrique: Diplomatie، Business et Dictatures. Paris: Survie، 2009-

.Survie (b). “Total privatise la marine camerounaise.” Last modified May 1، 2009-

http://survie.org/billets-d-afrique/2009180-/ mai-2009/article/total-privatise-la-marine

ص: 64

.The Carter Centre. “Waging Peace: Ghana.” Last modified in 2011-

http://www.cartercenter.org/countries/ghana-peace.html

The Frontier Telegraph. “25 years of Biya’s peace and stability - an editorial.” Last modified in 2007. http://www.thefrontiertelegraph. com/content/110107/biyas_peace.html-

Transparency International. “Global Corruption Barometer 2010.” Last modified in 2010. http://www.transparency.ch/de/PDF_ files/GCB/TI_Global_Corruption_Barometer_2010.pdf-

Transparency International. “Highlights from Transparency International.” Last modified January 21، 2003. http://www. transparency.org/news_room/latest_news/press_ releases/200322_01_2003/_gcr2003_regional_highlights-

.Vajrushev، Vasili. El neocolonialismo y sus métodos. Moscow: Editorial Progreso، 1974-

.Verschave، François-Xavier. La Françafrique: Le plus long scandale de la République. Paris: Éditions Stock، 1998-

./Waulthier، Claude. “France and Africa: «Long Live Neo Colonialism».” Issue: A Journal of Opinion 226-23 :(1972) 1-

.Worldwide Governance Indicators. “Cameroon.” Last modified in 2010-

http://info.worldbank.org/governance/wgi/sc_chart.asp

ص: 65

الهوية الوطنية للأمة بين التأصيل والهيمنة

اشارة

مقاربة في استراتيجيات المواجهة والبناء

نبيل علي صالح

نبیل علی صالح (1)

أولاً - معنى الهويّة الحضاريّة للأمة لغةً واصطلاحاً

الهوية لغة:

الهَوِيَة (اسم)، وهي فاعل من هَويَ. والهَويّة، اسم منسوب إلى هُوَ . وأما الهَوِيَّةُ فهي البئرُ البعيدةُ القعر. وهُوِيَّةُ الإنسان هي حقيقته المطلقة، وصفاته الجوهرية. والْهُوِيَّةُ الوطنية : هي معالم الأمة، وخصائصها المميزة وأصالتها(2).

وبطَاقَةُ الْهُوِيَّةِ: هي البطاقةُ الشخصية التي تَحْمِلُ اسْمَ الشخص وتاريخ ميلاده وعمله وجنسيته . ووردَت كلمة «هوية» في معاجم اللغة بمعنى: «بئر بعيدة المهواة»، وقيل: هي تصغير كلمة (هوة)، وهي : «كل وهدة عميقة» (3) . والهوية بالمعنى الفلسفي تعني حقيقة الشيء، من حيث تميّزه عن غيره ، وتُسمَّى أيضاً وحدة الذات (4). وهي

ص: 66


1- كاتب وباحث سوري.
2- المعجم الوسيط، صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الطبعة الخامسة، الناشر: مكتبة الشروق الدولية، عام 2011م، ج: 2، ص: 985
3- راجع: «المعجم الفلسفي». مجمع اللغة العربية، المطابع الأمرية، مصر/القاهرة، طبعة عام: 1983م، ص: 2081.
4- ابن منظور. «لسان العرب». الجزء: 15، دار صادر للطباعة والنشر، طبعة عام 1968م، لبنان/بيروت، ص: 375-376.

بهذا المعنى تتساوى مع مصطلح (هو هو) الفلسفي، والذي يشير إلى ثبات الشيء بالرغم مما يطرأ عليه من تغيرات، فالجوهر هو هو، وإنْ تغيّرت أعراضُه (1) .

الهوية اصطلاحاً:

الهويةُ في معناها الاصطلاحي المجرَّد هي جملةُ الثّوابت الفكرية والروحية لأي مجتمع وأية أمة، تخصّها وتتمايز بها عن غيرها (2)، وتتمظهر في قيمها وتقاليدها وعاداتها وأنماطها السّلوكية، ويتمُّ المحافظة عليها، ونقلها عبر الأزمان، متحولةً إلى ما يشبه العرف والقانون.. لتكون موضع اهتمام وتقدير من قبل الأجيال.. وهذا التمظهر يتجلى في الفن والثقافة والتراث الديني وغير الديني.. ومجموع تلك التقاليد والعادات بما فيها الفلكلور الفني، تتسق ضمن سمات وعلامات وخصائص متنوعة، تستقلُّ بها الذات (ذات المجتمع أو الأمة) عن الآخر (فرداً أم مجتمعاً)، وبغياب هذه العلامات والخصائص تغيب الذات وتذوب في الآخر، وبحضورها تحضر (3).. ويتم عبر هذه السمات إعطاء الانطباع الحقيقي بوجود كيفية هوياتية يُعَرِّف الناس بها ذواتهم أو أُمَّتهم، وتُتَّخذ اللغة والثقافة والدين أشكالاً لها؛ فهي تنأى بطبعها عن الأحادية والصفاء، وتنحو منحى تعدديّاً تكامليّاً إذا أُحسن تدبيرها، ومنحى صداميّاً إذا أُهملتْ وأُسيء فهمها، تستطيع أن تكون عامل توحيد وتنمية، كما يمكن أن تتحوَّل إلى عامل تفكيك وتمزيق للنسيج الاجتماعي، الذي تؤسِّسه عادة اللغة الموحدة (4).

ص: 67


1- مصدر سابق نفسه، ص: 207.
2- تتمثل خصوصيات هذه المجتمعات المسلمة في السمات التالية: - مجموعة المعايير والقيم الناجمة عن التصور (أو المفهوم) الإسلامي للحياة والكون والوجود والإنسان. - اللغة والثقافة الخاصة بها، وما تفرزه من أنماط فكرية ومعرفية. - مجموعة العادات والتقاليد والأعراف السلوكية المعبرة عن التوجه الثقافي والتاريخي (الهوياتي) لهذه المجتمعات. - أنماط التربية والتنشئة الاجتماعية داخل الأسرة وفي المجتمع. - أشكال خاصة من الاجتماع التربوي والديني والسياسي. - مجموعة من السلوكيات والتوجهات والدوافع والحوافز.
3- عبد العلي الودغيري. «اللغة والدين والهوية » . مطبعة النجاح الجديدة، المغرب/ الدار البيضاء، طبعة عام: 2000م، ص: 67.
4- رشيد بلحبيب. «الهويات اللغوية في المغرب من التعايش إلى التصادم». ضمن كتاب اللغة والهوية في الوطن العربي، إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، قطر/الدوحة، طبعة كانون الثاني 2013م، ص: 247-248.

كما يمكن تعريف الهوية التاريخية - من جملة تعاريف عديدة - منْ حيث أنَّها نظام فكري وقيمي من التصورات التي يتميز بها مجتمع ما تبعاً لما يختزنه من خصوصيات تاريخية وحضارية (روحية ومادية) تميّزها عن غيرها من الهويات الخاصة بشعوب وأمم أخرى. والهوية ليست كياناً ثابتاً وراسخاً غير قابل للتطور باستمرار، بل هي سيرورة تتأثر بالهويات الثقافية الأخرى تفاعلاً خصباً خلاقاً.. بما يعني أنه لكل بلد أو أمة أو حضارة معايير هوياتية تخصه، وتنسجم مع سياقاته التاريخية والثقافية، يتقوّم بها، ويعمل أهله على إبرازها وتظهيرها ثقافةً وفكراً وقيمة عملية والتزامات سلوكية على شكل عادات وتقاليد، لما فيها من إمكانات جاذبة للتوحّد حول فكرة الوطن، في حمايته وتقويته ونهضته وقوة اقتصاده وتنمية مواطنيه.

بهذا المعنى تكون الهوية هويتان، مادية (عضوية) وروحية (رمزية، معنوية)، فأما الهوية المادية، فتعني الانتماء إلى أرض وجغرافية محددة وواضحة المعالم المادية، أي الانتماء إلى تراب (أرضي) بما فيه وعليه من ثرواتٍ وموارد وعلاقات مادية، بحيث ينتظم الأفراد على هذه البقعة أو الجغرافيا المحددة، ضمن نسيج فكري سياسي متوافق عليه، يضبط علاقاتهم ببعضهم ، وبغيرهم.. وأما الهوية الروحية، فهي الرأسمال القيمي الرمزي، هي التراث الديني والفكري المعياري، هي أخلاقيات التعامل التي تمارس من خلالها أنماط ثقافية سلوكية معينة، تميز مجتمع وأمة عن مجتمع وأمة أخرى، يؤمنون فيها بمعايير قيمية محددة تجمعهم، وتلمهم تحت شملها.

وينبغي التمييز - كما يقول علي الدين هلال - بين ثلاثة مستويات مختلفة عند تحليل موضوع «الهوية»، فهناك أولاً الهوية على المستوى الفردي، أي شعور الشخص بالانتماء إلى جماعة أو إطار إنساني أكبر يشاركه في منظومة من القيم والمشاعر والاتجاهات والرؤى والتصورات. والهوية - بهذا المعنى - حقيقة فردية نفسية ترتبط بالثقافة السائدة، وبعملية التنشئة الاجتماعية. وهناك ثانياً التعبير السياسي الجمعي عن هذه الهوية في شكل تنظيمات وأحزاب وهيئات شعبية ذات

ص: 68

طابع تطوعي واختياري. وهناك ثالثاً، حالة تبلور وتجسُّد هذه الهوية في مؤسسات وأبنية وأشكال قانونية على يد الحكومات والأنظمة. وأما محمد عابد الجابري فكان يرى في الهوية (هوية العربي) مجرد ردّ فعل ضد الآخر (1) ، ونزوع حالم لتأكيد (الأنا) العربية بصورة أقوى وأرحب. فهوية العربي ليست وجوداً جامداً، ولا هي ماهية ثابتة جاهزة، بل هي هوية تتشكل وتصير .. وهي هوية اقترنت - في بنيتها - بتكوين الأمة العربية في التاريخ، وهو تكوين استند إلى عوامل عدة في مقدمتها اللغة والثقافة في إطار الجغرافية التاريخية (2).

ولا شكَّ بأنّ أصل فكرة الهوية يرتبط بفكرة المواطنة في الدولة من ناحية الجنسية كظاهرة وكمبدأ قانوني، كما ترتبطُ الهويةُ بالأبعاد والتمظهرات الثقافية للشخص والمجتمع مثلما تتصل بالانتماء السياسي للدولة.. وعموماً تتغذّى الهوية من مصدرين، أولهما: التراث، وهو المصدر الثابت أو الجوهر الذي يشكل الذهنية المقلوبة للشخصية النموذجية التي تنبثق عنها الهوية. وثانيهما، المجتمع الذي يشكل المصدر الثاني الطارئ والمتغير من الهوية، وهو الذي يؤثر تأثيراً كبيراً، من حيث أنه يعيق ما هو ثابت أو قد يعطله مؤقتاً، لأنّ الثابت غالباً ما يعيد إنتاج نفسه من جديد، ولو بصفة أخرى يقتضيها هو في اللحظة المناسبة، ووفقَ صيرورة المجتمع وشروط تغيّره الذاتية والموضوعية. ومن أهم المتغيرات الطارئة: السّلطة والمصلحة والكوارث والحروب والقوى الخارجية وغيرها. ويشير أحمد زكي بدوي إلى أن الهوية هي التي تميّز الفرد نفسه عن غيره، أي أنها تحدد حالته الشخصية. و من السمات التي تميز الأفراد عن بعضهم البعض، الاسم والجنسية والسن والحالة العائلية والمهنة (3) .

ص: 69


1- أكثر ما تتجلى الهوية، وينعكس وجودها الحقيقي على الأرض (من خلال نوع من التسامي والشعور بالفخر القومي أو الديني والانتشاء الوجداني والوطني) هو في أوقات التحدي ورد التحدي، حيث تظهر المشاعر من الخارج، أو من داخل النفس من خلال الالتزام بموقف ما، أو التحصن وراء فكرة أو قيمة ما، أو سلوك طريق معين غالباً ما يأخذ طابعاً حاداً. وعندها يكون هذا الشكل من المواجهة أو الدفاع الذي يلتزمه الفرد عن وجوده، مرتكزاً على شعوره الهوياتي الفردي.
2- ناظم عبد الواحد الجاسور. «موسوعة علم السياسة». الأردن/ عمان، دار مجدلاوي للنشر، طبعة: 1، عام 2004م، ص: 384.
3- سويم العزي. «علم النفس السياسي». الأردن/ عمان، الثراء للنشر طبعة: 1، عام: 2010م، ص: 113-114.

وأما هويتُنا نحن - كأمة عربية وإسلامية - فيشكّل الدين الإسلامي محورها الرئيس، و معيارها القيمي والسلوكي الأساسي.. بل هو جوهرها الفريد المغذِّي لثقافتها وأنساقها المعرفية، ومعاني رأسمالها الرمزي والعضوي المتحرك والمستمر في سيرورة متكاملة من العادات والقيم والممارسات ذات الخلفية الدينية.. وهذه الهويّة التي شكلت العمود الفقري لثقافة الفرد المسلم منذ نزول الوحي، لديها تصور فكري عقدي واسع، ورؤية كونية رصينة عن طبيعة الإنسان وماهية الكون والحياة والوجود بالمعنى الديني والفلسفي.. وهي بمجملها تختزن معاني روحية وعملية وقيم حياتية تنظم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وباقي مفردات حياته الخاصة والعامة.. وتتلخص هذه المعاني في وجود عقيدة تدين بها هذه الأمة، هي العقيدة الإسلامية، يعتز بها المسلمون، ويحترمون قيمها الحضارية وتمثّلاتها الثقافية، ويعملون على إبراز شعائرها وتعاليمها باعتدال ووسطية، وتشعرهم بالتميز والاستقلالية الفردية والجماعية، وتدفعهم أيضاً - بحكم النص - إلى إيصال رسالتهم الدينية الإنسانية (كهوية معيارية) إلى الناس إعلاماً وتبليغاً بلا تكلّف ولا ضغط.

ويمكن تقسيم الهوية الإسلامية، أو البناء الهوياتي التراثي الإسلامي - في هيكليته العامة - إلى قسمين أساسيين، وهما:

أولاً: التراثُ الثابت الذي يمكن أنْ نتحدث فيه عن الحقيقة التي تلامس موضوعاً يمتد في عمق واقع الحياة والوجود. وهذا الموضوع لا يستطيع الزمن أن يتدخل في عناصره ليعدل، أو يغير باعتبار أنه يختزن في داخله كل عناصر ومقومات الثبات، والاستمرار. وهو تراث القيم الثابتة المعيارية الذي يتحدث عن القيم المؤسسة، قيم الحق، والعدل، والمساواة.. قيم الفضائل والأخلاقيات الإنسانية التي دعا إليها الدين، وطبقها ومثّلها في عالم الإسلام والمسلمين كنماذج كبرى، ومثل عليا، وأُسَى (1) حسنة، الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، وأهل البيت علیهم السلام .

ثانياً: التراثُ المتغيّر الذي يمكن أن نتحدث فيه عن طبيعة الحلول التي تقدم

ص: 70


1- جمع أسوة.

للمشاكل والتحديات والإشكاليات المختلفة التي تتحرك في الحياة في نطاق زمني معين، بحيث أنها تتجلى في الواقع من خلال ظهور حاجات جديدة ومتطلبات بشرية مستدة. وهذا الشيء هو الذي يمكن أن نتحدث فيه عن معنى القديم والجديد، باعتبار أن عنصري الزمان والمكان يتداخلان كلياً في تفاصيله الذاتية والموضوعية.

انطلاقاً من ذلك نقول بأنّ القسم المتغير من التراث والهوية التاريخية هو المحكوم بالتبدل والاستجابة لتطورات الواقع ومتغيراته، أما القسم الثابت من الهوية فهو ليس محكوماً أبداً بقاعدة التغير والتحول والسيرورة.

ثانياً - آلياتُ الهيمنة الثقافية ومظاهر تهديد الهوية الإسلامية (تفكيك الوسائل والأدوات)

كثير من الأمم والحضارات سعتْ (وتسعى) لفرض وجودها وتجسيد هيمنتها (ليس السياسية فحسب بل الثقافية أيضاً) على الأمم والحضارات الأخرى المتمايزة عنها. وهذا الفرض أو الهيمنة يتصل بغايات مادية ومصالح اقتصادية، وله سبل ووسائل عديدة تتجلى في ممارسة العنف الرمزي أو العضوي، سواء في الاحتلال المباشر، أو الغزو الثقافي الحافل بأشكال التأثير الإعلامي والسينمائي والميديائي، أو حتى عبر أبسط شؤون الفرد في مأكله ولباسه وأدوات لعب أطفاله.. وأكثر الأمم التي تحركت في هذا الاتجاه هي الأمم التي كانت تعتدّ بتاريخها وهويتها الثقافية والحضارية إلى حدود القداسة، وتعتبرها مشروعاً خلاصياً وإنقاذياً للآخر، بما يعني أنها تنظر لهذا الآخر (الفردي والجمعي) نظرة فوقية استعلائية وصائية، تكرّس ذاتها العليا كقيمة ومعيار ومرجعية يجب على باقي الحضارات والأمم أن تدور حولها. ويبدو لي أن كل أمة امتلكت مشروعياً خلاصياً، اختزنت في ذاتها نزعات واضحة للسيطرة والهيمنة ونهب الخيرات والثروات، وإنْ تغطت بشعارات ثقافية قيمية. وهذا هو الاستعمار الثقافي الذي يستلب الروح والذات، ويتلاعب بالقيم، ويجيّرها لمصالحه وتمكين خياراته من التجذر والامتداد. حيثُ يلاحظُ أنّ الدولة الاستعمارية تقوم بإعادة بناء وتشكيل المنظومة الثقاقية لمجتمع المستعمرات التي

ص: 71

تحتلها وتستوطن روحها، لجعله أكثر ارتباطاً بالدولة المستعمِرة. ليتم فرض ثقافة الاستعمار ( وقيمه وأنساقه الحضارية) على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمَرة إلى مرحلة الحضارة والتطور والحداثة الموعودة. وللأسف لم يحدث هذا في أيٍّ من البلدان التي استُعمرت واستحكمت فيها مفاصل الاستعمار بأنواعه وأشكاله المعروفة.

وقد تميّزت الحضارة الغربية (باعتبارها حضارة متقدمة وغالبة سياسياً واقتصادياً) بهذه الميزة السلبية، التي تجلت بأعلى مظاهرها من خلال إيمان هذه الحضارة بمركزيتها الثقافية (1) ، وبعلو كعبها على باقي أمم العالم وحضاراته وثقافاته ومجتمعاته خاصةً لمن تصفهم بالعالم الثالث المتخلف والمتأخر عنها علمياً وتقنياً ومعرفياً.. وبالتدقيق يمكن ملاحظة أهم تلك الطرق التي اعتمدوها لتعميق خطهم الثقافي ورؤيتهم الحضارية - القائمة على معايير أرضية غير سماوية، من النفعية والدنيوية والعلمانية بمعناها الاستهلاكي البشع - في تعميق التأثير السّلبي على الهوية الحضارية للأمم الأخرى، وعلى رأسها تهديدهم الدائم لهويتنا الإسلامية، التي شكّلت مصدرَ قلق دائم وربما حالة رعب حقيقي لهم على مستوى الإدارات السياسية الغربية، والمؤسسات الثقافية والدينية وما يوازيها من هيئات وبنى فكرية وتبشيرية .. ومنها :

تذويب الثقافة العربية الإسلامية: عن طريق ثلاثة أمور، الأول: نقل حمولات الثقافة الغربية وخاصة «ثقافة الاستهلاك الأميركية» إلى واقع حياتنا العربية والإسلامية، من خلال الصراع بين الاستيعاب والإذابة من جانب الثقافة العالمية، والخصوصية والاستقلال من جانب الثقافة العربية. والثاني: الإصرار على تحريف كثير من أفكار الإسلام وتعاليمه ومقاصده العليا، حتى وصلت الأمور إلى تحريف وقائعه التاريخية بهدف إسقاطه في نظر متّبعيه، وتفريغه من مضامينه الروحية والقيمية القائمة على إعطاء الحياة معاني الهدفية والغائية والروحية. والثالث: العمل المستمر على إثارة الشكوك والشبهات حول طبيعة هذه الهوية الإسلامية، ومعاييرها ومحدداتها

ص: 72


1- هذه المركزية هي التعبير المخفّف لكلمتي العنصرية والاستعمارية، وهما من أهم النتائج التي ترتبت على الروحية الإمبراطورية التي ورثتها أوروبا عن العصر الروماني، فباتت رهينة لها ومسكونة بها.

وضوابطها، وتفريغ الإسلام (كجوهر للهوية) من محتواه القيمي الحياتي الوسطي المتوازن.

فرض التبعية على الثقافة العربية الإسلامية: في إطار المكون الثقافي المعولم والمهيمن المتمثل في الثقافة الغربية. وإزاء إشكالية العلاقة بين النموذج الثقافي المعولم والخصوصية الثقافية للأمة العربية الإسلامية نجد أن الغرب اتبع عدة أساليب لإلحاق ثقافة العربي إلى ثقافته التي لا تتلاءم والبيئة التي نشأت فيها ثقافتنا ومعاييرنا الثقافية والدينية، ونجد أن ما صبّه الاستعمار من بطش وتنكيل وتدمير واحتلال، كل هذه الأعمال لا تساوي أمام ما تم وضعه في الأنظمة التربوية الحديثة الغربية في محاولة منها أنْ تنشئ أجيالاً تتنكر لشخصيتها المميزة، وهويتها العربية والإِسلامية، باعتبارها - كما يزعمون - لا تجاري تطورات الحياة، فلا بد من تركها، بل محاربتها، وهذا تذويب للهوية الثقافية العربية والإسلامية (1) .

الترويج لانتصار الحضارة الغربية ومعاييرها القيمية، من خلال مقولات مركزية ذات طبيعة استعمارية إلغائية كمقولة نهاية التاريخ، دونما أي اعتبار لثقافات «الأطراف»!، ودونما أي احترام للأنساق الحضارية والهويات التاريخية للشعوب والأمم والحضارات الأخرى، وعلى رأسها شعوبنا وأمتنا الإِسلامية، بل والإصرار على ما يسمى بالانتصار النهائي للعولمة الثقافية بالذات، والتركيز على نشر طروحات الثقافة الغربية القائمة على الحرية اللا محدودة، وقيم السوق النفعي، والاستهلاك المادي الفارغ، والتمحور حول الذاتية واللا معنى الوجودي.. وهذا ما لاحظنا تفشيه واستشرائه - على شكل اتباع وتقليد أعمى نتيجة الفراغ الروحي - في كثير من مواقع مجتمعاتنا ودولنا العربية والإسلامية من حيث هيمنة البعد الاستهلاكي، والنظرة المحدودة الفارغة للأشياء والحياة والإنسان، والاقتصار على الرؤية الأرضية والبعد المادي الجسمي العضوي في تمكين الفردية العضوية دونما اهتمام بالبعد الروحي والمعنوي.. فتم التركيز والاهتمام فقط على العمران المادي (بناء المولات والمباني

ص: 73


1- مسعود ضاهر. «حوار العرب مع ثقافات عصر العولمة.. الواقع والآفاق المستقبلية». مجلة العربي الكويتية، العدد: 576، تشرين ثاني 2006م. ص: 67 .

الضخمة، والتنافس في إشادة الأبراج العالية، والحدائق الجميلة) دون أي اعتبار لبناء العمران الروحي والتنموي العقلي الحقيقي للفرد المسلم كما قلنا. والإسلام كثقافة قصدية غائية تربط الدنيا بالآخرة، حوربت عن قصد في بنية الثقافة الغربية، من أجل إنهاكها وإظهار فقرها المعرفي في نظر أتباعها لقطع الصلة مع المؤمنين بها، وفصلهم عن جذروهم، كمقدمة للاستفراد بهم في احتلال أراضيهم والهيمنة على ثرواتهم واستغلال مواردهم.

الهيمنة الإعلامية والتلاعب الفكري تحت عناوين برّاقة ومزخرفة ودعاوي مزيفة من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح والتواصل المفتوح (وهي قيم مهمة بطبيعة الحال، لكن يتم استغلالها للهيمنة والتلاعب بالمصير والمستقبل). وهنا يمكننا أن نؤكد أنه إذا كان مثقفو الغرب ومفكروهم (أصحاب المواقع الراسخة المؤثرة في الثقافة في العالم المعاصر) ينشدون ثقافة تواصلية مفتوحة ومنفتحة وبلا حدود تواكب الاتجاه العولمي، وتسايره كما يبدو في الرؤيا الثقافية في الغرب، فإنهم في حقيقة الأمر يصنعون مبررات سيطرة الثقافة الغربية بلا حدود، وهو الأمر الذي قطع شوطاً مهمّاً من الإنجاز على أرض الواقع، في ظل اتجاه متزايد نحو عالم بلا حدود ثقافية (1) . وهذه الفكرة - فكرة ثقافة بلا حدود - تواكب العولمة التي يروِّج لها مفكرو الغرب؛ خاصة في الولايات المتحدة، تبزغ في العالم في الوقت نفسه الذي يحافظون فيه على مقومات الدولة القومية؛ لأنها أساس الوحدة الرئيسة والمحورية في النظام السياسي العالمي المعاصر (2).

استغلال العامل الاقتصادي (من فقر وتخلف تنموي وفشل في استراتيجيات التنمية الإنسانية والبشرية) في تذويب الهوية التاريخية، ليس من قبل قوى الاستعمار فحسب، بل أيضاً من قبل نخب الداخل ممن انتدبهم (الاستعمار) واعتمدهم كوكلاء له (بعد عهود الاستقلال الشّكلي عنه منذ عقود عديدة) داخل الأرض العربية.. فمعظمُ بلداننا العربية والإسلامية منكوبة في اقتصادها وتنميتها، نتيجة هيمنة هذه

ص: 74


1- عبد الخالق عبد الله. «العولمة». مجلة عالم الفكر الكويتية، أكتوبر/ تشرين الأول 1999م، عدد: 2 ص: 81.
2- هالة مصطفى. «العولمة ودور جديد للدولة». مجلة السياسة الدولية، العدد 134، سنة: 1998م، ص: 47.

النخب «العسكرتارية» على الحكم والإدارة، فأعملتْ في بلدانها وشعوبها نهباً وفساداً، وارتكزتْ في كل سياساتها وأعمالها ومشروعاتها على ثلاثية: القمع والإفقار والتجهيل.. وهي كانتْ تحثّ الخطى ليس باتجاه البناء والتقدم وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتكريس قيم الرقي والسّعادة والرفاه لأفرادها، وإنما باتجاه صياغة (وقولبة) المواطن الضعيف والمفقّر والمحتاج إليها دائماً، عبر التحكم بثقافته وهويته وتجييرها لصالحها، كي تتمكن من السيطرة عليه، والتحكم بوجوده، أو - على الأقل - احتواء مطاليبه، وتدجينه، وربطه بوعود وهميّة، وشعارات فضفاضة لم تحقق لمواطنيها المستضعفين إلا الدّمار المادي والخراب الروحي.. وأما من جهة الخارج، فقد نجحت قوى الثقافة المركزية الغربية في تثبيت دعائم وجودها وهيمنتها على الساحة نتيجة امتلاكها للقوة العلمية والتقنية، وهيمنتها على وسائل الاتصالات والتدفق المعلوماتي الهائل، وتحكمها بآلياتها وسبلها. ومن يمتلك العلم يمتلك التوجيه وقاعدة التحكم والسيطرة.

ونحن - وإن كنا نعتقد بوجود استراتيجية غربية متواصلة للنيل من هويتنا وثقافتنا التاريخية الإِسلامية - لكننا بالمقابل لا يجب أن نغض النظر عن كثير من سلبياتنا الفكرية والسياسية، وعن أمراضنا المتجذرة في ثقافتنا وسلوكنا القيمي المعاصر، فنحن نلاحظ أن الخطاب الثقافي العربي والإسلامي يعاني من فقدان الثقة بنفسه، حيث يعتمد على آليات الغير وأدواته التي اكتشفها واخترعها هو انطلاقاً من بنيته العلمية والمعرفية، مما جعل من واقعنا الثقافي والهوياتي - إذا صح التعبير - في حالة من الاهتزاز الدائم، وعدم الحضور والفاعلية العملية، إضافة إلى إحساسه بالعجز والتقزّم نحو الغير، وفشله في إنتاج تجربة تماثل ظروف الغير وتلائم أرض الواقع، وانتقاده للحوار مع الغير. كما أنّ واقعنا السّياسي العربي مسؤول هو بدوره عن حالة الانكفاء والتصحر الثقافي، وجذب الآخر لممارسة مركزيته الثقافية علينا، وانتهاك هويتنا، فمعظم بلداننا العربية تعاني من الحروب والنزاعات، واشتداد تفاقم البطالة، لاسيما بطالة الشباب، وتدنيّ القيم الأخلاقية إلى درجة الانحطاط، وضعف أثر المبادئ التوجيهية والتربوية والعلمية والأخلاقية التي هي قاعدة الهوية والتراث الهوياتي.

ص: 75

طبعاً، النتيجة النهائية لما تقدّم، كانت أنّ نُظُمُنا السياسية المتلاحقة (التي كانت أكبر عائق لتفعيل دور وحضور الهوية التاريخية بمعناها القيمي المنفتح) فشلتْ فشلاً ذريعاً في إيصال المجتمعات العربية والإسلامية إلى شاطئ (وبر) الأمان والاطمئنان الذي سبق أن وعدت الجماهير به.. وتفرّغ القائمون عليها - كما قلنا - للتحكم بموارد الأمة، والسيطرة على مفاصل السلطة والثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الرأسمال المادي والمعنوي المتبقي لأفراد المجتمع والأمة.. فكان أن وقع الإفقار المقصود على الشعب.

ثالثاً- استراتيجية المواجهة الحضارية الإسلامية وتفعيل الحضور الهوياتي للمسلمين

إنّ أهم بند أو عنصر في موضوع الاستراتيجية المطلوبة لصد محاولات النيل من الهوية الوطنية والإسلامية للأمة، هو ذاك المتعلق بالبناء الداخلي المحلي، بناء الذات وتنمية القدرات وتقوية وجود الأمة وتمكينها من خلال تنمية أفرادها، وبناء الإنسان فيها وهو جوهر الهوية كغاية ومقصد وهدف نوعي، وذلك بعد تشخيص علل الأمة وأمراضها العديدة التي تعاني منها، والسير الحثيث على طريق علاجها الفعال والمنتج، إذ لا يعقل أنْ نواجه ثقافة قوية وقادرة وحاضرة ومالكة لزمام المبادرة بالعلم والمعرفة، هي الثقافة الغربية ( حتى لو تم وصفها بأبشع الصفات) بثقافة وهوية وطنية وقومية حضارية إسلامية ضعيفة ومضعضعة، موبوءة بالأمراض الفكرية والسياسية، وتنتشر فيها مواقع الجهل والتعصب والتطرف والتكفير الفردي والجماعاتي المنظّم.

إنّ المطلوب اليوم على هذا الصعيد - على طريق إثبات خصوصيتنا الثقافية والهوية الوطنية القومية داخل مجتمعاتنا، ورفع هذه الهوية أمام الآخر - يجب أن يتمحور حول ما يلي:

استعادة روح الهوية الحضارية العربية والإسلامية الأصيلة التي مارستْ التعددية الدينية والإثنية، ورفضتْ الأحادية الفكرية والدينية، وقبلتْ بوجود الآخر، وتسامحتْ

ص: 76

مع المختلف.. مع ضرورة العمل في الوقت نفسه على رفض (ونبذ) هذه الصورة النمطية التي قدمتها (وما تزال تقدمها) تنظيمات وحركات الإسلام السياسي الأصولي، عن الإسلام، وهي صورة سلبية بالمطلق، تعطي الانطباع الفوري عن الإسلام بأنه دین عنيف مغلق وغير متسامح، ولا يهمه سوى السلطة والحكم والهيمنة.

تحديث أبنية ثقافتنا وتطوير مواقعها وامتداداتها من خلال تبيان وضعية المتحول من الثابت فيها، وذلك بإثبات هويتنا في وجه مختلف اتجاهات الثقافة الغربية وتيارات العولمة الثقافية حتى نتمكن من المحافظة على أصالتنا الإسلامية، وترسيخ الاعتزاز بالذات الحضارية، وإبراز قيمها الإلهية وخصائصها الإنسانية.. ويأتي ذلك عن طريق تنمية الثقة لدى أفراد المجتمع المسلم في أمته وحضارتها.. فالأمة التي لا تثق بقدراتها، ولا تقدر إمكاناتها الذاتية حق قدرها ؛ لا يمكن إلا أن تكون على الدوام ظلاً للآخرين، تابعة لهم، لا تعتمد إلا ما يقولون، ولا تُنفذ إلا ما يُقررون، وهذا هو التسول الحضاري بعينه، الذي يُمثِّل قمة العجز والفشل والاستسلام أمام التحديات التي تواجهها(1).

طبعاً، إبراز الصفات الإنسانية والخصائص الإلهية لثقافتنا وديننا (على طريق تعزيز الهوية التاريخية الأصيلة) يتم فقط بمعرفة مبادئ الإسلام، والتركيز عليها، وتربية الأمة عليها، بعقيدة هذا الدين، القائمة على توحيد الله تعالى؛ التي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية؛ فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل؛ حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر.. أما إذا عُزِّزت الهوية (ولم تستسلم من الداخل) فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان.. مع ضرورة إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته، وعدالته، وحضارته، وثقافته، وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.. فقد استيقظت أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي على رؤية النهضة العلمية الإسلامية الباهرة، وسرعان ما أخذ كثيرون من شبابها يطلبون معرفتها، فرحلوا إلى مدن الأندلس؛ يريدون التثقف

ص: 77


1- محمد عمارة . «مخاطر العولمة على الهوية الثقافية». نهضة مصر للطباعة، ط: 1، عام 1999م، ص: 44.

بعلومها، وتعلموا العربية، وتتلمذوا على علمائها، وانكبوا على ترجمة نفائسها العلمية والفلسفية إلى اللاتينية، وقد أضاءت هذه الترجمات لهم مسالكهم إلى نهضتهم العلمية الحديثة (1).

القيام بمتطلبات الإصلاح السياسي والاجتماعي، فالأوضاع الداخلية في معظم بلداننا لا تؤهلها مطلقاً للتعامل بفاعلية مع متطلبات التمكين الهوياتي، ولا مع تطورات عصر العولمة وتحدياته؛ مما يحتّم ضرورة الشروع في عملية الإصلاح الداخلي. وهو إصلاح لا بد أن يقوم على إجراء تحول سياسي حقيقي بصورة تدريجية وتراكمية، بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويكافح ظواهر الفساد السياسي والإداري.. وهذا هو المدخل الحقيقي لبناء دولة المؤسسات، وتحقيق سيادة القانون، وترشيد عملية صنع السياسات والقرارات، وهو المناخ والتربة المناسبة لتظهير الهوية بأقوى معانيها في مواجهة تحديات إسقاطها والنيل منها، خاصة على صعيد مقاومة الغزو الثقافي الذي يمارسه المالكون للعلم والتكنولوجيا ضدها كهوية تملك روحاً وثّابة متجذرة في نفوس المؤمنين بها، وهذا لا يقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لابُدَّ منها لممارسة التحديث ودخول عصر العلم والتكنولوجيا.. نعم نحن في حاجة إلى التحديث الثقافي والاجتهاد في الفكر الديني لحماية هويتنا، بالانخراط في عصر العلم والتكنولوجيا كفاعلين مساهمين، ولكننا في الوقت نفسه في حاجة إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشي تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلى العالم أجمع بوسائل العلم والتكنولوجيا، وليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين بل متكاملتين. وهنا يجب التشديد على دعم اللغة العربية وتعزيز مكانتها وتنشيط التنمية القومية والحضارية، باعتبارها الضمانة الوحيدة لاستمرار هذا المكون وتطوره. والتركيز على التربية المستقبلية، وإبراز الهوية الحضارية للأمة العربية، وتنميتها والمحافظة على أصالتها قومياً وإنسانياً، باعتبارها مصدر إبداع وعطاء وتفاعل مع مختلف الثقافات العالمية .

ص: 78


1- جمال نصار. «الهوية الثقافية وتحديات العولمة». مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر: 2015/1/28م. الرابط: .http://studies.aljazeera.net/ar/issues/2015201512895243715948/01/.html:a1

ضرورة الدخول بقوة في عصر العلم والمعلومات والتدفق المعرفي والمعلوماتي، ليس مشاركةً فقط بل إنتاجاً وإبداعاً، بحيث يمكن اللحاق بأسرع ما يمكن بكل منجزات العصر العلمية والتكنولوجية بما تفرضه من أنماط ثقافية. أي التسلح بمعطيات التكنولوجيا الحديثة والتقانات التربوية المتطورة، وتطويعها لخدمة رسالة الأمة الحضارية المتسلحة بالعلم والمعرفة من خلال شبكات الاتصال الإلكترونية والحاسوبات المتطورة في عصر العلم والثقافة والتفجر المعرفي وإنشاء مراكز الأبحاث والدراسات التي تركز على هوية الأمة.. فالإسهام الثقافي العربي والإسلام (بل وربما يمثل مركز الثقل الأساسي فيه) كان يمثل أحد الركائز الأساسية للثقافة الإنسانية عموماً (1).. والجميل في الأمر أن ديننا الإسلامي هو الذي يحث على التشارك والمساهمة وثقافة التواصل والانفتاح على الآخر. يقول تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).

وهذا التعارف هو دعوة للتواصل، أمرٌ للمسلم ليكون منسجماً مع عصره ووجوده المتحول والمستمر، خاصة على صعيد هويته، وهي اليوم - في عصر تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة - هوية متحركة، ولم تعد ساكنة، بل تعدّدت وجوهُها وأبعادُها، ولا يمكن أن تظلّ ذاتَ وجه وبعد واحد، لأن الواقع الشديد التحول يفرض عليها أن تصير متعددةَ الوجوه والأبعاد، تتعدد عناصرها وتتنوع مكوناتها تبعاً لتعدد وتنوع إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتغير. والهوية في حالة تشّكّل مستمرة، إذ لا تستطيع أية هوية أن تعزل نفسها عما يجري فيما حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع حادّ ومتسارع للتغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغير كلُّ شيء فيما تظل الهويةُ ساكنة (2).

ص: 79


1- رشدي أحمد طعيمة. «العولمة ومناهج التعليم العام» . الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، مصر / القاهرة، طبعة عام 1999م، ص: 32.
2- عبد الجبار الرفاعي. «لا يمكن الوثوقُ بمعرفة لا يعرفُ الدينُ فيها حدودَه». موقع مؤمنون بلا حدود، الرابط: http://www.mominoun.com/articles.

رابعاً - حول جدل الهوية بين الثابت والمتغير

إنّ المحافظة على الهوية التاريخية للأمة العربية والإسلامية، في مواجهة محاولات تحريفها أو تفريغها أو التلاعب بها، وإسقاطها في نظر أتباعها، لا تتحقق بالتقوقع والرفض بل بالانفتاح والوعي، فكل الأمم تعرضت لغزوات ومحاولات طمس هويات وإمحاء وجودها الثقافي والتاريخي، ولهيمنة أمم أخرى عليها.. والغزو الثقافي قائم وموجود منذ زمن طويل بأشكال وأنماط متعددة ومتنوعة، وكل الأمم تحاول فرض هويتها الثقافية على الأمم الأخرى خاصة عندما تكون في موقع القوة والانتشاء والتفاخر الانتصاري إذا صح التعبير .. ولكن مواجهة ذلك كله ، لا تكون بالانكفاء نحو الداخل والتكور على الذات والانغلاق على الهوية، بل يكون بالمواجهة القائمة على معالجة أمراض الذات أولاً، والانخراط الميداني في الحياة والواقع، والانفتاح على الفكر الآخر والتواصل والاحتكاك مع بقية الحضارات والمذاهب المؤيدة له، أو المناقضة لطروحاته. أي السير عملياً وليس نظرياً فقط على طريق الانفتاح على قيم العصر وأخلاقه العملية المتغيرة.

وعلى صعيدنا نحن في دائرتنا الحضارية الإسلامية، ينبغي على ثقافتنا وهويتنا - إذا ما أريد لها أن تنطلق بقوة إلى ساحة الحياة الإنسانية، لتكون قوية الحضور وفعالة الأداء ومحصنة ضد محاولات الطمس والتذويب - مواكبة تحديات الفكر والواقع في حاجات الناس ومتطلبات وجودها العضوي، وضرورة وجود حكم له (للفكر الإسلامي) في كل واقعة صغيرة أو كبيرة، فيما يتصل بعملية تطوير أنساقه وقيمه وتشريعاته، ومراجعة أنماط تعاملنا معه، ورؤيتنا له، وضرورة أن يطل هذا الفكر دائماً على آفاق المستقبل في حركة الفرد المسلم، بهدف أن تكون تلك الإطلالة كاشفة عن الواقع أولاً، ومستشرفة للمستقبل ثانياً، على مستوى ما يمكن أن تؤول إليه أوضاع فكرنا التراثي وهويتنا التاريخية، وبالتالي ما يعكسه ذلك على مواقع (والتزامات) شعوبنا الإسلامية، وثالثاً أن تساهم (تلك الإطلالة) في تطوير الحالة المعتدلة والمتوازنة من التواصل معه. هذه هوية إسلامية غير ثابتة محكومة بثبات النص الأصلي ، لكنها هوية تتحرك على هداه.

ص: 80

ومن المعلوم بالنسبة للجميع أنّ متغيرات الفكر والواقع والحياة - وكذلك حاجات الإنسان، ومتطلباته المعيشية فيها - تتطور باستمرار، ولا تقف عند حد بعينه. ولذلك فهي تحتاج إلى أن يطور الإنسان فهمه لها ووعيه بها، في أنْ يجعل عقله (وهو أحد أهم وسائل الوعي التشريعي لاستيعاب دلالات النص الثابت) سبيله الأساسي في اكتشاف متغيرات الوجود، وأسرار الكون والحياة.. فالإسلام - وهو دين الله الكامل والتام (1) - يدعو الإنسان دائماً إلى أن يتجدد، ويتكامل. ويدعو العقل دائماً إلى أن يتحرك. ويدعو التجربة إلى أن تدخل في كل الواقع.

ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك كثيراً من التطورات الفكرية والمتطلبات العملية المستقبلية لا تمثل الحقيقة الجديدة التي يمكنها الاستمرار والبقاء عبر مسيرة الزمن كله. ولا تقدم شيئاً مفيداً ومثمراً لتجربة الإنسان في الحياة. ولذلك لا يمكن للفكر الإسلامي أنْ يستجيب لها، بل إنه يعمل على مواجهتها، ورفضها. وهو يطلب من الإنسان أن يبتعد عنها .. فنحن نلاحظ - بين وقت وآخر - ظهور كثير من الظواهر الجديدة التي لا تصب في صالح البشرية، وسعادتها. بل إنها يمكن أن تقودها إلى الضياع، والتشتت، والهلاك، والخسران المبين في الدنيا والآخرة. ويوجد في هذا العصر المعولم الكثير من المظاهر الجديدة التي يمكن أن نعطيها صفة المعاصرة، ولكنها لا تعدو - في حقيقتها - أن تكون أكثر من موضة آنية، أو حالة هوس وتَعصْرُن غیر معقول، بعيد كلياً عن روح العقل والمنطق والفائدة.

أما بالنسبة للحاجات الأساسية للإنسان، فإنها حقيقة موجودة وواقعة تفرض ذاتها، ولابد من أن يعمل على إشباعها، وتحقيق متطلباتها، باعتبار أن من يتخلف عنها يبقى بعيداً عن روح العصر، ومنطق تطور الحياة والمدنية التي فيها خير البشرية، ونفعها، وتحقيقها لذاتها في حركة الوجود.

والإسلام نفسه يتحرك في الحياة بحسب الطرق والسنن العادية في الكون، والوسائل الجديدة التي يمكن أن يكتشفها الإنسان في الحاضر والمستقبل، حيث نراه يدعو

ص: 81


1- في إشارة لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِينًا) (المائدة: 3).

الإنسان باستمرار ليكتشف أسرار الحياة والقوانين التي أودعها الله في الكون. وأن يكتشف فكره مع كل جديد إيجابي يتناسب مع هدف وجود الإنسان في الحياة.

وكذلك فإنّ العقل الذي اعتبره الإسلام «رسول من الداخل» يمثل مسؤولية كبرى للإنسان أمام الله والحياة، فيما يتعلق بضرورة أن يُستخدم هذا الجوهر الإنساني - إلى جانب الحواس الأخرى - في خط التجارب الجديدة التي يمكن أن يتحرك فيها الإنسان.. وذلك من خلال تعميق خط الاجتهاد الذي يعني السعي. الدائم - في كل لحظة من لحظات التاريخ - إلى اكتشاف مختلف الطرق والوسائل اللازمة لحل المسائل المستجدة التي يطرحها التاريخ والتجارب البشرية الجديدة، وذلك في الطريق المستقيم الذي تحدده لنا الشريعة الخالدة.

وأما بالنسبة للجانب المعياري الثابت من الهويّة (التراثية) فإننا نعتقد أنّ الفكر الإسلامي استطاعَ أنْ يتعاملَ مع العُمق الإنساني بكلّ أحاسيسه التي تجعل منه إنساناً يملك الثقة الكبيرة بوجوده في كل قضايا الحياة، ويملك الثقة بمصيره حتى بعد الموت، ويبعد عنه اليأس.. باعتبار أن إيمانه بالله تعالى القادر على كل شيء، يمنع أن يكون هناك شيء لا يمكنه إيجاد حل له، والاستجابة لمتطلباته.

ولذلك فإنه يمكننا القول بأنّ هذه الخطوط العامة للفكر الإسلامي تتركز على أساس إنسانية الإنسان التي لا يختلف فيها زمن عن زمن. فالقضايا التي تنطلق - في العمق الوجودي - من إنسانية الإنسان هي من القضايا التي لا تطالها تغيرات الزمان وتحولاته العميقة والطارئة. ومن هنا تكون الحلول التي قدمها (ويقدمها) الإسلام للإنسان - على هذا المستوى - هي من الأمور الثابتة التي لا تتغير بتقادم الأيام، وتوالي العهود، وسيروة الحركة البشرية .. لأنها حلول مقدمة للحياة والإنسان، ومنطلقة في حركيتها الذاتية والموضوعية بالاستناد على عمق الإحساس الإنساني، وجوهره الروحي بعيداً عن كل الخصوصيات التي يمكن أن تتنوع في الحياة (1) ..

ص: 82


1- محمد حسين فضل الله . «المشروع الحضاري الإسلامي». مطبعة دار التعارف، لبنان/ بيروت، طبعة عام: 1990م، ص: 28.

ونحن نعيش الآن في عصر جديد ومتنوع بمفاهيمه، وأساليبه، ومعاملاته، يختلف اختلافاً كبيراً عن العصور السابقة، ونعايش فيه مشكلات وتحديات واقعية شديدة الغنى في كثافتها وألوانها وتنوعاتها، بحيث إنها أحدثت فراغاً وجودياً هائلاً، وفتحت المجال الواسع لإثارة وطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة النظم السياسية والثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تقوم في القرن الحادي والعشرين.

ففي عالم القوة المعرفية والعلمية، والتواصل الإعلامي العابر للحدود والقارات، ومقدرة الإنسان الفائقة للوصول إلى كل ما يرغبه وينشده، لم يعد من الجدوى في شيء وجود حدود وموانع بين الأمم والحضارات، ووضع حدود فاصلة. وهذا لا يعني البتة التضحية بخصوصيات الشعوب وسماتها الحضارية التاريخية ومعالمها وهويتها الثقافية ورأسملاتها الرمزية، لكن يعني ضرورة جعل الهوية الوطنية والدينية والتراث الرمزي للأمة ناهضاً وفاعلاً وأكثر قدرة على مواكبة التطورات والتغيرات الحياتية الواقعية التي تفرض وجودها كي تكون مقبولة وموضوعاً قابلاً.. وفي اعتقادي أن حبس أو إخفاء معالم الهوية الحضارية للأمة، أو منع الآخر من تداولها وتنشيطها والانفتاح عليها، أو حتى مساءلتها عقلانياً ونقدياً، لا يحافظ عليها، بالعكس هو أمر سلبي يكرس الهيمنة عليها، فالمحافظة على الهوية التاريخية والوطنية من الاستلاب والطمس أو التلاعب، والعمل على جعلها قوية ومنتجة وفاعلة، وقبل ذلك مقبولة، ليس له سوى طريق واحد وممر إجباري واحد وهو التعاطي أو التعامل معها من حيث كونها بنية معيارية قيمية بصيرورة وأبعاد متغيرة، وليست كينونة ذات ماهية ثابتة مغلقة تمامية معزولة ... لأنها ذات أبعاد مركبة ومتعددة، وليست ذاتاً أحادية ثابتة... لأن البعد الواحد، يقتل الهوية، بعد أن يجمدها ويحنطها، وينزع عنها أهم ما تحتاجه للتطور والبقاء وهو انفتاحها على الحياة والهواء الطلق، وتقوية قابليتها للتجدد والابتكار والتواصل الحي المنتج مع الآخر.

وعندما يكون الآخر (المرتبط أيضاً بهوية وتقاليد وأفكار وثقافة وأنماط سلوكية ذاتية) مكوناً أساسياً في الهوية الخاصة بالفرد والمجتمع والأمة، فعن أية ثوابت

ص: 83

«هوياتية» خاصة بالذات الحضارية نتحدث؟!.. خصوصاً وأن تشكّل ومن ثم تطور هذه الهوية، لم يأت إلا عبر حدوث تمازج وتفاعل حتمي مع هذا الآخر، المماثل جزئياً أو المختلف كلياً، خصوصاً وأنها تضم بين أجنحتها كثيراً من معارف وعادات وطقوس وتقاليد هذا الآخر.. لاحظوا معي مثلاً أتباع وجمهور كثير من فرق وملل وقوميات ومذاهب وعقائد ممن ينتمون للدائرة الحضارية الإسلامية، يوجد فيما بين تلك الفرق والملل والمذاهب، الكثير من عناصر التشابه الروحي والفكري إلى حد التطابق أحياناً في ممارستها لبعض خصوصياتها الهوياتية كجماعة قومية أو دينية.. فعيد النيروز مثلاً الذي هو هوية طقوسية اجتماعية لدى الأكراد (على اختلاف انتماءاتهم العقدية الإسلامية)، هو ذاته قائم كهوية جماعية وطقوسية اجتماعية لدى أبناء القومية الفارسية (الذين هم بغالبيتهم ينتمون للمذهب الإسلامي الشيعي)، وهو الطقس ذاته موجود أيضاً لدى فرق دينية إسلامية أخرى، تحتفي به بأشكال وعادات وتقاليد أخرى متنوعة، وبخصوصيات دينية تتمظهر بصور متباينة في الشكل بين هذه الفرقة أو تلك.

طبعاً، الثوابت والمقدسات موجودة وكائنة لدى الجميع، وتشكل جوهراً وروحاً عميقة لدى كل الهويات، بالتالي لا يمكن إلغاؤها، وهي كهوية أو كجزء من الهوية المجتمعية، ليست مشكلة بذاتها، المشكلة هي في تصيُّرِها كينونة متصرّمة قارّة مغلقة، وكتلة صماء متراصة بمعايير صلبة مصمتة تتغذى من جوهر معرفي عقائدي لا إنساني مفارق منقطع غير متصل، بما يحولها إلى عقبة كأداء أمام أية نزعة تطوير أو رغبة للتجديد والتحول الواعي الحضاري الإنساني.

ولا شك أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتميز عن غيرها باحتوائها على ثقافات متنوعة وهويات متعددة، وتضج بأشكال وأنماط متعددة من الهويات الثابتة، قومية ودينية واجتماعية وثقافية، بمعنى أنه لديها هي، فوائض هوياتية، إذا صح التعبير، ولكن للأسف لا تزال «مواطنية» أفرادها وأتباعها (أي ممارستهم للشأن السياسي والاجتماعي في بلادهم كحق قانوني لهم) ضعيفة ومنقوصة بل ربما غير موجودة

ص: 84

أصلاً لدى العديد من تلك الدول والكيانات السياسية التي تزخر بتلك الهويات المتنوعة ... هنا تكمن المشكلة الحقيقية على هذا الصعيد... إنها في تحول تلك الهويات العقائدية إلى هويات قاتلة عنيفة رافضة للآخر، وذلك كنتيجة طبيعية لقمعها وتسكينها بمخدرات الهوية الثابتة.

والملاحظ هنا أنه ومنذ بداية عصر النهضة سعى جمهور الفلاسفة الأوروبيين إلى تغيير هذه الصورة النمطية المعروفة والثابتة عن الهوية من خلال إعطائها معنى جديداً متغيراً ومختلفاً كلياً عن المفهوم الديني الثيوقراطي التقليدي المعشش في الأذهان والمجتمعات القديمة، والذي قدم لنا الهوية (كما جاء في المسيحية، وفي غيرها من الأديان) كمعطى أو كقيمة معيارية اصطفائية ثابتة خالدة غير قابلة للتحول.

لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة التنويريون أن الفرد - الإنسان يجب أن يكون هو قاعدة وجوهر أية هوية إنسانية، من حيث أنه كائن عقلاني يعي ذاته ووجوده، ولديه من الاستعدادات والقابليات الذاتية التي تجعله مؤهلاً وقادراً على بناء وجوده الخاص والعام، وتحديد غاياته وصناعة مصيره ومستقبله، وبالتالي بناء هويته الذاتية الداخلية الفردية، والموضوعية الخارجية الجماعية، مؤكداً استقلاليته تجاه سلطة الماضي، وقسر العادات والتقاليد.

لكن المشكلة التي واجهت أصحاب هذه النزعة الهوياتية الذاتية (ويقف الفيلسوف جون لوك على رأس هؤلاء) هي في جفاف و «يباس» و «ميكانيكية» هذا المعنى للهوية المتحركة المبنية على تعاقدات اجتماعية وسياسية... إذ كيف يمكن إعطاء الهوية معنى روحياً حيوياً - مطلوباً بطبيعة الحال - لتحقيق الذات في أصالتها وخصوصيتها، في ظل هذا المعنى أو الطابع المادي العضوي للهوية، المرتكز على إلغاء كامل لمجمل الأبعاد الوجودية واللاهوتية والتمظهرات الثقافية التاريخية، بعد استبداله بهوية الحياة الفردية العادية الجافة ذات «الأقنوم» الواحد، القائمة على فاعلية الإنتاج وآلية التبادل فقط ؟!!..

ص: 85

في الواقع لا يمكن إلغاء المعنى الروحي كجانب جوهري لأية هوية فردية أو جماعية على الإطلاق، لأنه يتصل بتاريخ الأمة والمجتمع والحضارة التي يعيش الفرد في كنفها، ويمارس حياته من خلالها ... ولا يمكن بالتالي، لأي إنسان أن يحقق عمق وهدفية وجوهر إنسانيته من دون إضفاء هذه الظلال الوارفة والمعاني الروحية الوافرة على هويته التاريخية والثقافية... أي من دون وجود محددات وأنماط وأنساق انتماء خصوصية تشكل معايير وأسس الهوية الفردية.

والهوية - بهذا المعنى - هويتان، هوية ذاتية تخص فكر وثقافة وانتماء الفرد إلى دائرة ثقافية تاريخية خاصة، وهوية أخرى، هي هويته كمواطن أو ككائن سياسي يعيش في وطن ودولة يمارس فيها ومن خلال أنظمتها وقوانينها، حقوقه وواجباته ومسؤولياته في العمل والإنتاج، وصنع المصير، في طبيعة الكيان، وشكل النظام السياسي المتصور.

ويفترض بهذه الهوية المرتكزة على قيم المواطنة السياسية المتجسدة في القانون العام الناظم لحركة الدولة والمجتمع، ألا تتناقض أو تتعارض - منذ بدء لحظة تشكلها الدستوري - مع هوية الفرد الذاتية الخاصة التي يمارس من خلالها انتماءه لفضاء ثقافي تاريخي خاص به وبالمجتمع أو بالتكوين الثقافي والحضاري الذي ينتمي إليه، كأنساق وعادات وتقاليد وأعراف خاصة معبرة عن مصالح الجماعة، وتطلعاتها في البناء والتطور ... خاصة مع وجود نظام سياسي تعددي ديموقراطي يحفظ التنوع ويحافظ قانونياً على التعدد الثقافي والتاريخي لمختلف المكونات الموجودة لديه، والتي يسمح لها بالظهور العام، والتعبير عن خصوصيات أصحابها ومريديها ومعتنقيها في الحضور و«إثبات الذات» ضمن المجال العمومي بلا أية تعقيدات أو إكراهات بما يساعدها على التفتح الطبيعي في الهواء الطلق جنباً إلى جنب بقية الهويات الخاصة بهذه الجماعة الحضارية أو تلك.

إن تشكُّل هذه الهوية الذاتية الخاصة في زمن مضى وانقضى، وكانت له حساباته وظروفه ومكتسباته، لا يعني بالضرورة أن تكون تلك الهوية مصمّتة ومغلقة على ذاتها

ص: 86

وقيمها وأفكارها، أو عاجزة عن الانفتاح على أسئلة الحاضر وتحدي المستقبل... بل إن القيمة الحقيقية العملية لمعنى تلك الهويات تكمن هنا، في قراءاتها بوعي وعقلانية بحسب تطورات العصر، لتحقيق مزيد من التواصل والتعارف والبقاء، ومزيد من الإنتاج الرمزي والمادي، والفاعلية والحضور المؤثر في الواقع الخارجي.

بهذا المعنى يمكن القول أن الهوية المنفتحة على الحياة والعصر، هي هوية الحضور والإنتاج الرمزي ، بينما الهوية الثابتة هي هوية الانغلاق والانقطاع والموت الحضاري.

من هنا، لا يمكن للهوية أن تكون فاعلة وحاضرة وقادرة على الثبات والمواجهة وممارسة دور نوعي، طالما هي باقية في كهوف الماضي، منغلقة ومتحجرة في أنفاقه المخفية.. شرط إيناعها وإنتاجها لذاتها في سيرورة الزمن، هو انفتاحها، وتفاعلها الخصب مع غيرها ..

مراجع الدراسة:

- الكتب:

ابن منظور. «لسان العرب». الجزء: 15، دار صادر للطباعة والنشر، طبعة عام 1968م، لبنان/بيروت.

بهاء شاهين. «العولمة والتجارة الإلكترونية رؤية إسلامية». مكتبة الفاروق، القاهرة، الطبعة الأولى لعام: 2000م.

جيهان سليم. «الثقافة العربية : أسئلة التطور والمستقبل». (بحث: عولمة الثقافة واستراتيجيات التعامل معها في ظل العولمة». مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان/بيروت، طبعة أولى لعام 2003.

رشيد بلحبيب. «الهويات اللغوية في المغرب من التعايش إلى التصادم». ضمن كتاب اللغة والهوية في الوطن العربي، إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، قطر/الدوحة، طبعة كانون الثاني 2013م.

رشدي أحمد طعيمة. «العولمة ومناهج التعليم العام». الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، مصر/القاهرة، طبعة عام 1999م.

سويم العزي. «علم النفس السياسي». الأردن/عمان، الثراء للنشر طبعة: 1، عام: 2010م.

ص: 87

عبد العلي الودغيري. «اللغة والدين والهوية». مطبعة النجاح الجديدة، المغرب/الدار البيضاء، طبعة عام: 2000م.

عبد الباسط عبد المعطي. «العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي». مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، عام: 1999م.

عدنان السيد حسين: «متطلبات الأمن الثقافي العربي : دراسة في الإستراتيجيات والسياسات»، من كتاب الثقافة العربية، أسئلة التطور والمستقبل، بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003.

فرال حسن خليفة. «الإديولوجيا والهوية الثقافية - الحداثة وظهور العالم الثالث -» ترجمة لكتاب جورج لورين، مكتبة مبدولي القاهرة، ط1، 2002.

محمد حسين فضل الله. «المشروع الحضاري الإسلامي». مطبعة دار التعارف، لبنان/بيروت، طبعة عام: 1990م.

المعجم الوسيط، صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الطبعة الخامسة، الناشر: مكتبة الشروق الدولية، عام 2011م، ج: 2.

«المعجم الفلسفي». مجمع اللغة العربية، المطابع الأمرية، مصر/القاهرة، طبعة عام: 1983م.

محمد عمارة. «مخاطر العولمة على الهوية الثقافية». نهضة مصر للطباعة، ط: 1، عام 1999م.

المعجم الفلسفي. مجمع اللغة العربية، المطابع الأمرية، مصر/القاهرة، طبعة عام: 1983م.

نظام محمد بركات. «التبادل اللامتكافئ بين الثقافتين العربية والغربية». من كتاب الثقافة العربية، أسئلة التطور والمستقبل، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003.

ناظم عبد الواحد الجاسور. «موسوعة علم السياسة». الأردن/عمان، دار مجدلاوي للنشر، طبعة: 1، عام 2004م.

-المجلات:

مجلة العربي الكويتية، العدد: 576، تشرين ثاني 2006م.

مجلة عالم الفكر الكويتية، أكتوبر/تشرين الأول 1999م، عدد: 2.

مجلة السياسة الدولية، العدد 134، سنة: 1998م.

ص: 88

طبخة الاستعمار الحديث

اشارة

من النظام العالمي الجديد إلى العولمة فالحداثة

محمود بري

محمود بري (1)

تقوم علاقة جدلية وثيقة، وإن كانت غير مضاءٍ عليها بما يكفي، بين الاستعمار الذي يُنظر إليه اليوم كمفهوم «عتيق»، وثُلاثية النظام العالمي الجديد والعولمة والحداثة كمفاهيم استجدّت على «آلة» الاستعمار البالية فجعلته «حديثاً» بحيث يَنشب أنيابه أعمق في جسد البلد الذي يستهدفه وروحه. وضمن هذا المثلث تنبض روح الغرب الإمبريالي «الشريرة» الناهشة التي لا تكتفي ولا تشبع.

النظام العالمي الجديد بات كالعملة التي تجاوزها الزمن، ولم تُعتق بعد لتصبح ذات قيمة . يبقى المفهومان الآخران.

العولمة بدايةً، هي مفهوم مُلتبس أساساً وغير جليّ، بل لعلّه من أكثر المفاهيم غموضاً وإبهاماً وتداخُلاً وتعدُّدية. والشهادة للمفكر «السيد ياسين» الذي رأى: «إن صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة شاقة نظراً لتعدد تعريفاتها، التي تتأثر أساساً بانتماءات الباحثين الأيديولوجية واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضاً أو قبولاً». (2)

ص: 89


1- باحث وكاتب لبناني.
2- برهان غليون - العرب وتحديات العولمة الثقافية، مقدمات في عصر التشريد الروحي - (مجلة ثقافية - أبو ظبي - 10 أبريل- 1997ف).

بين العولمة والأمرَكَة

على المستوى اللغوي تأتي لفظة عَولمة على وزن قَولبة (بفتح العين) وتُنسب بالمعنى إلى العَالم. والكلمة مشتقة من الفعل «عَولم» على صيغة «قَوعل. تقابلها كلمة (Mondialisation) الفرنسية، بمعنى جعل الشيء على مستوى عالمي، والمعنى ذاته للكلمة الإنكليزية (Globalisation) (1) .

المقصود المستور بالكلمة، وهو الأهم، عملية توحيد العالم داخل قفص مصلحة الدولة - الدُّول الأقوى والأغنى. وحين تأتي العولمة من جهة أو جماعة أو دولة بعينها، ينبغي أن تعني تعميم النمط الذي يخصّ ذلك البلد أو تلك الجماعة. لذا يصح القول إنه طالما الدعوة إلى العولمة قد ظهرت من الولايات المتحدة الأميركية، فمن البديهي أن يكون المقصود بها هو الدعوة إلى التوحّد ضمن أقانيم النموذج الأميركي ذاته. وعلى الرّغم من أن العولمة انطلقت أساساً كنظام اقتصادي، إلّا أنها انطوت كذلك (ومن باب أولى) على نظام أيديولوجي من العلاقات بين الدول يقوم أساساً على تجاهل الثقافة الذاتية للشعب «الذي تجري عولمته» وإخراجه من تاريخه وتُراثه لكي يتأقلم مع النموذج الجديد. وهذا يقتضي التخلّي عن بعض الموروث (أو الكثير منه) وتوحيد أنماط الحياة المادية والفكرية على مختلف مناحيها، بما يتطلبه النموذج الأساس. لذا فكثير من المفكرين اتخذوا مبكراً موقفاً مُعادياً منها فاعتبروا أن العولمة هي الأمرَكة... مباشرة، وباللغة الديبلوماسية: جعل العالم عالماً واحداً موجهاً توجيهاً واحداً في إطار نموذج واحد هو النموذج الأميركي (إنما من دون هذا التوضيح ... الواضح). وهذا ليس تهمة ولا افتئاتاً ولا زعماً مثقوباً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أرجحية المساهمة الأميركية في بناء ونشر ورعاية وتعميم العولمة في العالم.

وهنا لا بدّ من ملاحظة. فتيار العولمة بصيغته المعاصرة ظهر في مرحلة بالغة الحساسية على المستوى العالمي، وتحديداً بعد انهيار النظام الشيوعي وعلى أنقاضه. وتوافق ذلك مع بدء انتشار جملة التكنولوجيات الحديثة كالحواسيب

ص: 90


1- احمد عبدالرحمن وآخرون - الإسلام والعولمة - ط 1 (الإسكندرية - الإشعاع الفنية للنشر - سنة 2002).

وشبكة الإنترنت وقنوات التلفزة الفضائية والشركات متعددة الجنسيات والعابرة للحدود وهاتف الجيب وتقنيات التواصل... ولقد جرى تسخير ذلك في خدمة العولمة ومصالح رُعاتها الكبار بمنتهى الدهاء والفعالية. وعن طريق ذلك بوشرت رحلة تحطيم الخصوصيات التراثية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية، في سبيل التوحّد ضمن منظومة العولمة التي لم تلبث أن ظهرت كشكل مبتكر من أشكال الاستعمار الغربي الحديث، إنما داخل زيّ خدّاع، حيث تعمل الدول القادرة (بالأحرى الدولة المُهيمنة أساساً وهي الولايات المتحدة الأميركية ومعها أتباعها الغربيون) على بسط نفوذها وهمينتها على ما أمكنها من باقي دول العالم، من لاتينية هناك وأسيوية هنالك وإسلامية وعربية هنا، مع الهيمنة على الشعوب والمقدّرات والإمكانات والثروات البشرية والطبيعية.

هذا الوجه للعولمة لا يراه الغرب بكل سياسييه ومفكّريه. فأحد أبرز علماء السياسة الأميركيين اليوم، «جيمس روزانو»، يصف العولمة بأنها «علاقة بين مستويات متعددة، لتحليل الاقتصاد والسياسة والثقافة والأيديولوجيا، وتشمل: إعادة الإنتاج، وتداخل الصناعات عبر الحدود، وانتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول نتيجة الصراع بين الجماعات المهاجرة والجماعات المقيمة » (1) . وهذه ليست نظرة خاطئة، لكنها قاصرة، بمعنى أنها لا تختصر حقيقة الهدف الذي أَراده الساسة الغربيون من العولمة.

النهب الإبستيمولوجي

تحت عَلم العولمة والحدود المفتوحة والرأسمال المتجبِّر والشركات العابرة للحدود والقارات والأمم، بوشرت عملية نهب إبستيمولوجي هائلة استهدفت استكمال الغرب وعلى رأسه واشنطن، عمليات السطو على مجموعات المعارف والعلوم والتقاليد والتراثات من باقي شعوب الأرض، ومن العرب والمسلمين قبل

ص: 91


1- الشاذلي العياري - الوطن العربي وظاهرة العولمة - الوهم والحقيقة - مجلة منتدى الفكر العربي - ( عمان - العدد 140 - أيار سنة 1997) .

سواهم، ثم إعادة تدوير ما يوافقهم منها ونسبته إلى الغربيين والغرب، كأنما العلم والمعرفة والثقافة وأسلوب الحياة الأفضل هي خصوصيات غربية. فأوروبا ذاتها كانت في الماضي أرضاً خصبة للحروب (الدينية بشكل أساسي)، وقرية مظلمة ومهمّشة على الصعيد العالمي. ولم يتحقق تطوّر المعارف والعلوم فيها بفعل كفاءات محلية بل من خلال النقل عن الحضارات الأخرى والتأثر بها وتطوير ما هو باهر لديها. فهى نهلت من الحضارات الهندية والصينية والإسلامية والأفريقية، في حين كانت عواصم الغرب الأوروبي متهالكة تحت مقاصل «محاكم التفتيش» وقبلها رغبات الملوك مُطلقي الصلاحيات وبعدهم شهوات الإكليروس و «صكوك الغفران» فضلاً عن رمي العلماء ( والعلم في أحيان كثيرة) بالحرم الكنسي. كل ذلك بينما كانت العلوم مزدهرة ومتقدّمة في العالم الإسلامي (الفلك والحساب والفلسفة والبيولوجيا والطبابة...)، وهو ما جرى نهبه ثم «أوْرَبَتُه» مع حجب منابعه ومصادره وأصوله، ونسبته إلى أوروبا، في سبيل بناء السُمعة الحضارية للقارة وتكريسها منارة للرقي والتقدّم. الأمر الذي لم تلبث أن سلبته إياها الولايات المتحدة الأميركية وتركت لها التمتع بشيء من ظِلِّه.

لقد جاء طرح العولمة (ومعها الحداثة) في البداية تحت شعار كونهما مدخلاً متكاملاً لمشروع عصري للتحرر ولرفع المستوى المعيشي لشعوب الدول غير الميسورة من خلال «ضمّها» إلى العالم «المتقدِّم» وفتح آفاق التطوّر والرقيّ أمامها. وعلى وقع مثل هذا الصنف من التسويق المُخاتل كان يجري استغلال الغرب لبقية العالم (المسمّى بالنامي) بما فيه العديد من دول القارة الأميركية نفسها، لاستكمال سيطرته الغربية تحت مزاعم التمدين ويافطات المعرفة والوعي. وشيئاً فشيئاً راحت العنصرية الإستعلائية للغرب تثبّت أقدامها في المجالات العامة والخاصة لتلك الدول، وراجت تنظيرات بالغة الإساءة تتحدث عن «شعوب غير متحضِّرة» ثم عن «شعوب همجية»، حتى وصل الأمر ببعض عُتاة العنصريين الغربيين إلى الحديث عن «شعوب دُنيا» ثم «شعوب بلا روح» لتوصيف الشعوب الفقيرة، إلى أن بلغ الأمر أقصاه حين اتُّهِم غير أبناء دول الغرب الغنية بأنهم «غير بشريين» وبأنهم من دون حامض نووي ADN بشري ولا تتوفر لديهم جينات الإنسان، ما يجعلهم بحسب هذا

ص: 92

النوع الخُرافي من المزاعم، شعوباً بربرية وغير مؤهلة للخوض في العلوم الطبيعية والبيولوجية وسواها، وبالتالي فمن واجب الغربي تمدينها وتنصيرها.

بمثل هذه السرديات الخُرافية كانت أوروبا (ثم الولايات المتحدة من بعدها) تبني سيطرتها واستعمارها عاملةً على توظيف العولمة والحداثة كليهما لخدمة مصالحها وأطماعها.

فالحريات كانت أنشودة البروباغندا الغربية الأولى، لكنها لم تكن مشاعة ولا مُباحة إلّا لأناس محدودين (هم الغربيون المتحكّمون من باب أولى) مع حرمان غيرهم منها. وكذلك الأمر بالنسبة للديمقراطية والثروة والسلطان. وكل منافع العلمنة والحداثة ينبغي أن تُكرّس في هذا السبيل ، مع نشر المزاعم من أن أصحاب الامتيازات هؤلاء، لم يحصلوا عليها لأنهم غربيون، بل بسبب أنهم عقلانيون ومتحضّرون ونشيطون (1) ، ولأن علماء منهم وعباقرة هم الذين حققوا الاختراعات واكتشفوا أسراراً لم تكن معروفة عن الطبيعة والطاقة والعلوم والمعارف.

السطو على «الثورة الصناعية»

تحت هذا اللمعان جرى تمرير جملة من أكبر الخِدع العالمية في التاريخ، وفي طليعتها الثورة الصناعية التي نسبوها لأنفسهم. والحقيقة أن دارسي التاريخ والحضارة يدركون جيداً أن الثورات الصناعية الأولى في التاريخ، تحققت في الصين والهند وليس في بريطانيا أو فرنسا. فدلهي وشنغهاي كانتا من أشهر مراكز الغزل والنسيج في عالم تلك الآونة، وقبل أن تعرف أوروبا ذلك بردح طويل من الزمن.

وما فعله الإنكليز في الهند هو أنهم دمروا كل القاعدة التصنيعية في البلاد بعد أن سرقوا التكنولوجيا والآلات وقاموا بتفكيك البُنى الصناعية والمعامل القائمة، وأعادوا تركيبها في ليفربول ولندن ومانشستر وسواها، وراحوا يتحدثون بعد ذلك عن «معجزة» الثورة الصناعية الإنكليزية والأوروبية، وعن «علمائهم الأفذاذ» زاعمين أنهم هم من

ص: 93


1- .estqlal.com/resources/docs/10_03_2014_27295309243_846647.doc

اخترع تلك الآلات وطوّرها. وهكذا أوهموا العالم أن الثورة الصناعية بدأت معهم وبواسطتهم، وأن أوروبا هي مركز التقدّم والتحضّر. ولئن بقيت الصين حتى القرن التاسع عشر مشكلة للغرب على مستوى إنتاجها الصناعي المتدفق، فقد شنّوا عليها «حرب الأفيون» الشهيرة وعملوا بلا هوادة على تدمير بُناها الصناعية بذريعة حماية حرية التجارة لمصلحة العالم أجمع. وبعد أن تمّ لهم ما أرادوا، اعتنوا بنسج سرديات لتاريخ مزعوم بهدف طمس جرائمهم وهيمنتهم على مقدّرات الشعوب والأمم.

والدرس والمغزى المباشرين من كل ذلك أنه وببساطة لم تحصل لا عولمة ولا حداثة من أجل تحديث العالم وتقريب الشعوب وتيسير سُبل التفاهم والعيش والإنتاج والتبادل، بل إن الهدف الأساس والمقصد الحقيقي كانا استعماريين تسلُّطيين بامتياز. فليس ثمة حداثة بلا استعمار ولا عولمة من دون هيمنة (1).

الحداثة «سمسار» العولمة

على الضفة المقابلة تتجلّى الحداثة ب- «أناقة» الحلم بالمستقبل الموعود. لا شك أن بين العولمة والحداثة صلة قُربى وثيقة. فالحداثة أساساً هي فكر أُريد له أن يكون عالمياً، وبالتالي فالعولمة كانت عصباً محسوباً في منشأ الحداثة وصيرورتها، وما انفكّت تدعو بكل قوّة إلى ركوب قطارها والانخراط في ورشتها تأثيراً وتأثراً، ومتابعة خطواتها في مسار تداخلي وتكاملي لبناء التبعيّة الكليّة للنموذج الغربي - الأميركي، إذ ما كانت الحداثة أساساً إلا اعتماد الأفكار التي يروّجها غربيون، أميركيون في معظمهم، واعتمادها نهجاً جديداً «متنوّراً» فيه خلاص موعود للعالم وللإنسان من أثقال العصر وأزماته. على هذه الخلفية جرى تقديمها على أنها سبيل الأخيار، وأن عدم الانتظام في مساراتها هو خيار الأشرار الذين يجب مقاطعتهم وتُركيز المنصّات الإعلامية بكل جهودها الفاعلة لمحاصرتهم وتشويه مرادهم وإفشال مخططاتهم (المزعومة)، إلى جانب العمل على شيطنتهم ثم فرض القيود عليهم والعُقوبات.

ص: 94


1- .https://nawaat.org/portail/200530/01//cultural-identity-recuperation-

الواقع أنه لطالما أشاع الغرب أن التحديث هو رسالته الأساسية، وبات مقياس مستوى حضارة ورقيّ أي شعب أو دولة، هو مدى قربه من النموذج الغربي ومبلغ تأثره به وسعيه نحوه، وبالتالي بمدى استجابته للحداثة كمشروع فلسفي وتجربة تاريخية. أما المجتمعات المتقدّمة صناعياً خارج نموذج الغرب الأورو - أميركي، کالیابان مثلاً، فقد عوملت أولاً كشعب ينبغي إخضاعه والقضاء على أيّ أثر للممانعة أو الإستعلاء عنده. وهذا ما تحقق من خلال العصف النووي المزدوج الذي نهش مئات الألوف من أهالي وسكان كلٍّ من هيروشيما ونغازاكي، فأخرج اليابان من ميدان المنافسة وكذلك من مصاف القوى العسكرية (حتى اليوم). بعد تحقيق ذلك وتثبيته وتقييد طوكيو بالمعاهدات والمواثيق وإلزامها بالمحضورات والممنوعات بحسب ما اقتضته مصالح أميركا والغرب، بات يُنظر إلى تلك الدولة كصديق منطقي للغرب وللولايات المتحدة أساساً. أما الدول التي أبدت عدم ترحيب باعتناق الحداثة، فقد رُميت بالشذوذ والإرهاب واعتُبرت خطراً على «الحضارة» وبالتالي عدواً محتملاً لما أسماه الغرب ب- «المجتمع الحُرّ».

وثمّة ملاحظة هنا. فالغرب بقيادة الولايات المتحدة لم يبنِ ويستخدم مركب الحداثة (بعد جرعة العولمة) لمجرّد إنقاذ الرأسمالية من أزمة تُعانيها فقط، ولا لكي يضمن مركزيته الاقتصادية أو الجيوسياسية فحسب، بل أرادها وسيلة طاغية للهيمنة على العالم من جميع النواحي وعلى الأصعدة كافة من خلال تعميم أسلوب حياته وأذواقه وقِيَمه وآدابه ومسالكه على الناس جميعاً، متكئاً على اعتباره أنه هو ذاته القدوَة والمِثال والنموذج الواجب أن يُحتذى. وبهذا كان الجبّار الأميركي يضع لُبنات إضافية جديدة في بناء عمليته المتواصلة لاستعمار العالم بوسائل وطُرقٍ مختلفة عمّا اعتمده الاستعمار القديم.

إن الحداثة التي بُذِل الكثير لتصويرها كمشروع تحرري، لم تكن كذلك بالفعل إلا بالنسبة لما لا يزيد عن نسبة ضئيلة من المتنفذين المسيطرين. ولهؤلاء وحدهم امتياز التمتع بإيجابيات الديموقراطية والثروة والسلطان، بينما يجري إبقاء باقي العالم

ص: 95

خارج أسوار أثينا. فالثراء الأميركي مثلاً لم ينبت في نوافذ نيويورك ولا في صالات لاس فيغاس في البدايات الأولى لتشكُّله، بل قام على أكتاف عبيد أميركا الشمالية والبحر الكاريبي. وبفضل عَرَق هؤلاء وتشغيلهم بأدنى الأجور ومن دون أيّ حقوق إنسانية، تراكمت مواسم القطن الآتية من حقول ومزارع جنوب الولايات المتحدة،؛ وبفضل السكّر الآتي من جزر الكاريبي كان العمّال يشتغلون 16 ساعة يومياً، وهم من زنوج أفريقيا الذين استعبدهم الأميركي الأبيض منذ ذلك الحين.

وعلى هذا الصخر الذي يرشح عَرَقاً ودماً، ارتكزت مفاهيم الاستعمار الجديد على ظهر العولمة وباستغلال بريقها الأخّاذ الذي اجتاح العالم في ذروة القطبية الأميركية المتفرّدة على القمة.

الطبق المسموم

بفعل تضافر العولمة والحداثة تحول الجزء من الكوكب المنجذب إلى النموذج الأميركي إلى سوق واحدة للسلع والخدمات ورؤوس الأموال الأميركية. وتجلّى ذلك بإزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية التي تُقيّد انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر حدود الدول، وتكوّن المنظمات الاقتصادية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية).

ومن هنا تكوّنت «طبخة الاستعمار الحديث» القائم على مفردات العولمة والحداثة اللتان جرى حرفهما عن المسار التطوّري الطبيعي لكي تخدما الأحادية القطبية (الأميركية) وهي تعيث نهباً وفساداً في عالم اليوم. لقد تغيّرت المفاهيم والوسائل لكن الهدف بقي هو إياه. اتّسعت المقاصد الاستعماريّة من مجرّد السّعي إلى الهيمنة الظاهرة (الفاقعة) على البلد الواقع تحت الاستعمار، إلى جعله تحت الهيمنة كأنما بإرادته الذاتية، وذلك من خلال دفع «بيادقها» فيه إلى إعلاء شأن القوة العالمية التي تسميها «دولة صديقة»، والتولُّه بها والسير على طُرقها والتمثُّل بمسالكها واعتمادها مثلاً يُحتذى في الثقافة والسلوك وطرائق الحياة، عاملةً على تعميم «قناعاتها» هذه في

ص: 96

البلد، وتصويرها على أنها الغد الذي ينتظره الناس. وهذه البيادق تحصل باستمرار على الدفع الكافي من الخارج، وعلى الحماية والتوجيه والمساندة.

وتحت يافطة عولمة الاقتصاد وتحديث المجتمعات سعى القوي إلى تحويل بقية العالم إلى سوق استهلاكية لبضائعه ولأفكاره وللنماذج الحضارية والسلوكية التي يُطلقها. من هنا يمكن فهم موقف باحث السوسيولوجيا البورتوريكي والأستاذ في جامعة «بركلي» في الولايات المتحدة، «رامون غروسفوغل» حين يتحدث عن «استحالة فصل الحداثة الأورومركزية عن الاستعمار»، منتقداً بشدّة ما يُسمّيه «محاولات اعتبار الحداثة مشروعاً للتحرر وللرفع من المستوى المعيشي للناس، في حين أنها تتجاهل كيف يتمّ ذلك كما تتجاهل سيطرة واستغلال أوروبا لباقي العالم ومن ضمنها القارة الأميركية تحت هذه المظلّة إياها». وفي ذروة هجومه على الحداثة كاسلوب استعماري، يقول «غروسفو غل» (1) .

«إن الحداثة ليست مشروعا تحررياً (...) وحتى في القارة الأوروبية فالبعض لا يصله سوى الفتات من «المتفوقين عرقياً» عنهم، بمعنى أن دُعاة الحداثة الكبار هم الذين استفادوا تاريخياً من نهبهم لباقي العالم، وهم توسلوا موجة الحداثة نفسها لتحقيق ذلك، كما سخّروا العولمة وقبلها».

وهنا أيضاً التساؤل الذي يحمل في ثناياه الأجوبة الشافية التي تجلو كل ضباب التعمية: ما لم يكن الاستعمار هو كل هذا النهب للدولة التابعة واستباحة مقدّراتها واستتباع شعبها وإخضاع سلطاته والسيطرة على طموحاته التحررية وطمس ثقافته المميِّزة وجعلها سوقاً مفتوحة لبضائعه ولترّهاته الفكرية... ما لم يكن الاستعمار كل ذلك، فماذا تراه يكون؟

ص: 97


1- .http://www.mominoun.com/articles-

الاستعمار مهمة وطنية

لئن أمكن للأقوى ليّ ذراع الحداثة ليجعلها أداة في مشروعه الإمبريالي الواسع على مستوى الكوكب، فهو في الحقيقة لم يتمكن من تشويه حقيقتها النظرية. فالحداثة لیست شرّاً كلّها، ولا هي بمجملها كما رآها الفيلسوف وعالم الطبيعة والرياضيات الألماني «غوتفريد فيلهيلم لايبنتز» سبيلاً «لتسخير الآخرين...»، بل هي قبل ذلك «وسيلة تعايش مع الآخرين على قاعدة الإنسانية المشتركة ...»، بحسب ما نظّر لها الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانت».

ولا شك أن النظرتين، وعلى تناقضهما، توصّفان الحداثة بوجهيها وتُعبّران عمّا يمكن أن تكون عليه. إلا أن المشكلة الكبرى تمثّلت في أن الغرب قد سار دوماً خلف «ليبنتز» وعلى هَدي أفكاره الجارِحة فاحتل الأرض ووظف أصحابها في خدمة مشروعاته التي جعلها على حسابهم، ودعاهم إلى الركوب في مركب الحداثة ثم عمل على تعطيل تطورهم الطبيعي إليها .

هكذا تجلّى النموذج الاستعماري المعاصر الذي سخّرت في سبيل تحقيقه كل الأدوات التي أتاحتها العولمة والحداثة معاً. وهذا ما عبّر عنه صراحة د.عادل الطاهري حين اعتبر أن «عولمة القرن العشرين هي الامتداد الطبيعي للاستعمار أو للنقل هي ما يسمى ب-«ما بعد الاستعمار» (1) .

والحقيقة أنه بات واضحاً اليوم أن العولمة في واقعها العملي هي المعبّر الحقيقي عن الإمبريالية الغربية التي تأتي الحداثة في طليعة أدواتها. وهي إذ تروِّج لفكر الأقوى اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً، فهي تروِّج بذلك للحداثة أيضاً من حيث كونها منظومة فكرية متكاملة تغطي جميع مناحي الحياة، وفي الآن ذاته منظومة هدّامة للخصوصيات الثقافية والحضارية لكل شعب أو أمّة. وما لم يكن كل هذا الطاغوت والإمتهان والهيمنة هو الاستعمار ذاته في أقسى وأخطر وجوهه وأساليبه، فما عساه يكون إذن؟! .

ص: 98


1- .https://www.hespress.com/opinions/18000.html-

إن النظر فى مسارات العولمة المُنكّهة بالحداثة والمعتمدة عليها يؤكد ارتباطهما المشترك بمفهوم الإمبريالية «المُعصرنة»، من حيث كون هذه الأخيرة أعلى مراحل تطور الرأسمال وهيمنته التي تتحقق من خلال عالمية الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات التي لا تعرف حدوداً جغرافية. أليست العولمة هي الوسيلة المعتمدة والرائجة لقطع الآخر عن جذوره وإدخاله في المسيرة المفروضة عليه من خلال اعتماد أساليب الإخضاع والهيمنة تحت طائلة العزل والمقاطعة والمحاصرة وصولاً إلى فرض العقوبات على أنواعها بذريعة الخروج على الإجماع الدولي؟

وطالما الأمر كذلك، فإن ثُنائية العولمة والحداثة خرجتا بمفهوم الاستعمار الحديث من حدود الجغرافيا وقوّات الإحتلال المباشر، لتجعلا منه مهمة «وطنية» للدولة التي «جرت عولمتها». هكذا تلعب الأجهزة الرسمية المحلية دور قوى الاحتلال من خلال تنفيذها الأجندات التي يفرضها «البنك الدولي» مثلاً أو المؤسسات العالمية (بل العولمية) الموازية. وهذا ما يجعل دولة متفوّقة بالتكنولوجيا العالية وبالقدرة العسكرية والاقتصادية والسياسية، مثل الولايات المتحدة، تصبح سيدة العالم (التابع لها).

اللوثة العنصرية

ثمة ما هو أكثر من ذلك في جعبة الاستعمار الجديد. فالاستعمار التقليدي لم يكن يطرح «نوعية» الإنسان الذي يجري استعماره ولا «مرتبته» داخل مجموعة الأجناس الحية، ولم يكن ينظر إليه كنوع دوني من الخَلق. كثيرون من المستعمرين كانوا يحتقرون الشعوب التي يدخلون بلادها ويعتبرونها أميّة وغير متمدّنة، أو مجموعات من القبائل والعشائر الضاربة في أصقاع الفلوات بلا حضارة ولا تراث، تتغازا وتتناهب من دون عاقل ولا جامع ولا رابط وطني ولا قومي ولا ديني. إلّا أن ذلك، على سوئه وخلوِّه من الأخلاق والإنسانية، لا يُقاس البتّة بما بلغه الاستعمار الجديد في بداية انطلاقته «الحداثوية» حين أدخل البيولوجيا إلى السياسة، فتحدّث عن قابلية أجناس بعينها للتقدّم (الجنس الآري) وامتناع ذلك على أخرى (الجنس السامي). فالمستعمر المتكئ على قواعد العولمة وأُسس فلسفة الحداثة، لم يكن

ص: 99

يرتجل سياساته الاستعمارية ارتجالاً بل كان ينطلق من فلسفة سبق أن أعلنها وقِيم روّج لها طويلاً . ولنأخذ «إيمانويل كانت» مثلاً. فهو لم يتردد في التعامل مع عِرق المرء أو العنصر الذي ينتمي إليه (من أسودٍ وأبيضٍ وأصفرٍ وأحمر) كمميّز علميّ وموضوعي للبشر، فربطه بالقدرة على التفكير المجرّد، ونظّر عن مصير الأعراق البشرية ورتّبها بشكل تفاضليّ مُعتمداً الفكر العنصري الصرف. اعتبر أن لدى القوم البِيض جميع المواهب والدوافع الفطرية للتفكير الإبداعي، في حين أن ذلك ليس متوفّراً (برأيه) لدى الهنود ولا عند الصينيين. أما الأفارقة برأيه «.. فيمكن تعليمهم، لكن فقط كما يُعلَّم الخدَم». هذا التوجه الصريح بنحو ما بات يُعرف ب- «العنصرية البيولوجية»، اعتمده الغرب والأميركي تحديداً ليقسّم على أساسه الشعوب إلى «عليا ودنيا»، والدنيا بنظره «تكاد لا تختلف عن رتبة الحيوانات العليا. وقد تُستخدم في ما يحقق مصلحة الأجناس العليا، أو يمكن حتى قتلهم». (1) ولم يكن «كانت» الوحيد في اعتماد العنصرية والتسويق لها. فالمفكر الفرنسي «مونتسكيو» الذي اشتهر بكتابه «روح الشرائع» هو نفسه القائل ب-حقّ الأوروبيين في اتخاذ الزنوج عبيداً»... وبأن «شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أميركا الأصليين، لم يعد أمامها إلا أن تستعبد شعوب أفريقيا لكي تستخدمهم في استغلال هذه الأقطار الفسيحة. فما هذه الشعوب إلا عناصر سوداء البشرة من قمة الرأس إلى أخمص القدم. ولا يمكن أن الله جلت قدرته يضع روحًا طيبة في مثل هذا الجسم الحالك السواد» (2).

على هذه الأسس انتشرت النظريات العرقية والعنصرية من قبل مفكرين أوربيين أمثال فيخته وتریتیشکه و داروین و هربرت سبنسر وغيرهم. فعندهم أن العرق الأبيض هو المسيطر، وأن نقاء العرق ضروري، وأن الزنوج مخلوقات منّحطة، وأن المساواة بين البيض والملونين سخف، وأن شعوب المستعمرات الخاملة والمنحطة هي أدنى مرتبات الشعوب، وأن البقاء هو للأصلح (3).

ص: 100


1- .http://www.maioz.com-
2- محاضرة بعنوان "تجارة الرقيق وأثرها على العقل الإفريقي" للدكتور محمد آدم كلبو.
3- من دراسة بعنوان: ( ظاهرة التمييز العنصري والمشروع الصهيوني ) إعداد: عبد الرحمن علي القناص.

لذلك صحّ وشُرِّع بالمقياس الغربي والأميركي اعتبار إبادة الهنود الحمر في ما بات يُعرف بالولايات المتحدة الأميركية، كما استعباد الزنوج الأفارقة وتشغيلهم سخرة، وصولاً إلى انتهاك تقاليد الشعوب وتراثها... وعلى هكذا أسسٍ «فكرية» جرى الاعتماد لبناء سياسات الاستعمار الحديث الذي ما انفك يتقدّم ويتوسّع، ولا سيّما في بلادنا العربية والإسلامية، مُحوِّلاً الكثيرين من حُكّامها إلى «أدوات» يُحرّكها ويدفعها إلى اجتثاث أصولها القومية والحضارية، وتسخيرها لخدمة أغراضه، مقابل منحها النذر اليسير من خيرات بلادها التي يستبدّ بها. وكانت أنماط الاستعمار الاستيطاني في أساس أساليب الاستعمار الجديد المبني على العولمة والحداثة، وهو ذاته الأساس الذي أُقيم عليه الكيان الصهيوني في فلسطين.

وعلى الرغم من الاستقلال المُعلن للعديد من دول العالم، ومنها كيانات عربية قائمة بمثابة دول، وحراكها الظاهري بعيداً عن الاستعمار المباشر، فإن الأفكار الاستعمارية الغربية هي التي تزرع فيها الشعور بعقدة النقص أمام الأجنبي، والاقتناع بسمو الثقافة الغربية ورفعتها في مقابل الثقافة العربية. وهو، ما راح يروج في نتاج «مفكّرين وسياسيين» في دنيا العرب والمسلمين كانوا وما انفكوا يعملون بدأب على محو الخصوصيات الثقافية والحضارية وحتى الفولكلورية لشعوبهم وبلدانهم، واستبدالها بمقابلاتٍ غربية (يسمّونها حضارية)، على زعم أن ذلك يتيح اللحاق بركب التطور والحداثة. والأنكى أن أسماء كبيرة في عالم الثقافة العربي كانت في طليعة هؤلاء المُطبِّلين - المُزمِّرين، الذين أُخِذوا بالتقدم التقاني الغربي ما أغفلهم عن مسالك الغربيين مع بقية شعوب الأرض، منهم طه حسين (1)، وبطرس البستاني (2) وغيرهما كثيرون... وهذه التوجهات ما زالت ممتدة إلى أيامنا هذه، ويتبناها مفكرون كثيرون في الحركات السياسية العلمانية، من الذين رفضوا الثقافة العربية (3).

ص: 101


1- ./http://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2014/ 829-
2- .http://wadod.net/library/35/3514.pdf-
3- .https://www.alaraby.co.uk/opinion/2014 /6/ 2011-

الطبق جاهز...

هكذا، وعلى إيقاع أهازيج التطوّر والعصرنة انتعش مذهب التغريب مُلوِّحاً بإيجابيات هائلة، ولا سيما للشعوب العربية التي كانت ما تزال تترنح من آثار النير العثماني الوبيل، وتعيش ترددات ما عُرِف ب- «عصر الانحطاط». جاءت موجة التغريب بمثابة خشبة إنقاذ للخروج من الظُلمة الاستعبادية إلى الهواء الطلق وتنسّم هواء الحرّية وشذى الآداب الغربية الطليعية بكل إيجابياتها والانتظام في روح العصر. لكن الغرب الاستعماري الذي غيّر جلده ولم يُغيّر بواطنه، أرفق بموجة التغريب الأدبي والثقافي والفكري الجارية، حركة استكمالٍ لهيمنته الاستعمارية والاستئثار بالمقدرات، فسارع إلى تفعيل آليات التشويه التي أتقنها متابعها استهداف الثقافة العربية وحضارات شعوبها وتصويرها المسؤولة عن كل ما هو تخلّف وبؤس وانحطاط، في سبيله إلى توثيق سلطانه على الشعوب المغلوبة ومضاعفة دأبه على استحلاب خيراتها والاستئثار بها. كان ينشط متنكِّراً بسلطان حكام البلدان المستهدفة الذين اختارهم وزيّنهم ويسّر لهم التغطيات المناسبة. ومن خلال ذلك جعل مصائر تلك الدول وحقوق شعوبها، مادة استعمالية لتحقيق مصالحه وتثبيتها، وقد اتخذها مصدراً للمواد الخام والكنوز الدفينة والعمالة الرخيصة، وسوقاً مفتوحة لمنتوجاته الصناعية ولما يختاره لها من أفكار موجّهة. تمّ ذلك وتواصل بعد أن حرص الغرب المُسيطر على تسمية بعض تلك الأقاليم التي رسمها «دولاً» ووصفها ب- «المستقلّة». وهذا كان تجسيداً مادياً واضحاً لما بات يُعرف ب- «الاستعمار الحديث» الذي يتم من خلال الهيمنة على البلد من دون تدخل عسكري مباشر (1) . ولا يخفى «استغلال الولايات المتحدة الأميركية بالذات للدول من خلال أنصارها وحلفائها في المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية...)، حيث يجري فرض الوصاية على الدول المقترضة، وجرِّها إلى توقيع اتفاقيات أمنية وخلافها»، كما جاء بالحرف في كتاب الباحث الاقتصادي جون بيركنز في كتابه ذائع الصيت «اعترافات قاتل اقتصادي».

ص: 102


1- ."China overtakes US as Africa's top trading partner"-

وعن دور البنك الدولي تحديداً كتب الفيلسوف الفرنسي «ميشال فوكو» يقول «... إن الخطاب الممارس في البنك الدولي (1) هو مجموعة من النظريات والمفاهيم الأميركية والغربية حول ماهية الاقتصاد والتنمية مُورِست بالقوة عن طريق الصندوق لخلق مجال جديد للاقتصاد يُصبح كل ما دونه غير اقتصادي، وغير علمي. فيُطالب صندوق النقد الدولي أيَّ دولة بعدة شروط من أجل إعطائها الدّين الذي تطلب. هذه الشروط تشمل: «تقديم برنامج عام يُلزم الدولة الطالبة بعدد من السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية» وضمان بيئة مناسبة وآمنة من أجل تسهيل مراقبة تنفيذ تلك السياسات من قبل صندوق النقد الدولي. فأولاً، تأسس الصندوق على أنه المتحدث باسم «الاقتصاد العالمي»؛ وثانياً: قدم الصندوق سياساته باعتبارها الطريق الوحيد والإلزامي للتنمية، وأخيراً، ضمن الصندوق لنفسه عدداً من آليات المراقبة والعقاب لكي يُلزم الدول بسياساته» (2).

بهذه الشهادة الحاسمة تظهر وتتجلّى واحدة من أبرز سمات عصرنا الراهن، وهي الاستعمار الحديث حيث المستعمر يسرح ويمرح في بناء جدران العداوة والاستهداف بين الشعوب وحُكّامها، وبين الدول المتجاورة، كي يترك لنفسه دور الحامي والراعي والمهيمن. وتُترك مهام استرهان المواطنين لحُكّامهم المعينين الذي جرى اختيارهم من طرف القوى الخارجية التي يدينون لها، فيتمتعون في قصورهم المسيّجة باليسير من الخيرات يلقيها إليهم حماتهم الأجانب لإسكات جوعهم الفجّ للتسلّط والدموية، ويغضّون الطرف عما يُسلب من خيرات البلاد التي أمِّروا عليها .

ولم يكن لهذه الطبخة المسمومة أن تتكامل وتجهز، لولا توفير العديد من الظروف والسُّبُل التي منها وفي طليعة آلياتها تسخير العولمة والحداثة لخدمة أغراضها ودائماً تحت سوط الترهيب بالبارود...

ولعل التساؤل الظريف والعميق لأحد شيوخ القبائل في الجزائر يُعبّر أفضل تعبير

ص: 103


1- .Michel Foucault، “The Archaeology of Knowledge”، trans. A.M. Sheirdman Smith، (New York،Pantheon Books، 1972)، pp: 21- 40-
2- .Peet، “The Unholy Trinity”، p. 66- 74-

عن توصيف الخدعة التي ابتلعها الحكّام (المعينون) تنفيذاً لتوجيهات الذين عيّنوهم. فعندما أقبلت القوات الفرنسية بحشودها الكبيرة على استباحة الجزائر واحتلالها تمهيداً لاستعمارها، أبدى الكثيرون من أهل البلاد رفضهم ما يجري وامتعاضهم من الغزو. ويُروى أنه قِيل يومها لذلك المُعارض إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع بلاده، ولإخراجها من الظُلمة إلى النور، فأجاب باقتضاب بليغ: «... إذا كان الأمر كما تقولون، فلماذا أحضروا كلّ هذا البارود إذن؟».

ص: 104

ظاهرة الاستعمار الجديد

اشارة

المراوحة بين زمنين

زبیر عباس

زبیر عباس (1)

منذ أن خلق الله تعالى آدم علیه السلام - وأنعم عليه بحواء - عليها الصلاة والسلام - فأنعم عليهما بإنزالهما إلى الكرة الجرداء ليعيشا معاشاً جسدياً وروحياً، ويتناسلا تناسلاً قويم الخلق وضعيفها. فأولد أبو البشر قابيل وهابيل (2) ثم استمرت الذرية، وقدر لها البقاء إلى أجل مسمّى . والحقيقة المحققة التي كانت تترعرع في ذلك النظام الإلهي الذي جعله الله أن يسود آدم ويسوس في أبنائه هو التنافسية بين البشرية والإنسانية. وهذه الثنائية هي الأولى التي باتت عاملاً قوياً في إعطاء الوجود لكل ما صار منقصة وغضاضة، أو ميزة وخصيصة.

ص: 105


1- أستاذ اللغويات واللسانيات وعلم النص والدلالة - باكستان.
2- يراجع في تفاصيل قابيل وهابيل ومجرياتهما قول الله الوارد في المائدة : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» اَلآیَة: 27-31.

الصراع بين البشرية والإنسانية كان مؤدياً نحو تهافت المسالك الكريمة التي كانت لا تضمن للإنسان إلا الاستعمار بالمعنى الأصيل وهو العُمران والبُنيان والتمدُّن، والمعاصر الحي وهو الحصول على الشيء إكراهاً وإجباراً، قهراً وظلماً وتحايلاً، هذه المعاني المتعارضة هي التي تعيشها ثنائية البشريّة والإنسانيّة فتتنافساها، خلق الله الإنسان وعلَّمه الكتاب والحكمة حيث بعث الأنبياء بين الوقت والآخر لتربية قُوَى ابن أبي البشر الجسدية والعقلية والخلقية ليعتدل عُوده فيستقيم، وبذلك انتهى الأمر إلى التنافسية الكريمة بين البشرية والإنسانية، أيتهما تسبق أختها، وأيتها تنمِّي القوى الداخلية والخارجية في الإنسان ليسير مسيراً حسناً لا شية فيه.

هذه التنافسية القائمة على النهوض بالبشرية والإنسانية لم تكن توجد انطباعياً بل يجسدها تفكير عمران الأرض عند الإنسان، ولقد قُدِّرَ ذلك بغية إيجاد الصراع بين المصالح المنوطة بالبشر الظاهر أو المادي وهو في حدود تكليفه الفقهي وبين المصالح

المنوطة بالإنسان الباطن أو الروح وهو في حدود تطهيره من الشوائب غير المرئية.

ثم تطور هذا الصراع الداخلي الذي سكن قلب ابن آدم لفترةٍ طويلةٍ بعيدةٍ عن التعليمات الإلهية والتشريعات السماوية، وجعله ملجأ أخيرا له حتى بدأ يحوِّله إلى العكوف الكلِّي على المادة، انشرح صدره لها أخيرا فصارت لها مأوى قبلُ وبعدُ، و من هنا حدثت رجَّة كبرى بين طيات الإنسان، فتغلغلت ضمائره، وصارت أعشاشاً لعصافير أرضية لم يركع أحد لها إلا من أمات ضميره، فباعه بثمن بخس.

كانت هذه الفترة تمرُّ مرور الكرام حتى إطَّلَعَ العالم على الحضارات الراقية القديمة؛ الحضارة (1) الهندية والرومانية والإغريقية ثم العربية ثم انتهت تلك الحضارات حتى جاء الإسلام فغير كل شيء قبل وبعد، ومستهلكوا تلك الحضارات في عصر فجر

ص: 106


1- الحضارة تعني بالإقامة في الحضر، قال القاطمي وهو يفخر بالبادية على الحضارة: وَمَنْ تَكُنِ الحضارةُ أَعْجَبَتْهُ فَأَىَّ أناسِ باديةٍ تَرانَا [الوافر]. ينظر: ديوان القطامي، تحقيق: إبراهيم السامرائي، أحمد مطلوب، دار الثقافة بيروت، الطبعة الأولى 1960م، ص 76. «فالحضارة ضد البداوة، وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني ومظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي». ينظر: العسال، أحمد. حوار الحضارات (مدخل إلى رؤية إسلامية)، حولية الجامعة الإسلامية العالمية، العدد الثالث 1995ه- / 1416ه-، ص 5.

الإسلام في أرض الجزيرة العربية تقسَّموا إلى فئتين؛ فئة تقاتل من أجل النهوض بحامل لواء الإسلام، وفئة أخرى تقاتل من أجل اتخاذ وسائله جُنَّةً عن نفسها وأهلها وأسرتها وممتلكاتها مجاهدا في سبيل الشيطان، لكن تلك الفئة الأخرى قد خابت دسائسها ولقيت هزيمة نكراء فدخل بعضها طوعاً أو كُرهاً في الإسلام.

ثم جاء عصر الظلمات أو العصور الوسطى وهي العصور التي أظلمت الدنيا غير دنيا الإسلام والمسلمين، انبهر الغرب أوله وآخره بما جاء به العصر الأندلسي من الإنتاجات القيمة والإنجازات الثمينة فأصبح الإنسان الغربي مدينا لها في ليله ونهاره، في صباحه ومسائه، ولم يعد للإنسان الغربي (الأوروبي) أن يخطو خطوة صغيرة كانت أو كبيرة دونما العناية بتلك الإبداعات التي جاء بها الإنسان الشرقي، ولم يعد يطيق له أن يتحمل ذلك الجهل بعيدا عن حقول العلم والمعرفة.

كان الإنسان في الغرب شواقاً وملتاعاً إلى المناهل الصادقة والمنابع الصافية فنهل من الأولى واستقى من الأخرى حتى شبع فعاد يشبع الآخر من خلال منجزاته في شتى العلوم والمعارف والفنون على شاكلة المسلمين في الشرق. ذلك الوضع المزري الذي كان الغرب يمرّ به في تلك الأيام جعله يفكر في بناء المستقبل على المقاومة والثبات، والخروج من التفكك والتشرذم، وتحقيق الوحدة والتكتل، وكانت الخطوة طويلة المدى، فاستجاب لمشاعر حلفائهم وبخاصة المسلمين كيلا يتجنى أحد على حقوقهم، وعندما استقرت أحوال الغرب بدأ يستغل الخلافات والنزاعات بين الدول فجعلها وسيطا للتدخل العنيف الطاغي المحتل بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين؛ الرأسمالي أو التموّل (Capitalism) والشيوعي (Communism).

الاستعمار الجديد

كلمة «الاستعمار» من باب الاستفعال، ومجرده عمر من باب فَعَلَ يَفْعُلُ، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (1) والاستعمار هو «الإعمار، أي

ص: 107


1- هود، الآية: 61.

جعلكم عامريها، فالسين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع، لأن ذلك يعد تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عمارة، لأن المقصود منه عمر الأرض» (1) . انطلق الاستعمار في بداياته الأولى بشكل إيجابي باعتباره مدلولاً صادقاً للمعنى المعجمي، واستمرّ حتى نُصَّ في دساتير تلك الاستعمارات كلما هبت ودبت أن تساعد البلدان القاصرة والبلاد العاجزة والدول الفقيرة بطريقة ميسرة، ولكن بدلاً من أن تقوم بحماية تلك الدول الضعيفة من الزلل والضعف والضلال المنوطة بالسياسة والاقتصاد والثقافة إنها بالله تفتؤ تتصرف حسب مرضاتها في تلك الدول المحمية.

الإيجابيات المختصرة للاستعمار الجديد

حسب دساتير أولى بُنِيَ عليها الاستعمار الجديد بمختلف أشكاله؛ الانتداب، العولمة، الأمركة، الغرب، النظام العالمي الجديد اتفق حملة لوائها على أنه قاعدة متينة يضمن توحيد شتات العالم وإقامتها في كتلة واحدة، فالعالم يشمل العوالم، والاستعمار هو الذي يجعلها عالماً واحداً على اختلاف ألسنة ناطقيه وألوان عائشيه، فكأنه قرية صغيرة، وبذلك رأى الاستعماريون أنّه يمكن تحقيق النَّفع وتعميمه على جميع الشعوب على اختلاف ألسنتهم وألوانهم بطريقة منصفة من خلال فتح الأبواب في وجهه.

رأى الاستعمار منذ نشأته أن تلاشي الحدود الثقافية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والجغرافية ضروري بغية تحريك رأس المال بكل حريّة وبلا قيد وحراسة ليصل كلَّ ذي حق حقُّه، وللتحالف المشدود بالإحقاق، البعيد عن الفساد بين الدول بنيت أنظمة صغرى لتضبط عُرى الاستعمار الجديد بكل قوة وصلابة، فكأنها تمثل له الأوتادَ مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والنظام العالمي الجديد، والعولمة وسائر أخوات هذه الأنظمة، وكل ذلك لغرض الزيادة في تبادل الأسواق والمحلات التجارية والاستثمارات ذات الاستغلال والانتفاع.

ص: 108


1- العاشور، محمد ابن طاهر. تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس 1984م، ص 108، ج 12.

تفرع الاستعمار الجديد إلى حقول عديدة، إنما نالت تلك الميادين من الدعاية في مشارق الأرض ومغاربها مصحوبة بدلالات خاصة، مثل «العولمة» وهي مرحلة من مراحل الاستعمار الجديد، استهدفت منطلقا من قوانين الاستعمار الجديد أن تجعل من العالم ما يكون معولماً ومن يعيشه يكون متعولماً، فحاولت إخضاع كل العالم لنظوم القوى الرأسمالية لتضع حدا لكل أنواع السيادة لأي وطن ودولة ومنطقة.

بادئ ذي بدء هذا المقصد كان أمرا خلقيا، محموداً، مرغوباً، ولم يكن في مسيس الحاجة إلى أسلمته، لأنّه ما هَدَفَ إلى الإساءة أو السوءة من خلال جمع المال وتكثيره لغرض قهر الآخر أو استنزافه، ولذلك يمثل الاستعمار الجديدُ الخيرَ بأوسع معانيه للأفراد والمجتمعات، والمقصد هو تحقيق آمال الناس واستبقاء أحلامهم ودعم طموحاتهم، فكأنّه غوث الزمان الذي يغيث الملهوف، ويشبع الجائع، ويلبي حاجة الفقير، وينهض بالشعب الهزيل، وينصر الحوكمة المضغوطة، ويقود نحو النموّ والازدهار، ويفتح أمام الأفراد والعائلات والمجتمعات والحوكمات أبوابَ المنافسة الحرة للاستفادة من خيراتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية والثقافية دون عوائقَ وقيود، ولذلك وضع الاستعمار الجديد نصبَ عينيه إزالة الحواجز، والقضاء على الموانع، ومسح الحدود التي تعيق سبلَ زيادة الإنتاج المحلي من خلال إيراده إلى السوق العالمية، وخلق الفضاء الحر للتنافسية في إنتاج السلع واستثماره، وتقديم الخدمات المحوسبة، والتقنية عالية المردود، والدعم التكنولوجي، وإعطاء الفرص للابتكار والإبداع والتحسين والتطوير للمواهب والملكات عبر دعم التعاون الدولي لتقويم الاقتصاد العالمي، ومنع وقوع الأزمات فيه، ومراقبة مسيرة التطورات السياسية والاقتصادية، وتحليل الأوضاع المتوقعة التي تترتب عليها بطريقة ذات بَهْجَة وارتياح.

فالدستور الناطق بهذه الأغراض العليا والمقاصد الكبرى للاستعمار الجديد هو الذي كان يبعث السرور والإعجاب والاطمئنان في نفوس البشر، ولا زال يبعث فيمن يجهلون أو يخافون اكتشاف السرائر أو يتجاهلون من أجل المصلحة الفردية أو الطائفية أو لا يتابعون الأخبار بعقل راشد.

ص: 109

من السلبيات المختصرة للاستعمار الجديد

إن الاستعمار يعني تقلّص العالم وتجمّعه في راحة كف المهيمن المخرّب، ومنذ أوّل ساعة مطلع الاستعمار إنه يؤازر نفسه بالمنطلقات الفكرية البعيدة عن الحق والقسط، ومن تلك الرهائن التي بدأ الاستعمار ينهل عرفانه من مناهله هو على الترتيب الآتي:

حضارة عقلية يابسة

إن الاستعمار عزل الدين والعقيدة عن الحياة، وحَبَسَهما في مقبرة الموت. ومن ثم انطلق باحثا عن النظريات المنوطة بالحياة والإنسان والكون من خلال الإيمان بالعقل الوحيد بدلا من الإيمان بالله الواحد. وفي هذا الباب استمدّ الاستعمار روحه من المبادئ التي جاءت في كتاب أوجست كومنت (Auguste Comte) في الفلسفة الوضعيّة، وكذلك ما وضعه هيجل ثم ما تلاهما من نظرية تشارلز روبرت داروين (Charles Robert Darwin) في نشوء الأحياء وارتقائها.

حضارة إنسانية وجماعيّة وقومية واقتصادية وجنسية

ثم تطورت تلك النظريات وأصيب بعضها من المتغيرات حسب الأوضاع المتغيرة والمتصرفات المتزامنة، فاستفاد الاستعمار من نظرات هربرت سبينسر (Herbert Spencer) وأمثاله في الحياة الإنسانية، ثم جاء جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau) فوضع نظريته في العقد الاجتماعي التي انتهت إلى نظرية القوميات فيما بعد، ثم جاء فيلسوف ألماني واشتراكي ثوري كارل هانريك ماركس [1818م-1883م] (Karl Heinrich Marx) ووضع نظريته الجدلية على أساس أن المحرك الأساسي لحياة الإنسان هو العامل الاقتصادي، ثم جاء سغموند شلومو فرويد [1856م-1939م] (Sigismund Schlomo Freud) وقرر الغريزة الجنسيّة عاملاً أساسياً ومحركاً مبدئيا للحضارة.

تآزرت تلك النظريات كلها في تكتل الحضارة الغربية التي اعتمدها

ص: 110

الاستعمار الجديد، وركب ظهرها بكل فخر فكأنها استعادت بهاءَها القديم.

هذه الحضارة الغربية التي جعلها الاستعمار الجديد قبلةً له كان من سوء حظها أن ارتبطت بأنماط وحشية مدمّرة ومخربة للشعوب الضعيفة، اعتمدها الاستعمار في استباحته لخيرات هذه الشعوب بأساليب ذات الخبث والدهاء والمكر والبعد عن القيم الفاضلة. فسمي بعض الباحثين ذلك الاستعمار بالاستخراب (1) نظرا لما كان ولا زال يخطط فيقوم به، والأمثلة على ذلك كثيرة مثل أعمال شركتي الهند الشرقية في الهند، والشركة الهولندية في أندونيسيا، وحركة صيد الزنوج في إفريقيا وشحنهم إلى أميركا لاستغلالهم واستعبادهم، وإفناء الهنود الحمر في أميركا، وكذا السكان الأصليين في أستراليا، وحرب الأفيون في الصين، واستنزاف مناجم الذهب في جنوب إفريقيا وغينيا (2). إضافة إلى ما فعلته فرنسا في تونس بناء على بنود معاهدة الحماية وميثاقها التي وقعتا معا عام 1818م ثم 1883م، حتى فقدت تونس سيادتها الخارجية، ثم كررت فرنسا داهية سياستها في مراكش بموجب بنود معاهدة تمت بينهما عام 1912م، وما قام به الإنجليز في مصر عام 1922م (3) .

تسبب الاستعمار في إذلال العالم الإسلامي حيث سقط منه إلا القليل النادر خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ألغيت الخلافة الإسلامية، وسقط العالم الإسلامي تحت براثن الاستعمار ثم طحنت رحى الاستعمار الروسي الشعوبَ الإسلامية في آسيا الوسطى، والقوقاز، فورثتها الماركسية. ظهرت نتيجة لتلك الروح الاستعمارية كثيرا من المذاهب المتنافسة؛ النازية والفاشية والماركسية التي جعلت العالم يصطلي بجذوة حربين عالميتين، ومن هنا كان «تعامل الحضارة الغربية بإرثها التاريخي، وإرثها الفكري، ونظرتها الاستعمارية نظرة الاستعلاء والكبر إلى الشعوب الأخرى؛

ص: 111


1- الطنطاوي، على. ذكريات، دار المنارة للنشر السعودية - جدة، الطبعة الأولى 1406ه-/1986م، الجزء الثالث، ص 150.
2- القرضاوي، يوسف. المسلمون والعولمة، دار النشر والتوزيع، بيروت، 1998م، ص 4.
3- يراجع في تفاصيل سيطرة الاستعمار ودكتاتوريته: الشهابي، مصطفى. محاضرات في الاستعمار، معهد الدراسات العربية، القاهرة، ص 15-20.

نظرة لا تقوم على الندّية ولا الأخذ والعطاء، إنما هي قائمة على الأحادية، وأنها الحضارة التي انتهت إليها الحضارات» (1) .

وأخيرا انتهى ذلك الاستعمار السائد إلى أنه يمثل الشر بأوسع معانيه، والجحيم بأوسع دلالاته، لأنّه أشعل نار المفسدة في العالم، وجعله ضحية الخوف والرهبة والرعب والاضطراب والشغب والفوضى والقلق والحرج - فزاد الجائعَ جوعاً والفقيرَ شدة وخصاصة والقانطَ قنوطاً ويأساً والبائسَ بؤساً والعاجزَ عجزاً والضعيفَ ضعفاً والذليلَ ذلةً ومهانةً والهزيلَ هُزالاً والحبيسَ حبساً وخنقاً والحريصَ طمعاً والطامحَ طموحاً كريهاً والمتخبطَ تخبطاً - والقضاءِ على فرص النمو الاقتصادي في الدول الضعيفة وسلب حرية التجارة المحلية والسطوة على أسواقها وتحويلها إلى مؤسسات تابعة للاستعمار الجديد من خلال اختراق القوميات والجنسيات والسعي إلى تجزئة بعض الدول والكيانات. والشُّقَّةُ بين الإيجابيات التي أولدها الاستعمار، والسلبيات التي استهدفها ذلك لا تتوقف ولو لغمض طرفي البصر .

العولمة من مدِّ الاستعمار الجديد

هذه العولمة أحد الأشكال للاستعمار، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: «العولمة في حقيقتها وأهدافها وطرائقها اليوم إنما هي الاستعمار بلون جديد وهي بعبارة صريحة أمركة العالم» (2). فإن العولمة بلا ريب شكل متطور من أشكال الاستعمار، وكما تم استبدال كلمة «الانتداب» ب- «الاستعمار»، أصبحت «العولمة» هي البديلة في صياغة جديدة «تؤدي وظائف سلفيها - الانتداب والاستعمار، ولكن بآليات أشدُّ إحكاما» (3).

وهذا ما أيده فيليب ج. سيرني (Philip. G. Cerny) حيث رأى أن العولمة قد

ص: 112


1- حوار الحضارات (مدخل إلى رؤية إسلامية)، ص 21.
2- ينظر: جارودي، روجيه. حوار الحضارات، منشورات عويدات بيروت - باريس، الطبعة الثالثة، سنة 1986م، الفصل الثاني، ص 37-93، وفيه رصد معتمد لما قام به المستعمرون في آسيا وإفريقيا.
3- السيوطي، خالد عبد الحليم. الحوار بين الديانات الثلاث في عصر العولمة، حولية الجامعة الإسلامية العالمية إسلام آباد - باكستان، العدد العاشر 1423ه-/2002م، ص 234.

عُنِيَتْ بمجموعة بُنى اقتصادية وسياسية، وإجراءات تترتب وتتغير وفق متصرفات الأوضاع السياسية والاقتصادية للبضائع في السوق العالمية (1) . فالعولمة هي الهيمنة الخافية عن الأعين والعنصرية الخفية عن الأبصار «وفرض ذوبان ثقافة الآخرين في الثقافة الغربية بصفة عامة وأميركا بصفة خاصة» (2) . ولذلك يمكن لمن لديه عقل وقلب أن يعي ويدرك قضية التعامل مع الآخر وهي الأزمة الحقيقية التي تعاني منها البشرية، إن الاستعمار البغيض أباح للقوة المسيطرة على العالم السياساتِ الظالمةَ والجائرةَ والخططَ الاقتصادية والاجتماعية التي تكرس السيطرةَ وتفرض الظلمَ والقهر على الآخرين.

أمثلة كثيرة يمكن من خلالها درك مفاسد تلك الروح الاستعمارية، ومنها دور السياسية العالمية التي تكرّس ذلك الاستعمار في فلسطين كما كرسته قبلُ في جنوب إفريقيا وروسيا، والآن يمكن مشاهدة ضحايا تلك الحرب التي نشبت مخالبها في كثير من مناطق العالم مثل البوسنة والهرسك وكشمير والصومال وجنوب السودان، وهذه الأزمة المنوطة بالتعامل العدائي سبّبت قلقاً وحيرة وإحباطاً في نفسية المجتمع الإنساني حتى لم يعد يقدر على علاج النزيف الدامي من أجل حالة العجز التردي.

هذا الاستعمار لا يعطي الفرد حقه بل إنه يسلبه سلباً لا يستطيع الإنسان بعده أن يعيش عيشاً كريماً، أو أن يجد حقّه بقضاءٍ عادلٍ لكونه مقهوراً بقانون البطش المخيف والاستعباد المذل.

عناصر الاستعمار الجديد

هناك ثلاثة عناصر لعبت بصفة أساسية دوراً هاماً في سبيل تطوير سطوة الاستعمار

ص: 113


1- Philip. G. Cerny says: "Globalization is defined here as set of economic and political structures and processes deriving from the changing character of the goods and assests that comprise the base of international political economy -in .particular- the increasing structure differentiation of those goods and assests". Globalization and the Changing Logic of Collective Action. International Organization (4. autumn 1995): p 596
2- التركي، عبد الله، الحوار المبتغي في ظل العولمة، مجلة الرابطة، العدد 123 - 2000م، ص 12.

المعاصر القاهرة وسيطرته الجائرة، وجعلتها تُذِلُّ العالم أجمع وهي:

الأول: العنصر السياسي

الثاني: العنصر الاقتصادي

الثالث: العنصر التقني

الأول: العنصر السياسي

عندما خسرت (socialism) في أداء دور فعال في سبل تطوير السياسة والاقتصاد وهيمنتهما على الآخرين ظهرت الرأسمالية الغربية خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وسقوط الشيوعية، وتفكك حلف وارسو (1) . قامت أميركا وأوروبا بكل حزم وحنكة ودهاء ومكر بتسليط (capitalism) على العالم كله كنظام بديل ملائم ومنسجم مع كل الضرورات والاحتياجات. وبذلك نجحت أميركا وأوروبا في هذه المجهودات حيث جعلوا الاقتصاد العالمي رهن البنك الدولي (world bank) صندوق النقد الدولي I.M.F وهذان هما محوراً العولمة التي يتمركزها الاستعمار. وكان الهدف البالغ من وراء كل تلك المجهودات المتضافرة والمستمرة أن يمشي العالم كله مع ذلك التيار القاهر الذي ظهر في أوروبا منذ القرن السابع عشر، وهذا التيار لا يئن إلا بفصل الدين عن الدولة، وبالتالي لا يعمل إلا على أساس قيام الدولة على أسس دنيوية لا دينية.

الثاني: العنصر الاقتصادي

بني المعهد التجاري العالمي حسب اتفاقية أوسلو ومعاهدتها عام 1995م، وانتهى

ص: 114


1- سؤال طرح من قبل المثقفين الأكاديميين، وهو أهي عولمة أو هيمنة؟ يقول الباحث خالد عبد الحليم السيوطي: «تعرف العولمة بأنها حرية تدفق السلع، ورأس المال والأفكار، والمعلومات في كل أنحاء العالم بدون قيود. ولكن التناقضات التي نعيشها تؤكد أن ما نحن فيه ما هو إلا صورة من صور الهيمنة، وإن شئت الدقة فنحن في عصر «عولمة الهيمنة». ثم يقول الباحث بعد قليل: «وتوجد مجموعة من المظاهر تدل على أن هذه العولمة المزعومة ما هي إلا خدمة للنموذج الغربي، والمقصود الحقيقي منها هو السيطرة الأمريكية على العالم، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي المسلم «رجاء الله جارودي» أن يسميها الأمركة». ينظر الحوار بين الديانات الثلاث في عصر العولمة، ص 230.

الأمر حتى التوقيعات المحتومة من قبل شتى الدول على الاتفاقية للتجارة الحرة. لأن من خلال منطلقات التجارة الحرة ظهرت كبرى الشركات العالمية والدولية التي باتت تسيطر على تجارة سائر العالم، وهذا ما انتهى أخيراً إلى تشكيل عولمة الاستعمار (1).

الاقتصاد يمثل العنصرَ الأساسيَّ للاستعمار الجديد حيث يمده في القضاء على المناطق الضعيفة بحجة ضعف اقتصادها وبالتالي مناصرة ما وراء مصالحها.

الثالث: العنصر التقني

وهو جوهر أصيل في نشر العولمة (2) ، «فلم يعد بوسع أي دولة اليوم أن تفصم نفسها عن وسائل الإعلام العالمية أو تبتعد عن مصادر المعلومات الخارجية» (3) .

دعائم الاستعمار الجديد

الأول: صندوق النقد الجديد I.M.F

وهو وكالة متخصصة من منظومة بريتون وودز تابعة للأمم المتحدة، أنشئ بموجب معاهد دولية في عام 1944 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي. (4) وكان من بین تلك الأهداف الرشيدة التي لم تكن إلا قبلة زعماء ذلك الصندوق العالمي هو تقديم العون والإمداد والإقراض للبلدان الأعضاء ودعم سياسات التصحيح وإصلاح الأزمات والمشكلات التي تمر بها .

ولكن للأسف إنما كان معظم تلك البلدان التي وقَّعت على اتفاقية النهوض بذلك الصندوق الدولي كانت في الغالب راقية ومتقدمة ونامية نحو الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة إلى جانب الصين، وروسيا، والمملكة

ص: 115


1- اللاوندي، سعيد. مجلة حصاد الفكر، بدائل العولمة، العدد 130، ص.
2- القاسم، خالد بن عبد الله. العولمة وأثرها على الهوية، دار الكتب - عمان، 2003م، ص.
3- دبلة، عبد العالي. العالم العربي وتحديات العولمة، مجلة العلوم الإنسانية - جامعة محمد خيضر بسكرة - أكتوبر، 2002م، العدد الثالث، ص 24.
4- يراجع في تفاصيل I.M.F ومقره وأعضائه والدساتير المنصوصة عليها من قبل البلدان وغيرها: رجب، مصطفى. العولمة ذلك الخطر القادم، مؤسسة الوراق، عمان، ص 51.

العربية السعودية، فأصبح الاقتصاد قيد التشاور والتآزر والترابط بين تلك الدول وأخواتها، وابتعدت مؤازرة ذلك الصندوق عن الكثير من الدول التي تعاني الفقر وانخفاض الدخل قبل.

الثاني: البنك الدولي World Bank

وهو أحد الوكالات المتخصصة في الأمم المتحدة التي تعنى بالتنمية وإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وتخفيف حدة الفقر، وتمويل البلدان بغرض التطوير، وتقليل إنفاقه، وحماية الإستثمار العالمي (1) . واليوم إن البنك الدولي لا يقدم خدمة الإقراض إلا للدول التي توافقه في تغليب نظام العولمة وتسليطه على العالم كله (2) . أما الدول التي تعد من قبيل العالم الثالث فلا يقدم لها شيئاً ولا يسهم في حل المخاطر التي تحدق بها.

الثالث: منظمة التجارة العالمية W.T.O

أنشئت منظمة التجارة العالمية (World Trade Organization) لتسود التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية والرخاء والسلام بين الدول الأكثر فقراً، ولكن الأمر انقلب برمته بعد تزايد الشكاوى التي جاءت من قبل البلدان النامية فتمكنت من السيطرة على هذه المنظمة من خلال تأثيرها العادل بل المتطرف لحد ما في استثمار نقدها وإيراداتها وصادراتها في دول العالم الثالث عبر هذا الجسر (3).

الرابع : شركات متعددة الجنسية Multinational Companies

الشركات متعددة الجنسيات تلعب دوراً رئيساً في دعم العولمة وتحويل الدول

ص: 116


1- يراجع في تفاصيل البنك الدولي والقوانين التي يعمل بها: السيد، عاطف. العولمة في ميزان الفكر - دراسة تحليلية، الاسكندرية، مطبعة الانتصار، ص 19-20.
2- خان، دوست محمد. گلوبائزیشن: تعارف، محرکات اور مقاصد Globalization: Introduction، Causes and Objectives ، مجلة الإيضاح، مجلة فصلية، العدد 25، 2012م /1434ه-، مركز الشيخ زايد الإسلامي، ص 20.
3- گلوبائزیشن: تعارف، محرکات اور مقاصد Globalization: Introduction، Causes and Objectives، ص 21-20.

والدويلات نحو العولمة لتصير بطريقة أو أخراها معولمة. إن الكثير من البلدان الأوروبية تنتهز تلك الشركات وتؤثر بالبلدان الأخرى التي تخطط السيطرةَ عليها وتهميش ثقافتها وإماتة حضارتها. ومما يجب التنبه إليه هو أن من مرتكزات تلك الشركات متعدية الجنسية أنها لها دور ثري في مفاصل الحياة الاقتصادية في المجال الصناعي والتجاري والمالي (1).

من أسمى الغايات لدى الاستعمار الجديد هو محاولة السيطرة الجائرة على العالم أجمع من خلال استعمال الشركات متعددة الجنسية، والهيمنة الكلية على الدول النامية الخارجة عن نطاق سيطرة الاستعمار القيام بالتدخلات في دساتير تلك البلدان ولاسيما ما يختص بتجارتها بغية إخضاعها المتكامل.

مستخلص القول

إنما الخير هو الاستعمار الجديد، وكان ذلك حلماً لكل إنسان قبل أن يستيقظ من نومه، وعندما خرج من حالة سبات كان فيها، واستعاد نشاطه بعد فترة جمود أدرك أن ما رآه في المنام لم يكن إلا من أضغاث أحلام، والواقع الذي كان ينتظره هو كالآتي:

لا يحمل هذا الاستعمار الجديد بين ثناياه إلا ما يؤدي إلى قطع صلات البلدان من العقائد والثقافات والجنسيات وربط حبالها بالنظام الاقتصادي العالمي المسيطر.

افتقاد التوازن في رؤوس الأموال والسلة السياسية وحقوق الأفراد وحرياتهم، والقضاء على شخصية الفرد من خلال تحبيسه في نظام الشيوعية والاشتراكية والناشية.

فوات الوظيفة الاجتماعية والتربوية للمال، ومراهنة العالم للتجارة الربوية الجائرة من خلال تحقيق احتكار رأس المال.

فوات الرقابة على الحكام، أعطى الإسلام تصوراً أخوياً وودياً لأبناء الأمة جمعاء،

ص: 117


1- عبد العزيز (أحمد)، زكريا (جاسم)، الطحان (فراس عبد الجليل). الشركات المتعددة الجنسيات وأثرها على الدول النامية، مجلة الإدارة والاقتصاد، العدد الخامس والثمانون/2010م، ص 119.

ونصحهم بأنَّ بعضهم مرآة بعضهم الآخر حيث يكف عنه ضَيْعَتَه، وأحكم القرآن الكريم هذا الأمر بل عمّمه لحد ما قائلاً: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرُ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ﴾ (1) وأيضا قال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ (2) وفي كلتا الآيتين نتبين أن هناك أمران هامان، أحدهما: المناصحة، والآخر: الوسطية بين الدنيا والآخرة، بين المعتقد المادي والمعنوي، لأن سوابق هاتين الآيتين مرتبطة بالنجاح والتوحيد، والفلاح والإيمان. وهذا العنصر الذى يجعل قلب الإنسان التائه في صحراوات الدنيا ينتعش بنشوة ذكرى هازم اللذات الموت، ويستعد للآخرة خوفا من العقاب ورجاء للعفو.

فلا يسلط الإنسان نفسه على الآخر كما سلطت أوروبا المسيحية طبيعتها الدينية المحرفة، أو الطبيعة العلمانية التي عرفتها أوروبا في العصور الحديثة.

هل يعقل اليوم أن ما يراه العالم كله أنه ظالم أو جائر فيستطيع القيام بسقوط طاعته، أو سقوط نصرة المنحرف أو المضلل، فالاستعمار الجديد لا يسمح بهذه الرقابة العادلة السمحاء.

دعا الإسلام إلى تعارف الحضارات وتضافرها وتلاقيها وتلاقحها وتداخلها، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (3) والأفضلية في الإسلام تكون للحضارة الأخلاقية، نبذ الإسلام الحضارة التي تخاطب غرائز الإنسان وشهواته. فدعا إلى التقوى وجعلها معيار الخير، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (4) فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

فلم يسمح الإسلام بالتفرقة العنصرية، أما الدولة العائشة تحت الاستعمار الجديد التي تتغنى بالديمقراطية فإنها ما زالت تمارس تلك العنصرية، والقومية القائمة على

ص: 118


1- آل عمران، الآية: 114.
2- آل عمران، الآية: 110.
3- الحجرات، الآية: 13.
4- الحجرات، الآية: 13.

السود والبيض، وهذا الاستعمار الناجم عن النظرة المتضايقة لليهود فإن لديهم نظرة خاصة واعتبار خاص يستندون إليه قائلين: «نحن شعب الله المختار أي أبناؤه وأحباؤه » (1) . إنهم ينظرون لأنفسهم على أنهم شعب مع أن الإنسان مكرم في الإسلام بغض النظر عن قومه ووطنه وجنسه حيث قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (2) .

يدعو الإسلام إلى القيام بالتوازن بين الحضارتين؛ الإيمانية والمادية، وبذلك يمنع من الرهبانية، «فليس في الإسلام شعب مختار، ولا عرق متميز فلا يعرف الإسلام فاشيّة أو نازيّة، ولا يعترف إلا بالإنسان من حيث هو مخلوق مكرّم، ولا ينظر إلى هذه التفرقة الغربية بين الجنس الآري، والجنس السامي فكل الناس لآدم، وآدم من تراب» (3) . ومن ثم إن الإسلام ينظر نظرة جميلة إلى البشرية بصفتها أسرة موحدة متكاملة مكونة من لحمة واحدة وآصرة مشتركة، أما التعدد والتنوع بين القبائل والأمم إنما غايته التعارف والتعاون، لا التنابذ والتخاصم.

وهاتان الحضارتان؛ الإيمانية والمادية يعني الجمع بين التقدم التقني من جهة، والتقدم المعنوي من جهة أخرى، وهذه هي الوسطية التي تجعل هذين الجانبين يتعاضدان، ولا يتعارضان مصداقاً لقوله عز وجل: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (4) .

فالنظرة الضيقة للاستعمار الجديد تجعل الناس مقيدين بالتقسيم المظلم؛ السادة والعبيد، فها هو بولس يقول في رسالته إلى أهل غلاطية: «لكن ماذا يقول الكتاب. اطرد الجارية وابنها؛ لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذا أيها الإخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة» (5) .

ص: 119


1- تفسير التحرير والتنوير، ج 3، ص 155-157.
2- الإسراء، الآية: 70.
3- الحوار بين الديانات الثلاث في عصر العولمة، ص 244.
4- البقرة، الآية: 143.
5- الهندى، علاء الدين على المتقى بن حسام الدين البرهان. كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال، ضبط وفسر غریبه: بکری حیانی، صححه ووضع فهارسه ومفتاحه: صفوة السقا، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الخامسة، 1405ه-/1985م ، ج 12، ص 661-660، الرقم 36010.

هناك كثير من الدول التي طحنتها رحى الاستعمار ولا تزال تطحنها، فمنها:

استعمار فرنسا سيطر على البلدان الآتية: تونس، ومراكش، والجزائر، والسنغال، ومدغشقر، وسورية، ومصر، وبلاد الشام، وشمال إفريقيا، والهند، والصين (شركة الهند الفرنسية).

استعمار بريطانيا سيطر على البلدان الآتية: بلاد البنغال، والبنجاب، ونيجيريا، والسودان، والعراق، والأردن، وفلسطين، والهند، والصين (شركة الهند البريطانية)، وباكستان.

استعمار البرتغاليين سيطر على المناطق الآتية: شواطئ شرق إفريقيا، وغربها، وشواطئ الخليج، وفارس، والهند.

استعمار الروس الأرثوذوكس سيطر على البلدان الآتية: المشرق الإسلامي، وطقشند، وبلاد التركستان، والقوقاز، وبخارى، وبلاد الأورال.

استعمار إيطاليا سيطر على المناطق الآتية: الصومال، وأريتريا، والساحل الليبي.

كثيرا من الكتلات الاستعمارية ظهرت بين الحين والآخر، فصارت دبيبة الأرض فأخذت تأكلها كما تأكل النار الخشب، قضية فلسطين هي من القضايا الساخنة التي استعمرتها بريطانيا ثم جعلت العصابات اليهودية في شكل إسرائيل أن تتدخل في أرضها وتحتلها، بالإضافة إلى جزيرة زنجبار المسلمة التي أمضت اليوم من تنزانيا النصرانية.

كلما يسمع الإنسان العادي قليلاً كان أو كثيراً عن الاستعمار الجديد يتبادر إلى ذهنه ما هو أقبح صورة وأشنعها، وهي أنه هو القوة التي يفتت، ويشرذم، ويفكك، ويقوض، ويظلم، ويقهر، ويجبر، ويسيء، ويسلط، ويستكبر، ويخدع، ويغش، ويخون، ويجيز ما هو محرم، ويحرم ما هو جائز، وكل ذلك وفق ما تتقاضى مصلحته دون مصالح العامة أو الخاصة في العالم.

ص: 120

الخاتمة

عُرفَ مما تقدم أن الاستعمار أصلاً أنشيء لتعزيز العالم بالقوة المادية والمعنوية من خلال إحداث التبادل الفكري والتناقل الشعوري بين الأفراد والأسر والعائلات والمواطنين والدول منطلقاً من العامل الأساسي وهو الاحتفاظ بالحكمة حيث وجدت، ولكن الأحداث التي حدثت بشكل أو بآخر في الدول الهزيلة البُنَى إنها كشفت عما استنزف ثرواتها بل تخطيط طويل ولا زال مستمراً في بعض البلاد لإخضاعها إخضاعاً مضللاً. وأمثل على ذلك بمأزق جريمة زينب بباكستان حيث اغتصبها أحد السفاحين، ثم اعتدى عليها فقتلها، هذه الحادثة أحدثت رجة كبرى في البلد، فبدأ الإعلام ينادي بكبح جماح الاعتداء على الأطفال عبر تنقيح المناهج في الروضة بغية تثقيف الأطفال حول التعامل مع الغرباء، ليتثقفوا قبل بلوغهم الفطري سن الرشد بالجنس وملماته.

والحقيقة عكس هذا أو ذاك، فكأن الاستعمار يخطط وأد مولود في منشئِه قبل أن يكبر ويتمكن من استعادة ما كان قبلُ من إرث آبائه وأجداده، فكأنّه أراد أن يحدد منشأ الفتن والفوضى، وهو العقل الطاهر المعصوم.

نظراً لذلك ينبغي أن يتم إدراج المعلومات الصحيحة عن الاستعمار بشكل عام، والاستعمار الجديد بشكل لصيق في المناهج بالإضافة إلى عرضها عرضاً نقدياً يبلور إيجابياتها وسلبياتها على ضوء تعليمات الدين الإسلامي.

ص: 121

دور الحرب الناعمة في مخططات الغرب في استعمار العالم الإسلامي

جاسم يونس الحريري

جاسم يونس الحريري (1)

تنوعت أساليب مخططات الغرب في استعمار العالم الإسلامي تحت غطاء التمدن، وزرع الديمقراطية فيه، إلا أن حقيقة الأهداف الغربية هو إطباق الهيمنة عليه، ومن ضمن هذه الأساليب شن (الحرب الناعمة) على الدول الإسلامية، لفك عرى الهوية الإسلامية، وتفتيت الوحدة الداخلية، وإشاعة نوع من التبعية للدول الغربية التي تمارس الحرب الناعمة تجاهها من خلال تفكيك قناعات الجمهور، وزرع قناعات، وثقافات للدول الأخرى التي تريد أن تدور شعوبها في فلك تلك الدول الغربية من دون استخدام القوة العسكرية. ودخلت وسائل التواصل الاجتماعي في شبكة الانترنيت كأحد الوسائل التي استخدمتها الحرب الناعمة في اختراق الدول الإسلامية لإشاعة الانحلال الخلقي، ونبذ القيم الإسلامية، ونشر القيم الغربية التي تناصب الدين الإسلامي العداء لتهديمه من الداخل، وهكذا أصبحنا نعيش حرب غير معلنة بصورة سرية لاستهداف شرائح محددة من المجتمعات الإسلاميّة لغسل أدمغتها، وضخ القيم الغربية التي لاتتلائم مع التقاليد الإسلاميّة منها: ترك الشاب، والمراهقة للعائلة في سن البلوغ، وإشاعة العلاقات الجنسية غير الشرعية بين المحارم، وبين

ص: 122


1- بروفسور العلوم السياسية والعلاقات الدولية والاستراتيجية - العراق.

النساء المتزوجات مع الرجال من خلال المسلسلات الغربية التي تشجع على نشر الإباحية، وخاصة بين الفئات الصغيرة من المراهقين، والمراهقات، وجعل وسائل التواصل الاجتماعي هي المتنفس الوحيد لهم دون رقيب، وجذبهم إليها عبر إرسال بعض المنشورات المغرية ذات الطبيعة الجنسية كمرحلة أولى، ثم تتطور إلى مرحلة أخرى وهي تشجيع الجميع إلى دفع اشتراك في مواقع (YouTube) والمواقع الخلاعية لغرض ربط الرغبات الجنسية ومدى امتلاك المستفيدين منها للمال للاشتراك في تلك المواقع حتى يدمن عليها، وفي حالة عدم تمكنه من الاشتراك بسبب ضعف حالته الاقتصادية سوف يلجأ إلى الطرق غير الشرعية للحصول على المال عبر ممارسة السرقة والجريمة المنظمة، مما ينتج نشر الاجرام المقنن في المجتمعات الإسلامية، لابل إن تلك المؤثرات تدفع ببعض الشباب إلى ممارسة الرذيلة حتى مع محارمه لكي يطبق ما شاهده في تلك القنوات، وهناك ستظهر المشاكل الاجتماعية، وحالات القتل لغسل العار في زنا المحارم، أو المشاكل الاجتماعية داخل المناطق السكنية التي يتواجد فيها الشباب، وإمكانية ملاحقته من قبل عوائل ضحايا الممارسات الجنسية لقتله، مما يؤدي إلى نشر العداوات، والبغيضة بين أفراد المجتمعات الإسلاميّة لجعله منهكا، وتحجيمه من مجابهة المشروع الاستعماري الجديد في المنطقة عبر الحرب الناعمة.

إن كل تلك التداعيات تدعمها محاولات الغرب لفرض سيطرته السياسية، والثقافية على العالم الإسلامي ولنا أن نستشهد بأحد المفكرين الغرب هو ((الفريد كانثول سميث)) عندما يقول ((إن الغرب يوجه كل أسلحته الحربية العلمية، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية إلى العالم الإسلامي بغرض إذلاله، وتحقيره، وإشعاره بالضآلة، والخنوع)) (1) .

لابل أن بعض المسؤولين الأوروبيين كشف عن مخططات الغرب لاستهداف الإسلام بشكل صريح وهذا ما قاله (جیان دیمیکلیس) رئيس المجلس الوزاري

ص: 123


1- أنور الجندي، الاستعمار والاسلام، (القاهرة، دار الانصار، بدون تأريخ نشر)، ص8.

الأوروبي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي في حديث إلى مجلة (النيوزويك) بعد أن سئل ((ما مبررات بقاء حلف الأطلنطي - الناتو - بعد زوال المواجهة بين الغرب الليبرالي، والمعسكر الذي كان إشتراكياً؟)) فأجاب بقوله ((صحيح أن المواجهة مع الشيوعية لم تعد قائمة، إلا أن ثمة مواجهة أخرى يمكن أن يحل محلها بين العالم الغربي والعالم الإسلامي)) فلما عاد مراسل (النيوزويك) ليسأل ((وكيف يمكن تجنب تلك المواجهة المحتملة؟)) قال (جيان ديميكليس) ((ينبغي أن تحل أوروبا مشاكلها ليصبح النموذج الغربي أكثر جاذبية، وقبولاً من جانب الآخرين في مختلف أنحاء العالم وإذا فشلنا في تعميم ذلك النموذج الغربي، فأن العالم سيصبح مكانا في منتهى الخطورة)) (1).

وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن التساؤلات التالية: ماهي أسباب ودوافع اللجوء إلى الحرب الناعمة ؟ وماهي آليات الحرب الناعمة؟ وماهي سبل مواجهة الحرب الناعمة ؟

1 - تأصيل نظري للحرب الناعمة

أ-الأصل اللغوي والمفاهيمي لمصطلح الحرب الناعمة:

تعني القوة الناعمة ((أن يكون للدولة قوة روحية، ومعنوية من خلال ماتجسده من أفكار، ومبادىء، وأخلاق، ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان، والبنية التحتية، والثقافة، والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى إحترام هذا الأسلوب، والإعجاب به، وإتباع مصادره)) (2) .

ويعتبر جوزيف ناي (3) هو مخترع مفهوم (القوة الناعمة) التي تستخدم في الحرب الناعمة والذي يعني به ((سلاح مؤثر، يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلاً من

ص: 124


1- د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، العالم الإسلامي والغرب: التحديات والمستقبل، (المغرب، منشورات المنظمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة (أيسيسكو)،2007)، ص20.
2- القوة الناعمة، الموسوعة الحرة (ويكيبديا).
3- عمل جوزيف ناي باحثا، ومتخصصا في الشؤون العسكرية، ووكيل وزير الدفاع الأمريكي الاسبق.

الإرغام، أو دفع الأموال)) (1) ، ويستشهد ناي ببعض التصريحات الأميركية لإثبات صحة مفهومه وفي هذا يقول (كولن باول) وزير الخارجية الأميركي الأسبق ((لا أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا ذلك أن الطلبة الدوليين يعودون إلى أوطانهم في العادة بتقديم أكبر للقيم، والمؤسسات الأميركية))، ومن جانب أخر يقول تقرير لمجموعة تعليمية دولية ((أن ملايين الناس الذين درسوا في الولايات المتحدة على مدى سنوات يشكلون خزانا رائعاً للنوايا الحسنة تجاه بلدنا، وكثير من هؤلاء الطلبة السابقين ينتهي بهم الأمر إلى احتلال مراكز يستطيعون من خلالها التأثير على نتائج السياسة التي هي مهمة للأميركيين)) (2).

ومن جانب آخر يقول الجنرال (ويسلي) عند حديثه عن القوة الناعمة أن ((القوة الناعمة قد أعطتنا تأثيراً أبعد بكثير من الحافة الصلبة لسياسات ميزان القوى التقليدية)) (3).

ويستعرض جوزيف ناي التطور التأريخي لمفهوم (القوة الناعمة) وعلاقتها (بالحرب الناعمة)، حيث يقول ((قمنا بتطوير مفهوم القوة الناعمة لأول مرة في كتابي (ملزمون بالقيادة) الذي نشرته عام 1990 والذي عارض الرأي السائد عندئذ والقائل بأن أميركا أخذة في الانحدار، فأشرت إلى أن أميركا هي أقوى أمة ليس في القوة العسكرية، والاقتصادية فحسب، بل كذلك في بعد ثالث أسميته القوة الناعمة، وعدت إلى القوة الناعمة في عام 2001، بينما كنت أؤلف كتابي (مغادرة القوة الأميركية) فكتبت عن القوة الناعمة دزينة من الصفحات)) (4).

وأخيراً يقول ناي عن القوة الناعمة أنها ((عنصر ثابت في السياسة الديمقراطية، فالقدرة على ترسيخ التفضيلات يمثل إلى الارتباط مع الموجودات غير الملموسة

ص: 125


1- جوزيف س. ناي، القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، عبد العزيز عبد الرحمن الثنيان (تقديم)، ترجمة توفيق البيجرمي (الرياض، مكتبة العبيكان، 2007)، ص7.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه، ص 13.
4- المصدر نفسه.

مثل الشخصية الجذابة، والثقافة، والمؤسسات، والقيم السياسية، والسياسات التي يراها الآخرون من فروعه، أو ذات سلطة معنوية أخلاقية، فإذا كان القائد يمثل فيما يريد الآخرون إتباعها فستكون القيادة أقل كلفة)) (1) .

ب- العلاقة بين الحرب الناعمة والمفاهيم الأخرى:

يرى ناي أن ((القوة الناعمة ليست شبيهة (بالتأثير) فقط، إذ إن التأثير قد يرتكز على القوة الصلبة للتهديدات، والرشاوي كما أن القوة الناعمة أكثر من مجرد (الإقناع)، أو القدرة على استمالة الناس بالحجة، ولو أن ذلك جزء منها، بل هي أيضا القدرة على الجذب، والجذب كثيرا ما يؤدي إلى الإذعان))(2).

وللحرب الناعمة لها علاقة بمفاهيم (الحرب النفسية) و(الدعاية) حيث تعرف الحرب النفسية وفق ((الموسوعة العسكرية للحرب النفسية)) بالقول ((هي مجموعة من الاعمال التي تستهدف التأثير على أفراد العدو بما في ذلك القادة السياسيين، والافراد غير المقاتلين بهدف خدمة غرض هذا النوع من الحرب))، في حين يعرف الباحث ((الدكتور فخري الدباغ)) الحرب النفسية بمفهومه الموسع بأنها ((شن هجوم، مبرمج على نفسية، وعقل العدو سواء كان فرداً، أو جماعةً لغرض إحداث التفكك، والوهن ، والارتباك فيهما، وجعلهما فريسة مخططات، وأهداف الجهة صاحبة العلاقة، مما يمهد للسيطرة عليها، وتوجيهها إلى الوجهة المقصودة ضد مصلحتها الحقيقية، أو ضد قطاعاتها، وأمالها في التنمية، أو الاستقلال، أو الحياد، أو الرفض)).

أما أساليب، وتكتيكات الحرب النفسية المعروفة تاريخيا فنورد أمثلة عليها: (3)

أ- الدعاية ضد معتقدات الخصم.

ب- الإشاعة.

ص: 126


1- المصدر نفسه ص 25-26.
2- ماهي الحرب الناعمة مواردها/مفهومها، موسوعة المعارف، ورد على الموقع التالي: .https://www.almaaref.org/books/contentsimages/books/nadawat_fekriya/al_harb_al_naema/page/lesson1.htm
3- المصدر نفسه.

ج- بث الرعب.

د- الخداع.

ه- افتعال الازمات.

و- إثارة القلق

ز- إبراز التفوق المادي، والتقني، والعسكري.

ح- التقليل من قوة الخصم والعدو.

ط- التهديد والوعيد.

ي- الإغراء والإغواء والمناورات.

ك- الاستفادة من التناقضات والخلافات.

ل- الضغوطات الاقتصادية.

م- إثارة مشاعر الأقليات القومية والدينية.

ن- الاغتيالات.

س- تسريب معلومات عسكرية واقعية، وسياسية حساسة عن العدو في الصحافة.

ع- الإفصاح عن إمتلاك نوعية خاصة من الأسلحة الفتاكة.

في حين تعتمد الحرب الناعمة على نفس الاهداف مع أختلاف التكتيكات التي أصبحت تكتيكات ناعمة، فبدلاً من تكتيكات التهديد تعتمد الحرب الناعمة على الجذب، والإغواء عبر لعب دور المصلح، والمنقذ، وتقديم النموذج الثقافي، والسياسي، وزرع الأمل بأن الخلاص في يد أميركا المانحة لحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحريات التعبير، وما شاكل من عناوين مضللة للعقول ومدغدغة

ص: 127

للأحلام، وملامسة للمشاعر، وبدلاً من استعراض الصواريخ، أو بث الرعب عبر الإذاعات، والمنشورات للفتك بإرادة العدو يتم إرسال أشرطة الفيديو، أو الأقراص الممغنطة أو صفحات (facebook) للشباب، والأطفال، والنساء، والرجال كل حسب رغباته، ومعقولاته.

وبناء على التعاريف المذكورة لا تعد الحرب الناعمة منهجاً جديداً في مناهج الحرب النفسية بل هي نتاج تطور كمي، ونوعي في وسائل، ووسائط الاتصال مع الإعلام، وهي إفراز طبيعي، وحتمي للجيل الرابع من وسائط تكنولوجيا الاتصال، والإعلام كما يرى أغلب خبراء الإعلام، والمعلومات.

وفي التقييم، والتشخيص نستنتج بعد المقارنة، والمطابقة بين الحرب النفسية، والحرب الناعمة أنهما يسيران على خط سكة في الأهداف، ويتعاكسان في الوسائل، والأساليب، فيتفقان، ويشتركان في الهدف لجهة قصد تطويع إرادة الدول، والنظم، والشعوب، والجيوش، والرأي العام، والمنظمات، والجماعات، ولكنهما يختلفان، ويتنافسان في الوسائل، والأساليب، ويختلفان في نوعية الأساليب، بسبب درجة انتشار الأدوات الإعلامية، والاتصالية لدى الرأي العام، فالحرب الناعمة دخلت إلى كل البيوت على مدار الساعة يومياً من خلال شاشات التلفاز، والانترنت، والهواتف الخلوية في ظل عولمة إعلامية، وثقافية، ومعلوماتية فورية، ومفتوحة، ومتفاعلة، ومترابطة بشكل لاسابق له، في حين كانت الحرب النفسية تنطلق بشكل أساسي نحو الجيوش، والحكومات التي كانت تمتلك، وتسيطر بصورة شبه احتكارية على وسائل الاتصال، والإعلام التقليدية (الإذاعات، الصحف، الشاشات) التي كانت محدودة العدد، والانتشار، نظراً لكلفتها الاقتصادية، فمعركة الحرب الناعمة تبدأ أولاً، والرأي العام تمهيدا للانقضاض على النظام المعادي، في حين تبدأ الحرب النفسية بمهاجمة الدولة، وجيشها، ومؤسساتها العامة، أي تبدأ المعركة ضد النخبة السياسية، والفكرية أولا، ومن ثم تنتقل لأجل ضرب الرأي العام المعادي لفك ارتباطه، وولائه، ولحمته مع الدولة، والنظام المستهدف، فكل ماهو من الإرغام، والضغط بوسائل أكثر صلابة

ص: 128

دون أن تصل لمستوى الوسائل العسكرية هو من الحرب النفسية (خطابات عالية النبرة، وتهديدات، وعروض عسكرية، وشائعات، واغتيالات، وحرب جواسيس)، وكل ما هو من جنس الاستمالة، والجذب، والإغواء الفكري، والنفسي بوسائل أكثر نعومة (أفلام، وأقراص ممغنطة، وصفحات facebook ومسلسلات وsms) يدخل في تعريف الحرب الناعمة (1).

ج-التطور التاريخي لاستعمال الحرب الناعمة:

كانت السياسة الأميركية في النصف الثاني من القرن الماضي وبنتيجة التوازن الدولي الناشيء عن أنقسام العالم إلى قطبين شرقي أو اشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي، وغربي أو رأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الامريكية نأت عن خوض الحروب بشكل مباشر، لاسيما بعد إنتهاء الحرب الفيتنامية، ولجأت إلى الحروب غير المباشرة، أو الحروب بالوكالة على غرار دعمها لحروب (إسرائيل) ودعمها الموارب للحرب العراقية - الايرانية (1980-1988)، وفي التسعينات من القرن المنصرم حافظت الولايات المتحدة الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهيمنتها كقطب أوحد في العالم، على عدم خوض الحروب المباشرة خصوصاً أنها لم تعد بحاجة إلى ذلك بسبب نقد عوامل امتلاك القوة للدول من العامل العسكري إلى العاملين الاقتصادي، والتقني، بسبب انفتاح مسارات العولمة التي تمتلك الولايات المتحدة الأميركية الحيز الاكبر من وسائلها، ويحكم ماتتمتع به من جبروت في المجال العسكري، والاقتصادي، والتقني ولأن العالم بات أكثر طواعية لإملاءاتها، هكذا انتهجت الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون سياسة (القوة الناعمة) لفرض سياساتها، وتمرير المصالح، والأولويات، والقيم الأميركية بالوسائل الدبلوماسية، والتشجيع الاقتصادي وعلاقات الاعتماد، والمتبادلة، والضغوط السياسية (2).

ص: 129


1- المصدر نفسه.
2- المهندس محمد حمدان، الحرب الناعمة، (بيروت، دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع، 2010)، ص 13-17.

2 - أسباب ودوافع اللجوء إلى الحرب الناعمة

تفضل القوى الكبرى استخدام الحرب الناعمة للأسباب التالية (1):

1. أسباب اقتصادية:

نظرا لما تعانيه هذه الدول من مشاكل اقتصادية، فضلاً عن هيمنة العامل الاقتصادي على قرارات الحرب.

.2. أسباب استراتيجية:

تتعلق بحسابات الأمد البعيد، وتغيرات اللعبة السياسية، وموازين القوى، والتأرجح الحاصل بين مد وجزر في العلاقات الدولية.

3. أسباب استثمارية:

نظرة الدول الكبرى إلى إمكانية السيطرة بدون إلحاق الخسائر بالطرف الآخر، ومسك مقدراته بدون تكلفة إعادة الإعمار.

وهناك أسباب أخرى تحددها الدراسات الأكاديمية لاستخدام الحرب الناعمة من خلال توظيف الحرب النفسية تجاه الدولة المستهدفة وهي كما يأتي(2):

1. تجاهل نقاط القوة وإظهار نقاط الضعف لدى الدولة المستهدفة:

تعمل القوى الكبرى إلى تغافل ثقافة الدول المستهدفة، وتأريخها، وتعظيم نقاط الضعف عندها، والتركيز عليها، وتكبيرها، لابل اختراعها، والعمل عليها، وتعمل الدول التي تستخدم القوة الناعمة على إقناع الدولة المستهدفة بأنها ضعيفة من خلال وسائل الاتصال، والنخب، ومراكز الدراسات، والجامعات، وإقناع الدولة المستهدفة بأن ليس لها خيارات سوى الخضوع، واللجوء إلى الدولة القوية، والقبول بأرادتها،

ص: 130


1- المصدر نفسه، ص 13.
2- المصدر نفسه، ص34-40.

والعمل على إغفال كل نقاط القوة عند الدولة المستهدفة لكي تنساها بالرغم من أن الدولة المستهدفة لاتخلو من الكم، والنوع، والعقول، والنوابغ، والقدرات الطبيعية، والجانب الروحي، والمعنوي، والإرث الثقافي، والتاريخ الحضاري التي هي من عناصر قوتها، وتلجأ الدولة المستخدمة للقوة الناعمة اختراع نقاط ضعف عند الدولة المستهدفة، أو الإتيان بنقاط ضعف حقيقية، ويسلط الضوء عليها إلى حد أن النظر إلى الفضائيات، أو السماع لأحد النخب يحبط.

2. إثارة الاختلافات العرقية والدينية والثقافية:

تعمل الدولة التي تلجأ إلى القوة الناعمة تسليط الضوء على تلك الاختلافات، وأحيانا تعمل الدولة صاحبة القوة الناعمة إلى إعطاء الصراع السياسي في الدولة المستهدفة طابعاً مذهبياً، أو طائفياً، أو عرقياً، لتتسع دائرته، أو اختراع، وإيجاد خلافات.

3. إقناع الدولة المستهدفة بأنها شعوب متخلفة وجاهلة:

الدول التي تلجأ إلى القوة الناعمة تعمل إلى إقناع الدول المستهدفة بأنها شعوب قاصرة، ومتخلفة، وجاهلة، ولا تقدر على حل مشاكلها الفعلية، والسياسية، وتساهم في ذلك النخب السياسية، والثقافية، والإعلامية، والاقتصادية لتنخرط في أتون الحرب الناعمة.

4. إيجاد الشك والتردد والارتباك في الدول المستهدفة:

تعمل الدولة صاحبة القوة الناعمة على إيجاد الشك، والتردد في الدولة المستهدفة على ثلاث مستويات وهي كما يأتي:

أ- الشك في الأفكار والتصورات:

تعمل الدول التي تستخدم القوة الناعمة على إدخال الشك في المعتقدات، عبر أناس، ومثقفين يناقشون هذا الأمر، فعلى سبيل المثال يناقشون نقطة قوة العرب

ص: 131

الذين يقاتلون وفق التكليف الشرعي، وليس فقط من أجل عزة الدنيا بل من أجل مقام الشهداء وما أعد لهم فيشككون بالجنة، ومقام الشهداء، ويسخفونه عبر الكاريكتير، والأفلام، والحديث الأكاديمي، وهدف ذلك ضرب البنية الفكرية كما يقابلون الحديث عن تحمل المسؤوليات بدعوة الشباب للذهاب للرقص، والشرب، وأنهم لازالوا غير مؤهلين لتحمل المسؤولية، وفي نهاية المطاف يعتبرون كل عناصر القوة التي تحرر البلد، وترفع رأسه بين رؤوس العالم يضع ثقافة موت، والضعف يصبح ثقافة حياة وفق وجهة نظرهم.

ب- الشك في الخيارات وهل مجدية أم لا:

أيضاً يتساءلون من جدوى المقاومة، والاحتفاظ بسلاحها هل ذلك يخدم الهدف يجري نقاش ذلك كل يوم، لقد خصصوا في السنوات الأخيرة حديثاً يومياً عن سلاح المقاومة من قبل المرتزقة، والمدفوعين لهم الأموال، فوفق نظرهم أن الحديث عن المقاومة، والدفاع، وإلحاق الأذى بالعدو، وإفشاله، وإيجاد التوازن معه، يعتبر عيباً، أيضاً يضعون الأسئلة هل أنت إسلامي، أو وطني، فعندما تقول لهم نحن كل ذلك، ولا تنافي بينهما، فيقولون لك لا عليك حسم خيارك، وهذا يعاد كل يوم، ويجاب عنه، حيث أصبح إبداء الإهتمام بالأمة نقطة ضعف، وعيب في وطنيتك. إنهم يريدون أن يخرجوننا من انتمائنا العقائدي، والفكري.

ج- الشك في حركات المقاومة: قياداتها، وتنظيمها، وكوادرها:

إن هذه الحالة تعمل على التشكيك بقيادات المقاومة التي تؤمنون بها، وتروج الدول التي تستخدم الحرب الناعمة أن قيادات المقاومة غير صادقة، وهي فاسدة، وتنقاد نحو شهواتها، والمهم أن يبدأ النقاش حول أطر، وقيادات المقاومة، وأن تصبح في دائرة الاتهام، ومن جملة الأساليب أيضاً نشر الأكاذيب بالقول أنه یوجد صراع أجنحة، وتيارات، ويكتبون عن ذلك لإبعاد الجمهور عن قيادات المقاومة، بحجة أن الناس مع المقاومة، ولكن لا يوجد لها قيادة.

ص: 132

3 - آليات الحرب الناعمة

1. الإعلام:

أصبح لوسائل الإعلام في عصر المعلومات الذي نعيشه اليوم، وفي ظل تكنولوجيا الاتصال تأثيرات قوية على المجتمعات، وأصبح لها دور بارز لايمكن إنكاره في قيادة المجتمع، والتأثير على أفراده (1) .

وتعمل وسائل الإعلام للدول التي توظف الحرب الناعمة تجاه غيرها من الدول المستهدفة لتعميق حالة الإحساس بالقلق، والخوف من الأزمات القادمة التي تحيط بها من خلال المتغيرات التالية: (2) .

أ- الرؤى السيكولوجية والنفسية:

هذه الرؤى لها ارتباط بمشاعر، ومدركات الأفراد تجاه القضايا العامة، والأحداث المثيرة للجدل، والقلق في المجتمعات المختلفة، وذلك في علاقتها بوسائل الإعلام، وتلعب هذه الوسائل (وسائل الإعلام المختلفة) بأن تعبر عن نفسها بشكل جيد جداً، ومفهوم للغاية لكل من المشاهد/ القارىء، أو المستمع، فالأفراد العاديون عادة لا يجيدون فهم البيانات الكمية، والإحصاءات بقدر ما يجيدون فهم الجُمل، والعبارات الكيفية، الإنشائية، وهو ما برعت فيه مضامين وسائل الإعلام، حيث تعمل الأخيرة كخادم أمين لكل ما يثير الإحساس، والعاطفة حتى لدى تقديم الأحداث العادية مذكرة بالأخلاقي، والمثالي من التصرفات.

ب- إخراج الخوف من نطاقه الخاص إلى نطاقه العام:

وهذه الحالة تتم عبر وسائل الإعلام التي تتبع أنماطاً، وممارسات، شائعة في

ص: 133


1- أ. م. د. نوار جليل هاشم، أدوات القوة الأميركية في التعامل مع القوى الصاعدة (الصين أنموذجا)، مجلة أبحاث أستراتيجية، العدد 15، (بغداد، مركز بلادي للدراسات والأبحاث الإستراتيجية، أب/أغسطس 2017)، ص 112.
2- الأميرة سماح فرج عبد الفتاح، الإعلام وتشكيل الاحساس بالخطر الجمعي: أزمات المجتمع المصري نموذجا، مجلة المستقبل العربي، العدد 405، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، تشرين الثاني (نوفمبر) 2012)، ص 57-59.

تقديم القصص الأخبارية بأنها تحوي الكثير من القيم الأخبارية الغربية، كالإثارة، والصراع، والتشويق.

وتحدث وسائل الإعلام تغيراً على اللهجة الإعلامية لدى معالجة كل قضية مع إختلاف مراحل هذا التناول الإعلامي عبر الفترات الزمنية المختلفة وما يعنيه ذلك من تأثير في المتلقين بالتبعية، لكن قد تختلف مؤشرات الخطر بين الأفراد التي تروجه الدول التي تستخدم الحرب الناعمة تجاهها بناء على اختلاف مجموعة العوامل المجتمعية المحيطة بهم بشكل عام، ففي الوقت الذي قد يشعر فيه الأفراد بالخطر من وجود نسبة تلوث ما في المياه، قد تعتقد مجتمعات أخرى أن هذا الأمر ليس بدرجة الأهمية نفسها لما تتضمنه البيئة المحيطة بهم من مشكلات أخطر، وأبرز من وجهة نظر هؤلاء الأفراد، وهو ما يجعلهم بالتالي يتهاونون في تقديرهم مشكلة ما قد تعرض عليهم في وسائل الإعلام مقابل التهويل، والتضخيم من حجم مشكلة أخرى.

ج-تحويل الخوف الاجتماعي إلى خوف أمني:

تعمل القوى الكبرى على التلاعب من خلال وسائل الإعلام بالخوف، وعلى استثماره لصالحها كسلطة مقايضة الاجتماعي بالأمني، وبذلك تجعل تلك القوى الدول المستهدفة تنقاد لها للتأثير على حكوماتها لتوثيق العرى مع تلك القوى لتوفير غطاء حماية أمني لها خوفاً من انتشار عدم الاستقرار، وتدهور الوضع الأمني، وتلجأ القوى الكبرى إلى طرح بديل للتعويض عن الخوف الاجتماعي، والأمني عبر التشجيع على مزيد من المبادلات الثقافية، وإحلال القيم الغربية محل القيم العربية والإسلامية لتعميق التبعية الثقافية، والمجتمعية للغرب (1).

وتستخدم القوى الكبرى في الوقت الحاضر الصور في حربها الناعمة ضد العالم العربي، والإسلامي، لأن الصور تتحكم بالأحلام، والأحلام تتحكم بالأحداث، وهذا لأن معظم الناس يتبنون وجهة نظر العالم التي تنم عما يفعلونه على أساس عاطفي

ص: 134


1- أيان موريس، الصراع على القوة الناعمة في الشرق الاوسط، مجلة المستقبل العربي، العدد441، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، تشرين الثاني/نوفمبر 2015)، ص136.

أكثر منه عقلانياً، أنهم يصدقون الأخبار ليس من خلال تأمل الأفكار وموازنتها، وإنما من خلال الصورة التي يشعرون أنهم جزء منها، ويرتبطون بها. يميل الناس إلى الانسياق وراء سرد يعتمد على الصور التي يتماهون معها الصور التي تعكس الكرامة، والتقدير، والمكانة داخل ثقافتهم (1) .

وعليه في الشؤون الدولية لا يلتقط الرأي العام السياسات بشكل منفصل وتحليلي ولكنه يكون استنتاجاته اعتماداً على الصور، ففي حين كان تمثال الحرية رمزاً لأميركا أصبح سجين أبي غريب برأسه المغطى (بالقلنسوة)، في نظر الكثيرين هو الرمز الأميركي الجديد خلال حكم بوش، ولذلك الباحثون الأميركيون في وصف استخدامهم للحرب الناعمة من خلال الإعلام ((في المعركة الكونية لكسب القلوب، والعقول فإن لأميركا اليد العليا مجازيا لأننا كنا نسيطر على تدفق الصور والأيقونات والمعلومات)) (2).

ويشرح الباحثون الأميركيون وسائل أخرى من خلال الإعلام لشن الحرب الناعمة على الدول الإسلاميّة والعربية بالقول ((تعتمد صورة أميركا ليس فقط على هويتنا، ومانفعله، وإنما أيضاً على كيفية تصوير أنفسنا أمام العالم من خلال ثقافتنا الجماهيرية المنتشرة في العالم: أفلام هوليود، الموسيقى الشعبية، أفلام اليوتيوب، والتلفاز، ليس ثمة أمبراطورية في التاريخ بما فيها الرومانية، والبريطانية، والأسبانية، والعثمانية امتلكت القدرة على امتطاء العالم وقولبة الصورة لتعكس أسلوب حياتها إلى الآخرين كما يفعل مجتمعنا الإعلامي - الصناعي، نتيجة لذلك تمتزج بعُرى لا تنفصم هويتنا، وأفعالنا، وطريقة تقديم أنفسنا بقصد أو بدونه في عيون الرأي العام العالمي وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإن صورة ذاتنا الجمعية في مواجهة بقية العالم تتشكل بطريقة تصوير أنفسنا في وسائط الإعلام، والأفلام هي في الوقت ذاته عاكسة للتجربة الأميركية وصائغة لها (3) .

ص: 135


1- نيثان غردلز ومايك ميدافون، الإعلام الامريكي بعد العراق حرب القوة الناعمة، ترجمة وتقديم بثينة الناصري، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2015)، ص32.
2- المصدر نفسه، ص 34 وص 37.
3- المصدر نفسه، ص 48.

وتعمل أميركا على اجتذاب المهاجرين من مختلف دول العالم عبر الحرب الناعمة من خلال صورة أميركا على أنها أرض الفرص، والإمكانات اللامحدودة الموعودة حيث تسود الحرية الشخصية وحكم القانون وأكبر قوة جذب في أميركا هي أنها دواء جيوثقافي لجماهير التاريخ المعذبة حين يهبط المهاجرون من زوارقهم كي يغادرون مشاكلهم خلفهم، وكذلك التراب، وأرض الأجداد وكل ما يتعلق بها حيث تنتزع من الرمح وتتحول إلى عقار الأحرار وبهذا المعنى يرى الأميركان أن أميركا هي ((عقيدة وليس عرقاً ولاحتى أمة المستقبل وليس الماضي هو الذي يمثل خيال كل إنسان)) وبهذا الشكل يعتبر الأميركان تلك الحالة هي أحد الاسرار المعروفة عن سبب سرعة اندماج المهاجرين المسلمين في الثقافة الأميركية مع حرية ممارسة عقائدهم في حين أنهم في أوروبا يظلون مرتبطين بالمحن التأريخية لأوطانهم الأصلية (1) .

ويصف بعض الباحثين الأميركان استخدام القوة الناعمة من قبل أميركا خلال وسائل بأنها نوع من أنواع ((الاحتلال الترفيهي الأميركي للمخيلة العالمية كاسحا أكثر من اللازم حتى لبعض اولئك المثقفين مع القيم العلمانية، الليبرالية لهوليود مما أثار رد فعل عنيف وكما عبر عنها جوزيف جوف Josef Joffe ناشر المجلة الألمانية دیزایت Zeit بقوله ((مابين فيتنام والعراق اتسع الحضور الثقافي الأميركي فشمل كل أنحاء العالم، وكذلك اتسع العداء لأميركا، أن القوة الناعمة لاتؤدي بالضرورة إلى حب العالم لأميركا، أنها قوة، وبهذه الصيغة فهي تصنع أعدائها)) (2).

وتلجأ الدول الغربية إلى استخدام الإعلام كوسيلة من وسائل الحرب الناعمة من خلال التركيز على الحوادث المأساوية، والسيئة، ووضعها في مستهل نشراته، وعلى صدر صفحاته عملا بالمبدأ الإعلامي السائد ((الأخبار السيئة هي الأخبار الجيدة)) (3) .

وقامت واشنطن بإطلاق (قناة الحرة) الموجهة للجمهور العربي، والممولة من

ص: 136


1- المصدر نفسه، ص 50.
2- المصدر نفسه، ص 55.
3- عزت أبراهيم، دور وسائل الإعلام في تشكيل صورة أمريكا، حلقة نقاشية حول الصورة الدولية للولايات الامريكية بين ادارة بوش وادارة أوباما، ميديا انترناشونال، (القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 16 فبراير 2009)، ص 18.

الحكومة الأميركية باعتبارها نوع من الدبلوماسية العامة كوسيلة إعلامية وإحدى وسائل التأثير في الرأي العام في إطار الحرب الناعمة على العالم العربي (1) .

ووفق هذا الاتجاه شهد العالم العربي ظهور المئات من القنوات الفضائية الموجهة إليه بجانب قناة الحرب، وفقدت وسائل الإعلام الحكومية العربية نسبة كبيرة من المشاهدين، والمكانة، والنفوذ، وأصبح عليها أن تُكافح للبقاء في ظل المنافسة المحتدمة مع القنوات حيث يوجد أكثر من 500 قناة فضائية تبث بالعربية لجمهور المشاهدين الذين يقطنون ما بين المغرب والعراق (2) .

2. وسائل التواصل الاجتماعي:

أشارت وثيقة الاستخبارات القومية الأميركية (The National Intelligence Strategy) للعام 2010 إلى ضرورة الاستثمار في حقل شبكات الأنترنيت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وما يهمنا في هذه الوثيقة المقطعين الآتيين (3) :

المقطع الأول: يلعب المجتمع الاستخباراتي دوراً هاماً في زيادة أمن الأنترنيت عبر زيادة القدرة على كشف نشاطات المنافسين، وعبر زيادة القدرة على كشف نقاط الضعف لهؤلاء المنافسين، ونواياهم، وعبر حشد المزيد من الموارد، لكشف، وتفكيك التهديدات الأنترنيتية، وتوسيع شبكات التواصل الاجتماعي.

المقطع الثاني: ينبغي تحقيق التواصل في الخبرات ذات الصلة مع المجتمع الإستخباراتي، ومؤسسات الإستخبارات التابعة للحلفاء، والمجتمع الأكاديمي، والتكنولوجي.

والحقيقة الأساسية التي ينبغي إدراكها بقوة هي أنه بمجرد أن ينفصل المستخدم للشبكات عن بيئته الإنسانية، والاجتماعية: الأسرة، الحي السكني، المدرسة،

ص: 137


1- المصدر نفسه، ص 19.
2- المصدر نفسه، ص 17.
3- مركز الحرب الناعمة للدراسات، شبكات التواصل الاجتماعي: كمنصات للحرب الاميركية الناعمة، (بيروت، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية، 2016)، ص8-9.

المسجد، الجماعة الدينية، والسياسية، النادي الثقافي، ويلتحق بصورة منتظمة بعالم وسائل، وشبكات التواصل الاجتماعي سواء عبر الشبكة الالكترونية، أو عبر هاتف الجوال الذكي، يصبح فريسته، وهدفا لبنك الأهداف الأميركية، والصهيونية، وبلغة التكنولوجيا، فإن بمجرد أن يصبح للمستخدم حساب (Account) على الشبكة حتى لو كان هذا الحساب افتراضياً باسم مستعار، ووهمي، تنشأ له هوية رقمية، ومنصة الكترونية تخدم في نهاية المطاف أهداف المجتمع الالكتروني الأميركي الذي تديره غرفة عمليات مشتركة بين فروع الإدارة الأميركية خاصة وكالة الأمن القومي الأميركية NSA ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع (البنتاغون) (1) .

إن أي مستخدم للشبكات الاجتماعية يصبح هدفاً ضمن شبكة الرصد، والتجسس الأميركية، كما أنه يدخل نفسه طواعية، وعن رغبة، وانجذاب إلى دائرة تأثير، ونفوذ القوة الناعمة الأميركية وها هو (هنري كيسنجر) الشخصية الأميركية الأكثر تعبيراً عن الرؤية الدولية لأميركا يقول ((الثورة في عالم الاتصالات، والمعلوماتية هي الأولى في التاريخ في إيصال هذا العدد الكبير من الأفراد إلى أداة التواصل نفسها، وترجمة، وتعقب تحركاتهم بلغة تكنولوجية واحدة)) (2) .

لقد أكد أكثر من باحث أميركي تورط الولايات المتحدة الأميركية في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في الحرب الناعمة تجاه العالمين العربي والإسلامي ومن هؤلاء عالم الألسنيات اللغوية المفكر الأميركي (نعوم تشومسكي) في ثنائية التخطيط والتوظيف، حيث يؤكد لناحية العلاقة العضوية بين الشركات التكنولوجية، والإعلامية الدولية، غوغل وفيسبوك، وتويتر، وواتس اب، وغيرها، وبین الوظائف، والاستخدامات السياسية لدوائر صنع القرار الأميركي، والغرب فلا مجال للحيادية، والفصل بين مخططات الشركات الدولية وبين التوظيف السياسي الدولي فهما وجهان لعملة واحدة، ويكفي أن نشير في هذا المجال

ص: 138


1- المصدر نفسه، ص 11-12.
2- هنري كيسنجر، النظام العالمي، ترجمة فاضل جكتر، (دمشق، دار الكتاب العربي، 2014)، ص333. نقلا عن المصدر نفسه، ص 12-13.

إلى عبارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وهو يقول بكل تفاخر ((أن أميركا أصبحت أمة غوغل وفيسبوك)) (1) .

وعليه يمكن القول أصبحت منتجات فيسبوك، وغوغل، وواتس آب هي أهم صادرات، وأدوات القوة الناعمة الأميركية للسيطرة في أطار استراتيجيات الهيمنة السياسية، والثقافية، والاقتصادية، وهنا نشير إلى تصريح (اليك روس) مستشار وزارة الخارجية الأميركية لشؤون التكنولوجيا مايؤكد هذه المعادلة بقوله ((لقد أصبحت الشبكة العنكبوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي بمثابة تشي غيفارا القرن الحادي والعشرين، فهي اليوم تحرك الشعوب بعيداً عن البنى، والمؤسسات، والمنظومات الثقافية، والسياسية، التقليدية)) (2) .

وفي مكان أخر يقول (جوليان أسانج) مسرب وثائق ويكيليكس الشهيرة ((أن شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنيت هي أضخم، وأخطر جهاز تجسس، واستخبارات، ابتكره الإنسان، وعرفته البشرية منذ فجر التاريخ، لأن الإنسان المستخدم للشبكة يتبرع مجاناً بوضع المعلومات، والمعطيات، والصور، والفيديو، والتعليقات، والأراء عن نفسه، وعن دائرة زملائه، ومحيطه الاجتماعي، وهي غالباً ما تكون مهمة، ومفيدة، وموثوقة)) (3).

وقد كشفت وثائق سرية حصلت عليها صحيفة (نيويورك تايمز) أن الأجهزة الأمنية الأميركية تجمع ملايين الصور يومياً من مواقع التواصل الاجتماعي للتعرف على السمات، والوجوه، حيث كشفت عن قيام وكالة الأمن القومي بجمع أعداد هائلة من الصور من رسائل البريد الالكتروني، والرسائل النصية، ووسائل الإعلام الاجتماعي، والمؤتمرات الفيديوية، ونماذج أخرى للتواصل، والتوجهات، والتعرف على الوجوه، ووفقا للصحيفة فإن ملايين الصور التي تقوم وكالة الأمن القومي الأميركية بجمعها

ص: 139


1- المصدر نفسه، ص 14.
2- المصدر نفسه، ص14-15.
3- المصدر نفسه، ص 15.

يوميا هناك حوالي 550 ألف صورة ذات جودة، ووضوح تجعلها صالحة لغايات التعرف على الوجوه (1) .

3. إثارة النعرات الطائفية والعرقية:

كثيرة هي الأفكار الشريرة التي تطرح في العقل الصهيوني والغربي المنحاز للصهيونية ضد العرب والمسلمين، وثمة من يعتقد أن هناك صراعا تأريخيا له أبعاده الدينية بين العرب والغرب بدأ مع الحملات الصليبية قبل أكثر من ألف عام، لكن هذا الصراع لم ينته بعد، بل يتخذ أشكالاً مختلفة يعكس جوهر الصراع، وطبيعته، ومكوناته، ومستقبله، ومن ضمن الأفكار ، والمشاريع الغربية - الصهيونية يتصدر مشروع (برنارد لويس) المفكر اليهودي - البريطاني الأصل الذي تحول إلى أسطورة، بسبب نجاحه في التطبيق العملي لفكرة تقسيم الوطن العربي بعد أن تحول إلى اجراءات، وخطط، وبرامج عمل جادة (2) .

إن مشروع برنارد لويس التقطته القوى الكبرى في الغرب، لاسيما أميركا بكل أجهزتها الأمنية، والاستخباراتية، والعسكرية، فضلاً عن (اسرائيل) التي لا تمل، ولا تكل في محاولاتها لاختراق الدولة الوطنية العربية، وبالتركيز على مثلث القوة العربي (مصر والعراق وسوريا)، فضلاً عن دول الأطراف (السودان، واليمن، والمغرب) (3) .

إن مشروع برنارد لويس لتقسيم المنطقة، والوطن العربي خصوصاً تحتل مكانة مركزية في البيت الأبيض، والبنتاغون، ومراكز صنع القرار الأميركي ومنها وزارة الخارجية، والاستخبارات المركزية، وقد تبنى الجمهوريون، أو المحافظون الجدد أفكار لويس وحولوها إلى برامج عمل، واجراءات تستهدف تفكيك الوطن العربي، وتغيير اسمه إلى (الشرق الأوسط الكبير) (4) .

ص: 140


1- المصدر نفسه، ص 15-16.
2- عادل الجوجري، برنارد لويس سياف الشرق الاوسط ومهندس سايكس بيكو 2، (دمشق، دار الكتاب العربي، 2013)، ص5.
3- المصدر نفسه، ص 5-6.
4- المصدر نفسه، ص 6.

ويؤمن برنارد لويس أن الشعوب درجات وهي نظرية عنصرية لكن لايهم هنا طالما أنها ستؤدي إلى نتائج عملية يصفها لويس بأنها أخلاقية حتى وإن كانت المقدمات عنصرية، وغير أخلاقية، ويستند لويس على عبارات مريبة ومنها أن التراث الإسلامي شيء والتراث اليهودي المسيحي شيء آخر ولايمكن أن يلتقيا بل إنهما في صراع دائم يصل إلى حد الاقتتال وما أحداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001 إلا تعبيراً عن جوهر الصراع بين المخزون الثقافي والتراثي بين المسلمين من جهة، واليهود، والمسيحيين من جهة أخرى (1) .

إن أخطر أفكار برنارد لويس هي فكرة إنهاء الوطن العربي عبر إثارة النعرات الطائفية، والعرقية، وتفكيك الدولة الوطنية، وتكريس منهج التفتيت كبديل لمشروع سايكس بيكو القديم إلى التفتيت وهو سايكس بيكو الجديد مع تطور آخر هو أن يكون التفتيت شاملاً للوطن العربي من المحيط إلى الخليج وأن يضم إليه تركيا وايران في إطار خريطة للنفط، والغاز قد تتطور وتصل إلى قلب موسكو مع اعتبارات أن الصراع مع النفط (الطاقة القديمة) ستكون حامية الوطيس مع دول الطاقة الجديدة وهي الغاز، وهذه الخريطة تعكس الصراع بين سيطرة أميركا، والغرب القديمة على مناطق النفط، وسيطرة روسيا الجديدة على خريطة الغاز (2) .

ويبشر برنارد لويس بإمكانية تفتت بعض الدول العربية جراء إثارة النعرات الطائفية والعرقية كأحد أسلحة الغرب في الحرب الناعمة ضد العالم العربي، والإسلامي، ومن هذه الدول المملكة العربية السعودية التي ولدت بدورها في فترة مابين الحربين من القرن المنصرم لم تكن نتيجة للتوسع، والتسوية الاستعماريين هي صنيعة الطموح العائلي، والولاء القبلي، والحماسة الدينية، وهناك مصاعب داخلية، فعرب المملكة منقسمون مناطقياً، وبشكل خاص قبلياً وما زالوا محافظين على تقاليد النزاع القبلي القديمة وينقسم المسلمون في السعودية إلى سنة وشيعة، والشيعة أقلية في المملكة ككل لكنهم موجودون بكثافة في المقاطعات الشرقية

ص: 141


1- المصدر نفسه، ص 32.
2- المصدر نفسه، ص 54.

الغنية بالنفط، ويضيف لويس أن العائلة المالكة ليست بمنأ عن المنافسات الفئوية، ،والإقليمية، والشخصية، وتخلق التغييرات الاقتصادية، والاجتماعية طموحات ومطالب جديدة (1) .

4- سبل مواجهة الحرب الناعمة

كثرت الدراسات، والتحليلات التي تطرح سبل، وحلول، وبدائل لمواجهة الحرب الناعمة التي يستخدمها الغرب تجاه العالمين العربي، والإسلامي، وأكدت أغلب تلك الدراسات على طرح سبل لمواجهة الحرب الناعمة ومنها تهديدات وسائل التواصل الاجتماعي وفق عدة مستويات وكما يأتي (2):

1.المواجهة المباشرة مع مواقع وشبكة الانترنيت:

من خلال المساهمة التقنية في تصفية، وفلترة مواقع التواصل الاجتماعي في فضائنا، وبيئتنا، وهذا أمر صعب، ومعقد، نظراً لتشعب وسائل اختراق هذا الباب، ويحتاج إلى جهود تقنية ضخمة على المستوى الحكومي، والوطني، وهذا المستوى له مجال يتصل بالجانب السياسي، والقانوني، والتقني.

2- توعية المستخدمين:

وخاصة فئات الأطفال، والفتيان من ابناء بيئتنا على سلبيات، ومضار هذه الوسائل، وغرس حالة من الحذر، والشك في عقولهم، وقلوبهم تجاهها، وتعليمهم طرق، وأنماط الاستفادة الايجابية، والأمنة.

3. تحفيز أولي أمر المستخدمين:

سواء في المنزل، أو المدرسة، أو في مختلف المؤسسات الثقافية، والتربوية عليهم القيام بدورهم الإيجابي البناء في حفظ ابنائهم، ورعايتهم.

ص: 142


1- برنارد لويس، تنبؤات مستقبل الشرق الاوسط، (بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2000)، ص76-77.
2- شبكات التواصل الاجتماعي: كمنصات الحرب الامريكية الناعمة، مصدر سبق ذكره، 172-186.

4. إنشاء، ورعاية مؤسسات، وشبكات:

سواء أكانت مؤسسات اجتماعية أو إعلامية متخصصة، وذلك من خلال تصميم، وتشغيل مواقع، وتطبيقات، وصفحات، وحسابات، وظيفتها التواصل مع الجمهور المستهدف، لتزويده بالمحتوى الهادف، وملء، وتعبئة الفراغ المعلوماتي، والإعلامي، والثقافي، بصورة إيجابية، وإرشادية متنوعة تساهم في تلبية الاحتياجات، وترفع نسبة التوعية، وتضبط مسار مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.

5. زيادة فعاليات وأنشطة التعبئة الميدانية:

منها الثقافية، والاجتماعية من خلال استقطاب جيل الأنترنيت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وهم الأكثرية بنسبة تصل إلى 70 % إلى برامج، وأنشطة ثقافية، واجتماعية، وتعبوية، وميدانية، وإلى الاستفادة، والتواصل مع مؤسسات المجتمع الإسلامي.

6. نشر حالة من الوعي والإرشاد الهادف:

لغرض التعريف بالمواقع السليمة، والمفيدة، والعمل قدر المستطاع على إقناع الأهل، مشاركة الأبناء في العمل، والبحث ضمن وسائل التواصل، وكذلك توعية الأهل، ومراكز، ومؤسسات التربية حول مسألة فتح حوار مع الأبناء، يتمحور حول معرفة مشاكلهم، وأسباب اللجوء إلى شبكات التواصل ثم الوصول إلى حلول تدفعهم باتجاه الاستفادة السليمة.

7. الابتعاد في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي عن الأماكن المغلقة:

العمل على أن يكون تعاطي الأبناء مع وسائل التواصل الاجتماعي في حضور الاهل، وتحت إشرافهم المباشر، وكذلك من الضروري العمل على مراقبة استخدام الشبكات من قبل العوائل، والتعرف على الأماكن التي تشغل بال المستخدم، ولا بد من تحديد أوقات خاصة للدخول إليها، فمن غير المفيد

ص: 143

ترك الأبناء يصولون ويجولون في أي وقت ومتى شاءوا دون أن يكون هناك من يشرف عليهم.

8. العمل على إيجاد برامج تصفية المحتويات على شبكات التواصل الاجتماعي:

من أجل إبعاد ماهو ضار، حيث لا يتسنى هذا الأمر دون العمل على امتلاك اتصالات، وعلاقات مع مراكز التوزيع في الأحياء السكنية (الخوادم والسيرفيرات)، أو الإشراف عليها بشكل مباشر، أو إعداد حملات توقيع على مواثيق شرف أخلاقية، وثقافية، أو إشراكها في ورش توعية.

9. إيجاد خطة عمل للأماكن (كافيه نت):

من خلال التحكم في نوعية دخول المستخدمين للأنترنيت، وضبطها، ومراقبتها، ومنعها من دخول أشخاص صغار السن.

10. تدريب جيش الناشطين والمستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي:

من خلال تحويل هذه الوسائل من تهديدات ثقافية، وأمنية، وسياسية إلى فرص لخدمة المجتمع، وتهديد العدو، وفضح الخطط، وبيان الحقائق.

الخاتمة:

يخطىء من يظن أن الحرب الناعمة التي استخدمها الغرب تجاه العالمين العربي والإسلامي ستنتهي، لأن كل المعطيات تشير أن الغرب سوف يعول كثيراً على أسلحة الحرب الناعمة، ومن أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن غزت العقول، للسيطرة عليها، وخاصة تجاه الأعمار الصغيرة من الفتيان، والفتيات لزرع القيم التي تؤثر على هويتهم العربية والإسلامية، وإضعاف علاقتهم بأوطانهم في سبيل إشباع رغبة افتراضية في تحقيق ذاتهم خارج أوطانهم، وإفراغ الشعوب العربية،

ص: 144

والإسلامية من الطاقات الشبابية، والعلمية، والأكاديمية لإفراغها من عناصر القوة، والمنعة، وجعلها خاوية إزاء الهجمات الغربية لإضعاف العالمين العربي والإسلامي وجعل الفجوة العلمية والتقنية والتكنولوجية واسعة بين الطرفين لكن في موازاة ذلك لابد على كل المؤمنين بارتباطهم الوثيق بأوطانهم عدم الوقوف متفرجين أمام ذلك بل يجب العزم على توجيه هجوم مقابل تجاه الحرب الناعمة القادمة من الغرب تحت بابين الأول دفاعي لتحصين الشعوب والمجتمعات من الهجمات الفيسبوكية والتويترية القادمة من الخارج وجعلها غير مؤثرة في الشعوب الواعية بإبعاد المخططات الخارجية لاستهداف تاريخها ودينها وقيمها والوقوف كجدار مانع يرتطم بعزيمة الشعوب المكافحة إزاء الهجمات الخارجية لاستعمار عقولها قبل أراضيها والثاني الهجوم عليها بحرب ناعمة مقابلة لتحجيم مفردات الهجوم الغربي ازاء العالم العربي والإسلامي.

ص: 145

الاستشراق والتبشير

اشارة

آليات الاستعمار للهيمنة والاستيلاء

الدکتور عبد العالي احمامو

عبد العالي احمامو (1)

1- الفكر الاستشراقي تعالي الغرب ودونية الشرق

لن نختلف في الأثر الكبير الذي يخلفه الاستشراق في العالم الغربي والعربي على السواء، وإن اختلفت ردود الأفعال من الأنصار والخصوم؛ فالأكيد أن مدارس الاستشراق بتعددها واختلاف مناهجها أصبحت توجه وتتحكم في كل من أراد أن يكتب عن الشرق ويَدْرسه، كما أنها تؤطر له المجال العام وأرضية الاشتغال على اعتبار أن الاستشراق «يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة يكون فيها ذلك الكيان العجيب (الشرق) موضوعاً للنقاش» (2).

وإن كنا نجد تناقض الآراء حول الاستشراق في البلدان العربية الإسلامية، بين من يرحب به ويؤيده ويتحمس له، وبين من يرفضه جملة وتفصيلاً، بل يحارب كل من يشتغل به ويعتبره عدوا للإسلام والمسلمين.

ص: 146


1- دكتوراه في الآداب - اللسانيات الاجتماعية - المغرب.
2- إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981م، ص 39.

وإذا كان موضوع الاستشراق يفرض نفسه علينا بإلحاح، ويتطلب منا وقفة تأملية جادة لبحثه ودراسة أبعاده وتأثيراته على الثقافة والفكر العربيين؛ فليس هناك بديل عن مواجهة هذا التيار وطرحه على بساط البحث والدراسة من أجل استخلاص النتائج، ونقد كل ما شابه تقصير، أو تشويه، أو تحريف، بميزان سليم ومناهج موضوعية نبغي ورائها الاستفادة من رؤية المستشرق لنا ولثقافتنا بإيجابياتها وسلبياتها.

وفي محاولتنا تفكيك خطاب العرب والمسلمين الذين تناولوا الاستشراق؛ لا يمكن لنا أن لا نعتمد على التعريفات العديدة التي قدم بها إدوارد سعيد في كتابه «الإستشراق»؛ ومنها أنه: «أسلوب في التفكير مبني على تميّز متعلق بوجود المعرفة بين «الشرق» (معظم الوقت) وبين الغرب» (1)، كما يضيف أيضاً أن الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي أو حقل بحثي ينعكس سلباً باختلاف الثقافات والدراسات أو المؤسسات، وليس تكديساً لمجموعة كبيرة من النصوص حول المشرق، وإنما هو توزيع للوعي الجغرافي إلى نصوص جمالية وعلمية واقتصادية واجتماعية وفي فقه اللغة. وتتوالى التعريفات عند إدوارد سعيد ليعرف الاستشراق بأنه المجال المعرفي أو العلم الذي يُتوصل به إلى الشرق بصورة منظّمة كموضوع للتعلم والاكتشاف والتطبيق، إضافة إلى اعتباره أن الاستشراق: «نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق» (2) .

وفي الجهة المقابلة، ثمة من يرى في الاستشراق وسيلة للتحكم في الإسلام والمسلمين بعيداً عن كل هاجس علمي، ومثال ذلك التعريف الذي قدمه أحمد عبد الحميد غراب حيث يرى أن الاستشراق: «دراسات أكاديمية» يقوم بها غربيون کافرون - من أهل الكتاب بوجه خاص - للإسلام والمسلمين، من شتّى الجوانب:

عقيدة، وشريعة، وثقافة، وحضارة، وتاريخاً، ونظماً، وثروات، وإمكانات بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية

ص: 147


1- .Edward Said. Orientalism، New York: Vintage Books، 1979، p 2-
2- نفسه، ص 92.

والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي» (1) .

والأكيد أن الحديث عن الاستشراق يجرنا إلى ذكر العديد من الأعمال والدراسات التي ساهمت في إماطة اللثام عن هذا الفكر، وإن اختلفت التوجهات والأهداف والمقاربات؛ ونذكر منها: إدوارد سعيد (الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق) الذي صدر أول مرة عام 1978م، ويتناول جملة المؤلفات والدراسات والمفاهيم الفرنسية والإنجليزية عن الشرق الأوسط والتي يجزم المؤلف أنها السبب الرئيسي في الشرخ الحاصل بين الحضارة الغربية والشرق أوسطية، إضافة إلى دراسة أحمد سمايلوفيتش (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر) التي اعتمد فيها على رؤيته للاستشراق الذي يعتبره ظاهرة فكرية لعبت دوراً خطيراً في الفكر والأدب العربيين قديما وحديثا، فقديما أخذ الاستشراق العلوم والآداب والفنون عن العرب ونقلها إلى الغرب حيث أقام نهضته العارمة على دعائمها، وحديثاً أخذ الاستشراق الأفكار والنظريات والآراء الغربية المؤسسة على ثقافة العرب، فردّها إليهم مؤثرا بذلك في نهضتهم المعاصرة أبلغ التأثير، كما طالب في كتابه هذا العرب إلى اليقظة الفكرية والعلمية، والنهضة الأدبية، مبرزا اهتمام الاستشراق بالأدب العربي وأسبابه ودوافعه، ومشيرا إلى الأخطار الجسيمة التي وقعت فيها بعض الجامعات العربية باستعانتها ببعض علماء الاستشراق للتدريس فيها، وما نتج عن ذلك من تأثر بعض الدارسين العرب بأفكار المستشرقين البعيدة بمقدار غير قليل عن الموضوعية العلمية.

كما نضيف إلى ما سبق كتاب (نقد الخطاب الاستشراقي) لساسي سالم الحاج الصادر سنة 2002م، والذي حاول فيه الإجابة على مجموعة من الأسئلة أبرزها الاختلاف حول حسنات وسيئات الاستشراق، وما وجهة النظر العلمية حول ذلك، وقد تطرق إلى كل هذا متتبعاً أصل الظاهرة وتطورها التاريخي منذ الأزمان الموغلة في القدم أي منذ التقاء الشرق بالغرب، أو الإسلام بالمسيحية، حتى بيان نتائج

ص: 148


1- أحمد عبد الحميد غراب، رؤية إسلامية للاستشراق، بيرمنجهام، المنتدى الإسلامي، ط 2، 1411 ه-، ص 7.

هذه العلاقة في العصر الحديث، كما ركز على آثار الحركة التبشيرية واستخدامها في الأغراض السياسية، منتقلاً بعد ذلك إلى الحديث عن أهم مميزات الدراسات الاستشراقية في كل من إيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، وإسبانيا، وهولندا، ليقف عند الخصائص التي تميزت بها المرحلة العلمية للدراسات الاستشراقية المتمثلة في إنشاء المراكز المتخصصة، وتخصص كل مستشرق في فرع معين من فروع المعرفة الشرقية، الأمر الذي يعطي للدراسات المطروحة زخمها وجديتها وخصوصيتها.

كما يمكن لنا أن نتوقف كذلك عند كتاب رودي بارت (الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية) والذي يعرض فيه لتطور الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية منذ القرن الماضي، وهو تكملة لجهود سبقت عند غيره من المستشرقين الألمان، كما يعرض الكتاب لقضية مهمة، وهي مدى تقبل الباحثين الشرقيين لدراسات الاستشراق. كما يوضح رودي بارت موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام الذي كان موقف الدفع والمشاحنة فحسب، بالرغم من أن العلماء ورجال اللاهوت، في العصر الوسيط، كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، إلا أن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو موضوعي كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هذا الدين المعادي للمسيحية لا يمكن أن يكون فيه خير، وهكذا كان الناس لا يصدقون إلا تلك المعلومات التي تتفق مع هذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون بنهم كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي وإلى دين الإسلام.

فهذه الإنتاجات الأكاديمية وغيرها تعطي الانطباع بأن السنوات الأخيرة تمثل نقطة تحول كبير فيما يتعلق بالفكر الاستشراقي، وتجعلنا نساهم بدورنا في تفكيك معالم هذا الخطاب على اعتبار امتداده واستمراره وتلونه بالعديد من الألوان والأهداف والوسائل والآليات.

ولعل من أبرز الأسئلة التي تتردد دائماً في أذهان الباحثين والمفكرين ممن تناولوا علاقة الشرق بالغرب هو: ما الهدف من اهتمام الغربيين بالشرق؟ ولماذا تخصص

ص: 149

تلك الدول جزءاً مهماً من ميزانياتها لدعم مثل هذه الدراسات؟ إضافة إلى الدور الكبير التي تلعبه المؤسسات والجامعات التي تفتح أبوابها لتحتضن وترعى هذه الدراسات.

فالأكيد أنه لا يمكن حصر أهداف ودوافع الاستشراق لتعددها وتداخل بعضها ببعض، فتارة يكون الهدف علمياً لينقلب استعمارياً، أو غير خال من إيديولوجية تؤثر في المستشرق ونتائج بحثه، دون نسيان الجوانب الاقتصادية والتاريخية والنفسية ...

يذهب رودي بارت إلى أن الهدف الرئيس من جهود المستشرقين في بدايات الاستشراق، في القرن الثاني عشر ميلادي والقرون التي بعده، هو التبشير، وعرّفه بأنه: «إقناع المسلمين بلغتهم بِبُطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي» (1) ، - حيث اعتُبر يومئذ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيين - ودين لا يستحق الانتشار ليؤثر ذلك في أهداف الاستشراق التي أصبح أبرزها «إضعاف مُثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المُثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وإظهار أية دعوة تدعو للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر» (2) .

وإذا كان الاستشراق بدأ بتشجيع من الكنيسة ورجال الدين فإن الاهتمام الديني يعد أول أهدافه وأهمها على الإطلاق. فعندما رأى النصارى، خاصة رجال الدين منهم، أن الإسلام اكتسح المناطق التي كانت للنصرانية، وأقبل الكثير على الدين الإسلامي ليس لسماحته فحسب ولكن لأنه بعيد عن التعقيدات وطلاسم العقيدة النصرانية، ولأنه نظام كامل للحياة. فعندما جاء الإسلام، وجد العالم بأسره في أزمة فكرية حادة، وقلق روحي بالغ، فحاول أن يُخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق، ومن التعصب إلى التسامح، ومن الهدم إلى الحياة، فبنى في قرن ما لم يبن غيره في قرون،

ص: 150


1- رودي بارت، الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ص 11. وينظر كذلك محمد حسين علي الصغير، المستشرقون والدراسات القرآنية، 2012، ص 12.
2- عبد الكريم عثمان، معالم الثقافة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، ط 16، 1992، ص 99.

وبدأ الناس حتى من غير أهله يتوافدون إلى مراكزه ومعاهده ليتعلموا فيها؛ ومن أمثالهم جرير، وسكوت، وبيكون وغيرهم، فكان نتيجة ذلك خوف رجال الدين النصارى على مكانتهم الاجتماعية والسياسية في العالم النصراني، فقرروا أن يقفوا في وجه الإسلام خاصة أنه لا يعتمد على ما يعرف بطبقة رجال دين أو أكليروس كما في النصرانية (1) .

كانت غاية الهدف الديني إذن هي معرفة الإسلام لمحاربته وتشويهه وإبعاد النصارى عنه، فقد اتخذ النصاري المعرفة بالإسلام وسيلة لحملات التنصير التي انطلقت إلى البلاد الإسلامية، وكان هدفها الأول تنفير النصارى من الإسلام. ونقرأ عند زقزوق أن قرار إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعة كامبردج عام 1636م قد نص صراحة على خدمة هدفين؛ أحدهما تجاري والآخر تنصيري، فقد جاء في خطاب للمراجع الأكاديمية المسؤولة في جامعة كامبردج بتاريخ 9 مايو 1936م إلى مؤسس هذا الكرسي ما يأتي: «نحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد، بتعريض جانب كبير من المعرفة إلى النور، بدلاً من احتباسه في نطاق هذه اللغة التي تسعى إلى تعلمها، ولكننا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة، عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة، والدعوة إلى المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات» (2) .

ومن المعلوم أن معظم ما ينتجه المستشرقون يرتكز حول أساسيات العقيدة الإسلامية، فالقرآن والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والفقه الإسلامي مواضيع أخذت الكثير من وقت واهتمام الدوائر الاستشراقية، خاصة ما شابها من صور تعتمد الشك والافتراضات الخاطئة والنتائج المسبقة، الشيء الذي يوضح سيطرة الدافع الديني على بعض أبحاث الاستشراق ودراساته، وهذا ما يوضحه محمود زقزوق من خلال اعتماده على ما صرح به برنارد لويس « لا تزال آثار التعصب

ص: 151


1- آصف حسين، المسار الفكري للاستشراق، ترجمة مازن مطبقاني، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ع 7، 1413 ه-، ص 566.
2- محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، كتاب الأمة، ط 2، 1983، ص 31.

الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين، ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية» (1) ، إضافة إلى ما جاء في الدراسة النقدية للاستشراق في العصور الوسطى في كتاب الإسلام والغرب لصاحبه نورمان دانييل الذي يرى أنه «على الرغم من المحاولات الجديدة المخلصة التي بذلها بعض الباحثين في العصور الحديثة للتحرر من المواقف التقليدية للكُتّاب النصارى من الإسلام فإنهم لم يتمكنوا أن يتجردوا منها تجريدا تاما» (2).

2- الاستشراق والتبشير في خدمة الاستعمار

لم تربِط الاستشراق بالنظرية الاستعمارية أي روابط في بدايته، وإنما كان محكوما فقط بالنوازع الدينية والعلمية، فالكنيسة ومؤسساتها المختلفة هي وعاء الاستشراق في هذه المرحلة، منها يتحرك وبإمكاناتها يعمل، وحين اجتاح الفكر الاستعماري أوروبا انطلاقاً من بعض النظريات العرقية التي قادها رينان وأضرابه، وتطلعت الدول الأوروبية إلى استعمار العالم الشرقي احتاج هؤلاء إلى الكثير من المعلومات التي تساعدهم في تحقيق تطلعاتهم الاستعمارية، وقد وجدوا في المستشرقين قوالب جاهزة ذات علاقة قوية بالشرق، وعلى دراية كافية بالكثير من المعلومات التي تمهد لحركة الاستعمار، ومن هنا تم التلاقح بين الاستشراق والاستعمار، ودخل المستشرقون في مرحلة جديدة هي المرحلة الاستعمارية (3) .

وإن كان لهذه الدوافع جذور عميقة زرعت ونبتت قبل الميلاد، ونمت بعده، وازدادت عمقاً وشمولاً مع اندفاع العرب وسيطرة الإسلام على الإمبراطوريات السابقة ووصوله إلى أوروبا واستقراره في بعض أراضيها، وعندما رأى الغرب كل هذا شرع يعد قوته لخوض معركة فاصلة معه والسيطرة عليه، فأخذ يتعلم لغته وحضارته وتاريخه لكي يتفوق عليه، ثم قام بمغامرات صليبية فحارب الإسلام قروناً ولم

ص: 152


1- نفسه، ص 73.
2- .Norman Daniel، Islam and The West: The Making of An Image، Revised edition، Oxford: Oneworld، 2009، P18-
3- محمد فتح الله الزيادي، الاستشراق أهدافه ووسائله، دار قتيبة، 1998، ص 38-39.

ينتصر، ولكن عندما نجح في طرده من الأندلس لم يكتف بذلك، بل واصل استعداده لمواجهة الإسلام في عقر داره واحتلال بلاده والسيطرة عليه (1) .

لقد انبثق الدافع الاستعماري للاستشراق من رحم الحروب الصليبية، التي كانت أول تجربة استعمارية خاضتها أوروبا خارج حدودها ضد الشرق؛ حيث أسقط الغرب الأوروبي ضعفه على الشرق العربي الإسلامي، وحاول إيجاد حل لمشاكله المتفاقمة، دينياً واجتماعياً، واقتصادياً، في هذه الحروب التي اجتاحت جيوشها الشرق العربي المسلم، فبعد أن تفشى الفساد في الكنيسة والمجتمع؛ رأى البابا إربان الثاني (1088- 1099) أن من الضروري القيام بمغامرة مثيرة تضع العالم المسيحي بأجمعه أمام عمل وهدف مشترك، وكان أشهر ما قال في خطابه في المجمع الكنسي في كليرمونت: «انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم تستعملونها ضد إخوانكم، ووجهوها ضد أعدائكم، أعداء المسيحية، إنكم تظلمون اليتامى والأرامل، وأنتم تتورطون في القتل والاغتصاب، وتنهبون الشعب في الطرق العامة، وتقبلون الرشاوى لقتل إخوانكم المسيحيين، وتريقون دماءهم دونما خوف أو وجل أو خجل، فأنتم كالطيور الجوارح آكلة الجِيَف، التي تنجذب لرائحة الجِيَف الإنسانية النتنة، ضحايا جشعكم، انهضوا إذا، ولا تقاتلوا إخوانكم المسيحيين، بل قاتلوا أعداءكم الذين استولوا على مدينة القدس، حاربوا تحت راية المسيح، قائدكم الوحيد، افتدوا أنفسكم، أنتم المذنبون المقترفون أحط أنواع الآثام، وهذه مشيئة الله» (2) .

هكذا اشتغل فريق من المفكرين بمجال الاستشراق مدفوعين من قبل حكوماتهم التي دعتهم إلى مساعدتها على استعمار الشرق فكانوا عوناً لها مخلصين في تقديم المعلومات التي احتاجت إليها وهي في طريقها إلى اجتياح الشرق معلنة الهيمنة عليه لفترة من الزمن تعين على امتصاص خيراته، وعلى إيجاد البديل عند الخروج، وعلى إضعاف مكامن الخطر بالنسبة لهم (3) .

ص: 153


1- أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار المعارف، القاهرة، 1974، ص 52.
2- للمزيد ينظر: سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية، أوروبا العصور الوسطى، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 2010، ص 23.
3- علي بن إبراهيم النملة، الاستشراق في الأدبيات العربية: عرض للنظرات وحصر وراقي للمكتوب، الرياض مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1993، ص 40.

فمنذ أواخر القرن العاشر الميلادي حتى الآن تعرض العالم العربي لهجمات الغرب المتواصلة التي استهدفت احتلال أراضيه، واستغلال مقدراته واستعباد شعوبه، وقد كانت البداية تلك الحروب الصليبية التي أخذت من الدين ستارا لأعمالها الهدامة وعندما خرجت قواها المتكتلة مقهورة قامت متأثرة بما رأت في الشرق الإسلامي وأخذت عنه مقومات النهضة العلمية الحديثة وشرعت تستعد لهجمات جديدة أبعد خطراً وأشد ضرراً من حرب الحديد والنار، حرب بشعار «مدرسة أو مستشفى أو ملجأ، أو كتاب، أو مقال، أو ما إلى ذلك من خداع العناوين التي يقطر باطنها بالسم الناقع، واستعداداً لذلك كان لابد من أن تجول طلائع الغرب في البلاد التي يجب قهرها واحتلالها وأن تكون هذه الطلائع من الذين تعلموا اللغة العربية وغيرها من لغات الشرق لكي يستطيعوا التحدث إلى الشعوب، والبحث في الآثار والتعرف على الأفكار والقيام بالدعايات وإثارة المنازعات وإشعال الخلافات حيث تقع البلاد فريسة بين مخالب الاستعمار. ولتحقيق هذا الهدف أكثروا من هذه الطلائع ليمارسوا التجسس على البلاد والتعرف على أحوالها وكتابة التقارير عنها، فكان لزاما على الجاسوس أن يلبس ثوب العالم بلغة البلاد، وأن يصطنع البحث العلمي وأن يسعى لخلق صلة بين الأهالي وجيوش الاستعمار إذا دخلتها (1).

فممّا لاشك فيه أن هناك وفاق بين الاستشراق والاستعمار حيث ساعد أحدهما الآخر مساعدة فعالة، فالأول كان يعد أبناء وطنه لسحق الشرق والإسلام ويصور عالم الشرق عامة والعالم العربي خاصة بصورة قبيحة في أخلاقه وعاداته وآرائه كما يصور الإسلام في صورة منفرة ويلصق به كثيراً من المخازي والجهالات (2).

ويؤكد سمايلوفيتش أن هدف الاستشراق والاستعمار ظلاً واحداً لفترة طويلة من الزمن؛ فإذا كان الأول يسبق الثاني ليكون طلائع جيشه وأعين أمنه يصيب أهدافه ويحقق آماله، فما عليه إلا أن يبدأ بالتشكيك في قيم الشعوب المغلوبة، والسخرية منها ومن دينها، وشخصية نبيِّها عليه الصلاة والسلام، وهدم الإسلام فكرياً وحضارياً،

ص: 154


1- للمزيد ينظر: أحمد سمايلوفيتش ص 122.
2- محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، دار الفكر، بيروت، (بدون تاریخ)، ص 52.

فالثاني يقوم بتنفيذ ذلك الحكم واقعياً وعملياً، كما كان الاستشراق حريصاً على تدريب باحثين ودبلوماسيين ومهنيين يحملون جميعاً إيديولوجية الغرب وعقليته تجاه الشرق وحضارته، وعلى الاستعمار أن يتبنى هؤلاء، يساعدهم وينفذ خططهم، ومثالا على ذلك الأسماء التي سبق أن ذكرناه في بحثنا الموسوم ب «التاريخ واللهجة المغربية في دراسات المستشرقين» (1) :

1- من ألمانيا:

هینریخ بارت:(H .Barth (1821-1865 ولد بهامبورغ، وتعلم في جامعة برلين حيث تخرج عام 1844. زار في وقت سابق إيطاليا وصقلية فشكل خطة للقيام برحلة عبر بلدان المتوسط، وبعد دراسته العربية في لندن بدأ رحلاته عام 1845م. ومن طنجة شق طريقه عبر أراضي شمال إفريقيا، ثم شق طريقه من النيل إلى وادي حلفا وعبر الصحراء إلى البرانس.

وقد درس بدقة جغرافيا وتاريخ وحضارة وموارد المناطق التي زارها. ونُشرت قصة رحلاته بالإنجليزية والألمانية بعنوان «رحلات واستكشافات في شمال ووسط إفريقيا» (1875 - 1859 في خمسة أجزاء)، وكان به من الدقة والتنوع والمعلومات ما قل نظيره عن كتب عصره.

وبعد وصوله إلى طنجة في غشت 1845م زار كلاً من تطوان وأصيلة والعرائش وغيرها ووصل إلى تمبوكتو، ونشر عن تجارة السودان مع المغرب كتابا في أربعة أجزاء طبع سنة 1863. كما دخل مدينة الرباط سنة 1845، ولما كان يرسم باب قصبة الأوداية تعرض لسب وتهديد من السكان على الرغم من ترخيص قائد المدينة له بالتصوير.

مصطفى العلج أو فريدريك كير هاردت رولفس: (Gerhard Rohlfs .F) ولد بمدينة بريمن سنة 1831 ومات سنة 1896 أو 1898. فبعد أن تعلم الطب ببلاده دخل

ص: 155


1- عبد العالي احمامو، التاريخ واللهجة المغربية في دراسات المستشرقين، مجلة دراسات استشراقية، ع 12، صيف 2017، ص 47-54.

إلى الحياة العملية سنة 1853 وانخرط في اللفيف الأجنبي سنة 1855م، ثم رحل إلى الجزائر حيث تعلم اللغة العربية ودرس تقاليد المسلمين وعاداتهم.

ولما انتهت حرب تطوان جاء إلى المغرب سنة 1861م، وحاول الدخول في خدمة إسبانيا. ثم لما بلغه أن السلطان راغب في توظيف أعلاج لتنظيم جيشه قرر أن يجرب حظه، فارتدى لباس المغاربة المسلمين، وادعى اعتناق الإسلام، وتسمى بمصطفى، ثم ربط علائق مع الحاج عبد السلام الوزاني، كما دخل في خدمة السلطان بوصفه طبيباً.

غير أنه لم يلبث أن غادر طنجة سنة 1862م متنكراً، وقام بجولته الأولى بالمدن الشاطئية حتى أكادير، ومنها التحق بسوس و تارودانت ومراكش وواحات درعة وتافيلالت وفكيك.

-فقد كان مرموقاً ببلاده وبالجامعات الأوروبية لطول باعه، ونال حظوة بعض ملوك أوروبا، كما كان مراسلاً للعديد من الصحف، وله تصانيف عن البلدان التي زارها طبعت بمدينة بريمن سنة 1868م و 1873م. ومن كتبه «وزان، دار الضمانة»، وفيه قال: «إن كل مجهود للنصرانية (أي للحضارة) كان معرقلاً في البلدان المتوسطية من لدن إنجلترا، لأن تجارتها في السكر والشاي والأفيون والمنسوجات القطنية تتضرر من ذلك».

- أوسكار لنس (Oskar Lenz): رحالة وعالم جيولوجي وجغرافي ألماني أو نمساوي، ولد بليبسيك سنة 1848م، وقام برحلة إلى السودان وعبر الجنوب المغربي، بعد أن تعلم اللغة العربية وعوائد المسلمين. وصل إلى طنجة في نوفمبر 1879 وزار كلاً من تطوان وفاس ومكناس وغيرها.

وفي السنة الموالية ساح بالجنوب المغربي سياحة لفائدة «الجمعية الإفريقية بألمانيا» قادته إلى مراكش عن طريق فاس ومكناس والرباط، ثم صعد إلى جبال الأطلس، مارا بتارودانت وسوس والصحراء، ودامت الرحلة ثلاثة أشهر قبل الوصول إلى تمبوكتو وأندر. رافقه الحاج علي بوطالب والترجمان الإسباني كريسطوبال بينيطيث(C. Benitez) الذي كان تعرف عليه خلال مقامه بتطوان والذي كان أحد

ص: 156

الذين عاشوا بالمغرب منذ الصبا حتى تعلم اللغة العربية. وأثناء رحلته سمى الحكيم عمر بن علي.

وقد نشر لنس كتاب رحلته بعنوان «رحلة من مراكش إلى الصحراء والسودان» المطبوع سنة 1881م، ذاكراً فيه عيوب الإدارة المغربية، ومطالباً باحتلال البلاد، وقد تُرجم الكتاب إلى عدة لغات منها الفرنسية.

- من إنجلترا

- أرثور ديك يبل بروك(A. De Capell Brook) السير بروك تجول بالمغرب سنة 1830 و 1831، ودخل تطوان وطنجة والعرائش. له تصنيف عن المغرب وإسبانيا طبع بلندن سنة 1831 عنوانه «sketches in spain and Morocco».

- سكوط أوكونورفيل (Scott O'connorvil) له كتاب ألفه سنة 1842 عن معاشرته للحاج عبد القادر بن محيي الدين عنوانه: «يومية إقامة بسمالة عبد القادر وسفريات إلى المغرب والجزائر : Ajournale of a residence in the Esmalia of Abdelkader and of travles in Morocco and Algirrs».

- ديفيد أوركهارت (D. Urquhart) دبلوماسي ورحالة زار شمال إفريقيا سنة 1848، ونشر كتاباً في مجلدين بلندن سنة 1850م عنوانه: «أعمدة هرقل أو قصة رحلات إلى المغرب وإسبانيا: the pillars of hercules; or a Narrative of travles in Spain and

Morocco».

- جون بول (J. Ball)، وماو (Maw)، والسير ج د هوکر (J. D. Hooker) علماء نباتيون قاموا جميعا سنة 1871م برحلة دراسية وجغرافية ومروا عن طريق دمنات ودخلوا وادي أمزميز. وأشهرهم هو الأخير الذي له تأليف مشترك مع بول صدر سنة 1878 عن جولتهما بالأطلس الكبير، وعنوان الكتاب: «مذكرة جولة بمراكش والأطلس الكبير : Journal of a tour in Morocco and the Great Atlas».

ص: 157

- أرثور ليرد (A. Leard) طبيب زار المدن الشاطئية سنة 1872 وأقام بالصويرة ومراكش وطنجة، ورافق السفارة البرتغالية إلى قصر السلطان، وله تأليف في 354 صفحة طبع بلندن سنة 1891م بعنوان «المغرب والمغاربة: Morocco and the Moors «لخصه عبد المجيد بنجلون في «جولات في مغرب الأمس: 1872».

- جوزيف طومسن (J.J. Thomson) وصل إلى المغرب في ماي 1888م وتجول بالأطلس وسوس ونشر سنة 1889 كتاب رحلته بلندن في 488 صفحة عنوانه: «سفريات إلى الأطلس وجنوب المغرب، قصة ارتياد: Travles in the Atlas and Southern.Moroccon

a narrative of exploration، ».

- من إسبانيا:

- أستبانث كلدرون (Serafin Estébanez Calderon) (1879-1799)، أديب رومانسي إسباني متأثر بالثقافة العربية، تعلم اللغة العربية عقب وصوله إلى مدريد سنة 1830.

- ولما شبت الحوادث في مراكش سنة 1844م حتى كادت تؤدي إلى إشعال الحرب بين إسبانيا والمغرب، ألف أستبانت كتابا بعنوان: «متن الضابط في مراكش»، وفيه يقدم للضابط الذي سينخرط في الحرب في المغرب دليلاً تاريخياً وجغرافياً لبلاد المغرب، مع وصف دقيق للأحوال الجوية، وللسكان، وللمدن، والعادات والآداب ومعلومات عن الدين الإسلامي، والقوة الحربية، والعلاقات التاريخية بين إسبانيا والمغرب منذ أقدم العصور حتى ذلك الحين.

- وثم جانب آخر اهتم به أستبانث فيما يتصل بالعرب والمسلمين في إسبانيا وهو الاهتمام بالأدب «الأعجمي»، أي الأدب الذي كتبه الموريسكيون بحروف عربية وإن كان باللغة الإسبانية. وقد استنسخ منه عدة مخطوطات، وقد وصف هذا الأدب الأعجمي قائلاً: «إنه أميركا حقيقية تستحق الاستكشاف».

ص: 158

- لافونته (Emilio Lafuente Y Alcantara) (1825 - 1868)، مستشرق إسباني وأديب رومانسي النزعة ألف تاريخ غرناطة.

أُرْسِل في سنة 1859 إلى المغرب حيت كانت في حرب مع إسبانيا، وذلك من أجل دراسة مجموعة من المخطوطات العربية كانت الحكومة الإسبانية قد حصلت عليها أو ترغب في اقتنائها. فقام بهذه السفرة، وفي سنة 1862 صنف فهرساً لهذه المخطوطات طبع في السنة التالية بعنوان: «فهرست المخطوطات العربية التي اقتنتها حكومة صاحب الجلالة في مدينة تطوان»، وفيه وصف هذه المجموعة المؤلفة من 233 مخطوطا عربيا في موضوعات شتى، وبعضها كانت نسخاً من مؤلفات معروفة كان الموريسكيون قد أخذوها معهم عند طردهم من إسبانيا، وبعضها الآخر كان ضمن مكتبات خاصة في المغرب.

- خوصي ماريادي موركا إي موكارتيكي : (J. M. de Murga Y Mugartegui) أو الحاج محمد البغدادي رحالة ولد بإسبانيا سنة 1827م وتوفي بقادس في فاتح دجنبر 1876. استوطن المغرب من 1863 إلى 1866 ورحل عنه، ثم عاد إليه سنة 1873 دون رحلته التي نشرت عدة مرات أولها سنة 1868م بمدينة بلباو بعنوان: «ذكريات لمسلم من بيتكايا»: (Recuerdos Del moro vizcaino).

- أنطونيو باريخا سيرادو (A. Pareja Serrado) أو أبو جبل قام سنة 1868 بجولة بالمغرب فزار سبتة وتطوان وفاس وبعض المدن الداخلية وألف كتاباً عن «مستقبل إفريقيا».

- من فرنسا:

- شارل كوشلي (Ch. Cochelet) ألف كتاباً روى فيه قصة أسره وحياته بالمغرب لما حرِضَت الباخرة «لا صوفي (La Sophie) «يوم 30 ماي 1819 بساحل وادي الذهب بين طرفاية وبوجدور. وقد طبع كتابه بباريس سنة 1821 في مجلدين بعنوان: «حَرَض المركب الفرنسي لاصوفي Naufrage du brick français La Sophie».

ص: 159

- أدولف ده کارامان (A. De Caraman) رحالة تجول بالمغرب من أبريل إلى يونيو 1825م، وهو ضابط استدعاه قنصل فرنسا بطنجة سوردو لمرافقته إلى فاس لتسليم رسالة الملك شارل العاشر إلى السلطان مولاي عبد الرحمان. وله تقاييد ومذكرات عسكرية عن الجزء الذي تجول فيه بالمغرب نشرت سنة 1844.

- أوجين دلاكروا: (E. Delacroix) رسام ولد سنة 1798 وتوفي سنة 1863. له لوحات شهيرة، كما أن له لوحات رسمها خلال مقامه القصير بالمغرب. وله أيضا دفتر مذكراته طبع سنة 1893 بعنوان: «يومية السفر إلى المغرب : Journal de voyage au Maroc»، أما رسالته فقد نشرت سنة 1880م.

- ري: (Rey) نشر سنة 1844 كتابه: ذكريات رحلة إلى المغرب: (Souvenirs d'un voyage au Maroc)، وقد ساح قبل السنة المذكورة فدخل طنجة والدار البيضاء ومكث عدة أسابيع بالرباط كما حل بسلا مرة واحدة.

- نارسيس كوط (Narcice Cott) كان ترجمانا لقنصل فرنسا بالرباط حيث مكث سنة 1854 و 1855، ثم انتقل إلى طنجة وقضى بها سنتين. له تأليف نشر سنة 1859م بباريس عنوانه «المغرب المعاصر : Le Maroc Contemporain».

- هنري رينيو: (H. Renault) قدم إلى طنجة يوم 13 دجنبر 1869، واکتری منزلا بعشرین فرنكا في الشهر وأثثه تأثيثا مغربيا واتخذ لخدمته عددا من المغاربة. وكان يرسم لوحاته المغربية ويبحث عن الموسيقى والفولكلور الوطني ويحضر مهرجانات التبوريدة. حاول أن يتعلم العربية وأن يهتم بالتقاليد والعوائد المغربية.

- رنييه باسیه : (R. Basset) مستشرق فرنسي من أعضاء المجلس العلمي العربي، اشترك في اللجنة الأولى التي أصدرت دائرة المعارف الإسلامية، ومن آثاره: «الشعر العربي قبل الإسلام». كما ألف «المخطوطات العربية لخزانتين فاسيتين: Les manuscrits

arabes de deux bibliothéques de Fés».

- موريس باليلوك:(M. Paléoloque) وصف مقامه بطنجة ومراكش في كتابه «المغرب، تقاييد وذكريات: Le Maroc ; notes et souvenirs» نشر سنة 1885 التي قدم قبلها إلى المغرب.

ص: 160

- ترّاس (Henri Terrasse) (1971-1895)، عالم بالآثار الإسلامية في مراكش والأندلس. عين مديرا للدراسات في الآثار الإسلامية بمعهد الدراسات العليا بالمغرب، واستمر في هذا المعهد حتى سنة 1957، وأصبح فيما بعد مديرا لهذا المعهد سنة 1943، وقد قام بنشر منشوراته في هذه الفترة؛ وأولها رسالة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة باريس، وعنوانها: «الفن الإسباني - المغربي من البداية حتى القرن الثالث عشر»، والثاني هو: «مسجد الأندلسيين في فاس» 1942، والثالث هو: «الجامع الكبير في تازة» باريس 1943.

وقد اهتم تِرّاس بتاريخ المغرب، فكتب في ذلك كتاباً ضخماً في جزءين، طبع في الدار البضاء سنة 1949 - 1950 بعنوان: «تاريخ المغرب من البداية حتى فرض الحماية الفرنسية» ونضر في الدار البيضاء سنة 1925.

-لقد استخدم الاستشراق الكتب والمجلات والمقالات وكراسي التدريس، والمؤتمرات العملية والمحاضرات العامة وغيرها من الوسائل لخدمة الاستعمار في أغلب الأحيان لا لخدمة العلم والحقيقة، ففي المجال الديني يجب أن يقال أن الإسلام دين مخترع ملفق، كما تجب مهاجمة شخصية النبي الكريم، ولتفكيك روابط العرب يجب أن يفهم الناس أن العربية الفصحى لا تصلح لشيء وأنها لغة قديمة وأن اللهجات المحلية أنفع منها.

- وللإجهاز على الروابط القومية والنظم الاجتماعية الشرقية يجب أن يعزى كل شعب إلى أصله، لأن العرب لم يكن لهم فضل في ثقافة أو تاريخ، ولإضعاف الروح القومية والاعتماد على النفس يجب أن يفهم الشرقي أنه غير مؤتمن الجانب، وأن الاختلاس غريزة فيه، وأن الشرف بعيد عنه، وأن بلاده وتربيته لا تصلح إلا للزراعة، وأن عقله غير مكون تكويناً تجارياً، وهذا كله ليحتكروا التجارة والصناعة ويتركوا للبلاد المستعمرة العمل الزراعي الشاق الذي لا يدر إلا الخير القليل، ويحطموا تلك العقلية الفذة التي لعبت خلال عشرة قرون دوراً فعالاً في بناء تاريخ الإنسان وحضارته (1) .

ص: 161


1- أحمد سمايلوفيتش، المرجع السابق، ص 122- 123.

ومن المعلوم أن أشكال وصور التعاون والارتباط بين المستشرقين والنظرية الاستعمارية تعددت وتنوعت، في شقها المباشر أو غير المباشر، نعرض في ما يلي بعضا منها (1):

ساهم تنقل المستشرقين وترحالهم في بلدان العالم الشرقي في إعطاء صورة واضحة لصناع القرار الغربي في اختيار الأمكنة الملائمة لجيوشهم، وفي توزيع رقعة العالم الشرقي بينهم.

قدم بعض المستشرقين خدمات مباشرة للحركة الاستعمارية، حيث كلف الكثير منهم بمهام محددة، منها على سبيل المثال ما قام به البعض من دراسات تحت رعاية شركة الهند الشرقية، التي عرفت بدورها الاستعماري في شبه القارة الهندية.

ساهمت الدراسات الاستشراقية التي ركزت على ما يسمى بالفرق الإسلامية في العملية الاستعمارية من خلال التركيز على إثارة النعرات الطائفية والحزبية والمذهبية ومحاولة تجذيرها لإحكام قبضته على مناطق العالم الشرقي.

فقد نشأت الصلات بين المشروع الكولونيالي والاستشراق في سياق تاريخي هو سياق تكوُّن كل منهما وتطوره، والمتغيران بدلا العلاقات بين الشرق والغرب تبديلاً كلياً تمثل في امتلاك أوروبا معرفة نسقية متنامية للشرق، عززتها الكولونيالية بعلوم جديدة (الإثنولوجيا - الفيلولوجيا - التاريخ ...)، وحيازة أوروبا أسباب القوة حتى لا نقول أسباب السيطرة، فقوة الاستشراق إنما تنهل من هذه الصلة التي شدته إلى المشروع الكولونيالي، من دون أن يعني ذلك أنه لا يمثل نصابا في المعرفة الغربية. إن القوة الثقافية التي تمتع بها الاستشراق مستفيداً من خبراته المكتسبة وتراكماته المعرفية ومن صلاته بالمؤسسة الكولونيالية انعكست على بيان وتحليل الاستشراق بما هو تجسيد لتلك القوة الثقافية، وإعادة إنتاج مستمرة لها، فتعيين الاستشراق بما هو «وجه من وجوه الإمبريالية والاستعمار معاً» أمر يحتاج إلى إخضاعه لعملية

ص: 162


1- محمد فتح الله الزيادي، المرجع سابق، ص 39.

تحليل، وليس مدعاة إلى الاستغراب، فشرق المستشرق ليس الشرق في ذاته، أي كما هو، وإنما شرق مُسْتشرَقٌ، يلبي حاجة غير معرفية: حاجة سياسية يعبر عنها الطلب الكولونيالي على الاستشراق وصلات رجال المؤسسة الكولونيالية بالمستشرقين (1) .

لقد خدم الاستشراق الأهداف السياسية الاستعمارية للدول الغربية عندما سار المستشرقون في ركاب الاستعمار، وقدموا معلومات موسعة ومفصلة عن الدول التي رغبت الدول الغربية في استعمارها والاستيلاء على ثرواتها وخيراتها. وقد اختلط الأمر في وقت من الأوقات بين المستعمر والمستشرق فقد كان كثير من الموظفين الاستعماريين على دراية بالشرق لغة وتاريخاً وسياسة واقتصاداً. وكان الموظف الاستعماري لا يحصل على الوظيفة في الإدارة الاستعمارية ما لم يكن على دراية بالمنطقة التي سيعمل بها.

ويؤكد محمد خليفة حسن أنه بالرغم من تعدد مراحل الاستعمار؛ فالمرحلة الأخيرة التي تغطي القرنين التاسع عشر والعشرين تعد من أهم هذه المراحل وأخطرها فكرياً وسياسياً على المسلمين؛ إذ لم يكتف المستعمر فيها بنهب الموارد الاقتصادية، وفرض السيطرة السياسية والفكرية، ولكنه اتجه إلى إحداث التغيير في التفكير السياسي عند المسلمين وإجبارهم على تبني النظم السياسية الغربية والتخلي عن النظم الإسلامية. وهذا دور فكري قام به الاستشراق السياسي الذي نقد النظم الإسلامية، ووصفها بالجمود والتخلف وعدم الصلاحية (2) .

فقد كان المستشرق هو المسؤول الاستعماري نفسه حين عُيِّن العديد من المستشرقين كموظفين في الدوائر الاستعمارية، وحين جذب الاستشراق عدداً من الضباط والجنود والمترجمين في هذه الدوائر الاستعمارية فوظفوا خبرتهم لخدمة الاستعمار، وجمعوا بين العمل الاستشراقي والعمل الاستعماري (3) .

ص: 163


1- للمزيد أُنظر: عبد الإله بلقزيز، نقد الثقافة الغربية في الاستشراق والمركزية الأوروبية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 2017، ص 105-106.
2- محمد خليفة حسن، آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط 1، 1997، ص 40.
3- المصدر نفسه.

وبالعودة إلى المغرب الذي عرف توافد العديد من المستشرقين في فترات مختلفة قبل وبعد استعماره، نذكر أحد أبرز الفرنشسكانيين الذي حل بطنجة سنة 1862م بعد حرب تطوان، والملقب بخوصي ماريا لورشندي كبير الرهبان آنذاك. وحيث أنه كان مستعربا فقد كانت له اتصالات بالدوائر المخزنية العليا، فرافق الطريس إلى روما سنة 1888م لمقابلة البابا وتهنئته، وشارك أيضاً في سفارة أخرى إلى إسبانيا. زد على ذلك أنه كان على اتصال بأعيان مغاربة كان يتراسل معهم، ويتسمى في المراسلات بيوسف الجندي، كما كان من المتحمسين لتنصير المغاربة ولاسيما بالصحراء الجنوبية (1) .

وقد ورد اسم لورشندي كثيراً في كتابات الإسبان أنفسهم، أبرزهم خوان لويس نافال موليرو المؤرخ الرسمي ليتشيبيُونا الذي نشر معلومات مهمة عن الباحث الفرنشسكاني، فإضافة إلى تاريخ ميلاده (24 فبراير 1836م)، ووفاته التي كانت بطنجة يوم 9 مارس 1896م، نجد إشارة إلى أن الأب لورشندي عُرفَ بكونه مستعرباً، وكاتباً دبلوماسياً، وعضو الأكاديمية الملكية الإسبانية (1874)، كما تقلد منصب عضو فخري في الجمعية الإسبانية ل Africanists (المهتمين بالأفارقة وإفريقيا والمستعمرين)، دون نسيان الجوائز المهمة التي حصل عليها من إيزابيلا الكاثوليكية، كما يحتفظ تمثال في الساحة الأمامية بمريم تشيبيونا بذاكرته (2).

ونقرأ في الدليل الفرنشيسكاني الإلكتروني أن لورشندي كان دبلوماسياً مرموقاً، وصديقا للسلطان مولاي الحسن، وكان نجم السياسة الإسبانية في المغرب، وشارك في العديد من السفارات، وقد ساهم عمله في تنفيذ وإعداد السفارة التي أرسله بشأنها السلطان لاوون الثالث عشر Leon XIII في عام 1888 بأن تحظى إسبانيا بمكانة مرموقة (3) .

وقد نشأ لورشندي وترعرع وسط عائلة شديدة التدين، كما أن اسمه كان هو

ص: 164


1- مصطفى بوشعراء، الاستيطان والحماية بالمغرب، مطبعة المعارف الجديدة، ج4، 1989، ص 1404.
2- .(Juan Luis Naval Molero، Cronista oficial de la villa de Chipiona، EL PADRE JOSÉ LERCHUNDI : www.chipionacronista.blogspot.com/201101//el-padre-jose-lerchundi.html (6 - 10 - 2016-
3- .www.franciscanos.org/enciclopedia/joselerchundi.htm-

خوسيه أنطونيو رامون، الذي تغير لاحقا بسبب مهنته إلى خوسيه ماريا دي سان أنطونيو.

ويؤكد لويس موليرو على ثلاث محطات رئيسية دينية يمكن الحديث عنها في حياة المستعرب الإسباني: فالأولى كانت في 14 يوليو 1856م؛ حيث شهد لورشندي العادة الفرنشسكانية في الكلية التبشرية بريجو Preigo، أما الثانية فسُجلت یوم 24 شتنبر 1859م عندما رُسِّم كاهناً، في حين المحطة الثالثة كانت عندما أنشد قُداسه الأول يوم 4 أكتوبر من نفس السنة (1) .

وقد أطلق عليه لقب الرسول المبشر من طرف المجمع المقدس لنشر الإيمان سنة 1861م، وفي السنة الموالية بتاريخ 19 يناير نزل إلى طنجة حيث كانت رحلته محفوفة بالمخاطر ومؤدية إلى الموت لولا اعتدال المناخ، وتدخل منظمة الصحة العالمية إضافة إلى سهر مرافقيه على حالته الصحية.

كما تم تعيينه نائب العضو المنتدب لشركة برو سنة 1863م، وفي حالة غياب محافظها يتكلف لورشندي بالأبرشية في طنجة حيث يُسرت له مهام التبشير. وبعد عدة تقارير من لجان مختلفة ومن مقربين وغرباء، وكمكافأة لخدماته الجيدة ومهاراته الاستثنائية رغب في الترشح إلى رئاسة مجلس النواب ببعثة تطوان، بالرغم من كونه لا زالا في الواحد والثلاثين من عمره (1867م)، ومع مرور الوقت سيحتل أعلى منصب في بعثة الرسول برو المحافظ سنة 1877م بعد 15 عاما من الخدمة. إلا أن عدم الاعتراف بتعيين لورشندي أدى إلى نشوب صراع خطير وغير متوقع بين حكومة مدريد والكرسي الرسولي، الشيء الذي عجل بتقاعد المستعرب الإسباني من كلية المبشرين حيث شغل منصب رئيس الجامعة بسانتياغو دي كومبوستيلا، إلا أن الصراع لم يدم طويلاً حيث بعد العديد من محادثات التسوية والدبلوماسية أُذِنَ له بالعودة إلى المنصب الذي كان فيه (2) .

ص: 165


1- .Juan Luis Naval Molero. EL PADRE JOSÉ LERCHUNDI-
2- المصدر نفسه.

وقد أدرك لورشندي منذ بداية حياته التبشيرية أن أداءه في أرض المغاربة لا يمكن أن يختزل في وزارة الرسولية البسيطة لأنه شعر بميل غريزي لدراسة اللغة العربية، كما أراد التعرف على حضارة وتاريخ المسلمين، فكرس لذلك طاقته ووقت فراغه. وغلبت الخلفية التعليمية للبعثة التي كان يرأسها بشكل واضح في تاريخها، وذلك من خلال اهتمام لورشندي بأطفال المدارس الابتدائية ومجال التعليم العالي كذلك، فبدأ بإعداد لوائح لما سيحتاجه في التدريس وكل ما من شأنه أن يوفر لهم مواد تعليمية حديثة ومناسبة وكافية، مع توسيع مجالات التدريس بإضافة اللغات الأجنبية الفرنسية والإنجليزية إلى جانب الموسيقى (1) .

وكرس لورشندي جهده في المجال التعليمي، وإن كان ذلك يقابل باعتراض شديد كما وقع في طنجة عندما حاول إنشاء مؤسسة دينية بعدما استطاع جمع الدعم من مؤسسة خيرية (1883-1886)، كما شجع فقر الموارد في المغرب لورشندي بالاهتمام بقطاع التعليم حيث قام بفتح المدرسة الثانوية سنة 1892، وأسس جمعية السيدات الكاثوليكية سنة 1895 التي كانت مسؤوليتها البحث عن موارد لصيانة المدارس، دون أن ننسى عدداً مهما من المشاريع التي لم يكتب لها النجاح، وكان مصير معظمها الفشل دون أن يؤثر ذلك في مسار لورشندي (2) . ومع كل ما قام به في الجانب الخيري استطاع أن يجني وينتزع لقب (أب الفقراء) خاصة بعدما أنشأ ثلاث مؤسسات يمكن اعتبارها الأفضل في المجال الاجتماعي والخيري؛ ويتعلق الأمر ببناء حي للمنازل الاقتصادية المنخفضة التكلفة لإيواء خمسة وثلاثين من الأسر الفقيرة سنة 1887م، وبناء المستشفى الإسباني بطنجة سنة 1888م، إضافة إلى افتتاح مطبخ لمساعدة المحتاجين سنة 1895م. ومع تزايد أعمال البعثة إضافة إلى ظروف وحاجيات جديدة طالب لورشندي سنة 1882م بإنشاء مركز للتدريب أو كلية المبشرين الفرنسيسكان ملزمة لبعثات كل من المغرب وأراضي سانتا، فكلفت الحكومة الإسبانية لورشندي بتنفيذ المشاريع بعدما تلقى الدعم والإذن لذلك (3) .

ص: 166


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- نفسه.

وإضافة إلى الأعمال التبشيرية التي كان يقوم بها في علاقته بالبعثة الكاثوليكية، فقد عرف عن لورشندي اهتمامه البالغ للأطفال المحرومين، حيث يرى الباحثون أن هذا الجانب من حياته هو الذي يستحق الإبلاغ عنه والتعريف به.

ومن بين أعماله وكتاباته، تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى مخطوطة له بها ما يقارب 400 صفحة يسلط الضوء فيها عن بعض سماته البارزة، خاصة وأن من عرفوه يصفونه بالنزاهة وقوة الشخصية، ووفي بالتزاماته ومسؤولياته، ولطيف ومتواضع، ومتقشف، ونشط بروح مبتكرة، كما أنه يهتم بالآخرين بجانب توفره على مهارات عالية خاصة في الجانب الديبلوماسي. وقد عرف عنه أيضاً كونه مغامراً وله قدرة كبيرة على التواصل مع جميع أنواع الناس، كما كان رجل صلاة محباً لدعوته الفرنشسكانية والتبشيرية.

يتضح لنا مما ورد حول لورشندي أن النشاط التنصيري تأسس بالمغرب في القرن التاسع عشر مركزاً على العديد من الأساليب أبرزها التعليم والعلاج، واستغلال الفقر والأمية.

والجدير بالذكر أن العديد من الهيآت والمنظمات ساهمت في تشييد المستشفيات والمستوصفات، كما قامت بذلك بعثة (نورث) بمدينة طنجة سنة 1886م التي شيدت مستشفى قصده العديد من المرضى من المدينة ومن الآفاق البعيدة والنواحي القريبة. وقد سار الأمر على نفس المنوال في باقي المدن كتطوان وصفرو والعرائش والدار البيضاء، في حين تكلفت بعثة (سوذرن) بمدن الصويرة والجديدة وآسفي ومراكش، حيث لم تخل مدينة ساحلية ولا قاعدة داخلية من أطباء وممرضين ومساعدين، نساء ورجالا، وقد تعاطوا أنواعا مختلفة من النشاط الصحي الممزوج بالتلقين الديني.

فقد كان التطبيب مطية للتنصير من مشرق الأرض إلى مغربها حسبما ورد في مختلف الكتب. ومن المؤلفين من زاروا المغرب مثل فرانسيس ماك نيب التي ذكرت أن النصرانيين كانوا يستغلون فقر المغاربة لتمسيحهم، فإذا لم ينصت المريض إلى

ص: 167

ما يتلونه من إنجيل، فلا دواء يعطى لهم، بحيث كانت أعمالهم مغطاة كلها بستار الطب (1).

فالعلاج الجسماني كان يبدأ بالوعظ العقائدي، وبمخاطبة الضمائر قبل فحص الأبدان، ويمكن هنا أن نستعين بالوصف الذي اعتمده مصطفى بوشعراء بأجواء العلاج والتطبيب: «أمام باب دار البعثة تقبع جماعة من الناس قبل الافتتاح، وفي الساعة الثامنة يفتح المركز، ويدخل النساء والرجال إلى الدار ليستقر كل جنس في بيت ... فيعظهم القس ويرد على اعتراضات الجمهور، الذي يظل بعضه صامتاً، ويخرج البعض الآخر غاضبا، مفضلاً مغادرة القاعة دون دواء على أن يسمع كلام كافر، وبعد نصف ساعة يبدأ العلاج، ويجري نفس الشيء من النساء في الغرفة الأخرى»(2) .

3 - الخاتمة

سلك الاستعمار بعد أن قدم إليه الاستشراق كل ما في وسعه وكل سبيل للتغلغل في جميع الميادين؛ فاتجه إلى الفرد والجماعة والأخلاق والآداب والفنون والعلوم والآثار والأديان، واستعان على تحقيق أهدافه بكل السبل، فقد اعتمد الغرب في توسعه على استخدام وسائل خبيثة وخلق عصبيات إقليمية وإيجاد عقليات انفصالية حتى وجدت بين العرب اتجاهات متعارضة ممن يزعم أن وطنه أقرب للغرب منه إلى الشرق، وآخر يزعم أن حضارة بلده آشورية أو فرعونية صافية، أو فينيقية زاخرة، ولا علاقة لها جميعا بالحضارة الإسلامية العربية من قريب أو بعيد.

لقد كان الاستشراق مصنعاً لكل هذا وذاك، وكان الاستعمار مستهلكا أمينا له، تركزت فيه قوى التآمر الدولي والهجوم العالمي على العالم العربي والإسلامي، وقد اعتمد الاستعمار على الاستشراق في دراسة واقع الدول المراد استعمارها، بجمع المعلومات المتعلقة بها، ودراسة جغرافية الأرض، وطبيعة السكان وعاداتهم

ص: 168


1- مصطفى بوشعراء، مرجع سابق، ص 1430.
2- المصدر نفسه.

وأديانهم، ومواطن قوتهم وضعفهم، فتشكل بذلك للمستعمر تصور تام عن الدول المراد احتلالها.

كما ساهم المستشرقون في صناعة عملاء للمستعمرين ببلاد المسلمين، ونشر الشبهات حول قيم الإسلام وتعاليمه، مما يشكك المسلمين في دينهم. كما كان لتهويل قوة المستعمر أثر كبير في بث الرعب في قلوب المسلمين من مواجهته، إضافة إلى تشجيع القوميات التاريخية التي بادت واندثرت، بهدف نشر العصبيات بين المسلمين، وتشتيت كلمتهم، وتفريق وحدتهم.

ويبقى في الأخير أن نؤكد على ضرورة دراسة الاستشراق دراسة واعية منهجية لإبراز ما له وما عليه، في جميع ميادين نشاطه التي عنى بها خلال مراحله المختلفة، مما يتطلب تضافر جهود الباحثين الذين يمتازون بثقافة عالية ومتنوعة لغوية، وإسلامية، واجتماعية، وفلسفية، وتاريخية، وأدبية، ونقدية.

ص: 169

ص: 170

الفصل الرابع : الاستعمار المعرفي

اشارة

ص: 171

المثقَّف المستعمَر وما بعد المستعمَر

اشارة

في رؤية فرانز فانون وعلي شريعتي وإدوارد سعيد

يوسف جيرار

يوسف جيرار (1)

المثقف بحسب التعريف المقبول والشائع، هو شخص تنطوي مهنته، بشكل أساسي، على نشاط ذهني، أو هو ذلك الذي لديه حسّ مؤكد، إزاء النشاطات الذهنية، ومع ذلك، ينبغي لهذا التعريف أن يؤخذ على محمل النسبية.

المثقفون بحسب منظور غرامشي، ينبغي أن يُقدروا، بمقتضى مجمل نسق العلاقات الاجتماعية، التي تقع داخله النشاطات الثقافية، والمجموعات التي تمثلهم. المثقفون ينبغي أن يُدرسوا بمقتضى توازن علاقات السيطرة الأساسية والقوى المنتِجة. وأحد توازنات السيطرة المحورية في المجتمع الاستعماري، وما بعد الاستعماري، كي لا أقول توازن السيطرة المحوري، وهو ذلك الذي يسمح بسيطرة المستعمِر على المستعمَر وسيطرة المستعمِر خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها، وبعد ذلك سيطرة الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى.

ص: 172


1- مؤرخ فرنسي من عائلة يسارية أسلم في سن الثامنة عشرة (18)، مختص في حركة «التحرير الوطني الجزائرية». - العنوان الأصلي : L’INTELLECTUEL COLONISÉ ET POST-COLONISÉ SELON FRANTZ FANON، ALI SHARIATI ET EDWARD SAÏD المصدر: https://www.scribd.com/document/62274017/Youssef-Girard ترجمة: صلاح عبد الله.

وبحسب أنطوني غرامشي، المثقفون هم موظفو البنى الفوقية السياسية، الثقافية والاجتماعية وهم قد يسمحون بنشاطهم، أن يؤمّن المجتمع السياسي «قانونياً» و «باخلاص» انضباط المجموعات الخاضعة، والمقصود في هذه الحالة، المستعمَرين أو المستعمَرين سابقاً. ومن هذا المنظور يساعدون على تنظيم المجتمع المدني، من خلال إنتاج «توافق» الأغلبية على أشكال الحياة، وأنماط السلوك والتفكير، وعلى ممارسات مؤسسات السلطة، التي تفرضها الفئة المسيطرة، وهي برأينا، المستعمرون بشتی أشكال الإدارة. للمثقف إذاً وظيفة سياسية - أيديولوجية - ثقافية بامتياز.

يمكن أيضاً للمثقّف، أن يكون ذا دور «مخرّب»، إذ يقرر أن يكون مثقفاً عضوياً لشريحة اجتماعية مسيطر عليها ومذ ذاك، يصبح حبة رمل داخل الهيمنة التي بنتها الكتلة التاريخية المسيطرة. والمثقّفون، من هذا المنظور، يساهمون بإنتاج كتلة تاريخية جديدة، متسبّبين بأزمة، على المستوى السياسي والأيديولوجي- الثقافي، في توازن السيطرة بين المسيطرين والمسيطَر عليهم، بين المستعمِرين والمستعمَرين. وإنتاج هذه الكتلة الجديدة، يمر عبر رفض المستعمَرين خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها وخصوصاً «المثقفون»، من بين هؤلاء، القبول السلبي لتبعيتهم.

رفض التبعية هذه، أساسي في النضال ضد الاستعمار، لأن بنيتها ترتكز كلياً، على إيديولوجيا تؤسس تراتبية، بين مختلف الفئات البشرية. فالمستعمَر خلال الفترة الاستعمارية أو بعدها، يمثل في المجتمع الاستعماري مادياً الفئة المغلوبة سياسياً، مؤسساتياً وإيديولوجيا وثقافياً. ومن هنا يمكن «للمثقف» أن يلعب دوراً أساسياً في رفض هذه السيطرة.

ومن بين مثقفي الجنوب الذين رفضوا هذه السيطرة الأيديولوجية - الثقافية فرانز فانون، علي شريعتي، وأدوار سعيد، الذين لعبوا دور الطليعة الثقافية. وقد تميز فكرهم، قبل كل شيء، برفض رؤية الثقافات غير الغربية منغلقة في وضعية الخضوع. أراد الثلاثة أن يكونوا مفكرين نقاداً ومستقلين، في مواجهة الخطاب السائد، المنتج في الغرب.

ص: 173

ولد فرانز فانون في فور دي فرانس، في المارتينيك في 1925. تجنّد في الجيش الفرنسي وجُرح في إحدى المعارك، وحاز على وسام صليب الحرب، ولما حصل على منحة من الدولة الفرنسية، استقر في فرنسا، لدراسة الطب في جامعة ليون. وقرر أن يتخصص في طب الأعصاب. وفي 1952 نشر مؤلفه الأول «بشرة بيضاء أقنعة سوداء». حيث يقارب العلاقات غير المتساوية بين الرجل الأبيض والرجل الأسود. وفي السنة التالية عُيّن في مستشفى الأمراض العصبية في بليدا، في الجزائر. هناك شاهد حقيقة السيطرة الاستعمارية، أي عالماً يسيطر عليه المستعمرون الأوروبيون. وبعد مضي أشهر على اندلاع الثورة الجزائرية، صار فرانز فانون على اتصال مع جبهة التحرير الوطنية، ثم أصبح في 1959 معتمداً للصحافة الوطنية الجزائرية. ونشر في 1959 بحثاً مجلجلاً «عام انتصار الثورة الجزائرية» L’an v de la revolution algérienne. وبعد ذلك بقليل علم أنه مصاب بسرطان الدم، ومات في كانون الأول/ ديسمبر من العام 1961، حين كان مؤلفه الرئيس، «معذبو الأرض» يخرج من مطابع دور نشر ماسبيرو. إنه مؤلف مهم أحدث، منذ صدوره، تأثيراً كبيراً على قسم كبير من المثقفين، ومناضلي بلدان العالم الثالث، وخصوصاً علي شريعتي وأدوار سعيد.

ولد علي شريعتي في 1933، في مازينان، شمال شرق إيران. وأصبح مدرساً في نهاية المرحلة الأولى من دراسته الثانوية. وفي السنة التالية، التزم في حركة المقاومة الوطنية، التي كانت تدافع عن أفكار مصدّق. وفي 1955 التحق بكلية الآداب في مشهد، ثم حصل على منحة سمحت له بالسفر إلى فرنسا في 1959، حيث أقام علاقة مع المقاومة الوطنية. واكتشف مؤلَف فانون الذي ترجمه جزئياً إلى الفارسية وفضلاً عن نشاطاته النضالية، تابع محاضرات لويس ماسينيون، جاك بيرك وجورج غير فيتش. وفي العام 1963 حاز على شهادة دكتوراه في الآداب، من جامعة السوربون، وفي 1964 عاد إلى إيران ليصبح أستاذاً في جامعة مشهد حتى 1972. ألقى محاضرات عديدة، على امتداد البلاد، ولكن السافاك، الشرطة السرية لشاه إيران، منعته من النشر ومن أية مداخلات سياسية. وبين عامي 1973 و 1975 اعتقلته الشرطة نفسها، لمدة

ص: 174

ثمانية عشر شهراً. وفي 17 أيار / مايو ترك علي شريعتي إيران قاصداً انكلترا. وبعد ذلك بشهرين في 19 حزيران/ يونيو وجد ميتاً في ساوثمبتون، دون أن تتضح حقيقة أسباب هذا الموت الغامض، مارس علي شريعتي تأثيراً كبيراً على جيل كامل من الإيرانيين وبشكل أكثر عمومية في مجمل العالم الإسلامي. ذلك أن علي شريعتي، بخلاف فرانز فانون وأدوار سعيد، كان رجلاً مؤمناً، ودرس المسائل الاجتماعية - السياسية «كمثقف ومؤمن» باستعادتنا لتعبيره الخاص. وبهذه الصفة يمكن أن يعتبر واحداً من الرواد، الذين اسماهم حسن حنفي لاحقاً «اليسار الإسلامي» أو «علم الكلام الإسلامي للتحرير».

وأخيراً، ولد ادوار سعيد في 1935 في القدس أمضى مراهقته في مصر، ثم سافر لمتابعة دراسته في الولايات المتحدة. كان أدوار سعيد أستاذاً للأدب الإنكليزي، والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، في نيويورك. في مؤلفه الأهم، الاستشراق الذي نشر في العام 1978، حلل نسق التصورات، التي من خلالها، خلق الغرب الشرق، ثم أقفل عليه. وفي المرحلة الأخيرة من حياته، ناضل أدوار سعيد ضد شيطنة الإسلام ومن أجل كرامة الشعب الفلسطيني. وكان كرجل ملتزم، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني ابتداءً من أواخر سبعينات القرن الماضي. وكان عليه أن يستقيل بسبب معارضته لاتفاقيات أوسلو ولسياسة ياسر عرفات، التي منعت دخول كتبه إلى أراضي «الحكم الذاتي» الفلسطينية. «والحكم الذاتي» بالنسبة له، ليس سوى استمرار الاحتلال بوسائل أخرى. وكان أدوار سعيد معارضاً لتقسيم فلسطين، وأعلن تأييده لإقامة دولة مزدوجة القومية. دافع عن فكرة، تؤكد على دور المثقف الملتزم. وحلّل حقائق تداخل الثقافات، وأكد أن التعارضات بين الثقافات. هي من صنع البشر. تأثر ادوار سعيد كثيراً بفرانز فانون، كما يشهد مؤلفه «الثقافة والإمبريالية». في هذا الكتاب، وصف معذبي الأرض، شخوص الكتاب، «بالرؤيويين والمجددين». وتوفي ادوار سعيد، بعد إصابته بسرطان الدم في أيلول / سبتمبر في عام 2003.

كما رأينا لتونا، هؤلاء المثقفون الثلاثة الذين سندرس مواقفهم، لعبوا دوراً

ص: 175

مهماً على نحو خاص، في مكافحة الأيديولوجيات الثقافية، التي يحملها الشعب والثقافات المغلوبة في العالم. خلال مرحلة الاستعمار، وما بعد الاستعمار. ويمكن اعتبار الثلاثة بمثابة مرجعيات للنضال الأيديولوجي الثقافي في البلدان المستعمرة.

2- المثقف المستعمَر والمثقف المغترب aliené

المسألة الأساسية التي عالجها في دراساتهم هؤلاء المؤلفون الثلاثة، هي بالتأكيد مسألة الاغتراب (alienation) التي تشمل بذاتها، مسائل أكثر خصوصية بالنسبة للإنسان في مرحلة الاستعمار، ومرحلة ما بعد الاستعمار، وهي مسألة التثاقف واستلاب الشخصية وأيضاً الوعي الزائف لمثقفي الجنوب، في علاقتهم مع الثقافة الغربية. هذه الظاهرات سمّاها ليو بولد سیدار سنغور بصيغة جميلة «اقتلاع الذات بالذات» أي «اقتلاع الذات لغة الأم وعقل الأجداد والتقاليد العريقة». وفي علاقته مع الثقافة الغربية، تبنّى المستعمر النظرة المجحفة التي يحملها الغرب عن ثقافته وشعبه أو حضارته، وأصبح بفعل هذا الخطاب المهيمن مغترباً.

يمكن تعريف الاغتراب كحالة، يكف فيها الفرد نتيجةً لشروط خارجية، اقتصادية، سياسية أو/و ثقافية عن أن يصبح سيد نفسه ويتحول إلى عبد، إلى موضوع بسيط بين أيدي رجال آخرين. وبعد تعرضه لاجتياح المستعمِر، يخضع المستعمَر لموقع اجتماعي ولشروط حياة، لا يستطيع تغييرها، دون قلب مجمل النظام الاجتماعي.

المثفقف المستعمَر الذي تعلم أن الثقافة الغربية متفوقة بالنسبة لثقافته الخاصة، هو برأي المؤلفين الثلاثة، مغترب موضوعياً. لقد عمل كل شيء، خلال سنوات ليجعل الثقافة الغربية ثقافته، وهي لا تني تلزمه التخلي، عن ثقافته الأصلية المعتبرة وضيعة ومتخلفة. ويمكن رؤية الندوب الواضحة لهذا الاغتراب، في الاحتقار الذي يكنه المستعمَر، خلال فترة الاستعمار أو ما بعدها، لثقافته وشعبه. وهو يشعر في مرات كثيرة، أنه غريب، عن أولئك الذين يعتبرهم في أغلب الأحيان، متخلفين وذوي عادات «بربرية».

ص: 176

وكمغترب، وفاقد للشخصية، عمل المثقف المستعمَر كل ما بوسعه، ليتمثل ويتشبه بالثقافة الغربية، أي الثقافة السائدة. لقد ساهم غالباً، على نحو غير واعٍ، وتحت تأثیر عالم الثقافة المسيطر، بعملية اغترابه. وبحسب فرانز فانون «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنين، الذين لا يكفون عن البحث، عن إطار عائلي جديد، إلا في اللحظة، التي يتبلور فيها، داخل أنفسهم، حد أدنى من النواة، التي تشعرهم بالأمان. المثقف المستعمَر سيحاول أن يجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة. لا يكتفي بمعرفة رابليه، أو ديدارو، شكسبير أو ادغار بو، بل سيدفع دماغه إلى أقصى تواطؤ مع هؤلاء الرجال».

ندوب الاغتراب نفسها، توجد بحسب علي شريعتي في حسهم الثقافي، الذي طوره المثقفون المستعمَرون الشباب، بأنفسهم أو على نحو، أكثر دقة، قام بالمهمة نفسها آخرون. وبدلاً من إعجابهم بكتابات الفلاسفة، المؤرخين أو مختلف الكتّاب، الذين يشاطرونهم، موضوعياً الشروط الاقتصادية نفسها، والشروط الإيديولوجية الثقافية نفسها، اتجهت أنظارهم حصراً، نحو الغرب المسيطِر الذي غرّبهم. وبغياب نظرة نقدية، للإنتاج الثقافي الغربي، وبجهل الإنتاج الثقافي لبلدان الجنوب الأخرى، فإن المثقف خلال فترة الاستعمار وبعدها، حافظ على القيود، التي تربطه بالثقافة الغربية، وطورها. «إن أحد الأشياء التي أتأسّف حيالها، يقول علي شريعتي، هو أننا لم نعرف المفكرين، الذين يتألمون من الأمراض نفسها التي لدينا في حين أن حاجاتهم، بيئتهم، تاريخهم، وظروفهم الاقتصادية، هي شبيهة بما لدينا، وهم يقترحون حلولاً لمجتمعاتهم، يمكن أن تعلمنا. إننا نعرف مفكرين، لديهم من حيث المبدأ، أفكار حتى وإن كانت صحيحة - نظرية، حتى وإن كانت لا تشكو من العمق - حلولاً حتى وإن كانت مناسبة - إلا أنها لا تجيب على مشاكلنا. وبدلاً من معرفة المفكرين الكبار، الأفارقة والآسيويين، في هذا القرن، الذين استطاعوا التوصل من خلال وعيهم الوطني، الشرقي والعالمي، إلى - حلول جديدة - إننا لم نسمع حتى بأسمائهم - ونلقي بأنفسنا دونما تبصّر لمعرفة أشخاص مثل بريخت، وإكزاناكيس، الذين لا يعنوننا، حتى وإن كانوا، مثل بريخت، تقدمیین شفافین متنورين و منورين».

ص: 177

قام أدوار سعيد، بالمعاينة الشاملة نفسها، التي قام بها، فرانز فانون وعلي شريعتي، بصدد السيطرة الأيديولوجية - الثقافية، التي يمارسها الغرب على الثقافات الأخرى. وهو يرى أن الرأسمالية هي مسؤولة مباشرة، عن السيطرة الغربية الأيديولوجية - الثقافیة، و من هنا، عن اغتراب مثقفي الجنوب» اقتصاد السوق الغربي المتجه نحو الاستهلاك أنتج (ويستمر في إنتاج وبسرعة متزايدة) طبقة متعلمة، تتجه وظيفتها الثقافية لإشباع حاجات السوق. وقد تم التركيز بوضوح على دراسات الهندسة، التجارة والاقتصاد. وجعلت النخبة الثقافية، من نفسها، المساعد لما تعتبره الميول الأساسية التي تُتّبع في الغرب. والدور الذي ألزمت به هو الحداثة، مما یعني أنها تعطي شرعية وسلطة لأفكار تتعلق بالحداثة، وتتلقى التقدم والثقافة في قسمها الأكبر من الولايات المتحدة. وقد استنتج أدوار سعيد أنه «إذا كان ثمة اذعان ثقافي لصور، ولنظريات الاستشراق، فإن ذلك يشتد قوة من خلال التبادل الاقتصادي، السياسي والثقافي، وباختصار فإن الشرق الحديث يساهم باستشراقه بنفسه».

هؤلاء المثقفون الذين يساهمون في استشراق الشرق الحديث، هم عاجزون عن إنتاج الأجوبة الأيديولوجية الثقافية، التي يحتاجها العالم العربي، الإسلامي المعاصر، ليدافع ضد الإمبريالية الغربية عموماً، والإمبريالية الأميركية خصوصاً. الأسوأ، هو أنهم يساهمون موضوعياً بتقوية هذه الإمبريالية، من خلال نشاطهم كممثلين محليين لها. وبحسب أدوار سعيد «يمكن بشكل جيد جداً» أن نعتبر تكيّف الطبقة المثقفة، مع الإمبريالية الجديدة، بمثابة انتصار للاستشراق. العالم العربي، اليوم، تابع للولايات المتحدة، من الناحية الثقافية والسياسية. يتابع ادوار سعيد مشيراً إلى إعداد الشباب المثقف في الجامعات الغربية والطابع المغرّب لهذا النمط من الإعداد. ويصبح إعداد المثقفين هذا، بحسب سعيد أداة أساسية في إعادة إنتاج توازن السيطرة الثقافية في بلاد منشأ هؤلاء الطلاب، وفي تقوية الاستشراق، في الغرب نفسه. و بحسب المثقف الفلسطيني، «الطلاب» (والأساتذة الشرقيون) يتمنون دائماً الجلوس عند أقدام المستشرقين الأميركيين، قبل أن يرددوا أمام جمهور محلي، الكلام المُعاد (الكليشيهات) الذي وصفته كأركان عقيدة الاستشراق. ومع نسق إعادة إنتاج

ص: 178

كهذا، يصبح من غير الممكن للعالم الشرقي أن يتجنب استخدام تعليمه الأمريكي، ليشعر بالتفوق على مواطنيه، ذلك لأنه يقدر على التحكّم بنسق الاستشراق. وفي علاقاته مع رؤسائه، المستشرقين الأوروبيين أو الأميركيين لا يصبح سوى «مخبر عن بلده». وهنا بالذات يكمن دوره في الغرب، إذا ما كان قد ساعده الحظ بالبقاء هناك حالما ينهي دراسته.

وأخيراً، بالنسبة لأدوار سعيد فإن التحرر من الاستعمار، ومختلف النضالات المعادية للإمبريالية التي دخلت منذ قرن، إلى العالم العربي - الإسلامي وإلى مجمل بلدان الجنوب، لم تقلب البنى الأساسية، للسيطرة الغربية. وهو يرى «أن عاملين اثنين، جعلا انتصار الاستشراق واضحاً كثيراً. وفي الحدود التي نستطيع التعميم بموجبها، فإن اتجاهات الثقافة المعاصرة، في الشرق الأوسط، تتبع نماذج أوروبية وأميركية. وعندما قال طه حسين، في 1936 أن الثقافة العربية الحديثة، هي ثقافة أوروبية، لم يفعل سوى تحديد، هوية النخبة الطبيعية المصرية، التي كان أحد أعضائها المميزين. والأمر هو نفسه اليوم، بالنسبة للنخبة العربية، على الرغم من أن التيار القوي للأفكار المعادية للإمبريالية، في العالم الثالث، دخل المنطقة، منذ خمسينات القرن الماضي، وثلم نصل الثفافة الغربية المسيطرة. هذه التبعية لثقافة الشرق الأوسط المعاصر، ناهيك بمجمل بلدان الجنوب، إزاء الغرب هي ندوب الاغتراب نفسها، التي سيكون على المثقف المتعطش للتحرر بمواجهة الثقافة السائدة، أن ينهزم في النضال الايديولوجي - الثقافي.

3- من الاغتراب إلى إعادة تملك الثقافة:

بمواجهة السيطرة الأيديولوجية - الثقافية للغرب والاغتراب الذي يوسم به المثقف المستعمَر، لن يكون لديه، أية وسيلة إذا لم يرد أن يتخلص نهائياً من اجتياح الثقافة المسيطرة، سوى العودة إلى ثقافته الخاصة، ومصادره الخاصة، وإلى ذاته العميقة. إعادة تملك هذه الثقافة، يمكن أن يعرّف كإرادة فرد، أو مجموعة أفراد، بأن يجعلوا ثقافتهم، تلك، التي يعتبرون ورثتها، والتي بمواجهتها، كانوا قد وُضعوا خارج ذواتهم

ص: 179

الحقيقية. وضعية المثقف المستعمَر خلال مرحلة الاستعمار وما بعدها، بالنسبة للثقافة التي هو وريثها، تنبع مباشرة من وضعيته كمغترب، التي وضعته فيها السيطرة الاستعمارية، أو ما بعد الاستعمارية. إعادة تملك الثقافة هذه، هي مرحلة ضرورية تسمح بالتوصل، إلى استقلال سياسي، اقتصادي، وثقافي حقيقي. وفي الحقيقة أن الاستقلال بنظر مؤلفينا الثلاثة الذي لا يكون إلا سياسياً لن يكون إلا استقلالاً شكلياً، لأن العقول ستبقى دائماً، مقيدة بسلاسل الثقافة المسيطرة، وبالبنى الاقتصادية التي تؤبد السيطرة القديمة.

وسيكون على المثقف خلال فترة الاستعمار أو ما بعدها، وهو في طريقه لاستعادة ثقافته الحقيقية. أن يواجه الغرب في تبريراته وأن يسهب في تعليقاته شارحاً عاداته، أفكاره، أعرافه، ونمط عيشه. المثقف الذي تخلص من اغترابه يضطلع بهويته، اختلافه، بخصوصيته، وأصالته. يكف عن أن يردد کلمات ايمي سيزار (Aimé Césaire) «أنا لست مختلفاً عنكم، لا تنظروا إلى بشرتي السوداء الشمس هي التي أحرقتها». كلا، ما أن يخلع إسار اغترابه، حتى يضطلع بأفريقيته، وبعروبته، وإسلامه. هو كما هو ولا يهم ماذا يفكر القابضون على النظام الاستعماري وما بعده «Font».

وليضطلع بهويته وليكسر السلاسل التي تربطه بالثقافة السائدة، سيكون على المثقف المستعمَر، أن يعود إلى جذوره الثقافية، جذور ثقافة شعبه، لغة أمه، وجمجمة أسلافه، تلك ستكون مرحلة ضرورية في مسار خلع آثار الاغتراب، الذي ينقل المثقف المستعمَر من التبعية العمياء للغرب الثقافي إلى الاستقلال الأيديويولجي - الثقافي. وبحسب فرانز فانون «ليؤمن سلامه، ويتفلت من تفوق الثقافة البيضاء، یحس المستعمر بضرورة العودة، إلى الجذور المجهولة، وأن يضيع نفسه، مهما كلف الأمر، في كنف الشعب «البربري». ولأنه يحس أنه أصبح مغترباً، أي المكان الحي للتناقضات، التي تتهدده بأن يصبح عصياً على القهر، يتفلت المستعمر من المستنقع حيث كان يكاد ينزلق، ويندفع جسماً وعقلاً فيقبل ويقرر الاضطلاع بتحمل كل التبعات. والمستعمَر يكتشف أنه مستعد التكفّل بأي شيء ولن يجعل من نفسه

ص: 180

مدافعاً فحسب، إنما يقبل أن يكون مع الآخرين، ومنذ الآن سيسمح لنفسه بالضحك من جبنه السابق.

إن تخلّص المثقف المستعمَر خلال مرحلة الاستعمار أو ما بعدها، من الاغتراب ینبغي أن يتم من خلال قطيعة واعية مع بعض الأسئلة التي يطرحها المثقفون الغربيون، الأسئلة التي ليست أولوية بالنسبة للجماهير، التي تنتمي لشعوب وثقافات مغلوبة. لم يعد ينبغي على المثقف المستعمَر، أن يرتهن ثقافياً وأيديولوجياً، للأسئلة التي يطرحها الغرب، وإنما ينبغي أن يكون قادراً على أن يطرح بطريقة مستقلة، أسئلته الخاصة، وأن يطور إشكالياته الخاصة وأن يبحث عن أجوبته الخاصة. ينبغي أن يكون قادراً على أن ينظّم تراتبية الأولويات في استبيانه الأيديولوجي - الثقافي. وإذا لم يفعل ذلك، يصبح واحداً من الأساسيين الذين ينشرون وعياً زائفاً بين الجمهور المغلوب، وبالتالي سيضيعه بدلاً من أن يقدم له أسلحة ثقافية لتحريره. «إذا كنت ألمانياً، يقول علي شريعتي، سأحب بريخت، ولكن كوني ايرانياً، فإنني لا أفهم اطلاقاً لغته، ولا أعلم ماذا يمكن لبريخت أن يفيدني. إن له هموماً أخرى، أمراض أخرى - وصف لها أدوية - غير أمراضي. إنه يشكو الصداع، في حين أنني أشكو من ألم في بطني، وصفته لا تعنيني، كيف يمكن لها أن تريحني؟ بریخت شاهد حربين عالميتين، ويوجد خلفه ثلاثة قرون من اختراع الآلات. أنا لم أر مثله الحرب العالمية. ولا أعلم أبداً ما هي اختراع الآلات، وما هي البرجوازية، وكذلك فلسفته لا تشكل أي ملجأ لي. وإذا ما كنت قلقاً، فلتوفير الحطب لأتدفأ في الشتاء، ولعملي، ولتربية ابني. هذه هي أسباب قلقي. أما قلق بريخت فهي من طبيعة أخرى إنه يتساءل عما في هذا الوجود.

يتابع علي شريعتي محذراً من أولئك الذين لم يفعلوا سوى توريد الأسئلة الثقافية الغربية إلى بلدان الجنوب في مرحلة استعمارها أو ما بعده. إنه يرى أن الاستمرار في طريق هذه التبعية العمياء للغرب، لن يوصل شعوب الجنوب المغلوبة، إلى مأزق خطير في مستقبلهم. «إن أولئك الذين بإخلاص وحسن نية - يلقحون ذاكرة مثقفينا بأسئلة وجودية، ثقافية، فكرية، فلسفية، اجتماعية وإنسانية تخص غرب ما

ص: 181

بعد الحرب، أولئك الذين يجعلون، المثقف الشرقي، شديد الحساسية - في الحقيقة مزيف الحساسية وليس ذا حساسية حقيقية - حيال الأسئلة التي تطرح في أوروبا، والنظريات الشديدة التقدمية الدارجة في أوروبا وليس في الشرق، إنما يبعدون الشعوب، والمثقفين الشرقيين عن حقيقتهم الخاصة، عن مسؤولياتهم الملموسة وفيما هم يعتقدون بإخلاص أنهم يخدمونهم وينورونهم، إنما يتحولون إلى عوامل انحطاط وخداع».

وكما يطالب علي شريعتي المثقف المستعمَر أن يعود إلى ذاته، فإن من واجبه بادئ الأمر أن يعيد قراءة الغرب، قراءة نقدية. وينبغي لهذه القراءة النقدية أن تسمح له، لا أن يتخلص منها كلياً، ولكن أن يخرج من الافتتان التغريبي الذي مارسته على الشباب المثقف خلال فترة الاستعمار وما بعدها.

بعد القراءة النقدية هذه، ينبغي للمثقف المستعمر أن يعود إلى ثقافته الأصلية، إلى ثقافة الشعب الذي انفصل عنه. وبحسب طبيب الأعصاب المارتينيكي «عليه أن يقرر إجراء جردة لأنماط العيش، المستقاة من العالم الاستعماري، ويسارع لتذكر انماط العيش الطيبة لشعبه، لهذا الشعب الذي قررنا أن يمتلك كل الحقيقة. إن الفضيحة التي يطلقها هذا المسعى، في صفوف المستعمِرين، القابعين في داخل البلدان المستعمَرة، يشحذ قرار المستعمَر. وحالما يتحقق المستعمَرون، الذين تذوقوا طعم النصر، على مجندي المحتل، فإن هؤلاء الرجال، الذين كان يُعتقد أنهم آثروا السلامة، بدأوا بالذوبان في بحر الزنوجية، وبدأ النسق بأكمله يهتز. كل مستعمر ينضم إلى هذا المسعى، كل مستعمر بدأ بامتلاك الحقيقة، لا يشكل فشلاً للمؤسسة الاستعمارية فحسب، وإنما يرمز أيضاً إلى لا جدوى وعدم عمق عملها المنجز. فكل مستعمَر يتجاوز الخط المرسوم إنما هو إدانة أساسية للنهج وللنظام، ويجد المثقف المستعمَر في الفضيحة التي يشيعها، تسويغاً وتخلياً عن ثقافة الاستعمار وتشجيعاً على مثابرته في مسعاه.

وبحسب علي شريعتي على المثقف المستعمَر، من أجل تجاوز «الحدود» أن

ص: 182

يتجه إلى مصادر جديدة للتفكير. عليه أن يقيم حواراً ثقافياً، مع الشعوب الأخرى المغلوبة، الذين لديهم مشاكل مشابهة، بل متماثلة مع مشاكله. ولذلك ينبغي بالضرورة على المثقف المستعمر أن ينفتح على مجمل الثقافة المنتجة، في بلدان الجنوب، وأن يتفلت من الثقافة المسيطرة المنتجة في الغرب. وبحسب علي شريعتي أيضاً «بدلاً من بريخت، علينا معرفة كاتب ياسين، وأن نعرف عمر مولود بدلاً من جان بول سارتر، أو عمر اوزغان، وايمي سيزار وفرانز فانون، بدلاً من البير كامي. وبمعرفتنا لهم، نعود لنعرف أنفسنا، في حين أننا إذ نتجه إلى هؤلاء المثقفين الغربيين، فإننا نبتعد عن أنفسنا، بمقدار ما نفهمهم.

وعلي شريعتي، المسلم الملتزم يرى الروحانية طريقة حيوية، لمقاومة السيطرة الثقافية، وللنضال ضد اغتراب شباب الجنوب المثقف. وهذا يمكن أن يبدو مفاجئاً في نظر الأوروبيين، حيث الشعور الديني، غالباً ما يشهّر به «التقدميون» كأحد الأشكال، الأكثر إفساداً للتغريب. التحرر من الاستعمار يستوجب قطيعة مع التصورات الغربية-المركزية بصدد العالم، حتى لو كانت صنيعة من هم في غاية التقدمية.

وعلى عكس ما يراه الغرب، الروحانية بنظر علي شريعتي هي أداة مركزية لتحرر الانسان المستعمَر خلال الفترة الاستعمارية أو ما بعدها. والإسلام، بحسب منظور المثقف الإيراني، ليس إيماناً فردياً فحسب، وإنما هو العمق الثقافي، المنهل العميق للإلهام، الذي ينبغي أن يسمح للمغلوبين، و «للمستهدفين» بحسب تعبيره، أن يقاوموا السيطرة الغربية. إنه في الحقيقة يطور لاهوت (علم كلام) سياسي حقيقي، يركز على البعد السياسي الاجتماعي، الذي يحث أو ينبغي أن يحثّ الشعور الديني. إنه يرفض النزعة البرجوازية «لتخصيص» الدين أي التي تجعل من الإيمان مسألة فردية تماماً. الإيمان ينبغي برأيه، أن يؤدي بالضرورة، إلى التزام عام للمؤمن تجاه كل المظلومين، «المستضعفين» وذلك من أجل عدالة شاملة، أي اجتماعية، سياسية، وثقافية.

يقول علي شريعتي، «ليتجنب الجيل الشاب، في إيران، الذي يتعرف على هذه الأبعاد الثلاثة في الإسلام (البعد الروحي، بعد العدالة الاجتماعية، وحرية الإنسان) -

ص: 183

وخصوصاً في المجال الاجتماعي يدرك مواقفه المعادية للاستغلال - والمعادية للمستعمر وللتقدميين - ليتجنب أن يجد نفسه، في وضعية أيديولوجية دونية، بمواجهة الماركسيين أو الحضارة الأوروبية، أو الأميركية، عليه أن يقوي ويغذي البعد الروحي لديه.

المعرفة الروحية، هي وحدها، التي ترفع القيم الوجودية للإنسان، إلى درجة، تحميه من كل شعور بالدونية بمواجهة عظمة الغرب، أنها تجعله يكتشف في ذاته، قيمة سامية، تقيه من عقدة الدونية بمواجهة أيديولوجية ماركس المادية والشيوعية.

تقوية البعد الروحي، برأيي، ذو أهمية أساسية لشبابنا. لقد سنحت لي الفرصة، للعمل مع فتيان أعمارهم تتراوح بين 15 و 16 سنة. عمر تكون فيه الحساسية، تجاه المشاكل الاجتماعية والسياسية شديدة، كانت عقولهم، قد غذيت بالإسلام كما يقدم راهناً، و هم ما أن يطلعوا على «المدخل لنقد الاقتصاد السياسي في الرأسمال»، أو على مؤلفات أخرى، اشتراكية وثورية، يكتشفون أن هذا البعد «للعدالة الاجتماعية» مشروح فيها بشكل أفضل من ما سبق واطلعوا عليه. فتكون رغبتهم في أن يقولوا: «لماذا ننتظر من قادتنا «البيان» ؟ إن إعادة طباعة بيان ماركس لا تزال مستمرة منذ مائة عام. إذاً لنكفّ عن إضاعة الوقت».

الانزياح يتم آلياً، وينبغي أن نعرض على الشباب، هذا الجوهر، الذي تفتقده الماركسية، كما الإنسان البرجوازي.. ينبغي أن نقدم لذهنه هذه المقاربة، هذه الرسالة، التي لا يمكن أن تحتويها، ولا أن تقترحها الأيديولوجية الماركسية ألا وهي الجوهر الصوفي.

4- شروط توازن السيطرة الإيديولوجية - الثقافية:

هذه الأسئلة التي عبرت تفكير المؤلفين الثلاثة، طرحها علي شريعتي بكلمات واضحة جداً. «ماذا فعل الغرب ليتوصل إلى تغريب الشرق عن موارده المادية، وجعله غير قادر على استثمارها؟ ماذا فعل لقطعه عن مناهله الروحية، وجعله غير قادر على تثمينها ؟».

ص: 184

وبعيداً عن إعطاء جواب بسيط، كي لا نقول شديد البساطة، يعزو سيطرة الغرب لارتهانه فقط لتفوقه العسكري، التقني والاقتصادي، يعتبر أدوار سعيد، الحقيقة الأيديولوجية - الثقافية مركزية، في توازن السيطرة الموجودة بين الشرق والغرب. وفي الواقع إن توازن السيطرة الأيديولوجية - الثقافية، صارت ممكنة، بسبب قبول مثقفي الجنوب لتبعيتهم، ولغياب سياسة ثقافية حقيقية لدول الجنوب، وبشكل خاص في العالم العربي - الإسلامي. وللخروج من الارتهان الإيديولوجي - الثقافي الذي، يعملون على إبقائه، والمَدين، بحسب المثقف الفلسطيني لرضا الشرقيين به، كما بسبب الضغط الاقتصادي المباشر والوحشي الذي تمارسه الولايات المتحدة. ولننظر على سبيل المثال، إلى ما يدعونا للتفكير: في حين يوجد دزينات من المؤسسات، في الولايات المتحدة، التي تدرس الشرق العربي والإسلامي، لا يوجد ولو واحدة في الشرق تدرس الولايات المتحدة.

و مع ذلك، فإن علي شريعتي طالب بدراسة الغرب وكان يعتبر هذه الدراسة، أداة ضرورية للشعب الذي يسيطر عليه الغرب لينهي تبعيته. المثقف الإيراني قال إنه «يجب أن نعرف أن أفضل مدرب عسكري لأمة تناضل من أجل انتزاع استقلالها وشخصيتها الخاصة الوطنية ليس سوى عدوّها هو نفسه الذي سلبها هذه الشخصية الوطنية. علينا، إذاً أن نعرف كيف حرمنا الغرب من مناهلنا الثقافية والروحية، كيف جعل منّا، نحن الشرقيين، جيلاً غير قادر على استثمار هذه المناجم الضخمة التي تفيض بالغنى النفسي، الفكري، الأخلاقي، والثقافي - بالمعنى الواسع - وغير مؤهلين لتطوير هذه الاحتياطات الثقافية الوافرة. علينا أن نتعرّف على الطرق التي اجتازها، والأساليب التي اتبعها والمداورات والحيل التي استخدمها ليتوصل إلى غاياته. علينا أن نفهم كيف هذا الشرق، الذي كان يشع بثقافته وعقله، والذي كان يعتبر أساس الثقافة العالمية، ومهد الحضارة الإنسانية، صار اليوم مرادفاً للتوّحش والتخلّف والانحطاط.

ادوار سعيد تحقّق بمرارة «أن الشروط الراهنة تجعل حقيقة البرامج التعليميّة

ص: 185

مضحكة تقريباً: صفوف من مئات الطلاب، مدرّسون سيئوا الإعداد مرهقين وبأجور مجحفة، عُيّنوا لأسباب سياسية، الغياب الكامل للأبحاث الأساسية وحتى لإمكانية البحث والأخطر من ذلك، عدم وجود مكتبة واحدة ملائمة في المنطقة (الشرق الأوسط). هذا يبقي على ما يمكن أن يبدو، كحقيقة اليوم، الركود الثقافي للعالم العربي - الإسلامي، بمواجهة أوروبا وأميركا الشمالية.

هكذا يساهم العالم العربي - الإسلامي بعملية خضوعه الخاصة، من جراء نقص الاستثمار في الأبحاث. يرى ادوار سعيد «أن العالم العربي والإسلامي، يبقى قوة من الصف الثاني، بإنتاجه الثقافي وفي التعلم والاستكشاف». المثقّف الفلسطيني تحقق في نهاية المطاف. «لا يمكن لأي عالم عربي أو إسلامي، أن يسمح لنفسه بتجاهل ما يحصل في الدوريات، المعاهد والجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا. والعكس ليس صحيحاً.

وحقيقة أن الشرق، وبعده مجمل بلدان الجنوب، كانت دائماً موضوعاً، للدراسات التاريخية، الاجتماعية السياسية والثقافية، يعكس جيداً علاقات الغالب بالمغلوب، التي توجد بين الكيانين. البعض هم مواضيع دراسة، والبعض الآخر يعدون خطاباً عن هذا الشيء المدروس. هذا يسمح للغرب بامتلاك خطاب مدهش في ثباته حول «الآخرين». رأى ادوار سعيد الشرق، بحسب الخطاب الذي أعدّه الغرب إنه ليس سوى المزدوج، النقيض، تجسيد المخاوف والشعور بتفوق الغرب. وأخيراً يظل الجنوب وشعوبه الشيء الأبكم لخطاب معد في الشمال.

وفي الحقيقة، السيطرة الأيديولوجية - الثقافية ملحوظة حتى في الدوائر الأكثر تقدمية، في العالم العربي - الإسلامي. حتى هنا، يصعب كسر الهيمنة الثقافية للغرب. وبالفعل فثمة بين الأكثر تقدماً في طريق التحرر السياسي والاقتصادي تابعون على المستوى الأيديولوجي الثقافي، وغير قادرين على التفلت من النماذج المبنية في أوروبا، ولا يفعلون سوى ترداد ما درسوه فيها، دون أدنى جهد للتعديل بالنسبة للعالم الثقافي الذي نشأوا فيه. وبحسب إدوار سعيد «نجد شاهداً صارخاً على (هيمنة الثقافة

ص: 186

الغربية) في العلوم الاجتماعية. وما هو مدهش، لدى المثقفين التقدميين، الذين أخذوا الماركسية بالجملة من ماركس. وإذ بأفكارهم تجعل من العالم الثالث كلاً منسجماً».

السيطرة الأيديولوجية - الثقافية، التي تتعرض لها بلدان الجنوب، تترافق مع أشكال أخرى من السيطرة. فالتحرر من السيطرة الإيديولوجية - الثقافية، ينبغي أن تسمح، للشعوب المضطهدة أن تتحرر، في الوقت نفسه من السيطرة السياسية، العسكرية والاقتصادية، «يؤكد علي شريعتي أن ثمة تشابهاً كبيراً بين القدر الاقتصادي والقدر الروحي في الشرق. إن أمة لا تستطيع على المستوى التقني، إنتاج حاجاتها المادية الخاصة، تظل في وضعية المحتاج، حتى وإن امتلكتها. وكذلك فإن أمة لا تستطيع معرفة واستغلال مصادرها الثقافية والروحية، وتظهر غير قادرة على غربلتها لتحويلها إلى طاقة إيجابية، ستبقى جاهلة وفي المؤخرة، حتى وإن امتلكت فيضاً من المصادر. هذا التشابه، يوجد على مستوى دور الموارد الثقافية أو المادية، في تطور المجتمع، إن مجتمعاً لا يستطيع استثمار موارده، بوسائله الخاصة، يستدعي من هم قادرون على ذلك، ويتحقق سريعاً، أن رزقه يأتي من الغريب. والأمر مشابه على المستوى الثقافي، لأن أوروبا المتنورة، التي تعرف أفضل مما نعرف، الآخرين، الشرقيين، الشرق، تفسر مصادرنا الثقافية والروحية، تبني المدارس، والأفكار الجديدة. ونحن عاجزون عن إنتاج معرفة حقيقية من ثقافتنا، ونجد أنفسنا مرتهنين للفُتات التي ترميها أمام المثقف الشرقي. وفضلاً عن ذلك هو لا يدرك أن هذه الفُتات تحتوي على مواده الأولية الخاصة. ولا يفهم أنه إذا عومل اليوم، كمتخلف ومعدم، برّي وجاهل، فذلك لأنه برهن أن ليس لديه الخصائص المطلوبة، لاستثمار واستخدام موارده الثقافية الخاصة.

وفي الخلاصة، على الشرق أن يعمل، ليس فقط ليعرف موارده من المواد الأولية وتقنية استثمارها وتحويلها إلى طاقة ومادة للاستهلاك. ولكن أيضاً حتى يستثمر، ويغربل موارده الثقافية. وهو بذلك سيستطيع التحرر من البؤس والتخلف، وسيستطيع

ص: 187

التوصل إلى السعادة الروحية، والإبداع والتقدم الثقافي والعقلي. وكذلك فإنه سيعمل لعدم الارتهان، لمنتوجات الاستهلاك والصناعة الأوروبية: الارتهان الاقتصادي، وعلى الشرق أيضاً أن يعمل لعدم الارتهان للإنتاج الروحي الغربي ومواضيعه الأيديولوجية الاستهلاكية. ليس من الممكن أن تتمكن أمة أن تصبح مستقلة اقتصادياً ما لم تحقق استقلالها الروحي. هذان التحرران متكاملان ومترابطان. وبكلام آخر، علىَّ أن اكتسب شخصية مستقلة عن الغرب، على المستوى العقلي والنفسي لأصبح مستقلاً ذاتياً، على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية والمادية، والعكس بالعكس.

وليكون المثقف المستعمَر حقاً مستقلاً، عن الغرب، ويقطع مع الخطاب المبني في أمكنة إنتاج المعرفة، في الشمال، سيكون عليه كما طالب فرانز فانون وعلي شريعتي إعادة قراءة تاريخ شعبه، محيطه، وحضارته. هذه العودة إلى التاريخ يرافقها أغلب الأحيان، بحث عن الأصالة الثقافية، القريبة من ظاهرة العودة إلى الخصوصية التي سبق الحديث عنها.

5- تاريخ وأصالة:

العودة من خلال التاريخ، إلى أصالة شعب معين تتم بدراسة المصادر الثقافية السابقة على الاستعمار. العودة إلى التاريخ، ينبغي أن ينظر إليها على الدوام من منظور التخلّص من تغريب المثقف المستعمَر. وبحسب فرانز فانون «هذا البحث الهائم بالثقافة الوطنية، ما قبل الزمن الاستعماري، يستمد شرعيته من قلق المثقفين المستعمَرين، من التراجع بالنسبة للثقافة الغربية التي يوشكون أن يتورطوا فيها. ولأنهم تحققوا أنهم في طريقهم للضياع، وبالتالي قد يضيعون بالنسبة لشعبهم، هؤلاء الرجال يستشيطون غضباً، ويستبسلون لإعادة الصلة مع حيوية شعبهم في الماضي البعيد وما قبل الاستعمار».

من هذا المنظور، للعودة إلى مصادر ما قبل المرحلة الاستعمارية، ينبغي فهم استعادة شخصيات تاريخية، مثل الأمير عبد القادر. الوطنيون أنفسهم يذكرون باعتزاز

ص: 188

في جرائدهم، الشخصيات الكبيرة، في الحضارة العربية - الإسلامية. ويمكن التحقق من الأمر نفسه، بصدد أفريقيا جنوب الصحراء، حيث يمجدون شخصيات الحاج عمر تال والساموري وعثمانا دان فوديو أو بهانزان أو أمبراطوريات أفريقيا الغربية. وإحدى العلامات المهمة، لهذه العودة إلى المصادر التاريخية، ما قبل المرحلة الاستعمارية، هي أنه بعد استرجاع بعض المناطق المستعمرة استقلالها، اتخذت تسميات تلك الامبراطوريات القديمة. وبتحريض من كوامي نيكروما، أطلق اسم غانا على شاطئ الذهب (Gold Coast ) بغية الارتباط بإمبراطورية إفريقيا الغربية، وأطلق اسم مالي، على السودان الفرنسي، للتذكير بإمبراطورية القرون الوسطى القديمة. وبذلك برهنوا عن إرادة في القطع مع ماضي استعماري، عبودي، والعودة إلى مصادر تاريخ الحرية.

علي شريعتي وضع نفسه بوضوح في هذا المنظور، إذ دعا للعودة إلى المصادر التاريخية، وهو أيضاً يعتبر هذه العودة، مرحلة في نزع أثار تغريب المثقف المستعمر الذي عدا عن عودته، عليه في الوقت نفسه، أن يرتبط ويعيد اتصاله بشعب كان قد ابتعد عنه. «ولمعالجة هذا الضعف، يقول المفكر الإيراني أننا لسنا بحاجة للذهاب والبحث في مكان آخر «أفضل منا». إن ماضينا، وبما يزخر بقوى حيّة - ينقل لنا تعليماً لا يقدّر بثمن. إن كبار علماء الإسلام وفلاسفته وقضاته، على الرغم من نجاحاتهم العلمية، كانوا يعيشون بين الشعب، مرتبطين مع الجماهير ويعيشون بساطة فلاحي الريف، ومع طبقات المدينة الأكثر حرماناً، واضطهاداً، من الناحية الاقتصادية والثقافية والمعنوية، وتوصلوا إلى إقامة علاقات حقيقية معهم. في حين أن اليوم، ما أن ينال تلميذ شهادة الثانوية، حتى يتميّز عن الشعب، الذي يعتبره غريباً رغماً عنه».

العودة إلى المصادر التاريخية، للشعب المستعمَر، هي ضرورية، لا سيما أن أحد الأهداف الأساسية للمستعمِر، هو قطع الشعوب التي يسيطرون عليها عن ماضيها، وعن ثقافتها وعن كل ما يشكِّل خصوصيتها. ولسياسة الدمج والاحتواء للقوى الإمبريالية وظيفتان: أولاً نزع ثقافة الشعوب المستعمَرة بغية خلق فراغ إيديولوجي -

ص: 189

ثقافي لديها، وثانياً، تثقيف هذه الشعوب بالثقافة الغربية، بعد أن يتحقَّق هذا الفراغ الإيديولوجي - الثقافي. منطق الدمج هذا «يرتكز على نفي كامل لثقافة وهوية الآخر».

وفي الحقيقة، إن إحدى المهام الإيديولوجية-الثقافية التي تُوْكَلُ لأنصار الثقافة المسيطرة هي تحويل ثقافة الشعوب، خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها. «عندما نفكِّر، كتب فرانز فانون، بالجهود التي بُذلت لتحقيق الاغتراب الثقافي المميِّز للفترة الاستعمارية، نعلم أنّ لا شيء حصل بالصدفة، وأن النتيجة الشاملة للسيطرة الاستعمارية، هي إقناع الشعوب المستعمرة، يدفعهم إلى الظلام. والنتيجة التي يتَّبعها الاستعمار بوعي، هي أن يزرع في عقول السكان الأصليين، أن رحيل المستعمِر يعني بالنسبة لهم العودة إلى البربرية والإذلال والحيوانية. الاستعمار لا يعمل إذاً، ليراه المواطن الأصلي كأم، عطوف ورؤوف، تحمي طفلها من محيط معادي، وإنما كأمٍ تمنع ابنها المنحرف من النجاح في انتحاره، وأن تطلق جيداً غرائزه السيئة، الأم المستعمِرة تحمي الطفل من نفسه، من أناه، من شکله، من حياته ومن بؤسه الوجودي.

في هذه الحالة، لا يكون الرفاه مطلب المثقِّف المستعمَر وإنما برنامج متماسك. المثقِّف المتسعمر الذي يحدّد المعركة على مستوى الشرعية، والذي يريد أن يأتي ببراهين، الذي يقبل بأن يظهر عارياً ليكشف تاريخ جسده محكوم عليه بأن يغرق بأحضان شعبه.

هذا الغرق ليس وطنياً تخصيصاً، المثقّف المستعمَر الذي قرر أن يحارب كذب المستعمِر، يحاربه على مستوى القارة، الماضي يثمّن. الثقافة التي تنتزع من الماضي لتنشر بكل ألقها ليست ثقافة البلد. الاستعمار الذي لم يميّز في جهوده لا يكف عن التأكيد أن الزنجي متوحّش، ولم يكن بالنسبة له، لا الأنغولي ولا النيجيري، إنه يتكلم عن الزنجي. وهذه القارة الواسعة، بالنسبة للمستعمِر، هي موطن التوحّش، بلداً موبوءاً بالخرافات وبالتعصب، منذور للاحتقار، مثقلٌ بغضب الله، بلد أكلة لحوم البشر، بلد الزنوج، إدانة المستعمِر هي إدانة على مستوى القارة. إن تأكيد

ص: 190

الاستعمار أن الظلام البشري ميّز فترة ما قبل الاستعمار تطاول مجمل القارة الأفريقية. وإن جهود المستعمَر لردّ اعتباره ويتخلّص من اللدغة الاستعمارية تندرج منطقياً في منظور الاستعمار نفسه، فالمثقف الذي ابتعد كثيراً عن الثقافة الغربية والذي وضع نصب عينيه المطالبة بوجود ثقافة، لن يفعل ذلك أبداً باسم أنغولا أو الداهومي وإنما الثقافة التي يؤكّد عليها إنما هي الثقافة الأفريقية، الزنجي الذي لم يكن أبداً على هذه الزنوجة، منذ أن سيطر عليه الرجل الأبيض، إلّا عندما قرّر أن يبرهن أنه يملك ثقافة، أنه ينتج ثقافة، تُدرك أن التاريخ يفرض عليه وجهة محدّدة، وأن التاريخ يعيّن له طريقاً محدّدة وأن عليه أن يُظهر ثقافة زنجية.

إن العودة البسيطة إلى المصادر التاريخية لشعبه، لثقافته، لحضارته، لا تكفي المثقّف المستعمَر ليقطع نهائياً مع الاغتراب الثقافي. وفضلاً عن ذلك، هذه العودة البسيطة إلى المصادر التاريخية، توشك أن تسجنه في ماضٍ يرى فيه مثلاً أعلى. وهو آنذاك، لا يفعل سوى أن يردّد، دونما كلل التاريخ الماضي، الأفكار الميتة وبطريقة وراثية.

وبحسب فرانز فانون، فإن على المثقف المستعمَر، أن يمر بثلاث مراحل ثقافية، حتى يخرج نهائياً من الاغتراب الاستعماري وليدخل بعمق، في النضال من أجل تحریر شعبه، «يبرهن المثقّف المستعمر، في المرحلة الأولى، أنه استوعب تمثّل ثقافة المحتل. أعماله الثقافية، تشبه من كل النواحي، أعمال نظرائه في المراكز الاستعمارية. الاستلهام أوروبي، ويمكن بسهولة أن تربط هذه الأعمال، بتيار استعماري محدّد جيداً. هذه مرحلة التمثّل الكامل. نجد في أدب المستعمر برناسيين ورمزيين وسيرياليين.

في مرحلة ثانية، يهتز المستعمَر ، ويقرّر أن يتذكّر. فترة الإبداع هذه، توافق تقريباً فترة الغرق التي وصفناها لتوّنا. ولكن بما أن المستعمر، لم ينضمّ إلى شعبه، ولأنه يقيم معه علاقات من الخارج، فإنه يكتفي بأن يتذكّر. يستحضر مراحل قديمة من طفولته، فيفسّر سهراتها الأسطورية، بمقتضى جمالية مستعارة، وبتصوّرٍ لعالم، مكتشف تحت سماوات مختلفة، فيغلب أحياناً، على أدب ما قبل المعركة الدعابة

ص: 191

والمجاز. تلك هي مرحلة الكآبة والضيق، تجربة الموت والغثيان. يكون تقيء إلى تحت، فينطلق الضحك.

وأخيراً فى المرحلة الثالثة، مرحلة المعركة، وبعد أن حاول المستعمر أن يضيّع نفسه بين الشعب، أن يضيّع نفسه مع الشعب، فإن على العكس، سيهزّ الشعب. وبدلاً من أن يغطي الأفضلية لسبات الشعب يتحوّل إلى موقظ للشعب، من خلال أدب المعركة، الأدب الثوري، والأدب الوطني. وخلال هذه الفترة، فإن عدداً كبيراً من الرجال والنساء، الذين لم يفكروا من قبل، بتأليف عمل أدبي، يجدون أنفسهم في ظروف استثنائية، في السجن، مع الثوَّار أو على موعد مع محاكمتهم، فيشعرون بضرورة أن يكونوا لسان حال أمّتهم، أن يصيغوا المرحلة، التي تعبّر عن الشعب، أن يكونوا الناطقين بحقيقة جديدة قيد التحقق.

ولكي يكون «موقظاً لشعبه»، و «محرّضاً لشعبه»، لا يكتفي المثقّف المستعمر أن يؤلف عملاً أدبياً، أن يكتب قصائد أو مقالات نظرية فلسفية - سياسية، ولكن سيكون عليه، أن ينخرط في النضال، من أجل التحرّر الملموس لشعبه، أي في النضال ضد الإمبريالية والاستعمار. وكما كتب فانون «إن المثقّف المستعمَر، سيدرك عاجلاً أم آجلاً، أنه لن يستردّ وطنه عبر الثقافة وإنما من خلال المعركة، التي يخوضها الشعب ضد قوى المحتل» وفي الوقت نفسه، الذي يلتزم فيه بتحرير شعبه، يصنع المثقّف الأسلحة، التي تفيده بنزع إسار الاغتراب وبتحريره الخاص.

6- التزام وتحرّر

إن التزام المثقّف المستعمَر، بالنضال من أجل التحرير، هو بالنسبة لفرانز فانون واجب ينبغي أن يترافق مع عمله الثقافي. هذا الالتزام يصبح، بالنسبة له، حقيقة مرتبطة بواقعه كمستعمَر، بل بكونه مخلوقاً بشرياً. وكان الالتزام، في لحظة تاريخية، تأثّرت بعمق بوجودية سارتر، يُدرَكُ كرافعة للظروف الإنسانية. كان يُنظر إلى الالتزام، حتى إذا كان رفضاً للتعهّد، كمزية للإنسان، منذ اللحظة التي «يُلقى به إلى هذا العالم».

ص: 192

المثقّف المستعمَر، عليه أن يعمل دونما تمييز، سواء استخدم أسلحة سياسية وأسلحة محض فكرية، أو ثقافية. إن نمطي العمل يصدران عن واجب المثقّف في فترة الاستعمار، أو ما بعدها، في نضاله ضد الإمبريالية، خلال فترة الاستعمار أو ما بعدها. وعلى نحو أكثر عمومية، من أجل تحرّره كإنسان مطلوب. وبحسب طبيب الأمراض العصبية المارتينيكي، «الإنسان المستعمر، الذي يكتب لشعبه، إذ يستخدم الماضي، عليه أن يفعل ذلك بنية فتح المستقبل، والدعوة إلى الفعل، وبتأسيس الأمل. ولكن لتأكيد الأمل، ولإعطائه زخماً، ينبغي المساهمة في الفعل، الالتزام جسماً وروحاً في المعركة الوطنية. يمكن أن نتكلم عن كل شيء، ولكن عندما نقرِّر أن نتكلم عن هذا الشيء الوحيد، في حياة الإنسان الذي يمثّل حقيقة فتح الأفق، ونقل الضوء إليه، وأن يقف بنفسه هو وشعبه حينذاك تنبغي المشاركة وبقوة.

«إن مسؤولية الرجل المثقّف المستعمَر، ليست مسؤولية تجاه الثقافة الوطنية وحدها وإنما مسؤولية شاملة، على مستوى الأمة بأكملها، وثقافتها ليست، إجمالاً، سوی مظهر واحد. لا ينبغي لرجل الثقافة المستعمر، أن ينشغل باختيار مستوى معركته، والقطاع حيث يقرر خوض المعركة الوطنية. فالنضال من أجل الثقافة الوطنية، هو قبل كل شيء نضال من أجل تحرير الأمة، والقالب المادي الذي من خلاله تصبح الثقافة ممكنة. ليس ثمة معركة ثقافية، تنمو إلى جانب الثورة الشعبية».

على شريعتي يشاطر فرانز فانون، النظرة نفسها، حول ضرورة أن يلتزم المثقّف، فترة الاستعمار وما بعدها بالعمل السياسي، بشكل عام وفي النضال ضد الإمبريالية والاستعمار، بشكل خاص. وقد ذهب المثقّف الإيراني، في اجتهاده الثقافي، إلى حدٍ وضع فيه الفعل، أمام الإيمان في ترتيب أولويّاته. وبذلك يمكن أن يُعتبر، أحد مؤسسي «لاهوت الفعل الإسلامي». وقد اعتمد في ذلك، على الآية القرآنية 110 للصورة الثالثة، آل عمران: «كنتم خير أمّة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» وبحسب شريعتي فإن الأمر في مفردات النص القرآني، يظهر أولية الفعل على الإيمان، لأن الإيمان بالله، لم يأتِ إلا في اللحظة الثالثة، بعد

ص: 193

أمرين بالفعل في النص القرآني. وبهذا التفسير الدينامي للقرآن أراد علي شريعتي وضع الفعل في مركز حياة المؤمن. فعلى المسلم، أن يفعل ويبدع، ألّا يكتفي بالإيمان السلبي. فالإنسان بالنسبة له هو في ما يفعل، وليس في ما هو عليه، أو ما يدّعي ما

هو عليه. والوجود لم يكن أبداً مُعطى، وإنما هو جهد خلق مستمر. وهو يرى أن على المؤمن، أن يمتنع عن اعتبار الوضع القائم للمجتمع، الموسوم بالظلم والجور، وضعاً نهائياً. وهذا يحول نهائياً دون سلبية المؤمن.

وبذلك يواجه على شريعتي بجزم، كل القراءات الصوفية الإسلامية، المنكفئة عن الفعل، التي تريد ألّا يكون للدين أي تأثير اجتماعي وسياسي. فالبرجوازيات الليبرالية تقبل الإيمان الديني، شرط ألّا يكون محرّكاً للفعل الاجتماعي، وخصوصاً الأداة الأساسية للاحتجاج على هيمنتها. ذلك هو السبب الذي بمقتضاه، تواجه غالباً، بعنف الطبقات الحاكمة في الجنوب - «البرجوازيات الكومبرادورية» بحسب تعبير لينين، هذا النمط من الشعور الديني. إن القراءة الصوفية السلبية للدين، تسمح لها أن تلعب على مشاعر منغرسة عميقاً، في حياة الطبقات الشعبية، وأن تعطّل كل احتجاج. وهكذا يُستخدم الدين «كأفيون للشعب»، في حين أنه، في معناه العميق، يمكن أن يصبح المصدر، الذي ينهل منه الذين يناضلون من أجل تحرير حقيقي للإنسان.

إلى جانب هذه الأفكار حول الدور الاجتماعي، السياسي وربما التحريري للروحانية، فإن الالتزام السياسي، يرتبط بشدة بالتركيبة الشاملة للمثقّف، خلال فترة الاستعمار وما بعدها، بحسب علي شريعتي، لأنها تسمح له أن يتّصل ويظلّ على اتصال مع حقائق العالم الاجتماعية التي يعيش داخلها. وأحد المخاطر الذي يترصّد المثقّف هو أن ينغلق داخل معرفة نظرية يستقيها من الكتب، تقطعه عن محيطه الاجتماعي، السياسي والثقافي. والمثقف خلال فترة الاستعمار وما بعدها، عليه ألّا ينسى أبداً أن الأفكار، رغم دورها المحرك، لا تصنع التاريخ وإنما النضالات السياسية والاجتماعية المحسوسة، تلك التي تضع نسق الاستغلال، والسيطرة الشاملة، موضع اتهام. المعركة السياسية، في المعنى الواسع، تسمح للإنسان، كما يؤكد على

ص: 194

شريعتي، أن يحقّق استعداداته الاجتماعية، الأكثر سمواً، وتكوّن للمثقّف مشروعاً يبني ويثقّف. فالنضال الاجتماعي، هو عامل أساسي، في وعيه لذاته كمثقّف.

إن مثقفاً جالساً وراء مكتبه، مُحاطاً بكومة من الكتب، أو مشغولاً بنقاشات نظرية مع الأصدقاء والزملاء، لا يمكن أن يُعتبر ثورياً شعبياً، وهو يبحث عن الحلول بين فرضیات ونصوص الإيديولوجيين. ولكن تجربة العمل السياسي، وحدها، تسمح له، بتصحيح أفكاره، وبشفائه من مرض الكلمات، وتعرّفه على حدوده الخاصة. ذلك أنّه لا يمكن قياس جدارته، ذكائه، سرعته في العمل، جرأته، حسن التضحية لديه وحتى إخلاصه ونزاهته من دون تجربة المعركة.

المعركة السياسية هي حقل عمل، يسمح للمثقف أن يدرك على نحو محسوس، المفاهيم التي تعلّمها، في الكتب، وتسمح له، من جهة أخرى، أن يواجه، ويتّصل بالحقائق، التي لا نجدها إطلاقاً، في الجو الهادئ والمطمئن، للتبادل الثقافي. فضلاً عن ذلك، فإن المثقّف يألف الشعب ومطالبه، وحاجاته ومثله العليا، وقوته وضعفه، بفضل المعركة السياسية. كما أن المعركة تسمح له أيضاً، من التحقّق من إمكانيات العمل، ومن عدم القطع مع الجماهير - وهو مرض غالباً ما يصيب المثقّف - وتدفعه ليتقدّم أمام الشعب دون فقدان التواصل معه. كما أنه يتعلّم، أثناء المعركة السياسية، الممارسة الإيديولوجية، فيضبط وعيه ويتحقّق من الظروف الراهنة. المعركة السياسية تعلّم المثقّف ما يفتقده بشكل عام، أي لغة الشعب، الأداة الضرورية، لتحقيق رسالته في جماعته، إن فقدان هذه اللغة، هو المسؤول عن عقم مثقّفينا، فهو يجعلهم غرباء عن الشعب، ويرفع حائطاً غير مرئي، ولا يمكن تجاوزه بين الأقلية الثقافية الواعية، والجماهير الشعبية. هذه القطيعة بين الشعب والمثقفين هي التي سمحت، للسياسيين بتنويم الشعب، ودفعه إلى الجهل، والخرافة والانحطاط، وهي أيضاً جعلت من المثقفين مجموعة منغلقة داخل حواجز التنظير، غرباء داخل مجتمعهم الخاص، وبالتالي عقيمين، معزولين ودونما تأثير، وعزلتهم هذه تتيح للقوى العظمى وللإمبريالية التلاعب بهم وإنهاكهم».

ص: 195

والالتزام السياسي للمثقف المستعمر، حتى وإن كان ضرورياً، إلا أنه يمكن أن يولّد بعض المخاطر. فهو، ما أن يرتبط مع شعبه بالتزامه، حتى يوشك أن يتصرّف بانتهازية، تابعاً الشعب بعيوبه. فيفقد إذاً حسّه النقدي، واستقلاله الفكري، مما يجعله، بدلاً من تعزيز قضيته، يمكن على العكس، أن يؤذيها. وبحسب فرانز فانون، «من أجل تمثّل ثقافة الظالم، ومجابهته على المستعمر، أن يتقن صيغ تفكير البرجوازية الاستعمارية. وهذا نتحقّق منه، من خلال عدم كفاءة المثقف المستعمر في الحوار، لأنه لا يعرف ان يكون عميقاً، بمواجهة الموضوع والفكرة. وعلى العكس، عندما يناضل وسط الشعب، فإنه لا يكفّ عن التعبير، عن إعجابه به، ويظهر ضعيفاً حيال صدقه واستقامته. والخطر الدائم الذي يترصده أن يلجأ إلى الشعبوية، فيتملّق الشعب، جاعلاً كل جملة من كلامه، حكمة مأثورة، والحال أنّ الفلاح والعاطل عن العمل والجائع لا يدّعون الحقيقة، لأنها تسكن وجدانهم نفسه.

يقدّم فرانز فانون النضال السياسي وخصوصاً، الذي يأخذ شكل العصيان والتمرد، كضرورة، ليقطع المثقّف بعمق، وبشكل مستمر، مع الخضوع لهيمنة الغرب الإيديولوجية - الثقافية. ومن هنا يميّز فرانز فانون بوضوح المناطق التي عرفت نضالاً طويلاً وكثيفاً، من أجل التحرّر الوطني، عن المناطق التي تبدو وكأن القوى الإمبريالية «منحتها استقلالها».

في الحالة الأولى، يبدو التحرّر من الاستعمار، أعمق وأكثر استدامة، إذ سنحت الفرصة للمثقّف، أن يقطع فعلاً مع الثقافة السائدة، من خلال نضاله السياسي، «وبحسب فانون، فإن المناطق المستعمرة حيث خُيض النضال، من أجل التحرير، و سال دم الشعب، وحيث فترة المقاومة المسلحة، سمحت للمثقفين العودة إلى القواعد الشعبية، نشهد استئصالاً حقيقياً للبنية الفوقية، المستمدّة من المثقّفين، في البيئات البرجوازية الاستعمارية. ومن خلال مناجاتها النرجسية، كانت البرجوازية الاستعمارية، قد غرست، عبر جامعييها، في عقل المستعمَر، أن الجوهر يظلّ أبدياً، على الرغم من كل الأخطاء، التي تُعزى للبشر. الجوهر الغربي متفقٌ عليه.

ص: 196

وكان المستعمر، يقبل شرعية هذه الفكرة، ونستطيع أن نكتشف، في ثنية من دماغه حارساً ساهراً، متكفّلاً بالدفاع عن القاعدة اليونانية - اللاتينية. وعليه، فإنه يجد، أثناء النضال من أجل التحرّر، في اللحظة التي يتّصل فيها المثقّف المستعمر بشعبه، أن هذا الحارس قد سُحق. إن كل القيم المتوسطية، التي انتصرت للإنسان، لوضوح الجميل، أصبحت تُحفاً بدون حياة، بدون لون. كل تلك الخطابات بدت كتجميع لكلمات ميتة. تلك القيم التي كانت تبدو سامية بالروح ظهرت دونما فائدة، لأنها لا تعني شيئاً، بالنسبة للمعركة الحقيقية، التي يخوضها الشعب».

وفي الحالة الثانية، يجد المثقفون المستعمرون صعوبة، في القطع مع الثقافة السائدة، ويكون لديهم ميلاً للاستفادة من موقعهم في استدامة البنى التراتبية الموروثة من الاستعمار، سواء على المستوى السياسي، الاقتصادي أو الثقافي. وبحسب فانون «يتفق أن التحرّر من الاستعمار حصل في المناطق التي لم يهزها النضال بقوة، حيث نجد المثقفين أنفسهم المحتالين الذين يناورون ویداورون، نجدهم على ما كانوا عليه في سلوكياتهم، وعلاقاتهم التي يقلّدون بها البرجوازية الاستعمارية، هؤلاء الذين كانوا أولاد المستعمر المدللون، هم اليوم مدللو السلطة الوطنية، ينظّمون نهب الموارد الوطنية وبدون شفقة يتسلقّون من خلال تجاوزاتهم للحقوق والقوانين. ويطالبون بإلحاح، بتأميم العمليات التجارية، أي حصر الأسواق والفرص الجيدة بأبناء الأمة وحدهم. وهم بذلك، يطالبون فعلياً، بضرورةٍ ملحّة لتأميم سرقة الأمة. وفي مرحلة القحط الوطنية هذه، خلال طور التقشّف، يتسبَّب نهبهم سريعاً، بغضب وعنف شعبي. هذا الشعب البائس والمستقل، يتوصّل في سياق الظروف الأفريقية والعالمية الراهنة، إلى وعي اجتماعي بوتيرة متسارعة. وإذا بالفردانيين الصغار لا يتأخرون عن فهم ذلك».

وبحسب فرانز فانون، الثورة الجزائرية هي خير مثال على هذا النمط، من النضال، الذي كان عليه أن يسمح بتحرّر المثقّف المستعمر. وعلى الرغم من حماس فانون، لا يسعنا إلا أن نتحقّق بما آلت إليه الأمور بعد خمسين سنة على هذا الكلام. وعلى

ص: 197

أي حال، ينبغي ألا نتطرّف بنقدنا، ونتحقق مع فانون، أنه كان لهذه الثورة، تأثير إيجابي جداً، على عدد من المثقفين، حتى خارج الجزائر «كان في ذلك برأي فانون، إحدى الخدمات الكبيرة إذ سمحت الثورة الجزائرية للمثقّفين الجزائريين، بوضعهم على صلة مع الشعب وبرؤية الحد الأقصى للظلم والبؤس، وفي الوقت نفسه، بإيقاظ عقولهم وتقدّم وعيهم». وعلى الرغم من هذا التقييم، كان فرانز فانون، يعلم مخاطر عودة الاستعمار، بأشكال مختلفة، ما أن يتحقّق الاستقلال الوطني، لأنه لا يمكن أن تحل جوهرياً مشكلة التغرّب الاستعماري، بالاستقلال السياسي وحده، ولكن يقتضي أيضاً، نضالاً طويلاً ومستمراً من جانب أولئك الذين هم أكثر وعياً لتوازن علاقات السيطرة السياسية، الاقتصادية والثقافية.

7- تحرر، سيطرة ثقافية وتحرر من التغرب

كما رأينا، فإن الالتزام السياسي للمثقّف المستعمَر ينظر إليه علي شريعتي وفرانز فانون، كضرورة ينبغي أن تسمح له، أن يعيد صلته بشعبه، وثقافته وحضارته وبالتالي أن يتحرّر من الاغتراب. إلا أنّ المثقّف المستعمَر، خلال فترة الاستعمار، وما بعدها. يمكن أن يلعب، دوراً غامضاً، إذا لم يقطع كلياً مع البنى الثقافية، التي لقّنه إياها الاستعمار.

غموض المثقّف المستعمَر هذا، خلال فترة الاستعمار، وما بعدها، يُلاحظ برأي فانون من خلال الدور الذي يلعبه بين المستعمِر والشعوب المستعمرة. إنه يوشك أن يجامل في دوره «كمحاور شرعي» للمستعمرين، الذين يستطيع محاورتهم لأنه يستخدم اللغة نفسها، التي يستخدمونها. وبحسب طبيب الأمراض العصبية المارتينيكي «هذه الظاهرة، [ظاهرة رفض السيطرة الثقافية] هي عادةً، مقنّعة، لأن بعض المثقفين المستعمرين، أقاموا خلال فترة الاستعمار حواراً مع برجوازية البلد المستعمِر التي كانت تنظر إلى السكان الأصليين، خلال فترة التحرير، كجمهور غير متمايز. وبعض شخصيات البلد المستعمَر التي كان للمستعمرين الفرصة للتعرّف إليهم هنا وهناك، لم يكن باستطاعتهم أن يدركوا الفروقات بين فئات الشعب. وفي

ص: 198

المقابل، فإن البرجوازية المستعمِرة تحاول برغبة محمومة خلال فترة التحرر، إقامة علاقات مع «النخبة» التي تمّ معها حواراً خاطئاً حول القيم والبرجوازية الاستعمارية. وإذ تسجل عدم قدرتها على إبقاء سيطرتها على البلدان المستعمرة، تقرر أن تخوض معركة خلفية، في ميدان الثقافة، القيم، والتقنيات إلخ. والحال ينبغي ألا ننسى أبداً أن غالبية الشعوب المستعمرة لا يمكن أن تخترق في هذه الميادين».

في هذه المعركة الخلفية، يصبح مناصرو السيطرة الأيديولوجية- الثقافية مدعومين من قبل المثقفين المستعمَرين، العطشى إلى إعتراف أسيادهم بهم. لقد حلموا أن يكونوا «المحاور الشرعي»، «المحاور الصالح» وإذا بالمستعمرين يقدّمون لهم هذه الفرصة. سيطلب منهم مناصرو النظام الاستعماري احتواء غضب شعبهم، والحفاظ على رضا المستعمِر ، الذي يؤمّن لهم كل الإمتيازات. هنا، يكمن بالتأكيد، أحد الأدوار الأكثر شؤماً، الذي يمكن أن يلعبه المثقَّف المستعمَر. وبحسب فانون «إن المثقَّف الذي تبع المستعمِر على مستوى النظرة العالمية المجردّة، سيقاتل ليستطيع رجل الاستعمار والمستعمَر، العيش بسلام في عالم جديد، ولكن ما لا يراه - لأن الاستعمار تسلَّل إليه، بكل طرق تفكيره - أنّ رجل الاستعمار ما أن يختفي الإطار الاستعماري، لا يعود له مصلحة في التعايش مع المستعمَر السابق».

وظيفة «المحاورين الشرعيين» واضحة: عليهم تجنّب الاشتباك الذي يسمح بالتحرّر من الاستعمار على المستوى السياسي، الاقتصادي والثقافي. «البرجوازية الاستعمارية تدخِل هذه الفكرة، فكرة وضع استعماري: اللاعنف. هذا اللاعنف بشكله الخام، يعني للنخبة الثقافية والاقتصادية المستعمرة، أن مصالح البرجوازية الاستعمارية هي مصالحها أيضاً ويصبح من الضروري والعاجل، التوصل إلى اتفاق سلام مشترك».

«المحاور الشرعي» احتفظ في أعماق نفسه، بطرق التصرّف والتفكير نفسها، التي كان عليها، قبل دخوله في النضال السياسي. ردود فعله، مازالت مشروطة كلياً بموقعه الاجتماعي السابق، وبحسب فرانز فانون «يتصرّف المثقَّف، موضوعياً، في هذه الفترة،

ص: 199

كانتهازي فظ. مناوراته لا تتوقَّف. لا يوجد أبداً، مسألة للشعب إلّا وتُّوضع جانباً أو تؤجّل . وما يطلبه الشعب، هو جعل كل شيء مشترك. اندماج المثقف المستعمر، في المد الجماهيري، سيظهر مؤجلاً، بسبب فضول لديه لعبادة التفصيل. ليس لأن الشعب عصيُّ علی التحليل. إنه يحب أن يستمع إلى الشرح وأن يفهم مفاصل المحاججة، يحب أن يرى إلى أين يذهب. ولكن المثقَّف المستعمَر يعطي، في بداية تعايشه مع الشعب، الأفضلية للتفصيل ويصل إلى نسيان هزيمة الاستعمار، موضوع النضال، وبسبب غضبه من حركة النضال المتعدّدة الأشكال، يميل إلى التركيز على قضايا محليّة يتابعها بنشاط، ولكن على نحو، استعراضي مفرط، على الدوام تقريباً. كل الوقت لا يرى كل شيء؛ يدخل فكرة البرامج، الاختصاص والميادين، في آلة فظيعة لخلط وتكسير، ماله علاقة بالثورة الشعبية؛ يتفق أن يفقد رؤية وحدة الحركة، وفي حالة الفشل المحلي، يستسلم للشك وحتى لليأس، في حين أن الشعب، منذ البداية، تبنّى مواقف شاملة، الأرض والخبز: ما العمل للحصول على الأرض والخبز؟ موقف الشعب هذا - المحدود ظاهرياً - المتعثّر والمضيّق عليه، هو في النهاية، الصيغة الإجرائية الأكثر «غنى» و «فعالية».

المثقَّف المستعمَر المغترب، الذي لم يتطوّر، على الرغم من التزامه السياسي، يميل للدفاع، قبل كل شيء، من مصلحته الفردية ضد مصلحة جميع المستعمرين، إنه يفضّل الوصول إلى حقّه بطريقة فرديّة على حساب الجماهير، أولئك الذين يتعرّضون للظلم. ويجعل من نفسه، المدافع الموضوعي، عن أولئك الذين يدّعون حل المشكلة الاستعمارية «بصعود اجتماعي» فردي، وليس بالنضال الجماعي ضد نسق مجحِف على المستوى الإنساني. من البديهي أن «الصعود الاجتماعي» للمثقّف المستعمَر، يمرّ من خلال التخلي عن المستعمرين الآخرين وعن قيمهم، «الصعود الاجتماعي»، هذا يستوجب التمثّل الكامل، للمثقّف المستعمَر للعالم الاستعماري. وبحسب «فرانز فانون» يوظّف المثقّف المستعمَر عدوانيته في إرداته، التي يصعب إخفاؤها، في التشبّه بالعالم الاستعماري. لقد وضع عدوانيته، في خدمة مصالحه الخاصة، ومنافعه كفرد. هكذا يولد بسهولة نوع من طبقه العبيد المحرّرين فردياً،

ص: 200

العبيد المعتقين. وما يطالب به المثقّف هو مضاعفة المعتقين، إمكانية تنظيم طبقة معتقين أصيلة، والجماهير في المقابل، لا يهمها تزايد حظوظ الأفراد في النجاح. إن ما تطلبه ليس تشريع الرجل المستعمِر، وإنما مكان الرجل المستعمِر.

«المثقف المستعمَر سيتستخدم، حتى جمهور المضطهدين، لتقييم حقوقه ومصالحه الفردية حيال مناصري النظام الاستعماري. لهذا، خشي فرانز فانون أن يرى هؤلاء المثقفين في قيادة النضال ضد الاستعمار والإمبريالية، خشي أن يحرفوا النضال عن أهدافه الحقيقية، أي قلب بنى السيطرة الاستعمارية على المستوى السياسي، كما المستوى الاقتصادي أو الثقافي. وبحسب طبيب الأمراض العصبية المارتينيكي «نخب البلدان المستعمرة، هؤلاء العبيد المعتقين، إذ يكونوا على رأس حركة النضال ينتهون، على نحو لا مفرّ منه، بإنتاج بديل عن المعركة. إنهم يستخدمون استعباد أخوانهم، لإحراج المستعبدين أو للإتيان بمحتوى إيديولوجي، ذي مجلس عسكري إنسانوي، من المجموعات المالية المنافسة لمضطهديهم. إنهم في الحقيقة، لا يستدعون أبداً العبيد، ولا يجيّشونهم بشكل محسوس على الإطلاق. وعلى العكس تماماً، ففي لحظة الحقيقة، أي لحظة الكذب بالنسبة لهم، يشهرون التهديد بتجييش الجماهير، كسلاح حاسم، يتسبب كما بسحر ساحر «بنهاية النظام الاستعماري».

المثقّف المستعمَر، يستطيع من جرّاء اتصاله مع الشعب، أن يقطع مع التعليم الإيديولوجي - الثقافي الذي كان تلقّنه. وهكذا يخرج من الاغتراب، يخرج من الفردانية الأنانية التي لقَّنته إيّاها الثقافة الغربية. هذا الخروج من الاغتراب يصير ضرورياً له ليناضل ضد الإغراء بجعله مميّزاً عن المستعمرين الآخرين، ويصبح «المحاور الشرعي» للسلطات الاستعمارية.

وخلال العمل، ينسج علاقة تضامن مع مجموع أخوته وأخواته في النضال، تمنعه من التخلّي عن الجماعة المقاومة، وهذا يتناقض مباشرة مع الإيديولوجية السائدة، التي ينشرها عملاء الأجهزة الإيديولوجية لدولة الاحتلال. هؤلاء ورثة تقليد ليبرالي، صنعه عصر «الأنوار»، يؤكدون أن الطريق الحقيقي «التقدّم» المستعمرين، ينبغي

ص: 201

أن يتم على مستوى الترقي الفردي وحده، وليس في إطار تحرر جماعي. هؤلاء العملاء الإيديولوجيين، هؤلاء المثقفين العضويين، للنظام الاستعماري، يعتبرون أن المطالبة المضادة هي «بحريات حقيقية». ومن البديهي، أن شروط الترقيات الفردية للمستعمرين، ينبغي، بالنسبة للسلطة الاستعمارية أن تُقاس بدرجة تمثُّل الثقافة الغربية. وليكون المثقّف المستعمر معترفاً به كمساوٍ للمستعمِر عليه أن يكون تماماً واحداً من الذين أسماهم جیل دلوز Gilles Deleuze عنصر «الإمّعيّة» «mémeté».

وفي الحقيقة، يؤكد فرانز فانون، «إن المثقّف «المستعمَر» كان قد تعلّم من أسياده أن على الفرد أن يؤكد ذاته. وكانت البرجوازية الاستعمارية، قد أدخلت بقوة، في عقل المستعمر فكرة مجتمع أفراد حيث كل واحد ينغلق في ذاتيته حيث غنى الفكر. وعليه، فالمستعمر الذي كان له الحظ، أن يلتجئ إلى الشعب، أثناء نضال التحرير سيكتشف زيف هذه النظرية. فأشكال تنظيم النضال، سيعرض عليه مفردات غير معتادة. الأخ، الأخت، الرفيق هي كلمات تنهى عنها البرجوازية الاستعمارية، لأن أخي تعني لهم محفظتي، ورفيقي تعني لهم شريكي في الحيلة. والمثقّف المستعمر يشهد نوعاً من الحكم المبرم، وتحطيم كل أصنامه: الأنانية، الإتهام المتعجرف، الغباء الطفولي الذي يريد على الدوام، أن تكون له الكلمة الأخيرة. هذا المثقف المستعمر، الذي ذرّرته الثقافة الاستعمارية، سيكتشف أيضاً ثبات مجالس القرى، كثافة مجالس الشعب، الخصوبة الخارقة، لاجتماعات الحارة والخلية. إن قضية كل شخص لا تكفّ عن أن تكون قضية الجميع، لأن الجميع إذ يكتشفهم جنود المحتل يُقتلون، أو أنهم ينجون جميعاً. الحل الفردي للمأزق، في هذا السياق، هو شكل سلام ملحد ومحظور.

المثقف المغترب عليه ألّا يفنى ببساطة، في الجماهير وينسى فرديته الخاصّة. ينبغي أن يؤكّد فردية خلّاقة، تكون مسكونة بمجمل الشعب في نضاله من أجل التحرّر. فرانس فانون يمكن أن يتبنّى قول فيخته: «الرجل الذي ينعزل، ينكفئ عن قدره. إنه لا يكترث بالتقدم الأخلاقي، فبحسب الأخلاق، ألّا تفكر إلّا بنفسك، لا

ص: 202

يعني أنك تفكّر بنفسك، لأن الغاية المطلقة للفرد، ليست في ذاته، إنها في الإنسانية بأجمعها».

لا يستطيع المثقّف إذاً، أن يكون مجرّد انتهازي، يتبع الشعب دونما تبصّر. عليه أيضاً أن يبحث، أن ينتقد، أن يوجد طريقاً جديداً لشعبه، لثقافته ولحضارتها. هذا الطريق الخاص، لا يمكن أن يكون التكرار الأعمى لتجارب الغرب كما لا يمكن أن يكون إرثاً، من ماضي أسلافنا القدامى، ومن تقاليدهم المتّخذة كمثل أعلى.

8- «المثقفون التائهون» بحسب علي شريعتي

بين تكرار ماضٍ متّخذٍ كمثل أعلى، والخضوع التغريبي والنهائي للثقافة الغربية السائدة، في بلدان العالم الثالث، وبلدان العالم العربي - الإسلامي بشكل خاص. ينبغي الاختيار. هكذا بحسب علي شريعتي تشكَّل قطبان متمايزان: قطب نخبة ثقافية مغرّبة كلياً وقطب تقليديين يريدون إعادة إحياء التقاليد الماضية فحسب، كي لا نقول التي تمّ تجاوزها. «نحن بصدد تحديد خيار، بحسب علي شريعتي، أي تفضيل أحد القطبين: أحدهما هو القطب الذي ورثناه من الماضي والذي يفرض نفسه على معظم الناس، والثاني الذي أخذناه من الغرب بصيغ محاكاة على كل المستويات».

عندما أقول: هذا القطب الموروث من التقاليد، أعني مجمل الآراء، القواعد، التصرفات، التي نسميها الدين، الذي نمارسه، والذي تؤمن به الجماهير، أعني أيضاً تصوّراً خاصاً للعالم، فلسفة للحياة، لغة وأدب مخصوص، مجموعة من العلاقات الاجتماعية المميّزة والصيغ الإنسانية.

أمّا بالنسبة للقطب الآخر، فإنه يشكّل هو أيضاً تصوّراً جديداً للعالم، مذهباً فلسفياً جديداً، فى العيش والكينونة والتصرّف. هذا المذهب، وإن كان يُعرض، من خلال مدارس مختلفة ومتعارضة، إلّا أنه يواجه القطب المقابل، ككيان مستقل.

مهما يكن من أمر، فإن مثقّفنا يجد نفسه، اليوم، بين هذين القطبين: القطب التقليدي الموروث من ماضينا والقطب المُحاكى، المنسوخ، المنسوخ إبّان هذا

ص: 203

القرن الأخير عن الحضارة الأوروبية. ولكلٍ من هذين القطبين، في المجتمع الشرقي، في المجتمعات الإسلامية وفي مجتمعنا الخاص، قالبه الثابت، قيمه المعترف بها، مبادؤه المحدّدة، الواضحة، حرّاسه الرسميين المختارين. ونتحقّق، اليوم، أن أكثرية شعبنا تتجمع حول العلم الحارس للتقاليد - المسمّى الدين - أو الأمة، الأخلاق، الروحانية، علاقات وآراء مختلفة - في حين أنّ المثقّفين - وأعني بهذه الكلمة كل شخص متعلِّم - جميعاً أرتضوا بهذا الطلاء الثقافوي المستورد من أوروبا.

واقع الحال إذاً واضح: جماهيرنا ترث غذاءً جاهزاً ومطبوخاً جيداً، يسمّى الدين أو التقاليد. ليس لهم أن يتألموا ليختاروا، ليقرروا، لأن خيارهم قد تمّ، وما عليهم سوى تسجيله. وكذلك فإن مثقّفينا ليس لهم أن يرتبكوا، حيال استهلاكهم المعلّب جيداً، الذي يصلهم مباشرة من الغرب، وليس عليهم، سوى فتحه واستهلاكه. كذلك، فإن مذاهب مختلفة، حتى متعارضة، تستورد اليوم، بعلب محضَّرة جيداً، مطابقة للمعايير المعتمدة، وما على المتعلِّمين سوى استخدامها. وبكلام آخر، فهؤلاء دون أن يشكو من أدنى ألم، ودون أن يغتاظوا، ودون أن يجهدوا أنفسهم، في البحث والمقارنة، يصيرون أتباع هذا المذهب أو ذاك.

علي شريعتي يرفض، أن يتبع الغرب دونما تبصّر ولكنه لا يقبل أبداً قراءة «للتقاليد منغلقة داخل التقاليد» وإذ نستعيد كلام الفيلسوف المغربي محمد عبد الجابري، فإن المثقّف الإيراني، أراد أن يقوم بإعادة قراءة شاملة، للتقاليد الموروثة، بغية البحث عن الطريق نحو تقدّم غير مستورد، أي تقدّم أصيل، متجذّر في ثقافة، هوية ومدنية شعوب الجنوب. ينبغي إعادة القراءة هذه أن تكون قراءة منفتحة على الثقافات، أي أنها تحاول فهم التراث العربي الإسلامي كنسق أفكار، وقيم يملك وعيه الخاص، وهذا يخالف القراءة المغرَّبة والمغرِّبة للتراث الثقافي التي قام بها بعض المفكرين المغرّبين من الجنوب، الذين ينظرون من الخارج، إلى تراثهم الثقافي الخاص، كونهم تأثَّروا بشدة في ذلك بالمستشرقين الأفريقيين ذوي الثقافة الغربية. هذه النظرة من الخارج إلى التراث، تمنع أية قراءة دينامية وتقدمية لهذه الترِكَة المحاصرة.

ص: 204

طريق هذا التقدم غير المستورد، وغير المنغلق على الثقافات ينبغي، بحسب شريعتي أن يخضع لتفكّر وتبصّر ونقاش مثقفي بلدان الجنوب. بين هذين القطبين، ثمة مثقّفون تائهون «لا يستطيعون أن يستسلموا للأطر الموروثة - بادعائهم كمثقّفين ولا استهلاك المعلبات الإيديولوجية، الآتية من الغرب، خلال نهاية هذا القرن. وهم بالفعل، يريدون «أن يتفكّروا و «يبنوا» و «يختاروا» بأنفسهم، لأن التجربة الراهنة، برهنت أن مجرّد الاستهلاك، لا يستطيع مداواة أمراضنا، حتى وإن توصّل، ليكون مهدئاً موقتاً، «لانعدام الشخصيات» و «خفاء الأسماء» و«سوء معرفة بعض المثقفين»، إلا أنه لا يمكن أن يشكل دواء، علاجاً لمرض الشعب».

خيار المثقّف الإيراني، ليس مجرّد خيار فردي للتفكير، أو/و نمط عيش. هذا الخيار هو خيار شعوب بأكملها، وحضارات بأكملها، في علاقاتها في ما بينها، بتواريخها، بثقافاتها، وفي الوقت نفسه، خيار في علاقاتها بالعالم عموماً وبالغرب خصوصاً. هذا الخيار المقارب هكذا، يمكن أن يبدو مخيفاً، متجاوزاً لمثقفين معزولين ومذرذرين ولكن يظهر أنه لا يمكن تجنّبه بالنسبة لقسم كبير من البشرية، وبحسب علي شريعتي، «هؤلاء المثقّفون الذين يريدون إسماع صوتهم الخاص، الذين يحاولون معرفة مجتمعهم، والذين اختاروا وأعلنوا بحماسة طريقاً عقْدياً يستجيب للحاجات والشروط الخاصة لتاريخهم ومجتمعهم، يجدون أنفسهم على مفترق حاسم للمصير البشري: كما قال سارتر، اللحظة الأساسية، الأكثر حراجةً، والأكثر وعورةً، والأكثر إقلاقاً بالنسبة للإنسان هي اللحظة التي ينبغي أن «يختار» فيها، لأن الذي يختار، يريد نمطاً مرجعياً، ليس له فحسب، وإنما للشعب أيضاً، وخلال هذه اللحظة الحاسمة، فإن المسؤولية التي تتوجّب على الفرد ليست ذات طبيعة فردية، إنها تتعلّق بمرحلة كاملة، وهي من طبيعة اجتماعية». الاختيار هو اللحظة الأكثر أساسية، لأن ما أن يكون الاختيار، يكون الفعل نفسه مسؤولية، إزاء هذا الاختيار، إزاء هذه الأفعال المنجزة، أو القيم المتبنّاة. من هذا المنظور، يكون الاختيار مركزياً، في التجربة الإنسانية؛ لا مناص من الاختيار، وحتى أنّ رفضْ الاختيار هو اختيار. إن حرية الاختيار تقتضي التزاماً ومسؤولية، ولأن الإنسان حرّ في اختيار طريقه الخاص، عليه قبول المجازفة

ص: 205

والمسؤولية، الملازمتين لالتزامه، وذلك مهما سيكون عليه المآل. هذا الاختيار الأساسي، هو اليوم، اختيار المثقّفين المستعمَرين خلال فترة الاستعمار، وما بعدها، بمواجهة البدائل التي تقدّم لهم. هل سيكونون حبيسي تقليد الماضي، أو أن يتغربوا كلياً؟ أو أنهم سيتزودون، بوسائل تحرّرهم الخاصة، التي ستسمح لهم، أن يحرثوا أرضاً جديدة للامفكّر فيه، الإيديولوجي الثقافي.

9- الخلاصة

اليوم بمواجهة التحدّيات الإيديولوجية - الثقافية، تحدياتنا الخاصة، تصير العودة، إلى أفكار أولئك، الذين سبقونا، في رفض الخضوع لأنصار الإيديولوجيا السائدة ضرورية، وتزداد إلحاحاً باستمرار، ولنكن دقيقين في الاستنتاج، فإن فرانز فانون، علي شريعتي وأدوار سعيد، الذين درسنا مواقفهم ليسوا الوحيدين الذين عكفوا، على دراسة هذه الإشكاليات. ثمة مؤلفون آخرون، يستحقون أن يُدرسوا بعمق. من إيمي سیزار (Aimé Césaire) إلى أنور عبد الملك، مروراً بحسن حنفي، مالكولم إكس أو محمد عبد الجابري، الذين نجد لديهم نبعاً لا ينضب من الأفكار والأسئلة وحتى الأجوبة نفسها.

هذه الأفكار، ينبغي أن تسمح لنا أن نتفكَّر بموقفنا السياسي، الاجتماعي والثقافي. وهذا لا يعني، أن «أسلافنا الكبار» قد سلّمونا كل المفاتيح، التي تتيح، حل مشاكلنا الخاصة. إن إعادة تملّك فكرهم، ينبغي أن يسمح لنا، بإعادة طرح الأسئلة، التي غالباً ما تُطرح علينا، بصيغٍ نختارها. ذلك سيسمح لنا، الانتقال من موقع الموضوع، المدروس والمحكى عنه والمناقَش، إلى موقع الذات الدراسة المتكلّمة والمناقِشة. سنستطيع الانتقال من موقع الفاعل الملاحِظ والشريك. من هنا، علينا أن نصير، صانعي تاريخنا، وليس تحديداً موضوع تاريخ نخضع له. وبكلام آخر، بفعل الإرادة الثقافية هذا، نريد تجاوز الموقع الاتكالي، الذي حَبَسَنا فيه المستفيدون من توازن علاقة السيطرة الراهن. هذه العِدّة الإيديولوجية - الثقافية، ينبغي أن تسمح لنا أن ندخل بعمق، مسلحين ثقافياً إلى «معمعة التناقضات

ص: 206

الحقيقية» (ماركس) للعالم السياسي، الاجتماعي والثقافي، الذي يحيط بنا، كي لا نقول الذي يحتوينا.

هؤلاء المؤلفون وأفكارهم يمكن أن تعطينا، الأدوات الإيديولوجية - الثقافية الضرورية، لننجح حقيقةً «بقطيعة معرفية، مع الخطابات السائدة. هذه الأدوات الإيديولوجية - الثقافية ينبغي أن تسمح لنا، بإرساء إطارنا الخاص، لمرجعيتنا الثقافية، لأنه كما أشار وبحق أنطونيو غرامشي «إن جمهوراً بشرياً لا يتميّز ولا يصبح مستقلاً «بذاته»، إنْ لم ينظم نفسه (بالمعنى الواسع). وليس ثمة من تنظيم، دون مثقّفين، أي دون منظمين ودون قادة، ودون أن يتميّز بشكل محسوس، الطابع النظري، للمجموعة - النظرية - العملية، في طبقة من الأشخاص «المتخصصين»، في الإعداد الثقافي والفلسفي».

هذه الأفكار بخاصة، ينبغي أن تسمح لنا بإعادة صياغة الأسئلة التي تبدو لنا، اليوم، ملائمة، والتي كان «كبار أسلافنا» - قد طرحوها في زمنهم - أيّ علاقة نقيم مع تراث عمره قرون؟ أليس في ذلك مجازفة، بأن ننغلق في تقاليد جامدة، بذريعة إرادة الأصالة؟ في هذه الحالة، كيف يكون لنا قراءة، أو إعادة قراءة دينامية، لهذا التراث؟ وفي الوقت عينه، أي علاقة نقيم مع الثقافة الغربية السائدة؟ هل نحن موضوعياً، موضوع تغريب إيديولوجي للغرب؟ إذاً، هل نحن قادرون؟ أن نكون على مسافة من التصوّرات، التي تخضعنا نحن بالذات؟ أو على الأقل عن الثقافة، الدين والحضارة التي منها تحدّرنا أو/و إذن نطالب بها؟ وانطلاقاً من هنا، كيف لنا، في عصرنا، وفي شروطنا الاجتماعية، أن نخلق فكراً جديداً لا يكون تكراراً موروثاً من ماضٍ ننظر إليه، كمثل أعلى، أو مجرّد محاكاةٍ عمياء و«مقزّزة» (فانون) لعقيدة إيديولوجية - ثقافية مسيطرة ؟

ص: 207

NOTES

[1] En référence au philosophe italien Antonio Gramsci (1891 - 1937) Cf. Gramsci، Texte، ed. Sociales، 1983-

[2] Ali Shariati، Histoire et destinée، Ed. Sindbad، 1982، page 34-

[3] Fanon Frantz، Les damnés de la terre، Ed. Gallimard،1991، page 264-

[4] Ali Shariati، Histoire et destinée، op. cit.، page 107-

[5] Saïd Edward، L’orientalisme، L’Orient créé par l’Occident، le Seuil، 1987، page 350-

[6] Ibid.، page 347-

[7] Ibid.، page 349-

[8] Ibid.، page 348-

[9] Fanon Frantz، Les damnés de la terre، op. cit.، page 263- 264-

[10] Shariati Ali، Histoire et destinée، op.cit.، page 107-

[11] Ibid.، page 108-

[12] Fanon Frantz، Les damnés de la terre، op.cit.، page 267-

[13] Shariati Ali، Histoire et destinée، op.cit.، page 108-

[14] Ibid.، page 91- 92-

L’expression ne doit pas être comprise comme une insulte à l’égard des musulmans traditionalistes mais comme la volonté d’Ali Shariati de lutter contre une interprétation quiétiste de l’Islam. Pour lui la foi devait être un moteur de- .[15] .l’action social et politique et non une simple voie pour un salut individuel

[16] Ibid.، page 108-

ص: 208

الإمبريالية الأكاديمية

اشارة

مقترحات معرفية لإنهائها

ج. ك. راجو

ج. ك. راجو (1)

تبدأ الإمبريالية الأكاديمية بالتعليم الغربي، الذي واجه تحدياً خطيراً في العلوم الصعبة. فقد غير الاستعمار نظام التعليم ونظر إليه باعتباره وسيلة رئيسية لاحتواء التمرد واستقرار الحكم المحلي التابع للغرب. لقد كان التغيير ممكناً (على سبيل المثال من قبل ماكولاي في الهند) فكان قسماً كبيراً من النخبة المستعمرة قد تشبَّع بالفعل بالمعتقدات العنصرية في القرن الثامن عشر، ولاسيما لناحية القول بأن الغرب وحده هو من ابتكر العلوم. وكانت تلك المعتقدات العنصرية، بدورها، تستند إلى التاريخ السيء للعلم والفلسفة اللذين عمل على تشويههما التعصب الديني الذي طغى على أوروبا منذ الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر ، وحتى القرن السابع عشر. لذلك، ولكي نضع حداً لاستشراء الإمبريالية الأكاديمية فمن الضروري اتخاذ الخطوات التالية:

(ا) تفكيك وفضح أكاذيب التاريخ الغربي من العلم.

ص: 209


1- باحث ومفكر وأكاديمي في مركز الدراسات الحضارية، نيودلهي - الهند. - ترجمة: ياسر السيد.

(ب) تغيير الفلسفة المصاحبة للعلم.

(ج) استخدام منهج تربوي جديد منظم من أجل البناء، ولا سيما في مجال العلوم الصعبة، وذلك بإثبات قيمتها العملية، من أجل تفكيك النظم التعليمية الاستعمارية.

(د) تفكيك هيكل السلطة الغربية على مستوى التعليم العالي والبحوث.

نشیر في هذا الصدد إلى أن البنود المتعلقة بالإجراءات الفورية تتصل بالبندين (ج) و(د). يجري هذا من خلال القيام بتجربة جديدة تربوية لاختبار حساب التفاضل والتكامل («دوره لمده 5 أيام في حساب التفاضل والتكامل دون حدود») على أساس تاريخ جديد لفلسفة الرياضيات. كل ذلك من أجل تبسيط الفهم في كلاً من التفاضل والتكامل ليتم تدريسهما بيُسر عبر توفير حافز للطلاب بأجهزة تساعد على ذلك. وبالتالي أن يبدأ العمل الجماعي من خلال مقرر جديد، ومجلة إلكترونية للتاريخ غير الغربي بالإضافة إلى فلسفة العلوم، التي لن تسمح بالاعتماد على المصادر الغربية الثانوية، بحيث يتعين على المؤلفين أن يفترضوا أن جميع هذه المواد مشكوك فيها وغير جديرة بالثقة.

مقدمات الإمبريالية الأكاديمية

النقطة الرئيسية حول الإمبريالية الأكاديمية لا تتوقف على مجرد الحديث عنها، ولكن بالسعي إلى فهم الأسباب الرئيسية التي أدت إليها. لذلك لابد من وضع ملخص بياني في هذا الصدد. لقد تم تعزيز التعليم على أساس أنه سيساعد على «اللحاق بالغرب» في مجال العلم والتكنولوجيا، وعليه يمكن الحصول على التكافؤ مع الغرب في القوة الصلبة، وفي هذا الاعتقاد ما يجعل من غير الغربيين يقلدون الغرب. من ناحية أخرى، فإن الإبتكار العلمي لا يُتعامل معه اليوم على أنه يتسم بالمصداقیة إلا من خلال ما يقره الغرب. على سبيل المثال عندما يتم النشر في مجلة غربية فإننا نصفِ البحث بأنه مرموق، ومثل هذه الممارسة تعني أن غير الغرب لا يستطيع الابتكار أو اللحاق بالعلوم الغربية. فالغرب هو دائماً الأول من خلال الابتكارات الرئيسية،

ص: 210

لذا نجد أن هناك فئة كبيرة من الجمهور تعتقد (أن المطلب الأساسي في العلم، هو ما يُحصَّل من خلال التعليم الغربي، ونتيجة لذلك كان أفضل اختيار للخبرة الحقيقة العلمية هو ما تقدمه التجربة الغربية.. الأمر الذي يؤدي إلى ضمان استمرار الدونية من جانب الشعوب التي لا تنتمي إلى العالم الغربي. وهذا أدى بدوره إلى نشوء فجوة تكنولوجية دائمة، بين الغرب وسواه، وبالتالي فلابد لغير الغربيين أن يواصلوا السير وراء الغرب، وإلا فلن يستطيعوا اللحاق بالركب الحضاري.

على سبيل المثال، تم تشجيع التعليم الغربي في الهند منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، ومع ذلك لم تستطيع الهند تحقيق أي تكافؤ تكنولوجي مع الغرب، فقد أعلنت عن برنامجها الفضائي منذ أكثر من 40 سنة وقد أرسلت للقمر بعثة بدون طيار، في الوقت الذي أرسلت فيه الولايات الأميركية مركبتها الفضائية أبوللو 11 من أكثر من 40 سنه مضت لتهبط على سطح القمر. وفي الوقت عينه أيضا نجحت الصين، في الحصول على المركز الدولي في تكنولوجيا القذائف) في حين لم تشكل تكنولوجيا الصواريخ الباردة المستخدمة في الهند أي تهديد عسكري للغرب. وهو ما جعل الغرب سعيداً بوجود مليار شخص يتبعونه في هذا التقدم التكنولوجي الآمن.

وعلى عكس الإمبريالية العادية، في العراق أو أفغانستان، نقول أن الذي يقاوم ويستنزف الإمبريالية، هي ذاتها الإمبريالية الأكاديمية. فالناس العاديون يسعون إلى الحصول على التعليم الغربي وذلك للفوائد الاقتصادية التي قد تنجم عن ذلك على المستوى الفردي. يحصل ذلك مثلاً عن طريق التقرب من الحكام، وهم بذلك يتمثَّلون الأنماط والقيم التي يريدها الغرب. من خلال هذه القوة الناعمة للغرب ينشأ أساساً قوياً للإمبريالية في البلدان المستعمرة وذلك على الرغم من أن الفجوة التكنولوجية بين الغرب وغير الغربيين غالباً ما تكون ضئيلة جداً. فالقنابل الذرية، على سبيل المثال، سهلة البناء، ويمكن لبلد مثل إيران أن يفعل ذلك بسهولة في غضون فتره قصيرة، إذا سُمِح له بذلك، من دون أي تدخل خارجي . وإذا كانت الضغوط السياسية

ص: 211

هي الوسيلة الحقيقية التي يتم فيها الحفاظ على الفجوة التكنولوجية، فكيف يمكن التغلب على هذه الفجوة بتقليد الغرب؟.

ومن ناحية أخرى، لا تزال روسيا تملك الكثير من القنابل النووية وقذائف الإطلاق. ولكنها لم تعد تعتبر تهديداً كبيراً بعد أن استسلم الاتحاد السوفيتي للقوة الغربية الناعمة حيث جرى تفكيكُه بدون ضربة نووية. لذا، كانت قوة الإمبريالية الحقيقية هي القوة الناعمة، وليس القوة الصلبة. حيث يحتاج الغرب إلى قوة ناعمة لتقوية أماكن الضعف في قوته الصلبة. لذلك كان تقليد الغرب عاملاً أساسياً يعزز من قوته الناعمة، من دون أن يقلل ذلك من قوته الصلبة التي تقوم على الفجوة التكنولوجية.

لقد نشأت القوة الناعمة الحالية للغرب من خلال الاستعمار، وعلى عكس الفتوحات العسكرية العادية، كان الاستعمار ينطوي على غزو ثقافي؛ من خلال الاستيلاء على العقول، وفي الهند، يتساءلون عن الكيفية التي استطاعت فيها حفنة صغيرة من الناس جاءت من دول خارجية أن تسيطر على مثل هذا العدد الهائل من السكان.

نلاحظ أن التلقين العقائدي من خلال نظام التعليم الاستعماري سيؤدي دوراً رئيسياً في تشكل الإمبريالية الثقافية. وكان الهدف من التعليم الاستعماري هو خلق فئة من النخبة الغربية المتعلمة من الهنود ليكونوا أوفياء للبريطانيين ومساعدتهم على حكم الجماهير. وقد كفل هذا الولاء نظام التعليم الذي زُرع من خلال المواقف والقيم التي رغب فيها الغرب، حيث غرس ذلك إيماناً لا يتزعزع بالتفوق الغربي (والدونية الهندية). وكأنهم بذلك يدربون مجموعة من الماشية على طاعة أسيادهم دون عصا، إن جاز التشبيه.

ويمكن الشروع في هذا النظام الاستعماري للتعليم لمجرد أن النخبة الهندية الساذجة (والمستعمَرين عموماً) قد ابتلعوا بالفعل ادعاء التفوق الغربي. في أوائل

ص: 212

القرن التاسع عشر، لم تكن هناك فجوه تكنولوجية واضحة بين الغرب وغير الغرب: فمعركة بلاسي لم يفز بها أي تفوق تكنولوجي، ومع ذلك قيل أنه يجب تقليد الغرب لمجرد أنه متفوق، مما يسيء للتاريج لمجرد المطالبة بهذا التفوق الذي يعتبر الغرب أصل للعلم، وبالتالي فإن الغرب عملياً هو الذي يمتلك جوهر التفوق، فهو مملوك عملياً له بحسب هذه القناعات. يعزز هذا الفكر التاريخي الأفكار الفلسفية الرديئة التي تدعي عالمية الطرق الغربية في ممارسة الرياضيات والعلوم، وأن أي طرق أخرى لا قيمه لها أو هي أدنى منها. وكل ذلك باعتبار الغرب هو صاحب المعرفة العالمية، ومن ثم فله الحق في حكم العالم. والفضيلة الوحيدة للآخرين تكمن في تمكنهم من تقليد الغرب.

إن هذا الفهم للأساس التي نشأت منه القوة الناعمة الغربية يستلزم عملية تدريجية لتفكيكها. حيث يجب أن تبدأ العملية بتصحيح التاريخ ذاته، أولاً من خلال تعديل الفلسفة، وثانياً عبر تنشيط التعليم، وبالمجمل، يجب توسيع نطاق هذه العملية لتغيير الأساليب الحالية للتحقق من صحة العلم. وذلك عبر جملة من الخطوات:

الخطوة الأولى: التراجع عن الأكاذيب الموجودة في تاريخ العلم الغربي، حيث نجد كثيراً من الناس يعتقدون خطأً بأن ذلك يتم فقط من خلال تسليط الضوء على بعض المساهمات العلمية لغير الغربيين . ومن المؤكد أن تسليط الضوء على المساهمة غير الغربية هو إجراءٌ مهم، ولكن ذلك في حد ذاته ليس كافياً، فقد أخفقت المحاولات الماضية مراراً خلال القيام بتغيير تاريخ العلم «السائد».

ومن قبيل المثال لا الحصر نورد ما يلي: كان من المعروف على الأقل في السنوات الستين الأخيرة أن كوبرنيكوس هو مجرد كاهن، وقد ترجم أعمال ابن الشاطر ونصير الدين الطوسي الخراساني من النسخ اليونانية (البيزنطية) إلى اللاتينية. مع ذلك ما زال كثرة من الناس يعتقدون أن كوبرنيكوس كان عالماً ثورياً. فمعظم مؤرخي العلوم الغربية مضوا قدماً في الحديث عن «الثورة الكوبرنيية»، وتظاهروا كما لو أنه لم يحدث شيء، فقد اعتادوا على الاعتقاد بأن أي محاولة لتصحيح التاريخ الغربي

ص: 213

هي بالضرورة محاولة شوفينية، وعلى أية حال، فإن هذه المعلومات غالباً ما يتجاهلها الغرب.

من أجل ذلك وَجَبَ القيام بالشيء الصحيح عبر فضح الأكاذيب الموجودة في التاريخ الغربي. ففي الوقت الحاضر تستند الإمبريالية الأكاديمية إلى صيغة «الثقة بكل ما هو غربي»، وهذه الصيغة هي مفتاح الدعاية للغرب، وبصورة خاصة الإمبريالية العادية. وبدون هذه الدعاية سوف تفشل هذه الثقة. ولكي نفلح في إفشال هذه الدعاية، من المهم أن نثبت أن هذه الثقة بالغرب ليست في محلها. من المهم أيضاً أن نثبت أن الأكاذيب المتعمدة لتاريخ العلوم الغربي لا تقتصر على الحالات الفردية في الماضي فقط؛ ذلك أن هذه الأكاذيب واسعة الانتشار بسبب امتدادها في الحاضر. ويمكن إثبات ذلك من خلال فضح الرموز الغربية المعاصرة أيضا على أعلى مستوى، مثل اینشتاین، وبالتالي، فلقد بدأت سلسلة من الكتب، مثل «آلهة العلم الكاذبة»، وهو رد موجز في كتابي أصل العلم الغربي، وفي الوقت نفسه فإن الكشف عن الأكاذيب الغربية على الرغم من ضروريته. فقد عاش الغرب على عبثية هذه الأكاذيب لفتره طويلة؛ لدرجة أنه طور آلية دفاعه ضد التعرض لهذه الأكاذيب، حيث حاول الحفاظ عليها باختراع المزيد منها وبخاصة أمام أولئك الذين يكشفون أكاذيبه. يرى عددٌ من المؤرخين الغربيين أن عملهم يكون من خلال تعزيز هذه الأكاذيب والحفاظ عليها في التاريخ، وبالتالي فإن التعرض لهذه الأكاذيب الغربية يحتاج إلى ترويجها بأكبر قدر ممكن من القوة. على أن الأفراد الذين يكتشفون هذه الأكاذيب التاريخية، لابد أن يحصِّلوا ذلك من خلال مجهود جماعي، مع إدراك واسع النطاق بالمطلوب، وإلا سيتهم كل منهم بالانحراف والتعصب.

الخطوة الثانية: هي التراجع عن طريقة الفهم السيئة التي استخدمتها الفلسفة لدعم التاريخ الكاذب. فعلى سبيل المثال، زعم البعض أن طريقة الغرب لتعليم الرياضيات هي الطريقة الوحيدة الصحيحة، والتي يجب تقليدها. فمن ناحية نجد أن هذا الطلب الفلسفي لتقليد الغرب له أثر رجعي على تاريخ الأفكار، لأنه يتيح

ص: 214

طرائق أكثر سهولة لاستبعاد المساهمات غير الغربية باعتبارها غير ذات أهمية، وبما هي علم تقليد الغرب. (على سبيل المثال استخدم عالم هندي حساب التفاضل والتكامل قبل نيوتن، حيث اكتشفت المنفصِلة للنظرية الرئيسية لحساب التفاضل والتكامل، ومع ذلك فإن هذا الاكتشاف لم يستحق الذكر لمجرد أنه لا يتّبع حدود الطريقة الغربية الحالية). من ناحية أخرى، فإن هذا الطلب على الابتكار یسمح باستخدام العلم نفسه كسلاح رئيسي لإدارة المعتقدات في الثقافات الأخرى، فلقد كانت خرافة حجه الحيوانات الأليفه التي قال بها المبشرون المسيحيون الأوائل بأن المسيحين هم الذين يمتلكون العقل، على عكس الهندوس والمسلمين والجميع من غير المسيحيين، بشكل عام.

الأهم من ذلك هي الطريقة التي استقبل بها المتعلمون الغربيون هذا الاعتقاد. حتی أولئك الذين لديهم أفضل النوايا، وعلى سبيل المثال، نجد الفيزيائي الباكستاني، السيد (برفيز هودبهوي) يجادل اليوم بأن التطور العلمي في الإسلام توقف بسبب الغزالي، وأما الجانب الغريب من ادعاء هو دبهوي هو أن البناء الرئيسي الذي يقوم عليه العلم هو الأساس الرئيسي الذي قام عليه اللاهوت بعد الحملات الصليبية المسيحية، والذي وجدت فيه الكنيسة سياسة مريحة تقوم عليها الحروب الصليبية، من خلال اختلاط المعتقدات اللاهوتية بالرياضيات وفلسفة العلوم في الغرب.

وفي الواقع، فإن جميع هذه الأسس كان يمكن إنكارها بأمان، مما يؤدي إلى إلغاء أفضل العلوم الرياضية، وأفضل فلسفه العلم، كما سيظهر. وعلى أية حال، فإن الرسالة المتوخاة هي تلك التي تكمن وراء الموقف التبشيري الآيل إلى اعتماد القيم التي تناسب الإمبريالية. والمسألة كلها معقدة بعض الشيء، وكما ناقشت على نطاق واسع في مكان آخر، فلن أدخل في هذه المسألة، وإنما سوف أشير فقط إلى السبب الذي يجعل تعليم الرياضيات هو الأفضل بطريقة مماثلة.

الخطوة الثالثة، هي الخطوة الرئيسية ضد الإمبريالية الأكاديمية، ونعني بذلك تفكيك نظام التعليم الاستعماري الذي يلقِّن للناس. إذ لم يتم حتى الآن فهم الحاجة

ص: 215

إلى إنهاء الاستعمار في التعليم إلا في سياق التاريخ السياسي والعلوم الاجتماعية. ففي العلوم الصعبة، ما زال تقليد الغرب هو القاعدة، ولذلك فإنه من المهم للغاية هنا أن يتم إنهاء التعليم، وبالتالي أن نبين البدائل.

وبما أن الرياضيات هي السبب الجذري للعلم، فستكون فكرة جيدة للبدء بإنهاء التعليم الرياضي، وما ذلك إلا لأن تقليد الغرب قد جرى إثباته منذ الحقبة الاستعمارية باعتباره أساس التقدم. لذلك فمن المهم أن نثبت ضرورة إنهاء الاستعمار في تعليم الرياضيات. وهذا ليس خطوة للتنازل، إلا أنه سيؤدي بدلاً من ذلك إلى كسب القيمة العملية، وبالتالي يصبح التلقين هو الخسارة الوحيدة.

لقد كان من ضمن الجوانب الرئيسية لهذا التلقين هو غرس الاعتقاد بالادعاءات المتضاربة بأن:

(ا) الرياضيات عالمية.

(ب) «الرياضيات بدأت مع الإغريق وغيرها من الثقافات التي لا تملك دليلاً حقيقياً على الطريقة الصحيحة لتدريس الرياضيات.

بحسب الأساس المنطقي أنه إذا كانت (أ) صحيحة ستكون الرياضيات في الواقع عالمية، وبالتالي يجب أن تكون (ب) كاذبة، لأنه يجب أن تكون نشأة الرياضيات نفسها في جميع الأماكن! إلا أنه من اللَّافت للنظر وجود عدد هائل من الناس لا يعرفون الرياضيات، ولا تاريخها، أو فلسفتها، ومع ذلك يتمسكون بكل هذه الادعاءات السابقة، وهذه المعتقدات المتناقضة القائمة على الجهل هي السمة المميزة للخرافة والتلقين، لذلك نجد أن كلاً من المعتقد (أ) و (ب) بدءا بالظهور إثر الحروب الصليبية، وكذلك المعتقدات التي روجت لها الكنيسة سياسياً.

من أجل ذلك جاء الحل من خلال كسر هذه الخرافات الغربية عن طريق ثورة تربوية عمليةً، والتي اعتقد أنها ستولد من خلال تضافر عدد من العناصر: (تاريخ

ص: 216

جديد، وفلسفة جديدة، وتربية جديدة، وهو ما سيترتب عليه المكاسب العملية القيمة)، ويُقترح أن يتم ذلك عبر دورة غير محددة لمدة 5 أيام في حساب التفاضل والتكامل.

ينبغي الانتباه إلى أن النقطة الأساسية في تدريس الرياضيات هي أمر صعب اليوم بسبب تداخل علم اللاهوت بالرياضيات في الغرب. مما يجعل من تدريس الرياضيات اللاهوتية أمراً سهلاً للغاية إذا ما أخذ به وفقاً للتقليد الغربي.

لذلك ينبغي إعادة إنتاج هذه الثورات العلمية على نطاق واسع، والإعلان عنها، واستيعابها في النظام التعليمي «السائد»، وتدمير الخرافات التي يزرعها ويشجعها نظام التعليم الاستعماري، والانتهاء من حالة عدم وجود بديل لهذا التقليد الغربي. والواقع أن هذه الثورات ستخلق معضلة كبرى للغرب، باعتبارها مجالاً رئيسياً يثير القلق في التربية، خصوصاً لجهة التخلي عن تعزيز المعتقدات اللاهوتية، التي تقوم عليها الكثير من مرتكزات الفلسفة الغربية.

وهذه الدورة غير المحددة في حساب التفاضل والتكامل ليست سوى خطوة أولى لإنهاء الاستعمار التعليم في العلوم الصعبة. (وهذه هي الخطوة الأولى التي ستمثل صعوبة كبيرة في كثير من الأحيان) ولكن بمجرد اتخاذ الخطوة الأولى سيكون من السهل جداً النظر إلى التغييرات الأخرى المماثلة والممكنة، على سبيل المثال، في حالة الهندسة والجبر، كما في العلوم الأخرى مثل الفيزياء والبيولوجيا سنجدها أيضاً مصطبغة بالمحتوى العقائدي الغربي الذي له قيمة عملية سلبية، لذلك كان من المهم إثبات دخول اللاهوت إلى هذه العلوم الصعبة، على الأقل في الحالات الواضحة، مثل عمل نيوتن أو ستيفن هوكينج، وفصل القيمة العملية لهذه العلوم عن محتواها العقائدي.

الخطوة الرابعة والأخيرة هي تفكيك هيكل السلطة الأكاديمية الغربية على مستوى التعليم العالي والبحث العلمي، لأن ذلك سيمارس ضغطاً مستمراً على المدرسة

ص: 217

والتربية الجامعية، ذلك بأن سياسة المعلومات هنا أكثر تعقيداً. وعلى خلاف الخطوات الثلاث الأولى، قد يكون من الأفضل القيام بذلك بصورة متأنية وتدريجية.

يمكن اتخاذ خطوات معينة في هذا الاتجاه على الفور. إذ إن كثيراً من الناس حتى في الغرب، يجدون في هيكل السلطة القائمة القدرة على التحكم لجهة التضييق على المنشورات اليومية. وعلى الرغم من وجود نظام لمراقبة الجودة، إلا أنه غالباً ما يساء استخدامه، مثل ما تفعل الطوائف الكاثوليكية الرومانية. ولقد ظلت نظم مثل النظام الرابع عشر يوفر طريقة بديلة لنشر المعرفة القائمة منذ أمد بعيد. ولكن حتى هذه النظم البديلة جرى الطعن فيها بوصفها مقيدة بطريقة مفرطة، مما أدى إلى تكوين بدائل أحدث عهداً مثل نظام الأرشفة. لذلك ينبغي أن يأخذ نظام مراقبة الجودة، ولا سيما في العصر الرقمي (حيث لا توجد تكلفة تذكر للنشر)، شكل المناقشة العامة بعد النشر. ويمكن تشجيع هذه المناقشات، على سبيل المثال، بدعوة الحكام (والمؤلفين المعادين) إلى تقديم تعليقاتهم، في إطار نظام مثل نظام فيكسرا viXra حيث يوفر للحكام الفرصة في عدم هدر المزيد من الوقت (إذا كانوا جادين في النظام القديم). وعلى هذا الأساس سوف تتحسن نوعية النقاش. علاوة على ذلك، فإنه في الواقع ومع وجود الأفكار الجديدة، قد یحدث خطأ من الحكام في كثير من الأحيان، لكن من خلال هذا النظام سيكون ثمة مجال لتصحيح هذه الأخطاء. ولذلك يعد انشاءه أمراً ضرورياً بحيث يمكن للدول ذات السيادة (بل والجامعات والمؤسسات الصغيرة) أن تنفذه بسهولة، بل يجب على الحكومات أن تشجع هذا النشاط إلى جانب التعاقد مع المجلات التجارية في نشر العلوم، مثل ماكميلان، سبرينجر، الخ، في حين من الواجب معرفة لماذا ينبغي تحويل المعلومات العلمية التي تنتجها البحوث الممولة من القطاع العام إلى الملكية الخاصة لهؤلاء الناشرين من خلال نظام حقوق التأليف والنشر؟ وإذا كان الناشرون يتقاضون رسوماً لتغطية التكاليف التشغيلية، فلماذا يخفون مدى الأرباح التي يحققونها في العملية؟ ولماذا ينبغي أن تشجع الوكالات الحكومية هذه الخرافات التي تظهر في المجلات التجارية وكأنها هي التي تقرر

ص: 218

أفضل وجه في العالم؟ ثم لماذا ينبغي السماح للعلماء الممولين من القطاع العام بالعمل مجاناً كحكام لهذه المجلات التجارية؟

من ناحية أخرى وعلى وجه الخصوص ينبغي تعديل قوانين حقوق التأليف والنشر من أجل إنقاذ حرية وصول الجمهور إلى جميع المقالات البحثية الممولة من القطاع العام والتي تنشر حتى في المجلات التجارية. وفي أسوأ الأحوال، قد يسمح لهذه المجلات بفترة زمنية لا تزيد عن شهر أو ثلاثة أشهر قبل أن تسمح للجمهور للوصول إليها بالكامل.

وكما هو الحال في تاريخ العلم، ينبغي أن تقترن هذه التدابير البديلة بالكشف عن الأكاذيب الكامنة وراء النظام الحالي لتأييد الغرب. ومن هذه النظم المؤيدة الزمالة لمجتمع غربي. إذ كثيراً ما يعتمد ذلك على القرب من بعض الأعضاء البارزين في ذلك المجتمع، ولكنه يفسر بصورةٍ عشوائية على أنه مؤشر للإنجاز العلمي، كما هو الحال في مشروع قانون نتشر، الذي سيصبح قانوناً نافذاً في الهند.

وبما أن هذه التصديقات تمنح الناس السلطة في بلدهم، فإنها يمكن أن تستغل أيضا بسخرية للتلاعب بصنع القرار العلمي في هذه البلدان.

اسمحوا لأحد أن يفحص أولاً حالات بعض العلماء الذين أيدهم الغرب، لكي نکتشف ما هي القيمة العملية لمجتمعاتهم في عملهم العلمي خلال حياتهم. إننا أيضاً بحاجة إلى دراسة من استفاد من توصياتهم، عندما تصرف هؤلاء العلماء في لجان حكومية. وعلى سبيل المثال، نجد ماشيلكار نارليکار (Mashelkar and Narlikar)، كحالتين جيدتين لمثل هذا التحقيق في الهند، فقد وجدا أن التأييد الغربي النهائي هو جائزة نوبل، ومن المعترف به على نطاق واسع أنه في حالة جوائز السلام والأدب والاقتصاد لابد أن تكون مؤيدة سياسياً. ويُعتقد أن هذه المقاييس هي الكفة الراجحة في «العلوم الصعبة»، على الرغم أيضاً من أن عمليات مماثلة جداً تعمل في تلك الحالات. ولكن على حد علمي لم تكن هناك أي محاولة غير غربية لدراسة

ص: 219

تلك العمليات. ربما تؤدي هذه الدراسة على الأقل إلى إدراك أن التأييد الغربي يجب ألا يكون مفتاح الإنجاز العلمي، وأن الجوائز البديلة التي تقام في أماكن أخرى قد تبحث عن وسائل أكثر شفافية لصنع القرار.

ومن النظم المشتركة الأخرى للتصديق، ما يسمى ب- «مؤشر الاستشهاد» المتصل ب- «ترتيب المجلات». وهو مجرد وسيلة أخرى على ما يبدو تهدف إلى القول بأن مجرد استعراض الغرب هو أمرٌ غير كافٍ. لذا ستكون المناقشة التفصيلية لهذا الأمر خارج هذا المكان. ولكن هناك نقطتان في الترتيب، بالنسبة للمجلات التجارية، ذلك بأن هذا الفهرس أي (ترتيب المجلات) هو منطقي، حيث يوضح أن الناشرين لا يهتمون إلا بالعلماء. وهو ما يجعل البحث العلمي بؤرة هذه المجلات نفسها، والتي تتناسب بالطبع مع الناشرين التجاريين. ومع ذلك، فإن مؤشر الاستشهاد في أفضل الأحوال ينحاز لقياس شعبيتها الاجتماعية في الغرب، ويكون هذا القياس من خلال عدد بسيط يتحدثون فيه عن «الأسلوب العلمي» والذي ينخفض في نهاية المطاف إلى الممارسة العملية!

يعتمد النشر في هذه المجلات «ذات المؤشر الأعلى» على التصديقات من قبل الحكام ومجالس التحرير والذين يكونون في الغالب من الغرب، لهذا باتت شبكات التواصل الاجتماعي ذات أهمية حاسمة في ذلك. أيضاً - ستتجنب هذه المجلات المعارف غير الغربية على سبيل المثال - وبهذه الطريقة، يتم تمرير التأييد الغربي باعتباره المؤشر الوحيد لفضيلة العلم.

وفي الواقع، إذا كان هذا هو الاهتمام بالقيمة العملية، فإن صلاحية النظرية العلمية يجب أن تتقرر بطريقة مختلفة، بغض النظر عن شعبيتها الاجتماعية. ذلك أن النظرية يجب أن يكون الحكم عليها من خلال تأثيرها على المجتمع عموماً (وليس فقط من خلال مستهلكي المجلات) على مدى فترة طويلة من الزمن. وكثيراً ما تنطوي الأفكار الجديدة على تعقيدات يستغرق المجتمع العلمي وقتاً طويلاً لفهمها. ومع ذلك فالعديد من الخطوات الأخرى ممكنة، فعلى سبيل المثال، من المرغوب فيه

ص: 220

أن تكون المجلات والمؤتمرات دولية، لذلك ينبغي أن يكون هناك اختيار لجان تمثيل دولية للمجتمعات ونادراً ما يحدث هذا اليوم. ومع ذلك لا أعتقد أن الدول ذات السيادة تحاول تنفيذ هذا الأمر، على الأقل ليس الآن. لذلك ينبغي تشجيع المناقشات بشأن هذا الموضوع، في سياق العمل على تفعيل أخلاقيات العلم.

لهذا كان التوقيت والتسلسل للخطوات هام جداً. فإذا كان التاريخ الغربي وفلسفة العلم لا تقدم التحدي أولاً (وباستمرار)، ستكون هناك مقاومة للتغيرات في النظام التعليمي. وإلى أن يتغير هذا الأخير سيتم القضاء على التلقين الغربي في تعليم العلوم الأولية، وسيحاول الذين يكبرون معه، أن يقاوموا أي تغييرات على مستوى التعليم العالي والبحث.

ما يلي نورد بعض التفاصيل الإضافية.

لماذا العلم الصعب؟

لم تكن هناك حتى اليوم أي محاولة لإنهاء الاستعمار من «العلوم الصعبة». ذلك لأنه من الصعب عموماً أن نفهم كيف تعمل الإمبريالية الأكاديمية في ميدان الرياضيات والعلوم. وهذا عائدٌ لسببين:

أولاً: إن لدى الغالبية العظمى من الناس معرفة ضئيلة جداً بالعلوم الرياضية للحكم بأنفسهم على صحة المطالبة العلمية - فذلك يعتمد على السلطة. أما سلطة من؟ فستكون الإجابة بوضوح: إنها السلطة الغربية.

ومن الطبيعي القول أن المطالبة بالنشر العلمي، تمت الموافقة عليه من جانب القائمين عليه في جامعة هارفارد أو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أو كامبردج، وعليه يأتي حكم الناس بأنها صحيحة، وسيقدم الصحفيون تقريراً عن ذلك. من أجل الحكم عليها بكونها صادقة أو كاذبة أو مشتبه بها، يُعتقد أن الخبراء العلميين هم وحدهم الذين يعترف بهم اجتماعياً في الغرب، المفارقة أن الحكومات في الهند تبني

ص: 221

قراراتها على مشورة هؤلاء الخبراء. [في مشروع قانون صدر مؤخرا لتنظيم التعليم العالي والبحث في الهند (اللجنة الوطنية للتعليم العالي وقانون البحوث، 2010)، تخطط فيه حكومة الهند لاعتماد هذا المبدأ بموافقة المجتمع الغربي على القانون!].

ثانياً، يستخدم العلماء أيضاً هذه الطريقة «في اعتمادهم على السلطة الغربية». وهذا يناقض تماماً صورة العلم والطريقة العلمية التي تتشكل على أساس العقل والتجربة. لذا فإن العلماء يعتمدون اعتماداً كبيراً على السلطة، وهذا أمرٌ يحدث لأسباب مختلفة. اليوم، غالباً ما نجد يكونوا متخصصون (لأن التخصص يؤدي إلى أعلى كفاءة، مما ينتج عنه الأرباح). وعلى الرغم من ذلك فإنهم غير متأكدين من المتخصصين في أي مسألة حتى المسائل الهامشية خارج المجال الضيق للتخصص، وبالتالي يفضلون الاعتماد على السلطة.

علاوة على ذلك، فإن البحث العلمي والتجريبي اليوم يتطلبان أموالاً طائلة. وتقوم من خلال حكم وكالات التمويل على أداء العلماء من خلال النشر وبالتالي، فإن أهم جزء من نشاط العالم اليوم لا يفكر أو يقوم بالتجارب ولكن من خلال كتاباته ونشره، ولا تحكم وكالات التمويل على قيمة المنشورات عن طريق قراءتها أو تطبيق رأيها على تلك المنشورات (لأنها قد لا تفهم هذا الجانب من جوانب العلم). وبدلاً من ذلك، فإنها تسير بشكل ميكانيكي («موضوعياً») باستخدام مقاييس مثل «عدد المنشورات» (التي لا تقيس حتى كمية العمل بشكل صحيح)، أو يدعون إلى تقييم «نوعية» منشور بواسطة المجتمع الشعبي بين علماء آخرين («مؤشر الاستشهاد») أو مدى قرب تلك المجلات إلى السلطة العلمية الغربية («عامل التأثير») وما إلى ذلك.

في حالة السينما، فإن أي شخص بات يعتقد بأن نجاح الشباك لا يضمن الجودة الفنیة، و مع ذلك، فإن شعبيته في الغرب تكون من خلال مؤشر الاستشهاد، حيث یکون عامل التأثير هو الأساس الوحيد المستخدم للحكم على الجودة العلمية.

النتيجة المستخلصة، أن العلم اليوم أصبح يعني الاعتماد على سلطة الغرب، لأن

ص: 222

الحقيقة العلمية بحاجة إلى هذه الشهادة، فالغرب هو السلطة النهائية للتصديق عليها. والمقصود من وراء ذلك ليس مراقبة الجودة وإنما السيطرة على العقول!

ومن ناحية أخرى، هناك طلب كبير على العلوم في المناطق غير الغربية، فكثير من الناس من غير الغربيين يعتقدون منذ فترة طويلة أن القضية التي يهيمن عليها الغرب في العالم جرت فقط بسبب العلوم الغربية. ولذلك راحوا يجادلون بأن الطريق إلى الهروب من هيمنة الغربي تكون بمراكمة المزيد من العلوم، وحينئذٍ يتم تحدِّي الغرب في لعبته الخاصة.

والمفارقة هي أن استراتيجية التعايش مع هذا الاعتقاد يجب أن تصدق أولاً أن أي ابتكار يكون من قبل السلطة الغربية. ففي إنجلترا في العصور الوسطى، اضطر أحد المصلِّين إلى عرض عذرية عروسه الجديدة على الكاهن لإتمام مراسم الزواج؛ وبالمثل يجب أولاً على كل عالم اليوم أن يقدم فكرته إلى الغرب للموافقة عليها، من قبل أن تصير ذات مصداقية. وتسمى هذه العملية بطريقة لطيفة «استعراض النظير» أو الأقران. ولكن هناك العديد من المجلات لاستعراض النظير». لذلك يعتبر «استعراض النظير» غير جدير بالثقة إلا إذا كان «النظير» من الغرب. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن أن يساء استخدامه بسهولة. ومن السذاجة الثقة ضمنيا بأن هناك لأولئك الذين يستغلون باستمرار من قبل الغرب لقرون وبأن انجازاتهم رائعة. ذلك أن هذا النظام يُوهِمُ بأنه لا يمكن لأي ابتكار علمي أن يحدث في أي مكان في العالم دون أن يأتي الغرب لمعرفته على الفور. فمن المستحيل الفوز بالمباراة على الغرب مع هذه القواعد!

والنتيجة المشتركة لكلا المعتقدين هي ضمان أن المنطقة غير الغربية تتبع الغرب على الدوام، وتظل وراءه على الدوام، مما يؤدي إلى فجوة تكنولوجية دائمة وراسخة. وهذا ما حدث فعلاً في الهند. حيث تم تعزيز التعليم الغربي باستخدام الحجة القائلة بأن هذا من شأنه أن يساعد البلاد على «اللحاق» بالغرب. ولكن الحاصل أنه حتى خلال 175 سنة، لم يتسن للهند القدرة على تحقيق التكافؤ مع التكنولوجيا الغربية.

ص: 223

لكن بعض الناس مع ذلك لم يتعلم أبداً، وعلى الرغم من هذا الفشل الواضح والطويل الأجل لهذه الاستراتيجية الخاصة بتقليد الغرب، إلا أن لجنة المعرفة الوطنية الهندية دعت إلى ذلك مرة أخرى، حيث قال رئيسها أنه ينبغي للهنود أن يتعلموا علم المثلثات من مواد الدورة الدراسية المفتوحة من أجل تطوير المواد الخاصة بهم.

وفي الواقع، حتى في الرياضيات البدائية في علم المثلثات والتفاضل والتكامل، فإنها لا تفعل شيئاً اليوم، فمن الممكن أن يكون هناك ابتكارات هامة. وكثيراً ما تحدث هذه الابتكارات الهامة ولكن يبدو أن رئيس الهيئة الوطنية لشؤون الابتكارات (ومستشار رئيس الوزراء المعني بالتجديدات) لا يفهمان ذلك. ومع ذلك، فإن هذه الابتكارات يمكن أن تكون المفتاح للإطاحة بالإمبريالية الأكاديمية.

وهكذا، فإن زيادة الطلب على العلم عند غير الغربيين يدمر أي إمكانية لتعميم ابتكارات الغرب في مجال العلوم. وكما سبقت الإشارة إليه، وخلافاً للإمبريالية العادية، فإن الإمبريالية الأكاديمية تجدد نفسها. لقد كانت النخبة الهندية المتعلمة في الغرب والموالية لبريطانيا تعتمد عليها لكسب الرزق، وهي نسبة ضئيلة من السكان الهنود. ومن المحتمل جداً أن يكون البريطانيون هم الذين شجّعوا حلفائهم، مثل سافاراکار، على اغتيال المهاتما غاندي وبالتالي تقويض النضال من أجل الاستقلال واختزاله إلى مجرد نقل السلطة إلى هذه النخبة ذاتها. اليوم يبدو أن الهدف هو تدريب %10 من الطبقة المتوسطة الهندية على التعليم الغربي وجعل معيشتهم تعتمد على الغرب. ويبدو أن مشروع القانون المذكور لن يترك مجالاً للشك في أن السلطة الحقيقية في التعليم العالي والبحوث الهندية يجري نقلها إلى الغرب. وبالتالي فإن البحث عن التكافؤ مع الغرب في ميدان القوة الصلبة يدفع الدول غير الغربية إلى أحضان القوة الغربية الناعمة، التي تجدد نفسها، وتمنع غير الغرب من تحقيق أي تكافؤ.

ولأن «العلم الصعب» (والقوة الثابتة المرتبطة به) هو الجزرة التي في نهاية العصا، فإن الحرب ضد الإمبريالية الأكاديمية يجب أن يبدأ من خلال مهاجمة الهياكل

ص: 224

الأكاديمية المحيطة «بالعلوم الصعبة». والأساس الرئيسي لهذا الهيكل هو التعليم، بحيث يجب أن تكون النقطة الأولى للهجوم هي الرياضيات لكونها أساس «العلوم الصعبة».

3- التلقين الاستعماري وتاريخ العلم

مع بداية القوة الغربية الناعمة بدأ مشروع التعليم الاستعماري في الهند مع ماكولاي في عام 1835، وقد جرى ذلك من خلال البيان الانتخابي لحزب بهاراتيا جاناتا حيث بدأ الانتخابات بمحاولته كسر العمود الفقري للحضارة الهندية وذلك من خلال إدخال تعليم الإنجليزيه. وهذه الأكاذيب لا تساعد على مكافحة الإمبريالية الأكاديمية: لذلك لابد من الفهم الأسباب الحقيقية لضرورة علاج العلة.

النواة الأساسية لماكولاي، هي العنصرية. كان من أشد المعجبين بالعنصريين الآخرين أمثال لوك وهيوم. ولم يكن لطيفاً التحدث عن الحضارة الهندية أو أي نظام كان سائداً آنذاك من اللغة السنسكريتية والعربية في الهند، لذلك كانت حاجة الدراسات العليا إلى اللغة غير العامية.... ولكن ماذا ستكون تلك اللغة؟ الجواب كما يؤكد نصف اللجنة التي يرعاها ماكولاي ينبغي أن تكون الإنكليزية. أما النصف الآخر فهو يوصي بشدة بأن تكون العربية والسنسكريتية وذلك على الرغم من أن ليس لهؤلاء أي علم باللغة العربية. ولكن لقد فعلت ما بوسعي لتشكيل تقديرات صحيحة من قيمتها. لقد قرأت ترجمات لأكثر الأعمال العربية والتي احتفل بها الكاتب... إنني على استعداد تام لاتخاذ التعلم الشرقي في تقييم الشرقيين أنفسهم. ولم يسبق لي أن وجدت واحداً من بينهم يستطيع أن ينكر أن رفاً واحداً من المكتبة الأوروبية يشهد بجودة الأدب الأصلي في كلاً من الهندية والعربية: ولذلك كان الهدف من التركيز في الإشاره إلى ذكر ماكولاي بأنه لم يكن مجرد ذكر لرأي شخصي، ولكن لأنه ادعى أن الجميع اتفق معه في هذه النقطة. وقد مضى لتحديد ما يعتبره التفوق على وجه الخصوص: ففي مجال الأدب نجد

ص: 225

الكتّاب الشرقيين يقفون على الشعر الأرقى.... وعندما نمر بأعمال الخيال لديهم نجد أن هناك أعمال حقيقية قد سجلت لهم على وجه العموم.

وهذه المبادئ التي تم التحقُّق منها لا تقاس على الإطلاق بالتفوق الأوروبي الذي أصبح فيه الغرب بارعاً وخاصة في العلوم، وبالتالي يجب أن يكون التعليم المُجدي بالضرورة غربياً. وقد أشار ماكولاي إلى «فيزياء نيوتن»، لذلك كان يتحدث عن تفوق التاريخ الغربي. وكان ماكولاي يكرر ماقال به بعض الهنود أمثال راجا رام موهون روي الذي أوضح في رسالة بتاريخ 11 كانون الأول/ ديسمبر 1823 إلى النائب (بنفينك) روي ونصح بتدريس «العلوم الأوروبية»، على حساب وضد المدارس السنسكريتية. يقول: كأنّنا نمتلئ بالآمال المتفائلة بأن هذا المبلغ سيتم وضعه في توظيف السادة الأوروبيين من المواهب لتعليم وإرشاد المواطنين الهنود في الرياضيات، والفلسفة الطبيعية، والكيمياء، وعلم التشريح وغيرها من العلوم المفيدة، مما سيرفعهم إلى درجة من الكمال يصبحون فيه فوق سكان الأجزاء الأخرى من العالم. يضيف: «وقد امتلأت قلوبنا بالمشاعر الممزوجة بالبهجة والامتنان؛ لقد قدمنا بالفعل بفضل العناية الإلهية للمهام الأكثر سخاءاً وتنويراً من دول الغرب «بريطانيا» مع الأمل في تحقيق الطموحات المجيدة للزراعة في أسيا والفنون والعلوم في أوروبا الحديثة...

والآن نجد أن الحكومة تقوم بإنشاء مدرسة سانجرت المعروفة ب- (بانديت هيندو) لنقل مثل هذه المعرفة في الحال إلى الهند.. ولذلك فمن المتوقع تحميل عقول الشباب لجماليات النحو والتمييز الميتافيزيقي. ومع الاستخدام العملي ولو قليلاً سوف يحصل التلاميذ على ما كان يعرف منذ ألفي عام.

وفي الواقع، فقد تجاوز ماكولاي وعلى وجه التحديد، رام موهون روي لكي يكشف عن ثغرات الأشياء الممتعة التي سوف تدرس بعد ذلك في المدارس السنسكريتية. وهذا هو جوهر المسألة، فقد تغيرت هذه الحجج قليلاً في خلال ال- 175 سنة.

ص: 226

أما اليوم، فيمكننا اليوم حذف الإشارات إلى شعر ميلتون أو ميتافيزيقا لوك، لمجرد مراعاة الشوفينية البريطانية. ويمكننا أيضاً حتى أن نرفض مسيحية ميلتون وعنصرية لوك. ولكن ماذا عن فيزياء نيوتن؟ لايزال الاعتقاد أن العلم هو من خَلْقِ الغرب، بحيث يجب الضرورة من التعليم الغربي لاكتساب هذه المعارف المفيدة. ولايزال يعتبر أي نوع آخر من النظم التعليمية في مرتبة أدني.

ولكن هل هذا الاعتقاد صحيح؟

في العام 1832، وقبل بضع سنوات من ماكولاي، كان البريطاني غير المعروف تشارلز ويش، قد أبلغ في بريطانيا عن النصوص السنسكريتية في جنوب الهند، والتي تحتوي على سلسله لانهائية للعديد من الأنواع، التي تعادل حساب التفاضل والتكامل. وقد لاحظت في وقت سابق من قبل بريطاني آخر، أن قائمة هذه النصوص من الابتكارات الهندية في الرياضيات وعلم الفلك موجودة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر بعد الميلاد لذلك كان كل من ماكولاي وروي ببساطة مخطئين في هذه الحقائق، حيث استندت قراراتهم إلى الجهل والتحامل.

وربما كان روي بعيداً عن الأسطورة الغربية: بأن العلوم قد نشأت في الغرب، وكان قد صُدِمَ لما عرف ما ظهر في الآونة الأخيرة: أن فيزياء نيوتن تميل للنسخة الهندية وبشكل كبير في حساب التفاضل والتكامل، تماماً كما تم نسخ علم الفلك لكوبرنيكوس عن الأعمال العربية السابقة لابن الشاطر من دمشق. ولن أجادل في تاريخ هذه التفاصيل هنا، لأنها نشرت بالفعل في الموسوعات وأماكن أخرى.

النقطة الأساسية فقط هنا هي: لحظة الاعترف بأن العلم يمكن أن يكون له أصل غیر غربي، وأن العلوم الغربية بدأت من خلال الاستيلاء على علوم الغير، وهكذا تفشل وتتحطم حجج ماكولاي وروي حول التعليم الغربي.

فلماذا ينبغي لنا إذن أن نستمر اليوم في متابعة مسار العمل الذي دعوا إليه؟

ص: 227

دعونا نعيد النظر فيه، وهذا هو الوقت المناسب بشكل خاص للقيام بذلك، لأننا نحث مرة أخرى على اعتماد تلك السياسات التعليمية بالذات.

وأما النقطة الأخرى التي أريد أن أشدد عليها فهي استيعاب هذا الدرس عن القوة الناعمة الهائلة التي تتدفق لتشويه التاريخ، والتي جرى توظيف النخبة الهندية لتمرير هذا التاريخ الزائف، غصباً عنها. وقد استغلت هذه البلدان الأمر لتغيير السياسة التعليمية في هذا البلد الشاسع، وحافظت على هذا التغيير لمدة 175 سنة (62 بعد الاستقلال). ومن الصعب أن تكون الهند قد حكمت لفتره طويلة من قبل البريطانيين من دون التعاون النشط من النخبة الهندية، فالتلقين من خلال التعليم الاستعماري لعب دوراً رئيسياً في ضمان هذا التعاون. وكان التاريخ المشوه هو الأداة المستخدمة لبدء هذا التلقين. وقد استعمرت الهند بالتاريخ الزائف الذي استخدمه ماكولاي بمهارة، كاذبة ومن دون معركة بلاسيسي، وقد عزز التعليم الغربي قبضة الغرب على العقول الهندية. وتعمق هذا التعزيز من خلال الخرافة الرهيبة التي تقول بالتفوق الغربي، وخاصة في مجال العلوم.

الهنود المتعلمون في هذه السياسة التعليمية كانوا أكثر من الغرب، تعلموا ان يثقوا بها ضمنياً، ولم يروا أنه من الضروري أن يتحققوا من أي من الوقائع المزعومة للتاريخ العلمي الذي تستند إليه هذه السياسة، ولكنهم لم يفعلوا ذلك حتی الآن.

لقد رأينا رئيس المجلس الوطني الهندي حتى هذا اليوم، هو أيضاً مستشار رئيس الوزراء الهندي المعني بالابتكار، يقول أننا يجب أن نقلد الغرب في علم المثلثات (وحساب التفاضل والتكامل)، وأننا لا ينبغي أن نحاول تنفيذ أي ابتكارات حول ذلك. ولقد وثق بالمستشارين المعتمدين من الغرب الذين قالوا ذلك بشكل ملحوظ، وكانت النخبة الهندية، تعطي ولاءها التام إلى الغرب، ولن تتسامح مع أي شخص آخر يتحدى تلك الخرافات السخيفة.، فهي تحافظ على الإيمان الخرافي بالغرب عن طريق العزل مع طبقة تتحامل على الغرب، وإذا كان هناك أي شخص يحاول التشكيك في هذا الأساس للإيمان في التاريخ الغربي للعلوم، فهناك من يناهض على

ص: 228

الفور هذا التحامل على الغرب. ويذهبون في ذلك للقول:

(1) نحن لا نعرف العلوم ذات الصلة

(2) نحن لا نعرف الأدلة لتحدي التاريخ الغربي

(3) نحن لم نقرأ ما كان قد كتب، ولكن

(4) ونحن لم نقرأ عنه و... إلخ

(5) إذا كنا لم نفعل ذلك فلما لا نعتقد به؟ لأن من السهل جداً أن يعطي هذا الأمر علامة لتغيير التعصب الهندوسي أو المسلم (لا توجد الأدلة الدامغة، بطبيعة الحال)

لقد أصر بعض الأشخاص المدرجين في قائمة المناقشة على أن لهم الحق في رفض أي أفكار من هذا القبيل دون قراءتها. وهذه الخرافات هي النتيجة الرئيسية المقصودة للتعليم الغربي. فمن الصعب أن نتصور مثل هذه الخرافة الرهيبة التي ابتليت بها الهند من أي وقت مضى، لأن الصحفيين والحكومة على حد سواء داخل هذه الخرافة، وهي موجودة الآن في القانون! بعد كل شيء ليس العلم كل شيء إلا بالثقة في الغرب ضمنيا، وقد زرعت هذه الثقة في الغرب في أذهان الأطفال الصغار.

وإذا كانت الحقيقة في العلم لا يمكن إلا أن تقرر من قبل السلطة الغربية، فكيف يمكن أن تقرر الحقيقة خلاف ذلك في تاريخ العلم؟

إمبريالية التضليل العلمي

على هذا الأساس بالذات نحن لا نعرف، ولا نريد أن نعرف، ولكننا نثق في الغرب بأن التاريخ الزائف مماثل ولا يزال يدرس في المدارس الهندية إلى هذا اليوم. وهذا يضمن أن يكبر الأطفال في رهبة من الغرب، بحيث يتم دوام الثقة فيه وبعلومه.

قد يكون من الأمثله الواضحة على هذا التلقين العقائدي، المدارس الالكترونية التي تنشئها الحكومة الهندية والتي تؤكد على أن الرياضيات (والعلوم) قد نشأت في الغرب. وجاء ذلك من خلال عرض صور لعدد من اليونانيين. وتشمل هذه الفئات

ص: 229

فيثاغورس (ص 5)، وطاليس (الصفحة 79)، وأرشيمدس (الصفحة 13)، وهيرو (ص 199)، وبطبيعة الحال، إقليدس (ص 80). وعلى الرغم من أن الثلاثة الأواخر من المفترض أنهم من الاسكندرية، في أفريقيا، حيث كانوا ذوي بشرة داكنة، فإن الصور تهدف أيضاً إلى إقامة سباق المبدعين بإظهارهم كقوالب نمطية قوقازية بيضاء البشرة. وبطبيعة الحال، يكبر أطفال المدارس الهندية على الاعتقاد بأنهم أقل عنصرية من الغربيين.

عندما يحدث تحدي لتقديم الأدلة على هذا التاريخ الوراثي الزائف لأقليدس، أو حتى لتقديم أدلة على أن اقليدس هو المؤلف لهذه النصوص فليس لديه أي دليل، وقد اعترف المؤلف الرئيسي لهذا النص، ج. ف. نارليتار، علناً بجهله للتاريخ وقال («نحن لا نعرف»). ومن الجهل الذي أبداه أيضاً، عندما سأله المسؤول الحكومي الرئيسي عن تنسيق هذه النصوص وما إذا كان الخطأ يكمن في الاعتماد على المصادر الثانوية! أو («الثقة فى الغرب»). فقد جاءت الإجابة أن هذه الصور وهمية وتحتفظ بصور أصحاب البشرة البيضاء في نصوص المدارس الهندية على حساب معرفة الملايين من الأطفال في المدارس الهندية.

ولكن لماذا كان (نارليتار) هو الخبير المناسب في المدارس لكتابة هذه النصوص في الرياضيات؟

لا شك بأن نارليتار ليس رياضياً؛ ففى أوراقه العلمية يجد من يقرأها عند حدوث أي مشكلة متعلقة بمسألة رياضية صعبة، فإنه يقول بالفرضية الأبسط والأسهل ليتخطى بذلك الاستنتاج الذي يريد. وهذه الأوراق العلمية الخاصة به هي أقرب مثالٍ على قصص الخيال العلمي مع بعض المحتوى الرمزي! والحقيقة أن عدداً قليلاً من الناس هو الذي قرأ هذه الأوراق، فلا أحد يهتم حقاً بالعلم في حد ذاته في الهند؛ ولذلك فإن القلق لا يتعلق بتحقيق القيمة العملية، بل بالاعتراف الاجتماعي بالعالم في الغرب. بالنسبة للنخبة الهندية، فإن العلم هو كل شيء يدعو لجلب الموافقات الاجتماعية الغربية، ولهذا لا يهم ما إذا كان السؤال في العلم عن الصواب، والخطأ، مثل نارليكار.

ص: 230

وبالطبع لا يمكن للمرء أن يلاحظ هذه الحقيقة غير المريحة لأن الحياة الرغيدة لهؤلاء المؤلفين تعتمد فقط على الإعتراف والدعم السياسي من الغرب، وذلك ليس لأن علمهم كان أعلى من أي قيمة عملية لأي شخص في الهند (أو كان في أي وقت مضى). ومهما كانت نيَّاتهم، فإن تصرفاتهم ترقى إلى المقابل: لأنهم يصرون على غرس الرعب عن الغرب، وخاصة في أذهان الأطفال الأبرياء، باسم تعزيز العلم، (ولا يمكن للمرء أن يفترض النيَّات الحسنة، لأنها لم تغير من تلك النصوص، أو توصياتها، عندما تتم الإشاره فيها إلى أخطائهم). ومن المحزن أن حكومة بليون شخص ليس لديها أي سبيل آخر للحكم على هذه الحقيقة إلا بالاعتماد على الخبراء، وليس هناك طريقه أخرى لاختيار الخبراء إلا بمعيار الاعتراف الغربي.

ولهذا كانت الصناعة الهندية تتبع البديل. لكنها لا تزال فريسة للقوة الناعمة لتلك القوى الإمبريالية حتى اليوم، وبمساعدة من هذه النخبة التي تم تلقينها، تماماً كما خطط لذلك البريطانيون.

إن هذا القلق الشديد في الاعتراف الغربي، هو في حد ذاته نتيجة واضحة لمشاعر الدونية الجماعية القوية السائدة حتى اليوم. ولا يتولد هذا الشعور عن الإمبريالية فحسب بل عن طريق تلقين الناس بالتاريخ العنصري؛ وهذا التاريخ، الذي يروج له المؤرخون الغربيون، قد استخدم لإخراج برنامج التعليم بأكمله في الهند من مساره، لتوطيد الإمبريالية. ويتم ذلك باستخدام الإمبريالية الأكاديمية للحفاظ على الإمبرياليه الحقيقية.

لقد كان الهدف من سياسة التعليم الاستعمارية هو إنشاء طبقة من شأنها مساعدة البريطانيين على حكم الهند، وهي الطبقة التي تبدو وكأنها من الهنود، ولكن تفكيرهم وتصرفهم مثل البرية، بحيث تكون موالية للإمبريالية البريطانية جماهيرياً. ومن خلال هذا «التعليم» المعروض اليوم نجد أن هذه الفئة تدعم نفسها بنفسها.

وبعد ذلك وحتى الآن نجد أن صخب التعليم الغربي يصطبغ بهذا النوع من

ص: 231

التاريخ الزائف (والذي يرافقه فلسفة سيئة من العلم) وكلاهما يشبه الببغاءات الذين يمثلون فئة من النخبة الهندية بدون معرفة وبدون فهم.

تساؤل افتراضي

النوع الآخر من الأسئلة التي يمكن أن يُطلب هو التالي ماذا لو أن حساب التفاضل والتكامل نشأ في الهند مثل نموذج كوبرنيقوس الذي نشأ في حي المرجة بدمشق؟ ماذا لو لم يكن (إقليدس) موجوداً ؟

بطبيعة الحال من الطريف، لو تكهن ماكولاي وكان على علم بأن حساب التفاضل والتكامل بدأ في الهند، بدلاً من المركزية حول فيزياء نيوتن، ماذا كان سيفعل لو عرف أن إقليدس قد لفَّق له من وقت الحروب الصليبية؟ ربما يكون قد تحدث عن «علم فلك كاذب في النصوص العربية والسنسكريتية إذا أدرك أن الفلكيين الغربيين الذين يمجدون كوبرنيكوس، وتيخو براهي، وكبلر قد حصلوا على علم الفلك من تلک النصوص العربية والسنسكريتية التي أدانها؟ وقد طلب رام موهون روي هذا العلم ليتم تدريس الرياضيات الأوروبية، حيث كان يعرف بأن كلاً من حساب التفاضل والتكامل مأخوذين من الهند. وعلى الرغم من هذا الاهتمام، فإننا لن نتابع مثل هذه التكهنات المضادة للحقيقة هنا، لأن جدول الأعمال الحالي يتصل بالعمل.

فإذا كان العلم هو السعي إلى الاعتراف الاجتماعي من الغرب (من خلال جائزة نوبل وما إلى ذلك)، فمن الواضح أن هذا الاعتراف الاجتماعي يعتمد على التاريخ، ولا يزال الغرب يقوم بتزوير التاريخ حتى يومنا هذا. وقد علمت من المدرسة أن ماركوني هو من اخترع الراديو، ثم علمت في وقت لاحق بكثير أن هذا هو عمل جاجاديش تشاندرا بوس (J.C.Bose)، كما هو معترف به الآن في الغرب من قبل معهد الإلكترونيات IEEE، بعد صراع دام قرناً فيزيائي آخر هو ساتيندرا ناث بوز (S.N.Bose) ذهب بالمثل إلى طي النسيان.

ص: 232

3.3 التاريخ الحقيقي

دعونا نحاول ونرى لماذا يجب أن يتغير تعليم الرياضيات. الجواب: لأنه يساعد كثيراً على أن يكون له حساب صادق من الماضي، فالتاريخ الحقيقي هو أن معظم الرياضيات البدائية التي تدرس في المدرسة اليوم (الحساب، والجبر، وعلم المثلثات وحساب التفاضل والتكامل) ليست في الأصل من أوروبا، ولكن تم استيرادها. أما بالنسبة لحالة الحساب والجبر، فهذا واضح من أسمائها جداً. وتسمى الخوارزميات الحسابية لأن اسم الخوارزمي ينطق باللاتينية الجوار سيموس (Algorismus) أو الخورازمية، وهي مجموعة من التقنيات الحسابية التي جاءت لتكون معروفة في أوروبا بوصفها الخوارزميات (على عكس تقنية العداد الأصلي الأوروبي). وكتاب الخوارزمي (الذي لا توجد منه سوى ترجمات لاتينية اليوم) في دار الحكمة في بغداد. وعلى الرغم من أن العرب تعلموا هذه التقنية من الهنود، فقد تعلم الأوروبيون هذه الطريقة في القيام بالحساب من العرب؛ وبالتالي فإنها تشير أيضاً إلى «الأرقام العربية». والمصطلحات المضللة، والقضية الحقيقية هي أن الخوارزميات الحسابية الأولية (الجمع، الطرح، والضرب والقسمة) تتطلب نظام قيمة المكان، في حين أن الأرقام الرومانية تتكيف مع الإحصاءات المضافة. والعلامات الخاصة المستخدمة لهذه الأرقام والتي ليس لها أي أثر على الإطلاق.

وبالمثل، فإن كلمة «الجبر» مشتقة من الجابر العربي (الذي يستخدم في عنوان أخر كتاب من تأيف الخوارزمي)، حيث يحل المعادلات الجبرية بالقوة (جبر)، بوضعها على جانبين متنافسين (مقبولة) للمعادلة.

النقطة الرئيسية هي أنه عندما وصلت هذه التقنيات الحسابية إلى أوروبا، لم يفهمها الأوروبيون بشكل صحيح. وذلك بسبب الاختلافات الثقافية في طرق قيام الرياضيات. لقد اعتمد الأوروبيون على نظام العداد، الذي يسمح فقط للأعداد الصحيحة، وأساساً يسمح بها بالاضافه فقط. لأن العداد ربط الأرقام بكيانات ملموسة، ولم يكن من الممكن تمثيل الأرقام السالبة، بحيث طرح الطرح يمثل كثير

ص: 233

من الصعوبات. وكان يتعين القيام بالضرب بالاضافات المتكررة، والقسمة والطرح المتكرر. ولم يوفر العداد أي طريقة لتمثيل الكسور العامة؛ وكان الرومان والأوروبيون يعرفون فقط عدد قليل من الكسور الشائعة عادة مع المقام 12، ولا يمكن إضافة أو طرح الكسور مع القواسم المختلفة.

تتجلى الصعوبات الأوروبية في فهم الحساب الأولي بطرق مختلفة. فعلى سبيل المثال، عندما استورد جيربرت التقنيات الحسابية (الخوارزمية) من قرطبة حول 967 CE، رأى أن الأرقام العربية في الجزء الخلفي من العملة. (نحصل على هذه الصورة من المخطوطة اللاتينية في القرن 11 ولم يخترع جيربرت طريقة جديدة للقيام بالتقنيات الحسابية على الحساب (الروماني) العداد: لم يفهم ببساطة الفرق الأساسي بین العداد والتقنيات الحسابية، وتخبط بسبب ذلك في تحصيل النتيجة، وهنا أشدد على أن جيربرت الذي أصبح في وقت لاحق بابا سيلفستر كان رجلاً على دراية فائقة بالمعاصرين الأوروبيين الآخرين. وفي الواقع كان على دراية كذلك بأن معاصريه كانوا يخشونه، وفي الفن المسيحي صوَّره على أنه معالج خطير. وقد وجد هذا الرجل صعوبة في فهم ما يدرَّس لأطفال المدارس اليوم وبالأخص لمرحلة رياض الأطفال، حيث كان يدرس بصورة تقليدية في المرحلة الأولى للمدرسة في الهند! إن هذه الصعوبات لا تنحصر بأي حال من الأحوال في فرد واحد. فهي تتجلى في مجموعة متنوعة من الطرق الأخرى. فعلى سبيل المثال، التجار في فلورنسا الذين يتاجرون مع العرب، سرعان ما تعلموا أن الخوارزميات الحسابية توفر ميزة تنافسية في العمليات التجارية، وبناء على ذلك، بدأوا يتعلمون الخوارزيميات، وفي الواقع، فقد تعاملوا معها كنوع من الأسرار التجارية. ومع ذلك، فإن العديد في فلورنسا لم يكونوا مرتاحين مع الصفر، والسبب هو أن النظام الروماني من الترقيم هو الجمع: فرقم 12 یعنی 10 + 1+1، على نظام قيمة المكان، ومع ذلك فمن غير الممكن تفسير رقم 10 بنفس الطريقة 1 + 0 = 1. الأوروبيين التالي وجدوا الصفر غامض. واشتكوا من هذا الكيان، وهو الصفر، الذي لا قيمة له في حد ذاته، ولكن يمكن أن يضاف له أي رقم من القيمة بواسطة كيان آخر. وهذا الاشتباه في الصفر دعاه إلى أن يكتب الصفر

ص: 234

إذ ليس من الصعب فهم الصفر. وقد أدرج ذلك في قانون القرن 13 في فلورنسا وفيه أن أي عقد مالي بالأرقام العربية يجب أن يذكر فيه أيضاً الرقم بالكلمات، وهو ما أتبع كتقليد بعد ذلك وإلى يومنا هذا حيث يكتب في الشيكات وفي المعاملات المصرفية عبر الإنترنت!).

علم الأرقام واللغز المقدس للكون

كانت هناك صعوبات أخرى. على سبيل المثال، تصوف فيثاغورس المرتبط بالأرقام والذي استمر في الغنوصية. ولذلك فإن مشكلة التحدي النموذجي قد يكون أن نسأل «هل الوحدة رقم ؟» والإجابة المتوقعة هي أن «الوحدة ليست عدداً، وإنما أساس الوجود». واستمر هذا النوع من التصوف العددي في أوروبا حتى القرن السابع عشر؛ وكانت تسمي كتب كبلر توافقية موندي («الانسجام بين العالمين») والأحجيات السرية («اللغز المقدس للكون»)، لأنه كان يتوسم الحصول على دليل من خلال الوئام الإلهي.

حتى في أكثر الأرقام صعوبة من الصفر والأرقام السالبة فهي مسألة لتقريب الكسور، أو التصفير، الذي لم يكن له نظير في التقاليد الغربية للرياضيات.

وتتجلى هذه الصعوبات التاريخية في الطريقة الحالية للتدريس الحسابي، الذي ينسخ عن الطريقة الغربية. وعلى الرغم من أن المنهج الرياضي اليسوعي قد تغير ليشمل الرياضيات العملية (الحسابية أساساً) عام 1570، فقد اعتبرت طريقة العدّ الأسهل، ويجب الاحتفاظ بها في المرحلة الابتدائية. وهكذا، يتعلم الطلاب للمرة الأولى طريقة العدّ، ثم بعد ذلك الخوارزميات الحسابية؛ ثم يعاد تتبع التاريخ الأوروبي لاستيعاب الحسابات. الصعوبات التاريخية التي نشأت في أذهان الأوروبيين، مثل البابا سيلفستر، تتبدى في الانتقال من العدّ إلى الخوارزميات. أما الصعوبات النمطية فتتصل بالطرح والتقسيم والكسور، وهنالك صعوبة أخرى ستتعلق بمشكلة الانقسام بالصفر، إذ من الواضح أن من الممكن أن تكون هناك اتفاقيات مختلفة (على عكس الاتفاقيات

ص: 235

العالمية المزعومة للرياضيات)، لذلك كانت الاستجابة النموذجية من الرياضيات في الوقت الحاضر هو القول بأن الانقسام عن طريق الصفر لا معنى له. ومن ناحية أخرى، فان الرمز ∞ يعطي معنى في ما يسمى نظام الأرقام الحقيقية الموسعة، حيث يمكن تعريف القسمة بالصفر جزئياً.، ويتم القبض على اثنين من التصورات المتناقضة في تلك القواعد المسلية التالية المدرجة في هيكل لغة الحوسبة الجافة التي اخترعت مؤخراً: تقسيم عدد صحيح عن طريق الصفر هو خطأ، ولكن تقسيم رقم نقطة عائمة من الصفر هو ما لا نهاية، مثل 0/2 هو خطأ، ولكن 0/2.0 لا نهائي! وهذا يدل على أن الصعوبات الأوروبيه مع الصفر لا تزال قائمة حتى اليوم!

تنطبق التعليقات المماثلة على علم المثلثات. في هذه الآونة يبيِّن المؤرخون الغربيون انطلاقاً من تاريخهم المتعصب المتطرف والتقليدي، بأن علم المثلثات نشأ في اليونان، مع بطليموس. وكما هو الحال في حالة إقليدس، لا يُعرف شيء عن أن بطليموس الذي وُجدت نصوصه خلف القرن الثاني عشر هو المؤلف الوحيد. وعلى الرغم من أن التاريخ المثبت لكلوديوس بطليموس يشير إلى أربع ملاحظات خاصة ببطليموس في القرن الثاني، وهي معروفة في الواقع باسم المخطوطات ولكن وضعت بتاريخ لاحق. ولا ينبغي بالتالي استخدام هذه «الملاحظات» الزائفة حتى تاريخ المخطوطة. وقد بدا بوضوح من النصوص في بلاد فارس بعد ستة قرون، بأنه بدأ مع معالجة التقويم الشمسي لحساب السنة.

وكانت الأدلة غير النصية من التقويم الروماني تؤكد أن نص المجسطي (على قيمته إلا أنه لا يزال غير صحيح لطول السنة) حيث لم يكن موجوداً حتى القرن السادس من الإمبراطورية الرومانية. وعلى الرغم من الإصلاحات المتكررة لهذا التقويم (طول السنة) إلا أنه كنص عملي بشأن علم الفلك، يجب أن لا ينسب للمجسطي. ومن الواضح أن العلامة التي ينظر إليها هي العلامة التي نجمت عن القائمة التي يرأسها اليوم النجم القطبي الحالي (لم يعرف النجم القطبي في القرن الحالي ولكنه عرف خلال القرن التاسع).

ص: 236

لذلك فالأسماء ذاتها تحكي قصة مختلفة من خلال اللغة المكتشفة في الهند (التي تغيرت إلى العامية، والعربية، فكانت بعض الرموز تكتب بالعربية ولكنها تفسر بطريق أخرى مثل jiba فكانت تنطق ساكنة jb وخطأ jaib وقد ذهب المترجمون إلى أنها تعني التجويف، وكان من بين أوائل الأوروبيين الذين يتعلمون من هذه النصوص العربية ريجيو مونتانوس المؤرخ الغربي الذي اعتبر من أوائل منشئي علم المثلثات).

فالكلمة ذاتها «علم المثلثات» تبين كيف أن المفاهيم التي تتعلق بشكل طبيعي بالدائرة كانت مرتبطة بدلا من المثلثات (التي كانت أكثر دراية لدى الأوروبيين). وهذا ما يخلق صعوبات اليوم في تعلمها. حيث عرف الهنود والعرب الزوايا بطريقة أفضل، باستخدام سلسلة مرنة لقياس محيط الدائرة. وكان الأوروبيون معتادون على الخط المستقيم ويواجهون صعوبات في قياس محيط الدائرة. كان ديكارت من رواد المقياس الجغرافي الأوروبي، حيث رفض إمكانية مثل هذا القياس خارج العقل البشري. وقد فعل الملاحون الأوروبيون، بالمثل، حيث واجهوا مشكلة كبيرة مع الخطوط المنحنية (لتحديد خط اتجاه السفن)، لأنهم اعتادوا على الخط المستقيم والحافة المستقيمة الجامدة لقياس ذلك. لذلك كان هناك طلب كبير في أوروبا في القرن 16، 17 على القيم المثلثية (جداول القطاعات) لمجرد أن هذه القيم ستساعد على رسم الخطوط الثابتة (المتزاوية مع خطوط الطول) خط الاتجاه الثابت على الخطوط المستقيمة.

تنعكس هذه الصعوبات الأوروبية في علم المثلثات مرة أخرى في التعليم المدرسي في الوقت الحاضر. فلا يزال هناك بقايا من أدوات الملاحة الأوروبية والهندسة، المربع أو البوصلة، باعتبار أن المربع هو الجزء الأساسي من المعدات لمعظم الطلاب. أما الطابع الشعائري لهذه الأدوات فواضح من المساحات التي نادراً ما يستخدمها الطلاب، نظراً لكون معظمهم يجدون صعوبة في فهمها. فلا يمكن مثلاً استخدام المنقلة مباشرة لقياس زوايا الحياة الواقعية، مثل الزاوية التي تميل فيها العين ناحية شجرة، كذلك لا يمكن استخدام المقياس لقياس الخطوط المنحنية. ولكن

ص: 237

يمكن استخدام سلسلة أو شريط لقياس ذلك، ولكن لا يتم تضمينه في مربع البوصلة الغربي، وفي الواقع يمكن للسلسلة أن تستبدل مربع البوصلة بأكمله. كل هذا يُظهِر أن تدريس الرياضيات في الوقت الحاضر لا يستند إلى أي إستراتيجية مدروسة، ولكن فقط هو التقليد الأعمى من الغرب. وتنطبق هذه الملاحظات المماثلة، على حساب التفاضل والتكامل. فلم يكن التفاضل والتكامل فقط مأخوذاً من الهند، وهذا لم يفهم بشكل صحيح من جانب الأوروبيين مثل نيوتن، بسبب الاختلافات بين الرياضيات الهندية والأوروبية، حيث يدرس حساب التفاضل والتكامل اليوم الطريقة التي تم استيعابها في الغرب، وليس الطريقة التي تم اكتشافها (أو التي اخترع بها)، وهكذا نجد في الهند أن هذه الصعوبات الأوروبية التاريخية مع حساب التفاضل والتكامل الهندي، وسوف يعاد مرة أخرى اليوم في الفصول الدراسية. وهذا أمر يصعب تفسيره أكثر من ذلك بقليل.

فلسفة الرياضيات

تثير المطالبة الواردة في الفقرة السابقة سؤالاً مثيراً للإهتمام: هل يمكن أن تكون هناك اختلافات ثقافية في الرياضيات؟ في التقاليد الغربية نجد المتعلمين حتى لو كانوا لا يعرفون أي رياضيات، فإنهم يعتقدون أن الرياضيات يتم تدريسها لأنها عالمية. وقد ظل هذا الأمر يسري طويلاً في الغرب: فالرياضيات عالمية، وليست عالمية فحسب، بل هي عالمية كما قال هوجنس (Huygens) صراحة. وهذه المسألة مهما اختلف بصددها سكان الكواكب من إنسان لأخر، فإنهم متفقون على أن الموسيقى والهندسة، في كل مكان لا جدال فيهما وسيظلان كذلك دائماً.

والآن، إذا كانت الرياضيات عالمية حقاً، فلا ينبغي أن تكون قد نشأت من نفسها في جميع الأماكن؟ ذلك أن الغرب أيضاً ومنذ فترة طويلة ادعى أن اليونانيين القدماء فقط هم الذين اتقنوا الرياضيات بشكل صحيح! وهذا ما قالته الكتب الملاسيكية القديمة لتاريخ هذا العلم.

ص: 238

ولذا لا يمكن تتبع تاريخ الرياضيات مع اليقين أنه يعود إلى أي مدرسة أو فترة قبل الإغريق .... على الرغم من أن جميع السباقات في وقت مبكر تعرف شيئاً من التبجيل... وعلى الرغم من أن الغالبية تعرفوا على عناصر مسح الأراضي، إلا أن القواعد التي كانوا يمتلكونها، لم يستدلّ عليها، ولم تشكل جزءاً من أي علم. وبعبارة أخرى، فإن الحقيقة تكمن في أن الثقافات المختلفة لم تتنازع في شكل الرياضياتٍ ولكن في أصل الاختلاف الحضاري. وحسب المؤرخين الغربيين عن ثقافات الآخرين أن العرق اليوناني مرصود فقط لفهم الهندسة (لأن الجينات الخاصة بهم كانت مختلفة)، وكان المعنى الأدنى المشترك يوحي بسخافة الاعتقاد في كلاً من البيانين «الرياضيات هي عالمية»، وأن «الرياضيات نشأت فقط في اليونان»: إذا كانت الرياضيات هي وراثة أو ثقافة يونانية الإنجاز فلماذا ينبغي أن تكون عالمية؟

الرياضيات هل هي علم عالمي

مع ذلك، فإن الناس الذين ترعرعوا في التعليم الغربي يميلون إلى أن يتخلوا عن المنطق المشترك بشأن هذه المسألة، لأنهم يعتقدون بهذين الإدعاءين منذ قرون. والأمر لا يقتصر على الناس العاديين وإنما أيضاً وأساساً على المفكرين البارزين في الغرب. وبالتالي فإن استمرار هذا الاعتقاد هو إشادة بالسرعة الهائلة للبشر (أو الخشونة غير العادية للغرب). قد تكون هذه الأكاذيب هي مفتاح الإمبريالية الغربية (من خلال الادعاء بأن المعرفة الغربية عالمية). والواقع أن كلا من البيانين زائف. وقد أشرنا بإيجاز في السابق إلى أن الادعاء بالأصل اليوناني للرياضيات والهندسة هو ادعاء زائف. دعونا الآن ندرس ما إذا كانت الرياضيات عالمية أم لا. في الواقع، الرياضيات ليست عالمية، ومن الممكن أن تكون مثل الأنواع المختلفة تاريخياً، فعلى سبيل المثال في الدول غير الغربية قبلت الرياضيات التجربة كدليل إثبات، بينما كانت الرياضيات في القرن ال 20 تجريبية ميتافيزيقية وكان قبول التجربة كبرهان وسيلة لإثبات العناصر، 1.1 و 1.4 . على سبيل المثال جاء التحليل الذي قام به هیلبرت وراسل حين وصفا هذه البراهين بأنها خاطئة). وعلاوة على ذلك، وخلافاً

ص: 239

للرياضيات التقليدية للحساب، الذي لديه الكثير من القيمة العملية، فإن الرياضيات الغربية تركز على البرهان الاستنتاجي. وهذا هو الحال أيضاً مع الرياضيات الرسمية في الوقت الحاضر (التي تنطوي على إثبات النظريات)، وأما قيمتها العملية فهي غير مؤكدة بالمرة، كما سنرى أدناه.

من الأمثلة التي يكثر ذكرها على عالمية الرياضيات الادعاء بان 2 + 2 = 4. دعونا ندرس هذا، وأبسط الإدعاءات أن 1 + 1 = 2. وكجزء من الحساب العملي هذا أمر جيد. ولكن هل هذه المعادلة هي حقيقة عالمية؟ فمئات الآلاف من الدوائر المنطقية على الرقائق النموذجية للكمبيوتر تنفذ نوعاً مختلفاً من الحساب حيث 1 + 1 = 1 (أو البوابة) أو 1 + 1 = 0 (الحصري أو البوابة). رموز مثل 1، و + لا يكون لها أي معنى جوهري. إنهم يطيعون القواعد التي نخصصها إذا أخذت إثنين من الأحجار وأضفت إثنين آخرين من الحجارة، فلديك أربعة أحجار. ولكن إذا كسرت واحداً منهم فستحصل على 5 أحجار. هل هذا يعني أن 2 + 2 ربما تكون 5؟ من ناحية أخرى، إذا كان لدي سمكة واحده كبيرة، وسمكة صغيرة واحدة، فكم عدد الأسماك التي تصنع؟ 2 سمكة كبيرة أو 2 من الأسماك الصغيرة؟ قد لا يكون من الأفضل تمثيلها 1.5 من الأسماك الكبيرة أو 2.5 من الأسماك الصغيرة؟ والنقطة التي نعود إليها مرة أخرى هي أن علينا أن نحدد القواعد. علينا أن ندرك أننا لا نتعامل مع دوائر الكمبيوتر أو مع الحجارة، أو الأسماك، ولكن مع الأعداد الصحيحة.

ولكن، يمكننا أن ندرك أننا نتعامل مع الأعداد الصحيحة؟ دعونا نحاول إضافه رقمين باستخدام برنامج الكمبيوتر. إذا كنا نستخدم لغة الكمبيوتر مثل C، سنحصل بالتأكيد 2 + 2 = 4 . ولكن يمكننا الحصول على ما يرام 20.000 + 20.000 =-35، 528. (للحصول على حساب مفصَّل لماذا هذا العدد، وليس أي شيء آخر، انظر ملاحظات C.) اللغة C ليست منصة مستقلة. لذا، قد نحتاج إلى محاولة 2000000000 + 2000000000 =-29496796. هذا هو الجواب، ولذا سنحصل على جميع المنصات مع لغة برمجية جافة.

ص: 240

وأود أن أشدد على أن كل ذلك يجعل الفرق العملي ضئيلاً جداً لأي مشكلة

عملية معروفة (مثل إرسال رجل إلى القمر)، فحسابات الكمبيوتر كافية تماماً. ومع ذلك، فإن هذا الحساب العملي (الكمبيوتر) لا يتفق مع الحساب الرسمي الذي يدرَّس لطلاب الرياضيات. حيث يقوم الحساب الرسمي على ما يسمى ببديهيات بیانو (Peano)، الذي عبر عن الترابط «القانون» بأنه مُقدسٌ ومصونُ، ولا يمكن كسره كما يحدث في حساب الحاسوب. وعادة ما يعبِّر عن هذا القول بأن حساب الكمبيوتر (لا مفر منه وبشكل أبدي) وهذا خطأ، لأن أجهزة الكمبيوتر الرياضية.

استطاع المجرمون كسر القوانين الحسابية العالمية الذي وضعه بيانو Peano في القرن التاسع عشر.

وهناك طريقه أخرى لوضع هذه الأمور (وهي الطريقة التي وضعت باستخدام فلسفة التصفير) بمعنى أن الحسابات الرسمية مثل حساب بيانو، على الرغم من أنها تبدو بسيطة ومفيدة، إلا أنها مثالية، أي غير واقعية ولا يمكن تحقيقها. خلاصه الأمر: أن الرياضيات ليست عالمية. وبالتالي يصبح الادعاء بأن «الرياضيات الغربية عالمية» (التي نشأت في اليونان) يُقصد به فقط من أجل تعزيز الحالة الإمبريالية. ص20

4.2 - اللَّانهاية، والرياضيات والدين

بناء على ما تقدّم فإن الاختلافات الثقافية بشأن الرياضيات أصبحت حادة خاصة في الأسئلة الرياضية حول مفهوم اللَّانهاية، ولقد حاولت من جهتي أن أبرز الدور المحوري لتلك الاختلافات الثقافية في الرياضيات من خلال الإشارة إلى الصعوبات التاريخية المتعلقة بمفهوم اللَّانهاية التي ابتلي بها حساب التفاضل والتكامل عندما وصل لأول مرة من أوروبا. فالأساس في حساب التفاضل والتكامل هو في كونه وسيلة لجمع سلسلة اللَّانهائي، [ما هو مجموع 1 + 4/1 + 8/1 + 16/1 ....؟] وقد كان الهنود يقدمون صيغة بسيطة لهذه السلسلة الهندسية.

لكن الرياضيات الأوروبية في القرن 17 رأت أن الطريقة الوحيدة للحصول على

ص: 241

هذا العدد هو تقديم مادة لا نهاية من الأعداد. وذلك بإضافة 4/1 إلى 1، ثم إضافة 8/1 إلى العدد، إلخ. والقيام بمثل هذا العدد اللَّانهائي هو بلا شك مهمة فائقة لسلسلة لا نهائية من المهام. ذلك بأن الأمر هنا يحتاج إلى وقت غير محدود. لذا فإن علماء الرياضيات الأوروبية في القرن 17 يعتقدون أن الإجابة على مثل هذا العدد كانت معروفة فقط لله. قال هذا ديكارت بوضوح أما جاليليو فقد وافق على نطاق واسع بمفهوم اللانهاية ذات الصلة باللاهوت.

لقد كانت الرياضيات الغربية مرتبطة ارتباطاً عميقاً بالمعتقدات الدينية. حيث تظهر كلمة «الرياضيات» وتستمد معناها من كلمة «الأطروحة» التي تعني «التعلم». وقد عرّف أفلاطون التعلم أو الأطروحة بإنها تعني تذكر المعرفة في الحياة السابقة. وأعرب عن اعتقاده بأن الناس قد عاشوا حياة الماضي، وأن الرياضيات تساعدهم على التذكر بمعرفة تلك الحياة الماضية.، كان هذا الاعتقاد في الحياة الماضية يرتبط مباشرة بالمعتقدات حول الروح الخالدة التي تبقى بعد الموت، وقد ربط الحياة الماضية بالوقت الحاضر. ففي محاورة مينون نجد أفلاطون، يدلل من خلال سقراط بمعرفة صبي من العبيد بمبادئ الهندسة، ويخلص منتصراً إلى إثبات وجود الروح. وفي محاورة الجمهورية ينتهي إلى تدريس الرياضيات لصالح الروح.

لقد استمر هذا الاعتقاد لفترة طويلة لا تقل عن 8 قرون بعد أفلاطون، وهكذا نجد برقلس (Proclus)، في القرن الخامس، يشرح في كتابه لماذا استخدم سقراط الهندسة (وليس الجغرافيا، على سبيل المثال) لإثبات المعرفة الفطرية لصبي الرقيق. ويشرح برقلس مصطلح «الأطروحة» بالتفصيل الصريح، وكان هدفه من تعليقه وشرحه إبراز أن الرياضيات، بغض النظر عن تطبيقاتها العملية، هي نشاط ديني لصالح الروح التي «تؤدي إلى الحياة المباركة». ونلاحظ أيضاً أن معتقدات برقلس عن الخلود كانت من خلال التركيز على القتلى في الحرب الدينية التي شنتها الكنيسة المسيحية الحاكمة ضد الوثنية «والتي كانت سائدة أنذاك. ويعتقد برقلس أن حقائق الرياضيات أبدية، وهذا يتعلق بمعتقداته حول الزمن. وفي كتابه عناصر اللاهوت، المعروف للعرب

ص: 242

كجزء من «لاهوت أرسطو» أوضح برقلس كيف أن هذا الاعتقاد عن الخلود (والحياة الماضية) ذات صلة تشبه دورة الزمن. أما الآن فإن الاعتقاد في هذا الشَّبَه لدورة الزمن كان اعتقاداً مشتركاً بين مختلف الأديان الغامضة التي ازدهرت في الامبراطورية الرومانية المبكرة. وبالتالي فإن الاعتقاد في تشابه دورة الزمن كان أيضاً سائداً في المسيحية المبكرة، وقد جرى الترميز لذلك ببعض الرموز المسيحية مثل الهكسابلا (Hexapla) السداسية (التي هي عبارة عن ترتيب عدة ترجمات للعهد القديم في ستة عهود). وفي عام 529 أغلق جستنيان (Justinian) جميع مدارس الفلسفة في الأمبراطورية الرومانية.

في الوقت نفسه كان جون فيلوبونوس (John Philoponus) (المعروف بيوحنا النحوي) قد كتب دفاعه (خطبة) ضد برقلس، ورأى أن برقلس زنديق، كما ينطق الشتائم (اللعنات) ضد دورة الزمن. وبعد سنوات قليلة في عام 553 لعن أوريجانوس (Origen's) معتقدات الكنيسة واصفاً إياها بأنها «مذهب الوجود المسبق».

وبصرف النظر عن التصدي للتعديلات الرئيسية التي طرأت على المسيحية، التي أدلى بها اللاهوت في المرحلة التي تلت مجمع نيقيا، فإن اعتقاد برقلس بالحقائق الأبدية في الرياضيات، وبالتالي أبدية الكون، قد أغضبت الكنيسة بطرق أخرى مختلفة. على سبيل المثال، عارضت مذهب الخلق، كما فسرته وأكدته كنيسة ما بعد مجمع نيقيا، ويمكن للمرء أن يقول أن الجدل الأول حول مفهوم الخلق قد بدأ في القرن الخامس حيث تعلق بتدريس الرياضيات، وليس البيولوجيا. وقد قدم فيلوبونوس حججه ضد برقلس حول أن العالم لا يمكن أن يكون خالداً لأن إضافة يوم إلى الخلود سيترك الخلود دون تغيير، وبالتالي تكون هذه الحجة سيئة. وهناك شيئان يجعلان من هذه الحجة سيئة:

أولاً: أن فيلوبونوس لم يفهم حتى جوهر فكرة الخلود عند برقلس (متعمداً ؟) وأربك مفهوم برقلس عن تشابه دورة الزمن مع فكرته الخاصة عن الزمن الذي اطلقت عليه تسمية «الوقت الخطي الفائق».

ص: 243

ثانيا: كان لديه معايير مزدوجة حول الخلود، لأنه واصل الاعتقاد في الخلود (في «الخطي» والزمن) من تعذيب غير المسيحيين في الجحيم من أي نوع كانوا.

لكن النقطة التي جرى من خلالها تقديم حجج فيلوبونوس هي ذات شقين:

أولا: لإظهار كيف أن الأفكار حول اللَّانهاية قد اختلطت منذ فترة طويلة مع اللاهوت (ومفاهيم الخلود)، في الغرب.

ثانيا: الإشارة إلى أن اللانهاية تؤدي بسهولة إلى مفارقات، وإلى معايير مزدوجة.

وهناك أيضاً مسألة ثالثة هنا: هي أنه كيف أن فكرة برقلس في الرياضيات التي هي حقيقية إلى الأبد (أي صحيحة لكل زمان) تتحول إلى فكرة هوجنس (Huygens) في الرياضيات والتي هي صحيحة عالمياً (أي أنها صائبة في جميع الفضاءات)؟ هذه قصة طويلة ومعقدة، وأنا لن أدخل فيها هنا، وخاصة أنني شرحت هذا في مكان آخر. يكفي الإشاره إلى أن الكنيسة بعد الحملة الصليبية قد استفادت سياسياً من هذا التحول، وذلك على عكس الحقائق الأبدية، التي ذهبت ضد مذهب الخلق على سبيل المثال. فالحقائق العالمية لا تتداخل مع مذهب الكنيسة. بل على العكس من ذلك، فبعد الفشل العسكري للحروب الصليبية تحولت الكنيسة من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة، ولم يقبل المسلمون الكتاب المقدس المسيحي، ولكنهم قبلوا العقل، كما في علم الكلام الإسلامي، وبالتالي، سعت الكنيسة الآن لاستخدام العقل لتحويل المسلمين عن إيمانهم، وقد تم تعديل لاهوت الكنيسة لهذا الغرض، وأصبح هذا اللاهوت بعد الحملة الصليبية معروفاً باسم اللاهوت المسيحي الرشيد. وادعت الكنيسة أن عناصر «اقليدس» تتعلق أساساً بالحجج العقلية، وليس بتحقيق الذات كما ذكر برقلس، وقد كان هذا الدعم لإعادة تفسير العناصر بعد الحملة الصليبية من قِبل التاريخ الزائف الذي تم تأليفها من قبل مجهولين غير معروفين.

«قد كان إقليدس غريباً بما فيه الكفاية «فقد اعتقد المعتقدات اللَّاهوتية نفسها.

ص: 244

وهذا التاريخ الزائف من إقليدس يسمح أيضاً للكنيسة بالمطالبة بملكية العقل، كما يفعل البابا بنيديكت في هذا إلى اليوم.

أدت معتقدات الكنسية التي أنتجت خرافة هوغنس بأن الرياضيات الغربية يجب أن تكون عالمية، إلى ترسيخ نظام التعليم الاستعماري. ويعتقد جميع الهنود المتعلمين في هذا الأمر، على الرغم من أن عدداً قليلاً جداً منهم يمكن أن يدعي معرفة الرياضيات، وفلسفتها، والتاريخ.

وفي الحقيقة فإن الهنود لم يعرفوا أبداً ما أصابهم ولم يتم الحصول على الانتصار البريطاني عام 1757 عن طريق أي تفوق تكنولوجي، بل تم تحصيله بالطريقة القديمة الجيدة لاستخدام الرشوة واستغلال الشقاق. وكان الأوروبيون ينتظرون هذه الفرصة لأكثر من 250 سنة، ولكن، في غضون 60 سنة القادمة جرى إقناع النخبة الهندية بأن البريطانيين حكموا الهند لأن الهنود كانوا من جوهر أدنى! وكان رام موهون روي نفسه يتوسل إلى البريطانيين لتغيير نظام التعليم الهندي من خلال الرياضيات الغربية بصفتها عالمية؛ ولهذا أراد الهنود تعلمها. وبطبيعة الحال، فقد استغل البريطانيون هذه الخرافة للسيطرة التامة، ولا يزال الغرب يفعل ذلك حتى اليوم.

يجب أن نتذكر الآن، في هذه المرحلة لدينا مجموعة من الرموز التي كتبناها، وهي 1 + 4/1 + 8/1 + 16/1 +....، ليس لها أي معنى جوهري (ناهيك عن «معنى العالمية» وكما قال برتراند راسل، نبي الشكلية، «في الرياضيات نحن لا نعرف ما نتحدث عنه»، وكما هو الأمر مع 1 + 1، فإن المجموع اللَّانهائي سيكون له هذا المعنى الذي نعطيه. وخلافاً لحالة المجاميع المحدودة، مثل 1 + 2، هناك مجموعة أوسع من الخلاف بشأن مجاميع لا حصر لها، حتى في الرياضيات في الوقت الحاضر. وهذا ينطبق بشكل خاص على («المتباينة») وهي سلسلة لا نهائية مثل 1 + 2/1 + 3/1 + 4/1 + .... أو سلسلة 1-1 + 1-1 + .... (= 2/1 ؟)، والتي نشأت في نظرية الكم الميداني. لقد أساء الأوروبيون فهم الطريقة الهندية لجمع سلسلة لا نهائية كتقريب عددي. إن شرح هذه الطريقة في الرياضيات

ص: 245

الرسمية يتطلب في الوقت الحاضر بعض المعرفة التقنية للرياضيات الرسمية، وأساساً منذ بهاسكارا (Bhaskara) فصاعداً، كان النهج الهندي لعلاج الجبر متعدد الحدود تقريباً كما لو كان مجرد أرقام. ومن هذا المنظور يعتقد الهنود أن الوظائف العقلانية للرياضيات الرسمية توصف اليوم بأنها بعيدة عن قواعد أرشيمديس. (الأعداد المعقولة، متميزة عن الوظائف العقلانية، والتي تشكل حقلاً عادياً) ويمكن تنفيذ العمليات الجبرية مثل الإضافة والضرب والطرح والقسمة، وهذا المجال يسمى ملكية أرشيميدس، وهي أن أي x إيجابي يمكننا العثور على عدد صحيح مثل أن x>n وهذه الملكية، هي التي تحمل الأرقام العقلانية، وتفشل الوظائف العقلانية، وإذا فشلت الخاصية، يمكننا العثور على x بحيث أن x>n لكل عدد صحيح n، وسيكون لدينا أيضاً 0 <1/x < 1/n لكل n وبالتالي، فإنه من الممكن رسمياً الحديث عن لامتناهيات لامتناهية في هذا السياق. وكما سبق وأوضحت، فإن هذا يتطابق مع مبدأ نظام العد، وهو نهج بسيط وعملي، وإلى ذلك ليست هناك حاجة إلى أي من هذه الشكليات بشأن فلسفة النزعة الصفرية.

تكفير رياضيات نيوتن

عندما وصل حساب التفاضل والتكامل لأول مرة في الهند، ولم يفهم الأوروبيون الطريقة الهندية لجمع سلسله لا نهائية، كان هذا مماثلة لطريقة الأوروبيين العددية، حيث فشلت في فهم الخوارزميات الحسابية. (طريقهم لقيام الرياضيات العالمية). وظنّوا أن الطريقة الهندية هي القيام بمجاميع لا حصر لها كعملية تقريبية عددية (لم تكن موجودة؛ وكانت الكلمات الرسمية أقرب إلى عملية لنبذ اللَّانهاية في حقل غير أرشيمدس؛ ولكنها كانت تستند إلى فلسفة مختلفة). بسبب الخلفية الدينية للرياضيات الغربية، حيث يعتقد الأوروبيون أن الرياضيات يجب أن تكون دقيقة، وينبغي ألا تهمل أي كمية محدودة، مهما

ص: 246

كانت صغيرة. ولذلك، فبينما كانوا على استعداد لقبول القيمة العملية لتقريب الأرقام العددية لم يكونوا على استعداد لمنح ذلك (ما يعتبرونه) لأي تقريب عددي يمكن تسميته الرياضيات. وقد بحثوا عن طريقة محددة للقيام بمجاميع لا حصر لها. ومن الواضح أن هذا ليس ممكناً جسدياً. لذلك سعوا للقيام بذلك إلى الطرق الميتافيزيقية، وهذه الطرق الميتافيزيقية بطبيعة الحال تشابكت مع المعتقدات الميتافيزيقية الأخرى. حول الزمن، على سبيل المثال وقع نيوتن في خطأ خطير في الفيزياء الخاصة به، وهذا الاعتقاد من شأنه أن يجعل استخدام حساب التفاضل والتكامل صارماً، وقال بميتافيزيقا الزمن، معلناً أنه ليس من المهم أن تكون قادراً على قياس ذلك بالظبط. (تم تصحيح هذا الخطأ فقط في نظرية النسبية، في وقت لاحق). وبعد وفاة نيوتن بدأت وثائقه في تاريخ الكنيسة على وشك أن تكشف، وقد هلع الفكر، في هذا الوقت حيث انتقد الأسقف بيركلي بلا رحمة رياضيات نيوتن كما أطلق عليها إنها «رياضيات الكافر».

وبصرف النظر عن دوافع انتقاده، فإن جوهر النقد الذي وجهه هو أن نيوتن وليبنتز تبعا إجراءات غير منطقية، إذا كان يمكن وضع تدفق الأعداد إلى الصفر في نهاية الحساب. وقد سأل في البداية لماذا.. وأكد أنه لا يشكك في الإجابات العددية أو العملية التي حصل عليها نيوتن. ولكنه يشكك في العملية، ورأى أنه نظراً لأن العملية كانت سيئة، فإنها لا ترتقي إلى الرياضيات.

كانت الحدود في نهاية المطاف من خلال جواب علماء الرياضيات الغربيين المقدمة على اعتراضات بيركلي، وكانت الحدود المطلوبة هي الأرقام الحقيقية الرسمية، والأرقام الحقيقية الرسمية المطلوبة هي نظرية المجموع. إن الأهمية الحاسمة لنظرية المجموع تجري من خلال الأداء الممكن للمهام الميتافيزيقية الفائقة، وبطبيعة الحال، فإن القدرة الميتافيزيقية لأداء المهام الفائقة تجعل علماء الرياضيات يشعرون بالقوة، وتكون المعارضة بمثل هذه الأشياء (من قِبل مجموعة

ص: 247

تسمى البديهيات) (ذلك بأن هذه الرياضيات الميتافيزيقية لا يمكن إلا أن تقرر من قبل السلطة الاجتماعية...)

وهكذا تكتنف استخدامات حدود نظرية المجموع مشاكل متنوعة، فالعديد من علماء الرياضيات كانوا متخوفين حيال المفارقات الناجمة من نظرية المجموع، واعتقدوا أن هذه النظريات تم حلها بواسطة المجموع البديهي الذي وضع في الثلاثينيات.

ومع ذلك، كما هو الحال في الحجج المتعلقة بفيلوبونوس التي واجه بها برقلس، فإن الطريقة المحددة لمعالجة اللامتناهية هي تلك التي تكتنفها معايير مزدوجة غريبة: معيار واحد من الإثبات داخل نظرية المجموع، وأخر للحديث عن ذلك. بالطبع فإن الحدود لا تعطي أي فرق عملي في الإجابة. وبشكل ممتع، وحتى قبل إعطاء جواب مقبول، كان لا بد من تغيير الكثير من الحالات التي لا تجد حدود هامة للفيزياء. ولقد أدى ذلك إلى نظريات سوبوليف (Sobolev)، شوارتز (Schwartz)، وميكونسكي (Mikusinski) وكل من هذه النظريات تكتنفها مشاكل أخرى، وقد ناقشت في بعض التفاصيل في مكان آخر، وحتى لو أهملنا كل هذه القضايا، فإن النظرية الميتافيزيقية يمكن أن تؤدي إلى إستنتاجات مادية غير مقبولة.

إذا كان الهدف من تدريس الرياضيات هو تدريس العلوم من أجل تطبيق التكنولوجيا العملية، فمن الواضح أنها ليست فكرة جيدة لتعليم هذا النوع من الرياضيات الرسمية.

ومع ذلك، فإن نظرية المجموع الكامنة وراء نظرية باناش - تارسكي تستخدم كأساس لجميع الرياضيات الرسمية اليوم. وهذه الرياضيات الحديثة هو ما يدرس فى المدارس في جميع أنحاء العالم، بحيث أن الطلاب في سن مبكرة يتعلمون الثقة في ذلك، وفي قيمته. إن عدم الثقة في أي انتقاد وبخاصة للقادمين من غير الغربيين الذين يفتقرون إلى السلطة، لم يدرسوا أو يفهموا نظرية المجموع البديهية

ص: 248

التي هي أساس الرياضيات الحديثة. وكما أوضحت من قبل، فإن العديد من علماء الرياضيات المحترفين لا يمكنهم حتى تحديد أي مجموع محدد بدقة، ويعتقدون فقط أن النظرية التي وضعت لتكون صالحة هي أعلى قوة من السلطة، وهذا هو ما سوف ينتشر حتماً، إذا طلب مشورة الخبراء.

إن الأثر الصافي لجميع هذه التعقيدات هو أن الرياضيات، بشكل عام، وحساب التفاضل والتكامل، على وجه الخصوص، أصبح تعليمه وتدريسه صعباً جداً ويجب ألا يخطئ المرء في الاعتقاد بأن اللاهوت الغربي غير مرن؛ ولكن من الصعب نسبياً على الغرب القضاء على هذه الصعوبات، لأن هذه المعتقدات هي الأساس المتين للتقاليد الغربية على مدى القرون العديدة الماضية. ولذلك يبدو أن هذه النقطة جيدة للبدء في الهجوم على الإمبريالية الأكاديمية الغربية.

5:التحليل: أكاذيب الإمبريالية الأكاديمية

يتضح مما سبق، أنه تم الحفاظ على الإمبريالية الأكاديمية عن طريق:

(أ) الحرب الضخمة التي تصدر الأكاذيب عن تاريخ العلم.

(ب) استخدام تلك الأكاذيب لفرض الحفاظ على التعليم الغربي والتي تلقن العقول الشابة برهبة بالغرب.

(ج) الاختبارات الرئيسية لجميع الحقائق العلمية لا تكون إلا من خلال شهادة الغرب.

ويبدو لي أن هذه الأكاذيب الغربية حول التاريخ قد انتشرت وتسربت بسرعة كبيرة وعرضت كثير من الحيل حول كوبرنيكوس، وزعمت أن حساب التفاضل والتكامل هو من أصول العلوم اليونانية. ومما لا شك فيه، أن الغرب استخدم جيشاً من الكهنة لسدِّ

ص: 249

تلك التسريبات، والحفاظ على كل كذبة. وقد لعبت شبكة الإنترنت دوراً رئيسياً في هذا الأمر، وقبل 12 عاماً، اضطررت للسفر مسافات طويلة للحصول على الكتابات الأصلية لأوريجين وهي اليوم متوفرة عند الضغط على ماوس الكمبيوتر (الفارة).

ومن الأعراض الأخرى التي يواجهها الغرب في القيام بحق الاحتكار في التصديق على العلم هو أنه يواجه تحدياً قوياً، ومع ذلك وفيما يتعلق بالنقطة (ب) - التي سبق ذكرها - يبدو لي أن الأمور تسير في الإتجاه الآخر نحو المزيد من التغريب في التعليم، وعلى الأقل هذا هو ما يحدث في الهند اليوم. فالجزرة التي تتدلى هو أن المعرفة الهندية من اللغة الإنكليزية تساعد في وظائف مراكز الاتصال، والحكومة الهندية الحالية، التي أصبحت لا يمكن تمييزها عن دمية بيد الولايات المتحدة الأميركية، وإذا نحينا جانبا بعض هذه الرؤى الكابوسية، فإننا نحتفظ بالحجة القديمة نفسها والقائلة بأن اكتساب العلم والتكنولوجيا يتطلب التعليم الغربي - ومن الواضح أن مثال الصين، وإلى حد ما اليابان يمكن المجادلة فيه ذهاباً وإياباً، ولذلك، أرى أنه من المهم جداً أن يكون هناك مثال يوضح أن إزالة التغريب من المعرفة يمكن أن يساعد على اكتساب العلم والتكنولوجيا. وهذا بالتحديد ما يجعل التربية المنقحة للرياضيات ممكنة، وأود أن أبدأ مما قاله رئيس لجنة المعرفة الوطنية الهندية ومستشار رئيس الوزراء المعني بالإبتكار، «أنه لا حاجة إلى أي ابتكار، لجهة تدريس علم المثلثات وحساب التفاضل والتكامل».. وهذا من شأنه أيضاً أن يوفر دليلاً دائماً على مدى السوء الذي يمكن أن تسفر عنه اتخاذ القرارات الحكومية، حتى على أعلى المستويات، في المسائل المتصلة بالعلم والتكنولوجيا.

وقد شرحت التفاصيل في أماكن أخرى، وهنا فقط سوف أبرز التلخيص:

أولاً: فيما يتعلق بعلم المثلثات، وبوصلة المربع الشعائرية المرتبطة بالهندسة الغربية فإنها تحتاج إلى تغيير، ويسمح بقياس الخطوط المنحنية باستخدام شريط

ص: 250

قياس مرن، وهذا يسمح بتعريف وقياس زاوية لطول قوس منحني. علماً أن هذه هي عمليه تجريبية (ربما تخضع للأخطاء ولا تلزم الرياضيات ولا يمكن أن تكون أكثر دقةٍ من الفيزياء).

ثانياً: إن فكرة الحدود والأرقام الحقيقية الرسمية وشروط النظرية المحددة تسقط من حساب التفاضل والتكامل، وكل هذه المفاهيم باتت تشكل عبئاً لا داعي له. ذلك لأنها لا تضيف شيئاً للقيمة العملية أو النظرية لحساب التفاضل والتكامل.

ثالثاً: يستعاض عن الشكليات بفلسفة النزعة الصفرية، وهذه هي الفلسفة العملية التي تعترف بأنه من المستحيل أن يمثل أي شيء (عدد صحيح، شخص...) في عالم يتغير باستمرار. ولذلك، فإنه من الضروري دائماً، في أي تمثيل على الإطلاق، نبذ شيء بوصفه غير ضروري، وبالنسبة لأي تطبيق عملي للرياضيات، فمن المعترف به بالفعل أن التقريب العددي لا مفر منه، فالتصفير يقبل مثل هذا «التقريب» العددي الذي لا مفر منه، فإنه يقبل أن الكيانات (مثل حاصل الفرق، أو شخص) لا يمكن أبداً أن تكون ممثلة بشكل فريد، ويعتبر أنه من الخطأ المعرفي الاعتقاد بأن العمليات الميتافيزيقية، مثل نظرية المجموع تشمل قدراً أكبر من اليقين من العمليات الفيزيائية.

وهذه الخطوات الثلاث ستكون ضربة أساسية لفكرة الرياضيات والميتافيزيقيا، العالمية وهي الفكرة التي كانت محوراً للثقافة الغربية لعدة قرون.

رابعاً: بدلاً من التلاعب بالرموز لابد أن يدرس الطلاب التفاضل والتكامل كما تطور تاريخياً، كوسيلة للحل العددي للمعادلات التفاضلية العادية عملياً (سياسياً هذا من شأنه صنع الارتياح الدائم لحجة ماكولاي عن نيوتن)، وهذا يتيح تعريف أسهل لمجموعة واسعة من الوظائف كحلول للمعادلات التفاضلية العادية، ويؤدي هذا النهج بطبيعة الحال إلى إيجاد حلٍ لطائفة واسعة من المعادلات التفاضلية العادية

ص: 251

غير الخطية التي تنشأ في الممارسة العملية، مما يؤدي إلى التوسع بشكل كبير في نطاق المشاكل العملية التي يمكن للطلاب حلها، وخصوصاً مع المعونة من حزم الكمبيوتر مثل الكود لحل المعادلات التفاضلية العادية.

6- الاستنتاجات

٭ كانت القوة الناعمة بدلاً من القوة الصلبة هي الأساس الرئيسي للإمبريالية الغربية.

٭ تفكيك القوه الناعمة للغرب يتطلب اجراءات تمهيدية وخطوة بخطوة:

أولاً، يحتاج التاريخ الزائف للعلوم المستخدمة للشروع في التعليم الغربي إلى الكشف عنه. (وقد بدأت هذه العملية بالفعل، ولكن من الضروري نشر هذا التعرض وتضخيمه).

ثانياً، رفض الفلسفة السيئة للعلوم المستخدمة للحفاظ على هذا التاريخ الزائف. ولا بد من التشديد على أن فلسفة الرياضيات في الوقت الحاضر ليست عالمية، ولا حتی علمانية. (وقد بدأت عملية تغيير الفلسفة هذه بالفعل، ولكن من الضروري أيضاً، مرة أخرى، نشر هذه البدائل العملية والعلمانية بوصفها من قبيل التصفير).

ثالثاً، الأهم من ذلك هو تفكيك النظام التعليمي الاستعماري، وهو أساس التلقين المذهبي، وذلك بالاعتماد النشط على نماذج بديلة للتربية، ولاسيما في العلوم الصعبة، ويفضل أن تبدأ مع الرياضيات. وينبغي التدليل بوضوح على أن ذلك يؤدي إلى مكسب (بدلاً من الخسارة) من حيث القيمة العملية.

٭ الدورة التي تدوم خمسة أيام حول حساب التفاضل والتكامل بدون حدود توفر هذه التربية البديلة التي تمثل تحسناً ملحوظاً على التربية القائمة لحساب التفاضل والتكامل، في بداية هذا الاتجاه.

ص: 252

وتتمتع المنطقة غير الغربية بميزة نسبية في اعتماد هذا المنهج التربوي، لأن الغرب يجد صعوبة في التخلي عن الحمل اللاهوتي الذي يصاحب التدريس الحالي لحساب التفاضل والتكامل، وهذه العملية يجب أن تمتد إلى فروع أخرى من الرياضيات، وأيضاً إلى الفيزياء والبيولوجيا.

٭ هذا بالإضافة إلى تغيير الأصول التربوية في العلوم الصعبة، ومن الضروري تفكيك صيغة الثقة في الغرب المستخدمة في التصديق على صحة الابتكارات العلمية، لذلك ينبغي أن تكون هذه العملية من خلال تشجيع مستودعات الدخول المفتوحة مثل فيكسرا (viXra)، ولذا ينبغي تعديل القوانين لعدم السماح للناشرين التجاريين في خصخصة نتائج البحوث العلمية الممولة من الجمهور. كما ينبغي الكشف عن الأكاذيب الكامنة وراء نظام التظهيرات الغربية، والحكم على الناتج العلمي بالقيمة العملية الطويلة من أجل الناس عموماً، وليس فقط مجرد الاستشهادات من جانب قراء المجلات العلمية).

ص: 253

الاستظهار الثقافي للاستعمار الاستيطاني

اشارة

دراسة في المسرح الإسرائيلي

أمين دراوشة

أمين دراوشة (1)

الأدب الإسرائيلي بكافة أنواعه، يقدم الشخصية العربية على أساس أنها نقيض للشخصية الإسرائيلية وخصم لها، وبالتالي هي عدوة للمشروع الصهيوني. ومن خلال مطالعتنا للأدب الإسرائيلي، نلاحظ الخلافات والتناقضات التي تتضمنها الساحة السياسية والثقافية، حول الطرق المناسبة للتعامل مع العربي الفلسطيني خلال سنوات الصراع، حيث فشلت الحركة الصهيونية فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفها في جعل الفلسطيني يترك أرضه، ويهرب.

هذا الفشل نابع من صمود الإنسان الفلسطيني على أرضه، ورفضه التخلي عن حقوقه. وهذا الصمود أدى إلى خلخلة الفكر الصهيوني، وجعله يبحث عن حلول للصراع أقل شراسة من تهجير جماعي وطرد الفلسطينيين من أرضهم التاريخية. وقارئ الأدبيات الصهيونية سوف لا يخطئ في الإحساس بأن هذا الصمود في وجه

ص: 254


1- باحث - الأردن.

الجبروت والعنف الاحتلالي هو الذي أثر على الفكر الصهيوني، وجعله يغير أفكاره، باحثاً عن حلٍ يحقق أقل الخسائر بالنسبة له. ويضطر للتعامل مع المشكلة الكبرى، وهي الوجود العربي الفلسطيني الذي لا يمكن تجاهله وإنكاره.

لقد حاول كتّاب الأدب الصهيوني منذ نشوئه نزع الصفات البشرية عن الشخصية العربية الفلسطينية، بعد أن أيقنوا أنه لم ولن يترك أرضه، وسيبقى شوكة في حلق المشروع الصهيوني في سعيه الدؤوب للسيطرة على الإنسان والأرض الفلسطينية.

ولغاية الآن ما زال الأدب الإسرائيلي يصف العربي الفلسطيني بصفات قبيحة في محاولة لتبرير استخدام القسوة والعنف ضده: فالعربي حيوان قاس، ومخرّب ومجرم ولا أخلاق له، ولص، وقاتل، ومتخلف ومريض وغير ذلك.

ويقول الكاتب والناقد اليهودي إيهود بن - عيزر. في مقالة له بعنوان «مقتحمون ومحاصرون: «إن العرب واليهود، كلّ منهما يصوغ الآخر ويجسده بشكل سلبي. والمشكلة العربية أصبحت مشكلة يهودية بالنسبة لنا» (1) .

ولعب المسرح العبري الإسرائيلي دوراً هاماً في تثبيت دعائم الصهيونية في فلسطين، لذا كان الاهتمام كبيرا بإنشاء مسرح عبري في فلسطين يخدم أهداف الحركة الصهيونية؛ «فإذا كان العامل والتاجر يبنيان الاقتصاد، والجندي يحرس الثكنات والمستوطنات، فإن المسرح يعمل على ترسيخ هذا كلّه، وتشييد قاعدة يرتكز عليها» (2) .

لذلك بذلت الحركة الصهيونية كل جهدها، للاعتناء بالمسرح العبري الذي ولد في الاتحاد السوفياتي السابق، ممثلاً بمسرح «هبيما» الذي استقر به المقام في فلسطين في سنة 1928 كما يقول الكاتب الملاح.

ص: 255


1- عمر عبد الغني غرة. «الفكر الصهيوني بين التصور النمطي والتصور الفردي في الأدب العبري الحديث». القدس: منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ط1، 1996م، ص 20.
2- ياسر الملاح. «صفحات مطويات من تاريخ المسرح الفلسطيني». الخليل: جمعية العنقاء الثقافية، ط1، 2002م، ص 65.

كانت فلسطين هي الهدف والمراد منذ البداية، لذلك يقول ناحوم زيماخ الذي أنشأ مسرح «هبيما»: «يجب أن نظهر في جميع البلدان، أمام كل الأمم. يجب أن نبحر في البحور السبعة، ونحقق ما يبدو دائماً صعباً، ونبني جسراً عبر اللجج العميقة لنصل حالا إلى مينائنا الأمين - القدس» (1).

واستمر المسرح العبري في خدمة الصهيونية بعد قيام الدولة، وشكَّلت حرب 1967م بداية لتكشير المشروع الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني عن أنيابه الحادة في فلسطين. وإذا كانت البداية في الاستيطان المحدود الذي يستهدف خلق أغلبية يهودية، فإن الأمر تحول بعد الحرب إلى استيطان طاهر ونقي، قائم على التخلص من الفلسطينيين، وتزعمت حركة «غوش إيمونيم» الأمر، وهي حركة استيطانية عنصرية متطرفة.

ويعود سبب الخلاف بين الأيديولوجي والسياسي الذي وجد في المجتمع الإسرائيلي بعد 1967م حول وضع المناطق الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال «إلى خلاف بين مؤيدي نموذجين مصغرين مختلفين للسياسية الكولونيالية من نموذج الاستيطان الطاهر»(2) . أي الذين يؤيدون نموذج استيطاني محدود وطاهر، وبالتالي هم مستعدون للتنازل عن بعض الأراضي من أجل تكوين مجتمع متجانس إثنيا، وهناك الذين يسعون وراء النموذج الاستيطاني، يطمعون في السيطرة على كامل فلسطين التاريخية، ظانين أن بإمكانهم تهجير المواطنين الفلسطينيين أو السيطرة الكاملة عليهم. نلاحظ هنا أن الخلاف «هو بين من يؤيدون الخصوصية - الحصرية اليهودية، وإن بأصناف مختلفة، لا بين مؤيدي هذه الخصوصية - الحصرية وبين معارضيها جملة وتفصيلاً»(3) .

وانعكس ذلك على الثقافة الإسرائيلية، حيث أصطف الكتاب والأدباء خلف هذين النموذجين، ولكن في النهاية الكل يسعى لخدمة أهداف الصهيونية وغاياتها التي تريد أن تقيم دولة يهودية خالية من العرب الفلسطينيين.

ص: 256


1- المرجع السابق. ص 60.
2- أنطوان شلحت. خداع الذات... المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين. رام الله: منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، ط1، 2007م، ص 5.
3- المرجع السابق. ص 6.

إن اختيار دراسة المسرح الإسرائيلي، لم يكن اعتباطيا، فالمسرح العبري يعكس «بشكل فعال صورة الشخصية العربية ربما أكثر من أي جنس أدبي آخر وداخل إطار الأيديولوجية الصهيونية المسيطرة عموماً على الأدب العبري الحديث» (1) . فالمسرحيات التي تناولت الشخصية العربية الفلسطينية، ترتكز على نصوص سياسية، وتعمل على توظيف الشخصية العربية من زاوية أيديولوجية تعبر عن الفكر الصهيوني، وتوضح مواقفه وأفكاره عن الإنسان العربي.

الشخصية العربية تقدم في بعض المسرحيات، ولكن المؤلف الإسرائيلي لا يعيرها اهتماماً، ولا يناقش قضاياها، فاهتمامه منصّب على مشاكله هو وقضاياه، حيث يمكن القول، كما يقول الكاتب الإسرائيلي دان أوريان «أنه في كل المسرحيات التي يظهر فيها العربي نجده «خاضعا» لمقولة أيديولوجية أو سياسية، تتعامل أحياناً معه ومع مشاكله، وأحياناً أخرى يأتي تقديم العربي كمجرد إشارة فقط في خريطة الوعي الأيديولوجي اليهودي الإسرائيلي»(2) .

ولكن في فترة التسعينيات وما بعدها، انتقل الحديث في المسرحيات من المسألة العربية إلى المسألة الفلسطينية، وكان الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني الرابض على أرضه، حيث القضية الفلسطينية، أصبحت موضوعاً مركزياً في المسرح العبري الإسرائيلي. «وكما هو الحال في العملية النفسية التي تكشف عن الاغتراب تبرز الذخيرة المسرحية... اقتراب اليهودي الإسرائيلي من «الآخر» الفلسطيني، وتكشف أيضاً عن مظاهر الهلع والمخاوف التي اختفت من قبل» (3) .

يتميز إبداع ليفين الذي توفي في العام 1999م بتحليله للنفس الإسرائيلية، ويُظهر قلقها واضطرابها، وشوقها إلى حياة طبيعية بعيداً عن الحروب ومآسيها. بدأ الكتابة في نهاية الستينيات. وفي أعماله ابتكر أداة للنقد السياسي، وجوهر نقده قائم على

ص: 257


1- دان أوريان. «شخصية العربي في المسرح الإسرائيلي». ترجمة محمد أحمد صالح، القاهرة: منشورات المشروع القومي للترجمة، دون تاريخ. ص 4.
2- المرجع السابق. ص 24.
3- المرجع السابق. ص 28-29.

نزع القناع عن وجه المجتمع الإسرائيلي وتعرية الخداع الذاتي، «من منطلق الفرضية الذاهبة إلى إمكان اتخاذ مواقف تفتقر إلى الخداع الذاتي... كما يتمثل في تعرية المعاناة التي يتسبب المجتمع الإسرائيلي فيها من منطلق الفرضية القائلة إنّ في وسع المجتمع - إن أراد - عدم التسبب فيها» (1) . هذا ما ينقله الباحث أنطوان شلحت عن الناقد الإسرائيلي نيسيم كلدرون. كما يورد رأي الباحث دان أوريان، الذي يؤكد أن هناك تحولا مهما حدث منذ أوائل السبعينيات إزاء تناول الشخصية العربية، ومثلت مسرحية «ملكة الحمّام» الساخرة عنوانا لهذا التحول. وفيها يسخر ليفين من الزهو القومي للمجتمع الإسرائيلي، ويسخف تغاضيهم عن الآخر العربي. وفي ذروة الشعور بنشوة النصر في حرب عام 1967م، يهدم ليفين هدوء الجمهور الإسرائيلي، ويقوّض رضاه. وقدم في مسرحيته «ملكة الحمّام» مشهدا يشمل شخصية عربية عبر النظرة الإسرائيلية النمطية لها .

وفي رأي الناقد ميخائيل هندلزلتس، إن أعمال ليفين الاحتجاجية الساخرة، تركت آثارها العميقة في المجتمع، ففي كل مسرحياته شخّص المجتمع ووصفه في أدق تفاصيله، «على ما احتوته تلك التفاصيل من فظاظة وانغلاق وعنف عام وخاص، وكذلك ما اشتملت عليه من جور ونهم وانعدام تسامح ووحشية. فقد كتب عن أشخاص يستمرئون الاستعلاء ويتلذذون بإلحاق الأذى، لكون جبلتهم متشكلة من هذه الطينة، ويعشقون تضليل محاوريهم ومساومتهم من أجل المساومة التي هي بمثابة «مذاق الكينونة» (2).

ومسرحياته تتناول الموضوع نفسه، تركز عليه ونبقى في إطاره، فكل مسرحية من مسرحياته تتسم بالمصاعب والمشاكل عينها، والجو العام الذي يعبر عن الإحباط واليأس وخسران الذات، والفشل في تحقيق الذات.

كما تأثر من خلال دراسته للفلسفة بالفكر الفلسفي لسارتر «حيث النظرة للآخرين

ص: 258


1- أنطوان شلحت. «خداع الذات...!». مرجع سابق. ص 33.
2- المرجع السابق. ص 45.

هي نظرة كونهم مصدر الجحيم، والكراهية المطلقة لكل من يتولى السلطة لأنه يتحول لأداة اضطهاد للآخرين مهما كانت رغبته في الطهر والنقاء»(1) ؛ فشخصياته تتصف وتتميز بالجلاقة والوقاحة والسادية واللامبالاة، وتحطيم المقدس والأسطوري، وهي بلا ريب صفات لا تؤدي إلى سعادة الإنسان ولا الإنسانية.

أما الكاتب تمير غرينبرغ المولود في 1959م، فهو شاعر ومصمم معماري وكاتب مسرحي. ومسرحية «الخليل» التي ألفها أخرجت كعمل مشترك في بداية 2006م بين مسرح الهبيما ومسرح الكاميري. وهو ينتمي إلى جيل الأدباء الإسرائيليين الجديد، الذين يحاولون التخلص من إرث الأدباء الإسرائيليين المؤسسين، نقصد هنا ما أطلق عليه جيل البالماخ وجيل الموجة الجديدة، فإن جيل البالماخ هو الذي سيطر على المشهد الأدبيّ الإسرائيلي حتى الستينيات، وكان له مركز قيمي مشترك، «يؤمن به كلّ المشتركين في العملية الإبداعية الأدبية، ويتحدّثون ويعملون باسمه، أو يقبلونه دون مراجعة» (2). أما جيل الموجة الجديدة فقد تمرّد أفراده على أيديولوجيا الجيل السابق، ومعاييرهم الجمالية، وأخضعوا الصهيونية لكرسيّ المحلل النفسيّ، فبدا أن القائمين بالعملية الإبداعية في حالة عزلة عن بعضهم البعض، على مختلف المستويات الإيديولوجية والاجتماعية والإنسانية، ولم تعد هناك لغة واحدة يتحدّث بها الجميع. كما أنهم لجأوا إلى استخدام مناهج التحليل النفسي في بناء شخصياتهم القصصية، والغوص في العالم الداخلي لأبطالهم الذين يواجهون الشعور بالغربة والواقع المرير.

وقد تميز أدب غرينبرغ بالمزج بين الموضوعات القومية، والمواقف السياسية والاجتماعية. وتنطلق أفكاره المبثوثة فى مسرحيته من فرضية أن حياة اليهوديّ هي حياة غير طبيعية وعصابيّة فاليهودي يعاني من إحساس بالاغتراب وعدم الشعور بالأمن والطمأنينة كونه يتوقع الاعتداء في أي وقت كرد فعل للسلوك الوحشي الإسرائيلي المتواصل ضد المحيطين به، وخاصة الشعب الفلسطيني، «حيث يصبح

ص: 259


1- رشاد الشامي. «تفكيك الصهيونية في الأدب الإسرائيلي». القاهرة: دار الثقافة للنشر، ط1، 2003م، ص 45.
2- المرجع السابق. ص 48.

عدم الشعور بالأمان والخوف من الموت، هما مفتاح شفرة الحياة في إسرائيل» (1) . فهل وجد غرينبرغ حلاً لهذا الصراع النفسي عبر شخصياته المسرحية؟

لا يخبرنا غرينبرغ عن موقفه من هذه الأحداث الدموية في مسرحيته، ويحمل العائلة الفلسطينية الذنب تماما كما يحمله للعائلة الإسرائيلية، ويوقع عليهم نفس العقاب، وعلى الرغم من أنه يعترف بالقتل الممارس ضدّ الفلسطينيين وتدمير بيوتهم وحرق أشجارهم أو قلعها، إلا أنه ينتظر منهم أن يقنعوا ويخضوا، ليجلبوا السكينة والسلام إلى العائلة الفلسطينية، وبذلك ينعم المجتمع الإسرائيلي بالأمن والسلام .

بالنسبة للشخصية العربية - الفلسطيني - والكيفية التي يتعامل بها الإسرائيلي معها، فإنها وثيقة الصلة بتوصيف الإسرائيلي لذاته، بل وتتداخل فيها أيضاً صورة العربي الفلسطينيّ لذاته: إنّ خضر الكنعاني الذي كان رئيساً لبلدية الخليل، والذي طرد من مبنى البلدية وحلّ محله الحاكم العسكري، رضي بالأمر الواقع، ولكن الاحتلال استمر في التضييق عليه وعلى عائلته حتى انفجر الأمر. فالحل كان أن يغادر خضر الكنعاني أرضه مع عائلته، ولكن كون العرب لا يهربون، ولا يغادرون، یسبب مشكلة خطيرة للاستيطان، حيث يقف حجر عثرة أمامه. إنّ وجود العربيّ على أرضه يشكل كابوساً لا فكاك منه في حياة اليهودي.

لا يرى اليهودي ذاته إلا مقابل الآخر الفلسطيني، ويقول الكاتب حاييم بريشيط حول الموضوع: «تُعَرَّف الذات الصهيونية الآن بِ-«الآخر» الفلسطيني، مثل الحدّ الخارجي الذي يحدد الشكل» (2) ، فاليهودي لا يعرف ذاته إلا بمقارنة نفسه بالفلسطيني، والصراع معه والانتصار عليه.

ويضيف بريشط: «وبما أن الصراع العسكريّ والاقتصاديّ والثقافيّ والطبقيّ ضدّ

ص: 260


1- المرجع السابق. ص 209.
2- بریشیط، حاييم. «فلسطين وإسرائيل في الأدب العبري الحديث». (إعداد حسن خضر). في هوية الآخر. القدس/ غزة: علامات سلسلة غير دورية تصدر عن وزارة الثقافة ودار فنون للطباعة والنشر، ص 145-198.

الفلسطينيين يملأ الصورة الإسرائيلية بكل ذرّة من المعنى الذي تتمسك به. كيف يمكن التخلي عنه! ماذا سيحل محله؟» (1) .

إن وجود الفلسطينيّ الخانع والخاضع، هو الورقة الرابحة بيد الصهيونية وبالتالي دولة إسرائيل. لأن وجود الفلسطيني القوي والقادر والمتشبث بأرضه وحقه والمؤمن بهويته العروبية يعني نهاية الحلم الصهيوني، لذا نرى كثيرا من الشخصيات الفلسطينية فى المسرحية، ضعيفة ومهزوزة وضائعة وتحاول أن تجد طريقها دون جدوى، وتعتمد اعتمادا كبيرا على الآخر الإسرائيلي، باستثناء شخصية خليل وزوجته، اللذين قاوما المحتل الغازي ولكنهما دفعا الثمن غالياً لذلك.

يعاني الإسرائيلي من هاجس العربيّ الفلسطيني، ولا يمكن للإسرائيليّ أبداً تعريف هويته إلا مقابل الآخر العربيّ الفلسطينيّ الرابض على أرضه، وسيبقى يساهم في تشكيل الهوية الإسرائيلية، لأنه يعشّش في عقول كلّ الإسرائيليين، فهو كابوس وجوديّ حقا، لا سبيل للخلاص منه إلا بإعطائه حقوقه، وأوّلها حقه في الحياة كإنسان له هويته المميزة، لذا نرى شخصيات المسرحية الإسرائيليين يعانون ويؤرقهم هذا الفلسطيني الذي قتل وسجن وعذب، ولم يهرب أمام الإسرائيلي، بل ما زالت لديه القدرة على حمل السلاح والدفاع عن حياته وأرضه، مذكراً إياهم بأنهم لن ينعموا في الأمان ما لم يستعد حقوقه.

«کتشوب» حانوخ ليفين

يتناول الكاتب في هذه المسرحية، موضوع مباحثات السلام التي تجرى من أجل إيهام الجميع بأن هناك شيئا يجري، فرغم مرور عشرات السنوات ما زال الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين على حاله. وليفين ليس لديه أية أوهام. إن دولته لا يمكن لها تحقيق السلام، ذلك أن الحرب بالنسبة لها تمثل القاعدة لا الاستثناء، لأن إسرائيل لا تعرف الحياة خارج الحرب. ولا تفكير يقودها ولا لغة تملكها إلا لغة الحرب والزهو بالانتصارات، ويُلبسها الشعور بالاكتفاء والإشباع. أما الوعود عند إشعال

ص: 261


1- المرجع السابق.

حرب جديدة، بأنها ستكون الأخيرة فلا قيمة لها. ويقول في «أغنية الحرب الأخيرة»:

«الحرب الأخيرة، الحرب الأخيرة،

لأننا لم نعد قادرين،

إذن حرب أخيرة أخرى بالتأكيد،

والذي يموت فيها - يعرف لماذا مات،

ومن يحيا فيها - يحيا بعدها إلى الأبد،

إذن حرب واحدة أخرى فقط» (1) .

ولكن الشعب صار يملك الخبرة ويخمّن تصرفات حكومته، ويعرف أنها بالتأكيد لن تكون الحرب الأخيرة، ولا حتى قبل الأخيرة، فحروب الدولة أصبحت فعلا روتيناً لا فكاك منه:

«مرة قلنا نحن أيضاً:

حرب واحدة أخرى.

اليوم نحن نعرف بشكل أكيد:

ليست حرباً واحدة.

ليست حرباً واحدة.

ولا حربان،

اليوم نحن نعرف بشكل أكيد،

ليست هناك حرب أخيرة» (2) .

ص: 262


1- ليفين حانوخ. «كتشوب». في: خداع الذات...!. مرجع سابق، ص 89.
2- المصدر السابق. ص 89.

وتستمر حياة الشعب الإسرائيلي من حرب إلى أخرى، ولكن هذا لا يمنعه من الإحساس بالزهو والفخر والاكتفاء.

بلاد رائعة

يزور السياح البلاد الرائعة، يبحثون عن جمال الطبيعة، ولكنهم لا يجدون في هذه الدولة غير الحديث عن الجيش والاستعداد للحرب. في مشهد «بلاد رائعة» يستضيف زوجان إسرائيليان السائح تشيلسي، ويبدي إعجابه بالبلاد الجميلة، تجيبه الزوجة بتواضع: هذا قدرنا، نحن شعب صغير ورائع، «شعب صغير يخرج من بين صفوفه الجيش الأقوى والأكثر صدقية في العالم، الجيش الذي يعرف من أجل ماذا يحارب، ولذا ما من قوة في وسعها الوقوف أمامه. ما العمل، بمنتهى البساطة نحن رائعون وأقوياء» (1) .

السائح يقول وكأنه يفسر كلامه: أنا أقصد شمس بلادكم.

تجيب الزوجة: كلامك صحيح فالشمس تعمل لمصلحتنا، ولكن قوتنا ليس فيها فقط، ففي النهار أو الليل نحن جاهزون ومستعدون للخروج في أي وقت يطلب منا ذلك، فنحن نعرف أننا لن نعود دون نصر، فليس هناك خيار أمامنا سوى النصر، حتمية الوجود سيد تشيلسي تجعل جيشنا رائعاً جداً، «جيش تكمل فيه الجودة البشرية الرائعة النقص الدائم في الكمّ، جيش يسير فيه الضباط قبل الجنود» (2) .

تشلسي يتحدث عن الشمس والضوء وزرقة البحر العميقة، فتحدثه الزوجة عن سلاح البحرية، فيقول بأدب إذا عدنا إلى موضوع المناخ الجميل... وتتدخل الزوجة قبل أن ينهي السائح كلامه بقولها: ولكن، «ماذا لديك ضد جيشنا؟» والزوج في كل المحادثة لا يتدخل إلا ليعيد كلام زوجته ويكرره مراراً حتى تضرب الزوجة على رأسه، فيصمت.

ص: 263


1- المصدر السابق. ص 93.
2- المصدر السابق. ص 93-94.

هذه هي الدولة، تعيش في ظل الحرب، ولا حديث لحكومتها إلّا عن ضرورة الانطلاق لحرب أخيرة، ولا يفكر شعبها بجمال الطبيعة التي وهبها الله للبلاد، وضرورة حلول الأمن والسلام لجميع البشر فيها. بل ينحصر التفكير بالفخر بالجيش الصغير الرائع الذي لا يقهر، وأي تفكير آخر يوقع صاحبهُ بالشبهة، حتى أن زيباتس في مشهد «المناطق» يصرخ بمضيفه: «ليس في وسع الإنسان أن يبول في هذه الدولة دون أن يشتبهوا بأنه سيعيد المناطق؟!» (1) . ويضطر للتبول في سرواله، وعندما يوبخه المضيفان اللذان منعاه من الذهاب إلى الحمام، يقول: آسف، لكن ما تم تحريره من الأرض لن يعاد. وغياب السلام، يجعل الحياة لا تطاق، وليس أكثر من دم ونار ودم.

احتلال مستنير ومخربون

في مشهد «عقوبة إعدام» تتم السخرية من التظاهر بالعدالة الإسرائيلية، ويظهر فيه المخرب العربي «سعيد» يقاد إلى حبل المشنقة، تنتظره صحافية هناك، ويدور بينهما حوار، حول عدالة تنفيذ حكم الإعدام بالمخربين العرب.

تسأله الصحافية عن رأيه بصفته مخربا سيتم إعدامه عن العقوبة، هل هو مع أو ضد. فيجيب: بالتأكيد أنا مع إنزال عقوبة الإعدام بالمخربين، وبصفتي «مخربا قديما ومجربا فإني أسمح لنفسي بالقول إن هذه العقوبة هي الأنسب للمخربين عموماً، وللمخربين أمثالي خصوصاً» (2) . تسعد من إجابته، فيضيف، هذا بفضلكم وفضل عدالتكم.

وعند سؤاله، هل تملك إسرائيل المبررات الأخلاقية لإعدام المخربين، يرد بطريقة هازئة، إنه لديكم ليس المبررات الأخلاقية وحسب، بل إن الواجب الأخلاقي يفرض عليكم ذلك. فهو الحكم الأكثر جدارة وعدلاً على «جماعات مخربين محرضين جبناء فاقدين للمثل السامية مثلنا يمسّون بسكان وديعين ومناصرين للسلام؟ (3) ؛

ص: 264


1- المصدر السابق. ص 102.
2- المصدر السابق. ص 107.
3- المصدر السابق. ص 108.

فحسب وجهة النظر الإسرائيلية، فإن العرب قتلة بالفطرة، جبناء ولا يملكون أي أخلاق، ويعتدون بالعنف على الشعب الأعزل! بل إن العربي المخرب يستشهد بشاعر إسرائيل الأكبر بياليك، ويقول: «إذا كان هناك عدل، فليظهر فوراً»، وتبدي الصحافية إعجابها بالاستشهاد، فيقول لها إن أي واحد كان سيستشهد ببيالك العظيم!

ويتناول المشهد أيضاً، أحد أعمدة نظرية الأمن الإسرائيلي وهو الردع، فالصحافية تتحدث عن مسوغات لتنفيذ الحكم وهو الردع، فيكون رد العربي، بصفته صاحب خبرة في التخريب والقسوة، أنه ولا شك من المسوغات لفرض حكم الإعدام، ويقول بسخرية، لذلك: «أنا نفسي، بعد تنفيذ قرار الحكم، سأرتدع عن ارتكاب أعمال إرهابية إضافية» (1) . وستردع كل المخربين، ويقول: كوني مخرباً مجرباً ومتخلفاً، فإنني أقول وأشهد على نفسي بأنني ما انضممت إلى منظمة تخريبية إلا من أجل أن أسجن في سجونكم الرائعة، فغاية ما أتمنى أن أبقى مستمتعاً في حياتي خلف قضبانكم الحلوة. ويخاطبها: «انظري إلى يديّ ورجليّ - إنها سالمة! وكذلك أظافري وأسناني - إنها سالمة! ... الظهر - إنه مالس! ما من حروق ولا ندوب!» (2) . إن الأمر يؤدي إلى خروج المخرب عن طوره من جمال المعاملة! وتجيب الصحافية: هذا حقا ما يضايقنا، ولكن ما هي رسالتك للشعب الإسرائيلي؟ ويكون الجلاد قد سحب الرافعة، وتدلى جسد العربي، وهو يمدّ لسانه بنعومة للصحافية.

المشهد يثير كثيراً من الموضوعات المسكوت عنها في الأدب الإسرائيلي؛ فالشعور بالعدالة المزعومة، يريح الشعب الإسرائيلي، ويجعله يبدي موافقة على أي شيء تقوم به حكومته العتيدة، حتى لو جردت أفعالها الشعب من إنسانيته. لذا لا ضير في نظر الشعب أن يتم قتل العرب الفلسطينيين بدم بارد، لأنهم في النهاية ليسوا أكثر من جبناء قتلة دون أخلاق سامية! أما قضية تعذيب المساجين وإلقائهم في السجون إلى الأبد، حيث ما زال بعض المساجين الموتى يقضون عقوبتهم، فلا شك في أن المساجين يعيشون أفضل خلف القضبان، من العيش في ظل التخلف والجهل والفقر والمرض!

ص: 265


1- المصدر السابق. ص 109.
2- المصدر السابق. ص 109.

أما رسالة «العربي المخرب الإرهابي الجبان» للشعب الإسرائيلي، فتكون بمدّ لسانه بنعومة حتى بعد موته، وكأنه يسخر من تفكير الإسرائيليين، إنهم بأفعالهم الوحشية، سيردعون صاحب الحق.

هوس الأمن

مراقبون

يتناول المشهد الهوس الأمني المرضي الموجود لدى الإسرائيليين، والخوف الذي يرافقهم أينما كانوا. لذا فالحراس المراقبون ينتشرون في كل زوايا الشوارع بحثا عن المخربين وقنابلهم، فيتم الاشتباه بكل شيء يدب على الأرض.

يحدث المراقب زميله المراقب الآخر، عن اشتباهه في الرجل المار من طرف الشارع الآخر، كونه يرتدي ملابس غريبة، فهو يلبس فستاناً وينتعل حذاء نسائياً، وشعره طويل وتسريحته غريبة، يتوجهان نحوه، ويخاطبه المراقب: يا سيد ممكن هويتك.

تجيب: أنا لست «سيد» أنا «سيدة».

وفي لقطة أخرى، يسمع المراقبان صوت تكتكة، وبعد بحث يكتشف أحدهما أنها صادرة من ساعة يده، ويطالبه زميله برميها، يحاول ولكنه يفشل في نزعها، فيقول له زميله ارم اليد، ويفشل أيضاً في نزعها من كتفه. وفي حل أخير يقول زميله: اجلس عليها! وبكل قوته يرتمي على مرفق يده، وبعد ترقب حذر، ينزع يده بروية من تحت مؤخرته، ويقول بحزن: تكسرت الساعة.

وفي لقطة تدلل على الجنون الأمني، وإلصاق التهم بالعربي أمام أي حدث مضر . يحدث مراقب زميله عن اكتشافه أمس قنبلة ضخمة في دار السينما. غير أن رفيقه يستغرب الأمر، ويسأله عن الكيفية التي عثر بها عليها وهو لا يرى. فيجيب: بأنه سمع دقاتها الموقوتة، ويبدي الزميل استهجانه، ويقول: ولكنك لا تسمع. فيرد: لقد مشيت حتى صادفت القنبلة.

وهنا يصيح المراقب المندهش: كيف؟ وأنت لا تمشي.

ص: 266

فيقول: طيب إذا لم تكن قنبلة، كيف طارت البناية؟

زرعت الحكومة الخوف والرعب في نفوس الإسرائيليين، حتى باتوا يظنون أي مفرقعة قنبلة وضعها المخربون العرب. وهذا ولا ريب يسهّل للحكومة الإسرائيلية السير في مخططاتها في جعل الشعب في فزع دائم، وتبرير الحروب المقبلة التي لا شيء يوقفها، ما دام الشعب صامتا ويبدي إعجابه بعدالة دولته، ويشعر بالاكتفاء والرضا مما يجري لشعب كامل يرزح تحت احتلالهم البشع والقاسي.

محادثات السلام في الشرق الأوسط

تتضمن مشاهد محادثات السلام ثلاثة شخصيات: محمود رياض العربي، وإيما إيبان الإسرائيلية، والوسيط السويدي جونار يارينغ. تبدأ جولات المحادثات بلقاء تمهيدي عبثي، بحيث لا يفهم الواحد من الآخر شيئا، وفي الجولة الثانية، يشترط رياض قبل البدء بالمفاوضات الانسحاب من كل المناطق المحتلة، ولكن إيبان تجيبه: أنه لا يمكن تقرير مصير المناطق إلا بالمفاوضات، وعندما يصر المفاوض العربي، تقول له: لا بد من توضيح المقصود بالمناطق، وهذا لا يتم إلا عبر المفاوضات.

يطلب جونار القهوة، ويطالب رياض أن تدفع إيبان فالمنتصر هو الذي يجب أن يدفع، ويطلب جونار ثلاثة قهوة وعجلا في الفرن، هذا الأمر يغضب إيما، فتقول بحدة: «عندما أعزم أنا يكون عجلاً، وعندما يعزم هو نصبح نباتيين» (1) . يتم التنازل من قبل رياض إلى دجاج، قائلاً إن ذلك لا يهمه ما زال متمسكاً بمبادئه.

وفي النهاية يكتفي الوسيط بالقهوة مع كعكة، إلا أن إيما ترفض مجدداً، وتقول: كعكعة في ق... ويصرخ جونار في قفاي، ويدور جدال عقيم بين الطرفين كل يريد أن يضع الآخر في قفاه. وتنتهي الجولة بصفارة من الوسيط الذي شعر بالإهانة لأنهما تجاهلاه.

تكشف الجولة عن تعنت الإسرائيلي، ورفضه التنازل عن أي شبر من الأرض المحتلة، ورغبته في استمرار المفاوضات إلى ما لا نهاية.

ص: 267


1- المصدر السابق. ص 97.

الجولة الثالثة يظهر فيها جونار وهو يشعر بالضجر واللامبالاة، ويفتتحها بالقول:

جلسة 671 إلخ، بند أ لا بند ب إلخ ...

المفاوضان يعلنان وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وجونار يعلن أنه سويدي، ولا يعرف شيئا عن نزاع الشرق الأوسط، وأن السويد لديها نزاعاتها أيضاً مع النرويج، وفي نهاية الجلسة، يصرخ جونار: تحيا السويد المحرّرة! تحيا السويد الكاملة. ويغسل يديه من النزاع وهو ممثل الأمم المتحدة.

في الجولة الرابعة، يظهر المفاوضان في حالة انسجام تام، ويعبران عن الرغبة في السلام والتنازل عن أي شيء في مقابل السلام، وتدور المحادثات بينهما ودية، وبطريقة استهزائية بعيدا عن تدخل الوسيط.

«رياض: نحن على استعداد للتوقيع على السلام حتى دون استرجاع المناطق.

إيبان: نحن نريد أن نعيد لكم المناطق.

رياض: شكراً، لا داعي.

إيبان: خذوا القدس على الأقل.

رياض: حاشا وكلا، القدس مقدسة لكم.

إيبان: إنها مقدسة لكم أيضاً.

رياض: كلا، كنا نمزح.

إيبان: ونحن أيضاً. ولذا فسنعطيكم النقب أيضاً كبادرة تعويض» (1) .

يستمر النقاش بهذه الطريقة، ويحس الوسيط بأن وجوده لا داعي له، فيحاول إثبات وجوده. قائلاً إنه لا يريد إثارة الفتنة، ولكن الأمر لا يعجبه، ويقول لرياض: لا تنس أن لديك قضية مع الإمبريالية، ولإيبان، أنا لا أفهمك، هل نسيت مشاكلكم مع التغلغل السوفياتي في الدول العربية؟

ص: 268


1- المصدر السابق. ص 112.

وفي فقرة غريبة، يحرض جونار إيبان على العرب، قائلاً: «كيف أمكنك تصديقهم؟ هل نسيت طباع العرب؟ أنهم أمة كذابين بالفطرة. أنا أعرفهم ليس من الآن. (الرياض) ليس عندي أي موقف شخصي، يا محمود. (لإيبان) إنه كذاب، مخادع لم تخلق الحياة مثله!» (1) . ويضيف لن اسمح لكما بتدمير جهد سنوات طويلة من المفاوضات.

في الجولة الأخيرة، يتواجد جونار في المقهى، ويحدث نفسه بكلمات غير منظمة، نفهم منها أنه ملَّ المفاوضات والسفر خلفها من نيويورك إلى جنيف... نيقوسيا وباريس وجبل طارق وموناكو وهاواي والقدس وطوكيو وريو. ويفكر بالهروب إلى ریو كملاذ آمن، فقد أصيب بالهذيان وأصبح يظن نفسه نازياً وفاراً إلى ريو، قائلاً: «منذ الآن سأبدأ بالعيش. مختبئا من جهاز الأمن الإسرائيلي، وأشعر بخوف قليل، فأنا أكره اليهود، أكره العرب، أكره الصينيين، أكره الزنوج، أنا لا سامي، عنصري، فاشيّ، نازيّ... تباً للشرق الأوسط، أفريقيا، آسيا. أريد أن أعيش حياتي. أريد أن أكون إنساناً! » (2) .

يتفق رياض وإيبان على أنه أصيب بالجنون، وينويان الاتصال برئيس الأمم المتحدة أوثانت، يصرخ جونار: «كلهم يختبئون كما لو أنهم نازيون!» (3) .

إذن الكل يختبئ، هاربا من الضغوط الممارسة عليه. وكأن الحديث يدور عن قوة اليهود في إجبار الدول والشخصيات الهامة في العالم على السير في طريق مرسومة كما يشتهي ويرغب اليهود، وإلا فإن الشخص أو الزعيم سيطارد بتهمة معاداة السامية.

يتوصل الكاتب إلى خلاصه الشخصي، بعد أن أيقن أن النزاع لا يمكن حله، وسيبقى إلى أبد الآبدين، يقول في أغنية «لا أفي بوعود منحها الرب لأبراهام»:

«لم أحلم أبداً بالخليل ولست قلقاً على نابلس،

ص: 269


1- المصدر السابق. ص 114.
2- المصدر السابق. ص 121.
3- المصدر السابق. ص 121.

ما يقلقني هو أن أعبر الحياة سالماً،

لأنني لست الرمل الذي على شاطئ البحر،

وأنا لا أفي بوعود منحها الرب لأبراهام.

بيتي ليس على النيل وزوجتي لا تجلس على الفرات،

وقد انشددت جيداً كل صباح بين المطلة وإيلات أيضاً،

لأنني لست الرمل الذي على شاطئ البحر،

وأنا لا أفي بوعود منحها الرب لأبراهام» (1) .

في النهاية، تبدي الشخصية في الأغنية رغبتها في العيش بسلام، والتمتع بالحياة، بعيدا عن الوعود التي أعطاها الرب لإبراهيم، والتي لم تجلب غير الحرب والموت والدمار.

«الخليل»

تمير غرينبرغ

تدور المسرحية حول الاحتلال والاستيطان في الأراضي منذ العام 1967م، وذلك من خلال الصراع بين عائلتين، إحداهما فلسطينية والأخرى يهودية مستوطنة في مدينة الخليل.

تتكون العائلة الفلسطينية من الجد خضر الكنعاني، الذي كان رئيساً لبلدية الخليل، قبل الاحتلال، يعاني من الفقر والمشاكل، بسبب الإجراءات التعسفية بحقه وحق عائلته الممتدة. وظهر في المسرحية كشخصية مسالمة، ومستسلمة لقدرها، وقانعة بوضعها المأساوي. أما زوجته سمر، فقد ظهرت كشخصية قانعة هي الأخرى، ولكنها تتحول إلى الفعل المقاوم، عندما تضرب يد الاحتلال عائلتها بقوة، فتظهر شخصيتها النقيضة، ونراها تمسك سكيناً وتحاول طعن الحاكم العسكري، في

ص: 270


1- المصدر السابق. ص 103.

محاولة أخيرة لمنعه من هدم بيت العائلة، وقلع زيتوناتها. وهناك مهدي الابن البكر لخضر وسمر، الذي يعاني من مرض عقلي، يجعله طفلاً بجسد رجل.

وتتكون العائلة أيضاً من خليل وزوجته رانية، وهما يمثلان الجيل الفلسطيني الشاب الرافض للاحتلال ومستوطنيه، الذي يظهر خليل مصمما على انتزاع حقوقه رغم جسامة التضحيات، حيث يفقد طفله الصغير نعيم في خضم الصراع المحتدم.

كما تضم المسرحية شخصيات عربية أخرى: فهناك الطفل الفلسطيني المشرّد، الذي لا يملك عائلة، ويقيم على الحاجز في محاولة لكسب رزقه، عن طريق تأجير نفسه لأي سيارة فلسطينية تحاول العبور، لأن هناك شرطًا يحتِّم على السيارة المارة أن يتواجد فيها طفل؛ والتاجر أحمد الذي يرتكز عمله على انتظار هدم قوات الاحتلال لبيوت الفلسطينيين، من أجل شراء حجارتها الأصلية وبيعها لليهود، والمستعد دائماً للقيام بأي شيء مقابل الحصول على المال.

أما العائلة الإسرائيلية، فتتكون من الأب بوعز ميمون الحاكم العسكري لمدنية الخليل، وزوجته راحيلي وأبنائهما إليئاف وإيالاه والصغير يوتام.

يتصف بوعز بالجبروت والقوة، متسلحاً بمنصبه والقوات التي تحت أمره. يتعرّض لمحاولة اغتيال من قبل خليل، ويقتل فيها طفله يوتام، ويبحث وعائلته عن الانتقام، ليس من عائلة الكنعاني وحسب، ولكن من المدينة بكاملها.

بدت شخصية زوجته راحيلي متناقضة، فمرة هي قوية وتسعى وراء الثأر والانتقام، وتعبر عن أحقية اليهود بأرض الخليل، ومرة أخرى تشكك بكل شيء وتفقد إيمانها بالله وتشكك بجدوى وجودها وعائلتها على أرض الخليل التي تشهد صراعاً دامياً.

أما ابنها إليئاف، فهو شاب يافع، يتصف بالكره الشديد للفلسطينيين، وينظر إليهم على أنهم قطيع من القتلة والمجرمين، وأنه يجب التخلص منهم صغيراً وكبيراً لأنهم يشكلون خطرا على اليهود. لذا نراه مدججاً بالسلاح وعلى أهبة الاستعداد لتنفيذ ما يؤمن به.

ص: 271

أما الفتاة الصغيرة إيالاه، البالغة من العمر الثانية عشرة، فتظهر في البداية وقد انحازت لعائلتها في حقدها على الشعب الفلسطيني، وتطلق على الفلسطينيين الصفات النمطية التي نشأت على سماعها، ولكنها عندما تلتقي بمهدي، تتغير نظرتها إليهم، وتحاول وإياه بناء عالم خيالي، خالٍ من الصراع والدم.

كما تحتوي المسرحية على مجموعة من الشخصيات التي لعبت دوراً مهماً، كالجندي شموئيلي، الذي يخدم على الحاجز العسكري ويمنع الفلسطينيين من التنقل لأتفه الأسباب، حيث ينفذ الأوامر بصورة عمياء، ويتساءل دوماً، عن الأسباب الكامنة وراء وجود الحاجز العسكري، والفائدة المرجوة منه، وبالتالي يشكك بسبب وجوده نفسه على أرض مدينة الخليل. وهناك شخصية مساعد الحاكم العسكري رونين، الذي يتصف بالعنف والشراسة.

بنية المسرحية

بناء المسرحية كلاسيكي، فهو يرتكز على فصول ومشاهد، وحركات داخلية لإشعال الصراع، والخاتمة التراجيدية، التي تظهر تأثر الكاتب بنهايات شكسبير المأساوية. وأضاف المؤلف شخصيات تمثل الطبيعة، ويبدأ مسرحيته باستهلال، تتحدث فيه (أشجار زيتون، يوم ربيعي دافئ، الأم الأرض).

يعلن يوم ربيعي دافئ عن قدومه إلى مدينة الخليل، بأن يطيّر فراشات فوقها ويعطّر الأزقة، ويسأل أشجار الزيتون، لم تصمتون؟ لم لا تفرحون لرؤيتي؟

ولا يفرح لقدومه سوى شجرة زيتون صغيرة، قائلة: كم انتظرت عودتك... زيتوناتي تتراقص شبقاً لكي تقطف.

هنا تتدخل الأم الأرض بغضب طالبة من يوم ربيعي دافئ المغادرة، لأنه سيحل محله يوم شتائيّ غائم. وتقول إن الله خلقها لنكون مرعى للحياة، تنبت حقول القمح، وخلقت لتكون سريرا للعشاق، ووسادة تتوسدها أحلام الشعراء.

ص: 272

ولكن منذ شهرين، والأم الأرض لا عمل لها سوى احتضان الأموات، إذ «يحضرون إليّ أمواتاً لم تقبّل شفاهم امرأة، وآخرين فغرت في صدورهم ثقوب سوداء ويحضرون إليّ أمواتاً عيونهم ثاقبة، وآخرين يقبضون على المسدس أنا أقوم بواجبي. هذه سنة الحياة» (1) .

ويبتسم يوم ربيعي دافئ ويقول: إن ترابك بحاجة ليد لطيفة وحنونة، اعتمدي عليّ أيتها العجوز، فقبل نهاية النهار سأجعلك تشعرين بأنك جميلة وشابة.

ويحتد يوم ربيعي دافئ، ويقول: إن سكان الخليل سيفرحون لرؤيتي، وإنك أيتها الأم الأرض، تحسدينني لكوني جميلاً.

وترد الأم الأرض: يا مغفل، ألا تفهم؟ اذهب، ارحل، انصرف، فعندما نلتقي ثانية، ستغرق في الدموع، كونك لا تصغي إليّ.

ويخرجون، ليبدأ المشهد الأول من الفصل الأول.

تأثير الآخر الفلسطيني على الأنا الإسرائيلي

بوعز ميمون هو الحاكم العسكري لمدينة الخليل. يطلق الشاب الفلسطيني خليل النار عليه محاولاً اغتياله، فيصيب طفله الصغير يوتام ابن الثلاثة أعوام ويقتله؟ ترفض راحيلي زوجته تصديق أنه مات. بوعز يتصف بالقوة والسلطة ويقول لها: وبدافع العادة، طلبت بأن تصدر الأوامر لكي تتحرّك جميع الوحدات بأن ينتشروا ويتمرسوا ويهاجموا... «بأوامر مني ستبنى وتهدم بيوت، وبأوامر مني سيتحرك آلاف الرجال والسيارات. ولكن ما فائدة هذه القوة إذا انتهت حياة الولد بين يديّ؟» (2) .

نستشف من هذه الأقوال أن أي حدث كاف لجعل الحاكم العسكري يستخدم كل القوة والعنف التي بحوزته لتأديب سكان الخليل الفلسطينيين حتى إن الأمر أصبح عادة. ويعود لرشده، متسائلاً بحيرة وألم عن فائدة الجبروت إذا لم يحمه ويحمي طفله.

ص: 273


1- غرينبرغ، تمير (2007م). مسرحية «الخليل». ترجمة سلمان ناطور، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، ط 1. ص 14.
2- المصدر السابق. ص 28-29.

بوعز رجل متدين، ويطالب زوجته بدفن الطفل لأن التأخير فى الدفن «خطيئة لا تغتفر» (1) . ويذهب على رأس فرقة كبيرة من الجنود إلى بيت أبو مهدي الكنعاني، وعندما يصل يطالب أبو مهدي بتسليم ابنه خليل ويهدده قائلاً: «وإن كان عليّ أن أهدم المدينة فإنني مصرّ على إلقاء القبض على المجرم » (2). هنا يحدثنا المؤلف عن العقاب الجماعي بكافة تجلياته وقسوته.

وعندما يفتش بوعز البيت لا يعثر على أي دليل لوجود خليل فيه. ويأتي أخوه الأكبر مهدي المريض عقلياً وعليه بقع دم أخيه، فيقرر بوعز اعتقاله على أمل أن يحصل منه على معلومات تدله على مكان اختباء خليل.

ويصدر الأوامر بهدم بيت أبو مهدي وقلع الأشجار المثمرة أمام بيته، ويقول لنائبه رونين: أنا لا أصدر الأوامر بدافع الانتقام بل هو القانون إذ يجب هدم بيوت المخربين للردع. وعندما يعترض أبو مهدي بأن البيت له، وليس لابنه، يجيبه بوعز: الأنظمة واضحة. المنزل الذي يسكنه مجرم يدمر.

وترتمي سمر عند قدمي بوعز قائلة له: «ابنك قتل حفيدنا وابننا المريض تعرض للتعذيب والكبير متوقع أن يعتقل مدى الحياة... ألم ندفع الثمن غاليا» (3) . يجيبها بوعز ابني مهمل ولم يقصد قتل أحد. ويكمل حديثه محملاً الشعب الفلسطيني والعائلة الفلسطينية، لا الاحتلال، ما يجري كحالة عنف قائمة، فالعائلة الفلسطينية لم تردع ابنها، ولو فعلت لما حدث كل ذلك.

هنا يتذكر خضر وسمر عرسهما وأحلى أيامهما التي قضياها في هذا البيت، وتطالب سمر الحاكم العسكري بأخذ غرامة، أو سجنهم، مقابل عدم قلع أشجار الزيتون، وهدم البيت، ولكنه يجيب بازدراء: هذا ليس انتقاما. يجب القيام بخطوات

ص: 274


1- المصدر السابق. ص 32.
2- المصدر السابق. ص 41.
3- المصدر السابق. ص 88.

قاسية حتى لا يموت الناس. فإذا «عرف كل مجرم أن كل نقطة دم تسفك من يهودي سوف يدفع أهله وأبناؤه ثمنها، فسيفكر مرتين قبل أن يحمل مسدساً» (1) .

ترفض رانية زوجة خليل دفن طفلها، ويثور المواطنون الفلسطينيون دفاعاً عن الحياة، ويقتل عدد منهم ويصاب آخر. ويحاول الحاكم العسكري أن يظهر بمظهر إنساني، وهو يعبر عن أسفه لأبي مهدي لقتل زوجته، وهدم بيته وتشريده، وعدم اتخاذه إجراء رادعا بحق رانية لأنها فقدت طفلها على يد ابنه. ويقول بوعز لعائلته، إنه هدم بيت أبو مهدي، ودمر الكرم، وأنه أضطر لقتل أم مهدي، لأنها شكلت خطراً على حياته، بعد أن حاولت طعنه بسكين، و «كل الشهود رأوا ذلك، وهذا ما سيقولونه في إفاداتهم أمام اللجنة» (2) .

يحاول بوعز، تذكيرنا أن لديهم أنظمة وقوانين، وإنه عند قتل المدنيين، يتم تشكيل لجان تحقيق في الموضوع. ولا أحد يعرف سر أبيه إلا ابنه إليئاف الذي يضحك عندما يخبره أبوه بحادثة قتل أم مهدي، ويقول له: «يا أبي! قل للجنة ما شئت أن تقول، بيني وبينك، أنت قتلتها انتقاماً» (3) .

وعندما تحدث انتفاضة الفلسطينيين في الخليل، يأمر بوعز بفرض حظر تجوال حتى على اليهود، وهنا يتدخل الحاخام يوئيل كوهين شقيق راحيل الأصغر، ويقول بذهول: منع تجوال على اليهود ؟ هذا الأمر لم يحدث مطلقاً.

وفي الأثناء يأتي التاجر الفلسطيني، ليبلغ عن مكان خليل مقابل المال وتسهيلات لعبور الحواجز. ويهاجم بوعز البيت الذي يختبئ فيه خليل، ويجري اشتباك كبير، ويسقط قتلى وجرحى من الجميع، ويتمكن خليل من النجاة. ويسقط إليئاف قتيلاً بيد خليل. ويخبرنا الحاخام يوئيل، عن قوة وصلابة بوعز عندما وارى ولده الثرى، مخاطباً راحيل: «زوجك! أية قوة منحها الله لهذا الرجل؟ لقد صلى بصوت نقيّ

ص: 275


1- المصدر السابق. ص 90.
2- المصدر السابق. ص 96.
3- المصدر السابق. ص 97.

وجهوريّ اخترق السماء» (1) . ولكن الحقيقية أن بوعز يصاب بالإحباط واليأس، ويرجع إلى بيته محطماً، ويخبر الجميع أنه مرهق ومتعب.

وفي الخليل انتشرت الجثث، فالفلسطينيون يرفضون دفن قتلاهم، فانتشرت الأمراض، والجرذان ملأت المدينة، ودخلت البيوت والمستشفيات والمدارس. ويقول الحاخام يويئل: يا بوعز! إن أعمدة الدولة تهتزّ، فيصرخ بوعز بأعلى صوته: لا، مؤسسات الدولة متينة، فأنا المسؤول. ويترنح ويتهاوى، ويقول لرونين أن يصمت، ويضيف: أنا تعب ومرهق. ويخلع الرتب العسكرية، ويعلّقها على كتفي رونين، ويردد: أنا ذاهب إلى النوم. ثم يخلع قميصه.

يخبره رونين قائلاً: نحن نحتاجك أيها القائد. ويرد الحاكم العسكري: «لم أقرر مصائر، ولن أختار بدائل، سأستلقي على السرير وأخلع حذائي وأنام» (2) .

يضجر بوعز من كل شيء، ويشعر بأن الحياة أخذته إلى حيث لا يشتهي، ويبدأ بالاستسلام لها. ويتكلم رونين عن الجنود القتلى والمرضى، الذين فشل الأطباء في علاجهم. لا يسمع بوعز شيئاً مما يقال، يخلع نعليه ويتمدّد على الأرض، قائلاً: «نعم، سوف أدع التعب ينتشر في الدم كالمخدر، وعندها رويدا، رويدا، سأغمض عينيّ، وانتظر اللحظة الطيبة» (3) .

يناديه رونين، وبوعز ما زال يتحدث: «أنا غارق في السرير

وفي أوهام العالم بكلّ ما فيه من غباء وعذاب

الضجيج الذي لا يتوقف أبدا

کله يتغلغل في الوسادة

ص: 276


1- المصدر السابق. ص 133.
2- المصدر السابق. ص 135.
3- المصدر السابق. ص 136.

وعندها سيسقط الجسد

وسيتبدد في الظلمة كلّ ما تصورت أنه بالغ الأهمية» (1) .

يطالب رونين باستدعاء قوات إضافية إلى المدينة، لكن بوعز يخاطب زوجته: اجمعي ثيابنا وألقي بها في النار فهذا أفضل.

يطالب الحاكم العسكري بتدمير الماضي القاسي والكئيب، ويحاول مع راحيلي حرقه، لأنه عرف بعد فوات الأوان أن حياته السابقة لم تكن ذات قيمة حقيقية، ولم تجلب عليه سوى الأسى والألم، فالفلسطيني يرفض أن يغادر، ورغم كل المآسي التي حلت به ما زال قادرا على المقاومة.

ويستمر رونين بالمناداة: أيها القائد. ويجيب بوعز: أنت تشوش تفكيري. وهنا تتدخل راحيلي لتفهم رونين، ما لم يستطع استيعابه، وتقول له: إن كل شيء انتهى، ولم يعد بوعز قائدك بعد الآن. فقد تخلى عن كل شيء يربطه بالجيش وجبروته وقسوته وعنفه، الذي لم يجلب له الحماية بل الحسرة والموت لأولاده.

اللقاء الإسرائيلي الفلسطيني

وفق النظرة الإسرائيلية

مهدي هو الابن البكر لخضر الكنعاني، يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً، ويعاني من تخلف عقلي، يحب أن يعزف على الشبابة، يساعد أخاه خليل على الاختباء، وعندما يرى الحاكم العسكري الدم على ملابسه، يحاول استدراجه ليخبره عن مكان خليل، وعندما يفشل في ذلك يعتقله، ويعرضه لتعذيب قاس، ولكن يفشل في إجباره في إعطائه المعلومات التي يرغب فيها. وبعد فقدان الأمل به يوضع في الجيب العسكري ويلقى أمام بيته وهو يعاني من جروح وكدمات.

أما أيالاه ابنة بوعز وراحيلي، فتبلغ الثانية عشرة من العمر، وتتعرض لموقف حرج

ص: 277


1- المصدر السابق. ص 136.

وصعب، عندما تكون برفقة والدها وأخوتها في نزهة، فيطلق خليل النار على والدها الحاكم العسكري في محاولة لاغتياله، ولكنه يصيب الطفل الصغير يوتام ويرديه قتيلا. وعندما ترى أمها بقعة دم على فستانها، تتهرب أيالاه، وتقول: «هذا ليس دمي، قال أبي إننا سنخرج في يوم ربيعيّ جميل لتناول الطعام ولكنني رأيت قلبه ينبض مثل فم صغير يطلق القبلات، الآن أريد أن أنام» (1).

وتلتقي مع مهدي بتدخل مباشر من الطبيعة ممثلة بيوم «ربيعي دافئ». الذي طار فرحا لسماعه أيالاه تغني وتعزف على القيثارة، وتمنى أن يأتي فتى، فجاء مهدي وهو يعزف على الناي وينسجم العزف مع عزف أيالاه.

ويقول «يوم ربيعي دافئ» له: «تعال لا تخجل! لمثلكما أنا خلقت»؛ ولكن أيالاه، تغضب وتقول لمهدي: «انصرف! هذه الأرض لنا. أرض آبائنا إبراهيم وأسحاق ويعقوب مدفونون هنا في المغارة» (2) .

ويخاف مهدي ويبتعد، ولكن «يوم ربيعي دافئ» يتدخل ويطلب منه البقاء والعزف. وتسأل أيالاه مهدي: هل ستؤذيني؟ وتضيف: أنا لا أخافك. قال أبي إنك متخلّف عقلیّاً.

ويتحاوران حول نعيم ويوتام، ويطالب مهدي أيالاه أن ترافقه للبحث عن نعيم، فترفض قائلة: لا استطيع الذهاب معك، فأنت عربي! ثم تراضيه، وتطالب أن يعزفا أغنية معا، وتضيف: لا أقول نعم أو لا سأفكر. هيا نعزف معاً.

ونلاحظ هنا النظرة التي تنظر بها الطفلة أيالاه إلى مهدي، فهي تعتبره عدواً وسارقاً لأرض أجدادها، وهي نشأت على أن العرب مجرمون وقتلة، لذا لا تستطيع الذهاب معه. ولكن عندما تخسر الجميع، تفرح لرؤية مهدي قادماً إليها، وتقول: «يا مهدي، كم هو رائع أنك جئت. الجرذان في كلّ مكان. أبي لم يعد وأمي اختفت. عمتي ليئاه هنا وهي مريضة» (3).

ص: 278


1- المصدر السابق. ص 21.
2- المصدر السابق. ص 78.
3- المصدر السابق. ص 141.

ويتحادثان بود، ويطلب منها مهدي أن ترافقه للبحث عن يوتام ونعيم، فتطمئنه أنهما بخير، ففي مكان وجودهما «كل البيوت مدهونة بالأبيض.. والأولاد يلعبون في الشوارع حتى وقت متأخر من الليل ولا يخافون الرصاص والقنابل» (1) .

وكأنها لم تعرف إلا حياة ليس فيها غير الرصاص، وكذلك مهدي الذي يندهش من حديثها، فتضيف: «ولا يوجد هناك جنود، ولا حتى مرافقون إلى المدرسة وفي أيام السبت يسبحون بين الأمواج. هناك يستطيع كل من يريد أن يكون مغنيّاً» (2) .

يبتسم مهدي ويقول : هيّا نذهب إلى هناك، فتخبره أن المكان بعيد وناء، فيقترح أن يحملها على كتفه. وفي هذه اللحظات يأتي خليل مصاباً ترافقه رانية بعد أن قتل بوعز، وكان قد نذر أن يقتل جميع عائلة بوعز بسبب فقدانه والديه وابنه، وعندما يتقدم من أيالاه شاهراً خنجره، يمنعه مهدي، قائلاً: «أنا أحرسها وهي تحرسني» (3) . يهوي خليل على الأرض ميتاً، ويختفي مهدي وأيالاه في الظلام.

وعلى الحاجز العسكري يلتقيان: الطفل الفلسطيني المشرد، ذو العشرة أعوام، الذي يؤجر نفسه لأي شخص يريد عبور الحاجز، فالقوانين تنص على وجود طفل في السيارة للسماح لها بعبور الحاجز العسكري. وهذا الطفل الفلسطيني دون جذور، إذ لا عائلة له، ولا نعرف ماذا جرى لها. وهو طفل ذكي، استطاع الحصول على تعاطف الجندي شموئيلي، الذي قال له عندما عرف أنه بلا مكان يذهب إليه، وأنه بلا عائلة ينام وسطها: «ولد في جيلك، حوّل، كان عليه أن يطوي الدفتر، ويقبّل أمه ويقول لها تصبحين على خير، ويلبس ملابس النوم وينصرف للنوم، حوّل!»(4) .

ويحيلنا هذا الكلام، إلى ما جرى لعائلته، ومن تسبب بالكارثة لهذا الصبي. ويرد

ص: 279


1- المصدر السابق. ص 142.
2- المصدر السابق. ص 142.
3- المصدر السابق. ص 144.
4- المصدر السابق. ص 108.

الصبي بجرأة على شموئيلي: «شاب في جيلك، حوّل، كان يجب أن يتواجد الآن في السينما مع صاحبته، يعانقها بقوة ويخطط كيف يأخذها معه إلى شقّته، حوّل» (1).

يحدثنا الكاتب هنا، عن تأثير الصراع، وكيف أدى إلى المعاناة والألم والعيش القاسي، ولكنه لا يبين لنا من الجلاد ومن الضحية، فيضعهما في سلة واحدة.

وعندما ترى أيالاه الصبي الفلسطيني، تطالبه بأن يرافقهما، وعندما يسأل إلى أين؟ يجيب مهدي، إلى المكان الذي يعيش فيه نعيم ويوتام يدا بيد، وتتدخل أيالاه قائلة: «إلى حيث يلعب الأولاد في الشوارع حتى ساعة متأخرة من الليل، ولا يخافون

الرصاص والقنابل» (2).

ويبقى مهدي وأيالاه يتحاوران.

«مهدي: وهناك لا يوجد جنود بالمرة.

أيالاه: ولا مرافقون إلى المدرسة.

مهدي: وفي أيام الجمعة ينظّمون الحفلات يرقصون هناك طوال الليل، وفي يوم السبت يسبحون في البحر» (3) .

عندها يقول الصبي الفلسطيني، إذن سأرافقكما.

ويركبون جميعهم العربية، وتتحرك، والأولاد يعزفون.

اللقاء الذي تم بنجاح بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كان عن طريق الطفلة الجميلة والحزينة على خسارتها عائلتها، والرجل الفلسطيني المتخلف عقليا، والذي لا يدري ما يدور حوله، والصبي الفلسطيني الذي لا عائلة له، ولا يدري ما جرى لها. لذا من السهل على مهدي والطفل الفلسطيني أن ينسيا الماضي،

ص: 280


1- المصدر السابق. ص 108.
2- المصدر السابق. ص 148.
3- المصدر السابق. ص 149.

وما أرتكبه الإسرائيلي بحقهم وحق عائلاتهم، من أجل بناء مستقبل مشكوك في إمكانية أن يلتقي فيه الفلسطيني والإسرائيلي، حيث الإسرائيلي يرفض الاعتراف بجرائمه البشعة ضد الشعب الفلسطيني، ويأبى تحمل المسؤولية الأخلاقية عن الدمار الذي أحدثه في حياة الفلسطيني التي كانت وادعة وجميلة قبل قدوم الصهيونية، التي حاولت التخلص من الشعب الفلسطيني بكل الطرق العنيفة وغير الإنسانية.

مسرحية «الخليل»، وإن أظهرت بعض الشخصيات الفلسطينية كبشر يتألمون ويحزنون، ويملكون أحلامهم وذكرياتهم، وإن كانت تتقدم على غيرها في الأدب الإسرائيلي في الحديث عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، إلا أنها ما زالت تضع الجلاد والضحية في مرتبة واحدة، وتحملهما الإثنين مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في مدينة الخليل، والتي أخذت كنموذج للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وهي لا تقدم حلولاً منطقية للصراع وتكتفي بنقد الواقع من وجهة النظر الإسرائيلية.

ص: 281

المصادر والمراجع:

1- بريشيط، حاييم (دون تاريخ). فلسطين وإسرائيل في الأدب العبري الحديث. (إعداد حسن خضر). هوية الآخر. القدس /غزة. علامات سلسلة غير دورية تصدر عن وزارة الثقافة ودار فنون للطباعة والنشر، 145-198.

2- دان أوريان (دون تاريخ)، شخصية العربي في المسرح الإسرائيلي. ترجمة محمد أحمد صالح، القاهرة: المشروع القومي للترجمة.

3- رشاد شامي (2003م). تفكيك الصهيونية في الأدب الإسرائيلي. القاهرة: دار الثقافة للنشر، ط 1.

4- شلحت، انطون (2007). خداع الذات ...! المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين. رام الله: منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، ط1.

5- غره، عمر عبد الغني (1996م). الفكر الصهيوني بين التصور النمطي والتصور الفردي في الأدب العبري الحديث. القدس: منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ط1.

6- غرينبرغ، تمير (2007م). مسرحية «الخليل». ترجمة سلمان ناطور، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، ط1 .

7- ليفين، حانوخ (2007م). كتشوب. ترجمة أنطوان شلحت. في: «خداع الذات...! المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين «رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، ط، 2007م.

8- ليفين، حانوخ (1999م). ملكة الحمّام. ترجمة أنطوان شلحت. رام الله: مركز أوغاريت الثقافي، ط1.

9- ملاح، ياسر (2002م). صفحات مطويات من تاريخ المسرح الفلسطيني. الخليل: جمعية العنقاء الثقافية، ط1.

ص: 282

علم الاجتماع الاستعماري

اشارة

التركيز على رهاب الاسلام المعرفي

رامون ڠروسفوڠيل

رامون ڠروسفوڠيل(1)

يبحث هذا المقال في كيفيّة تشكيل العنصريّة المعرفيّة في النقاشات المعاصرة حول رُهاب الإسلام. العنصريّة المعرفيّة وجهٌ مُستهانٌ به من وجوه العنصريّة. الجزء الأوّل هو نقاشٌ عن العنصريّة المعرفيّة في النظام العالمي. الجزء الثاني هو عن سياسات الهُويّة المهيمنة الصّادرة عن الذُكوريّة الغربيّة والردود الأصوليّة عليها. الجزء الثالث هو عن رُهاب الإسلام المعرفي وعلوم الاجتماع الاستعماريّة.

العنصريّة المعرفيّة في النظام العالمي

العنصريّة المعرفيّة والجنسانيّة المعرفيّة وجها العنصريّة والتحيّز الجنسي الأكثر استتارًا في النظام العالميّ - «النظام العالمي الغربيّ/ المسيحيّ الحداثيّ/ الاستعماريّ الرأسماليّ/ البطريركيّ» (2008a) Grosfoguel). العنصريّة والجنسانيّة على الصعيد

ص: 283


1- أستاذٌ مساعد في قسم الدراسات الإثنيّة في جامعة كاليفورنيا وباحثٌ أقدم في بيت العلوم الإنسانيّة في باريس، وقد نشر الكثير من المقالات والكتب حول الاقتصاد السياسي في النظام العالمي وحول الهجرة الكاريبيّة إلى غرب أوروبا والولايات المتّحدة. Epistemic Islamophobia and Colonial Social Sciences، Ramón Grosfoguel University of California، Berkeley • Maison des Sciences de l’Homme، Paris، grosfogu@berkeley.edu - ترجمة: علي صبّاح.

الإجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ بائنان ومعترفٌ بهما أكثر من العنصريّة/ الجنسانيّة المعرفيّة. العنصريّة المعرفيّة هي الأنموذج التأسيسيّ للعنصريّة والنسخة القديمة منها، ومن خلالها يتمّ تحديد دونيّة الشعوب «غير الأوروبيّة» بحسب قربها من الحيوانيّة التي تُعرّف أنّها انحطاط الذكاء وغياب المنطق الناتج عنه. تعمل العنصريّة المعرفيّة عبر تمييز سياسات الماهيويّة «الهويّة» الصّادرة عن النخبة الذكوريّة «الغربيّة،» أي تقليد التفكير المهيمن على الفلسفة الغربيّة وعلى النظريّة الاجتماعيّة الذي لا يشمل المرأة «الغربيّة» في أغلب الأحيان، ولا يشمل الفلسفات/ الفلاسفة وعلماء الاجتماع «غير الغربييّن» في جميع الأحوال. «الغرب» ضمن هذا التقليد هو تقليدَ التفكير الوحيد المؤهّل لإنتاج المعرفة، ويملك حصرًا المنافذ إلى «الكلّيانيّة» و«العقلانيّة» و «الحقيقة». العنصريّة المعرفيّة تعتبر أنّ المعرفة «غير الغربيّة» أقلّ قدرًا من تلك الغربيّة، وبسبب التشابك ما بين العنصريّة المعرفيّة وبين الجنسانيّة المعرفيّة يكون علم الاجتماع الغربيّ مظهراً من مظاهر العنصريّة / الجنسانيّة المعرفيّة، حيث أنّه يُميّز المعرفة الذكوريّة «الغربيّة» على أنّها المعرفة المتفوقّة في العالم حاليّاً.

إذا تفحّصنا نخبة المفكّرين ضمن المجالات الأكاديميّة الغربيّة نجدهم ومن دون أيّ استثناءٍ يميّزون المفكّرين «الغربيّين» الذكور ونظريّاتهم، وبشكلٍ خاصٍ الذكور الأوروبيّين واليورو - شمال أميركيّين . لقد بلغت «سياسات الهويّة» الماهيويّة المهيمنة من القوّة والتطبيع - عبر الخطاب «الموضوعيّ» و«الحياديّ» «لسياسة الأنا المعرفيّة» الديكارتيّة في العلوم الإجتماعيّة - درجة أنّها تُخفي من يتكلّم ومن أيّ موقع قوّة يتحدّث، فعلى سبيل المثال نفترض «بداهةً» حين الحديث عن «سياسات الهويّة» أنّنا نتكلّم عن أقلّياتٍ عرقيّة. في الحقيقة، ومن دون نفي وجود «سياسات الهويّة» الماهيويّة بين الأقلّيات العرقيّة، تستعمل «سياسات الهويّة» المسيطرة الخطاب الهويّاتي العنصريّ الجنسانيّ لنبذ كلّ تدخّلٍ نقديّ متجذّر في المعارف والكونيّات الصادرة عن الجماعات المُستضعفة وعن تقاليد تفكيرٍ «غير أوروبيّة» (2008 Madonado-Torres). ما زالت الخرافة المبطّنة للأكاديميّة المغرَّبة هي الخطاب «الموضوعيّ» والحياديّ الذي يُخفي «مكان إفصاح» المتكلّم، أي

ص: 284

هويّة المتكلّم والجهازٍ السياسيٍّ الإدراكيّ للمعرفة وسياسة المعرفة الجغرافيّة ضمن علاقات القوّة على الصعيد العالمي. عبر خرافة «سياسات الأنا المعرفيّة» (التي تتكلّم في الحقيقة بلسان الذكر «الغربيّ» وضمن سياسة جغرافيّة أوروبيّة المركز) يتمّ رفض الأصوات المنتقدة وتجاهلها، الأصوات الصادرة عن الأفراد أو عن الجماعات التي تضعها العنصريّة الماهيويّة المهيمنة والجنسانية المسيطرة في درجة دونيّة ملحقة بحجّة أنّها خاصّويّة. إذا كان لنظريّة المعرفة لونٌ - وهو ما يشير إليه الفيلسوف الأفريقيّ إيمانويل شوقوودي إزه(1997) (1) - أو جنسٌ/لونٌ - كما تحاجج عالمة الاجتماع الآفرو - أميركيّة باتريسيا هيلس كولّينس(1991) (2) - يكون لنظريّة المعرفة المهيمنة الأوروبيّة المركز على العلوم الاجتماعيّة أيضاً لونٌ وجنسٌ. تُشكّل نظريّة المعرفة المبنيّة على أساس تفوّق الرجل «الأوروبيّ» ودونيّة البقيّة جزءًا أساسيًّا من العنصريّة/ الجنسانيّة المعرفيّة التي استدامت في النظام العالمي لأكثر من خمس مائة عامٍ.

بدأ تقديس امتياز «الغرب» المعرفيّ وتطبيعه حين دمّرت الملكيّة الأسبانيّة الكاثوليكيّة الأندلس وآونة توسّع الاستعمار الأوروبيّ في أواخر القرن الخامس عشر، وأوّل ما قام به هذا التمييز هو إعادة تسمية العالم بأسماءٍ من علم الكونيّات المسيحيّ (أوروبا، أفريقيا، آسيا، وفي ما بعد أميركا)، وتوصيف جميع المعارف غير المسيحيّة على أنّها نتاج قوى وثنيّة شيطانيّة، وصولاً إلى الافتراض المنبثق عن العصبيّة المحليّة الأوروبيّةِ المركز أنّ التقليد الإغريقيّ الرومانيّ مرورًا بتقاليد عصر النهضة والتنوير وتقاليد العلوم الغربيّة يُشكّلون الطريق الوحيد للوصول إلى «الحقيقة» و «الكلّيانيّة». تمّ تطبيع التمييز المعرفيّ الأوروبيّ المركز ل «سياسات الهويّة» الصّادرة عن الذكوريّة الغربيّة إلى درجة تجعل رؤيتها كسياسات هويّة مهيمنة أمرًا صعبًا، حتى تمّ حِسبانها أنّها المعرفة الكلّيانيّة الطبيعيّة، وعدّ كلّ تقاليد التفكير «الأخرى» أنّها دونيّة (تمّ توصيفها في القرن السادس عشر أنّها «بربريّة» وفي القرن التاسع عشر أنّها «بدائيّة» وفي القرن العشرين أنّها «متخلّفة» وفي بداية القرن الحادي والعشرين أنّها «نقيضةٌ

ص: 285


1- .Emmanuel Chukwudi Eze-
2- .Patricia Hills Collins-

للديموقراطيّة»). كانت العنصريّة المعرفيّة والجنسانيّة المعرفيّة عنصرين تأسيسيّين لمجالات العلوم الاجتماعيّة الغربيّة التحرّريّة ولإنتاج المعرفة وذلك منذ تأسيس هذه العلوم في القرن التاسع عشر. تفترض علوم الاجتماع الغربيّة دونيّة الإنتاج المعرفيّ «غير الأوروبيّ» وتحيّزه وانعدام موضعيّته وتفوّق الغرب. ترتكز النظريّة الاجتماعية الغربيّة على تجربة خمسة بلدان (فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتّحدة) وهي تشكّل فقط ما نسبته تقلّ عن الإثني عشر بالمئة من تعداد سكّان العالم، ولكنّ علم الاجتماع الغربيّ والعصبيّة النظريّة الاجتماعيّة المحليّة الملازمة له والزعم الخاطئ بكلّيته يدّعي أنّ بإمكانه تعليل التجربة الاجتماعيّة للثمانية والثمانين بالمئة الباقية من تعداد سكان العالم. بالحاصل تكون المحوريّة الأوروبيّة والعنصريّة/ الجنسانيّة المعرفيّة شكلان من أشكال العصبيّة المحليّة التي يُعاد إنتاجها حاضرًا ضمن العلوم الاجتماعيّة.

سياسات الهويّة الذكوريّة المُغرّبة

ردًّا على «سياسات الهوية» المهيمنة التي تميّز الجمال والمعرفة والتقاليد والروحانيّات وعلوم الكون المسيحيّة الغربيّة، وتدمغ بالدونيّة والتبعيّة الجمال والمعرفة والتقاليد والروحانيّات وعلوم الكون غير المسيحية وغير الغربيّة، قام الأشخاص الموضوعيّون عبر هذه المناهج المهيمنة في درجةٍ أدنى ومُلحقةٍ بتطوير «سياسات هويّة» خاصّة بهم ردّاً على عنصريّة السياسات الآنفة الذكر، وهذه العمليّة ضروريّة كجزءٍ من عمليّة التثمين الذاتي في عالمٍ عنصريٍّ يضعهم في درجةٍ دونيّة ويجرّدهم من إنسانيّتهم. لكنّ لهذا الإثبات الهويّاتيّ حدوده إذ إنّه قد يُفضي إلى مقترحاتٍ أصوليّة تعكس الشروط الثنائيّة لتقليد التفكير الفلسفيّ الجنسانيّ العنصريّ الذكوريّ «الغربيّ» المهيمن الأوروبيّ المركز ، فعلى سبيل المثال يكون افتراض أنّ الجماعات العرقيّة/ الإثنيّة غير الأوروبيّة الخاضعة هي المتفوّقة يعكس شروط العنصريّة الغربيّة فقط من دون التخلّص من المشكلة الأساسيّة، وهي أنّ العنصريّة تحطّ من مقام بعض البشر وترفع آخرين وتعدّهم جنسًا متفوّقاً على الصعيدين الثقافيّ

ص: 286

والبيولوجيّ (2003 Grosfoguel). مثلٌ آخر هو ما يقوم به الأصوليّون الإسلاميّون أو الأصوليّة الأفريقيّةُ المركز، أي القبول بالخطابات الغربيّة الأوروبيّة المركز التي تدّعي أنّ التقليد الأوروبيّ هو التقليد الديموقراطيّ الوحيد طبيعةً وأصلاً، و«الآخرون» غير الأوروبيّين هم إستبداديّون طبيعةً وأصلاً ورافضون للخطاب الديموقراطيّ ولأشكال الديموقراطيّة المؤسّساتيّة في عالمهم غير الغربيّ (الذي يختلف عن الديموقراطيّة الليبراليّة الغربيّة في كلّ الأحوال ويدعم الاستبداد السياسيّ نتيجةً لذلك)، وهذا ما يقوم به جميع أصوليّي العالم الثالث، حيث أنّهم يسلّمون بفرضيّةٍ خاطئةٍ أصوليّةٍ أوروبيّة المركز تزعم أنّ التقليد الديموقراطيّ الوحيد في العالم هو التقليد الغربي، ولذلك يفترضون أنّ الديموقراطيّة لا تنطبق على «ثقافتهم» وعلى «مجتمعاتهم»، مدافعين بذلك عن أشكال السلطة السياسيّة الملكيّة و/أو الإستبداديّة و/أو الديكتاتوريّة، ممّا يُعيد إنتاج شكلٌ معاكسٌ للماهيويّة الأوروبيّة المركز، ويجعل الخطابات الأصوليّة الأوروبيّة المركز وتنوّعاتها أي أصوليّات «العالم الثالث» تتشارك فكرة أنّ «الديموقراطيّة» هي أصلاً «غربيّة» وأنّ الأشكال «غير الديموقراطيّة» هي أصلاً «غير غربيّة»

إنّ «التقسيمات» الناتجة عن سياسات الهويّة هذه تنتهي إلى إعادة إنتاج معاكسٍ للماهيويّة نفسها ولأصوليّة الخطاب المهيمن الأوروبيّ المركز. إذا عرّفنا الأصوليّة أنّها منظورات تفترض أنّ نظريّة المعرفة وعلوم الكون الخاصّة بها متفوّقة وتشكّل المصدر الوحيد للحقيقة واضعةً بذلك نظريّات المعرفة في مرتبةٍ أدنى غير مساوية، تكون المحوريّة الأوروبيّة ليست مجرّد شكلٍ من الأصوليّة بل الأصوليّة المهيمنة في العالم حاضراً، وتكون أصوليّات العالم الثالث (الإسلاميّة، أفريقيّة المحور، الشعوب الأصليّة، إلخ) التي تنبثق ردّاً على الأصوليّة الأوروبيّة المحور المهيمنة والتي تضعها الصحافة «الغربيّة» يوميّاً على الصفحات الأولى للصحف والمجلّات ما هي إلّا أشكالٌ تابعةٌ للأصوليّة الأوروبيّة المركز ، وهي تُعيد إنتاج تراتبيات الأصوليّة الثنائيّة الماهويّة العنصريّة الأوروبيّة المركز وتحافظ عليها (2009 Grosfoguel).

ص: 287

النتيجة السياسيّة لهذا النقاش المعرفيّ هي أنّ «العنصريّة المعرفيّة» تشكّل القاعدة الأساسيّة للنقاشات المعاصرة عن الإسلام السياسيّ وعن الديموقراطيّة وما يسمّى «الحرب على الإرهاب». تنتهي العنصريّة المعرفيّة «الغربيّة» إلى الحطّ من قدر نظريّات المعرفة والكونيّات «غير الغربيّة» وإلى تمييزها لنظريّة المعرفة «الغربيّة» كشكل المعرفة المتفوّق والمصدر الوحيد لتعريف حقوق الإنسان والديموقراطيّة والمواطنة، إلخ... وإلى تجريد «الآخر غير الغربيّ» من الأهليّة وعدّه غير قادرٍ على إنتاج الديموقراطيّة أو العدل أو حقوق الإنسان أو المعرفة العلميّة إلخ... بناءً على الفكرة الأساسيّة أنّ المنطق والفلسفة يقبعان في «الغرب» والتفكير غير المنطقيّ يقبع في «البقيّة».

رُهاب الإسلام المعرفي في علوم الاجتماع

إنّ العنصريّة المعرفيّة المتجلّية في رُهاب الإسلام هي منطقٌ أساسيٌّ بنيويٌّ للعالم الحداثيّ/ الاستعماريّ وللأشكال المشروعة لإنتاج العلم. يُناقش الإنسانيّون والباحثون الأوروبيّون منذ القرن السادس عشر أنّ المعرفة الإسلاميّة أحطّ قدرًا من الغرب. كان النقاش حول الموريسكيّين في إسبانيا القرن السادس عشر مليئًا بمفاهيم رُهاب الإسلام المعرفيّ (1997 ;1992 Preceval)، فبعد طرد الموريسكيّين في أوائل القرن السابع عشر استمر الحطّ من قدر «الموريسك» ضمن خطاب رُهاب الإسلام المعرفيّ، وادّعى المفكّرون الأوروبيّون المؤثّرون في القرن التاسع عشر، ونذكر على سبيل المثال إرنست رِنان، «... أن الإسلام لا يتوافق مع العلم والفلسفة» (21-20 :2003 Ernst).

كذلك الأمر في العلوم الاجتماعيّة حيث نجد مظاهر متشدّدة ما خصّ رُهاب الإسلام في أعمال النظريّات الاجتماعيّة التقليديّة الصادرة عن علم اجتماعٍ بطريركيٍّ أوروبىّ المركز ، كما الحال لدى كارل ماركس أو ماكس فيبر وهوما ينقله سوكيدي:

الإسلام بحَسب فيبر هو القطب المعاكس للكالفينيّة، فلا وجودَ لحدّين للقدر

ص: 288

الإلهيّ في الإسلام كما في الكالفينيّة، ولكن الإسلام بحسب ما يُشير إليه فيبر في الخُلق البروتستانتيّ (Protestant Ethic, ch. 4, n.36) يتضمّن الإعتقاد بالحتميّة المسبقة وليس بالقدر، في ما يتّصل بقدر المسلمين حول العالم وليس في ما يتّصل بقدر الآخرين (185.ibid, p). خطاب القدر الذي حافظ عليه الكالفينيّون ودفعهم للعمل الشاق كنوعٍ من الخدمة التعبّديّة (نداءٌ باطنيٌّ أو مهمّة) غير مُثبتٍ بين المسلمين. يُجادل فيبر أنّ`الشيء الأكثر أهميّة وهو دليل المؤمن إلى القدر لم يؤدِّ أيّ دورٍ في الإسلام` (ibib.)، ومن دون مبدأ القدر لا يمكن للإسلام أن يوفّر للمؤمنين به رؤيةً إيجابيّةً تجاه العمل الدنيويّ، والنتيجة أنّ المسلمين محكومون بالإيمان بالجبر . (ص: 197).

يستخدم فيبر الإيمان بالقدر مفهومًا مفتاحيًّا لشرح عقلانيّة الخطاب وتدبير الحياة، ففي الكالفينيّة يمكن للإيمان بالقدر أن يُنتج صرامةً أخلاقيّة وتقيّدًا بحرفيّة الشريعة وتدبير منطقي للعمل الدنيويّ، وهذا كلّه غير موجودٍ في الإسلام، فعقلانيّة الخطاب وتدبير الحياة شيءٌ غريبٌ عنه (ص: 199). بناءً على ذلك لم يؤدِّ إيمان المسلمين بالقدر إلى عقلنة مذهبهم وتدبير حياتهم، جاعلاً المسلمين جبريّين لا منطقيين. «الإسلام» من منظور فيبر تحوّل كلّياً عن التدبير المنطقيّ للحياة عبر مُعتقدات مجموعةٍ من رجال الدين أوّلاً وعبر السحر آخراً` (2006:200 Sukidi).

إذا تتبّعنا منطق فيبر إلى نتائجه النهائيّة أنّ المسلمين جبريّين لا منطقيّين، عندها لا يمكن لأيّ معرفةٍ أن تصدر عنهم. ما هي جغرافيا المعرفة السياسيّة المشمولة في عنصريّة فيبر المعرفيّة؟ جغرافيا المعرفة السياسيّة المشمولة هي رُهاب الإسلام بنظر المُستشرقين الألمان والفرنسيّين المعرفي للإسلام الذي يكرّره فيبر في حُكمه على الإسلام، فالبنسبة إليه التقليد المسيحي هو التقليد الوحيد الذي ينهض بالعقلانيّة الاقتصاديّة وبالرأسماليّة الغربيّة الحديثة. لا يمكن مقارنة الإسلام ب-«تفوّق» القيم الغربيّة لإنّه يفتقد إلى الفردانيّة وعقلانيّة العلم، فالعلم العقلانيّ والتِقانة العقلانيّة الناتجة عنه غير معروفَيْن لدى الحضارات الشرقيّة بحسب فيبر. هذه الأقوال إشكاليّةٌ

ص: 289

حيث بيّن باحثون ومنهم صليبا (2007 Saliba) وغراهام (2006 Graham) تأثير التطوّر العلميّ في العالم الإسلاميّ على الغرب وعلى العلوم العصريّة وعلى الفلسفة الحديثة، فالعقلانيّة كانت إحدى ركائز الحضارة الإسلاميّة، وعندما كانت أوروبا غارقة في أساطير ظلاميّة إقطاعيّة خلال ما يُعرف بالعصور الوسطى، كانت مدرسة بغداد المركز العالميّ للإنتاج العلميّ والفكريّ وللإبداع. منظور فيبر والمُستشرقين المتأثّرين به إلى الإسلام يُعيد إنتاج رُهاب الإسلام المعرفيّ حيث يكون المسلمون غير قادرين على إنتاج العلم أو على حيازة العقلانيّة على الرغم من الأدلّة التاريخيّة الداحضة لذلك.

إشكاليّة رُهاب الإسلام المعرفيّ هي نفسها لدى ماركس وإنجلز، فعلى الرغم من مكوث الأوّل في الجزائر لشهرين سنة 1882 للتعافي من مرضٍ ألّم به، نجده لم يكتب أيّ شيءٍ عن الإسلام، وقد كان لماركس - بحسب ما ذكر بشكلٍ مكثّفٍ في كتاباته - رؤيةً إستشراقيّة تتّسم بعنصريّةٍ معرفيّةٍ تّجاه الشعوب غير الأوروبيّة عموماً (Moore 1997)، وعِلاوةً على ذلك كتب إنجلز المُآزر له عن الشعوب الإسلاميّة معيدًا النمطيّة العنصريّة نفسها التي استعملها ماركس ضد الشعوب «الشرقيّة»، حيث نجده في استعراضه للاستعمار الفرنسيّ في الجزائر يذكر:

عموماً كان احتجاز الزعيم العربيّ بحسب رأينا أمرًا ميموناً جدًّا، فنضال البدو كان ميؤوساً منه، وعلى الرغم من أنّه يُمكن انتقاد طريقة إدارة الجنود الباطشة للحرب، إلا أنّ احتلال الجزائر يُشكّل حقيقةٌ مهمّةٌ وميمونةٌ بالنسبة إلى تطوّر الحضارة. لم تتصدّ الحكومة البريطانيّة لقرصنة الدول البربريّة ما دامت لم تتعرّض لسفنها، ولم يكن بالإمكان منع هذه القرصنة إلّا عبر احتلال إحدى هذه الدول، فاحتلال الجزائر أجبر بايات تونس وطرابلس وحتّى إمبراطور المغرب على سلوك طريق الحضارة. لقد تمّ إجبارهم على إيجاد فرص عملٍ لشعوبهم بعيدةٍ عن القرصنة... وإن كنّا نأسف على القضاء على حريّة بدو الصحراء لا يمكن أن ننسى أنّ البدو نفسهم كانوا قوماً من اللصوص - كانت وسائل تأمين معيشتهم تشتمل على غزوهم بعضهم بعضًا،

ص: 290

أو غزوهم لقرى الحضر ناهبين كلّ ما يجدونه، ذابحين كلّ من يقاومهم، وبائعين كلّ من يبقى من السجناء عبيداً. من البعيد تظهر كلّ أمم البرابرة الأحرار أنّها عزيزةٌ ونبيلةٌ ومجيدةٌ، ولكن بمجرّد الاقتراب منها نجدها تُشبه الدول الأكثر تحضّرًا منها، حيث أنّها محكومةٌ برغبة الربح، وتوظّف لأجل ذلك وسائل أكثر قسوةً وخشونةً. في الخلاصة لا يمكن إلّا أن نُفضّل البرجوازيّ الحداثيّ والحضارة والصناعة والنظام وبشكلٍ أقلّ التنوير النسبيّ المصاحب له على اللصّ الغازي الإقطاعيّ وحالة المجتمع البربريّة التي ينتمي إليها .

.(Engels، French Rule in Algiers، The Northen Star، January 22,1848, in: MECW, Vol, pp.469472-; quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Modernization (Doubleday: New York, p. 43)

خيار إنجلز واضحٌ: دعم التوسّع الاستعماريّ الجالب للحضارة الغربيّة، حتّى ولو كان بورجوازيّاً وبطّاشًا لأجل التغلّب على الحالة «البربريّة»، وبذلك يكون تفوّق «الغرب على الباقين» وبالتحديد على المسلمين واضحٌ في هذا البيان، وهو ما نلمسه أيضاً في حديثه عن الهند حيث يُحاول إنجلز إظهار تزمّت المسلمين غير المنطقيّ في الاقتباس التالي:

حرب العصاة بدأت تأخذ الطابع الذي وسم حرب بدو الجزائر ضدّ الفرنسيّين، مع الفارق أنّ الهنود بعيدين عن التعصّب وأنّهم ليسوا أمّة من الخيّالة. (Engels: New York Daily Tribune, July 21, 1858, MECW, Vol.15, p. 583)

إن كان بقي أدنى شكٍّ في وجهات نظر ماركس التي يتشاركها مع إنجلز عن دونيّة المسلمين والشعوب «غير الأوروبيّة» قياسًا بالغرب فالاقتباس التالي هو دليلٌ آخر:

... السؤال... ليس إن كان من حقّ الإنجليزيّ احتلال الهند، ولكن إن كنّا نفضّل احتلال الترك أو الفرس أو الروس للهند على احتلالها من البريطانيّ. على إنجلترا إنجاز مهمّة مزدوجة في الهند: المهمّة الأولى تدميريّة والأخرى تجديديّة - إبادة

ص: 291

المجتمع الآسيويّ القديم ووضع الأسس الماديّة للمجتمع الغربيّ في آسيا. العرب والترك والتتار والمغُول الذين اجتاحوا الهند تباعًا تهنّدوا بسرعة، والمحتلّون البرابرة تبعًا للقانون الأبديّ للتاريخ تُخضعهم حضارة رعاياهم المتفوّقة. البريطانيّون كانوا أوّل المحتلّين المتفوّقين على الحضارة الهنديّة ومنيعين ضدها تالياً... اليوم ليس ببعيدٍ الذي سيتمّ فيه اختصار المسافة الزمنيّة بين إنجلترا والهند إلى ثمانية أيّام عبر استخدام مزيجٍ من السكك الحديديّة والسفن البخاريّة، ما سيؤدّي إلى انضمام هذا البلد الأسطوريّ إلى العالم الغربيّ...

(...Marx, «The Future Results of the British Rule in India» written onJuly 22، 1853, in Marx and Engels On Colonialism, page 81- 83)

لم يكن لدى ماركس الكثير من الأمل في الروح البروليتاريّة للجماهير المسلمة وهو ما نلمسه في حديثه عن توسّع الإمبراطوريّة العثمانيّة إلى أقاليم شرق أوروبا:

تكمن القوّة الأساسيّة للكتل السكّانيّة التركيّة في أوروبا - إذا استثنينا الاحتياط الذي يمكن سحبه من آسيا بشكلٍ دائمٍ - في غوغاء القسطنطينيّة [إسطنبول] وبضع مدنٍ كبيرة أخرى. على الرغم من أنّ هذه الغوغاء التي في جوهرها تُركيّة تؤمّن معيشتها بشكلٍ رئيسيٍّ عبر عملها لدى رأسماليّين مسيحيّين، إلّا أنّها تحافظ بغيرةٍ كبيرةٍ على التفوّق المتوهَّم وتتمتّع بحصانةٍ حقيقيّةٍ ضد التجاوزات التي يسمح بها الإسلام ولا تسمح بها المسيحيّة، ومن المعروف أنّه يجب كسب هذه الغوغاء في كلّ انقلابٍ مهمٍّ عبر الرشوة أو المديح، وهذه الغوغاء وحدها تُشكّل كتلةً سكّانيّةً تركيّةً مرصوصةً ومهيبةً في أوروبا إذا استثنينا بعض الأقاليم المُستعمَرة. عاجلاً أم آجلاً سيكون تحرير أحد أفضل أجزاء أوروبا من حكم هذه الغوغاء ضرورةً قصوى، وقد تظهر غوغاء روما الإمبرياليّة مقارنةً بها كمجموعة من الحكماء والأبطال.

(Turkey, New York Daily Tribune, April 7, 1853, written by Engels at Marx’s Request, quoted in S.Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Modernization (Doubledy: New York, p.54

ص: 292

بالنسبة إلى ماركس وكذلك إلى فيبر الشعب المسلم من أصولٍ تركيّة هم غوغاء من جهلةٍ جعلوا غوغاء الإمبراطوريّة الرومانيّة يبدون حكماء مقارنةً بهم، وهو يدعو إلى نضالٍ تحريريٍّ ضدّ الغوغاء المسلمة. الحضارة الأوروبيّة بالنسبة إلى ماركس متفوّقة ولذلك عليها تحضير المسلمين غير الأوروبيّين، وفي نظره التوسّع الاستعماريّ الغربيّ أفضل من ترك شعبٍ بربريٍّ منحطٍ في مرحلةٍ لازمنيّة دون المساس به.

لم يثق ماركس بالمسلمين وكان مقتنعًا بكراهيّة الإسلام للآخر وكتب معتذراً عن الاستعمار الأوروبي ما يلي:

لن يتجرّأ أحد على التعريف بنفسه في مجتمعٍ مسلمٍ من دون أخذه بعض الإحتياطات، لأنّ القرآن يُعامل كلّ الغرباء كأعداءٍ، ولذلك ابتكر التجّار الأوروبيّون الأوائل الذين تجرّؤوا على التجارة مع مثل هذا الشعب معاهدةً إستثنائيّةً لحماية أنفسهم امتيازاتٍ في أصلها خاصّة لكنّ نطاقها توسّع لاحقًا ليشمل كلّ أمّتهم، وهذا هو أصل الامتيازات الأجنبيّة.

(The Outbreak of the Crimean War – Moslems، Christians, and Jews in the Ottoman Empire, “New York Daily Tribune, April 15, 1854, quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Moderization (Doubleday: New York, p. 146)

ذكر ماركس مكرّرًا المنظور الاستشراقيّ العنصريّ النمطيّ السائد في زمنه:

القرآن والتشريع الإسلاميّ الصادر عنه يختزلان جغرافيا الشعوب المتعدّدة وإثنوغرافيتها إلى أمّتين عبر تمييزٍ بسيطٍ عمليٍّ؛ أمّة الإيمان وأمّة الكفر، والكافر «حربيٌ» أي العدو. الدين الإسلامي يُحرّم أمّة الكفر مؤسّساً لحالةٍ من العداء الدائم بين المسلمين والكفّار.

ص: 293

(The Outbreak of the Crimean War – Moslems، Christians, and Jews in the Ottoman Empire, “ New York Daily Tribune, April 15, 1854, quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Moderization (Doubleday: New York, p. 144

كانت هذه الرؤية المبسّطة الماهيويّة الإختزاليّة للإسلام من منظور يهوديّ/مسيحيّ المركز، ومن منظورٍ غربيّ المحور جزءًا من عنصريّة المُستشرقين المعرفيّة وأبويّتهم المتعالية تجاه الفكر الإسلاميّ، وماركس لم يكن استثناءً حيث أنّه كان يعتقد أنّ العلمنة ضروريّة لإتاحة الفرصة للثورة في أراضي المسلمين، وذكر :

... إنّ إبطال خضوعهم للقرآن عبر تحريرٍ مدنيٍّ يُلغي في الوقت نفسه خضوعهم لرجال الدين ويُفضي إلى ثورةٍ في علاقاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة... يستوجب إستبدال القرآن ب «قانونٍ مدنيٍّ» تغريب بنية المجتمع البيزنطيّ بشكلٍ كاملٍ.

(The Outbreak of the Crimean War–Moslems, Christians and Jews in the Ottoman Empire,” New York Daily Tribune, April 15, 1854, quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Modernization (Doubleday: New York, p. 146")

منظور ماركس العلمانيّ يتبنّى استراتجيّة استعماريّة نمطيّة روّجت لها الإمبراطوريّات الغربيّة لتدمير أنماط تفكير الرعايا المُستعمَرين وطرق حياتهم لمنع أيّ شكلٍ من أشكال المقاومة. يُسقط ماركس جدليًّا أنّ المسلمين خاضعين لحُكم «الدين» كُوزْمُولُوجيَا المنظور العلمانيّ الغربيّ المركز ومسيحيّه على الإسلام، والإسلام لا يرى نفسه «ديناً» بالمعنى الغربيّ المسيحيّ الذي يضعه في حيّزٍ منفصلٍ عن السياسة والإقتصاد إلخ... الإسلام أكثر شبهًا بكُوزْمُولُوجيَا تتّبع مفهوم «التوحيد»، ويُمثّل مذهبًا وحدويًّا ولديه نظرةٌ شُموليّةٌ إلى العالم، وهذا ما طمسته الرؤية الديكارتيّة الحديثة/ الاستعماريّة الأوروبيّة المركز في الغرب، وحاولت عبر توسّعها الاستعماريّ طمسه في بقيّة العالم كذلك. كان تطبيق التنصير الاستعماري

ص: 294

في بداية العصر الحديث/ الاستعماريّ، والعلمنة في القرن الثامن عشر بعد التوسّع الاستعماريّ اللاحق جزءًا من «الحرب على المعرفة» و«الحرب على الدين»، أي اجتثاث الروحانيّة وسُبل المعرفة غير الغربيّة، وهو ما طبّقه الاستعمار الغربيّ الإستعماريّ خلال توسّعه، ف- «الحرب على المعرفة» و«الحرب على الدين» مكّنا الاستعمار من عقول/ أجساد الرعايا المُستعمَرين.

إن كانت الحجّة المخفِّفة لماركس وفيبر أنّهما منظّران تقليديّان للعلوم الاجتماعيّة، فإنّ العلوم الاجتماعيّة الغربيّة مطّلعةٌ على التحيّز المعرفيّ الأوروبيّ المركز القائم على رُهاب الإسلام. يستوجب التخلّص من الطابع الاستعماري لعلوم الاجتماع الغربيّة الكثير من العمليّاتِ المهمّة التي لا يتسنّى لنا شرحها بالتفصيل في هذا المقال، ولكنّ إحدى هذه العمليّات هي توسعة نطاق النظريّة الاجتماعيّة لتدمج مساهمات منظّري علم الاجتماع غير الغربيّين واللا استعماريّين كمكوّنٍ رئيسيٍّ فيها، ونذكر منهم بوفنتورا دي سوسا سانتوس وسلمان سيّد وعلي شريعتي وأنيبال كويجانو وسيلفيا ريفِرا كوسيكانكوي ودو بويز وسيلفيا وينْتر وغيرهم من منظّري علم الاجتماع الذين يفكّرون من الجانب الآخر [الأدنى] للحداثة. إنّ دمج هؤلاء المُفكّرين ليس مسألة تعدّديّة ثقافيّة فحسب ولكنّه ضروريٌّ لتأسيس علم اجتماعٍ لا استعماري أكثر دقّةً وتخصّصيّةً (عكس كلّيانيّة). الدكتور علي شريعتي تحديدًا هو عالم اجتماعٍ إسلاميٍّ أنتج نقدًا مهمّاً لمنظّري علم الاجتماع الغربيّين من أمثال ماركس.

ولكنّ هل هناك علم اجتماعٍ أوحد، وتالياً لا وجود لعلوم اجتماعٍ متنوّعةٍ؟ ما نعرّفه اليوم أنّه علم اجتماعٍ هو علمٌ محلّيٌّ (تقليد التفكير الذكوريّ الأوروبيّ) يحدّد للبقيّة ماهيّة علم الاجتماع وما هي المعرفة الكلّيانيّة الصحيحة. يستوجب التخلّص من الطابع الاستعماري لعلوم الاجتماع المحلّيّة المُغرّبة الإنتقال إلى حوارٍ أفقيٍّ بينيِّ المعرفة بين علماء اجتماعٍ ينتمون إلى تقاليد تفكيرٍ معرفيّةٍ مختلفةٍ، وذلك للتأسيس لعلوم اجتماعٍ لا إستعماريّةٍ جديدةٍ ضمن صيغةٍ تعدّديّةٍ بدل الصيغة الكلّيانيّة الحاليّة، وهذه مهمّةٌ صعبة ولا يُمكننا الخوض في تفاصيل ما تستوجبه في هذا المقال. إنّ

ص: 295

الإنتقال من الكلّيانيّة إلى التعدّديّة في علوم الاجتماع ضروريٌّ للإنتقال من الأنموذج الذي يحدّد فيه شخصٌ واحدٌ التعريفات للآخرين إلى أنموذجٍ جديدٍ يكون إنتاج المبادئ والمعرفة فيه نتيجةً لحوارٍ أفقيٍّ عموميٍّ بينيٍّ - معرفيٍّ، وهذا ليس نداءٌ للنسبويّة ولكن للنظر إلى الكلّيانيّة على أنّها تعدّديّة، أي أنّها نتيجةٌ للتفاعل البينيّ - المعرفيّ ضمن صيغةٍ أُفقيّةٍ عوضًا عن تفاعل علوم الاجتماع الشموليّة الحاليّة الإمبرياليّة/الاستعماريّة مع بقيّة العالم لها، وليس نتيجةٍ.

النقاشات القائمة حول رُهاب الإسلام حاضرًا

تكمن أهمّية النقاش عن رُهاب الإسلام المعرفيّ أنّ هذا الرُهاب بيّنٌ في النقاشات المعاصرة وفي السياسة العامّة، ويتجلّى حاضرًا في النقاشات حول حقوق الإنسان والديموقراطيّة العنصريّة المعرفيّة والأصوليّة الأوروبيّة المركز المصاحبة لها في النظريّة الاجتماعيّة. تُعدّ نظريّات المعرفة «غير الغربيّة» التي تحدّد حقوق الإنسان وكرامته بمفرداتٍ مختلفة عن الغرب أدنى من التعريفات «الغربيّة» المهيمنة، ويتمّ بذلك اقصاؤها عن الخطاب العالميّ حول هذه المسائل. إذا كان المفكّرون الغربيّو المحور ونظريّة الاجتماع التقليديّة يُصوّرون الفلسفة والفكر الإسلاميّ أنّهما أدنى من الغرب، تكون النتيجة المنطقيّة أنّهما لا يملكان شيئًا يمكّنهما من المساهمة في مسألة الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، ممّا يستوجب عدا استبعادهما عن الحوار العالميّ قمعهما. المنظور الغربيّ المحور المُضمر هو أنّه بإمكان المسلمين أن يكونوا طرفًا في هذا الحوار شريطة أن يكفّوا عن التفكير كمسلمين ويتبنّوا التعريف الليبراليّ المهيمن الأوروبيّ المركز للديموقراطيّة وحقوق الإنسان، ويكون أيّ مسلمٍ يحاول التفكير في هذه المسائل منطلقاً من التقليد الإسلامي على الفور أصوليًّا وموضع شبهةٍ. الإسلام وديموقراطيّة الإسلام وحقوق الإنسان تعدّها «البديهيّة» الأوروبيّة المهيمنة تناقضاً لفظيًّا.

أساس عدم التوافق بين الإسلام والديموقراطيّة هو الحطّ المعرفيّ لرؤى الإسلام. حاضرًا نجد العديد من «إختصاصيّي» المعرفة العنصريّين في الغرب يتكلّمون بتسلّطٍ عن الإسلام من دون أن يكون لديهم أدنى معرفةٍ جديّةٍ حول التقليد الإسلاميّ. الصور

ص: 296

النمطيّة والأكاذيب التي تتكرّر باستمرار في الصحافة والمجلّات الغربيّة تنتهي بتصديقها كما في نظريّة غوبِل النازيّة عن البروبغندا، وهذا ما ذكره إدوارد سعيد منذ فترةٍ ليست ببعيدة:

هناك جماعةٌ من الخبراء المختصّين بالعالم الإسلاميّ الذين اكتسبوا شهرةً عبر استدعائهم للحديث بشكلٍ أبويٍّ عن أفكارٍ نمطيّةٍ في البرامج الإخباريّة أو الحواريّة. كما يبدو أنّه هناك إعادة إحياءٍ غريبٍ لأفكار المستشرقين المُعتمدة حول المسلمين التي تمّ تكذيبها سابقاً، وهي عموماً أفكارٌ شعبويّةٌ صادرةٌ عن غير البيض، وتُحقّق حُضورًا لافتًا في زمنٍ لم يعد تشويه الثقافات الأخرى العنصريّ الدينيّ يتمتّع بأيّ حصانةٍ. التعميمات الكيديّة عن الإسلام غدت آخر شكلٍ من أشكال استصغار الثقافات الأخرى المقبولة في الغرب. ما يُقال عن العقل المسلم أو الشخصيّة المسلمة أو الدين الإسلاميّ أو الحضارة الإسلاميّة عامّةً لم يعد ممكناً قوله في النقاش العامّ عن الأفارقة أو اليهود أو الآسيويّين أو المشرقيّين الآخرين ... إحتجاجي... أنّ معظم هذا التعميم غير مقبولٍ وغير مسؤولٍ إلى أقصى الدرجات ولا يُمكن استخدامه في النقاش حول أيّ مجموعةٍ دينيّةٍ أو ثقافيّةٍ أو سكّانيّةٍ أخرى في العالم. ما نتوقّعه من أيّ دراسةٍ جديّة للمجتمعات الغربيّة تشتمل على نظريّاتٍ معقّدةٍ وتحليلٍ شديدِ التنوّع للنَظم الإجتماعيّة وللتاريخ وللتنظيمات الحضاريّة وللغات التحقيق المتمرّسة، يجب أن نتوقّعه أيضًا لدى دراسة المجتمعات الإسلاميّة في الغرب والنقاش حولها.(1998: Said xi-xvi)

تدوير هذه الصور النمطيّة يُساهم في تصوير المسلمين أنّهم أدنى عرقيًّا وأنّهم مخلوقاتٌ عنيفةٌ - وبذلك يسهل ربطهم ب- «الإرهاب» وإظهارهم بشكل «الإرهابيّ».

ص: 297

.(Ernst، Carl W. 2003. Following Mohammad: Rethinking Islam in the Contemporary World. (The University of North Carolina Press، Chapel Hill y Londres

.(Graham، Mark. (2006). How Islam Created the Modern World (AmanaPublications: Beltsville، Maryland

.(Grosfoguel، Ramon (2003) Colonial Subjects. (California University Press: Berkeley

-Grosfoguel، Ramon. (2008a). “Para descolonizar os estudos de economia política e os estudos pós-coloniais: Transmodernidade، pensamento de fronteira e colonialidade global” Revista Crítica de Ciências Sociais، numero 80 (março): 115

147English version: http//:www.eurozine.com/pdf04--07-2008/grosfoguel-en. pdf

Grosfoguel، Ramon. (2008b). “La longue intrication entre islamophobie et racisme dans le system mondial moderne/colonial/ patriarcal” in Mohamed Mestiri، Ramon Grosfoguel and El Yamine Soum (eds) Islamophobie dans le Monde

.(Moderne(Paris: IIIT France and UC-Berkeley

.Grosfoguel، Ramon. (2009). “Human Rights and Anti-Semitism After Gaza،” Human Architecture: Journal of the Sociology of Self- Knowledge، Vol. VII، issue No. 2 (Spring):101-89

.(Hills Collins، Patricia. (1991). Black Feminist Thought: Knowledge،Consciousness and the Politics of Empire (Routledge: London

.(Maldonado-Torres، Nelson. (2008a). Against War. (Duke University Press، Durham

،Maldonado-Torres، Nelson. (2008b). “Religion، Conquête et Race dans la Fondation du monde Moderne/Colonial” in Islamophobie dans le Monde Moderne، Edited by Mohamed Mestiri، Ramon Grosfoguel y El Yamine Soum. IIIT

.-París; 205238

ص: 298

Moore، Carlos (1977، 2nd edition). Where Marx and Engels White Racists?: The Proletaryan Outlook of Marx and Engels (Institute of Positive Education: Chicago، Illinois) http://pdfserve.informaworld.com/411649_915549761_745946075.pdf

Perceval، Jose María. (1992). “Animalitos del señor: Aproximación a una teoría de las animalizaciones propias y del otro، sea enemigo o siervo، en la España imperial 1650-1550))” in Areas: Revista de Ciencias Sociales (Universidad de

.-Murcia)، No. 14: 173184

.PERCEVAL، José María. (1997). Todos son uno. Arquetipos، xenofobia y racismo. La imagen del morisco en la monarquía española durante los siglos XVI y XVII. Almería: Instituto de Estudios Almerienses

.(Said، Edward. (1998). Covering Islam: How the Meida and the Experts Determine How We See the Rest of the World (Vintage Books: New York

.Sukidi (2006). “Max Weber’s remarks on Islam: The Protestant Ethic among Muslim puritans،” Islam and Christian-Muslim Relations،205–195 ،2 :17

.(Saliba، George. (1997). Islamic Science and the Making of the European Renaissance (MIT Press: Boston (MIT Press: Boston

ص: 299

إمبريالية الفن السابع

اشارة

مجتمعنا في مرمى هوليوود

حيدر محمد الكعبي

حيدر محمد الكعبي (1)

تمثل الأعمال السينمائية مادة إعلامية لها تأثير كبير وفاعل في مجال التثقيف والتعليم وتشكيل الرأي العام، ولم يقف هذا اللون من الإنتاج الفني عند حدود التسلية والترفيه فحسب، وبخاصة في العقود الأخيرة التي قفزت فيها السينما إلى مديات أكثر تطوراً على صعيد السيناريو والإخراج والتمثيل.

وفي عصر ثورة الاتصالات لم تتوانَ شركات الإنتاج السينمائي الكبرى عن اغتنام هذه الفرصة لتحقق انتشاراً يليق بها على المستوى العالمي، ونتيجة لذلك صارت عقائد وأخلاق كثير من المجتمعات البشرية - بما فيها مجتمعاتنا الإسلامية - تحت طائلة تأثيرها القوي، مما يجعلنا معنيين بدراسة تأثيرات هذا الجانب من الفنون دراسة جادة أكثر من أي وقت مضى.

ولما كانت السينما الأميركية (هوليوود) هي المصنع الأبرز للإنتاج السينمائي

ص: 300


1- باحث إعلامي من العراق - النجف الأشرف.

العالمي، ونظرا لما تتمتع به من خصائص فريدة، فينبغي أن تكون هي الهدف الأبرز لاهتماماتنا في هذا المجال، على الأقل في الوقت الحالي والمستقبل المنظور.

إن البيئة الاجتماعية الأميركية المتحررة قد فسحت مجالاً واسعاً أمام شركات هوليوود السينمائية لتعمل من دون ضوابط دينية أو أخلاقية، مما أدى إلى انتشار إنتاجٍ سینمائي يبث أفكاراً وثقافات تؤثر بشكل سلبي كبير في عقائد مجتمعاتنا المسلمة التي يصلها هذا الإنتاج وسلوكياتها.

ولكن المشكلة أن قوة الإنتاج السينمائي لهوليوود يجعل من مضمونه السيء أمراً مستساغاً لدى الجمهور، وهنا مكمن المشكلة، فهو أمر شبيه بدس السم في العسل، علماً أن ذلك لا يختص بالمنتوج السينمائي فقط وإنما يمثل سمة الإعلام المعاصر بشكل عام، هذا مع قطع النظر عن نشر الجنس والعنف اللذين صارا علامة مميزة للسينما الأميركية.

فن التأثير السينمائي:

ليس من مجال للشك في أن فن الترفيه الإعلامي يعد أحد أهم الأساليب تأثيراً في مجال التوجيه الفكري وصناعة الثقافة، إذ يتوافر على عناصر جاذبة تستبطن رسائل فكرية يجعلها تنفذ بقوة إلى العقول والقلوب على حد سواء، ولم يكن المؤرخ «إريك بارنو Eric Barno» (1) يجانب الصواب حينما قال: (إن مفهوم الترفيه في تصوري هو مفهوم شديد الخطورة، إذ تتمثل الفكرة الأساسية للترفيه في أنه لا يتصل من بعيد أو قريب بالقضايا الجادة للعالم وإنما هو مجرد شغل أو ملء ساعة من الفراغ، والحقيقة أن هناك ايديولوجية مضمرة بالفعل في كل أنواع القصص الخيالية، فعنصر الخيال يفوق في الأهمية العنصر الواقعي في تشكيل آراء الناس) (2) .

ص: 301


1- إريك بارنو: مؤرخ تلفزيون أمريكي، انتخب رئيساً لنقابة الكتاب الأميركية في عام 1957 وخدم في مجلس محافظي أكاديمية الفنون والعلوم التلفزيونية في عام 1978 أصبح رئيساً لمكتبة الكونغرس للصورة السينمائية، وقد كتب عنه رئيس التحرير السابق لمجلة نيوورك تايمز شيلدون ماير قائلا: «كان بارنو عيناً على الأوغاد والأشخاص الخطرين وقد بلغت عبقريته أجيالاً من الأمريكيين عبر موجات الأثير الإذاعي وعلى شاشات التلفزيون وفي قاعات الدراسات.
2- ينظر: المتلاعبون بالعقول لهربرت أ. شيللر: 96.

ويعزز كلام «بارنو» ما أشار إليه «هربرت أ. شيللر Herbert Schiller» (1) قائلاً: (إن التسلية هي التعليم والتعليم هو الأيديولوجية، ويشير «روبرت شايون» محرر التلفزيون في ال-«الساترداي ريفيو» إلى أن: برامج التسلية تلمح للجمهور بالطريقة التي يتعين أن يتبعها في تحديد ما هو جدير بالاحترام في مجتمعنا والكيفية التي يتصرف بها، إنها في الواقع أشكال من التعليم، من تلقين المبادئ) (2).

والسينما.. الصناعة الفنية التي تطورت بشكل مذهل خلال مدة قياسية من تاريخ البشر (3) تعد من أكثر صناعات الترفيه تأثيراً في هذا المجال، بعد أن تربعت بجدارة على عرش الفنون الإنسانية بعد أن صهرتها في ذاتها بشكل متقن (4) .

وعليه فليس من الغريب أن يؤكد الباحث الدكتور حسن عباسي (5) في محاضرة له قائلاً: (إن صناعة الحضارات والمجتمعات تتركز على رسم خريطة لها، وفي هذه الايام فإن العامل الرئيس لرسم هذه الخرائط يكمن في مضامين المسلسلات وبشكل أخص في الأفلام .. لقد مضى ذلك الزمن الذي كان الفلاسفة فيه يكتبون كُتباً لإعداد المجتمعات، اذ تحوّل أسلوب الفلاسفة إلى ما يشبه أسلوب المخرجين أو الممثلين

ص: 302


1- هربرت شیللر: ناقد وعالم اجتماع وباحث أميركي، حصل على درجة الدكتوراه عام 1960 من جامعة نيويورك، حذر من اتجاهين رئيسين في كتاباته الغزيرة والخطب: الاستيلاء الخاص على الفضاء العام والمؤسسات العامة في الوطن، وهيمنة الولايات المتحدة على الشركات التي تؤثر في الحياة الثقافية في الخارج، وبخاصة في الدول النامية. له ثمانية كتب ومئات المقالات في كل المجلات العلمية والشعبية جعلت منه شخصية رئيسة في كل من أبحاث الاتصالات وفي النقاش العام حول دور وسائل الإعلام في المجتمع الحديث.
2- المصدر نفسه ص 118.
3- يقال إن أول دار سينمائية ناجحة أنشئت على يد الفرنسي «لويس لوميير» في العام 1895 في «المقهى الكبير» شارع «الكبوشيين» في «باريس» إذ شرع (لوميير) بعد اختبارات عدة اثمرت عن صناعته لجهاز أسماه «السينماتوغراف» ومنه اشتقت كلمة «سينما» ليحقق «لوميير» بذلك آلة عرض سينمائية تفوقت على تجارب سابقة في هذا المضمار، وفي أواخر سنة 1896 خرجت السينما نهائياً من حيز المخابر وتعددت الآلات المسجلة مثل آلات «لوميير» و «ميلييس» و «باتيه» و «غومونت» في «فرنسا»، و «أديسون» و «البيوغراف» في «الولايات المتحدة» و أمّا في «لندن» فقد أرسى «ویلیام بول» قواعد الصناعة السينماتوغرافية حتى صار ألوف الناس يزدحمون كل مساء في قاعات السينما المظلمة (ويكيبيديا).
4- اطلق الناقد الفرنسي «ريتشيوتو كانودو» اسم (الفن السابع) على السينما، لأنها في نظره عبارة عن الفن التشكيلي فى حركة .. تأخذ شيئا من طبيعة «الفنون التشكيليّة» وشيئا من طبيعة «الفنون الإيقاعيّة» في الوقت نفسه.
5- الدكتور حسن عباسي استاذ ايراني في العلوم الاستراتيجية، ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية المذهبية.

أو كتّاب السناريوهات، ففي الواقع إن الرائدين في مجال إعداد حضارة المجتمع هم الممثلون والفنانون في ساحة التمثيل اليوم) (1) .

كيف تؤثر السينما في عقولنا؟

كيف تؤثر الدراما التلفزيونية والسينمائية في النفس البشرية؟ سؤال يبدو محيراً بعض الشيء، لأننا عندما ننظر إلى الأغلبية الساحقة من البشر الذين يتابعون هذه الدراما نجدهم يتعاملون معها بمشاعر حقيقية، ففي أثناء مشاهدتهم مسلسلاً أو فيلماً ما تجدهم يصابون بالخوف أو الترقّب أو الفرح أو الحماسة أو الحزن إلى حد البكاء، مع أن الجميع يعلم - بما فيهم المشاهدون أنفسهم - أن ما يشاهدونه مجرد تمثيل كاذب لا واقع له.

وربما تسهل الإجابة عن هذا التساؤل إذا علمنا الآليات التي يتعامل بها العقل البشري مع المنتوجات الإعلامية ومنها الدراما التلفزيونية والسينمائية، وقد أشار إلى هذه الآليات الباحث (أليكس انصاري Alex Ansary) (2) حيث قال : (يتم استغباء البشر عبر مشاهدة التلفزيون بصورة أخرى من خلال إلغاء نشاطات الجهات العليا في الدماغ (القشرة المخية الحديثة Neocortex) (3) وتحفيز الجهات السفلى في الدماغ (الجهاز الحوفي limbic system) (4) ، وهذا المشروع يسمى ب-(دماغ الزواحف reptilian brain) لأنه يرتبط بردود الأفعال البدائية للحيوانات الزاحفة كالمواجهة والهروب، لأن دماغ الزواحف ليس لديه القدرة على تمييز الصور الحقيقة من الصور المجازية أو المزيفة، ونتيجة لذلك فإننا نعرف أن ما نشاهده من أفلام هو مجرد أفلام، أما في العقل الباطن (اللاواعي) فإننا نؤمن بأن ما نراه حقيقة.

ص: 303


1- اقتباس من محاضرة للدكتور عباسي القاها في قاعة مركز لارسباران الثقافي كمقدمة لتحليل المسلسلات الدرامية الاستراتيجية.
2- باحث اعلامي إيراني الاصل يحمل الجنسية الامريكية.
3- هي الطبقة الخارجية من نصف كرة المخ، تتكون لدى الأنسان من ست طبقات من الخلايا العصبية، سميت بالقشرة الجديدة لكونها تقع في أعلى مراتب التطور في التصنيف العام للكائنات الحية. وتعقيد تركيبة الطبقات الست هو ما يميز الأنسان من باقي الكائنات الحية.
4- هو الجهاز المسؤول عن السلوكيات العاطفية والانفعالية والذاكرة المرتبطة بها.

وكمثال على ذلك، فإننا حينما نشاهد مشهداً مؤثراً تزداد سرعة نبضات قلبنا، وعندما نشاهد إعلاناً ترويجياً عن بضاعة معينة نعرف أن المنتجين يريدون من خلال ذلك تصريف بضاعتهم، ولكننا في الوقت نفسه لا نشعر بالراحة حتى نشتري تلك البضاعة، وإلا فإننا سنشعر في أعماقنا بالنقص، لأن تأثير ذلك تأثير قوي يعمل على أعمق محطات ردود الأفعال لدى الإنسان، فدماغ الزواحف يجعلنا طيّعين أمام منتجي البرامج، ومن هنا يتأتىّ لهؤلاء أن يستخدموا قدراتنا العاطفية لأجل السيطرة على عقولنا، وفي العادة لا نستطيع أن نكتشف كيف يسيروننا بواسطة العقل الباطن اللاوعي (...) وتستمر هوليوود بتخويفنا عبر الأفلام التي تتضمن مواضيع المافيات والعصابات والعمال المجرمين الذين يسجنون بسبب غبائهم وطمعهم، وفي النهاية تستعد أذهاننا لتقبل الحياة في المجتمع البوليسي الذي يتمحور على الاقتصاد، لأننا قرأنا عنه في الصحف وشاهدناه في الأفلام ونشرات الأخبار، وتم تمجيده في البرامج الحوارية، والآن تنتج أفلاما عديدة تثبت أن ما حدث في 11 سبتمبر هي أحداث حقيقية وليست مزيفة كما تم تزييف الوقائع التي أدت إلى الحرب على العراق) (1) .

من جانب آخر يضع الكاتب (أبو حب الله) في تقرير مفصّل له شرحا لآليات تأثير الأفلام السينمائية في نفوس مشاهديها قائلاً: (في الوقت الذي نجد القارئ أو السامع في العادة ما يكون على دراية كافية بما سيختاره قبل قراءته أو سماعه، وأن شخصية (الكاتب) أو (الخطيب) أو (المذيع) دوماً ما تكون معروفة التوجه والمنهج، فإن الأمر يختلف كثيرًا مع الأفلام السينمائية للأسف والتي تتغير توجهات أفرادها (مخرجين أو ممثلين) في كل مرة حسب القصة والسيناريو الذي تم اختياره لإنتاجه، فإذا وضعنا في الاعتبار أن النسبة الأكبر لاختيار فيلم ما هي التي تعتمد على جاذبية البوستر أو (التريلر الإعلاني (Trailer) (2) : فإن ذلك يجعل مِن الفيلم غالباً مُفاجأة (غير معلومة المحتوى) إلا عند المُشاهدة الكاملة لأول مرة، ومِن هنا فدس (السُم في الدسم) هو مِن أخطر ما يتم تمريره مِن خلال تلكم الأفلام...

ص: 304


1- مقال بعنوان (السيطرة الواسعة على الاذهان عبر شبكة التلفاز .. هل تملكون أفكاركم؟) لألكس انصاري نشرته مجلة سياحة الغرب في العدد- 124 ترجمة: موقع سيستم يار / مجلة سياحت غرب.
2- الدعاية الترويجية للفيلم.

كذلك مِن المعلوم أن كل عمل فني هو عمل «وحدوي الاتجاه» أي:

يتم عرض الأمور فيه مِن وجهة نظر واحدة فقط وهي وجهة نظر صاحبها - حيث هو وحده الذي يُقرر أحداثها ومواقفها، وهو وحده الذي يرسم صورة المظلوم مِن الظالم، وتحديد الطرف القوي الحُجة مِن الأضعف والحسن مِن القبيح والبداية مِن النهاية، وبذلك: فهو المتحكم الوحيد فيما سيتم عرضه على المتلقي وكذلك فيما سيتم حَجبه عنه - وهو ما يُعرف بأسلوب (حارس البوابة Gate keeper) - والأفلام في ذلك هي مِن أقوى المؤثرات بسبب طبيعتها الجذابة، والتي تحمل المُشاهد ليعيش أحداثها ويتفاعل معها لتتجسد في عقله وخياله الخاص، ولهذا نجد أن مَن تأثروا بها في حياتهم فإنما أبصروا في الحقيقة بعين المؤلف أو المخرج لا بأعينهم هم، وأنهم اعتنقوا أفكاره على غير نقاشٍ مُحايد...

وأما أخطر ما في هذه الأفلام فهو في حال عرضها على القنوات الرسمية لتصل إلى أكبر قدر ممكن مِن الناس، حيث لا يتم حذف مقاطعها الخبيثة (فكرياً) وعلى غرار ما يتم حذفه مِن مقاطعها (الجنسية) وبذلك نلمس مدى عمق تأثيرها وهي التي لن تخاطب فئة معينة مِن الناس كالمثقفين مثلاً، أو لن تخاطب كبارًا فقط قد صقلتهم خبرات الحياة فيرُدون شبهاتها، بل سيراها أطفال اليوم شباب الغد - وهم أكثر الفئات العُمرية تقبلاً وتقليدًا وتأثرًا بما يشاهدونه ويسمعونه لو لم يُحذرهم مِنه أحد - ولذلك .. فإن المرءَ ليُشفق على بعض هؤلاء أمام احترافية (الخداع النفسي) و (المُغالطات المنطقية Logical fallacy) التي يستخدمهما الملحدون واللادينيون دومًا في زعزعة الإيمان أو التشكيك في الأديان أو الطعن في الخالق، وبحيث يتم تمرير قبح الإلحاد وستر عوراته الفكرية في غفلةٍ مِن القوم) (1) .

ويشير الكاتب (أبو حب الله) إلى أن تقليد الأفلام السينمائية يعد من أهم أسباب تأثير الأفلام السينمائية في تغيير مفاهيم المشاهدين ومعتقداتهم فيقول: (أثر «تقليد»

ص: 305


1- تقرير بعنوان (السينما واللاوعي والخطاب الشعبي للالحاد) نشرته مجلة البراهين في عددها الثاني 2014.

الأفلام السينمائية في تغيير المفاهيم والمعتقدات... يُعد أقوى آثار الأفلام على الإطلاق هو ما يُعرف ب- «التحفيز على التقليد»، حيث يتم تقديم (القدوة) للمُشاهدين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وكما هو معروف مِن أبسط أساسيات التعليم - ومِنه جاء معنى كلمة التعليم في اليابان (كيو إكو) حيث (إكو) تعني تربية الطفل و(كيو) تعني التشجيع على التقليد - ويكون تحفيز تقليد الأفلام في صورتين:

1 - إما أن يكون لحظيًا سريعًا صادمًا (بسبب مقولةٍ ما مثلاً أو مشهدٍ ما مِن الفيلم أو حتى مضمون الفيلم بأكمله): فتتغير بسببه حياة المُشاهد وربما إلى آخر حياته.

2 - أو يكون بطيئًا ومُتدرجًا.. وذلك حسب عمق الفكرة المُتسربة إلى عقل المُشاهد، أو نتيجة المنظومة النفسية المدروسة القائمة على تكرار مُشاهدة الشيء المُعين لزرع التعوّد عليه وتبنيه - مثل تكرار مَشاهد الجنس مثلاً أو مَشاهد اللامبالاة بمشاعر الآخرين أو مَشاهد القتل والتعذيب والدماء أو مَشاهد الاستخفاف بالدين والأخلاق.

فالتحفيز على التقليد: يقع في حال تطابق أفكار الفيلم مع (مشاعرَ كامنةٍ) أو (ميولٍ خفيةٍ) أو (رغبة إثبات النِدّية أو القدرة على المُحاكاة) داخل نفس المُشاهد، فعندها يُشجعه الفيلم على إخراجها أو إظهارها على أرض الواقع سواء بالخير أو بالشر) (1) .

هوليوود (2) رأس الهرم السينمائي:

إذا شككنا في مقدار التأثير الدرامي في التوجيه والتعليم وتشكيل الرأي العام، فلن يقصر الدور المشهود لصناعة (هوليوود) السينمائية عن إزالة هذا الشك، فهوليوود التي تربعت على عرش الإنتاج السينمائي في العالم كان لها الدور الأبرز في جعل أميركا هي أميركا التي نعرفها اليوم: الأمة التي تؤثر سياستها وثقافتها في الشعوب كافة.

ص: 306


1- المصدر نفسه.
2- هوليوود عبارة بلدة صغيرة تقع في مقاطعة لوس اأجلس التابعة لولاية كاليفورنيا الأمريكية، أسست في العام 1853 كبلدة تستقطب المزارعين وأصحاب التجارة، ظهر عليها الاهتمام بصناعة السينما بشكل تدريجي بطيء منذ العام 1910، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى أصبحت هوليوود مركز الانتاج السينمائي، إذ بنيت فيها خلال الحرب استوديوهات ومختبرات سينمائية.

وفي هذا الصدد يروي لنا الكاتب (مارك وبر Mark Weber) (1) تجربة لطيفة حصلت له بصدد تأثير هوليوود الثقافي على الشعوب قائلاً: (لقد تسنى لي أن أسافر إلى إيران في شهر سبتمبر الماضي مع ثمانية أشخاص لحضور مؤتمر "أفق نو"، وحينما كنا جالسين في أعلى برج ميلاد في طهران لتناول الطعام دار بيننا كلام حول عادات وتقاليد بعض الشعوب، وفوجئت بمداخلة شاب إيراني في عقد الثلاثينات من العمر قائلاً: الأميركيون أناس رشيقون وذوو أجسام أنيقة، فقلت له باستغراب: الجميع يعلم بأن الشعب الأميركي من الشعوب التي تعاني من السمنة المفرطة، فكيف تقول هذا؟ فأجاب: هذا ما شاهدته في الأفلام الأميركية، دائما يظهرون فيها بأناقة ورشاقة. لم يكن ذلك الشاب غبياً أو بليداً، ولكن كشف لي مدى تأثير ونفوذ هوليوود في المجتمعات حول العالم، ومدى تمكنها من بسط سيطرتها على عقول الشعوب وتغيير الحقائق، ومن خلال لقاءات متعددة مع أشخاص آخرين اكتشفت أن لديهم جميعا أفكاراً حسنة وفي بعض الأحيان غريبة عن المجتمع الأميركي... ومما زاد في استغرابي أن الشعوب التي تتظاهر بأنها صديقة لأميركا تحمل في الواقع أفكاراً سلبية عن أميركا أكثر من الشعوب التي تتظاهر بأن أميركا عدوة لها) (2) .

إن هذا التأثير العالمي لم يكن وليد فراغ، ولكنه جاء نتيجة لاهتمام حقيقي بهذه الماكنة الإعلامية الضخمة، بحيث أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المنظومة السياسية الأساسية للكيان الأميركي العام.

لذا يؤكد الباحث عبد الحليم حمود في كتابه (سينما الدعاية السياسية) قائلاً: (كانت وزارة الدفاع الأميركية التي يطلق عليها في ذلك الوقت «وزارة الحرب» تنفق سنويا مبلغ 50 مليون دولار - وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت- على إنتاج أفلام في أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل ترويج الدعايات الحربية التي ترغب بها

ص: 307


1- مدير معهد مراجعة التاريخ، درس التاريخ في جامعة إلينوي في شيكاغو وجامعة ميونيخ وجامعة الولاية في بورتلاند وحصل على درجة الماجستير في الآداب من جامعة إنديانا عام 1977. وعمل لمدة تسع سنوات رئيساً لتحرير النشرة الدورية لمعهد مراجعة التاريخ.
2- مقال بعنوان (ورقة أعمال هولييود والأيادي الخفية خلف الكواليس) لمارك وبر نشرتها مجلة سياحة الغرب في العدد 122.

المصالح الأميركية داخل الولايات المتحدة وخارجها... فهوليوود كانت على الدوام مع توجهات وتوجيهات وسياسات كل الإدارات الأميركية الجمهورية والديموقراطية على السواء، إن هوليوود خاضت مع الإدارة كل حروبها وكانت معها في كل معاركها، ووقفت إلى جانبها في كل العهود والمواقف والملمّات، ليس ثمة صناعة سينمائية وتلفزيونية في العالم لعبت الدور الذي تلعبه هوليوود، لا من حيث قدرتها على الإبلاغ والتأثير ولا من حيث سلطتها على العقول والقلوب، دورها الإيديولوجي الإعلامي الدعائي لا يضاهى، وهي حاضرة في زمني السلم والحرب، حاضرة مع جيوش أميركا في ساحات القتال وحاضرة عندما تعجز هذه الجيوش وحدها عن فرض مشيئة أمريكا.

في كتابه «الفوضى» يقول «زبينيو برجنسكي» إن (القوة الأميركية بحد ذاتها ليست كافية لفرض المفهوم الأميركي لنظام عالمي جديد) لا بد إذن إلى جانب القوة المادية السياسية والاقتصادية والعسكرية من اللجوء إلى قوة أخرى قد تكون أشد فعالية هي قوة الدعاية والترغيب والإقناع واستمالة العقول والقلوب، وهل هناك أفضل من هوليوود - وهي مصنع السينما والتلفزيون - للقيام بمثل هذه المهمة؟

إيديولوجية هوليوود هي أميركا نفسها، هي قيم أميركا والإيمان بها وتغذية النزعة الليبرالية الرأسمالية حيث يسود قانون الأقوى) (1).

وتأكيداً على العلاقة الوطيدة لهوليوود بمصادر القرار السياسية فقد ذكر (ديفيد ال. راب David rap) في كتابه (عملية هوليوود) قائلا: (هوليوود والبنتاغون لديهما تعاون قديم في صناعة الأفلام، وهذه سنة من السنن القديمة تاريخها يعود منذ عهد الأفلام الصامتة وحتى عهدنا الحاضر، وهذا التعاون كان مفيداً لكلا الطرفين، المنتجون في هوليوود يحصلون على كل شيء يريدونه - مثل المعدات العسكرية التي تقدر بمليارات الدولارات كالدبابات والطائرات العمودية والحربية والغواصات النووية وحاملات الطائرات العملاقة - ويحصل

ص: 308


1- سينما الدعاية السياسية للكاتب عبد الحليم حمود: 7.

الجيش على غاياته - مثل الأفلام التي تعطي صورة محسّنة عن الجيش والأفلام التي تسهم في استخدام القوة بوساطة العسكر - والبنتاغون لا يمارس فقط دور الراعي لهذه الأفلام بل يقترح ويشرف على كتابة السيناريو في الأفلام إذا كانت غیر مقنعة بالنسبة له حتى يضمن لهم رعاية الجيش والقوات العسكرية، وفي بعض الأحيان تكون هذه المقترحات بسيطة، ولكن في بعض الأحيان تكون كبيرة إلى حد تغيير السيناريو بالكامل أو تغيير طاقم الفيلم، ويصل إلى حد تحريف التاريخ في بعض الأحيان) (1) .

وعلى هذا الأساس يعود الدكتور حسن عباسي ليؤكد على أن النظام الفكري في أميركا ليس شيئاً آخر غير هوليوود، لذا فإن أهمية هوليوود وصناعتها للأفلام التي تشكل الحضارة في كفّة، وكل الصناعات والاقتصاد والقوة العسكرية في هذا البلد في كفّة أخرى) (2).

لذا فلا غرابة أن يصرح الرئيس الأميركي روزفلت وهو يفتتح هوليوود عند إنشائها: «من هنا سنصنع عظمة أميركا»، ويقول الرئيس الأميركي بوش الأب الذي أشرف على هندسة المراحل الأخيرة من الانهيار السوفييتي إن مدير شركة (مترو جولدن ماير)، إن الهمبرجر والجينز وهوليوود وشركات السكاير هي التي حسمت الحرب الباردة لصالح أمريكا (3).

شركات الإنتاج في هوليوود:

إن قوة هوليوود الحالية تفوق أضعاف قوتها مقارنة بالماضي، ليس لأن عالم اليوم بات قرية واحدة حسب، وإنما لأن الشركات المنتجة لأفلام هوليوود صارت أكثر اندماجاً بعضها مع بعض مما يجعلها أكثر قدرة على صناعة الرأي العام أو توجيهه،

ص: 309


1- اقتباس لألكس انصاري في مقال (السيطرة الواسعة على الاذهان عبر شبكة التلفاز)- مصدر سابق
2- اقتباس من محاضرة ألقاها د. عباسي في قاعة مركز لارسباران الثقافي - مصدر سابق
3- ينظر: مقال تحت عنوان (كم خسر العمل الإسلامي بموت مصطفى العقاد؟) للكاتبة نجدت لاطة- رابطة أدباء الشام.

وهذا ما صرح به إمبراطور الإعلام الشهير «روبرت مردوخ Rupert Murdoch» (1) قائلا: (إن قوة وتأثير وسائل الاتصال أكبر من أي وقت مضى ويرجع ذلك إلى ظهور اتجاهين مترابطين في بناء صناعة الاتصالات وهما: التكتلات الإعلامية المركزية والمدمجة، فالإنتاج في قطاع الاتصالات الثقافية والإعلامية مركّز بشكل متزايد في أيدي شركات كبرى قليلة متماثلة في قطاعات مركزية مدمجة) (2) .

وللتعرف إلى أهم الشركات السينمائية العملاقة والمدمجة التي تتربع على عرش هوليوود نورد تقريراً نشره موقع ساسة بوست الالكتروني جاء فيه: (إذا رتبنا شركات صناعة الأفلام عبر التاريخ فستحتل شركة (وارنر بروس Warner Bros) المرتبة الأولى عالميّاً، فقد جنت هذه الشركة إجمالي 37،7 مليار دولار أميركي منذ إنشائها عام 1923، قامت الشركة بإنتاج 848 فيلماً مختلفًا، كان أبرزها على الإطلاق هو فيلم (فارس الظلام the dark Knight) الذي حصد مليار دولار أميركي منذ إطلاقه عام 2008، ومن الأفلام الشهيرة الأخرى لهذه الشركة كانت سلسلة أفلام (هاري بوتر) وفيلم (القناص الأميركي).

وتأتي في المركز الثاني شركة (بوينا فيستا Buena Vista) التي تمكنت من حصد 34،8 مليار دولار أميركي منذ تأسيسها عام 1953، قامت هذه الشركة التابعة لمجموعة والت ديزني الشهيرة بإنتاج 612 فيلماً كان أبرزها النسخة الأحدث من سلسلة (حرب النجوم the force awakens :star wars) والذي حقق إجمالي 1،5 مليار دولار منذ إطلاق الفيلم في دور العرض عام 2015، ومن بين الأفلام الشهيرة لهذه الشركة أفلام (أفينجرز) و (توي ستوري).

في المرتبة الثالثة تأتي شركة (سوني كولومبيا Sony / Columbia) والتي تمكنت

ص: 310


1- كيث روبرت مردوخ: رجل أعمال أسترالي أمريكي يهودي، يعد قطبا من أقطاب التجارة والإعلام الدولي، وهو مؤسس ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للشركة القابضة للإعلام الدولي نيوز كوربوريشن News corporation التابع لها قناة فوكس نيوز الاخبارية المشهورة بمناصرتها المطلقة لإسرائيل وعدائها الشديد للقضية الفلسطينية، وتعد شركة نيوز كوربوريشن ثاني أكبر تكتل لوسائل الإعلام في العالم.
2- ينظر: استراتيجيات الدعاية والحملات الإعلانية للدكتور أشرف فهمى خوخة ص 129.

من حصد 32,7 مليار دولار أميركي منذ تأسيسها عام 1924، قامت الشركة بإنتاج 873 فيلماً كان أبرزها وأعلاها في الدخل هو فيلم (الرجل العنكبوت Spider-Man) الذي حقق مبلغ 821 مليون دولار منذ إطلاقه في دور العرض عام 2002، ومن الأفلام الشهيرة أيضًا لهذه الشركة (رجال في الظلام men in black) و(هانكوك Hancock).

في المرتبة الرابعة تأتي شركة باراماونت (Paramount) والتي جمعت إجمالي 30،8 مليار دولار منذ تأسيسها عام 1912، الشركة قامت بإنتاج 607 أفلام كان أشهرها وأعلاها دخلاً الفيلم الشهير (تايتانيك Titanic) الذي تمكن من حصد إجمالي 2,2 مليار دولار أميركي منذ عرضه عام 1997، ومن الأفلام البارزة أيضًا لهذه الشركة أفلام (ترانسفورمرز Transformers) و (شريك Shrek) و (آيرون مان Iron Man).

في المركز الخامس تأتي شركة (يونيفرسال Universal) بإجمالي 29,9 مليار دولار تقريباً منذ تأسيس الشركة عام 1912، الشركة قامت بإنتاج 659 فيلماً كان أشهرها فيلم (حديقة الديناصورات Jurassic Park) الذي حقق إجمالي 1،7 مليار دولار منذ عرضه عام 2015، ومن الأفلام الشهيرة الأخرى لهذه الشركة أفلام (فاست اند فيوريس The Fast and the Furious) و (كينغ كونغ Kong King).

في المركز السادس جاءت شركة فوكس القرن العشرين بإجمالي 29،4 مليار دولار منذ تأسيس الشركة عام 1935، أشهر أفلام هذه الشركة كان فيلم (أفاتار Avatar) الذي حقق إجمالي 2,8 مليار دولار منذ عرضه عام 2009، لتكون هذه الشركة هي الشركة صاحبة أعلى الأفلام دخلاً في تاريخ السينما العالمية. ومن بين الأفلام الشهيرة الأخرى لهذه الشركة أفلام حرب النجوم (Star Wars) و (يوم الاستقلال -Independence Day).

بعد هذا يتضح الفارق الكبير بين الشركات الستة السابقة التي تعتبر الشركات العملاقة في مجال صناعة الأفلام. فأقرب شركة خلف هذه الشركات هي شركة (إم جي إم MGM) بإجمالي 9،3 مليار دولار، ثم شركة (نيولاين New Line) بإجمالي

ص: 311

7,4 مليار دولار، ثم شركة (ليونزغيت - Lions Gate Entertainment Corporation) بإجمالي 6,8 مليار دولار، ثم شركة (ميراماكس Miramax) بإجمالي 4،4 مليار دولار) (1) .

وبمراجعة سريعة لأسماء هذه الشركات العملاقة، نجد أن هوليوود ظاهراً هي عبارة عن مجمّع الشركات مدمجة مستقلة تسعى للربح المالي من خلال الأعمال السينمائية الفنية على مستوى عالمي، ولكن بالتدقيق الجيّد نجد أن هنالك أكثر من رابط يجمع بين هذه الشركات، على رأسها عائدية تلك الشركات لليهود، وهذا الأمر في حد ذاته يستبطن من المعطيات الشيء الكثير.

هوليوود وعلاقتها باليهود:

يقول الدكتور فؤاد بن سيد الرفاعي في كتابه «النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية»: (يُسيطر اليهود سيطرة تامة على شركات الإنتاج السينمائي، فشركة (فوكس) يمتلكها اليهودي (ويليام فوكس) وشركة (غولدين) يمتلكها اليهودي (صاموئيل غولدين) وشركة (مترو) يمتلكها اليهودي (لويس ماير) وشركة (الإخوان وارنر) يمتلكها اليهودي (هارني وارنر) وإخوانه وشركة (برامونت) يمتلكها اليهودي (هودكنسون).

جميع هذه الشركات اليهودية يُباع إنتاجها في العالم الإسلامي، ويتمثل في أفلام الجريمة وفنونها واللصوصية وأساليبها والعنصرية اليهودية واضحة فيها، ومع ذلك تُعرَض منذ سنين طويلة في بلاد العرب وتغص بها صالات العرض السينمائي والتلفزيوني.. شكراً لمكاتب مقاطعة إسرائيل.

وتشير بعض الإحصائيات إلى أن أكثر من 90% من مجموع العاملين في الحقل السينمائي الأميركي، إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً وتصويراً ومونتاجاً هم من اليهود...

ص: 312


1- تقرير أورده موقع ساسة بوست تحت عنوان (تعرف على مدخولات كبرى شركات صناعة الأفلام العالمية) بتاريخ 2016/2/8.

ولعلّ أبلغ ما قيل في وصف السيطرة الصهيونية في مجال صناعة السينما الأميركية، ما ورد في مقال نشرته صحيفة «الأخبار المسيحية الحرة» عام 1938 قالت فيه: «إن صناعة السينما في أميركا هي يهودية بأكملها، ويتحكم اليهود فيها دون أن ينازعهم في ذلك أحد، ويطردون منها كل من لا ينتمي إليهم أو لا يصانعهم، وجميع العاملين فيها هم، إما من اليهود أو من صنائعهم، ولقد أصبحت هوليوود بسببهم (سدوم (1) العصر الحديث) حيث تُنحر الفضيلة وتُنشر الرذيلة وتُسترخص الأعراض وتُنهب الأموال دون رادع أو وازع، وهم يرغمون كل من يعمل لديهم على تعميم ونشر مخططهم الإجرامي تحت ستائر خادعة كاذبة، وبهذه الأساليب القذرة أفسدوا الأخلاق في البلاد وقضوا على مشاعر الرجولة والإحساس وعلى المُثل للأجيال الأميركية».

واختتمت الصحيفة كلامها بالقول: («أوقفوا هذه الصناعة المجرمة لأنها أضحت أعظم سلاح يملكه اليهود لنشر دعاياتهم المضللة الفاسدة») (2) .

وفي الأبحاث التي تتعلق بدراسة هوليوود وإنتاجاتها غالبا ما يتم التعرض للعلاقة الوثيقة بين اليهود وماكنة السينما الأميركية، باعتبارها تمثل علاقة حساسة وغريبة في حد ذاتها، لأن اليهود يحتلون مساحة ضيقة جداً من نسيج المجتمع الأميركي، ومع ذلك يمسكون بمقاليد هذا المحور الإعلامي الضخم الذي يغزو شرق العالم وغربه، ويعيد تشكيل الثقافة المحلية والعالمية على حد سواء.

ويبدو أن هذه الظاهرة نابعة من سيرة اليهود في سعيهم الدائم للسيطرة على مصادر القوة في المجتمع الذي يعيشون فيه، وحرصهم على النفوذ في المواطن الحساسة ذات التأثير الواسع، فاليهود لا يشكلون في المجتمع الأميركي سوى 2-3 % ومع

ص: 313


1- ٭سدوم: مدينة من مدن قوم لوط عليه السلام، وتقع في الأردن - بجوار البحر الميت الآن-، والذي لم يكن موجوداً قبل أن يمطر الله عز وجل قوم لوط بحجارة من سجّيل ويقلب ديارهم. ولقد كان في هذه المدينة قاضٍ مشهور بالجشع والجور، ضربَ العرب به المثل فقالوا: (أجْوَرُ من قاضي سدوم ) وسبب جوره، أنه كان يأخذ من كل مَنْ يفعل الفاحشة أربعة دراهم!!
2- ينظر: مقال بعنوان (اليهود والسيطرة على صناعة السينما والتلفزيون والمسرح والثقافة والإعلان التجاري) نشره موقع طريق الاسلام بتاريخ 2006/5/31.

ذلك يحتلون ما نسبته 11% من النخب الأميركية و 25% من الصحفيين والناشرين المشهورين وأكثر من 17% من قادة المراكز المهمة الحكومية و 15% من الموظفين رفيعي المستوى (1) .

(وفي العقود الثلاثة الأخيرة أصبح اليهود في الولايات المتحدة الأميركية يمثلون نصف المئتين من المفكرين و 20% من الأستاذة الجامعيين الأوائل ويملكون 40 % من الشركات والأسهم الحقوقية في نيويورك وواشنطن، وأصبحوا يشغلون ما نسبته %59 من المخرجين والكتاب والمنتجين لأفضل خمسين فيلماً شهيراً في أميركا منذ عام 1965 إلى 1982) (2).

إن هذه الاستراتيجية التي اتبعها اليهود أعطتهم سلطة لم تكن أي اقلية تحلم بها في العالم، وقد نالوا ثمرة جهود حثيثة سعوا إليها منذ قرون ليعوضوا تشرذمهم وعزلتهم الاجتماعية التي أفرزتها أيدولوجيتهم الأنانية في النظر إلى الآخرين نظرة دونية.

إن هذه السلطة الخفية ليست وليدة اليوم، فقبل ثلاثين عاما أكد المحقق الأميركي واليهودي الأصل المعادي للصهيونية (ألفريد ليلينتال Alfred Lilienthal) في دراسة بعنوان (الاتصال الصهيوني The Zionist Connection) قائلاً: (عمق السلطة والقرار اليهودي الممنهج في الولايات الأميركية شيء محير للعقول، ويمكن القول إن الحصة الكبيرة من هذه السلطة ترجع إلى السيطرة على وسائل الإعلام بعد قرون من الأذى والتعذيب والتشريد) (3) .

إن أحد أعمدة نجاح اليهود في الوصول إلى ما كانوا يطمحون إليه يتمثل في تملّكهم وسائل الإعلام وتوظيفها لتحقيق استراتيجيتهم التي تستهدف إلى الاستيلاء

ص: 314


1- ينظر: مقال (هوليوود والأيادي الخفية خلف الكواليس) - مصدر سابق.
2- كتاب (اليهودية والصورة الجديدة للأمريكا Jews and the New American Scene) للكاتبين الشهيرين (سيمور لیبست Seymour Lipset وإيرل راب Earl raab) من منشورات جامعة هارفارد / ص 27-26.
3- ينظر: مقال (هوليوود والأيادي الخفية خلف الكواليس) - مصدر سابق.

على مواطن القرار وجني الأموال الطائلة التي تعود عليهم بمزيد من القوة، يساعدهم في ذلك سجيتهم التي تجيز اتّباع كل الأساليب الممكنة من أجل تحقيق ما يطمحون إليه، حتى لو كانت هذه الأساليب خسيسة وتعود على المجتمعات بالضرر البليغ.

وفي هذا الصدد يقول الكاتب (مارك وبر Mark Weber): (رغبة هوليوود الجنونية لأجل كسب الأرباح الهائلة فيها تعكس أضراراً جسيمة على المجتمع، والسباق لأجل اكتساب أسواق ومبيعات جديدة في هوليوود تسبب في ترويج ونشر الرذائل وإنتاج ثقافة متدنية جدا وهذا في حد ذاته يعد أمراً سيئاً جداً، ويضاف إلى ذلك التاريخ الطويل لهوليوود في ترويج الأيديولوجيات والأهداف السياسية الطائفية والقومية... قال (ستيف آلين Steve Allen) (1) أحد أشهر الفنانين المحببين لدى الأميركيين... الجميع في الجناح اليساري واليمين والمعتدلين يعرفون بأننا نعيش في زمن سقوط الأخلاق والثقافة والكثير لا يريد أن يعترف بأن مسؤولية هذا شيء أيضا يقع على بعض وسائل الإعلام المرغوبة لدى الناس وبرأيي «آلين» كان محقاً لأن هوليوود لها دور واضح في هذا الانحطاط الأخلاقي والثقافي في الولايات المتحدة الأميركية وكثير من دول العالم يتجاهلون ذلك) (2) .

وعلى كل حال فإن إمساك اليهود بزمام هوليوود بات أمراً مسلماً به، يخضع له الرأي العام الأميركي والعالمي على حد سواء، ويجاريه المستهلكون بكل رحابة صدر على ما هو عليه من استراتيجية تسعى لاكتساب السلطة وكثير من الهيمنة، لذا فليس من المستغرب أن نستمع إلى أحد منتجي هوليوود (جوئیل استين Joel Austin) وهو يكتب في مقالة له بصحيفة (لوس آنجلس تایم) قائلا: (كشخص يهودي أقول وبرفعة رأس وأريد أن يطلع الأميركيون على ذلك: نعم نحن اليهود نسيطر على هوليوود... ولا يهمني ما هي وجهة نظر الأميركيين حول سيطرتنا على وسائل الإعلام وهوليوود و «وول

ص: 315


1- مذيع تلفزيوني أميركي وموسيقي وملحن وممثل وفنان كوميدي وكاتب شهير جداً. قام بتأليف ما يزيد علي 50 كتاباً وحصل على نجمتين في ممر الشهرة في هوليوود (Hollywood Walk of Fame) ومسرح هوليوود الذي أُطلق عليه اسم مسرح ستيف آلين تكريمًا له.
2- مقال (هوليوود والأيادي الخفية خلف الكواليس) لمارك وبر- مصدر سابق.

ستريت» وإدارة الحكومة، الذي يهمنا هو وجوب واستمرار سيطرتنا على هذه المراكز) (1) .

هوليوود والدين:

لم تسلم العقيدة الدينية - كأفكار وقيم - من استهداف هوليوود لها، في أسلوب ممنهج يؤدي بالضرورة إلى تحطيم الأديان أو إعادة تشكيلها في الذهنية الاجتماعية بشكل مشوّه يجعل أتباعها عاجزين تماماً في ساحة الصراع الحضاري، ونجد ذلك واضحاً مع مطلع القرن الواحد والعشرين إلى اليوم.

وعن طريق متابعتنا عينة من الأفلام الأميركية ذات الصدارة في الإنتاج والتسويق التي أنتجت خلال عقد ونصف - تحديداً من العام 2000 إلى العام 2015 - ظهرت لنا حزمة من الأفكار المضادة للأديان - وبخاصة الإسلام - التي ركزت هوليوود على تجسيدها وتناولتها بطرق مختلفة تصب في المضمون نفسه، مما يدل على محاولات جادة لبث تلك الأفكار بين الناس، وفيما يأتي ملخص لمجموع تلك الأفكار (2) :

اللعب على وتر المآسي التي تتعرض لها البشرية، سواء تلك الناتجة من الكوارث الطبيعية أو الكوارث المفتعلة من البشر، وإثارة عواطف المشاهدين من خلالها لتدفعهم إلى اتهام الرب بالعبثية واللامبالاة، وتثوير روح التمرد والسخط على القضاء والقدر الإلهيين تبعا لذلك.

التشجيع المتواصل على مبدأ التحرر الفكري وتمجيد الحرية الشخصية واعتبارها مفتاح النهوض الإنساني، واستثمار هذا المبدأ لرفض العبودية للرب ووسمها بالتحجّر ومخالفة العقل وقتل الطاقات الخلّاقة، وتشجّع هوليوود على ذلك بإظهار نماذج من الفكر العلماني الفاعل في العلوم الإنسانية والتقنية مقابل نماذج من الفكر الديني المتصلّب الذي لا يؤمن بالتطور ولا يواكب الحياة.

ص: 316


1- .How Jewish Is Hollywood? by Joel Stein- Los Angeles Times 19th December 2008-
2- للاطلاع على دراسة العينات يرجى مراجعة بحث (هوليوود تستهدف الدين)- حيدر محمد الكعبي ومحمد علي العسكري- إصدار المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية - ملحق الرصد رقم - 14 شباط / 2016.

وفي ذات المجال تحاول هوليوود إعادة ترتيب التاريخ البشري وفقا لما یمر به من مراحل من النضج الفكري، وتجعل الإيمان بالأديان في مرحلة تاريخية وسيطة بين عصر الأساطير وعصر التنوير، فتؤكد بذلك أن الإيمان بالغيب لم يعد نافعاً في هذه العصور لأنه لا غاية مفيدة منه لجعل حياة الناس أفضل - إن لم يجعلها أسوأ - وإنما العلم التجريبي وحده هو من يجلب الرفاهية والراحة لهم.

ولخدمة ما تقدم من أهداف، تسعى هوليوود إلى تعميق الهوة بين الإيمان بالأديان وبين التطور العلمي التجريبي، وتجعل كلا الأمرين على طرفي نقيض جهد استطاعتها.

التركيز الشديد على نظرية داروين للنشوء والارتقاء، واعتبارها كلمة الفصل لبيان حقيقة وجود الحياة على الأرض، وتتخذ من ذلك ذريعة لنفي وجود الرب، وعلى الرغم من الهفوات العلمية التي مُنيت بها هذه النظرية إلا أن هوليوود تستخدم غالبا أسلوب المصادرة على المطلوب من أجل إثبات أحقيتها والدفاع عن مضامين النظرية.

التركيز على معطيات الفيزياء النظرية الحديثة لتفسير وجود الكون، وهو أمر تنطلق به هوليوود من نظرية الانفجار العظيم التي أعلن عنها الفيزيائي الشهير (ستيفن هوكينغ)، وهي نظرية علمية أخرى - إلى جانب نظرية داروين - تستند إليها هوليوود لنفي وجود الخالق باعتبار توفر التفسير العلمي لظهور هذا الكون بما فيه .

تجعل هوليوود من التعصّب والتطرف صبغة أساسية للتديّن، وتجعل من التسامح مسألة تتناسب عكسيا مع مقدار الالتزام بالتعاليم الدينية أو ما يطلق عليه اصطلاح «الأصولية الدينية» في أدبيات الصحافة الغربية المعاصرة.

التمجيد باليهود وتاريخهم وترسيخ ظلامتهم وذم الطوائف التي تعاديهم بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن ذلك لا يلغي التسامح في تشويه بعض أدبياتهم الدينية وتاريخهم بشكل لا يرضي الطوائف اليهودية المتمسكة بالأصولية الدينية.

ص: 317

في حركة تبدو في صف الأديان، تعيد طائفة مهمة من أفلام هوليوود تجسيد التاريخ الديني الخاص بحياة السيد المسيح (عليه السلام) ولكن ذلك يؤدي في النهاية إلى فكرة الإيمان بالثالوث الإلهي وألوهية عيسى وفكرة الصلب للتكفير عن ذنوب أتباع المسيح.

المادية هي المنبع الأساسي الذي تنتزع منه هوليوود كل تجسيد للظواهر الغيبية التي تحدثت عنها الأديان السماوية، وبخاصة ما يتعلق بتجسيد الملائكة والشياطين والجنة والنار والقيامة.

نفي مكثف لفكرة وجود الخير المطلق أو الشر المطلق في هذا الكون، ومن هذا المنطلق تجد أن الرب يمكن أن يكون شريراً في بعض الأحيان، في حين من الوارد جداً أن يكون الشيطان مثالاً للنفع والخير بالنسبة للإنسان.

ترسيخ محورية الدنيا، وجعل هذه الحياة هي الغاية والمقصد، وعلى هذا الأساس فإن الحياة الآخرة - مع فرض وجودها - لا تمثل سوى أطلال حياة على هامش هذه الحياة.

استخدام سخرية الكوميديا الدرامية لتسخيف المعطيات الدينية، وقد سخرت هوليوود في الآونة الأخيرة من كل القضايا الدينية بما في ذلك المقام الإلهي والأنبياء والملائكة ولم تراعِ حدا في ذلك.

وعلى الصعيد ذاته، كثيرا ما تمزج هوليوود الأساطير الدينية الخرافية بمعطيات الأديان السماوية وتجعل إحداهما امتداداً للأخرى في كثير من الأحيان.

الثقافة التوراتية والإنجيلية المتداولة طاغية في المسائل الدينية التي تتناولها هوليوود في أفلامها، وهي ثقافة في حد ذاتها سيئة لما تحتويه من ثغرات كبيرة لا تتوافق مع العقل والمنطق السليم.

ص: 318

خاتمة وتوصيات:

يقول الباحث وليد مهدي (1) واصفاً تأثير هوليوود في تشكيل الوعي الجماهيري: (في اعتقادي الشخصي هوليوود بمثابة الخيال في "مخ" المجتمع البشري ككلٍّ موحد، وحتى لو زالت الإمبراطورية العسكرية «الديمقراطية» الأميركية من الوجود، فأعتقد أن هوليوود ستبقى في القمة ولن يصل إلى مستواها الفني مكانٌ آخر في العالم، وربما سيكون لها دورٌ أكبر في تثقيف البشرية عبر سبكها للعلم والفن واللاهوت والتاريخ في قوالب ملوّنة متنوعة تعيد إنتاج الفنون والعلوم والتاريخ في وعينا) (2) .

في مقابل هذا الفن المُؤدلِج ذي التأثير الضاغط على عقيدة الإنسان المتديّن وسلوكه، لا بد من أن يكون لدينا ما يدفع مغالطاته الفكرية ويفضح ألاعيبه الإعلامية، ويبين لدى المشاهدين - وبخاصة الشباب - التفافه على الحقائق البديهية والقيمية بطريقة لا تخلو من المكر .

على أن أفضل طريقة لصد خطر هذا الإنتاج المؤثر هو استخدام الأسلوب ذاته، أي بيان الحقائق من خلال الأفلام السينمائية ذاتها، وبالأسلوب البارع والمؤثر نفسه الذي يستهوي طبقات المجتمع كافة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن التجربة شاهدة على أن المجتمع يتأثر بالرسائل الفنية والإعلامية التي تقترب من بيئته والتي يؤدي أدوارها أشخاص من أبناء جلدته، بشرط أن يتوافر العمل الدرامي على أدوات النجاح ابتداء من السيناريو المُحبك مروراً بالتمثيل الجيد وانتهاء بالإخراج المحترف.

ولا يلغي ذلك دور البرامج التلفزيونية والجلسات النقاشية والندوات الثقافية والخطابات المنبرية والمنشورات الدورية في كشف خطر أفلام هوليوود وبيان طبيعة تأثيرها في الجانب العقائدي والاجتماعي، لذا لا بد من أن يركز المصلحون اهتمامهم بهذا الجانب لدرء خطره عقائدياً وسلوكياً في المرحلة الراهنة على أقل تقدير.

ص: 319


1- كاتب وباحث عراقي يوصف بأنه ماركسي مجدد يحترم ويجل الثقافة الإسلامية.
2- نشر في موقع الحوار المتمدن بعنوان (هوليوود وعالم ما بعد الموت) بتاريخ 2010/10/13.

وعلى صعيد آخر، لا غنى لمفكرينا ومثقفينا عن الاطلاع العلمي المتخصص في المجالات العلمية الحديثة كالفيزياء النظرية وعلم الحياة (البايلوجي) وعلم الأرض (الجيولوجيا) وعلم الفلك بمقدار ما يخدم الحقائق الكونية، لأنه غالبا ما يتخذ الملحدون الجدد من دقائق هذه العلوم مادة أساسية لتعبئة مغالطاتهم الفكرية لدعم الإلحاد، وهو أمر طالما انعكس على السينما الأميركية في أعمالها الشهيرة.

ولا يخفى أن أكثر الشبهات التي تتعلق اليوم بالجوانب الغيبية تأتي من توظيف العلوم الحديثة لترويج الإلحاد، على عكس العهود القديمة التي كانت تتخذ من العلوم العقلية الصرفة وسيلة لهذا الغرض.

لذا فإن الاطلاع العلمي الدقيق على تلك العلوم يفيد كثيرا في مجال الرد بالمثل، إذ يمكن أن يوظف المطّلعون على دقائق تلك العلوم لإلهام الإنتاج السينمائي الذي يدعم العقيدة ويقوي أركانها في نفوس مجتمعاتنا.

ص: 320

في مواجهة التغريب الفكري

اشارة

مطالعة في أعمال المفكر المصري أنور الجندي

عماد عبد الرازق

عماد عبد الرازق (1)

يعتبر أنور الجندي من المفكرين الإسلاميين البارزين الذين وهبوا حياتهم الفكرية للدفاع عن الإسلام والمسلمين، وكانت قضية الغزو الفكري والتغريب من أهم القضايا التي شغلت فكره، واحتلت مكانة بارزة في كتاباته، ومثلت علامة فارقة في مشروعه الفكري، لذا حمل على كاهله مقاومة التغريب والغزو الفكري والاستشراق والتبشير، تلك المقولات التي حاول الاستعمار الغربي فرضها على الدول التي احتلها، وهي مقولات فكرية ثقافية اجتماعية تحاول أن تسلخ الأمة الإسلامية من جلدها، وتحاول تغيير وجهتها وتبديل هويتها، لذا عمد أنور الجندي إلى كشف خطورة هذا الغزو الفكري والتغريب على هوية الأمة، وعلى الثوابت الإسلامية والقيم، ووقف بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيفهم، ويهتك سترهم، وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا حتی أنه رد على طه حسين وغيره من أصحاب السلطان الأدبي والسياسي، لأنه یری أن طه حسين هو حامل لواء التغريب في الوطن العربي والإسلامي، فاهتم

ص: 321


1- باحث واستاذ جامعي - جمهورية مصر العربية.

الجندي بكشف الزيف والأباطيل التي راجت وانطلت على الكثير من المثقفين، فأخذ يحذر من كتب طفحت بالسموم والزيف فكتب كتاباً سماه (سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية) وقد خلف من ورائه ميراثاً فكريًا شمل مؤلفاته وموسوعاته الإسلامية التي تربو على مائة كتاب، ذلك الميراث الذي يرسم الطريق الصحيح أمام أجيال من الشباب في مواجهة التغريب والغزو الفكري والثقافي الذي يسعى إلى استئصال هذه الأجيال المسلمة من جذورها وتاريخها وهويتها الإسلامية، لذا قدم مشروعًا فكريًا ضخمًا ينطلق من مرتكزات أساسية من أهمها: نقل المجتمع المسلم من حالة الخمول والضعف والغفلة إلى اليقظة الفكرية، وإبراز الخصوصية التي يتمتع بها الإسلام في نظمه ومفاهيمه، كذلك العمل على بيان عوار الطرح الغربي بنظرياته، وتحليل جذورها التاريخية ورصد تطورها في البيئات الغربية ووضع البديل الإسلامي في قالب التأصيل والمشروعية، كذلك من أهم هذه المرتكزات تصفية كل الشبهات المطروحة في مسيرة المسلمين التاريخية، وتفنيد الشبهات التي يراد لها أن تخترق قاعدتنا الفكرية وتخليص العلوم العربية والإسلامية من رواسب الغزو الثقافي أو الاختراق الفكري. ولقد نقد أنور الجندي في مشروعه الفكري الحضارة الغربية ويرى أنها تقوم على الفصل بين المادة والروح، وهذا أغرق الحضارة الغربية في أزمة خانقة، ويشير إلى أن حركة التغريب في العالم الإسلامي تعتبر أخطر ما يواجه الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية في واقعنا المعاصر، وذلك لأنها تريد أن تحتوي معالم الشخصية الإسلامية، بفناء مقوماتها، وفرض الأنماط الغربية على طابع الحياة الإسلامية، ليسهل احتوائها والتحكم في مصيرها. ويلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي أن التغريب ارتبط بالاستعمار، ذلك لأنه نشأ في محيط الغزو العسكري لبلاد المسلمين. والتغريب في جوهره الأساسي يمثل محاولة فرض الدول الغربية الغازية لغاتها وثقافتها في البلاد التي احتلتها، ومحاولة صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي، فهو أي التغريب يمثل تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، لذا تصدى أنور الجندي في مشروعه الفكري لدعاة التغريب والغزو الفكري، وذلك عن طريق كشف عوراتهم الفكرية، وبيان ضعف حجتهم المنطقية،

ص: 322

كذلك وقف أنور الجندي ضد الاستشراق والتبشير، ويرى أن التبشير يمثل أيضاً خطورة بالغة على الأمة الإسلامية وهويتها، لأنه يمثل حركة استعمارية سياسية بدأت أثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية في دول العالم الثالث والمسلمين خاصة بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب. من هنا وقف أنور الجندي على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين وعقولهم فاجتاحوها وهو باب الغزو الفكري والتغريب، فكان بحق أمين على الثقافة الإسلامية. وهذا ما سوف نوضحه في ورقتنا البحثية من عرض لموقف أنور الجندي من حركة التغريب والحضارة الغربية، وموقفه من المقولات الاستعمارية الكبرى التبشير - والاستشراق، وتقديمه البديل الإسلامي.

أولا: الحضارة الغربية في فكر أنور الجندي: في البداية يرى أنور الجندي أن الحضارة تتكون من عنصرين أساسيين، عنصر مادي محض وهو ما يعبر عنه بالمدنية، وعنصر عقائدي وفكري ثقافي، ولا يمكن لأي حضارة من وجهة نظره أن تستمر إلا من خلال التفاعل بين هذين العنصرين، أي وجود التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي، ومن خلال هذا المزيج الحضاري تتبلور الحضارات وفق مقوماتها الأساسية، بناء على ذلك يقول الجندي «لما كانت الحضارة تقوم على حركة مادية مدنية عمرانية تتحرك في إطار عقدي، فإن هذا الإطار هو منطلقها إلى الاستمرار أو التمزق» (1) .

من هنا يعارض الجندي تلك الحضارات المادية الغربية التي انفصلت عن عقدها العقدي، حيث السقوط والانقطاع الحضاري، وفي ظل هذه الحضارة المادية يشعر الإنسان بالاغتراب وفقدان هويته، لذا يرى أنور الجندي أنه في هذا السياق تسقط الحضارات في هيكلها المادي حيث تتجاوز عقدها الأخلاقي، ولكنها تخلف معطياتها المدنية حتى تلتقطها الأمم من بعد (2) .

ص: 323


1- أنور الجندي: عالمية الإسلام، دار المعارف، القاهرة، 1977، ص97.
2- المرجع السابق: ص 99.

ولقد تم تناول الحضارة الغربية في فكر أنور الجندي من خلال عدد من المعطيات من أهمها:

1- الحضارة الغربية وطبيعتها المادية: تقوم الحضارة الغربية على الفصل بين المادة والقيم، لذا فقد فقدت القيم الأساسية في التركيبة الحضارية، فهي تقوم على مخالفة الفطرة السليمة، من هنا فحتمية أفولها وانهيارها لا يُختلف فيه، لاستعلائها بالنظرة المادية على الدين، لذا يقول (لا يزال الفكر الغربي يرى استحالة الجمع بين العنصرين، لقيامه أساساً على الانشطارية، وعلى الفلسفة المادية وحدها واستحالة الجمع بين الفردية والجماعية، وبناء على هذه النظرة المادية في الحضارة الغربية، سقطت في أزمة خانقة، حيث الإباحية والترف (1) .

2- الحضارة الغربية والإنسان: يشير الجندي إلى أن الحضارة الغربية عجزت عن تلبية مطالب الروح للإنسان، فهي لم تستطع أن تحقق أشواق النفس أو التوازن بین المادة والروح، أو تجمع بين العقل والعاطفة، مما صرف المجتمع البشري عن أخص مفاهيم الاستخلاف في الأرض وجعلهم عاجزين عن فهم المسؤولية الفردية والانضباط الخلقي، فانحرفت في اتجاهها الإنساني، وجنحت إلى الوثنية الإغريقية المتحللة من أبسط القيم الأخلاقية (2) .

3- الحضارة الغربية المعاصرة ووحدة البشرية: لقد وضح أنور الجندي تلك النظرة العنصرية التي تقوم عليها الحضارة الغربية المعاصرة، حيث التفاضل بالثروة والعنصر والجنس، فهي تقسم العالم إلى شرق و غرب و شمال و جنوب، وتستعلي بالجنس الأبيض على البشرية، ترى أن من حقها السيطرة على مقدرات الأمم الملونة والفقيرة، و حرمان الأمم النامية من حق امتلاك ثرواتها أو إقامة حضارتها الخاصة بها (3) .

من هنا يشير الجندي إلى أن الحضارة الغربية في جوهرها تقوم على الاستعمار

ص: 324


1- أنور الجندي: حقائق مضيئة في وجه شبهات مضيئة، دار الصحوة للنشر، القاهرة، ص 107.
2- أنور الجندي: نحن وحضارة الغرب، دار الاعتصام، القاهرة ، ص 12.
3- أنور الجندي: حقائق مضيئة، ص 139.

والسلب الحضاري، فهي حضارة عدائية لا تقوم على القيم والمبادئ والإخاء الإنساني، لذا قرنها بالاستعمار الذي يأخذ شكل التقدم والرقي، وهو في حقيقته خداع وتخدير للشعوب بما أنتجته الحضارة المعاصرة، ومن هنا يؤتى المسلمون في ثقافتهم، وتفنى شخصيتهم، لذا يقول الجندي معبراً عن تلك الحضارة (أن الحضارة الغربية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً وعضوياً بالاستعمار، والتوسع والفتح، والسيطرة على المناطق المختلفة في أسيا وأفريقيا، ذلك أن هذه الحضارة نمت في أوروبا وهي قارة لا تملك جميع وسائل الصناعة التي هي دعامة الحضارة، ومن هنا كان اندفاعها للسيطرة على العالم التماسا للخامات التي هي أدوات الصناعة (1) .

من هنا نرى أن الاستعمار أضفى على الحضارة المعاصرة طابع الغدر وأبعدها عن الطابع الإنساني الذي عرفته الحضارة الإسلامية في انتشارها، فضلا أن الحضارة الغربية لم تنقل إلى العالم إلا الجوانب المترفة البراقة، في حين منعت هذه الأمم والشعوب عوامل القوة والنهوض، لذا قام أنور الجندي بكشف المخططات الاستعمارية التي تسعى إليها الحضارة الغربية، وذلك من خلال عرضه للمناخ الذي نشأت فيه، والطبيعة الثقافية لها، والخلفية الأيديولوجية التي تنطلق منها، والتوسعية في الاقتصاد والثقافة على حساب الحضارات الأخرى. وبناء على ذلك يرى (ارتباط الاستعمار بأيديولجية الفكر الغربي القائم على نظرية الأمير التي نادى بها مكيافيللي التي سيطرت على السياسة الغربية والحضارة الغربية (2) .

ثانياً: موقف الجندي من الانفتاح على الثقافة الغربية: يرفض أنور الجندي الانفتاح على ثقافة الغرب ولاسيما فيما يتعلق بالنظام السياسي والاقتصادي الذي يقوم على الربا والاحتكار، إذ لا يمكن الالتقاء مع حضارة فقدت مقومات الحضارة الأساسية، فهي تنفصل في ثقافتها عن الثقافة الإسلامية في أمور كثيرة، فالثقافة التي تقوم عليها الحضارة الغربية هي وثبة تنكر البعد الرباني أو الروحاني في تكوينها، والمنهج الأخلاقي

ص: 325


1- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، دار الاعتصام، القاهرة، ص 756.
2- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، ص 758.

في حركتها، فهي تقوم على الإباحية والعنصرية، لذا يرى أن هذا الانفتاح يلزم منه محاذير منها:

1- أن هذا الانصهار يجعل المسلمین تابعیین غیر قادرين على امتلاك إرادتهم.

2- الانقسام الواضح بين الحضارتين في الجذور، فالحضارة الغربية تقوم على نظرية الأمير والسيادة المطلقة على حساب الطرف الذي لم يمتلك إرادته، فهي تزيده ضعفا واحتواء، فيفقد بذلك هويته وذاتيته (1) .

ثالثاً: التغريب في فكر أنور الجندي: لاشك أن التغريب قد ارتبط بالاستعمار، ذلك لأنه نشأ في محيط الغزو العسكري لبلاد المسلمين، وكان للتغريب أهداف لا تخفى على أحد من أهمها:

1- القضاء على الوحدة الإسلامية المتمثلة في الخلافة العثمانية والتي تمثل الرمز الوحدوي للحضارة الإسلامية.

2- التشكيك في العقيدة الإسلامية من خلال ابتعاث الفكر الوثني الذي عرف قبل ظهور الإسلام في المناطق الشرقية والغربية من العالم.

3- دعم الآراء المنحرفة والمذاهب الهدامة التي تخدم أهداف الاستعمار وذلك بحمل الإسلام على تأويل المؤوّليين، وقد وظف الاستعمار الإعلام لخدمة هذا الهدف بقيادة الصهيونية العالمية (2) .

ويتضح لنا مما سبق أن أهداف التغريب تقوم على تقويض الإسلام من خلال هدم أركانه، وما نلحظه من تراجع عربي إسلامي على كافة الأصعدة إنما هو نتيجة التغلغل الغربي في عمق العالم الإسلامي، وقدرته على إدارة حركة الصراع الداخلي بين المسلمين، وتمكنه من تجزئة الأمة إلى تيارات متباينة، لذلك يجب على المسلمين أن يستعيدوا وجودهم، ويلتمسوا مقومات توحدهم، بالرجوع إلى إسلامهم، ومحاربة كل المبادئ والشبهات التي تطرأ على ثقافتهم.

ص: 326


1- أنور الجندي: التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام، دار الكتاب اللبناني،بيروت،1975،ص230.
2- أنور الجندي: أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب، ص22.

رابعاً: الرد على دعاة التغريب: لقد كانت مؤامرة التغريب للعالم الإسلامي ضمن مخططات وآليات الاستعمار الغربي، ولا يمكننا أن نقف على طبيعة التحدي الذي يواجه المجتمع الإسلامي من قبل التغريب إلا بإدراك المرحلة الأساسية من الغزو الثقافي والتغريبي، والدور الذي لعبه جيل الرواد إبان الحرب العالمية الأولى، ممن احتضنتهم المعاهد الغربية في أوروبا، تلك المعاهد المتخصصة في تأهيل هذه النخبة من الشباب لقيادة المشروع التغريبي في محاولة لاحتواء الشباب المسلم، وصرفهم عن دينهم وقيمهم، ودمجهم في أجندة الطرح الغربي مما يطلقون عليه الفكر الحر أو الحضارة العالمية. ولقد كان طه حسين في طليعة هذه النخبة، وأبرز الطلاب الذين احتضنتهم البعثات الغربية في تلك المرحلة، وعليه يعتبر طه حسين في نظر أنور الجندي قائد لواء التغريب في العالم العربي والإسلامي، وعلما من أعلامها، وفي طليعة دعاتها (1).

من هنا اتجه أنور الجندي لصد الفكر التغريبي الذي حمل لوائه طه حسين، فأقبل على كتبه محللاً وراصدًا للشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي، فوضعه في قفص الاتهام هو وأمثاله من الرواد، بعد أن كشف عن السموم التي طفحت في كتبه، فكشف عن الوجه الآخر لها، وقد حصر الجندي المجالات التي انطلق منها في إطار تلك النظرية لهدم الإسلام وتقويضه في ثلاث مجالات هي: الأدب العربي، اللغة وتاريخ الإسلام، والسيرة والفكر الإسلامي (2) .

1) في مجال الأدب العربي واللغة: كشف أنور الجندي عن الأعمال التي قام بها طه حسين في هذا المجال متمثلة في:

أ - تقديم فكرة فصل الأدب العربي عن الفكر الإسلامي باسم حرية الأدب.

ب- إحياء ابتعاث الشعر الماجن والتغزل بالغلمان. وهنا يقول الجندي أن طه

ص: 327


1- أنور الجندي: محاكمة فكر طه حسين، دار الاعتصام، القاهرة، ص7.
2- أنور الجندي: محاكمة فكر طه حسين، ص 10. انظر أيضا. أنور الجندي: كتابات العصريين في ضوء الإسلام، دار الاعتصام، القاهرة، ص 194.

حسين أولى اهتمامه بأبي نواس وبشار بن برد والضحاك في دراسة واسعة عرض فيها آراؤهم وحلل شخصياتهم، ومن هنا يظهر الجندي الهدف من تعيين هذا الاتجاه في الأدب والشعر لديه، حيث يعبر عن سوء طويته، بتجريد الأدب عن الأدب، وهذه هي الإباحية التي يتطلع إليها الغرب.

2) في مجال التاريخ الإسلامي: حيث اتجه طه حسين في حملته على الإسلام إلى التاريخ الإسلامي، محاولا تحسس مواطن الزلل، ليطعن في الإسلام ويشكك في أصالته، ورصد الجندي هذه المحاولة عند طه حسين، عندما استقر منهجه الشكي في كتاب الشعر الجاهلي، فهو يشكك في وجود إبراهيم وإسماعيل والكعبة، وإثارة أخطر ما طوى التاريخ صفحته من قضية الخلاف الذي وقع في نهاية عهد عثمان وأول خلافة علي بن أبي طالب، وجعل من ذلك القاعدة والأساس الذي ينظر من خلاله إلى الإسلام لخدمة الصهيونية العالمية، وبناء على ذلك فإن أنور الجندي يعتبر كتاب الشعر الجاهلي يمثل الخطوط الأساسية لفكر طه حسين، وما أعقبه من كتابات تعبر عن تعزيز اتجاهه المشوه والرامي إلى تقويض الإسلام وتاريخه (1) .

ويجب أن نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة هي اعتماد أنور الجندي في مناقشاته لدعاة التغريب على الجذور التاريخية والفكرية التي انطلق منها طه حسين وغيره من دعاة التغريب وأعمدته في العالم الإسلامي، ومما لاشك فيه أن النفوذ الأجنبي استطاع أن يصنع عقولاً غربية، من أمثال طه حسين وغيره، رغبوا في الشهرة وساقتهم الأهواء لذلك الغرب، واستطاع أنور الجندي أن يكشف عن خلفية المنطلقات المنهجية العدائية لدعاة التغريب، فعمل على إسقاطها وبيان زيفها، وإجلاء محاذيرها ولوازمها الخطيرة على القيم والعقائد، وبناء على ذلك يقول الجندي في إطار تحذيره من مغبة التبعية والافتتان (أن هناك حرباً تشن على العقائد والمسلمات التي تتصل بالوحي والبعث، هناك دعوة صريحة أعلنت خطتها بإخراج العرب والمسلمين من إطار الدين، ومن وراء هذه الدعوات الاستعمار والتغريب والصهيونية) (2) .

ص: 328


1- انور الجندي: محاكمة فكر طه حسين، ص 171.
2- أنور الجندي: شبهات التغريب، ص132. أيضا. تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالمتين، 1920، ص 177.

خامساً: التبشير وموقف أنور الجندي منه: بداية يجب أن نشير إلى أن فشل الحروب الصليبية يعد إيذانا بفشل مشروع التبشير، وبداية للمخطط الجديد للغزو الفكري والثقافي، وذلك لأن السيف قد عجز عن النيل من الأمة، وأن السبيل إلى النيل من وحدة المسلمين وقوتهم هو دحر فكرهم وعقيدتهم، وتعتبر وصية لويس التاسع قائد الحملة الثامنة أخطر وثيقة في هذا السياق، فقد نبَّه إلى سر قوة المسلمين، وتوحدهم، فوضَّح خطر العقيدة الإسلامية، وبين أن الدافع والمحرك لجميع تصرفاتهم، فقد انتصر المسلمون بما يحملون من فكر وعقيدة في كل مواجهة مع الصليبين، ولما كانت العقيدة والفكر هما الركيزتين الرئيستين في خلق روح الدفاع والردع لكل عدو متربص، فاتجه إلى حرب الكلمة بتشويه معالم الدين، وإبطال تأثيرها بتصحيف وتشويه المفاهيم المتعلقة بالجهاد، ومحاربة مبادئ الإسلام وتعاليمه، وهذا لا يكون إلا بتجنيد جملة من الباحثين والمتتبعين لمناهجه العقائدية والفكرية، وجعلهم أداة لهم، لقتل الروح العالية والطبيعة النفسية (1) .

ومن هنا نرى أن حركة التبشير في العالم الإسلامي تنطلق من عدة أهداف أبرزها ما يلي:

1- توهين أو إضعاف الوحدة الإسلامية: وفي هذا السياق يقول (لورانس براون) مصرحًا بهذا الهدف إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضا، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة وتأثير، ويعلق أنور الجندي على هذه النقطة وهو يرصد أغراض المبشرين من استهداف هذه الوحدة، فيرى أن الطريق الخطير الذي سلكه المبشرون هو تحسسهم لعوامل الاجتماع بين الشعوب، وإدراك تأثيرها في محيط التوجه والسلوك، وعليه فإنه يحدد العوامل التي رصدها التبشير بغية توهينها حيث حصرها في اللغات والأديان والتاريخ القومي، ومن هذه القاعدة اتجه التبشير للقضاء على وحدة المسلمين، فالإسلام هو القوة التي تخيف الأوربيون، فلا سلطان للأوربيين إلا بنزع هذه القوة (2) .

ص: 329


1- أنور الجندي: الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون، دار الاعتصام، القاهرة، ص 16. أيضا.محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 65.
2- أنور الجندي: الفكر الإسلامي والثقافة العربية المعاصرة في مواجهة تحديات الاستشراق والتبشير، دار الاعتصام، القاهرة، ص 67.

من هنا يتضح لنا أن هدف التبشير استعماري يعبر عن العداء الصليبي للإسلام، والرغبة في الثأر من الإسلام، بعد هزيمتهم في حروبهم الصليبية، ولم تتحقق لهم السيطرة على بيت المقدس.

2- حمل المسلمين على تبني العقيدة النصرانية: لقد أعلن المبشرون بصريح العبارة عن هذا الهدف بأن مهمتهم هو نقل المسلم من دين محمد إلى المسيح، منطلقين من عدائهم لدعوة الإسلام، باعتبارها العقبة أمام دعوة المسلمين أو التنصير، ذلك بما يضيفه الإسلام من مبادئ وحقائق تكشف زيف الفكر المسيحي وانحرافه عن المسلمات الفكرية التي ساقتها الكتب السماوية. وبناء على ذلك يتضح لنا أن مهمة التبشير لم تنحصر فقط في تنصير المسلمين، بل الأمر يتعدى إلى أبعد من ذلك، أنهم يريدون هدم الإسلام، كما يريدون تشييد الفكر النصراني، ولا يتم ذلك إلا عن طريق تشويه الإسلام، وبث الأفكار المسمومة من خلال وسائط كثيرة منها المدرسة والجامعة والإعلام، الأمر الذي ساهم في نجاح التبشير في أكثر من موقع في العالم الإسلامي (1) . ومما لاشك فيه هنا أن التنصير لم يتوقف على رغبات تلك الشعوب والأشخاص باعتناق المسيحية بقدر ما يقوم على الخلاص من الفقر والبؤس، مما يجعلهم يعتنقون أي دين مادام يمنحهم الحياة الكريمة. ويحدد أنور الجندي دور المؤسسة الثقافية والإعلامية في خدمة التبشير، ويقرن علاقته بالتغريب الذي ترتكز أعماله في إسقاط الشخصية الإسلامية، وإفراغها من المنطلقات الدينية، وتأهيلها للتعاطي مع الحضارة المعاصرة بكل متطلباتها، ومن هنا تتبدى علاقة التبشير بالاستعمار مما لا يدع مجالا للشك، في خطورة الغزو التبشيري لبلاد المسلمين.

3- تشويه صورة الإسلام وإضعاف قيمه: المقوم الأساسي الذي يعتمد عليه المبشرون لتقويض الإسلام هو تصحيف صورة الأمة الإسلامية عبر منهجها وتاريخها، بكل وسائط الدس والافتراء، بغية تكوين جيل يكره الإسلام، ويحارب مبادئه، وكذلك خلق شعور بالنقص أمام ما يصوره المبشرون من مدنية وحضارة في تطبيقاتهم

ص: 330


1- أنور الجندي: الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمین، ص 38.

ومشروعاتهم وأفكارهم، وطريقتهم في ذلك السخرية والتشكيك بمختلف الجوانب التي يعتز بها العرب والمسلمين من تاريخ وتراث، والازدراء بالعالم الإسلامي (1).

موقف أنور الجندي من التبشير: لقد استوعبت مؤسسة التبشير بكل أهدافها ومخططات التغريب الإلحادي، ومثل التبشير خطورة بالغة على الإسلام والمسلمين، لذا عمد أنور الجندي على التصدي له، وكشف مخططاته وأهدافه، وبيان زيف حججه وأباطيله، أيضا عمل الجندي على تعرية حركة التبشير بالكشف عن منطلقاته، والوسائل التي يتخذها، وإظهار خطرها على منظومة الفكر والثقافة في عالمنا الإسلامي، وقد تمثل موقفه في هذه الأطروحات والمناقشات:

1 - التبشير والاهتمام بالأطفال: يهتم المبشرون بالنشء الصغير، فالطفولة في المرحلة الأساسية في حياة النشء تلعب دوراً هاماً في تشكيل عقلية وثقافة وشخصية النشء، حيث تكون الفترة الخصبة في صياغة تفكيرهم، فالطفل يكون أسير المناخ الفكري والثقافي الذي يعيش فيه، لذا وقف أنور الجندي على هذا النشاط التبشيري، الذي يركز على الأطفال المسلمين ويجعلهم هدفه الأول، واتخاذ المدرسة والإرساليات الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف، فيرى أن الهدف من وراء ذلك هو السيطرة على هذا الجيل في بداية نموه الفكري وتكونه العقلي، لإعداده على الطريقة التي تجعله صاحب ولاء فكري وثقافي، ويفسر سر اهتمام المبشرين في فترة ما بين الحربين (الأولى والثانية) بتعليم وتثقيف أبناء الطبقة العالية من الأمراء والعظماء حيث يتم ابتعاثهم وإرسالهم للتعلم في المعاهد الأجنبية، لإعداد وتأهيل هذه الطبقة، ويشير إلى خطورة نزوع هذه الطبقة الراقية إلى المدارس الأجنبية، بما لزم من النتائج التي حققها الابتعاث في تضييق الهوّة بين الاستعمار والمجتمعات الإسلامية، لتمكين المصالحة السياسية والفكرية مع المستعمر، ثم يستمر الجندي في كشف أهداف التبشير ويقدم دليلاً آخر يؤكد فيه أهداف التعليم التبشيري، فوضح أن ما حمل لواء التبشير بالدولة العثمانية وعملوا على توهين الرابطة بين العرب والترك، وساهم في تمكين النفوذ الأجنبي كانوا من خريجي معاهد الإرساليات التبشيرية (2).

ص: 331


1- أنور الجندي: أجنحة المكر الثلاثة التبشير، الاستشراق، الاستعمار، ص 18.
2- أنور الجندي: موسوعة مقدمات العلوم والمناهج، ص 86.

ثم يكشف الجندي عن منهجيات أولويات التنظير التبشيري، عندما رصد البواعث النفسية للطبيعة الإنسانية العربية، وإسقاط هذه البواعث على عوامل التخطيط واستراتيجياته، فهم ينطلقون من دائرة مرنة، بحيث يقدمون الأولويات على الثانويات في مخططاتهم، بحيث يمكن اختزال الوسائل وتقريب المسافات، لذلك كان تحديد الاهتمام بالمرأة المعول عليه في الغزو التبشيري. ويوضح لنا أنور الجندي في هذا الصدد السر في اللهفة العجيبة التي يبديها الاستعمار، وكتَّابه وأعوانه من كتَّاب التغريب على قضية تحرير المرآة، فالهدف كما يظهر من تحليل الجندي هو إخراج الفتاة عن رسالتها الأصلية، وتعبئتها بالثقافة المسمومة التي بدورها ستعمل على توريثها لأولادها فتختصر الطريق إلى الاستعمار (1) .

2- التبشير والتغريب الثقافي: لقد أكد أنور الجندي على العلاقة الوثيقة بين التغريب والتبشير معتمدا في ذلك على الوثائق القولية والإثباتات النقلية من المبشرين، منطلقاً من المنهج العلمي الذي يعتمد على الدليل والحجة الموضوعية بعيداً عن الأهواء، فقام بعرض الوقائع والنتائج مقارناً بما تمخض عن مؤتمرات وتصريحات. ولقد أشار إلى عدة شبهات للتبشير في مجالات الفكر والثقافة، وقام بالرد عليها والتصدي لها من منظور المسلم الغيور على دينه وأمته، لذا كشف عن زيف تلك الشبهات، وضعف حجتها، وبيان عورتها، فقد لفت الانتباه إلى أن خطط المبشرين سجلت خطوطا عامة، لتقويض الإسلام واللغة العربية والحضارة والتاريخ، وقد عبرت وسائلهم عن هذا الهدف، الذي يلتقي في كل منطلقاته مع النظريات التي وضع بذرتها عمالقة الاستعمار من أمثال كرومر وليوتي، لذا قام الجندي بمراجعة التقارير الثانوية التي سجلها كرومر والتي تعد كرسالة إلى الطليعة الجديدة من الشباب الذين اتجهوا إلى ميادين الثقافة ليعدهم خلفاء للاحتلال البريطاني، وقد اثبتت التقارير بلا ما لا يدع مجالاً للشك العلاقة بين قوى العداء للإسلام والمسلمين، هذه القوى هي التبشير والاستشراق والتغريب، حيث تحالفت قوى الشر على محاربة الإسلام،

ص: 332


1- أنور الجندي: تاريخ الغزو الفكري والتغريب، ص162.

ومحاولة زعزعة العقيدة في نفوس أهله، والقضاء على مبادئه، وإضعاف قوة المسلمين، وتم ذلك من خلال طرق ووسائل متعددة، وكان الهدف الجوهري ضرب الفكر الإسلامي والثقافة العربية بإثارة الشبهات حول مفهوم الإسلام (1) .

ولقد قام أنور الجندي برصد أهم القضايا التي كانت هدفا للمبشرين ليحاربوا بها الإسلام بالطعن والتجني، فناقشها ببيان عوراتها، وعمد كشف زيفها، وبطلان حجتها، وتتمثل هذه القضايا فيما يلي:

1- التبشير والتجزئة يحاول المبشرون إحداث عنصر التجزئة والفصل بين المسلمين، بتقسيمهم إلى عرب وغير عرب، مع محاولتهم طمس الوصف العربي والإسلامي عن الحضارة العربية الإسلامية بادعائهم بأن من نبغ من العلماء عبر التاريخ الإسلامي ليسوا عرب، بالإضافة إلى سلب الدور الحضاري للمسلمين بنفي أصالته الفكرية، واستقلال شخصياتهم وهويتهم الحضارية. ويرد أنور الجندي على هذه الشبهة والفرية ببيان أن القاعدة الأساسية التي يقوم عليها الفكر والثقافة، فيشير إلى أن مفهوم الفكر والثقافة يقوم على وحدة الفكر، مسقطاً بذلك وحدة الجنس أو الدم، وموضحاً في الوقت نفسه أن الإسلام هو البيئة الفكرية التي تجمع المسلمين على وحدة الفكر المستمدة من القرآن (2) .

وكعادة أنور الجندي رد خلفية تلك الشبهة إلى جذورها الفكرية كما اعتاد في منهجه الذي يكشف عن أصل الشبهة ومصدرها التاريخي، هذه الشبهة تنطلق في جذورها من الشعوبية، تلك النظرية التي كانت تفرق بين العرب وغير العرب من الموالي الفرس وغيرهم من الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وهي دعوة خبيثة الغرض منها إثارة الفتن والنزعات بين المسلمين، وتأجيج العداوة والكراهية والبغضاء، وتعمد هذه الشبهة إلى تشكيك المسلمين بدينهم، والحط من قدر العرب والمسلمين، وإعلاء الأجناس الأخرى.

ص: 333


1- أنور الجندي: موسوعة العلوم والمناهج، ص 96.
2- أنور الجندي: موسوعة مقدمات العلوم والمناهج، ص 98.

2- التبشير وعلمانية الدولة: مما لا يخفى على أحد أن التبشير دائما ما يثير فكرة أو قضية علمانية الدولة أي دولة لادينية، أي عزل وفصل الدين عن مجالات الاقتصاد التربية والسياسة، ويكشف أنور الجندي هذا المخطط وبين الغاية من ورائه، فيرى أن ذلك يراد به هدم القيم الإسلامية، ويؤكد طبيعة الهدف فيصفه بأنه هدف استعماري صهيوني، يفسح المجال أمام النفوذ الغربي، ليبسط هيمنته على العالم الإسلامي وحتى لايقف الإسلام حائلاً يمنعهم من تحقيق مصالحهم ورغبتهم، ومن هنا يأتي تحقيق الترابط الجذري بين التبشير والاستعمار ويتم ذلك تحت رعاية الصهيونية العالمية، بل تنظر إلى أبعد من ذلك وهو محاولتهم تجزئة الفكر الإسلامي وقتل الترابط فيه، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يحاول الغرب إحياء فكرة العلمانية، أي عزل الفكر الإسلامي عن قيمة الأساسية، ووضح أن الغرض الذي يسعى إليه التبشير يقوم على تفعيل الاتجاه إلى العلوم العصرية، ليكون عامل النهضة والتقدم والمدنية، ولا يخفى من وراء ذلك هو فصل الثقافة والتخصص عن الدين كمقدمة للعزل الثقافي (1).

خلاصة القول: يوجد علاقة قوية وصلة حميمة بين الثالوث الاستعماري، التبشير - التغريب - الاستشراق، كما أنه يوجد ترابط أيديولوجي في جميع قطاعات الفكر الإلحادي، فملة الكفر واحدة، والهدف واحد وهو القضاء على الإسلام، من هنا حذر الجندي من أبعاد الدور التبشيري وتطلعاته المستقبلية نحو الصحوة الإسلامية، من هنا جاءت دعوته إلى العمل في سبيل حماية حصون الإسلام من الانهيار، ولا يأتي ذلك إلا بقيام حركة نشطة من العلماء والمفكرين تعمل على تبصرة المجتمعات الإسلامية بمحاذير هذا النشاط التبشيري الاستعماري، ووضع التدابير والخطط والمناهج التي تحفظ الشخصية الإسلامية من عوامل السقوط والتبعية.

4 - موقف أنور الجندي من الاستشراق: بداية نشير إلى أن الاستشراق ارتبط بالتبشير ارتباطاً جذريًا، قوامه الإيديولوجية المشتركة في موقفها من الإسلام فقد أثبتت الوقائع التاريخية الدور الذي لعبه الاستشراق في خدمة التبشير، لذا وقف أنور الجندي كعادته في كشف مخططات الاستشراق والمستشرقين، وله تصور عام

ص: 334


1- أنور الجندي: شبهات في الفكر الإسلامي، ص 26.

للاستشراق يقول من خلاله استخدم العلم في خدمة السياسة ومن هنا فقد كانت مادته مصدرًا مؤثرًاً وهاما لمؤسسات التبشير وتستعملها في دعم خططها، فقد عمد رجال الاستشراق في خدمة هيئتين أساسيتين: وزارة المستعمرات، والكنيسة الغربية، وعليه يكون الاستشراق المقوم الأساسي للتبشير فهو مصدره ومادته (1) .

ويعزز الجندي هذا الترابط بالتحول الذي طرأ على خطة الاستشراق، فيشير إلى أن المستشرقين هم في الحقيقة مبشرون، تخفوا في لباس الاستشراق، خلعوا لباس الكنيسة وارتدوا لباس العلم، ليتمكنوا من خداع المجتمعات، وتعمل قوى التبشير في مجالات إنسانية وعلمية حتى تصل إلى مرادها وهي المدرسة والمستشفى، كما تعمل على اهتمامها بالمرضى والضعفاء والفقراء من المسلمين. كما يبين أنور الجندي دور الاستشراق، حيث يقوم على وضع المادة العلمية المنقحة على ضوء المقاييس الغربية، في سبيل تثبيت وجودهم في تلك البلاد، وإخضاع هذه المجتمعات للفكر الوافد نحو القومية والاشتراكية ليتعمق الصراع بينهم ويستمر (2) .

من هنا يؤكد أنور الجندي على مدى التناسق بين قوى التبشير والاستشراق، فيذكر أوجه التركيز والاختصاص لكل منهما، فقد اتجهت مؤسسة التبشير إلى المدرسة والجامعة عن طريق الإرساليات، والسيطرة على المناهج الدراسية، بينما اتجه الاستشراق إلى الصحافة والثقافة عن طريق الكتاب والصحيفة، لذا كانت مؤسسة الاستشراق مصدرا للشبهات والأكاذيب، ويقول الجندي في هذا الصدد أن الاستشراق في شطريه عاملاً مع الكنيسة أو عاملاً مع وزارات الاستعمار، لا يستطيع أن يخلص إلى الحق إنما يؤدي دوره في إثارة الشبهات، وتقديم الزاد الكافي لدراسات التبشير (3) .

من هنا يرى ضرورة التنبيه والالتفات إلى الخوارق التي يجب أن تكون واضحة في ذهن الباحثين المسلمين لكتابات المستشرقين وبين المبشرين الذين لبسوا لباس الاستشراق، ويؤكد أنور الجندي على حقيقة مهمة هي ارتباط الاستشراق والتبشير

ص: 335


1- أنور الجندي: أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب، ص74.
2- المرجع السابق: ص237.
3- أنور الجندي: شبهات التغريب، ص 91.

بالكنيسة، من خلال الترابط الزمني بينهما في ظروف النشأة بوحدة المضمون واختلاف المسمى، ويشير إلى أن هاتين القوتين نشأتا بعد الحروب الصليبية في حضانة الكنيسة، لذا يستدل على أن باعث الاستشراق هو استهداف الدراسات المشبوهة التي تُعنى بالإسلام عقيدةً وفكراً وتاريخاً، وتطلعات التبشير في إطارها، مما يؤكد نظرية المضمون الواحد مع اختلاف المسمى، وعلى ضوئه يمكن أن نصوغ فهمنا لحقيقة التبشير وطبيعة الاستشراق (1) .

بناء على ذلك نرى أن الجندي كشف عن الوجه الحقيقي للاستشراق والتبشير وأنهما مؤسسة واحدة، لهما نفس الهدف والمخطط، وهو إثارة الشبهات حول الإسلام، فغايتهما واحدة وإن اختلفت الوسائل لذلك، فالاستشراق والتبشير والتغريب قوى تمثل دعامة أساسية وهامة للاستعمار الغربي، ويثبت وجوده فكرياً وعسكرياً. ويعرج أنور الجندي على منهج المستشرقين في البحث، فهم يحاولون أن يزيلوا الهوة بين الإسلام والمسيحية، ببيان أثر المسيحية على الإسلام، وإسقاط العلاقة بين دين محمد صلي الله عليه و آله و سلم والسماء، حتى يظهر الإسلام وكأنه دين بشري مستمد من الفلسفات والعقائد السابقة له، تلك الخطة التي دأب كتَّاب المستشرقين عليها، لذا فطن أنور الجندي لهذا التطلع الصليبي، فأخذ يتتبع أثار المستشرقين في كتابتهم عن الشر بصفة عامة والإسلام بصفة خاصة، ويعرض نماذج من طريقتهم في البحث ويكشف تلاعبهم وتصحيفهم للحقائق.

ومن أهم هذه القضايا: إثبات بشرية القرآن: يدعي المستشرقون بأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ صباه قبل نزول الوحي، كان نافراً من الوثنية التي نشأ فيها، محباً للمعاني الروحية، وهذا دفعه إلى التحنث في غار حراء، ويوضح الجندي طريقة المستشرقين في الاستنتاج فهي تقوم على تفسير الوقائع بناء على أفكارهم، بمنآي عن المصداقية التاريخية، وكان هدف الجندي بعد ذكر نماذج من طريقتهم في البحث إبراز الموازين التي يتم الحكم من خلالها على الإسلام وهي تتمثل في:

ص: 336


1- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، ص 76.

1- وضع أهداف علمية، ثم تصيد الأدلة ولا يعنيهم أن تكون تلك الأدلة صحيحة، أو مستمدة من مصادر معتبرة، لذلك تراهم يجمعون المعلومات من كل رطب ويابس، سواء من كتب الأدب أو القصص والمجون، ثم يقدمون بعد التمويه بكل جرأة ويبنون أحكاما عن الإسلام لا وجود لها.

2- اعتماد مصادر غير علمية وتجاهل المصادر الصحيحة، والاستدلال بالروايات الواهية وإغفال الروايات القوية، وأكبر خطأ وقع فيه الشرق والمسلمون كما يرى الجندي أنهم اعتمدوا على تلك الدراسات الاستشراقية، والتي كان يغلب على أسلوبها الموضوعية الزائفة، لذا يشير إلى أن أي ارتباط بين هذه الدراسات والموضوعية العلمية هو ارتباط زائف غير حقيقي، من هنا يجب أن يتجه المسلمون إلى مورثوهم الفكري والعقائدي والحضاري، من أجل التماس ثقافتهم، لكي لا نلبس أنفسنا لباساً لا يتناسب والطبيعة الفكرية والثقافية لنا، ثم يشير إلى محاذير التعلق والاعتماد على دراسات المستشرقين، فيرى أنها أفقدت الكثير من الباحثين ثقتهم بأنفسهم في البحث والنظر، وفقدوا الهوية الثقافية المستقلة، ومن ثم أصبحوا عبيدا لكل ما يصدر عن المستشرقين من كتابات فيها الغث والسمين (1).

ورغم كل ذلك لا ينكر أنور الجندي الايجابيات التي قدمها المستشرقون للفكر الإسلامي، لاسيما في مجال التبويب والفهرسة لكتب الحديث والتراجم، إلا أنه يأخذ على هذه الايجابيات أمرين: الأمر الأول سرقة التراث الإسلامي بأساليب متنوعة وانتقاله إلى دائرة المستشرقين يعد من أخطر التحديات، ذلك أنه أصبح حجة على المسلمين، لا لهم وأصبح بعثه على النحو الذي يختاره الاستشراق، بعيدا عن تصور المسلمين وإرادتهم، لذا يرى الجندي أن نظرتهم لكثير من القضايا تعبر عنهم فقط، ومن هنا تخضع لثلاثة اعتبارات:

أولا - نظرتهم للإسلام على أنه دين لاهوتي محض كالمسيحية، في حين أن الإسلام دين ودستور حياة.

ص: 337


1- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، ص201.

ثانياً: تأثرهم بوجهة نظر السياسة الاستعمارية وخضوعهم لها.

ثالثاً: قصور أفهماهم عن إدراك حقيقة الفكر الإسلامي وطبيعته، التي تربط بين الثابت والمتغير (1) .

ولقد تصدى أنور الجندي لتلك الدراسات الاستشراقية، وبيَّن عوارها، ذلك أنه اعتبر التأويلات والتصورات الغربية دخيلة على الإسلام، معتمدًا على فهمه لطريقة المستشرقين في البحث، والتي من أبرز أخطائها تفسير الإسلام بمقاييس الغرب، ويذكر أنها مستمدة من أثار الرهبانية المسيحية، ويعتقد الجندي بأن سر اهتمام الاستشراق بهذه الفلسفات يرجع إلى أنها مرتبطة بمفاهيم إلحادية، يظهر معها الاختلاف والاضطراب في مصدر ديننا الإسلامي (2) .

خلاصة القول:

إن حركة الاستشراق تمثل العدو الأكبر للعرب والمسلمين ذلك لما حملته من أهداف خطيرة، وما كانت دراساتهم وأبحاثهم إلا تعميقاً لروح العداء الصليبي للإسلام وأهله، ومن هنا كانت جهود أنور الجندي بمثابة ناقوس صحوة للأجيال المخدرة ببريق تلك الدراسات التي تستهوي العقل ببريق ألفاظها .

الخاتمة:

لقد كشف أنور الجندي ببراعة تحليلية وفلسفية عميقة عن أخطار ومخاطر تحالف قوى الشر المتمثلة في التغريب والتنصير والاستشراق، تلك القوى التي تمثل أساليب الغرب في هدم ومحاربة الإسلام، وإضعاف قوته في نفوس معتنقيه، ولقد أبدع الجندي في إسقاط أقنعة تلك القوى التي تتخفى وراء أهداف يبدو أنها نبيلة وهي بعيدة تماما عن ذلك، بل هي أهداف خبيثة وقاتلة تحاول النيل من الإسلام ومبادئه. وكشف الجندي عن الوجه الحقيقي لتلك المقولات الاستعمارية الكبرى التنصير

ص: 338


1- تاريخنا بين تزوير الأعداء وغفلة الأبناء، ص 88.
2- أنور الجندي: المؤامرة على الإسلام، ص 53. أيضا انظر. شبهات التغريب، ص 88.

والتغريب والاستشراق، وأظهر مدى تهافت وضعف حججهم. ونبه أبناء الإسلام والأجيال الصاعدة من مغبة السير وراء تلك القوى، ودعا إلى العودة إلى الإسلام في منابعه الصافية المتمثلة في القرآن والسنة. ودعا كذلك للحفاظ على الهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية، والبعد عن مقاييس الغرب التي لا تصلح لثقافتنا وفكرنا. لقد قام الجندي بدور فعال في الكشف عن زيف وبطلان حجج تلك القوى، بمقدرة كبيرة عن طريق تتبع دراساتهم وأفكارهم، والرد عليها بموضوعية بعيدا عن التعصب والتشنج المرفوض، ومقارعة الحجة بالحجة، واستخدام المنهج النقدي البنَّاء والهادف، الذي يكشف بهدوء عوار تلك الدراسات التغريبية والتنصيرية والاستشراقية، ووضع منهج بناء للأجيال القادمة تستخدمه في التعامل مع تلك المقولات الاستعمارية الهدامة، وفي نفس الوقت تحافظ على هوية الإسلام والمسلمين.

ص: 339

الاستعمار التطبيعي

اشارة

آثار الحضارة والثقافة الغربيَّتيْن على أفريقيا

داري آرووُلو

داري آرووُلو (1)

تنبعثُ الجدليةُ الرئيسية الواردة في هذا البحث من الإقرار بأنّ الاستعمار وتجارة العبيد والحركة التبشيرية قد مثّلت قاعدة ازدهار الحضارة والثقافة الغربيَّتين واستمرارهما. يُصرُّ الباحث على أنّ هذه الحضارة قد لوّثتْ بشكلٍ خطير القيم التقليدية الأفريقية، ويُصرِّحُ بأنّ القارة الأفريقية كانت قد أنشأت منذ أمدٍ بعيد سابقٍ على حلول الاستعمار نموذجاً من المنظومات السياسية المحليّة وعمليات الحُكم وإجراءات وضع القوانين المؤسّساتية المقبولة عموماً حيث تقدّمتْ الحضارة الأفريقية وتسارعتْ وتيرة التطوُّر التقنيّ. بالإضافة إلى ذلك، يُعلنُ الباحث أنّ ديناميكية أفريقيا وأهميتها على المستوى العالمي تدعمُ الحجة التي تُفيدُ أنّه كان باستطاعة القارة الأفريقية تطويرَ درجةٍ من التقدّم والحضارة والمحافظة عليها من دون الحاجة للاتّصال السلبي بالقوى الإمبريالية. يتبنّى الباحث النموذج التحليلي الوصفي للتأكيد على وجهات

ص: 340


1- أستاذ محاضر في كلية العلوم السياسية والإدارة العامة في جامعة Adekunle Ajasin في نيجيريا. ترجمة: فريق المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية - بيروت.

نظره ويستحضرُ الليبرالية الجديدة، والديمقراطية الليبرالية، والحركة الاستعمارية، والحركة التبشيرية لإثبات آثار الحضارة والثقافة الغربية على أفريقيا. في الختام، يُقدّم الباحثُ حلولاً قابلة للتطبيق تُمثِّلُ دواءاً شاملاً لإخراج أفريقيا من مأزقها الثقافي.

الكلمات الرئيسية: الاستعمار ،الثقافة، التطوُّر، الحكم، الديمقراطية الليبرالية، الحركة التبشيرية، الليبرالية الجديدة، المنظومة السياسية، والحضارة الغربية.

في البداية، سوف أحتجُّ بأنّ الاستعمار وتجارة العبيد والحركة التبشيرية هي حصنُ الحضارة والثقافة الغربيَّتيْن في أفريقيا، وهذا يصدقُ ما دام الاستعمار يعملُ كوسيلةٍ لغرس الإمبريالية الثقافية في أفريقيا. حينما ننظرُ إليه من هذه الناحية، فإنّ الاستعمار هو فرْض الحُكم الأجنبي على المشهد السياسي التقليدي المحليّ وإخضاع الشعوب الأفريقية للهيمنة الأجنبية في جميع المجالات الحضارية الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والدينية.

أولاً، بدأتْ الحضارة والثقافة الغربية بالتسلُّل إلى البيئة الاجتماعية-الثقافية الأفريقية من خلال اتّصال الأوروبيين بالقارة الأفريقيّة - الاتّصال الذي جاء كنتيجةٍ لمؤتمر برلين الساعي وراء النهب الإمبريالي للموارد الأفريقية - وتعزّزت هذه الحضارة والثقافة لاحقاً عبر تيار العولمة الطاغي. من المهم أن نؤكِّد على أنّ الاستعمار قد حرف وأعاق سرعة النمو الثقافي واتّجاه الحضارة في أفريقيا. تمثلت إحدى أفدح نتائج الاستعمار في الكيفية التي أدّى الانتهاك السياسي والاقتصادي للمستعمرات إلى ما يبدو أحياناً أنّه فجوةٌ ثقافيةٌ غير قابلة للسدّ بين البُلدان التي استفادت من الاستعمار وتلك التي عانت من الهجمة الاستعمارية. أدّت حقبةُ النهب والسرقة الاستعمارية إلى الركود النسبي وكثيراً ما أفضتْ إلى التدهور الشديد في المساعي الثقافية التقليدية في المستعمرات.

بعد إخضاع القارة الأفريقية والهيمنة عليها، بدأتْ الثقافةُ الغربية والنمط الحضاري الأوروبي بالازدهار والنمو أكثر من التراث الثقافي الأفريقي، وقد أخلتْ الممارساتُ

ص: 341

الثقافية التقليدية الأفريقية السبيلَ أمام السلوك الأجنبي بعد أن أصبح الأفريقيون «متغرِّبين» بالكامل. أصبحت تُعَدُّ الثقافة الغربية في أفريقيا الحضارة المتقدّمة وغدت الأساليب الأفريقية بدائيةً وقديمةً وغير مقبولة في الساحة العامة. لم تُدمَّر أو تُفقد بعضُ أبعاد الثقافية المادية في المستعمرات فحسب، بل خسرت المجتمعات المستعمَرَة قوّتها والإحساس باستمرارية الإرث الثقافي فأصبح من المستحيل عملياً إعادة القدرة على السعي نحو التقدُّم الثقافي وفقاً للشروط الأفريقية. احتجّ أحد الباحثين أنّه:

«تمّ تخريب النسيج الاجتماعي بالكامل، وغُرست ثقافةٌ جديدة عنيفة، ودُمِّرت المنظوماتُ الأفريقية التقليدية المتعلِّقة بحلول الصراعات ولم يُقدَّم أيُّ بديل مكانها. بالرغم من أنّ العملية الديمقراطية كانت بدائية إلا أنّها كانت تحتوي على القابلية العظيمة التي تُلازِمُ أيَّ مُنشأةٍ بشرية ولكنّه تمّ اجتثاثها بقسوة واستُبدلت بالحكم الاستبدادي للاستعمار. شُكِّلت مجموعة جديدة من النخب وتمّ تنشئتها على مذبح العنف والاستعمار، وقد تسلّحت ببُنى الدولة المعاصرة للاستمرار في إخضاع جماهير الشعب خدمةً لمصالح الاستعمار (Mimiko)».

دعم كاسونغو (Kasongo) التصريح الآنف حينما أقرَّ بأنّه «ينبغي على الفرد الاستنتاج أنّه حين تمّ تصديرُ الثقافة الغربية إلى الدول الأفريقية، تمثّل الجانب الخفيّ للحداثة بالمصالح المادية. مثّلت الحضارة مفهوماً آخر للهيمنة، أي فرْض الثقافة الجديدة الوافدة على القيم الثقافية التقليدية». من المهم أن نؤكِّد بشكلٍ أساسي على ضرورة اتّخاذ خطواتٍ أكثر إلحاحاً وحسماً من أجل إعادة تنظيم وقلب هذا المنحى من الفراغ الثقافي القابل للاضمحلال والذي قد يؤدي إلى مرور القارة الأفريقية بحقباتٍ من الانقراض الثقافي والقحط في القيم الأفريقية. من المروِّع أن نذكر بأنّ مائتي عامٍ تقريباً من الاستعمار لم تؤدِّ فقط إلى تدمير التراث والقيم الثقافية التي كانت تشتهرُ بها أفريقيا قبل الاستعمار، بل أدّت أيضاً إلى التدهور الشديد حيث سُلبت من القارة الأفريقية عقوداً زاخرةً بالفرص - أي فرص التنمية الذاتية والحُكم الذاتي وتصاعد وتيرة التطوُّر التكنولوجي.

ص: 342

بالتالي، تبرزُ الحاجة لنقْد التأثير السلبي للحضارة والثقافة الغربيَّتيْنِ على القارة الأفريقية في جميع المنتديات وذلك لكي يتبيّن لصُنّاعُ السياسة ضرورةَ إعادة تقييم سياساتهم التي تُفضي إلى إنزال القحط الثقافي بقارة أفريقيا أو التي تُفسد مبادئ الإحياء الثقافي. يُركِّزُ هذا البحث على التقييم الشمولي للثقافة والحضارة الغربيَّتيْن من ناحية الاختلال والتخلُّف اللَّذيْن ألحقتاهما بأفريقيا وبوتيرة تطوّرها ويهدفُ أيضاً إلى الإضاءة على الخيارات المتاحة المتبّقيّة للقارة الأفريقية.

الحضارة والثقافة الغربية: إطارٌ مفهومي وسياقي

ما هي الثقافة، وما هي الحضارة؟ يميلُ الناس إلى التفكير بالثقافة بطريقةٍ مبسَّطة ومتّحدة. الثقافة ليست مجرد الرقص ولا تنحصرُ فقط بالموسيقى أو الأزياء بل تتجاوزُ مسألةَ الاحتفال الاجتماعي والطقوس المتعلّقة بالولادة أو الزواج، والطهي أو الرياضة. الأمر الأساسي في الثقافة هو تعلّقها بالنمط الكلي لمعيشة الناس: أي الطريقة التي يحيون فيها ويتعبّدون ويُنتجون ويصنعون ويترفّهون ويأكلون. الثقافة هي مجموع الأفكار الموروثة والمنظومة العقائدية والقيم والقواعد التي تُشكِّل الأسُس المشتركة للفعل الاجتماعي المقبول عموماً.

يُظهرُ تشارلز أ. إلوود، وهو عالمٌ اجتماعيٌ أمريكي، تعدُّدَ وجوه الثقافة حينما يحصرُ معناها في التالي:

«تسميةٌ مشتركة لجميع الأنماط السلوكية المكتسبة اجتماعياً والمنقولة اجتماعياً عبر الرموز، وبالتالي تكونُ اسماً للإنجازات المتميِّزة للمجموعات البشرية ولا تضمُّ فقط أموراً كاللغة وصنع الأدوات والصناعة والفن والعلم والقانون والحكومة والأخلاق والدين بل تتضمّنُ أيضاً الأدوات والمصنوعات المادية التي تُجسِّدُ الإنجازات الثقافية والتي تُمنح من خلالها السمات الفكرية الثقافية أثراً عملياً كالمباني والأدوات والآلات ووسائل الاتّصال والأعمال الفنية وما إلى ذلك. يُمكن العثور على القسم الجوهري للثقافة في الأنماط التي تتجسّدُ في التقاليد الاجتماعية

ص: 343

للمجموعة أي المعرفة والأفكار والمعتقدات والقيم والمعايير والمشاعر السائدة في المجموعة. يتواجدُ القسم الظاهري للثقافة في السلوك الفعلي للمجموعة ويكمنُ غالباً في تطبيقاتها وعاداتها ومؤسّساتها... يبدو أنّ القسم الجوهري للثقافة يتمثّل بتثمين القيم المتعلّقة بالظروف الحياتية. بالتالي، فإنّ التعريف السلوكي المحض للثقافة هو غير مناسب وينبغي أن يتضمّن التعريف الكامل للأبعاد الذاتية والموضوعية للثقافة. عملياً، تتلخّص ثقافة المجموعة البشرية في تقاليدها وعاداتها ولكنّ التقاليد-بصفتها البُعد الذاتي للثقافة-هي الجوهر الأساسي».

يمكن أيضاً النظر إلى الثقافة كمجموع الأنشطة البشرية والمبادئ العامة التي تهدي أفكار مجموعةٍ بشرية تشتركُ في نفس التقاليد (القبول العام) والتي تُنقل بدورها وتغُرس في الجيل التالي (التربية الاجتماعية) ويُحييها أفراد المجموعة (الاستدامة).

يُسهِّلُ تصوُّر الحضارة بشكلٍ عام من عملية إدراك الحضارة الغربية بشكلٍ خاص. الحضارة هي مصطلحٌ مفهومي وتُمثِّلُ مجموعَ تاريخ البشر ونمط معيشتهم وتوقّعاتهم وخيباتهم ورغباتهم وتطلّعاتهم. الحضارة هي كلمةٌ تصفُ مستوىً معيّناً من التقدُّم على المستوى التطوُّري وغالباً ما تُستخدم كمرادف للثقافة، ولكنّ تعريف الثقافة ب-«الفنون والتقاليد والعادات والمعتقدات والقيم والسلوك وتقدير الماديات التي تُشكِّل أسلوب حياة الناس» هو عامٌ وفضفاضٌ أكثر من تعريف الحضارة. تميلُ الحضارة نحو التركيز على نمط حياةٍ خاص وطريقةٍ معيشيةٍ معيّنة بينما يُنظر إلى الثقافة على أنّها تشتملُ على نمط الحياة بالإضافة إلى فلسفة الناس الحياتية والأفكار التي يشتركون بها والموقف العام الذي يتضمّن الإبداع وأنماط الإنتاج.

ولكنّ أكثر التعاريف تداولاً للحضارة هو العبارة التي تصفُ الثقافة الزراعية والمدنية المعقّدة نسبياً. يُمكن تمييز الحضارات عن الثقافات الأخرى عبر مستواها العالي من التعقيد والتنظيم الاجتماعي ومن خلال أنشطتها الاقتصادية والثقافية المتنوّعة. يُمكن أيضاً استعمال معنى الحضارة بطريقةٍ معيارية للدلالة على التفوُّق الثقافي لإحدى المجموعات أو الدول على الأخرى. بمعنىً مُشابه، يُمكن للحضارة أن

ص: 344

تعني «صقل الفكر أو التصرُّفات أو الذوق». يتجذّرُ هذا المفهوم المعياري للحضارة بشدّةٍ في الفكرة التي تُفيدُ أنّ البيئات الحضرية تُوفِّر مستوىً أعلى من المعيشة يشتملُ على الفوائد الغذائية وإمكانيات الإنجاز على المستوى الذهني. تتطلّبُ الحضارة معرفةً متطوّرة بالعلم والتجارة والفن والحكومة والزراعة في المجتمع. بالتالي، فإنّ الحضارة الغربية هي نمطٌ معيشيٌ خاص يُعدّ متفوقاً ومتقدّماً ويُنسَب إلى الناس في الغرب. في سياق هذا البحث، سوف نستخدم مُصطلح الحضارة كمفهومٍ مُكمِّلٍ للثقافة.

تحقّق الإطارُ التاريخي لتغريب القارة الأفريقية عبر الاحتكاك مع أوروبا من خلال تجارة العبيد عن طريق المحيط الأطلسي، والحركة التبشيرية، والحركة الإمبريالية. مثَّل التبادل الثقافي المفروض على السكّان ذوي البشرة الداكنة في العالم الجديد-والذي كان في أوج نشاطه في منتصف القرن الثامن عشر - أول عملية تغريبٍ مُستدام للشعوب الأفريقية. تجدرُ الإشارة إلى أنّ الأفارقة في الشَّتات قد قاموا لاحقاً بالمساهمة في عملية التغريب في أفريقيا، وعلى وجه الخصوص من خلال أدوارهم في عملية التبشير والتعليم المسيحي.

القارة الأفريقية

تُشكِّل أفريقيا ثاني أكبر قارة في العالم وتأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد السكان بعد قارة آسيا. تبلغُ مساحتُها نحو 30،2 مليون كلم مربّع (من ضمنها الجزر المحاذية) وتُغطِّي 6 بالمائة من المساحة السطحية لكوكب الأرض و 20،4 بالمئة من مجموع المساحة البريّة. في العام 2009، بلغ عددُ سكّان أفريقيا مليار نسمة وقد توزّعوا على 61 قِطر ممّا عدل آنذاك نحو 14،72 بالمائة من عدد سكّان العالم . يُظهرُ الجدول التالي بشكلٍ واضح عددَ سكّان أفريقيا مقارنةً مع عدد السكّان في سائر العالم، ويُشيرُ عدد السكان والموارد الطبيعية في القارة الأفريقية إلى الدور المحوري الذي تلعبه أفريقيا على المستوى العالمي.

ص: 345

الصورة

يُحيطُ البحر المتوسِّط بالقارة الأفريقية من جهة الشمال، وقناة السويس والبحر الأحمر على طول شبه جزيرة سيناء من ناحية الشمال الشرقي، والمحيط الهندي من جهة الجنوب الشرقي، والمحيط الأطلسي من جهة الغرب. توجد 54 دولةٌ مستقلّة في أفريقيا بالإضافة إلى مدغشقر، ومجموعاتٍ متنوّعة من الجزر، والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية التي تنتمي إلى الاتّحاد الأفريقي ولكن تطعن الحكومة الغربية بسيادتها .

كانت تتمتّع أفريقيا قبل مرحلة الاستعمار بما يقربُ من 10 آلاف دولةٍ وحكومةٍ ذات منظوماتٍ سياسيةٍ ومجموعاتيةٍ شتّى. تشكّلتْ هذه الدويلات إمّا من مجموعاتٍ عائليةٍ صغيرة من الصيّادين وجامعي الثمار كشعب ال- «سان» في جنوب أفريقيا، أو من المجموعات الاجتماعية الأكثر تنظيماً كالقبائل المتحدّثة بلغة ال- «بانتو» في وسط أفريقيا وجنوبها، أو من القبائل المنتظمة بدقّة في القرن الأفريقي، أو الممالك الساحلية الضخمة والمدن والممالك ذات الحكومة الذاتية كتلك التي انتمى إليها شعب ال- «يوروبا» وال- «إغبو» في غرب أفريقيا، أو المدن التجارية السواحلية في الساحل الغربي لأفريقيا.

مع حلول القرن التاسع الميلادي، امتدّ صفٌ من الدول ذي السلالات الحاكمة - بما فيها ممالك الهاوسا الأولى - عبر البطحاء في جنوبي الصحراء من المناطق الغربية إلى وسط السودان، وقد وُجدت أقوى هذه الدول في غانا، غاو، وإمبراطورية (-Ka-nem-Bornu) اعتنقت إمبراطورية (Kanem) الدين الإسلامي في القرن الحادي

ص: 346

عشر، وفي نفس هذا القرن انهارت غانا وخلفتها إمبراطورية مالي التي عزّزت أغلب منطقة السودان الغربي في القرن الثالث عشر .

أمّا في المناطق الحرجية على الساحل الغربي لأفريقيا، فقد نشأتْ ممالك مستقلّة لم تتأثر كثيراً بالمناطق الشمالية الإسلامية. تأسّست مملكة Nri التابعة لشعب ال- «إغبو» في حوالي القرن التاسع وكانت إحدى أقدم الممالك وكان يحكمها ملك ال-(Ezi Nri). يقع الموقع الجغرافي لهذه المملكة في دولة نيجيريا المعاصرة وقد اشتُهرتْ بمنتوجاتها البرونزية المتقَنة الصنع التي تمّ العثور عليها في بلدة (Igbo Ikwu) ويعودُ تاريخها إلى القرن التاسع.

تكمنُ أهمية هذا العرض التاريخي الموجز في تقديم رؤيةٍ أوضح ونظرةٍ أعمق إلى المجتمعات الأفريقية قبل مرحلة الاستعمار والكيفية التي أنشأت من خلالها هذه المجتمعات نمط الحكم الخاص بها، وحازت على وتيرتها الخاصة من التقدُّم الحضاري، وطوَّرت منظوماتٍ سياسية محلية وعملياتٍ لوضع القوانين ممّا ضمن السلام في القارة الأفريقية وحافظ عليه. أفريقيا هي قارةٌ تنبضُ بالديناميكية وتشهدُ جهوداً نشيطة لنيل الديمقراطية والتطوُّر إلى الأمام. لا تمُثِّلُ أفريقيا مفهوماً موحَّداً، فهناك درجةٌ من التباين داخلها ويُمكن قياسه على ضوء الحكم والهوية. على سبيل المثال، هناك دولٌ تُجيدُ العمل في أفريقيا على مستوى الحكم وتثبيت الديمقراطية (كالسنغال وناميبيا وغانا وجنوب أفريقيا وبوتسوانا) وتُشكِّلُ استثناءاتٍ للتعريف الذي يُقدِّمُ أفريقيا كقارةٍ فاشلة. بالإضافة إلى ذلك، بدأ يتطوّر الاختلاف الثقافي في أفريقيا مع قيام بعض الدول في الشمال (كالمغرب وتونس) بالنظر إلى نفسها كدولٍ عربية وليس أفريقية.

آثار الحضارة والثقافة الغربيَّتيْن على القارة الأفريقية

تكمنُ الحقيقة المهمة التي تتعلّقُ بالتاريخ الثقافي الأفريقي في تأثير عاملين خارجيَّيْن على التقاليد الوطنية الأفريقية وهما العامل العربي - الإسلامي والعامل

ص: 347

الأوروبي - المسيحي، وقد تعرّضتْ أفريقيا لتأثيراتهما على مدى أكثر من ألف عام. تمّ استيعاب القيم والأنماط المعيشية الخاصة بهذين العاملين وتبنّيها إلى حدٍ كبير في أرجاء القارة الأفريقية. تُقدِّمُ هذه الملاحظة رؤيةً أشمل إلى ظاهرة التغريب في أفريقيا، وقد توصّل إليها العالِم النظري الأفريقي المرموق إدوارد ويلموت بلايدن في أواخر القرن التاسع عشر، وقام علي مَزروي في أواخر القرن العشرين بتلخيصها بالعبارة التالية «التراث الثلاثي».

حلَّت تأثيراتُ الحضارة والثقافة الغربية في أفريقيا عبر مراحل متعدِّدة، ويهدفُ هذا البحث إلى إبراز ثلاثةٍ من هذه المراحل: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. على نحو العموم، سوف ينحصرُ نطاقُ البحث في تناول المفاهيم الفكرية التي تدفعُ الحضارة الغربية وهي الليبرالية الجديدة، والديمقراطية الليبرالية، والعولمة، والفردانية في مقابل القيم العائلية، وما إلى ذلك، ويُمكن أن تندرج تحت المراحل الأعم لتأثيرات الحضارة الغربية. تلتزمُ الحضارة الغربية بالليبرالية الجديدة، والديمقراطية الليبرالية، والنمط الاستهلاكي، والرؤية الكونية المسيحية كأساسٍ لها. يندرجُ الاستعمار والديمقراطية الليبرالية تحت التأثير السياسي، والليبرالية الجديدة تحت التأثير الاقتصادي، والحركة التبشيرية تحت التأثير الاجتماعي.

1. الأثر السياسي

العامل الاستعماري هو نقطةٌ أساسيةٌ من أجل فهم عملية التغريب في أفريقيا. تُشيرُ التشويهات الكلية التي خضعتْ لها المجتمعات الأفريقية في كلِّ مجالات الحياة إلى شدّة الاستعمار وفاعليته في عملية تغريب المجتمعات الأفريقية وثقافاتها. تتضمّن الآثار السياسية ما يلي:

- تغيير الحدود التقليدية من دون مشاورة المؤسّسات والثقافات السابقة.

- تفكيك وإغراق المؤسّسات المحلية وإنشاء حكمٍ أجنبيٍ مكانها. تجدرُ الإشارة إلى أنّ المؤسسات التقليدية قبل ذلك الوقت لم تكن تُعتبر فقط سلطاتٍ سياسية بل أيضاً أمينةً على حفظ الثقافات.

ص: 348

- إدخال الديمقراطية الليبرالية التابعة لمنظومة (Westminster) إلى القارة الأفريقية. لا يُمكن القول بأنّ أفريقيا لم تكن تمتلك النمط الديمقراطي الخاص بها قبل فرْض الديمقراطية الليبرالية، بل تمّ في الواقع إغراق العمليات الديمقراطية الأفريقية في تيّار التغريب كما يُصرّ (Mimiko):

«النقطة هيأنّ ما يُسمّى بمتلازمة ال- Kabiyesi (1) الموضوعة كتفسيرٍ لنقص الديمقراطية في أفريقيا المعاصرة ينمُّ في الواقع عن فهمٍ قاصر لطريقة عمل المنظومات السياسية الأفريقية التقليدية. أُعارضُ هذا الافتراض بشدّة باعتبار أنّه غير تاريخيٍ وبالتالي فإنّه باطلٌ في السياق الأفريقي. تُفيدُ فرضيتي أنّه خلال الحقبة التي سبقتْ احتكاكَ أوروبا بأفريقيا، لم تقم القارة الأفريقية فقط بتطوير مُنشآتٍ دولية متقدّمة نسبياً، بل كانت تمتلكُ الدول الأفريقية الناشئة قبل المرحلة الاستعمارية «منظوماتٍ متطوّرة من الحكم السياسي» المترافق مع قواعد ديمقراطية قوية. إنّني أحتجُّ بأنّ أساس ما يُذاع حول عدم قدرة هذه المجتمعات على المحافظة على الديمقراطية في الحقبات المعاصرة (ما بعد الاستعمار) لا يكمنُ في عدم امتلاكها للثقافة الديمقراطية، بل رواسبُ القيود هي التي خدمت الحركة الإمبريالية التي مثّلتْ التجربة السائدة للشعوب الأفريقية منذ القرن الرابع عشر ويُمكن تعريفها بأعمق طريقةٍ عبر تجارة العبيد، الاستعمار، الاستعمار الجديد، والحكم العسكري الذي أعانها جميعاً».

الديمقراطية الليبرالية: ما هو أثر تبنّي الديمقراطية الغربية على أفريقيا؟ سوف يُصرِّح العديد من الناس بأنّه النهج المناسب لأنّه يُتيحُ فرصة المشاركة في الشؤون العامة وأنّ الديمقراطية الليبرالية تُعزّز التطوُّر. هل ينبغي تعريف الديمقراطية ووضعها سياقياً وفق المبدأ أو المادة؟ أليس من الواضح أنّ أفريقيا لا تستطيعُ العمل وفقاً للديمقراطية الليبرالية أم أنّ استخدام النموذج الغربي أمرٌ إجباري؟ أليس من المناسب أن نتوصّل إلى مبادئ ديمقراطية من خلال الاعتماد على الأشكال والأنماط والعمليات الأفريقية؟ على سبيل المثال، قامت دولةُ نيجيريا في العام 1993 بتبنِّي

ص: 349


1- Kabiyesi: بمعنى الحاكم الأعلى، وتُترجم هذه العبارة إلى «لا يجرؤ أحد على محاسبتك».

النموذج السري - العلني في الانتخابات العامة وقد لقي استحساناً كبيراً باعتباره أفضل لعملية الانتخاب. انظروا إلى أعضاء مجلس الأمة حيث إنّهم لم يُظهروا فهماً عميقاً لمفهوم عملية وضع القوانين وفلسفتها. هل من غير المناسب أن نعود إلى النموذج التقليدي لوضع القوانين وتحسينه؟

2. الأثر الاقتصادي

تمثّلتْ إحدى أهمّ آثار الاستعمار الأوروبي في دمج القارة الأفريقية تدريجياً في المنظومة العالمية الرأسمالية حيث أدّت أفريقيا بشكلٍ رئيسيٍ دورَ المصدِّر للمواد الأولية الضرورية للإنتاج الصناعي الغربي.

فُرضت الضرائب مما أجبر الأفريقيين على العمل لقاء الأجور.

تسبّب الاقتصاد الاستعماري بحرْف الزراعة نحو إنتاج السلع الرئيسية والمحاصيل المدرّة للأرباح كالكاكاو والفستق وزيت النخيل ونبات السيزال وما إلى ذلك.

شَهِد النمطُ الإنتاجي تحوُّلاً مفاجئاً حيث تمّ الانتقال من توليد المحاصيل الغذائية إلى إصدار المحاصيل المدرّة للأرباح ممّا تسبّب بالمجاعة في أفريقيا، فقد بدأت هذه القارة بإنتاجِ كمياتٍ أكبر من المواد الغذائية التي لا تحتاج إليها كثيراً وإنتاجِ كمياتٍ أقل من المواد الغذائية التي هي بأشدّ الحاجة إليها.

تحوّلت أفريقيا إلى مُنتجٍ دائمٍ للمواد الأولية ممّا أدّى إلى تبادلٍ غير متكافئ. وفقاً لرودني، ساهم منهجُ النهب ومشاريعُ الاستلاب المنشأة في المستعمرات من أجل الاستيلاء على الموارد الطبيعية الأفريقية وإرسالها إلى أوروبا في تسهيل وقوع «التخلُّف في أفريقيا وإطلاق عملية التطوُّر في أوروبا».

تطلّب تحقيق الأمور الآنفة الذكر إعادةَ التنظيم التام للحياة الاقتصادية الأفريقية بدءاً باستحداث المحاصيل المدرّة للأرباح وتغيير النمط الاقتصادي المحليّ بقسوة. أدّى اقتطاع الأراضي المحلية في المستعمرات الاستيطانية - وعلى وجه الخصوص في كينيا وروديسيا - إلى تعقيد الوضع الاقتصادي للسكّان المحليّين.

ص: 350

غيّرت الخطّة الاقتصادية من عملية الإنتاج والتصنيع والتجديد والاستهلاك في أفريقيا.

امتلكت البُنية التحتية التي تمّ إنشاؤها من قبل المؤسسات الاستعمارية الحدّ الأدنى من المقوّمات، وقد تمّ تطويرها خصّيصاً كتطبيقٍ لمقتضيات الاقتصاد الجديد الذي شهد نشوء المدن الاستعمارية كدكار، لاغوس، نايروبي، ولواندا.

الليبرالية الجديدة هي عمليةٌ اقتصادية لا تثق بالدولة كعنصرٍ في عملية التطوير. تعودُ هذه الفلسفة إلى القرن التاسع عشر وما فتئت تتجدّد عبر الوقت، وأحدث أشكالها هو ترشيد الإنفاق. تُفيدُ هذه العملية أنّ آلية التسويق هى أكثر المحدِّدات فاعليةً للموارد الإنتاجية، وبالتالي، لكي يكون لدينا اقتصادٌ فعّال ينبغي أن تلعب قوى العرض والطلب دوراً ريادياً. لقد غيّرتْ هذه العملية اقتصادَ أفريقيا ونقلته من الشيوعية إلى الرأسمالية ومؤخّراً إلى الليبرالية الجديدة.

3.الأثر الاجتماعي

العلاقات العائلية/ الاجتماعية: أخذت الأسرة النووية مكانَ العائلة الممتدّة وتفكّكتْ القيم العائلية الأفريقية بسرعةٍ هائلة. كانت العائلة الممتدة أداةً رائعة تُقدِّم حيويةً اجتماعية إلا أنّ الأمن الاجتماعي في المجتمع الأفريقي قد انحسر وأخلى السبيل أمام العائلة النووية. لا عجب أنّه لم يعد هناك احترامٌ للعمر أو للقيم التي كانت تُعدّ مقدّسةً في أفريقيا حيث نرى أنّ الشباب يستثقلون إلقاء السلام على كبار السن.

الفردانية: يوجد اليوم في أفريقيا آباء وأمهات عزّاب، وهذه ظاهرة معروفةٌ في الولايات المتّحدة، ولم يعد الناس ينتفعون بالملكية الجماعية ولا يودّون رعايةَ شؤون بعضهم البعض.

عملية البناء: تغيّرت طريقة إنشاء الأبنية عن الأسلوب القديم ولم يعد الأفارقة

ص: 351

يُدخلون علاماتهم الفارقة في عملية البناء. على سبيل المثال، يقومُ الأفارقة اليوم ببناء بيوتٍ خالية من التهوئة.

عملية التمدُّن: أدّت هذه العملية إلى الهجرة عن الريف وتشرُّد أعدادٍ كبيرة من السكّان.

الفساد: روّجتْ الحضارة الغربية للفساد في أفريقيا وأصبح يتطلّع الزعماء الأفارقة إلى أوروبا والولايات المتّحدة كملاذٍ آمن للأموال المسروقة.

السلوك الجنسي: تغيّر مفهومُ السلوك الجنسي بشكلٍ تام، وتسبّبتْ رغبةُ القاصرين الأفارقة بتقليد الغربيين في أن يُصبحوا مُنحلّين جنسياً وغدوا يرتكبون أموراً لم تكن قابلة للتصوّر منذ عدّة سنوات. هذه ليست دعوةٌ للعزلة الثقافية، فهذا النوع من العزلة ليس ممكناً في إطار العولمة. تنمو الأفكار والقيم الثقافية وتعبرُ الحدود من دون عوائق، ولكن ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أنّه كلّما كنّا أضعف فإنّ احتمال وقوع السيطرة الثقافية سوف يزداد. تمرُّ أفريقيا بحالةٍ من الضعف الشديد منذ القرن المنصرم وتُعاني اليوم من استعبادٍ ذهني وإمبرياليةٍ ثقافية وتحتاج إلى تحرير العقول من نير الاستعمار. يُثير تيّارُ الحضارة الغربية في أفريقيا الحزن إذ إنّ قوته هي علی درجةٍ شديدةٍ حيث بالكاد تستطيعُ القارة الأفريقية مقاومته.

اللغة: يتدنّى إتقانُ الأفارقة للغات الوطنية بسبب اضطرارهم لتبنّي الثقاقة والحضارة الغربية. أحدثتْ اللغةُ الغربية شرخاً بين النخبة وعامة الشعب فى أفريقيا الذين ما زالوا غير قادرين على إجراء المعاملات باللغة الغربية، وقد أدّى هذا الأمر إلى عزلة الأفراد الذين لا يستطيعون التحدُّث باللغة الإنكليزية أو الفرنسية. اللغة هي أداة الثقافة، وتُواجه أفريقيا معضلةً كبيرة. على سبيل المثال، تمّ إيقافُ مشروع الأستاذ بابافونوا (Babafunwa) الرامي إلى أنّ اللغة المحلية هي أداةٌ أساسية للتعلُّم في نيجيريا بسبب طبيعة بلادنا. إذاً، ينبغي أن نُحدّد ونخطّط الأساليب لمساعدة أفريقيا للخروج من المأزق الثقافي وقيود اللغة الغربية.

ص: 352

الديانة المسيحية: ينبغي التطرُّق لأثر الديانة المسيحية لأنّها كانت أهمَّ عاملٍ في عملية تغريب القارة الأفريقية. أصبح نظامُ التعليم الغربي الذي يتضمّن الإلمام بالقراءة وإتقان إحدى اللغات الأوروبية شرطَ الدخول إلى القطاع الحديث. في أغلب الحقبة الاستعمارية، سيطرت الحملاتُ التبشيرية المسيحية على العملية التعليمية، ولم تسْعَ هذه الحملات فقط لتغيير ديانة الأفارقة بل أيضاً إلى غرس القيم الغربية. واجهت الديانةُ المسيحية المنظومات العقائدية التقليدية وقامت بترويج الأفكار وأنماط الحياة الجديدة. على وجه الخصوص، رامت هذه الديانة فرضَ الزواج من امرأةٍ واحدة وترسيخ الأسرة النووية باعتبارهما المعيار الذي ينبغي اتّباعه.

من المفارقات العجيبة أنّ الانخفاض الكبير في معدّلات وفيّات الرضّع أدّى إلى تعقيد المسائل الديمغرافية في أفريقيا وكانت له تداعياته على الزراعة والخدمات الاجتماعية. بالرغم من أنّه لم يقع جهدٌ صناعيٌ كبير في الحقبة الاستعمارية ولم يحصل تطوُّرٌ مهمٌ منذ ذلك الوقت، إلا أنّ التكنولوجيا الغربية قد دخلت إلى حياة الشعوب الأفريقية منذ أمدٍ بعيد عبر المنتوجات المصنَّعة المستورَدة من الغرب.

تفشّى التغيير الثقافي الذي تسبّبتْ به ضغوطات الحكم الاستعماري في جميع مجالات الحياة إلى درجةٍ أصبح يُعدُّ فيها علامةً على انقلابٍ ثقافيٍ في القارة الأفريقية. يُمكن ملاحظة هذا الواقع بشكلٍ أعمق في مجال العلم والتكنولوجيا وتأثيراته على التجربة والوعي الأفريقي، وقد تغلّب الطبُّ الحديث على الممارسات الصحية التقليدية.

الختام

أصبح تيّارُ التغريب الثقافي في أفريقيا أكثر انتشاراً وتفشيّاً حيث أخذت الحضارةُ الغربية الأولوية على القيم والثقافة الأفريقية التي أصبحتْ تُعَدُّ أدنى منها. كما في المجتمعات والثقافات الأخرى التي تنتمي إلى ما يُسمَّى بالعالم الثالث، فإنّ تأثير الحضارة الغربية على أفريقيا قد تسبّب بانقطاع أشكال الحياة في أرجاء القارة وأدّى

ص: 353

هذا الأمر إلى ازدواجيةٍ ثقافيةٍ غالباً ما تظهر كمُعضلةٍ حقيقيةٍ في الظروف الحياتية الواقعية. بتعبيرٍ آخر، فإنّ تجربة الحداثة الأفريقية تحفلُ بالتوتُّرات على كلّ مستوى اجتماعي. تُواجه أفريقيا بعد مرحلة الاستقلال كيفية امتلاك هويةٍ حقيقية وثقافةٍ جديدةٍ تكونُ أفريقيةً بجوهرها. على هذا الأساس، ينبغي أن تتّصل أفريقيا بالبلدان التي «تحرّرت من الاستعمار» وحازتْ على درجةٍ من التطوُّر الاقتصادي محلّ التقدير. يجب التركيز على تطوير خياراتٍ قابلة للتطبيق من أجل التوصُّل إلى ثقافة أفريقيةٍ حقاً.

ما هي خياراتنا؟

لكي نقضي على القحط الثقافي المقيت وتدهور القيم في أفريقيا، ينبغي أن ننظر في الخيارات التالية:

من المهم أن نستمرّ في تناول كيفية إعادة تنظيم تيّار الفراغ الثقافي في أفريقيا من أجل تحصيل فهمٍ متينٍ للوضع الحالي.

ينبغي أن تعترف القارة الأفريقية بصدقٍ بنقاط ضعفها. تذكّروا حينما قال الرئيس النيجيري السابق عمر موسى يارادوا في محضر الرئيس الأمريكي جورج بوش: «إنّني أعتبر نفسي محظوظاً لوجودي هنا، ولن أنسى هذا النهار طوال حياتي». يُظهر هذا التصريح ضآلة الزعماء الأفارقة وضعف القارة الأفريقية التي لا تستطيعُ حماية نفسها في وجه الهجوم الثقافي. ينبغي اتّخاذ الخطوات من أجل صدّ تيار الهيمنة الغربية الثقافية، وهذا ممكنٌ للغاية من خلال تحرير عقول الأفارقة وقاداتهم من الاستعمار والنظر إلى الخيارات الممكنة في الجهود الرامية إلى «نزع التغريب» عن التوجُّه الثقافي للشعوب الأفريقية.

يُستحسن تنمية ثقافة التفاعل مع الثقافات غير الغربية المناسِبة، والتعاون مع بُلدانٍ من أمثال ماليزيا وتونس وغيرها.

ينبغي أنّ تهتمّ الدول الأفريقية بمُنجزات البلدان الأخرى التي عارضتْ الثقافة

ص: 354

الغربية. على سبيل المثال، اختارت تايوان وكوريا وإندونيسيا وماليزيا عدم التركيز على اللغات الأجنبية وأصبحت تمتلكُ اقتصادياتٍ كبيرة. كذلك، حظرت الهند في الماضي عملية تصدير الثياب الغربية وأصبحتْ اليوم أحد أكبر مُنتجي الأقمشة في العالم.

هناك غايةٌ وراء قيام فرنسا بصرف الكثير من الأموال على تطوير اللغة الفرنسية، وكذلك هناك غايةٌ خلف عملية إنفاق المجتمعات الأنكلوسكسونية في أوروبا الغربية وشمال أميركا للأموال من أجل ضمان التطوُّر المستمر لما تُطلق عليه هذه المجتمعات «لغة الدبلوماسية والتجارة».

ينبغي إدخال اللغات الأفريقية كجزءٍ إلزاميٍ في المنهاج الدراسي وأن لا تكون هذه اللغات ضمن المواد العامة بل ضمن المواد الرئيسية.

ينبغي أن تفتح القارة الأفريقية مجالَ التواصل مع الأفراد المنحدرين من أصلٍ أفريقي والقاطنين في قاراتٍ أخرى وأن يكون لديها علاقاتٌ تواصليةٌ قوية معهم. على سبيل المثال، قد يُحرِّك نمط الإحياء الثقافي في البرازيل اهتمامَ الشعوب الأفريقية بثقافتها.

ص: 355

التعليم وترسيخ الاحتلال الإنجليزي لمصر 1952-1882

عماد الدين عشماوي

عماد الدين عشماوي (1)

يعتبر القرنان الثامن والتاسع عشر ذروة زمن الاستعمار الغربي الوحشي، متمحوراً في إنجلترا وفرنسا؛ بعد أن ولى زمان الهولنديين والإسبان والبرتغاليين. وقد طالت نار ذلك الاستعمار كل مجتمعات العالم القديم والجديد، فجاست كل ديار أبناء آدم في إفريقيا وآسيا والأمريكيتين: قتلاً، وسبياً، ونهباً للثروات، وتبويراً للعقول، وتسفيهاً للتاريخ والقيم والمعتقدات، وتربية للأعوان «حزبهم المخرب» داخل المجتمعات المستعمَرة، الذين كانوا خدماً وترجماناً ووسطاء يحكم الاستعمار من خلالهم.

لقد انطلق هذا الاحتلال الغربي لمجتمعاتنا العربية الإسلامية، من خبرة عقود طويلة، في دراستها، من خلال: المستشرقين، والتجار، ورجال الدين من المبشرين، فتكونت لدى أوروبا الصاعدة بقوة في القرن التاسع عشر قاعدة معلومات هامة وفارقة في علاقتها مع مجتمعاتنا، أنتجت فرصة سانحة للانقضاض على الإمبراطورية العثمانية الذاهبة إلى الأفول، وفي القلب منها مصر.

فبدعوى إفلاس مصر، والدفاع عن الخديوي الذي ثار عليه الشعب، وتخليص

ص: 356


1- باحث في الشؤون الدينية والسياسيّة - مدير مؤسسة بذور الثقافية / جمهورية مصر العربية.

المصريين من حكم العسكر المستبد، والعمل على ترقية الشعب المصري، وغيرها من الأكاذيب، دخل الإنجليز مصر بعد هزيمة جيشها في التل الكبير عام 1881م، ليتحقق لهم جزء من الحلم الإمبراطوري؛ لتأمين طرق الإمبراطورية إلى الهند، والسيطرة على أسلاب الدولة العثمانية عندما يحين وقت تفكيكها.

لقد كان لهذا الاستعمار أدواته الكثيرة والمتعددة لترسيخ وجوده داخل مصر، ومن أهمّها: التعليم، الذي يعدّ أهم مرتكزات السيطرة الاستعمارية البريطانية في مصر طوال ثلاثة وسبعين عاماً قضاها الإنجليز يحتلون مصر، وينهبون خيراتها، ويوسعون مجالات نفوذهم في عالمنا العربي، ويمهّدون لزراعة دولة الصهاينة من اليهود في بلداننا .

فالتعليم، هو أساس رقي الشعوب، أو تدميرها. لذلك عمل الاحتلال الإنجليزي؛ كما كل احتلال عرفته مجتمعاتنا المعاصرة، بشكل رئيسي على تدمير قوى الشعب المصري المعنوية، من خلال حرصه الشديد على منع كل مصادر الضوء والنماء لبذوره وجذوره المعنوية والعقلية، من خلال تضييق منافذ التعليم، وبث مناهج وأساليب تعليمية تسطح العقل وتربيّ على الطاعة الخنوع، وتفقد المصريين هويتهم الإعتقادية والثقافية، لتنتج ثماراً مرّة أو فاسدة من المصريين، من الذين كان جل همهم الوظيفة وضمان المعيشة، وممن لا وجهة لهم سوى أنفسهم وأهليهم الأقربين، فكانوا هم جنوده الحقيقيين الذين حكم بهم البلاد ما يقارب من ثلاثة أرباع قرن.

لقد رحل الاستعمار ولم يرحل، وهزم في معارك الجيوش لكنه لم يهزم في معارك العقول. والتعليم خير شاهد على ذلك. ولهذا تعد قصة الاستعمار الإنجليزي في مصر، أكبر دليل على أثر التعليم كأداة رئيسية من أدوات الاستعمار وترسيخه. فقد رحل الإنجليز عن مصر بجيوشهم، لكن لم ترحل مناهجهم، ولا توجهاتهم من عقول الكثير من باحثينا والمسئولين عن التعليم في بلادنا حتى اليوم.

وفي هذه الدراسة الموجزة، نحاول توصيف عمليّة الاستعمار الإنجليزي لمصر،

ص: 357

ومناهج إدارته الاستعمارية، وكيف تعاملت مع التعليم، باعتباره مجموعة من الاستراتيجيات والتقنيات المؤدية لترسيخ أقدامه في مصر؟ وكيف نجحت في ذلك؟ فكان التعليم الركيزة الأساسية لإسكات مصر طيلة ربع قرن، حتى بدأت محاولات الإفلات منه بعد تحريرها في منتصف القرن الماضي.

نهضة تعليميّة موؤودة: التعليم قبل الاحتلال البريطاني

بعد أن بدأت مصر مع محمد علي نهضة تعليمية واعدة، سرعان ما دخلت في عهد كل من الخديوي عباس الأول وسعيد، في فترة سوداء من تاريخ التعليم، فقد نشطت سياسة إغلاق المدارس، حتى أصبح ديوان المدارس لا يشرف إلا على مدرستين فقط هما: «المهندس خانة، والطب»، وما لبث حتّى ألغيَ هذا الديوان في عام 1854.

ثم جاء عصر إسماعيل، ليعيد لمصر نهضتها التعليمية، وبدأت أفكار النهوض بالتعليم تتبلور في لوائح وهيئات، فاهتمّ بالكتاتيب وأدخلها في نطاق النظام التعليمي، وأنشأ مجلس المعارف للمشورة في أمور التعليم. ومع تولي علي مبارك نظارة المعارف، عمل على إتاحة التعليم لكل من يرغب دون تمييز، كما وضع أول تخطيط علمي لمشروع التعليم القومي في ما سمي بلائحة رجب بهدف تعميم التعليم العام، لكن تدهور الاقتصاد أوقف سير تلك النهضة التعليمية (1) .

وفي عهد توفيق، شكلت الحكومة لجنة لتنظيم التعليم أطلق عليها «مجلس قومسيون المعارف»، عام 1880م (2)، من أجل نشر وتعميم التعليم في جميع أنحاء البلاد، وتحسين مستوى المدارس الابتدائية والإعدادية لضمان مرشحين أفضل لدخول المدارس المتخصّصة. واقترح، كذلك، تأسيس مدارس ابتدائية درجه ثالثة في كل قرية مهمة، ومدارس ابتدائية درجة ثانية في المدن الصغيرة جدًا، ومدارس ابتدائية درجة أولى في عواصم المحافظات، على أن يتم تمويل هذا المشروع من

ص: 358


1- سلامة، جرجس. أثر الاحتلال البريطاني في التعليم المصري، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، م1966، ص 21.
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني في التعليم المصري، المرجع السابق، ص2.

الأهالي من خلال العُمد والمجالس المحلية (1) . بدأت الحكومة بالتعاون مع مجلس شورى النواب في تنفيذ مقترحات القومسيون في زمن الثورة العرابية القصير جداً، لكن الاحتلال البريطاني دهم البلاد، فأوقف النهضة التعليمية، ووضع للتعليم سياسة جديدة قائمة على التضييق والقصد في الإنفاق (2).

ما الذي فعله الاحتلال في التعليم؟

وعد اللورد دوفرين في تقريره المشهور، عندما دخل الإنجليز مصر، بأن تكون ترقية التعليم من أهم ما سيحرص عليه الحكام الجدد، حتى لا تكون صيحة مصر للمصريين، صيحة جوفاء (3) . وتم تعيين اللورد كرومر (سير إفلين بارينج) أوّل معتمد بريطاني في مصر في 11 سبتمبر 1883، ليقوم بتنفيذ توصيات تقریر دوفرین، ومن ضمنها الارتقاء بالتعليم، حتى يستطيع المصريون حكم أنفسهم بأنفسهم. ولكن ما أعظم الخلف بين القول والعمل فى كل معاملة الإنجليز للمصريين، وإنه لأعظم في دائرة التعليم منه في أية دائرة أخرى (4) . وصار التعليم، هو المدخل للسيطرة على الفرد وعلى الأمة بعد القضاء على الثورة، من خلال تغيير مناهج التعليم، وتعيين المدرسين الإنجليز في جميع مراحل التعليم، وقتل اللغة العربية وإحلال الإنجليزية مكانها، وإفقار معنويات أبناء وناشئة الشعب عبر إبعاد التاريخ والدين والأخلاق من مناهج الدراسة.

فقد ألغيت وزارة المعارف العمومية، وتحولت إلى إدارة بوزارة الداخلية، ثم أعيدت وعهد بإدارتها إلى وزير الأشغال العامة، ولم يتأكد دورها إلا عندما تولاها سعد باشا، عام (5) 1906. وصارت المدرسة في مصر طيلة عهد

ص: 359


1- حسن، عبدالغني حسن. عبد الله فكري، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، سلسلة أعلام العرب، ط1، 1965م، ص 59.
2- عبد الكريم، أحمد عزت. دراسات في تاريخ العرب الحديث، القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، ط1، 2016م، ص 277.
3- روثستین، تيودور. تاریخ المسألة المصرية، ترجمة عبد الحميد العبادي ومحمد بدران، بيروت: دار الوحدة، ط2، ص 219 .
4- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، المرجع السابق، ص 219.
5- عبد الملك، أنور. نهضة مصر، ترجمة حمادة إبراهيم ووجيه عبد المسيح، القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، ط 1، 2011م، ص 379 .

الاحتلال، خادمة حقيرة مهينة لا تصلح لشيء سوى القيام بشؤون مطبخ الاحتلال (1).

وقد ارتكزت السياسة التعليمية البريطانية في مصر على أسس كان من أهمها:

أولاً: أنجلزة الإدارة المصرية.

ثانياً: التقتير في تعليم المصريين.

ثالثاً: قصر الغرض من التعليم على الإعداد للوظائف.

رابعاً: نشر الثقافة الإنجليزية في مصر.

خامساً: تشكيل المناهج التعليمية لتلائم أغراض الاحتلال التعليمية.

كيف كان التعليم أداة لترسيخ الاحتلال؟

1- إدارة التعليم: الإشراف والتفتيش والتدريس

كانت سياسة الاحتلال البريطاني، تستهدف الإبقاء على مستوى التعليم العام في مصر في أدنى صورة (2) . وقد حرص اللورد كرومر، المعتمد البريطاني، على عمل كل ما من شأنه إضعاف التعليم المصري. ولهذا كانت نظارة المعارف، هي أكبر النظارات المصرية التي تستخدم الموظفين البريطانيين (3)، حتى يضمن أن يتشكل نمط المعارف والتعليم المصري بنمط وطبيعة السلطة المحتلة (4) . بل وعارض في إنشاء الجامعة المصرية، حيث إنها لا تتفق مع سياسته، في أن يكون الغرض من التعليم في مصر هو تخريج موظفين للحكومة قادرين على القيام بالأعمال التي تطلب منهم (5) .

ص: 360


1- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، مرجع سابق، ص223.
2- شمیدت، آرثر جولد، وآخرون (تحرير). رؤية جديدة لمصر، ترجمة عايدة الباجوري، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1، 2013م، ص 307.
3- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية (1922-1956)، القاهره: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2009م، ص 38.
4- ميتشل، تيموثي. استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي، وأحمد حسان، القاهرة: مدارات للأبحاث، ط3، 2014م، ص 9.
5- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية، ص 53.

ولهذا اختار كرومر ، دانلوب (1) في 17 مارس 1897م، بعد أن ارتاح له. رغم يقينه من قدراته المحدودة، إلّا أنه حريص على الالتزام بما يطلب منه، ولديه القدرة على تحمل النقد الشديد الذي يتعرض له، بذلك كان هو أنسب من يتولى تنفيذ سياسة كرومر التعليمية، ليضع للأمة نظام التعليم المدمر الذي لا نزال نسير عليه، مع الأسف، إلى يومنا هذا (2).

لقد حرص دانلوب، على تنفيذ كل ما رسمته السياسة الاحتلالية للتعليم، وصال وجال حتى أصبح صاحب الكلمة العليا في كل صغيرة وكبيرة قبل نظارة سعد. فبسط نفوذه على الموظفين، وكان كل همّه موجهاً نحو نظام سير التلاميذ، وإلى نظافة الأدوات في المكاتب، أو على الجدران، وإلى نظافة الأماكن لا نظافة التلاميذ أنفسهم، وكان لا يعبأ أن يتكلم مع الناظر بمنتهى القسوة، وكان لا يستنكف أحياناً من استعمال ألفاظ غير لائقة، واتخذ من قانون نظام المدارس سلاحًا لخنق الشعور بالحرية عند أحرار الطلاب والنابهين منهم (3) .

كما عمل، على أن تنشأ أجيال متعاقبة من «تلاميذ المدارس» في البلاد، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالاحتلال، عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملاً من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والآداب والفنون - ولكنها فنونهم هم، وآدابهم هم، وتاريخهم هم، ولغاتهم هم، أعني الغزاة (4) .

وقد نجح في إنضاب نمو المصريين الفكري، بهدف تأخير وصولهم إلى حكم أنفسهم بأنفسهم، بالإضافة إلى القضاء على ما تبقى من تنظيمات تربوية من عهد

ص: 361


1- عين «دوجلاس دانلوب» عين سكرتيرًا عموميًا للمعارف في 8 مارس سنة 1897 ثم مستشارًا في 24 مارس سنة 1906، وقد كان في أول أمره قسًا مبشرًا عمل في وظيفة مدرس للغة الإنجليزية والخط الإفرنجي في مدرسة رأس التين الثانوية ثم لفت نظر «كرومر» فدفعه إلى العمل في نظارة المعارف فما زال يترقى بها حتى أصبح مسيطراً سيطرة تامة على شئون التربية والتعليم.
2- أوين، روجر. اللورد كرومر، ترجمة رءوف عباس، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2005م، ص 421.
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 357، نقلا عن عبد الحميد مطر: التعليم والمتعطلون في مصر.
4- شاكر، محمود محمد. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة: دار الهلال، دون رقم طبعة، 2012م، ص 229-230.

محمد علي (1) . ليس هذا فحسب، لكنه أبطل عديدًا من الكتب المقررة، من مؤلفات «عبد العزيز جاويش» و «علي مبارك» و «عبد الله فكري»، لأنها تتحدث عن القيم العربية الإسلامية، متعللاً بأن هذه الكتب غير موافية لحاجات التعليم، وأوعز إلى بعض المدرسين الموالين له بأن يضعوا كتبًا بديلة لها تضم بعض خرافات لافونتين وفي عبارة سقيمة وأسلوب نازل (2).

كما أنه في سبيل إحكام رقابته على المدارس العالية وإنجازاتها، طلب من المسيو لامبير ناظر مدرسة الحقوق، أن يعارض في كافة ترشيحات المصريين لمناصب أساتذة القانون، وأن يطعن في كفاءتهم (3) .

عموماً، يمكن القول، أنه خلال الفترة التي قضاها «دانلوب» في وزارة المعارف والتي امتدت إلى عام 1920م، ثم من تبعه من الإنجليز، مضت خطة التغريب الكاملة للتعليم والتضييق من منافذه، باعتبار المدارس هي نقطة الدائرة التي تدور حولها مساعي المضللين السياسيين، كما قال يوماً السير ألدن غورست (4).

2- مسألة المفتشين والمعلمين

كانت خطة دنلوب، تقوم على تعيين مفتشين ونظّار ومدرسين يدينون له بالولاء سواء من الإنجليز أو المصريين. ونجح في تكوين بطانة من الإنجليز والمصريين، يسبحون بحمده وينفذون جميع أوامره وينتهون عن سائر نواهيه، ويسيِّرون وزارة المعارف ومدارسها بحسب إشارته، ولم يكن هؤلاء المفتشون من طراز ممتاز في العلم أو في الكفاية. وحسب الواحد منهم جنسيته البريطانية ليكون صالحاً لكل شيء، قديراً على كل شيء (5) . فالأساتذة لم يكن يشترط فيهم شيء، بل تكفي الجنسية الإنكليزية لأن يكون المرء أستاذاً في المدارس الثانوية،

ص: 362


1- عبد الملك، أنور. نهضة مصر، مرجع سابق، ص 391-393.
2- الجندي، أنور. عبد العزيز جاويش، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، ط1، 1965م،
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 74.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 38.
5- هیکل، محمد حسین. مذکرات محمد حسين هيكل،، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط2، 2010م، ص21.

وهي وبعض الشهادات من أي نوع أو في أي علم، قد تكفي لأن يكون الشاب أستاذاً في مدارسنا العليا (1).

وقد قام هؤلاء وأضرابهم من المصريين باضطهاد كل طالب أو تلميذ يظهر عاطفة أو ميلاً نحو الإجتماع أو تأليف القلوب أو النداء باسم الوطن، من خلال نظام فظيع من التجسس في المدارس وصار نجباء الطلاب يُطرَدُون ويُطَارَدُون ويحرمون من دخول الامتحانات العامة ليكونوا مثالاً لغيرهم وليكون في عاقبتهم موعظة وعبرة!. ويذلونهم ويعلموهم الصغار وهم في ريعان الفتوة وفي سن الحماسة الحقة، فيطفئون جذوتها بالتهديد والوعيد والاحتقار، فقد وصفوهم في مكاتبهم بأنهم أمة نصف متحضرة، وداسوا كل عاطفة وطنية (2) .

كذلك كل أستاذ مصري، كان لا يباح له أن يذكر عن مصر وتاريخها ومجدها شيئاً، ولا يباح له أن يقرأ جريدة أو يصرح لطالب بقراءة جريدة، وتاريخ مصر والإسلام نفسه كان يدرس باللغة الإنجليزية في بضع صفحات أَوَّلُها «إن مصر لم تحكم نفسها بنفسها أبداً»، وآخرها «وقد هزم الجيش المصري في التل الكبير وذبح الجنود المصريون في ليلة» (3) . كما تحمّل هؤلاء الطلبة المصريون إمارة المفتشين الأجانب، وشهدوا ارتجاف النظار والأساتذة عند حضورهم (4) . وليس من شك في أن أكبر آفات التعليم في مصر اسناد وظائف التدريس والتفتيش والنظارة إلى الإنجليز دون المصريين (5).

وكان عدد الموظفين البريطانيين في وزارة المعارف، يزيد على ثلث العدد الكلي للموظفين البريطانيين في الخدمة المصرية (6) . فقد حشد دنلوب، جيشاً من الشباب

ص: 363


1- السيد، أحمد لطفي. صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية في مصر، القاهرة: لهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2008م، ص 29.
2- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2000م، ص 77.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 77.
4- المرجع السابق، ص 63.
5- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، مرجع سابق، ص223.
6- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية، مرجع السابق، ص230.

الإنجليز المتخرجين حديثاً من أكسفورد وكمبردج بدرجة بكالوريوس آداب، يعيّنهم أساتذة للمدارس الثانوية، ومعظمهم يدرِّسون علوماً غير التي تخصصوا فيها!

وغايتهم من ذلك وضع كل شيء في أيدي غير الأكفَّاء حتى تأتي النتائج معكوسة، وقد أثمرت هذه الغاية فكان معظم الذين تخرجوا في ذلك العهد جهالاً ومعدومي الكفاية والثقافة (1) .

يذكر محمد لطفي جمعة، أن أعظم ضرر يلحق بالتلاميذ لا يرجع إلى استعدادهم الفطري، ولكن يرجع إلى سوء اختيار الأساتذة وسوء طرق التعليم، فقد كان معظم الأساتذة في تلك المدرسة الابتدائية (مدرسة الأقباط بطنطا) جماعة من أنصاف الجهال الذين لم ينالوا إجازة في علم من العلوم واشتغلوا بتلك المهنة اضطراراً وفراراً من الفاقة (2). فقد ترك معلّمو الكتاتيب دون أدنى عناية منذ بداية الاحتلال حتى عام 1898، وتدهورت مدرسة المعلمين السلطانية، وعومل المدرِّسون الوطنيون معاملة سيئة من الناحية الأدبية والمادية على السواء، وزادت نسبة غير المدرَّبين وغير المؤهَّلين منهم إلى حد كبير، فقد كانت نسبة غير المدرَّبين بالتعليم الابتدائي 58 % عام 1902 وزادت هذه النسبة حتى بلغت 65% عام 1903 (3).

وحتى بعد تصريح الاستقلال، في عام 1922م، كانت وزارة المعارف تعد من أوضح الأمثلة للنفوذ البريطاني، إذ كان الموظفون البريطانيون فيها يزيدون تمسكاً بسلطتهم ويسعون بكل جهودهم في توسيع دائرة هذه السلطة، بل الأكثر من ذلك أنهم كانوا يعمدون إلى مناورات شأنها إبعاد الوطنيين عن المناصب التي يستحقونها، لذا لم يكن الغريب أن تكون الغالبية الساحقة للقابضين على زمام التعليم من البريطانيين. فقد كان التعليم تحت إشراف المستر ستيوارت والابتدائي تحت إشراف المستر دانييل، وتعليم البنات تحت إشراف المستر روبنسن. فقد حصرت سلطات الاحتلال، أمور التعليم في أيدي البريطانيين أو المصريين المؤمنين بالخضوع لهم.

ص: 364


1- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص76
2- المرجع السابق، ص 60.
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص7.

فقد كان لرجال الاحتلال خطة عامة، لم يحيدوا عنها نفذوها في التعليم بالعمل على عدم انتشاره أو ترقيته، وسبيلهم إلى ذلك كان سهلاً فإن خزانة البلاد كانت في أيديهم فقبضوا أيديهم عن إمداد المعارف بالمال (1) .

والجدير بالذكر أن وزارة المعارف، بعد تصريح الاستقلال، كانت تصر على أن تجعل مديرات مدارس البنات من البريطانيات، فقد تم تعيين ناظرة بريطانية للمدرسة السنية متجاهلة بذلك أن هؤلاء المديرات قبل كل شيء من بريطانيا، وبالتالي فهن كن يعملن في السر والعلنية على أن يصبغن من تحت إشرافهم بالصبغة البريطانية، أن يهيئن من حولهم لاعتبار المدنية البريطانية خير المدنيات، والاعتماد على الإرشاد البريطاني باعتباره خير وسيلة لبلوغ أعلى درجات الكمال الإنساني (2) .

وقد استبقت وزارة المعارف الغالبية العظمى من فريق العمل البريطاني (3) . فقد كان في مصر (في الفترة 1936-1945) ما يقرب من ثلاثمائة من رجال التعليم البريطانيين، ما بين مفتشين ومدرسين، وأساتذة في الجامعات المصرية، ومفتشات، مدرسات وناظرات لمدارس البنات ومعهد تربية البنات، هؤلاء البريطانيون كانوا الركيزة الأساسية في تنفيذ سياسة التعليم في مصر. وقد كانت سياسة التعليم بشكل عام تحت سيطرتهم مما كان له آثار سلبية كثيرة، منها أن التعليم الإلزامي كان بطيئاً كل البطء بحيث أن عدد الذين جرى عليهم الإلزام في عام 1938ربع الأولاد والبنات الذين يقضي قانون الإلزام بتعليمهم... وكانت برامج ومناهج المدارس المصرية في نفس العام غير صالحة لتخريج غير الموظفين، كما خلت المناهج من المواد التي تنشر الثقافة وترفع المستوى العلمي لعدم وجود المدرِّس الصالح لتدريس هذه المواد (4) . كما كانت وزارة المعارف أكثر الوزارات حرصاً على تعيين البريطانيين بدعوى الحاجة إلى كفاءتهم وخبرتهم، في تلك الفترة التالية للحرب 1945-1951 (5) .

ص: 365


1- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية، مرجع سابق، ص 120-121.
2- المرجع السابق، ص122.
3- المرجع السابق، ص 104.
4- المرجع السابق، ص 206-207.
5- المرجع السابق، ص 241-244.

3-المناهج التعليمية

كانت المناهج التي تدرّس للطلاب، تخدم أغراض الاحتلال، فقد انفرد الاحتلال بتشكيل المناهج المتنوعة لمراحل التعليم المختلفة، لكي تتماشى مع أغراضه، وسار في سياسته نحو عدم نهوض المدارس بمختلف مستوياتها، وعدم تطوير مناهجها (1) .

وأصبح مقرر التاريخ في الصف الرابع الثانوي وهو الصف النهائي، خالياً تماماً من تاريخ مصر وتاريخ العالم الشرقي والإسلامي. كذلك كانت الحال بالنسبة للأدب العربي، الذي لم يدرج في المقررات (2) .

فلو أخذنا منهج التاريخ، مثلاً، الذي كان يدرس للسنة الثالثة الأدبية بالمدارس الثانوية، نجد أنه في عام 1905 كان كما يلي:

1- إحياء العلوم بأوروبا.

2- اتساع ممالك الأمم الغربية وامتدادها.

3- أشهر حوادث القرنين السابع عشر والثامن عشر في فرنسا (3) .

فقد كانت غاية المناهج الشروع في قتل اللغة العربية والقضاء على التاريخ القومي وتعويد التلاميذ على العبودية للإنجليز من النظَّار والأساتذة وتعليمهم الخضوع من سن الرابعة عشرة إلى العشرين. ولم يكن في العلوم المدرسية شيء جدي يفاد، فبرامجها محدودة ومناهجها مقصورة على القشور، والأخلاق فيها لا تقوم والدين فيها لا يُعلّم، والتلاميذ متروكون لأهليهم واجتهادهم، وغاية الغايات حفظ النظام بين جدرانها وأداء الامتحانات بما يشرف المدرسة (4) .

ص: 366


1- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص303.
2- عبد الملك، أنور. نهضة مصر، مرجع سابق، ص 389-390.
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 288-303.
4- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص65.

فيما بين سنوات 1919 و 1952 تعرّضت المناهج الدراسية المصرية إلى التعديل عدة مرات نتيجة لما أدخل عليها تدريجيا وبصورة متزايدة من مفاهيم وطنية متعمدة... فقد كانت المناهج في المدارس الابتدائية في عام 1924 تكاد تتطابق تماما مع مناهج 1921 والتي كانت مبنية على توجهات السنوات من 1907 إلى 1913. ومن المثير للانتباه أن المقررات لم تكن تتضمن مواد التربية الوطنية والأخلاق في حين كان مقرر اللغة العربية بعيداً عن السياسة. وبالمثل كانت مناهج المدارس الثانوية عام 1924 تتشابه مع مناهج 1911 رغم أنها كانت تدرس مادة التاريخ في السنتين الأوليين من الدراسة (1).

وقد كانت سياسة التعليم بشكل عام تحت سيطرتهم مما كان له آثار سلبية كثيرة، منها أن التعليم الإلزامي كان بطيئاً كل البطء بحيث أن عدد الذين جرى عليهم الإلزام في عام 1938ربع الأولاد والبنات الذين يقضي قانون الإلزام بتعليمهم... وكانت برامج ومناهج المدارس المصرية في نفس العام غير صالحة لتخريج غير الموظفين، كما خلت المناهج من المواد التي تنشر الثقافة وترفع المستوى العلمي لعدم وجود المدرس الصالح لتدريس هذه المواد (2). قرأنا في المدرسة الثانوية قشور العلوم لأن التعليم في أوروبا يمتد في الثانوي إلى ست أو سبع سنوات، بينما كان في مصر خمس سنوات ثم صار أربعاً فثلاثا، وقد حذفت من مناهج التعليم أجزاء كثيرة كانت تنير العقول وتعد للتعليم العالي، ولكن أفلت من هذه القشور رغم أنف المعلمين بعض مبادئ الحق والحرية في كتب المطالعة أو في دروس التاريخ أو في قصائد الشعراء (3).

4- فرض الطاعة والرهبة

كان التعليم في بداية عهد الاحتلال، تابعاً لوزارة الداخلية، كونه أداة لحفظ

ص: 367


1- شميدت، آرثر جولد، وآخرون (تحرير). رؤية جديدة لمصر، ص 237.
2- المرجع السابق، ص 206-207.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق المرجع السابق، ص 80.

النظام كقوة البوليس تماماً، وتخريج الموظفين الطيعين للإدارة، بالإضافة إلى نظم الامتحانات التي كانت تزداد في صعوبتها وسهولتها حسب الحاجة إلى تخريج الموظفين وحسب رغبتهم في استبعاد بعض النابهين من استكمال تعليمهم.

فالتعليم بكافة مراحله تحت الاحتلال، قد أتاح وسيلة لاستخدام المناهج الجديدة للنظام والانضباط لصياغة كل فرد مصري بحيث يكون رعية سياسية طائعة ومطيعة. ونتيجة لذلك فإن التعليم المنظم، صار ينظر إليه بوصفه العنصر المحوري لسياسة الدولة الحديثة، وهي سياسة لا تستند إلى مجرد الاستخدام المتقطع للقسر، بل إلى عملية تلقين وانضباط وتفتيش متصلة (1).

واستخدمت في ذلك كل الأساليب من مباني ضخمة تبث الرهبة في قلوب الطلاب، ومراقبة الطلاب وبث الجواسيس بينهم، ومنع قراءة الجرائد أو عمل الجمعيات، أو الانضمام للأحزاب السياسية، أو الحديث في هموم الأمة. فكان معمار المدرسة، مثلاً، يترك أعمق الأثر في الطلبة يبث فيهم الرهبة، ويذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في رحلته الفكرية ذكرياته عن المدرسة فيقول «كان معمار مدرسة دمنهور الثانوية قد ترك أعمق الأثر في، وهو لا يختلف كثيراً عما يسمّى «الطراز الكولونيالي». كانت واجهة المدرسة، عبارة عن حديقة يسير فيها المرء بضع خطوات، ثم يبدأ يصعد عدداً كبيراً من السلالم الرخاميّة (لعل عددها يبلغ الخمسين)، وفي القمة توجد عدة أعمدة ذات تيجان كورنثيه يُتوّجها فرنتون روماني. ولعل الهدف من هذا الطراز، هو إدخال الرهبة في قلب المصريين من قوة الإمبراطورية وهيبة الحضارة الغربية (2) .

ويقول محمد لطفي جمعة: «في السنة الأولى من القرن العشرين ختمت دراستي الابتدائية واتفقت آراء لأدخل المدرسة الخديوية الثانوية. ولا تسل عن الانفعالات الكثيرة التي جاشت بنفسي عندما وطئت قدماي لأول مرة فناء ذلك المعهد العلمي، فإن كل شيء فيه كان يؤثر في نفسي أثراً قوياً جميلاً (3) .

ص: 368


1- ميتشل، تيموثي. استعمار مصر، مرجع سابق، ص 33.
2- المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، القاهرة: دار الشروق، ط2، 2005م، ص 21-22.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص69.

وقد قام أتباع دنلوب من المدرسين الإنجليز وأضرابهم من المصريين باضطهاد كل طالب أو تلميذ يظهر عاطفة أو ميلاً نحو الاجتماع أو تأليف القلوب أو النداء باسم الوطن، من خلال نظام فظيع من التجسس في المدارس وصار نجباء الطلاب يطردون ويطاردون ويحرمون من دخول الامتحانات العامة ليكونوا مثالاً لغيرهم وليكون في عاقبتهم موعظة وعبرة! . ويذلونهم ويعلموهم الصغار وهم في ريعان الفتوة وفي سن الحماسة الحقة، فيطفئون جذوتها بالتهديد والوعيد والاحتقار، فقد وصفوهم في مكاتبهم بأنهم أمة نصف متحضرة، وداسوا كل عاطفة وطنية (1) . وتم اضطهاد المشايخ المخلصين، وصار دنلوب هو الحاكم بأمره، ولم يكن وكيل الوزارة في ذلك العهد إلا رجلاً من القش، كما أن الوزير نفسه كان صنماً مصاباً بالصمم والبكم، اللهم إلا القليلون مثل سعد زغلول باشا (2) .

كذلك كل أستاذ مصري، كان لا يباح له أن يذكر عن مصر وتاريخها ومجدها شيئاً، ولا يباح له أن يقرأ جريدة أو يصرح لطالب بقراءة جريدة، وتاريخ مصر والإسلام نفسه كان يدرس باللغة الإنجليزية في بضع صفحات أوّلُها «إن مصر لم تحكم نفسها بنفسها أبداً»، وآخرها «وقد هزم الجيش المصري في التل الكبير وذبح الجنود المصريون في ليلة» (3) . كما تحمل هؤلاء الطلبة المصريون إمارة المفتشين الأجانب، وشهدوا ارتجاف النظار والأساتذة عند حضورهم (4) .

5 - السلم التعليمي

حرص الإنجليز، على ضم الكتاتيب القديمة والمدارس الأولية إلى نظارة المعارف عام 1889، وتوفير تعليم شعبي رخيص لا يتعدى القراءة والكتابة والحساب، وفي سعيهم لتقليص رقعة التعليم وتضييقها على المصريين، عمدوا إلى تغيير درجات السلم التعليمي مرات عديدة. فقد تغيرت مدة الدراسة بالمرحلة الثانوية أكثر من

ص: 369


1- المرجع السابق، ص 77.
2- المرجع السابق، ص 76.
3- المرجع السابق، ص 77.
4- المرجع السابق، ص 63.

مرة، فكانت 5 سنوات منذ بداية الاحتلال الإنجليزي، وفي عام 1897 خفضت تلك المدة إلى 4 سنوات، وفي عام 1905 استمرت 4 سنوات ولكن قسمت على قسمين مدة كل قسم سنتين، ينتهي القسم الأول بامتحان يحصل الناجحون فيه على «شهادة الأهلية»، والقسم الثاني تتشعب فيه الدراسة إلى شعبتين (أدبية وعلوم).

وفي عام 1925 وضع مشروع لتعميم التعليم الأولي، فأنشئت المدارس الإلزامية، وحددت مدة الدراسة فيها بست سنوات، ثم أنقصت إلى 5 سنوات من سن السابعة إلى سن الثانية عشرة، كما أنشئت مدارس الحقول التي تجمع بين المواد النظرية والعملية، ومدة الدراسة بها 6 سنوات تبدأ من السابعة، وفي سنة 1928 زادت مدة الدراسة إلى خمس سنوات تنقسم إلى مرحلتين: الأولى مدتها 3 سنوات يحصل الناجحون في نهايتها على «شهادة الكفاءة»، والثانية مدتها سنتان يتخصص فيها الطالب في إحدى الشعبتين «العلمية أو الأدبية» ويحصل الناجحون في نهايتها على «شهادة البكالوريا».

وفي عام 1933 صدر القانون رقم 46 «قانون التعليم الإلزامي» والذي بمقتضاه تحولت جميع المدارس الأولية التابعة لوزارة المعارف إلى نظام المدارس الإلزامية، وتم تحديد سن الإلزام للبنين والبنات في سن السابعة حتى الثانية عشرة، وحددت مدة الدراسة بخمس سنوات دراسية فيما تقررت مجانية التعليم الابتدائي في عام 1944.

في عام 1935 استمرت مدة الدراسة 5 سنوات ولكن تحول تقسيمها إلى مرحلتين: الأولى مدتها 4 سنوات تنتهي بامتحان الثقافة العامة «القسم العام»، والثانية مدتها سنة دراسية واحدة «سنة التوجيه»، يحصل الطلاب في نهايتها على شهادة الدراسة الثانوية العامة «القسم الخاص»، وتتشعب فيها الدراسة إلى ثلاث شعب هي: العلوم، الآداب، الرياضيات، وتخضع لإشراف جامعي على امتحاناتها. وأصبحت مدة الدراسة بالمدارس الثانوية للبنات 6 سنوات اعتباراً من سنة 1937 وكانت مقسمة إلى مرحلتين:

الأولى مدتها 5 سنوات للثقافة العامة، والثانية مدتها سنة واحدة «مرحلة التوجيه».

ص: 370

في عام 1951 توحدت المناهج ومدة الدراسة بين مدارس البنين ومدارس البنات الثانوية لتكون 5 سنوات وأعيد تقسيمها لتكون على ثلاث مراحل، الأولى مدتها سنتان يحصل الناجحون في نهايتها على شهادة الدراسة المتوسطة، والثانية مدتها سنتان ويحصل الناجحون في نهايتها على شهادة الثقافة العامة، والثالثة مدتها سنة وتنقسم فيها الدراسة إلى «علمي وأدبي»، ويحصل الناجحون في نهايتها على شهادة التوجيهية (1) .

6- الإنفاق على التعليم

بدأ الاحتلال في إنقاص ميزانيات التعليم، وعدم التدرج بها بما يتناسب مع أهمية التعليم أو مع الزيادة في ميزانية الدولة، وحتى ترك لورد كرومر مصر عام 1906م، بلغت ميزانية التعليم 374000 جنيه، وكان يجب أن يصرف على الأقل 2 مليون جنيه استرليني (2). وألغيت المجانية، وزادت مصروفات المدارس الثانوية، واقتصر القبول بالمدارس على أبناء القادرين الذين يستطيعون دفع المصروفات، في حين أن التعليم في عهد محمد علي وإسماعيل كان بالمجان داخلي في جميع المدارس مع توفير وجبة لكل تلميذ (3) .

أهمل البريطانيون التعليم وقتَّروا فيه عامدين، إذ إن ميزانية التعليم في عام 1882 كانت 0،84% ، وبعد مرور 38 عاماً أي في عام 1920، بلغت هذه النسبة 1،77 %.. وقد كانت الأمية في مصر عام 1882: 91،7% وبلغت نسبتها 91،3% في عام 1917 (4) . ولم يكن هناك عام 1913، سوى 32 مدرسة ابتدائية، وست مدارس ثانوية بالقطر كله (5). فقد قلَّص الاحتلال التعليم، وحد منه وألغى المجّانيّة وضرب عليه المصروفات، فلم يرده إلا من كان قادراً على نفقاته من الإقامة في القاهرة

ص: 371


1- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D984%%D8%AA%D8%B9%D984%%D98%A%D98% 5_%D981%%D98%A_%D985%%D8%B5%D8%B1-
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص105.
3- حسن، عبدالغني حسن. عبد الله فكري، مرجع سابق، ص 49-52.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 6-7.
5- المرجع السابق، ص 8.

لأبناء الريف، وأداء المصروفات الدراسية المقررة، ثم أوقف البعوث إلى الخارج، وأصبح التعليم قاصراً على إعداد موظفي الدولة (1) .

7- البعثات العلمية

قتَّر الاحتلال في إرسال البعثات إلى الخارج، ففي عام 1888م، قلت المخصصات المالية للبعثات التعليمية تدريجياً، حتى كادت تتوقف تماماً في السنوات العشر الأولى من الاحتلال، كما صدرت الأوامر بأن لا يرسل للخارج سنوياً سوى تلميذ واحد في العام على نفقة الدولة، ويحكم الاحتلال في المدرسة التي يرسل إليها المبعوثون في انجلترا (2)، واتجهت البعثات إلى بريطانيا بعد أن كانت تتجه إلى فرنسا، وتم مراقبة الطلاب المبعوثين حتى لا يشتغلوا بسياسة بلادهم وتحريرها. وحتى بعد أن عادت البعثات تحت ضغط الحركة الوطنية، إلا أن أعداد المبعوثين قد قلت بما لا يتجاوز العشرة طلاب.

8- التعليم الثانوي والمدارس العليا

لقد وضع الاحتلال خطته على أساس وضع نظام للتعليم يصعِّب من الوصول للتعليم الثانوي والعالي. فلكي يدخل التلميذ المدرسة الثانوية، لابد من الحصول على الشهادة الابتدائية، ولكي يدخل التعليم العالي لا بد أن يحصل على الشهادة الثانوية. وجعل التوظف والترقي ممكناً بالشهادة الابتدائية، ثم أنشأ شهادة فوق الابتدائية كحاجز آخر لتحويل مجرى المتعلمين عن إكمال تعليمهم هي شهادة «الأهلية للوظائف الملكية الصغرى».

ثم أنشأ شهادة الكفاءة، ثم زاد في مدة الدراسة الثانوية قسم أول بعد سنتين من الدراسة، ثم جعلوا شهادة الدراسة الثانوية الشهادة المعتمدة للتوظّف والترقّي بدلاً من الابتدائية، وجعلوها الهدف الذي يصل إليه كل متعلم يريد أن يصل إلى وظيفة

ص: 372


1- النجار، حسين فوزي. الدكتور هيكل وتاريخ جيل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1988م، ص 40.
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص7.

حكومية ويترقى فيها، وكل ذلك حتى يقف تعليم الغالبية من القلة التي تدرس في التعليم العام عند حد الثانوية العامة (1) .

كما أقفل الاحتلال، الكثير من المدارس، ففي عام 1887م، ألغيت العديد من المدارس الثانوية والخاصة والعالية، وكثيراً من المدارس الابتدائية، مثل: مدرسة درب الجماميز، ومدرسة الترجمة، ومدرسة الهندسة، ومدرسة المعلمين. وفي عام 1889م، ألغيت المدارس الثانوية في كل من: طنطا، والمنصورة، والزقازيق، وأسيوط، وبني سويف (2) .

فلم تكن المدارس الثانوية، في أوائل القرن العشرين، إلا أداة من أدوات الحكم البريطاني في مصر، غايتها تخريج طبقة من الأفندية ليشغلوا الوظائف الصغرى في دواوين الحكومة، وليعملوا في طاعة وهدوء تحت إشراف السادة الإنجليز الذين يشغلون المناصب العليا الإدارية على مثال الحكم المدني الهندي (3) .

وقد ساعدهم على ذلك تقليل عدد المدارس الثانويّة في البلاد، فلم تكن هناك في العقد الأول من القرن العشرين سوى ست مدارس عالية، أشهر ما يدرس بها علم الحقوق والهندسة، ومع ذلك فبرنامجها في الحقيقة برنامج المدارس الثانوية، أي فيه الكفاية لمجرد إخراج من يشغلون الوظائف الثانوية، والسبب في ذلك المرتبات الضئيلة التي ينقدها أهل الوظائف الصغرى تحول دون استخدام الأوروبيين في هذه الوظائف، ولذلك أصبح من الضروري بقاء المدارس العليا القديمة حتى يؤخذ العدد المطلوب للوظائف المذكورة من أبناء البلاد (4) .

ص: 373


1- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 216-217.
2- المرجع السابق، ص7.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص69-77.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 96-97، نقلاً عن تيودور روثنستين. تاريخ المسألة المصرية.

9-الثقافة واللغة العربية والدين والانتماء

كانت أغراض الاحتلال، ترمي إلى إضعاف اللغة العربية، وإحلال اللغة الإنجليزية محلها، وتغييب تاريخ البلاد من قلوب وعقول ناشئة الوطن حتى يسلس قيادتهم وطاعتهم وخضوعهم للاحتلال أطول وقت ممكن. ومن أجل ذلك، ألغي استعمال اللغة العربية، كواسطة للتعليم في جميع مراحل التعليم وحلت محلها اللغة الإنجليزية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما قللت حصص اللغة العربية في المدارس الابتدائية بشكل ملفت للأنظار (1) . كما أن تاريخ المصريين والعرب لم یكن داخلاً في برنامج المدارس الثانوية، بحجة أنه غير ضروري لامتحان ما يسمّى الشهادة الثانوية، وهي الشهادة الوحيدة التي تفتح لحاملها باب الحياة الحكومية في الوظائف والتدريس. أما التعليم الابتدائي فيكفي أن يقال عنه أنه ليس إجبارياً ولا مجانياً ولا زائداً زيادة كبيرة عن القراءة والكتابة والحساب (2) .

وقد صار الدين مهمشاً، كما يقول محمد لطفي جمعة في مذكراته لم يحاول الأساتذة تعليم الدين، كأنهم كانوا يتحاشون - تنفيذاً لبعض الأوامر - أن يعرضوا علينا بضاعتهم، وكان جلهم من متخرجي الأزهر ودار العلوم. لم أسمع - وأيم الحق - كلمة إيمان أو عقيدة من أحدهم... لم يقولوا ولم ينطقوا طوال ثماني سنوات قضيتها في التعليم الابتدائي والثانوي كلمة في الوطن أو الدين أو الأخلاق أو التاريخ الصحيح، ولم يحاول أحدهم - عفا الله عنهم وطيب ثرى من مات منهم - أن يرفع الغشاوة عن أبصارنا ولو تلميحاً، كانوا يخافون شبح دنلوب والمفتشين الإنجليز والنظار والمنافقين والدسَّاسين والجواسيس، فقنعوا بالمرتبات والثياب الجديدة والطرابيش الحمراء عن أداء الواجب نحو التلاميذ (3) .

ويستمر في شهادته «وبعد فترة الشهادة الابتدائية، التي قطعتها بسرعة، قبروا

ص: 374


1- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص263.
2- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، مرجع سابق، ص223.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص

دروس التاريخ المصري القديم وبدأوا تاريخ الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية وأوروبا في القرون الوسطى والحروب الصليبية، وعلمونا العلوم كلها بالإنجليزية من: رياضيات، وكيميا، وطبيعة، إلى جغرافيا وتاريخ، ولم ينقص إلا أن يعلمونا العربية بالإنجليزية. وكان المعين على هذا البلاء والغدر دوجلاس دنلوب ويعقوب أرتين وجميع نظار المعارف أمثال فخري باشا. فكان من المستحيل على تلميذ أن ينبغ في اللغة العربية التي أعان رجالها على الحط من قدرها بالكتب الزرية الحقيرة التي ألفوها في النحو والصرف والبلاغة، فكان تعليمنا يؤهلنا للعبودية للأجانب، ويحصر أرزاق التلاميذ بين أيدي أساتذتهم من الإنجليز في دواوين الحكومة. والحق أننا في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى سنة 1908 كنا مسرعين إلى الدمار العقلي بخطوات واسعة، ولم ينقذنا إلا الله بحادثة دنشواي (1) .

ويستمر محمد لطفي جمعة في شهادته قائلاً «كانت الوطنية غير معروفة عندنا بتاتاً مع وجود مصطفى كامل وجريدة اللواء، ولا الدين كذلك مع معاصرة الشيخ محمد عبده، ولا الاجتماع مع وجود قاسم أمين وسعد زغلول وأمثالهما، ولا ندري شيئاً عن الحياة العامة. لقد أحكم الملاعين غلق الأبواب على عقولنا وأخلاقنا وضيقوا الخناق علينا تضييقاً شنيعاً، واستعملوا «ضباطاً» من الطراز القديم ليحفظوا النظام، وهؤلاء كانوا في غاية الذل والخضوع لا ينطق أحدهم بكلمة (2) .

ويقول محمد حسين هيكل أتممت دراستي الثانوية، وليس لي في أمور السياسة ولا في أمور الاجتماع رأي مكون (3) . ويعطينا محمود محمد شاكر شهادته فيقول: «شهادتي أنا من موقعي بين أفراد جيلي الذي أنتمي إليه، وهو جيل المدارس المفرغ من كل أصول ثقافة أمته، وهو الجيل الذي تلقى صدمة التدهور الأولى،.. أحسست أني أنا والجيل الذي أنا منه، وهو جيل المدارس المصرية، قد تم تفريغنا تفريغا يكاد يكون كاملا من ماضينا كله، من علومه وآدابه وفنونه، وتم أيضاً هتك العلائق بيننا

ص: 375


1- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 64.
2- المرجع السابق، ص82.
3- هيكل، محمد حسين. مذكرات محمد حسين هيكل، مرجع سابق، ص 25.

وبينه، وصار ما كان في الماضي متكاملاً متماسكاً، مزقاً متفرقة مبعثرة تكاد تكون خالية عندنا من المعنى ومن الدلالة، ولأنه غير ممكن أن يظل الفارغ فارغا أبداً، فقد تم ملء هذا الفراغ بجديد من العلوم والآداب والفنون، لا تمت إلى هذا الماضي بسبب، وإننا لنستقبله استقبال الظامئ المحترق لقطرات من الماء النمير المثلج (1) .

10- التعليم من أجل الوظيفة

بدمج مختلف أنحاء مصر في برنامج تعليمي واحد بالتدرج السابق الإشارة إليه، حقق الاستعمار أكثر من مجرد تعديل في أساليب التعليم والتربية. لقد دمر معنى العملية التعليمية ذاتها، وجرى تعميم الطموح للوظيفة، من خلال الحصول على الشهادة دون نظر لمحتوى التعليم أو غايته. وجعل من المدارس مسابك لإعداد آلات بشرية تفي بحاجات الدواوين (2) .

فقد شجع الاحتلال، على ثنائية التعليم، من خلال نظامي الكتاتيب والمدارس الأميرية، لخلق تميز طبقي بين المواطنين، وعمق الشقة بين الصفين لإبعاد الشقة بينهما في الثقافة والميول والاتجاهات. ليجعل من إحداهما طبقة حاكمة، والسبل أمامها إلى الصدارة منفتحة، لتكون الطبقة التي تسانده ويختبئ وراءها لإرغام المواطنين على استساغة وضعهم، واستجداء السلطة الاستعمارية بدلاً من تحديها من خلال الوظيفة مهما كانت درجة كفاءتهم، فقط غايتهم وضع كل شيء في أيدي غير الأكفاء حتى تأتي النتائج معكوسة، وقد أثمرت هذه الغاية فكان معظم الذين تخرجوا في ذلك العهد جُهَّالاً ومعدومي الكفاءة والثقافة (3) . ومن الثانية، طبقة محكومة، تلتمس رزقها في الفلاحة أو الصناعة الخفيفة أو حقير الأعمال، ولا سبيل أمامها للوظيفة الحكومية وبالتالي المشاركة في حكم البلاد، فتعيش في تعاستها وفقرها المستمرين (4) .

ص: 376


1- شاكر، محمود محمد. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، مرجع سابق، ص 227-228.
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص (ط) من مقدمة محمد يوسف وزير التعليم للكتاب.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 69-77.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص

ويستمر قائلاً لقد جعل كرومر وشيعته برامج التعليم مثالاً يحتذى للتوافه والسفاسف، وقيدوا التعليم بالشهادات الحكومية التي لا تبيح سواها دخول الوظائف، وحاربوا التعليم الحر والمهن الحرة ليقتلوا الاستقلال في العمل ويخنقوا النبوغ في مهده. وهكذا ضمن الإنجليز الجهل للتلاميذ، وحددوا المستقبل للطائعين منهم وقفلوا بابه في وجود المستقلين والنوابغ (1) .

11- صنائع الاستعمار في مجال التعليم

نجح دانلوب، في تكوين بطانة من الإنجليز والمصريين، يسبحون بحمده وينفذون جميع أوامره وينتهون عن سائر نواهيه، ويُسيِّرون وزارة المعارف ومدارسها بحسب إشارته، وصار هو الحاكم بأمره (2) . يقول محمد لطفي جمعة، عن بعض صنائع الاستعمار نتاج النظام التعليمي وبالجملة كانت فترة التعليم الثانوي بالنسبة لي ولأمثالي في أوائل القرن العشرين محنة. أما الآخرون، وكان معظمهم من الريف، فكانوا يقبلون على التعليم المدرسي بنية أن يأخذوا شهادة ليتوظفوا بها، وقد نجح كثير منهم وصاروا في الحكومة باشوات وبكوات وأفندية، وهم في غاية الغفلة من الناحية السياسية والقومية والثقافية، وتراهم الآن كما كانوا من قبل يدافعون عن الحكم القائم الذي صاروا بفضل كرومر وجورست و كتشنر وماكسويل من عباده، ولم يكن ينتظر غير ذلك (3) .

يقول محمد لطفي جمعة «ولما فشا نظام المستشارين الإنجليز، قسموا بينهم رجال المستقبل: فقالوا هؤلاء الباشوات المصريين صنيعة فلان المستشار وهؤلاء صنيعة فلان، وتبارى كل فريق في تسييد (من السيادة) سياسة صاحبه ومولاه، وبعبارة أخرى خلق في مصر نظام جديد من الولاء كالولاء العربي القديم بين الأمراء والتابعين. وقد جعل دوجلاس دنلوب، لنفسه جيشاً جراراً من هؤلاء

ص: 377


1- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 78-79.
2- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص69-77.
3- المرجع السابق، ص81.

الصنائع في نظارة المعارف، وبثه في حنايا المدارس والمعاهد والدواوين، وبعث منهم جواسيس وأرصاداً ، وألزمهم بكتابة التقارير إليه في الليل والنهار. وهذا هو الوسط، الذي تربى فيه رجال المستقبل، وأمل الجيل، وذخيرة مصر، ورجاء الأمة وذخر الوطن (1) .

وقد احتفظ معظم المسئولين التعليميين في عصر الملكية الدستورية بعد الاستقلال عام 1922م، بالأسلوب الإرشادي في السياسات التعليمية التي وضعها المحتل البريطاني بشأن درجات السلم التعليمي (2) .

خاتمة

لقد رأى الإنجليز فرصتهم الذهبية في ثورة عرابي وخنوع الخديوي وثقل الدين الخارجي، فكانت ضربتهم واحتلال مصر عسكرياً، وتلوه باحتلال العقول وتبوير الأفهام عبر التعليم، الذي أعطاهم الفرصة لإيجاد هوة سحيقة بين أبناء المجتمع من خلال إحلال ثقافة أجنبية محل الثقافة الأصلية العربية الإسلامية، وخلق جيل من الرجال تمكنوا من اللغة والآداب الغربية، ولكن القيم لديهم كانت مهتزة والفكر عندهم سقيم، حتى يضمنوا لاحتلالهم الاستمرار والثبات، حتى استتب لهم الأمر في مصر، وقضوا في أرض الكنانة (73) سنة.

لم يكن القبول بالقسر وحده، عبر القوة الغاشمة للاحتلال، بكونه الأداة الوحيدة لاستمرار الاحتلال الإنجليزي لمصر، لكن كان التعليم أداة القسر الناعمة الهادئة، التي أسهمت بقوة في نجاح مشروع الاستعمار. فالإمبريالية القديمة، وعت تماماً دور العلم والتعليم خاصة، في بقاء ونماء الاستعمار وترسيخ جذوره في التربة المصرية.

ولهذا، فإن الإحاطة بالظاهرة الاستعمارية في الميادين النظرية والتطبيقية، والاهتمام بالتعليم باعتباره أرض المعركة الحقيقية التي ينبغي النضال فيها إن أرادت

ص: 378


1- المرجع السابق، 79.
2- شميدت، آرثر جولد، وآخرون (تحرير). رؤية جديدة لمصر، ص 243.

أمتنا استقلالاً حقيقياً، هما مقدمات حصول مجتمعاتنا العربية المسلمة على نظام للاجتماع والحكم على درجة من القوة، بالقدر الذي لا يسمح بتكرار الأحوال التي أدت إلى وقوع الاحتلال البريطاني. فالتعليم الفعّال، يلعب دورا أساسياً في مستقبل أمتنا، وما خروج مصر من التصنيف العالمي للتعليم مؤخراً، وفي علاقة ذلك بتنامي تبعيتها للاستعمار والإمبريالية في ثوبها الجديد، ما هو إلا مؤشر على ما قد تذهب إليه تلك الأمة في الغد القريب.

وأخيراً، كما سعى الأوّلون من المصلحين في بداية هذا القرن، عبر التعليم لتنوير الأمة وتخليصها من أوزار وقيود الاحتلال، على الذين يعملون ويناضلون داخل أمتنا، أن يكون التعليم والثقافة أول وأهم ثغر من الثغور التي يقفون عليها مرابطين، حتى لا تقع أمتنا قصعة شهية لإمبريالي اليوم المتنمرون الجاهزون لالتهام أمتنا اليوم أو غداً على الأكثر.

إن هزيمة الإمبريالية الجديدة تحتاج إلى سلاح التعليم

ص: 379

التعليم في عهد الاستعمار وأثره في صناعة النخب

اشارة

- المغرب أنموذجاً -

طارق الفاطمي

طارق الفاطمي (1)

لقد دخل الاستعمار إلى بلدان الوطن العربي في أوج اكتمال التصورات الغربية على المستوى الفكري المعرفي، والصناعي التكنولوجي، حيث حدد الغرب منذ القرن 19 الميلادي معالم العالم الجديد الذي يريد صياغته، وحدد أدوار كل الفاعلين في بلورة هذا التحول وتنزيله على أرض الواقع، فكانت آلته المباشرة الاستعمار والاحتلال الفعلي لبلدان العالم الثالث، مع أفق استراتيجي بصناعة نخب من داخل البلدان المستعمَرة تحمل لواء هذا المشروع وقيمه وأدواته في مختلف المجالات، وتدافع عنه، وتحرص على صيانة مصالحه. وكانت المدرسة النظامية الحديثة، أداة الاستعمار الرئيسة لتصريف القيم الغربية وترسيخها، وتوجيه أجيال المستقبل وفق تصورات وأهداف مسطرة سلفاً، وسائلها المناهج التعليمية والفضاء المدرسي وأنشطة الحياة المدرسية.

ولتحقيق مآربه أحدث الاستعمار تحولات عميقة على الأنظمة التعليمية في الوطن العربي، بتثبيت دعائم المدرسة الحديثة، وتوحيد المناهج الحاملة لتصورات

ص: 380


1- باحث - المغرب.

المستعمر وقيمه وأهدافه المعلنة والضمنية، وكانت وسيلتها ترسيخ القيم بطرائق اشتغال مستحدثة جذابة، والتدريب على مهارات معينة، وتوصيف مخرجات بكفاءات مسطرة مسبقاً، أو ما يسمى في أدبيات علوم التربية بمواصفات التخرج ((PROFIL DE SORTIE)).

وتعد دراسة منهجية صناعة النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية التي سوف تنوب عن الاستعمار في تدبير الشأن العام إبان فترة احتلاله لبلدان الوطن العربي، وضمان استمرار مشروعه الفكري والسياسي والاقتصادي والقيمي بعد انتهاء فترة الاستعمار، إحدى الأولويات لفهم ما وقع من تغريب للعقول والسلوكات والعادات وطمس للهوية الإسلامية.

ويعزى فشل جل الأنظمة التعليمية في الوطن العربي إلى استمرار الأنموذج الاستعماري مع غياب الجودة، في ظل التفييء والتمييز والتفاوت الذي تعرفه أشكال التعليم القائمة اليوم في المجتمعات العربية. والأنموذج المغربي مثال شاهد على ذلك، حيث نجح الاستعمار في تكوين نخب مغرّبة في جميع المجالات تحمل قيمه، وتدافع عن مشروعه، وتحرص على صيانة مصالحه، مع فشل ذريع في كل الإصلاحات المتتالية التي عرفها النظام التعليمي. ما يفرض الإجابة عن التساؤلات الآتية:

ما هي أشكال التعليم التي انتشرت في مرحلة الاستعمار؟ وما الغاية من تعدد أنماط المدارس؟

ما الآثار التي أحدثها التعليم النخبوي في المغرب؟ وما الوسائل التي اعتمدها في تثبیت مشروعه بواسطة المدرسة؟

وقد حاولت معالجة إشكالية هذا البحث وتساؤلاته في مبحثين، أولهما عرضت فيه النظام التعليمي في المغرب إبان الاستعمار الفرنسي: الأشكال، المقاربات، والغايات، وبينت خصائص كل نظام ومخرجاته وتأثيراته، والثاني بينت فيه النخب التي أنتجها التعليم الاستعماري، وأدوارها إبان الاحتلال وبعده.

ص: 381

المبحث الأول: النظام التعليمي في المغرب إبان الاستعمار الفرنسي: الأشكال، المقاربات، والغايات.

1. العلاقة بين الدراسات السوسيولوجية والاستعمار:

كانت المناهج العلمية والمعرفية في العلوم الإنسانية قد اكتملت في المرحلة التي غزا فيها الاستعمار بلدان الوطن العربي، حيث عرفت الأبحاث في علم الاجتماع الوظيفي مع «دوركايم» (1) ، وغيره من رواد هذا التيار تطوراً ملموساً كان له الأثر الواضح في الدراسات والأبحاث الاجتماعية، وعرفت نفس الفترة ظهور التيار الفلسفي البرجماتي مع «وليام جيمس» و «وجون ديوي» وغيرهم، والتيار الوضعي مع «أوكست كونت»، هذه التطورات الفكرية والمعرفية التي واكبت المرحلة كان لها الأثر الواضح في تطوير صناعة المناهج التعليمية في شكلها الحديث، حيث ظهرت نظريات التعلم التي تجعل المدرسة قاصدة في غاياتها، مقتصدة في جهودها واستثماراتها، وفي كلفة زمنية مناسبة، فظهرت النظرية السلوكية، المرجعية النظرية والخلفية الفلسفية لبيداغواجيا الأهداف، التي اعتبرت التطبيق الفعلي لنظريات التعلم في المناهج والفصول الدراسية.

وكان المستعمر يستثمر هذه الجهود العلمية والمعرفية في ترسيخ توجهاته القيمية والفكرية والسياسية والاقتصادية، فقد كانت البحوث «الأنثروبولوجية» التي سنحت بتشخيص واقع المجتمعات المستعمرة، واستشراف أفق التحكم في مستقبلها، أداة مباشرة في معرفة ثقافات المجتمعات الشرقية ومعتقداتها وبنياتها الاجتماعية وعاداتها ومشاكلها، وتطلعاتها المستقبلية.

وما وقع في المغرب شاهد تاريخي على ذلك حيث أفرزت جهود الباحث الأنثروبولوجي ((روبير مونتانبي)) (2) «Robert Montagne» وتحليله للنظام القبلي

ص: 382


1- إميل دوركايم فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث، توفي سنة 1918م.
2- ألف «روبير مونتاني» مجموعة من المؤلفات والمقالات عن الواقع الاجتماعي المغربي أشهرها: Les Berbères et le Makhzen dans le Sud du Maroc». Paris، F. Alcan، 1930» .La Politique Berbère de la France»، Journal of the Royal African Society، Vol. 33، No. 133. (Oct.، 1934)، pp. 338- 352»

في المغرب، ما سمي «بالظهير البربري» (1) ، الذي سعى إلى تفريق «أمازيغ» المغرب عن العرب، وكانت وسيلته مدراس خاصة بالأمازيغ لتشكيل نخبة أمازيغية قادرة على قيادة مناطقها التي أريد فصلها عن المغرب، لولا تدخل العلماء وعقلاء البلد والحركة الوطنية لإيقاف المخطط، وكانت لجهود الطبيب والباحث الفرنسي ((بول شاتنيير)) «PAUL CHATINIERES» التي لخصها في مذكراته المسماة «في الأطلس الكبير المغربي» (2)، وتتبع فيها تفاصيل دقيقة عن البنية القبلية عن منطقة مراكش ونواحيها، والأسماء المؤثرة في هذه الأوساط في تلك المرحلة من مدينة فاس إلى مراكش، ولقي عمله إشادة كبيرة من قبل المقيم العام الفرنسي الجنرال «اليوطي» وحظي بتكريم خاص على جهوده.

وكانت «البعثة العلمية» التي أسست سنة 1904م في فرنسا، المؤسسة المسؤولة عن التخطيط النظري الاستراتيجي لدخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب، وكانت تابعة لكرسي سوسيولوجيا العالم الإسلامي لجامعة باريس العتيدة «College de France»، وقد أشرف على إدارتها «ألفريد شاتولي» «Alfred le chatelier» (3)، وهو أستاذ السوسيولوجيا والسوسيوغرافيا الإسلامية. وكان من أبرز مهامها الاعتناء بكل ما يرتبط بما عرف في حينه بالشؤون الإسلامية، وهي البعثة التي سيكون ل- «ليوطي» دور في توجيهها، مستفيداً في ذلك مما راكمته تجربة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وسوف يتغير اسم «البعثة العلمية» سنة 1920م لتصبح «شعبة سوسيولوجيا الشؤون الأهلية»

ص: 383


1- الظهير البربري، أو المرسوم البربري، وهو قانون أصدره الاحتلال الفرنسي للمغرب في 17 ذي الحجة 1340ه-/16 مايو 1930م. ونصّ هذا الظهير على جعل إدارة المنطقة الأمازيغية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة «حكومة المخزن» والسلطان المغربي، وتم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للأمازيغ، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات «الشريفي» المستند إلى الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم قام هذا القانون بنوعين من العزل تجاه المناطق الأمازيغية؛ أولهما عزل الإدارة السلطانية عنهم، وعزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بينهم، على اعتبار أن العادات والأعراف البربرية كانت سابقة على الإسلام. وكان الأمازيغ يشكلون حوالي 45% من سكان المغرب في تلك الفترة، وينتشرون في بلاد الريف وجبال أطلس.
2- .Chatinières، Paul (1884- 1928). Dr Paul Chatinières، Dans le Grand Atlas marocain، extraits du carnet de route d’un médecin d’assistance médicale indigène، 1912- 1916.Introduction du général Lyautey. (1919). In-16، XVI-299 p، pla
3- أستاذ علم اجتماع العالم الإسلامي، بين سنة (1902-1925م)، بجامعة «Collège de France»، مؤسسة مجلة العلم الإسلامي بين سنة (1876 - 1893). http://catalogue.bnf.fr/ark:/12148/cb125287028≥≥.

«Section sociologique des Affaires indigènes» هذه البعثة سوف يصبح لها فيما بعد وتحديداً سنة 1925م مسمى آخر هو: معهد الدراسات العليا المغربية «L'Institut des Hautes Etudes Marocaines (IHEM)» و هو المعهد الذي توحدت فيه البعثة العلمية والمدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية والقسم السوسيولوجي (1).

وبدخول المغرب رسمياً تحت الحماية الفرنسية سنة 1912م، شرع الاستعمار في تنفيذ مشروعه الثقافي الذي لم ينفك عن مشاريعه السياسية والاقتصادية والعسكرية في البلاد، وكانت الوسيلة الأقرب إلى ذلك المدرسة بمعاييرها الحديثة، حيث تنوع العرض المدرسي واستهدف كل نوع منه فئة من الطبقات الاجتماعية المغربية، فكان يتراوح بين التعليم الأصيل المورث، والتعليم الحديث المتعدد المشارب والأبعاد والمستفيدين.

2. التعليم الأصيل:

كان التعليم الأصيل الديني ((العتيق))، الذي مثلته المعاهد والجامعات الدينية قبل الاستعمار وإبانه أحد أهم أعمدة التعليم العمومي في المغرب، وإن كان محدود الانتشار تمثله المدارس الدينية المنتشرة في القرى والمداشر، حيث يحفظ الطالب القرآن الكريم، ويتلقى مقدمات العلم الشرعي، ويكمل دراسته العليا بمعهد ابن يوسف بمراكش، أو جامعة القرويين بفاس، وهو التعليم الذي عاش أزمات ما فتئت أن تفاقمت بانتشار التعليم النظامي الذي أسسه الاستعمار وشجعه، ويتحدث محمد الحجوي رحمه الله (2) عن الواقع الرديء الذي آل إليه التدريس في القرويين بوصفه خبيراً وخريجاً لهذا التعليم ومعاصراً للمرحلة كان يحمل همّ

ص: 384


1- السوسيولوجيا المغربية؛ من الرفض إلى إعادة الاعتبار، محمد مادوي، أستاذ علم الاجتماع في المعهد الوطني للفنون والمهن (CNAM)، وباحث في المختبر المتعدّد التخصصات للسوسيولوجيا الاقتصادية (LISE)، في المركز العلمي للبحث العلمي في فرنسا (CNRS)، باریس، ترجمة: رشيد بن بيه، مقال نشرته مجلة إضافات العددان 32،31، صيف - خريف 2، ( ص 194 و 195).
2- محمد بن الحسن بن العربي بن محمد الحجوي الثعالبي الفلالي (1291- 1376ه- / 1874-1956 م)، الأعلام للزركلي (96/6)، معجم المفسرين «من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر» (518/2).

التجديد والتطوير في نظام التدريس بهذه الجامعة: «والمتحصل من المسألة أن حالة القرويين لم تزل في جمود ولم تتحسن قط مع ما بذلناه من الجهود، بل انحطاطها يزداد كل يوم غیر أن المدرسين والطلبة قد شعروا الآن، فهم يبثون الشكوى في الإعلان والنجوى ولم تجد إلى يومنا هذا يداً مساعدة، وعسى أن يهيئ لها الحق سبحانه مستقبلاً زاهراً، ونصيراً ظاهراً» (1).

وهو الحكم نفسه الذي انتهى إليه الباحث والمفكر المغربي محمد عابد الجابري رحمه الله، حيث قال وهو يحلل مشكلة التعليم بالمغرب: «لقد كانت جامعة القرويين و((المدارس)) التابعة لها، خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن، مثالاً لأقصى ما يمكن أن تصل إليه مؤسسة علمية عتيدة، من أنواع الانحطاط والتخلف» (2) .

والغريب، أنك تقف على محاولات لإصلاح نظام التعليم بالقرويين قادها الحجوي وهو وزير المعارف حينئذ، بمعية مجموعة منتخبة من أساتذة الجامعة نفسها، غير أنها أُقبرت وأوقفت بإيعاز من جهات غير معروفة كما عبر عنه رحمه الله فقال: «وأقول من غير تمدح أو تبجح: إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى حيز الأعمال، لكان محيبا للقرويين، مجدداً لهيئتها التدريسية تجديداً صحيحاً متيناً؛ إذ ليس له مرمی سوی ترمیم ما انهار من هيكلها المشمخر، باعثا لعلوم وفنون من أجداثها كان الإهمال أخفاها، وتطاول الأزمان عفاها، مرقياً ومحسناً لما فضل عن أيدي الأوهام والإهمال سائقاً لمن تمسك به إلى العروج بذلك المعهد الخطير إلى مستوى نظامي عصري ديني، به يبلغ العلم والدين والثقافة أوج الكمال والفخار» (3).

نجد تفسير ما حدث في مواقف بعض المنظّرين للسياسة التعليمية بالمغرب إبان الاستعمار، ومشروع إصلاح القرويين سوف يعرقل مشروعاً ثقافياً كبيراً يقوده الاستعمار الفرنسي ويوجهه في إطار استراتيجية كبرى للاستعمار الثقافي للبلدان العربية الإسلامية، ما سيعجل بتوقيف مشروع الإصلاح وتعويضه بترميم بسيط لنظام

ص: 385


1- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/ 229).
2- أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب (ص 7 و 8).
3- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (228/2).

القرويين وتسوية الوضعية المالية والإدارية للموظفين به، وقد وقفت على كلام أحد هؤلاء وهو الأنثروبولوجي الفرنسي «بول مارتي»(PAUL MARTY» 1882-1938»)، عبر عن ذلك بوضوح في كتابه ((مغرب الغد)) بالقول: يجب أن نعمل على تجديد القرويين لأنه إذا لم نفعل ذلك نحن، فإن هذا التجديد الذي تفرضه الظروف سيتم بدوننا وضدنا .... الاحتفاظ في المغرب بهؤلاء الشبان النازحين من عائلات مرموقة، بدل تركهم يذهبون إلى المشرق لتلقي العلم الذي ستحرمهم منه القرويين في حالة عدم تجديدها ... ألا يعودون مزودين بميول انجليزية أو بروح النهضة الإسلامية والتعصب الوطني» (1).

وقد عرف المعاصرون للمرحلة أن الأمر يتعلق بمخطط آخر للتجديد مع التحجيم وتحديد الوظائف ومحدودية قدرات المخرجات، فلم يتجاوز دور الخريجين الإمامة والخطابة في المساجد أو التدريس والوظائف القضائية، أو بعض الوظائف الإدارية، ولم تتعد أدوار مخرجات القرويين هذا المستوى إلى مستويات القرار والتخطيط سواء في عهد الاستعمار أو بعده (2) .

2-التعليم الحديث:

تراوح التعليم الحديث في المغرب، الذي بدأت السلطات الاستعمارية في إرساء دعائمه منذ السنة الأولى لفرض معاهدة الحماية، بين التعليم الأوربي والإسرائيلي، والتعليم العمومي الإسلامي، والتعليم الحر، وكان لكل شكل من أشكال التعليم التي ظهرت في تلك الفترة أدوارها والفئة التي تستهدفها ببرامج ومضامين معرفية خاصة.

وقد أعلن المقيم العام للاستعمار الفرنسي «الجنرال اليوطي» عن أهداف النظام التعليمي الحديث الذي أرساه في المغرب فيما يأتي:

1. المحافظة وتطوير التعليم الابتدائي الأوروبي والإسرائيلي.

2. تأسيس نظام تعليمي تقني (فني - مهني) يستهدف المغاربة المسلمين.

ص: 386


1- .PAUL MARTY «Le Maroc de demain»، Comité de l’Afrique française، 1925
2- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/- 228 229)، أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب ( ص 10 و 11و12).

3. الحرص على تدريس اللغة العربية لتوظيف ناطقين باسم الاستعمار الفرنسي (1).

وقد أنشأت في هذه الفترة استكمالا لهذه الأهداف مدرسة عليا للغة العربية.

وكانت الهيكلة الإدارية للتعليم الفرنسي تسيّرها إدارة مركزية مقرها بمدينة الرباط يترأسها منتدب من وزارة التربية والتعليم الفرنسية، تشرف على مراقبة وتدبير شؤون التعليم في المغرب بأربع مصالح مركزية تخصصية أولاها للتعليم الابتدائي الأوروبي الإسرائيلي، والثانية للتعليم الثانوي الأوروبي، والثالثة للتعليم الإسلامي بسلكيه الابتدائي والثانوي، والرابعة للتعليم التقني - المهني (2) .

أ. التعليم الأوروبي والإسرائيلي:

كان هذا النظام التعليمي فرنسياً خالصاً، وتُصرَف فيه برامجه ومقرراته، وشُيِّد أساساً لاستقطاب أبناء اليهود وتكوينهم بالإضافة إلى أبناء الفرنسيين المقيمين في المغرب، وأبناء بعض الأعيان ورجال الدولة، وكانت جودته عالية، ويستجيب لمعايير المدرسة الأوروبية الحديثة بمراقبة وتتبع صارمين، وانتقاء للأساتذة المدرسين في هذه المدارس، مع مراعاة الخصوصية الثقافية للمتعلمين اليهود (3).

ب. التعليم الإسلامي والتعليم (التقني - المهني):

كان تعليماً عاماً يركز على الأساسيات من اللغة العربية، واللغة الفرنسية، والمواد العلمية والرياضية، أما التعليم المهني فكانت الغاية منه توفير اليد العاملة في الفلاحة والصيد البحري أساساً وبعض الصناعات المعدنية، ضماناً لمصالح المستعمر واستمرار مشاريعه (4) .

ورغم ضعف جودة هذا النوع من التعليم ومحدودية انتشاره، وإحجام المغاربة

ص: 387


1- أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب ( ص 20).
2- .l’enseignement au maroc pendant la période coloniale، p 15
3- إصلاح التعليم بالمغرب بين 1956م - 1996م، المكي المروني، الدار البيضاء، المغرب، مطبعة النجاح الجديدة.
4- .l’enseignement au maroc pendant la période coloniale، p 17

عنه، فإنه لم يعرف انتشاراً كبيراً وتشجيعاً واضحا خلال الفترة الممتدة بين(1912-1945م)، ولم يعرف توسعاً نسبياً في المدن والقرى المغربية إلا بعد نضال الحركة الوطنية ومطالبتها بدمقرطة التعليم وتعميمه وتعريبه مع مردودية ضعيفة ونتائج محدودة، ويحدد الجدول أسفله عدد الأطر المغاربة المسلمين سنة 1945م:

الصورة

أما الأطر التي اشتغلت بالتدريس فكان عددها محدوداً أيضاً دون أن تستفيد من تأهيل بيداغوجي وعلمي (1) .

ج. التعليم الحر (الفرنسي - الإسلامي):

رَخّص له الاستعمار سنة 1935م لتدارك نسب الأمية التي بقيت في ارتفاع مستمر، واستقطاب فئة أخرى من المغاربة التي يجب أن يستجيب التعليم لتطلعاتها، وهي طبقة برجوازية غنية قادرة على أداء مصاريف التعليم مقابل تعليم بمعايير أوروبية يحافظ على الثقافة الإسلامية، وتمت الاستجابة لذلك عن طريق إحداث هذا النوع من التعليم الذي انتشر أساساً في المدن الكبرى.

وكانت هذه المدارس تدرِّس القرآن الكريم والثقافة الإسلامية بالإضافة إلى اللغة الفرنسية، التي يدرسها الفرنسيون مع دروس الرياضيات والنشاط العلمي وسير علماء وعظماء الجمهورية الفرنسية، لترسيخ القدوة والأسوة في وجدان المتعلمين (2) .

د. المدارس الأمازيغية:

أُنشئت المدارس الأمازيغية سنة 1923م وكانت الانطلاقة من مدينة أزرو بمنطقة الأطلس المغربي قبل إصدار المستعمر الفرنسي «الظهير البربري» الآنف الذكر،

ص: 388


1- الإحصائيات ذكرها الجابري نقلا عن بعض الوثائق الفرنسية التي توفرت بين يديه في تلك الفترة. أضواء على مشكلة التعليم (ص 38).
2- .l’enseignement au Maroc pendant la période coloniale، p 18

وأسست بعدها مدارس بنفس التوجه بمدن فاس ومكناس، فقد حظرت هذه المدارس اللغة العربية والثقافة الإسلامية بجميع تجلياتها، ولم تسمح لغير الأمازيغ بالاستفادة من خدماتها، ولم يكن المدرسون إلا من جنسية فرنسية (1) ، فألغت فرنسا كل وسيط بينها وبين أطفال المغاربة الأمازيغ الذين كانت تروم صناعتهم للاضطلاع بأدوار طلائعية في المستقبل، بإعداد جيل من المغاربة مقطوع الصلة بهويته المغربية الإسلامية، معتز بانتمائه العرقي ويتعصب له، ويدين بالولاء لفرنسا والثقافة الفرنسية (2) .

هذه المدارس التي سيتم التخلي عنها فيما بعد نتيجة الوعي الداخلي بخطورتها من قبل المقاومة الوطنية، والضغط من أجل إيقاف المخطط والتراجع عنه سنة 1930م، الأمر الذي اعتبر انتصاراً تاريخياً للضمير والقوى المغربية الحية، المشروع الذي تخلى عنه الاستعمار، ولم يحدث له بديلاً بهذه المناطق.

ونستنتج بعد هذا العرض والتحليل للأنظمة التعليمية الجديدة أن النظام التعليمي الفرنسي في فترة الاستعمار لم يعرف إصلاحات وتعديلات كبيرة حتى مرحلة الاستقلال، وأن الأنظمة التي أحدثها لم تكن على درجة واحدة من الجودة والفعالية، فأولى العناية لمدارس النخبة من الأوروبيين واليهود، ومدارس أبناء الأعيان الذين يستطيعون الأداء لتدريس أبنائهم، أما عموم المغاربة فقد أُنشأ لهم تعليماً بطيئاً يتباين بين المناطق: «المدارس الحضرية»، و «المدارس المهنية» و «المدارس القروية»، و «المدارس الجهوية».

وكان مشروع السياسة التعليمية في التصور الذي أعلن عنه الجنرال «اليوطي» يؤكد على الحق في الاختلاف، وهو ما كان يسوّغ به تنوع العرض المدرسي وأنظمته، ولكن هذا التنوع والاختلاف كان يخفي في عمقه وحقيقته ومراميه إقصاء اجتماعياً الشريحة عريضة من المجتمع المغربي على أسس عرقية واجتماعية.

ص: 389


1- PAUL MARTY « Le Maroc de demain»، Comité de l’Afrique française، 1925، P 241.
2- تفاصيل ذلك في كتاب «فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى» تقرير مقدم إلى المؤتمر الإسلامي العام من اللجنة الشرقية للدفاع عن المغرب، الطبعة الثانية طبعة شركة بابل.

المبحث الثاني: النخب التي أنتجها التعليم في فترة الاستعمار وأدوارها بعد الاستقلال:

استمرار النخبة الفكرية والإدارية الفرنسية في التسيير والتنظير بعد الاستقلال:

أ. المفكرون والمنظرون الفرنسيون:

رغم إعلان استقلال المغرب سنة 1956م استمرت نخبة من المثقفين والإداريين والأساتذة الفرنسين بالعمل داخل مؤسسات الدولة المغربية.

وأحد أبرز الأعلام الذين تركتوا أثرهم الإداري والفكري قبل الاستقلال وبعده الخبير الأنثروبولوجي الفرنسي «جاك بيرك» (1) ، الذي تقلب في عدة مناصب إدارية في فترة الاستعمار، وأنتج عشرات الدراسات حول المجتمع المغربي أهمها أطروحته لنيل الدكتوراه الموسومة ب «البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير» (2)، وكان «بيرك» ضمن النخبة الفكرية المنظرة والمقترحة والمشتغلة في نفس الوقت إدارياً مع الاستعمار، ليتحول بعد استقلال المغرب إلى مستشرق خبير بالشؤون المغاربية بعد مناقشة أطروحته لنيل الدكتوراه سنة 1955م، التي انتقل بعدها بسنة واحدة إلى المؤسسة الجامعية في باريس«COLLEGE DE FRANCE» لينتخب أستاذاً بكرسي «التاريخ الاجتماعي والإسلام المعاصر»، خلفاً للخبير السالف الذكر «روبیر مونتاني»، وفي هذه الفترة سوف يتحول «بيرك» من متخصص في السيسيولوجيا الاستعمارية إلى أحد نقّادها، والفاحصين لمختلف أحكام القيمة التي تحفل بها كتابات

ص: 390


1- ولد «جاك بيرك» بمدينة وهران بالجزائر سنة 1910م، كان والده «أوغسطين بيرك» يشغل منصبا مهما في هرمية السلطة الفرنسية، وكان أيضاً سيسيولوجيا وأنثروبولوجيا متخصصاً في الشؤون الجزائرية، وتوفي سنة 1995م. مخلفاً تراثاً حافلاً حول المنطقة المغاربية ومصر. .Bibliographie de Jacques، Berque Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée Année، 1997، 8384- pp.21- 43
2- .Jacques Berque، Structures sociales du Haut-Atlas، Presses universitaires de France، 1955 - 470 pages

السوسيولوجيين حول المنطقة المغاربية والعالم العربي، وينحو بأعماله من التحليل إلى الصبغة التركيبية (1) .

ولم يكن «جاك بيرك» وحده الخبير والباحث الذي بقي في علاقة قوية مع الشأن المغربي بل كان عدد من خريجي المدرسة (المغربية -الفرنسية) ممن اهتم بالسوسيولوجيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كانت دراساتهم وأبحاثهم محل اهتمام من قبل الدولة المغربية واعتمدتها في رسم استراتيجياتها.

ب. النخبة الفرنسية الإدارية:

لقد استمرت جماعة من المعمرين الفرنسيين على رأس إدارات الدولة بعد الاستقلال، لا غرو في ذلك وقد تتبعنا في المبحث الأول محدودية انتشار التعليم وضعف الإقبال عليه خلال المرحلة ما قبل سنة 1946م، وتفاوت جودة التعليم وتوجهاته بين أنواع التعليم التي أشرف الاستعمار على إحداثها أو إصلاحها.

وأبرز هؤلاء المؤرخ والباحث الفرنسي المتخصص في شؤون إفريقيا والمغرب العربي، (مCHARLES-ANDRE JULIEN» (1891- 1991» «شارل أندريه جوليان» (2) الذي أوكل إليه الملك محمد الخامس مهمة الإشراف وعمادة أول كلية مغربية، كلية محمد الخامس للآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وقد كانت له وجهة نظر في مسألة التعريب في التعليم المغربي، وجَّه في شأنها رسالة إلى الديوان الملكي يطلب إعفاءه من مهامه ويشرح الأسباب، ويبين فيها اختلالات واضحة في تدبير الشأن التعليمي والنظام التربوي رصده بعد الاستقلال (3) .

ص: 391


1- ذكر هذا التحول عادل المستاتي، سوسيولوجيا الدولة المغربية - إسهام جاك بيرك -، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسیة، طبعة 2010م . (ص 22 23).
2- .Fondation National des sciences politiques، Archives d’histoire contemporaine، Archives Charles- Andre Julien، 2004
3- يرجع في ذلك إلى مقال بعنوان «مسألة تعريب التعليم الجامعي»، لجوليان، شارل أندريه، 1960م، ترجمه البشير تامر، الرباط، المغرب، مجلة المدرسة المغربية، المجلس الأعلى للتعليم.

وقد قدّم الجابري إحصاء مهماً لعدد الإدرايين في المغرب والجزائر بالتعليم بين ( 1945 - 1955م)، ونسبة الأجانب منهم يلخصها الجدول الآتي (1):

الصورة

ويتبين بعد تحليل هذه المعطيات أن نسب الإداريين المسلمين الضعيفة خلال الفترة قبيل الاستقلال سوف يكون لها تأثير واضح على الاستمرارية في المناصب فيما بعد حتى تبقى مؤسسات الدولة قائمة، وانتظار تجاوز المرحلة الانتقالية وتكوين الأطر المحلية، بالإضافة إلى نسب الأمية المرتفعة جداً في هذه الفترة التي وصلت إلى 90% (2). لقد عرف عام 1955م قفزة نوعية في نسبة المغاربة المسلمين الممدرسين ممن تتراوح أعمارهم بين 6 و 14 سنة، حيث بلغت 6،5 %، مقابل 100 % من عدد الأطفال الأوربييين الذي لايمثلون سوى 3 % من سكان المغرب في تلك الفترة، وبلغت نسبة أطفال اليهود الممدرسين 76 % (3) . ما يبين بوضوح أن النخب الحاكمة والمؤثرة كانت تعد سلفاً لقيادة المغرب بعد الاستقلال، أو الانتقال إلى مكان آخر وإيجاد المناصب المناسبة للكفاءة والتكوين والخبرة المتينة لحملة الشواهد الفرنسيين، وإعداد النخبة اليهودية للرحيل إلى إسرائيل، والإسهام في الانطلاقة الحضارية للبلاد، لاسيما إذا عرفنا أن تعليم اليهود كانت تشرف عليه الرابطة اليهودية العالمية ( A.I.U) منذ أواخر القرن 19م.

ج. النخبة الفرنسية من الأساتذة:

ظلت نسبة الأساتذة الفرنسيين مرتفعة بعد الاستقلال، لا سيما في التعليم الثانوي والعالي، حيث لم تتجاوز نسبة المغاربة في التعليم الثانوي 24 %، وانعدمت نسبتهم

ص: 392


1- أضواء على مشكلة التعليم (ص 39).
2- نفسه (ص 43).
3- .YVETTE KATAN، L’école، instrument de la modernization sous le protectorat français au Maroc، p 102

في التعليم العالي (1) . وهو ما جعل المغرب يستمر في الاستعانة بالأجانب وخاصة الفرنسيين الذين كانوا يكلفون ميزانية الدولة، ويثقلون كاهلها بنفقات إضافية، ولن تكتمل المغربة الكاملة لأطر التدريس إلا في أواسط عقد الثمانينيات أي بعد حوالي 30 سنة من الاستقلال.

ولاشك أن تأثير الثقافة الفرنسية سوف يستمر لمدة طويلة في المغرب في سلكين هامين وحاسمين في شخصية الطالب، وهما السلك الثانوي والعالي. وقد أثر ذلك بشكل واضح على توجهات الطلبة الفكرية والسلوكية في الجامعات المغربية ما أدى إلى انتشار المد اليساري لهيمنته على الأكاديميين الجامعيين الفرنسيين في تلك الفترة، والتشبع بالثقافة الفرنسية في المعاهد العليا النخبوية ذات الاستقطاب المحدود على أساس الميزة، ما سيجعل الثقافة الفرنسية مهيمنة على الأطر العليا المغربية (2) .

2. استفادة نخبة مثقفة من الامتيازات والمناصب العليا في الدولة:

لم يكن من أولويات الاستعمار تعليم أبناء المستعمرات ورفع مستوى الوعي بها، وترسيخ قيم أسست لنهضة أوروبا كالديمقراطية والمساواة، وهو ما انتقده عشرات المفكرين ممن ناهضوا مواقف الاستعمار وحاربوا الفكر الإمبريالي الذي حركها، ولم يكن المقيم العام الفرنسي بالمغرب «الجنرال اليوطي» يخفي هذا التوجه أو يتحرج منه، بل كان يصرح به في مناسبات وثقتها بعض المصادر التاريخية عن هذه النوايا والتوجهات فقد قال: «تهدف الحماية الفرنسية إلى المحافظة على بنية المجتمع المغربي كما كانت من قبل، لأن تبقى القيادة لمن كانت بيده، ويبقى دور الشرائح الأخرى تنفيذ الأوامر والطاعة» (3) . وهو ما يؤكد أن المدرسة في عهد الاستعمار لم

ص: 393


1- يرجع إلى تفاصيل الإحصائيات، في أضواء على مشكلة التعليم (ص 39).
2- بين تفاصيل ذلك في مبحثين من المقال المعنون ب (( مغرب النخب بين عالمين))، للباحث المهتم بالقضايا المغاربية «بيير فيرمرين». .Pierre Vermeren، Maghreb des élites entre deux mondes، Revue internationale d’éducation deSèvres، N° 39 | septembre 2005، p 47- 48- 50-
3- .Daniel Rivet: «Ecole et colonisation au Maroc»، la politique de Lyautey au début des année 20M، UN cahier d’histoire، 1976، p. 174

تكن نظاماً تربوياً وإدارياً غايته التعليم والتربية ودمقرطة المجتمع المغربي، بل كانت أداة إيديولوجية غايتها الأساس الغزو الثقافي والقيمي للمجتمعات المستعمرة، والمحافظة على مكتسبات الطبقات الاجتماعية الحاكمة، وكانت تتخوف دائماً من تشكل نخب ثقافية قادرة على مواجهة الاستعمار وتغيير البنيات الاجتماعية، وهو ما يفسر محدودية انتشارها والأعداد التي استقطبتها، واهتمامها أكثر بالنخب الاجتماعية والعرقية.

وحرص الاستعمار على هذه التراتبية في الأنظمة التعليمية التي كان هدف كل منها تخريج طبقة معينة لأداء وظائف محددة في المجتمع، ولكن الجامع بينها تقديم ثقافة غربية تسعى في الأمد المتوسط والبعيد إلى هدم القيم المغربية الإسلامية وتبنّي النموذج القيمي الغربي، وإحداث التحول المنشود في البنيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وضرب التماسك واللحمة الاجتماعية وهو ما تمكن التعليم الفرنسي من إحداثه بالفعل، حيث استمرت معالم هذا التصور في المدرسة المغربية بعد الاستقلال.

وقد احتكرت النخبة الفرنسية واليهودية والارستقراطية والبرجوازية التعليم في المغرب خلال فترة الاستعمار الذي لا يمكن تمييز جودته في تلك المرحلة عن جودة نظام التعليم في فرنسا، والزج بعامة أبناء الشعب المغربي، ممن سنحت لهم الفرصة، في تعليم رديء غايته محو الأمية وإتقان بعض المهن المعاشية بدبلومات مهنية معاشية، ذلك ما يكرس التوجه الاستراتيجي للاستعمار في الحفاظ على مصالحه الوقتية والمستقبلية في المغرب، وممن انتقد هذا التوجه وبرهن عليه بأدلة إحصائية واضحة الباحثة الفرنسية (1) «يافيت كتان» «Yvette Katan» ، في تحليلها لوثائق عن وضعية التعليم المغربي إبان الاستعمار (2) .

ص: 394


1- Yvette Katan Bensamoun، Maître de conférences émérite à l’Université de Paris 1-Panthéon-Sorbonne (en 2007). AUTEUR DES OUVRAGES; ((de l’empire ottoman à la fin de la colonisation française))،))Oujda، une ville frontière du Maroc 1907- 1956))،))Les Économistes classiques، d’Adam Smith à Ricardo، de Stuart Mill à Karl Marx)) . http://catalogue.bnf.fr/ark:/12148/cb12665720g
2- .(YVETTE KATAN، L’école، instrument de la modernisation sous le protectorat français au Maroc، (p 103 et 104

ويشير محمد عابد الجابري إلى ظاهرة «الهرم المقلوب» التي رصدها أثناء تحليل إحصائيات سنوات أواخر الاستعمار، باتساع قمة هرم التعليم، وذلك ببحث النخبة الأرستقراطية عن فرص لأبنائها لإكمال تعليمها العالي وحرصها عليه، ويذهب إلى حد القول بأن نسبة المغاربة الذين أقبلوا على استكمال دراستهم العليا من عموم المتمدرسين تضاهي مثيلتها في فرنسا (1) . وهو تحول مهم ومؤشر على الاستعداد للمستقبل القريب المرتقب بعد الاستقلال لإعداد النخب «الفرنكوفونية» المرشحة

للقيادة، وتسلم ناصية التدبير بعد خروج فرنسا من المغرب.

ولاحظ «جاك بيرك» في تحليله للبنيات الاجتماعية الجديدة التي أنشأها وسعی الاستعمار إلى تحولها، أنه ساهم في إحداث طبقة بورجوازية صغيرة أو طبقة متوسطة تم تكوينها انطلاقاً من ظروف النظام الجديد بفضل نمو الوظيفة العمومية والإقبال على التعليم، هذه الفئة الاجتماعية التي في تقديره سوف يكون لها دور غامض في المستقبل يصب في مصلحة البرجوازية التي تشكلت أساساً من علاقات غامضة ومشبوهة مع القوى الإمبريالية والاستعمار الجديد حسب تعبيره (2) .

ولم يخل تاريخ المغرب ما بعد الاستقلال من رموز فكرية وعلمية خريجة التعليم المغربي بمختلف أشكاله، وتعدّ من مخرجات نظامه، وتضاهي النخب العلمية العالمية في مجتمع المعرفة في مجالات الفلسفة والتاريخ والنقد الأدبي وعلوم الشريعة والفكر الإسلامي. وجلهم كان يكتب ويفكر بالروح المغربية العربية العميقة، ولم تخل المكتبة الفرنسية كذلك من مفكرين ونقاد مغاربة غلبت عليهم الأنفاس «الفرنكوفونية» (3).

هيمنة النخبة «الفرنكوفونية» وصناعتها الفارق بين الفئات الاجتماعية:

ص: 395


1- أضواء على مشكلة التعليم (ص 43 و 44).
2- .(Michael Berti، Jacques Berque and the history of the maghreb، The Maghreb Review، vol.4 July- Dec 1979، Villiers Publications، London، 1980 ( p140- 148
3- يؤكد ذلك ويشيد به المفكر الفرنسي والأنثربولوجي الفرنسي - المغاربي «جاك بيرك» في كتابه ((المغرب العربي بين حربين))، ((le Maghreb entre deux guerres p411))

بعد استقلال المغرب طفت الخلافات الفكرية والقيمية بين الشرائح الفكرية والاجتماعية المتباينة التي خلفها الاستعمار، وهو ما انعكس بوضوح على التوجهات السياسية والأيديولوجية في المغرب، فقد وجدت النخبة التي أنتجها التعليم الفرنسي بجمیع تجلياته السابقة في مواجهة مع النخبة الفكرية الوطنية التي تخرجت من التعليم الأصيل والحر والجامعات المشرقية (القاهرة ودمشق)، وهو سجال فكري وقيمي ما يزال مستمراً في المجتمع المغربي إلى اليوم.

أما النخب التي أنتجها التعليم الفرنسي في المغرب، الحاصلة على دبلومات جامعية عليا فإنها هي من سيقود الحركة الوطنية ولم يقبل المستعمر الفرنسي مخاطباً رسمياً خارجها، وهي نفسها من سوف يشرف على إرساء نظام تعليمي مستنسخ من النظام التعليمي الفرنسي في جميع الأسلاك التعليمية وهذا التأثير ما يزال مستمراً إلى اليوم بإخفاقاته وعيوبه.

ومن غريب المفارقات بتعبير الجابري «أن هذه النخبة الاجتماعية التي قادت الحركة الوطنية أو انتسب إليها كانت بمقدار ما تحتج على لا قومية التعليم في المغرب، بمقدار ما تدفع بأبنائها نحو المدارس الأوروبية» (1) . فكان التوجه نحو التعليم الفرنسي عاملاً حاسماً في الدفاع عن الثقافة الفرنسية، والنموذج الفرنسي في التعليم، والمحافظة على اللغة الفرنسية في التعليم العالي ومدارس التميز (الهندسة والطب)، وصارت الأنظمة الاجتماعية والنظام التعليمي في المغرب مجالاً للتوافقات السياسية على حساب المشروع المجتمعي المتكامل والاستراتيجي، الذي كان من المفترض أن تتوافق القوى الحية للبلد منذ فجر الاستقلال على قيمه ومبادئه وأدوات تنفيذه في جميع المجالات بما يخدم المصالح العليا للوطن ويتجاوز الحسابات الشخصية والمصالح الفردية أو النخبوية.

وسوف تبرز المفارقات التي خلفها التعليم الموروث عن الاستعمار في سنوات السبعينيات والثمانينيات، بعد التحاق مخرجات هذا النظام بالتعليم العالي، وإنتاجه

ص: 396


1- أضواء على مشكلة التعليم (ص 45).

لنخب جديدة محظوظة اجتماعياً سوف تتخرج من المعاهد العليا ذات الاستقطاب المحدود الذي أساسه التميز، تسهم في دعم النخب التي خلفها الاستعمار، وإعادة إنتاج نفس النخب القديمة التي تحافظ على امتيازاتها، نظراً لإمكانياتها المادية وعلاقاتها الاجتماعية وأصولها وروابطها العائلية، ونظام تعليمي جامعي مفتوح يستوعب الأعداد الهائلة من حملة الباكالوريا تغيب فيه الآفاق ولا تنسجم تخصصاته مع سوق الشغل، ولا يكسب الطالب الكفاءات التي تؤهله للحياة والاندماج الفاعل في المجتمع.

يتحدث «بيير فرمرن» عن ثلاثة خصائص يتميز بها التكوين الجامعي، الذي خلفه الاستعمار الفرنسي في بلدان المغرب العربي؛

1. أولها: الازدواجية الفعالة بین نظامین جامعيين أحدهما محدود الاستقطاب، والثاني مفتوح يستوعب الأعداد المتزايدة من الطلبة.

2. ثانيها: المحافظة على أهمية التكوين باللغة الفرنسية، ومكانته الاجتماعية والثقافية والمهنية.

3. وثالثها: ضمان الاندماج والانسجام مع النظام العالمي لصناعة النخب (1) .

هذه الخصائص سوف تسهل على الاستعمار أداء دوره في صناعة النخب الاجتماعية المستقبلية، وتحديد صورة المجتمعات في هذه البلدان، حيث استطاع المحافظة على نفسه بل تجديدها وضمان استمرارها.

وتلك النخب نفسها مرشحة اليوم لتخلف سلفها في شغل مراكز القرار والتمتع بالامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، سواء التي اندمجت فعلاً في تولي المهام أو التي ما تزال في طور التكوين، جلّها ينحدر من سلالة جيل الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الذي استفاد من امتيازات الانتماء للحركة الوطنية، والجيل

ص: 397


1- .Pierre Vermeren، Maghreb des élites entre deux mondes، Revue internationale d’éducation de Sèvres، N° 39 | septembre 2005، p 48

الحاصل على شواهد عليا في فترة الاستعمار، في حين تصدم النخب والكفاءات الصاعدة بطبقيّة وانتقائيّة مغلقة، ما سماه «بيير فرمرن» ب «النظام المغلق» الذي يحذر منه السوسيولوجيون وأصحاب الدراسات السوسيوسياسية، لأنه يمنع تداولية النخبة وهو ما يحقق «الدروة الاجتماعية»، وتجديد النخب الضرورية للتنفيس على المجتمعات، لأن المجتمعات الموسومة بانغلاق الطبقات الاجتماعية غالباً ما تكون مهددة بالأزمات السياسية والاجتماعية.

خاتمة

إن الدول المستعمِرة وفي مقدمتها فرنسا ما تزال تدافع عن جدوى الاستعمار وأهميته وخدماته التي قدمها للدول العربية المستعمَرة، ولكن الحقائق التاريخية والواقع الذي تتردى فيه هذه الدول سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، يؤكد أن الاستعمار وإن أظهر جوانب من التقدم الحضاري، والبنيات التحتية التي كانت تخدم مصالحه وتحقق غايته، كانت تخفي وراءها مآرب دفينة في إبقاء الوضع المتخلف على ما هو عليه، لأن الاستثمار الحقيقي كان يجب أن يكون في العقول ورفع مستوى الوعي عند الشعوب العربية الشيء الذي حرص الاستعمار على عدم تحققه، بل أسهم في تكريس التخلف، وأرسى قواعد التبعية، ومهد لنخبة إدارية وثقافية وسياسية واقتصادية لتحافظ على مصالحه وتدعو إلى ثقافته وقيمه.

وما يزال النسق الفكري الفرنسي مهيمناً ومسيطراً على المجتمعات في بلدان المغرب العربي، بحيث لا تسمح لنفسها بالتفكير خارجه، وكان من أبرز تداعيات الغرق في هذا النسق الذي لم يثبت نجاعته، التخبط الذي تعيشه الأنظمة التعليمية التي لم تستطع التخلص من الارتباط بالنموذج الفرنسي في إصلاحاتها المتعاقبة، بل ما يزال النجاح في الحياة المهنية والاجتماعية مرتبطاً باللغة الفرنسية، ويمكن الاستدلال على ذلك بما شهده المغرب أخيراً في إصلاح نظامه التعليمي في الرؤية

ص: 398

الاستراتيجية(2015 - 2030) (1)، وقبلها التدابير ذات الأولوية (2) التي جاءت بإجراء العودة إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وأكد مشروع القانون الإطار حول التربية والتعليم (3) نفس التوجه.

أما النظام الإداري الذي أقره الاستعمار فلم يعرف تعديلات كبيرة، حيث بقيت الهياكل والتنظيمات الإدارية التي أحدثها مستمرة دون تجديد عميق يرفع عنها البيروقراطية، والفساد، ويخلصها من اللغة الفرنسية التي تطغى على التراسل والتواصل داخلها، ما جعل الدولة في المغرب مراراً ترفع شعار «الحكامة الجيدة» و «ربط المسؤولية بالمحاسبة»، وتتخذ إجراءات في أفق إصلاح جودة الخدمات الإدارية والتدبيرية لمؤسسات الدولة غير أن النتائج ما تزال دون التطلعات والطموحات المنشودة.

وأما النتائج الاجتماعية والثقافية لمشروع الاستعمار الفرنسي، فكانت تجلياته واضحة على مستوى القيم الاجتماعية التي نَحَت أكثر إلى التغريب، واعتباره النموذج الأخلاقي الذي يجب الاقتداء به لتحقيق الإقلاع الحضاري، وهو النداء الذي وجد صداه عند النخبة الاجتماعية والاقتصادية التي تجد نفسها أقرب إلى الثقافة الفرنسية منه إلى الثقافة المغربية الإسلامية.

فما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى تعليم يستجيب لمعايير الجودة العالمية، تتصدى له الأطر المؤهلة التي تسعى إلى الانخراط في مشروع مجتمعي واضح المعالم، ينبثق من قيم الأمة الراسخة، ويخدم مصالحها على المستوى القريب والاستراتيجي في أفق بناء مجتمع متماسك معتز بهويته، منافس في مجتمع المعرفة العلمي والتكنولوجي، ويتمتع باستقلالية وتنافسية اقتصادية عالية، متحرر من إرث الاستعمار وأغلال التبعية والخضوع.

ص: 399


1- مشروع إصلاح وخارطة طريق أصدرها المجلس الأعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي سنة 2015م، تحت شعار: ((من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء)).
2- مشروع إصلاح أصدرته وزارة التربية والوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي تم إدماجه فيما بعد في الرؤية الاستراتيجية سنة 2015م.
3- مشروع قانون إطار رقم 17. 51 أصدرته الحكومة المغربية، يتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، بتاريخ 26 ديسمبر 2017.

لائحة المراجع باللغة العربية

إصلاح التعليم بالمغرب بين 1956م - 1996م، المكي المروني، الدار البيضاء، المغرب، مطبعة النجاح الجديدة.

أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب، د. محمد عابد الجابري، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى 1973م. الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (ت 1396ه-)، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر - أيار/ مايو 2002م. سوسيولوجيا الدولة المغربية - إسهام جاك بيرك-، عادل المستاتي، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسیة، طبعة 2010م.

السوسيولوجيا المغربية؛ من الرفض إلى إعادة الاعتبار، محمد مادوي، أستاذ علم الاجتماع في المعهد الوطني للفنون والمهن CNAM))، وباحث في المختبر المتعدّد التخصصات للسوسيولوجيا الاقتصادية (LISE)، في المركز العلمي للبحث العلمي في فرنسا (CNRS)، باريس، ترجمة: رشيد بن بيه، مقال نشرته مجلة إضافات العددان 31، 32، صيف - خريف 2.

فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى، تقرير مقدم إلى المؤتمر الإسلامي العام من اللجنة الشرقية للدفاع عن المغرب، الطبعة الثانية طبعة شركة بابل.

الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي (ت 1376ه-)، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1416ه- - 1995م.

مسألة تعريب التعليم الجامعي، لجوليان شارل أندريه، 1960م، ترجمه البشير تامر، الرباط، المغرب، مجلة المدرسة المغربية، المجلس الأعلى للتعليم.

معجم المفسرين «من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر»، عادل نويهض، قدم له: مُفتي الجمهورية اللبنانية الشَّيْخ حسن خالد، مؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة 1409 ه- - 1988م.

لائحة المراجع باللغة الفرنسية

.Daniel Rivet: «Ecole et colonisation au Maroc»، la politique de Lyautey au début des année 20M، UN cahier d’histoire، 1976

.Pierre Vermeren، Maghreb des élites entre deux mondes، Revue internationale d’éducation de Sèvres، N° 39 | septembre 2005

ص: 400

.YVETTE KATAN، L’école، instrument de la modernization sous le protectorat français au Maroc

Jacques Berque، Le Maghreb entre deux guerres، Économies، Sociétés، Civilisations. 17ᵉ année، N. 6، 1962. [compte-rendu] p1220 - 1226

.(Chatinières، Paul (1884-1928). Dr Paul Chatinières، Dans le Grand Atlas marocain، extraits du carnet de route d’un médecin d’assistance médicale indigène، 1912-1916.Introduction du général Lyautey. (1919

.BARTHÉLÉMY، Pascale. « L’enseignement dans l’Empire colonial، une vieille histoire? » . Histoire de l’éducation، no 128 (2010)، p. 5-27

.PAUL MARTY «Le Maroc de demain»، Comité de l’Afrique française، 1925

.Bibliographie de Jacques، Berque Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée، Année، 1997-

.Charles- Andre Julie، Fondation National des sciences politiques، Archives d’histoire contemporaine، Archives، 2004

لائحة المراجع باللغة الإنجليزية

.Michael Berti، Jacques Berque and the history of the maghreb، The Maghreb Review، vol.4 July- Dec 1979، Villiers Publications، London، 1980

ص: 401

الإمبريالية السياحية

اشارة

إخفاقات الحداثة الغربية في البلاد العربية

عادل الوشّاني

عادل الوشّاني (1)

استنبتت الدول الغربية القطاع السياحي في بعض البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، وفرضته عليها كقطاع اقتصادي هيكلي مباشرة بعد حصولها على الاستقلال. أي أن القطاع السياحي في هذه الدول لم يكن قرارا سياديا متمحورا على مصالحها الوطنية وإنما كان استجابة خضوعيّة لإملاءات الغرب الرأسمالي.

إن هذه الفرضية لا تعوزنا المؤيدات لإثباتها، ففي سنة 1963 أقرت الأمم المتحدة أن السياحة يمكن أن تكون المدخل الحيوي الحقيقي للبناء الاقتصادي للدول النامية (2) . ولقد نحا البنك الدولي هذا المنحى، حيث جاء على لسان أحد خبرائه الاستراتيجيين (ميشال دافيس Michel DAVIS) أن السياحة تمثل بالنسبة للدول النامية المحرك الحقيقي للتنمية، تماماً كما كانت الصناعة هي المحرك الفعلي

ص: 402


1- أستاذ جامعي وباحث في انثروبولوجيا السياحة / تونس.
2- .Lanfant, M.F.: Le tourisme dans le processus d’internationalisation. RISS. Vol XXXII, PARIS UNESCO, 1980, P15. Cit in: Aisner P. et Pluss C., La ruée vers le soleil, L’Harmattan, 1983, P186

للاقتصاد الأوروبي في القرن التاسع عشر (1) . وفي المؤتمر الدولي حول السياحة الذي نظمته المنظمة الدولية للسياحة في مانيلا سنة 1980، تم التأكيد أن السياحة من شأنها أن تؤسس لنظام اقتصادي دولي جديد تجسر فيه الفجوة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول النامية حيث يتاح لهذه الأخيرة، من خلال الاقتصاد السياحي، أن تحقق نموا اقتصادياً متسارعاً (2) .

إن إملاء الدول الرأسمالية والمنظمات الدولية التي تدور في ركابها على العديد من الدول النامية ومنها بعض البلدان العربية اعتماد القطاع السياحي كقطاع هيكلي، سيخضع هذا القطاع للمنطق الهيمني لهذه الدول ولهذه المنظمات. والحقيقة أن الغرب الرأسمالي قد أملى بوضوح أن تكون السياحة في الدول النامية على أساس الاستجابة الخضوعية لطلباته وانتظاراته.

يقول السيد روبار لوناتي (Robert LONATI) (أحد الأمناء العامين السابقين للمنظمة العالمية للسياحة): «يجب قبل كل شيء قياس حاجيات السوق ودوافع ورغبات الحرفاء ومن ثمة إعداد عروض ومنتجات سياحية تستجيب لهذه الحاجيات وتلبي هذه الرغبات» (3) .

إنّ الغرب الرأسمالي حينما يملي على الدول النامية، ومنها الدول العربية، أن تُخضع بنيتها السياحية لمنطق طلباته فلأنّه يُخضعها بذلك لشروط مصالحه

ص: 403


1- :Ntanyungu F. N’Duhirahe F.: Tourisme et dépendance: le cas de l’Afrique noire, Itinéraires note et travaux, N6, GENEVE, institut universitaire d’etudes du développement, 1981, P5. Cit in- Aisner P. et Pluss C., La ruée vers le soleil, op cit, P186.
2- .Collectif: Tourisme international et sociétés locales. Problèmes politiques et sociaux, Paris, Documentation française, n 423, 1981, P9, cit in: Aisner P. et Pluss C.: La ruée vers le soleil, op cit, p186- ورد في: عادل الوشاني: أساسات علمية للظاهرة السياحية: التاريخ والهوية والمناويل، دار نشر علاء الدین، صفاقس، تونس، 2016، ص 30.
3- .Aisner P. et Pluss C.: La ruée vers le soleil, op cit, P198-

الاقتصادية ولمنطق أفضلياته وتوازناته الربحية، أي ليربط اقتصادات هذه الدول به ويفرض تبعيتها له واتكالها عليه مما يولد تخلفاً بنائياً في اقتصاد كلٍّ منها يشبه التخلف الناتج عن الاقتصاد الثنائي الذي ولده الاستعمار في هذه الدول (1) . وهذا أمر معلوم، غير أن الأمر الجديد الذي نريد تجليته في هذه الدراسة وتعميق فهمه هو أن الغرب الرأسمالي يريد أن يخضع هذه الدول لمنطق إشباع الحاجات النفسية لمواطنيه ورغباتهم والاستجابة لمختلف انتظاراتهم العاطفية وشواردهم الرغبية (FANTASME) بما فيها الأكثر نزوية، والتنفيس عن مختلف مكبوتاتهم وتصعيد أزماتهم والعمل على تحقيق مختلف توازناتهم... بمعنى أنه مثلما جعل من هذه الدول مجالاً حيوياً لتصعيد أزماته الاقتصادية، جعل منها أيضا مجالا حيويا لتصعيد أزماته النفسية والاجتماعية والعلائقية والعاطفية والجنسية...

سنتوسع في معالجة هذه الأطروحة وذلك بمحاولة تبين واقع الأزمة في الاجتماع الغربي وكيف يتم تصريفها في المجتمعات العربية عبر السياحة.

1) أزمة المجتمع الغربي: من طموح الأنوار إلى الظلمة الجديدة:

دخلت أوروبا إلى العصور الحديثة مسلحة بالعقل وبالعلم، وكان الطموح أنّ العلم سيحقّق الخلاص والحرية والرفاه، وأنّ العقل سيسيّد الإنسان، غير أنّ الحاصل هو أنّ العلم لم يتحول إلى أداة للمعرفة وتحقيق الرفاه وإنما أصبح أداة للبحث التطبيقي لتطوير أدوات إخضاع الإنسان اقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً... أمّا العقل فقد رجّح القيم المادية على حساب القيم المعنوية، فتقيد الإنسان نفسه في مقابل سطوة رأس المال كسیّد جديد، وتراجعت قيمة الانسان، كما يقول إدغار موران(-Ed

ص: 404


1- أبو بكر أحمد باقادر: سوسيولوجيا السياحة، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان، عدد 89، 1997،ص 137.

gar MORIN)، كصلة تضامن مع الآخر وقيمة مشاركة ومؤانسة له، في مقابل تطور قيم الفردانية حيث الإنسان الفرد الذي لا أهل له و لا أصدقاء ولا مسیح كما يقول لا بروايار (LA BRUYERE).

لقد شخصت الأدبيات النقدية لمفكري الغربِ نفسِه ما يعتمل فيه من أزمة طالت كل أُطُره. هذه الأزمة، التي وسمها يورغن هابرماس (Jürgen HABERMAS) بالظلمة الجديدة، حولت الإنسان إلى فرد مستوعَب ومغترِب الفكر ومستلَب الوعي في واقع استلابي شامل يهيمن عليه الجهاز الاقتصادي الذي أغرق الإنسان في اللهو والملذات، وحوّله إلى مجموعة من الرغبات يحركها (1) ويوجهها كيفما يشاء، استنادا إلى آلة دعائية ضخمة وفعّالة حاصرت الفرد وحكمته بقيود ذهنية وفوقية خارج نطاق الانتقاء الحر (2) .

في هذا الواقع الاستلابي، تباعدت المسافات النفسية الاجتماعية بين الناس حتى أضحى المجتمعُ الواحدُ أشبهَ بأرخبيل من الأشخاص المبعثرين، وغدت العلاقاتُ الاجتماعيةُ باردةً ولا شخصيّةً وتقوم على الحساب الدقيق والنفعية، وترسخت الفرديةُ حتى صار الفرد مرجع ذاته ومقاول حياته الخاصة، فتوجهت كل اهتماماته وانتباهاته ورهاناته إلى أشيائه الخاصة يشبعها دون اكتراث بالآخرين أو التزام بهم، وصار الغوص في العالم الداخلي بحثا عن الأحاسيس الشاذة، والنزوات المتطرفة والشوارد الرغبية المتسيبة همّاً وجوديّاً ملازماً وجهداً موصولاً لتجميع هوية شخصية مجزأة في بيئة ثقافية لم يعد فيها للفرد علاقات عاطفة أصيلة، وإنما فقط صلته بذاته ينصت لأهوائها وهواماتها وشهواتها، ويغرف من استجابته لها الشعور بوعي سیّد.

ص: 405


1- .Eric Fromm: The sane society, Holt, Rinehart and Winston, New York, Eleventh Printing, 1962. P166-
2- علاء طاهر: مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماس. منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ص 72، (بدون تاریخ).

لقد تعاظمت، في هذه البيئة النفسية الاجتماعية، كما يقول جوناثان بوريت (Jonathan BORIT) مشاعر الاستياء، وتفاقمت ظواهر الوحشة والوحدة والسأم والاكتئاب والأوضاع الصحية السيكولوجية العليلة ...

أما في ميدان العمل، فقد أضحى الإنسان في المجتمع الصناعي الرأسمالي يعيش حالة من الانفصال (séparation) في كل أوجه نشاطاته الانتاجية، فمُتعته انفصلت عن عمله، وجهده انفصل عن عائده، وإنسانيته فقدت قيمتها أمام أولوية الآلة ودورانها الإنتاجي المتواصل.

نحن بإزاء حالة من سلب الذات وتشييئها (1)، واغتراب عن العمل وعن ناتج العمل معا، وتحول إلى ذرة اقتصادية بلا قيمة في منوال اقتصادي يعامل الإنسان كرقم وكشيء.

لقد كانت الحداثة سمة خاصة بالحضارة الغربية، فهي المدخل إليها، إذ تدل على التقدم والتطور وشمولية العقلانية والثورة التكنولوجية، أمّا اليوم فهي تدل على عكس ذلك (2)، إنها تحيل على خيبة الأمل الكاسحة، الأمر الذي دفع باللاوعي الجمعي (inconscient collectif)، كما حدده (3) جورج دومازیل (Georges DUMÉZIL) إلى البحث عن حلول لإعادة التوازن الجمعي ولخفض التوتر ولإعادة الأمل.

إنّ السفر السياحي إلى المجتمعات العربية هو آلية من آليات إعادة الأمل وذلك من خلال فعل نفسي يحوّل هذا السفر إلى طقس من طقوس الانفتاح على الأسطوريّ

ص: 406


1- هاربرت ماركوز: العقل والثورة، هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص 95-96.
2- المصدر نفسه. نفس تاريخ الزيارة.
3- انظر: .Georges Dumézil, Mythe et épopée, Types épiques indo-européens, un héros, un sorcier, un roi,NRF, Gallimard, 4ème édition, 1984. Tome II

والخياليّ والعوالم الشرقية الغرائبية (1). فالغرب، بعد أن اغتصب مُثُل الحداثة التي استند إليها عصر أنواره كما يقول (2) ليوتار (LYOTARD)، بدأ يبحث عن عوالم غرائبية وعن أساطير مرجعية حائرة في كل مكان (3)، يُصعِّد فيها أزماتِه ويُخفِّض فيها توتّراتِه ويستجيب فيها لانتظاراته. كيف ذلك؟

سنجيب عن هذا السؤال من خلال دراسة أسماء بعض النُّزُل (الفنادق / Hotels) في جزيرة جربة (التونسية) مستفيدين في ذلك من مقاربة رولان بارط (Roland BARTHES) السيميولوجية ومقاربته حول الأسطورة، وأيضا بالاستفادة من مقاربة بيرّو (PERROT) حول الأسطورة المبرمجة (mythologie programmée) (4) .

جربة هي جزيرة تقع في الجنوب الشرقي التونسي، وتبلغ مساحتها 514 كلم 2 وهي تضم حوالي 120 نزلا سياحيا مصنَّفا.

تحمل الكثير من هذه النزل في هذه الجزيرة أسماء الآلهة والملوك الأسطوريين كإيزيس ربة القمر والأمومة لدى المصريين القدماء، وتانيت الآلهة القرطاجية رمز الأمومة والخصب والنماء وازدهار الحياة، وأوزوريس إله البعث والحساب عند المصريين القدماء، وأوليس ملك أنطاكيا الأسطوري، وتيليماك الأمير بن أوليس، والملكة بينيلوب زوجة أوليس ... هذه الأسماء الأسطورية وغيرها ليست اعتباطية وإنما وراءها آلة إشهارية خبيرة في الإنصات للأحلام والانتظارات والشوارد الرغبية، وهي تهدف إلى الاستجابة إلى كل ذلك في الفعل الإشهاري برمّته بما في ذلك التسمية

ص: 407


1- سمير عزمي: الحداثة وأزمتها، موقع الكتروني مجلة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، نشر بتاريخ 21 جانفي /يناير 2015، تاريخ الزيارة 25-4-2018.
2- Magazine littéraire, N° 225, 1985, p. 43-
3- .Baudrillard, Jean, «La modernité», Encyclopédie Universalis, volume 11-
4- PERROT, Marie Dominique ;Gilbert RIST et Fabrizio SABELLI (1992), La mythologie programmée: l’économie des croyances dans la société moderne, Paris : Presses Universitaires de France. Cit in Boualem Kadri et Djaouida Hamdani- .Kadri : Discours publicitaire et mythologie touristique: une analyse sémiologique des mythes du Club Med. Revue téoros .2012

الإشهارية نفسها، كما تهدف إلى الإصابة حيث تجب الإصابة... إنها تصيب اللاوعي وتصطنع له أساطير يعوض فيها ويُصعِّد ويُحوِّل ويُسقط ... إنّ خبراء السياحة هنا، في الوقت الذي يعيدون فيه إنتاج الأساطير في تسمية النزل لأغراض تسويقية تجارية، يثبتون فرضية ميرسيا إلياد (Mircea ELIADE) القائلة باستمرار الأساطير القديمة في المخيال العام لمجتمعاتنا الحديثة (1) .

إن السؤال الرئيس هنا هو: ما هو أثر هذه الأسماء الإشهارية الأسطورية في لاوعي المتقبِّلِ، السائحِ الغربي ووعيه، بمعنى آخر، ما هي الدلالات التي يتلقاها المتقبل السائح من هذه الأسماء الأسطورية للنزل؟

في الحقيقة، لقد أتاحت لنا المعالجة السيميولوجية أن نقف على دلالات عديدة ومختلفة لهذه الأسماء، سنكتفي في هذه المعالجة بأربع دلالات نعرضها تباعاً مع التأكيد أنّ الأسطورة هي منظومة كلام أيْ منظومة من الصيغ الدلالية، وبالتالي فإنّ هذه الأسماء تبقى مفتوحة على الاستفهام السيميولوجي والتأويل. إنّها كالنص بنيتُه متغيرة من قارئ إلى آخر.

2) الدلالة الأولى: السياحة الغربية في البلدان العربية: سفر نكوصي إلى المرحلة البدائية للإنسانية.

إنّ تسمية النزل في جزيرة جربة بأسماء أسطورية من آلهة وملوك فيه إحالة إلى مرحلة زمنية بدائية حيث مستوى وعي الإنسان وخياليّ وإحيائي، وأسطوري وخرافي، وسحري وغيبي... ولم يدشن بعد اللوغوس والفكر المجرد والتجريبي والتفسيري... لقد كان الإنسان في الحقبة البدائية يواجه الطبيعة خائفا منها ولكنّه كان، في الوقت نفسه، مندمجا بها. فهو بعضها وهي بعضه: كما كان يفسر الظواهر بها.

ص: 408


1- .ELIADE, Mircea (1957) Mythes, Rêves et Mystères, Paris, Gallimard. p 310-

إنّنا هنا بصدد عمل إشهاري منهجي يفتح الخيال على حركة عكسية للتاريخ، ويغري بإمكانية السفر النكوصي إلى المرحلة الطبيعية، حيث طفولة الإنسانية الضائعة ووحشية هذه الإنسانية المستعادة كما حدد ملامحها العديد من مفكري الغرب، وإلى إنسان تلك المرحلة الذي خفّضته مِثل هذه الأدبيات المحكومة بالإثنو مركزية الغربية إلى مستوى الكائن التراثي. فهو ذلك البدائي «المتوحش الطيب» (Le bon sau-vage) الذي لم تكتسحه الحضارة، كما تخفّض كل ثقافته ومختلف إبداعاته المادية والرمزية إلى مستوى التراث الإنساني ما قبل التحضر (1).

إنّ البنية العامة لهذا الإنسان التراثي أسطورية أي لازالت هناك في الماضي ساكنة ولا تطورية، وبالتالي فهي في إيحاء من الإيحاءات متحف حيّ من متاحف التاريخ البشري الذي لا بدّ من زيارته لفهم السيرورة العامة للوجود البشري كيف كان وكيف أصبح... ولبناء المعرفة التاريخية استناداً إلى المعايشة الذاتية، وللاستمتاع الفرجوي، ولمعايشة تجارب وجوديّة خصوصية وثريّة بالحسّ المختلف...

إنّ هذه التسميات تُحجِّم المجتمعات العربية إلى مستوى المجتمعات البدائية للفرجة وللتجربة الغرائبية القائمة على المخاطرة والمجازفة والاستكشاف النكوصي، أي استكشاف الماضي حينما كان بسيطاً حضارياً، وبدائياً إنسانياً، وذلك من خلال مجتمعات لا تزال تعيش الماضي في الحاضر.

هذه المضامين البدائية العجائبية تُجيِّش لدى السائح الغربي الوهم بإمكانية

ص: 409


1- نحن نعلم أن بعض المفكرين الغربيين قد تجاوزوا هذه الاثنية المركزية الضيقة إلى قراءات أكثر موضوعية وإنصافا لغير الغربيين أمثال الانتروبولوجي الفرنسي بيار كلاستر (Pierre CLASTRES) وتحاليله الجريئة في مجال الانتروبولوجيا السياسية وأيضا الأنتروبولوجي الفرنسي جورج بالاندييه (Georges BALANDIER). اُنظر: - جورج بالاندييه: الأنتروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2007. - بیار کلاستر: مجتمع اللّادولة، ترجمة محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1991.

الهروب، ولو المؤقت، من ضغوطات نسق الحياة العصرية وإكراهاته، وتفتح له قوسا لرومانسية حالمة بإمكانية العيش في الماضي واقعا في أوج حسه، فهذه المجتمعات البدائية بتراثها الغرائبي هي الماضي بالنسبة للحضارة الغربية، وتكفي بضع ساعات على متن طائرة للسفر العكسي إلى هذا التراث حيث هذه الشعوب التراثية المتماهية مع الطبيعة.

يبدو واضحاً أنّ هذه المضامين تُحجِّم المجتمعات السياحية النامية ومنها المجتمعات العربية إلى مستوى (Des primitifs pour tourists) «البدائيين للعرض السياحي»(1) ، لكنها في المقابل تثمن الغرب إلى مستوى الإنسان المستكشِف والمتحضر والمدني والذي يتصف بالتقدم والقوانين الوضعية والحركة المدنية والعقد الاجتماعي.

إنّنا بصدد صورة نمطية أي قالب جامد يتحكم في نظرة الغرب إلى العرب. والحقيقة أنّ سياقاً تاريخياً خصوصياً سمح بتشكل هذه الصورة النمطية وتَبلوُرها.

فمنذ عصر الاكتشافات الجغرافية ومطلع عصر التنوير الأوروبي، كان الفكر الغربي يعيش في عالم لا تشاركه في صنعه الحضارات الأخرى ... وبقدر ما كان هذا الفكر يتقدّم في البناء الحضاري، كان ذلك مصحوبا لديه بشعورين: أولهما الشعور بأن اكتمال البناء الحضاري من الناحية المادية لا يمكن أن يكون إلا ضمن علاقة هيمنة على العالم الآخر. أما الشعور الثاني فإنه يتعلّق بالوعي بالذات الذي تكوّن لدى الغرب، ومضمون هذا الوعي أنّ أوروبا هي مركز الحضارة والثقافة والعقل في التاريخ.

ضمن هذا الشعور بمركزية الذات، صوّر الاستشراقُ الآخرَ العربيَّ على أنّه ينتمي

ص: 410


1- .Bugnicourt (J) et al: Touristes_rois en Afrique, Dakar-Paris, Enda-Karthala, 1982, P120- 121-

إلى جنس آخر، وأنّ شخصيته القومية تشوبها عيوبٌ جسيمة كالكسل الفكري والعقم والخمول، أما حضارته فهي ضرب من ضروب الفلكلور وثقافته بربرية تسودها المبالغات (1).

يبدو أننا بصدد إعادة إنتاج هذه الصورة النمطية التي تكاد لا تجانب في مضامينها القولَ الاستشراقيَّ ذا النزعة المركزية الاستعمارية، فالإنسانُ لا يزال ذلك الكائنَ التراثيَّ الغرائبيَّ، والتاريخ لا يزال سكونياً لا تطورياً، والتراث لا يزال بنية متأبّدة لا ينفصل فيه الحاضر عن الماضي.

الاستشراق أغرى في الماضي بالاستعمار وحفّز عليه، وهذه الصّورة تغري اليوم بالسياحة وتحفّز عليها ... (2)

3) الدلالة الثانية: مغالبة الشيخوخة والتنعم المديد بالشباب.

إنّ الآلهة لا تهرم ولا تموت فشبابها أزلي، بل وفي يدها مفاتيح الحياة والخصوبة ونضارة الشباب... (إيزيس وتانيت). إن تسمية النزل بأسماء الآلهة الخالدة ليس اعتباطيا وإنما يتوجه بشكل قصدي مباشر إلى شريحة واسعة من السُّيّاح وهي شريحة المسنين وخاصة منهم المسنات. فهذه التسميات المبشرة بالقدرة على مغالبة الشيخوخة والتنعم المديد بالشباب تستجيب لانتظارات عدد ثقيل من السائحات المسنات، فتُرجّع كيانهن الآفل في التسمية نفسها، وتَعِد باستعادة روق الشباب وعنفوانه وميعته (Fleur de la jeunesse).

ص: 411


1- علي شعيب: الاستشراق وكتابة التاريخ، الفكر العربي المعاصر، عدد 70-71، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1989، ص 59.
2- عادل الوشّاني: السياحة الدولية في البلاد العربية: حوار بين الثقافات أم مدخل آخر للهيمنة الغربية على البلاد العربية. مؤلَّف جماعي بعنوان الممارسة الثقافية في مجتمع المعلومات والاتصال، منشورات المركز الوطني للاتصال الثقافي، تونس، 2005، ص 101-107.

إنّ فنّيّي الإشهار السياحي، بما هم خبراء في الأحلام والشوارد الرغبية، (1) يدركون جيدا احتیاجات جمهورهم وانتظاراته، حتى الساكن منها في اللاشعور، فيعملون على تحقيق هذه الانتظارات والرغبات والنزوات والشوارد الرغبية في كل العملية الإشهارية، مما يَعِد بإمكانية تحقّقها بالفعل.

إنّ تسمية النزل بأسماء الآلهة والملوك تعد بديناميكية واسعة للفعل، كما تحيل إلى عنفوان الشباب وجيشانه وكل قيم الاحتكاك والحرارة والرفاهة العاطفية والحب المفرط والجنس العميق والإنفاق السخيّ... وهي قيم هجرت الميدان الاجتماعي الغربي الذي شهد حالة من التفتيت الذري والانفجار النووي الذي مسّ قلب حياته الاجتماعية (2) ... وإنّ أمكنةً أخرى وأقواسًا زمنية نوعية أخرى مهيأة لتحقيق هذه الانتظارات وإشباع هذه الاحتياجات التي لم يعُد ممكنا حتى مجرّد انتظارها في الحياة الاجتماعية العادية، دعك من الاستجابة لها وإشباعها. إنّ هذه الأمكنة الأخرى هي النزل مقر الآلهة المتحررة من إكراهات المكان، وإنّ الزمن الآخر هو الزمن السياحي الأسطوري المتحرر من إكراهات الزمان ... وإنّك، كسائح مقيم في هذه البنية المكانية والزمانية، متعالٍ كالآلهة ومتحرِّرٌ من إكراهات الإنسان.

إن المسنات، في المجتمعات الغربية، بما تمارسه هذه المجتمعات من عبادة الشباب ضمن ما يسميه رولان بارط بالعنصرية الشابة، ينزلقن ببطء خارج الميدان الرمزي، وتتقلص علاقاتهن الاجتماعية العاطفية، وتتنازل يوما بعد يوم قيمتهن الاجتماعية. إنهن يعشن حالة من التناقض الحاد والتدميري بين صورة الذات لديهن

ص: 412


1- إنّ الاشهار يشتغل على الرغبات المكبوتة وعلى التعويض كما يشتغل على صناعة الأحلام والاستجابة لها. اُنظر: .Fabienne Baider, Marcel Burger et Dionysis Goutsos (dir), La communication touristique, Approches discursives de l’identité et de l’altérité, L’Harmattan, Paris, 2004
2- دافيد لو بروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1993، ص 156.

وبين صورتهن عند الآخرين، وهو ما يزعزع كيانهن. فهن بالنسبة إلى أنفسهن ذوات لها رغباتها وآمالها وطموحاتها أي لها مستقبلها، أما بالنسبة إلى الآخرين فهن ذوات بدون آفاق، تالفة وعديمة الفائدة، وليس لها سوى ماضيها. هذا التناقض الحاد بين الصورتين عبرت عنه «سيمون دي بوفوار» (Simone DE BEAUVOIR) بعمق منجرح بقولها «أنا أصبحت شخصا آخرَ في حين أنّي ما زلت أنا نفسي» (1).

في هذا الواقع الكارب والملغي والمهمِّش للمسنات، تفتح آلة الإشهار السياحي لهنّ إمكانية واقعية لتحقيق التماسك الذّاتي وسط التدمير، وذلك بأن تُروِّج معانيَ إشهارية تفيد أنّ هناك مجتمعات استقبال سياحي، ومنها المجتمعات العربية، تُنزلهن منزلة الملوك وذلك على قاعدة «الزبون هو الملك» (Customer is king-Le cli-ent est roi) الذي هو دائما على حق، وتنزع عنهن صورتهنّ الموضوعية كمسنات وتصبغ عليهن صورة جديدة كسائحات. وصورة السائح النمطية الغالبة في هذه الدول هي ذلك «البنك المتحرك» الذي ينفق ما فيه على ملذاته ومتعه الحسية، من هنا جاء الاتجاه القنصي للسياح (2)، حيث يسعى عدد واسع من الشباب في هذه الدول للحصول على أكبر عائد مالي من أيّ مواجهة مع السياح وذلك بأن يقول لهم ما يريدون سماعه، وأنْ يحقق لهم بالكلمة كما بالفعل انتظاراتهم حتى الساكن منها في اللاشعور، ويستجيب لرغباتهم حتى التي بفعل تجاوزية الزمن أو محدوديّة الخَلْق أو تحديدية المجتمع ما عاد بإمكانهم تحقيقها.

إنّ هذه المعاني الإشهارية تَعِد السائحات المسنات وتبشّرهنّ بوجود شبابي كامل، كالآلهة، فتضمر ما تضمره، وتلمح ما تلمحه من اتصاليات اجتماعية عاطفية

ص: 413


1- .Simone de Beauvoir, La vieillesse, Gallimard, Paris, 1970, P 130-
2- .W.A. Sutton: Travel and understanding :Notes on the social structure of touring. INTJ. Comp. Social, 8(2), 1967, p23- ورد في: أبو بكر أحمد باقادر: سوسيولوجيا السياحة، الفكر العربي، العدد التاسع والثمانون، معهد الإنماء العربي، بیروت، 1997، ص 140.

رومانسية ممكنة ... يمكن أنْ تتحقق في أطر مغايرة يتخلص فيها الإنسان من هويته الموضوعية ليتحصل على هوية خصوصية وهي الهوية السياحية وممكناتها المتعالية إلى مستوى الآلهة والتي تفصله عن الإنساني وكل القيود والحدود والإكراهات.

إنّ هذه المعاني تعيد بناء صورة الذات عند السائحات المسنات بما تؤكّد عليه من حضور متجاوز للحدود إلى إمكانية القيام بعمل رغائبي غرائزي على الجسد يعيد له الرونق واليفاعة في زمن ذبوله ويبسه وذهاب نضارته...

نتحدث عن المسنات وليس عن المسنين لأننا لا نهمل الملاحظة السوسيولوجية التي يمكن تعميمها على أغلب المجتمعات وهي أنّ المرأة المسنة تفقد اجتماعياً الإغراء الذي كانت تدين به أساساً إلى نضارتها وحيويتها وشبابها، أما الرجل فيمكن أن يربح مع الزمن قوة إغراء متنامية لأن الثقافات السائدة ترفع لديه من قيمة الطاقة والتجربة والنضج، كما أن القِيَم السائدة تتحدث عن «إغراء الأصداغ الرمادية» وعن «الشيخ الجميل». أما المرأة فتُعمَّدُ كما تقول سيمون دي بوفوار باسم «الجلد الهرم».

إنّ الشيخوخة تدمغ بشكل غير متساوٍ في الحكم الاجتماعي المرأة والرجل (1) .

إننا هنا في سياق الطموح الحداثي حيث لا يجب الانهيار والاستسلام للجسد وتجاوز صرخة سيمون دي بوفوار في روايتها (2) «المرأة المجربة»(La femme rom-pue) : «لقد استسلمت لجسدي» واعتناق المقولة الشهيرة الشائعة: «افعل ذلك» (Do it). ومضمون هذا الطموح أنه لكي تقضّي شيخوخة آمنة من كل تهديد، ولكي تطيل حياتك للحدّ الأقصى بأن تعثر ثانية على عمق حياتك وتستعيد تذوقك لوجودك... تناول هذه الفيتامينات وتلك الأملاح المعدنية وتلك الحبوب وهذه الأنواع من الأغذية وتلك الماكس إيبي (Max Epi) التي تحمي من الحوادث القلبية

ص: 414


1- دافيد لوبروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة ... مصدر مذكور سابقا، ص 147.
2- .De Beauvoir, Simone: La femme rompue, Edité par Gallimard ,1973-

وهذه البيتاكاروتين التي تؤخر شيخوخة الخلايا (1)، ومارِس تلك الرياضة وتنفَّس بتلك الطريقة وافتحْ قوسين على حياة الآلهة تنفتحْ لك فيها كل الممكنات وتمارس فيها كل ما تشاء بدون تحفظ اجتماعي ولا أحكام معيارية قيمية ولا سلطة زمن ولا تذويةٌ للجسد... هذان القوسان هما رحلة سياحية حيث البيئة فردوسية استجابية إشباعية ... لِنُشِر هنا إلى أنّ أحد النزل في جزيرة جربة يُسمَّى جربة الفردوس (Jerba Paradise).

هذا الإغراء بانفتاح كل الممكنات ليس مجازا، ذلك أن علاقات منكحية حقيقية تتكوّن بين الشباب المرتاد للنزل والعاملين فيها وعلى هامشها وبين السائحات المسنات الباحثات عن التعويض.

إنّ هؤلاء الشباب يَنشدون، من وراء كل اتصالية ممكنة ومتاحة مع السائحات، وخاصة المسنات، الحصول على الجنس والمال والعطايا وحتى الزواج المختلط المُخوِّل للهجرة إلى أوروبا، أيْ يبحثون عن حلول فردية لمغالبة الكبت الجنسي والتهميش الاقتصادي. أما تلك المسنات فإنهن ينشدن الحب والجنس عند آخرَ سهلٍ ومطواع يغالبن به الإقصاء الاجتماعي والعاطفي.

ويتحقق التبادل ولكنه تبادل غير متكافئ، فما يجنيه هؤلاء الشباب هو عينه ما تخسره تلك السائحات المسنات والعكس صحيح. غیر أنه شتّان بين هذا الكسب وذاك وبين هذه الخسارة وتلك.

فجنسانية هؤلاء الشباب هي حب بدون حب، إذ لا يعايشون أثناءها ذواتهم

ص: 415


1- .Daniel Cohn- Bendit: Nous l’avons tant aimée la Révolution .Barrault ED, 1986- ورد في: دافيد لو بروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة ... مصدر مذكور سابقا، ص 158.

كفاعلين إيجابيين وكمفعلين أحرار لطاقاتهم الحيوية، فهم مغتربون عن هذه الطاقات لأن هدفهم هو بيعها بأغلى ثمن ممكن، ومن ثمة فإنّ إحساسهم بذواتهم أثناء هذه الجنسانية لا ينبع من نشاطهم كعشاق وكمتلذّذين وإنما ينبع من فعلهم التّربّحي.

لقد أصبحت أجسادهم وحيوياتهم رأس مال يجب عليهم استثماره بنجاح من أجل أن يحققوا كسباً مادياً، وهذا ما ينحدر بهم إلى مستوى الشيء البضاعة، ويغربهم عن طبيعتهم الإنسانية، ومقابل هذا الاغتراب يكسبون من هذه الجنسانية الزائفة المال وحتى الثراء... أما السائحات المسنات فإنّ الجنس بالنسبة إليهن ليس حالة عاطفية انفعالية منشودة لذاتها، وإنما هو فاعلية حماية ضد النسيان والإقصاء وما یولده في نفوسهن من قلق اضطهادي كارب، فهو يتيح لهن امكانية تفعيل الشعور وإحياء الحس وإنعاش الجسد بعيداً عن مجتمع يلغي الشيوخ لحساب عنصرية شابة، ومقابل ذلك ينفقن أموالهن.

فهل بحساب الربح والخسارة يستوي من ينفق ماله لشراء حيوية الآخر وشبابه مع من يبيعهما؟ بمعنى هل يستوي من يلغي ذاته في زمن انطلاقها نحو الإثبات مع من يثبت ذاته في زمن انطلاقها نحو الإلغاء؟

لا يستويان ... غير أنّه التبادل اللامتكافئ ضمن المنطق الخضوعي الاستتباعي للسياحة الغربية في البلدان العربية.

4) الدلالة الثالثة: العيش الرغيد بدون عمل وبدون شقاء.

إنّ الآلهة تعيش بدون شقاء حيث أعفتها الطبيعة الكريمة من العمل

(.l’Âge d’Or… les hommes vivent sans souffrir… où la nature généreuse les dispense du travail)

ص: 416

هذه البيت الشعري (Hésiode) لهيزيود (1)، والذي يعكس الوعي الأسطوري الإغريقي، يحيل إلى نمط عيش الآلهة، والحقيقة أنّه حتى على المستوى الزمني التاريخي فإن الأرستقراطية تمثلنت بالآلهة فهي لم تعمل إلا العمل الفكري الناعم واستمتعت بالراحة على قاعدة أفلاطون الشهيرة: «لا يدخُلَنَّ علينا من لم يكن مهندساً».

أما الطبقة البورجوازية فقد كانت مسكونة «بعقدة الأرستقراطية» وبهاجس اكتساب الوجاهة التي كانت تحظى بها هذه الطبقة، ولقد توخت، کمدخل لاكتساب هذه الوجاهة الإمعان في الاستمتاع بالراحة والترفيه (2) .

بالنسبة للطبقات الشعبية المستهدفة بهذه التسميات الإشهارية للنزل، فإن أسماء الآلهة تعكس، فيما تعكس، ممارسات الآلهة البذخية اللعبية التنعمية الاستمتاعية الترفّهية الرغيدة التي يمكن أن يمارسها العامل الغربي أثناء العطلة السياحية، كما تعكس مجمل أجواء السيادة والنفوذ والحظوة والقدرة الاستملاكية التي يمكن أن ينغمر بها ... وهي بطبيعة الحال ليست ممارسات هذا العامل في حياته اليومية الموصومة بالكدح والكفاف، ولا هي أجواء معيشه اليومي الموصوم بالخضوع الاقتصادي لأرباب العمل.

إنّ هذه الممارسات التي تعكس الحظوة والجاه ، وهذه الأجواء التي تعكس السيادة والنفوذ، تندرج ضمن إطار ما نسميه بالتماهي الطبقي، أي أنْ يتمثلن العامل بالمنمطات السلوكية للطبقة البورجوازية فيستهلك علاماتها ورموزها التي هي لیست علاماته ولا رموزه، ويعيش نمط عيشها الذي هو ليس نمط عيشه. إنه نوع من الانفصال الظرفي والمصطنع عن الطبقة الأصلية والارتباط الظرفي والمصطنع

ص: 417


1- .Hésiode: Les Travaux et les Jours. Éditions Mille et Une Nuits ,1re éd. 2006-
2- حول هذه الأطروحة اُنظر: T. Veblen: Théorie de la classe de loisir. Paris Gallimard 1970.

أيضا بالطبقة العلوية، ومن ثمّة التنعّم الإيهامي للذّات بوجاهتها الاجتماعية (Prestige social) وبقدرتها الإستملاكية... إنّه نوع من التحايل على الواقع الضّنِك بواقع متخيّل رغيد. وهذا عينه فعل الأسطورة.

إنّ هذا التماهي الطبقي يعكس حالة من توكيد الذات وتعزيزها إلا أنه ليس صلباً لأنه توازن وهمي يفنّده الواقع الصريح والفصيح... إنه نوع من التعويض الظرفي لواقع الدونية والتغطية المؤقتة عن العجز ... نحن هنا بإزاء واقع زائف يحرر الرغبة و يسمح بانطلاقها، وهذا هو الفعل النفسي للأسطورة، حيث يعمل هذا الفعل على احتواء المكبوت وتفريغه من محتواه الثوري وحتى النقدي ويطرح إمكانية الاستجابة له وإشباعه الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة ومنها السياحة (1) ... فتصبح العطلة السياحية بهذا المعنى، في نزل بأسماء الآلهة، آلية ذات نتائج نفسية هامة للتكييف مع الواقع ولخفض التوتر وتقليص الغبن وخفض الوعي بالانجراح في مجتمع لا يعبأ إلا بأصحاب القوة والمكانة (2) .

لقد كتب هانس إنتزنسبيرغر (Hans ENZENSBERGER) في هذا الصدد أن الطبقة العمالية المستغلة كان مطلبها الأساسي هو الثورة على الاستغلال ونيل الحرية ... غير أن الرأسمالية حرفت هذه المطالب وميّعتها، فكانت السياحة بمثابة الحل السيئ للمطلب الجيد حيث تمّ التغيير الظرفي لظروف العيش بالانتقال الظرفي إلى مجتمع آخر، وذلك عوضاً عن التغيير البنيوي لظروف العيش بالتغيير البنيوي لمجتمع الأصل (3) .

ص: 418


1- يذهب هاربرت ماركوز إلى أن صناعات اللذة في المجتمع الصناعي تقوم بترشيد أحلام الإنسان الجنسية واستيعابها داخل إطار النظام القائم، فهي تطلق الرغبة الجنسية من عقالها ولكنها تُفرِّغ مبدأ اللذة من محتواه الثوري وتحتويه تماماً، إذ تطرح إمكانية الإشباع الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة مثل السياحة والنوادي الليلية وأحلام الإباحية. أي أن كل شيء يتم تدجينه، وضمن ذلك الرغبة الجنسية نفسها. اُنظر: هاربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب بيروت، الطبعة الثالثة، 1988.
2- علي زيعور: اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظی في الذات العربية، دار الطليعة. بیروت،1991، ص 48.
3- .H. M. Enzensberger, Une théorie du tourisme, in Culture ou mise en condition?, Paris, Julliard, 1965, p. 161- 162-

إنّ الرأسمالية حولت الحرية إلى صورة منشودة في أقاصي الوعي أيْ في الحلم، وفي أقاصي المكان أيْ في مجتمعات الاستقبال السياحي، ومنها المجتمعات العربية، التي تمّ خفض كل مقوماتها إلى مجرد بيئة للتصعيد والتنفيس: في أقاصي تاريخها أيْ في معالمها التاريخية وفي آثارها، وفي أقاصي ثقافتها أي في فنونها ومختلف تعبيراتها الشعبية ... لقد خُفَّضت هذه المجتمعات إلى محض بيئة مناسبة للتداعي الحر لحريات السائح وفسح المجال الكامل لها وحتى تعديل القيم والمفاهيم المحلية وتغييرها لتتجاوب معها وتتناغم مع انتظاراتها وتستجيب لمتطلباتها، من هنا نتحدث عن تسييح مجتمعات الاستقبال، أي تغريبها عن مقوماتها، وإخضاع مختلف هذه المقومات الثقافية والقيمية والاجتماعية لحريات السياح وانتظاراتهم المطلقة، وعوض أن يبحث هذا السائح كإنسان مقهور ومستغَل ومستلَب عن حريته الجماعية في الثورة كفعل جماعي، يبحث عنها في السياحة وفي الحلم وفي الوهم كفعل فردي، فيعيش الحرية ،ظرفيّاً، واهما في بلد السياحة ما كان يجب أن يعيشه، بنيويا، حقيقة في بلده الأصل...

5) الدلالة الرابعة: نفي الموت والاستمتاع بالخلود.

إن الآلهة لا تموت، إنها خالدة وهي تعيش في رفاه، هذا هو الفهم الحاصل في الوعي الأسطوري العام للثقافة الغربية. وحينما نستعمل أسماء هذه الآلهة بكثافة في تسمية النزل فإننا بذلك نكثف صور الوجود والحياة ونُبعِد أفكار الموت والعدم.

إنّ هذه التسميات موجهة إلى مستهلك ينتمي إلى ثقافة غربية مادية ترفض فكرة الموت لما يثيره من رهبة ورعب وتعمل على إخضاعه وكبت فكرته وإقصائه من الحضور في التفكير ... وذلك بتكثيف صور الحياة وإمكانيات العيش (1) .

ص: 419


1- برهان غليون: مجتمع النخبة. دار البراق للنشر، الطبعة الثانية، 1989. ص 88.

كما تَعِد هذه الأسماء بالرفاه الزائد والقوة الخارقة والنشاط الجامح... وهي جميعها ممارسات هدفها الاستمتاع الأقصى بالحياة والتنعّم الأفضل بها وإشباع الحاجات المادية الغرائزية إلى ما لانهاية ... كما تدعو إلى الاستسلام الكامل للذّات المادية والإنصات الإشباعي الدّقيق لشهواتها ورغباتها وتهويماتها وشواردها وذلك بغرض نفي الموت وتعميق الشعور بالحياة والكينونة (1) وإعادة إنتاج الأمن الوجودي وتبديد القلق العائم المرتبط بعدم الثبات والنقصان ...

إنّ الرسالة التي ترسلها هذه الأسماء هو أنّ هذه الحياة ليست مشفوعة بالضرورة بوجود آخر بعدها، وإنما هي الرحلة الوجودية الكاملة في مبتداها ومنتهاها، وأن الجنة، بما تعنيه من نعيم مطلق، هي ههنا في القصور الفارهة المترفة، مقر عيش هذه الآلهة، وفي نمط وجودها القائم على البذخ والمتعة والرفاه والراحة وعدم التعب، بعيدا عن لعنة الكدح والشقاء في تحصيل العيش والمقولة الدينية المؤنِّبة: (2) «ستحصل على خبزك بعرق جبينك» (sueur de ton front la à pain ton gagneras tu).

إن الجنة، مقر خلود الآلهة، هي عينها هذه النزل وهي في متناول من ينزل بها.

وإن الآلهة مطلقة الحرية، وهي غير محكومة بالمحظورات والمحرمات، ويلتقي ذلك مع وعي الإنسان الحديث الذي يبحث باستمرار عن التحقق المادي الدائم وعن الإشباع وعن اللذة الكاملة.

إن هذه المعاني والدلالات الثقافية المتصلة بالمسألة الروحية، لا شكّ أنها تخدم البعد الاستهلاكي السياحي كونها تتنزّل في سياق إشهاري. ولكنّ هذا السياق الإشهاري نفسه يتنزّل هو الآخر في سياق أوسع وهو السياق الثقافي لدول الاستقبال. وهنا ينفتح باب آخرُ للتحليل:

ص: 420


1- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
2- .Calvin, Institution de la religion chrétienne. Cit in Pierre Bouvier, Le travail, PUF, Paris, 1991, p 16-

إنّ المجتمعات العربية السياحية التي تُرَوَّج فيها مثل هذه التصورات ذات المعاني والرسائل الثقافية المادية الزمنية هي مجتمعات ذات ثقافة روحية دينية تنظر إلى مسائل الحياة والموت والوجود والعدم نظرة مغايرة تماما. فالحياة في هذه الثقافة ليست هي رحلة الوجود برمتها وإنما هي مجرّد فاصل وجودي قصير، إنها مبتدى الرحلة فحسبُ تليها مرحلة الوجود البرزخي الذي هو الموت، تليه مرحلة الوجود الأخروي، أيْ أنّ العدم في هذه الثقافة غير موجود.

إنّ معاني هذه التصورات الإشهارية ودلالاتها تؤسّس قاعدة لعدم الاعتراف بالاختلاف الثقافي. فالقيم الروحية الدينية للمجتمعات العربية تُغيَّب لصالح القيم المادية الزمنية للمجتمعات الغربية الرأسمالية. والثقافة الروحية تُمحى لصالح الثقافة المادية وفي ذلك تخطٍّ لمفاهيم الاختلاف الثقافي والخصوصيات الحضارية والحق في الاختلاف الاعتراف بالغيريّة... (1)

خاتمة

هذه الومضات الأربع تجيب عن الاستفهام الذي طرحه عالم الأنثروبولوجيا والاجتماع دين ماكنيل من أنه يجب علينا أن نفهم ما يميز إنسان الحداثة لنستطيع تحديد دوافعه لممارسة السياحة.

إنّ الإنسان الحديث يعاني من الاغتراب والتشتت والسطحية، وبالتالي فإنّ السياحة تمثل بالنسبة له ظرفا مصطنعا يخفض فيه التوتر ويمارس فيه المتعة الخالصة ويعيد فيه إنتاج المعنى ويفتح فيه إمكانيات جديدة للفعل في كل ممكناته النزوية والرغائبية والغرائبية والرغبوية وحتى الشذوذية ...

ص: 421


1- عادل الوشّاني: أساسات علمية للظاهرة السياحية، مصدر مذكور سابقا، ص 61-62.

إن السياحة هنا تنتزع الإنسان من إخفاقات الحداثة وفشلها لتكون بمثابة عودة إلى الخلف، إلى المجتمعات البدائية البسيطة التي لا تزال تعيش على حالتها الطبيعية والتي يمكن فيها ممارسة المتعة الخالصة في بعدها الأكثر حرية.

إنّ الغرب سيمارس هذه الحرية الاستمتاعية السائبة في المجتمعات النامية ومنها المجتمعات العربية التي انخفضت قيمتها إلى مستوى المادة الاجتماعية البدائية المستقبلة للسياح الغربيين بخضوع يساعدهم على التحلل الحر من الإكراهات وتصعيد الأزمات وتعويض الإخفاقات وتصريف الشذوذ والنزوات...

ص: 422

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمْ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغلٍ بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

٭٭٭

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المَرْكَزِ الاِسلامي لِلْدِراساتِ الاِسْتِرالتیجية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 423

المجلد 4

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الرابع

نحن وأزمنة الاستعمار

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018 م

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر - الطبعة الأولى- بيروت [لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439 ه_ - 2018.

4 مجلد : ايضاحيات ؛ 24 سم

يتضمن ارجاعات ببليوجر.

ISBN: 978-9922-604-11-4

1. ما بعد الاستعمارية 2. الاستعمار 3. الامبريالية .4. العراق الاستعمار الف. حيدر محمود، محرر ومقدم ب العنوان.

JV51.N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز : لماذا هذه السلسلة؟ ...6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر ...9

الفصل السادس: ما بعد الاستعمار

نظرية ما بعد الاستعمار

جميل حمداوي ...20

تعريف حقبة ما بعد الاستعمار

صامويل هلفونت ...41

فلسفة ما بعد الاستعمار

حازم محفوظ ...53

طبائع الإمبريالية

اغلالو ياسين ...100

الاستغراب القسري

نجلاء مكاوي ...111

ثنائية الوعي بالآخر في ضوء نظرية ما بعد الاستعمار

غيضان السيد علي ...137

ص: 4

الإنتلجنسيا القلقة

محمد عبد الله ...160

ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة

أحمد عبد الحليم عطية ...175

بين مركزيّة الأنا الغربية وميلاد الأصوليات

نصر الدين بن سراي ...193

نقد الكولونيالية والكولونيالية الحديثة

مجدي عزالدين حسن ...212

في نقد أطروحة التمركز الغربي

سعيد السلماني ...232

التمهيد ل- «ما بعد الاستعمار»

محمد نعمة فقيه ...247

«الثقافة والإمبريالية» لإدوارد سعيد

محمد بن عمارة...295

تهافت ما بعد الاستعمارية

بهاء درويش ...303

ما بعد الكولونيالية

میلود عامر حاج ...320

ص: 5

مقدمة المركز

مقدمة المركز لماذا هذه السلسلة؟

لماذا هذه السلسة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن، مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولىّ وانقضى.. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة .. ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس. صحیح أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت لكن هذا الانتداب يعود ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

***

ص: 6

فی مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماضٍ يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّة مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعةٍ معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم

أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلّب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرقيّ والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب، وتنمية وعيه الثقافي ولا سيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما ندمّ الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط.

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر - 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه_ .

ص: 8

مدخل تأسيسي

نقد مباني العقل الإمبريالي

محمود حیدر(1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميَّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضاداًّ للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةث تمكّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَين متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة

ال «الما بعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءِ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «الما بعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه الما بعديات ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، أو «نهاية التاريخ»، «ما ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الإيديولوجيا» .. وأخيراً وليس آخراً ما «بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمةِ تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثِ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياقٍ تنظيريٍّ بدأت مقدماته مع نقد مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصر التنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُّبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

***

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضِية : إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [«الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما :

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبّر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

أما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعٍ آخرَ من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو- إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً، تحليلا من

ص: 11

نوعٍ جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضية «المابعدية» لا مبرر لها.

***

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطر عليها. من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري.

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً : نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة- "اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها" وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعي. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المُهَيْمَنُ عليه غافلاً عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ «المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال».. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهطٌ من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بيّنةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً ،تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية : لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطِّرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً المزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتٍ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أميَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنيّ:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدٍ لحل مشكلات العالم، تتجرد الذات الإنسانية من كلِّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر «عقلانياً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة الحروب العادلة التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم الى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقَّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه . المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَين، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقيّاً وروحيّاً)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائق واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً : إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسببٍ من عقلانيتها البتراء حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييبٍ لأحكام العقل وقوانينه، كأنمَّا انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

***

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوَّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنه-ا البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوىّ متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هی التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازمِه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقَّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فضّةٍ تسوِّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنَّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من «الميديا البصرية والسمعية»- أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء.

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدَّ«الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات

ثَبُتَ بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا

التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيّةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

***

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل السادس:ما بعد الاستعمار

اشارة

ص: 19

نظرية مابعد الاستعمار

مساهمة في التأسيس لعلم الاستغراب

جميل حمداوي(1)

تعد نظرية «ما بعد الاستعمار»، أو النظرية ما بعد الكولونيالية (Colonial Discourses and Post - Colonial Théorie)، من أهم النظريات الأدبية والنقدية ذات الطابع الثقافي والسياسي لكونها تربط الخطاب بالمشاكل السياسية الحقيقية في العالم. ومن ثم تستعرض ثنائية الشرق والغرب في إطار صراعٍ عسكريٍّ وحضاريٍّ وقيميٍّ وثقافيٍّ وعلميٍّ. كما تعمل هذه النظرية الأدبية النقدية على استكشاف مواطن الاختلاف بين الشرق والغرب، وتحديد أنماط التفكير والنظر إلى الشرق والغرب من قبل كتّاب ومبدعي مرحلة ما بعد البنيوية، ومثقفي ما بعد فترة الاحتلال الغربي الذين ينتمون - غالبا - إلى الشعوب المستعمَرة، وأخص بالذكر شعوب أفريقيا وآسيا.

ويعني هذا أن نظرية ما بعد الاستعمار تطرح مجموعة من القضايا الشائكة للدرس والمعالجة والتفكيك ،والتقويض كجدلية الأنا ،والغير وثنائية الشرق والغرب، وتجليات الخطاب الاستعماري، ودور الاستشراق في تزكية المركزية الغربية قوة ،وتفوقاً، والإشارة إلى الصراع الفكري والثقافي المضاد للتمركز العقلي الغربي

ص: 20


1- باحث وأكاديمي من المغرب.

لغة، وكتابة ومقصدية وقضية. إذاً، ما نظرية «ما بعد الاستعمار»؟ وما مفهوم هذه النظرية؟ وما أهم مرتكزاتها القضوية والفنية والنقدية والمنهجية؟ ومن هم أهم روادها الفعليين؟ وما قيمة هذه النظرية تصوراً وتطبيقاً؟ وما علاقتها بعلم الاستغراب؟ هذا ما سنوضِّحه في هذه المباحث التالية:

المبحث الأول : مفهوم نظرية «ما بعد الاستعمار»

تعد نظرية «ما بعد الاستعمار» من أهم النظريات الأدبية والنقدية التي رافقت مرحلة «ما بعد الحداثة»، ولا سيما أن هذه النظرية قد ظهرت بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلمية ومن ثم أصبح الغرب هو المركز. وفي المقابل، تشكّل الدول المستعمرة المحيط التابع على حدِّ تعبير الاقتصادي المصري سمير أمين. ويعني هذا أن نظرية «ما بعد الاستعمار» تعمل على فضح الإيديولوجيبات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التقويض التي تسلَّح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (J.Derrida)، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها المتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر اهتمام ذي صلة في فكر «ما بعد الاستعمار» هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. ويتضح من منظور عالم «ما بعد الاستعمار» أن أعمال الفكر الكبرى في غرب أوروبا والثقافة الأميركية قد هيمنت على الفلسفة والنظرية النقدية، وكذلك على أعمال الأدب في جزءٍ واسعٍ من أنحاء العالم، ولا سيما تلك المناطق التي كانت سابقا تحت الحكم الاستعماري إن مفهوم دريدا عن الميثولوجيا البيضاء، الذي حاول أن يفرض نفسه على العالم بأسره، قد قدَّم الدعم لهجوم «مابعد الاستعمار» على هيمنة الإيديولوجيات الغربية. وإن رفض «مابعد الحداثة» للسرديات الكبرى وأنماط الفكر الغربي التي أصبحت عالمية، كان أيضا مؤثراً جداً»(1).

ص: 21


1- - ديفيد كارتر، النظرية الأدبية، ترجمة وتحقيق باسل المسالمة، الكويت للطباعة والنشر والتوزيع، 2010، ص: 125.

وتسمَّى هذه النظرية كذلك بالخطاب الاستعماري، وقد ظهرت هذه النظرية حديثاً مرافقةً لنظرية «ما بعد الحداثة)، وبالضبط في سنوات السبعين إلى غاية سنوات التسعين من القرن العشرين وقد أعطيت لنظرية ما بعد الاستعمار تعريفات عدة، ومن أهم تعاريفها أن مصطلح «ما بعد استعماري» يستخدم ليغطي «كل الثقافات التي تأثرت بالعملية الإمبريالية من لحظة الاستعمار حتى يومنا الحالي؛ ذلك أن هناك خطاً متصلاً من الاهتمامات على مدار العملية التاريخية التي بدأها العدوان الإمبريالي... ونحن نشير كذلك إلى ملاءمة المصطلح للنقد الجديد العابر للثقافات الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطاب الذي تكوّن من خلاله ذلك النقد. وبهذا المعنى، فإن كتابنا هذا - كما يقول بعض القائلين بنظرية «ما بعد الاستعمار» - يهتم بالعالم كما كان خلال فترة الهيمنة الإمبريالية الأوروبية ،وبعدها، وتأثير ذلك على الآداب المعاصرة... وعلى هذا النحو، تكون آداب البلاد الأفريقية، واستراليا وبنجلاديش وكندا وبلاد البحر الكاريبي والهند ... كلها آداب «ما بعد الاستعمار» .. وما يجمع بين هذه الآداب - بعد سماتها الإقليمية الخاصة - أنها ظهرت بشكلها الحالي في أعقاب تجربة الاستعمار، وأكّدت نفسها من خلال إبراز التوتر مع القوة الإمبريالية، وبالتركيز على ما يميِّزها عن فرضيات المركز الإمبريالي. وهذا هو ما يجعلها آدابًا ما بعد استعمارية»(1).

وبناءً على ماسبق ، فنظرية «ما بعد الاستعمار» هي التي تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصدياً، يحمل في طياته توجهاتٍ استعماريةٍ إزاء الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية. كما يوحي المصطلح بوجود استعمارٍ جديدٍ يخالف الاستعمار القديم. لذا، يتطلب هذا الاستعمار التعامل معه من معه من خلال رؤيةٍ جديدةٍ، تكون رؤيةً موضوعيةً وعلميةً مضادة. ويعرَّف سعد البازعي مصطلحي الخطاب الاستعماري والنظرية «ما بعد الاستعمار» قائلاً :«يشير هذان المصطلحان اللذان يكملان بعضهما بعضاً إلى حقلٍ من التحليل ليس جديداً بحدِّ ذاته، ولكن

ص: 22


1- Ashcroft, Bill, Gareth Griffiths, and Helen Tiffin: The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures, Routledge, London and New York, 1989, p: 2.

معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح في الغرب إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله. يشير المصطلح الأول إلى تحليل مابلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبِّر عن توجهاتٍ استعماريةٍ إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب على أساس أن ذلك الإنتاج يشكِّل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله فوكو لمصطلح خطاب. أما المصطلح الثاني، «النظرية مابعد الاستعمارية»، فيشير إلى نوع آخر من التحليل ينطلق من فرضيةِ أنَّ الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة الإمبريالية أو الكولونيالية - كما عرَّبها بعضهم - قد حلت وخلقت ظروفاً مختلفةً تستدعي تحليلاً من نوعٍ معيِّنٍ . ولذا، فإن المصطلحين ينطلقان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ فيما يتصل بقراءة التاريخ، وإن كان ذلك اختلافا في التفاصيل لا في الجوهر، فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي. وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به، وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار ، يرى بعضهم الآخر أن الخطاب الاستعماري مايزال قائماً وأن فرضية «المابعدية» لا مبرر لها»(1).

ولقد طرحت نظرية «ما بعد الاستعمار» مجموعة من الإشكالات الجوهرية التي تتعلق بالاستغراب من جهة، وتتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمِر بالشعوب المستعمَرة الضعيفة من جهة أخرى. ومن بين هذه الأسئلة والإشكالات الافتراضات التالية:«كيف أثَّرت تجربة الاستعمار في هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحيةٍ، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحيةٍ أخرى؟ كيف تمكَّنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي ؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات «ما بعد الاستعمار»؟ وكيف أثَّرت النزعة الاستعمارية؟ كيف أثَّر التعليم الاستعماري واللغة المستعمِرة على ثقافة المستعمَرات وهويّتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة ؟ وما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل

ص: 23


1- سعد البازعي وميجان الرويلي دليل الناقد العربي المركز الثقافي العربي، ص: 91-92 .

المستعمِر ؟ إلى أي مدى كان التشكّل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا ؟ هل تُركّز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمار على فكرة التهجين أكثر مما تركز على الوقائع الفعلية ؟ هل ينبغي استمرار معاداة الاستعمار عبر العودة الجادة إلى الماضي السابق على فترة الاستعمار ؟ كيف تلعب مسائل الجنس والنوع والطبقة دورًا في الخطاب الاستعماري وما بعد الاستعماري ؟ هل حَلَّت أشكال جديدة من الإمبريالية محل الاستعمار ؟ وكيف ؟»(1)

وعليه، تعد «نظرية ما بعد الاستعمار» في الحقيقة قراءةً للفكر الغربي في تعامله مع الشرق من خلال مقاربةٍ نقديةٍ بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. وبتعبير آخر تحلل هذه النظرية الخطاب الاستعماري في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية بالتفكيك والتركيب والتقويض بغيةً استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي.

المبحث الثاني: مرتكزات نظرية «ما بعد الاستعمار»

تنبني نظرية «ما بعد الاستعمار» في مجال الحقل الثقافي بصفة عامة، وحقل النقد الأدبي بصفة خاصة، على مجموعة من المرتكزات الفكرية والمنهجية، ويمكن حصرها في المكونات والعناصر التالية:

المطلب الأول : فهم ثنائية الشرق والغرب

تحاول نظرية مابعد الاستعمار فهم الشرق والغرب فهماً حقيقياً، برصد العلاقات التفاعلية التي توجد بينهما سواء أكانت تلك العلاقات إيجابية مبنية على التسامح والتفاهم والتعايش أم مبنية على العدوان والصراع الجدلي والصدام الحضاري. كما يذهب إلى ذلك صموئيل هنتنغتون في كتابه (صراع الحضارات). ويتمظهر الشرق،

ص: 24


1- وردت هذه الأسئلة في هذا الكتاب: وذلك على موقع بعنوان . 1996 Deepika Bahri: Introduction to Postcolonial Studies, Fall www.emory.edu/English/faculty/bahri.htm

بشكل جلي، في نصوص وخطابات الاستشراق ومن ثم يتحوَّل هذا الاستشراق من خطاب معرفيٍّ موضوعيٍّ إلى خطاب سياسيٍّ كولونياليٍّ ذاتي ومصلحي. لذا، فقد تسلح مثقفو نظرية «ما بعد الاستعمار» بآليات التفكيك والتقويض لتشتيت المقولات المركزية التي انبنت عليها حضارة الغرب.

المطلب الثاني: مواجهة التغريب

استهدفت نظرية «ما بعد الاستعمار» محاربة سياسة التغريب والتدجين والاستعلاء التي كان ينهجها الغرب في التعامل مع الشرق بالاستعانة بعلم الاستغراب الذي ينصب على فهم الغرب وتعرية تصوراته الفكرية والذهنية والمعتقديَّة والإيديولوجية. ومن ثم شمَّر مثقفو نظرية «ما بعد الاستعمار» عن سواعدهم لفضح الهيمنة الغربية، وتعرية مرتكزاتها السياسية والإيديولوجية، مع تبيان نواياها الاستعمارية القريبة والبعيدة، والتشديد على جشعها المادي لاستنزاف خيرات الشعوب المقابلة الأخرى. لذا، يَتَّسم الخطاب الثقافي الغربي بنزعة التمركز، وتأكيد خاصيات التفوق والتمدن والتحضر مقابل خطاب دوني يتصف بالبدائية والشعوذة، والشهوانية، والسحر الطقوسي الخرافي.

المطلب الثالث : تفكيك الخطاب الاستعماري

تهدف نظرية «ما بعد الاستعمار» إلى فضح الخطاب الاستعماري الغربي، وتفكيك مقولاته المركزية التي تعبِّر عن الغطرسة والهيمنة والاصطفاء اللوني والعرقي والطبقي، باستعمال منهجية التشتيت والفضح والتعرية. لذا، فقد وجد كتاب نظرية «ما بعد الاستعمار» في تفكيكيَّة جاك ديريدا آلية منهجية لإعلان لغة الاختلاف، وتقويض المسلمات الغربية، والطعن في مقولاتهم البيضاء ذات الطابع الحلمي الأسطوري. كما تأثروا في ذلك بميشيل فوكو، وكارل ماركس، وأنطونيو غرامشي، وكان إدوارد سعيد رائدهم في ذلك.

ص: 25

المطلب الرابع: الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية

رفض كتاب النظرية الاستعمارية ومثقفوها الاندماج في الحضارة الغربية، وانتقدوا سياسة الإقصاء والتهميش والهيمنة المركزية، ورفضوا كذلك الاستلاب والتدجين. وفي المقابل، دعوا إلى ثقافةٍ وطنيةٍ أصيلةٍ ونادوا بالهوية القومية الجامعة. ومن هؤلاء - مثلا - كتاب الحركة الزنجية الأفريقية ومبدعوها الذين سخَّروا كل مالديهم من آليات ثقافية وعلمية لمواجهة التغريب، فتشبثوا بهويتهم السوداء، ودافعوا عن كينونتهم الزنجية الأفريقية. وقد رأينا كذلك كتاب الفرانكفونية بالمغرب العربي يحاربون المستعمر بلغته، ويقوِّضون حضارته بالنقد والفضح والتعرية، مستخدمين في ذلك لغة فرنسية مختلطة باللغات الوطنية تهجيناً، وأسلبةً، وسخريةً.

المطلب الخامس: علاقة الأنا بالآخر

ترتكز نظرية «ما بعد الاستعمار» على مناقشة علاقة الأنا والغير، في ضوء مقاربات (ما بعد الحداثة) كالمقاربة الثقافية، والمقاربة الماركسية، والمقاربة التاريخية الجديدة والمقاربة السياسية، وذلك كلّه من أجل فهم العلاقة التفاعلية بين الأنا والغير هل هی علاقة جدليّة سلبية قائمة على العدوان والصراع أم هي علاقة إيجابية قائمة على الأخوَّة والصداقة والتعايش والتسامح ؟ وبتعبير آخر، هل هي علاقة قائمة على العدوان والكراهية والإقصاء والصراع الحضاري أم هي علاقة تفاهمٍ وتعاونٍ وتكاملٍ؟

المطلب السادس: الدعوة إلى علم الاستغراب

إذا كان المفكرون الغربيون يتعاملون مع الشرق في ضوء علم الاستشراق باعتباره خطاباً استعمارياً وكولونيالياً من أجل إخضاعه حضارياً، والهيمنة عليه سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، فإن المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية «ما بعد الاستعمار» كحسن حنفي - مثلاً - يدعون إلى استشراقٍ مضادٍ، أو ما يسمى أيضاً بعلم الاستغراب بغية تفكيك الثقافة الغربية تشريحاً وتركيباً، وتقويض خطاب التمركز تشتيتاً وتأجيلاً، وفضح مقصدية الهيمنة على أسس علمية موضوعية.

ص: 26

المطلب السابع: المقاومة المادية والثقافية

لم يكتف مثقفو «نظرية ما بعد الاستعمار» بقراءة الخطاب الاستشراقي الغربي، بل حاولوا مقاومة المستعمِر بكل الوسائل المتاحة، إمَّا عن طريق المقاومة السلميّة أو المسلحة، وإما عن طريق الاستشراق المضاد ، وإما بنشر الكتابات التقويضية لتفكيك المفكرين المتمركزين: الأوروبي والأميركي، وفضحهما بشتى السبل والطرائق، مادام هذان التمركزان مبنيين على اللون والعرق، والجنوسة، والطبقة، والدين.

المطلب الثامن: النقد الذاتي

لم يكتف مثقفو نظرية «ما بعد الاستعمار» أيضا بتوجيه النقد إلى الغرب، بل سعوا إلى نقد ذواتهم ضمن ما يسمى بالنقد الذاتي، كما عند الناقد الكيني الأصل عبد الرحمن جان محمد حينما صرَّح قائلاً: «أعتقد أننا نحتاج إلى الإفصاح بشكل أكثر انتظاما عن الواجبات التي تفرضها علينا هذه الوضعية البينيَّة، وهي واجبات أشعر أنه يمكن استشعارها من وضعية مثقف العالم الثالث» في الأكاديميات الغربية. إننا لا نزال نكافح ضد الهيمنة المعرفية للغرب، لا نزال نحارب «الاستعمار» و«الاستعمار الجديد». ولكن بالمقارنة مع التابع في «العالم الثالث» نحن نعيش في ظروف بالغة الرِّفعة. بعض النقاد يؤكدون أن نوعًا معينًا من نظرية ما بعد الاستعمار يمثّل هو نفسه جزءًا من البنية القائمة على الهيمنة، أي أنه نوعٌ مستمرٌ ومكررٌ من الاستعمار. ولهذا أعتقد أنه لابد لنا أن نستمرَّ على خطى جاياتري سبيفاك وآخرين، فنتفحَّص وضعية ذواتنا في كل هذه النواحي وبشكل أكثر انتظامًا(1).

يعني هذا أن ثمة مفارقة بين القول والفعل، وأن هناك انفصاماً وجوديّاً وحضاريّاً وطبقيّاً بين مفكري نظرية «ما بعد الاستعمار» وواقعهم المتخلف المزري.

ص: 27


1- Theory, Practice and the Intellectual: A Conversation with Abdul R. Jan Mohamed, by S.X. Goudie, Juvert: A Journal of postcolonial Studies, published by The College of Humanities and social sciences, North Carolina State University, Volume 1, Issue 2, 1997.

المطلب التاسع : غربة المنفى

يعيش أغلب المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية «ما بعد الاستعمار» في الغرب منفيين، أو لاجئين ، أو محميين أو معارضين. ومن ثم، ينتقدون مرَّة بلدانهم الأصلية وواقعها المتخلف. ومرة أخرى، يرفضون سياسة التغريب والتهميش والتمركز الغربي. ويعني هذا أنهم يعيشون تمزقاً ذاتياً وموضوعياً، وهم دائماً في غربةٍ ذاتيةٍ داخل المنفى المكاني والذاتي والعقلي والنفسي، كما هو حال جوليا كريستيفا وإدوارد سعيد - مثلا. وهكذا، يتحدث إدوارد سعيد - مثلاً - في كتابه (صور المثقف)، عن حالة المنفى اللاذعة، وهي تعبر عن فضاء العتبة فضاء الأزمة والصراع الداخلي. و من هنا،«فالمنفى بالنسبة للمثقف - بهذا المعنى الميتافيزيقي - هو حالة من عدم الراحة، حالة حركة، ألا يستقر أبدا، وألا يدع الآخرين يستقرُّون؛ إذ ليس بإمكانك

أن ترجع إلى حالة من حالات وجودك الأولى في وطنك، ربما تكون الحالة الأكثر استقرارًا، كما أنه ليس بإمكانك أبدًا - ويا للأسف - أن تصل إلى وطنك الجديد أو حالتك الجديدة». ثم يستطرد سعيد في فصول كتابه الصغير، إلى توصيف وضعية ذلك المثقف المأمول الذي يمكنه أن يقول الحقيقة للسلطة في وجهها»(1).

إذاً، تعد الغربة الذاتية والمكانية والحضارية من العوامل الرئيسة التي دفعت مجموعة من باحثي الوطن العربي والإسلامي إلى نقد الذات من جهة، ونقد الهيمنة الغربية من جهة أخرى.

المطلب العاشر : التعددية الثقافية

دافع كثير من مثقفي نظرية «ما بعد الاستعمار» عن التعددية الثقافية ورفضوا التمركز الثقافي الغربي والثقافة الواحدة .المهيمنة كما رفضوا سياسية التدجين والتغريب والإقصاء، ونادوا إلى التنوع الثقافي والانفتاح الثقافي عبر آليات المثاقفة والترجمة والنقد والتفاعل الثقافي. بمعنى أن هناك ثقافات جديدة إلى جانب

ص: 28


1- Said, Edward. Representations of The Intellectual, Vintage Books, New York, 1996,P: 5.

الثقافة الغربية المركزية، كالثقافة العربية والثقافة الآسيوية، والثقافة الأفريقية، والثقافة الأمازيغية ... بمعنى ليس هناك ثقافة مهيمنة واحدة ووحيدة، بل هناك ثقافات هجينة متعددة ومتداخلة ومتلاقحة .

المبحث الثالث: رواد نظرية «ما بعد الاستعمار»

ثمة مجموعة من الكتَّاب والنقَّاد والمثقفين الذي يمثلون نظرية «ما بعد الاستعمار»، سواء أكانوا باحثين ينتمون إلى الغرب أم ينتمون إلى العالم الثالث. ونذكر من الدارسين الشرقيين الأعلام التالية أسماؤهم:

المطلب الأول: إدوارد سعيد

ألف الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد كتاباً قيّماً بعنوان (الاستشراق) سنة 1978م(1)؛ حيث استعرض فيه تاريخ الاستشراق الغربي ومراحله التطوّرية، وكتب مقالةً قيّمةً بعنوان (العالم والنص والنقاد) سنة 1983م، يدعو فيها إلى دراسة النص في علاقة بعالمه الخارجي. بمعنى أن إدوارد سعيد ينتقد «جميع أنماط التحليل النصّي التي عدَّت النصوص على أنها منفصلة عن العالم الموجود فيه . وفكرة أن التحليل النصِّي قد يكون ممكنا من أجل أن يكون هناك قراءات لانهائية وممكنة لأي نص يمكن أن تتحقق من خلال فصل النص عن العالم الحقيقي»(2).

ويعد إدوارد سعيد من رواد علم الاستغراب ومن محللي الخطاب الاستعماري ومن أهم منظري نظرية «ما بعد الاستعمار». لذلك، تُوِّج بكونه مؤسساً لهذا الحقل المعرفي الذي يُعنى بتفكيك الخطاب الاستعماري أو الكولونيالي الجديد. كما يعد أيضا من رواد النقد الثقافي؛ لأنه اهتم كثيراً باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة في المؤسسات المركزية الغربية، بتحليل الخطاب الاستشراقي تفكيكاً وتشريحاً وتقويضاً، متأثرا في ذلك بمنهجية ديريدا، وميشيل فوكو، وأنطونيو غرامشي.

ص: 29


1- إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: كمال أبوديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان ، الطبعة السابعة سنة 2005م.
2- ديفيد كارتر: مصدر سابق، ص : 127.

وينطلق إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) من تعريف الشرق، بتحديد مدلولاته الجغرافية والحضارية، وتعريف مصطلح الاستشراق في ضوء المفاهيم اللغوية والعلمية والأكاديمية والتاريخية والمادية وبعد ذلك ينتقل إلى استعراض تاريخ الاستشراق الغربي في مساراته العلميّة والاستعمارية، مركزاً بالخصوص على الاستشراق الفرنسي، والاستشراق الإنجليزي، والاستشراق الأميركي الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الثانية ومن ثم تعامل الباحث مع الاستشراق خطابا للتحليل معتمداً في ذلك على نظريات ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي. وفي هذا الصدد، يقول إدوارد سعيد:«إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطة للانطلاق محددة تحديداً تقريبياً، فإن الاستشراق يمكن أن يناقش، ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق - التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها ،وبوصفه وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه: وبإيجاز، الاستشراق كأسلوبٍ غربيٍّ للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه. ولقد وجدت استخدام مفهوم میشیل فوكو للخطاب، كما يصفه في كتابيه (حفريات المعرفة) و(المراقبة والعقاب) ذا فائدةٍ هنا لتحديد هوية الاستشراق وما أطرحه هنا هو أننا مالم نكتنه الاستشراق بوصفه خطاباً، فلن يكون في وسعنا أبدا أن نفهم الفرع المنظم تنظيماً عالياً الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق - بل حتى أن تنتجه - سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً، وتخييلياً، في مرحلة ما بعد عصر التنوير. وعلاوة على ذلك، فقد احتل الاستشراق مركزاً هو من السيادة بحيث أنني أؤمن بأنه ليس في وسع إنسانٍ يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلاً متعلقاً به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. ولا يعني هذا أن الاستشراق بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لامفر منها في كل مناسبة يكون فيها ذلك الكيان العجيب «الشرق» موضعاً للنقاش. أما كيف يحدث ذلك؟ فإنه ما يحاول هذا الكتاب أن يكشفه. كذلك يحاول

ص: 30

هذا الكتاب أن يُظهر أن الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة ووضوح الهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتاً بديلة»(1).

ومن الناحية المنهجية، فلقد اعتمد إدوارد سعيد على دراسة الخطاب الاستشراقي بمنهجية فيلولوجية تفكيكية قائمة على دراسة الأفكار والثقافات والتواريخ ليبرهن على أن العلاقة بين الشرق والغرب مبنية على القوة والسيطرة والهيمنة المعقدة المتشابكة. ومن ثم يرى إدوارد سعيد أنه «ينبغي على المرء ألا يفترض أبداً بأن بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا كان للحقيقة المتعلقة بها أن تتجلَّى وأنا نفسي أؤمن بأن الاستشراق أكثر قيمة بشكل خاص كعلامة على القوة الأوروبية - الأطلسية - بإزاء الشرق منه كخطاب حقيقي عن الشرق (وهو ما يدعو إليه الاستشراق في شكله الجامعي أو البحثي). على أي حال، إن ما علينا أن نحترمه ونحاول أن ندركه هو القوّة المتلاحمة للخطاب الاستشراقي، وعلاقاته الوثيقة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية المعززة، وقدرته المهيبة على البقاء»(2).

وعليه، فلقد تمثل إدوارد سعيد منهجية ميشيل فوكو في دراسة الخطاب، ثم استحضر أفكار أنطونيو غرامشي في التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، والحديث عن التسلط الثقافي. من ثم يمثل الاستشراق الغربي نوعاً من التسلط الثقافي؛ لأنه يؤكد التفوق الأوروبي مقابل التخلف الشرقي، ويبيِّن أيضاً أن للغرب اليد العليا على الشرق تنويراً، وتعليماً، وتثقيفاً، وتمديناً.

وقد استند إدوارد سعيد، في تعامله مع الخطاب الاستشراقي، إلى رؤية ثقافية

سياسية قائمة على ثلاث خطوات منهجية هي:

أولاً، التمييز بين المعرفة الخالصة والمعرفة السياسية.

وثانياً، الاهتمام بالمسألة المنهجية في التعامل مع الأفكار والمؤلفين والمراحل

ص: 31


1- إدوارد سعيد الاستشراق مصدر سابق، ص : 38-39
2- إدوارد سعيد : المصدر نفسه، ص: 41.

التاريخية، بالتركيز على الاستشراق الاستعماري للشرق، سواء أكان فرنسياً، أم بريطانيا، أم أميركياً.

وثالثاً، البعد الشخصي الذي يتمثل في الجمع بين الموضوعية والذاتية القائمة على الوعي النقدي، مع الاستعانة بأدوات البحث التاريخي، والسياسي، والإنساني، والثقافي.

وفي الأخير، يبين إدوارد سعيد أن كتابه (الاستشراق) موجه إلى مجموعة من القراء، بمافهيم طلاب الأدب والنقد لتبيان العلاقات المتداخلة بين المجتمع والتاريخ والنصوص، وفهم الدور الثقافي الذي يقوم به الشرق في الغرب، مع الربط بين الاستشراق وبين العقائدية والسياسة ومنطق القوة. كما يقدم الكتاب إلى القارىء العام وقارىء العالم الثالث؛ حيث تطرح هذه الدراسة بالنسبة له خطوة لانحو فهم السياسة الغربية والعالم الغربي في هذه السياسة، بل نحو فهم قوة الخطاب الثقافي الغربي، وهي قوة كثيراً جداً ما تُفهم خطاً على أنّها زخرفية فقط، أو منتمية إلى البنية الفوقية.«إن أملي هو أن أوضح البنية المتينة الصلبة للسيطرة الثقافية والأخطار والإغراءات الكامنة في استخدام هذه البنية، خصوصاً بالنسبة للشعوب المستعمرة سابقا عليهم أو على الآخرين»(1).

إذا، لقد تأثر إدوارد سعيد بفكر (ما بعد الحداثة) بصفة عامة، وفكر ميشيل فوكو بصفة خاصة، دون أن ننسى تأثَّره بالتاريخ الجديد، وفلسفة جاك ديريدا التفكيكية والتقويضية. وقد ربط إدوارد سعيد خطابه الاستشراقي بنزعة التباين والإختلاف بين الشرق والغرب؛ فقد تسلح الغرب بكل مقولاته المركزية وآلياته البنيوية لإخضاع الشرق والهيمنة عليه سياسياً وعسكرياً، واجتماعياً وثقافياً، وعلمياً. ومن ثم، يقوم الاستشراق بدور هام في عملية الإخضاع والاستيلاء والتغريب، بربط الشرق بأغراض المصلحة الغربية. ومن ثم يتبجح الاستشراق الغربي بالصفات الرشيدة للحضارة الغربية التي تتمثل في الديمقراطية على سبيل الخصوص. بينما يعرّف الشرق

ص: 32


1- إدوارد سعيد الاستشراق ، مصدر سابق، ص 57.

بالصفات الذميمة كالشهوانية والبدائية والاستبدادية. ومن ثم، فالغرب عند إدوارد سعيد هو العقل، والمركز، والاستشراق.

ومن هنا، يطرح إدوارد سعيد سؤالاً هاماً وقيِّماً: هل كتَّاب السكان الأصليين في إطار النظرية الجديدة يتمثلون النظرية الغربية أم يعارضونها؟ بمعنى هل يرفضون الثقافة السائدة؟ أم يخضعونها لمشرح التفكيك والتقويض بالمفهوم الدريدي نسبة إلى تفكيكية جاك ديريدا ؟!!

ویری دیفید کارتر(David Karter) في كتابه (النظرية الأدبية)، إنّ تحليلات إدوارد سعيد» للخطابات الاجتماعية المختلفة هي بشكل أساسي تفكيكية و «ضد التيار» فقد كان هدفه تهميش الوعي للعالم الثالث، وتقديم نقد من شأنه أن يقوض هيمنة خطابات العالم الأول، بالنسبة لسعيد جميع تمثيلات المشرق المقدمة من قبل الغرب تشكل جهداً دؤوباً يهدف إلى الهيمنة والإخضاع. وقد خدم الاستشراق أغراض الهيمنة الغربية (بالمعنى الذي قصده غرامشي): لإضفاء الشرعية على الإمبريالية وإقناع سكان هذه المناطق بأن قبولهم للثقافة الغربية هي عملية تمدين إيجابية. ومن خلال تعريف الاستشراق للشرق ، فإنه يعرف أيضا كيف يتصور الغرب نفسه (وذلك من خلال المعارضات الثنائية). فالتشديد على الشهوانية والبدائية والاستبدادية في الشرق، يؤكد على الصفات الرشيدة والديمقراطية عند الغرب»(1).

وما يلاحظ على إدوارد سعيد أنه قد أهمل الاستشراق الإسباني، على الرغم من طابعه الاستعماري في المغرب على سبيل الخصوص. كما نعتبره المؤسس الحقيقي للنظرية «مابعد الاستعمار» في الحقلين الثقافيين: العربي والغربي على حد سواء. ويعد كذلك الممهِّد الفعلي للنقد الثقافي. ومن هنا «يأتي إدوارد سعيد في طليعة محللي الخطاب الاستعماري، بل ويعده بعضهم رائد الحقل، فقد استطاع بمفرده في كتابه (الاستشراق) كما كتب أحد الدارسين مؤخراً،«أن يفتتح حقلاً من البحث الأكاديمي هو الخطاب الاستعماري» (باتراك ويليامز، 5). ذلك أن دراسة سعيد

ص: 33


1- دافيد كارتر نفسه، ص : 126

للاستشراق دراسة لخطاب ،استعماري، خطاب تلتحم فيه القوة السياسية المهيمنة بالمعرفة والإنتاج الثقافي غير أن تحليل سعيد جاء مرتكزا على سياق معرفيٍّ وبحثيٍّ سابقٍ له يتضمن أعمال اثنين من المفكرين الأوروبيين المعاصرين، هما: الفرنسي ميشيل فوكو والإيطالي أنطونيو غرامشي ومن الممكن والحال كذلك اعتبار هذين المفكرين ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري، بالإضافة إلى بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت مثل ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وكذلك والتر بنجامين ، وحاناه أريندت»(1).

ومن هنا، فكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد خير نموذج يعبر عن نظرية ما بعد الاستعمار، مادام هذا الكتاب خطاباً مضاداً للاستشراق الغربي؛ لكونه يحوي انتقادات واعية ولاذعة لخطاب التمركز الغربي تقويضا وتفكيكا وتشتيتا.«وهناك شبه إجماع بين الدارسين على الدور المؤسس الذي لعبه كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، في صياغة اللبنات الأولى لنظرية «ما بعد الاستعمار». فقد اِستثار هذا الكتاب بما طرحه من أفكار طائفة أخرى واسعة من الكتابات التي ناقشت هذه الأفكار، أو ردّت عليها ، أو طورتها، سواء كتابات اللاحقين من منظري «ما بعد الاستعمار» مثل: وهومي ،بابا، وجاياتري سبيفاك، أو من تصدّوا للنظرية من منظور مخالف، وكشفوا عن تناقضاتها مثل إعجاز أحمد وعارف ديليرك. وقد شارك إدوارد سعيد بعد ذلك في تطوير النظرية وتأملها من خلال كتاباته ومراجعاته المتعددة التالية لكتاب الاستشراق وخاصة في كتب مثل: «الثقافة والإمبريالية» «وصور المثقف» و «تأملات حول «المنفى» وغيرها. وكان أن انتهت هذه الكتابات جميعًا، وفي زمن قصير نسبيًا، إلى بلورة حقل ثقافي جديد يعرف الآن باسم «ما بعد الاستعمار»(2).

ص: 34


1- سعد البازعي وميجان الرويلي: نفسه، ص:92.
2- خيري دومة: (عَدْوَى الرَّح يل موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية ما بعد الاستعمار) http://www.ibn-rushd.org/forum/Adwa-al-Raheel.htm

وعليه، يعد إدوارد سعيد المؤسس الفعلي لنظرية ما بعد الاستعمار في فترة ما بعد الحداثة، ومن الممهدين الفعليين للنقد الثقافي وعلم الاستغراب على حد سواء.

المطلب الثاني: هومي بابا

أما الباحث الهندي هومي بابا (Bhabhaomi)، فقد تأثر كثيرا بإدوارد سعيد، ومشيل فوكو، وجاك ديريدا، وجاك لاكان... فقد اهتم بالنصوص التي تستكشف هامش المجتمع في عالم «ما بعد الاستعمار»(1)، برصد العلاقات الخفية والمتبادلة بين الثقافات المهيمنة والمستعبدة، ولاسيما في مجلده (مركز الثقافة) (1994م). ويرى هومي بابا أن «التفاعل بين المستعمر(بكسر الراء) والمستعمر( بفتح الراء) يؤدي إلى انصهار المعايير الثقافية التي تؤكد السلطة الاستعمارية، بل وتهدد أيضا في محاكاتها بزعزعة استقرارها. وهذا ممكن لأن هوية المستعمر في حد ذاتها غير مستقرة، إذ توجد في وضع معزول ومغترب، كما توجد هوية المستعمر بحكم اختلافها. فهي تتجسد فقط في الاتصال المباشر مع المستعمر. وقبل ذلك فإن حقيقتها الوحيدة موجودة في إيديولوجية الاستشراق كما عرفها سعيد»(2).

ومن هنا، يعد هومي بابا من رواد نظرية ما بعد الاستعمار وعلم الاستغراب على حد سواء؛ حيث واجه الغرب بمنطق الفكر التفكيكي، ومشرح النقد، وسلاح التقويض، ومنهج التشكيك.

المطلب الرابع: جسي سي سبيفاك.

تعدُّ الناقدة الهندية جي سي سبيفاك(3)(Gayatri Chakravorty ,Spivak) من

ص: 35


1- Bhabha, Homi K.: Locations of Culture: Discussing Post-Colonial Culture. London: Routledge, 1996. - Nation and Narration. New York: Routledge, 1990. - Of Mimicry and Man: The Ambivalence of Colonial Discourse, October 28 (1984): 125-33. The Postcolonial Critics Homi Bhabha Interviewed by David Bennett and Terry Collits, Arena 96 (1991): 47-63.
2- ديفيد كارتر : النظرة الأدبية، مصدر سابق، ص: 127-128.
3- Spivak, Gayatri Chakravorty. A Critique of Postcolonial Reason: Toward a History of the Vanishing Present, Cambridge, MA: Harvard UP, 1999.

المؤسسين الفعليين للخطاب الكولونيالي الجديد. وتعد كذلك أول منظِّرة نسويّة بحق وحقيق في مرحلة «ما بعد الاستعمار». فلقد انتقدت الحركة النسوية الغربية انتقاداً عنيفاً بتركيز «اهتماماتها على عالم البيض من الطبقة المتوسطة ومن جنسين مختلفين. وتهتم سبيفاك أيضا بدور الطبقة الاجتماعية، وقد ركزت على ما أصبح يعرف في دراسات «مابعد الاستعمار» بإسم «الأتباع»، وهو في الأصل مصطلح عسكري يشير إلى أولئك الذين هم في مرتبة أو مكانة أدنى. وإن استخدام هذا المصطلح في النظرية النقدية مستمد من كتابات الكاتب غرامشي. وتستخدم سبيفاك هذا المصطلح للإشارة إلى جميع المستويات المتدنية من المجتمع الاستعماري وما بعد الاستعماري: العاطلين عن العمل والمشردين والمزارعين الذين يعيشون من مورد رزقهم وما إلى ذلك» (1).

وتستند سبيفاك إلى منهجية تحليلية نسوية تفكيكية ماركسية ثقافية وخاصة في مقالها (هل يمكن للتابع أن يتحدث ؟) (1988م)، مركزة على وضعية المرأة الهندية، أو ما يسمى بالإناث التابعات فتناقش سيفاك «أنه في الممارسة الهندية التقليدية كحرق الأرامل على محارق أزواجهن الجنائزية لم يسمح الهنود ولا المستعمر البريطاني للنساء بالتعبير عن آرائهن الخاصة»(2).

وعليه، فلقد اهتمت سيباك بالدفاع عن المرأة الشرقية، ومواجهة الهيمنة الغربية، والدفاع عن المهاجر، والاهتمام بالأدب والثقافة.

المطلب الخامس : عبد الوهاب المسيري وحسن حنفي

استهدف كثير من المفكرين العرب تعرية النسق الحضاري الغربي، وتقويض مقولاته المركزية ، وتفكيك مقاصده الإيديولوجية، كما فعل عبد الوهاب المسيري في كتابه (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري وتصنيفي جديد)، وما فعله في كتابه (الإيديولوجية الصهيونية : دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة)

ص: 36


1- ديفيد كارتر ،نفسه ص : 128.
2- ديفيد كارتر نفسه ص : 128.

(1983م)، وما أنجزه حسن حنفي في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) (1981م)؛ حيث حاول «فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس». غير أننا رأينا هذه العقدة، وقد أخذت طريقها إلى الحل فعلا في دراسات إدوارد سعيد وعبد الوهاب المسيري وغيرهما ولم يكن البحث والتحليل الطريقين الوحيدين اللذين اعتمد عليهما الدارسون لفك العقدة المشار إليها؛ فبالإضافة إلى ذلك لعبت الترجمة دورا حين اعتنت بما يتصل بهذه العقدة، ويؤدي إلى حلها، كما في ترجمة عبد الوهاب المسيري لكتاب المؤرخ الأميركي كيفن رايلي (الغرب والعالم) (1985م) الذي يبرز بعض أوجه الخلل في الثقافة الغربية، فيعريها مما تبدو عليه أحيانا من تفوق مطلق وصلاحية عالمية»(1).

هذا، ويعد حسن حنفي من أهم رواد علم الاستغراب العربي، فقد كان هدفه هو مواجهة الاستشراق بفهمه بشكل جيد واستيعاب منظومته الفكرية والفلسفية والعلمية لتبيان مظاهر قوة الغرب وضعفه.

المطلب السادس: فرانز فانون

لا تقتصر نظرية «ما بعد الاستعمار» على كتاب آسيا وأفريقيا. فهناك باحثون من الغرب مثل: فرانز فانون (Fanon Frantz)، وهو من الكتّاب السابقين الذين ارتبطوا بنظرية «ما بعد الاستعمار» بوجه من الوجوه، كما يظهر ذلك جلياً في كتابه (المعذبون في الأرض) (1961م)؛ حيث يحلل فانون طبيعة الاستعمار الكولونيالي، ويبين طابعه الذاتي والمصلحي على أساس أن الاستعمار مصدرٌ للعنف والإرهاب؛ مما يولد ذلك مقاومة مضادة من قبل الشعوب المستضعفة، أو البلدان المستعمَرة. ومن ثم، ينتقد فرانز فانون الأنظمة الاستعمارية الكولونيالية الغربية. ويثور على المنظومة الغربية التي ينتمي إليها، معتبراً إياها رمزاً للتسلط الثقافي، ومنظومة مركزية مبنية على قوّة العلم والثقافة والتكنولوجيا بغية الهيمنة والسيطرة، وإخضاع الشرق مادياً

ص: 37


1- سعد البازعي وميجان الرويلي نفسه، ص:94.

ومعنوياً. وخير من يمثل الرد الفعلي المباشر على التغريب الاستعماري والتسلّط الثقافي المركزي الغربي الحركات الثقافية المضادة، كالحركة الزنجية التي يتزعمها كتاب أفريقيا، مثل: الشاعر السينيغالي ليوبولد سيدار سينغور، وإيمي سيزير (Aime Césaire في كتابه (خطاب حول الكولونيالية) (1950م)، وكوام نيكروما (Kwame Nkrumah) في كتابه (نظرية الوعي) (1970م)، والمبدعون السودانيون: الشاعر محمد الفيتوري الذي خصص أفريقيا بمجموعة من الدواوين الشعرية الوطنية والقومية كما في ديوان (أغاني أفريقيا)(1)، والروائي الطيب صالح كما في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)...

ويذهب فرانز فانون إلى أن نظرة الغرب إلى أفريقيا قائمةٌ على صورة استعلائية. وفي هذا السياق، يقول:«كانت تلك القارة المترامية الأطراف (يقصد أفريقيا) في نظر الاستعمار مأوى للمتوحشين، موطنا يحفل بالهرطقة والأباطيل، ومكرّساً للازدراء الكبير، للعنة الربانية موطنا لآكلي لحوم البشر، موطنا للزنوج»(2).

ومن هنا، فقد جاءت الحركة الزنجية الأفريقية في الحقيقة لتواجه التغريب والاسترقاق والاستعمار والميز العنصري من جهة والتغني بالحرية والهوية والثورة والإنسان من جهة أخرى.

المطلب السابع: روبرت يونغ

يمكن الحديث أيضا عن الباحث الإنجليزي روبرت يونغ (Robert JC Young)، صاحب کتاب (ميثولوجيات بيضاء: كتابة التاريخ والغرب) (1990م). فلقد استهدف تقويض التمركز الغربي، وتفكيك الفكر الماركسي الغربي، بإعادة كتابة تاريخ الفكر الغربي من هيجل إلى ميشيل فوكو؛ حيث يرى أن التمركز الغربي أسطورة ليس إلا. ويعد روبرت يونغ من رواد الخطاب الكولونيالي الجديد، ومن الفاعلين في مجال النقد والأدب والتاريخ وقد انتقد يونغ الفكر الماركسي باعتباره المبرر والمسوغ

ص: 38


1- محمد الفيتوري: ديوان محمد الفيتوري، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1972م.
2- Franz Fanon: Les Damnés de la Terre de la terre,première édition: 1961,p: 145.

الشرعي والفلسفي لدخول بريطانيا للهند؛ إذ اعتبر ذلك ظاهرة إيجابية لإدخال الهند في سياق التمدن والتحضر. ومن ثم، فلقد اتخذ الفكر الماركسي طابعاً هيغيلياً يجعل من الغرب مركزا للقيادة والعلم والمعرفة. كما اعتمد يونغ على التفكيكية في تقويض الماركسية. و«يذكرنا هذا بأن تحليل الخطاب الاستعماري أو نظرية ما بعد الاستعمار» يتقاطع مع العديد من المناهج وحقول البحث الثقافية الغربية المعاصرة، وذلك بوصفه هو الآخر واقعاً تحت مظلة الفكر ما بعد الحداثي ومابعد البنيوي»(1).

إذاً، هؤلاء هم بعض الرواد الذين مثلوا نظرية «ما بعد الاستعمار»، سواء أكان ذلك في الشرق أم في الغرب. وقد بذلوا فعلا جهداً مشكوراً في تعرية الخطاب الاستشراقي المركزي، وفضحه تفكيكاً، وتقويضاً، واستغراباً، وتشتيتاً.

المبحث الرابع: تقويم نظرية «ما بعد الاستعمار»

يتضح لنا، من هذا كله أن نظرية «ما بعد الاستعمار» قد سخّرت كل آلياتها الفكرية والمنهجية والمعرفية لتقويض الرؤية المركزية عند الغربيين، بإعادة النظر في كثيرٍ من الملسمات والمقولات المركزية الغربية بالمراجعة، والدرس، والتحليل، والتقويم في إطار ما يسمى بعلم الاستغراب. وقد أعيد النظر كذلك في خطاب الاستشراق بالتحليل والتفكيك والنقد الواعي. بيد أن هذه النظرية هي خليط من المناهج والتحليلات قائمة على الانتقاء والاصطفاء المنهجي. كما أن عينات البحث محدودة كما عند إدوارد سعيد، ولم تأت هذه النظرية بالجديد مقارنة بنظريات الخطاب الاستعماري الكلاسيكي.

وقد تعرض أصحابها لانتقادات عميقة وواسعة بعضها أخلاقي، وبعضها علمي، واتهموا هذه النظرية بالفشل، كما تنطوي هذه النظرية على مجموعة من التناقضات والمفارقات، وانفصام بين القول والفعل وانفصال شاسع بين النظري والواقعي.

ص: 39


1- سعد البازعي وميجان الرويلي دليل الناقد العربي، مصدر سابق ص: 93.
الخاتمة:

وخلاصة القول نستنتج مما سبق أن نظرية «ما بعد الاستعمار» نظرية تسلَّح بها كتّاب العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة كتاب آسيا وأفريقيا، لمجابهة التمركز الغربي، وتقويض المقولات الفكرية الأوروبية والأمريكية تقويضاً وتشتيتاً وتأجيلاً، بآليات منهجية متداخلة : تفكيكية وثقافية وسياسية، وتاريخية، ومقارنة...

إنّ نظرية «ما بعد الاستعمار» هي حركة ثقافية مضادة ومقاومة، ظهرت في مرحلة «مابعد الحداثة» للوقوف في وجه التغريب والتهميش والتعالي، والهيمنة الغربية المغلوطة انطلاقا من تصورات علم الاستغراب.

لم تقتصر الكتابة في النظرية الكولونيالية الجديدة على كتَّاب العالم الثالث، فقد توسعت لتضم كتّاباً من المنظومة الغربية الذين ثاروا على الثقافة البيضاء، فاعتبروها ثقافة أسطورية حالمة وخيالية مبنية على خطاب الإخضاع والاستعلاء والهيمنة والاستعمار من جهة، والتمييز اللوني والعرقي والجنسي والديني والطبقي من جهة أخرى.

ص: 40

تعريف حقبة ما بعد الاستعمار

الصراع على الهوية في الشرق الأوسط

صامويل هلفونت(1)

مثّل مصطلح «الحقبة ما بعد الاستعمارية» إشكالية أساسية للمؤرخين المهتمين بالشرق الأوسط في القرن العشرين. وكما ستبين هذه المقالة بالتفصيل، فقد وفَّر الجدل القائم حول المصطلح محوراً مهماً دارت حوله النقاشات في الهوية السياسية. ولقد كان من آثار الحرب العالمية الثانية أن تفتتت القوة الأوروبية في الشرق الأوسط، ونشأ على أنقاضها عدد من الدول التي برَّرت وجودها من حيث إيديولوجيات محددة ترتبط بالهويات الناشئة في حقبة ما بعد الاستعمار وجرت مناقشات لا تنتهي عن مدى تأثير طبيعة هذه الدول، كنتاج للحقبة ما بعد الاستعمارية، على هويتها، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف؟ وما هي تبعات ذلك التأثير؟ كما تتضمن المقالة مناقشة عامة للجدل القائم عن حقبة ما بعد الاستعمار ، يتناول فيها الباحث دراسة حالات ثلاث، وهي: مصر والعراق وإيران.

ص: 41


1- باحث في العلاقات الدولية - جامعة فيلادلفيا - أميركا. - العنوان الأصلي للمقالة : POST-COLONIAL STATES AND THE STRUGGLE FOR IDENTITY IN THE MIDDLE EAST SINCE WORLD WAR TWO المصدر : 2015 Forgeign Policy Research Institute- Footnotes - October - ترجمة: رامي طوقان - مراجعة جاد مقدسي.
تعريف «ما بعد حقبة الاستعمار»

أول مسألة ستتناولها هذه المقالة هي تعريف المصطلح الذي يدور عليه الحديث. يستخدم مصطلح «ما بعد حقبة الاستعمار» بطرائق ثلاث متميزة ولكن مترابطة أولاً، وبشكل أساسي، يمكن استخدام المصطلح كمقولة زمانية؛ فقد ظلت إمبراطوريات متتالية تسيطر على الشرق الأوسط حتى القرن العشرين وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تلك الإمبراطوريات في الغالب أوروبية. انهار الحكم الاستعماري خلال القرن العشرين فنشأت من بعده دول ما بعد حقبة الاستعمار. وبالطبع لا تثير هذه المسألة الكثير من الجدل، ولكنها ليست الطريقة الوحيدة التي يعرف بها ما بعد الاستعمار.

إلى ذلك، يستخدم مصطلح ما بعد الاستعمار لوصف نوع خاص من الدول ونوع خاص من السياسات. فالدول التي نشأت من بعد الإمبراطوريات الاستعمارية غالباً ما توارثت مؤسسات أنشأتها تلك الإمبراطوريات، وكان العديد من قادة تلك الدول الناشئة ضباط في جيوش يقودها البريطانيون أو الفرنسيون أو حتى العثمانيون. وتعود نشأة العديد من أجهزة الأمن في تلك الدول، كما هي الحال في العراق أيام سيطرة صدام حسين وشرطته السرية، إلى أيام القوى الاستعمارية، أي البريطانيين في حالة العراق. وصَمَّمت القوى الاستعمارية تلك المؤسسات للسيطرة على الجماهير من الأعلى، أو بعبارة أخرى : صُمِّمت لحماية الدولة من شعبها وليس لحمايتها من قوى عسكرية خارجية. يقول البعض بأن تلك المؤسسات استمرت في أداء ذلك الدور حتى بعد سقوط القوى الاستعمارية. لقد كان الحكم الاستعماري ظاهرة تعمل من الأعلى إلى الأسفل، أي أنها كانت مفروضة. ولذلك لا يجافي الصواب البعض حين يقولون إن الطبيعة غير الديموقراطية للدول التي نشأت من بعد نهاية الاستعمار ليست ديموقراطية.

ولأن الدول ما بعد الاستعمارية فرضت من الأعلى، فقد كانت ضعيفة أيضاً، حيث واجهت مشاكل في تنفيذ سياساتها. ولكن المجتمعات ما بعد الاستعمارية وُصِفت

ص: 42

بأنها متينة لأن الناس اعتمدوا على شبكات اجتماعية بدلاً من مؤسسات الدولة لتلبية احتياجاتهم. فمثلاً، كان الاعتماد على أعيان القبيلة أو القرية بدلاً من المؤسسات الحكومية، وجاءت النتيجة أن واجهت هذه الدول مصاعب في تنفيذ سياساتها وكثيراً ما اضطرت إلى اللجوء إلى العنف.

كانت تلك الدول عرضة للانقلابات العسكرية، حيث حدث أكثر من عشرين انقلاباً عسكرياً في الشرق الأوسط بعد حقبة الاستعمار. وكثيراً ما جرت هذه الانقلابات في موجات متعاقبة، ففي العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية حدثت أربعة انقلابات في سوريا وثلاثة في جارتها العراق. وفي أغلب الأحيان، عقَّدت هذه الانقلابات من مشاكل الدول الضعيفة مقابل المجتمعات القوية. وعلى العموم، كانت هذه الانقلابات تحدث على أيدي مجموعة صغيرة من ضباط الجيش، وبسبب الطبيعة التي قامت عليها لم يثق قادة الانقلابات بمؤسسات الدولة التي تولوا حكمها حيث لم يريدوا أن يَفعل أحدٌ بهم ما فعلوه هم بغيرهم. ولكنهم لم يكونوا قادرين على أن يستبدلوا ببساطة المؤسسات والبيروقراطيات القائمة، فكانت النتيجة أن واجهوا صعوبات في جعل الدولة، ناهيك عن المجتمع، تتصرف كما يودون.

لم تقع بعض دول الشرق الأوسط، على غرار تركيا أو إيران تحت سيطرة الاستعمار رسمياً، ولكنها أنشأت مؤسسات لا تختلف عن تلك القائمة في الدول ما بعد الاستعمارية. وكما سنناقش حالة إيران فيما بعد واجهت هذه الدول مشاكل مماثلة لدول ما بعد الحقبة الاستعمارية. ومن هذه الحيثية، ومع أنها لا تقع ضمن التعريف الأول للدول ما بعد الاستعمارية، يعتبرها البعض كذلك بسبب بنية الدولة وسياساتها في هذه البلدان.

ومن الجدير بالذكر أن هذا التعريف للدولة ما بعد الاستعمارية لا يلقى قبول الجميع، بل في الواقع لا يزال موضع جدل حاد. يمكن للبعض أن يقول إن دور الإمبراطوريات الاستعمارية بولغ في أثره وتأثيره وبأن هذه الدول لا تختلف عن غيرها من الدول الديكتاتورية. وقد واجهت الدول غير الديموقراطية التي لم تكن

ص: 43

مستعمرة مشاكل في إدماج الناس في سياساتها، كما هي الحال في الاتحاد السوفيتي السابق مثلاً. وبعض الدول التي كانت مستعمرة حققت نجاحات أكبر بكثير من غيرها. ففي نهاية المطاف، لقد كانت دول على غرار كوستاريكا وإسرائيل وإيرلندا والولايات المتحدة مستعمرات، ولكن لا يبدو بأنها تندرج تحت هذا النموذج المطروح ضمن هذا التعريف.

ويمكن للبعض القول إن فرض الدولة لنفسها على الشعب لا ينحصر في الدول الديكتاتورية، بل تنطبق هذه الظاهرة على جميع الدول الأممية. وبهذا المعنى، عزى البعض المشاكل التي تواجهها الدول في الشرق الأوسط إلى سوء إدارتها أو ثقافتها السياسية، وليس لطبيعتها ما بعد الاستعمارية.

وطريقة أخرى يُعرَّف بها مصطلح «ما بعد الاستعماري» هو كنقد نشأ فيما بعد الحداثة. ويقول المؤيدون لهذا النوع من التحليل ما بعد الاستعماري بأن ركائز ما نعتبره ظواهر للحداثة (مثل الليبراية والأسواق الحرة والعلمانية إلخ...) ليست مفاهيم عقلانية نشأت من الجدل العلمي والمنطقي، وإنما هي مبانٍ اجتماعيةٍ تطورت من تجربة غربية - وفي الغالب مسيحية - خاصة . ولذلك فالحداثة غربية، والقوى الغربية هي من فرض الطرائق الغربية المرتبطة مع الحداثة في الشرق الأوسط.

فيمكننا وصف العلمانية، مثلاً، بأنها مما تمخضت عنه الديانة المسيحية، حين أمر يسوع تلامذته بإعطاء «ما لقيصر لقيصر وما لله لله» وما ثمة مفهوم مواز لهذا في الإسلام. ولذلك يُعتقد بأن العلمانية ترتبط بالمسيحية ولا يمكن فرضها عالمياً كمعيارٍ شاملٍ وكلي ومن يزعم بأنه ينشر قيماً كلية هو في الواقع يوسّع القوة الغربية إلى الشرق الأوسط، وسواء أحب هؤلاء هذا أم لا، فلطالما كانت هذه الهيمنة على مجتمعات الشرق الأوسط جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي.

أثارت انتقاداتٌ كهذه لما بعد الاستعمارية جدلاً، فيمكن للبعض القول بأن المشاكل التي يواجهها الشرق الأوسط كانت موجودة في الغرب أيضاً قبل عصر

ص: 44

التنوير، وأن الفكر التنويري - الذي نشير إليه بالحداثة - إنما انبثق من معارك طويلة مع نظم تقليدية أبويّة تشابه الموجودة اليوم في الشرق الأوسط. ولم تنل المرأة حقوقها إلا بعد نضال شرس امتد في بعض أوجهه لأكثر من قرن من الزمن. ولا شك في أن النزعة الفكرية النسوية لم تكن المعيار السائد في معظم أحقاب التاريخ الغربي فكيف لنا أن نزعم بأنه ظاهرة غربية أصيلة؟ وأن لا يشابه حرمان المرأة من حقوقها في الشرق الأوسط الحرمان الذي كان سائداً في الغرب؟ ويمكننا النقاش بالطريقة نفسها فيما يتعلق بجوانب أخرى من الحداثة؛ فالغرب في معظم أحقابه التاريخية لم يكن علمانياً، والكنيسة المسيحية بكل تأكيد لم تدعُ إلى العلمانية، فكيف لنا أن نزعم بأن العلمانية مندرجة في تعاليم المسيحية أو على الأقل مرتبطة معها؟ وهذا الجدل لا يزال دائراً أيضاً دون التوصل إلى حل له.

ما بعد الاستعمار والهوية السياسية

في معظم الحالات لم تتخل الإمبراطوريات الاستعمارية عن مناطق نفوذها بسهولة، ولطالما سعت الحركات المعادية للإمبريالية بين الشعوب المستعمرة إلى نيل الاستقلال. ولعبت الهوية دوراً رئيسياً في هذه الحركات المعادية للإمبريالية، وكثيراً ما اتخذت هذه الهوية صبغة مقصودة في معاداتها للإمبريالية. وبعبارة أخرى، عرفت الهوية نفسها بالعلاقة مع منظومة إمبريالية ، وهذا وفي كثير من جوانبه لا يجافي المنطق؛ فإذا لم يكن لدى الشعوب هوية سياسية تختلف عن الإمبراطورية الحاكمة، فلماذا تطالب بالاستقلال أصلاً ؟ ولذلك كثيراً ما حاول قادة حركات الاستقلال تأطير نضالهم ضمن حيثيات الهوية السياسية واتخذت هذه الهوية في الشرق الأوسط

وفي أغلب الأحيان منحىّ يمزج بين القومية العرقية، والقومية المناطقية، والدين.

وتجلت هذه الهويات بأشكال مختلفة في مختلف الأماكن؛ ففي بعض الأحيان استخدمت حركات مختتلفة في بلد واحد ركائز متشابهة ولكن شدد كل منها على ركيزة غير الحركات الأخرى. فالإخوان المسلمون في مصر استخدموا النزعة العروبية، والإسلام والهوية المصرية، ولكنهم ركزوا على الإسلام بالدرجة الأولى. أما جمال

ص: 45

عبد الناصر، والذي سنناقشه فيما بعد، فاستخدم أوجه الهوية هذه كلها أيضاً ، ولكنّه ركّز على العروبة أكثر من غيرها. كما كانت هناك حركات اشتراكية ترى الهوية من منظور الطبقة الاجتماعية ويمكننا أن نجد المزج التاريخي والاجتماعي نفسه في تشكيل الهوية في بلدان أخرى؛ فسوريا ولبنان مثلاً لديهما هوية بحر - أوسطية وحتى فينيقية حاول البعض استغلالها، أما العراقيون فيمكنهم اللجوء إلى هوية الرافدين القديمة.

وحين تولَّت الحركات المعادية للإمبريالية السلطة بعد نهاية الإمبراطوريات الاستعمارية، وما تلى ذلك من انقلابات اضطلعوا بذلك باسم ما زعموا بأنه الهوية السياسية الحقيقية والأصيلة في بلدانهم، والتي قمعتها السلطة الاستعمارية وفقاً لتصوير هذه الحركات للتاريخ. وبذلك ارتبطت شرعية الدول التي يحكمونها بهويات سياسية محددة.

إلا أن معظم الدول ما بعد الاستعمارية في بلدان الشرق الأوسط كانت متنوعة إلى حد كبير، واشتملت على أناس لا يندرجون ضمن الهوية السياسية الأصيلة التي عرفتها تلك البلدان لنفسها. وكثيراً ما كانت الهويات السياسية التي شددت عليها الحركات المعادية للإمبريالية تمثل إما الطبقات الدنيا أو المتوسطة الدنيا، ولذلك لم تتوافق النخب والأقليات جيداً مع التصنيف ما بعد الاستعماري للهوية حيث كانت هذه النخب والأقليات تحتل مواقع في السلطة ضمن النظم السياسية القديمة أو ترتبط بشكل أو بآخر مع النظام الإمبريالي القديم.

نُظر إلى أناس كهؤلاء على أنهم غير مريحين، ولكنهم لم يختفوا ببساطة مع الاستقلال. وبهذا المعنى كان على حكام بلدان ما بعد الاستعمار أن يصلوا إلى تعريف واضح لمعنى الاستقلال. فهل كان من الكافي نيل الاستقلال رسمياً؟ أم هل كان عليهم التخلص من المنظومة الإمبريالية القديمة بالكلية، وبما في ذلك الناس الذين مثلتهم تلك المنظومة، واستبدالها بمنظومة جديدة تقوم على هويتهم السياسية الأصيلة المفترضة ؟

وسوف نبحث بشكل أعمق ثلاث حالات لعرض مشاكلنا هذه.

ص: 46

الحالة الأولى: مصر

كان البريطانيون يسيطرون على مصر في مطلع القرن العشرين، وكانت مصر من أكثر بلدان الشرق الأوسط تنوعاً، فشملت أعداداً كبيرة من الأتراك واليونانيين واليهود والإيطاليين والعرب الشاميين. تواجدت بعض هذه المجتمعات في مصر القرون من الزمن ، ونشأت طبقات من الناس لا يتكلمون إلا اللغة الفرنسية أو الإيطالية ولا يكادون يتقنون إلا القليل من اللغة العربية. وكانت الإسكندرية متنوعة السكان بشكل خاص، فموقعها على ساحل المتوسط جعلها موئلاً تاريخياً لأعداد كبيرة من السكان اليونانيين والإيطاليين واليهود كان يشار إلى هؤلاء السكان غير المتكلمين باللغة العربية ب- «المتمصرين»، وكثيراً ما كانت لديهم روابط مع النخب الحاكمة وشبكات الأعمال التجارية الدولية.

وعادة ما يُقدم أدب المذكرات العائد إلى تلك الحقبة تفاصيل ممتازة عن هذا التنوع؛ فوصف آندريه آسيمان في كتابه «خارج مصر» عمه بأنه «يهودي تركي إيطالي مائل إلى الإنجليزية وفاشي مائل إلى الطبقة المخملية، بدأ حياته ببيع الطرابيش التركية في برلين وفيينا، وانتهى به الأمر بأن كان المزاود الأخير على أملاك الملك فاروق حاكم مصر المخلوع». وحتى داخل مصر ، كان يمكن للمرء أن يعيش حياة متنوعة للغاية، فوالد لوتشيتي لانيادو لم يخرج من العالم العربي قط، ولكنه وكما وصفته في كتابها :«الرجل في بدلة جلد سمك القرش الأبيض»:«كان يبدأ نهاره بالصلاة مع غيره من اليهود، ثم يجري الأعمال التجارية مع تجار استعماريين فرنسيين ورواد أعمال يونانيين. وكان يقامر مع مصريين أثرياء، وبما في ذلك الملك نفسه في بعض الأحيان، ويختلط اجتماعياً مع الضباط البريطانيين المقيمين في القاهرة».

حين نالت نالت مصر استقلالها في عام 1922م ، لم يعان هذا الحشد المتنوع من تبعات ذلك أول الأمر. فقد ظل النظام الملكي الحاكم متولياً لأمور مصر، وحافظ على علاقاته الوثيقة مع البريطانيين والشبكات الدولية. ولكن الحركات المعادية للإمبريالية سرعان ما بدأت تتشكل في مصر، ولم تدعُ فقط إلى الاستقلال الرسمي،

ص: 47

بل أيضاً إلى قطع العلاقات مع بريطانيا وإزالة بقايا المنظومة الاستعمارية من مصر. رغب الإسلاميون، مثل الإخوان المسلمين في بناء دولة إسلامية، أما القوميون فرغبوا في إقامة جمهورية.

انتصر القوميون آخر الأمر تحت قيادة جمال عبد الناصر بعد الإطاحة بالملكية في عام 1952م. وعبر نصف العقد التالي، طردوا البريطانيين من مصر وأنشأوا جمهورية. في أول الأمر ، وضع عبد الناصر أيديولوجية تستند إلى دوائر ثلاث من الهوية، وهي الهوية العربية والأفريقية والإسلامية، ولكن النزعة العروبية سرعان ما هيمنت.

وسرعان ما قمع عبد الناصر الإسلاميين الذين تعاونوا معه في الإطاحة بالملكيّة، وإن ظلّوا على غير وفاقٍ معه بسبب اختلاف هويتهم السياسية. وأقر النظام الحاكم الجديد باسم العروبة، قوانين تحد من حقوق المتمصِّرين وغيرهم من النخب المرتبطين مع المنظومة الاستعمارية القديمة في مصر. ففرض استخدام اللغة العربية حصراً في مؤسسات الدولة - كالمدارس والبيروقراطيات. كانت هذه المؤسسات متعددة اللغات سابقاً، وواجه عدد كبير من المنتمين إلى النخب المصرية القديمة مشاكل في التعامل باللغة العربية. كما أمم النظام العديد من الأعمال التجارية التي يملكها المتمصرون. خلال الفترة الاستعمارية، نال العديد من غير العرب المنتمين جنسيات من قوى أجنبية مختلفة كوسيلة لنيل حماية السلطات المحلية ودفع مصالحهم المالية، ولكن معظم من تلقى الجنسية كانوا من تلقى الجنسية كانوا من سكان مصر الأصليين وفي بعض الأحيان لم يزوروا أبداً البلد الذي أعطاهم جواز السفر. وبينما كانت الجنسية الأجنبية مفيدة أثناء حقبة الاستعمار، أصبحت مشكلة تحت حكم عبد الناصر القومي العربي. وفي نهاية المطاف، طرد عبد الناصر أو أجبر على الخروج معظم غير العرب من المصريين (اليهود واليونانيين والإيطاليين إلخ). حدثت أكبر عمليات الإجلاء هذه كردة فعل على أزمة قناة السويس في عام 1956م حين أمم عبد الناصر القناة، فغزاها كل من البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين. في ذلك الوقت، صور عبد الناصر المصريين غير الناطقين بالعربية كعملاء أجانب، وبالتالي غير

ص: 48

مصريين، وأجبرهم على المغادرة. فكانت النتيجة أن مصر أصبحت أكثر عروبة وأقل تنوعاً على مر الستين سنة الماضية.

الحالة الثانية : العراق

الحالة الثانية هي ،العراق، وكانت ولاية عثمانية، ثم وقعت تحت الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. حين سيطر البريطانيون على العراق بعد الحرب، عينوا القومي العربي السني فيصل ملكاً على العراق، مع أنه في الأصل من الحجاز (الواقعة اليوم في المملكة العربية السعودية)، فلم يكن عراقياً في الواقع. ولكنه حارب جنباً إلى جنب مع الضابط البريطاني «لورنس العرب» خلال الحرب، وأعطيت العراق له مكافأة على جهوده. فهو وإن كان قومياً عربياً، إلا أنه كان مديناً لِبريطانيا بعرش العراق.

لم تحظ العراق بقدر التنوع نفسه الذي حظيت به مصر، إذ لم يكن لدى البلد الكثير من الارتباطات الأجنبية. ولكنها كانت أكثر تنوعاً من حيث السكان الأصليين بكثير، ففيها العرب السنة والشيعة والأكراد السنة والشيعة، والتركمان ومختلف الطوائف المسيحية (الأشوريون والكلدانيون والكاثوليك والأرمن والأرثوذكس، بل وحتى البروتستنت)، وكذلك اليهود والبهائيون والأيزديون وغيرهم. وفي العديد من مناطق العراق، شكل هؤلاء السكان نسبة كبيرة . فمثلاً، وإن كان يصعب تصديق هذا اليوم، كان أكبر مجتمع محلي في بغداد خلال حقبة ما بين الحربين العالميتين يتألف من اليهود.

وكما هي الحال في مصر، نظرت الأقليات الدينية واللغوية إلى الإمبراطوريات الحاكمة رغبة في الدعم. وقد فعلوا ذلك تحت حكم العثمانيين، وثانية تحت حكم البريطانيين. وهذا جعل مصالح هذه الفئات تتوافق مع مصالح الحكام الإمبرياليين، وتسبب لهم بالمتاعب حين غادر هؤلاء الحكام.

فالأشوريون مثلاً، خدموا في الجيش البريطاني، وهو ما أبغضه العديد من

ص: 49

المسلمين حين حظي العراق بالاستقلال في عام 1932م، فجرت حوادث انتقام من الأشوريين جراء ذلك. وفي عام 1933م ذُبح عدد كبير من الأشوريين في شمال العراق ودمرت قراهم في شمال العراق.

وكان لدى اليهود أيضاً روابط وثيقة مع البريطانيين، ورأى عدد كبير من اليهود العراقيين في الطبيعة العالمية للإمبراطورية البريطانية فرصة لإنشاء أعمال تجارية كبيرة وناجحة، وامتدت هذه الأنشطة من بغداد إلى مانشستر في إنجلترا إلى الهند. فعائلة ساسون المشهورة مثلاً كانت عراقية ويهودية. ولكن وبعد مغادرة البريطانيين رأى القوميون العراقيون في اليهود جيوباً للنظام الاستعماري القديم، وصُوِّروا كأجانب مع أن بعضهم ظل عراقياً لأكثر من ألفي عام ، أي منذ النفي البابلي الذي وصفه الكتاب المقدس، فغادروا البلاد جماعياً في أوائل خمسينات القرن الماضي ولم يتبق منهم أحد اليوم.

عانت العراق من عدد كبير من الانقلابات في منتصف القرن العشرين، وفي آخر الأمر تولىَّ حزب البعث السلطة في عام 1968م. كان صدام حسين هو القائد في الظل فی حزب البعث حتى تولَّى الرئاسة بنفسه في عام 1979م. كان البعثيون قوميين عرباً متطرفين ورأوا في العراق بلداً ذا هوية عربية خالصة، وهذا جلب لهم النزاع مع مختلف الأنسجة الاجتماعية التي يتألف منها العراق. وضعت مجتمعات الأقليات المختلفة في العراق استراتيجيات مختلفة للتعامل مع البعثيين وفقاً لمختلف الظروف؛ فلم يضطهد الشيعة لكونهم شيعة بل لسبب ما اعتقد بأنّ لهم روابط مع إيران والفرس. فكان الشيعة المنتمون إلى حزب البعث قادرين على الوصول إلى مراتب عالية. أما الأشوريون، وهم مجموعة عرقية ودينية ولغوية مختلفة عن العرب، فظلّوا قادرين على الحفاظ على هويتهم الدينية وواجهوا قدراً أقل من المشاكل مع النظام البعثي حيث مثّلوا أنفسهم كمسيحيين أشوريين عرب وليس كطائفة عرقية منفصلة. ظل البعثيون، ولا سيما تحت حكم صدام حسين ينظرون بعين الشك إلى الأكراد وتعاملوا بقسوة معهم، فنقلوا العرب إلى مناطق كردية استراتيجية وحاولوا تغيير ديموغرافيتها. كانت

ص: 50

أشد التكتيكات قسوة استعمال الغاز الكيميائي ضد الأكراد في أواخر ثمانينات القرن الماضي حول منطقة حلبجة.

وكما هو متوقع، أصبحت العراق أقل تنوعاً مع مرور السنوات، فلم يعد فيه يهود والمجتمعات المسيحية تتضائل ولربما تتلاشى بالكلية وواجهت مجموعات مثل الأيزيديين مشاكل مؤخراً. فإذن، وكما هي الحال في مصر، تحدث عملية توحيد عرقي ولغوي في العراق.

الحالة الثالثة : إيران

آخر حالة تتناولها هذه الدراسة هي إيران. يمكن للبعض أن يتساءل عما إذا كانت حالة إيران مناسبة في هذا السياق، فمن البيِّن أنها ليست «ما بعد استعمارية» بالطريقة التي يمكن بها أن ننظر إلى مصر والعراق حيث لم تستولِ عليها قوة استعمارية قط. في النصف الأول من القرن العشرين قسم البريطانيون والروس إيران إلى مناطق نفوذ، ولكن البلاد لم تصبح قط جزءاً من إمبراطورية أوروبية. ورغم ذلك، برز في إيران القدر نفسه من معاداة الاستعمار والإمبريالية الذي ظهر في غيرها من بلدان الشرق الأوسط. فلقد دعمت القوى الغربية أسرة بهلوي التي تولَّى أفرادها منصب الشاه خلال القرن العشرين وجرت أكثر الحوادث إثارة للجدل في هذا السياق في عام 1953 حين هدد رئيس الوزراء محمد مصدق المصالح الغربية عبر تأميم الصناعة في إيران. دعم كل من الأميركيين والبريطانيين الإطاحة بمصدق، وأعادوا الشاه المحابي للغرب إلى الحكم بعد هروبه في أثناء الأزمة.

تشكل في إيران العديد من الحركات السياسية والدينية المعادية للسيطرة الاستعمارية. وكما هي الحال في العديد من البلدان الأخرى في حقبة ما بعد الاستعمارية، فقد رأت هذه الحركات أن السياسات الغربية عبارة عن إمبريالية جديدة. واجتمعت هذه الحركات في عام 1979م لتتعاون وفقاً لإطارها المعادي للإمبريالية ومقابل نجاح القوميين في مصر الذي تبعه قمع الاشتراكيين

ص: 51

والإسلاميين، نجح الإسلاميون في إيران وقمعوا القوميين والاشتراكيين. إلا أن التشابه بين النمطين واضح.

وبعد تولي السلطة، حكم الإمام الخميني إيران باسم الإسلام الشيعي الممزوج ببعض القومية الفارسية. فقام جدل حاد حول تسمية الخليج بالفارسي أو العربي (والأخير هو الاسم المحبذ لدى البلدان العربية والولايات المتحدة). وظل الجدل قائماً حتى جرى رفض إعادة تسمية الخليج بالخليج الإسلامي، إذ صمم الإيرانيون على أنه الخليج الفارسي وأحدثت النزعة القومية الفارسية مشكلة في إيران نفسها، فمع اعتبار العديد من الناس بأن الإيراني يتماهى مع الفارسي، ولكن هذا بخلاف الواقع. فالفرس طائفة عرقية ولغوية تؤلف 50-60 في المائة من سكان إيران. وكما هی الحال في غيرها من الدول ما بعد الاستعمارية، اعتمدت إيران الإسلامية ما اعتبرته هوية سياسية حقيقية وأصيلة (التشيع الفارسي) كبديل لما رأت فيه المنظومة الاستعمارية القديمة، فارضة هذه الهوية على مجتمع لا يتماهى بمجمله معها. وفي هذه العمليات همشت اللغات الأخرى وحدت حقوق الأقليات والمجموعات الدينية الأخرى. وبهذه الطريقة، ومع أن إيران لم تتعرض للاستعمار قط، فقد واجهت العديد من القضايا التي نشأت مع أفول شمس الإمبراطوريات الاستعمارية.

الخلاصة

كما يظهر في حالة إيران فليست كل الدول التي تظهر عليها نزعات ما بعد استعمارية كانت تحت الحكم الاستعماري. وعلاوة على ذلك، وكما هو مذكور من قبل، فبعض الدول التي استعمرت سابقاً لم تظهر عليها هذه النزعات فلا يزال الجدل دائراً حول مدى فائدة استخدام مصطلح «ما بعد الاستعمار». إلا أن الحجج المؤيدة عن ما بعد الاستعمار والبلدان ما بعد الاستعمارية لا تزال مهمة في تاريخ الشرق الأوسط، وأرجو أن يوضح هذا المقال الجدل الدائر حول هذا الموضوع بشكل أفضل.

ص: 52

فلسفة ما بعد الاستعمار

بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة

حازم محفوظ(1)

تنتمي نظرية ما بعد الاستعمار إلى النظريات الفلسفية النقدية الحديثة التي تدور رحاها بشكل وثيق في إطار الفلسفة السياسية، وتعد تطوراً طبيعياً وضرورياً لفلسفات ما بعد الحداثة والتفكيك، وقد جعلت جل اهتمامها وآلياتها المنهجيّة والمعرفية تقويض خطاب المركزية الغربية بكل أبعاده السلطوية والاستبداديّة، خاصة في حقل الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية سواء أكان ذلك على مستوى الفكر أو مستوى الفعل.

وإذا كانت نظرية ما بعد الاستعمار - التي توحي بوجود نوع جديد من الاستعمار عن طريق استخدام الأساليب غير التقليدية للسيطرة والهيمنة والذي كانت إحدى تجلياته الإمبريالية - قد شُيّدت عن طريق مفكرين أمثال : إدوارد سعيد، فرانز فانون، هومي بابا جياتري سبيفاك، وجاك دريدا ... وغيرهم بهدف تفكيك خطاب الهيمنة والمركزية والنزعة الذاتية المسيطرة على التفكير الأوروبي؛ فهل يمكن القول أن

ص: 53


1- خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية - مصر.

التفكيك الذي يهدف إلى خلخلة الذات وإعادة صياغة العلاقة بينها وبين الآخر، بغرض التخلّي عن النزعة الذاتية وخطاب الهيمنة هو شكل آخر من أشكال النزعة الذاتية التي تعطي الذات وضعاً حراً يتيح لها ممارسة سلطة مطلقة في وضع نفسها في الصدارة في كل شيء؟ وبالتالي يعد امتداداً لنظرية الاستعمار الغربية حتى وإن حاول أن ينقضها؛ لأنه ما زال يدور في فلكها.

بمعنى آخر هل ما تقدمه استراتيجية ما بعد الاستعمار والتفكيك يمكن تعريفه على أنه إعادة الذات إلى محور الوجود والهيمنة من حيث حرية كل قارئ في تقديم نصّه عن طريق إعادة كتابتهِ (أي تفسيره) بالطريقة التي يراها؟ وعلى ذلك هل يمكن القول بأن هذا يعني ثقة جديدة في قدرات الذات؟ وهل المركزية الغربية موجودة على المستوى المعرفي فقط أم أنها تتخطى السّياق المعرفي إلى الممارسة الفعلية؟ وعلى هذا النحو كيف يمكن فهم المفاهيم الرئيسية في إطار نظرية ما بعد الاستعمار من قبيل نقد الخطاب المركزي المتمثل في المعرفة (الابستمولوجيا) وتصور التاريخ على أنّه تاريخٌ واحدٌ للإنسانية (التاريخية)، والاقتصاد على أنه اقتصادٌ واحدٌ (اقتصاد السوق الحر) والعولمة التي تهدف إلى إفقار دول العالم الثالث والقضاء عليه، والثقافة على أنها ثقافة واحدة (ثقافة العقلانية الغربية)؟

وكيف يمكن إيجاد علاقة جديدة بين الشرق والغرب تقوم على احترام الخصوصيات والاعتراف بالتعدّدية؟ وكيف يمكن محاربة التغريب هل يكون ذلك بإنشاء علم الاستغراب وجعل الغرب موضوعاً لدراسة موضوعية من قبل الآخر أم بالاعتصام بالأسس والمعايير الموضوعية والتحصّن بميراث التاريخ والوعي ؟

وعلى أيّ نحوٍ يتسنّى لنا الحفاظ على هويتنا المميّزة والوقوف في وجه عمليات التهميش وفرض الهيمنة المركزية للغرب ورفض كل أشكال الاستلاب والتبعيّة؟

ولكي يتسنّى الإجابة على هذه الأسئلة ينبغي عرض الخطوط العامة لنظرية ما بعد الاستعمار والتفكيك مع التركيز على المحور المعرفي والسياسي والاقتصادي والثقافي.

ص: 54

(أولاً): نقد بنية المعرفة الغربية (الابستمولوجيا)

الواقع أن الغرب اعتبر نفسه ممثلاً للوجود الإنساني الحقيقي على الأرض، واعتبر نمط معرفته هو النمط الأمثل للمعرفة، كما اعتبر وجوده هو كل الوجود وتاريخه هو تاريخ العالم وكماله في نفس الوقت، ولعل هذا ما عبّر عنه هيجل بوضوح حين جعل الغرب ممثلاً لقمّةِ وعي الروح المطلق بذاته كما اعتبر العالم الغربي يمثل قمة اكتمال تطور الروح المطلق.

يقول روبرت يانج: «فيما يتعلق بالمعرفة الأوروبية بالمجتمعات الأخرى بصفة عامة كانت التاريخية تعني تاريخاً إنسانياً واحداً يجمع البشرية إما بلغ الذروة أو كان يراقب من مواقع الهيمنة الخاصة بأوروبا أو الغرب(1)

وقد قامت فلسفة التفكيك بدور لا ينكر في التنبيه على مركزيّة الذات. تقوم استراتيجية التفكيك عند «دريدا» على سبيل المثال على رفض المذاهب التقليدية في الفكر الغربي ونقدها إنطلاقاً من رفضها من قِبَل المركزية الغربية، لكنها لا تتوقف عند الجانب السلبي فقط الذي يتمثل في الرفض والنقد، وإنما تقوم بتفكيكها، ولمّا كانت المعرفة في ذاتها كيان متغير دائم التحول لأن العالم الخارجي الذي يرتبط به الوجود في حالة تحول وتغيّر مستمر، فإن تحقيق المعرفة بهذا العالم المتحوّل والمتغير تفترض وجود (مركز ثابت)، يرى «دريدا» أن له أسماء مختلفة عبر تاريخ الفلسفة مثل المركز الثابت والجوهر، والكينونة، والحقيقة، الوعي، الله، الإنسان... الخ. وهي تسميات تشير في رأي دريدا إلى «المدلولات العليا» التي تمثل أرضية ثابتة تقف فوقها متغيّرات العالم الخارجي الذي يمدنا بالمعرفة وهذا المركز الثابت هو ما يرفض المشروع التفكيكي الاعتراف بوجوده فهو ما يحاول التفكيكيون تفكيكه (خلخلته) باتباع منهجهم الذي يتمثل في تحديد الفكرة/ الموضوع وكشفه وفضح أساليب الاستعمار الغربي.

ص: 55


1- يانج، روبرت أساطير بيضاء كتابة تاريخ الغرب؛ ترجمة: أحمد محمود المشروع القومى للترجمة؛ (616)، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص8.

ويعرّف «دريدا» التفكيك فيقول :«فالتفكيك - إن كان موجوداً، وحتى لو ظل تجربة المستحيل - ليس واحداً.«إن كان موجوداً»، كما اعتقد أنه من الواجب أن نقول دائماً، وبحسب وجهة الممكن غير القابلة للاختزال. إنه (ممكن الممكن المستحيل)، إذ يوجد أكثر من تفكيك واحد، وهو يتكلم أكثر من لغة. هذا هو قدره.. فكان واضحاً أن التفكيكات ينبغي أن تقال بصيغة الجمع . كل لحظة من هذه التجربة ترتبط بأشكال من الفرادة وعلى الخصوص أشكال اللغة المتفردة. وطبعاً، سرعان ما دارت مسألة التفكيكات حول ما يسمى بطريقة ملغزة :اللغة المتفردة، ورهانات اللغة المتفردة. فكان ذلك يمس ألغاز الترجمة ومفارقات البصمة الشخصية(1).

ويعلّق «عبد العزيز حمودة» على منهج التفكيك بشكل عام فيقول:«نعرف أن التفكيك يتحول إن عاجلاً أو آجلاً إلى كل قراءة نقدية أو تركيبة نظرية. حينما يتم اتخاذ قرار تظهر السلطة. حينما تعمل النظرية أو النقد عندئذ يشكك التفكيك بمجرد أن يفعل ذلك يصبح مخربا... وفي نهاية الأمر يحقق التفكيك مراجعة التفكير التقليدي»(2)،ويستطرد مؤكداً على أن التفكيك:«كالثور الهائج أطلقه عصر الشك الشامل من مربطه يحطم كل شيء فلا شيء معتمد ولا شيء موثوق ولا شيء مقدّس»(3). لكن هل يمكن قبول قول الدكتور حمودة على علّاته؟ بمعنى أن التفكيك هنا يقضي على كل شيء أم أن التفكيك ما زال مُبقياً على سيطرة الذات دون أن يكون بوسعه استكشاف مواطن الاختلاف بين الشرق والغرب وتحديد أنماط التفكير المميزة لكلاهما؟ بحيث يمكن القول بأنه يدور في مدار الميثولوجيا البيضاء التي كان لها الغلبة على الفكر العالمي والتي تعتبر أنّ الغرب هو مصدر العلم والمعرفة والإبداع حتى وهو ينتج نظرياته التفكيكية، أما الشرق فهو مصدر الخرافة والأساطير.

ص: 56


1- دريدا، جاك، لغات وتفكيكات فى الثقافة العربية ترجمة : عبد الكبير الشرقاوى (لقاء الرباط مع جاك دريدا) سلسلة معالم ؛ عدد - 239 - ط 1 الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1998، ص 193. . . -
2- عبد العزيز حمودة المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، عدد 232، الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، 1998، ص 293.
3- المرجع السابق، ص 309.

يقول «أدوارد سعيد» كان الشرق تقريباً اختراعاً غربياً وكان منذ القدم مكاناً للرومانسية والكائنات الغريبة المدهشة والذكريات والمشاهد الشابحة والتجارب الاستثنائية(1).

ومن منطلق سعيه لتفكيك المركزية الغربية عمد «دريدا» - بوصفه أحد فلاسفة التفكيك - إلى اقتحام سكونيّة الميتافيزيقا الغربيّة متسلحاً بمقولة التمركز العقلي لتمييز نزعة التمركز الطبيعية في هذه الميتافيزيقا التي تعد السياسة إحدى تجلياتها، ويخلص دريدا إلى أن أكثر السبل تأثيراً، التي نهض عليها التمركز العقلي (Logocentrisme) في الفلسفة الأوروبية «هو اهتمامها بالكلام على حساب الكتابة، فالتمركز المنطقي هو في حقيقة الأمر تمركز صوتي، ويرجع جذر هذا الاهتمام إلى أفلاطون»(2)، ويمتد متمثلاً في وسائل الإعلام الغربية التي غدت سلطة تعرف بالسلطة الرابعة وقد أجاد الغرب استخدامها.

إذا كان البعض يذهب إلى أن «دريدا» قد انتهى في التفكيك إلى تأكيده على التعدد والاختلاف وإلغاء الحضور والتعالي، وذلك بهدف تقويض ميتافيزيقا الحضور التي تستند إليها الحضارة الغربية، وكذا الهيمنة السياسية الغربية، الأمر الذي يسمح بظهور بدائل حضارية وفكرية وفلسفية تتغاير عما أرسته الميتافيزيقا الغربية(3)، إلا أن هذه قراءة متعجّلة لا تكشف عن الثابت عبر النصوص وإنما تأخذ بظاهر النص.

في الواقع، ربط «دريدا» بين مركز اللوغوس (أو العقل) وبين ميتافيزيقا الحضور؛ حيث يرى أن الفكر الغربي منذ أفلاطون وحتى هيجل كان فكر ميتافيزيقا الحضور، ولذلك فموقف التفكيك معارض لهذا الفكر ومعارض أيضاً لموقف الهيمنة السياسية والاستعمارية.

ص: 57


1- إدوارد سعيد، الاستشراق؛ ترجمة وتحقيق صبحی ،حدیدی بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،1996 ص 29.
2- أحمد عبد الحليم عطية دريدا والفكر العربي المعاصر، ضمن أبحاث أوراق فلسفية بعنوان ما بعد الحداثة والاختلاف، مقالات فلسفية، أوراق فلسفية عدد ،3 القاهرة: د.ن، 2000 ، ص 164.
3- المرجع السابق، ص 165.

وإذا كانت المركزية الغربية (1)تستند في تثبيت دعائمها إلى مركزية العقل وميتافيزيقا الحضور في ما يقول «جاك دريدا»، فإن العقل يصبح هو المبدأ الذي يقبل أو يرفض الغرب على أساسه عقيدة ما أو فكرة ما أو ثقافة ما أو ممارسة سياسية ما باعتبار ان كل ما ليس عقلي غير مقبول ويتساوى مع الخرافة رغم أن الغرب يمارس لا معقولية لا تقبل الشك في ما يتعلق ببعض القضايا السياسية التي تقع خارج مجاله الحيوي؛ فعلى سبيل المثال موقف الغرب حتى الآن من القضية الفلسطينية الذي يعبّر عن لا معقولية شديدة؛ إذ تتنافى ممارساته السياسية في الأرض المحتلة أبسط مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي الإنساني.

ويرى «دريدا» أن التراث الفلسفي الغربي (2)ونظرياته المختلفة ما هو إلا صيغ مختلفة (3)من نظام واحد هو «التمركز حول العقل» و «ميتافيزيقا الحضور» فغاية دريدا هو تفكيك كل المراكز الدلالية، وبؤر المعاني التي تشكّلت حولها؛ فالممارسة الفكرية حول «اللوغوس» أنتجت تمركزاً عقلياً أقصى كل ممارسة فكريّة لا تمتثل لشروطه، لأنه ربط بينه ومعنى الحقيقة، وأنتج نظاماً مغلقاً للتفكير. أما فكرة الحضور فتمثّل مبدأ راسخاً مفاده أن الموجود يتجلى بوصفه حضوراً(4). إن الحضور المقصود

ص: 58


1- إن قضية المركزية الأوروبية ليست هي موقف النظريات العالمية فقط بل أيضاً التفسيرات التاريخية، التي تؤكد الاختلاف والنسبية الثقافية كضد للحقيقة الموضوعية والتواصل التاريخي، وضد أحادية المفاهيم اللاهوتية للتاريخ. إلا أن هذه الأوضاع لا تمنع بالضرورة بناء أوروبا بوصفها المركز، والآخر غير الأوروبي بوصفه أدنى وأقل في الإنسانية. فالإنكار المطلق للحقيقة العامة والقيم العالمية يؤدي إلى إنكار الطبيعة المشتركة بين المشتركين في ثقافات مختلفة. وهنا تكون الخطوة للعرقية تأخذ شكل بناء الآخر بوصفه مختلفاً ولديه معايير للإنسانية مختلفة. (لارين، جورج، الإيديولوجيا والهوية الثقافية : الحداثة وحضور العالم الثالث، مرجع سابق، ص29).
2- إن تاريخ الثقافة الغربية هو بالنسبة لدريدا تاريخ كبت، وتأجيل مسألة الحضور من هنا تصبح دلالة الحضور مسألة اكتشاف للسكوت المؤجل فى الخطاب». ويتمر، باربرا، الأنماط الثقافية للعنف؛ ترجمة: ممدوح يوسف، عمران، سلسلة عالم المعرفة، عدد 337 ، الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2007، ص205).
3- إن دريدا الذى يقتطع هذه التصورات في بعض الأحيان من نصوص أخرى، يلعب بها... دون تحفظ ف- Le pharmacon... مقتطع من روسو ما هو لا الزائد ولا الناقص ، لا خارج ولا مضاف لداخل ما، لا هو بعرض ولا جوهر...الخ، مقتطع من مالارمى Mallarme ما هو لا الغموض ولا التمييز ، لا الهوية ولا الاختلاف، لا الاستهلاك ولا البكارة، لا الحجاب ولا السفور ، لا الداخل ولا الخارج ... الخ). (كوفمان، سارة و لابورت روجي، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا: تفكيك الميتافيزيقا واستحضار الآثر؛ ترجمة إدريس كثير وعزالدين الخطابي . - 2 - الدار البيضاء: أفريقيا الشرق 1994، ص74.
4- عبد الله إبراهيم، المطابقة والاختلاف المركزية الغربية : إشكالية التكون والتمركز حول الذات، الدار البيضاء، بیروت: المركز الثقافي العربي، 1997، ص320.

هنا هو حضور الذات الغربیة فی کافة مجالات الممارسة الفکریة و العلمیة و منها بالضرورة المجال السیاسی الاستعماری.

وهذا ما تؤكده نصوص «دريدا» نفسها؛ إذ يقول:«الحركة المثالية التي تتجلى الذاتية من خلالها، كما يقال، وتتجلى من خلالها روح الجسد الرنان، تدركها الأذن بنفس الطريقة النظرية التي تدرك بها العين اللون أو الشكل. وهكذا تصبح داخلية الموضوع هي داخلية الذات نفسها ... )(1)، ويستطرد قائلاً:«حضور الشيء للنظر بوصفه صورة أو فكرة مدركة الحضور بوصفه جوهر وجود حضور زمني وتحديد للآن أو للحظة، حضور الكوجيتو أمام الذات، وعي، ذاتية، الحضور المشترك للذات وللآخر، والعلاقة بين الذوات كظاهرة قصدية للأنا... إلخ . تؤكد مركزية اللوجوس إذن تحديد وجود الموجود بوصفه حضوراً... إن حقبة اللوجوس تضع الكتابة في منزلة سفلى وتراها واسطة لواسطة وسقوطاً في خارجية المعنى. وإلى هذه الحقبة

ينتمي الاختلاف بين الدال والمدلول»(2). إن الذات هنا والمقصود بها الذات الغربية المهيمنة حاولت وتحاول تحويل كل ذات أخرى مغايرة لها إلى موضوع بحيث تعتبر الذات الغربية نفسها هي الحضور وهي الوجود. ومن هذا المنطلق أسست نظريتها الاستعمارية على أساس أن كل ما ليس غربي فهو موضوع للذات الغربية.

لقد رأى «دريدا» أن الكوجيتو الديكارتي يعد مركز هذا الحضور ولم يستطع ان يفلت من مركزية الكوجيتو حتى ميشيل فوكو رائد الاتجاه التفكيكي، وفي هذا الصدد يقول «دريدا» في (الكوجيتو وتاريخ الجنون) «أن الكوجيتو صحيح حتى ولو كنت مجنوناً أي حتى إذا كانت أفكاري مجنونة تماماً»(3).

ولقد أكد «هيدغر» على أن التاريخ الغربي منذ بدايته، وعلى امتداده، ظل يبرهن

ص: 59


1- دريدا، جاك، في علم الكتابة؛ ترجمة وتقديم: أنور مغيث و منى طلبة المشروع القومى للترجمة؛ عدد950.- ط 1. - القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص 73.
2- دريدا، جاك، في علم الكتابة، مرجع سابق، ص 74 .
3- Melehy, Hassan; Writing Cogito: Montaigne Descartes, and the Institution of the Modern Subject. New York: State University of New York Press, 1997, p. 36.

على أن الفكر الغربي ذا نزعة ذاتية، وقد برهن على ذلك من خلال تفكيك كل الميتافيزيقا الغربية في كتابه «العدمية الأوروبية» وهو كتاب على الرغم من أهميته الفكرية والسياسية لأنه يفضح أشكال الهيمنة الغربية إلا أنه لم يتم ترجمته إلى العربية حتى الآن.

من مركزية العقل انطلق «دريدا» ورأى أن جميع الفلسفات فلسفة (مركز العقل)، وهذه الفلسفات ما هي سوى نوع من (مركزية أوروبا)، وأعتبر الغرب المحور الرئيسي للفكر والنموذج الذي يجب أن يحتذى في كل المجالات الآخرى بما فيها المجال السياسي؛ إذ غدت الديمقراطية الغربية هي النموذج الأمثل للفكر السياسي وأساليب الحكم. أما التفكيكية بمعنى ما «تقوم على رفض المذاهب السابقة وتخطئ كل المشاريع بل إنها في جوهرها تقوم على رفض التقاليد والسلف التي ترى أنها تحجب المعنى وتكبته»(1). ولذلك يقول «ليتش» في تمهيده لدراسته عن التفكيك:«إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرّب (subverts) كل شيء في التقاليد تقريباً وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة واللغة والنص والسياق والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير وأشكال الكتابة النقدية. وفي هذا المشروع فإن المادي ينهار ليخرج شيء فظيع»(2). ولكن رغم كل ذلك فإن التفكيكية لم تستطع التخلص كلياً من السياق المعرفي الحاكم للفكر الغربي القائم على السيطرة والهيمنة.

والواقع أن «دريدا» قد ربط بين مركزية العقل، وبين الكلام المسموع والصوت(3)؛ بحيث أن مركزية العقل توظف الكلام المسموع والصوت لتكريس حضور الذات، فهناك تواطؤ بين نزعة العقل المركزية وامتياز السمع والصوت، أي

ص: 60


1- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، مرجع سابق، ص165.
2- المرجع السابق، ص291-292.
3- يؤكد دريدا على ارتباط الصوت والكتابة الصوتية بحضور الذات فيقول : إنه الاهتمام البالغ بالصوت والكتابة الصوتية فى علاقتهما بالتاريخ العام للغرب، وكما سيتم تمثلها فى تاريخ الميتافيزيقا في شكلها الأكثر حداثة ونقدية وحذراً، أعنى الفينومينولوجيا المتعالية لهوسرل» دريدا، جاك مواقع حوارات مع جاك دريدا (هنری رونس - جوليا كريسطيفا - جيي سكاربيتا - جان لوى (هودين ؛ ترجمة وتقديم فريد الزاهي سلسلة المعرفة الفلسفية؛ عدد 125.- ط 1-0 الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1992، ص 11).

ميتافيزيقا الحضور، أي الوجود المدرك كحضور حضور الشيء للرؤية كشكل (eidos) حضور كجوهر، ماهية وجود (ousia)، حضور مؤقت كذروة للآن أو للحال حضور الكوجيتو لذاته ... مقربة الصوت والوجود مقربة الصوت ومعنى الوجود، مقربة الصوت وأمثلة المعنى... تواطؤ نزعة العقل وصوت المركزية (Logophonocentrisme) ... إن صوت الحقيقة هو دائماً صوت القانون، صوت الله، وصوت الأب إنها رجولة أساسية للوجوس (Logos) الميتافيزيقي»(1). ولا نجانب الصواب إن قلنا أن صوت الحقيقة هو دائماً صوت مراكز الأبحاث الغربية التي تريد الهيمنة على الشرق باسم القانون وصوت آلاتها الإعلامية الجبارة التي تقضي على كل ما هو مخالف للغرب.

وإذا كان «دريدا» يقول - منطلقاً اللغة من التي تعد إحدى تجليات الكتابة: «إن السيطرة تبدأ كما نعلم من خلال سلطة التسمية (إطلاق الأسماء)،... وهذا التأسيس للسيادة قد يكون مفتوحاً شرعياً ومسلحاً أو مخادعاً، يختفي تحت زرائع النزعة الإنسانية (أنسنة الكون)، وأحياناً في شكل أكثر أنواع الضيافة كرماً فهو يتبع دوماً أو يستبق الثقافة مثل ظلها»(2)، وبما يعنى أن « دريدا» يرفض مركزيّة ،الذات إلاّ أن أحادية لغة الآخر كما يقول «دريدا» ستكون تلك السيادة، ذلك القانون الناشئ من مکان آخر، بشكل مؤكد.... إن أحادية اللغة التي فرضها الآخر يعمل بالاعتماد على هذه القاعدة، هنا، من خلال سيادة يبقى جوهرها دوماً استعمارياً، وتميل بشكل قمعيٍّ ومؤثرٍ، لاختزال اللغة للذات ،أي لهيمنة المسيطر . وهذا يمكن التحقق منه في كل مكانٍ كل مكانٍ تبقى فيه هذه الهيمنة - المتجانسة تعمل في الثقافة»(3).

ومن ناحية أخرى، فقد طرح «دريدا» مفهوم التسامح في فلسفته؛ حيث يرى «أن التسامح فضيلة مسيحية... (بمعنى) أن يوافق المسلمون التعايش مع اليهود

ص: 61


1- كوفمان، سارة و لابورت روجی، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا: تفكيك الميتافيزيقا واستحضار الآثر، مرجع سابق، ص 65 - 66.
2- دريدا، جاك، أحادية لغة الآخر ، فضاءات للفكر والثقافة والنقد، فى 5 إبريل 2001. http://www.fadaat.com/a5/a5p6.htm
3- الموقع السابق

والمسيحيين، وأن يوافق اليهود التعايش مع المسلمين، وأن يتسامح المؤمنون مع غير المؤمنين... ومن ثم يصبح السلام هو التعايش المتسامح»(1).

لقد لاحظ «دريدا» أن التسامح في التراث الغربي لم يكن له أي مدلول سياسي أو اجتماعي، وأنه كان يشير فقط إلى فضيلة دينية، وأكد أن الشخص المتسامح هو صاحب المكانة الاجتماعية الأعلى وأنه الأقوى القادر أيضاً على الإبعاد والنفي، بل إن من حقه أن يستبعد الآخر، الأضعف والأقل مكانة، وأن ينفيه، وأن لا يرى لهذا الآخر أي حقوق، ولكنه بصفته فاضلاً متديناً يتسامح فيمنح الآخر ما يراه من حقوق كما يستطيع ويملك الحق في أن يسحبها في أي وقت. ويضيف «دريدا» «أن التسامح في التراث الغربي بهذا المعنى يصبح مجرد نوع من الإحسان»(2)؛ ومن ثم لا يوجد معيار ثابت يتيح نوعاً من الموضوعيّة في تحقيق التسامح بل يعتبر منّة وفضل من الذات المتسامحة؛ أي الذات الأقوى والمهيمنة على الآخر.

الواقع، أن «دريدا» يرفض في نصوص أخرى الصفح من موقف كلي، ويقره من موقف جزئي؛ إذ يقول :«يصفح الصفح فقط عما لا يقبل الصفح. ليس في وسعنا، أو قل ليس علينا أن نصفح، بل ليس هناك صفح - هذا إذا كان أصلاً موجوداً .... فإنَّ الصفح وجد نفسه بموجب مالا يقبل الصفح ذاته، إذن!»(3).

وقد ضرب «دريدا» مثلاً على عدم إمكانية الصفح بامرأة فقدت زوجها في حرب بين دولتين؛ حيث أن ما أضير من فقد الزوج هو زوجته على حد قول دريدا، ومن ثم فمن يملك الصفح ليس السلطة السيادية، وإنما الفرد ممثلاً في المرأة التي فقدت زوجها.

وفي نص آخر يؤكد على هذا المعنى قائلاً: «ما أحلم به، وما أحاول التفكير فيه

ص: 62


1- Borradori, Giovanna; Philosophy in a time of Terror: Dialogues with Jurgen Habermas and Jacques Derrida, Chicago and London: The University of Chicago Press, 2003, p. 126, 127 and 161.
2- دريدا، جاك، ما الذي حدث في 11 سبتمبر؛ ترجمة صفاء فتحى القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص 138 ، وأنظر أيضاً: سامى خشبة، نقد الثقافة القاهرة : الهيئة العامة للكتاب، 2004، ص 193.
3- دريدا، جاك ... وآخرون، المصلحة والتسامح وسياسات الذاكرة ترجمة : حسن العمراني - ط1. - الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2005 ، ص 12-13

كنقاء صفح جدير بهذا الاسم، هو صفح بلا سلطة: لا مشروط ولكنه بلا سيادة. تبقى المهمة الأكثر صعوبة إذن، الضرورية والمستحيلة فيما يبدو لي، هي فك الارتباط بين اللامشروط والسيادة. فهل سننجز ذلك في يوم من الأيام؟ الظاهر أن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت. لكن ما دامت فرضية هذه المهمة التي لا تلوح في الأفق تعلن عن نفسها، كما لو كانت حلماً بالنسبة للفكر، فإن هذا الجنون ربما ليس مجنوناً بما فيه الكفاية»(1).

ویری «دريدا» أن التسامح هو نقيض الاستضافة؛ إذ قال عند سؤاله: هل توافق على اعتبار التسامح شرط من شروط الضيافة ؟ كلا، إن التسامح في الحقيقة نقيض الضيافة أو على الأقل يضع حداً لها »(2).

ومن هذا المنحى، ذهبت «جيوفانا بورادورى» إلى أن دريدا في مفهومه للاستضافة «ركز على الالتزام الفريد الذي يحمل كل واحد إزاء الآخر»(3)، حتى لو كان هذا الآخر غريباً غربة كاملة «ولم توجه إليه الدعوة، ولم يكن منتظراً، ولكن ينبغي قبوله قبولاً كاملاً غير مشروط ، باعتباره زائراً ومقيماً، لا ينازعه أحد في أي حق من حقوقه... وبوصفي صاحب البيت والأرض والإقليم... فأنا لا أدعوك ولا أرحب بك في بيتي بشرط أن تستسلم للغتي وتراثي وتقاليدي وذاكرتي... وإنما استقبلك وأستضيفك بشكل مطلق ودون شروط»(4).

في الواقع، لقد طرح «دريدا» مفهوم الاستضافة «بشكل يعبر عن تفكير فلسفي مجرد ، وأنه ليس فكراً سياسياً ولا هو فكر ،اجتماعي، ولا يطرح برنامجاً عملياً للتنفيذ، فهو لا يقدم أكثر من فكرة وعظية، كما أنه في طرحه لهذه الفكرة، زاد كثيراً من قدرات المضيف (المتسامح)، صاحب البيت، بينما أضعف كثيراً من الحقوق المقررة المؤكدة للزائر، الضيف»(5).

ص: 63


1- المرجع السابق، ص 37.
2- Borradori, Giovanna; Philosophy in a time of Terror, Op. Cit., P. 16 and 127.
3- Ibid; P. 17.
4- Ibid; P. 162.
5- سامي خشبة نقد الثقافة، مرجع سابق، ص195.

ولذلك من حقنا أن نتساءل: هل كانت فكرة الاستضافة التي طرحها «دريدا» قد جاءته بتأثير من تاريخ أسلافه اليهود (1)في الغرب،«الذين كانوا يُعتبرون زائرين غرباء غير مرغوب فيهم، ولم يوجِّه الدعوة إليهم أحد، ولم يكن أحد ينتظرهم، ولا يرغب أحد في وصولهم ولا في بقائهم في بيته الغربي الذي أرادهُ صاحبه دائماً نقياً نقاءً عنصرياً ودينياً مطلقاً لا يلوثه أي آخر غريب، حتى ولو كان هذا الآخر أوروبياً يعتنق الدين نفسه ولكنه ينتمي إلى عرق آخر، أو إلى مذهب مختلف»(2).

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق أيضاً، هل تأثر «دريدا» بهذا التاريخ الدامي لأبناء دينه الأصلي في الغرب، فأراد أن يغرس فكرة أو مبدأ استضافتهم دون شروط وحلولهم ضيوفاً لهم كل حقوق أصحاب البيت بعيداً عن مبدأ التسامح؟ ولذلك نجده يقول «بالضيافة اللامشروطة في حقل القانون أو السياسة»(3).

وهل يحق لنا أن نقول ما قاله البعض :«أن انتماء دريدا الديني للديانة اليهودية كان له دور في توجيه اهتماماته الكتابية؟»(4).

وإذا كان البعض قد ذهب إلى أبعد من هذا فرأى أن ظاهرة فهم الآخر عند «دريدا»، تهدف إلى «استسلام المرء للعنف»، أو جعل نفسه شريكاً فيه، أو أنه، بالمعنى النقدي، «يذعن إلى عنف الواقع»(5) ونظراً إلى عدم إمكانية الوصول إلى الآخر، «تبدأ الحرب... وبدخوله الحرب يصل إلى الآخر بوصفه آخر (ذاتا)»(6).

ص: 64


1- يقول أدوارد سعيد أصبت بخيبة كبيرة عندما علمت أن جاك دريدا قبل دكتوراه فخرية من الجامعة العبرية في إسرائيل» (إدوارد سعيد، اللغة الفرنسية عائق أمام العالمية وسارتر من أهم الوجوه في القرن العشرين؛ ترجمة ديما فقيه صحيفة الحياة في 2007/6/30). http://www.daralhayat.com/culture/062007-/Item-20070629 - 78818496 - c0a810-ed-0082- a494879ea694/story.html
2- سامی خشبة، نقد الثقافة مرجع سابق، ص 196
3- Derrida, Jacques; penseur de l'évènement, Entretien par Jérôme-Alexandre Nielsberg. Article paru le 28 janvier 2004. (http://www.humanite.fr/200428-01-_Tribune-libre_-Jacques-Derrida- penseur-de-l-evenement).
4- أميمة الجلاهمة، تدلى بإفادات جريئة حول الصهيونية ومعاداة السامية، الإسلام اليوم، حوار عبد الحي شاهين، في 11 مارس 2004. 3451=http://www.islamtoday.net/print.cfm?artid
5- Derrida, Jacques, Writing and Difference. Chicago: The University of Chicago Press, 1978, P125.
6- Ibid, P.117 and 118.

وبناء على هذا، فإن ما يقوله «دريدا» ينكر ببساطة التفاعل، وهو يبقى علی تجربتنا مع الآخر كأنها تجريد اختلاف إن هذا انحدار في العاطفة الصادقة وتسطيح لما بعد الحداثة»(1).

في الواقع يرفض «دريدا» الحروب الدينية؛ إذ يقول: «هناك بالطبع شيء آخر، ومصالح أخرى (اقتصادية، سياسية وعسكرية...الخ) تقف وراء حروب الدين، وتقبع خلف ما يقدّم باسم الدين فيما وراء المعارك التي تخاض دفاعاً عنه أو هجوماً باسمه موتاً أو قتلاً أو اقتتالاً في سبيله.... وبهذا الصدد لا تشكل الحروب أو التدخلات العسكرية للغرب اليهودي - المسيحي باسم أنبل القضايا (المتعلقة بالقانون الدولي والديمقراطية وبسيادة الشعوب والأمم أو الدول والمرتبطة حتى بالأوامر أو الامتيازات الإنسانية) هي أيضاً، ومن جهة ثانية، حروباً دينية بمعنى من المعاني؟... عندئذ، وبالرغم من الأمور الأخلاقية والسياسية المستعجلة التي قد لا تترك لنا فرصة انتظار الإجابة لن يتم اعتبار التفكير في الاسم اللاتيني للدين تمريناً مدرسياً أو مدخلاً إلى فقه اللغة أو ترفاً وبكلمة نقول : إنه مجرد ذريعة لتعليق الحكم أو القرار، إنه وسيلة لإنجاز إيبوخي آخر ... ما الدين؟ الجواب: الدين هو الإجابة. أليس هذا هو الجواب الذي ينبغي أن نلتزم بتقديمه في البداية. يبقى علينا أن نعرف بالضبط ماذا يعني فعل أجاب، ومعه أيضاً لفظ المسؤولية»(2)

ويرى بعض الباحثين أن التفكيكيين الأميركيين يتجاهلون المصطلح المعرفي الفلسفي للتفكيك نظراً للمزاج الثقافي الأميركي نفسه المتحمّس للحرية الفردية وتأكيد الذات، والذي يصل في إيمانه بالذات إلى إطلاق يد القارئ(3) في تفسير النص، وتحديد معناه باعتبار أنه لا يوجد تفسير نهائي ومغلق لنص ما، وعلى أساس أن التفسير أو تحديد المعنى عملية تحدث في الزمن ومن ثم فهي عملية مؤقتة بصفة مستمرة.

ص: 65


1- ويتمر، باربرا، الأنماط الثقافية للعنف، مرجع سابق، ص 208
2- دريدا، جاك و فاتيمو جياني... مشرفين) الدين في عالمنا ترجمة محمد الهلالى وحسين العمراني (ندوة کابری) . - ط 1 . - الدار البيضاء دار توبقال للنشر، 2004، ص34-35.
3- إن أهم محاور التفكيك يرتكز على الأهمية الجديدة التي يكتسبها القارئ والدور الأساسي الذي يلعبه في تفسير النص.

ومن هذا المنحى يعتبر التفكيك في نسخته الأميركية امتداداً لفلسفة «كانط» التي تتميز بالنزعة الذاتية، وهذا ما أكد عليه «بول بوفيه» في رسالته للدكتوراه عن التفكيك عام 1975 والتي يرى فيها أن التفكيكيين برغم ما يثيرونه من صخب حول رفضهم النقاد الجدد يعتبرون في حقيقة الأمر امتداداً لهم»(1).

وبناء على ذلك فإن ما تقدمه استراتيجية التفكيك ليس إقصاء الذات بل إعادة الذات إلى محور الوجود وحرية كل قارئ في تقديم نصه وفي إعادة كتابة النص - أي تفسيره - بالطريقة التي يراها وعلى ذلك يمكن القول بأن هذا يعني ثقة جديدة في قدرات الذات وأننا نعود بالفعل إلى الذات بمعناها الكانطي.

فعلى الرغم من أن «دريدا» (وغيره من التفكيكيين) ينطلق من موقف فلسفي ونقدي ينادي بنسف التقاليد ورفض أي سلطة مرجعية لكنه لا يقدم بدائل جديدة حقيقية. البدائل الوحيدة التي يقدمها هي بدائل قد تنتمي إلى نفس المذاهب التي يرفضها والتقاليد التي ينسفها وإن كانت تغلف في صياغات براقة، تحقق بعض البريق المؤقت إلى أن تكتشف حقيقتها. فالتفكيكيون أجادوا فنون البيع والتغليف التي جعلتهم يقدمون بضائع سبق تداولها في أغلفة جديدة جذابة، ومن ثم تبدو الدراسات المتصلة غير متصلة.

ووفقاً لما سبق يمكن القول أنه إذا كان «دريدا» يركز على مناقشة تركيب العقل البشري وهو بذلك التركيز لا يتجه إلى تأكيد الذات أو الحفاظ عليها حرة مستقلة بل إنه ينفي وجود الذات كنقطة انطلاق فإنه بمحاولته إلغاء مركزية الذات، أعطى في الوقت ذاته الذات الإنسانية الفردية مشروعية كل قراءة ممكنة للنص، ومن ثم تصبح الذات هي السلطة المرجعية النهائية ولا سلطان عليها إلا ذاتها، وهذا ما هو إلا شكل متطرّف من أشكال النزعة الذاتية؛ فالتفكيكية نزعة ذاتية مثالية مغالية تجعل من الذات مركزاً لكل قراءة.

ص: 66


1- عبد العزيز حمودة المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، مرجع سابق، ص 168.

وفي السياق نفسه، إذا كان «دريدا» حاول عبر التفكيك إقصاء الذات؛ فإن إقصاء الذات لا يتم إلا بإحلال ذات أخرى مكانها، وهذا ما يمكن أن نستشفه من إدراك ،الهامش، وكذا كل ما تم إقصاؤه، وقد أكد على ذلك «هابرماس» حينما تحدث عن التفكيك بقوله: «لا يفقد نموذج من قوته إلا بمقدار ما يقوم «آخر» بنفيه، بشكل محدد أي بمقدار ما يقوم به آخر بالانتقاص منه بشكل يمكن الحكم عليه بأنه سديد؛ إن نموذج فلسفة الوعي لا يمكنه السقوط لمجرد الانتقاص لرؤية اختفاء الذات لا يمكن لعمل التفكيك - مهما كان مندفعاً - أن يحصل على نتائج قابلة للتحديد إلا بدءاً من اللحظة حيث يحل مكان نموذج وعي الذات، المرجع الذاتي لذات تعرف وتعمل في العزلة (أي التفاهم)(1).

كما يرفض «دريدا» من ناحية أخرى، القول بموت الفلسفة، وهذا يعني ضمناً رفض القول بموت الذات؛ إذ يقول: «إنني أحاول الوقوف عند حد الخطاب الفلسفي. أقول حداً لا موتاً. ذلك أني لا أؤمن مطلقاً بما شاعت تسميته راهناً بموت الفلسفة (بل لا أؤمن بكل بساطة بأي شيء : الكتاب الإنسان أو الله؛ هذا مع الوعي بأن الموت كما نعرف جميعاً يمتلك فعالية ذات خصوصية واضحة)» (2).

ومن كل هذا نخلص إلى أن «بحث دريدا، في نهاية المطاف، يظلّ سجين الميتافيزيقا، سجيناً لميتافيزيقا الحضور هذه التي غالباً ما تفكك، ولكنها لا تهدم أبداً»(3)، وإن كان من الواجب هنا أن نشير إلى أن فلسفة «دريدا» تتضمن الكثير من الجوانب الإيجابية، فهو يدعوا إلى الاختلاف وقبول الآخر، ويرفض الدخول في حروب باسم الدين كما يعتبر التسامح فضيلة دينية.

ص: 67


1- هابرماس، يورجن ، القول الفلسفي للحداثة ترجمة : فاطمة الجيوشی دمشق منشورات وزراة الثقافة، 1995، ص 475 .
2- دريدا، جاك، مواقع حوارات مع جاك دريدا، مرجع سابق، ص.12.
3- كوفمان، سارة و لابورت ،روجی مدخل إلى فلسفة جاك دريدا: تفكيك الميتافيزيقا واستحضار الآثر مرجع سابق، ص 45.
(ثانياً): نقد الهيمنة الثقافية

اعتبرت الدول الغربية ثقافتها هي المعيار الذي يجب أن تقاس وفقاً له جودة الثقافات الأخرى من عدمها، وإن كان ذلك لا ينفي جهود علماء الأنثروبولوجيا في إقرار الثقافات الأخرى، وفي هذا السياق يقول «هانيز جوست» مؤلف مسرحية «شلاتر»:«حين أسمع كلمة الثقافة أتحسس مسدسي»، وثمة قراءة أكثر دقة للنص الألماني كما يلي: حين أسمع كلمة الثقافة أزيح صمام الأمان عن البراوننج، واسم براوننج أصبح مرادفاً للبنادق الآلية ونصف الآلية التي صممها الأميركي جون م. براوننج»(1).

ويرى بعض الباحثين أنه إذا أردنا أن نصف إحدى الثقافات بشكل كامل فيجب علينا أن نتناول الأمور الأتية مستوى تطور التقنية وأسلوب الاقتصاد، ونظام السلطة، والعناصر الاجتماعية والنظام القانوني، ونظام القيم، «ويتحدث ديتر زینجهاز (Dieter Senghas) عن سداسي، أو تمدين مسدس، وهو يدرك ذلك بطريقة معيارية مثل خيط بناء أو مبدأ يحدد المجال الذي ينبغي للمجتمع أن يتحرك فيه. وهذا المسدس (Hexagon) يشمل احتكار الدولة للعنف، والنظام والقانون والمشاركة الديمقراطية وثقافة اختلاف خالية من العنف والعدالة الاجتماعية والسيطرة على الاضطرابات وتشير الأخيرة إلى أن التربية والتكيف الاجتماعي مكونان لا غنى عنهما لأية ثقافة»(2) .

فهذا الرأي يرى أن النظرة السكونية للثقافة التي جرى وصفها كانت تصح ربما على الفترات الماضية التي كان التحول فيها يتم غالباً بإيقاع بطيء، حين كان الاحتكام بين دوائر الثقافة محدوداً، والمسافات بينها مترامية، وكانت وسائل المواصلات والاتصال قليلة علاوة على بطئها، ولذلك فقد توفرت فقط فرص ضئيلة للتأثيرات المتبادلة حدثت عبر الغزو الإيجابي أو السلبي. وتحت هذه الظروف من الاختلافات السكونية نسبياً، وعلى أساس منها، فإن الإقدام على الخروج بنبوءات

ص: 68


1- جاکوبی ،راسل نهاية اليوتوبيا السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة ترجمة: فاروق عبد القادر، سلسلة عالم - المعرفة؛ عدد 269 الكويت المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، 2002، ص 49.
2- موللر هارالد تعايش الثقافات، مرجع سابق، ص 56.

سياسية مستقبلية كان ممكناً ،ربما، ولكن هذه الأزمنة انصرمت، «فالمعالم الثقافية الجوهرية في المجتمعات تتبدل الآن في غضون أجيال قليلة، بل في غضون جيل واحد فقط غالباً. لقد غير الكمبيوتر حياتنا، فهو يتدخل بشكل قوي في روتيننا اليومي ويضع معايير جديدة لمعرفتنا ولاكتساب هذه المعرفة واستدعائها، وعمل في غضون سنوات قليلة على تنوير سلوكنا الاتصالي، وذلك كله يعد علامات ثقافية هامة»(1).

ويقول «فيكتور بورك»:«يتضح لنا من تأمل أعمال سوركن أن التطورات المختلفة ارتبطت بالنتاج الثقافي مثل الديانات والأيديولوجيات ورؤى العالم تظهر داخل هذه الحضارات على المستوى العام والحضاري والمستوى الكبير والصغير وتتفاعل مع الحروب لتشكل الدول»(2).

ويقول هنتنجتون: «في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت الأعلام تدخل الحساب وتوضع في الاعتبار وكذلك رموز الهوية الأخرى مثل الصليب والهلال حتى غطاء الرأس لأن الثقافة (3)لها أهميتها ولأن الهوية الثقافية هي الأكثر أهمية بالنسبة لمعظم الناس... فالناس يكتشفون هويات جديدة ولكنهم في أحوال كثيرة يكتشفون هويات قديمة، ويسيرون تحت أعلام جديدة ولكنهم في أحوال كثيرة يسيرون تحت أعلام قديمة تؤدي إلى حروب مع أعداء جدد ولكن في أحوال كثيرة مع أعداء قدامى»(4).

وبغض النظر عن عدم الإحكام والدقة في الصياغة والإسهاب في التعبير عن المشكلة التي يريد إثارتها هنتنجتون فإنه يرى أن الثقافة الأصولية تؤدي إلى الحروب والصراعات بين الحضارات لأن الثقافة بشكل عام تقوم بوظيفتين متناقضتين.«فالثقافة والهويات الثقافية التي هي على المستوى العام هويات حضارية هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة»(5).

ص: 69


1- المرجع السابق، ص 57.
2- Burke, Victor Lee, The Clash of Civilization, Oxford: Polity Press, 1997, P. 171.
3- كانت المفاجأة الهائلة في أن هنتنجتون قد استخدم مفهوم حضارة كما في المأثور الألمانى للثقافة. وحدد فهمه للحضارة بنظم القيم، وجعل الدين في أثناء ذلك معياراً حاسماً، وفي هذا الاستعمال المحدد يكمن مفتاح لماذا أفلت منه تشابهات وتقاربات كثيرة جداً وخاصة بين آسيا واليابان والغرب.
4- هنتنجتون ،صامويل صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي، مرجع سابق، ص 220
5- محمد عابد الجابري قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص 37.

وهذا يوضح على نحوٍ دقيقٍ لماذا قامت الولايات المتحدة الأميركية عندما احتلت العراق باغتيال هويّته الثقافية فنهبت المكتبات والمتاحف على يد مرتزقة وظفتهم، وهذا عينه هو ما حدث لبغداد عند الغزو التتاري لها؛ إذ وضع التتار الكتب في نهري دجلة والفرات وعبروا عليها. ولهذا يقول «هربرت ماركيوز» : «إن التخريب الثقافي ينطوي عليه كل ممارسة سياسية جذرية»(1).

ونفس الشيء حدث لمكتبة الإسكندرية التي اغُتيلت هي الأخرى - ليتم تحطيم الهوية المصرية - على أيدي الرومان فقد تعرضت للتلف بالحريق مرات عدة أولها عام 47 ق.م عندما أراد يوليوس قيصر نقلها إلى روما، والثانية عام 272 ق.م في حكم الإمبراطور أوريليا، وعام 391 بأمر الراهب ثيوفيل»(2).

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل بإمكان هذه الكتب أن تناصب أميركا العداء؟ وهل بإمكان مقتنيات المتاحف أن تكون آلات دمار أعتى من الآلة العسكرية الأميركية؟ الذي لا شك فيه أن الكتب بما هي كتب لا يمكنها أن تدفع عن نفسها الأذى ولكن الطاقة الثقافية التي تحويها هذه الكتب والتي تعد بمثابة حصن للذات هی أخشى ما تخشاه أميركا.

الطامة الكبرى في واقعنا العربي أننا ننظر إلى الثقافة والعلم بوجه عام على أنهما أدوات ترفيهية أو إحدى كماليات الحياة العصرية ولم ننظر إلى الثقافة والعلم أبداً على أنهما خط الدفاع الأول ضد كل غزو، ولذلك دعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) إلى ضرورة تكثيف الجهود لتقليص نسب الأميّة التي لا تزال مرتفعة في العالم العربي؛ «حيث يبلغ عدد الأميين 70 مليوناً. ورأت الالكسو أن البيانات الإحصائية حول واقع الأمية في البلاد العربية تشير إلى أن عدد الأميين لدى الفئات العمرية التي تزيد على 15 عاماً، ارتفع عموماً من 50 مليوناً عام 1970م إلى 70 مليوناً في 2005، كما أن معدل الأمية وصل إلى 35.6% وتشكل هذه النسبة ضعف معدل الأمية

ص: 70


1- مارکیوز، هربرت نحو ثورة جديدة، مرجع سابق، ص 27.
2- أميرة حلمى مطر، الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998، ص17.

في العالم وأعلى من تلك المسجلة بالمناطق الأقل نمواً فيه وتبلغ 23.4 ، وتنتشر الأمية بنسبة مرتفعة بين النساء اللواتي يعاني نصفهن تقريباً منها (46.5 %)»(1).

ومن هذا المنطلق، يبدو لنا أن فكرة الصراع الثقافي بين العالم العربي والغرب بعيدة كل البعد عن الواقع. ولكن من الملاحظ أن بعض المفكرين الغربيين مصممون على فكرة الصراع ؛ بل واختلاقه.

ومن أجل أن تخفي أميركا نزعتها الاستعمارية تختلق صداماً بمسميات متعددة يحدث نتيجة مجابهة القوة الوطنية للغزو الاستعماري «وهكذا يصبح الصدام المختلق واقعاً وحقيقة وهو يحدث عندما تجعل إحدى الثقافات من نفسها الثقافة العظمى، بينما كل الثقافات الأخرى ثقافات صغرى ومن ثم فالعلاقة بينهما هي علاقة ميتافيزيقية علاقة بين الواحد والكثير علاقة ذات صلة بالوجود علاقة بين الإله والمخلوقات، بل إنها علاقة أخلاقية بين ما ينبغي أن يكون وماهو كائن. إن ثقافة واحدة، في سعيها إلى القوة تتجاوز كل الثقافات الأخرى وتتفوق عليها، مثل الإله زیوس على جبال الأوليمب. إن ترتيب الثقافات هو ترتيب للقيم، فالثقافة العظمى أعلى من الثقافات الأخرى، الثقافات الصغرى واحدة في المركز والأخريات في التخوم بعد ذلك، تبدأ عملية التثاقف. وفي ذهن الثقافة العظمى أن التثاقف يعني الإسقاط والإضافة، إسقاط ماهو أصلي وإضافة ماهو خارجي، وهو مسار ضروري من التخلف إلى النمو، من التأخر إلى التقدم من البدائية إلى الحداثة، من الموت إلى الحياة. أما التثاقف في ذهن الثقافات الصغرى فيعني تدمير الثقافات الوطنية الصغرى تنفيذاً للثقافة الإمبريالية العظمى. ولما كانت الثقافة هی المعبرة عن الهوية الوطنية، فإن تدمير الثقافات الوطنية إنما هو تدمير للكيانات الوطنية والمجتمعات والشعوب»(2).

ص: 71


1- حازم محفوظ ، بناء العقل النقدى: محاولة للخروج من دوامة التخلف العربي، جريدة الأهرام، السنة 44042 عدد 131 ، 7 يوليو 2007 ، ص: 11. 7.131
2- حسن حنفى الحضارات في صراع أم حوار نموذجان بديلان، ورقة بحثية ألقيت في مؤتمر : صراع الحضارات أم حوار الثقافات» الذي نظمته منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الأسيوية، وصدر في كتاب يحمل نفس عنوان المؤتمر، القاهرة المنظمة 1997، الصفحات من ( ص 54 - ص 59، ص 55.

والواقع أننا قد نتفق مع «هنتنجتون» على أن الثقافة إما أن تؤدي إلى تماسك المجتمع أو تؤدي إلى تفسخه - على نحو ما يثار من جدل حاد في أميركا حالياً عن ثقافة النخبة وثقافة الجماهير - ولكننا لا نتفق معه في أن الثقافة تؤدي إلى الصدام بين الحضارات؛ حيث إن الثقافات لا تعد لاعباً سياسياً، ولا تستطيع أن تكون فاعلةً في السياسة الدولية مباشرة، ولذلك فإن الحديث عن صدام الثقافات لا يعدو عن كونه مجازاً لا يميز واقعاً سياسياً ممكناً، فعالم السياسة له بعد مادي ويتجلى ذلك بأوضح صورة في الحدود التي تعيّن أراضي الدولة، فالدولة توجد بصفتها معطى جغرافياً ويجسدها أشخاص محددون ومن ينس الوجود المادي للدولة، فإن بإمكان البوليس والجيش اللذين تعلن سلطة الدولة عن نفسها فيهما بشكل ملموس تذکیره بذلك بصورة سريعة وموجعة.

(ثالثاً): العولمة والهيمنة

بما أن العولمة تطورٌ طبيعيٌّ ومنتجٌ أصيلٌ لسيادة الرأسمالية، والرأسمالية وفقاً لتعريفها الاصطلاحي هي«النظام الاقتصادي الذي يقوم على الملكية الخاصة لموارد الثروة ويطلق المجال لحريات الأفراد والمشروعات»(1). إذن ، لا يمكن أبداً النظر إلى الرأسمالية على أنها قادرة على تحقيق الفردوس على الأرض بل لن يكون بوسعها إلا إذكاء مزيد من الهيمنة والسيطرة للأنا على الآخر. أضف إلى ذلك «أن الرأسمالية تسير بالعامل إلى منتهى الحرمان، وتحرره تدريجياً من كل العوامل المحددة ... ليس في حوزته شيء... لا ملكية، لا أخلاق، لا أرض. إنه إذاً لا يملك أي شيء»(2).

ومن هذا يمكننا أن نستنتج دون وجل أن التماس خلاص الطبقة العاملة في شيء آخر غير نمو الرأسمالية الضخم، ضرب من التفكير الرجعي»(3).

ص: 72


1- محمد شفيق غربال، الموسوعة العربية الميسرة مادة رأسمالية - 30 - القاهرة: دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر 1959، ص853.
2- كامي ألبير الإنسان المتمرد، مرجع سابق، ص.256.
3- المرجع السابق، ص: 258.

من هذا المنظور يمكن قراءة سيطرة الرأسمالية كنسق اقتصادي على اقتصاديات السوق تؤدي في النهاية إلى فرض الهيمنة والسيطرة لصاحب المال.

إن المال كما يقولون يولد القوة ولابد للقوة أن تتخارج، وهذا ما نجد عليه دليلاً واضحاً في حالة الولايات المتحدة الأميركية إن قواتها الاقتصادية تؤدّي بها إلى التخارج الذي قد يبدأ في شكل مساعدات للفقراء ثم سرعان ما يتطور إلى تدخل بالقوة في الشئون الداخلية لبعض الدول.

والواقع أن مصطلح العولمة لم يبرز بصورة متكررة وكثيفة - في الأدبيات الغربية في مجال العلاقات الدولية - إلا منذ بداية التسعينات، أي متزامناً مع أهم حدثين في نهاية القرن العشرين وهما انهيار الاتحاد السوفيتي (1)ونهاية الحرب الباردة؛ حيث أخذ يتبلور الحديث عن النظام العالمى الجديد الذي شغل مساحة هامة من اهتمام منظري العلاقات الدولية وساستها.

فلقد كان المخططون الأميركيون يأملون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في تنظيم معظم العالم، إن لم يكن كله وفق الحاجات المتصورة لاقتصاد الولايات المتحدة. وأوضح جورج كينان، رئيس التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية أن المهمة الحقيقية للولايات المتحدة، بما لديها من نصف ثروة العالم وما تتمتع به من مركز في القوة والأمن لا مثيل له في التاريخ، هو الحفاظ على مركز التفاوت هذا، وبالقوة إذا لزم الأمر ؛ يقول جورج كينان»: «إننا نستحوذ على خمسين

ص: 73


1- يقول (بول سالم): قبل إنهيار الاتحاد السوفيتى في أواخر الثمانينات ومع تزايد ديون ميزانية الولايات المتحدة وعجزها في السبعينات، وبتزايد التحديات الاقتصادية من قبل دول شرق آسيا وأوروبا ودول أمريكا الجنوبية والوسطى، ساد رأى مشترك خلال الثمانينات بين كبار الباحثين الغربيين أمثال بول كيندى فى كتابه صعود وهبوط القوى العظمى، ودايفد كاليو في كتابه أبعد من السيطرة الأمريكية، ووالتر روسل ميد فى كتابه الأبهة الفانية شبهوا الولايات المتحدة فيه بإمبراطورية هابسبورغ في أسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو بالإمبراطورية الرومانية في سنواتها الأخيرة حيث استنزفت التزاماتها العسكرية الواسعة اقتصادها وحيويتها، وأدخلتها على طريق التقهقر المؤكد والسريع. ولكن بانهيار الاتحاد السوفيتى وتراجع الاقتصاد اليابانى ونجاح تحول الاقتصاد الأمريكي إلى اقتصاد خدماتی و معلوماتی مرن على نحو عجزت أوروبا عن اقتفاء خطاه، أخذ الاختصاصيون يعيدون النظر في فرضياتهم ويعتبرون أن الولايات المتحدة ربما خرجت من أزمتها وأعادت لنفسها تأمين موقع عالمى مسيطر في القرن الحادي والعشرين». (بول سالم، الولايات المتحدة والعولمة معالم الهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين، مجلة المستقبل العربي، السنة العشرون عدد ،229 بیروت مركز دراسات الوحدة العربية 1998، ص: (78).

في المائة من ثروات العالم ، ولكن ليس لدينا سوى 56.3% من عدد سكانه. في مثل هذا الموقف، تكون مهمتنا الحقيقية في الفترة القادمة هي الإبقاء على هذا الوضع من التفاوت. وحتى يتسنى لنا ذلك لابد لنا أن نتحلل من كل المشاعر العاطفية، ينبغي أن نتوقف عن التفكير في الحقوق الإنسانية، وفي رفع مستويات المعيشة، وإقرار الديمقراطية»(1)، وقد تحققت هذه الرؤية جزئياً، ولكن مع مرور الزمن، كان لا بد المركز السيادة للولايات المتحدة أن يتأكل ، وحاولت إدارة كينيدي تطبيق (التصميم الأعظم) لمعالجة المشكلة المتنامية، متوقعة أن تنوب بريطانيا منابنا (أي شريكتنا في الكلام الرائج)، على حد تعبير أحد كبار مستشاري كينيدي الذي زل لسانه بالمعنى الحقيقي للعبارات الفخمة بشأن الشراكة»(2).

وقد أصبح من الصعب، بحلول ذلك الوقت، ضبط أوروبا والسيطرة عليها، وهي المنافس المحتمل الرئيسي وتفاقمت المشاكل «إذ كان حلفاء الولايات المتحدة يقومون بإثراء أنفسهم من خلال مشاركتهم في تدمير الهند الصينية، ذلك التدمير الذي كان باهظ الكلفة على الاقتصاد الأميركي»(3)

ومن هنا فالعولمة ليست عملية حديثة أو مقترنة بنهاية القرن العشرين ونهاية الحرب الباردة، بل إنها قديمة ذات جذور تاريخية ترجع إلى بداية الرأسمالية وتطورها منذ عدة قرون، وهذا ما أكد عليه «فيليب ماك مايكل» إذ يقول: «إن مشروع العولمة ليس خاصاً بعصرنا كما قد يظن البعض لكن العولمة كرؤية لتنظيم العالم هي خاصة بعصرنا إنها مشروع تاريخي مثلما كان مشروع التنمية»(4)، وهي من هذا المنحى وحدة تعكس المعنى الحقيقي لها بوصفها شكل من أشكال فرض الهيمنة من قبل المركز على الأطراف.

ص: 74


1- بيلجر، جون، حكام العالم الجدد؛ ترجمة : إسماعيل داود القاهرة دار مصر المحروسة، 2003، ص153.
2- Paterson, Thomas G.; Kennedy's Quest for Victory: American Foreign Policy, 1961 -1963, New York: Oxford University Press, 1989, P.351.
3- تشومسكي نعوم، إعاقة الديمقراطية: الولايات المتحدة والديمقراطية، مرجع سابق، ص 111.
4- مايكل فيليب ماك ، العولمة أساطير وحقائق، ضمن أبحاث كتاب من الحداثة إلى العولمة : رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغير الاجتماعي، روبيرتس ،تيمونز وهايت إيمى ؛ ترجمة : سمر الشيشكلي مراجعة محمود ماجد عمر، سلسلة عالم المعرفة عدد 310 ، ج2 ، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004، ص 141.

فإذا كانت الحروب الصليبية قد فشلت في تحقيق أهدافها لمدة قرنين، فإن أساليب أخرى أخذت في التطور حتى وصلت إلى مرحلة الاستعمار التقليدي للعالم الإسلامي،«ففي ظل السيطرة التجارية (العولمة) ...كانت تتمدد جذور الفكر عن المركزية الأوروبية من ناحية، كما تتبلور ملامح تفوق المنظومة الرأسمالية الغربية العلمانية من ناحية أخرى»(1).

ويطرح «ليوتار» رؤيته لطبيعة العلاقة الحالية القائمة بين أطراف المنظومة الرأسمالية الحاكمة والمؤسسة للعولمة بقوله :«إنه إذا كان يجب القضاء على الاستغلال والاغتراب الذي يتعرض له النشاط الإنتاجي، فلأنهما يؤديان إلى إبطال قيمة العمل والإنسان العامل إن قيمة العمل هي التي أخذت في الأفول. وفي فرنسا أفضى تحقيق حديث إلى أن نصف الشباب الفرنسي، ممن يمثلون جميع فئات المجتمع، لا يبصر في العمل إلا غاية واحدة هي ضمان البقاء. إنه ينفي عنه كل قيمة خلقية (إنه شيءةٌ حسنٌ أن نعمل) وكل قيمة مثالية للذات (إنني أحقق ذاتي في العمل) وبمعنى أخر، فقدت فكرة العمل وستفقد جزءاً من قوة تحفيزها... والنظام الرأسمالي يدمر قيمةً كانت تبدو أساسيةً له. والحقيقة أن الرأسمالية ليست بحاجة إلى أن يثمن العمل أو يقوم ... وإنما يكفيها أن العمل موجود»(2).

وينظر «ليوتار» - ربما مستمداً من جان جاك روسو فكرته الأولى عن الملكية حين أعلن «أن أول شخص وضع سياجاً حول قطعة من الأرض وقال هذه ملكي أسس البداية الملكية الذاتية»(3)- إلى صراعات الرأسمالية قائلاً: «إنها صراعات مصاحبة - العميلة تعدي الرأسمالية على المجتمعات المدنية التقليدية ... هذه الصراعات دامت أكثر من قرن من التاريخ الاجتماعي، والسياسي، والأيديولوجي... كما أن مصير هذا الصراع قد تحدد: ففي البلدان ذات الإدارة الليبرالية المتقدمة تحولت الصراعات

ص: 75


1- نادية مصطفى، التحديات الحضارية الخارجية للعالم الإسلامى بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، مرجع سابق، ص 94.
2- Lyotard, J. F.; Expedient dans la decadence in "Rudiments paiens". Collection 10/ 18 union general d' Editions, Paris, 1977, PP.132-133.
3- روسو، جاك جان، العقد الاجتماعي؛ ترجمة حلمى ،مراد القاهرة : مكتبة نهضة مصر، 1991، ص1.

وأدواتها إلى منظمات للنظام؛ وفي البلدان الشيوعية عاد النموذج ذو الصبغة الكلية وتأثيرات الشمولية تحت اسم الماركسية ذاتها، وحرمت الصراعات موضوع البحث ببساطة من الحق في الوجود»(1)، ولذلك نجد الطبقة الحاكمة الآن وهي طبقة صانعي القرار «لم تعد تتكون من الطبقة السياسية التقليدية، بل من شريحة مركبة من رؤساء الشركات والمديرين رفيعي المستوى، ورؤساء المنظمات الكبرى المهنية»(2).

وإذا حاولنا النظر إلى الرأسمالية التي تمثل الدعامة الأساسية وربما الدعامة الأولى للعولمة من منظور أنثربولوجي، سنجد أن الرأسمالية نظام يقوم على التراكم اللانهائي للرأسمالي. وهي بالتالي؛ نظام يتطلب الامتلاك الأقصى لفائض القيمة.«فثمة طريقتان للرفع من امتلاك فائض القيمة: الأولى وهي أن العمال يبذلون جهداً كبيراً وبفعالية أكبر وبالتالي يخلقون خارجاً أكبر بنفس القدر من الدخول (غير وقت العمل البشري) والثانية هي إرجاع قليل من القيمة التي أنتجت إلى منتجيها المباشرين. وباختصار فالرأسمالية، بالتعريف،«تستلزم الضغط على كل المنتجين المباشرين لكي يعملوا أكثر ويتقاضوا أقل»(3).

فهل بوسع مثل هذا النظام أو هل لطبيعة العلاقة بين صاحب العمل (المالك) والعامل أن تخلق علاقة سوية ؟ كلا، إذ يقول «فالرشتاين» «إن النظام الرأسمالي نظام استقطابي سواء في نموذج المكافأة أو في الدرجة التي يصبح فيها الأشخاص مجبرين باطرادٍ على لعب أدوارٍ اجتماعيةٍ على طرفي نقيض. ثم إنه، مع ذلك، نظام توسعي أيضاً، ومن ثم «فهو نظام اتخذت فيه كل المعالم المطلقة شكل امتداد خطي صاعد في الزمن: مادام الاقتصاد الرأسمالي العالمي تميز دائماً بنشاط إنتاجي، منذ البداية، وأنتج الكثير من القيم بل والكثير من السكان والاختراعات الكثيرة. وبالتالي تميز بالكثير من مظاهر الثراء الفاحشة»(4).

ص: 76


1- ليوتار جان فرانسوا الوضع ما بعد الحداثى تقرير عن المعرفة، مرجع سابق، ص.35.
2- المرجع السابق، ص 37.
3- فالرشتاین عمانويل الثقافة كساحة للصراع الإيديولوجي في النظام الدولي الحديث، مرجع سابق.
4- المرجع السابق.

ومن ناحية أخرى، لما كانت الدولة فكرة كلية تسبق الوجود الجزئي للأفراد فيما يقول (أرسطو)، وتعد الدولة من وجهة نظر الساسة بمثابة الحصن الواقي للجماعة التي تدين لها بوجودها، فإن من شأن تحويل المحدود (الدولة) إلى اللامحدود (العالم) لا يبدو من وجهة نظرنا ذا قصدٍ بريءٍ وإنما هو بالأحرى يخضع لتوجه أيديولوجي ما.

ويمكننا أن نستشف التوجه الأيديولوجي من تعريف العولمة نفسه الذي يركز على جوانبها الاقتصادية ويحيلها إلى اندماج أسواق العالم في مجالات التجارة والاستثمارات المباشرة ولم يمنع هذا أنه يتضمن تعريف العولمة شمولها للجوانب الثقافية.

ومن ثم فالعولمة قد تكون في شكلها الظاهري عملية اقتصادية ولكنها في الواقع عملية أيديولوجية خالصة. من هنا نستطيع أن نستنتج، أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأميركي وإفساح المجال له ليشمل العالم كله. وبعبارة أخرى، فيما أن الدعوة إلى العولمة قد ظهرت فعلاً في الولايات المتحدة الأميركية بهذا المعنى، في أوساط المال والاقتصاد، فإن لنا أن نستنتج أن الأمر يتعلق ليس فقط بآلية من آليات التطور الرأسمالي الحديث، بل أيضاً بالدعوة إلى تبنّي نموذج معين، وبالتالي فالعولمة، إلى جانب كونها نظاماً اقتصادياً، هی أيضاً أيديولوجية تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه، وهناك من الكتاب من يقرن بينها وبين «الأمركة»، أي نشر وتعميم الطابع الأميركي.

ومن هذا المنطلق، فالعولمة، كما ندركها حالياً ونشهد آثارها، تعمل على تكريس الثنائية والتمزُّق والانشطار في الهُوِيَّات الثقافية الوطنية، ومنها طبعاً هُويتنا العربية الإسلامية. وثمة إجماع من قبل المفكرين المعاصرين العرب على أن العولمة «ليست سوى الثقافة الغربية الظافرة في هذا العصر، بعناصرها ومكوناتها المختلفة، وبروافدِها الأوروبية، وخاصة الأميركية منها. وهي ليست سوى هذه الثقافة وهي تسعى إلى فرض قيمها واختياراتها ومرجعياتها، على سائر الثقافات الإنسانية الأخرى، من أجل

ص: 77

إعادة تشكيلها. وكيف يجوز لنا والحالة هذه، وأمام هذه المعطيات، الأمل في إمكانية قيام حوار حقيقي ومنتج بين الثقافات البشرية المختلفة في عالم اليوم، مؤسس على التكافؤ والعدل، في زمن صارت فيه العولمة، بهذه الصفة والخصائص، تضبط ساعاته ودقائقه، وفي هذه الفترة التاريخية بالذات، التي تتعالى فيها من جديد أصوات مذكّرة بالتفوُّق العرقي والثقافي، ومُنذرة باندلاع حروب الثقافات؟»(1).

وفي هذا الإطار فالثقافة الغربية تطرح نفسها بديلاً لكل الثقافات الأخرى وترى قيمها ممثلة في الديمقراطية هي القيم الوحيدة الحقيقية التي يجب أن تسود، ومن هذا المنظور يحاول «هنتنجتون» خلط الأوراق ، فبدلاً من أن يجعل من العولمة حركة للسيطرة يذهب إلى أن العالم الإسلامي يهاجم العولمة بوصفها قيمة من قيم العالم الحر والحداثة، ومن هنا يشدد على علاقة انبعاث الوعي الإسلامي بالعولمة فيقول:«من أهم التطورات الاجتماعية والثقافية والسياسية ذات الدلالة الخاصة التي حدثت في العقود الأخيرة تتمثل في انبعاث الوعي الإسلامي والحركات المتعلقة به بين المسلمين تقريباً في كل مكان، وهذه الصحوة أو هذا الانبعاث يعود أساساً إلى حالة من رد الفعل تجاه الحداثة والتحديث والعولمة»(2).

قد يعتقد البعض أن مصطلح العولمة مصطلح يقف على النقيض من مصطلح ،الصدام، لأن مفاده أن العالم يجب أن يكون قرية صغير واحدة، غير أن العولمة لیست نظاماً عالمياً أو نموذجاً عالمياً للحياة يرسم حدوداً لعالم مثالي تتكامل فيه الدول وتتوحد - كما يحلو لمروجي العولمة أن يصوره - كما أنها ليست نظاماً عالمياً نشأ نتيجة تفاعل طبيعي للثقافات العالمية، ولكنها نظام جديد من العلاقات بين الثقافات، كما هو الحال بین الجماعات والدول والأسواق، نشأ في سياق صراع التكتلات الرأسمالية الكبرى على الهيمنة العالمية إنه يعكس إذن هذه الهيمنة(3)

ص: 78


1- عبد الرزاق الدواي، الحوار بين الثقافات الأخلاقيات و الشروط الغائبة، موقع سابق
2- هنتنجتون صامويل عصر حروب المسلمين، مرجع سابق
3- ويشير محمد عابد الجابري إلى أن العولمة هي ما بعد الاستعمار، باعتبار أن ال- (مابعد» في مثل هذه التعابير لا يعنى القطيعة مع ال- «ماقبل ، بل يعنى الاستمرار فيه بصورة جديدة... ومن بين أبعاد العولمة التوسع والهيمنة) محمد عابد الجابرى قضايا في الفكر المعاصر ، مرجع سابق، ص 137).

في بنيته العميقة، ويكرس الموقع المتميز للولايات المتحدة فيها، بقدر ما يعكس المشاركة الرئيسية للرأسمالية الأميركية في ثورة المعلومات. وتلعب هذه الهيمنة، بما يلحقها من تطورات تقنية وتبادلات تجارية، تعمل على تقريب المسافات وتوحيد أنماط الحياة المادية والفكرية، دوراً أساسياً في دمج الدوائر الثقافية المختلفة، وإنشاء فضاء ثقافي مشترك، أو قائم فوق الثقافات القومية، يسمح لمنتجات الثقافة الأميركية أن تهيمن وتسود منتجات الثقافات الأخرى إلى حد كبير.

كما أن العولمة ليست نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة بوعي وإرادة الحكومات والبرلمانات التي وقعت على القوانين التي طبقت السياسات الليبرالية الجديدة وألغت الحدود والحواجز أمام حركات تنقل السلع ورؤوس الأموال، وسحبت المكاسب التي حققها العمال والطبقة الوسطى، واعتبرت أن منظمة التجارة العالمية (الجات) ستتولى توقيع العقوبات على من لا يذعن لسياسة حرية التجارة.

فمن الواضح أنه ليس ثمة حتمية في أي من هذه الأمور، وإنما الأمر كله لا يعدو كونه أيديولوجية سياسية تحاول فرض هيمنتها على العالم لتحقيق مركزية القطب الواحد تحت مسميات متعددة. وإذا كان البعض يرى أن العالم صار سوقاً واحدة شئنا أم أبينا وأن التجارة العالمية تبدو وكأنها في نموٍّ مطردٍ يستفيد منه الجميع، فالواقع أن ثمة حقائق مفجعة وتُجافي كل هذه الادعاءات. ولعل من أوضح هذه الحقائق «أن %20% من العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي (ومن ثم) لن تكون هناك حاجة إلى أيد عاملة أكثر من هذا»(1).

وهذا يعني أن أحد أشكال العولمة هو تقليل الاعتماد على العنصر البشري، وهذا بطبيعة الحال لن يؤدي إلى إيجاد حلول لمشكلات الإنسان المتعلقة بالعمل، والبطالة بل سيؤدي إلى زيادتها وتفاقمها، إذ يرى بعض الباحثين أنه «إذا لم يكن هناك ما يضمن لنا أننا قادرون على خلق فرص عمل جديدة بنفس القدر الذي سنخسره بفعل عملية

ص: 79


1- مارتين هانز بيتر وشومان هارالد فخ العولمة ترجمة: عدنان عباس على ؛ مراجعة رمزی ،زکی، سلسلة عالم المعرفة عدد 238 ، الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998، ص 9 و 25 - 26

التحرير الاقتصادي على أدنى تقدير فسيكون من الأفضل لنا أن نرجيءَ جميع عمليات فتح الأسواق للمنافسة الدولية إلى حد انخفاض البطالة مجدداً»(1).

فأين إذن ستذهب هذه الأيدي العاملة ؟ بل كيف يمكن استيعاب الأيدي العاملة الجديدة التي يتم الدفع بها إلى السوق ؟ وكيف يمكن خلق توازن بين مستوى الدخول المرتفعة والتي يتقاضاها العاملون في الشركات العالمية وبين هؤلاء المعدمين الذين لا يجدون فرصة عمل ؟

«ففي العقود الأولى من القرن التاسع عشر، كانت النسبة بين متوسط الدخل في إنجلترا، أغنى بلاد العالم في ذلك الوقت، والبلدان العربية لا تزيد على الأرجح على نسبة 3: 1، أما الآن فقد أصبحت النسبة بين متوسط الدخل في والولايات المتحدة ونظيره في البلدان العربية أقرب إلى 15 :1»(2). ومن الحقائق المفزعة في ظلِّ أطروحة العولمة التي بشَّر بها الغرب، أنه بالرغم من وجود العولمة إلا أن البيانات الإحصائية لا تدعم النظرية الزاعمة بأن تحرير التجارة يؤدي حتماً إلى نمو مجمل اقتصاديات العالم، إذ إن:«ربع السكان في العالم الثالث (3)يعيشون تحت خط الفقر، وأن 30 ألف شخص يموتون يومياً بسبب المياه الملوثة والظروف الصحية السيئة، وأن متوسط العمر في تلك البلاد يقل عشرين عاماً عما هو عليه في الولايات المتحدة»(4).

وفي بعض التقارير: أن ثروة ثلاثة أغنياء أمريكيين تعادل أو تزيد ثروات 48 دولة من دول العالم الفقيرة، وأن 255 ثرياً في العالم يمتلكون ألف مليار دولار، وأن 48 شخصاً أميركياً تزيد ثروتهم على ثروة الصين التي يصل عدد سكانها إلى 1. 3 مليار نسمة، وأن أربعين مليار دولار فقط - أي ما يوازي 4% من ثروات ال- 225 شخصاً -

ص: 80


1- المرجع السابق، ص455.
2- جلال ،أمين العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواى بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999، ص 33.
3- العالم الثالث فى رأى فيليب ماك مايكل هو أرض الاختبار». (مايكل، فيليب ماك، العولمة أساطير وحقائق مرجع سابق، ص158
4- هادى المدرسى، لئلا يكون صدام حضارات الطريق الثالث بين الإسلام والغرب مرجع سابق، ص 150.

كافية لكي تؤمن لكل سكان المعمورة الخدمات الاجتماعية الأساسية التي يحتاجون إليها ، أي الغذاء والصحة والمياه والتعليم»(1).

وتأسيساً على هذه الحقائق،«فإن الأمل بأن تؤدي كل جولة من جولات تحرير التجارة الخارجية إلى تنامي نمو الاقتصاد العالمي وخيرات الشعوب المشاركة في هذه التجارة وَهُمٌ وضَلالٌ بيِّن»(2).

كما أن المشكلة أيضاً هى الحصول على عمال يبذلون جهداً كبيراً في العمل

مقابل أجرٍ زهيدٍ، وهذا يعكس طبيعة المصالح الذاتية والاستغلال الرأسمالي. وإذا كان البعض يرى أن فحوى العولمة هو غير المالكين مقصيون.. أدمجوهم! والأقليات مقصيّة .. أدمجوها ! والنساء مقصيات.. أدمجوهن ! ساووا بين الكل . والطبقة السائدة تملك أكثر مما يملك الآخرون. فلتسوَّ الطبقات ببعضها ! لكن إذا ما تساوينا سائداً ومسوداً فلماذا لا تتساوى الأقليات مع الأغلبيات، والنساء مع الرجال؟ فالتساوي عني في الممارسة إخضاع الضعيف لنموذج القوي»(3). التساوي إذن مرفوض من وجهة نظر أنصار العولمة؛ إذ لابد من وجود مهيمن ومهيمن عليه، أنا وآخر، ذات وموضوع.

ومن هذا المنحى تصبح المساواة المنشودة هي اللامساواة، وفي هذا السياق وحده تكون اللامساواة مقبولة من قبل «هنتنجتون» إذ يقبل هذه اللامساواة على أساس أنها نمط طبيعي للحياة؛ إذ يقول: «اللامساواة مقبولة في مجتمع تقليدي كجزء من النمط الطبيعي للحياة... وعلى أيِّ حالٍ فإن الحركة الاجتماعية تزيد الوعي باللامساواة»(4)ويستطرد قائلاً:«النمو الاقتصادي يزيد من اللامساواة الاقتصادية... ويتحدَّ كلا جانبي الحداثة ليسبب اللا استقرار السياسي»(5).

ص: 81


1- الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي فقه العولمة: دراسة إسلامية معاصرة، مرجع سابق، ص194.
2- أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على نفسه؛ ترجمة: عدنان عباس على سلسلة عالم المعرفة عدد 335 الكويت المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2007، ص174.
3- فالرشتاین عمانويل، الثقافة كساحة للصراع الإيديولوجي في النظام الدولي الحديث، مرجع سابق.
4- هنتنجتون، صامويل التغير إلى التغير، ضمن أبحاث كتاب من الحداثة إلى العولمة رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغير الاجتماعی ،روبيرتس ،تیمونز وهايت إيمى ترجمة سمر الشيشكلي مراجعة محمود ماجد عمر، سلسلة عام ،المعرفة، العدد 309 ، ج 1 ، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004، ص 239.
5- هنتنجتون صامويل التغير إلى التغير، مرجع سابق، ص 240.

«هنتنجتون»، إذن، يقرُّ بأن النمو الاقتصادي له آثار يترتب عليها عدم المساواة،لكنه في الوقت الذي يقف فيه على مشارف الحقيقة، يعود فيتقهقر تحت دعوى ان النمو الاقتصادي من متطلبات التقدم، دون أن يطرح سبيلاً معقولاً لمعالجة الآثار السيئة الناجمة عن نمو الاقتصاد.

ويقرُّ أيضاً «عمانويل فالرشتاين» بهذه اللامساواة؛ حيث يحدد المساواة واللامساواة بالفاعلية في العمل، ومن هنا يمكن القول إذا كان «فالرشتاين» يقر بأن اللامساواة لها ما يبررها لأنها نتيجة طبيعية لأخلاق العمل الكونية، إذ يقول:«عندما يصبح الأفراد والجماعات قادرين على «المنافسة» في السوق(1) يمكنهم الحصول على ما حصل عليه الآخرون قبلهم، ومن ثم سوف يحققون المساواة ذات يوم، وحتى ذلك الوقت لا مفرَّ من اللامساواة. وهكذا فأخلاق العمل الكونية تبرر كل هذه التفاوتات الحاصلة ما دامت علّة أصلها نابعة من التفاوت التاريخي... فالدول التي هي أحسن حالاً من أخرى .... حققت هذه الأفضلية من خلال التزام صارم ومبكر وقوي بأخلاق العمل الكونية، وعلى العكس من ذلك، فالذين هم أسوأ حالاً وبالتالي أولئك الذين يتقاضون أجراً أقل يحتلون هذا الوضع لأنهم يستحقونه. ولهذا فوجود تفاوت في الدخول لا يصبح أبداً مثالاً شاهداً على العنصرية، فبالأحرى معياراً عالمياً لمكافأة الفعالية»(2)، إلا أنه نسَي أن هذه القواعد لتقاضي الأجور مفروضة من قبل الأقوى على الأضعف، وإلا كيف نفسّر رخص الأيدي العاملة الماهرة في بعض الدول النامية عنها في الدول المتقدمة، رغم أن ما يقومون به أو ينتجونه يمكن أن يكون أجود وأتقن كما أن أجور بعض المتخصصين في الدول النامية كالهند مثلاً تقل عن مثيلاتها من الأميركيين، كما أن بعض أعضاء هيئة التدريس على سبيل المثال في الجامعة الأميركية بالقاهرة من الأميركيين تزيد أجورهم عن قرناءهم العاملين معهم في نفس الجامعة من المصريين.

ص: 82


1- يقول « هورست أفهيلد»: «يبدو أن ثمة احتمال أن يؤدى انتصار السوق... إلى الإضرار بمصالح السوق نفسها في نهاية المطاف أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على ،نفسه مرجع سابق، ص.286
2- فالرشتاین عمانويل، الثقافة كساحة للصراع الإيديولوجي في النظام الدولي الحديث، مرجع سابق.

وإذا كان الغرب يعتبر أن من مظاهر الديمقراطية وإفرازاتها قبول العولمة، فإننا نجد «هنتنجتون» يطرح رؤية في إطار موازٍ فيقرُّ بوجود علاقة طردية بين النمو الاقتصادي والديمقراطية إذ يقول «إن النمو الاقتصادي يجعل من الديمقراطية أمراً ممكناً، والقيادة السياسية تجعل منها أمراً واقعاً»(1). كما يقول في موضع آخر «هناك ارتباط شديد بين مستوى التنمية الاقتصادية وبين قيام الأنظمة الديمقراطية فكلّما زادت درجة التصنيع وحداثة الاقتصاد وتعقيد المجتمع ونسبة التعليم زادت فرصة قیام نظام ديمقراطي»(2)، إلا أن «الواقع المعاش فنَّد مزاعم الليبرالية هذه، فما تحقق على أرض الواقع يخالف زعمها مخالفة النقيض للنقيض»(3).

فالواقع يعكس على نحو لا شك فيه أن ثمة مستويات متدنية للديمقراطية في

البلدان المتقدمة تكنولوجياً وصاحبة المستوى الاقتصادي المرتفع.

ومن الواضح أن «هنتنجتون» استخدم الديمقراطية كمبرر(4) للتدخل في شؤون بلدان العالم الثالث الفقيرة ومن ثم السيطرة عليها.

إن الحقيقة التي يفصح عنها الصراع على لقمة العيش لا شك أنها مفجعة ولعل مقولة «سكوت مك نيلي» مدير مؤسسة «سان» يُعبر عن هذا الصراع على لقمة العيش أدق تعبيرٍ إذ يقول : إن المسألة ستكون في المستقبل هي «إما أن تأكل أو تُؤكل To have Lunch or be lunch و من ثم فإن الحديث عن التكامل والتوحد

ص: 83


1- هنتنجتون، صامويل، الموجة الثالثة، سابق، ص 408.المرجع السابق، ص 408.
2- المرجع السابق، ص 360
3- أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على نفسه، مرجع سابق، ص 284.
4- استغلت الحكومات الغربية الحجج القيمية لكسب التأييد الشعبي لمزيد من الأغراض العالمية وكان هذا الأمر صحيحاً في شكل خاص عندما احتاج بلوغ الأهداف العالمية تضحيات مادية وشخصية كبيرة من الشعوب الغربية... ففى خلال الحرب العالمية الأولى ربما لم يكن الجمهور الأمريكى راغباً في تقديم التضحيات التي قام بها لإعادة توازن القوى ال- في أوروبا ولكنه هيئ لها لجعل العالم أمناً للديمقراطية وفى وقت قريب قبيل قرار الذهاب إلى الحرب مع العراق عام 1991 عارض العديد من الأمريكيين العمل العسكرى على الأرض والذى عجلت به الرغبة في حماية حقول النفط العربية وانشدوا ( لا دماء من أجل «النفط» ولم يتحمسوا الضرب العراق إلا بعدما أقنعهم زعماء الولايات المتحدة بأن عملية عاصفة الصحراء ضرورية لردع صدام حسين الديكتاتور المستبد من طراز هتلر ولدعم القانون الدولى ولمنح فرصة للديمقراطية لتنتعش . شيرين) ،هنتر مستقبل الإسلام والغرب، صدام حضارات أم تعايش سلمى؟، مرجع سابق، ص 35 - 36.

والاندماج في ظل محاولات فرض رؤية أحادية وهيمنة المركز على الأطراف تبدو هراء؛ إذ إن «القيم والمباديء الموجهة للسلوك الإنساني تكون عادة في الأوقات التي يسودها الاستقرار، وتكون سلطة وقدرة المؤسسات القائمة قوية وآمنة؛ ومن الأمور المسلم بها. أما في أوقات عدم الاستقرار، فإن الاحتمال الأرجح أن تكون القيم السائدة موضعاً للشك أو الجدل أو التحدي من قبيل التناقض إذن؛ أن تكون القيم في الغالب الأعم أكثر تعرضاً للشك في الوقت الذي تكون فيه الحاجة إليها أشد»(1).

وعلى الرغم من أنه كانت هناك محاولات لأن توضع الظروف الاجتماعية في الاعتبار عند تطبيق اتفاقية «الجات» التي تعدّ حجر الأساس للعولمة فإن هذه المحاولات قد باءت بالفشل. ففي سياق المباحثات الختامية حول إنشاء المنظمة العالمية للتجارة نادى البعض بضرورة إدراج بند خاص بالظروف الاجتماعية للعمل وبحماية البيئة في اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وبناء على هذا البند كان المفروض أن يكون في الإمكان تقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الدول التي يثبت عليها أن صادراتها تنتج في ظل شروط تخلُّ بالمعايير الدنيا المقررة من قبل منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة... لكن سرعان ما جرى الاعتراض على هذا المسعى ليس من قبل الدول المعنية فحسب بل من قبل دول أخرى... وتصدرت قائمة الحكومات المعترضة الحكومتان الألمانية والبريطانية على وجه الخصوص اللتان تؤمنان بحرية التجارة إيمان الأطفال بالخرافات والأساطير»(2).

وإذا كانت دول المركز أو الدول الغربية هي صاحبة الاعتراض على مراعاة الظروف الاجتماعية عند تطبيق اتفاقية الجات، وهي التي ما فتأت تتشدق بالاهتمام بالنواحي الإنسانية فإن هذا يكشف بوضوح عن محاولات المركز لتمكين وضعه دون أن يضع في اعتباره الدول الأخرى.

وعلى ذلك نستطيع طرح السؤال التالي: هل ستستمر الولايات المتحدة في تبني

ص: 84


1- جيران في عالم واحد نص تقرير لجنة إدارة شئون المجتمع العالمی مرجع سابق، ص 61.
2- مارتین هانز بيتر وشومان، هارالد فخ العولمة، مرجع سابق، ص268.

أطروحات العولمة لو خرجت هذه الأطروحات على مصالحها؟ وماذا لو اتخذت توجهات السوق اتجاهات متعارضة مع مصالح بيوت المالية الأميركية الكبرى؟ ولماذا تخرج الولايات المتحدة على قوانين منظمة التجارة العالمية فتدعم الشركات الأميركية؟ في حين تعرقل أميركا انضمام بلدان مستعدة للخضوع الكلي لشروط هذه المنظمة ؟

لعل ما فعلته أميركا في الفترة ما بين 2002 - 2005 فيما يتعلق باستيرادها للصلب وفرضها رسوم جمركية (1)على ما تستورده من الصلب لحماية منتجاتها المحلية بما يخالف اتفاقيات الجات هو سير في هذا الدرب أيضاً ، «ولحماية الصناعة الأميركية الفتية فرضت الولايات المتحدة الأميركية ضرائب جمركية، وظلت تفرض تلك الضرائب على السلع المستوردة حتى بعدما تطورت الصناعة الأميركية وأصبحت ذات قدرة تنافسية كبيرة ، ولعل الضرائب التي فرضتها عام 2002م على الصلب والحديد خير مثال على هذه الحقيقة أضف إلى هذا أن الضرائب الجمركية قد كانت بمنزلة المصدر المالي الرئيسي لتمويل مشاريع عامة من قبيل الموانىء وطرق النقل السريع. ونحن لا نشط أبداً إذا قلنا إن تطور الولايات المتحدة الأميركية من دولة نامية إلى أكبر أمة صناعية في العالم كان برهاناً ساطعاً على نجاح سياسة الحماية التجارية. ومن هنا، فإنه لأمر يدعو إلى العجب فعلاً أن تعاق الدول النامية منذ عقود كثيرة من الزمن عن منح صناعتها الفتية الحماية التي هي بأمس الحاجة لها. إن هذا الضغط الليبرالي المحدث ساهم بنحو كبير في تفاقم المأساة المخيمة على الدول النامية»(2)، ومن ثم فالولايات المتحدة الأميركية تضرب عرض الحائط بكل ما يتعارض مع مصلحة المركز الذي يريد أن تظل له الهيمنة والسيطرة على الأطراف، ولعل ما يقوم به الرئيس الأميركي ترامب من إجراءات حمائيةٍ لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من العولمة يفسر لنا مدى تأثيرها حتى على دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية.

ص: 85


1- كتبت صحيفة Hamburger Abendblatt في الصفحة رقم 23 من عددها الصادر في السابع من مارس من عام :2002 ضرائب جمركية تأديبية : غضب عالمى من تصرفات الرئيس الأمريكي بوش الاتحاد الأوروبي يحتج أوروبا تخطط لفرض عقوبات مماثلة على الولايات المتحدة الأمريكية. أسباب عملية التصعيد.
2- أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على نفسه، مرجع سابق، ص 230 - 231

وفي هذا الإطار يمكن القول إن السلوك الخارجي للولايات المتحدة الأميركية يظهر أن السلطة والهيمنة والمصالح هي العوامل الحاسمة في إدارة سياستها الخارجية،«فالسلطات الغربية قد استعملت حججاً مؤسسة على قيم لتبرير القرارات والأعمال المتولاة لأسباب أخرى وعقلنتها وشرعنتها»(1).

كما يمكن القول مع «آلان تورین» أنه توجد سيطرة لنخبٍ معقلنة ومحدثة على بقية العالم، وذلك بواسطة تنظيم التجارة والمصانع وبواسطة الاستعمار، لقد تجلّى انتصار الحداثة في إلغاء المبادئ الخالدة، وإقصاء كل الماهيات والكيانات المصطنعة مثل الأنا والثقافات»(2).

ومن ناحية أخرى «لا تقف العولمة عند حدود تدعيم سوق عالمية للسلع والخدمات والأموال، بل إن العالم الذي أصبح قريةً كما يقال عادة يقع تحت تأثير الترويج الإعلامي الذي زالت الموانع أمامه، بعد أن أصبحت الأقمار الصناعية وسيلة اتصالٍ واستقبالٍ لا تعترف بالحدود السياسية أو المناطق الثقافية. وتوافق ذلك مع هيمنة تجارة الخدمات والمعرفة، على التبادل بين الأمم، وسيطرة قوة وحيدة في هذا الميدان. وتصادف تاريخياً أن هذه القوة الوحيدة ذات المنعة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية خالية الوفاض من تراثٍ إنسانيٍّ وثقافيٍّ يعتد به، ولا تحمل رسالة إنسانية ولو من باب التبرير الإعلامي كما فعلت الأمم التي سادت في السابق. ولم تجد هذه الأمة غير نمطٍ في العيش والاستهلاك تحاول التسويق له»(3).

في الواقع، تقوم العولمة على تدشين ثقافة الاستهلاك بحيث يصبح المركز هو المصدر أو المنتج وتصبح الأطراف أو الآخر هو المستهلك؛ إذ يقول البعض«إن ثقافة الاستهلاك والتي كانت ثمرةً عن المجتمع الصناعي أبرزت ملامح العقل الأداتي؛ حيث الذاتية والنفعية في أعلى تقمُّصاتها، بدءاً من عملية التفكير وممارسة إجراءات الاستقراء

ص: 86


1- شیرین ،هنتر مستقبل الإسلام والغرب صدام حضارات أم تعايش سلمی؟ ، مرجع سابق، ص 35
2- Touraine; A.; Critique de la modernite, Paris: Fayard, 1992, p.46. وأنظر أيضاً الترجمة العربية تورين ،ألان نقد الحداثة ترجمة أنور مغيث، مرجع سابق، ص54. (
3- منظمة العمل العربية، العولمة وآثارها الاجتماعية، د.م المنظمة، 1998، د.ت، ص160-161.

والاستنتاج وصولاً إلى العناية بالمنهج على حساب المضمون، حتى أصبح الموضوع مجرد وسيلةٍ يتم من خلالها الوصول إلى المعرفة. وبهذا فإن الذاتية الفردية - الجمعية أصبحت هي الغاية التي يمثلها هذا العقل، وعبر هذا المنظور... تحدد الجانب الأخلاقي في المنفعة الذاتية، ومن خلال هذا العقل الذاتي ثبَّت الغرب خطواته في مجال التقدم الثقافي... وفرض معالم السيطرة وبرزت النزعة الاستعمارية»(1).

ونحن نجد تأكيداً لهذا المنحى في كتاب «رأس المال والرذائل الجديدة»؛ حيث يوضح «أمبيرتو جالمبرتي» إن ما يجعل ثقافة الاستهلاك رذيلة كبرى هو أنها تقوم على شراء الأشياء التي سنرميها بعيداً حين يروق لنا ذلك، ومن خلال ثقافة شراء الحاجات ورميها بعيداً، أقام المجتمع الاستهلاكي هويته الخاصة به وحدد وضعه الاجتماعي، وعرف فكرته الخاصة عن الحرية. ويستطرد «جالمبرتي» مؤكداً أن مبدأ استهلاك المواد وطرحها جانباً لا يمثل النهاية الطبيعية لتلك المواد، إنما بات يحدد الغرض الرئيسي منها.

صحيح أن الاستهلاك موضوعٌ اقتصاديٌّ، ولكن لا أحد ينكر صلته الوثيقة

بالثقافة، فأنت عندما تقرر شراء سلعة معينة تستند إلى مجموعة من القناعات التي تدفعك لانتقائها دون غيرها، وفي عصر العولمة تكاد تتحول المجتمعات ومنها النامية الغارقة في الديون، إلى مجتمعات استهلاكية ليس بمحض المصادفة، ولكن نتيجة مخططاتٍ مدروسةٍ بعنايةٍ ودقة. «فقد ارتبطت معالم الظاهرة الاستعمارية أو لمة القرنين السابع عشر والثامن عشر بالظروف التاريخية لهذين القرنين، وبخاصة الثورة التجارية وقصة البحث عن المعادن النفيسة إلى حدٍ كبير، كما ارتبطت عولمة القرن التاسع عشر بظروف هذا القرن التاريخية، وبخاصة بالثورة الصناعية، حيث سعت الدول القومية الوطنية الحديثة إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المواد الأولية اللازمة لصناعاتها، وكذلك إلى أوسع الأسواق لتصريف منتجاتها»(2).

ص: 87


1- إسماعيل نوري الربيعي أطياف نيتشه آلان تورین ونقد الحداثة، في 4 إبريل 2002. http://www.azzaman.com/azz/articles/2002677/15-04/04/.htm
2- يحيى أحمد الكعكي، الشرق الأوسط وصراع العولمة - ط 1-0 بيروت - لبنان: دار النهضة العربية، 2000، ص 73.

يضاف إلى ذلك أن التكنولوجيا الحديثة قصّرت من عمر أي منتجٍ، إذ سرعان ما يتحول إلى بضاعة غير مفيدة أو يتجاوزه الزمن في بحر سنوات أو شهور قليلة. عندها يجد المستهلك نفسه (مضطراً) إلى تغيير ما لديه من منتج وشراء الجديد الأكثر كفاءة أو الأفضل نوعية.

ومن هنا فإن «جالمبرتي» يجادل بأن الأشخاص الذين ينشَؤون على قيم المجتمع الاستهلاكي لا يكونون قادرين على اعتناق مجموعة مغايرة من القيم عندما يتعلق الأمر بذواتهم أو بالناس المحيطين بهم.

وبناءً على هذا يقول جلال أمين: «إن هذا التحول الكبير الذي طرأ على طبيعة الاستغلال من استغلال الدولة كمنتج (أو كمصدر للعمالة الرخيصة)، إلى استغلاها كمستهلك، كان له آثار أكبر أهمية بكثير مما قد يبدو لأول وهلة. ذلك أن استغلال العامل يحتاج لتبريره إلى أيديولوجيا مختلفة جداً عن تلك التي يمكن بها تبرير استغلال المستهلك»(1).

ومن صنو ثقافة الاستهلاك أيضاً الاقتناء إن الاقتناء فيما يقوله «هيدجر» لا یتم هنا بناءً على حاجة ملحة أو لتحقيق غرض ما إنك تقتني أثمن أنواع الساعات أو أندر أنواع الكتب أو لوحة لفنان شهير تقدر بالملايين لا لأنك تريد أن تقرأ هذا الكتاب وما فيه أو لحاجتك إلى ساعة تضبط لك الوقت على نحو دقيق ولا لأنك تريد أن ترقى بذوقك الفني إلى درجة عالية، بل إنك تفعل كل هذا لمجرد أن يقال أنك تقتني . إن هذا يدشن عقلية الجهد المبذول والإمكانية المطلقة للتفعيل وتحولها إلى ساكن بحيث يصبح امتلاك القصور والبيوت الفخمة نوعاً من أنواع التباهي في مجتمع الناس هذا المجتمع الذي لا هوية له «إن الناس - فيما يقول هيدجر - هم في الحقيقة كائنٌ وهميٌّ لا وجود له، ومن ثم فإن «الناس ينتمون إلى هذا الآخر ويعززون قوته»(2)، وذلك لأن «مفهوم الناس عبارة عن مفترق للطرق مفتوح لكل قادم»(3).

ص: 88


1- جلال ،أمين العولمة والتنمية العربية : من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواي، مرجع سابق، ص 37.
2- Heidegger, M.; Being and time translated by John Macquariie and Edward Robinson. [San Francisco, Calif.]: HarperSan Francisco, c1962, p. 126.
3- جوليفيه ريجيس ، المذاهب الوجودية ( من كيركيغارد إلى سارتر)، مرجع سابق، ص 83

بيد أنَّ هؤلاء الناس الذين لا وجود لهم، هم في الوقت ذاته يملكون طرقاً عدة لكي يمارسون وجودهم الزائف وعندما يتحقق وجودهم بشكل يملي على الموجود كل تصرفاته وأفعاله يصبح الوجود (مع) الآخرين بوصفه كذلك مهموماً بحياة التوسط، وفي مثل هذا النمط من الحياة «كل واحد يكون الآخر ولا أحد يكون نفسه»(1) و هذا هو ما تهدف إليه العولمة على المستوى الجماعي، وإن كان حديث «هيدجر» هنا على المستوى الأنطولوجي الفردي.

ومن ناحية أخرى، فإن شعار العولمة لا يخلو من نفعٍ، ولكن النفع يعود أغلبه على مركز بثِّها ،وإشعاعها، وأغلب أضرارها تعود على الأطراف، ومن بين هذه الأطراف بالطبع المنطقة العربية «ويمكن أن تحقق أمة من أمم الأطراف نهضة تحوّلها من طرف سلبي في التعامل الدولي إلى قوة فاعلة وإيجابية ولا يمكن تصور حدوث هذه النهضة إلا باستعادة الدولة القومية قوتها»(2).

ومما لا شك فيه أن العولمة تهدف بالدرجة الأولى إلى إزاحة سيطرة الدول على شعوبها لفرض هيمنة المركز مباشرة على هذه الشعوب. إذن الواضح «إن حالة الدولة - الوطن - تفقد سيطرتها على المجتمع ، وعلى استقلاليتها كنظام في العالم. وبالتالي فإنه مع انحلال المشروع الحضاري الجديد، بدأ نظام الدولة - الوطن يفقد السيطرة على القوى التي كان يحتويها سابقاً، ذلك أن العولمة، بأبعادها المختلفة تقلل من دور الاستقلالية لنظام الدولة - الوطن، وتؤثر سلباً على قدرتها على اتخاذ القرار»(3).

فهل يعني هذا أن العولمة هي أيديولوجية مناقضة فكرياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً لفكرة الدولة أو الوطن؟

ص: 89


1- Heidegger, Martin, Being and time. Op. Cit., p. 128.
2- جلال ،أمين العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواي مرجع سابق، ص.190.
3- على أحمد الطراح ؛ غسان منير حمزة، العولمة والدولة الأمة والمجتمع العالمى حوليات كلية الآداب جامعة عين شمس؛ مجلد 30 ، إبريل - يونيو 2002 ، الصفحات من ( ص 35 - ص 82، ص 37 .

إذا كانت العولمة تستلزم تحطيم المسافات أو التعامل عن قرب مع الآخرين، فمما لا شك فيه أن العولمة تهدف بالدرجة الأولى إلى إضعاف سلطة الدولة (1)وتفتيت العالم إلى كتل منعزلة لتمكين الشركات العملاقة التي يطلق عليها شركات متعددة الجنسيات من السيطرة والهيمنة على اقتصاديات ومقدرات الدول الأخرى.

ومن ناحية أخرى، فإن توظيف وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة كأداة للسيطرة على العقول كما يحدث على شبكة الإنترنت التي يستخدمها البعض لنشر ثقافات هدامة - ولا يمنع هذا من كونها تقوم بدور إيجابي في نشر العلم والثقافة وإحداث التقارب بين الثقافات - تقوم بتخريب عقول الشباب كما حدث مع عبدة الشيطان ومن ثم تحيل هذه العقول إلى توابع تدور في فلكها، وفي هذا الصدد يقول «هيدجر» موضحاً أثر التقنية في إحداث الغربة في الإنسان المعاصر «لكن ما يبعد إنسان الأزمنة الجديدة خاصة عن بداية تاريخه هو الطفرة التي حدثت في طريقة تأويل العالم. إن الوضعية الأساسية للأزمنة المعاصرة هي الوضعية التقنية »(2) أي أن الثمة التكنولوجية هي الغالبة على العالم وهي وإن كانت شكلاً من أشكال الوجود فإنها تبعده عن تاريخه الأصيل الذي يتحد فيه مع الوجود.

وبوسعنا أن نجد في شبكة الإنترنت وسيلة لنشر قيمة العولمة، فمن خلالها تسعى الولايات المتحدة الأميركية بواسطة التدفق الإعلامي والمعلوماتي ومن خلال شبكة واسعة من القنوات الفضائية الأميركية أو المدعومة أميركياً (3)وشبكة المعلومات الدولية ،الإنترنت إلى تذويب الثقافات الرافضة للتهميش والإقصاء ونشر منظومة القيم الأميركية المزعومة عن العلمانية والتعددية، واحترام الإنسان وحقوق الأقليات

ص: 90


1- يقول اللواء وليام لونى، قائد القوات الجوية الأميركية إنهم يعلمون أننا نمتلك بلدهم، إننا نفرض عليهم الطريقة التي يعيشون ويتحدثون بها. وهذا هو الشئ العظيم بالنسبة لأمريكا في الوقت الراهن .. ( بيلجر، جون، حكام العالم الجدد، مرجع سابق، ص75).
2- Heidegger, M.; Concepts fondamentaux, Paris: Gallimard, 1985. p. 31 - 33.
3- مما يدل على أن هذه القنوات مدعومة بشكل أو بأخر إن تاريخ تغطية أحداث العالم الثالث في وسائل الإعلام الغربية يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن إعطاء اهتمام زائد للفوارق والخلافات بين الثقافات والحضارات، بدلاً من إبراز والتركيز على ما هو مشترك فيما بينها .... كما أن وسائل الإعلام تطبق أحياناً خطاباً هرمياً وحصرياً في النظر إلى حضارات الآخرين بما يذكرنا بخطاب استعمارى أو استشراقى المفترض أنه انتهى تاريخياً منذ زمن. وليد عبد الناصر، حوار الحضارات وتحدى العولمة القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2005، ص176).

رغم تدني احترامها أميركياً وخصوصاً عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وبما في ذلك تلك القيم المدمِّرة للعلاقات الاجتماعية وفي مقدمتها العلاقات الأسرية على سبيل المثال، ونخلص من ذلك إلى القول بأن حرباً باردة أميركية جديدة لا هوادة فيها تشن على المجتمعات والثقافات الرافضة للهيمنة الأميركية، تهدف إلى تدمير بنياتها الاجتماعية وتقاليدها وعاداتها وأديانها تمهيداً لذوبانها في الثقافة الأميركية الغالبة، والمغلوب مولع بتقليد الغالب كما يرى ابن خلدون.

ومن هذا المنطلق، فعناصر القوة اليوم لا تقف عند حد القوة العسكرية، كما لا تقف عند حد القوة الاقتصادية، وإن كانت أهم عناصر القوة وأشدها تأثيراً وأكثرها مساعدة في فرض الهيمنة على الآخرين، فعناصر القوة قد اتسعت لتشمل قوة المعلومات والإنترنت بما تشتمل عليه من قنواتٍ فضائيةٍ ضخمةٍ ووكالات إخبارية ترصد كل شيء على أرض الغير ، وصحف عابرة للقارات واتسعت لتشمل أيضاً العديد من الاتفاقيات الدولية التي وضعت جميعاً لتسهيل مهمة الهيمنة الغربية على بقية شعوب العالم كاتفاقية الجات الاقتصادية واتفاقيات الحد من الأسلحة النووية والبيولوجية وغيرها.

ومن نفس الزاوية، فوسائل الهيمنة على الآخرين وفرض الرأي الغربي عليهم قد تتغير من عصر إلى عصر لكنها تصب دائماً في تحقيق نفس الهدف «هدف وجود الرأي الواحد والثقافة ذات البعد الواحد والخبرات التي تصب في معين واحد. إنه دائماً الغرب سواء قادته اليونان قديماً أو أوروبا حديثاً أو أميركا في العصر الحالي. ونحن نعيش في أسوأ عصر الهيمنة الغربية لأننا نعيش في عصر تعددت فيه صور القوة الغربية، لدرجة جعلت البعض يتصور أنه إنما يفكر معبراً عن استراتيجية عربية مختلفة وهو في الواقع مجرد آلة في ترس الدعاية للاستراتيجية التي يُريد أن يهاجمهما ويقف ضد مخططاتها»(1)

وهكذا تصبح التقنية الحديثة ممثلة في وسائل الإعلام ووسائل الاتصالات

ص: 91


1- مصطفى النشار، ضد العولمة - 10 - القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1999 ، ص54.

الحديثة خادمة لإيديولوجية المركز، ومن خلال هذه المنظومة الأيديولوجية «يتم التعامل مع العالم، مع الإنسان في كل مكان تعاملاً لا إنسانياً يحكمه مبدأ البقاء للأصلح، الأصلح في هذا المجال هو الناجح في كسب الثروة والنفوذ وتحقيق الهيمنة. وفي إطار هذا المبدأ تبدو (الخصخصة) و(المبادرة الحرة) و(المنافسة).. إلخ على حقيقتها كأيديولوجيات للإقصاء والتهميش وتسريح العمال أخذاً بمبدأ: كثير من الربح ، قليل من المأجورين»(1).

وإذا كانت القوى الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة على العولمة تنزع إلى محاولة الإيحاء بأن تيارات وآليات العولمة تنشد بالأساس تطوير المبدأ الذي شاع في السبعينات والثمانينات وهو «الاعتماد المتبادل». هذا يعني منطقياً أن تتوافر مجالات التفاعل المشترك بين الشعوب والحضارات تمكنها من الإسهام - وإن كان متفاوتاً - بفعالية في صياغة سياسات وخلق آليات مشتركة للتغلب على المشكلات التي تفوق إمكانيات وقدرات هذه الدول مثل البيئة وأسلحة الدمار الشامل وإحلال السلام في مناطق التوتر العرقي والطائفي والديني والتنمية والديون...إلخ، غير أن الواقع أن اتجاهات العولمة الأميركية تنزع إلى نقل إدارة الأزمات وطرق التغلب عليها من سياقها الوطني إلى سياقها الذي تم عولمته.

إن هذه النظرة تتجاهل في الواقع وضعية عدم التكافؤ في القدرات التكنولوجية والمعلوماتية بين المركز والأطراف أعني بين الغرب والشرق. كما أن كل هذا يتناسى شيئاً مهماً، وهو اختلاف الهوية والثقافة والطابع القومي والتقدم التقني والدين. بمعنى آخر العولمة هي نهاية السياسة وذلك إذا ما وضعنا في اعتبارنا أن السياسة هی تدبير شؤون المدينة أي تدبير الدولة وهكذا نلحظ تكاملاً جوهرياً بين مبدأ الرأسمالية الأساسي «دعه يعمل دعه يمر» وبين تفعيل مكاسب أصحاب رؤوس الأموال على شكل أيديولوجيات مقصودها خدمة القوة الفاعلة في المركز.

«إذن فإن أول مظاهر العولمة هو تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد

ص: 92


1- محمد عابد الجابری، قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص.145.

العالمي في يد مجموعات قليلة العدد، وبالتالي تهميش الباقي أو إقصاءه بالمرة»(1).

ولعل هذا يتضح بجلاء من امتلاك الدول الكبرى للقاسم الأعظم من الشركات العالمية إذ إن بضع الدول هي أمريكا واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا تمتلك فيما بينها 172 شركة من إجمالي 200 شركة من أكبر الشركات العالمية «هذه الشركات التي تسيطر عملياً على الاقتصاد العالمي وهي ماضية في إحكام سيطرتها عليه إذ ارتفعت استثماراتها في جميع أنحاء العالم. وفي المدة ما بين 1983 1992م بوتائر سريعة جداً: أربع مرات في مجال الإنتاج وثلاث مرات في مجال المبادلات العالمية. وفي تقرير للأمم المتحدة أن 358 شخصاً من كبار الأثرياء في العالم يساوي حجم مصادر ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاثمائة مليون شخص من فقراء العالم. وبعبارة أخرى، إن عشرين فی المائة من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما بينهم ثمانين في المائة من الإنتاج الداخلي الخام على الصعيد العالمي، وأن الغنى والثروة ارتفعا بنسبة ستين بالمائة في الولايات المتحدة الأميركية بين عامي 1975-1995م، غير أن المستفيدين من هذا الارتفاع الكبير في الغنى والثروة لا يتجاوز عددهم نسبة واحد بالمئة من الشعب الأميركي»(2). وبناءً على ذلك فإن العولمة تهدف إلى تعميق الفوارق وإفشاء الفقر (3)الذي هو نتيجة حتمية لتعميق التفاوت طالما أن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمل. إنه منطق المنافسة في إطار العولمة، ومن هنا نلاحظ أن الظاهرة الملازمة للعولمة وربيبتها الخصخصة هي تسريح العمال والموظفين»(4).

ص: 93


1- المرجع السابق، ص: 140
2- محمد عابد الجابری، قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص140.
3- وذلك ما جعل بعض الباحثين المرموقين يؤكد على أن النظام الاقتصادى غير المجدى (العولمة)، بحسب الحقائق الملموسة على أرض الواقع، يغدو في يوم من الأيام، عديم الجدوى حتى في منظور أولئك الأفراد الذين لا يزالون يتمتعون بالغنى وينعمون بالرفاهية، فانهيار القوة الشرائية في هذا النظام سيقوض أرباحهم أيضاً». (أفهيلد هورست، اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه، مرجع سابق، ص (291).
4- محمد عابد الجابري قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص141.

ومن هذا المنطلق ، فإن «برامج التقويم الهيكلي القائمة على أساس الخصخصة، والاستدانة، وتدمير الخدمات العامة قد أدت إلى المزيد من الإفقار، وكان لها الأثر السيئ على نسبة ضخمة من سكان العالم... ويكتب ميخائيل ماكنلي إذا كان مائة مليون شخص قد قتلوا خلال الحروب الرسمية التي شهدها القرن العشرون فلماذا يكون لهم فضل التمييز عن الحصيلة السنوية لوفيات الأطفال الناجمة عن برامج التقويم الهيكلي منذ عام 1912؟»(1)، الذي هو أثر من آثار العولمة.

فالعولمة، إذن، ومن منظور فلسفي محض هي محاولة لإدخال الأطراف في تنافس غير متكافئ مع المركز يؤدي في النهاية إلى إعلان الأطراف عجزها عن منافسة المنتجات التي تنتج بتقنيات عالية وبتكلفة أقل ويكون مصيرها إما إلى خصخصة شركاتها وتصفية القطاع العام وتحويله إلى قطاع خاص، ومن ثم زيادة نسبة البطالة وانخفاض مستوى الدخل والإنتاج القومي وإما يؤدي إلى تعرضها للإغراق الناتج عن الاستيراد الذي يؤدي إلى إعلان الشركات إفلاسها وتسريح عمالتها. وفي كلا الحالتين يتحقق للمركز المتقدم تقنياً الهيمنة والسيطرة ومن ثم يجعل من نفسه الذات ويحيل كل ما عداه إلى موضوع، ولعل ما يحدث عبر ترويج العولمة هو أوضح دليل على أن الدخول في منافسة غير متكافئة الأطراف إنما يؤدي بالضرورة إلى فوز الأقوى أو المركز أو العالم الحر على الأطراف أو العالم الثالث أو الأضعف، وهو ما تعرفه دول المركز جيداً إذ إنها تؤمن بأن شركات ومؤسسات العالم الثالث لا يمكنها ولن تستطيع الدخول في منافسة مع مؤسساتها. ومن ثم فهي تعلم نتيجة هذه المنافسة مقدماً وتفرض قيوداً على من لا ينضم إليها، وبالتالي تصبح الأطراف أمام خيارين كلاهما مر ، إما عدم الانضمام وبالتالي تستبعد وتنفي ويفرض عليها القيود، وفقاً لمنطق من ليس معنا فهو ضدنا، وإما أن تنضم فتخضع في النهاية لهيمنة المركز.

وأبلغ دليل على عدم التكافؤ هو ما ساقه «آندريه جونر فرانك» على العالم الثالث إذ يقول:«إنهم لن يتمكنوا من تحقيق هذه الأهداف باستيراد القوالب الكلامية العقيمة

ص: 94


1- بيلجر، جون، حكام العالم الجدد مرجع سابق، ، ص184 - 185.

من المركز والتي لا تتماشى مع حقيقة اقتصادهم التابع ولا تستجيب لاحتياجاتهم الاستقلالية السياسية»(1).

فالعولمة تسعى إلى فرض نموذجها الرأسمالي على العالم من خلال الاقتصاد والسياسة والثقافة وتعميم قيم الليبرالية الجديدة مثل اقتصاد السوق وحرية التجارة وفتح الأسواق الوطنية وإلغاء أو تقليص أنظمة وإجراءات الحماية وإضعاف دور الدولة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي «إلى جانب تسويق مفاهيم الليبرالية السياسية مثل الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات (الدينية، المذهبية) المختلفة كل تلك القضايا تطرح من منطلق العالمية الجديدة السائدة التي تحجب ما قبلها وما عداها»(2).

والمقصود بالعالمية هنا على وجه التحديد الحضارة الرأسمالية المنتصرة، وهي إذ تعلن نهاية التاريخ وموت الإيديولوجيا تسعى إلى ترسيخ وتأبيد زمانها وإيديولوجيتها، في نزاعها مع الحتميات التاريخية والأيدلوجيات الشمولية، والتي تتمثل في السعي الحثيث إلى تقديس العالمية على صورتها لاغية (الآخر) والأزمنة المحلية الأخرى، وإذ يلغى مفهوم التاريخ والزمن الخاص بها، فهذا يحمل في داخله بالضرورة فرض أيديولوجية ليبرالية شمولية جديدة ناعمة وذات جاذبية في مظهرها، لكنها لا تخلو من نزعات قومية وعنصرية وذرائعية في جوهرها كل ذلك تعبير عن عمق نزعة المركزية الغربية المشبعة بتضخيم الذات (الأنا) إزاء الآخر (المغاير).

ومن هذا المنطلق، فالمركزية الغربية «تعبر عن نفسها في المرحلة التاريخية (القرن الأميركي) المعاصرة من خلال نموذجها الأميركي (وتعمقت مع أيديولوجيا المحافظين الجدد وممارستهم) كأيديولوجيا مشبعة بالاستعلائية والانعزالية والغطرسة والعدوانية والهيمنة تطمس وتلغي مفاهيم وقيم الاختلاف والتباين

ص: 95


1- فرانك، آندريه جوندر تنمية التخلف 1969، ضمن أبحاث كتاب من الحداثة إلى العولمة: رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغير الاجتماعي، مرجع سابق، ص243.
2- نجيب الخنيزي، جدل الثقافة بين الخصوصية والكونية، جريدة عكاظ، عدد 2210 ، في 6 يوليو 2007. http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070706/Con20070706123172.htm

والمغايرة والنقد والمساءلة من قبل الآخر؛ بمعنى فرض الاندماج الكامل (من أرضية التبعية) للآخر في منظومة العولمة (الأمركة) من خلال فرض قيمها وثقافتها الاستهلاكية والعمل على تهجين وطمس وإلغاء مقومات الثقافات الوطنية الأخرى من خلال التعميم الكاسح لثقافة وأسلوب الحياة والمعيشة (الأكل والملبس والشراب) وأنماط الدعاية والفنون (موسيقى وأفلام) المبهرة، بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب، ولم يكن مستغرباً أن تثير من هذه النزعة (الأميركية) الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية للهيمنة ردود فعل لدى النخب وجماعات متزايدة من الرأي العام في البلدان الرئيسة والمراكز العالمية التقليدية والصاعدة الأخرى مثل اليابان ودول الاتحاد الأوروبي والصين والهند والبرازيل ناهيك عن غالبية بلدان ومجتمعات العالم الثالث وما تفرزه مفاعيل العولمة من انقسام حاد (مع استثناءات قليلة) على صعيد الاقتصاد والثروة والمعرفة بين دول الشمال والجنوب وبين المركز (ونواته الأميركية) والأطراف هي تتناقض مع الدعوات الغربية الداعية للمماثلة والتجانس الحضاري الكوني والإنساني واحترام التعددية الحضارية والثقافية وحقوق الإنسان في العالم»(1).

إذن، فالعولمة الغربية هي طور جديد على طريق النزعة المركزية الغربية والعالمية بمفهومها الغربي، إنها طور الاجتياح الذي يطمع في صب العالم داخل القالب الغربي على مختلف الصعد والميادين الاقتصادية والسياسية والقيمية والثقافية والعسكرية والتشريعية ... إلخ. إنها مرحلة الطوفان الغربي الذي هو - في الدعاوى الغربية - نهاية التاريخ، ومن لم يركب في سفينة النموذج الحضاري الغربي طوعاً، فخطوط الصراع والإكراه معه وضده تحددها خطوط الثقافات والحضارات إن خطورة مثل هذه النظريات العالمية أنه قد ينتج عنها شكل من أشكال العرقية؛ حيث إن «النظريات العالمية لا تقبل الآخر ولا تستطيع الاعتراف باختلافاته أو قبولها»(2).

ويمكن القول استنتاجاً مما سبق، إن النظريات العالمية ومنها العولمة، تبحث

ص: 96


1- نجيب الخنيزي جدل الثقافة بين الخصوصية والكونية، موقع سابق.
2- لارين جورج، الإيديولوجيا والهوية الثقافية : الحداثة وحضور العالم الثالث، مرجع سابق، ص52.

الآخر من منطلق الذات العقلية الأوروبية وتتجه إلى تطبيق نموذج عام يفترض حقيقته المطلقة الخاصة. ولهذا يردُّ كل الاختلافات الثقافية إلى وحدته الخاصة، ولكن تأكيد النظريات العالمية على تلك الحقيقة المطلقة ربما يؤدي إلى اختزال خصوصية الآخر وإهمالها.

ويمكن أن نلمس شكلٌ آخر من أشكال العولمة في التكوكب إذ يقول «جورج لارين» عن التكوكب «في أكثر المصطلحات عمومية يمكن أن يقال إن التكوكب مؤثر في الهويات الثقافية بطريقة مختلفة. ويجب دراسة هذه الهويات في خصوصياتها التاريخية. فيمكن إثبات أنه في الحداثة المتأخرة تفتيت للهوية القومية... فالتكوكب عملية قيادةٍ وسيطرةٍ بواسطة انتشار النماذج الثقافية للبلد العالمي أو القطر الأقوى. وواحد من الصفات أو الصور الجديدة للتكوكب هي أنها عملية يؤدي فيها تأثير الولايات المتحدة وصورها الثقافية دور السيادة والسيطرة»(1).

ومن كل ما سبق يمكن أن نحدد بعض السمات التي يتصف بها النظام الاقتصادي القائم على العولمة ؟

السعي للسيطرة واحتكار ما بقي من موارد طبيعية كانت مشاعاً للبشر من قبل مثل التنوع البيولوجي والماء، ونظم الاقتصاد المحلية التي يعتمد الناس عليها في توفير سبل معيشتهم وتأمين أرزاقهم. أي انتشار الظلم وعدم القابلية للاستدامة.

ضمان تحويل الماء والتنوع البيولوجي إلى سلع عن طريق حقوق ملكيةٍ جديدةٍ تدرج في اتفاقيات تجارية تتبناها منظمة التجارة العالمية التي تنقل ملكية موارد الشعوب إلى امتيازات احتكارية تملكها الشركات الضخمة، ومثال ذلك اتفاقية التجارة في البضائع المستمدة من البيئة وخدماتها.

ضمان تحول الموارد الطبيعية المشاع إلى سلع عن طريق اغتصاب مسؤولية الحكم بانتقال سلطة اتخاذ القرار من يد المجتمعات والبلاد إلى يد مؤسسات عالمية،

ص: 97


1- المرجع السابق، ص 258.

وانتقال الحقوق من يد الشعوب إلى يد الشركات الضخمة من خلال زيادة مركزية الدولة، وزيادة عدم إمكانية إخضاعها للمسائلة عملاً بمبدأ الحق الإلهي في السيادة.

وهذا ما يؤدي بدوره إلى «الإفلاس السياسي والتكتلات والأحلاف غير الديمقراطية. وبدلا من الانصياع إلى مذهب الثقة الشعبية ومبادئ المسائلة والتبعية الديموقراطية تقود العولمة الحكومات إلى اغتصاب السلطة من البرلمانات والحكم المحلي وحكام الأقاليم وقادة المجتمعات المحلية»(1).

وفي هذا الإطار، يمكن القول إن ما يدعوه البعض الآن بالعولمة ليس دعوة نحو عالمية المصالح والأهداف ولا نحو مراعاة الخير للكل، بل هو في واقع الأمر دعوة إلى تكريس الوضع القائم الذي تسود فيه ازدواجية المعايير، وعدم مراعاة مصالح الآخر ولا مشاعره أو خصوصيته.«إنها عولمة غربية المنشأ، غربية الأهداف، غربية الأدوات غربية الثقافة ولذلك فهي العولمة ذات البعد الواحد الذي نرفضه. إنها ليس إلا الوجه الآخر للهيمنة وتكريس تبعية الآخرين لثقافة الغرب وتحقيق مصالح الغرب على حساب ثقافة ومصالح شعوب العالم الآخر»(2).

فبالنسبة للغربيين وخاصة الأميركيين ليس التقريب بين الدول، وليس تبادل المصالح وتحقيق العدالة بين الشعوب على الصعيد السياسي، أقول إن ما يريده الغربيون من هذه الأدوات ليس كل ذلك، وإنما المراد حقاً، هو تحويل اقتصاديات الدول الأخرى إلى اقتصاديات تابعة لا تستطيع تحقيق نموها الذاتي إلا اعتماداً على اقتصاديات الدول الغربية وبالذات الاقتصاد الأميركي، وتحويل شعوب العالم الأخرى إلى شعوب مستهلكة للمنتج الغربي بمختلف أشكاله ونوعياته. وببساطة فالمطلوب هو تحويل شعوب العالم الأخرى إلى شعوب خادمة لا يسمح لها بالمشاركة في الاقتصاد العالمي إلا بما تملكه من أيد عاملة رخيصة ومواد خام بأقل سعر ممكن وفي النهاية كمستهلكين لكل ما تنتجه للمصانع الغربية سواء الموجودة

ص: 98


1- شيفا فاندانا حركة ديمقراطية المعيشة، بدائل إفلاس العولمة؛ ترجمة : أحمد زكي، في 23 فبراير 2002. www.kefaya.org/Translations/0202Shiva.htm
2- مصطفى النشار، ضد العولمة، مرجع سابق، ص 10-11.

في بلادها الأصلية في أوروبا وأميركا أو في الفروع التابعة لها في مختلف بلاد العالم. فلقد «كان السوق دوماً سوق استغلال، وبالتالي سوق سيطرة، مساعداً بذلك على ترسيخ البنيان الطبقى للمجتمع»(1)، ويمكننا أن ننقل هذه القضية أيضاً على السوق العالمية بدلاً من السوق المحلية.

ومن هنا يمكن القول أن العولمة «صورة من صور الهيمنة الغربية التي تتم بلا جيوش أو معدات حربية أو قمع عسكري، وإنما عن طريق الأموال العابرة للحدود والشركات الاحتكارية (2)العملاقة والنفوذ الذي يتلاشى إلى جانبه نفوذ أقوى الحكومات»(3)، إي أن العولمة بذرت خلافاً جديداً تمثله مفاهيم التمركز والتفوق ومحاولة سيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر، فصارت تنبعث اليوم المفاهيم التناقضية - السجالية بصورة إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة. «فالعولمة بصيغها المختلفة تجعل العالم أكثر بؤساً وكآبة، وتحمل بداخلها نزعة مركزية غربية تتيح للثقافة الغربية أن تعربد في المحافل الدولية لتفرض سيطرتها دون منازع وتهمش الثقافات الأخرى وتجعلها فنوناً شعبية قديمة»(4).

الخلاصة:

نخلص من كل ذلك أن فلاسفة التفكيك؛ وخاصة دريدا كأحد رواد فلسفة ما بعد الاستعمار؛ لم يستطيعوا أن يتخلصوا كلية من مركزية الذات الغربية؛ بل أنهم بشكل ما أو بآخر أعطوا أوليَّة الذات (الغرب) عن الموضوع (الشرق)؛ حيث إنها ما زالت تمارس نفس الدور من الهيمنة والسيطرة وإن اختلفت الدرجة، كما أن القراءة الصحيحة للعولمة تتيح القول أنها أحد الأشكال السياسية لفرض المركز هيمنته على الآخر؛ فالعولمة هي فرض هيمنة الذات عن طريق استغلال التفوق التقني والاقتصادي والتجاري، وترويجٌ لنموذجه الثقافي بوصفه النموذج الأمثل.

ص: 99


1- مارکیوز ،هربت نحو ثورة جديدة، مرجع سابق، ص 30.
2- يقول هربرت ماركيوز»: إن إمبريالية الاحتكارات تبرر في واقع أمرها، آراء العنصريين حين تصعد الضغط دون ،انقطاع بقنابلها، وسمومها، وأموالها، على السكان غير البيض، وتنمى سطوتها ووحشيتها المرجع السابق، ص 98). ( عمرو عبد الكريم في قضايا العولمة : إشكالات قرن ،قادم القاهرة دار سما للنشر، 1991، ص 59
3- نفسه.
4- رضوان جودت زيادة صدى الحداثة عرض إبراهيم غرايبة، موقع جريدة الجزيرة، في 15 سبتمبر 2003.http://www.azaheer.org/vb/archive/index.php/t-13044.html

طبائع الإمبريالية

عندما يدوم الاستعمار طويلا

اغلالو ياسين(1)

يعتبر الاستعمار شرّ الحضارة ومصدر قلقها المستمر. فأمام واقع التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي... الذي كنا نعتقد أنه سيقود العالم والوجود البشري إلى مزيد من الحرية والأمن والاستقرار، إلا أنه كان يحمل في طياتنا نقيضه. وبهذا قادت القوى العظمى الغربية المهيمنة على مسرح التاريخ الحديث والمعاصر العالم إلى واقعٍ من الاضطهاد والاستعمار والهيمنة والسيطرة على الآخر، وإخضاعه ونهب ثرواته وتبديد أحلامه في مقابل وعودها بمزيد من الحرية والأمن والاستقرار. وقد ذاقت البلدان العربية الإسلامية نصيباً من هذا الشر، خصوصاً بعدما استجاب مناخ البلدان العربية للخمول والانقباض بتعبير ابن خلدون الأمر الذي جعل منها محطة لأطماع استعمارية، لتأتي النهضة والاستفاقة العربية على أصوات الدبابات الأوروبية التي أرست على شواطئها. وكما يقول أحد المفكرين في حديثه عن أشكال الاستعمار الجديدة التي تتربص بالبلدان العربية :«وإن غادرت الدبابات فقد بقيت المطبعة».

ص: 100


1- باحث من المغرب.

غرضنا في هذه الدراسة يتعلق بالتفكير وتفكيك الابعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية للإمبريالية التي تتربص بالبلدان العربية، خصوصاً وأن الدراسات العربية عن الإمبريالية نجدها معدودة على رؤوس الأصابع. وإذا استثنينا كتابات سمير أمين عن الموضوع ، ومن بعده رفيقه الهادي التيمومي في كتابه «مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار العسكري إلى العولمة» والذي قدّم له المفكر سمير أمين نفسه. سنجد أن باقي الكتابات العربية عن الإمبريالية قد اعتنت في جزء كبير منها بالامبريالية وعلاقتها بالثقافة، وهذا ما يجسده عنوان كتاب إدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية»، وبعض مقالات المفكر المغربي عالم المستقبليات المهدي المنجرة خصوصاً في كتابه «الإهانة في عهد الميغا إمبريالية».

إن الإمبريالية الاستعمارية تشكل التجسيد الفعلي للشيطان بتعبير لوك فيري في كتابه «الإنسان المؤلَّه أو معنى الحياة». وواقعنا العربي يقتضي تأمل وتفكيك هذه الشيطنة التي تنطوي عليها الإمبريالية، خصوصاً وأن الحديث عن هذه الأخيرة كما يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه »الثقافة والإمبريالية» «هو حديث عن غزو عسكري سياسي وإقتصادي وأخلاقي وثقافي ولغوي وأزيائي وطعمي ..»(1).

أمام هذا الوضع يعتبر التفكير في الاستعمار وآلياته المختلفة الجديدة بالنسبة للباحث العربي والدول العربية، شكلاً من أشكال المقاومة وتأكيد الذات وإعادة رسم الحدود ونمط علاقتنا بالآخر. خصوصاً وأن «تاريخ العالم الثالث في الخمسين سنة الأخيرة عبارة عن سلسلة لا متناهية من المهانات والمذلة» (2)كما كتب المهدي المنجرة متحدثا عن الماضي الاستعماري للبلدان الأوروبية، الذي يقوم على إخضاع الآخر واستغلال خيراته وثرواته اعتماداً على أشكالٍ استعماريةٍ تتجدد باستمرارٍ في إطار تقسيم العالم بين القوى العظمى.

إن البحث في الاستعمار وآلياته الجديدة يعد اليوم ضرورة ملحة، خصوصاً في ظل

ص: 101


1- إدوراد سعيد، الثقافة والإمبريالية، دار الأداب، بيروت - لبنان، ط. الرابعة 2014 ، ص. 31.
2- المهدي المنجرة ، الاهانة في عهد الميغا إمبريالية المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط. الخامسة ص.8

استمرار فشل المخططات التنموية بالبلدان العربية ووضعيتها التاريخية الموضوعية والذاتية التي تسائل بشكل مباشر التدخل الخارجي، والهيمنة الإمبريالية التي تقودها القوى العظمى. التي تتوجس من قيام دول عربيّة قويةٍ بإمكانها أن تقف عائقاً أمام غطرسة القوى الغربية، وأطماعها الاستعمارية الجديدة. ونظراً للطابع المعقد للإمبريالية بحيث ترتبط من جهة بتكوين إمبراطوريات اقتصادية وسياسية والترويج لعلاقات إنتاج محددة، ومن جهة أخرى نجدها تتأسس وتسلك طريق الغزو الثقافي والأخلاقي مستهدفة الآخر على مستوى هويته ووعيه كل هذا يدفعنا إلى معالجة الموضوع وفق منهجيةٍ ننطلق فيها من معالجة البعد السياسي والاقتصادي للإمبريالية وعلاقتها بالرأسمالية ثم التطرق فيما بعد للثقافة والإمبريالية وأشكال المقاومة وتأكيد الذات التي يسلكها الآخر.

الإمبريالية الاستعمارية شبح الرأسمالية

إذا كانت الإمبريالية «المشتقة من الكلمة اللاتينية Empire (إمبراطورية) كلمة قديمة، وتعني في الأزمنة السابقة لعصرنا إمّا كل سياسة توسعية ترمي إلى إنشاء إمبراطورية أو كل منظومة فكرية تبرر ذلك »(1)، فإن الدول العربية الإسلامية عانت ولا زالت تعاني من هذه السياسة التوسعية الاستعمارية سواء بشكلٍ عسكري مباشر، أو بشكلٍ غير مباشر اعتماداً على طرق مختلفة جديدة تضمن وتكرس هيمنة وسيطرة القوى العظمى على اعتبار أن الأمر لم يعد يتطلب بالضرورة وجود قوة السلاح والدبابات والطائرات.

لقد كان الاستعمار القديم كما يقول الهادي التيمومي «يكتفي بسلب المستعمرات جزءا مما كانت تنتجه من فائض، لكنه يُبقي في الأعم الأغلب على ما بتلك المستعمرات من بنى اقتصادية واجتماعية وثقافية. أما الاستعمار الجديد فهو استعمار نهبٍ ومقوض لما بالمستعمرات من بنى مختلفة»(2)لهذا قبل الخوض في الأبعاد الثقافية والأخلاقية للإمبريالية، تجدر الإشارة إلى أن تاريخ الدراسات والبحوث حول

ص: 102


1- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، دار محمد علي، تونس، ط الأولى، 2004، ص. 71.
2- المرجع نفسه، ص. 7.

الإمبريالية مر بمراحل إذ ركزت الكتابات الأولى التي قد نسميها اليوم كلاسيكية على الإمبريالية في جانبها الاقتصادي. فتم اعتبار الإمبريالية وليدة والابن الشرعي للرأسمالية، وأن الرأسمالية في تطورها تحمل بالقوة مرحلتها المتقدمة والمتجلية في الإمبريالية. ويمكن أن ندرج في هذا الاتجاه من البحث كل الكتابات التي تنخرط في التقليد الماركسي ودليل قولنا كتاب فلاديمير لينين الذي اختار له عنوان «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، مروراً بنكولاي بوخارين (1)وكتابه «الاقتصاد العالمي والإمبريالية»، ومن قبل هذا كله بحوث وكتابات كارل ماركس ورفيقه فريدريك إنجلز عن الاستعمار وأزمات الرأسمالية. لهذا كان من الطبيعي وفق الدراسات والبحوث الماركسية أن ننتظر تطور الرأسمالية حتى تنضج وتبلغ قمتها، لنشهد ولادة عصر الإمبريالية الاستعمارية. ليتوسع شطط هذه الأخيرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وترسيم القطبية الواحدية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، وتحالفاتها ذات الهندسة المتنوعة. وبالتالي وكما يذكر الهادي التيمومي «أن كلمة الإمبريالية وإن كانت معروفة منذ العصور القديمة فإنه لم يكتب لها الرواج إلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ويعود ذلك إلى هستيريا التنافس الضاري حول المستعمرات التي استبدت بالدول الرأسمالية الأقوى أنذاك وأفضى إلى اقتسام كل العالم ولأول مرة في التاريخ بين أقطاب النظام الرأسمالي العالمي»(2).

غرضنا لا يتعلق بعرض تصور كارل ماركس أو الماركسية بصفة عامة عن الاستعمار الذي يتخذ أبعاداً معقدةً، خصوصاً في مشروع كارل ماركس الذي رأى فی الاستعمار آلية مساعدة للمجتمعات المستعمرة ما قبل الرأسمالية على الانتقال بسرعة إلى النظام الرأسمالي. وبالتالي تكوين طبقة بروليتاريا عالمية تتحالف ضد البورجوازية . بل ما يهمنا هو البعد المتناقض للنظام الرأسمالي، والذي سينتهي في مرحلة انتعاشه وازدهاره إلى نظام إمبريالي للحفاظ على وجوده وضمان استمراره، على اعتبار أن الإمبريالية هي عجلة ووقود الرأسمالية.

ص: 103


1- نيكولاي ايفانوفيتش بوخارين ( 1888 - 1938 م ) سياسي وماركسي بلشفي نشط في الثورة البلشفية.
2- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 71.

وبهذا لوحظ «أن الدول الرأسمالية الكبرى قادرة على استغلال خيرات بلد معين باللجوء فقط إلى الوسائل الاقتصادية، دون الوسائل العسكرية. وقد أطلق بعض المفكرين تسمية الإمبريالية (Timperialisme) ( على هذه العملية)»(1). هذا التوصيف الذي يقدمه التيمومي للامبريالية ويتخذه كتعريف لها، هو نفس الفهم الذي حرك معظم الدراسات العربية لتطوير تصور عن أشكال الاستعمار الجديدة التي تكرس التبعية للقوى العظمى خصوصاً بعدما وجدت نفسها في علاقةٍ غير متكافئةٍ رغم خروجها من قبضة الاستعمار المباشر وتأخر قطار التنمية بمعظم البلدان العربية الإسلامية رغم إراداتها القوية.

إن الرأسمالية بطبعها لا أخلاقية كما يقول كارل ماركس، هدفها هو الإغتناء وتحصيل المال وبالتالي الاستغلال إنها في جوهرها لا عادلة. لهذا عاشت القارات الثلاث تبعية اقتصادية وسياسية وثقافية للدول العظمى الإمبريالية التي قسمت العالم بعدما استحوذت الدول الرأسمالية على مناطق التأثير والرأسمال الممول لعجلة النظام الرأسمالي. وصار الآخر لا يمثل إلا مصدراً للثروة، أو يد عاملة رخيصة، أو سوق متلهفة للسلعة.

إن ارتفاع مستوى الإنتاج قاد القوى العظمى إلى تقسيم العالم فيما بينها، وقد دفع هذا الأمر فلاديمير لينين في كتابه «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» إلى تقديم إحصائيات لأحد الباحثين عن المجال الجغرافي الخاضع للمستعمرات الأوروبية، فيذكر ما مفاده أنه خلال سنة 1900م كانت أكثر من 90 في المئة من بلاد أفريقيا تحت الاستعمار الأوروبي(2). وهذا ما يدفعنا إلى القول أن الاستعمار وإن كان موجوداً قبل المجتمع الرأسمالي، فإن ما يميّز هذا الأخير هو بعده التصنيعي الرأسمالي، فيصبح الآخر مصدراً للمواد الأولية وسوقاً استهلاكية

وبهذا فكل أشكال التدخل الأجنبي تهدف إلى تكريس علاقات إنتاج معينة، التي

ص: 104


1- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 7.
2- V. Lénine, l'impérialisme stade suprême du capitalisme, édition sociale, paris, p. 112.

هي بالطبع علاقات تخدم مصلحة القوى العظمى المسيطرة. فتشييد السكك الحديديّة كما يقول لينين «يبدو عملاً بسيطاً طبيعياً وديمقراطياً ثقافياً وحضارياً : لكنه في أعين خبراء البرجوازية طريقة لإخفاء بشاعة العبودية الرأسمالية.»(1) الأمر الذي يعني أن الإمبريالية تسلك طرق عديدة وذات أبعاد اجتماعية تغطي بها على أهدافها الأصلية. ولم تعد بالضرورة في حاجة إلى القوة العسكرية المباشرة. فبعد مغادرة وإجلاء الدبابات وكل تجليات القوة العسكرية تبقى الشركات العابرة للقارات، والرأسمال التمويلي الأجنبي الذي يكرس الهيمنة والتبعية لأنه كما يقول لينين «إذا أردنا تعريف الإمبريالية بشكل مختصر يمكننا القول إنها مرحلة الرأسمالية عندما تتحول إلى شركات احتكارية.»(2)مما أن القوى العظمى تعمل على تركيز الرأسمال في يد تكتلات وشركات بعينها، الأمر الذي يجعلها مهيمنة وسائدة وتمنع صعود الرأسمال الوطني للبلدان المستهدفة. إنه وجه آخر للاستعمار يقوم على التحكم السياسي والاقتصادي باعتماد وسطاء - شركات ومؤسسات تعمل كطواحن لخدمة النظام الرأسمالي، وتستغل دولاً نائية أقل تقدما وتعتبرها خزاناً للثروة وسوقاً متعطشة ويداً عاملة رخيصة.

إذا كان للإمبريالية كل هذه التجليات والأوجه المتعددة، فإن لينين حاول تحديد خصائصها وجعلها خمسة:

1. تركيز الإنتاج والرأسمال الأمر الذي أنتج الاحتكار

2. ظهور أوليغارشية تمويلية بعد إدماج الرأسمال المالي مع الرأسمال التمويلي.

3. تصدير الرأسمال الذي اصبح مختلف عن تصدير السلع

4. نشأة شركات احتكارية قسمت العالم.

5. تقسيم المجال الجغرافي العالمي بين القوى الكبرى الرأسمالية.(3)

ص: 105


1- ibid, p. 9.
2- Ibid, p. 130.
3- V. Lénine, l'impérialisme stade suprême du capitalisme, édition sociale, paris, p. 131.

تبين هذه الخصائص كيف أن الإمبريالية تهدف إلى ضمان استمرار الهيمنة، وإخضاع الآخر لمنطق علاقات إنتاجية معينة وتدفع القوى العظمى إلى التنافس على المجالات الجغرافية الغنية طبيعياً وبشرياً مما يولد الصراعات والحروب والانقسامات داخل البلدان المستهدفة وتأجيج الهويات القومية. وهي حرب«تقودها مصالح وأطماع معينة على مستوى المنطقة»(1) بتعبير المهدي المنجرة في حديثه عن الحرب على أفغانستان والعراق، والتي اعتبرها حرب من أجل النفط. وبالتالي فالاستعمار وكل تدخل أجنبي بالمنطقة العربية والشرق الأوسط وباقي دول العالم النائية لا ينفك عن هذه القاعدة التي تديرها المصالح والأطماع وتكرس الهيمنة والتبعية.

إذا كنا قد أكدنا سابقاً على الأبعاد المتعددة للإمبريالية، بحيث وراء أطماعها الاقتصادية تقف ترسانة من السرديات الاستعمارية ذات الأبعاد الثقافية، والأخلاقية، والأزيائية... والتي تهيّئ الوعي البشري، وتخلق عنده بالتالي بنيةً إيديولوجيةً تمكِّنه من الانخراط السلس في علاقات الإنتاج التي تقودها وتكرس لها القوى الإمبريالية العالمية التي رأينا كيف أنها تتطاحن لتقسيم العالم جغرافياً، خدمة لمصالحها الرأسمالية. وإذا كنا قد تحدثنا سابقا على البعد الاقتصادي للإمبريالية وعلاقتها المباشرة بالرأسمالية. فإن المهمة المتبقية تتعلق بتسليط الضوء على هذه السرديات الناعمة، التي تغزو العالم ثقافياً وتقوّض بنية وعيه الأصيلة بتعبير الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر وتخلق عنده وعياً مزيفاً يجعله ينخرط في بنية النظام التي تروجه الإمبريالية العالمية وكأنه النظام الواحد الممكن والأصلح وفق سردية نهاية التاريخ التي روج لها فوكوياما.

ص: 106


1- المهدي المنجرة الاهانة في عهد الميغا إمبريالية المركز الثقافي العربي، مرجع سابق، ص. 61.
الإمبريالية والثقافة وأشكال المقاومة المضادة

نصادف في كتاب المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية» مقطع معبر للروائي الإنجليزي جوزيف كونراد من روايته «قلب الظلام»، يعتبر «أن فتح الأرض، الذي غالباً ما يعني انتزاعها من أولئك الذين لهم بشرة مختلفة عن بشرتنا أو أنوفا أكثر تسطيحاً بقليل من أنوفنا، ليس عملاً جميلاً حين نتأمله بإمعان، وليس ثمة ما يشفع له ويمنح الخلاص سوى الفكرة ذاتها: فكرة كامنة وراءه، لا ذريعة عاطفية بل فكرة وإيمان لا تشوبه الأنانية بالفكرة - التي هي شيء بوسعك أن تقيمه نصبا وتنحني أمامه مبجلاً وتقدم له القرابين».(1) إن الأمر لم يعد يتعلق بإدخال الدبابات واحتلال الشواطئ والبراري، بل يتعلق بتمرير وإدخال الفكرة وجعلها مقبولة عند الناس ومتحمسين لها. إنه إقناع للرأي العام بمشروعية التوسع الإمبريالي وببعده الأخلاقي أحياناً وذلك بعرض حجج عبارة عن تبريرات: فالروائي البريطاني روديارد كيبلينغ (2)المناصر للإمبريالية كان يعرض حجج يمكن أن نسميها حضارية تقر بأن الرجل الأبيض يتحمل مسؤولية إدخال الشعوب المتخلفة ولو مرغمة في الحضارة، مروراً بحجج أخرى إنسانية تعتبر «أن الدول المتقدمة لها حق التدخل الإنساني لاستئصال العبودية والاستبداد الشرقي ونشر قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان داخل البلدان غير الغربية»(3). وحجج أخرى عنصرية تقوم على إرادة القوة والتمييز بين الأجناس النقية والدنيئة، وأخرى إحيائية بتعبير الهادي التيمومي التي تعتبر الإمبريالية ضرورية لإحياء الشعوب وتخليصها من البيروقراطية والعقم، وقد تكون تبريرات ذات مصوغات دينية تعتبر الإمبريالية تخليصاً للعالم من الوثنية وتنصير غير المسحيين. كل هذه التبريرات التي تهدف إلى اقناع وطمأنة شرائح واسعة من الرأي العام الأجنبي، وتبرير غزو بلده للبلدان الأخرى. وهي نفس التبريرات التي قد يطمئِنُ لها الرأي العام المستهدف خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمصوغات محاربة التخلف، وتحرير الشعوب من الاستبداد

ص: 107


1- إدوراد سعيد، الثقافة والإمبريالية ، دار الأداب، مرجع سابق، ص. 53.
2- روديارد كيبلنغ 16-1-1865) (rudyard kipling م كاتب وشاعر وقاص بريطاني، ولد في الهند.
3- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 72.

ونشر ثقافة حقوق الإنسان وتبريرات أخرى جديدة أكثر موضة تتجلى اليوم في سيمفونية محاربة الإرهاب..

كل هذه الحجج والتبريرات هي الوجه الآخر لعملة واحدة عنوانها الإمبريالية العالمية، التي تحكم قبضتها على العالم. وبالتالي «فالجدل حول مفهوم الإمبريالية منذ تشكل هذه الظاهرة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى أيامنا هذه لم يكن لإشباع فضول معرفي، وإنما كان يعكس صراعاً فكرياً بين خطين: خط القوى الاجتماعية المستفيدة من الإمبريالية وخط القوى المتضررة منها».(1)إنه نوع من الصراع بين المراكز العالمية وقوى الهامش. وهو صراعٌ غير متكافئٍ بحيث توظف القوى العظمى أذرعها الاقتصادية الاحتكارية كما رأينا سابقاً، كما تسخر آلاتها الإعلامية ونواياها الأخلاقية السيئة ... لهذا قلنا سابقاً أن الكتابة باللغة العربية عن الإمبريالية هو نوع من أنواع المقاومة باعتماد اللغة والفهم والوعي.

إن الهيمنة الثقافية وتكريس التبعية على مستوى الذوق الفني والأدبي والأخلاقي... هو جزء من مشروع الإمبريالية العالمية التي رأينا سابقاً وجهها الاقتصادي. لهذا اعتبر ادوارد سعيد أن الثقافة ليست محايدة، بل أول ما يجب الانتباه له اليوم هو أن الغزو صارت أحداثه تُنسج على حلبة الساحة الثقافية. بحيث أصبحت هذه الأخيرة «مسرح نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة متباينة، هيهات أن تكون الثقافة مملكة ساجية... بل إنها قد تكون ساحة عراك فوقها تعرض القضايا نفسها لضوء النهار وتتنازع فيما بينها »(2). لقد أدخلت الإمبريالية العالمية الآخر في أزمة تحكمها الغربة عن الذات وفقدان المعنى. نتيجة الهجوم على القيم والمنظومات والمرجعيات الكبرى التي تجعل الفرد يحس بالانتماء، وينطلق بالتالي من هوية تاريخية يستطيع عبرها الإجابة على قلق الحضارة المعاصرة، ومواجهة الاستلاب، والأخطار الخارجية التي تتربص بالذات. لهذا تسعى الدول التي تعرف هجوماً وتدخلاً خارجياً إمبريالياً إلى تقوية وتأكيد الهوية القومية ثقافياً وأخلاقياً ...

ص: 108


1- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 73.
2- إدوراد سعيد، الإمبريالية والثقافة دار الاداب مرجع سابق، ص. 75.

إن الإمبريالية تهاجم ثقافياً، لتمنع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ. لأن الهيمنة والسيطرة الثقافية والأخلاقية، تجعل الآخر المغلوب والمستلب يدخل في هيستيريا تقليد الآخر ، والتماهي به وسلوك طريقته ونمطه الاقتصادي والثقافي. وهذا ما انتبهت له السرديات العربية التي سلكت طريق المقاومة والتصدي لمخططات الإمبريالية العالمية، إذ يقول المهدي المنجرة معلقاً على تجربته كمسؤول بمنظمة اليونسكو «لقد ازددت قناعةً بفكرة ابن خلدون في أن القوي ينطلق دائما من قيمه، والحقيقة تحتاج إلى القوة، وعندما تخسر قبيلة ما النزاع يكون أول رد فعل عندها هی أن تقلد القبيلة التي تفوقت عليها، والرغبة في قيادة الإنسان كثيراً ما تحرك ما يسمى بالحضارة الغربية في علاقتها مع الآخر»(1). هذا القول يكشف لنا عن الأبعاد الإمبريالية والرغبة في السيطرة وتصدير القيم والأخلاق التي تحكم الوعي الغربي، باعتباره القائد للعالم والنمط الواحد الممكن الذي يجب على كافة دول العالم أن تتشبث به وتسلكه.

لقد جندت الإمبريالية العالمية آليات متعددة مختلفة لتأكيد فكرة التقدم والتفوق الأجنبي، وجعلت التاريخ الحديث والمعاصر يكتب بأعين أوروبية. في طليعة هذه الوسائل تأتي الآلة الإعلامية للقوى العظمى، ثم أقلام المفكرين والأدباء الذين يتخذون الحكي والسرد آلية لتمرير فكرة نهاية التاريخ، ورسم مسيرة واحدة للتاريخ على الطريقة الغربية. ونستحضر هنا أمثلة متعددة لأقلامٍ فكريةٍ أعلنت نهاية التاريخ وانتصار النموذج الرأسمالي الغربي، وأفول كل السرديات المضادة والمخالفة كما فعل فوكوياما . الذي أعلن نهاية الإنسان وكل الإرادات الأخرى التي تتحرك خارج نسق القطبية الواحدية ومن بعده أستاذه صامويل هنتنغتون الذي رأى أن نظرية تلميذه نظرية قاصرة وأبدع في تأسيس نظرية تقول بصراع الحضارات هذا الصراع الذي سيحدد شكل العالم مستقبلاً.

إنه في الحقيقة ليس صراعاً بل خطراً مصدره القارات التي عانت من الإمبريالية الاستعمارية. وهذا ما جعل عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة الذي قال بحرب الحضارات قبل هنتنغتون يعلق عائلاً أن طرح هذا الأخير المتعلق بصراع الحضارات

ص: 109


1- المهدي المنجرة الاهانة في عهد الميغا إمبريالية المركز الثقافي العربي، مرجع سابق، ص. 174. ة،

وقائيا بحيث يعتبر «أن الخطر سيأتي من العالم غير اليهودي - المسيحي، وهذا خطاب يستند إلى الدفاع عن النفس»(1). في حين كان خطاب المنجرة مستقبلياً استشرافياً، يتنبأ بوضعية العالم العربي الإسلامي الذي ألصقت به صفات وأصبح الشرّ والخطر الذي يهدد استقرار العالم وأمنه. لقد كان لهذا الخطاب الإمبريالي الثقافي صدى كبير على الوعي العربي، الذي نهض لتأكيد هويته الإنسانية الكونية ومواجهة التهم المنسوبة للهوية العربية الإسلامية وذلك بتشجيع التربية التي تعزز القيم العربية الإسلامية مع ربطها بالقيم الإنسانية الكونيّة من: حرية وحقوق الإنسان وديمقراطية... مع النهوض بأليات التعبير والإعلام المضاد الذي يفتح النقاش مع الحضارات الأخرى، لبيان القصور الذي يلحق بعض النظريات التي تروّج لها الإمبريالية العالمية على المستوى الثقافي. ويمتد النقاش الحضاري اليوم إلى الهويات المتطرفة أو القاتلة بتعبير أمين معلوف والتي تعمل السرديات الإمبريالية على الصاقها بالذات الإسلامية مباشرة لتبرير غزوها وتدخّلها الأجنبي في الشؤون العربية الإسلامية، وتوجيه سياسات هذه البلدان ونهب خيراتها وثرواتها. الأمر الذي حمَّل الحضارة العربية الإسلامية عبئاً مضاعفاً. يجعلها تضطلع من جهة بمهمة تحصين الذات وتأكيد هويتها التاريخية وربطها بالقيم الإنسانية الكونية، ومن جهة أخرى مواجهة الغزو الإمبريالي الثقافي الذي يوزع التهم ويعمل على شيطنة الآخر واتخاذ الأمر حجة للسيطرة والتدخل في شؤونه ونهب ثرواته.

خاتمة:

أمام هذه الأوجه المختلفة للإمبريالية العالمية والوضعية والمهمة المعقدة التي تضطلع بها الدول المستهدفة، نجد أن الإمبريالية لا تنفك تجدد ذاتها وتتخذ أقنعة مختلفة. تسقط الآخر في شباكها ومصالحها ، إذا لم يتسلح بالوعي المناسب وآليات الفهم والتحليل الضرورية لتفكيك بنية الخطاب الأجنبي والتعرف على طموحاته الاستعمارية الثاوية. وبقدر ما تنجلي وتنكشف الإمبريالية العالمية من طرف الخصوم ويتم كشف أبعادها وأقنعتها بقدر ما يزداد الوعي وتتعاظم الاجتهادات لدى خبراء و منظري السياسات الإمبريالية لتجديد أشكالها.

ص: 110


1- نفس المرجع السابق، ص: 172.

الاستغراب القسري

في جدل التثاقف بين المركز والهوامش

نجلاء مكاوي(1)

استخدمت الثقافة الأوروبية عدة استراتيجيات وهي تؤطر فكريًّا ما اعتقدته تفوقًا أوروبيًّا على كافة الحضارات والثقافات تضمنت التنظير لتلك الرؤية، وصياغة الخطاب الذي يبرر السيطرة الأوروبية على الثقافات الأخرى، من خلال تعميم القيم والممارسات الأوروبية على« الآخر» الذي اعتُبر وصُوِّر ذا قيمٍ وثقافةٍ أدنى، ويستوجب تقدمه الدوران في الفلك الثقافي الغربي.

وضعت النظرة للعالم في الوعي والثقافة الأوروبية أسس مفهوم المركزية الغربية، وما استتبعها من تجلياتٍ ثقافيةٍ، فوفقاً للتصور الأوروبي المبني على نظرة ثنائية للعالم «برابرة ومتحضرون» فإن الغرب هو منتج القيم الإنسانية، والمحدد الوحيد لمسار انتقال أي ثقافةٍ من البربرية إلى المدنية وهى كل الثقافات غير الغربية، وواضع معايير التقدم والتخلف.

وقد ظهر مفهوم الغرب، تمخضًا عن الحقبة الطويلة التي يصطلح عليها

ص: 111


1- أستاذة جامعية وباحثة في الفكر السياسي الحديث - جمهورية مصر العربية.

بالعصر الوسيط، التي طورت جملةً من العناصر الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية، فاندمجت لتشكل هوية أوروبا، وبانتهاء تلك الحقبة ظهر المفهوم بأبعاده الدلالية الأولية، التي تمثلت في تثبيت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز أساسية تشكل هويته وأدت هذه العملية إلى ولادة مفهوم المركزية الغربية، الذي تتجلى إشكاليته في أنه يؤسس وجهة نظر حول الغرب بناءً على إعادة إنتاج مكونات تاريخية، توافق رؤيته، معتبراً إياها جذوراً خاصة به، ومستحوذًا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعًا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها . فيما تقصَّد المفهوم أن يمارس إقصاءٌ لكل ما هو ليس غربيًّا، دافعًا به إلى خارج الفلك التاريخي الذي أصبح الغرب مركزه، على أن يكون مجالاً يتمدد فيه، وحقلاً يجهزه بما يحتاج إليه(1).

ساعدت عوامل عدةٍ، على تدشين وتثبيت الهوية الغربية الحديثة، ووضوح وتجلي مفهوم التمركز فبجانب الثورة الفكرية والعلمية وحلول العلمية العقلية محل الرسالة الدينية، ما كرَّس لتمركز (الأنا) عند الغرب، الذي صار رمزا للتحضر، بينما العالم الآخر هو رمز للتوحش والهمجية، بعد أن نابت ثنائية حيوية أوروبا/ خمول العالم عن ثنائية الإيمان/ الكفر التقليدية، أو ثنائية التمدن/ التوحش، فإن بداية الإعلان عن الزمن الأوروبي، وتشكيل هوية محددة إعمالاً للمركزية الغربية جاءت مع الكشوف الجغرافية الكبرى، وعبور کولمبوس للمحيط الأطلسي عام 1492م، حيث أقصيت أميركا وتاريخها القديم، وطمست معالمها ابتداءً من تحديد تسمية تحتفي بالاتباعية للذات الغربية، هذه التسمية التي حاولت ممارسة الإقصاء بإخفاء هويتها الحقيقية وإخماد وطمس أصلها، فكان الإعلان عن هوية أوروبا الغربية وذاتها بقتل

ص: 112


1- السيد ياسين، المركزية الغربية وتجلياتها المعاصرة، أوراق ثقافية، الأهرام .WRIT3.HTM/16/8/http://www.ahram.org.eg/Archive/2001

الآخر واستبعاده(1). واستمرت الآثار السياسية والثقافية لهذه الحملة كامنة في صميم الثقافة الغربية، ولعل أبرز تجلياتها نظرة الغرب الاستعلائية إلى نفسه والتي ترافقها النظرة الدونية للثقافات والشعوب غير الغربية، وقيمها، وثقافتها، والشعور بالتفوق لدى الذات الغربية. هذه النظرة التي تجلّى تطورها في كونها أضحت مبررًا عنصريًّا بواجهةٍ أخلاقيةٍ لتوسعات أوروبا الاستعمارية في بلاد من اعتبرتهم هوامش، مروجة الخطاب المنوط بإخراجهم من الظلام والجهل وإلحاقهم بركب الحضارة، وإن كان باستخدام القوة، بكافة تمثلاتها.

ثمة منظومات فكرية صاغت أسس فكرة التمركز الأوروبي، وأصّلت له من أجل صناعة صورة تشرعن للغربي إقصاءَه للآخر وتهميشه، وتجلت في نظريات أصلت للحضارة الأوروبية بادعاء النقاء، وعدم تأثرها بأيّ حضارة أخرى غير غربية، وانعدام القيمة والتأثير المطلق للحضارات الأخرى، وقد أشار الأنثروبولوجي الفرنسي، جيرار ليكريلك، إلى دور «النظريات التطورية» في رسم صورة عن حضارات متفرقة ومتأخرة تتقدمها أوروبا وتشكل نموذجاً يمكن تتبع خطاه، فقد كان بناء تلك النظريات أحد الطرق التي حاولت أوروبا بواسطتها أن تفهم التنوع الثقافي في العالم، الذي اعترفت به إبان التوسع الاستعماري ففي إطار مقاربةٍ كهذه يمكن ترتيب المجموعات البشرية تبعًا لخط زمني طويل يمثل في الوقت نفسه سلَّمّا للتقدم، بحيث يُظهر هذا الخط الإنسان وقد انتقل من حالة التوحش إلى البربرية، ثم إلى المرحلة المتحضرة. وإذا قُدِّر لكل المجتمعات أن تتقدم تبعًا لهذا الخط، فإن بعضها كان أكثر «تقدماً» من البعض الآخر بعضها يقود السباق، وبعضها الآخر يشكل جزءًا من المتبارين، وثمة بعض ثالث يسير في ذيل المتبارين. وهنا، تحتل أوروبا وبشكل طبيعي، كليًّا، موقعًا يجعلها رأس الحضارة (إنها الحضارة بامتياز) أما «الحضارات الأخرى» (الإسلام، الهند، الصين) فقد كانت أكثر «تأخراً». وفي النهاية فإننا نصادف مجتمعات متوحشة

ص: 113


1- غزلان ،هاشمي، التحيز الأيديولوجي في التمثيلات الخطابية الغربية، مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، نوفمبر .http://www.dalilalkitab.net/?id=401

أو«بدائية» لا حق لها بأن يطلق عليها صفة «المتحضرة»، وتاليّا فإنه لابد لها أن تكتفي بموقع صاحبة «ثقافات»(1).

الزعم الأوروبي بإمكانية تصنيف المجتمعات الإنسانية، والحضارات والثقافات الأخرى، تبعًا لتقدمها على سلم التقدم الثقافي والاجتماعي، الممثل في الحضارة والحداثة الأوروبية، استند إلى مبادئ العقلانية والعلمانية، التي رسختها فلسفة الأنوار التي انطلقت في أوروبا في القرن الثامن عشر، ومثَّلت مرجعًا تأسيسيًّا للفكر الغربي الحديث، وشكلت منعطفّا تاريخيًّا تحكِّم في مجمل الإنتاج المعرفي الغربي والعالمي حيث أحدثت قطيعةً معرفيةً مع النسق المعرفي الذي كان سائدا غربًا، كانت ضروريَّةً للخروج من أفق التخلف والدخول في مسالك النهضة، فعملت على تعميم نموذجها باعتباره نموذجًا كونيًّا يصلح في كل زمان ومكان وتشكَّلت مركزية غربية عنصرية تمثلت باحتقار الثقافات والشعوب الأخرى، وخصوصًا الشرقيّة منها، وبدت الممارسة الاستعمارية أكثر وضوحًا مما كانت تتخفى خلفه من المثل العليا للأنوار، فانقلب العقل إلى اللاعقل، والعدل والمساواة إلى الاستبداد، وزحفت أوروبا إلى العالم لفرض هيمنتها وسيطرتها بذرائع تحرير العالم وتمدينه، وفق أيديولوجيا الاستعمار(2).

الاستعلاء المعرفي

هنا تفترض النظرية التطورية أن الاختلافات بين الثقافات (أو بين الحضارات) هی اختلافات ناجمة أساسًا، عن الموقف المتقدم نسبيًّا على طريق التقدم التقني الوحيد. إنه طريقٌ واحدٌ لا يمكن تحاشيه، فكانت عبارة «الخط الوحيد» عبارةً تُقرن بهذه المقاربة في أغلب الأحيان. حيث تقوم أوروبا بقيادة مباراة الحضارات، وفي إثرها يسير صف من الثقافات الصغيرة البدائية المعزولة والقديمة، والتي أصيبت بالتأخر التقني، وبالتالي الثقافي. فانعزال الحضارات الواحدة عن الأخرى، وهذا

ص: 114


1- جيرار ليكريلك، العولمة الثقافية.. الحضارات على المحك، ترجمة: جورج كتورة دار الكتاب الجديد المتحدة، ،بیروت، 2004. ص 33
2- حسن أبو هنية ، روح الأنوار» كأيديولوجيا استعمار والإصلاحية الإسلامية، التقرير. http://altagreer.com :2014/11/22

ما كان قاعدة طيلة التاريخ قد آل إلى الانتهاء مع تشكل السوق العالمية، وتوسع الحضارة الحديثة المولودة في أوروبا بشكل كوني. أما الحضارات الكبرى الأخرى سيكون بوسعها لاحقا أن تتكيف مع الخطوط الكبرى لهذه الأخيرة. فيما يتهدد الفناء الحضارات الأخرى، خاصة لجهة خصوصيتها الثقافية (الدينية بوجه خاص)، ولجهة التأقلم مع الوضع التقني، أي أن الدخول في العالم الحديث - أو في الحضارة كما كان يقال - يمر باكتساب الشكل الثقافي الوحيد، وبامتلاك العلم والتقنية(1).

على ذلك فالنمط الغربي هو الوحيد المتعين محاكاته لتطور المجتمعات، التي اعتبرتها أوروبا تحمل عناصر الثبات، ولا تسمح خصوصيتها بالتقدم، بينما الثقافة الأوروبية الحديثة تمتلك عناصر التطور المستمر، لذلك كان من الضروري أن يقسم العالم إلى مركز وهوامش مركز غربي من حقه التمدد والسيطرة لفرض نمطه، وهوامش تحتاج إلى التغيير والتحديث، بينما كانت تلك ذريعة للاستجابة إلى التحولات المرتبطة بالرأسمالية، وتلبية حاجات الغرب الاقتصادية، عبر الانطلاق بتوسيع مجاله الاقتصادي خارج نطاق القارة الأوروبية، في ذلك الجزء من العالم الذي اعتبر مجالاً مُستحقًّا للتمدد.

تجلت الأهداف المرتبطة بقاعدة النظام الرأسمالي، التي تحمل طابعه، والتي وقفت وراء تقسيم العالم إلى مركز وهوامش وعمل خطاب التمركز الغربي على إخفائها، في مسار عملية التحديث المدعاة من قِبل الغرب للدول التي استعمرها واعتبر أنها بما تحمله من خصوصية سببٌ في عدم الاستجابة للحداثة، كمشروع فلسفيٍّ وتجربةٍ تاريخيةٍ، فصُنفت مجتمعاتها بأنها «ممانعة» للتحديث، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية، حيث اتضح أن تحديث العالم ليس هدفًا غربيًّا، بقدر ما كان هدفًا خطابيًّا لنزعة التمركز الغربي حول الذات، وفي القلب منها نسق الفكر الكولونيالي. فما سعى الغرب إلى تصديره للمجتمعات الأخرى إنما هو أشكال الحداثة الملونة كي تصبح هوامش فعالة تعمل كأسواق مفتوحة لسلعه من دون

ص: 115


1- جيرار ليكريلك، مرجع سبق ذكره ص 34

إنتاج ، وجمهور مستهلك لإعلامه من دون ثقافة. ومن تلك الفجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخرى، وخوفه العميق من حداثة متونها، ولدت الإشكالية التي صارت مألوفة عن ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضاري، فحكم بعض المعايير مسارات تطوره الذاتي، وتحكمت نقائضها بمسارات تمدده الخارجي؛ حيث احتل الغرب بلادًا ووظف أصحابها، في خدمة مشاريعه، فظل البناء الفلسفي المعتمد لمشروعه الحضاري عاجزاً عن حمل مشروع كوني حقيقي(1).

تمثلت تناقضات أطروحة التمركز الثقافي الغربي في رفض أوروبا التنوع البشري الثقافي وادعائها امتلاك الحقيقة موجهة بنزوع إمبريالي، مستند إلى أيديولوجيا التقدم والعقل والحرية أسهم في تبلور تناقضاتها وأوجهها المتعددة، وفي تطبيق نظريات العلوم الإنسانية الحديثة على الآخر، هذا التطبيق الذي عبّر بوضوح تام عن النزعة الاستعلائية لمرجعياته الفكرية، التي يجعلها الأوروبيون في المقدمة دائماً. وفي هذا السياق تعرض الباحث إدريس هاني في دراسته حول «نقد الإنتروبولوجيا والتمركز الأوروبي - حالة إفريقيا إلى اصطدام هذه النظرة الغريبة للذات بحقيقة مرّة تمثلت بالنموذج الأفريقي، في إطار المعطيات الأنتروبولوجية التي أُريد لها أن تُسخَّر في خدمة التمركز الأوروبي، لكنها انقلبت ضده، حيث غابت المصاديق الأنتروبولوجية في المجتمعات المدروسة، ومن ضمنها المجتمع الأفريقي. هذا المجتمع الذي يمتلك خصوصية الذوق وخصوصية الاتجاه، وبدلاً من أن تلتفت الأنتروبولوجيا إلى التراث الأفريقي، الذي يعبّر عن الهموم والأفراح المشتركة بين الشعب الإفريقي وبين المجتمعات البشرية، راحت تؤكد على تفسيرات التجلي البدائي في العقل الإفريقي وانغلاقه، من خلال دراسة بعض المظاهر الأسطورية في هذا المجتمع(2).

ص: 116


1- صلاح سالم العلاقات المصرية - الأميركية أسيرة الدين السياسي والمركزية الغربية، الحياة، لندن، 2015/3/2.
2- إديس هاني العرب والغرب.. أية علاقة .. أي رهان عرض: عبد الرحمن الوائلي مجلة الكلمة، العدد 23 ربيع http://www.kalema.net/v1/?rpt=388art ،1999

تبيَّن التركيب المتناقض للمشروع الثقافي الغربي، بالرغم من صنع أوروبا لنفسها أقنعة مكنتها من ممارسة الأدوار المتناقضة، ومع إعادة منظريها كتابة تاريخ الإنسانية انطلاقاً من طموحاتهم المتمثلة في مزيد من السيطرة على العالم في صلب المشروع نفسه، وأطروحة التمركز الأوروبي، الذي وظف في الحرب الأيديولوجية الرامية إلى تعميم التفوق الغربي في مختلف أصعدة الحياة هذه الأطروحة اقتضى بناؤها الخلط بين معطيات تنتمي إلى مجالات معرفية وأخرى ترتبط بالتوظيف الأيديولوجي الرامي إلى إنجاز مهام سياسية وأيديولوجية محددة، وهنا إشارة إلى السوسيولوجيا الاستعمارية والأبحاث اللغوية، وأنثروبولوجيا الإثنيات، وغير ذلك من المجالات المعرفية التي تم فيها توظيف الآلية الأيديولوجية المتمركزة على الذات الغربية، كذات فاعلة في التاريخ، بهدف ضمان استمرار فاعليتها بأكثر من وسيلة، ثم حماية مكتسباتها ومصالحها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأيديولوجية(1).

هذه التناقضات التي تكشَّفت مع تطور مشروع الحداثة، وتجلي ازدواجية المعايير في الأدوار التي مارستها الحضارة الغربية، بجانب المقاومة التي أبدتها الشعوب غير الأوروبية، أطلقت النقاش حول نقد المركزية المعرفية الغربية، فالنزعة التحررية التي صاحبت عمليات مواجهة الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا، أبرزت عاملاً آخر ساهم في إضفاء النسبية على إيديولوجيا التمركز الثقافي الغربي. يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية والتاريخية للأمم والشعوب غير الأوروبية، فلم تعد الأحكام المعرفية العامة التي بلورها الفكر الغربي وبلورتها العلوم الإنسانية في لحظات تشكلها، وتشكل نماذجها المعرفية والأبستمولوجية أحكاماً عامة ومطلقة، بل تم إضفاء كثير من النسبية عليها. فلا يمكن للمعارف السوسيولوجية والسيكولوجية أن تصبح كونية وعامة إلا بإدخال عناصر المتغيرات التي تنتمي إلى مجالات خارج

محيط المركز الغربي(2).

ص: 117


1- كمال عبد اللطيف، نقد المركزية الثقافية الغربية، العربي، الكويت، عدد 439، 1 يونيو 1995: http://www.arabphilosophers.com
2- نفسه.

على المستوى الخطابي أي العناصر المكونة للخطاب وآليات تطبيقاته، فقد قُدمت تشخيصات للآخر الغربي، وقراءة لخطابه الكولونيالي، وكان من أهم من اشتغل في هذا المجال فرانز فانون وهومي بابا، وقد وصف الأخير خطابات المستعمِر بأنها تتميز بتمثيلاتها الساحقة، وتصير إنشاءً متخيلاً يقدِّم سرداً يقتنع بأنه ممثل للسكان التابعين وكما وصفه بابا فالخطاب الكولونيالي هو جهاز يعمل على الاعتراف بالاختلافات العرقية والثقافية والتاريخية ،وإنكارها ووظيفته الاستراتيجية الغالبة هي خلق فضاء للشعوب التابعة بإنتاج معارفٍ تمارس من خلال المراقبة ساعيًا إلى إقرار استراتيجية عن طريق إنتاج معارف بالمستعمِر والمستعمَر التي تكوّن نمطية مقولته، لكنها تقدم تقويماً متناقضاً. فالقراءات المنمَّطة التي اتخذت شكلاً مُقولباً وشبه ثابت لكن بصورة مختلطة ،ومجزَّأة عن تنوعات في التوصيف الذي ألصقه الآخر بالسكان الأصليين بواسطة سردياته، فهم أنماطٌ دونية تستأهل التوجيه، وقبولها يرتبط بقابليتها للمعرفة، ووضعيتها التابعة، فجعل الأسود متوحشاً ومن أكلة لحوم البشر، لكنه أكثر خنوعاً. فالكائن الأسود هو تجسيد للجنسانية الهائجة، ومع ذلك فهو بريء كالطفل، إنه صوفي وبدائي وساذج ومع ذلك، إنه الأكثر دنيوية(1).

لا يقر الخطاب الاستعماري بالمساواة، ولا يؤمن بالشراكة الإنسانية في القيم العامة، وتقوم فرضيته على ثنائية ضدية، كما يذهب الباحث العراقي، عبد الله إبراهيم، فالمستعمِر ممثل الخير وسمو المقام والرفعة الأخلاقية والتقدم، أما المستعمَر فمستودع للشر والانحطاط والدونية والتخلف ولا سبيل إلى لقاء بينهما إلا حينما يدرج المستعمَر كتابعٍ للمستعمِر، فربما جرى تعديل وضعه، لكنه لن يكتسب السوية البشرية الطبيعية، فيكون بذلك مثل العبد الذي يحاول تقليد سلوك سيده، لكنه لن يتبوأ رتبة السيادة، فعبوديته تبقى هي المانحة لقيمته. وكذلك الأمر في سوق التداول الاستعمارية، حيث تكون التبعية علامة امتثال بها تتحدد قيمة التابع(2).

ص: 118


1- ناجح المعموري هومي بابا .. والنقد ما بعد الكولونيالي، الاتحاد، 2007/12/15: .http://www.alittihad.ae/details.php?id=159194y=2007
2- عبد الله إبراهيم التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، http://mominoun.com :2014/7/8
جدلية التابع والمتبوع

لقد أراد الخطاب الاستعماري تملك الآخر، فلم يضعه في مستوى رتبته، إنما حجزه في رتبة التابع، فمارس بذلك نوعًا من الرغبة في التملك، وعدم الإقرار بها، إذ قام المبدأ الاستعماري على فكرة السيطرة على الآخرين بالقوة المعززة بالمراقبة والعزل، والأخذ بفكرة تفوق الطبائع والثقافات؛ فروج لمعرفةٍ خدمت المصالح الاستعمارية، وسعى إلى تثبيت صورة راكدة للمجتمعات المستعمَرة، فكان بذلك جزءًا من وسائل السيطرة عليها، لأنه وضعها في موقعٍ أدنى من موقع الشعوب المستعمِرة وانشق مضمونه إلى شقين ظاهرٌ ادعى الموضوعية، وقام بتحليل الأبنية الثقافية والاقتصادية والدينية لتلك المجتمعات بمناهج وصفية لا تنقصها الدقة العلمية، ولكن تعوزها الرؤية الصحيحة، ومضمرٌ روج لفكرة التبعية، ومؤداها ألا سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات الأصلية، إلا باستعارة التجربة الغربية في التقدم، وتبني خط تطورها التاريخی(1).

بالنسبة للشرق العربي والإسلامي، اتضح الخطاب الغربي المتمركز حول ذاته في الكتابات الاستشراقية التي قدمت صورة نمطية للشرق في المتخيل الغربي، فلم يستطع النشاط الاستشراقي التحرر من مضامينه الغربية في قراءاته، وانطلق المستشرق من أرضية ثقافته الخاصة بإسقاطات غير عادلة عند التناول والتقييم، ومن منطلقات الفكر الأوروبي نفسه في مراحل تفوقه(2).

وفي هذا السياق تطرق إدوارد سعيد في كتابيه «الاستشراق» و «تعقيبات على الاستشراق» إلى أسس التفكير الغربي تجاه العرب والمسلمين، وبيّن أن الغرب تشكل وعيه تجاه الشرق على أساس الاستشراق، فذكر أن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم غير عقلانيين وضعفاء ،ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية والرجولية. واعتبر سعيد أن موطن الضعف الأساسي

ص: 119


1- نفسه.
2- غزلان هاشمي، مرجع سبق ذكره

في خطاب الاستشراق هو التحيز الأيديولوجي الغربي ضد المسلمين، كانعكاس للإمبريالية الثقافية الأوروبية(1).

على ذلك، يمكن القول بأن الغرب روج لمعرفته عبر خطاب خدم أهدافه

ومصالحه، كرس صورةٌ للآخر غير الغربي، وثقافته وعناصرها، تستدعي ضرورة الدوران في فلك التطور والمعرفة الغربيين، كمكونات للتجربة الغربية، التي اعتبرت النموذج الأوحد والأمثل للتقدم الإنساني.

2 - الثقافة في بنية نظام السوق: عولمة قسرية

ثمة خلاف حول مراحل تطور العولمة، ومدلول الكلمة من حيث النشأة والتشكل، فإذا كان المصطلح حديثًا ، فإن الظاهرة «كواقع عالمي» قديمة، ارتبطت بالإمبراطوريات الكبرى في التاريخ التي نزع معظمها باتجاه تأسيس «الطابع العالمي للثقافات والحضارات»، فأيّ حضارة منتصرة أو «قاهرة غالبة» تختزن في داخلها نزوعًا، أو «مشروع نزوع» باتجاه العالمية والكونية في الدعوة إلى مبادئها، وأنساقها المعرفية الحضارية الخاصة بهدف تحويلها لحالة دعوتية سلوكية عامة. لكن هذا النزوع يصبح نوعًا من القهر والضغط والاستعمار، عندما تنطلق مفاعيله على شكل سلوك عدواني، ينزع للهيمنة والتسلط في فرض نمط وحيد أحادي على الآخر، على مستوى الفكر والثقافة وأساليب العمل والحياة(2).

هناك من يربط، العولمة بعصر النهضة في أوروبا، ثم الثورة الصناعية، وما أدت إليه

ص: 120


1- اعتقد عدد من المفكرين العرب والغربيين أن إدوارد سعيد بالغ في نقده لخطاب الاستشراق، واعتبروا أن تفسير المشروع الاستشراقي في مجمله بأنه دراسات قامت على أساس المعرفة هي السلطة»، وبالتالي فإن المستشرقين يبحثون عن معرفة الشعوب الشرقية من أجل الهيمنة عليها ، يبدو ،ناقصًا، فثمة دراسات لمستشرقين ركزت على الجانب المعرفي، وليس الاستعماري، مثل المستشرقين الألمان وأن هناك عددًا لا بأس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف والغايات السياسية لبلدانهم بين قوة المتخيل وحدود المعرفة)، مثل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي كتب عن «الحلاج) ، والمستشرق الألماني تيودور نولدكه، الذي كتب عن تاريخ القرآن»، وإينياس جولدزيهر، ويوليوس فلهاوزن، وسلفستر دوساسي، وسيلفان ليفي، وبيشيل وآماري، ولوكوك، وغيرهم. انظر : بسام عويضة، صورة العربي في وسائل الإعلام الألمانية بعد الربيع العربي»، مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2014/2/3: http://mominoun.com
2- نبيل علي صالح، مقاربة في المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي : تحديات الحاضر وآفاق المستقبل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2014/6/25: http://www.mominoun.com

من نشأة الطبقة البرجوازية، وتطور النظام الرأسمالي، وحركة الاستعمار التي زادت حركة التجارة وتبادل السلع بهدف توفير الأسواق ومصادر المواد الخام، وتأمين طرق التجارة، وضمان استمرارية عملية التراكم اللازمة لتطور النظام الرأسمالي ، ثم أخذت مسارها التطوري مع تقدم وسائل التواصل والاتصال الحضارية، فقد كان ذلك التواصل والتفاعل البشري يتزايد ويتعمق من حين لآخر، حتى وصل حاليًّا إلى أعلى أشكاله وأنماطه من خلال هذا الكم الهائل المتدفق من وسائل الإعلام والتواصل والتقنية الحديثة المعاصرة العابرة للحدود، والآفاق الكونية التي تأسست على قاعدتي التبادل التجاري والتبادل المعلوماتي بآليات ومعايير معقدة تجعل من السوق العالمية ساحة مفتوحة لكل من يمتلك المال لشراء الأسهم والمستندات والمعلومات في دقائق معدودات(1).

ويعتبر الباحث المغربي، عبد اللطيف الخمسي، أن تاريخ العولمة محكوم بتحولات عميقة قد ترجع إلى التحولات العميقة التي عرفتها رأسمالية القرن التاسع عشر، وحكمته فلسفة فرض نموذج واحد للمعرفة والتطور، وضعت الصالح هيمنة محددة، شكلت منطلقاً خطيراً على الصعيد المعرفي والتاريخي، تمثل في وضعٍ حدٍ فاصلٍ بين شعوبٍ متقدمةٍ، عقلانيةٍ، وأخرى بدائية، ما زالت تعيش المرحلة الميتافيزيقية، وبأن ليفي بريل هو خير معبر عن هذا المنطق في كتابه الشهير «العقل البدائي»، والذي يمكن اعتباره إنجيلا لكل التصورات المدافعة عن عولمة قسرية، لا ترى أمامها إلا نظام السوق، وقيمة الربح. فخطاب العولمة الآن يجد سنده الكبير في الأنثروبولوجيا الاستعمارية المتمركزة حول العرق، وحول ثنائية شعوب بدائية / شعوب عقلانية متحضرة. كما أن فلسفة هيجل باتت تشكل المنطلق الأساسي لأغلب منظري العولمة، وذلك استنادًا إلى أطروحة «نهاية التاريخ»، والعلاقة الدموية بين العبد والسيد ، والصدام الحضاري، التي تشكل الخلفية الفلسفية لكل دعاة العولمة ، ففلسفة هيجل التاريخية، في ارتباط

ص: 121


1- وليد محمود عبد الناصر، الحالة الراهنة للعولمة ومسألة الهوية الثقافية، نبيل علي صالح، مرجع: http://www.arabworldbooks.com/Articles/articles66.htm

بأطروحة العولمة ليست سوى تبرير نظري لمشروعية هيمنة السيد العقلاني على الإنسان الشرقي الغارق في ضلالات الوهم والتعصب»(1).

ما يستهدفه نظام العولمة من إقرارٍ وضمانِ سيطرةٍ مطلقةٍ للغرب الرأسمالي، وفرض أنماطه، وجد تأسيسًا له في الفهم والتصور الغربي القائم على استخدام أي تمايزاتٍ ثقافيةٍ وعرقيةٍ ٍلصالح العولمة، ثم في الليبرالية الجديدة، كعقيدة اقترنت بتمدد وتطور ظاهرة العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.

النيوليبرالية كظاهرة ايديولوجية

مع ظهور الليبرالية الجديدة، كمفهوم أيديولوجي، ظهرت مفاهيم واصطلاحات جديدة مرافقة للخطاب النيوليبرالي، ومؤسِسة له، مثل المنافسة الحرة، وإحلال السوق محل الدولة، وفتح الأولى وزيادة مرونتها. فقد استخدم هذا الخطاب، ظاهرًا وضمنيًّا كلمة «الحرية»، وبعض مفاهيم الليبرالية التقليدية، مثل أهمية الفرد والحد من دور وتدخل مؤسسة الدولة

والسوق الحرة.

ومن بين مظاهر الفكر الليبرالي الجديد، وتأثيره على الأفراد، ظهور مواطن ،انعزالي، يتميز بدرجة عالية من البراغماتية، أو الذاتية، وينطلق سياسيًّا من وحي التسرع، ومحاولة ابتلاع الآخر، ماديًّا واجتماعيًّا. فالليبرالية الجديدة تؤسس لمفهوم جديد حول الواقع الاجتماعي وتبعاته الاقتصادية، وكذلك حول النظريات الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية، بما في ذلك توَسّع هوّة الخلل الداخلي التي تُلقي بآثارها على حياة سكان هذه البلدان. وتتضح بين مواطني الغرب الذين يعيشون في ظل النظام الليبرالي الجديد في وضع فيما يتمتع سكان المناطق القريبة من المركز بحياة أفضل من سكان المناطق الواقعة على الهامش. وتستغل الليبرالية الجديدة هذه الحالة، م-ن وح-ي الصياغة

ص: 122


1- عبد اللطيف الخمسي، الهوية الثقافية بين الخصوصية وخطاب.

الأيديولوجية من أجل توظيف الثروة المادية والأسواق الخارجية لصالح سكان المركز(1).

لم تقتصر اتجاهات العولمة على إزالة الحواجز بين الأسواق المالية، وتوسيع مبادلات السلع والتكنولوجيا والخدمات ورؤوس الأموال ووسائل الاتصال، بل لها اتجاه آخر تندثر بمقتضاه الخصوصيات الثقافية وأنماط الاستهلاك الخصوصية من جراء تجانس الطلب، وخضوع المنتوجات لتنميطات موحدة، ذات بعد كوني شامل. فالسوق المعولمة ترفض اعتبار وجود خصائص وطبائع ثقافية أو سيكولوجية محلية، وبذلك فإن العولمة تقضي بميلاد نموذج جديد للتبادل له بعد كوني(2).

لقد ارتبط الحديث عن الثقافة في بنية نظام السوق العولمي، باستخدامها في التوظيف لبُعده الاقتصادي، وما ترتب عليه ،اجتماعيًّا فأصبحت الثقافة سلعة أجاد استخدامها واستغلال اختلافها وتبايناتها الشركات متعدية الجنسية، من أجل الترويج للسلع عابرة الحدود، ذلك الاستخدام الذي كرس الاختلاف، ووظفه تجاريًّا، من منطلق عنصري وتمييزي، يُبقي «المتخلف» متخلفًا، حتى يُستثمر تخلفه، ويصب في صالح القائمين على السوق المفتوحة والمروجين لها، وواضعي قوانينها. وبالتالي، أعادوا تعريف الثقافة وكل افتراضاتها وارتباطاتها بالهوية والبيئة والجغرافيا، حتى تناسب تحديات نظام العولمة من تحولات اقتصاديةٍ وتكنولوجيةٍ واجتماعيةٍ، بل تُسخَّر من أجل تلك التحولات.

في سعيه للترويج لمفاهيمه وسياساته الاقتصادية الرئيسة، روج الخطاب النيوليبرالي للثنائية ذاتها: الآخر المتخلف/ الغرب المتقدم، مُعزِيًا تخلف الأول لأمور ملازمة ذاتية، منها الثقافة، فبجانب فشل الدولة في الإدارة، والافتقار للطاقة البشرية المؤهلة، وانعدام روح المبادرة، وحاجة الدول الصغرى للكبرى للتدخل

ص: 123


1- محمد المذكوري المعطاوي الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 2014/1/13: http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481
2- محمد المذكوري المعطاوي الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 2014/1/13: http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481

ومؤسساتها، في رسم سياسات الدول الصغرى الاقتصادية؛ من أجل تطويرها، اعتبر ذلك الخطاب أن ثقافة الآخر المتخلف الفقير هي المسؤولة عن تخلفه، وأنهيتعين دعمه بواسطة برامج مساعدة التنمية. هنا يصبح جزءًا من تعريف الثقافة، أنها إذا كانت عاملاً للتقدم ، فمن الممكن أن تكون أيضًا عاملاً مضادّاً له، أي سببًا في الفقر والتخلف، والنتيجة المترتبة على هذا الطرح هي : نحن أغنياء لأن ثقافتنا تدفع وتشجع على ذلك، وهم فقراء، لأن ثقافتهم لا تسمح لهم بالتقدم، وعليه، فإذا كان الازدهار مرهونًا بالثقافة، فالتخلف نتيجة لها أيضًا». أي أن الثقافة تحدد فرص التنمية أو التخلف فإذا ما أخذنا بهذا التحليل، فلا مجال للهروب من هذا المصير، والمحصلة النهائية التي تترتب عن ذلك هي أن الدول النامية لا مفر لها من العولمة. فجانب عولمة الاقتصاد وفتح أسواق الآخر، تعدت مع الليبرالية الجديدة، حدود الاقتصاد والسياسة إلى عولمة ثقافة معينة، هي ثقافة الأنا، وبسطها على الآخر، لأنها الوحيدة الكفيلة بالمبادرة والتقدم والازدهار والحرية(1).

موضعة الثقافة تلك في نظام العولمة تربط بين معارك العولمة الاقتصادية والسياسية من جهة، والثقافية من جهة أخرى، ولا تفصل بينها، فإذا كان ذلك النظام قائم على الاستغلال والهيمنة الاقتصادية، فإن تدمير وابتلاع، واستضعاف ثقافة الآخر، وطمس تشكيلاته الثقافية، مقوم أساسي لفرض الهيمنة وتكريسها، كرأسمالٍ رمزيٍّ يوظف لصالح رأسمالٍ مالي. ويقوم بدورٍ محددٍ، بجانب الدور الاقتصادي والسياسي في عملية الانصهار القسري في النظام العالمي.

أما الجدل حول التجانس الثقافي والتنوع الثقافي، وتبني خطاب الاختلاف الثقافي لفتح مساراتٍ جديدةٍ للمجتمع العالمي، ولتشارك دول الشمال والجنوب في إنتاج ثقافةٍ بديلةٍ، والترويج لزوال فكرة المركز والهوامش، فيقتضي مقاربة لمفهوم الاختلاف لدى منظري العولمة، وتبعات التجانس المنشود على أساسه.

من منظور الغربيين أصحاب مدرسة التنوع الثقافي للعولمة، فإن الاختلاف

ص: 124


1- محمد المذكوري المعطاوي، مرجع سبق ذكره.

والاختلاط بين الثقافات يفترض مقاومة أفكار النقاء الثقافي، والثقافات الأصلية الموحدة، وزعزعة مفهوم الثقافة التقليدي الذي - من وجهة نظرهم - حبس الهوية دائرة العرق ،الحتمية بوضعه حدودًا واضحةً أو «سياجًا وهميًّا» يحيط بكل ثقافةٍ، وأنَّ كل من يقعون داخل هذه الثقافة متفقون ومشتركون، في الوقت الذي تشير الدراسة والملاحظة إلى الاختلافات والانقسامات في أساليب الحياة. فتلك النظريات تدعو إلى الاحتفاء بالتنوع الثقافي والاختلاط والتداخل الثقافي فی عصر العولمة، وترفض نموذج المركز والأطراف، متجاهلة توزيع القوة والسلطة في النظام العالمي(1).

تقول ماري تريز في قراءتها لخطاب ما بعد الحداثة من منظور ما بعد كولونيالي، أن الفكر الما بعد حداثي، (الذي انبثق عنه خطاب العولمة)، ينزع إلى إذابة الاختلافات بتجاوز الحدود والهوامش، بوصفها حواجز مصطنعة، سوف تأتي بنتيجةٍ عكسيةٍ. فتقبل الاختلاف في كافة أشكاله دون تمييز قد يفضي إلى تحويله إلى نموذجٍ معممٍ في محاولةٍ للتوصل إلى مفهومٍ للعالمية يتأسس على الاختلاف، مما يعني تأكيده دون محاولة التعرف عليه، أو التداول معه. وفي تأكيد الاختلاف ما ينذر بعهد جديد من الكولونيالية المستترة، تتخفى وراء خطاب فكري معكاس الخطاب الكولونيالية، الذي اتخذ من نشر الحداثة الغربية ذريعة للفصل بين العالم المتمدين والآخر المتخلف لإضفاء صفة الشرعية على تطلعات الغرب الاستعمارية. ففي مواجهتها للحداثة الغربية بتوجهاتها الإمبريالية وخطاب المركزية عالجت ما بعد الحداثة الخطأ بمثله بخلق نظامٍ عالميِّ جديدٍ؛ لمواجهة نظام عالمي سابق، وكأنها تحارب الشمولية بمثيلتها. فبرغم إسهام حركة ما بعد الحداثة في تقويض بنى الحداثة السلطوية، إلا أنها ساعدت على إقامة عولمة شمولية بديلة، ينبغي نقضها بمؤازرة العناصر المقاومة لرأس المال(2).

ص: 125


1- هديل غنيم، كيف يتطور مفهوم الثقافة استجابة لتحديات العولمة الديمقراطية، الأهرام، القاهرة، عدد 31، يوليو 2008 ، من ص 42 44 .
2- ماري تريز عبد المسيح الثقافة القومية بين العالمية والعولمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2009، ص 11 ،12، 19، 20، 37 ، 51.

لقد اقتضت خطة التجانس العالمي، أن تصبح شروط السوق مقياسًا معقولاً مُعدًا داخل أشكال الحياة في الأطراف، وآلية ذلك التدفق الثقافي، ونشر أنساقٍ فكريةٍ، وسلعٍ ثقافيةٍ عابرة للقوميات، بل وهيمنتها عبر التكتلات الكبرى التي تضطلع بمهمة الثقافة في النظام العالمي، التي لا تهتم بجودة تلك السلع، ولكن بحجم ما تحققه من مصالح، وهذا بالضرورة يأتي على حساب الثقافات المحلية، فهذه السلع لا تعبأ بأيّ تمايزاتٍ ثقافيةٍ لسكان الأطراف «المستهلكين» لتلك الثقافة، المنتمية إلى أسس غربية في أساسها، والقادرة على الاختراق والتأثير بحكم امتلاك المركز مقومات تفوقها لجهة الإغراق الثقافي.

عن التصورات الخاصة بالمستقبل الثقافي في عالم اليوم، الذي يموج بالتفاعل والتبادل الثقافي المتواصل ليس فحسب من الزوايا الثقافية والاقتصادية، كما كان الحال في المرحلة الكولونيالية، وإنما أيضًا من زاوية بنائه الثقافي، العالم الذي لا يشكل قرية عالمية تتسم بالمساواة، بل هو ليس سوى صرح مبني بصرامة، دونما تناسقٍ أو تماثلٍ بين المركز والأطراف، يذهب أولف هانرز في تصوره لسيناريو تحقيق التجانس العالمي للثقافة إلى أنه يجري التصوير الخطابي للتهديد القاتل للإمبريالية الثقافية، باعتباره يضم ثقافة التكنولوجيا العالمية للمدن والعواصم إضافة إلى المساندة التنظيمية القوية في مواجهة ثقافةٍ شعبيةٍ صغيرةٍ لا حول لها ولا قوة ولكن «الإمبريالية الثقافية»، كما أصبح واضحًا، تمتلك علاقات بالسوق تزيد عن علاقاتها بالإمبراطورية ويعمل المحرك الرئيسي المزعوم لعملية التكرار البشري العام للاتساق في الرأسمالية الغربية السابقة على الدوام على إغراء مزيد من

ا المجتمعات نحو الاعتماد على أهداب المجتمع الاستهلاكي، عالمي النطاق، الآخذ في الاتساع وتحقيق التجانس ينتج أساسًا عن طريق تدفق الثقافة كسلعة من المركز نحو الأطراف، ووفقًا لهذه الرؤية فإن الثقافة العالمية المتجانسة الوافدة، سوف تكون على وجه العموم، صيغة من الثقافة الغربية المعاصرة، وعندئذ سيظهر فقدان الثقافة المحلية بشكل متمايز عند الأطراف(1).

ص: 126


1- أولف هانرز، سيناريوهات ثقافات الأطراف في الثقافة والعولمة والنظام العالمي، تحرير أنطوني كينج، ترجمة: شهرت العالم وهالة فؤاد ومحمد يحيى الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 2005، ص .162_161
سيناريو «الفساد بالأطراف»..

بينما يقول هانرز بأن هناك سيناريو آخر يتعلق بالعملية الثقافية العالمية، ولكنه قابع في موضعٍ خفيٍّ، ولا يخرج كثيراً للمنافسة مع سيناريو تحقيق التجانس العالمي، وهو سيناريو «الفساد بالأطراف»، إذ إن ما يصوره كمتتابعة متكررة دوريًّا يقع أينما يمنح المركز مثله العليا، وأفضل معارفه، مع وجود شكل مؤسسي، وأينما تتبنى الأطراف هذه المثل والمعارف، ثم سرعان ما تقوم بإفسادها. يحدد هذا السيناريو لمن يقعون في المركز متى يتشاءمون بشأن دورهم في تحسين العالم، بل ويرتابون في الأطراف ويسخرون منها . ويتعلق الأمر بمركزية عرقية عميقة، إذ تفرض توزيعًا غير عادل على الإطلاق للقوة والتأثير، وبذلك يأتي إنكار صحة وقيمة أي تشكيلاتٍ قائمةٍ لدى الأطراف، وكانت مأخوذةً في الأصل من المركز وهنا تكمن قضية وجود قدرٍ من الاختلاف الثقافي، ولكنه اختلافٌ بين الثقافة وغير الثقافة بين الحضارة والهمجية(1).

اما عن الأدوات وحتى تتوفر أسواق لاستهلاك منتجات العولمة المادية والرمزية، بصناعة وتعميم الشخصية الاستهلاكية، وتعميم نموذجٍ موحدٍ للقيم، متجاوزٍ للخصوصيّة ومفككٍ لعناصرها، فقد تلازم إنتاج العولمة بإنتاج الصورة الخائلية، ولعب التقدم التقني وعلم المعلومات في تطوير النظم الخائلية مفضيًا بدوره إلى دعم الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعتمد بشكل أساسي على الخائلي لتطوره. وعلى خلاف رأس المال الصناعي الذي اعتمد على إنتاجية العمل وتحولها إلى الإنتاج الكمي، يعمل رأس مال العولمة عبر دائرة السبرانية العابرة للأقطار، بفعل ضخ المعلومات الفورية عبر الشبكات الإليكترونية، مختصرًا المسافات. وصارت الصورة سلعةً جاهزةً للاستهلاك السريع وسهولة التداول لما تسهله من إمكانية التواصل عبر الحدود إلى أبعد المواقع. فسهَّل ذلك ظهور أنظمةٍ سلطويةٍ مغايرةٍ للأنظمة الكولونيالية السابقة تعتمد إدارتها على الصورة الخائلية من جهة، والبنوك وشركات استثمار الأموال المتعدية للجنسيات من جهة أخرى، حيث يعد نظام البيع والتعامل عبر كروت الائتمان دربًا من البيع الخائلي، فهو بيعٌ مُرْجَأُ السداد، مما يُعجِّل بتداول

ص: 127


1- نفسه ص .163 162

رأس المال. فالسداد المؤجل يساعد الرأسماليين على إعادة توظيف الأموال، ومن ثم تسديد ديونهم، وبهذا النظام يغدو تداول رأس المال عملية خائلية غير منتهية، ينمو فيها رأس المال «كجسم بدون أعضاء» في شبكة من أنظمة خائلية تنتمي إليها ثقافة الصورة المعولمة، فيتراكم رأس المال بمعدل تداول الأموال وتداول الصور، ومثلما يتولد المال عن المال تتولد الصور عن الصور(1).

كما أن الإعلام الجديد، الذي تزامن تطوره مع ظاهرة انتشار وتوسع العولمة، أسهم في تنامي قيم العولمة، التي توهم بامتلاك الحرية المطلقة في الاختيار والامتلاك الخصوصي للأشياء والأفكار، ولعب دورًا كبيرًا في تشجيع القيم الاستهلاكية. فالعولمة خلقت فيضًا من الخيارات، ولكنها أوجدت تقاربًا في التطلعات والقيم التي تركزت على رغبة الإنسان في التملك والاكتساب وهو ما أصبح معروفًا في الخطاب السائد بالتنميط الثقافي، أي توحيد التطلعات والرؤى والقيم حتى الأحلام، حيث تصبح متشابهة لدى الجميع؛ فيتجه الفرد أكثر فأكثر إلى الفردانية، وهي قيمة تعتبر الفرد مركز الكون، ومرجعية ذاته،ويتم بالتالي إسقاط أي اعتبارات يؤمن بها المجتمع لفائدة قيم العولمة. وعلى الرغم من تصدير انطباع واهم بالحرية، عبر الإعلام الجديد، فإنها ليست مطلقة، فهي موجهة من طرف الشركات العملاقة متعدية الجنسية التي تهيمن على الإعلام الجديد، كغيره من أدوات التواصل والاتصال، وبالتالي فالمضامين، بل حتى أشكال تصميم وتقديم القنوات والمواقع والتطبيقات ليست محايدة من الناحية القيمية، بل تعكس مضامين قيمية متحيزة لقيم السوق، وموجهة نحو الاستهلاك والتسلية والترفيه أكثر من البناء الفكري والتفكير النقدي(2).

لذلك، فاجتياح العولمة وتأثيراتها على الثقافات المحلية، المرتبطة بسياقات العولمة الاقتصادية والسياسية وتبعاتها على دول الأطراف، وأفضت إليه تجربة

ص: 128


1- ماري تريز عبد المسيح ، مرجع سبق ذكره، ص 66 - 67 .
2- محمد مصباح الإعلام الجديد : العولمة وتحدي خصخصة القيم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود http://www.mominoun.com :2014/3/25

التحديث الغربية التي سعت إلى إدماج الشعوب قسرًا، إلى خلق ثنائيات فكرية تعمل على الإقصاء، وما أنتجته العولمة من تفاوت في مصادر المعرفة والعلم كنتاج للتفاوت الاقتصادي، وسعيها أيضًا إلى فرض قيمها، وتسليع الثقافة التي تحدد المنظومة أنها هي«الثقافة»، كل ذلك قد أفرز مقاومة متعددة الاتجاهات، من بينها التشدد في التمسك بالخصوصية القومية التي ازداد حولها الجدل في إطار جدل الثقافة بين العولمة والخصوصية والمحلي والعالمي.

3- اتجاهات المقاومة الثقافية (الخصوصية - الكونية - الخروج

من الثنائيات)

دفعت مآلات الهيمنة المعرفية والفكرية الغربية، وما كشفت عنه من مظاهر تأزم هذا النموذج الغربي وتحيزاته ونسبيته واستمرار عملية فرضه بصيغ استحدثتها العولمة إلى ظهور حركات مقاومة، أعادت النظر في مبادئ مركزية المعرفة الغربية، ومشروع ،الحداثة، وقيمه، ووضعية الثقافة في منظومة العولمة. وتصاعد الجدل حول مفهوم الاختلاف الثقافي والحضاري وضوابطه و دوره وآلیات مقاومة الهيمنة الغربية الثقافية، ما أفرز عدة اتجاهات في طبيعة وشكل تلك المقاومة في المجتمعات التي اعتبرت ،هوامش، تنوعت أسسها ،ومنطلقاتها، وما قدمته من بدائل.

أنتج النموذج المعرفي والحضاري الغربي، الذي سعى إلى الهيمنة، حالة من الشك واليأس في مبادئ عصر التنوير، ومشروع الحداثة بجميع قيمه وأسسه التي قام عليها، بما في ذلك مقولات العقل والعلم والتقدم والتحرر، فبرغم ظاهر انتصار العقلانية ومبادئها، وما قادت إليه من غنى فكري، وتنوع معرفي، وتقدم علمي وتقني هائل إلا أن هذا الانتصار قد انحرف عن مساره، وأدى إلى نقيض مقصوده، ولا أدل على ذلك من أن هذه العقلانية التي بشَّرت الإنسان بعالم تسوده الطمأنينة والسعادة هي التي أدت إلى تدميره(1).

ص: 129


1- علي صديقي الأزمة الفكرية العالمية: نحو نموذج معرفي توحيدي بديل مؤسسة مؤمنون بلا حدود. http://www.mominoun.com :2015/4/17

لقد حملت بداية القرن العشرين علامات ضعف وتراجع الانتصار الثقافي الغربي فتبع الحرب العالمية الأولى، والتي كانت بمثابة تمزق داخلي في قلب الحضارة الأوروبية، استعادة بعض المفكرين لوعيهم بحقيقة الاستعمار، وما عليه من وحشية، وما يعانيه من ضعف. وتولدت أفكار بدفع الشعور بضرورة فهم التاريخ الأوروبي على ضوء التاريخ العالمي في حركيته، وعلى ضوء رؤية كونية للإنسان، حيث الأوروبي، ومهما كانت عظمته الحاضرة أو الماضية، ليس إلا صورة من صور الإنسان، وحيث

الغرب ليس إلا صورة ممكنة للحداثة ويقول جيرار ليكريلك على الحضارة الغربية أن تقابل بالحضارات الكبرى التي يشهدها التاريخ فلا تعتبر الحضارة الأوروبية بمثابة الحضارة بامتياز، إلا إذا كان في ذلك بعض السذاجة والادعاء(1).

غواية الاستغراب

في المقابل، وفي مواجهة قوى إمبراطورية تريد إعادة تشكيل العالم، طبقاً لرؤاها ومصالحها، لجأت كثيرٌ من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة عارمة للحماية الذاتية. فأضيف إلى أسباب التنازع، كالأيديولوجيات المطلقة والاستبداد والاستغلال والمصالح تنازعات نتاج المركزيات الثقافية، التي وجدت لها دعماً من أطراف التنازع ، وبسبب غياب النقد الذي يجرّد تلك المركزيات من غلوائها في نظرتها المغلقة إلى نفسها وإلى غيرها، فقد تصلبت تصوراتها، واصطنعت لها دعامات عرقية أو دينية أو ثقافية، أدت إلى زرع فكرة السمو والرفعة في الذات والدونية والانتقاص في الآخر، ومع أن كثيراً من أطراف العالم تداخلت في مصالحها، وثقافاتها، وأفكارها ، لكن ضعف الفكر النقدي حال دون أن تتلاشى المركزيات الكبرى (2)التي أسست لمفهوم الخلاف ينحصر في كونه مرادفًا للتميز والتفوق، أو العزلة والانقطاع.

ص: 130


1- جيرار ليكريلك مرجع سبق ذكره ص 37-36
2- عبد الله إبراهيم صدام أصوليات لا صدام حضارات، الحياة، 2007/10/13.

على نقيض بعض المثقفين العرب، ومثلما حدث في معظم ما سمي «العالم الثالث»، الذين انبهروا بالغرب ،وشعاراته ،وحضارته ولغته وانعكست العقدة التاريخية لديهم في تبني ما قدمه من أفكارٍ وتصوراتٍ ومناهجٍ، دون اعتراف بنسبية ثقافته وتاريخيتها، ما دفع إلى الانصهار في الثقافة الاستعمارية التي استهدفت الثقافات المحلية، فإنه كثيراً ما اقترن أدب المقاومة بالقومية المتطرفة، ونشأ خطابٌ أصوليٌّ متمسك بالجذور الثقافية المحلية، وارتفع صوت الخطاب القومي بمعانيه الثقافية والدينية. وتقول ماري تريز بأنها نزعة يمكن تفسيرها بوصفها آلية لتعريف الذات ،وتأكيدها واعتبارها عنصرًا من عناصر المقاومة، لما هو دخيل عليها ويسعى لتهميشها. وفي مواجهة خطاب الهيمنة المتستر وراء مزاعم العولمة، الذي يعمل على تقليص الإحساس بالهوية المشتركة في استهانته بالتاريخ المشترك للأمة لتحويل الاهتمام بحاضر تسيِّرهُ قوانين السوق والتطلعات الاستهلاكية، تتجه بعض العناصر المحبطة إلى تخييل التراث والارتكان إلى أحد مصادره لتأصيل جذوره، واقتطاع جزءٍ من التاريخ لتأصيله، مما يستدعي وضع شروطٍ لتفسيره ومن ثم تقنينه، ويأتي ذلك كرد فعلٍ للمجتمع الاستهلاكي، الذي أسبغ كافة أنشطته بالطابع التجاري. فالخطاب الأصولي في خلقه للأسطورة، يسعى لتطهير الثقافة من النمط الاستهلاكي، بيد أنه يخفق في سعيه لأنه غالبًا ما يقيم نسقًا معرفيًّا يتعارض والدور الرئيسي للثقافة، حيث يعلي ثقافته على غيرها من الثقافات، ويكسبها الرفعة، ففي تطرفه لتأكيد الهوية وتنقيتها من الصورة الواهنة التي أضفاها الآخر عليها، يخلق الخطاب الأصولي لغةً كولونياليةً معكوسةً تعمل على تهميش الآخر، لتأكيد الذات، في محاولة منه لتأسيس مركزية جديدة مضادة(1).

وعن تأكيد القيم الثقافية، كجزءٍ من تأكيد الذات يقول إيمانويل والرشتاين أنها كمقاومة ثقافية منظمة ومخططة، تماثل المقاومة السياسية، وتعد جزءًا لا يتجزأ منها، فعند تعمّد تأكيد (أو إعادة تأكيد) قيم ثقافية بعينها كانت قد تعرضت للتجاهل أو

ص: 131


1- ماري تريز عبد المسيح مرجع سبق ذكره، ص 28 - 31

الانتقاص من قدرها من أجل الاحتجاج على فرض القيم الثقافية للأقوياء على حساب قيم الضعفاء «فإننا نعمل على تقوية الأضعف في نضاله السياسي داخل دولة معينة وداخل النظام العالمي ككل، ولكننا عندئذ نمارس ضغوطاً لإثبات صحة قيمنا المؤكدة (أو المعاد تأكيدها) من زاوية المعايير التي وضعها الأقوياء... فعندما يعمل القائمون على تخطيط المقاومة الثقافية على تأكيد ثقافة بعينها فإنهم في واقع الأمر (يعيدون) إضفاء الشرعية على مفهوم القيم العالمية، لذلك تشتمل المقاومة الثقافية على المأزق نفسه كما هو حال المقاومة السياسية، التي تستخدم هياكل النظام من أجل معارضته، وهو ما يضفي شرعية جزئية على تلك الهياكل، وبذلك تقبل جزئيًا شروط النقاش كما حددتها القوى المهيمنة»(1).

في المجتمعات العربية والإسلامية، لخص البحث عن الذات لتأكيدها، عبر تضخيمها والتمركز حولها، مفهوم ومنظور الخصوصية الثقافية لدى الأصوليين في مواجهة هيمنة الغرب، فالخطاب الأصولي استدعى التراث، واختزل الصراع الكوني في صراعٍ ما بين الإسلام والكفر ، وبأنها معركة تخوضها الهوية الإسلامية ضد ،التغريب فتلخصت المواجهة الثقافية في ثنائية الهوية الإسلامية/ التغريب، وارتكز مفهوم خصوصية الهوية الثقافية على ركائز عقدية وبالتالي منطلقات الصدام مع الغرب، فأضحى السلاح الوحيد هو التمسك بجوهر تلك الهوية، وأصالتها، والعودة إلى الجذور، أي داخل إطار التراث، وليس بالتحرر منه أثناء التفكير، أو تأسيس معرفة علمية لجهة فهم إشكاليات الحداثة وعلاقة التبعية بين المجتمعات التي خضعت وتخضع للهيمنة الغربية الرأسمالية، وإشكالات وتعقدات الواقع العربي والإسلامي، ومن ضمنها أسباب التخلف الذاتية، بعيدًا عن استدعاء التقولب التراثي، وتغذية شعور مقابل بالتفوق والانعزال والانزواء.

ص: 132


1- إيمانويل والرشتين القومي والعالمي : هل يمكن أن توجد ثقافة عالمية؟ في الثقافة والعولمة والنظام العالمي مرجع سبق ذكره ص 150

في مقاربته للأصولية الإسلامية، اعتبر عبد الله إبراهيم بأنها ليست في صدام مع الحضارة الغربية، بل مع الأصولية الغربية. فالحضارات بذاتها لا تتصارع؛ لأنها المكسب النهائي للعقل البشري، لكنها وهي تتفاعل في ما بينها ، تنتج أصوليات راديكالية ناقمة وعنيفة، هذه الأصوليات المغلقة على نفسها هي التي تتصادم، وليس الحضارات الكبرى، فما نجده الآن ليس صراعاً بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، إنما هو نزاع عنيف بين أصوليةٍ إسلاميةٍ لها تفسيرها الضيق للدين، وبين مزيج من أصولية إمبريالية - أميركية ذات بطانةٍ مسيحيةٍ، تقول بالتفسير نفسه، وإذا كانت الجماعات الجهادية والسلفية تمثل الطرف الأول فالمركزية الغربية، ومنها العولمة الاقتصادية والثقافية القائمة على الاحتكار والاستغلال والهيمنة، بما في ذلك الأصولية المسيحية، التي نشطت في الفكر الديني خلال العقود الأخيرة تمثل الطرف الثاني، إذ يحاول كل طرف خلق مجال ثقافي وديني للتحيزات الخاصة به فيمارس العنف باسم الحضارات التي ينتمي إليها، لكن تلك الحاضنات الكبرى لا علاقة لها بصراعاتهم». وعليه، تبطل بعض جوانب فرضية صاموئيل هنتنغتون القائلة بصراع الحضارات، فالأصح هو أن جماعات راديكالية أصولية تؤجج العنف داخل هذه الحضارة أو تلك، ضد مجموعة مضادة. إذن، فنحن بإزاء صدامٍ للأصوليات وليس للحضارات، وبعبارةٍ أخرى هنالك نزاع بين قوى تريد فرض هوية كونية، وقوى إقليمية تدعي الحفاظ على الهويات الخاصة(1).

على صعيدٍ آخر، وفي سياقٍ أوسع، ففي مقابل الحركات التي تبنَّت نزعات الغلو الديني والتطرف القومي، وأنتجت أيدلوجيات توافرت فيها درجة عالية من الكراهية للآخر، فإن حركات أخرى أفرزت نقدًا تحليليًّا للتجربة الاستعمارية، وتمكنت من تفكيك ركائز الخطاب الاستعماري، فانبثقت «دراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية»، التي هدفت إلى إعادة النظر بالتركة الاستعمارية الثقافية في العالم، خارج المجال الغربي. وتشطت تلك الدراسات إلى فروعٍ عدّةٍ؛ فشملت سائر المظاهر الثقافية من فنونٍ وآداب وكتابةٍ تاريخيةٍ. وظهرت على أنها ردُّ فعلٍ على تحيزات الخطاب

ص: 133


1- عبد الله إبراهيم، صدام أصوليات لا صدام حضارات، مرجع سبق ذكره.

الاستعماري الذي اختزل الشعوب والثقافات غير الغربية إلى أنماطٍ مضادةٍ للتحديث، وعائقةٍ للتطور، وقدم لها وصفًا يوافق مقولاته(1).

وسرعان ما تفرعت عن تلك الدراسات دراساتٌ أخرى، سعت إلى إعادة الاعتبار للرؤى الأصلية، وفحص الظواهر الثقافية والدينية والعرقية، بعيدًا عن الإكراهات النظرية التي مارسها الخطاب الاستعماري. ثم ما لبثت دراسات ما بعد الكولونيالية أن تعمقت في سائر أنحاء العالم، فشملت المرأة والجنوسة، والأعراق، والتاريخ، والهوية والمقاومة والأقليات ومفهوم الأمة، وأساليب الهيمنة الثقافية، وأفرغت المنهجيات التقليدية من محتواها وأجهزت عليها، إذ ضخَت أفكارًا جديدة، وتصورات مبتكرة في تحليلها للظواهر الاجتماعية والثقافية. ولعل أبرز ما تمخضت عنه ظهور جماعات ناقدة اندرجت في ما يصطلح عليه ب_« دراسات التابع»، التي أصبحت عابرةً للقارات، وهدفت إلى نقد الخطاب الاستعماري وفرضياته، واقتراح المناهج البديلة لدراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي، وتفكيك المقولات الغربية في الآداب والثقافات والمناهج، وسحب الثقة العلمية والثقافية منها، عبر اقتراحاتٍ أخرى مغايرة أكثر كفاءة تعالج بها شؤون المجتمعات خارج المركز الغربي(2).

لقد استهدفت قراءة خطاب ما بعد الحداثة من منظور ما بعد كولونيالي، التوصل للغةٍ نقديةٍ تعمل على التخلص من الرواسب المتبقية من الماضي الإمبريالي، وقادرة على تعميق الوعي بالكولونيالية الجديدة المستترة في خطاب ما بعد الحداثة. فقد تناول نقاد ما بعد الكولونيالية - التي اعتبر الناقد الأسترالي، سايمون ديورنج، أنها ممثلة لحالة الشعوب والأمم والجماعات، التي عانت من الاستعمار، وتريد تأكيد هويتها بعيدًا عن المفاهيم الأوروبية، التي تزعم العالمية، ولا تتبناها في واقع الأمر - قضيةَ

ص: 134


1- عبد الله إبراهيم، التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مرجع سبق ذكره.
2- نفسه.

الاختلاف من منظورٍ مغايرٍ، فالتعرف على الاختلاف بالنسبة لهم فيه سعي للتواصل عبر الثقافات، ويتركز سعيهم في قراءة التراث الثقافي من منظور يحترم الخصوصية كما يرصد تفاعل تلك الخصوصية بالمؤثرات العالمية، فهو مسعى سياسي مغاير لموقف نقاد ما بعد الحداثة، في تناولهم للاختلاف تناولاً استطيقيًّا، أي ذريعة للتأمل السلبي، بدلاً من التفكير الإيجابي في كيفية تشييد معابر بين الثقافات(1).

إذن، فإن مشروع الكونية الثقافية في شكله وصياغاته وإدارة الغرب له المستهدف الهيمنة والتوظيف من أجل مصالحه قوبل بمقاومةٍ متباينةٍ الاتجاهات، فما بين تمركز مضاد ومشروع يستبدل هيمنة بأخرى، ويقابل التعصب والعنصرية والاستعلاء بمثلها، بنزعة ماضوية، تسلب أيّ ثقافة محلية القدرة على مواجهة الدينامية القوية والمتقدمة لثقافة اليوم، لافتقادها أسلحة الخصم والرؤية الموضوعية، وإدراك أبعاد وطبيعة الصراع واتجاه آخر يسعى إلى تنقيح تاريخ العالم من المركزية بإعادة إنتاج الهويات التي انتزعت عنها ثقافاتها بفعل المستعمِر، ويقدم نقدًا للمشروع الثقافي الغربي في مجمله واتجاه يرفض النزعة الأصولية، والتقوقع حول الذات، ونبذ الحداثة، ويدعو إلى القطيعة مع التراث مع نقد الحداثة، وعدم إغفال الذات، وعناصر تأزمها ، بالركون إلى الخصوصية، والانغلاق عليها.

بين هذا وذاك يستمر الجدل وتتعقد خلافات اتجاهاته، ما أفرز تمردًا على سياقات وأطر المواجهة التقليدية، تمثل في ضرورة الخروج من ثنائيات تراث/ حداثة، خصوصية كونية المستعمِر/ المستعمَر، بخلق مساحة جديدة تكسر انغلاق دائرة المواجهات المتأزمة، وتتأسس على المساءلة، حتى تكون مقاومة الهيمنة أكثر فاعلية.

الخروج من الثنائيات وخلق هذه المساحة ضروري، ليس من أجل مواجهة الآخر القمعي فحسب بل من أجل أن تتكشف فيه المواجهات الداخلية، أيضًا، المتمثلة

ص: 135


1- ماري تريز عبد المسيح مرجع سبق ذكره، ص 12 - 13 ، 27 ، 37

في الانقسامات داخل الأمة الواحدة مساحة تقوم على تنمية العناصر المشتركة بين الثقافات في المجالين المعرفي والاجتماعي، وتحقيق التواصل النقدي مع الذات والآخر، وفق جدلٍ بين العقل والتاريخ على قاعدة الإبداع، حتى يمكن للهوية الثقافية أن تكون جزءا من بناء ذاتٍ مستقلةٍ، تستطيع مواجهة معارك الهيمنة الاقتصادية والسياسية، وتقويض أطروحة كونية الثقافة الغربية، والتمركز العرقي والطبقي وتَوجُّه المعرفة الأحادي لنظام العولمة.

ص: 136

ثنائية الوعى بالآخر في ضوء نظرية ما بعد الاستعمار

(قراءة تفكيكية)

غيضان السيد علي(1)

رافقت نظرية ما بعد الاستعمار أو النظرية ما بعد الكولونيالية (Postcolonial Theory) سطوع نجم ما بعد الحداثة، وتبلورت مع نهاية العقد السابع من القرن العشرين، ووصلت أوج ازدهارها في العقد التاسع وبدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وساير مصطلحها تلك المصطلحات التي راجت في النصف الأخير من القرن العشرين من أمثال:«ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد العلمانية.. وغيرها». وقد صك هذا المصطلح الناقد الأسترالي سيمون ديورنج (Simon During) في عام 1985م من خلال مقالة له بعنوان «بلوغ اليابسة».

وقد تبلورت هذه النظرية بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب المصدر الحصري للعلم والمعرفة والإبداع وموطن النظريات والمناهج العلمية(2) ومن ثم أصبح الغرب هو المركز الذي تتمحور حوله الدول المُسْتَعمَرة وتتبعه في كل شيء، فتهتدي

ص: 137


1- مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة بني سويف جمهورية مصر العربية.
2- جميل حمداوي، نظرية ما بعد الاستعمار ، على الرابط الإلكتروني التالي: http://www.alukah.net/publications_competitions/039097// ixzz5CztEKe9Q

بهديه وتسير على خطاه. كما أنها تعني من جانبٍ آخر أن الاستعمار الغربي للشرق لم ينته بعد، وإنما الذي انتهى هو صورته التقليدية، ولكنه وُجد بمعنى آخر وبصورة ثانية من صور الهيمنة على الفكر والثقافة والوعي الجمعي، مما أدى بالطبع إلى خلق صورة مغايرةٍ للشعوب المستعمَرة في القرن الجديد لتصير معها مقولة ال- «ما بعد» مقولة لا مبرِّرَ لوجودها؛ إذ إنّ ما تغير هو صورة الاستعمار ومظهره العرضي، أمّا جوهره الحقيقي فما زال باقيًا، وما زالت الدول المستعمرَة لم تنل حقها بعد في التحرر والاستقلال.

وتحاول هذه الورقة أن تجيب على عدة أسئلةٍ تشكل محور هذا البحث، ومن أهمها: كيف يمكن أن يتبلور مفهوم «نظرية ما بعد الاستعمار» من خلال ثنائية الوعي بالآخر؟ وكيف تطورت إطروحات هذه النظرية عبر عمرها القصير نسبيًا في ظل دعم توجهات ما بعد الحداثة ؟ وإلى أي مدى ظهرت كنظريةٍ مناهضةٍ للهيمنة الغربية في أزمنة ما بعد الاستعمار ؟ وإلى أيّ مدى كشفت عن تسلط الفكر الغربي بتاريخه الاستعماري المهيمن لمحو معالم الثقافات والهويات الشرقية؟ وكيف أنه يستصغر فکر غیره ويحتقره ويعمل على إبعاده وإقصائه ونبذه وإبادته من خلال رسم صورة مزيفة للآخر، رسمها في وعيه وأراد أن ينقلها بحذافيرها إلى وعي الأنا؟ وإلى أي مدى نجح في إقناع الأنا بها ؟ وكيف أثرت هذه الصورة في تشكيل وعي الأنا العميق بالآخر؟ وهل تعد مقولة ال-«ما بعد» في مفهوم «ما بعد الاستعمار» مقولة زائفة لا وجود لها في ظل استمرار علاقة الغرب بالشرق على أنها علاقة مُستغل بمستغَل وتابع بمتبوع ؟ وهل يعكس علم الاستشراق صورة حقيقية عن الشرق ؟ أم أنّه يعكس نوعًا من التسلط الثقافي يؤكد التفوق الأوروبي على التأخر الشرقي؟

أولاً- نظرية ما بعد الاستعمار وثنائية الوعي:

تعد نظرية ما بعد الاستعمار نظريةً تعبر عن ثنائية الوعي؛ إذ هي تقوم في الأساس كخطاب مضاد يعكس احتجاج وعي الأنا على الصورة الموجودة في وعي الآخر عن الأنا. ومن ثم تكون نظرية ما بعد الاستعمار بمثابة نظرية ميكانيزمية دفاعية، وحركة ثقافية مضادة تقاوم التغريب والهيمنة الغربية. فهي تعبر في المقام الأول عن حالة

ص: 138

فكرية صحية تريد أن تدفع الفكر الإنساني إلى البحث عن آفاق جديدة للخروج من حالة التبعية الغربية بنقد الفكر الغربي ذاته. ولكنها لا تنكر أفضاله، وإنما تأخذ عليه نرجسيته المفرطة، وزهوه بنفسه، وتهميشه للآخر، ونزعته الإمبريالية من خلال رحلةٍ ثنائية الأبعاد لتفكيك ما بات مستقرًا في وعي الأنا عن الآخر ووعي الآخر عن الأنا.

فهي إذن نظرية تدافع عن الهويات الوطنية والقومية، وترفض الاندماج الهووي في الحضارة الغربية، وتقاوم كل صور الاستلاب والتدجين، وتحتج على سياسة الاستعلاء، والإقصاء والتهميش والهيمنة الغربية على دول العالم الثالث. كما تدعو إلى إقامة ثقافةٍ وطنيةٍ أصيلةٍ غير منغلقةٍ تعبر عن نموذجٍ بديلٍ ومغايرٍ للنموذج الغربي. كذلك تهتم بنقد الذات والكف عن تمجيدها، والمناداة بالتنوع والتعدد الثقافي والانفتاح، في مقابل الانغلاق والجمود عبر آليات المثاقفة والترجمة والنقد والتفاعل الثقافي.

كما تعد نظرية ما بعد الاستعمار في الحقيقة قراءةً للفكر الغربي في تعامله مع الشرق من خلال مقارباتٍ نقديةٍ تحلل الخطاب الاستعماري في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية تفكيكًا وتركيبًا وتقويضًا، بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي(1).

وتستعرض نظرية ما بعد الاستعمار العديد من الثنائيات التي تميز العلاقة القارة في الوعي بين الشرق والغرب كثنائية المجتمع المُستغِل والمجتمع المستغَل، أو الأنا التابع والآخر المتبوع، أو التقدم في مقابل التخلف، والتحضر في مقابل الرجعية، أو ديمقراطية الغرب في مقابل استبدادية الشرق وغيرها من الثنائيات التي تُبرِزُ نقاط الاختلاف والتمايز، وتُحَدِدُ أنماط التفكير بين الأنا والآخر. لذلك تُركز نظرية ما بعد الاستعمار على تناول مثل هذه الثنائيات بالبحث والدرس والمعالجة بُغية النقد والتقويض والتفكيك، من أجل دحض وهدم المرتكزات التي انبنت عليها الهيمنة الغربية الإمبريالية.

ص: 139


1- جميل حمداوي، نظرية ما بعد الاستعمار ، مرجع سبق ذكره

وتتناول هذه الدراسة ثنائية الوعي بالآخر تناولاً تفكيكيًا؛ إذ يكون الآخر هنا هو الشرق تارة، مثلما يكون الغرب تارة أخرى، ويكون الهامش حينًا والمركز حينًا آخر. وبصيغة أكثر وضوحًا يصبح الآخر سؤالاً للذات، كما الأنا سؤالاً للآخر، أو بصيغةٍ تساؤليةٍ ثالثةٍ أكثر وضوحًا: كيف يبدو الغرب في وعي الشرق؟ وكيف يبدو الشرق في وعي الغرب؟ وهذا ما أعنيه بثنائية الوعي بالآخر.

حيث إنَّ تناول هذه الثنائية للوعى بالدرس والتحليل في ضوء نظرية ما بعد الاستعمار يكشف عن زائفية شبه كاملة لصورة الأنا في منظور الآخر، وزائفية الآخر في وعي الأنا. كما تساعد على فضح الأيديولوجيات الغربية، وفضح نواياها الاستعمارية القريبة والبعيدة، وتقويض مقولاتها المركزية، ونسف ادعاءاتها الزائفة التي أعلنت أنها جاءت من أجل تحقيق ورفاهية وخدمة الآخر، وهي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ إذ جاءت لاستنزافه وسرقته والقضاء على حريته، وجعله تابعًا ذليلاً، يسبح بحمد سيده واهبه التقدم والحرية والمجد والرفاهية! ومن ثم جاءت نظرية ما بعد الاستعمار لتعيد النظر في كافة المقولات والمسلَّمات المركزية الغربية، وتتناولها بالمراجعة والتحليل والنقد والتفكيك والتقييم، والتقويم.

ثانيًا - صورة الأنا في وعي الآخر:

حرص المُستعمِر الغربي دائماً على رسم صورة للآخر المُستعمَر على أنَّه ما جاء إلّا لإدخال هذه الدول في سياق التمدن والتحضر. وكان مصطلح «الاستعمار في ذاته خير شاهد ودليل على ذلك؛ إذ إن ظاهر المصطلح يعني الإعمار والعمران والإنشاء والتطوير والارتقاء بالزراعة والصناعة والتجارة وكافة أعمال التمدن والتحضر. وباطنه يعني العكس تماماً من التدمير والسرقة والاستيلاء على ثروات البلاد وخيراتها وممارسة كافة الصور اللاإنسانية تجاه الشعوب المستعمَرة من إذلالٍ وإفقارٍ وتجهيلٍ وتعتيمٍ وتغريبٍ، وما إلى ذلك من الوسائل والآليات التي تجعله خاضعًا مطيعًا، وتابعًا سهل الانقياد ومن ثم تبقى كلمة استعمار، كما يقول مالك بن نبي: «هي أخطر سلاح يستخدمه الاستعمار ، وأحكم فخ ينصبه للجماهير، وما من

ص: 140

خائن يدسه الاستعمار في الجبهة التي تكافح فيها الشعوب المستعمرة، إلّا وكلمة استعمار تفتح له أبوابًا مغلقة في عواطف الجماهير»(1).

إذن أصبح الغربي في علاقته مع الآخر يرى أنَّه النموذج الذي يجب أن يُحتذى من قِبل هذا الآخر، حيث أصبح الغربي على يقين تام بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانيّة، وأنَّ التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ الغربي الحديث، وأن العلوم الغربية علوم عالمية، وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح لكل زمان ومكان أو على الأقل يصلح لكل زمان ومكان في العصر الراهن. وأنَّ نزعته الإنسانية تفرض عليه ألا يترك هذا الآخر فقيراً، معدمًا جاهلاً، مريضًا يعاني التخلف بكل صوره وأشكاله وانطلاقا من هذه النزعة الإنسانيّة المزعومة للغرب أصبح يرى أن من حقه الوصاية على هذا العالم، ليصير تدخله في شؤون غيره بمناسبة وبدون مناسبة، وبحجج شبه حقيقية وأخرى واهية تمامًا، أمرًا طبيعيًا تمامًا، تارة باسم تخليصه من حكامه المستبدين، وأخرى من أجل تفعيل مبادئ الديمقراطية ودعم الحريات، وثالثة تحت مسمى حماية حقوق الإنسان، ورابعة باسم الحرب على الإرهاب، وخامسة باسم شروط صندوق النقد الدولي...إلخ. فجعلوا من علمهم بالحق مصيدة للباطل، ومن مطامحهم الذاتية مآثر تعلو على كل هدف.

وتتابعت رؤى المفكرين الغربيين التي ترى الشرق الإسلامي حسب رؤية « كليغورد» غيرنز والتي ترى أنَّ الشرق الإسلامي قد فقد الحداثة، ومن ثم أصبح شديد الخطورة فتشرذم وأصبح هشًا، وحيث إنّ المسلمين فشلوا في التلاؤم مع الحداثة أصبحوا هم المذنبون، وأصبحوا يستوجبون ،اللوم، وما يحصل للعالم لا يعدو أن يكون حصيلة الأزمات والأحقاد الإسلاميّة على العالم(2). ويذهب فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) إلى الزعم بأن الرأسمالية الحالية المسيطرة على العالم هي أفضل وأكمل نموذج لحياة البشر، وهي المحطة النهائية في مسيرة التاريخ؛ لذا يجب التخلُّص من

ص: 141


1- مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة الجزائر / دمشق، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1988، ص28.
2- أنظر ، جلال فاخوري، كيف ينظر الغرب إلى الإسلام؟ جريدة الرأي بتاريخ 2005/6/17. على الرابط الإلكتروني التالي: http://alrai.com/article/30582.html :

أصحاب الأفكار والنظريات الأخرى كالإسلام. ويصفهم «جون كريستوف روفان» بالبرابرة الجدد في كتابه «الإمبراطورية والبرابرة الجدد». إذ يصورهم على أنهم فئات فقيرة قليلة الثقافة تغلب عليها نوازع العنف والتوحش والبدائية والرغبة المحمومة في القتل والذبح والتخريب والدمار. وقد وصفهم بالبرابرة الجدد لأنهم قد يستخدمون الأدوات الغربية من سلاح، وانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها ومع ذلك يرفضون المفاهيم الغربية من قبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة.

ويوضح «فرانز فانون (Franz Fanon (1961-1925) في كتابه «معذبو الأرض» تلك النظرة الدونية التي ينظر بها المستعمِر إلى المستعمَر في نظرة كاشفة إلى حد كبير، حيث يقول واصفًا مدينة المستعمَر الموجودة في وعي الآخر: «مكان سيء السمعة، يسكنه أناس سيئو السمعة . فيه يولد المرء أين كان، وكيف كان. وفيه يموت المرء أين كان، وبأي شيء كان هو عالم بلا فواصل الناس يتكدسون فيه بعضهم فوق بعض، والأكواخ تتكدس فيه بعضها فوق بعض. إنَّ مدينة المستعمَر مدينة جائعة، جائعة إلى الخبز، وإلى اللحم، وإلى الأحذية، وإلى الفحم، وإلى النور. مدينة المستعمَر مدينة جاثية، مدينة راكعة مدينة متدحرجة في الوحل. إنها مدينة زنوج. مدينة عرب»(1). امّا عن السكان الأصليين فهم في نظر المستعمِر«ليس لهم انفعال، أو لا يكاد يكون لهم انفعال سريعو التصديق إلى أبعد حد، قابلون للإيحاء إلى أقصى درجة. عناد مصرّ. طفولة نفسية... محدودي الإمكانيات بيولوجيا»(2). كما يشير فانون أيضًا إلى هذا التعالي الغربي الذي راح يخرج عن الموضوعية العلمية، مشيرًا إلى ذلك الخبير الدولي الذي «يرى أنّ الإفريقي قلما يستعمل الفصين الجبهيين من دماغه، ويمكن أن تُردَّ خصائص الأمراض العقليّة في إفريقيا إلى كسل في الفص الجبهي من الدماغ(3). ورأى المستعمِر أن عدم تكامل الفصين الجبهيين مع عمل الدماغ هو سبب الكسل والجرائم والسرقات والاعتداءات على النساء، والكذب.. ومن ثم وجب مواجهة

ص: 142


1- فرانز فانون معذبو الأرض، موفم للنشر، الجزائر ، 2007، ص6.
2- المرجع السابق، ص 269-270
3- المرجع السابق، ص 270.

هؤلاء السكان الأصليين بصرامة لا هوادة فيها. وهكذا صار الغربي المستعمِر يبرر قمعه للمستعمَر وقتله بهذه الأكاذيب والافتراءات التي يلبسها حُلة العلم أحيانًا.

وكذلك اعتبر الغرب المستعمِر نفسه بمثابة القلب الذي يدفع الدم في شرايين الشرق ليحيا حياة بعيدة عن الهمجية والتوحش حياة تقوم على النظام والعلم ولا غنى للشرق عن الغرب أبدًا. هكذا بدا الحال الطيب صالح في أيقونته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي أشارت إلى نظرية ما بعد الاستعمار بشكل واضح؛ حيث يقول على لسان ريتشارد الموظف الإنجليزي في السودان مجادلاً ومحاورًا اثنين من السكان الأصليين «كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر، بيد أنَّ وجودنا بشكل واضح أو مستتر ضروري لكم كالماء والهواء»(1).

ومن ثم كان الشرق في نظر الغرب لا يستطيع أن يُحَسِّنْ نفسه إلَّا إذا استفاد من التجربة الغربية المتقدمة، وسار على هديها لا يختلف قيد أنملة. وإنّه إذا اتجه وجهة مخالفة لما عليه الغرب، فليس غريباً أن نجد مستشرقاً يخبرنا بأن ذلك يشهد على طبيعته غير القابلة للتقويم. فالغرب هو النموذج الذي يجب فالغرب هو النموذج الذي يجب أن يسير عليه هؤلاء الشرقيون إذا أرادوا أن يسيروا على الطريق الصحيح للتقدم. ومن ثمَّ كان من الطبيعي أن يجند الغرب كتيبة من العملاء من أبناء الشرق لإشاعة هذا الرأي، وجعله بمثابة الحقيقة العلمية التي لا يرقى إليها الشك. هذا فضلا عن دور الاستشراق الذي يقوم بدور هام في عملية الاخضاع والاستيلاء والتغريب مع ربط الشرق بأغراض المصلحة الغربية.

إنّ المستعمِر يحرص كل الحرص على نزع كافة الصور الايجابية عن المجتمع المستعمَر في تمهيد لنزع هويته تلك التي تخلو من كل قيمة إيجابية. وفي ذلك يقول فرانز فانون «والمستعمِر لا يكتفي بأن يحد مجال المستعمَر، باستعمال القوة المادية، أي بواسطة شرطته ودركه، وإنما هو يجعل من المستعمَر روح الشر وخلاصته، كأنه

ص: 143


1- الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال بيروت، دار العودة، الطبعة الثالثة عشر، 1981، ص 64.

يدل بذلك على أن الاستغلال الاستعماري كلي شامل. إنهم لا يكتفون بأن يصفوا المجتمع المستعمَر بأنه خالٍ من القيم... أو قل أنهم أعداء القيم. فالمستعمَر بهذا المعنى هو الشر المطلق. إنّه عنصر مُتلفٌّ يحطم كل ما يقاربه، عنصر مُخَرِّب يشوّه كلّ ما له صلة بالجمال والأخلاق»(1).

ويستشهد «فرانز فانون» على صدق هذه النظرة المتدنية التي ينظر بها المستعمِر إلى المستعمَر بخطاب «مسيو ماير» الذي ألقاه في «الجمعية الوطنية الفرنسية»؛ إذ يقول في هذا الخطاب: «إنّ علينا ألّا نلوث الجمهورية بإدخال الشعب الجزائري إليها ذلك أن القيم تتسمم وتفسد على نحو لا يمكن إصلاحه متى جعلناها تحتك بالشعب المستعمَر»(2). كما يستشهد فانون في هذا الإطار بأقوال «دو جول» عن الجموع الصفراء. وكلام «مورياك» عن الكتل السوداء والسمراء والصفراء التي تهم أن تندفع أمواجها.

إنَّ الصورة التي يرسمها الغربي المستعمر للشرقي المستعمَر صورة قميئة تحط به من مستوى البشر إلى مستوى الأنعام. ويتضح ذلك من اللغة التي يستخدمها غالبًا فی وصفه. وهو الأمر الذي لاحظه «فانون» وعبَّر عنه باقتدار بقوله:«أنظر إلى اللغة التي يتكلمها المستعمِر حين يتكلم عن المستعمَر، تجد أنها اللغة المستعملة في وصف الحيوانات: إنهم يستعملون هذه التعابير : زحف العرق الأصفر، أرواث المدينة الأصلية، قطعان الأهالي، تفريخ السكان، تنمّل الجماهير..إلخ»(3). إنَّ المستعمِر حين يريد أن يُحسن الوصف وأن يجد الكلمة المناسبة لوصف تلك المجتمعات بصفات يراها الأنسب ويراها تعبر خير تعبير عن تلك الصورة التي يرسمها في وعيه عن الآخر، فإنَّه يرجع دائمًا إلى الألفاظ المستعملة في وصف الحيوان، كما يقول فرانز فانون، ويذكر العديد من الأوصاف والعبارات التي تجري على لسان المستعمِر كأن يقول :«هؤلاء السكان الذين يدبون على الأرض، هذه الجماهير المستهترة، هذه

ص: 144


1- فرانز فانون، معذبو الأرض، ص: 7-8 .
2- المرجع السابق، ص: 8.
3- المرجع نفسه.

الوجوه التي فرّ منها كل معنى إنساني، هذه الأجسام المترهلة التي لا تشبه شيئًا من الأشياء، هذا القطيع الذي لا رأس له ولا ذنب هؤلاء الأطفال الذين لا يبدو أن لهم أهلاً، هذا الكسل المستلقي تحت الشمس هذه الحياة التي تشبه حياة النباتات»(1).

ولذلك لم يكن غريبًا أن يُرَسِخ المستعمِر لهذه الأفكار، حتى إذا عاكسته الظروف وخرج بقواته ودركه وعساكره، ضَمِنَ أن تظل سيطرته مبسوطة على تلك المجتمعات، فيحاول من خلال الغزو الثقافي أن يقنع تلك المجتمعات أن التحرر من الاستعمار لا يعني التقهقر إلى الوراء، وإن عليهم أن يقتدوا بالتجارب الغربية في كل شيء، فهي تجارب مجربة أثبتت صحتها في الارتقاء بهذه المجتمعات. لتظل هذه المجتمعات المستعمرة تابعة. وكان ذلك هو السبب الأول الذي أدى إلى ظهور نظريات ما بعد الاستعمار التي أخذت على عاتقها مهمة نقد وتقويض وبيان تهافت المقولات الغربية، الأوروبية والأميركية، للوقوف في وجهها وفضح ما فيها من تهميش، وتعالي،

وهيمنة غربية مقصودة.

وبناءً على ما تقدم يمكننا القول بأن صورة الأنا في وعي الآخر ليست صورة تعكس الواقع الحقيقي، ولا يعني هذا فشل الآخر الغربي في الوصول إلى الصورة الحقيقية عن الأنا، كلا البتة. ولكنها صورة مرهونة بوعي أيديولوجي يقوم على الاتساق الداخلي بين الاستشراق ذاته وبين الأفكار التي أتى بها عن الشرق. فهو يبحث عن اتساقٍ بين صورةٍ مزعومةٍ للآخر الشرقي وبين أفكارٍ تسوِّغ نزعة الغرب الاستعمارية، وتجعلها مستساغة عقليًا وعمليًا وهي أبعد ما تكون عن ذلك. فهذه الصورة المرسومة في وعي الغرب عن الشرق هي أبعد ما تكون عن الصورة الحقيقية. وفي ذلك يقول محمد عناني «عن نظرية ما بعد الاستعمار» في مقدمة ترجمته لكتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد:«إنه بحث نقدي يقوم على أسس فكرية صلبة، من دعائمها تبيان خداع بعض ما يكتسي المظهر العلمي وهو في حقيقته عنصري، مثل إطلاق صفة الشرقي على كل ما يرى فيه أبناء الغرب اختلافًا عن الحضارة الغربية، والتذرع بهذه الصفة

ص: 145


1- المرجع السابق، ص 9.

أو التسمية للقول بما يجافي الحقيقة والواقع من نسبة حقائق جوهرية أو عناصر إنسانية تمثل جوهر الشرق باعتبارها نقيضا للغرب، وهو ما يسمى بالنظرة الجوهرية، أو المذهب الجوهري. وإدوارد سعيد يأتي بالأدلة القاطعة على أن هذه النظرة لا على أسس علمية؛ لأنها لا تعمل حسابًا للتاريخ والتطور وغيرهما من العوامل التي تتحكم في حياة الإنسان»(1). وفضلاً عن أن هذه النظرة المؤدلجة للشرق من قِبل الغرب لا تقوم على أسس علمية، فإنها أيضًا تبرر أفعال الغرب اللاإنسانية تجاه الشرق من الطمع الاستعماري، ونهب الخيرات والثروات والنظرة العنصرية، والرغبة السيادة المطلقة على الشعوب الشرقية. كما تحتوي هذه النظرة على خوف دفين في قلب الغربي تجاه الشرق وهو خوف مركب... إذ يضم بقايا إحساس أبناء أوروبا بالجهل، وكل مجهول ذو خشية ورهبة ويضم بقايا خوف أوروبا من تهديد الشرق الذي كان يتمثل يومًا ما في الدولة العثمانية، والغرب يحاول القضاء على هذا الخوف الدفين (أي غير المعلن) أساسًا بتزييف صورة ما يعتبره مناقضا له»(2). ولذلك لا يبدو غريبًا وصف إدوارد سعيد للاستشراق بأنه «أسلوبًا غربيًا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه والتسلط عليه»(3).

إنَّ الصورة التي صنعها الغرب للشرق صورة تجمع العديد من التناقضات التي تنفّر من أهل الشرق، إذ إنّها لم تترك صفة تحط من قدر الإنسان، وتسيء إليه إلّا وألصقتها به ولكنّها في الوقت ذاته تغري أهل الغرب للسيطرة على الشرق، فهي صورة تعكس بهاء الشرق وروعته وطبيعته الجذابة المناسبة للحياة الحالمة، وتصوره مكانًا ملائماً للرومانسية، أي قصص الحب ،والمغامرات والكائنات الغريبة، والذكريات والمشاهد التي لا تنسى، والخبرات الفريدة الرائعة، فضلاً عن أنه ما زال يفيض لبنًا وعسلاً ونفطاً وذهبًا. وتضع ذلك جنبًا إلى جنب مع تخلف الشرقي وهمجيته،

ص: 146


1- محمد عناني ، تصدير الترجمة العربية لكتاب : إدوارد سعيد، الاستشراق - المفاهيم الغربية للشرق القاهرة، دار رؤية ، الطبعة الأولى، 2006،
2- المرجع نفسه. ص 19
3- إدوارد سعيد الاستشراق - المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، القاهرة، دار رؤية ، الطبعة الأولى، 46 ص 2006

ونزعته للقسوة وانشغاله الرئيسي باللذات الحسية واحتقاره للمرأة، وتعصبه الديني والاجتماعي الذي يتعدى حدود التطرف، فهو يعاني ظروفًا اجتماعية واقتصادية بالغة القسوة والصعوبة، فمجتمعه ينقسم اقتصاديًا إلى أقلية ثرية ثراءً فاحشًا لا تعلم مقدار ثروتها، وأكثرية فقيرة تقتات على فتات موائد الأثرياء. هذا فضلاً عن أنّه يعيش تحت دكتاتوريات حمقاء أقل ما توصف به هو الاستبداد والطغيان.

وقد عمل المستشرقون على تثبيت هذه الصورة المغلوطة، بل جعلوها من أهم أولويات علم الاستشراق. ولذلك يرى إدوارد سعيد أنَّ الاستشراق ليس خيالاً أوروبيًا متوهمًا عن الشرق، بل هو كيان له وجوده النظري والعملي، وقد استمر الاستثمار فيه إلى أن أصبح شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين بل وتحوله إلى مصدر للإنتاج والكسب (1)، ومنفذًا لتسريب هذه الصورة المشوهة المقصودة إلى الثقافة العامة والوعي الفردي والجمعي الغربي.

ثالثًا - صورة الآخر في وعي الأنا:

تشكلت صورة الآخر في وعي الأنا من خلال وجودين اثنين، فكان الوجود الأول للآخر في عالمنا هو الوجود الاستعماري، والذي بدأ بحملة نابليون بونابرت على مصر والشام سنة 1798م. واستمر بعد ذلك مع الوجود الاستعماري الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والألماني والأسباني والبرتغالي والأميركي في جلّ أرجاء عالمنا العربي والإسلامي من أقصاه إلى أدناه. بينما كان الوجود الثاني للآخر في وعي الأنا من خلال عقول النخبة والنهضويين العرب الذين أُرسلوا في البعثات العلمية المبكرة إلى أوروبا، حيث تم الانبهار بالغرب المتقدم، المختلف تمامًا عن الشرق المتخلف.

ففي اللقاء الأول بالغرب والذي كان من خلال «الحملة الفرنسية على مصر والشام عام 1798م والذي كان بمثابة صدمة حضارية أيقظت العالم الإسلامي من سباته العميق سواء على المستوى الفكري أو السياسي. ورغم أنَّ هذا اللقاء الأول

ص: 147


1- المرجع السابق، ص 50.

قد رافقته خسائر فادحة تعرَّض لها الشرق، سواء خسائر في الأرواح؛ حيث هبَّت الشعوب عن بكرة أبيها للدفاع عن الأوطان ضد المستعمر. أو خسائر مادية؛ فقد استولى الفرنسيون على الكثير من خيرات البلاد التي لا تقدر بثمن، يشهد على ذلك ما يوجد اليوم بمتحف «اللوفر» من آثار وتماثيل وكنوز شرقية، وتلك «المسلة» الفرعونية المهيبة التي تقف شامخة في وسط باريس اليوم. إلّا أنّ هذه الحملة قد نبَّهت العقل الإسلامي إلى مواطن قصوره ومدى تخلّفه. فسعى للاستعانة بعلوم الغرب ومناهجه التي جعلته يصل إلى هذه النهضة العلمية التي أبهرته ومن ثمَّ كان اللقاء الثاني حيث بدأ الشرق يلتقي بالغرب في الغرب ذاته من خلال المبعوثين الشرقيين الذين ذهبوا لتلقِّي العلم في الجامعات والمعاهد الأوروبية، ثم تمثل اللقاء بعد ذلك من خلال المسافرين في الرحلات الفردية أو الدبلوماسية.

والحقيقة أن ما يصوره البعض بالانبهار التام للمبعوثين بأوروبا لم يكن موجودًا منذ البداية، وإنما جاء في عهد متأخر قليلاً، الأمر الذي يعكسه رفاعة رافع الطهطاوي والذي كان من أوائل المبعوثين إلى أوروبا في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، حيث يقول في عبارات متناثرة تعكس في الحقيقة عدم الانبهار التام بكل نواحي الحياة الغربية؛ إذ يقول الطهطاوي في مواضع متفرقة من كتابه ما يدل على ذلك؛ إذ يقول :«ومن خصالهم الرديئة قلة عفاف كثير من نسائهم، وعدم غيرة رجالهم»(1). وأيضًا قوله :«ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها ولهم كثير من العقائد الشنيعة كإنكار بعضهم القضاء والقدر»(2)، وأن «أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية وإنما هي مأخوذة من قوانين أُخر غالبها سياسي، وهي مخالفة بالكلية للشرائع»(3). ويقول أيضًا «ولهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية» وغيرها من الأقاويل التي تملأ كتاب «تلخيص الإبريز» والتي تضع بعض الملاحظات النقدية على قوانينهم التي لا تأبه

ص: 148


1- رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب(سلسلة المواجهة- التنوير)، 1993، ص 153
2- المرجع السابق، ص154.
3- المرجع السابق، ص 192.

بالجوانب الأخلاقية، فلا تراعي حقوق الآباء والأمهات، ولا حق الجار ولا غيرها من الحقوق. ويلاحظ على مآخذ الطهطاوي على الغرب إنها مآخذ معيارية تنطلق من منظور ديني ولا غرابة في ذلك حيث إنه كان أزهريًا وإمامًا للبعثة التعليمية الموفدة إلى أوروبا. ولكنها على أية حال تعكس حالة عدم الانبهار الكامل بالغرب والذي سنجده مع المتأخرين من أمثال إسماعيل أدهم وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وأنيس فريحة وعبد الله جول وحسن رفقي وحسني العرابي وغيرهم من الذين دَعوا إلى التغريب الكامل.

والجدير بالذكر أنَّ العامة في الشرق - في الغالب - ينظرون إلى الغرب فقط من منظور التحرر والإباحية، ولا يأبهون كثيراً بتقدمهم العلمي والتقني، فكما جاء في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» من تمحور رؤية العامة إلى أوروبا حول «أن النساء سافرات يرقصن علانية مع الرجال... لا يتزوجن، ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة في الحرام»(1). وعكست الرواية بأكملها هذا الجانب أكثر مما تعرضت للجانب العلمي أو التقدمي. وكما جاء في رواية قنديل «أم هاشم» ليحيي حقي، الذي يصور شعور فاطمة النبوية عروس إسماعيل المنتظرة، وموقفها من سفر إسماعيل إلى أوروبا لطلب العلم «تسمع أن نساء أوروبا يسرن شبه عاريات، وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء، فإذا سافر إسماعيل فلا تدري كيف يعود إن عاد»(2). وتتضح الصورة أكثر في تصور عامة الشرق للغرب من خلال وصية والد إسماعيل لولده المسافر إلى ،الغرب، حيث يقول :«وصيتي إليك أن تعيش في بلاد برّه كما عشت هنا حريصًا على دينك وفرائضه، وإن تساهلت مرة فلن تدري إلى أين يقودك تساهلك. ونحن يا بنيّ نريدك أن ترجع إلينا مُفلحًا لتبيض وجوهنا أمام الناس وأنا رجل قد أوشكت على الكبر، وقد وضعت كل آمالنا فيك. وإياك أن تغرك نساء أوروبا فهن لسن لك وأنت لست لهن»(3).

ص: 149


1- الطيب صالح ، موسم الهجرة إلى الشمال ، ص 7.
2- يحيي حقي، قنديل أم هاشم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب مكتبة الأسرة ، 2017، ص 20.
3- الرواية نفسها، ص 21

الأمر اللافت للنظر هنا أنّ الانبهار بالغرب جاء من خلال النُّخَب، وليس من خلال العامة، فأغلب النخبويين بعد العودة من بلاد الغرب سرعان ما يكفرون بالشرق وبعلومه ومعارفه الذي يرونها قد أكل عليها الزمان وشرب. ومن ثم يعقدون مقارنة يجَرِّدون فيها الشرق من كل مميزاته التي جحدوا بها لصالح الغرب المبهر. فها هو يحيي حقي يقول على لسان إسماعيل عند عودته من بلاد الغرب، في «قنديل أم هاشم»: «من يستطيع أن ينكر حضارة أوروبا وتقدمها، وذلّ الشرق وجهله ومرضه وفقره؟ لقد حكم التاريخ، ولا مرد لحكمه، ولا سبيل إلى أننا ننكر أننا شجرة أينعت وأثمرت زمنًا ثم ذوت وهيهات هيهات أن تدب فيها الحياة من جديد»(1).

ولا غرابة في ذلك، فالاستعمار الذي كان يطمع في بسط هيمنته كان على دراية كاملة بهذا الأمر، فَبسطِ الهيمنة لا يتجه أولاً إلى عامة الناس، وإنّما إلى نُخَبِهم المثقفة، فهم الذين يتحولون إلى أدوات تخدم المستعمِر، فالنُخب وحدها هي القادرة على التعبير والكتابة ومن ثم الذيوع والانتشار. وقد نجح المستعمِر في هذا إلى حدٍ كبير وخاصة في أزمنة ما بعد الاستعمار. فقد أصبح من الحقائق الأساسية في القرن العشرين والحادي والعشرين أنَّ النموذج الحضاري الغربي الحديث بات يشغل مكانًا مركزيًا في فكر ووجدان معظم المفكرين والشعوب الشرقيّة بسبب انتصاراته المعرفيّة والعسكريّة الواضحة في مجالات عديدة، والتي ترجمت نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة بالنفس من جانب الإنسان الغربي. وبات الشرقي مؤمنًا في قرارة نفسه بأنَّ ما وصل إليه الغربي في الأزمنة الحديثة هو أرقى ما وصلت إليه الإنسانية في مراحل تطور العلوم والمعارف. وليس هذا بأمر غريب في زمن الأزمات والهزائم، فتحت وطأة الهزيمة يتم فقدان الثقة بكل ما هو ذاتي، وتفقد الذات تحت قهر المنتصر كل ثقة في موروثها، وتتطلع نحو المنتصر لتسلك مسلكه وتحذو حذوه.

ومن ثم وأمام تجبّر وتوحّش هذا الاتجاه الذي يوحي بتعملق الغرب وتقزم الشرق، أخذت الشعوب الشرقية تبحث عن أنسب السبل للحاق بالغرب الذي

ص: 150


1- الرواية نفسها، ص 51.

أصبح يمثل النموذج. وكما يقول عبد الوهاب المسيري :«أصبحت محاولة «اللحاق بالغرب» هي جوهر معظم المشروعات النهضوية في العالم الثالث، بما في ذلك العالم الإسلامي»(1).

وأمام انقسام المفكرين العرب أمام قضية النهضة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: رفض الأول فيها الغرب وعلومه واعتبرها كفرًا ومروقًا عن الدين. وهو ما عُرف بالتيار المحافظ أو الرجعي ، ورأى أنّ الحل الأمثل «للحاق بالغرب» هو إحياء التراث والعودة إلى الأصول. أما الاتجاه العلماني التغريبي فرغب تمامًا عن ثقافة الشرق وتراثه إلى اعتناقٍ تامٍ للمذاهب والاتجاهات العلميّة والفكريّة الغربيّة بكافة مزاياها وعيوبها، ورأى أن هذا هو السبيل الأمثل «للحاق بالغرب». أمّا الاتجاه الثالث فرأى أنَّ السبيل الأمثل «للحاق بالغرب» هو الجمع بين الأصالة والمعاصرة، الشرق والغرب، وهو ما أطلق عليه الاتجاه التوفيقي أو المحافظ المستنير.

الجدير بالذكر أنّه رغم الاختلافات الجذريّة في التوجهات الثلاثة إلّا أن الهدف (المعلن أحيانًا وغير المعلن أحيانًا أخرى) هو دائما «اللحاق بالغرب». حتى أنّ بعض أصحاب الاتجاه الأول الرافض للغرب تمامًا يرى أن المشروع الإسلامي هو خير تطبيق للنموذج الحضاري الغربي الذي يمكن تبنيه بعد إدخال التحسينات الزخرفية المختلفة مثل إضافة الصوم والصلاة واستبعاد اختلاط الجنسين، وفرض الحجاب على المرأة، وإصدار الفتاوى المختلفة بخصوص الفوائد التي تتحول من كونها ربًا حرامًا لتصبح مرابحة حلالاً ... وكل هذا يعني أن الإسلام يكتشف شرعيته بمقدار اقترابه من النموذج الحضاري الغربي الحديث وبالتدريج، يتم تغريب النموذج الإسلامي بحيث يتفق مع النموذج الحضاري الغربي الحديث(2).

نخلص من هذا أن الغرب قد صار هو النموذج المُحتَذى أمام الشرقي، وأنَّ كل آمال الشرقي وطموحاته تكمن في اللحاق بركب الحضارة الغربية. وأمام هذا التشكل

ص: 151


1- عبدالوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، الطبعة الأولى، 2001، ص88.
2- المرجع السابق، ص 94.

التغريبي لوعي الشرقي، أصبحت الشكوك تساوره حول قدرته على الإبداع الأصيل المتميز، وأنّه لا سبيل له إذا أراد أن يضع نفسه على الخريطة العلمية إلّا أن يسير على درب المسار المعرفي الغربي. فقد صار الغرب في وعي الشرقي نقطة مرجعية نهائية ومطلقة. وأصبح الرضوخ الفكري للغرب والتبعية الفكرية له من سمات التقدمية والتحرر، والطريق الوحيد إلى الانتماء للعصر الحديث والعالمية. أو هكذا بدا الآخر الغربي في وعي الأنا.

رابعًا- نظرية ما بعد الاستعمار والنموذج البديل:

وأمام هذه الثنائية للوعي بالآخر كان من الطبيعي أن تبرز نظرية ما بعد الاستعمار، فلا الشرقي ذا منزلةٍ وضيعةٍ تشبه منزلة الحيوانات كما بدا في وعي الغربي، ولا الغربي يريد تنوير الشرقي وتعليمه والارتقاء به على كافة الأنحاء كما ادعى زوراً وبهتانًا. وأمام تلك الرؤية المتدنية للشرقي من قِبل الغربي، وذلك الانبهار الشرقي بتقدم الغرب، التمست نظرية ما بعد الاستعمار مسوّغات وجودها، لتكشف زيف تلك الادعاءات التي قدمها الغربي، وتبين حقيقة ذلك الغربي الذي ما هو إلّا مستعمر يريد أن يطيل أمد استعماره وسيطرته على تلك الشعوب المستضعفة، والتي يطلق عليها الشرق بمفهوم ثقافي أكثر من كونه مفهوما جغرافيًا. أو أنّ هذا الغربي ما هو إلّا مستعمر يريد أن يعيد استعماره بصورة أخرى، فهو مملوء بعشق السلطة، مفتون بقوته، تملأه الرغبة في الاستحواذ والهيمنة، وتحركه الشهوة الإمبرياليّة التي مازالت تملأ مخيلته وتشبع غروره.

ومن ثمَّ كان من أهمّ أهداف نظرية ما بعد الاستعمار هو بيان زيف الخطاب الاستعماري، وهدمه، وأنَّه لا يتم تحت هدف التنوير والتحضر والحرية والديمقراطية، وإنّما الغرض منه السيطرة والهيمنة على الدول الأضعف؛ لاستنزاف خيراتها، والتحكم في مصائرها؛ لتصبح ادعاءات الغرب من قبيل أنه جاء لحفظ التوازن، ومراعاة حقوق الإنسان وإشاعة الحريات ومنع الاستبداد، وما إلى ذلك محض ادعاءات زائفة يكشف حقيقتها مدى الدمار والخراب والفوضى وعدد القتلى والمشردين الذي يتبع تدخله السافر.

ص: 152

إنَّ نظرية ما بعد الاستعمار هي في حقيقة الأمر نظرية تدين الاستعمار وادعاءاته الزائفة، وترفض الخضوع للغرب، وتأبى أن تستسلم لمحاولاته الدؤوبة لتهميش الشرق، وتدعو نخبتها إلى رفض الانبهار بالغرب أو الانصياع لثقافته وعلومه، والتصدي لكافة صور التغريب ومحاربة التدخلات الغربية في شؤون الأنا، ودعوة الأنا لتقديم نموذج ذاتي بديل يتجاوز النموذج الغربي.

ويبدو ذلك جليًا في دعوة «فرانز فانون» في ختام كتابه «معذبو الأرض»: «إنه ليجدر بنا أن نقرر منذ الآن أن ننتقل إلى الضفة الأخرى، الليل الطويل الذي كنا غارقين فيه، يجب أن نهزه وأن نخرج منه. النهار الجديد الذي أخذ يطلع، يجب أن يجدنا حازمين واعين قد عزمنا أمرنا»(1). ومن ثمّ يرى أننا يجب ألا نضيع أوقاتنا في تصديق شعارات مملة وتلونات تبعث على التقيؤ، لنترك هذا لأوروبا التي لا تفرغ من الكلام عن الإنسان وهي تقتله حيثما وجدته في جميع نواصي شوارعها، وفي جميع أنحاء العالم. لقد انقضت قرون وأوروبا تقف ضد تقدم البشر، وتستعبدهم لتحقيق أهدافها وأمجادها، لم تسع يومًا لحل مشكلات الإنسانية الكبرى مع أنه كان بإمكانها ذلك.

ولا يعني ذلك أن نظلّ نكيل لها الاتهامات، ونَصبُ عليها اللعنات لا ، فليس هذا هو دور نظرية ما بعد الاستعمار . فكما يقول فانون :«فحسبنا اتهامًا لها، ولكن علينا أن نقول لها بقوة، إنه لا ينبغي لها بعد الآن أن تستمر في إحداث هذا الضجيج كله. لقد أصبحنا اليوم لا نخشاها وعلينا إذن أن ننقطع عن حسدها. إن العالم الثالث يقف الآن أمام أوروبا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع أوروبا أن تأتي لها بحلول»(2).

ومن ثم جاءت دعوة «فانون» إلى عدم تقليد أوروبا أثناء الشرق لصناعة

سیر النموذج البديل ولكن علينا أن نوجه عضلاتنا وأدمغتنا في اتجاه جديد، ولنحاول أن

ص: 153


1- فرانز فانون، معذبو الأرض، ص 281.
2- المرجع السابق، ص 282

نخلق الإنسان الكلي الذي عجزت أوروبا عن تحقيق الانتصار له. ويرى أن أميركا تلك المُسْتَعْمَرَة الأوروبية قد حاولت منذ قرنين أن تلحق بأوروبا، وقد بلغت من النجاح في ما أرادت مبلغًا عظيما، فأصبحت كائنًا عجيبًا، مسخًا مشوهًا. تضخمت فيه تضخماً رهيبًا عيوب أوروبا وأمراضها ولا إنسانيتها(1).

ومن ثم فليس على الشرق أن يسعى لخلق أوروبا ثالثة، ولكن علينا - كما يقول فانون - أن نبتكر وأن نكتشف. وإذا أردنا أن نستجيب لآمال شعوبنا علينا أن نبحث غير أوروبا. بل إذا نحن أردنا أن نستجيب لما يتوقعه الأوروبيون منا، فيجب ألا نرد إليهم بضاعتهم، ألّا نرسل إليهم صورة، ولو مثالية، عن مجتمعهم وعن تفكيرهم بعد أن أصبحوا يشعرون نحوهم باشمئزاز شديد فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يجب علينا أن نلبس جلدًا جديدًا، أن ننشيء فكرًا جديدًا، أن نحاول خلق إنسان جديد(2).

فأهمّ ما يدعو إليه «فانون» هو عدم التشبه بالغرب، حيث يرفض رفضا تامًا كل دعوة يكون همّها الأول اللحاق بالغرب. ولا يجب أن نتذرع بحجة اللحاق بالغرب فنزعزع الإنسان وننتزعه من ذاته من صميمه وأن نحطمه أن نقتله. إن نظرية ما بعد الاستعمار لا تريد اللحاق بأحد، ولكن تريد أن تمشي طوال الوقت في صحبة الإنسان في صحبة جميع البشر بلا إعلاء لبعضهم فوق البعض الآخر، وبلا أي وجود لتلك الأحقاد العرقيّة والاستعباد والاستغلال للإنسان مع أخيه الإنسان. فعلينا ألّا نخلق مجتمعات تستوحي نظمها من أوروبا. فيكفي الإنسانية نُسخاً مشوهة ومقززة من هذا التقليد الكاريكاتوري الفاجر(3).

وعند هذا الحد يتوقف دور مساهمة الفرنسي الجنسية المارتنيكي المولد «فرانز فانون» في تشكيل نظرية ما بعد الاستعمار ، والذي يمكن تلخيصه في أنه رأى أن

ص: 154


1- المرجع السابق، ص 283.
2- المرجع السابق، ص 284.
3- أنظر المرجع السابق، ص284 - 285.

الاستعمار ليس حكم عسكري بالقوة فحسب، ولكنه هيمنة ثقافية مستمرة، ومن ثم دعا الشعوب المتحررة من نير الاستعمار أن تقاوم الصور الأخرى للاستعمار من خلال ضرورة خلق هوية وطنية مضادة تؤسس للتخلص من ذيول الاستعمار الثقافي وأن لا يحاولوا التشبه بالغرب الأوروبي أو يحاولوا اللحاق به. وهو هنا يعد شبيهًا بدور إدوارد سعيد الذي اقتصرت مساهمته عند حد الدرس والبحث والتنبيه إلى سلطة الاستشراق وآلياته في تسلط الشرق على الغرب؛ إذ إنّه لم يضع تصور لنموذج بديل يكون بمثابة مشروع نهضوي إسلامي ينهي الهيمنة الغربية على بلاد الشرق الإسلامي.

وقد قام المصري عبدالوهاب المسيري بنقل النظرية نقلة نوعية إلى الأمام؛ حيث رفض أيضًا التشبه بالنموذج الغربي أو محاولة اللحاق به، لما يستتبع ذلك مزيدًا من التبعية للغرب، ومزيدًا من ضياع الهويات ومزيدًا من الهيمنة والسيطرة الغربية على الشرق أو على أحسن التصورات خلق شرقًا ممسوخا من الغرب مسخًا مشوهًا. ولذلك شرع في رسم خطواتٍ لنموذجٍ بديل لا يستهدف اللحاق بالغرب، وإنما يستهدف بناء الشرق.

ولا ينكر المسيري في نقده للغرب مزايا النموذج المعرفي الغربي من الإدارة الرشيدة للمؤسسات، وتحقيق الديمقراطية والفصل بين السلطات واحترام حقوق الإنسان، وتأكيد حرية الفرد، وخلق ما يسمى بالأخلاقيات المدنيّة التي تساعد على العيش سويًا رغم الاختلافات المتعددة، وإنشاء دولة الرفاه التي تضمن للإنسان الحد الأدنى من متطلباته الحياتية، وتطوير العقلية النقدية والقدرات الإبداعية والقدرة على كشف الأخطاء وتصحيحها، وتطوير المناهج البحثية بما يتلاءم مع التطورات المتسارعة في المجتمع. ولكنه في الوقت ذاته يدين تلك المزايا لأنها لم تكن لتتحقق إلّا عن طريق الإمبرياليّة الغربيّة التي حققت مستوى معيشيًا مرتفعًا للإنسان الغربي، ومكَّنته من تشييد بنية تحتية مادية قوية(1). لم تكن لتتحقق سوى بالسيطرة على ثروات الشرق وكنوزه.

ص: 155


1- أنظر لمزيد من التفاصيل عبد الوهاب المسيري العالم من منظور غربي، ص204-207.

كما يطعن المسيري في صورة الآخر الغربي المترسخة في وعي الشرقي، تلك الصورة التي انبهر فيها الأنا بالآخر ، مما أدى هذا الانبهار إلى أننا أصبحنا غير قادرين على رؤيته رؤيةً نقديةً، فالتوصل إلى مثل هذه الرؤية خطوة أساسية نحو التحرر من التبعية الغربية والهيمنة الاستعمارية والتحيز الكامن في وعينا للنموذج المعرفي الغربي. ومن ثم يوجّه المسيري سهام النقد إلى هذا النموذج المعرفي الغربي مرتئيًا بأنّه نموذج معاد للإنسان، نموذج كافر بالمعنى المطلق للكلمة؛ ليس بالإله فحسب، وإنما كافر بالإنسان أيضًا إذ يعلن موت الإله، ثم موت الإنسان باعتباره كائنًا متميزًا عن الطبيعة، ثم ينتهي به الأمر أن ينزع القداسة عن كل شيء وينكر المعنى. كما أنه نموذجٌ معرفيٌّ يدَّعي أن بإمكانه التحكم الكامل في العالم عبر التقدم العلمي وهو افتراض أقل ما يوصف يوصف به أنّه طفولي سخيف. كما أنه نموذج معرفي يعبر بصدق عن أزمة الحضارة الغربية ابتداءً من حربيها العالميتين وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته. كما أنه إذا كان عائد التقدم المادي في الغرب عاجل ومحسوس ويمكن قياسه بسهولة فإن ثمن التقدم آجل غیر محسوس ويصعب قياسه (1).

وينتقل المسيري من نقد النموذج المعرفي الغربي إلى صياغة نموذج معرفي بديل يستفيد من العلم الغربي ومن كل العلوم والتجارب الإنسانية، وينطلق في الوقت ذاته من تراثنا، حتى يمكن توليد معارف وعلوم جديدة نحقق بها إمكانياتنا الإبداعية التي حبانا الله بها وكرّمنا بها كبشر. فهو لا يقوم بجهود تفكيكية وحسب تكتفي بنقد النموذج المعرفي الغربي، وإنما يسعى لوضع نموذج بديل، يضع له خطوات أولية تزيد من قدرتنا على تطوير النموذج البديل ومنها: رفض تمجيد الذات والتوقف عن التغني بأمجاد الماضي وإدراك أن الإمبريالية الغربية قد حطمت كثيراً من أبنيتنا الحضارية وقامت بنهب بلادنا، وأنها لازالت تتدخل في شئوننا من خلال أذرعها المختلفة ابتداءً من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وانتهاء بمؤسسات هيئة

ص: 156


1- أنظر ، المرجع السابق، ص 212-225

الأمم المتحدة ومروراً بالدولة الصهيونية. وعلينا أن ندرك جيدًا مدى الوهن والضعف الداخلي. وأن هذا النموذج البديل ليس عودة للوراء وإنما هو تأكيد على أن النماذج الجاهزة المستوردة لا تصلح لنا، وإنّه لابد من إعمال العقل والاجتهاد وأخذ أوضاعنا في الاعتبار(1).

ومن ثم كان النموذج البديل ينطلق من : رفض اليقين الكامل مع الاجتهاد المستمر ؛ فالوصول إلى الحقيقة المطلقة أمر مستحيل . ورفض الاعتقاد بإمكانية التحكم الكامل في الواقع، وإنّما محاولة الاستفادة منه والاتزان معه وإعماره والمحافظة عليه. كذلك رفض المسيري وهو في سبيل تصوره للنموذج البديل اختزال الواقع إلى عناصره الأولية أو تصفية ،الثنائيات، فلا يمكن تصفية الفرد من أجل الدولة، ولا الماضي من أجل الحاضر ، ولا الإنساني من أجل الطبيعي. كذلك رفض المسيري الواحدية السببية في مجال العلوم، فوحدة العلوم ،مستحيلة، إذ لابد أن يوجد علم للظواهر الطبيعية وآخر للظواهر الإنسانية. كما دعا إلى محاولة الوصول إلى نظرية شاملة تعرف مسبقًا أنها لن تصل إلى التفسير النهائي والمطلق الذي يظل حلمًا يداعب خيال الإنسان ويغويه وأن يكون النموذج البديل توليدي لا تراكمي، ينطلق من مقولة الإنسان باعتباره مركز الكون وسيد المخلوقات. وأن يكون من الضروري وجود مقولة تفسيرية غير مادية تشكل ثنائية كبرى هي ثنائية الخالق والمخلوق تتفرع عنها كل الثنائيات الأخرى. وأن يكون النموذج البديل نابع من التراث متحيز له لا يصطدم معه بل يتوافق مع متطلباته. وأخيرًا ، أن يفصل الحداثة عن الاستهلاكية ومفهوم التقدم المادي والفردية المطلقة، أي لا يجعل الهدف من الحياة هو الاستهلاك بدلاً من أن تكون إنسانيتنا المشتركة هي محط اهتمامنا وألا يجعل من كثرة الاستهلاك مقياس التقدم والتحضر(2).

وهذا النموذج البديل يأخذ بنظرية ما بعد الاستعمار خطوات مهمة إلى الأمام؛ حيث إنّها لا تتوقف فقط عند النظرة التفكيكية النقديّة من الغرب، بل تحاول تقديم

ص: 157


1- أنظر، المرجع السابق، ص 284-288.
2- أنظر ، المرجع السابق، ص 288-305

نموذجًا بديلاً يُمكِّنُنا من الوقوف أندادًا للغرب دون أن يكون اللحاق بالغرب فقط هو هدفنا الأسمى.

خاتمة

وهكذا يتبين مما سبق أنَّ نظرية «ما بعد الاستعمار» - التي كان أهمّ من وضع لبناتها الأولى الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد ونقلها المصري عبدالوهاب المسيري نقلة نوعية إلى الأمام بفكرته عن النموذج البديل للنموذج الغربي - نظرية اهتمت بتحليل الخطاب الغربي بوصفه خطابًا أيديولوجيًا يحمل في طياته توجهات استعمارية إزاء كافة الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية. وانطلقت من رؤية مفادها أن البلدان المستعمرة سابقًا مازالت خاضعة ثقافيًا واقتصاديًا للدول الغربية الكبرى، ومن ثمّ كان هدفها الأول مجابهة هذا الفكر الإمبريالي الغربي، وتقويض مقولاته التي يرتكز عليها، وذلك باستخدام آليات ومنهجية متداخلة؛ للوقوف في وجه هذا التغريب، وذاك التعالي، وتلك الرغبة في الهيمنة على حساب الآخر؛ لتضع حدًا لتلك العلاقة الشائنة، علاقة الغربي المُستغِل بالشرقي المُستغَل.

وتميزت هذه النظرية عن النظرية الكلاسيكية لمقاومة الغزو الفكري أو النظريات التقليدية المجابهة للاستعمار أنها حاولت كشف فضائح العقل الغربي المتعصب والإمبريالي الذي رسم صورة زائفة للآخر على أنه غير حداثي وغير ديمقراطي وبربري بغية تبرير الاستعمار. ولذا انصبت مواجهتها على تفكيك وتقويض تلك المزاعم الاستعمارية، وشرعت في تقديم نموذجاً بديلاً نابعًا من الشرق مراعيًا لخصوصيته، ولا يضع صوب نظره اللحاق بالغرب كغاية قصوى.

وإذا كانت نظرية «ما بعد الاستعمار» تدين الغرب وادعاءاته الزائفة، كما تدين رؤيته الأيديولوجية للشرق والتي أصبحت كحقيقة كامنة في الوعي الغربي. فإنها أيضًا تحاول أن تتصدى لانبهار الوعي الشرقي بالغرب؛ حتى يمكن أن يقف الشرقي إزاء الغرب وقفة نقدية. فالتوصل إلى مثل هذه الرؤية النقدية هو بمثابة خطوة أساسية

ص: 158

نحو التحرر من التبعية الغربية والهيمنة الاستعمارية والتحيز الكامن في وعينا للنموذج المعرفي الغربي.

كما تُظهِر «نظرية ما بعد الاستعمار» أن التحدي المثير الذي يواجه الغرب اليوم هو ضرورة أن يعود إلى ضرب من النقاء، وأن يتخلى فورًا عن النقاء، وأن يتخلى فورًا عن خطابه المبني على ،الإخضاع والاستعلاء والرغبة في الهيمنة والسيطرة والاستعمار، والتمييز النوعي والعرقي والجنسي والديني والطبقي. فعلى المثقف الغربي أن يتخلى اليوم عن تسييس الثقافة، وأن يضطلع بدوره الأساس وهو مضاعفة الوعي وتحمل مسئولية مجتمعه، لا خداعه بتقديم صورة زائفة للشرق ترضي أطماع الغرب الإمبريالية، مفادها أن الشرق بأسره شعوبًا وأصقاعًا خاضعة ودونية.

ومما لا شك فيه أن نظرية«ما بعد الاستعمار» قد تأثرت بأبحاث «ما بعد الحداثة»؛حيث ساعد مفهوم دريدا عن «الميثيولوجيا البيضاء» مع كتاب «ميثيولوجيات بيضاء» للباحث الإنجليزي رورت يونج (Young حول نقد المركزية الغربية التي بدت من خلالهما محض أسطورة إضافة إلى سعي ما بعد الحداثة إلى محاولة إثبات تهافت السرديات الكبرى، مما أعطى منظري ما بعد الاستعمار الجرأة على طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى ومحاولة تفكيك الأيديولوجيات الغربية الطاغية اليوم. وما زالت نظرية «ما بعد الاستعمار» حتى اليوم تحتاج إلى مزيد من التحديدات والتنظيرات حتى تبدو كنظرية أكثر استقلالاً، وتبدو أكثر تميزاً عن النظريات الكلاسيكية المناهضة للاستعمار.

ص: 159

الإنتلجنسيا القلقة

حالة المثقف العربي في مرحلة ما بعد الكولونيالية

محمد عبد الله(1)

مع بداية القرن الحادي والعشرين عاد السؤال ليُطرح مجدداً وعلى نحو أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى: هل حقاً انقشع ضباب الاستعمار عن سماء الأوطان العربية أم أن ما يعكسه المشهد العام هو على النقيض من ذلك؟.

مثل هذا السؤال يحتاج بطبيعة الحال إلى ترتيبٍ وتصويبٍ ورعايةٍ بعدما انصرم زمن مديد على انشغال النخب العربية على وجه الخصوص والنخب الإسلامية عموماً، بمواجهة الأطروحة الاستعمارية في ميادينها المختلفة. السؤال نفسه يتضاعف حدة وحيوية في أزمنتنا الحاضرة وهو يواجه الأوهام المتجددة التي يحملها شطر واسع نسبياً من المثقفين العرب ويحفظونها عن ظهر قلب. إذ إن من أبرز تلك الأوهام ما يشاع في السنوات الأخيرة عن أن الآلة الاستعمارية الما بعد حديثة هي ضرورة للتخلص من الاستبداد المحلي وإقامة النظام الديمقراطي. مع ذلك فإن وهماً كهذا

ص: 160


1- باحث وأكاديمي - جامعة المنيا - جمهورية مصر العربية.

ما لبث أن تهاوى جرَّاء التحولات العاصفة التي شهدها العالم العربي منذ نهاية القرن الماضي، مروراً بما يسمى بثورات الربيع العربي، وما ترتب عليها من آثار كارثية على وحدة البلاد العربية ومجتمعاتها.

تعيين حدود المفهوم

فی مستهل الحديث عن الإنتلجنسيا العربية نرانا في حاجة لنلقي الضوء على ماهيتها ودورها من أجل أن يشكل ذلك مدخلاً لمقاربة مواقفها في المرحلة ما بعد الكولونيالية. والحقيقة أن ثمة صعوبة بالغة في تحديد هويتها وحدود تعريفها، حتى يكاد لا ينعقد اتفاق دقيق حول معناها»(1). في وقتنا الراهن شاع استخدام كلمات مثل المثقف والأديب والعالم والمتعلم والفنان للدلالة على المعنى نفسه، وعلى الجانب الأخر من العالم وفي اللغات الأوروبية الحديثة استخدمت كلمات شتى أيضا منها على سبيل المثال : المتعلم Educated والمثقف «Cultured» والمثقف النشيط «Intellectual» وتلك الكلمة وإن كانت هي الأكثر رواجاً وقرباً إلى المصطلح العربي، إلا أنها تتداخل في اللغات الأوروبية مع المصطلح الذي نحن بصدده الآن« Intelligensia». في هذا المضمار يرى عالم الاجتماع الأميركي ادوارد شيلز أن الشخص المتعلم الذي لديه طموح سياسي، إما بصورة مباشرة من خلال السعي ليكون حاكماً لمجتمعه أو بصورة غير مباشرة عبر السعي إلى صياغة ضمير مجتمعه. ويشير إلى أنّه بسبب العدد الفقير نسبياً للمثقفين في الدول النامية فإن الأشخاص ذوي التعليم المتقدم يجب أن نعتبرهم طبقة مثقفة (2)أما نظيره لويس فويير «Feuer» فقد بين أن «المثقف هو المتعلم والمهني من الطبقة الوسطى الذي يختلف عمن يعمل بالصناعة والتجارة من الطبقتين العليا والدنيا»(3).

ص: 161


1- الزيات السيد عبد الحليم، المثقفون المصريون بين جدليات النشأة وإشكالية الفعل مجلة الوحدة، العدد 66، مارس 1990 م، ص 147.
2- for mor .please look, Edward, shills : the intellectuals and power, and other essays, (Chicago, . university 1972). pp 29 - 27.
3- Lewis, feuer, s, Ideology and 3. Ideologistis, basil Black Well, Oxford, 1975, pp202/205)

الإنتلجنسيا إذاً، هي قيمة مفهومية ذات مدلول تاريخي - اجتماعي يشير إلى المتعلمين تعليماً عالياً وحديثاً(1)، ونستطيع أن نقول باختصار أن الذين ينتسبون إليها هم طبقة اجتماعية تشارك في عمل ذهني معقد يهدف إلى التوجيه والنقد والتقويم، أو لعب دور قيادي في تشكيل ثقافة المجتمع وسياسته»(2). وهنا قد تشمل الإنتلجنسيا الفنانين ومعلمي المدارس والأكاديميين والكتاب والصحفيين وغيرهم ممن يُطلق عليهم بشكل واسع صفة مثقفين. أما دورهم في تنمية المجتمع فهو محط جدلٍ واسع. ففي حين لم يكن إيجابياً في حالات تاريخية كثيرة، فإنهم يساهمون في المقابل بدفع المجتمع إلى مستويات تقدم كبيرة، وقد يلعبون دوراً في تعزيز حركاته المختلفة(3). وقد ظهرت هذه الطبقة بمعناها الاجتماعي في بولندا في خلال عصر تقاسمها . ثم ظهر المصطلح في أعمال الفيلسوف الألماني هيغل في أربعينيات القرن التاسع عشر لوصف فئة متعلمة ومهنية من البرجوازيين الوطنيين الذين أصبحوا قادة روحانيين في بلد خاضع لقوى أجنبية.

لا شك بأن ضبط حدود هذا المصطلح بالعربية يعني بذلك الفئة المثقفة أو النخبة المثقفة، التي هي محور بحثنا. لكن المسألة هنا لا تتوقف على الجانب الاصطلاحي والكيفية التي قارب فيها العقل الثقافي العربي تعريف الحقل الذي يعمل فيه. ذلك أن محور الإشكالية هو تأثر البنية الفكرية للإنتلجنسيا العربية ببقايا الاستعمار في فترة الكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية. ذلك لأن أي تأثّرٍ بالثقافة الاستعمارية هو دليل على حضور المستعمِر داخل البنية الثقافية العربية، وعلى دوره الوازن في التأثير والتوجيه معرفياً وثقافياً وفكرياً واقتصادياً.

أما في ما يتصل بمفهوم (ما بعد الكولونيالية post-colonialism/postcolonialism)

ص: 162


1- نعیمه بن خدة، المثقف و، عند إدوارد سعيد مفهوم المثقف رسالة ماجستير في الفلسفة كلية العلوم پالاجتماعية، جامعة وهران الجزائر العام الجامعي العام 2011 / 2012 م، ص .18
2- Intelligentsia in Merriam-Webste Online- نسخة محفوظة 07 يناير 2008 على موقع Wayback Machine
3- 6-Tomasz Kizwalter (2009). "[The History of the Polish Intelligentsia until 1918» (PDF). Acta . 2016 22 Mar في 29 أغسطس 2017. اطلع عليه بتاريخ (PDF) تمت أرشفته من الأصل .Poloniae Historica 09

وكيفية التعاطي معه معرفياً من جانب النخب العربية المعاصرة، فنستطيع القول أن النخب المشار إليها انساقت في الغالب الأعم إلى سَيْل التعريفات التي صدَّرتها التيارات النقدية الغربية خلال القرن العشرين المنصرم. ففي المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كان للدولة ما بعد الكولونيالية، أثرٌ تاريخي تسلسلي واضح على نخب البلدان المستعمرة على هذا الأساس راح النقاد يستخدمون هذا المصطلح في أواخر السبعينات من القرن الماضي لمناقشة الآثار الثقافية المتعددة للاستعمار(1). هناك بالطبع تعريفات عدة حاولت رسم حدود مصطلح ما بعد الكولونيالية وفقا لأطر وتجارب تاريخية متفاوتة. فقد عرفه دوغلاس روبنسون بأنه «دراسة جميع الثقافات/ المجتمعات/ البلدان/ الأمم من حيث علاقات القوة التي تربطها بسواها من الثقافات/ المجتمعات/ البلدان/ الأمم ؛ أي الكيفية التي أخضعت بها الثقافاتُ الفاتحة الثقافاتِ المفتوحةَ لمشيئتها ؛ والكيفية التي استجابت بها الثقافات المفتوحة لذلك القَشر، أو تكيفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه . وهنا تشير الصفة «ما بعد الكولونيالية» إلى نظرة النخب النقدية في أواخر القرن العشرين إلى علاقات القوة السياسية والثقافية، أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كلّه»(2)وحسب «دوغلاس» أيضاً، النظرية ما بعد الكولونيالية هي - دراسة مستعمرات أوروبا السابقة بعد استقلالها؛ وكيف استجابت لإرث الكولونيالية الثقافي، أو كيف تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه. ومما يبدو للقارئ أن المصطلح انضم إلى مصطلحات «الما بعديات» مثل مصطلحات «ما بعد الحداثة» و«ما بعد البنيوية» و«ما بعد النسوية» و«ما بعد الاستقلال»، والتي تنبأ باستمرارية الالتصاق بالفترة ذاتها، وتعامل معها كما لو أنها فترة لم تنته.

ص: 163


1- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هيلين تيفين دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي / أيمن حلمي / عاطف ،عثمان دار ابن خلدون ص 282-283
2- دوغلاس روبنسون: الترجمة والإمبراطورية الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة، ترجمة ثائر ديب، مجلة نزوى، العدد 20، 45-07-2009.
ما بعد الكولونيالية في تعاملات نخب العالم الثالث

تُظهر القراءات التاريخية أن الإنتلجنسيا العربية قد تأثرت تأثراً كبيراً بالكولونيالية بصيغتها الكلاسيكية، وكذلك المستحدثة. وهو ما يبدو بوضوح فيما نشهده اليوم من تبعيات بيِّنة للخطاب الغربي في مستوياته وتجلياته الفكرية والمعرفية المختلفة. في مقابل ذلك سوف نشهد بصورة مبكرة على محاولات جادة بادرت إليها نخب عانت بلادها ومجتمعاتها من تسلط استعماري بعيد الأثر، سواء عبر الاحتلال المباشر أو عبر الوسائط الثقافية والأكاديمية والاقتصادية المختلفة.

من النخب المنتسبة إلى ما سمي ب «العالم الثالث» كان أول من دخل السجال بقوة لمناقشة مصطلح الكولونيالية الجديدة (neo-colonialism)، هو «كوامي نكروما» الرئيس الأول لغانا المستقلة. والمعروف أن نكروما هو من أبرز الدعاة للوحدة الإفريقية بحسب ما جاء في كتابه «الكولونيالية الجديدة: المرحلة الأخيرة للإمبريالية 1965م». وقد شاع بين الأوساط الثقافية، ما طرحه في كتابه المذكور حيث قدم تعريفاً مطوراً للإمبريالية باعتبارها المرحلة الأخيرة للرأسمالية. فقد ذهب نكروما إلى نقد الإمبريالية الجديدة التي سعت إلى الإبقاء على هيمنتها على البلدان المستقلة أفريقيا وآسيا، حيث أن بقايا القوى الكولونيالية السابقة والقوى العظمى الجديدة الصاعدة على المشهد العالمي، ظلت تلعب دوراً حاسماً في مصائر هذه الدول عن طريق تثبيت الأسعار في الأسواق العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، والاتحادات الاحتكارية، إضافة إلى تنويعة من المؤسسات التعليمية الثقافية الموجهة. ويكشف «نکكروما عن حقيقة أن الكولونيالية الجديدة كانت أكثر دهاءً وأبرع تخفيّاً وأصعب في الكشف عنها وتحديد معالمها ومقاومتها من الكولونيالية الصريحة، الأقدم، وبذلك فإن الكولونيالية الجديدة هي الشبح الخفي ،للإمبريالية ورمز لاستمرارية الهيمنة والسيطرة من تلك القوى(1).

ص: 164


1- الزيان - المثقفون المصريون بين جدليات النشأة واشكالية الفعل - مصدر سابق.
ازدواجية العقل النخبوي العربي

الاستعمار في ثوبه الجديد في مرحلة ما بعد الكولونيالية هو استعمار بديل عما سبقه من أنماط استعمارية إلا أنه لم يقطع مع هذه الأنماط. ولعل ميزته اليوم أنه غزو فكري وثقافي لتشكيل منظومة محلية ذات جاذبية فكرية ومعرفية تتولى الإنتلجنسيا نفسها تسويق ثقافة الهيمنة الاستعمارية وهي على قناعة بما تصنع تلك اللعبة الإمبريالية تبدو في ظاهرها شديدة الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث لا يستطيع كل من يراها مقاومة خطابها وآليات عملها، فهذا هو الأسلوب الجديد لاستمرارية الاستعمار الماكر ذو الدهاء الفائق لفرض السيطرة على جمیع المستويات الثقافية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.

ثمة من يذهب إلى القول تبعاً لواقع الحال أن مصطلح - ما بعد الكولونيالية - لم يرسخ بعد في أوطاننا. فنحن على الحقيقة ما زلنا في حالة احتلال الأدوات اختلفت والغزو واحد، ذلك بأن الهيمنة لم تنته كما توهمنا بل نحن ما زلنا في حال متأرجحة من الازدواج الوجداني بين رفض بعض الإنتلجنسيا العربية وقبول البعض الآخر من «طبقة الوكلاء». ولهذا تتأتى إلزامية دور الإنتلجنسيا العربية لكي تقوم بمهمتها بمهارة وحنكة. إما أنها تعي هذا الوضع الخطير حقاً أو أن تستغرق بذلك الضباب الكولونيالي الجديد.

وقد يبدو أثر (الازدواج الوجداني : The Ambivalence) واضحاً على الإنتلجنسيا العربية. الأمر الذي يعكسه بقوى ذاك المزيج المركب من الانجذاب والنفور الذي يسم العلاقة بین المستعمِر والمستعمَر. ومثل هذا الوصف الذي أدخله «هومي بابا» (1)إلى نظرية الخطاب الكولونيالي حيث وصف «بابا» هذه العلاقة بأنها متأرجحة، لأن الذات المستعمَرة ليست مناهضة للمستعمر ببساطة وبكل معنى الكلمة على طول الخط بل هي تجمع بين الاعتراض والتواطؤ وهكذا يوحي

ص: 165


1- مفكر هندي يُنظر إليه بوصفه أحد أبرز الكتاب الذين ساهموا بكشف الآليات السوسولوجية والثقافية للاستعمارية المتجددة في آسيا وأفريقيا.

مصطلح الازدواج الوجداني بأن التواطؤ والمناهضة يتساوقان في علاقة متأرجحة داخل الذات الكولونيالية. ويبدو من هذا المصطلح أن الآثار المترتبة على ظهوره ذات اتجاهين: فالأول يعكس خطورة هذا المصطلح الذي يخلخل السلطة القاطعة الخاصة بالهيمنة الكولونيالية والثاني يفصم عُرى العلاقة البسيطة بين المستعمِر والمستعمَر. على ذلك فالازدواج الوجداني هو ملمح غير مرغوب فيه داخل الخطاب الكولونيالي بالنسبة للمستعمِر. وهكذا تكمن مشكلة الخطاب في أنه يريد خلق متلقٍّ سهل الانقياد وبحيث خاضعاً يعيد إنتاج المستعمر وعاداته وقيمه. لكن بدلا من ذلك، أنتج الخطاب الكولونيالي تابعين مزدوجي الوجدان لا ينأى تقليدهم له كثيراً عن الاستهزاء. إن هذه العلاقة المتأرجحة بين التقليد والاستهزاء التي يسببها الازدواج الوجداني تؤدي إلى إرباك الهيمنة الكولونيالية، حيث إن الأسلوب الذي يُعرض به هذا المصطلح وارتباط الخطاب الكولونيالي بالذات المستعمَرة، قد يكون استغلالياً وإنمائياً في الوقت عينه ، لذا «ينظر إلى هذه العلاقة على أنها علاقة (متكافئة القوة:ambi-valent) (ازدواجية السلطة: dvoevlastie ). ويكمن تأثير هذا الازدواج الوجداني - الانجذاب المتساوق مع النفور - في توليد خلخلة عميقة لسلطة الخطاب الكولونيالي» (1). وهذا أيضاً يوضح الفارق بين الذوات المناهضة وتلك المتواطئة من الإنتلجنسيا العربية لجهة تأثرها بالخطاب الكولونيالي وما إذا كان لا يزال مستمراً إلى فترة ما بعد الكولونيالية. ذلك على الرغم من أن هذا الازدواج الوجداني بما استثاره من قضايا جدلية عند «هومي بابا»، أفسح المجال لبروز تلك القضية المقترحة (poroposition). حيث يحتج «بابا» بأن الخطاب الكولونيالي مدفوع لأن يكون ازدواجياً ، لأن الخطاب لا يرغب حقاً أن يكون الشعب المستعمَر نسخة طبق الأصل من المستعمِر فلئن حدث هذا لكان برأيه أمراً باعثاً على الشعور بالتهديد إلى حد بعيد. ففي هذه الحال يصير المهمَّش يفكر بعقلية المركز وهذا في حد ذاته يناقض النظرية الإمبريالية، فيؤدي إلى ما يسمى بالإزاحة والخلخلة للمركزية. وفي هذا ما

ص: 166


1- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هيلين ،تیفین دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي / أيمن حلمي / عاطف ،عثمان دار ابن خلدون ص 62

يشكل إضعافاً للهيمنة والسيطرة ويؤكد على إنتاج ثنائية سلطة. لذا كان الاتجاه الآخر لمفهوم - الازدواج الوجداني - مقصوداً من قِبَل المستعمِر حتى لا تصل النتائج إلى زحزحة المركز وقوته الإمبريالية المتمكِّنة. هنا يذكر «هومي بابا» مثالاً على «تشارلز جرانت» الذي أراد في عام 1792م أن يغرس الديانة المسيحية في عقول الهنود، غير أنه اعرض عن ذلك لأن القلق ساوره من أن يدفعهم ذلك إلى أن يتحولوا إلى «مشاغبين لأجل الحصول على الحرية»(1). لقد انتهى جرانت حل مفاده مزج العقائد المسيحية بالممارسات الطبقية الهندية (caste) المسببة للشقاق حتى تثمر «إصلاحاً جزئياً» لا متكاملاً، والذي يمكن أن يُحدث تقليداً فارغاً للعادات الإنجليزية، حيث يبقي على بعض من الفوضى التي تشغلهم عن مساعي التنمية والإصلاح المتكامل. فالإبقاء على ذلك الجزء من الفوضى هو مطلب أساسي سياسي للإمبريالية حتى لا يُنقل الصراع إلى داخلها بما يؤدي حتما إلى تقوُّضها، وعليه ستكون مدفوعة لأن تخلق وضعا ازدواجياً تخفي من خلاله ادّعائها بشأن سلطتها المنيعة، معلنة الوهن المستمر للمستعمَر.

عبر تلك الازدواجية الوجدانية تأثر القطاع المناهض للكولونيالية من الإنتلجنسيا العربية في فترة ما بعد الكولونيالية فالمناهض العربي كان على طول الخط منفعلاً بحجم المؤامرات التي تحاك لبلاده. لقد بدا له السيطرة الإمبريالية المستمرة في أثواب عدة، تعكس حالة مربكة لا ينفصم عراها من الفعل الكولونيالي وجد نفسه إما إمبريالية مثلثة الأضلاع تهيمن عليه دفعة واحدة: الكولونيالية والكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية. حيث إن المناهضين تنبَّهوا لما كان واضحاً وجليّاً في طيات حديث المبعوث البريطاني في مصر عام 1859م «ألفرد سكاون»* يومذاك قال سكاون مخاطباً مجموعة المؤتمر الوطني المصري:«احذروا منا فإننا لا نريد لكم شيئاً من الخير لن تنالوا منا الدستور ولا حرية الصحافة ولا حرية التعليم ولا الحرية الشخصية. وما دمنا في مصر فالغرض الذي نسعى إليه من البقاء فيها هو أن

ص: 167


1- بابا 1994 : 87.

نستغلها لمصلحة صناعتنا القطنية في مانشستر، وأن نستخدم أموالكم لتنمية مملكتنا الإفريقية في السودان... لم يبق لكم عذراً إذا انخدعتم في نياتنا بعد أن وضح الأمر فيها وضوحاً تاماً. فاحذروا أن تنساقوا إلى الرضى باستعباد بلادكم ودمارها»(1). هذا الكلام لسكاون يختزل أحد المعاني الحقيقية للهيمنة الكولونيالية. حيث يظهر مدى الخطورة التي تقع على كاهل الإنتلجنسيا العربية ودورها الذي يجب أن يحتل المكانة المركزية من أجل المقاومة للحد من تلك الهيمنة التي تطوق البلاد اقتصادياً وثقافياً. وذهبت النخب الوطنية إلى صياغة خطابها على النحو الذي يجعل إزالة الاستعمار بأشكاله كافة في أمر اليوم. مما يظهر مدى تغلغل تلك الهيمنة والسيطرة على المستوى الثقافي في بلادنا العربية، وهذا ما يؤكد على خطورة ودقة موقف الإنتلجنسيا العربية في التصدي لتلك الأشباح الإمبريالية الخفية وتأثيرها العميق في ثقافتنا العربية والإسلامية.

لكن الوجه الآخر الأشد خطورة في تماهي قطاعات تاريخية وأزمنة من الإنتلجنسيا العربية مع التوقف الكولونيالي والتواطؤ مع تيار الهيمنة الإمبريالية. وهؤلاء هم ما يمكن أن نسميهم ب- ( طبقة الوكلاء comprador). هذا المصطلح الذي تم تطويره بطريقة أشمل في مرحلة ما بعد الكولونيالية ليشمل طبقة من الأكاديميين والكتاب الإبداعيين والفنانين - ممن يتنازلون عن استقلالهم الوطني باعتمادهم على القوة الإمبريالية رهانهم معها. لم يُعد الأمر مقتصراً على البرجوازية المحلية الذين يدينون بأوضاعهم المتميزة للاحتكارات الأجنبية، ومن ثمّ يحافظون على مصلحتهم الراسخة في بقاء الاحتلال الكولونيالي. ولا شك أن تلك الفكرة عن طبقة الوكلاء والتي تفترض وجود هيكل تراتبي واضح ومتسلسل من العلاقات الثقافية والمادية. عليه «فالافتراض الذي يذهب إلى أن طبقة الوكلاء متمايزة بالضرورة وبصورة يسهل

ص: 168


1- ألفرد سكاون بلنت مخاطبا مجموعة المؤتمر الوطني المصري في اقتباس ورد بكتابه التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر الذي تفيد بيانات غلافه بأن الشيخ محمد عبد راجعه و وافق على ما فيه ، ينتمى سكاون لأسرة عريقة تعمل بالسياسة والتمثيل الدبلوماسي في الدول الأوروبية تحول بعد 1859 للترحال في البلاد الشرقية. كون حملة للدفاع عن الزعيم أحمد عرابي بدافع واجبه تجاه مواطنيه في المقام الأول وحقهم في الأطلاع على «الحقيقة الواقعة» ترجم الكتاب ونشر على حلقات بجريدة البلاغ ثم جمع في مجلد وأحد دون تاريخ مدون.

تحديدها عن بقية المجتمع، هو افتراض محل جدلٍ وشكٍ نسبيّاً ممن يحافظون على مقدرة أكثر تطوّراً في انخراطهم في الممارسات التواصلية الدولية التي تطرحها الهيمنة الكولونيالية، وممن قد يظهرون ميلاً أقل، بحكم ذلك، للنضال من أجل الاستقلال الثقافي والسياسي»(1). من الممكن التدليل على أمر كهذا من ملاحظة جد هامة وهي أنه ما من أحدٍ في مجتمعٍ مستعمَرٍ يمكن أن يتجنب بالكلية تأثيرات النفوذ الثقافي الكولونيالي بأطواره وأشكاله المختلفة. في مجتمعات ما بعد الكولونيالية ليست الطبقة البرجوازية وحدها، بأي حال من الأحوال، هي الطبقة الوحيدة البين أنها امتلكت «القدرة على النفاذ» إلى الوسائط الثقافية الشعبية مثل التلفاز أو المنتجات الاستهلاكية ضمن الخضوع التام والتبعية المطلقة وحدهما هما من خَلَقَا طبقة الوكلاء، حيث النضال من أجل الاستقلال الثقافي والسياسي والاقتصادي لم يعد ذا أهمية لديهم كما هو الحال من الاستفادة الشخصية من الممارسات التواصلية والانتفاع بما تطرحه الهيمنة الإمبريالية في مرحلة ما بعد الكولونيالية، وبهذا تصبح (النَّفْعيَّة: Utilitarianism) هي القاعدة الأصيلة لديهم، والمنحى البراغماتي أصل يرتكزون عليه، ليقع كامل الضرر على المجتمع عموماً والمواطن بعينه بشكل خاص، حيث إن العَواقب الفِكرِيَّة لطبقة الوكلاء تحركها الأنانية بغض النظر عن إيذاء الآخر وما يقع عليه من أضرارٍ سواء كان هذا الآخر متمثلا في مجتمع أو فرد أو وطن بما يحتويه. وما من ريب في أن هذا التوسع الخطير للنفعية في مجتمعات ما بعد الكولونيالية، أدى من ناحية إلى تشيوُ الذات ونزعها من بعدها الإنساني الأخلاقي ومن ناحية ثانية إلى إضعاف السمات العامة للهويّة الوطنية وخلخلة مفهومها في المجتمع، ليصبح مطلب النفعية مذهباً ومسلكاً سائداً وبذلك يساهم تمكين تلك القوى، وزيادة هيمنتها، وتوسيع رقعة السيطرة الإمبريالية.

مع حضور ذلك الاستحواذ في الخطاب ما بعد الكولونيالية بدا الصراع الداخلي للإنتلجنسيا العربية يأخذ مداه بين «المناهضين» لاستمرارية الهيمنة في مرحلة ما

ص: 169


1- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هیلین ،تیفین دراسات ما بعد الكولونيالية - مصدر سابق - ص 119

بعد الكولونيالية و«طبقة الوكلاء» والاستحواذ (appropriation) مصطلح «يستخدم لوصف الطرق التي من خلالها تستحوذ مجتمعات ما بعد الكولونيالية على تلك المظاهر الخاصة بثقافة القوة الإمبريالية ولغتها وقوالب الكتابة لديها وأفلامها ومسرحها ، بل وحتى على نماذج التفكير وطرق إدارة النقاش علّها تخدمها في صوغ هويّاتها الاجتماعية والثقافية الخاصة. كما تستخدم هذه العملية أحياناً لوصف الإستراتيجية التي تسعى من خلالها القوة الإمبريالية إلى دمج المنطقة أو الثقافة التي تستكشفها وتغزوها بوصفها منطقة أو ثقافة مملوكة لها»(1)، وبهذا بات الصراع يحمل عبء الخبرة المتجددة التي استمدتها الإنتلجنسيا العربية من اختبارات «المناهضين» و«طبقة الوكلاء» وتحولت إلى نمط ثقافي سائد في المجتمعات العربية. وما بين استكشاف الطرق التي تتمكن من خلالها الثقافة المقهورة أو المستعمَرة من توظيف أدوات خطاب تلك القوة المسيطرة والمهيمنة من أجل استخدامها لمقاومة استمرارية سيطرتها سياسياً وثقافياً، فقد تحول استخدام تلك الأساليب والطرق ليكون مادة خصبة في الصراع الداخلي بين شرائح الإنتلجنسيا العربية. فقد بدت تلك الطرق ذات فعالية بيِّنة في نطاق اللغة ونطاق النصيّة. ففي هذين النطاقين الاستحواذ بين تشكّلات القوالب الخطابية من أجل التعبير عن خبرات ثقافية متباينة على نحو واسع، وإقحام هذه الخبرات في الأساليب السائدة للتمثيل حتى بلغت أوسع نطاق من التلقين. وباستحواذ الإنتلجنسيا العربية على السيف الذهبي أو الدرع الإمبراطوري متمثلاً في لغة القوة الإمبريالية ،«وأشكالها الخطابية، وأساليبها في التمثيل تصبح مجتمعات ما بعد الكولونيالية قادرة في مثل هذه الحال على الدخول بسهولة أكبر في الخطاب السائد أو إقحام مفردات واقعها الثقافي في اللغة السائدة لوصف ذلك الواقع لجمهور واسع من القراء»(2) من هنا سنلاحظ له أربعة أوجه لظاهرة الاستحواذ، فالمناهض لاستمرارية الهيمنة الإمبريالية يوجه خطابه حيناً ضد الهيمنة وحيناً آخر ضد طبقة الوكلاء، باعتبارها الشريحة التي تتولى تسويق الخانة الإمبريالية. وعلى

ص: 170


1- سبير 28 : 1993.
2- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هيلين تيفين دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي / أيمن حلمي / عاطف ،عثمان دار ابن خلدون ص 71.

النقيض من ذلك فإن طبقة الوكلاء توجه خطابها بالمنطق نفسه ضد الإنتلجنسيا العربية المناهضة، ساعية إلى نقض ثقافتها وترسيخ الهيمنة الإمبريالية بوصف كونها كومبرادور معرفي. وبهذا قد تم استخدام الاستحواذ في خطاب ما بعد الكولونيالية داخلياً وخارجياً، ومع استمرارية الهيمنة وإطفاق الصراع الداخلي للإنتلجنسيا العربية لعبت (الثنائية (binarism دورها الأخطر في التصعيد بين اتجاهات الإنتلجنسيا العربية، ما أدى إلى ضربٍ من عدم الاستقرار في المجتمعات المستعمَرة.

التشظي المعرفي للإنتلجنسيا العربية

لو عرجنا قليلاً نحو معرفة آفاق وأبعاد التناقض الحاصل بين الاتجاهات الرئيسية للإنتلجنسيا العربية، سوف نجد أنه يعكس أهم الدلائل على استمرارية الهيمنة الإمبريالية وتعميق سيطرتها وقوة تأثيرها في المجتمعات العربية ومجتمعات العالم الثالث في مرحلة ما بعد الكولونيالية «ويعدّ المنطق الثنائي للإمبريالية تطوراً في ذلك النزوع الذي يبديه الفكر الغربي بوجه عام نحو رؤية العالم في ضوء التقابلات الثنائية التي تؤسس علاقة هيمنة وتسيّد ويمثل التمييز البسيط بين الثنائيات - (المركز /الهامش المستعمِر/ المستعمَر الإمبراطورية/ عاصمة المستعمرة، متحضّر/ بدائي)- بفعاليّة كبيرة التسلسل الهرمي الجائر الذي تقوم عليه الإمبريالية وتخلّده. تتصل المتقابلات الثنائية بنيوياً بعضها ببعض، وفي الخطاب الكولونيالي قد يكون هناك شكل مختلف للثنائية الجذريّة الواحدة - مستعمِر/ مستعمَر - حيث يعاد التعبير عنها في أي نصّ معين بعدد من الطرق مثل : المستعمِر: المستعمَر أبيض: أسود متحضّر : بدائي .. إلخ» (1)وبناء على هذا المنطق الثنائي يبدو هذا المفهوم مع إمكانية قراءة هذا البنيان من اليمين إلى اليسار أو من أعلى إلى أسفل ليمهد الفكرة نفسها للمتلقي ويؤكد عليها، وهكذا تصبح كلمات (مثل (المستعمِر، والأبيض، والإنساني، والجميل)، جملة ضد (المستعمَر، والأسود والوحشي، والقبيح). لذا فإن صناعة

ص: 171


1- المرجع نفسه، ص 76، 77.

العنصرية، وخلق التمايز بين الفرد والآخر هي في جوهرها صناعة إمبريالية محضة، فكانت رمز التطرف في عين الآخر، ليحتلّ المفهوم الثنائي أهمية كبرى في تشكيل المعاني الأيدولوجية بصفة عامة، ويعدّ مفيداً للغاية في بنية الإيديولوجيا الإمبريالية.

ولعل ظهور موجة نهاية المفاهيم مثل:«نهاية التاريخ ، ونهاية الأيديولوجيا ثم ظهور نظريات «الما بعديات». قد وضح هذا العمق الذي تَوجّب فيه وجود هذا التسلسل الهرمي الجائر (violent) التي اكتظت به تلك الثنائيات، حيث يلزم أن يكون أحد مصطلحي التعارض مهيمناً على الدوام مثاله (هيمنة الأغنياء على الفقراء، والسلطة على الرعية والمستعمر على المستعمَر ، والأبيض على الأسود...إلخ)، في حين أن وضع المقابلات ويظهر ويبيِّن مدى الهيمنة والتسيّد الملحوظ. ذلك يعني أي نشاط أو حالة لا تنطبق عليها مقاييس المقابلة الثنائية سوف تكون خاضعة للقمع أو اعتبارها فئة شائنة، وبهذا التشكل لتلك الفئة التي ساعد على تكونها هذا المفهوم أخضع الفئة نفسها لتصبح ضمن نطاق «التابو»، أو جعلها طقس انتقال *((1)) أي أن هذه الفئة تصير أشبه بالوضعية التي تتوسط الطفولة والرشد - أي مرحلة الشباب - بوصفها فئة شائنة، لذلك لطالما تخضع الفئة المشار إليها لقدر كبير من الريبة والقلق، تقع بين دفتي ثنائية (المستعمِر / المستعمَر)، على سبيل التمثيل، سوف تعاني دلالات الازدواج الوجداني الحاد والذي يتجلى إما في التقليد أو في المناهضة بشدة أو بالهوس للحفاظ على الهويّة، أو الانفصام الثقافي أو للميل لجانب دون آخر في تلك الثنائية، مما يفضى إلى نشوء تطرف ولدته الإمبريالية في إطار صناعتها للعنصرية لتكون رمزاً إضافياً في بنيتها الإيديولوجية، وبالتالي التأكيد على أن أحد أهم قواعد استمرارية الإمبريالية وقوتها يكمن في خلق تلك الفرقة والتنازع الدائم بين الشعوب، ونموذج التاريخ العربي واضح وضوح شمس الظهيرة في هذا المضمار.

ص: 172


1- riter of passage: مصطلح يشير إلى حدث ،احتفالي، مرصود في كل المجتمعات المعروفة تاريخيا، يمير من حالة اجتماعية أو مكانة دينية إلى غيرها. كان أول من سكّ المصطلح « أرنولود فان جينيب» ( 1873 – 1957 ) في مؤلفه الأشهر ( طقوس الانتقال 1909) rite of passage (Encyclopedia Britannica from Encyclopedia .(Britanica 2007 Ultimate Reference suite: (2010

ومن خلال هذا المفهوم تتبدى لنا ثنائية المحاور داخل حقل نشاط الانتلجنسيا العربية. وقد جرى ذلك على الإجمال بين «المناهضين» وطبقة الوكلاء. ولقد أدت هذه الثنائية إلى نتائج متناقضة. فمن ناحية سلّطت الضوء على الفضاءات البينية التي تخلخل نظرية ما بعد الكولونيالية ، ومن ناحية أخرى أزالت الغموض عن طبيعة العلاقات البنيوية للنظام الثنائي ذاته، ثم كشفت ثالثاً عن التناقضات الجذرية للنظام الإمبريالي. والمعروف أن هذا الأخير يتضمّن على سبيل المثال، ثنائيات شديدة الوطأة مثل: (متحضر إنساني حامل مشعل الاستنارة : (enlightener في مقابل نعت المناهضين من النخبة العربية المثقفة بنعوت مذمومة مثل: (بدائي، وحشي متلقي الاستنارة enlightened). وبهذه الطريقة تميط نظرية ما بعد الكولونيالية اللثام عن التناقض العميق في بنية العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي يمكن أن تحط من قدر شخص أو تضفي عليه مثالية، أو تسمه بالشيطانية أو تخلع عليه صفات سلبية لا حصر لها. في حين توظف كل إمكاناتها لتحسين صورة التابعين لها من الوكلاء المحليين.

وحيث إن هذا النوع من الإنتلجنسيا العربية بعدما عانت طويلاً من التهميش، وأصبحت المركز بدلاً من الكولونيالية في مرحلة الكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية، باتت هي الفئة الأخطر على المجتمع، حيث لها الكلمة المسموعة والتغلغل العميق بين جميع الأوساط والفئات المجتمعية. ففي حال تمكنت تلك الهيمنة الإمبريالية وسيطرتها على جزء منها ، صارت هي المحرك الرئيسي بطريق غير مباشر للمجتمع أو على الأقل لها ذراع في التأثير والتوجيه، ولعل ذلك ما جعل نديم البيطار يسأل السؤال المشاع في الأوساط الثقافية.

يظل السؤال المركزي الذي لا نجد إجابة عنه هو التالي: ما هي الإمكانية الحقيقية لبروز دور تغييري مركزي للمثقفين العرب في ظل الأوضاع القائمة؟. وهل يستحقون حقا كل هذا النقد الشرس الموجه لهم، وتحميلهم المسؤولية الكبرى في حصول التخلف والتجزئة والتبعية للخارج؟

ص: 173

ما من شك أنه من الصعب أن يحدث ذلك التغيير ما دام الدور المركزي للإنتلجنسيا العربية غائباً أو مغيباً، بسبب من استمرار الصراع الأهلي من جهة أو في مواجهة السلطة . ولعل بسط الهيمنة الإمبريالية وظهور النفعية والبراغماتية والاستبداد السلطوي، يشكل حائطاً منيعاً أمام المناهضين من الإنتلجنسيا العربية من اتخاذ خطوات تقدمية تحررية من تلك الهيمنة والتقليد المسيطر على العالم العربي، بل ربما يبقي تلك الهيمنة ذات مكانة مركزية مع التهميش المتعمد للمناهضين لها من الإنتلجنسيا العربية.

وكما جاء في مستهل هذا البحث، فإذا كانت الإمبراطورية المهيمنة على هذا القدر من الاقتدار فذلك لا يعني بالمرة أن الفكر ما بعد الإمبريالي هو قدر يستحيل رده، فالإنتلجنسيا العربية المناهضة، وبعد أن امتلكت أدوات الخطاب، تستطيع أن تصوغ استراتيجية ثقافية فاعلة وتؤسس حراكاً ثقافياً ضد التجزئة والتخلف، حينئذ ستكون لعبت دورها بحنكة ومهارة يفوق ذكاء ذلك الشبح الخفي الذي يقود الزمن ما بعد الكولونيالي في المنطقة العربية والإسلامية لذا تستطيع تلك الإنتلجنسيا العربية أن تقود فكرها لتعممه؛ لأن من المؤكد أن خواء العقل هو الأشد سوءاً من أي خواء مشهود في الحياة الإنسانية.

في الراهن، ثمة استعمار من نوع مركب ؛ خفيٌ حيناً وظاهرٌ حيناً آخر، وهو يتوغل عميقاً في كل مجتمعاتنا، ليزاحم هويّات أصيلة. راسخة في عمق تاريخ المنطقة.

ص: 174

ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة

تجربة الجزائر نموذجا

أحمد عبد الحليم عطية(1)

حين كتب سارتر كتابه «عارنا في الجزائر» كان يكشف عن صورةٍ من صور وأشكال العنف والتعذيب وإهدار المستعمر الفرنسي كرامة الإنسان الجزائري؛ مما يتنافى وصورة فرنسا الحرة (2)ويبدو لنا أن الثورة الجزائرية كان لها دوراً في التحول في فلسفة سارتر من المرحلة الفردية العدمية التي يمثلها «الوجود والعدم» والتي تظهر فيها النظرة الاستبعادية العدائية للآخر إلى مرحلة جديدة تقربه من الماركسية، يهتم فيها كثيراً بالآخر عنينا بها مرحلة «نقد العقل الجدلي». وأما كتاباته التي تدين ممارسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر فإنها تعد مثالاً من أمثلةٍ عديدة عن دور المثقفين والفلاسفة الفرنسيين من الثورة الجزائرية.

لم يقتصر دور حركة التحرير على كتابات التنديد بالاستعمار والدفاع عن حق

ص: 175


1- دكتور وباحث في كلية الآداب بالقاهرة - مصر .
2- انظر العمراني سارتر والثورة الجزائرية مكتبة مدبولي القاهرة، د.ت ودراستنا سارتر والمقاومة الجزائرية، ضمن کتاب سارتر والثقافة العربية، دار الفارابي، بيروت 2011

وهوية الشعب الجزائري وكرامته، بل مثَّلت دوراً هاماً في وجدان وفكر كثير من المفكرين والفلاسفة الذين ارتبطوا بوطنهم وهو الأمر الذي نجده على نحوين: تشكيل الوجدان وبلورة الرؤية الفلسفية . فإلى أي مدى أسهمت ثورة الجزائر وحياة وعمل الكتاب والفلاسفة الفرنسيين بها في تشكيل رؤاهم الفلسفية؟

يؤكد الجزائري محمد حصحاص في دراسته «نظرية ما بعد الاستعمارية ومخلفاتها الفكرية في عصر ما بعد الحداثة وما بعد العلمانية» أن الفلاسفة والمنظرون الجدد يرون أن نظرية ما بعد الاستعمارية هي التي أسست لفكرة ما بعد الحداثة، لأنها هي التي تتجرأ الآن وتطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى وتحاول تفكيك الأيديولوجيات الطاغية، لذلك فهي من نظرت وما تزال لمجتمع ما بعد حداثي، مجتمع وعالم ربما مختلف عن المجتمع الحداثي الحالي الذي نظر له وبناه الغرب.

يؤكد لنا بارت مور جيلبرت في كتابه ما بعد الاستعمار: السياقات الممارسات السياسات على العلاقة بين نظرية ما بعد الاستعمارية وما بعد الحداثة: يقول «يعرّف كتابي هذا نظرية ما بعد الاستعمارية باعتبارها عملاً شكّله في المقام الأول -أو لنقل إلى درجة كبيرة- انتماءاتٌ منهجيةٌ تنتسب إلى النظرية الفرنسية العليا، لا سيّما كل من جاك دريدا( Jacques Derrida) وجاك لاكان (Jacques Lacan) وميشيل فوكو (Foucault) ويعني هذا «تسلل» النظرية الفرنسية العليا إلى تحليل ما بعد الاستعمارية الذي ربما ولّد أكثر المناقشات الراهنة سخونةً، وإثارة للتطرّف، سواء بالقبول أو الرفض».

معنى ذلك أن الخطاب ما بعد الاستعمارية يعتمد بشكل رئيسي على وحدة المعرفة وعلاقات القوة وترابط الاثنين بشكل وثيق. فقد كان ميشال فوكو من أوائل المفكرين الذين وضعوا بشكل متكامل ومترابط أسس هذه النظرية المعرفية، رغم أن بذورها كانت موجودة في طروحات مفكرين سابقين فهي تنفي ثنائية المعرفة والسلطة وتربطهما معاً في مفهوم واحد. إذا يعتبر مفكرو الخطاب ما بعد الاستعماري، أن تشكيل المنظومة المعرفية الغربية حول المستَعمَر أساسه علاقات القوة داخل

ص: 176

مجتمع الدول الاستعمارية ومن هذا المنطلق يقوم هذا الخطاب على فكرة أن القوى الاستعمارية قامت بتعريف وتحديد ماهية الدول المستعمرة أي «الآخر» وفقاً المنظومتها المعرفية وخدمة لأهدافها الاستعمارية. لذلك عرف المستعمر «الآخر» على أنه غير حداثي، غير ديموقراطي، بربري، وإلى ما هنالك صفات مناقضة من لقيمه المجتمعية بغية تبرير الاستعمار، باعتباره عملاً تنويرياً تجاه السكان الأصليين، في حين أنه يهدف من صميمه إلى تبرير جرائمه واستغلال موارد وثروات الدول المستعمرة.

كما يعتمد خطاب ما بعد الاستعمارية على التفكيكية في قراءة النصوص التي تشكل الركن الأساس في تعريف «الآخر» بغية التمهيد لإخضاعه للسيطرة. وفي هذا الإطار يبرز عمل سعيد الاستشراقي في أنه يقوم بدراسة جيولوجية للمؤلفات الغربية حول الشرق منذ القرن الثامن عشر والتي أدت بحسب سعيد إلى وضع الإطار النظري للاستعمار.

تعد نظرية ما بعد الاستعمارية، كما كتب جميل حمداوي، من أهم النظريات النقدية التي رافقت مرحلة ما بعد الحداثة، ولا سيما أن هذه النظرية ظهرت بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلمية. ومن ثم هو المركز. وفي المقابل، تشكل الدول المستعمرة المحيط التابع على حد تعبير الاقتصادي المصري سمير أمين . ويعني هذا أن نظرية ما بعد الاستعمارية تعمل على فضح الإيديولوجيات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التقويض التي تسلح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (J.Derrida)، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها المتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر: «اهتمام ذي صلة في فكر ما بعد الاستعمار هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. وقد ظهرت هذه النظرية حديثا مرافقة لنظرية ما بعد الحداثة، وبالضبط في سنوات الستين والسبعين إلى غاية سنوات التسعين من القرن العشرين».

ص: 177

وقد طرحت نظرية ما بعد الاستعمارية مجموعة من الإشكاليات الجوهرية التي تتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمر بالشعوب المستعمرة الضعيفة، يذكر منها جميل حمداوي:«كيف أثرت تجربة الاستعمار على هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحية، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحية أخرى؟ كيف تمكنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي ؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات ما بعد الاستعمار ؟ وكيف أثرت النزعة الاستعمارية؟ كيف أثر التعليم الاستعماري واللغة المستعمرة على ثقافة المستعمرات وهويتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة ؟ وما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل المستعمر ؟ إلى أي مدى كان التشكل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا ؟ هل تركز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمارية على فكرة التهجين أكثر مما تركز على الوقائع الفعلية؟

الإشكالية أن هذا المصطلح يشير للوهلة الأولى إلى المرحلة التي تلي الفترة الاستعمارية، إلا أن هذا التوجه الفكري هو أكثر ما يحدر منه الكثير من النقاد، خشية الوقوع في فخ ال-«ما بعد» التي توحي بالكرونولوجية، والتعاقبية، والمرحلية ممّا يوحي بتطابق مصطلح «ما بعد الاستعمارية» ب- «ما بعد الاستقلال»، ومردّ هذه الخشية هو امتداد آثار الاستعمار - السياسية والثقافية على وجه خاص - لمرحلة ما بعد الاستقلال ممّا يجعل السؤال المطروح هو «متى تبدأ ما بعد الاستعمار فعلا؟ وترى مديحة عتيق أن هذه المخاوف تدلّ على غموض مصطلح «ما بعد الكولونيالية»، مما أدّى إلى وضع عشرات التعريفات له، وقد حصر دوغلاس روبنسون ثلاث تعريفات، تذكرها لنا :

التعريف الأوّل: يحدد النظرية ما بعد الكولونيالية في أنها - دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استقلالها؛ أي كيف استجابت لإرث الكولونيالية الثقافي، أو

ص: 178

تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه خلال الاستقلال. وتشير الصفة «ما بعد الكولونيالية» إلى ثقافات ما بعد نهاية الكولونيالية. والفترة التاريخية التي تغطيها هي تقريباً النصف الثاني من القرن العشرين. وفي التعريف الثاني: هي دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استعمارها؛ أي الكيفية التي استجابت بها لإرث الكولونيالية الثقافي، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلبت عليه منذ بداية الكولونيالية. وهنا تشير صفة «ما بعد الكولونيالية» إلى ثقافات ما بعد بداية الكولونيالية والفترة التاريخية التي تغطيها تقريباً الفترة الحديثة، بدءاً من القرن السادس عشر. وهي في التعريف الثالث : دراسة جميع الثقافات المجتمعات البلدان والأمم من حيث علاقات القوة التي تربطها بسواها؛ أي الكيفية التي أخضعت بها الثقافاتُ الفاتحة الثقافاتِ المفتوحةَ لمشيئتها؛ والكيفية التي استجابت بها الثقافات المفتوحة لذلك القَسْر ، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه. وهنا تشير صفة «ما بعد الكولونيالية» إلى نظرتنا في أواخر القرن العشرين إلى علاقات القوة السياسية والثقافية. أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كلّه».

وترى عتيق أن التعريف الأوّل يتطابق مع مفهوم «ما بعد الاستقلال» حيث يركّز الدارسون على التداعيات السياسية والثقافية واللغوية والدينية والأدبية على المجتمعات المستعمَرة سابقاً، المستقلّة حديثاً، ويحتفي النقاد بهذا التعريف لأنّ مجاله محدّد زمنيّاً وإشكاليّاته المعرفية واضحة إلى حدّ كبير. وترى أننا إذا أخذنا الجزائر مثلا على مستعمرات أوروبا السابقة فإنّ مجال النظرية «ما بعد الكولونيالية» يبدأ زمنياً منذ نيل الاستقلال عام 1962م، ويتمحور حول الإشكالات السابقة وإن كان أبرزها قضية الفرانكفونية في مجتمع جزائر ما بعد الاستقلال.

وبخصوص التعريف الثاني فهو يشمل عندها المرحلة الكولونيالية وما تلاها، ويركز على المستعمِر قدر تركيزه على المستعمَر، إذ يلقي الضوء على مناطق عتمة من تاريخ أوروبا الاستعماري، ويطرح أسئلة محرجة عن دوافع توسعاتها وآفاق طموحاتها الكولونيالية. وترى عتيق أننا إذا عدنا إلى مثال الجزائر سنجد أن مجال الدراسة ما بعد الكولونيالية يبدأ منذ 1830م كي يحلّل العلاقات الكولونيالية بين

ص: 179

الجزائر وفرنسا فيقف على سيرورة العملية الكولونيالية وردود فعل المستعمَر نحوها.

أمّا التعريف الثالث فهو الأكثر شمولاً والأوسع طموحاً إذ يشمل العلاقات الكولونيالية في كلّ أنحاء المعمورة وعلى امتداد التاريخ بأكمله، وفي هذا المستوى» تبدو النظرية «ما بعد الكولونيالية» على أنّها طريقة في النظر إلى القوة بين الثقافية، والتحولات النفسية الاجتماعية التي تُحْدِثُها ديناميات الهيمنة والإخضاع المتوائمة، والانزياح الجغرافي واللغويّ. وهي لا تحاول أن تفسّر كلّ الأشياء في هذه الدنيا، بل تقتصر على هذه الظاهرة الواحدة ،المهمَلة، السيطرة على ثقافة معينة من قبل ثقافة أخرى».

نحن نسعى في هذه الدراسة إلى بحث العلاقة بين الجزائر وفكر ما بعد الحداثة إطار مساهمة دراسات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر ما بعد الحداثة في فرنسا. وقد شغل عدد من الباحثين الأوروبيين والعرب بهذه القضية، منهم الإنجليزي روبرت يونغ الذي يجزم بأن نظرية ما بعد البنيوية، وهي تيار داخل فكر ما بعد الحداثة ليست نتاجاً لتحولات المجتمع الفرنسي أو المجتمعات الغربية على نحو مغلق إنما هي عرض ونتيجة للثورة التحريرية الجزائرية والباحث الجزائري أزواج عمر، الذي يرى أن فكر ما بعد الحداثة جزئياً هو فكر الإحساس الأوروبي بالذنب على المستوى الأخلاقي ونقده لذاته ومراجعته التفكيكية لمشروع التنوير والحداثة، الذي زعم أنه نموذج كلي كوني مطلق، وهو المشروع الذي لم ينجح في قهر ثنائيات البنيوية المتضادة مثل: ثنائية التحديث والديمقراطية في الفضاء القومي الفرنسي والاستعمار وتهميش الهوية وفرض الحل العسكري على الفضاء الروحي والثقافي والاجتماعي في جغرافيات المستعمر ومنها جغرافية الجزائر»(1).

بدأ «المزاج» ما بعد الحداثي يتشكل في عقد الستينيات عندما تصادف وقوع تغيرات في المجتمعات الغربية مع تغيرات في التعبير الفني والأدبي. تمثلت التغيرات

ص: 180


1- أزواج عمر: مقاربة أولية لمساهمة علاقات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر (مابعد الحداثة) في فرنسا. مجلة قضايا فكرية الكتاب التاسع عشر والعشرون أكتوبر، القاهرة 1999 ، ص 471.

الأولى في ظهور ما بعد التصنيع والهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية المتسعة وإعلانات الموضة وانتشار الديمقراطية وزيادة عدد المتعلمين وظهور أصوات الثقافات التابعة وانتشار تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال وصناعة «المعرفة»، فضلاً عن التراجع عن كل من الاستعمار والمثالية في السياسة وظهور سياسات جديدة تتعلق بالهوية وتقوم على العرق والنوع والتكوين الجنسی(1).

وعلى هذا يمكننا أن نتبين ثلاثة اتجاهات في تحديد مرجعية فكر ما بعد الحداثة:

- يرى الاتجاه الأول أن ما بعد الحداثة محصلة تاريخية أوربية غربية مموضعاً إياها في الجغرافيات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية الفرنسية - الغربية، كما يوضح ذلك تيرى ايجلتون وكريستوفر نوريس وهارولد بلوم وهابرماس على ما بينهم من تمايزات.

- ويرى الثاني أن الثورة التحريرية ضد الاستعمار الكلاسيكي وضد الاستعمار الجديد لعبت دوراً تكوينياً في بلورة فكر ما بعد الحداثة ومن أقطاب هذا التيار فردريك جيمسون وجورج فندن ابيل وتوماس بايفل وإن كان أيا من هؤلاء لم يدرس عناصر وآليات هذا الدور التكويني وصورة تجلياته في إنتاج فلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة.

- والتيار الثالث هو من أشرنا إليه لدى روبرت يونغ وأزواج عمر الذي يربط، بعد البنيوية وما بعد الكولوينالية، وهو الذي نتابعه في هذه الدراسة.

تلك إشكالية حقيقية شغلت المفكرين والكتاب حتى قبل ذيوع أفكار ما بعد الحداثة والتفكيك ،والاختلاف إن أثر الجزائر في تشكيل الفكر الفرنسي ما بعد الحداثي هام وملحوظ ونحن لا ننكر أن التحولات التاريخية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية الفرنسية/ الغربية في القرن العشرين قد لعبت أدواراً مهمة

ص: 181


1- فردوس عظيم الكولونيالية وما بعدها والوطن والعرق ترجمة شعبان مكاوى في القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية تحرير ك نلووف ك نوريس، ج. أوزبورن أشرف على الترجمة رضوى عاشور، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2005، ص 418

ساهمت في نقل الفكر الفلسفي الفرنسي من فضاء السرديات الكبرى المميزة للحداثة إلى فضاء أخر يتميز بتأسيس وتطوير مابعد الحداثة بكل تفرعاته في حقول: التحليل النفسي ونظرية الأدب والدراسات الثقافية وخطابات الحركة النسائية الراديكالية، إلا أن هذا البعد الغربي، ليس في الواقع إلا مكوناً جزئياً رغم أهميته التاريخية والمعرفية، وهو لا يمكن أن يكون بمفرده صالحاً كمرجعية وحيدة لأصول فكر ما بعد الحداثة، ومن هنا ضرورة إبراز مساهمات المرجعيات الأخرى التي لا تمت إلى الغرب بما في ذلك فرنسا بصلة عضوية في تشكيل مفاهيم ومصطلحات ونظريات تيار ما بعد الحداثة، خاصة في فرنسا(1).

لقد كشفت مرحلة الاستعمار الازدواجية الأوروبية المضادة للنزعة الإنسانوية الغربية وعن التمركز الغربي المغلق على الذات وفشل الأيديولوجيات الاستعمارية مما يعني سقوط أوهام النظريات التي تدعي أنها صالحة لكل زمان ومكان وهي نظریات مشروع الحداثة في أوروبا بما في ذلك العلمانية الغربية.

یُرجع أزواج عمر هذا الفشل إلى أن حركات التحرر الوطنية قد ألقت بمشروع العلمانية الغربي في الأزمة، حيث إن معظم هذه الحركات انطلقت من خصوصيتها الثقافية والتاريخية والجغرافية والدينية ولم تهمش العامل الديني من برنامجها الكفاحي للاستقلال بل تشبثت بالدين كمقوم من مقومات ثقافتها الوطنية وكعنصر من عناصر هويتها التاريخية وعلى أساس هذا تم نزع صفة الكونية عن مشروع العلمانية الغربية يقول : «إن الحركات الوطنية التحررية بنضالها العسكري بمقاومتها الثقافية وبتشبثها بنمط إنتاجها الزراعي قد لعبت أدواراً مهمة في ضرب خطابات الحداثة الغربية المرتبطة بالاستعمار والمنظرة له وهي الخطابات التي تدعي المركزية والشمولية في آن واحد مما فتح نوافذ لتفكير جديد يأخذ عوامل الوطنية والذاتية والنسبية والهامشية بجدية»(2).

ص: 182


1- أزواج عمر، المرجع السابق، ص469.
2- أزواج عمر، المرجع السابق، ص 470.

القول بأن نظريات ميشيل فوكو هي نتاج المرجعية الثقافية والسياسية والاجتماعية الفرنسية وحدها غير صحيح بالمرة، لأن ثمة عوامل أخرى مهمة مثل التجربة السياسية الفكرية التي عاشها فوكو عندما كان مدرِّساً للفلسفة في الجامعة التونسية وأثناء احتكاكه بالثورة التحريرية الجزائرية وبمعاناة المغتربين الأجانب في فرنسا في تونس اكتشف ميشيل فوكو معاني النضال اليومي للطلبة التونسيين وقد عايش أحداث 5 يونيو 1967 ثم تفاعل فيما بعد مع تطور الأحداث الطلابية. ومما لا شك فيه وبحسب شهادات بعض الزملاء من طلبة فوكو وقد كانوا من القياديين آنذاك إن دار فوكو في ضاحية سيدى بوسعيد قد أصبحت مقراً لاجتماعاتهم المختلفة يقومون فيها بتحضير المناشير وكتابتها». ذلك ما كتبه فتحي التريكي عن «اللحظة التونسية في فلسفة ميشيل فوكو». تلك التي تغافلها عديد من الأوروبيين ممن كتبوا عن حياته(1).

وكان التريكي من هؤلاء الذين استمعوا إلى فوكو في الجامعة التونسية وممن شاركوا في نضالات هذه الفترة. وهو يؤكد على أن فوكو عندما نقد السلطة فقد حاول أن يعود إلى مسألة الذات بالبحث، فالمهم بالنسبة إليه هو دراسة أنماط التذويت (Les mades de subjectivation للكائن البشري في الثقافة الغربية من خلال تحول الفرد إلى شخص له حقوقه في مجتمع معين بحيث يصح القول إن فلسفة فوكو هي قبل كل شيء فلسفة الذات المرتبطة بمجموعة الآليات السلطوية المختلفة داخل الحضارة الغربية.

وتعد عنده فلسفة لا تظل حبيسة المجال العلمي للأركيولوجيا، بل تتجاوز ذلك لتصبح فلسفة المقاومة، لأن المقاومة هي التي تكون - حسب فوكو - حافزاً يسمح بتوضيح العلاقات السلطوية. فالمهم لا يكمن في دراسة عقلانية السلطة وجوهرها وماهيتها، بل المهم هو تحليل علاقات السلطة خلال الاستراتيجيات وأشكال المقاومة لتفكيك هذه الاستراتيجيات وفضحها، فهي نضال يؤكد الحق في الاختلاف لكل فرد في كل مجتمع، وهي نضال ضد السلطة المرتبطة بالمعرفة والتي تجعل

ص: 183


1- فتحي التريكي: اللحظة التونسية في فلسفة ميشيل فوكو، في أحمد عبد الحليم عطية محرر] العيش سويا ضمن قراءات في فكر فتحي التريكي، القاهرة 2008 ، ص 220

من الحقيقة خلوداً وثباتاً لا يمكن زعزعتها، وهي أخيراً نضال ضد انحباس الأنا في المجرد وبكلمة أخيرة هي نضال ضد تقنية السلطة اليومية المصنفة والمعقلنة لهويتهم من خلال المراقبة والعقاب والتبعية ،والحشر فهي نضال لكل أشكال الهيمنة والاستغلال والخنوع.

وقد اخترنا نموذجاً لتوضيح ما نحن بصدده عن ما بعد الحداثة والجزائر هو جان فرانسو ليوتار الذي بدأ علاقته بالجزائر كمناضل ضد ظاهرة الكولونيالية الفرنسية، حيث عمل مدرساً للفلسفة بالجزائر إبان فترة الاستعمار، ونقل هذا النضال إلى فرنسا من خلال جماعة من المفكرين والمثقفين الفرنسيين الذين انشقوا عن الحزب الشيوعي الفرنسي، مما يجعل لموقفه تمييزاً جديراً بالتحليل والبحث.

2 - ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية:

قبل أن نعرض موقفه نشير للعلاقة المتداخلة بین «ما بعد الحداثة» و«ما بعد الكونيالية». لن نتوقف كثيراً عن ما يطلق عليه البعض «هوس المابعديات» ولا الحديث عن ما بعد البعد، لكننا نشير إلى أن هذه الظاهرة (الما بعد) كما تقول فريال غزول في دراستها «ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات» تعبر عن مأزق تحديد الاتجاهات الجديدة التي تكتفي بترويج هذه التسميات الفضفاضة غير المحددة، وهي تدل على قلق من الركود النظري فتضعه بمصطلحات مغايرة لتعطي الإحساس بالمختلف. وهي ترى تعبير «ما بعد» يشير إلى موقفين يبدوان متناقضين إلا أنهما متلاحمان وأن هناك اشتباه بلغه أهل الفقه في تلك المسميات ومنها ما بعد الكولونيالية، لأنها تتأرجح بين النفي والإثبات أنها تنطلق من حقيقة الكولونيالية وأثرها على العالم المستعمر (بفتح العين) لكنها تتجاوز مقاومة الاستعمار لتتعامل بشكل مناقض مع كل أشكال الهيمنة(1).

تعرض غزول المصطلح وتتوقف عند ترجمة كل من ميجان الرويلي وسعد

ص: 184


1- فتحى التريكي وعبد الوهاب المسيري : الحداثة وما بعد الحداثة، دار ،فكر، دمشق، ص 2003، ص 304-309. (2) - فريال جبوري غزول : ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات قضايا فكرية العدد 19-20 ، القاهرة 1999، ص384.

البازعي للمصطلح بما بعد الاستعمارية في كتابهما «دليل الناقد الأدبي» كما تعرض لأهم المفكرين المهمومين لإرساء دعائم هذا المجال مثل: فرانز فانون وأدوار سعيد وروبرت يونغ، وإن كان أياً منهم لم يستخدم المصطلح، كذلك أهم ممثلي هذا التيار. ونستطرد حتى نشير إلى الدور الهام الذي قام به كل من ادوار سعيد وفرانز فانون. حيث يمكن القول أن مصطلح ما بعد الكولونيالية جاء مع صدور كتاب ادوار سعيد الاستشراق 1978 وفيه يبين أنه ليس ثمة شكل أو نشاط عقلي أو ثقافي بريئ من الصلة الوثيقة بتراتب السلطة ؛ الأمر الذي يكشف عن التواطؤ بين أشكال التمثيل الأدبي والسلطة الكولونيالية، ويوضح أن كل فرع من فروع العلوم الطبيعية أو الإنسانية ليس ذا صلة وثيقة بالهيمنة السياسية لأوروبا من خلال الغزو الاستعماري والسيطرة فحسب بل هو جزء لا يتجزأ منها(1).

وقد تناول فانون في كتابه «معذبو الأرض» 1961م عدة مفاهيم عن الثقافة الوطنية محاولاً بذلك أن يعيد تركيز الاهتمام بخصوصيات الأمة، الوطن وتاريخ النضال المناهض للاستعمار.

تتوقف فريال غزول عند رأى الرويلي والبازعي القائل: إن تخريب الاستعمار وتشويهه للثقافات التي يهيمن عليها دفع مثقفي الدول المستعمرة إلى إحياء ثقافتهم وتمجيدها كرد فعل وكنهج مقاومة، وتتعدد أشكال هذه التوجهات التي تسعى إلى نهضة ثقافية ورد اعتبار لحضارات غير أوروبية لكنها تشترك في محاولة تعرية الخطاب الاستعماري وحمولته الثقافية والمعرفية»(2).

مقابل تشكك البعض في ملاءمة «المابعدية» للخطاب الاستعماري الذي مازال مهيمناً تطرح الغزولي تفسيراً لمفهوم «المابعدية»، فالمعترضين عليه يفسرون «مابعد» بمعنى «بدون» أو «متخلص من الاستعمار»، وبالتالي يصبح المصطلح مرفوضاً؛ لأن الاستعمار مازال حاضراً ومتغلغلاً على مستوى الثقافة والسياسة والاقتصاد. وترى بأنّ

ص: 185


1- فردوس عظيم ص 339.
2- غزول، ص 385 .

المقصود ب_«ما بعد الكونيالية» «منذ الكولونيالية» كل ما ترتب على الغزو الاستعماري وهذا يشمل تحليل سعي الاستعمار للهيمنة وسعي المستعمرين للمقاومة، كما يتضمن تحليل الكولونيالية الجديدة وظاهرة تصفية الاستعمار وانتقال مؤسسات الكولونيالية السياسية والإدارية إلى مؤسسات الإمبريالية في مرحلة الرأسمالية المتأخرة(1).

تحضر أفريقيا حضوراً قوياً في الدراسات التي تتعلق «بما بعد الكولونيالية» وذلك في مواضع متعددة نشير إلى بعضها كما جاءت في دراسة غزول :

الأولى في بحث اباراجيتا ساغار «دراسات ما بعد الكولونيالية» في قاموس النظرية الثقافية والنقدية 1996م والتي تتعلق باللغة تقول : «مسألة اللغة وثنائية المستعمرين اللغوية، جعلت أديب مثل الكيني نغوعي واثيونغو الذي أبدع في كتابة روايات عديدة باللغة الإنجليزية يقرر هجرها للتعبير الإبداعي بلغته الأفريقية. مع أنه يدرك أن الكتابة الإبداعية الأفريقية باللغة الإنجليزية قد حولت اللغة الإنجليزية وأفرقتها - إن صح التعبير - إلا أنّه يرى ضرورة أن يستمر الأديب مبدعاً في لغته المحلية حتى لا تضر أو تنقرض»(2).

والموضع الثاني في عرضها للكتاب الذي حرره جون تيم «منتجات ارنولد ما بعد الكولونيالية بالإنجليزية 1996م الذي قسّم عمله إقليمياً بادئاً بأفريقيا التي تنقسم بدورها إلى جهاتها الأربعة غرب أفريقيا وشرقها وجنوبها وشمالها وذكر من شمال أفريقيا نصاً للكاتب السوداني جمال محجوب المقتبس من روايته الأولى بالإنجليزية «أبحار مستنزل المطر» 1989م مع أن المحرر يمثل للمناطق الأخرى من أفريقيا بنماذج متعددة (388) .p) (3)(3).

ص: 186


1- الموضع نفسه.
2- Aparajita Sagar, Postcolonial: A Dictionary of Cultural and Critical Theory, ed Michal Payne نقلاً عن فريال غزول 1996 ,Oxford: Blackwell عن فريال John Thieme (ed) The Arnold Anthology of pas -
3- Coloial Literatures in English, London-. غزول المرجع السابق ص 388

الموضع الثالث : إشارة اينالومبا الأستاذة بجامعة جواهر لال نهرو في كتابها الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بعد عرضها آراء بارثا تشارجي عن بلورة حركة النضال الهندي لمفهوم المرأة الجديدة باعتبارها مختلفة عن المرأة التقليدية والمرأة الغربية، فهي تضيف أمثلة من جنوب وشمال أفريقيا حيث وزع الخطاب القومي الأدوار على الجنسين، فأصبح الرجل وكيلاً عن سياسة واقتصاد الشعب والمرأة وكيلة عن هويته وقيمه الأخلاقية والروحية فقد أوضح فرانز فانون في كتابه «الاستعمار المتحضر» المرأة الجزائرية وظفت حسب متطلبات النضال والمقاومة لتكون تارة سافرة ومتشبهة بالأوروبيين حاملة المتفجرات وتارة محجبة وبيتيّة كردٍّ مضاد لمطالبة الاستعمار بسفور المرأة. وهكذا تكشف معركة الحجاب والسفور مستوى آخر من الهيمنة والمناهضة والمواجهة تتجاوز الظواهر نفسها لترمز إلى معركة أوسع (ص 194-192)(1).

ويؤكد كل من بيل اشكروفت و غاريث جريفيت وهيلين نيفين محرري كتاب النصوص الأساسية في دراسات ما بعد الكولونيالية 1995 على عدد من القضايا المحورية وهي التي تم على أسسها تبويب العمل وفي مقدمتها العلاقة بين ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية. وهو ما نجده في أعمال جاك دريدا وهيلين سكسو كما جاء في دراسة أزواج عمر المشارة إليها وسنشير إليهما في هذه الفقرة قبل تناولنا لموقف جان فرانسوا ليوتار.

ومن المعروف أن كل من دريدا وسكسو ولدا بالجزائر وتعلما بها خلال فترة الاحتلال الفرنسي وغادراها إلى باريس لإكمال دراستهما ولأنهما يهوديان عانيا من الغربة المزدوجة بين الثقافتين التي يحيان في ظلها الفرنسية المهيمنة والجزائرية المهيمن عليها في ظل الاستعمار. وإن ما عان منه كل منهما ظهر واضحاً في سيرتهما الذاتية وأعمالهما الفلسفية وهو ما يصعّب للغاية فهم مفاهيمهما دون الأخذ بعين الاعتبار المرجعية الجزائرية وتأثيرها عليهما. وهذا ما يوضحه أيضاً أزواج عمر الذي

ص: 187


1- نقلاً عن غزول 1998 Ania Loomba Colonialism / Postcolonialism London/ Routledge-(1)

يرى «إن مفهوم الاختلاف ومفهوم الغيرية عند كل من جاك دريدا وهيلين سكسو ليسا فقط نتاج لتجربتهما المعرفية الأكاديمية داخل الفضاء الفلسفي والأدبي الفرنسي - الغربي إنما هو نتاج أيضا لسنوات التكوين الأولى في الجزائر ونتاج لذلك الإحساس بالوجود والانتماء إلى الاثنية اليهودية في مجتمع مستعمر»(1).

إن الجزائر المستعمرة كانت عالماً مقسوماً إلى أجزاء لا رابط بينها. وهذا العالم المقسوم هو الفضاء الذي عاش فيه دريدا وهيلين سكسو، العالم الذي أقصي فيه الآخر والذي يشبه فضاء التمييز العنصري. لنرجع إلى كتاب سكسو المرأة الجديدة التي لاحظت جيداً مشهد الإنسان الأبيض الفرنسي المتحضر، الذي أسس قوته على قمع ونفي وإقصاء الآخر دون صرفه نهائياً وإبقائه مستبعداً، هنا عاشت وعاش دريدا، حيث لا أحد ينجو من العنف والرعب حتى وإن كان بعيداً عنهما بعض المسافة. هذا ما نجد في دراسة دريدا «العنف والميتافيزيقا» في «الكتابة والاختلاف» التي تحذر فيها من أخطار العنف الناتج عن إضفاء إمكانيات الاعتراف بالآخر ومن أخطار العزل المطلق بين البشر ومن خطر الاحتواء المطلق الذي يدعي الانتصار»، هنا كما يشير عمر شعور دریدا ونظرائه بالاغتراب.

هل يختلف ما عاناه دريدا وهيلين في فرنسا عما في الجزائر؟ لم تكن الوضعية مختلفة، نفس الوضع تجاه الأجانب ساري المفعول في فرنسا نفسها. من هذه التجربة نبعت مفاهيم هيلين سكسو ومصطلحات الغيرية والهامش والجنسانية المضطهدة. لقد نقلت سكسو التجربة الاستعمارية التي عاشتها إلى النقاش الفلسفي، إلى هيجل والحركة النسوية الغربية. فالانطلاق من جدل السيد والعبد وفق تأويل كوجيف، رأت سكسو أن المستعمِر لا يبطل ولا يلقي المستعمَر ولكنه يقوم بسلسلة من عمليات تهمیشه واستعباده.

يوضح عمر آليات الاستعمار الفرنسي الموظفة من أجل تهميش وامتصاص الجزائر (الآخر) والأقليات غير الآرية في المجتمع الجزائري المستعمَر، فالنظام

ص: 188


1- أزواج عمر ص 472

الفرنسي استبدل هوية النظام التربوي الجزائري في حقول العلوم واللسانيات والتاريخ والجغرافيا والآداب وغيرها من الحقول التربوية بنظام تربوي فرنسي، وقد أشار المفكر الماركسي لويس التوسير في نقده للجوهرانية الكولونيالية إلى ذلك في كتابه «المستقبل يدوم لوقت طويل» حيث يروي بعض تفاصيل علاقته بالجزائر قبل أن ينتقل إلى المغرب ثم إلى فرنسا.

ويمكن تأكيد نفس القضية وهي أن علاقة فلاسفة ما بعد الحداثة الفرنسيين من موقع مناهضة الاستعمار زج بالفلسفة الفرنسية كلها في الأزمة ودفع بها إلى إعادة النظر في إشكاليتها وفي مفاهيمها وتصوراتها. فمعظم أعمال جاك بورديو الأساسية كانت نتاجاً لعلاقته بالمجتمع الجزائري بشكل عام خاصة في كتابه «نزع الأصول - أزمة الفلاحة في الجزائر». ويمكننا مما سبق أن نتبين أثر الكولونيالية الفرنسية للجزائر في بناء نظريات من أشرنا إليهم من الفلاسفة، لنأخذ مثلاً مفهوم دريدا للاختلاف، نجده ينبع كما يرى البعض من تجربته الاثنية في ظل المجتمع الجزائري المستعمَر.

3 - ليوتار وتجربة الجزائر:

إن ما وجده أزواج عمر من مصادر لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة لم يراه باحث جزائري آخر تناول نفس الفلاسفة : فوكو والتوسير ودريدا في كتابه «البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر»(1). مما يجعلنا نفترض مصادر أخرى لمعاناة دريدا وسكسو غير معاملة المستعمر الفرنسي للمواطنين الجزائريين لسببين الأول أنهما ليسا جزائريين وثانياً هما فرنسيان ويرجع سبب معاناتهما ليهوديتهما كما أفاض دريدا في توضيح ذلك في كتابه «ماذا عن غد؟»(2). لذا فإن حذر عمر من اطلاق أحكاماً عامة جعله يعطي دوراً لمساهمة الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر ما بعد الحداثة. وهو ما يتضح إذا ما تناولنا هذا الأثر ودوره في مفاهيم ليوتار الفلسفية ما بعد الحداثية.

ص: 189


1- عمر مهيبل البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1993.
2- أنظر جاك دريدا واليزابيث رودينسكو : ماذا عن غد، ترجمة سلمان ،حرفوض دار ،کنعان دمشق 2008 ودراستنا حكاية اليزابيث وجاك: التفكيك مع دريدا ضد دريدا في محمد أحمد البنكي [محرر : دريدا بأثر رجئي، سلسلة أطياف وزارة الثقافة البحرين 2009 ص 32 وما بعدها.

خصص ليوتار عدة أعمال للحديث عن صلته بالجزائر هي: الخصم الجزائريون التطواحات. وهو يخبرنا بتساؤل جوهري حين أصبح أستاذاً للفلسفة بثانوية بمدينة قسنطينة 1950م هل كانت هذه الصلة نهاية لشيء ما أو بداية لشيء ما؟ وهو يوضح لنا أن دراسته لكارل ماركس ولتوما الاكويني قد تمت في الجزائر، ولقد أدى به انخراطه الفكري لصالح ثورة التحرير الجزائرية إلى النظر النقدي في المادية الجدلية ومصداقيتها نظرياً وتطبيقياً. وهو في أكثر من مكان يعلن أن الجزائر علمته الشيء الكثير . يرى يوجين هولاند أن ليوتار أدرك من خلال تجربته المتميزة بالصراع أثناء معركة التحرير الجزائرية بأن الأمانة السياسية تقتضي الاستجابة لحالة مفردة بدون اللجوء إلى معيار أعد سابقاً. وهو تفسير لقول ليوتار «إنه لمن قبيل المخادعة إعطاء معنی مغلق لحادثة أو تخيل معنى لحادثة عن طريق توقع ما يمكن أن تكون الحادثة بقياسها بحجة قبلية أو بنص قبلي»(1).

في كتاباته التي جمعها تحت عنوان «الجزائريون» أظهر ليوتار تخوفه وقلقه الفكري تجاه انخراطه في الجبهة المتضامنة مع القضية الجزائرية. لقد تضامن كليا مع الجزائريين الذين لهم الحق أن يصبحوا أحراراً ومعترفاً بهم كمجتمع له أسمه ووجوده، ومن جهة ثانية لم يكن على يقين بخصوص من سيحكم الجزائر المستقلة. لقد كان متخوفاً من حكومة مستقلة قد تحيطها بيروقراطية عسكرية، وهو ما يتضح كتابه «التطواحات»؛ الذي يعد سيرته الذاتية الفلسفية حيث يخبرنا عن نشاطه السياسي وتضامنه مع الجزائر بأنه قد حسم الأمر لصالح قضية التحرر من الاستعمار الفرنسي، رغم أنه كان يدرك بأن ثورة التحرير الجزائرية لم تكن ولم يكن بالإمكان أن تكون ثورة التناقضات الاجتماعية، بمعنى أنها لم تكن قائمة على نظرية ماركسية أو أيديولوجية إسلامية صارمة أو رأسمالية واضحة إنما كانت ثورة ضد الوجود العسكري الفرنسي وضد ظاهرة الاستعمار الخارجي(2).

ويشير عمر ازراج إلى تلخيص ليوتار للآليات التي مورست بها عمليات الإنكار

ص: 190


1- أزواج عمر : المرجع السابق، ص479.
2- نفس الموضع.

الثقافي وتهميش البعد اللغوي الجزائري في المدارس الفرنسية حيث عملت

الجمهورية الفرنسية لتطعيم فئة قليلة من الجزائريين بثقافة مستعارة في حين ان ثقافتهم؛ أي ثقافة شعبهم ولغتهم وفضاءاتهم وزمانهم قد تعرضت للتحطيم وذلك بواسطة قرن من الاستعمار الفرنسي.

ويستنتج ازراج أنه من خلال تحليل ليوتار للامتصاص الثقافي الفرنسي للجزائريين تمكن من فهم وتأويل المقاومة الجزائرية مطلقاً عليها «الخصم». وأن ليوتار نقل هذا المصطلح إلى المجال الفلسفي موضحاً أن التحول في التاريخ لا يحدث بواسطة الجدل الماركسي فقط إنما يتم بواسطة الخصم بحركته الصراعية في الزمان والمكان أيضاً.

هنا ننتقل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة من الكلي إلى الحالة الخاصة، إن مفهوم «الخصم» يختلف عن مفهوم صراع الأضداد في الماركسية التقليدية. فصراع الأضداد وفق الماركسية التقليدية يفترض مسبقاً انقسام المجتمع إلى طبقات متناحرة مثل طبقة العمال ضد البورجوازية وعند ليوتار فإن طبقة العمال نفسها ليست متجانسة كلية وليست ذات تصور مشترك للحياة. يريد ليوتار تفكيك المفهوم الماركسي للطبقة ويعترف في كتاباته بأن تجربته الجزائرية هي التي زودته بهذه الرؤية الجديدة.

إن ليوتار يهدف إلى القول بأن الخصومة كمفهومٍ فلسفيٍّ يقترب من مفهوم الاختلاف، بمعنى أنه لا يمكن أن تستعمل نظرية واحدة أو معياراً واحداً لدراسة ثقافات مختلفة وتقول فيما بعد بأن هذه الثقافة خاطئة؛ لأنها لم تتمكن من الاستجابة للمعيار الحاضر ، وهذا المفهوم والكلام هنا لأزواج عمر مشتق من دراسته للكثير من القضايا الفكرية والسياسية واللغوية والفلسفية ومنها مفهوم الاختلاف الذي قدمه له المجتمع الجزائري وحاول الحزب الشيوعي الفرنسي أن يلغيه باسم الأممية وحاول اليمين الفرنسي إقصاءه باسم أن الجزائر جزء عضوي من فرنسا وهي ليست كذلك في الواقع أي إن نظرية ليوتار في ما بعد الحداثة والتي قدمها في كتابه «الشرط ما بعد الحداثي» وطورها بعد ذلك تعود بذورها الأولى إلى اللقاء الساخن الذي جمع بينه وبين المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي. لتنقلنا إلى مسار تفكير جديد

ص: 191

تضع الاختلاف محل التطابق وتحفل بالتعددية معيارياً وممارسة مفتوحة بدلاً من السرديات المتمركزة غرباً والتي تحتكر الحقيقة وتدعي بأن اليقين لا يوجد إلا حيث تسود الهيمنة والمركزية القطبية الواحدة. وإذا كان لحركة التحرير الجزائرية دوراً في تشكيل تيار ما بعد الحداثة عبر نصف القرن الماضي، فهي الآن وأنا هنا استخدم عنوان أحد كتب جارودي «مشروع الأمل».

المراجع

1. أزواج عمر : مقاربة أولية لمساهمة علاقات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر (مابعد الحداثة) في فرنسا. مجلة قضايا فكرية الكتاب التاسع عشر والعشرون، أكتوبر، القاهرة 1999.

2. فردوس عظيم: الكولونيالية وما بعدها والوطن والعرق ترجمة شعبان مكاوى، في القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية تحرير ك نلووف، ك. نوريس، ج. أوزبورن، أشرف على الترجمة رضوى عاشور المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2005.

3. فریال جبوري :غزول ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات قضايا فكرية العدد 19-20 القاهرة 1999.

4. دوغلاس روبنسون الترجمة والإمبراطورية الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة، ترجمة ثائر ،دیب مجلة نزوى العدد 20 ،45-07-2009 .

5. هيلين جيلبيرت جوان تو مكينز : الدراما ما بعد الكولونيالية : النظرية والممارسة، ترجمة :سامح فكري، مركز اللغات والترجمة، أكاديمية الفنون، مصر 2000، ص2-3.

6. بيل أشكروفت غاريث غريفيث هيلين تيفين الرّد بالكتابة : النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة: شهرت العالم المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2006، ص 15.

7. بيل أشكروفت وآخرون: الدراسات ما بعد الكولونيالية المفاهيم الرئيسية، ترجمة: أحمد الروبي، أيمن حلمي، عاطف عثمان، المركز القومي للترجمة، مصر ، 2010،ص254

8. صبحي حديدي : الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية، مجلة الكرمل ع47 ، 1993 ص 79-80.

9. و الدكتورة مديحة عتيق، مجلة دراسات وأبحاث الجزائرية الصادرة بجامعة جلفا ما بعد الكولونيالية : مفهومها، أعلامها، أطروحاتها .

ص: 192

بين مركزيّة الأنا الغربية وميلاد الأصوليات

نقد غارودي للذاتيّة الغربيّة

نصر الدين بن سراي(1)

من أهم المظاهر التي تعد بارزة في الحضارة الغربية الحديثة بروز أنواع شتى من الإيديولوجيات والأفكار التي تندرج في سلّم التطرف الشديد، وهو ما اصطلح على تسميته بالأصوليات. وهذا المصطلح الذي يعد في المخيال الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي جد حديث، لكن تكاد تكون تلك التصورات من أهم الأفكار التي كونت الغ-رب الحادث، وفي هذه المقاربة حاول روجيه غارودي الكشف عن تلك الأفكار التي كونت الغرب الطارئ كما يسميه، وكانت تلك الأفكار التي يستهجنها اليوم ويسعى لمحاربتها، هي البنية الأساسية التي أسهمت في تشك-ل-ه وب-ل--ورة حضارته، إذ نرى تمظهراتها في الجوانب العالمية اليوم في السياسة والاقتصاد والإعلام وغيرها من التجليات التي تبرهن على حقيقة ألا وهي أن الغرب لا زالت تحكمه إيديولوجيات أصولية

ص: 193


1- باحث وأكاديمي - الجزائر .

ينطق منها وتحدد تصوره ورؤيته إلى العالم، وهي قصة الأفكار التي لا زالت تسكن في بُنى الأفكار المضمرة للغرب.

يعد روجيه جارودي من أهم الفلاسفة الفرنسيين، بل في الغرب، الذي وجه سهام نقده للحضارة الغربية، التي تحتوي جوانب لا إنسانية في حضارتها، وإن ادعت الإنسانية. نحاول في هذه الورقة بيان بعض أوجه الأفكار التي شكلت الغرب، انطلاقاً من نقطة التمركز على نفسه، وتحيزه لكل ما هو غربي، إلى زمن تشكل الأصوليات التي تحكم الغربي إلى اليوم.

يحاول جاودي استنطاق اللحظات الأولى لتكوّن هذه الأنا بداية مع الدكتور فاوست كما دونه كرستوفر مارلو، وانتهاء بالنزعات العرقية والأصولية المعاصرة النازية والستالينية. وكيف ساعدت هذه التصورات في صياغة العالم المعاصر.

- ليصل جارودي في النهاية إلى نتيجة خطيرة جداً مفادها أن الأصوليات جميعها في العالم اليوم هي نتجية أو رد فعل على الأصولية الغربية مما يضع الفكر الغربي أمام إحراجات يتعسر على صاحب لب سليم أن يتفلت منها، كما نجد قليلاً من الكتاب ومفكري الغرب يعرضون تلك الحقائق بوجه ناصع بأدنى شك أوريب.

- وسيكون الإشكال الرئيس الذي يسعى جارودي الإجابة عنه ههنا :كيف شكلت نقطة التمركز الغربي حول ذاته إلى ميلاد الأصوليات بشتى اختلافاتها وإيديولوجيتها؟ وما أهم الحمولات التي شكلت الغرب الطارئ ؟

ص: 194

/أولاً التمركز الغربي حول الذات:

تعد نزعة التمركز حول الذات(1)، إحدى السمات البارزة؛ التي شكّلت الطابع العام لتاريخ الفكر الغربي، وفلسفته ورؤيته إلى العالم هذه الإيديولوجيا التي مكنت الذات الغربية لتجعلها سيدة العالم؛ ولعل النواة الأولى لهذه الفكرة، كانت مع أفكار الحداثة الأولى وهي مسلمة كريستوفر وذلك في «الفرض الأساسي ل_ : مارلوا في كتابه فاوست الذي أعلن مسبقاً، وفاة الإله (أيها الإنسان، عن طريق عقلك القوي تصبح إلهاً، المالك والسيد لكل العناصر)»(2)، وهي سيادة الإنسان عن طريق استخدام العقل، وتكريس لفكرة مركزية الإنسان.

فإذا تناولنا كلمة التمركز التي اشتقت من كلمة المركز ، والتي توحي بمعنى المرجع نجد أنه جاء معناها في معجم لسان العرب بما يأتي:«والمَرَاكِرُ: مَنَابِتُ الأَسنان. ومَرْكَزُ الجُنْدِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي أُمروا أن يَلْزَمُوهُ وأُمروا أَن لَا يَبْرَحُوه. ومَرْكَزُ الرَّجُلِ : موضعه . يُقَالُ : أَحَلَّ فلانٌ بمَرْكَزه. وارْتَكَرْتُ عَلَى الْقَوْسِ إِذا وَضَعْتَ سِيَتَها بالأَرض ثُمَّ اعْتَمَدْتَ عَلَيْهَا. ومَرْكَزُ الدَّائِرَةِ: وَسَطُها»(3)، فإذا كانت كلمة مركز توحي بمعنى المصدر والمرجع الذي يعاد إليه، فإن مركزية الذات الغربية، هي الوقود الفكري التي تستند إليه في تأسيس ذاتها، التي من خلالها تشعر بالمغايرة تجاه الآخرين، والمعيار الذي تنطلق منه لتحاكم سائر الرؤى والثقافات في العالم، وعليه يمكن أن نقول إن

ص: 195


1- متمركز حول -الذات متمركز الأنا ego centric الشخص الذي تتحكم في سلوكه اهتماماته، ويتسم بعدم الحساسية لحاجات الآخرين وتعبيراتهم واستجاباتهم وهو أكثر شيوعاً في السلوك اللغوي عند الأطفال فؤاد أبو حطب، محمد سف الدين فهمي، معجم علم النفس والتربية القاهرة مصر، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ج 1، 1984، ص 50 ويطلق عليها أيضا أنوية Egocenterisme وتعني: أ - نزوعاً إلى رد كل شيء إلى الذات . ب- بمعنى مختلف أطلق ج. بياجيه هذه المفردة على السمة النفسية للطفل السمة التي تكمن في أنه لا يعانى الحاجة إلى إيصال فكرته للآخر، ولا يعاني التقيد بفكرة الآخرين. ج- في الأخلاق، حب للذات حصري أو مفرط، سمة ذلك الذي يستلحق مصلحة الغير بمصلحته الذاتية ويحكم من هذه الزاوية على كل الأشياء . د نظرية تجعل من المصلحة الفردية المبدأ التفسيري للأفكار الأخلاقية والمبدأ القائد للسلوك أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، بيروت ،لبنان، منشورات عويدات تعريب خليل أحمد خليل، ط2، 2001،
2- روجيه جارودي، القبور الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها ترجمة عزة صبحي، دار الشروق، القاهرة مصر، ط 3 ، 2002، ص 95.
3- ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى لسان العرب، بيروت ،لبنان، دار صادر، ط3، 1414ه، ج 5، ص 355.

مصطلح التمركز حول الذت يقصد به «ولادة المرء ضمن ثقافة معينة، بشكل عام إن هذه الثقافة تضعه على منصة يطل منها، بدرجات متفاوتة من عدم الإكتراث أو العداوة على الثقافات الغربية الأخرى، ولذا غلب أن يكون مراقبو الثقافات الغربية منحازين بالمعنى البسيط الذي يفضلون فيه ثقافتهم على كل الثقافات الموجودة الأخرى، وينظرون فيه إلى الغريب باعتباره الشكل المشوه المنحرف عن المألوف. وكانت السذاجة التي تدغدغ الذات وتميز التقسيم الأرسطي لسكان العالم إلى إغريق وبرابرة أو إلى أحرار بالطبيعة وعبيد بالطبيعة هي النمط المعتاد الذي حشر الناس فيه ما لاحظوه من فروق بين البشر»(1).

وعليه يمكن عدّ فكرة التمركز حول الذات أو المركزية الغربية بأنها عبارة تلك «الممارسات الواعية أو غير الواعية، التي تركز على فرض الحضارة والمصالح الغربية عموما في جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات والحضارات والشعوب وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة»(2).

فالثقافة الغربية وطابعها الأنوي تجعل من الأنا الغربية تحتل مركزية العالم، وما عدا ذلك يمكن اعتباره هامشاً، أو لا إنساني، أو لم يدخل بعد في طور الإنسانية والتمدن أو التحضر، وهذا ما يبدو بشكل جلي في مراحل التحقيب التي يعتمد عليها علماء الأنثربولوجيا في تحقيب الشعوب غير الغربية، إلى حقبة ما وراء التاريخ أو قبله، حيث إن أسلوب تعدد الثقافات لم يكن أسلوباً معترفاً به إلى حقبة ليس ببيعدة في التاريخ الثقافي للعالم الإنساني وهذا ما يوضحه كلود ليفي سترواس حين يقول: يبدو أن تنوع الثقافات لم يظهر للناس إلا نادراً كما هو على حقيقته، باعتباره ظاهرة طبيعية ... وإنما رأوا فيه نوعاً من الغرابة والفضيحة ويتمثل في الرفض الكامل

ص: 196


1- كاثرين جورج الغرب المتمدن ينظر إلى إفريقيا البدائية، ضمن كتاب أشلي ،مونتاغيو، البدائية، ترجمة محمد عصفور الكويت عالم المعرفة، عدد53، 1982، ص 201 هذه الرؤية إلى الآخر بأنهم متوحشون، وأقل شأناً من الغرب كانت قد كرست من عهد اليونانين، هيرودوت شيخ الجعرافيين وكذا ديودورس. المرجع نفسه، ص .203
2- عبد اللطيف بن عبد الله بن محمد الغامدي، المركزية الغربية وتناقضاتها مع حقوق الإنسان، المملكة العربية السعودية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، كلية الدرسات العليا قسم العدالة الجانية، أطروحة ماجستير، 2009، مخطوط، ص 21

للأشكال الثقافية، الأخلاقية والدينية والاجتماعية والجمالية البعيدة كل البعد عن القيم التي نعتنقها... فتعابير مثل عادات المتوحشين وذلك ليس من عندياتنا...تختلط مع كل ما لا يشترك مع الثقافة اليونانية تحت اسم البربري»(1) وبذلك فالثقافة الغربية تعطي لنفسها حق مساءلة الثقافات جميعها، واعتبار المعيار الوحيد لا بد أن يكون النموذج الغربي، وكل ثقافة مخالفة لهذا النموذج يمكن ببساطة أن يطلق عليها بأنها ثقافة إيحائية ما قبلية ليست علمية ولم تدخل بعد في طور التأنس بعد.

وعليه فالثقافة الأوروبية التي تنطلق من نزعة التمركز الغربية، قد أقامت صروحها على فكرة النظرية العرقية القائلة بالتفوق والقدرة للجنس الغربي، ولا سيما نظرية الكيوف الطبيعية، التي قدمها لنا أرسطو في كتابه السياسة حيث يقول :«يستطيع المرء أن يتخذ فكرة من هذا بأن يلقي النظر إلى أشهر مدائن الإغريق، وإلى الأمم المتخلفة التي تتقاسم الأرض، الشعوب التي تقطن الأقطار الباردة حتى في أوروبا أوروبا هم على العموم ملؤهم الشجاعة لكنهم على التحقيق منحطون في الذكاء وفي الصناعة، من أجل ذلك هم يحتفظون بحريتهم لكنهم من الجهة السياسية غير قابلين لنظام ولم يستطيعوا أن يفتحوا الأقطار المجاورة، وفي آسيا الأمر ضد ذلك شعوبها أشد ذكاء وقابلية للفنون، ولكن يعوزهم القلب ويبقون تحت نير استعباد مؤبد، أما العنصر الإغريقي الذي هو بحكم الوضع الجغرافي وسط فإنه يجمع بين الفريقين، فيه الذكاء والشجاعة معاً»(2).

هذه النظرية حقيقة يمكن عدّها ناظماً لفكرة المركزية العرقية الغربية، التي تجمع كمالات الصفات في الجنس الأوروبي، وتصرفه عن غيره، بوصفهم أفراداً تنقصهم تلك الصفات التي لم تتحقق، ولم تجتمع لأي جنس إلا في الجنس الغربي، وبالتالي هم فقط من لهم أهلية الحكم والسيطرة في الجوانب الحياتية كلها، وما عداهم أقاليم تابعة لهم لأنهم عجزوا على التوسع في البلدان المجاورة، فالمعيار إذن هو

ص: 197


1- كلود ليفي شتراوس العرق ،والتاريخ ترجمة سليم حداد بيروت لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص 13
2- أرسطو طاليس السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد القاهرة مصر ، الهيئة المصرية لكتاب 1979 ، ص ،254 255

عرقي بامتياز، وامتلاك صفات القوة التي تمكنهم من حيازة مايريدون والسيطرة على الآخرين وفي هذا الصدد يقول جارودي: «تلك هي الأسطورة الأولى لنزعة أوروبا المركزية التي يحسن تبديدها كما لوكانت حلماً كاذباً »(1).

هذه الأسطورة قد غذتها مراحل التطور التاريخي في عصر الأنوار والنهضة، إذ تمت المصادقة لتمكين فكرة المركزية الغربية، وجعلها الروح التي تنطلق منها الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، فلو تأملنا في كيفية تشكل الوعي الأوروبي وتاريخه، كانت أسطورة المركزية من أهم الأساطير المؤسسة له، والتي كان لها تأثير مباشر لا في نشأة الحركات القومية فيما بعد «فإعادة قراءة التاريخ من خارج الإحداثيات الغربية ستضعه في سياق آخر يختلف تماماً في حركة صعوده ونزوله عن شكله الراهن، فأسطورة العصور المظلمة تماماً التي تعدها القراءة الغربية للتاريخ حالة إنسانية سبقت باطلاق مجيء عصر الأنوار ليست في الحقيقة إلا لياً لعنق التاريخ، وتضييقاً في أفقه لإجباره على الدخول من بوابة المركزية الأوروبية»(2).

لقد كان موقف روجيه جارودي من قضية المركزية الغربية منتقداً لها ذلك أنها أحد الأسباب التي أدت إلى بروز معظم الأزمات في الحقل الفكري للحداثة الغربية، فهو أولاً يبتدئ بنقد كلمة الغرب، فلا يراها ماهية جغرافية بل هي تعني عبارة عن «حالة فكرية متجهة نحو السيطرة على الطبيعة والناس» (3)، هذا الغرب يراه جارودي مجرد مصطلح مآله إلى الزوال، لأنه لم يستوجب موجبات البقاء، لأنهم أرجعوا كل شيء إلى ذاتية الفرد لذا يرى أن «الغرب عارض طارىء... ذلك هو الطراز الذي ألفه الغربيون باعتبارهم أن الفرد مركز الأشياء كلها ومقياسها»(4).

فكلمة الغرب حسب جارودي كلمة لها حمولة كبيرة، فضلاً على أنه لا يحبذ

ص: 198


1- روجيه جارودي، وعود الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، دار الرقي بيروت لبنان، ط2، 1985،ص 108
2- عز الدين عبد المولى في الرؤية الغربية لتاريخ ،الحداثة مجلة إسلامية المعرفة، السنة الأولى، العدد 04، أفريل 1996 المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 132.
3- روجيه جارودي، حوار الحضارات ترجمة عادل العوا بيروت لبنان عويدات للنشر والطباعة، ص 18
4- المصدر السابق، ص 9.

هذه الكلمة، بسبب تلك الحمولة السلبية التي تدل عليها في الخارج، إذ يقول«إن كلمة الغرب كلمة رهيبة... إنني لا أحب لفظة الغرب، وقد حملوها عدداً كبيراً من التعريفات التي خدمت قضايا مشبوهة في تقسيم العالم، ويؤكد بول فاليري أن أوروبا وليدة تقاليد ثلاثة: - في المجال الأخلاقي: المسيحية، وبوجه أدق، الكاثوليكية - في مضمار الحقوق والسياسة والدولة: تأثير موصول للقانون الروماني - في حقل الفكر والفنون: التقليد الإغريقي»(1)،فهذه الكلمة يقبع خلفها نموذج معرفي وضَّحه وبيَّنه في النقاط الثلاث والتي من خلالها تشكل رؤية إلى العالم، فالكلمة غير بريئة، إنها ذات بعد إيديولوجي كامن في ذاتها.

وقد ركز جارودي في نقده المركزية الغربية على النقاط الآتية:

أولاً: الحمولة المرجعية لعالم الأفكار التي شكلت الغرب الطارئ:

لقد كانت النواة الأولى مع الفكر اليوناني فقد بدأت نقطة الانفصال «مع سقراط وأرسطو، مؤسسي فلسفة الذات»(2)، إذ ركزت هذه الفلسفة على مركزية الإنسان في الوجود فمن تلك المرحلة، أصبح كل شيء مركّزاً على الإنسان ومنطقه الوحيد، حيث إن الأخلاق لم تكن بالنسبة لسقراط إلا جزءاً من المنطق، أما الطبيعة فلقد تركت لأعمال الدنيا التي يقوم بها العبيد أو الفعلة... مثل أرسطوحيث التأمل يلعب دوراً يقوم من خلاله بتوسيع الساحة التي خصصها للتقسيم الطبقي»(3)، هذا الأمر الذي يقود بالضرورة إلى تمركز الإنسان حول ذاته نتيجة هذه الفلسفة، مما أدى إلى انفصال الإنسان عن المتعالي وعن العالم الطبيعي، حتى إنه قد انفصل على العالم الإنساني «أيضا فمن كان غير إغريقي، أي لا يتحدث اللغة، تعد كلماته مجرد تهتهة لا آدمية، ويعد همجياً»(4).

ص: 199


1- المصدر نفسه، ص 17.
2- روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين ترجمة ليلى حافظ، دار الشروق، مصر، ط2، 2001، ص35
3- المصدر نفسه، ص 37.
4- المصدر نفسه، صفحة نفسها.

هكذا انتقد جارودي الحضارة اليونانية، وما احتوته من أفكار أسهمت فيما تعيشه الحضارة الغربية، كما رفض جارودي فكرة المعجزة ،اليونانية، التي تجعل من اليونان مهد الحضارة الإنسانية كلها كما تبعتها في ذلك الحضارة الرومانية التي كانت امتداداً وتقليداً للحضارة السابقة، فثقافة الغرب قد«بترت من أبعاد جوهرية، فمنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تتحدر ومن إرث مزدوج : يوناني - روماني، ويهودي ،- مسيحي، لقد انبثقت أسطورة المعجزة الإغريقية لأن هذه الحضارة بُترت عمداً عن جذورها الشرقية عن تراث آسيا الصغرى، عن أيونا تلك، إحدى مقاطعات الفرس حيث رأى النور أعظم الملهمين من طالس إلى كزينوفون دي كولوفون ومن فيثاغورس... فاحت من خلالهم نسائم إيران زرادشت فيما وراءها»(1)، وهذا أكبر شاهد للتحيز والتمركز حول الذات الغربية بأن نسبوا تلك العلوم كلها إلى اليونان وهذا ما دونته صحة صيحة نيتشه حسب جارودي، فقد «استطاع نيتشه أن يكتب بمنطق ويقول إن الانحطاط بدأ مع سقراط؛ لأن معه بدأ انفصال الغرب عن آسيا»(2).

ثانياً: الحمولة المرجعية الدينية التي شكلت الغرب الطارئ:

- أما بالنسبة للانفصال الثاني فإنه يكمن في الفكر اليهودي - المسيحي، إذ استلهمت الحضارة الغربية ديانتها من الديانتين: اليهودية والمسيحية وليست منشأهما هو أوروبا، بل إن اليهودية والمسيحية لم «تأتيا من أوروبا، القارة الوحيدة التي لم يوجد فيها أبداً دين عظيم، وإنما آسيا، والتي تطورت بادىء ذي بدء في أنطاكيا أعني في آسيا وفي الإسكندرية أعني إفريقيا»(3).

وكتاب التوراة كتب على أرض الكنعانيين بفلسطين كما فصل ذلك روجيه

جارودي في كتابه فلسطين أرض الرسالات السماوية(4).

ص: 200


1- روجيه جارودي، وعود الإسلام، ص 15
2- روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين مصدر سابق، ص 37.
3- روجيه جارودي، وعود الإسلام، مصدر سابق، ص 16
4- روجيه جارودي، فلسطين أرض الرسالات السماوية، ترجمة قصي أتاسي، ميشيل واكيم ، دمشق سوریا، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1991، ص عمة والنشر، 1991، ص 78، 79، 80، 81.

- فاليهودية والمسيحية قد تم الجمع بينهما، في العهد القديم والعهد الجديد مع بولس،«ومع أن بولس حريص على أن يجعل من يسوع، خلافاً للسنة التقليدية اليهودية، الفصل النهائي في العهد القديم، وإتماماً للمواعيد التي وعدت بها إسرائيل، فإن من اليسير إظهار أن الإنجيليين قد قرؤوا العهد القديم قراءة انتقائية»(1).

- كما أمكن لبولس استعادة الفكرة «الملعونة للشعب المختار، كان هناك في الماضي الجوييم أي غير اليهود ولكن بعد ذلك أصبح هناك الوثنيون والكافرون الذين يجب دعوتهم إلى الدين المسيحي، أي استعمارهم روحياً... هذا الخليط من اليهودية والهيلينية أسفر عن تعميق الانكسار الإنساني»(2).

- ومن هنا يسائل جارودي الحضارة الغربية المتمركزة في نزعتها الغربية، حول ماضيها في حمولتها المرجعية الدينية التي شكلت الغرب الطارئ، فيقول:«هل يكون من الضروري للعظمة أن يكون المرء ابن لأب مجهول ؟ فلماذا إزالة آثار ما ولد وغذى حضارتنا؟ فهل نستسلم لتصرف هؤلاء الكتاب الرديئين الذين أرادوا أن يقنعوا أنفسهم ب- أصالتهم»(3).

ثالثاً: الحمولة المرجعية العرقية التي شكلت الغرب الطارئ:

- أول فكرة كانت قد مهدت لذلك النموذج العرقي الأول، والذي منه تولدت التصورات العرقية جميعها في العالم الغربي كانت البداية مع فكرة شعب الله ،المختار، إنها «منطق الإيمان الذي انتزعه الله من حمأة الشعوب الأخرى»(4)وقد كان مصدر وضع هذه الأسطورة في «مصدر الاشتراع التثنية... صيغة مذهبية جديدة لكل التعاليم السابقة، وتدور الفكرة الرئيسة فيه حول تسمية إسرائيل بشعب الله

ص: 201


1- روجيه جارودي، نحو حرب دينية جدل العصر، ترجمة صياح الجهيم، بيروت لبنان دار عطية للطباعة والنشر، ط2، .1997 ص 170.
2- روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين مصدر سابق، ص 39.
3- روجيه جارودي، وعود الإسلام، مصدر سابق، ص 16.
4- روجيه جارودي، الاستعمار الثقافي والصهيوينة، والتمسك بالأسطورة بدلاً من سرد الحقائق في تدريس التاريخ ترجمة هشام حداد، سوريا، مجلة الآداب الأجنبية، العدد 108 أكتوبر 2001، ص 13.

المختار المرتبط مع الله بالعهد... وهكذا أصبح سفر اشتراع التثنية رداً على هيمنة الآشوريين، فالحاكم الوحيد الحقيقي لإسرائيل هو يهوه وليس ملك أشور»(1).

- هذه الرؤية هي التي تشكلت منها النزعات والتفسيرات العرقية الأنثربولوجية - التي أشرنا إليها سابقاً، والتي كانت تمهيداً في ما بعد لانطلاق شرارة الاستعمار في العالم بها أصبحت «أمريكا قائدة لدول التمركز الغربي ووريثة لجميع الاستعماريين في الشرق والغرب»(2).

- إن التاريخ المعاصر لشاهد على تلك الممارسات الاستعمارية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية(3)، وكانت تحت ذرائع متعددة «وما درجنا على تسميته اكتشاف أميركا، وتصفه اليونيسكو على استحياء بالتقاء الثقافات، ويحتفل به البابا جون الثاني بزهو كأنه تبشير بالإنجيل للعالم الجديد هو في عام 1992م الاحتفال بمذابح الهنود وبداية العهد الاستعماري في التاريخ الحديث... وكشف تدمير العراق في عام 1992م عن حرب من نوع جديد حرب قائمة ليس فقط على استعمار دول أوروبية متنافسة مثل ماكان من إنجلترا وفرنسا لكن على استعمار جماعي متعدد الجنسيات متآلف تحت سيطرة الأقوى : الولايات المتحدة»(4)، هذا التوجه للهيمنة والسيطرة لا زال إلى اليوم، إذ تعد أميركا من أكبر الدول المصنعة للسلاح وتعدّ «الأساس المتين للازدهار الاقتصادي في الولايات المتحدة، وذلك من خلال الحصول على دعم حكومي وتمويل من الدولة وإجراء أبحاث وتطوير من أجل مصانع الحرب»(5)، ذلك كله من أجل تكريس منطق الهيمنة والصراع في العالم، فلهم حق سيادة الرجل الأبيض.

ص: 202


1- روجيه جارودي، فلسطين أرض الرسالات السماوية، مصدر سابق، ص 80 - 81
2- عبد اللطيف بن عبد الله بن محمد الغامدي، المركزية الغربية وتناقضاتها مع حقوق الإنسان، مرجع سابق، ص25.
3- هو ما سمي من قبل العالم الجديد، نتيجة لأن السياسية الاستعمارية تجاهلت ودمرت الحضارات العبقرية التي عاشت في ذات المكان منذ آلاف السنين وانتشر أبناؤها وثقافتها في القارة كلها روجيه جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الأمريكية، ترجمة ليلى حافظ، ضمن كتاب الإمبراطورية الأمريكية ، صفحات من الماضي والحاضر، مجموعة من المؤلفين، القاهرة ،مصر ، مكتبة الشروق، ط1، 2001،ص .165
4- روجيه جاودي، حفار والقبور، مصدر سابق، ص 6.
5- روجيه جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الأمريكية، مصدر سابق، ص 168.
ثانيا/ النزعة الأصولية الغربية:
اشارة

ثانيا/ النزعة الأصولية(1) الغربية:

- كنا قد تحدثنا في النقطة السابقة حول نقطة التمركز الغربية، وانتهى بنا الحديث حول التمركز العرقي الغربي، وكان أصل تلك الأفكار فكرة شعب الله المختار، التي يمكن عدّها الفكرة الدينية المغذية لروح العرقية، لكن الذي نود الإشارة إليه ههنا هو الأصولية الغربية التي ولدتها الحداثة لا الأصولية الدينية في حد ذاتها.

- لقد كانت النهضة الصناعية في أوروبا بداية النشوء الفعلي للأصوليات الغربية، التي كانت شرارتها الأولى هي فكرة القومية(2).ف- تتسق القومية تماماً مع وقائع التنظيم الاقتصادي للثورة الصناعية في مرحلتيها المبكرة والمتوسطة»(3).

- كما تغذت النزعة القومية على أفكار التنوير والسعي للتوسع الاستعماري للسيطرة على مزيد من الموارد الطبيعية، ويمكن عدّ النزعة القومية نتيجة «لأفكار التنوير وتفاعلها مع جماع العلاقات الإنسانية التي نسميها الثورة الفرنسية، وربما يمكن القول بعبارات مفرطة في التجريد، إن أفكاراً عن السيادة الشعبية والديمقراطية والإرادة العامة حسب المعنى الذي قصد إليه روسو، قد تحولت إلى واقع سياسي كتبرير

ص: 203


1- أصولية fundamentalism fondamentalisme ou Inégrisme ، لغة «من أصول وهذه ترجمة للفظة Fondamentals وهي لفظة إنجيلية مشتقة من لفظة أخرى هي Fondation بمعنى أساس، وأغلب الظن أن الذي سك المصطلح Fundamentalism هورئيس تحرير مجلة أمريكية اسمها New York Fodation - Examiner في افتتاحية عدد يوليو 1920 إذ عرف الأصوليين بأنهم أولئك الذين يناضلون بإخلاص من أجل الأصول، وأغلب الظن كذلك أن التي مهدت لسك هذا المصطلح سلسلة كتيبات صدرت في المرحلة من 1909 إلى 1915 بعنوان الأصول بلغت اثني عشر كتيباً «مراد وهبة، المعجم الفلسفي، مصر القاهرة، دار قباء الحديثة، 2007،ص .71 جاء تعريف الأصولية في الموسوعة العربية العالمية أنها عبارة عن : اتجاه فكري اعتقادي يدعو إلى العودة إلى الأصول أو الأسس لدين أو مذهب معين تخلصاً من بعض المعتقدات أو أنواع السلوك الذي استحدث في ذلك الدين أو المذهب، لا يكاد يخلو دين من الأديان الرئيسة أو مذاهبها أوالتيارات الفكرية وغير الفكرية من نوع من أنواع الأصولية... غير أن مفهوم الأصولية تطور في الثقافة الغربية نسبة إلى حركة واسعة داخل المذهب البروتستانتي النصراني، وتحاول المحافظة على ما تراه الأفكار الأساسية للنصرانية ضد نقد اللاهوتيين الأحرار ... وبين عامي 1910و1915نشر مؤلفون مجهولون 12 كتيباً بعنوان الأصول وأخذت الأصولية اسمها من هذه الكتيبات وحاول المؤلفون تفنيد المبادىء الأساسية للنصرانية التي يجب التسليم بها من دون تشكيك الموسوعة العربية العالمية، الرياض، الملكة العربية السعودية، مؤسسة أعمال الموسوعية للنشر والتوزيع، ط2، 1999، ج2، ص 259.
2- القومية ترتبط الأمم - القومية بظهور القوميات التي يمكن تعريفها بوصفها منظومة من الرموز والمبادىء التي تضفي على الفرد الإحساس بأنه جزء من جماعة سياسية واحدة، وتتضح القومية في أجلى مظاهرها عند بناء الدولة الحديثة أنتوني غدنز، علم الاجتماع ترجمة فايز الصياغ بيروت لبنان، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005، ص 468.
3- كرين برينتون تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال، الكويت، مجلس الثقافة والنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة عدد 82 ص 214

للدولة القومية ذات السيادة»(1). وعليه يمكن القول إن بدايات تشكل النزعة الأصولية الغربية التي ولدتها الحداثة كانت مع ظهور الدول القومية، والتسابق المحموم نحو الظفر بالمستعمرات وتحقيق المزيد من السيطرة على العالم، فكانت كل دولة تتشكل لتتغذى على الروح القومية التي تعدّ بمنزلة لضامن الوحيد للاستمرارية وإقناع جماهير الشعوب التي ما كانت لتألف هذا النوع من التصور للدويلات الحديثة، ذلك «أنها من أهم العوامل التي تؤسس الأمم»(2).

- وعليه يمكن عد القومية إحدى الركائز الأساسية للأصولية الغربية، ومنها انطلقت جميع النزعات والمذاهب والإيديولوجيات الأصولية في التاريخ المعاصر، فقد«اتخذ الألمان والإيطاليون من المذهب النازي والفاشي ركائز فكرية لتحقيق غايات قومية، وعندما اندلعت الثورة الفرنسية واتخذت مبدأ الحرية والمساواة استخدمتها كأداة لقوميتها من أجل السيطرة على أوروبا والعالم، وفي روسيا عندما اندلعت الثورة الفرنسية البلشفية اعتنقت روسيا المذهب الاشتراكي واتخذت منه أداة للسيطرة على الجمهوريات

السوفيتية وفرض سيطرتها على أوروبا الشرقية من خلال هذه الصبغة القومية»(3).

- أما بالنسبة للأصولية عند جارودي، فبعد أن عرض أهم التعريفات لها في المعاجم، كمعجم روبير، ولاروس والموسوعة العالمية، قام بتلخيص تلك التعريفات ووصل إلى تحديد أهم المكونات الأصولية إذ يقول: «أولاً : الجمودية؛ رفض التكيف، جمود معارض لكل ،نمو لكل تطور ثانيا : العودة إلى الماضي، الانتساب إلى التراث، المحافظة، ثالثاً: عدم التسامح، الانغلاق التحجر المذهبي: تصلب، كفاح، عناد... وهي تقوم على معتقد ديني أوسياسي مع الشكل الثقافي أو المؤسسي الذي تمكنت من ارتدائه في عصر سابق من تاريخها وهكذا تعتقد أنها تمتلك حقيقة مطلقة وأنها تفرضها»(4).

ص: 204


1- المرجع نفسه، ص 212.
2- نبيلة داود، الموسوعة السياسية المعاصرة ، مصر ، دار الغريب للطباعة والنشر، 1995، ص 37.
3- المرجع نفسه، ص 37- 38
4- روجیه غارودی الاصولیات المعاصرة اسبابها و مظاهرها باریس فرنسا دار عام الفین ط 1، 2000 ص 11، 13

فالنزعة الأصولية (1)بذلك لا تحتكم إلا إلى التصورات الماضوية، المنغلقة وتنطلق منها لتستعملها براديغم لتفسر بها حاضرها ومستقبلها، وترفض نزعة تجديدية خارج ذلك الماضي، تلك النزعة المحاطة بالسياج الدوغمائي الذي ينمط جميع التصورات وفق تصوره الذي يأبى أن تكون الحقيقة خارج تصوره، وهم أصحاب «الأفهام الحرفية، يجهلون كل شيء عن الحركة الحقيقية للعالم والذي هو خلق إلهي متجدد، إنهم يدّعون امتلاك أجوبة لجميع مشكلات عصرنا»(2)، وهوما يطلق عليه النزعة التمامية، التي تدعي أن كل شيء يتم تفسيره وفق ذلك الأنموذج السائد، وأن العالم قد تمت عملية تأويله، فلا مجال لفهم أو تأويل آخر.

- ويرى جارودي الأصولية الغربية بأنها جماع الأصوليات كلها التي انبثقت في العالم، «فالأصولية الغربية هي العلّة الأولى، ثم ولدت كل الأصوليات الأخرى ردا على أصولية الغرب»(3)، والسبب في ذلك أن «الغرب منذ عصر النهضة، فرض نموذجه الإنمائي والثقافی»(4)، فثقافة الغرب تدعي أن نموذجها هو الأكمل والإنساني الذي لا بد من أن يسود العالم، وما النماذج الثقافية الأخرى إلا نماذج قاصرة وغير علمية، وبذلك أصبحت الأصولية هي «الخطر الأكبر على عصرنا، حيث لا يمكن حل أية مشكلة انطلاقاً من مجتمع جزئي واستناداً إلى معتقداته الجامدة»(5).

- لقد عدد روجيه جارودي أنواعاً متعددة من الأصوليات، والذي نود الإشارة إليه الأصوليات التي دشنتها الحداثة الغربية، خاصة الأصولية العلماوية، والأصولية

ص: 205


1- عدد المستشرق الألماني فريتش شيبات اتجاهات متعددة من الأصوليات وهي الآتي: » (أ) الشمولية وهي مفهوم مأخوذ عن الكاثوليكية، وتعبر عن وجهة النظر التي تقول إن جميع الأسئلة التي تقدمها الحياة الخاصة والعامة تتوافر الإجابات عنها في العقيدة أو بالأحرى في تعاليم الدين أوالأيديولوجية ، (ب) النصوصية : أي الرأي القائل إن النصوص المقدسة ينبغي ألا تمس وينبغي أن تفهم حرفياً أولفظياً، (ج) الإنحياز المطلق أي رفض أي مناقشة للمبادىء التي يعتنقها الأصولي والتعصب تجاه أي وجهة نظر أخرى مخالفة فريتش شيبات الإسلام شريكا، دراسات عن الإسلام والمسليمن ترجمة عبد الغفار مكاوي، الكويت، عالم المعرفة عدد 30280 ، ص 79 هذه الأوصاف التي عدها المستشرق فريتش شيبات خاصة إلى حد كبير بالأصولية الإسلامية، ولا يمنع في بعض هذه الاتجاهات أن تشترك فيها بعض الأصوليات الغربية وكذا الصهيوينة
2- روجيه جارودي، تقديم لكتاب المشكلة الدينية، محسن الميلي، دمشق سوريا دار قتيبة، ط1، 1993، ص9.
3- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ، ومظاهرها، مصدر سابق، ص.12.
4- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
5- المصدر نفسه، ص 12

الستالينية، والأصولية ،الأميركية، لأن سائر الأصوليات كانت نشأتها دينية، الأصولية اليهودية، والأصولية ،الفاتيكانية والأصولية الإسلامية هذه الأخيرة التي جاءت رد فعل على الأصولية الغربية الإستعمارية، كما أشرنا سابقاً. أما الأصوليات التي ولدتها الحداثة الغربية فهي الآتي:

1/ الأصولية العلماوية:

- يمكن عدّ الأصولية العلماوية تلك التي «تجعل من العلم معتقداً متحجراً (دوغما)، فالأراء العلمية التي تقررها المدرسة سيتعين أن ترتدي لاحقاً الأشكال التي تجعلها مقدسة»(1)ويعد أوجيست كونت هو الأب الروحي لهذه الأصولية، الذي حوّل تصور العالم وفق نموذجه التفسيري الأخير وهي مرحلة العلم، وهو البراديغم الذي أعطاه المقدرة الكاملة لتفسير كل شيء من خلاله، وبالتالي إقصاء النماذج التفسيرية الأخرى ،«إذ يبدأ التاريخ عنده بالحقبة الأسطورية الغيبية، ومنها إلى الحقبة الميتافيزيقية، لينتهي المطاف عند ما أسماه بالحقبة الوضعية العلمية المتطابقة مع نظرة علمانية دهرية تقطع جملة مع التصورات الأسطورية والإحالات الدينية المتعالية»(2).

2/ الأصولية الستالينية:

- تنسب هذه الأصولية إلى جوزيف ستالين(3)، الذي كان من طبقة البروليتاريا، ليجد نفسه في سدة الحكم، إذ تبنى التصور الماركسي في بناء الدولة السوفييتية، ولكن هذه الماركسية هي ماركسية ستالين وفق تأويله وفهمه لها، وعلى هذا الأساس

ص: 206


1- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ، ومظاهرها، مصدر سابق، ص18.
2- رفيق عبد السلام، آراء جديدة في العلمانية والدين والديمقراطية، بيروت لبنان مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 2007، ص 25.
3- ستالين جوزيف 18799-1953 رئيس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية السابق من عام 1929 وحتى صعد من حالة الفقر المدقع إلى حاكم البلاد تغطي مساحتها سدس مساحة العالم، حكم ستالين حكماً دكتاتورياً خلال معظم سنوات حكمه، وأعدم وسجن معظم الذين ساعدوه في الوصول إلى سدة الحكم ، لخشيته من أن يكونوا مصدر تهديد لحكمه، وكان مسؤولاً أيضا عن موت كثير من الفلاحين السوفييت الذين عارضوا برنامج الزراعة التعاونية عمال المزارع السوفييت كانوا يعملون في مزارع تديرها الدولة بعد أن أبطل ستالين الملكية الخاصة للمزارع في عام 1929، توفي سنة 5 مارس 1953 الموسوعة العربية العالمية، مرجع سابق، ج 12، ص 152 153 .

«فقد تحولت الماركسية من فلسفة تبصر الإنسان بإمكانياته الخلاقة وتدفعه إلى الأخذ بزمام الصيرورة التاريخية، إلى عقيدة دوغمائية وممارسة كليانية وجرائم لا إنسانية... فقد تحول ستالين بفعل السلطة التي كان يمارسها إلى آكل بشر وكان يعتقد أنه هو الثورة وأنه هو الاشتراكية»(1).

- ويرى جارودي أن فكر ماركس هو فكر فلسفي نقدي، هذه «الفلسفة النقدية هي استيفاء لكون كل ما نقوله عن الطبيعة عن التاريخ أو عن الله، إنما يقوله الإنسان، وهي ومن ثم تأكيد ظرفي، متناسب مع معارفنا ومع تجاربنا الآنية، في هذا المعنى وفي هذا المعنى فقط، كان ماركس يعلن أن اشتراكيته علمية»(2).

- على عكس ما تقرره كل مذهبية وأصولية وسبب الانحراف الذي أصاب الماركسية بسبب الاعتقاد في علمية الأنموذج التفسيري بالتصور الوضعي القادر أن يفسر كل شيء، هذا الاعتقاد قاد الغرب إلى الانتحار، إذ إن ورثة ماركس هم الذين انطلى عليهم هذا التوجه فمصطلح علمي جرى استعماله في معنى الوضعية، أي في معنى هذا الادعاء لبلوغ حقيقة نهائية من خلال حصر المعرفة الإنسانية وتاريخه وابتكاراته... فالمذهبية تقوم على وهم أو على زعم الاستقرار في الكائن وإعلان حقيقته المطلقة... تعتبر أن بنية العالم شاملة وخالدة في هذه الحقبة أوتلك من حقبات تاريخه»(3).

- يبدو أن جارودي جد حانق على ستالين، إذ جعل اصطلاح الأصولية على اسم ستالين، ذلك أن الانحراف الأكبر للماركسية كان على يده، بدل أن تسير في الخط الذي وضعه ماركس، للقضاء على الظلم والاستغلال الطبقي الذي كرسته الرأسمالية فقد قام ستالين بتحويل نظام الحزب الشيوعي، وغيَّر بنية التركيب للحزب، وتصرف تصرف الدكتاتور «فاستغل منصبه في تعيين أتباعه في المراكز الهامة لكي يضمن

ص: 207


1- روجيه جارودي، في حوار له مجلة حدث الخميس L Evenement du Jeudi بتاريخ 30 مارس إلى 5 أفريل 1989، ضمن كتاب، محسن الميلي، المشكلة الدينية، مرجع سابق، 28.
2- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، مصدر سابق، ص 26
3- المصدر نفسه، ص .26 - 25

الأغلبية لنفسه في مؤتمرات الحزب... وقد تآمر في البداية مع بعض زملائه لكي يبعد تروتسكي عن خلافة لينين... ثم تآمر مع الآخرين وقضى على حلفائه الأولين، وجعل جميع قرارارت المكتب السياسي يجب أن تكون بالإجماع، ثم أعلن بعد ذلك خطة السنوات الخمس، التي تكفلت بفرض الزراعة الجماعية، ونفذت الخطة بكل وسيلة من وسائل الإرغام ومات في سبيل ذلك الملايين وزج بغيرهم من الملايين في معسكرات التي أقيمت في المناطق المهجورة بشمال روسيا»(1).

بهذا التصور تحولت الفلسفة النقدية الماركسية ، من فلسفة إنسانية في بعض أبعادها، إلى أصولية ستالينية دوغمائية دموية، متنكرة للمبادىء التي نادت بها في أول نشأتها حيث يقول جارودي إن «هذا التحريف الأصولي حول ماركسية ماركس إلى عكسها»(2).

3/ الأصولية الأميركية:

- أما بالنسبة للأصولية الأميركية فقد أفرد لها جاوردي مؤلفاً خاصاً بعنوان: الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، عام 1997م، (avantgarde de la decadence Unis-États Les) إذ تناول في هذا الكتاب التركيز على نقد المشروع الأميركي في العالم، من خلال سياساتها العالمية، إذ یری جارودي أمريكا عبارة عن منظمة إنتاج تديرها المنطقية التقنية أو التجارية فقط، حيث يسهم كل فرد كمنتج أو مستهلك، متطلعاً إلى هدف وحيد، وهو الزيادة الكمية لرفاهه وكل شخصية ثقافية أو روحية أو دينية، تعد قضية خاصة، فردية لا علاقة لها في تشغيل النظام»(3).

- فإذا كانت كذلك، فإن المنطق الذي يحكمها هو معيار التحقق المادي، والبحث على طرقه ووسائله التي تؤدي إلى الرفاه تلك الديانة التي صارت رائجة في المنطق العالمي الجديد.

ص: 208


1- أدريين كوخ، آراء فلسفية في أزمة العصر، مصر القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1963، ص 25.
2- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ، ومظاهرها، مصدر سابق، ص35.
3- روجيه جارودي، الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، مصدر سابق، ص 29.

فالأصولية الأميركية حسب جارودي، قائمة على فكرة الهيمنة والاستغلال الذي بدأ مع «تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر هو أولاً تاريخ إبادة الهنود الحمر... وهو أيضا تاريخ استغلال العبيد السود، خاصة في زراعة القطن»(1).

- أما تاريخ السيطرة والهيمنة الحقيقي وتمكّن الأصولية الأميركية من بسط نفوذها على العالم فقد كان عام 1992م كان «عام قمة الهيمنة للولايات المتحدة الأميركية ... هذا المنعطف التاريخي الذي وجدنا أنفسنا فيه عام 1992م»(2)، إذ بدأت أميركا تنميط العالم على النمط الاقتصادي، أحادية السوق النظام الديمقراطي، واستعملت في ذلك القوة العسكرية والاقتصادية، حيث عبَّرت الأمركة عن قمة أصوليتها في شكلها الحقيقي، إذ تم التخطيط «لهذا المنعطف بمد نفوذ السوق منظماً وحيداً للعلاقات الإنسانية على الصعيد العالمي، عن طريق الاستعمار الذي قام في البداية بجعل الدول المحتلة، مجرد روافد لاقتصاد الدول الاستعمارية»(3). فقد بدأت الهجمة على العراق «الأمر يتعلق بإعطاء درس وعبرة، يبين للعالم الثالث بكامله ، أن من غير المسموح لأي شعب ... أن يرتفع إلى أعلى مستوى من التقنية، واستثمار ثرواته الوطنية (وفي الحالة الراهنة البترول)، من دون مراقبة أسعاره من قبل الدول الاقتصادية الكبرى، أو أن يبتعد عن الدين الذي لا يجرؤ على الإعلان عن اسمه، ولكن الولايات المتحدة تفرضه على العالم وهو وحدانية السوق وعبادة المال»(4)، إنه نموذج الأصولية في طورها المتقدم والمعاصر وهو منهج للجنون، بمعزل عن المعارضة المبدئية لتنمية العالم الثالث خارج سيطرة الولايات المتحدة، يظل ضرورياً أن تفهم الشعوب المقهورة أن عليها ألا تتجرأ على رفع رؤوسها في حضرة السادة، أما إن فعلت، فهي لن تدمر

ص: 209


1- المصدر نفسه، ص 33 34
2- روجيه جارودي، حفار والقبور، ص8، 9.
3- المصدر نفسه، ص 9.
4- روجيه جارودي، الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، ترجمة صياح الجيهم ميشيل خوري، دار عطية للنشر، بيروت ، لبنان، ط2، 1999، ص .29

باستخدام العنف المتفوق تفوقاً ساحقاً فحسب، بل إنها ستستمر بالمعاناة طالما نجد ذلك محققاً لمصالحنا... هذا النموذج كما في العراق»(1).

- والنتجية التي يصل إليها جارودي بعد بحثه في دراسة الأصوليات الكثيرة والمتنوعة، في العالم، فهو يحمل النتيجة ونشأة الأصوليات للغرب الطارىء، الذي أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في صناعة تلك الأصوليات، يقول جارودي جميع الأصوليات (بعنفها وسلفيتها) هي ردود أفعال على أصوليات الغرب لتدافع عن هويتها، ورد الفعل هذا هو في الغالب ارتداد إلى الماضي ويتعلق به لأنه يحلم بالعصر الذهبي في مواجهة الغزو الثقافي، عصر ذهبي سبق هذا الاعتداء، وقلما يفضي إلى مشروع مستقبلي حقيقي»(2).

خاتمة:

ما نخلص إليه أن الحضارة الغربية، كانت قد انطلقت من أفكار أسهمت في تشكيلها وحددت رؤيتها المسبقة إلى العالم، خاصة فكرة التمركز حول ،الذات، هذه الأخيرة التي انبثقت منها جميع صنوف الإيديولوجيات المختلفة، حيث قامت هذه الأخيرة بتفعيل فكرة الصراع في العالم، وقد حددت الإطار الذي سيتموضع فيه الغرب تجاه الآخر، ليست الآخ-ر ه-و الجحيم فقط، بل الآخر الذي لا يحق له إلا أن يكون تابعاً للنسق الذي

قد رسم.

تعدّ نزعة التمركز حول الذات ورفض الحضارة الغربية ومصالحها على جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات، من أبرز تجليات أزمة القيم الحداثية: فراغ العالم من المعنى منها، وسيتم تقديس كل ما هو غربي، يعدّ مركزاً والباقي هو ،الهامش، وعليه سيتم سحق جميع من يخالف هذا التصور، وهذا ما تم بالفعل، ففلسفة الأنوار الغربية، قامت بسحق حضارات إنسانية كان من الممكن أن تفيد

ص: 210


1- نعوم تشومسكي، سنة 501 الغزو مستمر ترجمة مي نبهان دمشق سوريا، دار المدى للثقافة والنشر، 1996، ص 435.
2- روجيه جارودي، الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، مصدر سابق، ص 123.

منها الإنسانية في جوانب متعددة، كالحضارة الهندية والحضارت التي همشت كالحضارات الشرقية.

إن ما قدمه روجيه جارودي حول نوابت الأصولية الغربية ونقده لها، هي لفتة للمراجعة، فما العنف الذي نراه في العالم ما هو إلا نتيجة لمثل هذه الفلسفة، خاصة إذا عرفنا أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في المقدار ومضاداً له في الاتجاه.

فالبدائل الفكرية تجاه هذه القضية لا تكمن إلا في محاولة مراجعة الذات والتخلص من النظرة الاستعلائية، ودمج الذات في النسق الإنساني الذي يقوم على التعارف والتواصل لتحقيق إيتيقا الاعتراف والتعاون الإنساني في العالم الذي مزقته الحروب والصراعات من أجل طغيان الأنا المتعالية.

ص: 211

نقد الكولونيالية والكولونيالية الحديثة

قراءة في منظورية إدوارد سعيد

مجدي عزالدين حسن(1)

تعتبر دراسات ما بعد الكولونيالية (Postcolonialism) حقلاً معرفيّاً حديث النشأة نسبياً، ويتم موضعتها ضمن حقول الدراسات الثقافية والتي تعتمد في تفحصها للنصوص وللممارسات الثقافية المختلفة على فروع أكاديمية بحثية متعددة كالفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الإثنية والتاريخ، والنقد الأدبي، والتحليل النفسي، وعلم السياسة.

البدايات الأولى لظهور (ما بعد الكولونيالية)، كواحد من حقول المعرفة، تعود بنا إلى منتصف القرن العشرين حيث برزت الدراسات الثقافية المناهضة للهيمنة في الدوائر الأكاديمية، وهي ذات الفترة التي شهدت تحرر الدول ونيلها استقلالها من المستعمر. وفي أواخر السبعينات من القرن العشرين تبلورت الأطر المعرفية والمنهجية لهذا الحقل.

ص: 212


1- أستاذ ودكتور مشارك بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة النيلين الخرطوم - السودان.

ومنذ ذلك الوقت تم النظر إليها بوصفها النظرية التي تهتم بتفكيك الخطاب والممارسة الاستعمارية. وضمن هذا التوجه تم التركيز على فضح نوايا وأهداف المستعمِر المستترة خلف دعاوى الحضارة والمدنية والتبشير تلك المتمثلة في نهب ثروات وخيرات الشعوب التي تم استعمارها وهنا أيضاً ، نلحظ دعوة وانخراط نقاد ما بعد الكولونيالية في المشروع المتمثل في إعادة قراءة وكتابة التاريخ من وجهة نظر هذه الشعوب.

وضمن هذا الانخراط الأخير ركز نقاد ما بعد الكولونيالية على دراسة جملة من القضايا والمسائل، يأتي على رأسها توضيح وتحليل الكيفية التي أخضعت بها الكولونيالية الثقافات المحلية لمشيئتها ، وكذلك دراسة الصور التي استجابت بها الدول التي تم استعمارها لإرث الكولونيالية الثقافي بعد نيلها الاستقلال.

يعتبر فرانز فانون (Franz Fanon) (1962-1925م) بمثابة الأب الروحي للنظرية والمبشر الأول لها ، وعدّ كتابه (معذبو الأرض) كتاباً تأسيسياً لنظريّة ما بعد الكولونيالية، حيث تضمن أهم أطروحاتها ومقولاتها، اللتان حلل من خلالهما - فانون ومن جاء بعده- العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر تحليلاً سيكولوجياً واجتماعياً وتاريخياً.

بجانب ،فانون يعد البعض الثلاثي : إدوار سعيد هومي بابا، جيتاري سبيفاك بمثابة (الثالوث المقدس لنظرية ما بعد الكولونيالية). وبعض آخر عدّ كتاب (الاستشراق) لإدوار سعيد بمثابة الكتاب التأسيسي لهذه النظرية، بسبب الأثر الكبير الذي خلفه في كل من أتى بعده من نقاد ما بعد الكولونيالية.

يهدف هذا المقال البحثي إلى تسليط الضوء على حقل دراسات ما بعد الكولونيالية من خلال أعمال الكاتب والناقد والمفكر السياسي إدوارد سعيد (Edward Said) (2003-1935م)، وتبيان أهم أطروحاتها الرئيسة ولإنجاز هذا الهدف اخترنا التعاطي مع مشروع سعيد من خمس ،زوايا، حيث غطت أهم أعماله وأثاره، نقد الثقافة الكولونيالية عنده، ومفهوم النقد المقاوم، نظرة سعيد للاستشراق، وأخيراً صورة الشرق كما خلقه الغرب».

ص: 213

أهم أعماله وأثاره

ألّف إدوارد سعيد أكثر من عشرين كتاباً، نذكر منها:

* جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية - Conrad and the Fiction of Auto (1966)

* بدايات مقاصد ومنهج (Joseph biography (1975) Beginnings: Intentions and Method

* الاستشراق Orientalsm (1978)

* مسألة فلسطين (The Question of Palestine (1979)

* تغطية الإسلام (Covering Islam (1981)

* العالم النص الناقد (The World, the Text, and the Critic (1983)

* الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism (1993)

* صور المثقف (Representations of the Intellectual (1994)

* السلطة، السياسة والثقافة (Power, Politics, and Culture (2001)

* فرويد وغير الأوروبيين (Freud and non-European (2003)

انخرط سعيد في مشروعه الناقد والمحلل لخطاب الاستشراق، حيث كانت البداية من أطروحة الدكتوراه خاصته والتي كانت في الأدب المقارن، والتي اختار سعيد أن يكون الكاتب الإنجليزي البولندي الأصل جوزيف كونراد( Joseph Conrad) موضوعاً لها، ونشرت بعد ذلك كأول كتبه عام 1966م بعنوان: (Conrad and the Fiction of Autobiography)، وربما يكون من ضمن الأسباب التي حدت به إلى اختيار هذا الموضوع القواسم المشتركة بينه وبين كونراد فهو كاتب عانى مثله معاناة النفي والتهجير مكانياً ولغوياً.

ص: 214

أيضاً، نلاحظ ارتباط سعيد المبكر بتوجه ما بعد الكولونيالية من خلال لجوءه إلى استخدام منهجية مدرسة جنيف، فسعيد لم يستخدم منهجية النقد الجديد، على الرغم من أنها كانت لها السيادة في زمن كتابته لأطروحته، لكنه رفضها كمنهجية، رغم سحرها آنذاك، لأنها تتعاطى مع النص بوصفه مقطوع الصلة عن التاريخ الثقافي لمؤلفه. واختار أن يقارب أعمال كونراد من خلال منظور مدرسة جنيف التي تهدف في دراستها للنص إلى إعادة بناء تشييد نظرة الكاتب للوجود انطلاقاً من لغته الإبداعية.

في العام 1975م صدر كتابه الثاني بعنوان ( بدايات: مقاصد ومنهج ) : (Beginnings Intentions and Method) والكتاب يركز على تأمل مشكلة البدايات في الرواية الكلاسيكية والأدب الحداثي.

يعتبر كتابه الاستشراق Orientalsm الصادر في العام 1978م الكتاب العمدة لإدوارد سعيد، وهو كتاب كان له أثر كبير وإسهام عظيم في إرساء أسس ودعائم نظرية ما بعد الاستعمار . ويعالج سعيد في هذا الكتاب العلاقة بين السياسة والثقافة ويقطع فيه شوطاً طويلاً في تحليل الخطاب الاستشراقي مبيِّناً أنه ليس كما يدعي مجرد فرع معرفي حيادي بل تخترقه حتى النخاع علاقات القوة والسلطة، فدراسات المستشرقين عن (الشرق) خدمت إلى حد كبير المخطط الاستعماري الهادف إلى إخضاع الشعوب الشرقية لسيطرته واستغلالها لمصالحه.

وفي كتابه تغطية الإسلام Covering Islam الصادر سنة 1981م، والذي يستكمل ما بدأه في كتابه الاستشراق بنقد الصور النمطية الزائفة التي تلجأ إليها وسائل الإعلام الأميركية لدى تناولها موضوعات الإسلام والشرق.

أما في كتابه:( العالم النص الناقد) (The World, the Text, and the Critic) الصادر عام 1983م من ضمن ما يعالج فيه سعيد سؤال ما الذي يحدث حينما تحاول ثقافة ما أن تتفهم ثقافة أخرى، أو أن تهيمن عليها ، أو أن تقتنصها في حالة كونها أضعف منها. ويطور مفاهيم نقدية جديدة مثل مفهوم (النقد العلماني أو الدنيوي)

ص: 215

(Secular Criticism) والذي يعارض اقتصار النقد على النص وحده، وبالمقابل يشير إلى قراءة النص في ارتباطه بشرطه الدنيوي الذي ينشبك فيه . وكذلك مفهوم (ارتحال النظرية) (traveling theory) فيري أن الأفكار والنظريات تسافر مثل البشر منتقلة من مسار آخر.

أما في كتابه (الثقافة والإمبريالية) فيقوم سعيد بتوسيع إطار التحليل ليشمل أماكن أخرى أبعد من الشرق العربي والشرق الأدنى الإسلامي، كالهند. وكذلك قام فيه بدراسة حركات المقاومة، وتحدث فيه عن إرادة الآخرين لمقاومة إرادة الإمبريالية إضافة إلى الأعمال المعارضة التي قام بها مثقفون أوروبيون وأميركيون وعلماء لا يمكن اعتبارهم جزءاً من بنية شيء مثل الاستشراق(1).

وكخاتمة لهذا المحور نقول كان هدف سعيد من خلال كتاباته المتعددة اختراق حجب التقاليد الثقافية الغربية التي شيدت على مدى عقود طويلة في القرنين الماضيين وعالجت كتاباته بشكل موسع وعميق الهيمنة الثقافية التي مارسها الغرب على الشرق والجنوب، وركزت هذه الكتابات بشكل خاص على دراسة العلاقة بين الشرق (وتحديداً الشرق الأدنى الإسلامي والعربي) وبين الغرب (تحديداً فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة). حيث تم رصد تلك العلاقة منذ غزو نابليون بونابرت لمصر في أواخر القرن الثامن عشر مروراً بتناول الفترة الاستعمارية الرئيسة والتي تزامنت معها نشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا، وانتهاءً بالهيمنة الإمبريالية البريطانية والفرنسية على الشرق بعد الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأميركية في الوقت نفسه.

نقد الثقافة الكولونيالية

يفكك سعيد المقولة التي روجت لها المركزية الأوروبية، بل أبعد من ذلك، قامت برفعها إلى مصاف المسلمات الأولية والمقولات التأسيسية التي لا يرقى الشك إلى أهميتها وترابطها المنطقي، والتي مفادها أن الثقافة الأوروبية هي محور التاريخ

ص: 216


1- إدوارد سعيد السلطة والسياسة والثقافة، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي دار الآداب، بيروت، ط1، 2008م، ص 208.

البشري كله وأنه لكي تنجز الشعوب والأمم غير الأوروبية نهضتها فلا مناص لها من اعتناق ذات المثل وذات منظومة القيم التي أدت إلى تقدم الحضارة الغربية، وليس ثمة مخرج لها إلا بالعودة إلى مثاليات هذه الأخيرة ومرجعياتها.

عن طريق فرض هذا التمركز الأوروبي، كما يرى سعيد، استطاع الغرب الكولونيالي فرض هيمنته وسيطرته على بقاع بعيدة عنه كأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. هذه السطوة من جانب المركزية الأوروبية ما كان لها أن تتم إلا على حساب تهميش كل ما يقع خارج محيط دائرة الحضارة الأوروبية، وما أنتجته هذه الأخيرة من معارف ورؤى وتصورات وقيم للموضوع الكلي المركب من ثلاثية الإنسان والعالم والله.

وهكذا قام التسويغ العقلي للإمبريالية على ما يسمى (عبء الرجل الأبيض)، وعلى مهمة نشر الحضارة، ونشر قيم التحضر والتمدن، وحقوق الإنسان، واليوم أصبح يتمثل فيما يدعى (الحرب على الإرهاب) و(النضال من أجل الديمقراطية)، ويستشهد سعيد بما ورد في بعض خطابات الرؤساء المتعاقبين على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية من أنهم يقاتلون لأجل نصرة الخير في مقابل الشر، وأنهم لا يهدفون إلا لنشر القيم الديمقراطية، القيم الأميركية، في كل أنحاء العالم. والخلاصة أنهم لا يتحدثون أبداً عن الهدم والتدمير، ولكنهم يتحدثون في الحقيقة عن إهداء التنوير والحضارة والسلام والتقدم للناس(1).

ما سبق أدى في نظر سعيد إلى ما وصفه ب (التشرنق العرقي الأوروبي) الذي هو بمثابة بنية لاشعورية كامنة خلف طرائق البحث الغربي ومناهجه والتي أدت، في محصلتها النهائية، إلى حشر كل الثقافات غير الأوروبية، والأدنى منها، إلى موقع من مواقع التبعية. في ذات السياق، يلاحظ سعيد أن نصوص الاستشراق تحتل حيزاً دون أي تطور أو نفوذ، ألا وهو ذلك الحيز الذي يماثل تماماً موقع المستعمرة المفيدة للنصوص والثقافة الأوروبية. ويحدث هذا كله في نفس ذلك الوقت الذي بدأت تترعرع فيه الإمبراطوريات الاستعمارية العظيمة(2).

ص: 217


1- راجع : إدوار سعيد الثقافة والمقاومة، ترجمة علاء الدين أبو زينة، دار الآداب، ص 166.
2- أنظر إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، ترجمة: عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000،ص 55-56.

فسعيد، هنا يوازي بين نشأة دراسات الاستشراف من جهة، وبين بداية الاستعمار الأوروبي للعالم من الجهة الأخرى. ويرى أهمية الدور الكبير الذي قام به الباحثون الغربيون المشتغلون في حقل الاستشراق لعبوا في تعزيز واستدامة مصالح الغرب الكولونيالي.

ويضرب سعيد مثلاً بما قاله ماكولي عن التربية الهندية، عام 1835م في محضر اجتماع رسمي :«ليس لي أية معرفة لا بالسينسكريتية ولا بالعربية، ولكنني فعلت ما لتكوين تقويم دقيق لقيمة كل منهما. لقد قرأت ترجمات لأشهر الأعمال العربية والسنسكريتية ولقد تحادثت هنا وفي الوطن مع أناس متميزين بكفاءاتهم في اللغات الشرقية. بيد أنني ما وجدت واحداً منهم بمقدوره أن يدحض حقيقة كون رفٍ واحدٍ من مكتبةٍ أوروبية جيدة يساوي كل الأدب المحلي للهند والجزيرة العربية. إن السمو الجوهري للأدب الغربي محط الإقرار التام فعلاً من قبل أولئك الأعضاء الذين يشكلون اللجنة والذين يدعمون الخطة الشرقية في التعليم. وليس من المبالغة أن نقول أن كل المعلومات التاريخية المجموعة في اللغة السنسكريتية أقل قيمة مما قد يوجد في تلك الملخصات المبتذلة والمستخدمة في المدارس الإعدادية في إنكلترا، وفي كل فرع من فروع الفلسفة الأخلاقية والمادية نجد أن المكان النسبي لهاتين الأمتين هو نفسه تقريباً»(1).

ويعلق سعيد على ما قاله ماكولي، بقوله:«إن ذلك القول، في الواقع، لدليل على التشرنق العرقي، بل وأكثر من ذلك، لأن رأي ماكولي ما هو ذلك، لأن رأي ماكولي ما هو إلا تصور غارق في صميم التشرنق العرقي وذو نتائج مؤكدة. إذ إن ماكولي كان يتحدث من موقع السلطة حيث كان بوسعه ترجمة تصوراته إلى قرار يأمر سكان شبه قارة بأسرها أن يذعنوا للدراسة بلغة غير لغتهم الأم . وهذا ما حدث في حقيقة الأمر»(2).

ويقدم سعيد مثالاً آخر من كتاب إيريك ستوكس: (النفعيون الإنكليز والهند)

ص: 218


1- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 17.
2- نفس المصدر السابق ص 17-18

حيث تحدث ستوكس عن أهمية الفلسفة النفعية للحكم البريطاني في الهند. يكتب سعید معلقاً: يتعجب المرء في كتاب ستوكس من الكيفية التي تتمكن بها زمرة قليلة من المفكرين نسبياً، من بينهم بينتام وجون ستيوارت ميل من الإتيان بالحجج لتعزيز مذهب فلسفي واستكماله لحكم الهند، مذهب ينطوي في بعض جوانبه على تشابه لا يرقى إليه الشك مع آراء آرنولد وماكولي في الثقافة الأوروبية من إنها أسمى من كل ما عداها. فها هو جون ستيوارت ميل يحتل اليوم بين (نفعيي البيت الهندي) منزلة ثقافية مرموقة إلى الحد الذي جعل آراءه عن الحرية والحكومة التمثيلية تدور على ألسنة أجيال وأجيال على أنها المقولة الثقافية الليبرالية المتطورة حول هذه القضايا. ولكن عن ميل كان على ستوكس أن يقول ما يلي: (لقد أفاد جون ستيوارت في كتيِّبه عن الحرية قائلاً بدقة متناهية أن مبادئ الحرية مقصود تطبيقها حصراً على تلك البلدان التي تطورت تطوراً كافياً في مضمار الحضارة ليكون بمقدورها تسوية شؤونها بالبحث العقلاني. وعلاوة على ذلك كان مخلصاً لأبيه في تشبثه بالاعتقاد أن الهند ما كان بالإمكان حكمها وقتذاك إلا بشكل استبدادي. ولكن على الرغم من أنه كان يرفض، هو نفسه تطبيق تعاليم الحرية والحكومة التمثيلية في الهند، فإن حفنة ضئيلة من الليبراليين الراديكاليين وجمهرة متكاثرة من المثقفين الهنود لم يضعوا أمثال هذه القيود). وكما يقول سعيد، فإن لمحة خاطفة على آخر فصل في الحكومة التمثيلية - ناهيك عن التطرق إلى المقطع الوارد في المجلد الثالث من مقالات وبحوث حيث يتحدث عن تغييب الحقوق بالنسبة للبرابرة - توضح بمنتهى الجلاء رأي ميل الذي قال فيه أن ما كان عليه أن يقوله عن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه بالفعل على الهند، والسبب بالأساس أن رأي ثقافته بحضارة الهند هو أنها لم تكن وقتها قد بلغت بعد درجة التطور المطلوب(1).

إن تاريخ الفكر الغربي بأسره إبان القرن التاسع عشر، حسب ما يذهب سعيد، مليء بأمثال هذه التخرصات والتمييزات بين ما هو مناسب لنا (أي الأوروبيين) وما هو مناسب لهم (غير الأوروبيين)، إذ إن الأوائل مصنفون بأنهم في الداخل، في

ص: 219


1- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 18

المكان الصحيح مألوفون منتمون، وباختصار فهم فوق. والمثاني مصنفون على أنهم في الخارج ،ثنوى ،شواذ تّبع، وباختصار فهم تحت فمن هذه التمييزات التي حظيت بسطوتها من خلال الثقافة، ما كان بوسع أي امرئ أن يتفلت منها حتى مارکس نفسه إن النظرة للثقافة الأوروبية على أنها المعيار الممتاز حمل معه زمرة مرعبة من التمييزات بين ما لنا وما لهم بين الملائم وغير الملائم، وبين الأوروبي وغير الأوروبي، وبين الأعلى والأدنى، فهذه هي التمييزات التي يقع عليها المرء في أي مكان في موضوعات من أمثال علم اللغة والتاريخ ونظرية العرق والفلسفة والأنتروبولوجيا، لا بل وحتى البيولوجيا(1).

هذا هو الوجه القبيح للكولونيالية الثقافية والفكرية والذي قام سعيد بتعريته في مجمل كتاباته، وهو يرى أن الكولونيالية الثقافية نجحت في دمج منظور المستعمر (بكسر الميم) في رؤى الشعوب المستعمرة، حتى شعرت هذه الأخيرة بأنها غير قادرة على فعل أي شيء دون وصاية الأول ودعمه، وفهمت كذلك أن التشريع لا ينبغي أن يصدر من ثقافة وقيم مجتمعاتها، ولكن من مجتمع الأول وقيمه هو(2).

النقد المقاوم

واحد من الأوجه التي تبرز جديّة طرح سعيد وأصالته، هو ما نلمسه في مفهوم (النقد المقاوم) عنده، ويصلح توصيف وتسمية مشروع سعيد ب (مشروع النقد المقاوم)، فكتابات سعيد وأعماله تهدف بشكل عام إلى نقد كولونيالية المنظومة المعرفية الغربية، وبشكل خاص إلى نقد السلطة والطغيان الذي يمارسه الإنشاء وعلاقات القوة التي يجسدها خطاب الاستشراق.

في مفهومه للنقد المقاوم، يربط سعيد بشكل وثيق بين مفهوم النقد من جهة وبين مفهوم المقاومة من جهة ثانية. ويرى أن أياً من هذين المفهومين لا يتقوم بذاته باستقلال عن الثاني، بل يستلزم أياً منهما الآخر ويستدعيه.

ص: 220


1- نفس المصدر السابق، ص 18-19
2- راجع : إدوارد سعيد، القلم والسيف حوار دافيد بارسامیان ترجمة توفيق الأسدي دار كنعنان للدراسات والنشر، دمشق ط 1 ، 1998م، ص 134

فهو يتحدث عن النقد بوصفه فعلاً مقاوماً، لأن النقد، حسب وجهة نظر سعيد، جب أن يرى نفسه بالأساس مشجعاً للحياة من جهة، ومعارضاً، بحكم تكوينه، لأي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والظلم، وتتمثل الأهداف الاجتماعية له في إنتاج المعرفة بشكل حر ولمصلحة الحرية البشرية بعيداً عن أي صورة من صور القسر(1).

فمثلاً، الهوية السياسية عندما تكون عرضة للتهديد، فإن الثقافة تمثل أداة للمقاومة في مواجهة محاولات الطمس والإزالة والإقصاء. إن المقاومة هنا هي شكل من أشكال الذاكرة في مقابل محاولات النسيان. في الجزائر، مثلاً،سعی المستعمر الفرنسي إلى منع تعليم اللغة العربية في المدارس، فبدأ الناس يجترحون أماكن أخرى - المساجد في حالة الجزائر - لتعليم اللغة العربية وإدامة التراث الشفهي. هناك دائماً محاولة للقمع والإخضاع يقابلها إبداع شعبي وإرادة يضطلعان بمهمة المقاومة (2).

في هذا الإطار نفهم كيف شكلت كتابات سعيد مشروعاً نقدياً عن الغرب، حيث يحلل عقده الفكرية، ويخلخل في ثقافته تلك الادعاءات التي تلبس ثوب الجوهرية والموضوعية، ويقوم بتفكيك تلك المفارقات الضدية الأساسية التي تقوم فيه بين ما يعتبره مبادئ لتطوره الحضاري والبحثي والعلمي وبين الطريقة التي يعاين بها الآخر - حين يكون هذا الآخر الشرق - وحين تتم هذه المعاينة في إطار القوة والفوقية والسلطة(3).

النقد بهذا المعنى (نقد دنيوي) كما يسميه سعيد، وهو (نقد في الدنيا) ما دام يقاوم أية نزعة للتمركز الأحادي الجانب ، وما دام يقاوم أيضاً التشرنق العرقي. هذان المفهومان يعملان بالتعاون مع بعضهما، وأي واحد منهما يستدعي الآخر. ولذلك على النقد المقاوم أن يستهدف تعريتهما وفضحهما، وكذلك فضح كل ما يبيح لثقافة ما أن تتقنع بقناع السلطة الذي تتحلى به بعض القيم على غيرها من القيم الأخرى.

ص: 221


1- راجع : إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 35.
2- إدوار سعيد الثقافة والمقاومة، مصدر سابق المصدر، ص 143-144
3- إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مقدمة المترجم، ص 6.

ومن ناحية أخرى، يربط سعيد مفهوم النقد المقاوم ب (الثقافة كأداة للمقاومة)، ويربط الأخيرة بمفهوم محدد للمثقف، يصور فيه سعيد هذا الأخير كمنفي، وهامشي، وهاو، وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة . ويؤكد على دور المثقف كغير منتمي.

ویرى سعيد أن النقد المقاوم يتطلب من المثقف أن يلتزم باستعمال لغة قومية ليس فقط لأنها ملائمة له ومألوفة لديه، وإنما من باب أمله أن يُخلّف في اللغة انطباعة عقلية معينة، ولهجة مميزة، وفي النهاية منظوراً يختص به(1).

ويطرح النقد المقاوم العديد من المشكلات على طاولته، والتي جميعها تثير مجموعة من التساؤلات يأتي على رأسها، حسب تقديرنا السؤال التالي: هل لا زال بالإمكان أن نقول بشكل قاطع وجازم بأننا قد فارقنا بصورة نهائية مرحلة الاستعمار، ودخلنا مرحلة ما بعد الاستعمار ؟ نطرح هذا السؤال وفي ذهننا مجريات الأحداث الراهنة والتي تشير إلى أن شكلاً استعمارياً جديداً قد حل محل الاستعمار بصورته العسكرية القديمة. وهو ما يتم التعبير عنه بمصطلح الكولونيالية الجديدة) (Neo Colonialism) ، فلا زال الغرب الكولونيالي يفهم أن ديمومة تطوره الخاص الصناعي والاقتصادي والثقافي يستوجب المحافظة على إبقاء الشرق غارقاً في تخلفه وتأخره.

وكذلك من ضمن الأسئلة التي يعالجها النقد المقاوم، تلك الأسئلة المرتبطة

باستجلاء طبيعة الاستشراق والتي يصوغها سعيد على النحو التالي:«ما هي أنواع الطاقات الأخرى الفكرية والجمالية والبحثية والثقافية التي دخلت في خلق تراث إمبريالي كتراث الاستشراق؟ وكيف خدم فقه اللغة والمعجماتية والتاريخ وعلم الأحياء والنظرية السياسية والاقتصادية وكتابة الرواية والشعر الغنائي، رؤية الاستشراق الإمبريالية إجمالاً للعالم؟ وأي تغيرات وتعديلات وتنقية وتشذيب، بل أي ثورات تحدث داخل الاستشراق ذاته، أو يعيد إنتاجها من عهد إلى عهد؟ كيف نستطيع أن نعالج ظاهرة الاستشراق الثقافية التاريخية بوصفها نمطاً من العمل الإنساني

ص: 222


1- إدوارد سعيد صور المثقف ترجمة غسان ،غصن دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1996م ، ص 41.

المراد دون أن نخفق في الوقت نفسه في رؤية التحالف بين العمل الثقافي والنزعات السياسية والدولة والواقعيات الخاصة للسيطرة؟»(1).

ما سبق، يستدعي في نظر سعيد تأسيس أقسام علمية داخل الجامعات العربية تكون مكرسة لدراسة الغرب معرفياً، وكما يلاحظ سعيد فإنه لا وجود اليوم لقسم واحد في أي جامعة عربية مكرس حصراً لدراسة الغرب، أو الولايات المتحدة على وجه الخصوص. مع العلم أن الولايات المتحدة أكبر قوى خارجية في المنطقة، ولا وجود كذلك لأقسام مخصصة للدراسات العبرية والإسرائيلية فإسرائيل قوة محتلة ويجب أن يعطى بعض الاهتمام إلى الدراسة المنهجية للدولة ومجتمعها وهي تعتدي على الحياة العربية. هذا لم يحدث بعد هذه كلها أجزاء من ميراث الإمبريالية كما يذهب سعيد(2).

الاستشراق

يتم تعريف المستشرق، من جانب سعيد، بأنه كل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو بحثه، ويسري ذلك سواء أكان المرء مختصاً بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أو بعلم الاجتماع أو كان مؤرخاً أو فقيه لغة (فيلولوجيا).

من ناحية ثانية، نجد أن الاستشراق، كدائرة في الفكر والخبرة، يشير إلى العديد من الميادين المتقاطعة : أولها العلاقة التاريخية والثقافية بين أوروبا وآسيا، وهي علاقة تمتد في أربعة ألف سنة من التاريخ، وثانيها النظام التدريسي العلمي في الغرب والذي أتاح في مطلع القرن التاسع عشر إمكانية التخصص في دراسة مختلف الثقافات الشرقية، وثالثها الافتراضات الأيديولوجية والصور والأخيلة الفانتازية عن منطقة من العالم اسمها الشرق القاسم المشترك النسبي بين هذه الجوانب الثلاثة من الاستشراق في نظر سعيد، هو ذات الخط الفاصل بين الشرق والغرب، وهو كما يجادل سعید، حقيقة من صنع البشر يسميها الجغرافيا المتخيلة، أكثر من كونه حقيقة طبيعية(3).

ص: 223


1- إدوارد سعيد، الاستشراق ، مصدر سابق الذكر، ص 47-48.
2- راجع إدوارد سعيد القلم والسيف، حوار دافيد بارسامیان، مصدر سابق الذكر، ص 82
3- إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1 ، 1996م، ص 34.

ومن ناحية تاريخية، ينظر سعيد للاستشراق بوصفه علماً للإدماج والإدراج، وبوصفه الحقل المعرفي الذي قدم الآلية التي أتاحت تأسيس مفهوم (الشرق) ثم إدخاله إلى أوروبا. وللاستشراق كحركة علمية في عالم السياسة التجريبية نظير هو مراكمة الشرق وحيازته استعمارياً من قبل أوروبا. لهذا لم يكن الشرق وفقاً لهذا السياق محاور أوروبا ، بل «آخر»ها الصامت(1).

ويؤكد سعيد على وجود رابط قوي بين الاستشراق من جهة وبين الاستعمار من جهة ثانية، ويرى في الأول عاملاً مساعداً للثاني في فرض سيطرته وهيمنته على الشرق. ويورد سعيد العديد من الحجج والوقائع التي تدل وتبرهن بقوة على علاقة التعاون الوثيق بين دراسات الاستشراق والغزو العسكري الاستعماري المباشر، نأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر حالة المستشرق الهولندي (سي سنوك هنجرونيي)، الذي استغل الثقة التي أولاه المسلمون إياها في تخطيط وتنفيذ الحرب الهولندية الوحشية ضد أبناء شعب أتشه المقيمين في سومطره(2).

وما كان لإنجلترا أن تحتل مصر تلك الفترة الطويلة احتلالاً قائماً على مؤسسات هائلة لولا استثمارها الثابت الطويل للدراسات الاستشراقية التي بذر بذورها بعض الباحثين أول الأمر مثل ادوارد وليم لين، ووليم جونز فما أثبته المستشرقون بشأن الشرق أتاح المعرفة به، ويسر الوصول إليه، وأن يخضع للإدارة. وكان قد سبق هذا قیام نابليون بونابرت باحتلال مصر عام 1798م، فهو مهد لحملته بأن جمع حشداً من العلماء النابهين حتى يكفل لمشروعه النجاح فأصبحت فرنسا منذاك تتزعم العالم الاستشراق (3).

بين عام 1815م، حين كانت القوى الأوروبية تحتل 35 بالمائة من سطح المعمورة على أكثر تقدير، وبين عام 1918م، حين توسع ذلك الاحتلال إلى ما نسبته 85 بالمائة من سطح المعمورة، تزايدت القوة المنطقية وفق هذا المعيار نفسه، ويحسن المرء

ص: 224


1- نفس المصدر السابق، ص 39.
2- راجع: إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع القاهرة، ط1، 2005م، ص 41.
3- نفس المصدر السابق، ص 105-106

صنعاً إن تساءل ما الذي يجعل من الممكن لماركس وكارلابل وديزرائيلي وفلوبير ونير فال ورينان وكوينت وشليغل وهوغو وروكبرت وكوفيير وبوب أن يوظفوا جميعهم كلمة (شرقي) لكي يحددوا بالأساس نفس الظاهرة المشتركة، على الرغم من الفروق السياسية والأيديولوجية الهائلة فيما بين بعضهم بعضاً. إن السبب الرئيس لهذا، في نظر سعيد كان تشكل كينونة جغرافية تدعى بالشرق، كما أن دراستها صارت تدعى ،بالاستشراق، الأمر الذي حقق عنصراً هاماً جداً من الإرادة الأوروبية للسيطرة على العالم غير الأوروبي، وجعل من الممكن خلق لا مجرد فرع دراسي منظم وحسب بل ومجموعة من المؤسسات والمفردات المستترة، وموضوعاً دراسياً، وأخيراً

أعراق بشرية تبائع»(1).

والخلاصة أن كتابات سعيد لا تكل ولا تمل من إبراز حقيقة أن ثمة ارتباط قوي ومباشر بين الاستشراق الكلاسيكي من جهة، والإمبريالية الغربية في العالم الإسلامي وفي أمكنة أخرى، من جهة أخرى. ونفس الشيء يقوله سعيد في العلاقة التي تجمع بين الاستشراق الإسرائيلي من ناحية والإمبريالية في المناطق المحتلة من الناحية الأخرى.

ويشير سعيد إلى وجود ظاهرة مشابهة، اليوم، في الولايات المتحدة الأميركية، يشرحها على النحو التالي:«لديك كادر كامل مما يسمى بالخبراء في الوقت الحاضر. وأنا أسميهم (المستشرقين) الذين تكمن مهمتهم في أن يقدموا عبر خبرتهم بالعالم الإسلامي والعربي إلى وسائل الإعلام والحكومة ما أسميه الاهتمام المعادي بالعالم العربي. هناك مجموعة كاملة مجموعة كاملة من هؤلاء الناس يبلغ عددهم الثلاثين أو الأربعين يتم استنفارهم كلما كانت هناك أزمة رهائن، حادثة خطف طائرة، أو مجزرة من ذلك النوع أو غيره، لإظهار الرابط الضروري بين الإسلام والثقافة العربية والشخصية العربية أو الشخصية الإسلامية، والعنف العشوائي. هم عبارة عن موظفين ورهائن بالفعل لسياسة حكومة الولايات المتحدة المعادية بعمق للقومية العربية والثقافة الإسلامية»(2).

ص: 225


1- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 272-273
2- إدوارد سعيد، القلم والسيف، مصدر سابق الذكر، ص 24-25

ويستشهد ب_( أزمة احتجاز الرهائن) في السفارة الأميركية بطهران، في بدايات الثمانينات من القرن العشرين ويرى أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية بعد ذاك الحدث، أصبحت لا تضع في أعلى سلم أولوياتها الجديدة لا نشر الديمقراطية ولا حقوق الإنسان بل محاربة الإرهاب القادم من (الشرق)، ولو اقتضى الأمر مساندة بعض أنظمة الحكم المعتدلة في قمعها للشعب، إذا كانت من حلفاء أميركا(1).

إن التقسيم المبسط (الساذج) القديم للعالم في عيون الولايات المتحدة الأميركية الذي كان يقسم العالم إلى معسكرين : معسكر أول يناصر الشيوعية ومعسكر ثان يناهضها. هذا التقسيم تحول إلى تقسيم لا يقل تبسيطاً وسذاجة، تم فيه تقسيم العالم كله إلى معسكرين من نوع آخر : معسكر أول يناصر الإرهاب ومعسكر ثان يناهضه.(2)

يصيغ سعيد المشكلات المتعلقة بالاستشراق، وقد أعيد النظر إليه من زاوية قضايا محلية مثل من يكتب ويدرس الاستشراق، وفي أية أجواء مؤسساتية وخطابية، ولأي جمهور، وبأية أغراض في الذهن. كيف يمكن إنتاج معرفة غير مهيمنة وغير عسفية في أجواء منخرطة بعمق في سياسة واعتبارات ومواقف واستراتيجيات السلطة؟(3).

وكختام لهذا المحور نقول : ساهمت رؤية سعيد النقدية بخصوص (الاستشراق)، بصورة مباشرة في تجذير أسس ودعائم النقد الثقافي وفتحت كتاباته الباب واسعاً أمام دروب جديدة في الدراسات النقدية لا لكتابات الغربيين عن الشرق فحسب، بل أيضاً لكتابات أولئك المنتمين للدول التي تحررت من الاستعمار، ليعيدوا كتابة تواريخهم، وليعيدوا إعادة اكتشاف ذواتهم بمناظير جديدة، تعكس وعياً جديداً متحرراً من ما خلفه الاستعمار من أثار ثقافية.

صورة الشرق «كما خلقه الغرب»

ص: 226


1- راجع : إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، مصدر سابق الذكر، ص 47.
2- راجع نفس المصدر السابق
3- ادوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق مصدر سابق الذكر، ص 35-36.

صورة الشرق، كما خلقه الغرب، ترتد بداياتها الحديثة إلى الفترة التي تمتد من أواخر القرن الثامن عشر حتى مطلع القرن التاسع عشر، والتي قام فيها العلماء الفرنسيون والبريطانيون بإعادة اكتشاف (الشرق): الهند والصين واليابان ومصر وبلاد ما بين النهرين، والأراضي المقدسة(1).

إن دراسة الشرق «كما خلقه الغرب» تطرح جملة من التساؤلات الجذرية في الثقافة والإنسان تساؤلات تحوم وتدور لتتمحور في نهاية المطاف حول تلك التصورات التي ينشئها الفرد المنتمي لثقافة ما ليتعرف من خلالها على الآخر وعلى عالم الأخر. لم تكن دراسة الشرقي ك (آخر) بالنسبة للذات الغربية مقصوداً بها معرفة الشرق من أجل السيطرة عليه فحسب، بل أبعد من ذلك، يشكل هنا إنشاء (الشرق)كمفهوم وتصور شرط ضروري لتتعرف الذات الغربية على ذاتها.

والاستشراق، من خلال السياق السابق، يمكن أن يناقش ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها وبعملية وصفه وتدريسه والاستقرار فيه وحكمه: وبإيجاز الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه(2).

فالشرق، حسب سعيد، ليس لصيقاً بأوروبا وحسب، بل إنه كذلك أعظم

مستعمرات أوروبا، وأغناها وأقدمها، ومصدر حضاراتها ولغاتها، ومنافسها الثقافي، وأحد صورها الأكثر عمقاً وتكرار حدوث للآخر. وإضافة، فقد ساعد الشرق على تحديد أوروبا (أو الغرب) بوصفه صورتها وفكرتها وشخصيتها وتجربتها المقابلة(3).

فالذات لا تعرف ذاتها إلا عبر المرور بوساطة الآخر. وفي عملية التعرف هذه جنحت الذات الغربية لإقامة جملة تصورات وتميزات بينها وبين ما تمت موضعته كآخر لها. وفيها، أيضاً، تم إسقاط صفات وسمات بعينها على الشرق،

ص: 227


1- إدوارد سعيد تغطية الإسلام، مصدر سابق الذكر، ص 84.
2- إدوارد سعيد، الاستشراق مصدر سابق الذكر، ص 31.
3- نفس المصدر السابق، ص 29.

على الرغم من تنوع مجتمعاته وتواريخه ولغاته، فتم تصويره على أنه لا يزال غارقاً في الدين واللاعقلانية، وفي الحياة البدائية والتخلف ويتسم بالقصور وعدم الرشد. وبالمقابل فإن الأوروبي مختلف تماماً، فهو عقلاني متنور متحضر متقدم سوي متحل بالفضائل وبالنضوج.

يكتب سعيد معضداً لما سبق:«كان الشرق، تقريباً، اختراعاً غربياً، وكان منذ القدم الغابر مكاناً للكائنات الغربية المدهشة والذكريات والمشاهد الشابحة والتجارب الاستثنائية.(1) والعرب، مثلاً كما يقتبس سعيد تعليق أحد المستشرقين،«علاوة على تصويرهم على أنهم غير كفؤين إطلاقاً، فإنهم لا يتبادلون حواراً عادياً أبداً. إنهم يصرخون الواحد على الآخر. إنهم ينبحون ويصيحون»(2).

وهو ما يكشف أن الغرب تصور الشرق تصوراً استعمارياً عرقياً فوقياً متجذراً في القوة واتحاد القوة بالمعرفة، والإنشاء الذي ولده ذلك كله. وأن الشرق لم يكن، في وعي الغرب الآخر الخارجي فقط، بل امتداد للشاذ والمنحرف والمجنون والمستضعف داخل الغرب: للآخر الداخلي أيضاً(3).

ولا شك في تأثير هذهِ الصور التي خلقها الاستشراق في كتاباته المذكورة، وادعى أنها تمثل الشرق، فهي تؤثر كما أوضح سعيد، لا في الدراسات الأكاديمية فحسب، بل في رؤية أبناء البلدان التي تحررت من الاستعمار لذواتهم ولثقافاتهم، فالاستعمار أورث الفرد في هذه البلدان نظرة دونية إلى ذاته، وهي نظرة تتصل بالتصوير المتسق له ولأمته في كتابات المستشرقين.

ما سبق هو بالضبط ما قام الاستشراق بإنجازه، فالاستشراق في محصلته النهائية يعيد التأكيد على التفوق الأوروبي في مقابل التخلف الشرقي، ويحدد عبر دراسته للشرق هوية الغربيين كنقيض لأولئك الذين ليسوا غربيين. وفي هذا السياق تكون

ص: 228


1- نفس المصدر السابق، ص .29
2- ادوارد سعيد القلم ،والسيف مصدر سابق الذكر، ص 79.
3- إدوارد سعيد الاستشراف، ترجمة كمال أبو ديب ، مقدمة المترجم، ص 9.

الحقيقة المتضمنة سلفاً داخل دائرة الاستشراق هي أن الغرب كهوية متفوق بالمقارنة مع جميع الشعوب والثقافات غير الغربية.

بذلك أنشأ الاستشراق تمييزاً وجودياً ومعرفياً بين الشرق والغرب. وبدوره يعكس هذا التمييز بصورة مباشرة وصريحة، أن الاستشراق استجاب للثقافة التي أنتجته أكثر مما استجاب لموضوعه المزعوم الذي هو أيضاً من نتاج الغرب. وهكذا، فإن لتاريخ الاستشراق في آن واحد، اتساقاً داخلياً مع الثقافة المسيطرة المحيطة به.(1)

وأخيراً نقول أن الأهمية الاستثنائية لكتابات سعيد وأعماله إنما تكمن: أولاً، في شرحه للكيفية التي تمت بها عملية إنتاج جملة تصورات وتمييزات بخصوص مجموع ما يقع خارج دائرة الغرب كهوية ثقافية. وتكمن، ثانياً، في إظهاره للسياق الذي تبلورت فيه تلك التصورات والتمييزات وهو سياق القوة والسلطة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، السياق الذي في ظله تم التعاطي مع هذه التصورات لا بوصفها مجرد تمثيلاً لا أكثر، يجسد وعي الذات (الغرب) للآخر (الشرق) أكثر مما يجسد هذا الأخير، بل بالأحرى بوصفها إنشاء يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك بخصوص موضوعه.

والشرق الذي جعله سعيد محوراً لكل كتاباته ودراساته هو ذاك (الشرق) الذي خلقه الغرب وجعله مقابلاً له، وهو في المحصلة النهائية للتحليل محض! تصور فكتابات سعيد تدعونا، من جهة، إلى أن لا نسلم بصحة هذه التصورات، وتنبهنا، من جهة ثانية، إلى أن نضع في أذهاننا حقيقة أن جملة التصورات التي شيدتها الذات الغربية داخل دائرة الاستشراق لم تنبع من الأخر موضوع المعرفة، إلا بدرجة أدنى، إنما صدرت بالدرجة الأولى، ضمن شروط نابعة من الذات العارفة ومن الثقافة التي تنتمي إليها، والتي تمثل لها في نهاية المطاف، الإطار المرجعي الذي انطلاقاً منه تكتب وتفكر وتتصور.

ص: 229


1- أنظر : إدوارد سعيد الاستشراق ، مصدر سابق الذكر ، ص 57.
خاتمة

ألقى هذا المقال البحثي الضوء على نظرية ما بعد الكولونيالية من خلال أعمال الكاتب والناقد والمفكر السياسي إدوارد سعيد، وأبرز المقال أهم أطروحاته الرئيسة من خلال سياحة في كتبه ومؤلفاته.

ويأتي نقد الكولونيالية مع إدوارد سعيد ضمن مشروع نظري يهتم بتفكيك الخطاب والممارسة الاستعمارية وضمن هذا التوجه ركزت أعمال سعيد وكتاباته ومواقفه على فضح نوايا وأهداف الاستشراق المستترة خلف دعاوى العلم والمعرفة والموضوعية. وهنا، أيضاً، نلحظ في كتابات سعيد اهتماماً بدراسة جملة من القضايا والمسائل، يأتي على رأسها توضيح وتحليل الكيفية التي أخضعت بها الكولونيالية الثقافات المحلية لمشيئتها ، وكذلك دراسة الصور التي استجابت بها الدول التي تم استعمارها لإرث الكولونيالية الثقافي بعد نيلها الاستقلال.

وبشكل عام بإمكاننا تحديد الهم البحثي الأساسي، والذي نتلمسه مضمراً أحياناً، وبوضوح في أحايين كثيرة داخل كتابات سعيد المتعددة، في ذاك الانهمام المتمثل في اختراق حجب التقاليد الثقافية الغربية، وإظهار وجهها الكولونيالي المستتر، الذي تم تشيده على مدى عقود طويلة في القرنين الماضيين. وفي هذا السياق، استطاعت كتاباته بشكل موسع وعميق معالجة الهيمنة الثقافية الكولونيالية التي مارسها الغرب على الشرق والجنوب، وركزت هذه الكتابات بشكل خاص على دراسة العلاقة بين الشرق (وتحديداً الشرق الأدنى الإسلامي والعربي) وبين الغرب (تحديداً فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة). حيث تم رصد تلك العلاقة منذ غزو نابليون بونابرت لمصر فى أواخر القرن الثامن عشر، مروراً بتناول الفترة الاستعمارية الرئيسة والتي تزامنت معها نشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا، وانتهاءً بالهيمنة الإمبريالية البريطانية والفرنسية على الشرق بعد الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأميركية في الوقت نفسه.

يبين تحليل سعيد للخطاب الاستشراقي أن هذا الأخير، ليس كما يدعي، مجرد

ص: 230

حقل بحثي يهدف لمعرفة (الشرق) بصورة موضوعية تتسم بالحياد والنزاهة

على الضد بل من ذلك، يرينا تحليل سعيد أن الاستشراق كخطاب تخترقه علاقات القوة والسلطة، وأنه لعب دوراً بالغ التأثير في مساعدة السياسة الاستعمارية في إحكام سيطرتها وهيمنتها على شعوب (الشرق) الذي تمت موضعة إنسانه ومجتمعاته في خانة المتخلف والشاذ وغير السوي والاستثنائي. ولا زال إلى اليوم يلعب ذات الدور من خلال تقديمه صورة نمطية زائفة تلجأ إليها وسائل الإعلام الأميركية لدى تناولها موضوعات الإسلام والشرق.

المصادر والمراجع

1- إدوار سعيد الثقافة والمقاومة، ترجمة علاء الدين أبو زينة، دار الآداب

2- إدوارد سعيد، القلم ،والسيف حوار دافيد بارساميان ترجمة توفيق الأسدي، دار كنعنان للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 1998م.

3- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، ترجمة: عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق، 2000

4- إدوارد سعيد ، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات ،والنشر ،بیروت، ط1، 1996ام.

5- إدوارد سعيد صور المثقف ترجمة غسان ،غصن دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1996م

6- إدوارد سعيد، خيانة المثقفين النصوص الأخيرة، ترجمة أسعد الحسين، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2011م.

7- إدوارد سعيد، تغطية الإسلام كيف تتحكم أجهزة الإعلام ويتحكم الخبراء في رؤيتنا لسائر بلدان العالم، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2005م.

8- إدوارد سعيد السلطة والسياسة والثقافة، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي، دار الآداب، بيروت، ط1، 2008م.

9- إدوارد سعيد الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب.

ص: 231

في نقد أطروحة التمركز الغربي

تصوّر «أمارتيا صن» نموذجاً
اشارة

سعيد السلماني(1)

منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية، وصولا إلى حرب أفغانستان والعراق، مروراً بموقعة الحادي عشر من سبتمبر المفجعة طغت على الخطابات السياسية العالمية ولا سيما الأميركية، مفردات يائسة تمجد الانفرادية المزعومة. كما ظهرت خطابات ثقافية في الفكر السياسي العالمي وخاصة الأميركي، تستخدم التاريخ والفلسفة والإثنولوجيا بمناهج علمية لتخلص إلى صياغات سياسية تستشرف من خلالها طبيعة الصراعات ومسارات المستقبل في العالم كخطابي فوكوياما وهنتنغتون.

وفي هذا الصدد يمكن أن نتساءل هنا، استطراداً فقط، لماذا توارت فكرة «نهاية التاريخ» بسرعة واختفت ولم تعد تثير الاهتمام بعد إعلان هنتنغتون عن أطروحته حول «صدام الحضارات»؟ هل يرجع ذلك إلى كون مركز هذا الأخير في مجال الدراسات الاستراتيجية والعلاقة مع الإدارة الأميركية أقوى بكثير من مركز ذلك الأميركي من أصل ياباني أم لأن أطروحة «صدام الحضارات» إنما القصد منها إزاحة فكرة نهاية التاريخ من مسرح الاهتمام؟.

ص: 232


1- أستاذ الفلسفة والفكر - المغرب.

هذا ما سنعمل على فهمه من خلال استدعاء تصور فلسفي عميق لأحد أعمدة الفكر الهندي المعاصر الذي خبر الفكر الغربي من الداخل وعن قرب، وهو المفكر الهندي «أمارتيا صن». سيتم ذلك خلال المحاور الآتية:

في المحور الأول، سنتناول النقد الذي يقدمة أمارتيا صن لنظرية الصدام الحضاري وفي الثاني، نقده لنظرية التمركز المزعومة للقيم الغربية، وفي المحور سنبحث في إشكال مركزية الديموقراطية الغربية ، ونختم القول بخلاصات مركزة جامعة تفتح شهية الباحث للمزيد من البحث والتنقيب.

المحور الأول: في نقد أمارتيا صن لنظرية الصدام الحضاري.

لقد تهاوت كثير من النظريات الوهمية تحت ضغط المساءلة والنقد الجاد فمن يصنع الصراع بإمكانه أن يصنع السلام ؛ هكذا تكلم «أمارتيا صن»(1). لقد ظل دائماً يؤكد على أن المشتركات الإنسانية جزء من مقاومة التصنيفات الاحتقارية في مختلف الثقافات وعبر عصور مختلفة. ويصرخ بأعلى صوته بأن التصنيف المنظم بإمكانه أن يمهد الأرض للاضطهاد والدفن.

يبدو أن الوظيفة التي تؤديها الفكرة لها وزن كبير في صناعة القرار السياسي من هنا يمكن الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه آنفاً في التمهيد، يذهب العديد من نقاد التمركز الغربي إلى أن فكرة «نهاية التاريخم تهاوت لأنها تتحدث عن الماضي، ومن ثم تبعث على الاطمئنان حول مستقبل أميركا، بحيث تؤكد على الانتصار النهائي

ص: 233


1- أمارتيا كومار صن ( Amartya Kumar Sen) فيلسوف واقتصادي هندي ولد في دكا عاصمة بن جلاديش حاليا، سنة 1933م. حاصل على جائزة نوبل سنة 1998م لمساهماته في اقتصاديات الرفاه وعمله على صعيد نظرية التنمية البشرية، ووسائل محاربة الفقر والحرية السياسية. وتقديراً لإسهاماته القيمة في إطار إعادة التفكير في القضايا الاقتصادية من منظور ثقافي. وقد استطاع أن يقدم مفاتيح جديدة لفهم إشكالات شائكة حول تنمية العالم الثالث ومحاربة الفقر والأمية وله العديد من الأعمال الفكرية في التنمية والاقتصاد والفلسفة السياسية المعاصرة، وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، نذكر من بينها التي ترجمت إلى العربية ؛ كتاب فكرة العدالة» (The Idea of Justice)، وكتاب التنمية حرية » (Developmet as freedom) ، ثم كتاب الهوية والعنف (Identity and violence)، وأعمال كثيرة لم تترجم إلى العربية، منها: (1999) Rationality and freedom 2004) .(Reason Before Identity 2005 The (.(The Agumentative Indian وهي كلها تعالج قضايا إنسانية مشتركة ك- «العدالة والحرية والمساواة والهوية والعنف والفقر.

لليبرالية. أما أطروحة صدام الحضارات «فهي تتحدث عن المستقبل وتنذر بخطر المواجهة والحرب وتدعو صراحة إلى أخذ الحيطة والاستعداد للدفاع عن النموذج الحضاري الأميركي وعن المصالح التي يقوم عليها، ومن ثم تخصيص ما يلزم لمواجهة الخطر»(1).

لقد حصل تأويل مفرط وتبني صامت لأطروحة «صدام الحضارات»، ما جعلها، حقاً، واحدة من الأساطير المؤسسة للعنف الهوياتي. فالكل يريد هوية الأوحد في العالم، إذ أصبح موضوع الهوية في الأدبيات السياسية والفلسفية والاجتماعية رائج التداول، لماذا؟ لأنه كان سبباً وشكلاً لكثير من الصراعات التي أخذت شكل الصراع من أجل الهوية ونيل الاعتراف، وهي بذلك من الأسباب الرئيسية في صراع الحضارات والدول والمجتمعات والأمم عموماً حسب الطرح الهينتنغتوني. لقيت هذه الفكرة جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية العالمية أغلبها مشجبة الطرح الصدامي الذي حاول هانتنغتون البرهنة عليه. وهذا دليل على تأكيد الفكرة الصينية التي تعتبر الدنيا .أسرة والخطوة الأولى لتحقيق وحدة الدنيا عند الصينيين تتمثل في التعايش السلمي وتبادل الاحترام(2).

أصبح موضوع «صراع الحضارات» موضوعاً رائجاً قبل أن تضاف الأحداث المرعبة ليوم 11 سبتمبر إلى ما في العالم من صراعات مريبة. إلا أن هذه الأحداث الفظيعة تركت آثاراً واسعة تمثلت في تضخيم الاهتمام الموجود من قبل بما يسمى صراع الحضارات. وقد أدى ذلك بالعديد من المعلقين والباحثين إلى تأكيد النظرية خاصة بعد صدور كتاب صامويل هانتنغتون (3)المشهور «صراع الحضارات وإعادة

ص: 234


1- محمد عابد الجابري قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت - لبنان، ط 4 ، 2011، ص .84-83
2- علي عبود المحمداوي خطاب الهويات الحضارية من الصدام إلى التسامح ابن النديم للنشر والتوزيع دار الروافد الثقافية - ناشرون ، ط 1 ، 2012، ص 70 .
3- صامويل هانتنغتون (Samuil. Huntington) مفكر أمريكي من أصل يهودي متخصص في الإدارة العامة ومدير معهد جون أولاين للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد، وقد كرس حياته لموضوع الاستراتيجية العسكرية بحثاً وتدريساً واهتم بصورة مباشرة بالدراسات المقارنة في مجال السياسة الأميركية وسياسات دول العالم الثالث، وقد أسندت إليه ما بين عام 1977 و 1978 ، مسؤولية قسم الاستشراف بمجلس الأمن القومي الأمريكي.

تكوين النظام العالمي» غير أن هذا التأكيد لم يصمد أمام سيل عارم من الانتقادات التي قدمت للنظرية، سواء من داخل الغرب أو من خارجه، حتى بدا الخبير الأميركي وكأنه كاهناً حقيقياً لصدام الثقافات والحروب الدموية بين الحضارات. وهي في تقدير أحد الباحثين المغاربة بمثابة «أطروحة للانزواء الحضاري وليست أطروحة للصدام، وهذا لا يمنع أن تكون أطروحة غاصة بالنقائض والأفهام المُبتَسرة والسيئة للأحداث، والتصورات المغلقة والخاطئة لمفهوم الحضارة والثقافة»(1)، وهي في نفس الوقت أطروحة تغرق في سبات بنيوي مغلق، وتتترس بمنظورٍ باراديغمي صارم. ومما هو مؤكد أن هنتنغتون استعار كلمة الصدام والصراع من خبير المستقبليات المغربي د. المهدي المنجرة الذي كان قد أصدر كتابه «الحرب الحضارية الأولى» في مطلع التسعينات لكن إذا كان المنجرة يقدم ما هو بمثابة وثيقة احتجاج على اختلالات المنتظم الدولي للتخفيف من إفراط السيطرة الأميركية على مقدرات العالم، فإن هنتنغتون سلك بها مسلكاً آخر هو مسلك القطيعة مع العالم الخارجي(2).

وإذا أردنا تكثيف القول في النقد الذي يقدمه أمارتيا صن لنظرية صراع الحضارات يمكن أن نجمله في النقط الآتية:

إن الرؤية المسبقة لتصنيف الناس باعتبارهم أعضاء في حضارة ما سواء كانت «غربية» أو «إسلامية» أو «هندوسية » أو «بوذية» حسب تصنيف هنتنغتون، هي رؤية تختصر الإنسان في بعد واحد ومن ثم فإن القصور في نظرية الصراع يبدأ حتی قبل أن نصل إلى نقطة السؤال عما إذا كانت الحضارة المتباينة لا بد بالضرورة أن تتصارع فالسؤال «هل تتصادم الحضارات؟ إنما يقوم على الافتراض بأنه يمكن تصنيف الناس بشكل لازم إلى حضارات متباينة ومنعزلة. وبغض النظر عن الإجابة التي نعطيها لذلك السؤال، وحتى الاهتمام به بهذا الشكل الضيق، فنحن نضفي ضمناً مصداقية على الأهمية الفريدة المزعومة لذلك التصنيف بشكل يفوق الطرق الأخرى كلها التي يمكن أن يصنّف الناس بها في العالم. ومما يخشاه أمارتيا صن

ص: 235


1- إدريس هاني حوار الحضارات المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، ط 1 ، 2002، ص 113.
2- نفس المرجع . ص 113.

أن هذه النظرة الاختزالية تتحد تماماً مع إدراك ضبابي إلى حدٍّ ما لتاريخ العالم، وهو إدراك يتجاهل أولاً، مدى التنوع الداخلي في تلك التصنيفات الحضارية، وثانياً، ثراء وتأثير التفاعلات - الثقافية والمادية على السواء - التي تتحرك مباشرة عبر الحدود الإقليمية لما يسمى بالحضارات(1).

إن قوة هذه النظرية في التخدير والإرباك يمكن أن تخدع، ليس فقط أولئك الذين يحبون تأييد أطروحة الصدام (وهؤلاء يتنوعون من الشوفينيين الغربيين إلى الأصوليين الإسلاميين)، لكنها يمكن أن تخدع أيضاً أولئك الذين يودون تفنيد هذه الأطروحة. ومعنى هذا، حتى «معارضو» نظرية «الصراع الحضاري»، يمكن في الواقع أن يساهموا في دعم الأساس الفكري لها إذا بدأوا بقبول التصنيف الأحادي نفسه لسكان العالم. إن حدود مثل هذا التفكير المبني على فكرة الحضارة يمكن إثبات ما فيه بالنسبة إلى برامج «الحوار بين الحضارات» (وهو ما يبدو السعي إليه حثيثاً في أيامنا هذه) بنفس قدر المخادعة الكامن في نظريات صراع الحضارات. فالبحث النبيل والراقي عن التفاهم بين الناس إذا نظر إليه كتفاهم بين الحضارات سوف يختزل سريعاً البشر متعددي الأوجه إلى أشخاص لكل منهم بُعد أحادي، وسوف يخفي تنوع الارتباطات المتشابكة التي أمدت البشرية بأسس غنية ومتنوعة للتفاعل عبر الحدود على مدى قرون كثيرة ، منها : الفنون والآداب والعلوم والرياضيات والألعاب والتجارة والسياسة، ومختلف نواحي الاهتمامات الإنسانية المشتركة. إن فهم هذه المحاولات طيبة النوايا التي تسعى إلى سلام عالمي يمكن أن تكون لها عواقب مضادة عندما تؤسس على فهم وهمي في جوهره لعالم الكائنات البشرية(2).

تأخذ المقاربة الحضارية للصراعات المعاصرة حسب أمارتيا صن شكلين(3):

الشكل الأول يأخذ طابع الماكرو - صراع، وهي نظرة متميزة الضخامة حول

ص: 236


1- أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت، عدد،352، 2008. ص 26 . ص 54 .
2- نفس المرجع ، ص 27.
3- نفس المرجع، ص 55.

الصراعات الكونية، تفصل سكان العالم إلى حضارات متبارية مغلقة بحدود حديدية صارمة تنهي عندها سقف الإنسانية. وهو تصنيف أحادي فريد قائم على ما يسمى الخطوط الحضارية أو الفروق الحضارية أو الثقافية، والتي هي بالمناسبة تتبع التقسيمات الدينية، التي يوجَّه الانتباه إليها وحدها. يُقسِّم بموجبها هانتنغتون الحضارة الغربية في مقابل الحضارة الإسلامية»، و«الحضارة الهندوسية، في مقابل «الحضارة البوذية» وهَلُمَّ جَرّاً.

الشكل الثاني يأخذ الطابع الميكرو - صراع، وهو ادعاء خطير ومؤثر يُرجِع تباينات الثقافات والهويات إلى الصراعات وغزارة الفظاعات التي نراها في أجزاء مختلفة من العالم اليوم. إذ يرى هذا الادعاء بأن السكان المحليين منقسمين إلى جماعات متصارعة، لها ثقافات متشعبة وتواريخ متباينة، تميل بطريقة طبيعية إلى توليد العداوة بعضها تجاه بعض.

ونتيجة لهذا التقسيم فإن المقاربة «الحضارية» للصراعات المعاصرة سواء صيغتها الماكرو أو الميكرو تقوم بدور حاجزٍ فكريٍّ رئيسٍ أمام التركيز بشكل أوفى على السياسات السائدة، وأمام تفحُّص عمليات وديناميات الدوافع المعاصرة للعنف.

إن الضعف المفهومي لمحاولة الوصول إلى فهم أحادي للناس في هذا الكون من خلال وضع فواصل حضارية، ليس فقط ضد إنسانيتنا المشتركة، ولكنه أيضاً يقوض الهويات المتنوعة التي نتمتع بها جميعاً، والتي لا تضعنا في مواجهة بعضنا البعض على جانبي خطٍ شديد الصرامة من العزل العنصري. فإساءة الوصف وخطأ التصوّر والإدراك يمكن أن يجعلا العالم أكثر هشاشةٍ مما هو بالفعل. وبالإضافة إلى الاعتماد غير المقبول على فرضية التصنيف المنفرد، تعاني المقاربة الحضارية أيضاً تجاهل العلاقات المتبادلة الممتدة بين الحضارات المختلفة. إن الفقر الوصفي لهذه المقاربة يتجاوز اعتمادها المعيب على الانفرادية(1).

ص: 237


1- نفس المرجع، ص 58.

إن التشخيص البسيط للهند على أساس خط مصطنع من الديانات المتفردة يظل قابلاً للانفجار سياسياً، بالاضافة إلى ما به من خللٍ وصفي. إن بيان هنتنغتون التفسيري لصراع الحضارات المزعوم عندما يصنف الهند بأنه «حضارة هندوسية»، لا بد أن يقلل من واقع أن الهند بها من المسلمين أكثر من أي بلد آخر في العالم باستثناء إندونيسيا، وباكستان بهامش ضعيف للغاية. وربما لا يمكن وضع الهند في إطار التعريف العشوائي ل_«اللعالم الإسلامي»، لكن الحقيقة لا تزال أن في الهند (التي تضم 145 مليون مسلم أكثر من سكان بريطانيا وفرنسا مجتمعين) بها عددا من المسلمين يفوق بكثير عدد المسلمين في كل بلد يدخل في تعريف هنتنغتون ل_ «العالم الإسلامي».كما أنه من المستحيل التفكير في حضارة الهند المعاصر من دون ملاحظة الأدوار الرئيسة للمسلمين في تاريخ البلاد. بالإضافة إلى ذلك ليس المسلمون هم الجماعة الوحيدة غير الهندوسية من سكان الهند فالسيخ لهم حضور قوي، وكذلك اليانيون(1)، والهند ليست البلد الذي نشأت فيه أصول البوذية؛ وكانت البوذية هي الديانة السائدة في الهند لأكثر من ألف عام، وكان الصينيون يشيرون إلى الهند غالباً باعتبارها «المملكة البوذية». وقد ازدهرت المدارس الفكرية اللاأدرية والإلحادية - مثل كارفاكا (Carvaka) ولوكاياتا (Lokayata) - في الهند منذ القرن السادس قبل الميلاد على الأقل حتى يومنا هذا. وكانت الهند تضم جاليات مسيحية كبيرة منذ القرن الرابع الميلادي، قبل مائتي عامٍ من وجود أي جماعاتٍ مسيحيةٍ أساساً في بريطانيا. وجاء اليهود إلى الهند بعد سقوط القدس في [أيدي الرومان] بوقت قصير، وتواجد البارسيون (Parsees) منذ القرن الثامن للميلاد(2).

إن الهند لم تكن يوماً حضارة هندوسية محضة بحسب التقسيم الهنتنغتوني الاختزالي، فهو من البداية يحمل في طياته التوظيف الأيديولوجي وقابليته للاشتغال سياسياً وبكلمة، إن بعضاً من الغرب أصابتهم عقدة الوهم. لماذا؟ نظراً للإنجازات الحديثة التي تحققت لهم عبر التراكم الإنساني المشترك.

ص: 238


1- أتباع الديانة اليانية، وهي ديانة وفلسفة هندية قديمة.
2- أمارتيا صن الهوية والعنف وهم القدر، ص 91.
المحور الثاني: في نقد فكرة التفرد المزعوم للقيم الغربية.

طرح أمارتيا صن في مدخل كتابه «فكرة العدالة»(1) جملة من الأسئلة التي تدور كلها حول العقل وعملية تنسيبه حسب تنوع الثقافات، من بينها : ما أنماط الاستدلالات التي يجب أن تتدخل في تقييم المفاهيم الأخلاقية والسياسية كالعدل والظلم؟ بأية كيفية يمكن أن يكون تشخيص الظلم أو تحديد ما الذي يحد منه أو يرفعه موضوعيا؟ هل يمكن ممارسة نزاهة من نوع خاص، كالابتعاد عن المنافع الشخصية؟ من جهة أخرى، هل من الضروري إعادة فحص بعض المواقف، ولو أنها ليست مرتبطة بالمصالح الخاصة، لكنها تعكس أفكاراً مسبقة وأحكاماً محلية، التي ربما لا تصمد أمام مواجهة معقولة مع حجج غير محدودة بنفس الفكر الضيق؟ ما الدور الذي يلعبه العقلي (rationnel) والمعقول (raisonnable) في فهم مقتضيات العدالة ؟

في محاولته للإجابة على هذه الأسئلة، لاحظ أمارتيا صن أن الغرب في بحثه عن العدالة اقتصر على تقاليده الغربية، الأمر الذي جعل تصوراته وتأويلاته لها محدودة وأحيانا مَحَلية من أجل تلافي هذه المحلية عمل أمارتيا صن على إدخال العدالة إلى فضاء العقل نفسه أي المطالبة بالعدالة في التعامل مع العقول الأخرى غير الغربية، ومع ضروب مختلفة من المنطق والاستدلال. وفي هذا الإطار وصف كتابه قائلا :«... من أهم ميزات هذا الكتاب غير المعتادة... بالمقارنة مع كتب أخرى حول نظرية العدالة، اعتماده الواسع على الأفكار الآتية من مجتمعات غير غربية، وبخاصة من تاريخ الهند الفكري، ومن غيره». ذلك أنه توجد ثقافات عديدة ذات تفكير قائم على حجج منطقية، حيث تُفَضّل المنطق على الإيمان والمعتقدات اللاعقلية(2).

وقد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ ممكنٌ ذو دلالة مفاده؛ هل معنى هذا أن أمارتيا صن تخلى نهائياً عن العقل التنويري الغربي؟ هذا غير وارد أبدا في تفكير أمارتيا صن. فهو يعلن باعتزازٍ بأن «تحليله للعدالة مستلهم من سبل التفكير التي تم اكتشافها

ص: 239


1- أمارتيا ،صن فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي الدار العربية للعلوم ناشرون ، ط 1 ، 2010 ، ص، 10-11.
2- محمد المصباحي، العدالة وتعدد العقل والعقلانية عند أمارتيا ،صن مجلة إليكترونية متخصصة في الكتاب وقضايه عدد 13 2013 . عن موقع: http://www.ribatalkoutoub.com

خاصة في العصر الثائر للأنوار الأوروبية»(1)، وبخاصة من كانط الذي يعتبر الأمر الأخلاقي... بمثابة الفكرة الملهمة لمشروعه. وبالتالي فالعقل، بالنسبة إليه، لا يمكن أن يكون إلا كليّاً، إلا أنه يمكن أن يتخذ صوراً متباينةً، واستعمالات مختلفة. إلا أنه عندما يدعو إلى ضرورة الاعتراف بوجود عقول وأنوار أخرى غير العقل والتنوير الغربي، فليس معناه ... وجود تنافر جذري بين الفكر «الغربي» و«الفكر الشرقي» (أو غير الغربي) حول هذه الموضوعات. فهناك كثير من التباينات داخل الغرب، كما هو الحال في الشرق، كما أنه من الوهم تماما تخيل غرب واحد يجابه أولويات «شرقية محضة»... بالنسبة لي أعتبر أن هناك مواقف شبيهة - أو ذات صلة وطيدة - حول العدل والإنصاف والمسؤولية والواجب والخير والاستقامة، تم تطويرها في مناطق متعددة من العالم وأنها يمكن أن تمدد مدى الحجج التي استعملت في الأدبيات الغربية... والتي تم إهمالها أو تهميشها في الغالب في التقاليد المهيمنة للخطاب الغربي المعاصر»(2).

وفي هذا السياق يحاول أمارتيا صن أن يكشف عن جذور المسألة في الفكر الغربي الذي يزعم لنفسه التفرد، فهناك في الغرب اتجاهات قوية تؤمن بنظرية الصراع جاعلة من الغرب حضارة تفوق كل الحضارات، وأن هذه الأخيرة هي مصدر كل القيم الإنسانية. ويَتَّفُقُ أبطال نظرية الصراع تمام الاتفاق الاعتقاد بالعمق الفريد لهذا الخط التقسيمي الأحادي، ويميلون إلى رؤية قيم التسامح وغيرها من القيم الإنسانية، ملمحٌ خاص ودائم للحضارة الغربية، وجذورها غاصةً في أعماق التاريخ الغربي. وهذه نظرة وهمية من الصعب دعمها تجريبياً كما يؤكد أمارتيا صن، فالتسامح والحرية وغيرها هي بكل تأكيد من بين الإنجازات المهمة لأوروبا المعاصرة، لكن أن نرى بأن هناك خطاً فريداً للتقسيم التاريخي يعود إلى أكثر من ألف سنة، فذلك وهم خالص. إن إعلاء قيمة الحرية السياسية والتسامح الديني، في أشكالهما المعاصرة المتكاملة لم يكن ملمحاً تاريخياً قديماً لأي بلد أو حضارة في

ص: 240


1- نفس المرجع.
2- نفس المرجع السابق

العالم. لم يكن أفلاطون وتوما الأكويني أقل فاشية في تفكيرهما من كونفوشيوس. ولا يعني هذا إنكار أن هناك أبطالا للتسامح في الفكر الأوروبي الكلاسيكي، ولكن حتى لو أخذنا هذا على أنه يعطي الفضل لكل العالم الغربي، فإن هناك أمثلة مشابهة في الثقافات الأخرى أيضاً.

وكثيراً ما يستشهد أمارتيا صن بنماذج هندية تركت بصماتها في الثقافة العالمية حول مواضيع مثل العقلانية والعلمانية والحرية والتسامح. فبينما كان الإمبراطور الهندي «جلال الدين أكبر»(1)يحاول إصدار بيانات مماثلة حول التسامح الديني في أكرا (Agra) منذ تسعينيات القرن السادس عشر مثل قوله «لا ينبغي التدخل في شؤون أحد باسم الدين، ومن حق أي شخص أن يرفض أو يقبل الدين الذي يروقه عن طريق العقل . فقد التزم «أكبر» بما أسماه «سبيل العقل ، وأصر على الحاجة إلى الحوار المفتوح والاختيار الحر . وأكد «أكبر» أيضاً على أن معتقدات ديانته الإسلامية تعتمد على العقل والاختيار وليس على «الإيمان الأعمى»، ولا على ما أسماه «مستنقع التقاليد». وخلص إلى أن «سبيل الرشاد» أو «إعمال العقل» يجب أن يكون هو المحدد الأساسي للسلوك الجيد والصائب والإطار المتعارف عليه للواجبات والحقوق القانونية. في الوقت نفسه كانت محاكم التفتيش في أسوأ عصورها في أوروبا وكان الناس يقتلون حرقا (2). بين لنا هذا أن القيم الإنسانية قيم كونية وليست غربية.

المحور الثالث: في نقض مركزية «الديموقراطية الغربية».

يبدأ أمارتيا صن بإرباك الخطاب الغربي المزعوم حول فرادة الديموقراطية وغربتِها

ص: 241


1- عندما هوجم محمد علي أكبر من طرف التقليديين الذين احتجوا لمصلحة الدين الغريزي، أخبر أكبر صديقه العسكري الذي كان محل ثقته أبا الفضل (الذي كان دارساً هائلا في السنسكريتية وكذلك العربية والفارسية، وله الكثير من الخبرة بالديانات المختلفة، ومن ضمنها الهندوسية والإسلام) : " إن سعي العقل ورفض التقليدية واضح وضوحاً : يجعله فوق الحاجة إلى الجدل. فإذا كانت التقليدية ملائمة لما كان أمام الأنبياء إلا اتباع السابقين (ولما أتوا برسالات جديدة) . (أنظر التفاصيل في كتاب أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 162).
2- أمارتيا صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 61-62، ص 163.

عن العالم غير الغربي، بقصة احتلال العراق تحت شعار«تأسيس نظام ديموقراطي في العراق». وقع الاحتلال، ولم يترسّخ نظام ديموقراطي للحكم في العراق نتيجة الفشل الذريع للتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وبدلاً من إدانة التدخل العسكري الذي اتُّخذ بتهوّر بناءاً على معلومات خاطئة وقلة تأمل وتفكير. يتحول النقاش حول نظرة متوهمة بأن الديموقراطية لا تناسب العراق، أو أبناء الشرق الأوسط، أو الثقافات غير الغربية ولا يشك عاقل في أن مثل هذه المحاولة في فهم المشاكل التي نواجهها اليوم، في الشرق الأوسط أو في مكان آخر من العالم طريقة خاطئة. وإن التركيز على فكرة «الفرض» توحي بتملك الاعتقاد بأن الديموقراطية تخص الغرب وحده، إذ ينظر إليها على أنها فكرة «غربية» في الجوهر نشأت وازدهرت فقط في الغرب. وهذه طريقة مضلّلة لفهم الديموقراطية وآفاقها المعاصرة(1). ثمة انفصام متعاظم مبتذل بين أولئك الداعين إلى «فرض» الديموقراطية على بلدان العالم غير الغربي وبين أولئك المعارضين لهكذا فرض». لكنَّ لغة «الفرض» كلها المستخدمة من الفريقين فاسدة إلى حد يدعو إلى العجب، لأنها تقوم على افتراضٍ ضمنيٍّ مفاده أن الديموقراطية تنتمي إلى الغرب ،وحده، نشأةً وازدهاراً(2).

غالباً ما يعتقد بالطبيعة «الغربية» المزعومة للديموقراطية بممارسة التصويت والانتخابات في بلاد الإغريق، خاصة في أثينا. إن الريادة في اليونان القديمة كانت ضخمة حقاً، لكن القفزة من اليونان القديمة إلى فرضية الطبيعة «الغربية» أو «الأوروبية المزعومة للديموقراطية أمر مربك، وفي نفس الآن حكم غير ديموقراطي على الديموقراطية. إذا لم تكن الديموقراطية بهذا الشكل فكيف يتصورها أمارتيا صن؟ إن الديموقراطية عنده لا تخرج عن كونها »حكم بالنقاش»(3) أو يتطلب النظر

ص: 242


1- لا ينكر أحد بأن المفاهيم المعاصرة للديموقراطية والتفكير العام قد تأثرت بعمق بالتحليلات والخبرات الأوروبية والأمريكية على مدى القرون القليلة الماضية، خاصة بالقوى الفكرية للتنوير الأوروبي منها إسهامات بعض منظري الديموقراطية مثل ماركيز دي كوندورسيه وجيمس ماديسون وأليكسيس دي توكفيل، وجون ستيورت ميل). غير أن هذا لا يعني أن الغرب هو الوريث الشرعي لمسألة الديموقراطية . ( أنظر تفصيل هذا في كتابي أمارتيا صن، «فكرة «العدالة و الهوية والعنف».
2- أمارتيا ،صن، فكرة العدالة، مرجع سابق، ص 454
3- مرجع سابق، ص 16.

إليها من خلال النقاش العام وهذه طريقة في الحكم كانت سائدة في حضارات مختلفة من العالم، فالديموقراطية «ليست فقط عملية التصويت والاقتراع، لكنها أيضاً التشاور والتفكير بين الناس عامة، وهو ما يسمى بتعبير قديم العهد «الحكم بالمناقشة» وبينما ازدهر التشاور والتفكير الشعبي في اليونان القديمة، فقد ازدهر أيضاً في العديد من الحضارات القديمة وبدرجة مذهلة أحياناً. كان الناس يجتمعون في لقاءات عامة مفتوحة هدفها حل النزاعات والاتفاقات حول مصالح مشتركة. إن تقاليد النقاش العام يمكن أن نجدها في كل مكان من العالم، ففي الهند مثلا كان هناك ما يسمى بالمجالس البوذية، وفي اليابان في القرن السابع الميلادي أُعلن عن «دستور السبع عشرة فقرة»، وقد أكد في إحدى فقراته «ينبغي أن لا نكون ممتعضين حين يختلف الآخرون معنا فكل الرجال لهم قلوب وكل قلب له معارفه الخاصة. إن الصحيح لديهم خطأ لدينا، والصحيح لدينا خطأ لديهم». وليس مفاجئاً أن يعتبر البعض أن هذا الدستور يعد أول خطوة للتطور التدريجي نحو الديموقراطية. كما لا يخفى على الجميع أن تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ الشعوب الإسلامية أيضاً يحفل بكثير من أحداث ووقائع النقاش العام والمشاركة السياسية والحوارات(1).

وبكلمة يمكن القول إن العالم الغربي لا يمتلك حقوق ملكية الأفكار الديموقراطية. فبينما الأشكال المؤسسية الحديثة للديموقراطية جديدة نسبياً في العالم كله، فإن تجليات الديموقراطية في شكل المشاركة والمناقشة العامة قد انتشرت عبر العالم. قد تكون الديموقراطية في صورتها المؤسسية المتطورة شيئاً جديداً في العالم الحديث، ومع ذلك فإنها تعبر كما لاحظ ألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)، عن ميل في الحياة الاجتماعية له تاريخ أطول وأوسع بكثير(2). وهذه فكرة نقدية تنفي الزعم الهنتنغتوني الذي يعتبر الديموقراطية قيمة غربية خالصة، وليست نظاماً سياسياً قابلا للتصريف. وهذه النظرة تنفي اتصال فكرة الديموقراطية بحقوق الإنسان، وهذا من شأنه أن يغلق الباب أمام الروابط الإنسانية والأصول المشتركة للإنسان في هذا الكون.

ص: 243


1- أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 64-65.
2- أمارتيا ،صن، فكرة العدالة، مرجع سابق، ص 456

صحيح أنه لا بد من الاعتراف التام بالتقدم الهائل للأفكار والمعرفة في أوروبا وعلى مدى القرون القليلة الماضية. ولا بد أن يحصل الغرب بالفضل من أجل الإنجازات المهمة التي حدثت في العالم الغربي أثناء النهضة والتنوير، والثورة الصناعية، التي حولت طبيعة الحضارة الإنسانية. ولكن الافتراض بأن كل ذلك كان نتيجة ازدهار «حضارة غربية منفصلة تمام الانفصال في عزلة مدهشة، هو وَهُم خطير(1).

خاتمة:

نخلص إلى القول بأن نظرية التقسيم الحضاري نظرية فقيرة لسببين على الأقل؛ فمن جهة هناك مشكلة منهجية تتعلق بالافتراض المضمر بأن التقسيم الحضاري له أهمية فريدة، وأن هذا التقسيم يجب أن يقضي على الطرق الأخرى لتعيين هوية الناس أو يكتسحها. وهذا من شأنه أن يعزز العنف الداخلى والخارجي، بمعنى أن هذا الطرح قابل للاشتغال سياسياً. ومن جهة أخرى، فإن هذا التقسيم قائم على فجاجة وصفية فائقة، بالإضافة إلى الجهل التاريخي بحيث يتم تجاهل الكثير من التنوعات المهمة داخل كل حضارة كما يجري التغاضي بشكل جوهري عن التفاعلات بين الحضارات الإنسانية المتفاعلة.

إن هذين الخللين يؤديان إلى فهم فقير للحضارات المختلفة وما بينها من تفاعل وتماثل واعتماد متبادل في شتى المجالات الإنسانية المشتركة، من علوم وتكنولوجيا ورياضيات وآداب وتجارة، بالإضافة إلى الأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن الإدراك الضبابي للتاريخ ينتج نضاراً محدودةً جداً لكل الثقافات، وهذا من شأنه أن يقزّم الحضارة الغربية ويفتح من ثَمَّ أفقاً ضيقة للإنسان الغربي، نتيجة التصغير المصطنع للكائنات البشرية داخل حدود جغرافية ضيقة وهويات انفرادية مغلقة، وهذا يمكن أن تكون له آثار سيئة للغاية، وتجعل العالم قابلا للانفجار في أي لحظة.

وفي سياق التقزيم الحضاري يرى أمرتيا صن أن فكرة «نهاية التاريخ» تهاوت لأنها

ص: 244


1- أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 67.

تتحدث عن الماضي، ومن ثم تبعث على الاطمئنان حول مستقبل أميركا، بحيث تؤكد على الانتصار النهائي لليبرالية. أما أطروحة «صدام الحضارات» فهي تتحدث عن المستقبل وتنذر بخطر المواجهة والحرب وتدعو صراحة إلى أخذ الحيطة والاستعداد للدفاع عن النموذج الحضاري الأميركي وعن المصالح التي يقوم عليها، ومن ثم تخصيص ما يلزم لمواجهة الخطر. ولهذا فإن فكرة الصراع «الهنتنغتونية»، فكرة ذات مآرب سياسية وإديولوجية.

تتخذ المقاربة الحضارية للصراعات المعاصرة حسب أمارتيا صن شكلين:

الشكل الأول يأخذ طابع الماكرو - صراع، وهي نظرة متميزة الضخامة حول الصراعات الكونية تفصل سكان العالم إلى حضارات متبارية مغلقة بحدود حديدية صارمة، ينتهي عندها سقف الإنسانية. وهو تصنيف أحادي فريد قائم على ما يسمى الخطوط الحضارية أو الفروق الحضارية أو الثقافية، والتي هي بالمناسبة تتبع التقسيمات الدينية، التي يوجّه الانتباه إليها وحدها وبموجبها يقسم هانتنغتون «الحضارة الغربية» في مقابل «الحضارة الإسلامية»، و«الحضارة الهندوسية»، في مقابل «الحضارة البوذية» وهلم جرا.

الشكل الثاني يأخذ الطابع الميكرو - صراع ، وهو ادعاء خطير ومؤثر يرجع تباينات الثقافات والهويات إلى الصراعات وغزارة الفظاعات التي نراها في أجزاء مختلفة من العالم اليوم. إذ يرى هذا الادعاء بأن السكان المحليين منقسمين إلى جماعات متصارعة لها ثقافات متشعبة وتواريخ متباينة تميل بطريقة طبيعية إلى توليد العداوة بعضها تجاه .بعض. ونتيجة لهذا التقسيم فإن المقاربة «الحضارية» للصراعات المعاصرة سواء في صيغتها الماكرو أو الميكرو تقوم بدور حاجز فكري رئيس أمام التركيز بشكل أوفى على السياسات السائدة، وأمام تفحُّص عمليات وديناميات الدوافع المعاصرة للعنف.

إن أبطال نظرية الصراع يتفقون تمام الاتفاق مع الاعتقاد بالعمق الفريد لهذا الخط التقسيمي الأحادي، ويميلون إلى رؤية قيم التسامح وغيرها من القيم الإنسانية،

ص: 245

على أنها ملمحٌ خاص ودائم للحضارة الغربية وجذورها غاصةً في أعماق التاريخ الغربي. وهذه نظرة وهمية من الصعب دعمها تجريبياً، فالتسامح والحرية وغيرها هي بكل تأكيد من بين الإنجازات المهمة لأوروبا المعاصرة ، لكن أن نرى بأن هناك خطاً فريداً للتقسيم التاريخي يعود إلى أكثر من ألف سنة، فذلك وهم خالص.

إن الغرب غالباً ما يزعم / المصدر للديموقراطية، وهو الوريث الشرعي لها، وباقي المجتمعات الأخرى ليست سوى مقلدة ولا تصلح لها التجربة الديموقراطية وإن حاول الغرب فرضها عليها. وهذه بدورها فكرة وهمية موغلة في التمركز والأحادية، فالديموقراطية لها جذور في أعماق التاريخ الإنساني، وهي مسألة مشتركة بين الناس كونيا ولا تتخذ شكلاً واحداً.

إن الديموقراطية عند أمارتيا صن لا تخرج عن كونها «حكم بالنقاش» أو يتطلب النظر إليها من خلال النقاش العام، وهذه طريقة في الحكم كانت سائدة في حضارات مختلفة من العالم، فالديموقراطية ليست فقط عملية التصويت والاقتراع، لكنها أيضاً التشاور والتفكير بين الناس عامة، وهو ما يسمى بتعبير قديم العهد «الحكم بالمناقشة». وبينما ازدهر التشاور والتفكير الشعبي في اليونان القديمة، فقد ازدهر أيضاً في العديد من الحضارات القديمة كالهند والصين... ولدى الفرس بشكل واضح.

هذه إذن، بعض الخلاصات في ما يخص أطروحة «التمركز الغربي» أثبتناها في خاتمة هذا البحث أملنا من خلال هذا العمل أن نفتح آفاقا حول المزيد من القراءة والبحث في فكر هذه القامة الفكرية الهندية التي خَبِرت الفكر الغربي والأميركي بالخصوص عن قرب، بالإضافة إلى أن ثقافة الرجل واسعة عقلانية ومنفتحة، من شأنها أن تفتح الباب واسعاً أمام الباحثين للنظر في قضايا وإشكالات معاصرة، من أجل إعادة النظر في العديد من المفاهيم والإشكالات المرتبطة أساساً بالخلط والتشويش المفاهيمي في الكثير من المجالات، وأبرزها مفهوم الهوية والحضارة والثقافة والعقل والحرية والمساواة والديموقراطية والعنف والهوية... إلخ.

ص: 246

التمهيد ل_«ما بعد الاستعمار»

أواليات العنف الاستعماري في التجربة الأوروبية
اشارة

محمد نعمة فقيه(1)

يمكننا اعتماد تاريخ 1493م بدايةً رسميّة للفعل الاستعماري، بمفهومه الأوروبي، أي الاستعمار القائم على النّهب العنيف للمستعمرات ونقل المنهوبات إلى «مركز» استعماري أوروبي (Metropole). على غير ما كانت عليه حركة الاستعمار البشري منذ نشأة المجتمعات البشريّة والتي كانت عبارة عن انتقال جماعة من البشر، قبيلة أو شعب من موقع أو موطنٍ أصلي لها للاستيطان في مكان ما، بشكل سلمي أو بالغلبة واستعمارها، بمعنى عمارتها، ثم تتّخذ هذه الجماعات أو الشعوب من المنطقة التي استعمرتها موطناً لها ومستقراً، ولو إلى حين.

وباستثناء محاولة الاستعمار بهدف الاستتباع والنّهب العنيف خلال الحروب الصليبيّة على سواحل بلاد الشام في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، لم تشهد المجتمعات البشريّة حركة استعماريّة قائمة على النّهب العنيف، سوى تلك التي باشرتها مملكتا إسبانيا والبرتغال ابتداءً من أواخر القرن الخامس عشر، وكانت

ص: 247


1- استاذ وجامعي وباحث في التاريخ الغربي - لبنان.

تستهدف نهب كل ما يقع تحت يدها في المحيط الأطلسي وشمالي إفريقيا وغربيها وصولاً إلى جنوبيها و«العالم الجديد»، مُنهيّةً بذلك «شرعيّة» القرصنة التي كان يمارسها البحّارة الأوروبيون على سواحل أفريقيا الشماليّة والغربية وساحل بلاد الشام، والتي كانت تقوم على قاعدة« انهب واهرب».

ونحن إذ نعتمد هذا التاريخ، 1493، بوصفه البداية «الرّسميّة» لحركة الاستعمار الأوروبي لمناطق وشعوب غير أوروبيّة، نسترشد بما تضمّنه المرسوم البابوي، الذي أصدره البابا إسكندر السادس (رودريجو بورجيا)، وبارك بموجبه ملكي إسبانيا والبرتغال، لما يقدّمانه من خدمات لنصرة الكنيسة، والتبشير بالسيّد المسيح حول العالم، وتقديراً لجهودهما وتضحياتهما في هذا السبيل، فإنّه يقرّ ويبارك المعاهدة التي تعاهدا عليها، وهي معاهدة تورد سيلاس (Tordesillas) عام 1493م والتي تمّ تعديلها عام 1494م، حيث تقاسما العالم فيما بينهما، فرسما خطّاً وهميّاً في المحيط الأطلسي يمتدُّ فيما بين القطبين الشمالي والجنوبي، فمنح البابا كل المناطق المستكشفة أو التي ستكتشف غربي الخط إلى ملك إسبانيا، وشرقيِّه إلى ملك البرتغال(1).

وبناءً على «تقسيم العالم» هذا جاءت الإرادة الملكيّة التي أعلنها ملك البرتغال منذ بداية القرن السادس عشر (1507) السّيادة البرتغاليّة التّامّة على المحيط الهندي معتبراً أن مياه المحيط مياهاً برتغاليّة وأنّ على كل سفينة تجاريّة تمخر عباب المحيط، أن تحصل على تصريح بالإبحار من حاكميّة أحد الموانئ البرتغاليّة، وأنّه يحق للسفن البرتغاليّة اعتراض أي سفينة مهما كانت تابعيتها، في أعالي البحار لتتأكّد من أنها تحمل تصريحاً بالإبحار وتُطابِق حمولتها مع التّصريح. وكلّف الملك فاسكو دا جاما (2)بتنفيذ مضمون هذه الإرادة الملكيّة بالقوّة على من يرفضها، وأمدّه

ص: 248


1- ج. ه-. ولز ،"معالم تاريخ الإنسانية»، المجلد الثالث ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1961، ص: 1029.
2- فاسكو دا جاما، يُعدّ من أنجح مستكشفي البرتغال في عصر الاستكشاف الأوروبي وهو أول من سافر من أوروبا إلى الهند بحراً كُلَّفَ من قبل ملك البرتغال مانويل الأول بإيجاد أرض للمسيحية في شرقي آسيا وبفتح أسواقها التجارية للبرتغاليين قام دا جاما بمتابعة استكشاف الطرق البحرية التي وجدها سلفه بارثولوميو دياز عام والتي تدور حول قارة أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح وذلك في أوج عهد الاستكشافات البرتغالية التي كان هنري الملاح قد بدأها .

بالقوّة الحربيّة اللازمة لذلك(1). بينما كانت الغزوات البحريّة الإسبانيّة باتجاه «العالم الجديد» قد باشرت نهبها العنيف لما تقع عليه أيديها وتستعمر البلاد باسم ملك إسبانيا(2). فيقول أمريكو فسبوتشي (الذي أعطى اسمه للقارة الجديدة)، بأنّه خلال الفترة ما بين عامي 1499 و 1507م قام بأربع رحلات إلى «العالم الجديد»(3).

يمكن، وبمختلف المقاييس اعتبار الحركة الاستعماريّة التي باشرها الإسبان والبرتغاليّون مع نهايات القرن الخامس عشر، بأنّها استئنافٌ للحروب الصّليبيّة، أكان لجهة الأهداف أو الشعارات وحتى لجهة الأساليب. ولكنّها لم تعُد تقتصر على موانئ وحواضر العالم الإسلامي في البحر الأبيض ، بل تجاوزت هذا الحيّز الجغرافي الضيِّق لتشمل شعوب وحضارات ومناطق العالم بأسره.

بيد أنّ ما يجب البحث عنه هو : كيف تحوّلت أوروبا الغربية عموماً، من أعدادٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى من المقاطعات والممالك المتناحرة والمتقاتلة فيما بينها، محكومةً بصراعٍ طويل ويائس من أجل البقاء، إلى قوّة، أو قوى، قادرة على تسيير الأساطيل في المحيطات تستعمر الشعوب والبلدان في مختلف أصقاع الأرض، تغزوها وتنهبها وتفرض سطوتها عليها ، بعد أن كان البحر الأبيض بحراً إسلاميّاً صرفاً والبحر الأدرياتيكي (التيراني) بحيرة عربيّة، حسب تعبير المؤرّخ البلجيكي هنري بيرين؟ وكيف حقّقت الانقلاب في ميزان القوى الدَّوليّة لصالحها حتى يكون باستطاعتها أن تلعب هذا الدّور؟ وهل يمكن للباحث الجاد الاكتفاء بالقول أنَّ التقدُّم العلمي والتطوُّر الصّناعي الذي شهدته أوروبا الغربية في تلك الفترة هو ما أمَّن لها التفوُّق في صناعة السفن والأسلحة النّاريّة، وبالتّالي التفوُّق في ميدان الحرب؟ أم أن الأمر

ص: 249


1- ك.م. بانیکار،"آسيا والسيطرة الغربيّة، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد دار المعارف بمصر، القاهرة 1962 ص: 39.
2- ه-. ج . ولز ، المرجع المذكور ، م3، ص: 1020 - 1025.
3- جاء ذلك في رسالة كتبها في عام 1502 أو 1503 تحدّث فيها عن اكتشافه لقارة جديدة، وضمنها وصفًا مفعماً بالحيوية للأرض الجديدة وسكانها نشرت الرسالة في عام 1503 أو 1504 تحت عنوان "العالم الجديد". اكتسبت الرسالة شهرة واسعة وأعيد نشرها في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وحصل فسبوتشي الفلورنسي الأصل على الجنسية الأسبانية في عام 1505م، والتحق بوكالة حكومية تعني بالروابط التجارية مع العالم الجديد. شغل منصب كبير الملاحين في هذه الوكالة من عام 1508 وحتى وفاته عام 1512

يفرض على الباحث الجاد أن يذهب بعيداً في استكشاف دور النّهب العنيف، الذي مارسه القراصنة على امتداد ستة قرون (من القرن التاسع حتى القرن الخامس عشر) على العالم الإسلامي، في التّأسيس لبناء مجتمعات كاملة تتغذّى دورتها الاقتصاديّة على مردود المنهوبات التي كانت تتحوّل إلى محفّزات لمزيد من تطوير الجهاز العنفي للحصول على المزيد من المنهوبات؟

يربط عددٌ من المؤرخين فيما بين سقوط القسطنطينية بأيدي العثمانيين عام 1453 والتطوّرات التي شهدتها أوروبا، ويتّفق الجميع على اعتبار هذا التاريخ بأنّه نهاية «للقرون الوسطى» الأوروبية، وبداية للعصر الحديث. ويَعنون بالعصر الحديث، بشكل خاص، وضع المجتمعات الأوروبية على سِكَّة التَّطوُّر وظهور الدول المركزية وازدهار الثقافة والفنون والعلوم بمختلف مستوياتها. وهو ما يعتبرونه وضع الأسس لتحقيق الانقلاب في التوازن الدولي لصالح الكتلة الأوروبية بمواجهة السلطنة العثمانية، التي كانت تشكِّل، حتّى ذلك الوقت، القوّة الأهم والأعظم في التوازن الدولي. ونادراً ما أَولى، الذين ربطوا فيما بين الحَدَثين اهتماماً كافياً لأدوات ومحفزات التّطوّر الأوروبي، بعيداً عن «الأنويّة» الأوروبية. ونلاحظ أنّهم تجنّبوا الخوض فيما هو أصل وأساس ذاك التطوّر. فتمّ التّركيز على عددٍ من النتائج، وعلى ظواهر جانبيّة وفرعيّة، وقالوا أنّها هي ركيزة ذاك التطوّر، وأنّها هي القاعدة التي تشكّلت عليها عمليّة الانطلاق، وبالتالي هي التي أدّت إلى إنتاج الانقلاب في التّوازن الدّولي لصالح أوروبا الغربيّة.

سيطر على الأبحاث والدّراسات التاريخية لأوروبا القرون الوسطى، التي تناولت الجانب الاقتصادي والسياسي، القراءات الوصفيّة والتسجيليّة للأحداث، دون الخوض في تحليل تلك الأحداث ودورها ولا هي ربطت فيما بين الواقعة الاقتصاديّة والأثر السياسي والاجتماعي لها باستثناء محاولات عدد من أتباع المدرسة الماركسية، الذين درسوا بتركيزٍ واضحٍ المتغيرات الاقتصادية وأثرها السياسي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي، وآخرون ممّن تولّوا محاججتهم والرّد عليهم،

ص: 250

ولكنّهم جميعاً بقوا أسرى التّفسير الماركسي ل_ «سرّ التّراكم الأولي لرأس المال» الذي تناوله كارل ماركس وكأنّه أحد «الأسرار» الكنسيّة ، أو نجدهم أسرى مفهوم «روح العصر» الهيجلي، وانطلقوا من ما بعد القرن الرابع عشر مهملين ما سبق هذا التّاريخ، فتركّز اهتمامهم على ظواهر محدودة في العلاقة ما بين الإقطاعيين والأقنان، وثم الفلاحين، في وسط وشمال غربي القارّة، مع إيلائهم المزيد من الاهتمام للريف الإنكليزي الذي شهد ابتداءً من القرن الرابع عشر ، بداية بطيئة لاضمحلال القِنانة الإقطاعية.

فباستثناء هذه القلّة فإن البحث في مكوّنات الخروج من القرون الوسطى والولوج في العصر الحديث بقي ضمن ضفاف تأريخ الحركة الداخلية للمجتمعات الأوروبية. بعضهم فعل ذلك انسياباً مع الشائع، وبعضهم الآخر تعمَّد ذلك انسجاماً مع منهج «الأنوية الأوروبية» القائم على فرضية مفادها أن المجتمع الأوروبي ذاتي التطور، وليس بحاجة إلى خارج لدفعه بهذا الاتجاه. وهذا ما أسهم بشكل ملحوظ في سيطرة الأبحاث ذات الطابع التحليلي - الوصفي لحركة الانتقال، من حالة إلى أخرى، في المجتمع الأوروبي، من دون إيلاء الأسباب الخارجية لهذا الانتقال ما يستحقه من اهتمام.

وحسبما يؤكد الدكتور حسين مؤنس في إطار بحثه لتعريف الحضارة وسيرورة إنتاجها وتطورها، فإن الابتكارات والانتقالات ليست وليدة مجرّد إرادة،«والوعي لا يحصل في طرفة عين نتيجة لتفتح مفاجئ في الذهن، ولا يعرف العلم ما يُسمّى باللّمسة السحريّة التي ذهب بعض الناس إلى أنها سبب الخلق والإبداع والابتكار، فقد كانت ثمة جملة من التطورات والأحداث المترابطة والمتفاعلة عبر زمن طويل، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، منها ما هو سلبي كابح للتطور، وآخر إيجابي دافع له، شكّلت فيما بينها جميعاً أُسُساً لما شهدته أوروبا من تطوِّر وازدهار مكَّنَها من إحداث الانقلاب في التوازن الدولي لصالحها»(1).

ص: 251


1- د. حسين مؤنس الحضارة"، مسلسلة عالم المعرفة العدد الأول، المجلس الوطني الثقافي، الكويت، كانون الثاني 1978 ، ص : 93

كانت الفكرة المهيمنة دائماً في الفكر الأوروبي بدءًا من القرن التاسع عشر، هی أنّ مقوِّمات الازدهار والتفوق في أوروبا إنما هي الاستمرار المنطقي لحضارتي الإغريق والرومان، وأنّ ما أصاب أوروبا خلال «القرون الوسطى» لم يكن سوى عطلاً طارئاً أو حادثاً عرضياً ما لبث المجتمع أن تغلَّب عليه واستأنف مسيرته. وعندما يعلن الأستاذ الأميركي جيمس هنري بريستد رأيه، والذي لا نشك في أنَّه احتاج لجرأة استثنائية، حيث قال: أنَّ الحضارة الأوروبية الحديثة لم تكن بدأت في اليونان وروما، بل في الشرق الأوسط، في مصر وفلسطين وبابل وآشور وسومر وآكد، فهو بذلك أشار ، ليس فقط إلى جذور الحضارتين الإغريقية والرومانية، اللتين يُقال بأنّهما جذر الحضارة الأوروبية الراهنة، بل إلى المجتمعات التي أنتجتهما وتطوّرتا في خضمِّ ممارسة تلك المجتمعات لحياتها(1).

أ - أوروبا القرون الوسطى: لمحة سريعة:

وحتى لا نذهب بعيداً في هذا المجال، سنكتفي ها هنا بالإطلالة على ما كان عليه الواقع الأوروبي قبل أعوام من مرحلة «القرون الوسطى» لنتبيَّن ركائز هذا الانطلاق وأسبابه.

من العبث الكلام عن الدول والحكام والأنظمة التي كانت قائمة في أوروبا إبّان القرون الوسطى، إذ لم يكن هناك دولاً ولا حكّاماً ولا أنظمة. وعلى حد وصف الأستاذ ه-.ج. ويلز، فإن«كل ما في الأمر أن بعض المقاطعات الصغار أو الكبار كانوا يستولون على قلعة أو ناحية من الريف ويحكمون منطقة حكماً غير مستقر. فكانت الجزر البريطانية مثلاً، مقسمة بين حشد كبير من الحكام، وكان هناك زعماء كليتون عديدون في ايرلندا وإيسلندا وويلز وكورنوال(2)، يتقاتلون ويتغلبون أحدهم على الآخر أو يُخضعون بعضهم لبعض. وكان الغزاة الإنكليز ينقسمون أيضاً إلى عدد من الممالك غير المستقرة، وهي كنت وسكس

ص: 252


1- Breasted, J.H.: "The Dawn of conscience", New York, c. scribnenks sons, 1953, ch. I.
2- كورنوال مقاطعة إنكليزية ساحلية جنوب غربي إنكلترا. تقع إلى الغرب من نهر تامار وديفون المركز الإداري والمدينة الوحيدة في المقاطعة هي مدينة ترورو.

وساسكس وإسكس ومرسيا ونورثمانيا وانجيليا الشرقية، وهي دول لا تنقطع الحرب بينها أبداً»(1).

ويتابع الأستاذ ويلز وصفه قائلاً :«كان ذلك شأن معظم أقطار العالم الغربي، فأنت واجد أسقفاً يتولى الملك، كما كان غريغوري الأكبر في روما. وواجدها هنا مدينة أو مج مجموعة من البلدات تحت حكم دوق أو أمير لهذه أو لتلك. وكنت تجد بين الخرائب الهائلة بمدينة روما أسر نصف مستقلة من مغامرين شبه نبلاء، كل يذود عن حياضه ومعه أتباعه. وكان للبابا نوع من السيادة العامة على هؤلاء ولكن كان ينافسه في تلك السيادة ويفوقه تماماً في بعض الأحيان دوق روما (...) وكانت اسبانيا على

هذا الانقسام السياسي الشديد نفسه الذي كانت عليه إيطاليا وفرنسا وبريطانيا»(2).

عموماً، ليس منطقياً الكلام عن أوروبا «القرون الوسطى» بوصفها كلاً اجتماعياً أو حضارياً منسجماً، فإلى جانب انشطارها في الولاء إلى الكنيسة الكاثوليكية أو إلى الكنيسة البيزنطية الأرثوذوكسية، فهذا أدى إلى قسمتها إلى أوروبتين شرقية وغربية، فإن مفاهيم مثل «المجتمع الأوروبي» أو «الحضارة الأوروبية» أو «الجماعة الأوروبية»، لم تكن قد وُجدت بعد.

والواقع أن كل كلام عن «حضارة أوروبية» قبل «القرون الوسطى»، هو ضرب من الإسفاف، فعلى الرغم من كل ما يُقال حول أثر «القرون الوسطى» على أوروبا، وحول الدمار الذي لحق بها، فممّا لا ريب فيه، هو أنها حققت وجودها للمرة الأولى في التاريخ خلال هذه المرحلة، لتكون «القرون الوسطى» بالنسبة لأوروبا بمثابة المخاض الحقيقي لولادتها وتشكُّلها، ويسقط بالتالي مفهوم «القرون الوسطى» عن المرحلة الممتدة ما بين أواخر القرن الخامس والقرن الخامس عشر باعتبارها مرحلة جاءت وسط حضارتين أوروبيتين، والتأسيس لمفهوم آخر عن القرون الوسطى، مفهوم يعتبر بأنّها لم تكن سوى «مرحلة المخاض والتأسيس» لمجال سياسي واجتماعي هو المجال الأوروبي.

ص: 253


1- ه- .ج. ويلز، "معالم التاريخ الإنسانية، المجلد الثالث، مرجع مذكور، ص: 825 - 826.
2- المرجع نفسه، ص : 825

فالنظام الإقطاعي الذي تشكّل ونما خلال القرون الوسطى، ولعب في بداياته دوراً تقدّميّاً وحمل للمجتمع الأوروبي نظاماً ثورياً ورائداً، كان قد ترافق مع انتشار النصرانية التي شاعت وتحوَّلَت إلى دينٍ نهضويٍّ توحَّد الأوروبيون به وحوله، وشكل لهم «الموحد الأيديولوجي» المافوق قبلي أو قومي أو إثني، تناغما معاً في صرامة التّراتبيّة الدّاخليّة لكليهما، فأدخلا هذا النّمط من العلاقات في بعدها السياسي ليؤسِّس للدولة القوميّة المركزيّة وليشكلا معاً، الإقطاع والكنيسة، العاملين الأساسين لتَشَكُّل أوروبا وتكوّنها كمجالٍ ذي مدلول سياسي - اجتماعي ديني، لأوّل مرّة في التّاريخ.

فمنذ بطليموس، كان ثمة حديث عن بقعة من الكرة الأرضية متميّزة أو مختلفة جغرافياًّ عن سواها عن سواها من آسيا وأفريقيا تسمّى أوروبا لكن ليس ثمة شعب أوروبي. والصفة «أوروبي» لم تكن مستخدمة بعد لتُميِّز الإنسان القاطن في هذه القارة عن غيره. بينما كانت الصفة «آسيوي» أو «أفريقي» تسمية لرجل أصله من الأناضول، مثلاً، أو من العرب(1). فأوروبا آنذاك مقسّمة في الواقع إلى عالم روماني وعالم بربري»(2). وفي الوقت الذي كان فيه «العالم البربري». المتّصف بوحشيّته ووثنيَّته، يجد امتداده خارج القارة ليتواصل مع الشعوب التركية والمغولية الآسيوية، والتي تشاركه حتى ذلك الحين بالوحشية والوثنيّة، ويقوم نمط اجتماعها على نظام القبائل المحاربة القائمة على الغزو ، فإن «العالم الروماني» الذي تمثله الإمبراطورية الرومانية يمتد على ثلاث قارات حول البحر الأبيض، ممّا يُسقط عنها صفتها الأوروبية الخالصة على الرغم من أن مؤسسيها أوروبيون وعاصمتها في أوروبا.

ففي خضم الخراب والدمار والمجازر التي أثارتها الغزوات الكبرى خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين القبائل العسكرية الجرمانية على الإمبراطورية الرومانية من شمالي أوروبا إلى وسطها وجنوبها وغربها والقبائل العسكرية التركية (الهدن) التي كانت تُغِير على كل أوروبا انطلاقاً من سهل الدانوب في شرقی

ص: 254


1- ميشال دوفيز، المرجع المذكور، الجزء الأول، ص: 17.
2- د. حسين مؤنس المرجع المذكور، ص: 201.

أوروبا(1)، إضافة إلى غزوات قبائل الأنجل (الإنجليز) والسكسون والقوط، وهم «من أشد الهمج الغزاة قساوة وتأثيراً في من حولهم»(2)، في هذا الخضم كانت تتشكل القارة الأوروبية اجتماعياً مع استقرار هذه القبائل في المواطن التي غزتها ومن ثم في اعتناقها للنصرانية (3)وصولاً إلى تحويل الأعداد الغفيرة من الفلاحين والمزارعين الضعفاء إلى أقنان أو أتباع لهذا أو ذاك من الرجال الأقوياء، ليحتموا به، ويتشكل النظام الإقطاعي الذي شكل جهازاً ضرورياً لإعادة التوازن والاستقرار ودفع عجلة الإنتاج الزراعي خطوة كبيرة إلى الأمام(4).

وإذا كان بالإمكان اعتبار نمو النظام الإقطاعي في أوروبا إنجازاً أوروبياً خاصاً إلى حد بعيد، فإن انحلال هذا النظام والتأسيس للنظام الرأسمالي، كان يستلزم بضعة عوامل خارجية، غير أوروبية، لتتفاعل مع عوامل أخرى أوروبية، تدفع باتجاه إحداث القفزة النوعية وتأمين متطلبات الازدهار الاقتصادي والتفوق العسكري على قواعد ومقتضيات النظام الرأسمالي الذي تدين أوروبا الغربية بتطورها له.

ب - حول موضوعة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية:

لا شك أن المجتمعات الأوروبية الغربية شهدت صراعاً داخلياً عنيفاً وكاد أن يكون مدمِّراً في بعض مراحله ومواقعه على طريق الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي. وتبعاً لأهمية هذه القفزة النّوعية في المجتمعات الأوروبية الغربية وأثرها الكبير على العلاقات الدولية فيما وراء خطوط هذه المجتمعات، فإن موضوعة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية استحوذت على نقاشات واسعة لدى مختلف المدارس الاقتصادية والاجتماعية، وتبوّأت موقعاً من الاهتمام لم ينازعها فيه أي موضوع آخر من المواضيع الحيوية، لا سيما في مضمار التحديد الزمني لهذا الحدث أو فى أوالياته الداخلية وسيرورته العامة.

ص: 255


1- ه_ ج . ولز المرجع المذكور، المجلد الثالث، ص: 742
2- المرجع نفسه، نفسه، ص : 715.
3- د. حسين مؤنس المرجع المذكور ، ص : 202 203.
4- ه_ .ج . ولز، المرجع المذكور، ص: 828 - 829.

وكان النقاش قد افتتح على مصراعيه حول هذا الموضوع بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر، واستمر محتدماً طوال القرن التاسع عشر وصولاً إلى يومنا هذا. وقد شارك فيه بداية فلاسفة وعلماء اقتصاد واجتماع من أمثال الفيلسوف الألماني فريدريك ليست (1789 - 1846م) الذي صاغ نظرية في تطوُّر المجتمعات البشرية، قد تكون أوّل النظريات التفصيلية حول الاتجاه التطوري لهذه المجتمعات، التي تعطي لمراحل التطور الخمسة التي تلحظها العناوين التالية: 1- المرحلة الهمجيّة. 2- المرحلة الرعوية . -3 - المرحلة الزراعية . -4 - المرحلة الزراعية والصناعية . 5 - المرحلة الزراعية - الصناعية - التجارية. وكذلك المفكر الاقتصادي البريطاني الشهير آدم سميث (1723 - 1790م) صاحب كتاب «ثروة الأمم» الذي وضعه عام 1776م والذي قد يكون أوّل من نَظَّر، وعبر الاستدلال العلمي، وعلى نطاق واسع، لأهمية الاستعمار لنمو الرأسمالية، عبر ربطه ما بين اتساع السوق، وقدرة الرأسمالية على تحقيق تقسيم العمل الذي يؤدّيه العامل في النظام الرأسمالي، بانفصاله عن وسائل الإنتاج، ليس سوى سلطة كغيرها من السلع وأن الأجر الذي يتقاضاه مقابل العمل، إنما هو «ثمن» لهذه السلطة يخضع لنظام العرض والطلب شأنه شأن غيره من الأثمان.

وعلى أعتاب الثورة الصناعيّة الثّانيّة في أوروبّا الغربيّة (اختراع المُحرِّك بالطاقة النفطيّة) سيحتدم النقاش مجدداً مع كارل ماركس وتأسيسه لمدرسة خاصة في قراءة تطور المجتمعات البشريّة، ومع أقطاب المدرسة الهيجلية الجديدة التي رفض أحد أجنحتها أن تكون المجتمعات البشريّة، شأنها شأن الطبيعة، تحيا ضمن انتظام معيَّن (فيلهلم روشير 1817 - 1894م) بينما رأى آخرون في هذه المدرسة (برونو هيلد برانت 1812 - 1878م) أن تطور الأمم الاقتصادي يمر ضمن ثلاث مراحل هي: الاقتصاد الطبيعي والاقتصاد النقدي والاقتصاد الائتماني(1).

ومع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ستجدِّد الهيجلية نفسها مع «المدرسة التاريخية الحديثة» التي ستقوم مع وارنير سومبارت صاحب کتاب

ص: 256


1- راجع في ذلك اوسكار لانح ، الاقتصاد السياسي"، الجزء الأول، ترجمة راشد البراوي، دار المعارف بمصر، 1966 ص : 288

«الرأسمالية الحديثة» ومع العالم الاجتماعي ماكس فيبر (1864 – 1920م)، وكلاهما ألماني، حيث يعتبران أن التطور الاقتصادي مستمدٌّ من المثالية الموضوعية التي ترجع أصولها إلى فلسفة هيجل، وأن لكل عصر تاريخي «روحه» الخاصة التي تُخْتَصَر في مجموعةٍ من الاتجاهات النفسانية للبشر ، التي تضفي على كل عصر طابعهُ الخاص. ويعتبر أن مفتاح فهم التطور الاقتصادي لا يكمُن في معرفة أسلوب الإنتاج ، أي ليس في القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، كما يقول كارل ماركس، إنما في معرفة وفهم الاتجاهات النفسانية التي تشكل «روح» كل عصرٍ تاريخيٍّ بذاته(1).

ولعلَّ أكثر الأبحاث التّاريخيّة، التي تناولت التّاريخ الاقتصادي لأوروبا في العصر الوسيط، إضاءةً على القضايا المتعلّقة بموضوعنا، هي تلك التي أثارتها مقولات المؤرخ البلجيكي هنري بيرين (1862 - 1935م) (2)حول الدور الذي لعبته التجارة والثروة المحصَّلة عن طريق القرصنة، في تطور وانهيار النظام الإقطاعي وبروز النظام الرأسمالي وتطوره. حيث سعى بيرين إلى إثبات أن الحيوية التي طرأت على الاقتصاد الأوروبي، وطيدة الصلة بالعلاقة التجارية بين أجزاء العالم القديم. وهو يُعيد انهيار الإمبراطورية الرومانية إلى وقف تدفق الناتج التجاري بين أوروبا والشرق بعد سيطرة المسلمين على خطوط التجارة القديمة لاسيما في البحر الأبيض. وإن نجاح المدن الإيطالية في إعادة توصيل هذه الخطوط وازدهار القرصنة خلال القرون الوسطى، أمَّنا الانبعاث الاقتصادي لأوروبا ابتداءً من القرن الحادي عشر، الذي تم تتويجه بالحروب الصليبية على الشرق الإسلامي، والتي تعتبر من أضخم وأهم عمليات النَّهب والقرصنة في التاريخ على الإطلاق(3).

وكان كارل ماركس قد لحظ «أن أولى نبتات الإنتاج الرأسمالي» كانت قد ظهرت في «بعض مدن البحر» الأبيض المتوسط في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وأنّ

ص: 257


1- المرجع السابق، ص: 290 - 291.
2- Pirenne, H., "the Medieval Economic and social Hisory", Eg. Trans. I.E. cgegg, London 1961. وقد صدرت ترجمة عربية لهذا الكتاب بعنوان: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى الحياة الاقتصادية والاجتماعية»، ترجمة وتحقيق د. عطية القوصي الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1969.
3- ارنست ماندل، المصدر المذكور، الجزء الأول، ص 112

الإنتاج الرأسمالي في إيطاليا تطور قبل تطوره في سائر البلدان». إلاّ أن ماركس يعتبر هذا التطور باتجاه الرأسمالية وقيام علاقات إنتاج رأسمالية مبكرة في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر، عاد وشهد «حركة في الاتجاه المعاكس» وذلك «حالما قضت ثورة السوق العالمية منذ أواخر القرن الخامس عشر على تفوق إيطاليا الشمالية التجاري» حيث بدأت حركة إقصاء «جماهير العمال من المدن إلى الريف فأخذت بفضلها الزراعة الصغيرة المنظمة حسب نموذج البستنة تزدهر ازدهاراً لم يُسمع بمثله من قبل»(1).

واعتبر ماركس أن مبادلة العمل الحر بالمال أحد متطلبات العمل المأجور، وأحد الشروط التاريخية للرأسمال إضافة إلى متطلب آخر ألا وهو «فصل العمل الحر عن شروط تحقيقه الموضوعية، أي عن وسائل العمل ومواده» ويضيف قائلاً أنَّ «هذا يعني قبل كلِّ شيء، ضرورة فصل العامل عن الأرض، التي تشكِّل مختبره الطبيعي.كما يعني أيضاً انحلال كلِّ من الملكية الصغيرة الحرة وملكيتها المشاعيّة المرتكزة على المشاعة الشرقية»(2). ويرى «أن تحول المال إلى رأسمال يفترض صيرورة تاريخية تفصل شروط العمل الموضوعية عن العامل وتجعلها مستقلة عنه وتضعها في مواجهته»(3).

ومع أنّنا نرى في بضعة القوانين التي أشار إليها ماركس في عمليّة التأطير الرأسمالي لعلاقات الإنتاج، إلا أننا نرى أنّه شغل نفسه في قراءة النتائج التي أسفرت عن قيام نمط الإنتاج الرأسمالي ، ولم يلتفِت بشكلٍ حقيقي ووافٍ للأسباب المكوّنة والدّافعة لهذا التأطير. حتّى أنّه يقدم ترسيمة لكيفية سيطرة «صاحب المال»، على المنتجين وفصلهم تدريجياً عن نمط إنتاجهم القديم، ودون أن يفيدنا من أين حصل على المال لتوظيفه وتحويله إلى رأسمال والتي نرى بأنّ هذه «الترسيمة» يمكن اعتبارها من

ص: 258


1- كارل ماركس، "رأس المال : نقد الاقتصادي السياسي، الفصل الرابع والعشرين من المجلد الأول. صدر بالعربية عن دار التقدم موسكو 1970 في كراس مستقل تحت عنوان "أصل رأس المال، ص 7 و 8 ورد أيضاً في ترجمة محمد عيتاني الصادرة عن مكتبة المعارف، بيروت، ص. (1055) وراجع أيضاً: Karl Max, "Fondements de la Critique de l'Economie Politique", Ed. Antropos, Paris 1968, tome I p.p. 435 - 479.
2- کارل ماركس ، نصوص حول أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالي ، ترجمة لجنة بإشراف د. صادق عبد العظيم، دار ابن خلدون، بیروت 1974، ص: 61.
3- المرجع السابق، ص: 101

«أدب الأطفال» أكثر من كونها بحثاً علميّاً يتناول الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. حيث يقول :«يتحول المال تاريخياً إلى رأسمال بطرق بسيطة وواضحة. يقوم التاجر (وهو هنا صاحب المال) بتشغيل عدد من الغزّالين والحاكة الذين كانوا في السابق يمارسون هذا النشاط كشيءٍ ثانوي إلى جانب عملهم الزراعي، فيحوِّل بذلك عملاً ثانوياً إلى عملهم الرئيسي، ممّا يضعهم في قبضته ويدخلهم تحت سيطرته كعمّال مأجورين. أما الخطوة التالية فتتم بنقلهم من أماكن إقامتهم وتجميعهم في أماكن واحدة للعمل. وتُبَيِّن هذه العملية البسيطة أن التاجر لم يهيّئ المواد الخام والأدوات ووسائل البقاء للغزّال أو الحائك: إن كل ما فعله هو حصرهما تدريجياً في نطاق نوع واحد من العمل، بحيث يصبحان معتمدين على الشاري أي التاجر. وهكذا يجدان أنهما لا ينتجان، في المطاف الأخير، إلا من أجله وبواسطته فقط. في البداية اشترى التاجر عملهما بمجرد شراء إنتاجهما. لكن حالما يقتصران على إنتاج هذه القيمة التبادلية وبالتالي يضطران لإنتاج قيم تبادلية مباشرة ولمبادلة عملهما كلياً بالمال من أجل البقاء على قيد الحياة، فإنهما يخضعان لسيطرته وأخيراً يختفي حتى الوهم بأنهما يبيعان منتوجهما للتاجر لأنه يشتري عملهما فينزع أولاً ملكيتهما للمنتوج ، ثم يتبع ذلك بنزع ملكيتهما للإدارة، أو قد يسمح لهما بملكية وهمية لها كي يقلّص من نفقات الإنتاج المترتبة عليه»(1).

ويؤكد ماركس في مكان آخر من عمله المذكور ، على أن «الثروة النقدية - في شكل ثروات التجار - ساهمت كثيراً في تسارع انحلال علاقات الإنتاج القديمة ومكَّنت المالك العقاري، على سبيل المثال، من مبادلة ما يملكه من الحبوب والماشية إلخ. لقاء قيم استعمالية مستوردة، بدلاً من تبديد إنتاجه هو ومواليه (...) أصبحت الثروة النقدية تعطي أهمية أعظم للقيم المتبادلة لدخله (...) وكان تطور القيمة التبادلية - الذي أسهم فيه المال المتوفر عند طبقة التجار - يعمل إلى انحلال الإنتاج الموجهة بصورة رئيسية نحو الاستعمال المباشر مع أشكال الملكية التي تنسجم معه - علاقات العمل بشروط الموضوعية - دافعاً بالتالي إلى الأمام عملية خلق سوق العمل (التي

ص: 259


1- المرجع السابق، ص: السابق، ص: 99 - 100.

ينبغي تميُّزها عن سوق العبيد)»(1). كما ويشير إلى أن «مرحلة انحلال أنماط الإنتاج المبكرة وانحلال علاقات العامل بشروط العمل الموضوعية، هي في الوقت ذاته المرحلة التي تطورت فيها الثروة النقدية إلى حدٍّ معين، كما أنها المرحلة التي كانت تسارع في هذا الانحلال فكما أن الثروة النقدية - حتى لو حققت لنفسها نوعاً من السيطرة - ليس كافياً كي يؤدي هذا الانحلال إلى إنتاج الرأسمال. فلو كان الحال كذلك لاختتمت كل من روما القديمة والدولة البيزنطية إلخ . تاريخها بالعمل الحر والرأسمال، أو بالأحرى لكانت دخلت كل منهما مرحلة تاريخية جديدة»(2).

وبغض النظر عن الأسباب التي دعت ماركس ومن بعده الماركسيين إلى عدم اعتبار ما كان يجري في إيطاليا وشمالي غرب أوروبا من انحلال النظام الإقطاعي وانطلاق للنظام الرأسمالي (3)، يتضح من خلال هذه النصوص لماركس أن نمط الإنتاج الإقطاعي كان قد دخل مرحلة التحلُّل مع نمو الثروة النقدية المتأتية عن طريق ما يسمّيه العمل «التجاري»، وأنّ طبقة ذات ثراء نقدي، هي الطبقة التجارية، أخذت تضاعف ثروتها ونفوذها وتفرض سيطرتها. وإنَّ نمطاً إنتاجياً، ما، بدأ ينمو بالتفاعل مع هذه الطبقة عبرّ عن نفسه بنمو ملحوظ في الحرف الحضرية وفي تحول المزارعين الأحرار تدريجياً إلى العمل المأجور ويحققون استقلالهم التدريجي عن الإقطاع إضافة إلى بروز شكل يوحي بتبعية ما ، من ،الإقطاعيين الباحثين عن معادل تبادلي لإنتاجهم الزراعي، تجاه الطبقة «التجارية» الآخذة بالصعود والمستفيدة من بضعة عوامل مساعدة لا سيما مما أسماه الأستاذ مارك بلوخ ب- «أزمة الثروة الإقطاعية» خلال العصر الوسيط(4).

ويبقى غير ذات أهمية لموضوعنا الكلام عن ماهية نمط الإنتاج الذي ساد خلال المرحلة السابقة على منتصف القرن السادس عشر حيث يصر ماركس والماركسيون

ص: 260


1- المرجع السابق، ص: 97.
2- المرجع السابق، ص: 95.
3- راجع في ذلك مقالتنا في مجلة "المنطلق تحت عنوان "قراءة في الدوافع والنتائج الأوروبية للحروب الصليبية، العدد 84 و 85 ت2 - ك 19911، ص: 131 - 132.
4- مارك بلوخ، "مشكلة الذهب في العصر الوسيط، بحث ورد في كتاب تحت عنوان "بحوث في التاريخ الاقتصادي“ ترجمة توفيق اسكندر، دار النشر للجامعات المصرية القاهرة 1961، ص.: 1 – 50.

على رفض اعتبار هذا التاريخ بأنه تاريخ بداية نمط الإنتاج الرأسمالي حيث إنهم يعتبرون من غير الممكن «الحديث عن بداية المرحلة الرأسمالية إلا عند حوالي النصف الثاني من القرن السادس عشر على أقل تقدير»(1)، فما يهمنا هنا رسم صورة لاقتصادات بدأت تتحلل تحت ضغط إيقاعات متواصلة ومتمادية تقتحم نمط الإنتاج الإقطاعي المُتَّسم بركود نسبي من خارج أطر هذه الاقتصادات وأنظمتها المتشددة لتغرق نمط الإنتاج هذا في خضمِّها وتضع اقتصاد المقاطعة، أو المنطقة، ببنيتها الإقطاعية، في دائرة مفتوحة للخارج وتأثيراته التي تحمل معها شروطاً مغايرة لشروط قيام واستمرار «الاقتصاد الطبيعي» الذي تقوم عليه اقتصادات تلك المقاطعات.

كان من أكثر أشكال تأثير تلك الشروط على البنية الداخلية للاقتصاد الإقطاعي أنها قامت بتحفيز الإنتاج السلعي والعمل المأجور وإدخال النقد على نطاق واسع إلى السوق كأداة رئيسية للتبادل وتحديد الأسعار والأجور، وإدخال شخصيات جديدة ذات نفوذ على مجتمع الإقطاعة يشاركون الإقطاعي سيادته وسلطته بشكل مباشر أو غير مباشر ثم لن يلبثوا أن يتحوّلوا إلى «أسياد جدد» بقواعد جديدة ومغايرة لما كان عليه الأسياد الإقطاعيون على الرغم من أن هذا التحول سيستلزم فيما بعد شروطاً غير اقتصادية لتحقيقه.

لن ندّعي هنا أن مجرد توجيه الاقتصادات في الإقطاعات المختلفة نحو الإنتاج السلعي يعني أنها توجهت نحو نمط الإنتاج الرأسمالي. فالإنتاج الرأسمالي لا شك أنَّه شكلٌ أرقى وأكثر تعقيداً من أشكال الإنتاج السلعي الذي شهدته العديد من الاقتصادات غير الأوروبية، وفي مراحل تاريخية مبكرة وسابقة على أوروبا، ولكن من دون أن يؤدي ذلك الشكل من الإنتاج إلى اتسام تلك الاقتصادات بالسمة الرأسمالية. وهذا ما يضيء على شروط وظواهر أخرى ترافقت هذا الإنتاج السلعي في أوروبا، وقد يكون جلّها غير اقتصادي، دفعت باتجاه توفير الأسس الضرورية لضرب

ص: 261


1- بول سويزي، النجارة الدولية وانحطاط الإقطاع، فصل من كتاب الانتقال من الإقطاع على الرأسمالية، مرجع مذکور ، ص : 73 -74.

الاقتصادات الإقطاعية في أوروبا الغربية، وحفّزت الإنتاج السلعي نحو سلوك مسلكٍ تطوري باتجاه الرأسمالية.

لن تكون تلك الشروط والظواهر التي دعمت الإنتاج السلعي نحو سلوك مسلك الإنتاج الرأسمالي، بنمطه وعلاقاته وارتداداته على البنية الاجتماعية، بالضرورة شروطاً وظواهر اقتصادية مباشرة، كتلك الشروط التي مكنت الحركة التجارية والثروة النقدية التي تمّ جنيها إبّان العصور الوسطى، من التحوّل إلى رؤوس أموال، بينما لم تتحول ثروات «كل من روما القديمة والدولة البيزنطية»، حسب تعبير ماركس، إلى رؤوس أموال، ولا هى مكّنت هاتين الدولتين «من الدخول في مرحلة تاريخية جديدة».

على الرغم من أن الحياة العامة في ظل النظام الإقطاعي كانت تفتقر بشكل قاس للاستقرار السياسي والاقتصادي على حدٍ سواء، فإن النظام الإقطاعي كان متيناً و شديد التماسك والتمسّك بقيمه وعلاقات إنتاجه، ويتم الدفاع عنه دفاع الأسياد عن سيادتهم المطلقة. إلاّ أن حالة انعدام الاستقرار السياسي والأزمة النقدية التي عصفت بالأسر الإقطاعية ونمو قطاع واسع من المغامرين القراصنة والتجار على هامش الإقطاعات وبعيداً عنها واستحواذهم على ثروات نقدية ضخمة من جراء القرصنة والتجارة عبر البحار، وتحويلهم للمدن الساحلية إلى قواعد انطلاق وتجهيز لتجارتهم ،وغزواتهم، حيث سرعان ما بدأت المدن تشكل معلماً هاماً من معالم العصر الوسيط، ينمو خارج علاقات الإنتاج الإقطاعية، ويغدو مركز استقطاب متزايد الخطورة بتمايزه عن النظام لإقطاعي لا سيما وأن تلك المدن كانت تؤمّن الفرصة أمام الأقنان والفلاحين للفرار من الأرض الإقطاعية والانضمام إلى جيوش المغامرين والباحثين عن الحرية والثراء.

سوف تشكل هذه المتغيرات مجتمعة معطيات ذات أهمية في تكوين جهاز اختراق للنظام الإقطاعي، وعناصر دفع إضافية لنمط الإنتاج السلعي ورسملته. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المتغيّرات كانت تشترط هي نفسها أيضاً، شروطاً من خارج المجتمع الأوروبي الإقطاعي، وبالتالي ليس دقيقاً اعتبار أن عملية التحوّل

ص: 262

من الإقطاع إلى الرأسمالية تمّت بفعل عوامل داخلية صرفة، وهذا يعني عدم دقّة الاستنتاج «الفلسفي» القائل بأن النظام القديم يحمل في رحمه بذور النظام الجديد. فلم يكن ممكناً لنمط الإنتاج الإقطاعي أن ينهار، وبالتالي تنهار كل السلطات التي يستحوذ عليها رجل الإقطاعة ، لولا تلك القوّة المالية والاقتصادية والعسكرية التي حققها «الرجال الجدد» من خارج النظام الإقطاعي نفسه، وبفعل عوامل وفرص توفّرت خارج ذاك المجتمع، فازدهار هؤلاء «الرجال الجدد» وتطوّرهم واستحواذهم على ما استحوذوا عليه من قوى كان يشترط بالأساس توفر شروط خارجية، لا سيما وجود «خارج قابل النهب» ويستحوذ على فائض «يغري للنهب».

يروق لبعض النظريات القائلة بالذاتية الأوروبية للتطور من الإقطاع إلى الرأسمالية، إدخال عامل «التجارة الخارجية» كعامل من عوامل هذا التطوّر، وهي تصرّ على وصف عمليات القرصنة والنهب التي قام بها هؤلاء «التجّار» بأنها تجارة دولية. بينما تغض فئة أخرى من هذه النظريات، ومنها النظرية الماركسية ، الطرف عن هذا العامل ولا تدخله بالاعتبار، مكتفية بالدور الذي لعبته التجارة الداخلية في هذه العملية، وذلك تماشياً مع منطقها «الفلسفي» القائل ب- «الحتمية التاريخية» وبأن القديم يخلق بذاته شروط ولادة الجديد، دون أن تعطي أي تفسير لكيفية تحوّل «لصوص» الشمال الأوروبي من الجرمان والسكسون وغيرهم من «لصوص» مواشي ودواجن ينهبونها من المزارع والقرى ليبيعونها في الأسواق على بحر الشمال أو على غيره، إلى «تجار مرموقين» حينما سينزحون جنوباً وسيُعرفون فيما يلي باسم «النورمانديين»، أي رجال الشمال؟

كما أن سؤالاً يلحّ طرحه على القائلين بهذا القول، ويتطلّب جواباً حاسماً، ألا وهو: هل أن الطبقة الجديدة الآخذة بالتوسع والازدهار والتي سيقوم عليها الاقتصاد الأوروبي لقرون قادمة، والتي نمت خارج علاقات الإنتاج الإقطاعية وبعيداً عن نظر الإقطاعيين بدءاً من القرن الحادي عشر، هي طبقة «تجارية» حقاً؟ أي أنها فعلاً كانت تمارس عملاً تجارياً صرفاً؟ وبكلام أوضح: هل أن هذه الطبقة كانت تتعاطى العمل التجاري بمفاهيم وشروط العرض والطلب والقبول المتبادل بين طرفي التبادل التجاري على طرفي خط التجارة الدولية المزعومة؟

ص: 263

إذا كان الجواب بالإيجاب، فهذا يتطلّب إعادة النظر بكل التاريخ الاقتصادي المكتوب حول أوروبا في القرون الوسطى، لأنه يعني ضمناً أنه كان لدى هؤلاء «التجار» معادلاً تبادلياً مع المنتوجات المستوردة من الشرق. إن كان هذا المعادل نقداً أو إنتاجاً سلعياً يحتوي على قيمة تبادلية مربحة للتجارة بعيدة المدى. وهذا يؤدي إلى الاستنتاج بأن الإنتاج السلعي سابق على التجارة البعيدة المدى وليس وليدها كما يؤكد التاريخ الاقتصادي، والسابق على التجارة هنا لا بد أن يكون إنتاجاً سلعياً راقياً يختصر وقت العمل الضروري للإنتاج بشكل واضح بحيث يكون أقلّ بكثير مما هو عليه وقت العمل الضروري لإنتاج السلعة نفسها في المجتمعات التي تتم عملية التبادل معها، حتى تكون عملية التبادل ذات منفعة للتاجر وتؤمن له فائضاً كافياً يشجعه على الإتجار البعيد المدى وتحمل نفقات النقل ومخاطره. وفي الوقت نفسه يكون من شأنه إحداث التغيّرات الحادة في موازين القوى الاقتصادية داخل المجتمع الإقطاعي وعلاقات إنتاجه بالشكل الذي شهدناه في أوروبا الغربية.

وبما أن الوقائع التي يقدمها التاريخ الاقتصادي أقوى من أن يكون بالإمكان دحضها وقلبها رأساً على عقب، فإننا نبادر هنا إلى تقديم جواب سلبي على هذا السؤال والتأكيد على أن الثروة الحاسمة التي أسست لنشوء الفئة أو الطبقة الاقتصادية الجديدة عن هامش علاقات الإنتاج الإقطاعية، لم تكن محصَّلة عبر ممارسة التجارة على طرفي الطريق على الأقل خلال المرحلة الأولى لتكوّنها وتطورها. وهذا ما يدفع بنا إلى البحث عن المكوّنات الأولى للرأسمال التجاري البعيد المدى.

ج_ - حول التراكم الأوّلي لرأس المال:

لقد تساءل الاقتصادي الشهير آدم سميث منذ القرن الثامن عشر في «ثروة الأمم» عن المكوّنات الأولى للرأسمال عامة وسعى إلى تبرير ذلك عبر الكلام عن سلوكات توفيرية سلكها أولئك الرجال الذين جنوا المال وحوّلوه تدريجياً إلى رؤوس أموال أخذت بالتراكم عبر الاستثمار، ويقول في ذلك: «إن السبب المباشر لتراكم رأس المال، إنما هو الاقتصاد (التوفير) وليس الصناعة. وفي الحقيقة إن الصناعة تقدم

ص: 264

المادة للتوفيرات التي يقوم بها الاقتصاد». ويقدم مجموعة من الأمثلة حول البخل والتقتير الشديدين في أوساط وسلوكيات الرأسماليين الأوائل(1). ويتولى كارل ماركس في «رأس المال» دحض مقولة آدم سميث حيث يعتبر أن التراكم الأوّلي إنما هو نتيجة ل- «الحركة التاريخية التي تحقق الانفصال بين العمل وشروطه الموضوعية» ويتابع ماركس قائلاً: «تلك هي - إذن - مفتاح السر للتراكم المسمّى تراكماً أولياً»(2).

كان كارل ماركس قد وضع يده على جزء من الجواب حول سر التراكم الأوَّلي لرأس المال، عندما قال:«إن الغزو والاستعباد والاغتصاب المسلَّح والنَّهب وسيطرة القوَّة الوحشية، هي التي كانت تتغلَّب دائماً، في أحداث التاريخ الواقعي وسجلّاته»(3)، إلّا أنه يعود ويفلت هذا الجواب من بين يديه تحت وطأة اضطراره للانسجام مع منظومته النظريَّة العامّة القائلة بأن عملية تشكُّل أي نظام جديد، بالنّسبة لأوروبا، يجب أن تتم في أحشاء القديم، وأنَّ العنف ليس في الحقيقة سوى «مولّدة» (القابلة) التاريخ وهو ليس أمه ولا أباه(4). بينما يرى أنّ العنف القادم من الخارج، من جهاز الاستعمار البريطاني للهند، بأنّه ضرورة «لوضع الهند على خط التطوّر الصحيح». فلذلك نراه يُقْصِر مفهومه عن دور العنف والنهب في التراكم الأوَّلي للرأسمال، على داخل المجتمعات الإقطاعية في أوروبا الغربية.

تُبيّن الوقائع التاريخية أن حركة التبادل بين أوروبا وخارجها، في القرن السابع الميلادي، كانت مقتصرة على التبادل فيما بينها وبين الأسواق الكبرى في سوريا والعراق وبلاد فارس. وحسبما يشير المؤرخ الاقتصادي البلجيكي هنري بيرين(5)

ص: 265


1- ورد عند كارل ماركس رأس المال"، طبعة مكتبة المعارف، بيروت، مرجع مذکور، ص: 853
2- كارل ماركس المرجع السابق، ص: 1053
3- المرجع السابق، ص: 1052 -
4- كان الألماني جوزيف شمبيتز قد أشار إلى عجز ماركس والماركسيين عن فهم التراكم الأولي لرأس المال منذ بداية القرن العشرين للأسباب التي نذكر، ولكنه لا يقدم سوى تفصيلاً جديداً لمقولة آدم سميت ثم لماكس فيبر ووارنیر سومبارت، ليقدم في هذا السياق مقولته التي يعتبر فيها أن الدور الأساس في نشأة الرأسمال وتراكمه هو بروز "المنظمين والجهاز المبدع في التجارة والمال والعلاقات، دون أن يوضح لنا كيف يمكن نشوء فئة، أو طبقة، المنظمين هذه قبل وجود الرأسمال نفسه واتجاه الأسواق للتوسع. Joseph Schampeter, "The Theory of Economic Development", Cambridge 1974, p. 91-93 and .153-155
5- هنري ،بيرين المرجع المذكور، ص: 13 - 17.

فإن الحركة توقفت مع نهايات القرن السابع الميلادي بعد أن سيطر المسلمون على خطوط التجارة الدولية القديمة واقتصار العلاقة ما بين الشرق والغرب على الحرب، بينما يفسر موريس لومبار ذلك التوقف في حركة التبادل بنضوب الذهب وخراب المناجم وتحوُّل هذه الحركة إلى أن تكون عملية غير مربحة ربحاً كافياً للتجار المسلمين الذين كانوا يقومون بتجارة تحمل السلع باتجاه واحد مقابل الذهب الأوروبي، مشيراً إلى أن حركة التبادل في العصر الوسيط لم تكن بالنسبة للأوروبيين إلا تجارة استيراد حيث كان يتولى تجار سوريون، وغيرهم من التجار الشرقيين جلب السلع الشرقية الغالية من الأقمشة والتوابل أو غيرها من أدوات الترف ويأخذون الذهب مقابلها. وفي الواقع لا تستطيع البلاد الغربية أن تقدم للمراكز القائمة في شرق البحر الأبيض شيئاً آخر غير الذّهب. فليس لديها سلع غالية أو منتجات خاصّة اشتهرت بها، أو كميات ضخمة من المنتجات التي يكثر استهلاكها. فهي مجرد منجم للذهب يستغله أهل الشرق حتى ينضب، أو على الأقل حتى تحين اللحظة التي لا تدرُّ فيها العملية ربحاً كافياً مضموناً. وقد حانت هذه اللحظة في القرن السابع، إذا أخذت كميات الذهب المخزون التي احتفظ بها الغرب، تقلُّ تدريجياً لانعدام أي منتجات للتبادل تصلح لتعديل الميزان التجاري دائم العجز »(1).

يشير الاقتصادي الأميركي سويزي إلى «إن كل اقتصاد خلا ذلك الأكثر بدائيّة، بحاجة إلى قدر معيّن من التجارة من هنا قدمت أسواق القرى المحلّيّة والباعة المتجوّلون في العصور الأوروبية المظلمة، العون للنظام الإقطاعي، بدل أن تهدد وجوده. كانت هذه تزوده بحاجاته الأساسية دون أن تستحوذ لنفسها على ثروة كبيرة تؤثر على هيكل علاقاته الاقتصادية. وحين أخذت التجارة بالتوسع في القرن العاشر أوّلاً (بل وربما قبل ذلك)، فإنها تركّزت في نطاق المسافات البعيدة، مما ميَّزها عن التجارة المحلّيّة المحض. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أنصبّت هذه التجارة على مبادلة

ص: 266


1- موريس لومبار، الأسس النقدية للسيادة الاقتصادية: الذهب الإسلامي منذ القرن السابع إلى القرن الحادي عشر الميلادي. فصل من كتاب لعدد من الباحثين تحت عنوان "بحوث في التاريخ الاقتصادي، مرجع مذکور، ص.: 52.

السلع الثمينة التي كان بإمكانها تحمُّل كلف النقل الشديدة الارتفاع آنذاك. وطالما ظل هذا التوسع التجاري مقتصراً على أشكال يمكن تسميتها بنظام الباعة المتجوّلين، فقد كان أثره محدوداً بالضرورة. ولكن ما أن تجاوزت التجارة مرحلة الباعة المتجوّلين مؤدّية إلى نشوء مراكز مستقرة للتجارة والنقل البحريين، حتى دخل عامل نوعيّ مختلف. ذلك أن هذه المراكز ، وإن استندت إلى التبادل عبر المسافات البعيدة، أضحت بالضرورة مولّدة للإنتاج السلعي وكان لا بد لها من الاستقلال عن الريف نسبياً. كما أن الحرف المصاحبة لهذا التطور جسدت شكلاً من التَّخَصُّص وتقسيم العمل، تجاوز كل ما عرفه اقتصاد المقاطعات. وهكذا، فإن هذه الحرف لم تكن تزوِّد سكان المدن بحاجتهم من الإنتاج فحسب، بل أنها وفّرت السلع التي كان بمقدور سكان الريف شرائها مقابل ما يستلمونه جراء بيع منتجاتهم في سوق المدينة»(1).

إن بول سويزي، بالرغم من ماركسيَّته يعيد هنا للتجارة البعيدة المدى الدور الأساس في دفع النظام الإقطاعي نحو التّأزّم الدّاخلي، بسبب التّبعيّة الاضطراريّة التي بدأ يخضع لها «السّيّد» الإقطاعي في إقطاعته، لنافذين جُدُد، يتجاوز نفوذهم حدود إقطاعته إلى إقطاعات وممالك أخرى، وأنّ هذه التّجارة وضعت الأسس لانحلال نظام الإقطاع وقيام النظام الرأسمالي . إلا أن النص يوحي بأن الأمور استلزمت وقتاً طويلاً أسَّس لتراكم منطقي من دون الالتفاف إلى محطات تاريخية بارزة شكلت قفزات نوعيّة في حجم الحركة التجارية وأهمّيتها، وفي حجم رؤوس الأموال الموظفة في العمل التجاري وحجم الأساطيل التجارية التي تمخر عباب البحار، مدعومة بقوى حربية مؤازرة. وإن هذه العملية التي يصفها سويزي، ويوحي بأنها استلزمت عدة قرون، هي في الواقع لم تحدث سوى في مرحلة متأخرة من العصور الوسطى حيث شهدت الاقتصادات الإقطاعية تطوراً متسارعاً لاقتصاد التبادل أو الاقتصاد النقدي» الذي أدّى، حسبما يقول الاقتصادي الياباني المعاصر كوهاشيرو تاكاهاشي،«إلى خراب الجزء الأكبر من النبلاء الإقطاعيين الذين كانت قاعدتهم تتمثل في الاقتصاد

ص: 267


1- بول سويزي، التجارة الدولية وانحطاط الإقطاع، فصل من كتاب الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، مرجع مذكور، ص: 67 - 68 .

الطبيعي التقليدي»(1). حيث يعتبر تاكاهاشي بأنّ الصّناعة كانت خاضعة للرأسمال التّجاري طوال الفترة السّابقة للثورة الصّناعية في القرن السّابع عشر، بينما ستصبح التّجارة بخدمة رأس المال الصّناعي بعد تلك الثّورة(2).

د. حقيقة التجارة والتّجّار في التّاريخ الأوروبي الوسيط:

لا بدّ هنا من العودة إلى طرح التساؤل الأوّلي ما الذي يخفيه تعبير «تجارة» في التاريخ الأوروبي الوسيط ؟ ومن هم هؤلاء «التّجّار» الذين تمكّنوا، و«بسحر ساحر»، من إعادة الحيويّة إلى الحركة التجارية بين الشرق والغرب، خاصة مع القرن الحادي عشر(3) وبعد عدّة قرون على نضوب الذهب الأوروبي؟ وهل حقيقة تمكَّن هؤلاء «التّجّار» من إيجاد سلع أو مواد قابلة للتبادل على نطاق واسع وذي مردودٍ قادرٍ على إغراء المغامرين لركوب مخاطر التّجارة البعيدة المدى؟ وكيف ومتى وماذا وأين كان ذلك؟

يقدم المؤرخ الاقتصادي البولندي هانريك كوليشير (Henry Kolischer) (1932-1853)، جواباً حاسماً في هذا الإطار حين يقول: في كل العصور «كانت القرصنة المرحلة الأولى للتجارة. وهذا صحيح إلى حد أنّ النورمانديين عندما سيَعْدِلون عن النهب في نهاية القرن التاسع فسيتحولون إلى تجار»(4).

بغضٌ النّظر عمّا إذا كان القراصنة النّورمانديّون قد «عَدَلوا» عن النّهب في نهاية القرن التاسع ، كما يقول كوشنير، أو لم يعدِلوا، كما هي عليه الوقائع التّاريخيّة التي سنتطرّق لها لاحقاً، فمن المفيد هنا الإطلالة على الوضع السياسي العام المحيط بالقارة الأوروبية في اللحظة التي حقّقت فيها المدن الإيطالية، أواسط القرن الحادي عشر، قفزتها الكبرى للسيطرة على التجارة الدّوليّة في البحرين الأبيض والأسود.

ص: 268


1- کوهاشيرو تاكاهاشي، طريق الانتقال إلى الرأسمالية، فصل من الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، مرجع مذكور، ص: 112
2- المرجع السابق، ص: 128
3- د. عزيز سوريال عطية، العلاقات بين الشرق والغرب، ترجمة د. فیلیب صابر ،سیف دار الثقافة المسيحية، القاهرة ،1972، ص: 163. ويقدم المؤلف في كتابه هذا بضعة معطيات يستنتج منها أن التجارة الدولية قبل نهاية القرن العاشر كانت مستحيلة، ويقول بأنها انطلقت متواضعة في القرن العاشر ولم تنتشر إلا ابتداءً من القرن الحادي عشر.
4- هانريك كوشنير، التاريخ الاقتصادي العام المجلد الأول، ص 41 ورد عند ارتست ماندل، المرجع المذكور، الجزء الأول، ص: 89.

ومن خلال هذه الإطلالة سنجد أن أوروبا ليست في الواقع سوى مجال لتكتل بشري تحاصره من الشرق والشمال وعورة الجبال وقساوة الطّقس وجماعات مترحِّلة من قطّاع الطّرق الجُرمان الذين يتّخذون من سرقة المواشي ونصب الكمائن للقوافل، مهنة وحيدة لهم ومن الغرب البحر المحيط الذي لا نهاية له ولا صلة لهذا المجال البشري بالعالم المتحضّر، سوى مع العالم الإسلامي الذي يتّصل به عبر ثلاث جبهات هي في الواقع جبهات مواجهة وقتال، وهي:

الجبهة الجنوبية الشرقية المتمثلة بآسيا الصغرى والأناضول عبر الإمبراطورية البيزنطية والبحر الأسود حيث كانت السلطنة السلجوقية آخذة بالنمو والاتساع على حساب الممالك البيزنطية وتخوض المعارك الكبرى معها، والتي توَّجهت بمعركة «ملاذكرد» الشهيرة عام 1071 والتي هددت الإمبراطورية بالزوال.

الجبهة البحريّة مع شمالي أفريقيا عبر صقلية ومالطا، فقد كانت طوال النصف الثاني من القرن الحادي عشر جبهة كرٍّ وفرٍّ وقتال متواصل يشنّه النورمانديون على موانئ صقلية ومالطا وجربة وطرابلس وغيرها من المرافئ في شمالي أفريقيا بهدف الغزو والنهب إضافة إلى أعمال القرصنة في أعالي البحار، إلى أن استطاع النورمانديون احتلال صقلية وإنهاء الوجود الإسلامي فيها عام 1091، وعام 1096 تمكنوا من احتلال مالطا وواصلوا محاولات التغلغل والنفاذ إلى الساحل المقابل(1).

والجبهة الغربية المتمثِّلة بالعلاقة فيما بين الممالك الأوروبية الغربية من جهة، وأمراء الأندلس من جهة أخرى، حيث ستعصف أواسط القرن الحادي عشر الاضطرابات فيما بين أمراء الأندلس أنفسهم ممّا يؤدّي إلى حروب أهليّة دمّرت المجتمع الأندلسي، وهو ما نجم عنه انقلاب موازين القوى لصالح الممالك المسيحية.«فقد دفعت الاضطرابات الداخلية، التي عصفت بالأندلس في عهد ملوك الطوائف، أمراء الأندلس إلى طلب المساعدة من الأمراء المسيحيين الذين انتهزوها

ص: 269


1- راجع في ذلك: ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911 ترجمة خليفة محمد التليسي الدار العربية للكتاب - إثوري روسي، الطبعة الثانية 1991 ، ص : 102 - 103. - و: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتاب العربي ط 4 بيروت، 1983، ص.: 68 - 79. - و ابن خلدون التاريخ، ج 7، ص : 42 - 48 .

فرصة للثأر ، فراحوا يتدخلون إلى جانب الفرقاء المتنازعين ممعنين في زيادة الفرقة بينهم وفارضين عليهم ثمن المساعدات التي يقدمونها ،لهم، إمّا تنازلات عن بعض المناطق، وإمّا ضرائب سنوية»(1).

وإذا كانت الجبهة الجنوبية الشرقيّة آسيا الصغرى، تتخذ موقع الهجوم على البرّ الأوروبي، فإن الجبهتين الأخرتين كانتا ابتداءً من أواسط القرن الحادي عشر فريسة ممكنة، إن لم نقل سهلة للمغامرين والقراصنة الأوروبيين، لا سيما للنورمانديين الذين يحتلون إيطاليا الجنوبية (2)ويتخذون منها منطلقاً لقرصنتهم على الحواضر والسفن الإسلامية في غربي البحر الأبيض، إضافة لما كانت تشكله الإمارات الأندلسية من مصدر لا ينضب من الذهب يخضع لابتزاز الممالك الأوروبية المجاورة حيث يصف المؤرخ (دودي) العلاقة التي فرضها عليهم الفونس السادس ملك قشتالة، بأنه وضع الأمراء المسلمين في المعصرة ، فكان الذهب يسيل من هؤلاء المسحوقين، كما يسيل الخمر من المعصرة»(3).

خلال هذه الفترة مع انتعاش حركة القرصنة والنهب ستبدأ المدن الإيطالية، كالبندقية وجنوا وبيزا وفلورنسا وميلانو تشهد انتعاشاً في اقتصاداتها، وتبرز فئة التجار لتدخل في صراعها الخاص ضد النبلاء والقساوسة لتثبيت نهجها الخاص: مستفيدة من بضعة ميزات ساعدتها على القيام بهذه المهمة، خاصة وأن البندقية ،كانت وحتى مستهل القرن الحادي عشر، تعتبر مدينة بيزنطية ويحكمها مندوب يعينه الإمبراطور البيزنطي(4)، وهو ما كان عليه وضع إيطاليا الجنوبية حتى احتلها القراصنة النورمانديون منتصف القرن الحادي عشر(5)، فقد كانت طبقة التجار والصناع الحرفيين ما تزال تمارس نشاطها، وإن كان محدوداً، مع مركز الإمبراطورية

ص: 270


1- د. خير المر، العلاقات الأوروبية - الإسلامية في غربي المتوسط عشية الحروب الصليبية مقالة في المنطلق» العدد 84 - 85 بيروت 1991، ص: 62.
2- د. عزيز سوريال عطية، المصدر المذكور، ص: 37.
3- ورد عند د. خير المر، المصدر المذكور، ص: 62 .
4- المرجع السابق، ص: 32
5- د. عزيز سوريال عطية، المرجع المذكور، ص: 157.

البيزنطيّة ومع المدن الإيطالية الأخرى، في الوقت الذي انعدمت فيه هذه الطبقة في الغرب الأوروبي قاطبة(1). كما وقد أتاح هذا الوضع أن تبقى هذه المدن على اتصال بالحضارة البيزنطية التي كانت ما تزال في وضع راقٍ ومتطوِّرٍ قياساً لما هو عليه الوضع في باقي المقاطعات والممالك الأوروبية، لا سيما مناطق ما وراء جبال الألب.

لقد شكلت المدن الإيطالية في الواقع الجهاز الإداري والتنظيمي للقراصنة والغزاة خلال المرحلة الأولى من انطلاقتها التجارية. فضخامة المنهوب الذي يأتي به القراصنة إلى هذه المدن كان يفوق استهلاكهم الشخصي بما فيه تكاليف توسيع جهازهم النَّهبي كبناء السفن وترميمها وزيادة جهوزيتها الحربية واستقدام المزيد من المغامرين للانضمام إلى صفوفهم. فاكتفى التجار البنادقة، وغيرهم خلال هذه المرحلة، بأن يلعبوا دور الوسيط بين القرصنة وأسواق أوروبا الداخلية إلى أن ينخرطوا هم بدورهم وبشكل مباشر في التجارة مع الشرق على نطاق واسع.

وتصف أيلين بور أستاذة التاريخ الاقتصادي في جامعة لندن عام 1924 ما كان عليه الوضع في القرون الوسطى، قائلة:«إلى البندقية، إذن كانت ترد أسلاب الشرق كأنما يجذبها مغناطيس. ومن البندقية كانت هذه الأسلاب تنتقل على ظهور الخيل إلى ألمانيا وفرنسا عن طريق ممري سانت غوثارد وبرينر ، أو تحمل في السفن القديمة والزوارق العظيمة إلى إنكلترا وبلاد الأراضي الواطئة (الفلاندرز) عن طريق مضيق جبل طارق. وتعود السفن وخيول النقل إلى البندقية مثقلة بمعادن ألمانيا، وفراء اسكندنافيا، وأصواف إنكلترا الفاخرة، وأقمشة الأراضي الواطئة، وخمور فرنسا»(2).

وعندما ستبدأ الحملات الصليبية، أواخر القرن الحادي عشر، كانت المدن الإيطالية، لا سيما جنوا والبندقية وبيزا، قد تحوّلت إلى قوى اقتصادية ذات شأن كبير في أوروبا حتى باتت تهيمن على الحياة الاقتصادية الأوروبية برمّتها بعد ان تأمّنت لها أسس تراكم الرأسمال النقدي عبر القراصنة (3)الذين كانوا يشنّون حملات

ص: 271


1- د. عادل زيتون، العلاقات الإقتصادية بين الغرب والشرق في العصور الوسطى ، دار دمشق 1980 ، ص 28
2- ایلین بور: نماذج بشرية من العصور الوسطى، ترجمة محمد توفيق حسين، دار الثقافة، بيروت 1957، ص: 51 - 50
3- ارنست ماندل المرجع المذكور، ج أول، ص.: 111 – 112.

متواصلة في أعالي البحار على السفن التجارية الإسلامية وعلى الموانئ الإسلامية. وقد شكلت هذه الوضعية التي تتمتع بها المدن الإيطالية وبعض المدن الهولندية، حصانة لهذه الطبقة التجارية النامية ضد مطامع الكنيسة ورجال الإقطاع على حدٍ سواء. وستأتي الحروب الصليبية لتزيد من أهمية هذه المدن وهذه الطبقة النامية بشكل خاص لسببين أساسيين: أولهما لأن هذه الطبقة بما اكتسبته من خبرات تجارية وصلات وطيدة بالأسواق وثروات نقدية وأساطيل بحرية أصبحت تشكل ضرورة لا بد منها للكنيسة ولرجال الإقطاع لتمويل حملاتهم الحربية باتجاه الشرق ولتسييل وتسويق المنهوبات خلال هذه الحروب، حيث عمل بعضهم «كصيارفة للبابا والحكام الآخرين وذلك لتمويل الحروب بالدرجة الأولى. وقام بعضهم، ككبار التجار الفلامنكيين (الهولنديين) بتنظيم عملية توفير المواد الأوّلية لصناعة الأقمشة » (1)وثانيهما أن هذه الفئة الصاعدة هي وحدها من بين مختلف الفئات المشتركة في الحروب الصليبية بشكل مباشر أو غير مباشر، قادرة على الاستفادة من النتائج الاقتصادية لهذه الحروب وتوظيفها في عملية ذات أهداف اقتصادية بشكل رئيسي. أي أن هذه الفئة وحدها التي كانت تعمل على إحداث تراكم في قوتها الاقتصادية لخدمة توجهها الاقتصادي، بينما كانت الفئتان الأخرتان الكنيسة والإقطاع، تستخدمان الثروة المنهوبة في سبيل تحقيق مكاسب ونقاط نفوذ سياسية، فتستهلك المنهوبات في البذخ وبناء القصور والكاتدرائيّات.

وإذا كانت «قرصنة» القرن الحادي عشر وما بعده لعبت مثل هذا الدور في التاريخ يجب علينا أن لا نحمّل الأمر أكثر مما يحتمل. فتلك الفترة ليست هي بداية انطلاق أعمال القرصنة، على الرغم من أنها كانت بداية لبناء هيكلية اقتصادية جديدة يقوم عليها الاقتصاد الأوروبي وتلعب دوراً ريادياً في المجتمع برمّته لتدفعه نحو التطوّر والتفوّق على المجتمعات الأخرى في عدة ميادين.

فالنشاط الاقتصادي القائم على الغزو والنهب والإخضاع العنيف للقوى المنتجة بما في ذلك النشاط الاستعبادي والاسترقاقي يعود إلى أزمنة بالكاد يستطيع التاريخ

ص: 272


1- روندي هيلتون، الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ، المقدمة، مصدر مذكور، ص 44.

المكتوب ملاحقة بداياته خاصة إذا ما اعتبرنا قطع الطرق على القوافل التجارية والمسافرين والغزو بهدف النهب وتحويل جماعات بشرية كاملة بسبب استضعافها إلى عبيد وجوارٍ يتولّون الإنتاج لحساب ذي القوة والجبروت، مظاهر من مظاهر القرصنة لا سيما وأنَّ الجماعات البشرية التي أمّت أوروبا تحديداً، واستوطنتها في مختلف الحقبات التاريخية إنما كانت تعتمد في سبيل العيش على الغزو بهدف النهب. وقد كانت الجماعات المستقرة على ضفاف الأنهر التي تتخذ من الزراعة والرعي مصدراً لعيشها هدفاً دائماً وسهلاً للغزاة من مختلف المناطق الأوروبية كالنورمانديين والفاريغ الاسكندنافيين والسكسون والهون والفايكنغ والأنجل (الإنجليز) والصقالبة (السلاف) وغيرهم، وذلك حتى مراحل متأخرة من العصور الوسطى، إلا أن ذلك لم يُسهم إسهاماً فعّالاً في نمو طبقة تجارية رأسمالية كما آلت إليه قرصنة القرن الحادي عشر في المدن الإيطالية، ولا يمكن إدراج تشكل بعض الأسواق العرضية في عدد من المدن والقرى التي يؤمُّها النَّهابون واللصوص منهوباتهم أو مبادلتها ضمن العملية التاريخية لتشكل وانطلاق الرأسمالية التجارية، على الأقل لأن ناتج هذه العملية لم يكن يوظف في سبيل مراكمة الرأسمال النَّهبي غالباً، وإن ،وظف فإنه لأمر قصير ما يلبث أن يبدّد بكامله على الرفاهية والرخاء الشخصي، وإن لم يصادره قس أو كاهن أو حاكم إقطاعي ويبدِّده بنفسه(1).

لذلك يجب التمييز، ليس بين نوعين من القرصنة، وإنما بين مالين آلت إليهما عائدات القرصنة والنَّهب المآل الأول كان مآلاً عقيماً عرفته مختلف القبائل العسكرية والإمبراطوريات الكبرى التي عرفها التاريخ والتي كانت تنظر إلى الغنائم بما تحتويه من قيمة استعمالية وتبدِّد الفائض، أو توظفه لا فرق في البذخ وفيما يرمز إلى الجاه والثروة والتفوُّق، فتبني القصور الفارهة والقلاع المنيعة والكاتدرائيات العملاقة وتحول الذهب والمعادن النفسية إلى حلى ومجوهرات وأوسمة وتحف فنية. أي باختصار، تتحول الثروات المسلوبة إلى معطى سياسي ينتهي دورها الاقتصادي ما أن تصل إلى مستقرها السياسي.

ص: 273


1- راجع هنري ،بيرين المرجع المذكور، الفصل الأول.

والمآل الثاني الذي آلت إليه عائدات القرصنة هو عضونة هذه العائدات في أواليات اقتصادية حوّلت القراصنة والنهابين، بشكل من الأشكال، إلى عملاءٍ لفئة من الناس تتمتع بخبرات كافية في التسويق، وتشرف على مجالٍ واسع من الحِرَف المتّصلة بصناعة مستلزمات القراصنة واحتياجاتهم لتطوير جهازهم النّهبي، يمدونها بالبضائع بأبخس الأثمان، وتعمل على مراكمة العائدات في تعزيز جهازها النَّهبي الخاص، وتدعيمه وإنجاز بنيان تشكيلتها المستقلّة عن التشكيلات السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة في محيطها. هذا ما كانت عليه فئة تعاطت مع الثروات المسلوبة كمعطى اقتصادي فحوَّلتها إلى رأس مال منتج يموِّن ذاته، بتدوير المنهوبات وفي إعادة إنتاج مضاعَف للرأسمال، ويعكس مفاعيله على أواليات تحفيز الأنشطة الاقتصادية كافّة وفي المجتمع برمته.

لن نتوقف عند العوامل التي مكنت المدن الإيطالية، ومنذ أواسط القرن الحادي عشر من أن تقوم بمثل هذا الدور الريادي والتأسيس للمرحلة الرأسمالية في علاقات الإنتاج الأوروبية، وتالياً، من تطوير حركة التبادل التجاري بين الشرق والغرب إلى أن احتكرته لغاية أواخر القرن الخامس عشر بعد أن أسهمت إسهاماً رئيسياً في قلب التوازن الدولي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لصالح أوروبا الغربية ونكتفي هنا بالإشارات التي سبق وذكرناها ، لننتقل إلى الإطلالة على النتائج المباشرة التي أنتجتها عملية ازدهار حركة التبادل الدولية بواسطة المدن الإيطالية على البنية الاجتماعية - الاقتصادية الأوروبية وتالياً على العلاقات الدولية.

ه_- النتائج الاجتماعية - الاقتصادية لتطوير جهاز النّهب العنيف: بات مألوفاً إضفاء أهمية بالغة للحروب الصليبية على نهضة أوروبا الاقتصادية والعلمية وصولاً إلى انفلاتها من العصر الوسيط إلّا أن ما يجب التأكيد عليه هو أنه لو لم تكن المدن الإيطالية قد بدأت بشكل متسارع تحقيق انجازات هامة على طريق تطوير جهازها التجاري واستقلالها السياسي والثقافي (والديني ضمناً) قبل هذه الحروب بزهاء نصف ،قرن لما كان بالإمكان أن تكون للثروات المنهوبة من

ص: 274

الشرق أي دور إيجابي في تحريك عجلة الاقتصاد الإقطاعي الأوروبي، ولكان مصير هذه الثروات التبديد والتعقيم في مجتمع كان ما يزال يحرّم العمل التجاري والنشاط الاقتصادي المُكسِب، حيث كانت «السلطات الدينية في عصر الإيمان تعترض عليها (على التجارة) باعتبارها صورة أخرى للربا الفاحش»(1). وعبر ما كان قد أمَّنه الإيطاليون من ركائز مكّنتهم من استغلال هذه الحروب لعضونة نتائجها الاقتصادية في بنيتهم الدّاخليّة. فهم كانوا، إمّا أن يصاحبوا الحملات المختلفة، أو يتبعوها ويفتتحوا أسواقاً جديدة، في كل ميناء يتم فتحه في الشرق(2)، أو يساهموا في تمويل بعضها لقاء مكاسب محدّدة ومتَّفق عليها مسبقاً مع البابويّة والقادة العسكريّون للحملة.

ويذكر المؤرخ الاقتصادي لوبيز، في كتابه تاريخ كمبردج الاقتصادي لأوروبا»، نموذجاً عن إسهام التجار الإيطاليين في الحروب الصليبية، يتضح معه، ليس فقط عدم اهتمام التجّار الإيطاليين، على اختلاف انتماءاتهم، بشعارات البابا حول «قدسيّة» هذه الحروب، وإنما أيضاً الموقع الذي كان قد بلغه هؤلاء من النفوذ والقوّة ليتمكّنوا من فرض شروطهم على البابويّة ومن معها م--ن م-ل-وك وأمراء، عند مطلع القرن الثاني عشر، ومدى احتياج هؤلاء للإيطاليين في غزواتهم لبلاد الشام. خاصّة وأنّ الكرسي البابوي كان، وقبل ثلاثة عقود، أي عام 1074 قد حثَّ الملوك والقساوسة اللّاتين على مكافحة أنشطة التجّار الإيطاليين في أوروبا الغربية، وعدم السماح لهم بزيارة أسواق فرنسا ونهبها(3).فيقول لوبيز في هذا المجال:«نحن نعرف على سبيل المثال، كيف ساعد الجنويّون الصليبيين في عام 1101 على فتح ونهب ميناء قيصرية الفلسطيني، فقد تلقّوا مغانم وافرة لضباطهم وكافأوا ملّاك السفن ب 15 % من الغنيمة. وما تبقّى من هذه الغنيمة وزّعوه بين 8000 بحار وجندي. وقد تلقّى كل واحد منهم 48 سوليدة وليبرة بهار». ولمعرفة مقدار أهمّيّة ال- 15 % التي حصل عليها مالكو السفن الجنويّون، يكفي معرفة أنّ بقيّة المنهوبات، أي ما تبقّى منها بعد اقتطاع

ص: 275


1- د. عزيز سوريال عطية ، المرجع المذكور ، ص : 152 - 153
2- المرجع السابق، ص: 158.
3- د. عادل ،زيتون المرجع المذكور، ص: 42.

حصّة البابويّة والنّبلاء والضبّاط وال- 15% هذه، فإن هذه البقيّة التي أُنعِمَ بها على 8000 بحّار وجندي، قد حوّلت «كل واحد منهم إلى رأسمالي صغير»(1).

وحول الموضوع نفسه، يذكر المؤرخ جو فروا دي فيلهاردوين جواب أمراء البندقية على طلب المساعدة الذي تقدَّم به النبلاء الغربيون من أجل الحملة الصليبية الرابعة عام 1202: «إننا سنسلمكم مراكب لنقل 4500 حصان و 9000 سائس ومراكب لنقل 4500 فارس و 20000 راجل. ونلتزم بتقديم الطعام طوال تسعة أشهر لكل هذه الخيول ولجميع هؤلاء الناس وهذا كله سيكون الحدّ الأدنى مما سنفعله. وستدفعون لنا أربع ماركات على الحصان وماركين على الرجل إذن فالمبلغ الذي ستدفعونه سيكون 85 ألف مارك وسنفعل أكثر من ذلك : أننا سنساهم ب_ 50 سفينة حباً بالله(!)، إذا ما تمَّ الاتفاق على أنه ما دامت هذه الاتفاقية قائمة فسوف نحصل على النصف (ولكم النصف الآخر) من جميع الفتوحات التي سنقوم بها بحراً وبراً»(2).

فقد أسهمت الحركة التجارية النّاهضة والمتطوّرة، على هامش القوى الاقتصادية والثقافية السائدة، وليس منها وبداخلها، أسهمت في خلق مناخات لثقافة متعارضة مع ما هو قائم . ثقافة ناجمة عن مصالح قوى ذات فاعليّة قويّة في الحياة الاقتصاديّة تتعارض، تلك المصالح مع المؤسّسات السّياسيّة والدّينيّة السّائدة، تبحث عمّا شأنه تحصين مواقعها والدّفاع عن نفسها، وفتح الآفاق أمامها لتوسيع أنشطتها وحمايتها، وهو ما سوف يسهم إلى حد كبير، في التأسيس لقيام حركة الإصلاح الديني أوائل القرن السادس عشر مع مارتن لوثر (1483) - 1546) وجان كالفن (1509) (1564 مؤسسي البروتستانتية. فقد كانت هذه الحركة الاقتصادية تُطوِّع، ليس فقط القوانين والتنظيمات الإدارية لما فيه ضمان ،ازدهارها، وإنما أيضاً الأعراف والتقاليد والمبادئ الأخلاقية التي يقوم عليها الإيمان المسيحي نفسه(3).

قد يكون أوّل صدام حقيقي باشرته طبقة التجّار، مع الثقافة الدينية السائدة، ومع

ص: 276


1- ورد عند أرنست ماندل المرجع المذكور، ج 1 ، ص : 112
2- ورد عند أرنست ماندل، المرجع المذكور، ج أول، ص: 112
3- ريتشارد سوذرن ، صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة د. رضوان السيد، معهد الإنماء العربي بيروت 1984، ص: 80.

السّلطات الدّينيّة ضمناً ، هو ممارستها للتجارة بحدّ ذاتها. فقد كانت السّلطات الدّينيّة تنظر إلى النشاط التجاري عامة بوصفه صورة أخرى للربا الفاحش»(1)، وكانت الكنيسة «قد أدانت ممارسة التجارة التي لم تجد لها مكاناً في النظام الاجتماعي في مجتمع إقطاعي زراعي». لذلك فقد ظلت التجارة «وقفاً على اليهود في بداية العصور الوسطى، ومعهم عدد من المغامرين المسيحيين من فقراء الطبقات الدنيا»(2) وكانت المعاملات التجارية تقتصر على أسواق محلّية ضيّقة تقوم على نظام المقايضة البدائي في السِّلَع الضروريّة، ولم يكن للنقود في هذا النظام مكانة هامّة، إن لم نقل إنها كانت منعدمة تماماً(3).

والصِّدام الآخر الذي باشرته الطبقة التجارية مع ما هو سائد من قيم وأعراف، تمثل في أنها وضعت «المنفعة الاقتصادية» فوق كل اعتبار آخر، متجاوزة مقاييس الفائدة الدينية والمصالح الكنسية والصراع الديني مستفيدة من حفاظها على موقع مستقلٍّ فيما بين القسطنطينية والبابا بالمصالح أحياناً وبالقوة أحياناً أخرى(4). ومن مظاهر هذا الخروج على تعاليم الكنيسة وأوامرها أن التجار الإيطاليين تحدّوا بشكل مباشر الأوامر البابوية التي تُحرِّم تجارة الرقيق التي كانت تشارك فيها معظم المدن التجاريّة بنشاط ، لا سيما منها مدينة جنوا، حيث كانت تجارة الرقيق أكثر التجارات ربحاً للتجار الإيطاليين وتمنحهم معادلاً تبادلياً في الأسواق الشرقية مقابل ما كانوا يستوردونه منها من منتجات طبيعية وسلع مصنّعة خاصة إذا ما عرفنا بأن الطلب في أوروبا الغربية على المنتجات الشرقية لم يكن يضاهيه في الشرق سوى الطلب على الرَّقيق، لا سيما خلال السلطنة الأيوبية (1171 - 1250 والسلطنة المملوكية التي تلتها (5)حيث زخرت خلال هذه الفترة أسواق النّخاسة بالأرقاء ذوي البشرة البيضاء، والّذين عرفوا باسم «الصّقالبة»، حيث كان يستقدمهم الجنويّون، وغيرهم من

ص: 277


1- د. عزيز سوريال عطية المرجع المذكور ، ص : 153
2- المرجع السابق، ص: 185.
3- المرجع السابق، ص: 153
4- إيلين ،بور المرجع المذكور، ص: 51
5- د. عزيز سوريال عطية، المرجع المذكور، ص: 171 - 172.

الإيطاليين إلى أسواق الشرق من أبناء الشعوب السّلافيّة، وقد تحوّلت، مع الزّمن، مفردة (Slave) في اللغات الأوروبية الحديثة لتحمل معنى «العبد» أو «الرقيق».

ولعلّ ما يرد حول اسم واحد من أهم تجار أوروبا الغربية في القرن الخامس عشر، وهو جاك كوردي بورغ، من أنه باع السلاح للعثمانيين أثناء حصارهم للقسطنطينية، وبأنه عمل على إعادة عدد من الأرقاء المسيحيين الهاربين من السلطان المملوكي إلى السلطان(1)، يعطينا فكرة عن القيم التي كانت تُحرِّك هؤلاء التجار، الذين يقدِّمون المنفعة الاقتصادية على أي اعتبار آخر خاصة في زمن حافل بالحروب الدينية وانشقاق العالم على أساس ديني، وفي غمرة التهاب المشاعر الدينية، وحملات التجييش للحروب الصليبية في الغرب، والتي كانت تقابلها حملات التعبئة والتجييش السياسة «الفتح» في العالم الإسلامي.

ولم تقتصر المواقف الخارجة على المألوف على مواقف وتصرفات هذا التاجر أو ذاك. فالحكومات التي أقامها التجار في المدن الإيطالية، بوصفها كانت حكومات تشكّلت بواسطتهم ومن أجلهم (2)، فإن العلاقات التي كانت تقيمها هذه الحكومات مع القوى الدّوليّة، كالحروب أو التحالفات أو المعاهدات كانت برمّتها خاضعة لمبدأ المنفعة الاقتصادية، دون إيلاء أي اهتمام لأي مبدأ آخر. فعندما ستعمل بحرية البندقية على تقديم المساعدة للقسطنطينية لصد الغزو النورماندي عنها عام 1081 ، فسيكون ذلك مقابل امتيازات يحصل عليها التجار البنادقة في الدولة البيزنطية يعفى بموجبها هؤلاء التجار من كل الضرائب والرسوم الجمركية ويخصص لهم حياً في القسطنطينية للإقامة الدائمة(3). وعندما سيحاول الإمبراطور البيزنطي حنا كومنين (1118 - 1143) التخلص من هذه الامتيازات التي كان قد منحها والده للبنادقة، ستشن جمهورية البندقية حربها

ص: 278


1- المرجع السابق، ص: 191.
2- د. عادل ،زيتون المرجع المذكور، ص: 34.
3- Anna Commen, "The ALEXIAD", Translated from Greek by E.R.A. Sewter, Penguin Books, London, 1969, p.p. 144 - 147.

على الدولة البيزنطية وتهاجم جزرها في البحر الأبيض وبحر ايجه إلى أن يخضع الإمبراطور ويجدّد هذه الامتيازات عام(1) 1126.

وعندما ستتوسع السلطنة العثمانية في القرن الرابع عشر ومن ثم في القرن الخامس عشر باتجاه البحر الأسود وتسيطر سيطرة كاملة على سواحله، فستصطدم بعدد من المستعمرات الإيطالية لجمهوريتي البندقية وجنوا لا سيما في طرابزون وكافا وتانا وغيرها من الموانئ التي تشكل نقاط اتصال الأساطيل الإيطالية بخطوط التجارة الدولية القديمة مع آسيا عبر بلاد فارس وبحر قزوين والأنهر الروسية. إلا أن إبداء العثمانيين عن استعدادهم للحفاظ على مصالح الإيطاليين وامتيازاتهم التجارية في هذه المدن جعل قادتها يفتحون أبواب مدنهم للغازي الجديد والامتناع عن الدخول في حرب لا طائل منها». وقد وصف المؤرخ المصري العثماني محمد فريد بك سكان هذه المدن ولجوئهم إلى فتح مدنهم أمام العثمانيين بأنهم كانوا تجاراً يحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرض

لأموالهم ولا أرواحهم»(2).

فقد كانت حكومات المدن الإيطالية على استعداد لتقديم تنازلات إقليمية مقابل الحصول على معاهدات تضمن لتجارها وسفنها حرية الاتجار والإبحار والتنقل ما بین موانئ البحر الأبيض وفوق أراضي العالم القديم برمَّته . وهو أمر ما كان بالإمكان حدوثه في ظل أي مفهوم من المفاهيم السائدة آنذاك كمفهوم «الحق الإلهي» ومفهوم «الحق الإقطاعي».

وحده مفهوم «المنفعة الاقتصادية»، الذي كان يوجه سياسة المدن الإيطالية، بوسعه أن يضمن للتجار الإيطاليين تحقيق ما حققوه من نفوذ تجاري واقتصادي في العالم قاطبة من خلال المعاهدات التي كانوا يعقدونها مع الشرق والغرب متخطين العوائق والمفاهيم السائدة كافّة. حتى أضحى بإمكان مؤرخ إحدى هذه المدن وهو «مارتينو داكانال» الذي كان في النصف الثاني من القرن الثالث عشر يعمل كاتباً

ص: 279


1- د. عادل زيتون المرجع المذكور، ص: 66.
2- محمد فريد بك المرجع المذكور، ص: 62.

في دائرة جمارك ،البندقية أن يقول:«كانت دلماشيا وألبانيا ورومانيا، واليونان، ،وطربزون وسوريا وأرمينيا ومصر وقبرص ،وكانديا ،وأبيوليا، وصقلية، وغيرها من الأقطار والممالك والجزر، بساتين شعبنا المثمرة وقصوره الفاخرة، حيث وجدوا فيها المتعة والربح، والأمن... لقد طوَّف البنادقة في البحر ها هنا وها هناك، وقطعوه طولاً وعرضاً، وذهبوا إلى كل محل يجري فيه ماء، وابتاعوا السِّلَع وجلبوها إلى البندقية من كل مكان، ثم جاء إلى البندقية ألمان، وبافاريون، وفرنسيون، ولومبرديون، وتوسكانيون، وهنغاريون ورجال من كل شعب يعيش على التجارة، فابتاعوا هذه السلع وحملوها إلى بلادهم»(1).

لم تكن المدن التجارية النّاشطة أوّل من دخل سلطة البابا في حالة من التجاذب والتنافر حدّيها التحالف والتصارع ضمن التشكيلة السياسية الأوروبية. فقد كان النبلاء الإقطاعيون في عموم أوروبا محكومين بمثل هذه الحالة منذ زمن بعيد. فالخروج على رغبات البابا وأوامره ذات الطابع القدسي، كانت منذ إمبراطورية شارلمان قد أضحت مسألة شائعة في الصراعات داخل أوروبا الكاثوليكية. إلا أنَّ خروج النبلاء الإقطاعيين على طاعة الكرسي البابوي كانت مختصرة في الجانب السياسي ولم تتناول الجانب العقائدي الذي أخذت المدن التجارية تتحدّى الكنيسة فيه، وتفرض ما تراه ملائماً لنموِّها الاقتصادي، بغض النظر عمّا إذا كان منسجماً مع الإيمان المسيحي أو غير منسجم معه. وهي في الوقت ذاته تقدِّم نفسها على أنها تخدم المسيحية أكثر من غيرها وتعمل «في سبيل إعلاء مجد الكنيسة المقدسة» وأن أبناءها «مؤمنون حق الإيمان بدين يسوع المسيح»(2)، علمًا بأن المدن الإيطالية لم تسهم في الحروب الصليبية، والتي كانت هي معيار العمل «الإعلاء مجد الكنيسة» في أوروبا، إلا بما يخدم مصالحها الاقتصادية وبناء لعقود واتفاقيات محدّدة وواضحة مع الكرسي البابوي(3).

ص: 280


1- إيلين ،بور، المرجع المذكور، ص: 54.
2- المرجع السابق، ص: 56
3- للمزيد من الإطلاع حول أشكال توظيف المدن الإيطالية لأساطيلها البحرية وإمكاناتها المالية في الحروب الصليبية راجع: د. عادل زيتون المرجع المذكر ، ص : 129 - 143.

وإذا كانت النتائج الثقافية لنمو وازدهار حركة التجارة، قد أسهمت إسهاماً واضحاً في البناء الاجتماعي والاقتصادي الأوروبي أواخر«القرون الوسطى»، فإن النتائج الاقتصادية لهذه الحركة ستعمل على دك الأسس المتينة التي يقوم عليها النظام الإقطاعي الأوروبي برمَّته، وستؤسس لنهضة اقتصادية كبيرة في عدد من والمدن التي كانت على تماس مباشر مع هذه الحركة. فمع تحويل الثروات المنهوبة إلى رؤوس أموال تجارية، تُضخُّ في تطوير أنشطة الحِرَف الصناعيّة، وتغدّي الجهاز النَّهبي وتعمل على مواصلة تطويره وتدعيمه، وتخلق بنى اقتصاديّة واجتماعيّة أكثر تجاوباً معه وملاءمة له داخل البنيان الاجتماعي الأوروبي، مع هذه التّحوّلات، سيسجِّل التاريخ السّياسي - الاقتصادي انقلاباً تامّاً في مراكز الثّقل الاقتصادي الدّولي، نجم عن تغيير مجرى التجارة الدّولية، بسبب التغيير الّذي أصاب اتّجاه مجرى نهر الثروة من نهرٍ يتدفّق من الغرب باتّجاه العالم الإسلامي، إلى نهرٍ يجري باتجاه الغرب الأوروبي، ليعمل على إحداث المزيد من التطوير على البنية الاجتماعية - الاقتصادية الأوروبية. وهو، تالياً، سيؤدّي إلى وضع الأسُس الصّلبة لبداية تفسُّخ النظام الإقطاعي واتجاهه نحو الانحلال.

فقد أوجدت الحركة التجارية الناشطة التي باشرتها وطوّرتها المدن الإيطالية عبر إمدادها بجهاز نهبي عالمي، نظاماً إنتاجياً رسَّخ أقدامه إلى جانب النظام الإنتاجي الإقطاعي السائد في أوروبا الغربية والقائم على القِنانة والمقايضة. فقد حرّضت هذه الحركة على قيام إنتاج سِلَعي موجه نحو التبادل بالنّقد، نحو السّوق، ليضفي هذا النمط من الإنتاج طابعه الخاص على البنية الاجتماعية - الاقتصادية، دافعاً نمط الإنتاج الإقطاعي القديم إلى أزمته الخاصة من خلال ما أدّى إليه النَّمَط الجديد من تحفيز للأقنان نحو الهرب إلى المدن وللحرف المنزلية التي كانت تقوم على إنتاج موجه نحو الاستعمال إلى التحول إلى الإنتاج الموجه نحو السوق. «بات شراء السَّلعة المصنوعة أقل كلفة من صنعها. ولقد ولد حافز الشراء هذا حافزاً للبيع»(1)،وبالتالي، وحكماً، حافزاً للإنتاج بهدف البيع.

ص: 281


1- بول سويزي، التجارة الدولية وانحطاط الإقطاع، مرجع مذكور ، ص: 69.

نرى أنه من المفيد هنا التوقف عند وجهة نظر تحظى بنصيبٍ وافرٍ من الانتشار، يتناول مسألة نمو المدن، يقدِّمها الاقتصادي الماركسي رودني هلتون حيث يقول : «توافق إحياء المدن الحضرية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، مع تطوُّر الأشكال الجديدة للقِنانة. (والتي مكّنت المراتب العليا من المزارعين في العديد من المجتمعات الأوروبية من الانعتاق خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك مقابل دفع مبالغ نقدية باهظة ثمناً لتحررهم). إن اتساع اعتماد الفائض المحوَّل من الإنتاج الفلاحي على الشكل القانوني وأرباح الاحتكارات على حساب الرّيع الناجم عن الحيازات العقارية، إنما كان يعني تزايد المظهر النّقدي لدخل المالك. في الواقع، يمكن أن تفسر (ظاهرة الاتّساع هذه) تقسيم العمل إلى ريفي ومديني، وتطوُّر المدن، لا كأسواق لبيع الناتج الزراعي بهدف كسب النقود لتلبية مطالب السيد فحسب، بل كمراكز للإنتاج الحرفي أيضاً، باعتبارها استجابة للتركز الأكثر كفاءة للفائض بأيدي ارستقراطية يتزايد تمایزها ( ومن زاوية مطالبها الحضارية ارستقراطية تتعقد أذواقها). لا بد من وصف هذه العمليات بطريقة أكثر دقة. ذلك أن بعض المدن الصغيرة قد نشأت، دون شك، بمبادرة من السادة لمجرد إيجاد مراكز مناسبة للسوق حيث يمكن لهذه أن تغلَّ أرباحاً عن طريق رسوم السوق. وفي أماكن أخرى، نمت الحرف المدينية وأسواق المنتجات المحلّيّة، وكذلك أسواق سلع الترف الآتية من خلال تجارة المسافات البعيدة، حول نِوَى كانت في الأساس مراكز قائمة موجودة سلفاً وتعود إلى رجال الكنيسة (كاتدرائيات، كنائس للتدريس، رهبانيات) أو أنها كانت مراكز إقامة للمحاربين التابعين لأحد كبار الإقطاعيين كالدوق أو الكونت . كان الشرط الضروري المسبق في جميع الحالات، تزايد دخل السادة والزيادة في السكان، التي تمّت على الأرجح في الوقت ذاته. فالأخيرة وفّرت الحرفيين وصغار التجار ومقدمي الخدمات في المدن الجديدة (أو المنبعثة) كما أنها نجمت بدورها عن انهيار نظام الارتباط بالأرض. لقد وفَّرت جوانب معينة من هذا الانهيار شروط نمو السكان هذه الجوانب تتمثل، بالتحديد، في تجزئة

ص: 282

الحيازات الفلّاحية، وفي إمكانيّة المزيد من التجزئة في حالة ،الإرث، وارتفاع إنتاجية العمل الزراعي الناجمة عن تركيز المصادر الفنية في الحيازة بدل تشتتها في المقاطعات»(1)

لا يقدم لنا هذا النص، في الحقيقة، سوى أن كاتبه والآخذين بوجهة نظره، مضطرون أن يبقوا أوفياء لماركسيتهم التقليدية المصرَّة على ترسيمة محدَّدة لتطور المجتمعات القائمة على أن التناقض ما بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة إنما هو الذي يشكل الدافع للانتقال من نمط إنتاجي إلى آخر، أي أن النظام الجديد يلد في أحشاء النظام القديم.

تعمّدنا أعلاه إيراد نص رودني هلتون الطويل كاملاً بحجمه وبراهينه التي يحاول عيرها وضع العربة أمام الحصان، فكيف يمكنه اعتبار نمو المدن، التي يحدد أنها بدأت تنمو منذ القرن الحادي عشر، نتيجة للتطور الذي أصاب أشكال القنانة وانعتاق العديد من الأسر مقابل دفع مبالغ نقدية، وهو التطور الذي يشير إلى أنه جرى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر ؟

ثم، لماذا يخفي عنّا هلتون مصدر تلك «المبالغ النقدية الباهظة» التي أغرت السادة الإقطاعيين بعتق أقنانهم وتركهم يهجرون مقاطعاتهم؟ وكيف يبرر هلتون حصول هؤلاء الأقنان على مثل هذه المبالغ النقدية في ظل الاقتصاد الطبيعي الذي يقيمه نظام الإنتاج الإقطاعي؟

إضافة: كيف يمكن أن يؤدي انهيار نظام الارتباط بالأرض، بالشروط الموضوعية والطبيعية لنمط الإنتاج الإقطاعي، أي بشروط، إن الإنتاج الزراعي هو مصدر ثروة النبلاء ،الإقطاعيين، وإن هذا الإنتاج إنّما معقود على كواهل الأقنان وضهور البغال وحوافر الجياد كيف يمكن أن يؤدي هذا الانهيار إلى «تزايد دخل السادة» أو إلى أن يترافق هذا الانهيار مع هذا التزايد ؟

فوق ذلك: لماذا لم يخبرنا هلتون عن ماهية الإغراءات التي دفعت ب_«المراتب

ص: 283


1- رودني هلتون، الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، المقدمة، مرجع مذكور، ص.: 38 – 39.

العليا من المزارعينم ليدفعوا مبالغ نقدية باهظة من شأنها إغراء أسيادهم لعتقهم ليتحولوا في المدن إلى حرفيين ومقدمي الخدمات، فيتحوّلون بذلك، وبأموالهم، من مرتبة عليا في البيئة الإقطاعيّة إلى مرتبة دنيا في التسلسل الطبقي المديني؟

وأيضاً: إذا كانت المدن نشأت بمبادرة من السادة وأنهم هم الذين أنشأوا الحرف المدينية، ألا يكون اعتبار ذلك مؤشِّراً لقيام نظام استعبادي ناجم عن تحويل الأقنان المرتبطين بالأرض إلى عبيد يرتبطون بالحرف والمانيفاتورات؟

وإذا ما تابعنا مع رودني هلتون إلى أبعد من النص المذكور، سنجده يرفض رفضاً قاطعاً إيلاء أي اهتمام للاستقلال السياسي الذي كانت تتمتع به المجتمعات الحضرية في ظل نظام الإقطاع الغربي. ويكتفي ليؤكد رأيه بالقول بأن الذي ادّعى مثل هذا الاهتمام إنما هو ماكس فيبر «والمؤرخون غير الماركسيين»، وكأن في ذلك ما يقنع ويفي بالمطلوب.

فالمدن التجارية لم تفرض بما حصلت عليه من قوة وسلطان، فقط استقلالها وباتت تفرض نمطاً من العلاقات السياسيّة متلائماً مع مصالحها وحسب، بل شرعت تهندس سياسة أوروبا الغربية وتعمل للقضاء على «قلاع الفرسان والبارونات اللصوص نصف المستقلين في العصور الوسطى الأولى »(1)، لضمان سلامة قوافلها التجارية وأسواقها في داخل أوروبا من التعدّيات التي كان يقوم بها هؤلاء، من دون أن تعلن عن رغبة بتوسع جغرافي أو سياسي لنفوذها، لأنّه كان من شأن مثل هذه الرغبة أن تستفز الملوك الطامحين ،آنئذٍ، بل قدّمت انتصاراتها تلك لهؤلاء الملوك من أمثال الملك الفرنسي لويس الحادي عشر الذي وضع فيما بعد أسس الملكية المركزية في فرنسا(2).

ويؤكّد المؤرّخ ويلز بأنّ ما«حدث في كل أرجاء أوروبا، مع زيادة التجارة، انتعاش كبير في حياة المدن منذ القرن الثاني عشر فما تلاه... وكانت هذه المدن الأوروبية في معظم شأنها جمهوريات أرستقراطية مستقلة أو شبه مستقلة. وكان معظمها يعترف بسيادة عليها مبهمة من جانب الكنيسة، أو الإمبراطور أو أحد الملوك. وكان بعضها

ص: 284


1- ه_. ج. ويلز، المرجع المذكور، المجلد الثالث، ص: 1001 - 1002
2- المرجع السابق، المجلد الثالث، ص: 1001 - 1002 -

الآخر جزءاً من ممالك، أو حتى عواصم دوقات أو ملوك. وفي مثل هذه الحالات كانت حرياتها الداخلية مكفولة الاستمرار بأمر ملكي أو إمبراطوري»(1).

فالكلام عن «تطور الأشكال الجديدة للقنانة» عند رودني هيلتون أو الكلام عن «التغيّرات العميقة التي أصابت مجتمع الإقطاعة» (2)عند موريس دوب، أو الكلام عن «الحركة التاريخية التي تحقق الانفصال بين العمل وشروطه الموضوعية»(3)عند كارل ماركس، ليس سوى كلاماً يعبِّر عن مسعى واحد ألا وهو إخفاء الدور الفعّال الذي أدّته في عملية تطوّر جهاز النّهب العنيف الأوروبي من خلال علاقة التفاعل والتكامل ما بين الشعوب النورماندية التي اتقنت القرصنة وأسست نفوذها عليها، وبين المدن الإيطالية التي وظفت عائدات القرصنة في النشاط التجاري، وتطوير الصناعات ذات الصّلة في تطوير ودعم هذا الجهاز ولتلبية احتياجات القراصنة، ومن ثم في إقامة حركة نهبية - تجارية واسعة النطاق، كان من شروط استمرارها وازدهارها وتالياً من نتائجهما، إحداث جملة من التغيُّرات والانقلابات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسة على مختلف مستويات التشكيلة الأوروبية الإقطاعية، لعبت الدّور الأساس في تكوين عناصر الانقلاب في ميزان القوى الدّولي اقتصاديّاً وبالتّالي سياسيّاً.

لذلك، ليس من الواقعيّة التعاطي مع المدن الإيطالية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بشكل خاص، بناء على مدى اتساع أو ضيق مساحتها الجغرافية على شبه الجزيرة الإيطاليّة، بل بناء على ما كانت قد حققته من قوة ونفوذ على المستويين الاقتصادي والسياسي، ليس في الخريطة الأوروبية وحسب، وإنما في الخريطة الدّولية أيضاً. فالخطاب الذي ألقاه توماس موكنيجودا كامبو فريجسو عام 1419 في مجلس شيوخ البندقية، يعطينا فكرة عمّا كانت عليه قوة البندقية البحرية آنذاك، حيث ورد في هذا الخطاب الذي ضمنه مارينو سانودو كتابه الصادر عام 1420 تحت عنوان «حياة قضاة البندقية» أنه في ذاك العام، 1419، «وصل عدد السفن

ص: 285


1- المرجع السابق، ص: 1003 - 1006.
2- Dubb Maurice, "Etudes sur le Developpement du capitalisme", Paris, 1971, p. 38 -
3- کارل ماركس رأس المال ، طبعة دار المعارف بيروت مرجع مذکور، ص 853 .

الحربية والتجارية التي كان يملكها البنادقة حوالي 3000 من أحجام مختلفة مجهزة ببحّارة منتظمين يقدر عددهم بحوالي 17000. وكان هناك 300 سفينة تحمل 8000 رجل ، و 45 سفينة أخرى يسيرها 11000. وكان هناك 16000 رجل يعملون في أحواض السفن بانتظام»(1).

إن مجمل النفوذ الذي حققته الرأسمالية التجارية الإيطالية، لم ينحسر في الإطار الجغرافي لتلك المدن، بل تخطاه ليشمل أجزاء واسعة من أوروبا الغربية وصولاً إلى بحر الشمال الغربي لأوروبا بفعل الانعكاسات الإيجابيّة لدورة رأس المال التجاري على الاقتصاد الداخلي لتلك الممالك والإقطاعات والإمارات التي كانت على تماس مباشر مع الحركة التجارية. فنتائج العملية النهبية - التجارية لم تكن «مجرد تكديس للثروات المُحصَّلة»، ولم تبقَ تلك النقود والبضائع مجرَّد موجودات تلبّي احتياجات الاستهلاك البذخي، ولا هي حتّى وسائل إنتاج غير مفعَّلة ولا مُستثمَرة، بل كان يتم تحويلها على الدوام إلى رؤوس أموال يُعاد ضخها من جديد في دورة اقتصادية متكاملة ومتنامية. ويكفي أن نشير إلى أن نصف سكان الفلاندرز (= بلجيكا) على الأقل، كانوا يعملون أواسط القرن الرابع عشر في صناعة النسيج لصالح طبقة جديدة من المستثمرين البرجوازيين لتلبية مطالب التجار القابضين على مفاصل حركة التجارة الداخلية والدولية(2).

كما نجم عن ازدهار المدن التجارية الإيطالية نهضة عامة في مختلف مجتمعات أوروبا الجنوبية، وكان من شأن هذه النهضة أن أدّت إلى إقامة اتحادات تجارية فيما بين المدن والأسواق التجارية في مختلف أنحاء أوروبا الغربية. ونجم عن ازدهار هذه الصناعات الحرفية وارتفاع الطلب على هذه المنتوجات أن اتّسعت أسواقها، مما أسهم في إقامة اتحادات تجارية في عدة مدن وأسواق في شمالي أوروبا لتسهيل ودعم عملية توزيع السلع عبر أوروبا كلها، إضافة إلى ما عملت عليه هذه الاتحادات من توحيد للأسعار وتوسيع

عمليات التبادل عبر المعادل النقدي، كبديل للتبادل عبر المعادل السِّلَعي.

ص: 286


1- د. عزيز سوريال عطية، المرجع المذكور، ص: 169.
2- المرجع السابق، ص: 167

ومن المُلِفت أن أكثر المدن الإيطالية احتضاناً للقراصنة ونشاطهم فيما وراء البحار، أي البندقية وجنوا وبيتزا، كانت على رأس المدن الأكثر تطوراً في شمالي إيطاليا، وهي التي ستلعب الدور الأساس في انتعاش حركة الإنتاج وتطويره وتعميم آثاره على كامل البرّ الأوروبي، بدءًا من محيطها الإيطالي. والتقسيم الذي اعتاد عليه المؤرخون الاقتصاديّون، باعتبار هذه المرحلة بأنّها المرحلة التجاريّة»، يجب أن لا تدعنا لاعتبار أن التجّار كانوا مجرّد وسطاء فيما بين المُنتج والمستهلك، بل كانت عوامل الإنتاج برمّتها تحت أيديهم على كامل البرّ الأوروبي.

و - انتقال جهاز النّهب العنيف من القرصنة والتجارة إلى الاستعمار:

منذ بدايات القرن الخامس عشر سوف يتبلور في أوروبا نمطان من أنماط الأجهزة النهبية، أوّلهما جهاز المدن الإيطالية، لا سيما البندقية وجنوى، وهو جهاز كما أشرنا سابقاً انبنى وتطور بعيداً عن النفوذ المباشر للبابوية، وكانت تحكمه بضعة معطيات امّنت ،له أو فرضت عليه استقلاليته عن البابوية. والجهاز الثاني هو عبارة عن قوى نمت وترعرعت في أحضان البابوية، وفي خضم الصراع العنيف ما بينها وبين المسلمين في الأندلس على قاعدة التمايز الديني والحضاري فيما بين الطرفين. ويمثّل هذا الجهاز بشكل خاص كل من مملكتي إسبانيا والبرتغال اللتين برزتا كقوتين رئيسيتين في القارة الأوروبية منذ أواسط القرن الرابع عشر، واندفعتا منذ أواسط القرن الخامس عشر لتكونا قوتين استعماريتين رئيسيتين في العالم، وقادتا مرحلة الكشوفات البحرية شرقاً وغرباً.

صحيح أن الفضل الأساسي في نشأة الحركة التجارية الإيطالية أوائل القرن الحادي عشر يعود للقراصنة النورمانديين المشمولين بعطف البابوية ورعايتها، إلاّ أن ما كان ينجم من آثار إيجابية عن هذه الحركة التجارية التي كانت تصيب المدن الإيطالية وفئة التجار الآخذة بالازدهار والبروز كقوة اقتصادية، وبالتالي سياسية، في خاصرة ،روما مركز البابوية كان يثير حذر البابا ويدفعه إلى أن يتوجّس خيفة منها، خاصة تبعاً لارتباطها مع الكنيسة الشرقية في بيزنطية، إلا أن هذا الحذر جاء في وقتٍ

ص: 287

بات من المستحيل على البابوية وحلفائها من رجال الإقطاع أن يضعوا حدّاً لنمو هذه الفئة أو تجاوزها في التوازنات الأوروبية. حتى أن تشجيع ومباركة البابا للقراصنة النورمانديين في احتلالهم لجنوبي إيطاليا أواسط القرن الحادي عشر، لم يؤدِّ إلى إضعاف المدن الإيطالية الأخرى، بل على العكس من ذلك، فقد أدى ذلك إلى مركزة الخدمات التي كانت تقدمها المدن الإيطالية للقراصنة في مدينتي البندقية وجنوى بشكل خاص، مما زاد من أهمية دورها في العملية النهبية التي يتولاّها القراصنة من جهة، وفي الدورة الاقتصادية الأوروبية الآخذة بالاتساع والتبلور، من جهة أخرى، خاصة بعدما دمّر المحتلون النورمانديون البنية الاقتصادية التي كانت تقوم عليها المناطق التي احتلوها وذلك بسبب نمط حياتهم الخاص الذي ينفي بطبيعته، وبأوالياته الخاصة، التفاعل الإيجابي مع التنظيمات التي تقتضيها البنية الاقتصادية للرأسمالية التجارية.

حكمت سلوك القوى النهبية الأوروبية سياستان، أو استراتیجیتان مختلفتان ومتناقضتان في بعض الأحيان، ميّزتا ما بين جهازي النهب الرئيسيين المشار إليهما سابقاً. ففي الوقت الذي كان الجهاز النهبي للمدن الإيطالية محكوماً بسلوك المنفعة التجارية بشكل رئيسي، فإن الجهاز النهبي الذي سيمثله كل من إسبانيا والبرتغال سيكون محكوماً بمفاهيم النظام الإقطاعي المجدول على مرامي ومصالح البابويّة، ويُدخِل نشاط هذا الجهاز ضمن «الحروب الصليبية» بكامل أبعادها الجوهرية. وقد يكون الاختلاف في سلوك كل من هذين الجهازين ناجماً عن الاختلاف بين الخصائص البنيوية السياسية والاقتصادية لكل منهما.

كان واضحاً خلال بحثنا هذا، أنّ المصالح الاقتصاديّة البحتة التي كانت تلعب الدور الحاسم في توجيه سياسة المدن الإيطالية، حيث تتحدَّد مواقفها وتحالفاتها تبعاً لهذه المصالح، وإنها عندما كانت تفعل ما يبدو غير ذلك، فإن ما كانت تفعله هو اللجوء إلى الاختيار ما بين «أقل پالضررين» لمواجهة ما تكون تتعرض له من ضغوطات قويّة من جانب الكنيسة والنبلاء الإقطاعيين. إلاّ أن جلّ شعارات البرتغاليين والأسبان كانت هي نفسها شعارات وأهداف الحروب الصليبية، حيث

ص: 288

كانوا يعمدون إلى ممارسة أقسى أعمال العنف في غزواتهم وقرصنتهم ونهبهم ويسعون إلى الحصول على مستعمرات لهم حيث تطأ أقدامهم يُخضعون شعوبها وينهبون ثرواتها بالعنف، ويفرضون النصرانية على الشعوب التي يُخضعونها، حتى باتت الأهداف الاقتصادية لهذه الحملات بالرغم من ضخامة الثروات المنهوبة، تبدو وكأنها فقط لتمويل وتجهيز المزيد منها ، وليسترجع الغزاة الجدد في مستعمراتهم الأفريقية والأميركية والآسيوية سِيَر أسلافهم الصليبيين الأوائل وتجاربهم.

فقد كان ملك البرتغال يوحنا الذي جهّز لفاسكو دا جاما رحلته الأولى نحو الشرق، قد حدّد له أهداف الرحلة بأنها للعمل على نشر المسيحية والحصول على ثروات الشرق، وضرب له المثل برخاء الجمهوريات الإيطالية نتيجة لثروات الشرق(1). كما أن الملك البرتغالي أيضاً عمانوئيل ذهب في حماسه لإعطاء حملاته الاستعمارية صفة الحروب الصليبية وفي سبيل إعلاء شأن الكنيسة، إلى أبعد مما كانت تأمل منه البابوية نفسها، فهو أجاب عام 1505 على نداء البابا يوليوس الثاني الذي طلب منه الحدّ من الحملات إلى المحيط الهندي بهدف إنجاح الجهود الرّامية إلى تحسين علاقات دول البحر الابيض الأوروبية مع سلطنة المماليك التي تستهدفها حملات البرتغاليين في المحيط الهندي، أجابه عمانوئيل قائلاً: «لست عازماً فقط على خنق التجارة المملوكية، بل سأجاهد في سبيل المسيحية حتى أجعل من مكة هدفاً لمدافعي وجنودي»! كما أشار عمانوئيل في جوابه على البابا: نرى أنه لخدمة الرب وإعلاء شأن الكنيسة يجب أن تتكثّف جهود البابوية في سبيل، ليس المصالحة مع سلطنة المماليك، وإنما في سبيل توحيد الدول والممالك المسيحية تحت قيادة البرتغال، وأن تنضم جهودهم إلى جهوده لاستعادة الأراضي المسيحية المقدّسة في الشرق»(2).

لم تقتصر جهود البرتغاليين بشكل خاص على محاربة المسلمين كما كانت عليه حال الحروب الصليبية في مرحلتها المشرقيّة، بل كانت جهودهم ضد كافة

ص: 289


1- غسان علي رمال صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الاحمر مكة المكرمة 1401 ه-، ص : 68 .
2- د. نبيل عبدالحي ،رضوان، جهود العثمانيين»، مرجع مذكور، ص.: 150.

الأديان والمذاهب التي يصادفونها في طريقهم، وذلك في سبيل نشر الكثلكة بالذات. الحبشة الأرثوذوكس كأعداء وهراطقة حتى رضخ ملك

وقد تعاملوا مع مسيحيي الحبشة لبنا دنقل (1508-1540) عام 1535 لمطالب البرتغاليين بتقديم التسهيلات ل_ «المبشرين» الكاثوليك بالعمل ضمن رعايا الكنيسة الأرثوذوكسية والسماح بتحوّلهم إلى الكثلكة وتعيين المبشِّر الكاثوليكي «جاوو برمودز» مطراناً على الحبشة، وهو من أكثر المتعصبين ضد الأرثوذوكسية والعاملين على كثلكة الحبشة(1).

يشكل دخول مملكتي إسبانيا والبرتغال بقوة على الحركة النهبية تطوراً رئيسياً فى توجيه هذه الحركة وفي مدّها بعناوين جديدة لخّصت أهداف وأبعاد هذه الحركة على امتداد مرحلة طويلة مازالت حتى تاريخنا الراهن تجد آثارها والمتحمسين لها. ويمكن اعتبار هذا الدخول بأنه أسس لمرحلة جديدة شكلت «القفزة النوعية الثانية» في تطور الجهاز النهبي الأوروبي، سينتقل بموجبها مركز الثقل الاقتصادي والسياسي الأوروبي من شمالي إيطاليا لصالح الكيانات السياسية الكبرى في أوروبا، تلك الكيانات التي بدأت تشدِّد مركزيتها مستفيدة من عاملين اثنين بشكل رئيسي : تمركز القوة الاقتصادية والمالية، وثانياً إبتداء تهميش دور البطولات الفردية في الحروب مع إدخال البارود بشكل موسّع ومتزايد على الجيوش وما يستلزم ذلك من إدخال الكثير من التغيير على بنية تلك الجيوش ومركزة القرار فيها. فتقهقر بذلك دور صغار الإقطاعيين والنبلاء الذين كانوا يتمرّدون على ملوكهم الذين باتوا يمتلكون المبادرة فی ساحات القتال ما أن امتلكوا الأسلحة البارودية ووظفوها كعنصرٍ طاغٍ في الحروب وقمع التمرّدات، علماً أن الملوك كانوا عادة يلجأون إلى المدن الإيطالية لقمع هذه التمردات التي كانت تهدد خطوط التجارة الداخلية في أوروبا لما كان يرافقها من أعمال لصوصية(2).

لعبت الاختراعات العلمية والاكتشافات الجغرافية ومجمل ما شهدته البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من تطور في أوروبا، دوراً رئيسياً في تأمين الاندفاعات

ص: 290


1- عثمان صالح سبي، تاريخ اريتريا دار النهار بيروت 1974، ص: 127.
2- ه_ . ج . ولز ، المرجع المذكور، المجلد الثالث ص.: 1003-1006.

القوية ل_ «القفزة النوعية الثانية» في الجهاز النهبي الأوروبي، إلّا أنّ كافة هذه العوامل لم يكن بوسعها أن تفعل ما فعلته لولا تضافرها مع بضعة عوامل أخرى كانت ضرورية لتشكل فيما بينها المحفّزات التي لابد منها للاندفاع في سبيل تحقيق هذه القفزة.

لن ندخل هنا في عرض وبحث تفاصيل المكوّنات المؤسِّسة للقفزة النوعية الثانية هذه،بل سنكتفي بذكر أهمِّها بشكلٍ سريعٍ ومقتضبٍ وذلك منعاً لحرف الموضوع عن هدفه:

التجاذب والتنافر فيما بين البابوية والمدن التجارية الأوروبية، على قواعد متعددة منها التنافس على النفوذ السياسي واختلاف الرؤية حول طبيعة العلاقة مع الخارج وأهدافها.

تركّز رؤوس الأموال بأيدي التجار الإيطاليين في ظل أزمة اقتصادية عصفت بالنظام الإقطاعي نجمت عن ندرة النقد لديهم وبالتالي عجزهم عن الاستهلاك الظهوري الذي تتطلبه الحركة التجارية الإيطالية.

نجاح مملكتي إسبانيا والبرتغال في إنهاء الوجود الإسلامي في الأندلس وما يستدعيه ذلک من تأمين ميادين لتوظيف الجهاز العنفي لهاتين المملكتين، خاصة في ظل ندرة النقد في أوروبا الإقطاعية، وما وفّره هذا النصر من التفافٍ نصراني حول كل منهما.

هروب الأقنان من القرى والمزارع الإقطاعية إلى المدن وبحثهم عن مغامرات في ماوراء البحار، مما أمّن فائضاً بشرياً مندفعاً للمغامرة هرباً من إعادتهم إلى أسيادهم.

شغف البابوية بدعم ملوك يقاتلون خارج أوروبا في سبيل الكنيسة واستئناف

الحروب الصليبية.

فتح العثمانيين للقسطنطينية واكتمال سيطرة المسلمين على منافذ تجارة أوروبا مع الشرق.

إجراءات مشددة اتخذها السلاطين المماليك كان من شأنها التضييق على حركة التجارة بين الشرق وأوروبا عبر البحر الأحمر.

حروب بحرية ضارية في البحر الأبيض بين الأساطيل العثمانية والبندقية جعلت

ص: 291

من الحوض الشرقي لهذا البحر غير آمن للتجارة الدولية، وذلك على امتداد النصف الثاني من القرن الخامس عشر.

«القرصنة المضادة» التي أذكتها السلطنة العثمانية بدعمها لبحارة شمالي أفريقيا المسلمين ودفعت بهم إلى شن عمليات قرصنة مضادة في الحوض الغربي للبحر الأبيض ضد السفن الأوروبية، والتي أشعلت حرب قرصنة متبادلة عطلت بدورها التجارة في تلك المنطقة ايضاً.

عضونة العلوم والمعارف الإسلامية، عبر الترجمة والتفاعل الإيجابي بين الأوروبيين ومسلمي الأندلس في أواليات إنتاج العلوم والمعرفة الأوروبية والتي تولى الإسبان والبرتغاليون الريادة فيها.

نجم عن هذه العوامل مجتمعة أن اندفع عدد من المغامرين تحت راية ملكي أسبانيا أو البرتغال للبحث عن منافذ ومواقع جديدة للقرصنة على شواطئ أفريقيا الغربية وفي جزر المحيط الأطلسي. وهي محاولات استندت على جهود سابقة جرت خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر تولى القيام بها القراصنة النورمانديون والقطاليون (قشتالة) والجنويون في المحيط الأطلسي وبمحاذاة الشاطيء الغربي لأفريقيا(1).

تفرض طبيعة وحجم التغيرات التي أحدثتها تطورات القرن الخامس عشر وصولاً إلى اكتشاف القارة الأميركية والدوران حول أفريقيا والوصول إلى نهايات خط التجارة الدولية في الشرق، و«الإنجازات» التي أنجزتها عمليات القرصنة والنهب البرتغالية خلال مسيرتها للوصول إلى الشرق والتي دامت زهاء نصف قرن، تفرض تلك التغيرات النظر إلى هذه المرحلة بوصفها مرحلة مفصلية، ليس في تاريخ أوروبا فقط، وإنما أيضاً في تاريخ البشرية برمّته. كما ويجب النظر إليها بوصفها تتويجاً لجهود الكنيسة الكاثوليكية في تحقيق «عالمية» هذه الكنيسة لأول مرة في تاريخها على الرغم من اتخاذها لهذه الصفة العالمية، منذ انفصالها عن الكنيسة البيزنطية.

ص: 292


1- المرجع السابق، المجلد الثالث، ص: 1017-1018

وإذا كان بروز مملكتي أسبانيا والبرتغال كقوتين رئيسيتين في أوروبا والعالم منذ انتصاف القرن الخامس عشر، قد شكل دعماً كبيراً للجهاز النهبي الأوروبي، إلّا أنَّه شكّل أيضاً سبباً لما شهدته البنية الاقتصادية الرأسمالية من نكوصٍ في مختلف أنشطتها، وعودة الحياة للنظام الإقطاعي الذي جدد حيويته واستعاد الكثير من نفوذه الذي كان قد فقده أمام الرأسمالية التجارية التي كانت قد أرست جذورها في البنية الاقتصادية الأوروبية خلال القرنين السابقين.

خاتمة:

إن نشأة الاستعمار مع نهايات القرن الخامس عشر، وانطلاقته الكبرى خلال القرن التّالي، التي يعيدها الباحثون عادةً إلى التطور الذي أصاب العلوم والاكتشافات والاختراعات والنمو الاقتصادي العام الذي شهدته أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هي في الحقيقة ليست سوى النتيجة التّراكميّة لتطوّر الجهاز الحربي، وهو الجهاز الذي تموّن وتطوّر على امتداد عدّة قرون من خلال النّهب العنيف الذي باشره القراصنة واستكملته الحروب الصّليبيّة وعملت على عضونته في الاقتصاد الأوروبي المدن الإيطاليّة والرأسماليّة التجاريّة التي بنتها والّتي كانت تعود وتضخّ مردود المنهوبات في عملية تطوير مستمرّة للجهاز الحربي. فإن هذا التّطوّر ما كان ليكون له أي تأثير فاعل على سير الأحداث لو لم يكن مقروناً إلى حد بعيد بجهودهم لتطوير الجهاز الحربي، أو بالأحرى لو لم يكن هاجس تطوير الجهاز الحربي هو الذي يحكم الجهات التي دفعت وشجعت لتحقيق هذا التطور، لأن تلك الجهات وثيقة الصّلة بالقراصنة الذين يعتبرون تطوير هذا الجهاز شغلهم الشّاغل، فهو أداتهم الأساسيّة في نشاطهم النّهبي فيما وراء البحار.

فالعامل الحاسم في الاندفاعة الأوروبية لتطوير الجهاز الحربي، هو الرّغبة في النّهب العنيف. وقد تمّ توظيف كل العلوم والاكتشافات في هذا السّبيل. فلم يكن البحث العلمي بهدف تطوير العلوم، بل بهدف تطوير الجهاز النّهبي، شأنه في ذلك شأن

ص: 293

الاهتمام في الاكتشافات الجغرافيّة، فهي الأخرى لم تكن في سبيل مجرّد تطوير المعرفة الجغرافيّة، بل، وحصراً، في سبيل تطوير سُبُل التّوسُّع الاستعماري خدمة للنّهب العنيف فالصينيون الذين اخترعوا البارود بفضل تطور علومهم وحضارتهم، لم يخترعونه لأسباب حربيّة وعدوانيّة، ولكنّهم لم يكن بوسعهم الصمود طويلاً بوجه جانکیزخان الذي كان هاجسه الحرب والعدوان، فتمكَّن من استخدام اختراعهم لأغراض حربية.

فالانقلاب في موازين القوى العسكريّة ما بين الدُّول والمجتمعات في أفريقيا وآسيا، ومن ثمّ في أميركا وأستراليا، وممالك أوروبا الغربية لصالح الأخيرة، وبشكل خاص منذ بدايات القرن السادس عشر، وعجز تلك الدّول والمجتمعات عن دفع الأذى الاستعماري عنها، ومنع المستعمرين من إخضاعها ونهبها يرجع بشكلٍ أساسي لما كان قد حقّقه الجهاز الحربي الأوروبي من تطوّر، بفعل ما مارسه من نهب عنيف طوال عدّة قرون مضت. وهو الجهاز الذي سيواصل تطوّره لتعميق وتطوير حركة الاستعمار التي واصلت وتواصل نشاطها النّهبي، مستفيدة ممّا استحوذته من قوة حربيّة تستمرّ في ضخ مردودها في دفع العلوم لإدخال المزيد من التطوّر في هذا الجهاز، وبشكلٍ متواصل.

ص: 294

«الثقافة والإمبريالية » لإدوارد سعيد

نقد العقل المهيمن لحداثة الغرب

محمد بن عمارة(1)

«يبسط إدوارد سعيد جناحيه فوق عالم أعظم مدى ورحابة من العالم الذي غطّاه مؤَلَّفه السابق «الاستشراق»، ليكشف عن التواطؤ الكلي والتشابك الحميمي بين الإمبريالية والثقافة التي أنتجتها مجتمعاتها. ولكنه يتجاوز هذا ليكشف أبعاداً مقموعة للثورة ضد السيطرة الإمبريالية في جميع بقاع العالم غير الأوروبي، ويوجّه نقده أيضاً إلى الاستعلائية المضادة الممثلة في القومية الشوفينية والأصولية ونظريات الصفاء العرقي أو الثقافي».

يُنظر إلى كتاب «الثقافة والإمبريالية» للكاتب والمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد؛ باعتباره الجزء الثاني لكتاب «الاستشراق» المتقدم عنه بحوالي خمس عشرة سنة. فقد توسع المؤلف هنا في دراسة وتحليل وتفكيك نصوصٍ كثيرةٍ لعددٍ كبيرٍ من الكتّاب والمؤلّفين الأوربيين والأمركيين ما بين القرنين الثامن عشر والعشرين.

كما يعدّ هذا المؤَلَّف أعظم عمل أبدع فيه إدوارد سعيد، برز ذلك من خلال سعة إطلاعه، وكثرة قراءاته، وشموليتها لعشرات المؤلِّفين الذين استشهد بنصوصهم، کما

ص: 295


1- باحث - تونس.

أنه لم يتوقف على الشرح والتحليل فقط، بل قام بتفكيك هذه النصوص، وتسليط الضوء على الظروف التاريخية المحيطة بكتّابها ومقارنتها بنصوصٍ أخرى لكتّابٍ آخرین مشابهة لها في الظروف، أو في الأفكار، من دون أن يغفل عن شخصيّة المؤلف وتوجّهاته.

يمثل هذا العمل في نظر الكثيرين من النقّاد والقارئين، من الأعمال النادرة والمميزة في مجاله الفكري. والسبب أنه يموضع المشكلات التي عالجها الاستشراق، ويُحي المناظرة حول السيطرة والمقاومة، وحول التاريخ والجغرافيا، واستخدامات الثقافة، ومحاولات التفكير بالتحرر.

وهذا ما يوضحه المؤلف في التقديم لكتابه عندما يقول:«فكفكة الاستعمار ومناهضة الإمبريالية تظلان إلى حدّ مأساوي غير منجزتين حين تصبح رموز الاستقلال القومي أهدافاً قائمةً بذاتها». كما أنه يرى في كتّاب التاريخ للعالم الحديث الذي كان خاضعا للاستعمار هم من أسسوا لهذا التقديس الأعمى الضال للدولة: تقديس الدكتاتوريين والمتغطرسين، وتقديس المجتمعات المعسكرة المعادية للديمقراطية، والمصابة بالقحط الثقافي.

إدوارد سعيد في كتابه هذا يتحدث بنفَسٍ من التفاؤل عن التعددية الثقافية، أو الهجنة التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم، حيث إنها لا تؤدي بالضرورة إلى السيطرة والعداوة، بل تؤدي إلى المشاركة وتجاوز الحدود، وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة. وإنه لعلى قدرٍ كبيرٍ من الأهمية أن يتمّ استذكار ذلك في وقتٍ يحاول فيه متطرفون مثل صامويل هنتنغتون أن يقنعوا العالم بأن صدام الحضارات أمرٌ محتومٌ لا مفر منه.

يقع الكتاب ضمن أربعة محاور جاءت على شكل فصول، بالاضافة إلى مقدمَتين للمؤلف واحدة للطبعة العربية والآخرى للطبعة الأصلية باللغة الانجليزية، ومعهما مقدمة للمترجم، وكشّاف مصطلحي. أما هذه المحاور فقد تناولت القضايا التالية:

أقاليم متقاطعة تواريخ متواشجة: الامبراطورية والجغرافيا، والثقافة - صور

الماضي، نقية ومشوبة - تجارب متفاوتة - ربط الامبراطورية بالتأويل الدنيوي.

ص: 296

رؤيا معززة: السرد الروائي والفضاء الاجتماعي - جين أوستن والامبراطورية - الاكتمالية الثقافية للامبراطورية - الامبراطورية في حالة الفعل - ملذات الامبراطورية - المواطن الأصلاني تحت السيطرة - كامو والتجربة الاستعمارية الفرنسية - إشارة حول الحداثية.

المقاومة والمعارضة : ثمة طرفان - موضوعات ثقافة المقاومة - بيتس وفكفكة الاستعمار - الرحلة إلى الداخل وبزوغ المعارضة - التعاون والاستقلال والتحرر.

التحرر من السيطرة في المستقبل: الارتقاء الأميركي (الفضاء العمومي في حالة حرب) - تحدّي السننية والسلطة - حركات وهجرات.

التجربة التاريخية

اِعتمد إدوارد سعيد على عالم التجربة التاريخية كوحدة للتحليل المركزي، مستعيناً بمصطلحاتٍ جذّابةٍ تثير عند الباحث والقارئ حسَّ الهويّة. فهو يرى أن المنتجات العظيمة للثقافة هي منتوجات محسوسة واستثنائية، قادرة على حمل وجهات نظرٍ سياسيةٍ عميقةٍ، كسلخ الإنسانية على غير الأوروبيين، وتصوير الشعوب بأبشع الصور. ويتمثل ذلك في رواية كيم لكيلنغ التي يعتبرها سعيد روايةً عظيمةً و عملاً إمبريالياً عميقاً فيه ينكر كيلنغ على الهنود إمكانية التفكير والتطور السياسي.

يشير سعيد في كتابه إلى الأدب والنقد اللذين بزغا بعد مرحلة الاستعمار، إذ كان موضوعهما إنسان العالم الثالث من أفارقة وأسيويين عرب وغير عرب، الذين طالما كوّنوا موضوعاً لعلم الانسان الغربي، بحيث أدرجهم في أدنى الرتب الإنسانية، ليخرج من هؤلاء نتّاجٌ وقرّاءٌ ونقّادٌ لسجلات الغرب، وهو ما فتح امكانياتٍ جديدةٍ، واكتشافات حول الإنسان الغربي الناصع الصورة.

النقطة المثيرة للاهتمام في هذا الطرح الذي يقدّمه إدوارد سعيد هي طبيعة الموقف الأخلاقي والفكري المتمثل في إيمانه بالانسان والحرية، وضرورة التواصل، والتفاعل والاثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات والصراع ضد الاستعلائية، والاستعمار والإمبريالية والهيمنة والتسلّط والتمركزيّة الغربيّة، وضد نقائضها من

ص: 297

قومياتٍ ضيقةٍ. كما برزت تأويلاته ونظرياته المتعلقة بالعالم، وحركة المجتمعات الانسانية ، وحركة التاريخ، والثقافة والأدب. فقد طرح سعيد نظريّة ثالثة تضاف إلى اثنتين مشهورتين في نشأة الرواية وتاريخها يفسّر من خلالها انتشار الرواية الملازم لانتشار الإمبريالية. فهو يربط بين حركة التوسّع الامبراطوري وبين ازدهار الرواية.

إن ضرورة ما يحتّم التطرّق إلى قضيّة الثقافة والإمبريالية عند سعيد هي القضيّة الفلسطينية، بالرغم من أنها لم تذكر كثيراً في كتابه إلا أنه يعتبرها صاحبة الدور التأسيسي في تفكيره فيرى بأن الأفكار المتعلقة بفتوحات ما وراء البحار يوضّحها أتم التوضيح تاريخ الصهيونيّة، مع وجود فارق واحد بين الصهيونية والإمبريالية الغربية التقليدية، فالثانية غدت ممارسة تاريخية للقوة المستهجنة، أما الأولى فما تزال قائمة إلى الآن مدعومة بقوة الصداقة الغربية.

أبدع المؤلف في كشف خفايا الكتّاب والمفكرين الغربيّين، من خلال دراساته لأعمالهم والتمعّن فيها، وهو ما يظهر لنا سعة اطلاعه والبصيرة الثاقبة التي يتمتع بها. فمن خلال عمل كونراد يقول سعيد :«إن كونراد هو السلف الممهّد لوجهات النظر الغربية عن العالم الثالث التي يجدها المرء في أعمال روائيين متباينين تباين غراهام غرين وقي إس نيبال وروبرت ستون ومنظري الإمبريالية مثل حنّة أردنت وكتّاب الرحلات ومخرجي الأفلام».

لم ير سعيد أعمال كونراد على أنها مجرد تكهّن بالمستقبل، بل رأها قمّة التأسيس الإمبريالي فهي تُقدَّم للأوروبي لأجل أن يرى نفسه هو الأفضل والأرقى على الإطلاق، في حين أن باقي الأمم والحضارات هي لاشيء، بل هي مجرّد ساحات لهيمنة الأوروبي. بل أبعد وأخطر من ذلك، فهذه الروايات تجسّد عنجهيّة الإمبريالية الأبويّة التي تصوّر أن الغربي هو المواطن الأصلي الرّاقي، وهو ما يظهر في كلام كونراد: «نحن خلقناهم ونحن علمناهم أن ينطقوا ويفكّروا، وحين يتمرّدون فإنهم ببساطة يؤكدون سلامة رأينا». فكونراد يسوّق رواياته على أنه مناهض للإمبريالية كما في تتمة قوله: «بأنهم أطفال أغبياء استغفلهم أسيادهم الغربيّون». إلا أن سعيد يراه

ص: 298

إمبريالياً متقدّما في إقصائه لثقافات وتواريخ الأمم الأخرى، وعدم اعترافه بأن الغرب من قام بخلخلة هذه الثقافات.

لا يقتصر سعيد بالقراءة والشرح للروايات، بل يتجاوز ذلك بتفكيك شخصيّة الكاتب. فقد قام بتفكيك شخصيّة كونراد من خلال أعماله ومقارنتها بأعمال غيره، من ثمّة قام بإسقاطها على الواقع المعاصر ليظهر الازدواجية في شخصية كونراد الناقد للإمبريالية من جهة، والمسوّق لها من جهة أخرى. كما ينصفه في شجاعته لكونه يرى أن خطط الحكومة الأمركية المغلّفة بالقيم السامية من قبيل الأمن والديمقراطية لم تنجح مرة واحدة بل أسقطتهم في شراك أوهامهم القائمة على القوة الكليّة، واشباع الذات، وأبرز هذا السقوط ما حصل في فيتنام.

لقد انطلق سعيد في قراءته للغرب من خلال الأعمال الفرديّة، إذ يعتبرها نتاجًا عظيمًا للخيال الخلاّق أو التأويلي من ثم يقوم بإظهار العلاقة بين الثقافة والإمبراطورية مجرّدا المؤلفين من الخلفية العقديّة، أو الطبقيّة، أو التاريخ الاقتصادي، بل يراهم نابعين من تاريخ مجتمعاتهم معتمدين على تجاربهم الاجتماعية. فمن خلال كتاب «الاستشراق» یری سعید أنه من الصعب استيعاب التجربة التاريخية من خلال مطالعة القوائم والجداول والفهارس، بل المطلوب هو التأمّل لأنه أساس الإنتقاء الواعي للمادة.

يركّز إدوارد سعيد في دراسته على الامبراطوريات البريطانية والفرنسية والأمركية مشيراً إلى أن عدم ذكر باقي الامبراطوريات - النمساوية، الهنغارية، الروسيّة والعثمانية - لا يعني أنها موضع قبول عنده أو أنها أقل إمبريالية بل كان اختيار البريطانية والفرنسية والامركية لخصوصيات تربط بينها وهي التناسق والتماسك ومركزية الثقافة المتميزة فيها، كما أنها تشترك في فكرة حكم بلدان ما وراء البحار. ويظهر ذلك من خلال المختلقات الروائية، والجغرافية والفنية. كما يلاحظُ في التوسع الفعلي، والادارة الفعلية، والاستثمار... ما يدلّ على نظامٍ ثقافيٍّ إمبرياليٍّ دقيقٍ، كانت الإمبراطورية البريطانية و الفرنسية أهم نموذج له وتليهما الأمركية بشكل مختلف. وما ساعد المؤلف في فهم هذه الامبراطوريات بشكل واسع ودقيق، نشأته في هذه البلدان حتى صار واحد منهم بعيداً عن العالم العربي.

ص: 299

في إطار إحاطته بموضوعه الشائك لا يكتفى المؤلف بتوصيف السطوة الإمبريالية، بل يشير كذلك إلى التقدم الموازي لها لقوة ،المقاومة، كما لا يفوته تشخيص الدول المستعمَرة منتقداً ما وصلت إليه من مصائر حيث إنها لا تبعث على الفخر والاعتزاز. كما يرى بضرورة سرد الروايات الناقدة لتجارب العالم الثالث، بحيث إن إمبريالية ،الغرب، وقوميّة العالم الثالث تتغذيان أحدهما بالآخر، من دون أن يتّحدا حتى في أسوء الحالات. كما أن الثقافة ذاتها غير واحدية وليست ملكاً حصرياً لا للشرق ولا للغرب.

التطلع لبروز وجدانٍ فكريٍّ وسياسيٍّ جديد هو الشاغل الثاني الذي جعل سعيد يكتب هذا الكتاب، بالرّغم من الهجومات التي انقضّت على المسار القديم للدراسة ذات النزعة الانسانية، من ضغوطٍ مسيّسةٍ واتهاماتٍ مبالغٍ فيها باسم قيمٍ غربيةٍ أو «أنثويةٍ» أو تمركزيّةٍ افريقيةٍ، إسلامويةٍ.

يقوم هذا الكتاب بقراءة إنتاج الفكر الغربي عبر مائتي عام بشكل تحليليٍّ دقيق، ونفاذ بصيرةٍ، وبراعةٍ فكريّةٍ لا مثيل لها. فقد قام سعيد في قراءته المتميزة بسلخ كامو الذي سحر القارئ الغربي المولع بالشرط الإنساني، بل أكثر من هذا فقد جعل عمل كامو موضعاً للسخرية بعد أن كشف جوهره المدافع عن الإمبريالية الفرنسية، والملغي لتاريخ الجزائر قبل الاستعمار . لم يكتفِ بكامو فقط بل سلخ عمالقة الفكر الغربي من قبيل غيردي و جين اوستن، وجوزيف كونراد، وكيلنغ، وغيرهم.

لقد ارتكز سعيد على مجموعة من التصورات والأسس النظرية التي تتأصل في ثورة مستمرة في العلوم الانسانية، تترك أثرها على كل شيء، اِستبطنت الاستشراق حيث نبعت تحليلاته من معطياتٍ مثل القوة والسلطة، وسلطة الإنشاء، ورؤية الآخر وتنميطه، إلخ ... لكن مفاهيم طارئة تقفز لتحتل المكانة المركزية في التحليل، وفي تكوين المفهوم الذي يعاين منه الثقافة، والتاريخ، والمجتمع، والأدب، والرواية خاصة.

فلسفة السرد

لقد ركّز النقد الحديث على السرد الروائي غير أنه لم يتطرّق إلى موقعيّته في تاريخ

ص: 300

الامبراطورية. بيد أن السرد ذو أهميةٍ كبيرةٍ في منظومة سعيد، إذ يرى أن القصص يكمن في لباب ما يقوله المكتشفون والروائيون عن الأقاليم الغربية في العالم، كما أنه يمثل وسيلة تستخدمها الشعوب المستعمَرة لتأكيد هويتها الخاصة، ووجود تاريخها الخاص. وبالرغم من أن المعركة الأساسية للإمبريالية تدور حول الأرض لكن الكثير من الأمور حسمت في السرد الروائي، من قبيل من كان يملك الأرض، ويملك حق استيطانها، والعمل عليها، ومن يرسم مستقبلها ؟ فإن القوة على ممارسة السرد، أو على منع بعض السرديات الآخرى من البزوغ لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة والإمبريالية وهي تشكل إحدى الروابط الرئيسية بينهما.

يذهب سعيد إلى أكثر من ذلك، فيرى أن السرديات الجليلة الكبرى للتحرر والتنوير جندت الشعوب المستعمَرة، وحفّزتها على الانتفاض، وخلع نير الامبريالية. كما أن هذه القصص وأبطالها أثّرت في العديد من الأوروبيين والأمركيين، فقاموا بدورهم بالصراع من أجل سرديات جديدة للمساواة المجتمعيّة الإنسانية.

لقد استعمل الكاتب عدة مفاهيم جديدة نسبياًّ، لتحليل الكتابة الإبداعية الغربية، وليصف أعمال كبار منتجيها في المرحلة التي شهدت عصر الاستعمار وما مهّد له. وأبرز هذه المفاهيم: المصادرة الأصلاني، الدنيوية، كما يعد مفهوم القراءة الطباقية أو التأويل الطباقي المفهوم المركزي في منهج سعيد التحليلي على مستوى ما يريد طرحه فكريّاً عن العلاقة بين المجتمعات والثقافات، كما أن مفهوم الهجنة يعد أبعد المنطلقات التصورية الجديدة خطورة وخلافيّة خاصة في العلاقة بينه وبين الهويّة المتصلّبة وسياسات الهوية واللاانتماء، والروح المرتحلة، وتجربة المنفى. فهنا تظهر مناوءة سعيد للهويات المتصلبة والانفصالية التي تصنف نفسها نقيضا للآخر وتقيم الحواجز بينها وبين العالم.

المقاومة

في عمق الإشكاليات الفكرية الروحية الفردية، والثقافية التي تتعلق بعلاقات الثقافات والتواريخ والمجتمعات التي طرحها هذا الكتاب تنبثق قراءة فذّة للمقاومة

ص: 301

تفجّرت في العالم المضطهَد والمستعمَر. فالكتاب ككل يمثل ساحة تنازع ومقاومة، معترك بين الإيمان بثقافة تُغزى وبين الاستسلام لثقافة غازية، بين الذات والآخر الإمبريالي، ومقاومة الغزو واستعمار اللغة والعقل.

يرى سعيد ثلاثة مواضيع عظيمة في المقاومة الثقافية المفكفِكة للاستعمار، أحدها الإصرار على الحق في رؤية تاريخ المجتمع، ويتمثل ذلك في جعل مفهوم اللغة القومية مفهومًا مركزيّاً. فالثقافة القومية تقوم بتنظيم الذاكرة الجماعية وتعزيزها والحفاظ عليها. لقد استشفّ المؤلف ذلك من سرديات العبيد المحليّة، والسِّيرَ الذاتية الروحيّة، ومذكِّرات السجون، وغيرها من السرديات. ويتمثّل الموضوع الثاني للمقاومة الثقافية في أن المقاومة بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد ردّة فعلٍ على الإمبريالية فهي نهج بديل في تصوّر التاريخ البشري، وإنه لمن المهم أن يقوم هذا النهج البديل على إعادة التصور في تحطيم الحواجز بين الثقافات. في حين أن الموضوع الثالث يركّز فيه سعيد على المنظومة الفكرية والثقافية داخل المقاومة القومية، من دون أن يقع إقصاءً للحركة النسائية، لكي لا تخلُف الممارسات الذكورية

الظالمة الاستعمار.

لئن كان الاستشراق منطلقاً عند سعيد من حيث النقد والتحليل، والاستفهام والتأسيس، فإن كتاب «الثقافة والإمبريالية» يعدّ نموذجاً استثنائيّاً تقاطعت فيه الأقاليم وتمّ فيه تشريح الامبراطوريات التقليدية وامتدادها الحديث، منطلِقاً من السرديات الروائية، ومعزَّزاً بمفاهيمَ خارجةٍ عن سطوة الإمبريالية الثقافية، مع إضاءة الظلمات التي انبعثت فيها المقاومة وتسليط الضوء على مرتكزات السيطرة في المستقبل ليكشف لنا عن خريطة طريقٍ تقود نحو التحرر التام.

الكاتب: إدوارد سعيد

الكتاب: الثقافة والإمبريالية

المترجم: كمال أبو ديب

الإصدار : دار الأداب للنشر والتوزيع، بيروت 2014

ص: 302

تهافت ما بعد الاستعمارية

نحو مبادئ أخلاقية للتعامل مع المرأة والبيئة

بهاء درويش(1)

سنحاول في هذا البحث - بمقاربة مستقلة - الوصول لمجموعة من المبادئ الأخلاقية نزعم أنّها ما يجب أن يحكم التعامل مع المرأة والبيئة، وذلك في مواجهة المنظور الغربي للنزعة النسوية البيئية (ecofeminism). لن نحاول في هذه المقاربة الاستناد إلى أي مبررات دينية أو تاريخية ، ولكن ستكون مبرراتنا مبررات عقلية صرفة. هذه المقاربة تتطلب منا أولاً تأريخاً سريعاً لظهور النزعة البيئيّة ومبررات ظهورها - والتي نتجت عن الاهتمام بالبيئة والقلق عليها وهو الاتجاه الذي ظهر حديثاً الغرب، ثم مبررات ربط النزعة النسويّة البيئيّة المرأة بالبيئة ومراحل تطور هذه النزعة ثم ننتقل إلى المبادئ التي نراها يجب أن تحكم التعامل مع المرأة والبيئة. هذه المبادئ من شأنها أن تحدّد الصّلة بين النساء والبيئة وتبرر أو تدحض دعوى الغرب بأن القهر شمل كلاًّ من النساء والبيئة، وهي الفكرة الأساسيّة التي تبني عليها النزعة

النسويّة البيئيّة إتجاهها.

ص: 303


1- أستاذ الفلسفة - جامعة المنيا - جمهورية مصر العربية.
صلة النزعة النسوية البيئيّة بما بعد الاستعمارية:

تعد هذه النزعة «النزعة النسويّة البيئيّة» ذات صلة بالفكر ما بعد الاستعماري ذلك لأنه أصبح من الواضح أن هناك صلة بين تعامل الاستعماريين بين تعامل الاستعماريين مع الحياة النباتيّة والحيوانيّة للبلاد المستعمرة وتعاملهم مع المناطق المستعمَرة. فاستعمار المكان هو ما مهد السبيل لاستعمار الشعوب بل ويمكن القول أن التدمير الذي حاق بالبيئتين الفيزيقيّة والبشريّة مازال حتى الآن(1).

النزعة البيئيّة ونشأتها

لا شكّ أنّ النزعة البيئية قد نشأت بعد أن بدأ المفكرون والعلماء يلاحظون تأثّر البيئة بأشكال التلوث المختلفة. يمكن العودة بالاهتمام بالبيئة إلى عصر التصنيع وبداية إدراك الضرر الذي أحدثه وسيحدثه التلوث الناتج عن التصنيع . انتقل الاهتمام بالبيئة نقلةً هامةً في القرن العشرين مع صدور كتاب ريتشل كارسون Rachel Carson) الربيع الصامت 1962 the Silent Spring ، إذ لاحظت عالمة البحار الأميركية أن الطيور التي كانت تملأ فضاء مدينة ما في الولايات المتحدة رحلت ولم تعد تغنّي في الربيع كما كانت وأن الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية - ومعظمها كان ساماً مثل الدي دي تي DDT - أدى إلى تدميرٍ في نسق الطبيعة بأسره وليس فقط إلى هروب الطيور(2). ولقد ترك نشر صورة الأرض من الفضاء كبلّورة زرقاء كبيرة أثراً رائعاً في القلوب 1969 هذا الانطباع والصورة التي جاءت عن الأرض تُرجمت إلى إجراءٍ عملي في العقد التالي مباشرة عندما عُقد مؤتمر البيئة الأول للأمم المتحدة في ستوكهولم 1972. نتيجة لهذا المؤتمر أسست الجمعية العامة برنامج الأمم المتحدة للبيئة في ديسمبر من العام نفسه في 1983 دعا السكرتير العام للأمم المتحدة دكتور جرو هارلم بروندلاند Brundtland رئيس وزراء النرويج السابق - وكان طبيباً الوقت نفسه - إلى تأسيس ورئاسة لجنة دولية في التنمية والبيئة. في أبريل من هذا

ص: 304


1- Ashcroft, B. (2007). Post-Colonial Studies. 2nd edition. USA and Canada Routledge.
2- Carson, R. the Silent Spring. In https://archive.org/stream/fp_Silent_Spring-Rachel_ Carson-1962/Silent_Spring-Rachel_Carson-1962_djvu.txt.

العام نشرت لجنة بروندلاند - إذ هكذا أصبح اسمها - تقريراً أسمته «مستقبلنا المشترك Our Common Future» وهو التقرير الذي جعل مصطلح (التنمية المستدامة) من وقتها مصطلحاً متداولاً وشائعاً. أدت توصيات هذا التقرير إلى عقد مؤتمر «قمة الأرض 1992 Earth Summit) وهي القمة التي تبنّت «أجندة 21» وهو برنامج يهدف لحماية الأرض وتنميتها المستدامة. يعتمد هذا التصور «حماية الأرض» على تصور كل منّا لعلاقته بالبيئة. هل علاقتنا بالأرض علاقة مركزيّة الإنسان للكون وبأي معنى (anthropocentric)؟ أم تتساوى الكائنات في التنوع الحيوي للكون في قيمتها؟

النسويّة الإيكولوجيّة

إتخذ الاهتمام بالبيئة أشكالاً مختلفة منها تعاطف نسوي زعم أن ما أصاب البيئة من ظلم واستنزاف قد أصاب النساء أيضاً وهو الاتجاه الذي عرف بالنسوية الإيكولوجية (ecofeminism) . بدأت النسوية الإيكولوجية تحظى بقدرٍ من الانتباه في العالم الغربي في السبعينيات من القرن السابق فمنذ أن قدمت فرنسوا دوبون مصطلح النسويّة الإيكولوجية 1974 كي تلفت الانتباه إلى إمكان أن تُحدث النساء ثورة إيكولوجيّة، استُخدم المصطلح ليعني أن ثمة ارتباطات مهمة – تاريخيّة ورمزيّة ونظريّة بين الهيمنة على النساء والهيمنة على الطبيعة(1).

قبل أن تظهر النسويّة الإيكولوجية كفلسفةٍ مستقلة، يمكن القول أن هناك ثلاثة اتجاهات مهّدت لاكتمالها. هذه الاتجاهات هي: أخلاقيات الحيوانات، أخلاق الأرض، ثم الاتجاه الذي عُرف ب»الإيكولوجيا العميقة».

تنطلق أخلاقيات الحيوان من الإفتراض بأن الحيوان كائن يشترك مع الإنسان أنه كائن أخلاقي، له حقوق . رأى بيتر سنجر (P. Singer) في كتابه «تحرير الحيوان: أخلاقيات التعامل مع الحيوان» أن صيد الحيوان والتجريب على الحيوان وتربية الحيوانات في أماكن مغلقة من أجل تسمينها ممارسات لا داعي

ص: 305


1- مايكل زيمرمان (تحرير) ، الفلسفة البيئية الجزء الثاني، ترجمة معين شفيق ،روميه عالم المعرفة، العدد (333) الكويت المجلس الوطني للفنون والثقافة ، الكويت ص 122.

لها لأنها تسبب ألماً للحيوان الذي يشترك مع الإنسان في خاصية الإحساس

والشعور بالألم.

توسع أخلاق الأرض من العلاقة بين الإنسان وبقية الكائنات وفقاً لها ليس

الحيوان فقط من له حقوق أخلاقية ، إنّما سائر الأرض أيضاً بما عليها من بحار وأراضي ونباتات. ليس الإنسان في هذا المجتمع سوى أحد هذه الكيانات. فلم يعد الإنسان مالكاً أو غازياً لهذه الأرض وإنما هو فقط أحد أعضائها وهو ما يعني ضرورة احترامه لها وللمجتمع ككل(1). كدليل على هذا يقدم مثال سلسلة الطعام (food chain) التي وفقاً لها ليس الإنسان سوى عنصر في الميدان البيولوجي: فالنبات يستوعب الطاقة من الشمس، وهي الطاقة التي تسري في الميدان البيولوجي. تشكل التربة الطبقة السفلى والتي تأتي فوقها طبقة ،النبات، فالحشرات تمثل طبقة فوق النبات، فالطيور فالحيوانات وهكذا، طبقة فوق أخرى أضاف التطور الحيوي (evolution) طبقات فوق طبقات عمًا كانت عليه الحياة من قبل وأدى إلى تنوع وتعقد الميدان الحيوي (biota)(2).

تعكس أخلاق الأرض الوعي الإيكولوجي والذي بدوره يعكس القناعة بالمسؤولية الفرديّة عن صحة الأرض. إن خطأ الكثيرين يكمن في نظرتهم للأرض والحياة البريّة كسلعٍ لها ثمن بينما يجب أن ننظر لها على أنّها حياة بيولوجية ليس الإنسان فيها سوى أحد أعضائها. لا ننظر لها على أنّها العبد والخادم للإنسان ولكن على أنّها الحياة العضوية ككل. هذه الأرض لا يمكن أن تنشأ علاقتنا الأخلاقية بها سوى كعلاقة حب واحترام وإعجاب وتقدير لقيمتها في ذاتها، لا أن ننظر لها فقط من حيث قيمتها الاقتصادية(3).

الفيلسوف النرويجي أرنى نایس (Arne Naess) هو من نحت مصطلح «الإيكولوجيا العميقة (deep ecology ليضعه في مقابل مصطلح الإيكولوجيا

ص: 306


1- Leopold, A. 1949. The Land Ethic. An Excerpt from A Sand County Almanac. P.8 In http://www. . تم الدخول بتاريخ 30 - 12 - 2017 cooperative-individualism.org/leopold-aldo_land-ethic-1949.pdf
2- Ibid., p.8.
3- Ibid., p. 13.

الضحلة shallow ecology) وذلك في مقالته الشهيرة «الحركة الإيكولوجية الضحلة والعميقة طويلة المدى ملخص .The Shallow and the Deep, Long-Range Ecology Movement: A Summary التي صدرت عام 1973 يعني نايس بحركة الإيكولوجيا الضحلة تلك الحركة التي تقصر هدفها فقط على حل مشكلات مثل مشكلة التلوث البيئي ومشكلة تآكل المصادر الطبيعية، بينما تعني حركة الإيكولوجيا العميقة رفض صورة الإنسان في البيئة ككائن يمثل مركز الكون لصالح صورة الإنسان ككائن عضوي حيث سائر الكائنات العضوية هي عقد لشبكة واحدة حيوية تقوم بينها جميعاً علاقات جوهرية(1). يعي الإنسان من داخل هذه الشبكة أن حق جميع الكائنات في الحياة والتطور هو مبدأ قيمي واضح وضوحا حدسياً. إنّ إعطاء هذا الحق للإنسان فقط أمر ضار بالإنسان نفسه. إنّ تجاهل اعتمادنا المتبادل على سائر الكائنات العضوية الأخرى وتأسيس علاقة السيد - العبد بيننا وبين الطبيعة هو ما أدى إلى إغتراب الإنسان عن نفسه. إن التنوّع الحيوي يقوّي من إمكانيات البقاء، كما أن مقولات مثل الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح يجب تفسيرها في ضوء إمكانية التعايش المشترك والتعاون وليس في ضوء إمكانية القتل والاستغلال والقهر.«عش ودع غيرك يعيش» مبدأ إيكولوجي أقوى من مبدأ «إما أنت أو أنا». الإتجاه الإيكولوجي يفضل سيادة مبادىء المساواة الإيكولوجية (ecological egalitarianism) والتعايش العضوي (symbiosis) وضد الطبقيّة (anti class posture) على أي شكل من أشكال الصراع بما في ذلك الصراعات القائمة الآن بين الدول النامية والدول المتقدمة(2). يميز نايس أيضاً بين أنصار الإيكولوجيا الضحلة والعميقة. يرى نايس أن أنصار الإيكولوجيا الضحلة هم أولئك الذين يهتمّون فقط بمشكلات مثل التلوث ونقص الموارد، أما دعاة الإيكولوجيا العميقة فهم أولئك الذين عليهم رفض أي وظيفة تخضعهم لمؤسسات معينة تقيدهم بمثل هذه المشكلات المحدودة. الإيكولوجي العميق هو ذلك الذي يقبل سائر ما قلناه سالفاً. يرى نايس أن حركة الإيكولوجيا العميقة هذه حركة لم يصل إليها لا بالاستنباط المنطقي أو الاستقراء من الإيكولوجيا ولكن

ص: 307


1- Naess, Arne(1973) (The Shallow and the Deep,Long-Range Ecology Movement. A summary), in Inquiry, 16: 1, p. 95. In DOI: 10.1080/00201747308601682
2- Ibid., p. 96, 97.

المعرفة الإيكولوجية وأسلوب حياة الإيكولوجي هي ما ألهمته وجعلته يقترح منظورات الإيكولوجيا هذه العميقة(1).

إذا ما حاولنا الآن عرض خصائص الفلسفة النسويّة البيئيّة كفلسفة مستقلّة وهو ما حدث من أواخر ثمانينات حتى منتصف تسعينات القرن الماضي - أي بعيداً عن ارتباطها بأخلاقيات الحيوان أو أخلاق الأرض أو الإيكولوجيا العميقة - فإنّه يمكننا أن نجد أنها تتصف بخمسة ملامح رئيسية:

التفكير الهرمي القيمي لكائنات أعلى وأخرى أقل هذا التفكير الديني كان يضع الرجل في مكانة أعلى، بينما يضع النساء والطبيعة في مكانة أسفل. هذا التفكير الذي ينسب قيمة عليا للرجال في منظومة فيها ما هو أعلى وما هو أدنى يبرر لنفسه عدم المساواة بين ما هو أعلى وما هو أدنى. بينما الحقيقة أن ما هو موجود هو تعدديّة كيانات وليس كيانات أعلى وأدنى (2).

الثنائية الاستبعادية : ينسب هذا التفكير قيمة أعلى لأحد طرفي علاقة الفصل هذه. هذه الثنائية التي أنتجتها الفلسفة الغربيّة بين النساء والرجال، وبين الثقافة والطبيعة نسبت قيمة أعلى للرجال والثقافة على النساء والطبيعة، بينما الحقيقة أن العلاقة علاقة تكامل وليس علاقة فصل.

السلطة والتميز : ينسب هذا التفكير قيمة أعلى لمن يمتلك السلطة والتميز - وهم بالضرورة الرجال والثقافة - أي من هم أعلى. ففي مجتمع ما، نجد أن الأكثر ثراء هم من يتحكمون في المجتمع ويحركون الموارد وفقاً لغايات تخدم مصالحهم، وقد يحدث أن ينسوا ضرورة مساواتهم بالفقراء، فينظرون للفقراء على أن فقرهم هو خطؤهم وبالتالي يبرّرون عدم إعطائهم الفرص ذاتها التي يعطونها لأنفسهم(3).

ص: 308


1- P. 98.
2- Warren, Karen J., "Feminist Environmental Philosophy", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2015 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL =
3- ibid.
منطق الهيمنة : التميز يبرّر الإخضاع.

يقدم منطق الهيمنة تبريراً لأن يظل الأعلى محافظاً على وجود الأدنى في المرتبة الأدنى. مجمل هذا التبرير أن للأعلى صفات لا يتصف بها الأدنى كالعقلانيّة وهو ما يبرر أن يظل الأدنى في مكانه السفلي(1).

مبادىء التعامل مع النساء والبيئة

في مقابل هذه الدعوة الغربيّة سنحاول أن نخطط للمبادىء التي نزعم أنّها ما يجب أن تحكم التعامل مع النساء والبيئة. لن نحاول أن نبحث في التاريخ عن ما يؤيد زعم النزعة النسويّة البيئية بأن القهر قد شمل كلا من النساء والبيئة، لن يكون هذا هو مجال اهتمامنا ولكن في مواجهة هذا التصور، سنحاول أن نضع مبادىء نرى أنّها ما يجب أن يحكم علاقة الرجل بكل من المرأة والبيئة. هذا التنظير من شأنه أن يبيّن ما إذا كان الحكم الذي أطلقه دعاة النسويّة البيئيّة عن هيمنة الرجال على كل من النساء والبيئة حكماً صحيحاً أم جائراً وإن لم تكن هذه النتيجة هي الهدف الرئيسي للبحث.

في دعوانا بأن هذه هي المبادىء التي توجّه التعامل مع المرأة والبيئة، فإننا نعني أنها مبادىء تحكم بشكل كلي أساليب التعامل وتُشتقّ سائر المبادىء منها.

مقولة الاختلاف مقولة تحكّم الكون

لا يوجد في الكون هويّة بين الكائنات وبالتالي لا يوجد ما يسمّى بالمساواة، مقولة الاختلاف مقولة تحكم الكون. الاختلاف بين الكائنات (إنسان - حيوان - نبات جماد) اختلاف في الطبيعة والاختلاف بين الجنسين البشري والحيواني (الذكر والأنثى) اختلاف فسيولوجي أي في الطبيعة أيضاً هذا الاختلاف يبدو بداية في الجنس البشري في الشكل والمظهر كما يبدو في اختلافات فسيولوجية داخلية أخرى. في الرجل على سبيل المثال هرمون التستوستيرون (testosterone) مسؤول عن القوة

ص: 309


1- ibid.

الجسدية والنشاط العضلي. بينما في المرأة هرمون الاستروجين (estrogen) مسؤول عن ميلها لرعاية الغير (الأطفال أو (المرضى).

هذا الاختلاف لا يبرّر ،استعباد هيمنة أو سوء استغلال أحد الكائنات للآخر. هذا الاختلاف من شأنه بيان المبادىء التي يجب أن تحكم العلاقة بين الرجل والمرأة من ناحية وبين الرجل والبيئة من ناحية أخرى . بمعنى أن نجعل هذه الواقعة - واقعة الاختلاف - هي ما يبرر قولنا بأن هذه المبادىء هي ما يجب أن يحكم العلاقات المختلفة. سأضع هذه المبادىء في صورة مستويات، بحيث يبرر المبدأ الأعلى المبدأ الأدنى، أو يعتمد المبدأ الأدنى على المبدأ في المستوى الأعلى.

علاقة الرجل بالمرأة

إنّ النظرة إلى المرأة - سواء أخذناها من منظور ديني أو مدني ستصل بنا إلى

النتيجة نفسها التي يمكن تلخيصها في العبارة التالية :

للمرأة الحق في أن تحصل على حقوقها ولها الحق في أن تُعامل باحترام يصون كرامتها ويمنع عنها الضرر ويحقق لها العدل.

إذا ما أردنا تبريراً لهذه النظرة للمرأة من زاوية دينيّة، تجد أن رعاية الأم واحترامها هو ما يوصل المرء للجنّة، أما الابن العاق فتتحول حياته إلى جحيم ويناله غضب من الله. لقد أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة ثلاثاً أن الأم هي أحق الناس بالصحبة.

إذا نظرت للأم من زاوية مدنيّة، تجد أن حصول المرأة بصفة عامة على حقوقها يجعل منها كياناً متعلماً ذا صحة وهو ما يعني أن بإمكانها أن تساهم في عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الذي تنتمي إليه بالإضافة إلى أنها ستنجب نسلاً يتمتع بالصحة تتم تربيته وتعليمه بشكل صحيح يجعله يساهم بدوره في تنمية مجتمعه.

كذلك الأخت إذا نظرت إلى كيفيّة معاملتك لها تجد أن سلبها حقوقها الطبيعيّة مثل

ص: 310

حقها في اختيار الزوج أو أحد حقوقها المدنية مثل الحصول على نصيبها في الميراث فيه ظلم صريح لها والظلم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام «ظلمات يوم القيامة».

أما إذا نظرت للأمر من زاوية مدنيّة تجد أن عدم إعطائها حقوقها، فيه تمييز واضح وصريح يتنافى مع مبادىء العدالة والمساواة المقبولة دولياً.

كذلك المرأة هي الإبنة وبالتالي فإن تفضيل أخيها الذكرعليها بأي شكل من أشكال التفضيل فيه ظلم والظلم كما قلنا منهي عنه في الإسلام بكل أشكاله.

أما إذا تناولنا الأمر من زاوية مدنية نجد أن التمييز بين الإبن والإبنة - كما يحدث حتى الآن في بعض المجتمعات العربية - أي تفضيل الإبن على الإبنة سيحول الفتيات إلى كيانات غير صحيحة نفسيا وبدنياً، غير متعلمات وهو ما يؤثر بالضرورة اقتصادياً على المجتمع من حيث عدم قدرتهن على رعاية أنفسهن صحياً أو رعاية أبنائهن لجهلهن بأساليب الرعاية وهو ما يؤثر بالضرورة على المجتمع بأسره. وعلى افتراض أن النساء هنّ من يرعين منازلهن فقد أثبتت الدراسات أن النساء أكثر وعياً بحاجات مجتمعاتهن الحالية والمستقبلية(1). كذلك أثبتت الدراسات أن المشاريع التي تشارك فيها النساء تتحقق لها الاستدامة بشكل أفضل وتحقق أرباحاً أكثر(2). لقد أثبتت الخبرة أنه عندما تم اشراك الوزارات المختصة بشؤون النساء مع وزارات الموارد المائية والبيئة ووزارات الصحة ، تم النظر إلى المشكلات المتعلقة بالحاجات الفعلية للمجتمع من عدة زوايا كان الرجال يغفلون عنها(3).

مما سبق يمكننا أن نزعم أن العلاقة التي يجب أن تحكم الصّلة بين الرجل

والمرأة ه- هي علاقات الاحترام - عدم الإضرار - العدالة. تمثل هذه العلاقات المبادىء الحاكمة لهذه العلاقات ولكن كيف يمكن تحديد هذه العلاقات؟ أو من ذا الذي لديه الحق في تحديد العلاقات؟ هل هو الرجل الذي يحدد طبيعة

ص: 311


1- UNESCO 2004 Best Ethical Practice in Water Use. Paris: UNESCO. P.14
2- UNESCO 2000 the Ethics of Freshwater Use: A Survey, Reykjavik, UNESCO. P.32
3- UNESCO 2004 Best Ethical Practice in Water Use. Paris: UNESCO. P.14.

العلاقات بينه وبين المرأة أم النساء هنّ من يحدّدن طبيعة العلاقة بينهن وبين

الرجل؟

الرد على هذا هو أن هذه العلاقات يحددها التفكير العقلاني السوي. فالتحديد لا يأتي من الرجل وكأنه يمنح أو يتفضل على المرأة. إن من يُعطى حق المنح، يُعطى في الوقت نفسه حق المنع من هنا كان التفكير العقلاني هو ما يحدد هذه العلاقة.

على العلاقة بين الرجل والمرأة أن يسودها الاحترام هذا الاحترام هو ما يبرر ضرورة عدم الاضرار بالمرأة. يجب أيضاً أن تكون سلوكيات الرجل تجاه المرأة سلوكيات عادلة. عدم الاضرار هو ما يبرر ضرورة العدل معها. فأي شكل من أشكال اللامساواة يمثل ضرراً.

من هنا كانت العلاقة على النحو التالي:

يجب أن أكون عادلا لأنه لا يصح أن أضرّ بالمرأة، ويجب أن لا أضرّ بها لأنه

من الضروري أن أحترمها.

احترام كرامة المرأة

لتبرير ضرورة احترام المرأة نجد أن كرامة الإنسان – رجل كان أو امرأة قد تم تبريرها منذ عهد أرسطو والرواقيين بأن للإنسان كرامة لأن لديه القدرة على التفكير الحر والوعي بالذات وحرية اتخاذ القرار. كذلك حثت سائر الشرائع السماوية على احترام كرامة الإنسان فالكرامة الإنسانية (krod habriot) تصور أساسي في الديانة اليهودية، والمسيحية ترى أن للإنسان كرامة لأن الله خلقه على صورته. أما الإسلام فيرى أن للإنسان كرامة لأن الله جعله خليفة الله في الأرض ولكن حتى لا نُتّهم بالاحتكام إلى الدين وإلغاء العقل وحتى لا نُتّهم بارتكاب مغالطة الاحتكام إلى الأغلبيّة نرى أن للإنسان كرامة يجب احترامها ليس جرياً على ما قال به السابقون ولكن لأنه كائن مفكّر عاقل - وهذا قريب مما قاله أرسطو والرواقية. هاتان الصفتان الفطريتان تبرران احترامه لأن عدم احترامه إنقاص من طبيعته : إنقاص من ملكات طبيعيّة يتّصف بها. الانتقاص

ص: 312

منه يعني أننا نتعامل مع هويّة مختلفة عن البشر من حيث إنّ العقلانية والتفكير جزء من هويته. من هنا كان احترام الإنسان في صورة احترام المرأة جزء من إقرارنا بهويّتها وكان عدم احترامها تناقضاً ذاتياً، إذ يعني إنكارها نتيجة إنكار جزء من هويتها. من هنا كان احترامها التزاماً ذاتياً يحمي من الوقوع في التناقض.

إن احترام كرامة المرأة يعني احترام آدميتها وخصوصيّتها واستقلاليّتها، بمعنى حقّها في اتخاذ قراراتها المستقلة للمدى الذي لا تؤثّر به هذه القرارات على غيرها.

عدم الإضرار

رغم أن تعريف الضرر هو من أصعب الأمور لأن الضرر نسبي، فما يراه شخص ما ضرراً قد لا يكون كذلك بالنسبة لشخص آخر، إلا أنه من الممكن القول أن عدم الاضرار يعني عدم الاتيان بأي فعل من شأنه أن يمثل إعتداء على آدمية أو حقوق أمر ما . والضرر قد يكون ضرراً نفسياً أو فيزيقياً وقد يكون ضرراً مقصوداً أو غير مقصود. وبالتالي فإن عدم الإضرار بالمرأة يعني عدم الاتيان بفعل تجاهها من شأنه أن يمثل اعتداء على آدميتها أو حقوقها المستقلة، يسبب لها أذى نفسياً أو فيزيقياً. لسنا فی حاجة إلى القول أن سائر الأديان والأعراف والوثائق المدنية ترفض الإضرار بالمرأة وتؤكد على ضرورة احترامها . فالعقل السوي يمكنه أن يصل إلى تبرير رفض الإضرار بالمرأة ما يبرر عدم الإضرار بها هو ضرورة احترام آدميتها وخصوصيتها واستقلالية قراراتها، إذ لا شك أن أي اعتداء عليها هو إضرار بها.

العدالة

العدل هو ما يحمي من الضرر. فأي ظلم هو شكل من أشكال الأذى أو الضرر. يختلف مفهوم العدل عن مفهوم المساواة. ليس من الضرورة لكي أعدل بين مجموعة من الأشخاص أن أساوي بينهم . قد يكون في المساواة بينهم أحياناً ظلم لأحدهم. العدل يقتضي الإنصاف لا المساواة. انصاف المرأة بمعنى منحها – بقوة القانون - فرص مساوية للرجل في الحقوق والواجبات المدنية مراعاة اختلافها الفسيولوجي

ص: 313

بمنحها حق الدفاع عن الوطن بوسائل تتناسب وطبيعتها الفسيولوجية مثلا. كذلك يتطلب مراعاة اختلافها الفسيولوجي - واحتمالية انجابها وضرورة رعايتها للطفل منحها إمكانية العمل الجزئي . المنح لا يتضمّن أفضليّة من يعطي ولكن بمعنى تقنين ما لها وما للرجل.

تحقيق العدالة يعني تحقيق كل كائن لإمكانياته والاستفادة منه الاستفادة المناسبة فالمرأة تستفيد من الرجل استفادة الرجل من المرأة وكلاهما يستفيد من الطبيعة.

علاقة الرجل (الإنسان) بالبيئة

يتطلب تحديد هذه العلاقة تحديد النظرة لمكانة الإنسان في الكون. هل الإنسان هو مركز الكون أم مجرد كائن عضوي ضمن مجموعة من الكيانات يجمعها كل حيوي؟

نرى أن الإنسان مركز الكون لاتصافه بالعقلانيّة والحريّة. العقلانيّة وحرية اتخاذ القرار الناتجة عنها تعني أنه المتصرف وأنه صاحب الكلمة. فإذا ارتأى الإنسان أن بقعة أرضية ما هي مكان ملائم لبناء مطار وهذه البقعة هي مكان تجمع طيور معينة، هل على الإنسان استئذان أو أخذ رأي الطيور ؟ إن عقلانية الإنسان ليست ميزة بقدر ما هي مسؤولية ترتّب عليه التزامات أخلاقية تجاه أبناء جنسه وتجاه الكائنات الأخرى. بهذا المعنى فقط يمكن القول بمركزية الإنسان للكون إلا أن هذه المركزية لا تبرر على الإطلاق استنزاف الموارد الطبيعية أو استغلال الغير من بني البشر أو الكائنات الأخرى. هذه العقلانية أيضاً لا يمكن أن تجعل من الإنسان مجرّد كيان يتساوى بالكائنات الأخرى العضوية وغير العضوية.

بالطريقة نفسها ، يمكننا تحديد علاقتنا بالبيئة على النحو التالي:

يجب أن لا أضر بالبيئة لأنه من الضروري أن أحترمها.

احترام الطبيعة

تنقسم الكائنات غير البشرية إلى كائنات حاسة مثل الحيوانات والنبات، وكائنات تفتقد للشعور والاحساس احترام الطبيعة يعني عدم إيذاء أي من الكائنات غير

ص: 314

البشرية الحيوانات النباتات الصخور الوديان البحار .... إلخ. لا شك أن إيذاء الحيوان بتعريضه دون مبرر لآلام أمر مرفوض بشكل عام ، أي ليس في حاجة لتبرير نذكره هنا. فلقد تم تقنين سبل استخدام الحيوانات في التجارب العلمية بحيث يتم تعريضهم لأقل قدر ممكن من الآلام وذلك من خلال قوانين ومدونات سلوك استخدام الحيوانات في التجارب.

بأي معنى يجب علينا احترام النبات؟

من الثابت علمياً أن للنبات قدرات حسية وإدراكية تستجيب وفقاً لها للبيئة. هذه القدرات أدت إلى النتيجة القائلة أن النبات يُظهر شكلا - ولو بسيطاً - من أشكال الذكاء، إذ إن السلوك الذي ينم عن ذكاء ليس في حاجة لوجود ذهن أو مخ يتم من خلاله ممارسة السلوك الذكي للتدليل على هذا ذهب تريوافاس (Trewavas) إلى أن مملكة النحل تجمع باستمرار معلومات وتجددها عن البيئة المحيطة بها وتجمعها بالمعلومات الداخلية عن حالتها الداخلية وتتخذ قرارات بناء على هذه المعلومات تلائم بين حالتها والبيئة هذه السلوكيات الدالة على ذكاء - من إدراك للبيئة المحيطة وجمع المعلومات واستدلال - ليست في حاجة لعقل تمارس من خلاله(1). يمارس النبات أيضاً مثل هذه السلوكيات التي تدل على أنه كائن عضوي يتصف بالذكاء.

في تاريخ الفلسفة هناك أربعة تفسيرات لمعنى احترام النبات: تفسير قانوني، وآخر ميتافيزيقي وثالث ابستمولوجي وأخيراً تفسير أنطولوجي (2013) .Marder). يقترب الباحث في تفسيره مع تفسير (Marder) ماردر الأنطولوجي. إن ضرورة احترام النبات تكمن في السؤال الأنطولوجي عن وجود هذه الكائنات. إن معنى احترام الحياة النباتية هو الشكل الأنطولوجي للسؤال الذي يمشكل ظاهرة الاحترام(2).

ص: 315


1- Trewavas, A. 2005. Green plants as Intelligent Organisms. In TRENDS in Plant Science Vol.10 No.9, p. 413 .
2- Marder, M. 2013. On the Verge of Respect: Ontological and Epistemological Investigations into Plant Ethics. In Epoche, Vol. 18, issue 1, p. 247.
أنطولوجيا الاحترام

يفترض الاحترام وجود مسافة بين المحترم والمحترَم - مثلما تفترض الرؤية مسافة بين المرئي والرائي - بل وينسحب هذا حتى على احترام الذات، ففي احترام الذات هناك مسافة بین الذات التي تحترم وموضوع الاحترام يفصل الإنسان نفسه عن الذات موضوع الاحترام(1).

سنحاول هنا بيان معنى استقلالية النبات عن الإنسان من حيث كونه شرطاً لتبرير علاقة الاحترام.

النبات كائن يتفق مع الإنسان في أنه كائن حي يتغذى وينمو ويتكاثر، إلا أن له اختلافه عن الإنسان: في طريقة التغذي في علاقة كل منهما بالبيئة، في طريقة تكيّف كل منهما مع البيئة، وفي إمكانية الحركة .. إلخ(2). كذلك تختلف الملامح الظاهرة والتجريبية للنبات عن الإنسان.

ليس النبات هو الكائن الأدنى في ترتيب الموجودات الحية (إنسان - حيوان - نبات) - كما ترتّبه ميتافيزيقا الوجود في الفلسفة الغربيّة وبعض التفسيرات الدينية .. ففي مقارنته بالحيوان تضع هذه التفسيرات النبات أدنى من الحيوان من حيث إنه لا يصدر استجابة بينما الحيوان يستجيب إذا هاجمت النبات فإنه غير قادر على الدفاع عن نفسه، بينما أغلب الحيوانات تدافع عن نفسها النبات ثابت في الأرض لا يتحرك أو يختلف نمط حركته عن الحيوان.

كذلك ليست العلاقة بين النبات والإنسان محض علاقة نفعيّة يستفيد كل منهما فيها من الآخر. نعم كل منهما يستفيد من الآخر، النبات مديون لنا بأننا نمنحه الماء والتربة والأسمدة المطلوبة لنموّه، وفي المقابل نأكله ولكن هذه هي فقط أحد أوجه العلاقة بينهما دون أن تكون العلاقة الوحيدة وبالتالي فإن العلاقة بين النبات والإنسان لا يمكن اختزالها في أنها علاقة نفعيّة. هذه العلاقة تقضي على صورة الاحترام(3).

ص: 316


1- Ibid., p.249
2- Ibid., p.250
3- Ibid., p. 255.

الاحترام يفترض هذه الثنائية التي يفترضها الحب ، ولكن في الحب يذوب المحب المحبوب، ولا يراه رؤية موضوعية، أما في الاحترام، هناك محافظة على المسافة بين المتحرم وموضوع الاحترام وتكون النظرة أكثر موضوعية.

إن احترام النبات بل والحياة النباتية كلها يعني الاعتراف بأنه يحيا عالماً مستقلاً له قوانينه الخاصة، يوجد في بيئة خاصة به، يتمتع بقدر من الذكاء. ومتى أدركنا هذا الاستقلال الذي له، ولم نعد ننظر إليه على أنه عالم جعل فقط لخدمة الإنسان كان في ذلك تبرير للقول بعدم المساس به، أي استغلاله استغلالاً غير مبررٍ، أو تدميره.

هذا الاحترام ينسحب أيضاً على احترام التربة أو الأرض التي ينشأ فيها النبات. فإذا كان تجذّر النبات ونموّه في مكانٍ ما قد أُخذ على أنّه دليل تدني في المرتبة عن الحيوان القادر على الحركة والجري، فإن احترام الأرض التي نشأ فيها النبات من حيث إنه منشأ النبات ضروري أيضاً(1).

هذا الاحترام ينسحب أيضاً على احترام الطبيعة غير العضوية، ذلك أن الحياة النباتية تعتمد أيضاً على الوجود غير العضوي وهو ما يعني وجوب احترام الطبيعة ككل.

عدم الإضرار

يعني عدم الاضرار بالطبيعة عدم الاستغلال المفرط وغير الراشد لمكوناتها وذلك لعدة أسباب: السبب الأول يتعلق بمبدأ العدالة بين الأجيال، إذ من حق الأجيال المستقبلة أن ترث الأرض كما ورثها الجيل الحالي، بالتنوع ذاته للموارد الطبيعية وبالنقاء الذي ورثنا عليه الجو. ليس من العدل أن ترث الأجيال القادمة الأرض أقل تنوعاً في مكوناتها الطبيعية وأكثر تلوثاً. السبب الثاني أن الإفراط في الاستغلال غير شأنه أن يؤدي إلى انقراض بعض الكائنات ويؤثر على التنوع الحيوي الضروري من وهو ما لا يمكن توقع الضرر منه.

وهنا يبرز سؤال: ما هو الاستغلال الذي يمكن وصفه بأنه استغلال ضروري أو غير

ص: 317


1- Ibid., p.260.

ضروري راشد أو غير راشد؟ هنا نرى ضرورة حساب المكسب والخسارة، بمعنى أنه متى كانت المنفعة من الاستخدام ستجني نفعاً يساوي أو يزيد على الاستخدام، كان هذا استخداماً راشداً. فغني مثلا عن البيان أن استخدام كمية من الماء في ري قطعة من الأرض كان من الممكن ريها بكمية مياه أقل يُعدّ استخداماً غير راشد، واصطياد كائن بحري بكميّة ضخمة يمكن أن تؤدّي إلى انقراض هذا النوع وعدم المعرفة العلمية الكافية بنائج هذا الانقراض وتأثيره على غيره من الكائنات أو التنوع البحري يعد استخداماً غير راشد الاستخدام الراشد غير الضار هو ذلك الذي تم حساب المنفعة من ورائه وضمان المعرفة الآمنة لنواتجه .

يكمن وراء المبررين المباشرين لمنع الإضرار المبرر الأكثر عمقاً ألا وهو احترام استقلالية الطبيعة بأسرها وعدم النظر إليها فقط نظرة نفعية.

خاتمة

تصل بنا هذه المبادىء إلى أن المبادىء التي تحكم الصلة بين الرجل والمرأة- وإن تشابهت في مبدأين - تختلف كماً - على الأقل - في عدد المبادىء التي تحكم العلاقة بين الإنسان والبيئة. وهو ما يعني أن مقولة الاختلاف التي تحكم الكون تتجلى هنا وتبرهن على أنه لا النساء ولا الطبيعة كائنات أقل من الرجل ولكنها كائنات تختلف عن بعضها البعض. فالاختلاف هو الإطار الحاكم والضابط للعلاقات بينها، وأن الإنسان مركز الكون لاختلافه عن الكائنات الأخرى جميعاً باتصافه بالعقلانيّة وحريّة الإرادة وهو ما يجعله مسؤولاً ومختاراً.

ص: 318

المراجع

أولا: المراجع العربية

مايكل زيمرمان (تحریر) ، الفلسفة البيئية، الجزء الثاني ترجمة معين شفيق ،رومیه عالم المعرفة، العدد (333) الكويت المجلس الوطني للفنون والثقافة ، الكويت.

ثانياً: المراجع الأجنبية

Ashcroft, B. (2007). Post-Colonial Studies. 2nd edition. USA and Canada Routledge

Carson, R. the Silent Spring. In https://archive.org/stream/fp_Silent_ Spring-Rachel Carson-1962/Silent_Spring-Rachel_Carson-1962_djvu.txt

Leopold, A. 1949. The Land Ethic. An Excerpt from A Sand County Almanac. In http://www.cooperative-individualism.org/leopold-aldo_ land-ethic-1949.pdf 2017-12-30 Marder, M. 2013. On the Verge of Respect: Ontological and Epistemological Investigations into Plant Ethics. In Epoche, Vol. 18, issue 1. J 20180212 الدخول بتاريخ

Deep,Long-Range Naess, Arne (1973) 'The Shallow and the Ecology Movement. A summary', in Inquiry, 16: 1, p. 95. In DOI: 10.108000201747308601682/ Trewavas, A. 2005. Green plants as Intelligent Organisms. In TRENDS in Plant Science Vol.10 No.9. pp.413-419.

UNESCO 2000. the Ethics of Freshwater Use: A Survey, Reykjavik, UNESCO UNESCO 2004 Best Ethical Practice in Water Use. Paris: UNESCO Warren, Karen J., “Feminist Environmental Philosophy", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2015 Edition), Edward N. Zalta (ed.),

تم الدخول بتاريخ 4 يناير 2018

ص: 319

ما بعد الكولونيالية

من الانتماء التاريخي إلى الطرح الجيوسياسي
اشارة

میلود عامر حاج(1)

قفل الاستعمار راجعاً بعدما عمّر طويلاً أو قصيراً في محيطٍ غير محيطه الأصلي ولكن خارج حدود الجغرافية؛ ما ينمّ عن قوّة الغرب بعدما تفطّن إلى استعمار غيره من الشعوب، والتي لم تكن في مستواه الثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري... إلخ. هذا ما يجعلنا نعود للحديث عن ماضيه الذهبي بالنسبة له والإجرامي بالنسبة لغيره، وذلك نتيجة ظروفٍ ومعطياتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ محليّةٍ ووطنيةٍ، إقليميّةٍ ودوليّةٍ، والتي عجّلت ببروزه على الساحة العالميّة بهدف نشر الحضارة والمدنية وبناء العمران وغيره بحسب الأساطير المكوّنة لإيديولوجيته الاستعماريّة. هذه المسلّمات حتى وإن كانت موجودةً، فهي ليست لغيرها بل لأفرادها وجماعاتها التي استغلّتها من وراء هذه الشعارات البرّاقة لصالحها، لكن ضد غيرها من الأقوام والمجتمعات.

ص: 320


1- باحث وأكاديمى فى العلاقات الدولية - الجزائر.

ومما لا شكّ فيه أن الاستعمار خطط لبقائه مستعملاً كلّ أوجهِ المسخ ، والتهميش، والإقصاء والتنكيل، مقابل بقائه مختفياً وراء لبوس التقدّم والازدهار والرفاهيّة الشعوب الأرض. هذا ما لا يعكسه الواقع المعيش، بل الذين عاشوا تحت نيره عاشوا الظلم في أبشع صوره وأشكاله. هذه الديناميّة التي أحدثها الاستعمار الحديث نتيجة ما كان يمرّ به في داخله من ثورات سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وصناعيّةٍ وفنيّةٍ، وعلميّة. ربما هي التي أهّلته من أجل أن يسيطر في نهاية المطاف على غيره من المجتمعات الأخرى، التي كانت تئنّ تحت الأميّة، والجهل والصراعات الداخلية. فضلاً عن ما بات يعرف لديها من جروحٍ وترسّبات لحدِّ الآن، من خلال مطارحات هويّتها الوطنيّة، وذاكرتها الجمعيّة، نتيجة تغلغل الوعي اللاّمسؤول واللاّأخلاقي الذي ضرب النوايا والبنى والبنيات دون أن يعطي مثالاً يحتذى به.

هذا ما انعكس سلباً على جهود الدول وطموحات المجتمعات من خلال خيبات الأمل. وبالرغم من الجهود المسخّرة والكفاءات الموصدة في هذا السياق؛ إلاّ أنّه ومع مرور الزّمن تبيّن بأنّ صراع الأمس مع الأجنبي، وسيطرته على مجريات الأحداث في مستعمراته، باتت تحمل في ثناياها ما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّها تحمل أوزاراً وثغراتٍ وثقوبَ يصعب ملؤها بسهولةٍ دون غضِّ الطرف عنها بسهولة . فهي مترسّبة في عمق الوعي المجتمعي، الذي يشمل معنى الحياة العامّة، وتتفرّع منها باقي النشاطات والاختصاصات الأخرى وفي جميع الميادين. هذا الوعي المزيّف الذي باركه الاستعمار، حيث ناضل من أجله بهدف تمديد وجوده، ألاّ أنّه لم يفده كثيراً عن طريق إيجابياته ضد غيره الذي عرف إفرازاته السلبيّة ربمّا أكثر منه.

إشكالية الموضوع هي: ما هي حدود ما بعد الكولونيالية؟ أما ما يتفرع عنها من فرضيات هي كالآتي:

علاقة ما بعد الكولونيالية بين الماضي والحاضر.

ص: 321

صراع ما بعد الكولونيالية مع التوجّهات الوطنيّة الأخرى.

قوّة ما بعد الكولونياليّة هو ضعف ما قبل اللاكولونيالية.

1. تعريف ما بعد الكولونيالية:

تشكّل ظاهرة ما بعد الكولونيالية أحد الأوجه الأساسيّة في الخطاب النقدي، بحكم العلاقة الكامنة بين المستعمَر والمستعمِر، عن طريق ذلك الإرث المتواجد والمترسّب منذ الحقبة الاستعماريّة والتي تطغى عليها تلك الآثار السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة والتاريخيّة... إلخ. إلاّ أنّها تمسّ في المقابل جملة من الحقول والاختصاصات؛ أهمّها علم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة والعلوم السياسية وغيرها علماً بأنّها تمسّ الخطاب الذي يقوم على ما بعد الحداثة، والذي يربط ما بين نظريّة المعرفة وعلاقات القوّة في المجتمعات(1).

نذكر من بين دعاة هذا التيّار على سبيل المثال لا الحصر: فرانس فانون (طبيب نفساني) من مستعمرة المارتينيك الفرنسيّة، والذي انخرط في صفوف جبهة التحرير الوطنية الجزائريّة بعدما تهجّم على المؤسسة الفرنسيّة في الجزائر من خلال سياستها الاستعمارية التي قادتها فرنسا إبّان الحقبة الكولونيالية تجاه مستعمراتها . فضلاً عن ما دعا إليه الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق عام 1978، إلى جانب الكاتب الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي حول مصطلح الهيمنة Hygemony وعلاقة المثقف العضوي بالمثقف التقليدي ودورهما المجتمع الواحد، الأمر الذي جعل من هذه الطروحات تبني قدراتٍ فكريّةٍ وسياسيّةٍ ونضاليّةٍ مناهضةٍ للاستعمار الجديد. وذلك لا لتبرير ماضيه المأساوي والكارثي ضدّ شعوب الأرض فحسب، بل في إماطة اللّثام عن مخطّطاته الجديدة المستوحاة من ذاكرته الاستعماريّة إلى ما يليها من أشواطٍ من خلال ما تعكسه تطوراتها وأهدافها

ص: 322


1- ما بعد الاستعمارية www://ar.m wikipedia.

التي يُعامل بها غيرها من المجتمعات المستعمَرة بالأمس القريب والمستقلة حديثاً، ثم يضاف إلى هذه القائمة كل من هومي بهابها وجياتري سبيفاك.

2. الأسس والمنطلقات لنظريّة ما بعد الكولونيالية :

تقوم نظريّة ما بعد الكولونيالية على خطابٍ مفاده المعرفة في علاقاتها بالقوّة الترابطيّة التي دعا إليها ميشال فوكو، والتي يجمع فيها بين ثنائيّة المعرفة والسلطة التي أساس القوّة في المجتمع المستعمَر. أي بمعنى أنّ هذا الأخير غير ديمقراطي، وبربري، ومتوحش وغير متمدّنٍ على خلاف المستعمِر الذي يتظاهر على أساس أنّه ديمقراطيٌّ وحضاريٌّ ومتمدّن. هذه الثنائيّة المفاهيميّة في طرح شرعيّة الاحتلال من شرعنة البقاء هو الذي أحدث دينامية الاستعمار مع مرور الوقت في ظل غياب الآليات والوسائل خاصة القانونية والعسكرية والمؤسساتية التي كان لا بد من توافرها من أجل الحدِّ من خطورة هذا المسلسل الدامي . لكن الحديث على الكولونيالية هنا ليس بمحاكمة التاريخ أو بالبكاء على أطلاله بقدر معرفة منطلقاته وتحدياته، التي

تبلورت عن الماضي، وبات يدفع بها الحاضر وتحد من آثار المستقبل المنظور.

فالإشكال المطروح، هو في كيفيّة تواجد الاستعمار الجديد في فضاءٍ ليس بفضائه، بعدما تغلغل في ثقافةٍ ليست بثقافته على أساس تبرير تواجده، والقاضي بنشر قيم المدنيّة في العالم بهدف تبرير وجوده الاستعماري؛ إلاّ أنّ هذا الطرح جاء لكي يعمّق الفارق بين عالمين هما: العالم الغربي والعالم الشرقي؛ أو بمعنى آخر العالم المتقدّم والعالم المتخلّف. إلاّ أنّ هناك جملةً من المرتكزات لنظريّة ما بعد الكولونيالية والتي تقوم على المكوّنات الآتية(1):

1. فهم ثنائية الشرق والغرب.

ص: 323


1- جميل حمداوي، نظرية ما بعد الاستعمار ، شبكة الألوكة ، 2012 في www.aluka.net.

2. مواجهة التغريب.

3. تفكيك الخطاب الاستعماري.

4. الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية.

5. علاقة الأنا بالآخر .

6. الدعوة إلى علم الاستغراب.

7. المقامة المادية والثقافية.

8. النقد الذاتي.

9. غربة المنفى.

10. التعددية الثقافية.

3.حول نظريّة ما بعد الكولونيالية

لقد تفاجأت المجتمعات المستعمَرة بذلك الإرث المتراكم لديها عشيّة إحرازها على الاستقلال الوطني لكي تدخل إمّا في تبعيّةٍ للدول المستعمِرة أو تواصل عمليّة التحرر والبناء ما يجعلها قويّة. إلا أنّ جلّ المجتمعات التي أحرزت على استقلالها كانت متخلفة وفقيرة في الكثير من المجالات؛ إلا أنّ إيديولوجيّة التحرّر بات ينقصها شيء من قوام الذات ما يرفع عنها التحدّي الكثير بحكم أنّ معركة الأمس ضدّ الأجنبي الاستعماري انتهت في الساحة الميدانية لكي تدخل في عهدٍ جديدٍ، وفي میدانٍ خاص، أو ربمّا في ميادين أخرى يصعب الحسم فيها أو تخّطيها بسهولة.

لذا فالقوّة الاستعماريّة قديماً والصناعيّة حديثاً باتت تناور في هذا الإطار بحكم أنّ

ص: 324

المعركة فاسحة وغير محدودةٍ لأنّها تتطلب آليات وميكانيزمات أكثر بكثيرٍ

من تلك التي استخدمت في حروب التحرير. واقعاً يفرض نفسه: الإيديولوجية الوطنية ضد الاستعمار إذ كانت كشرطٍ ضروريٍّ لتشكيل الوحدة - قاذفة حتميّة لمواجهة الهيمنة الاستعماريّة - اتّضح بأنّها مختلّة في قيادة المجتمعات إلى ما بعد فترة الاستقلال باتجاه حالة التحرر؛ إمّا صوب إلحاح الإمبرياليّة الغربيّة، أو صوب تناقضاتها الداخليّة»(1).

وقد يعود بنا الحديث عن الوطنية وحدودها التي انفجرت ربما في المدن عن طريق المستعمِر الذي ربطها بالاحتلال العسكري ؛ أي بمعنى بروز القوة تظهر من خلال العمليات العسكرية التي يجسدها ميدان المعركة ومن خلالها يتمّ الانتماء إلى الوطن أكثر بكثير، وبمزيدٍ من الحماس والدافعيّة والجاهزيّة لقتال الأعداء.

هذا الطرح هو الذي نمّا الشعور الوطني في وجهته المقابلة ضدّ المحتلّين لكن هذا يبقى نسبياً لدرجة أنّه بات مرتبطاً بالشرعيّة التي فرضها الاستعمار دونما أن يتخلّص المستعمَر من هذا الاتّجاه الذي ربّما قلّل من فرص الإحاطة بالموضوع ككل باتجاه الدولة الوطنية وعلاقاتها في بناء الاقتصاد والإعداد للتنمية الفعلية في كامل أبعادها وتوجّهاتها لصالح مجتمعها الأصلي. لأن كلّ ما هو مدعاة للبحث هنا هو الحدّ من مثل هذه الإفرازات نتيجة هذا الوعي السيئ والسلبي الذي فرضه الاستعمار، دون أن يكون ثمّة تلاقٍ بين الشعوب وحوار ثقافاتها بعضها ببعض، الأمر الذي قلّص من هذا الطرح وجعله يتصدى بحكم ركام المشاكل وتحدّياتها لكي تنتقل العدوى ما بين المستعمَر والمستعمِر إلى ما بعد الاستعمار. «ولعلّه من عجائب القدر أنّ الخطاب الذي جاء لتفكيك مركزيّة الخطاب الغربي قد تربىّ في أحشائه وتطوّر بين ظهرانيه؛ ذلك أنّ نظريّة الخطاب ما بعد الكولونيالي ظهرت في المشهد الثقافي

ص: 325


1- Tamara Sivandan, Anticolonialisme, Libération nationale des nations postcoloniales in Neil Lazarus, Penser le postcolonial une introduction critique, (Paris, Amsterdam, 2006), p.109.

الجامعي للدول الانجلوفونيّة، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وارتبطت بجامعة كولومبيا، فيما ارتبطت «الأرسطيّة الجديدة» في النقد بجامعة شيكاغو، ودراسات الجندر و«الكتابة النسوية» بجامعة إنديانا، ودشّنها جامعيون من الأقليات المهاجرة من جامعات أو بلدان ما بعد الكولونيالية، وفي مقدّمة هؤلاء، الثالوث البارز: إدوارد سعيد والهنديان هومي هومي بهابها homi Bhabha ونصيرة نساء الاستعمار جياتري شاكراوفورتي سيفاك chakravorty Gayatri Speak)، وكل هؤلاء من أبناء العالم الثالث ممّن قدّموا «تجارب وشخصية وجروح (Cicatrices) كولونيالية

إلى العالم الأول (الأميركي) للتدريس بكبريات جامعاته»(1).

إنّ الحديث عن ما بعد الكولونيالية ليس حديث الماضي المرتبط بالتاريخ كون أن الظاهرة الكولونيالية ظاهرة قديمة قدم الاستعمار ذاته فحسب، بل في ربطها ببعدها المعرفي والمفاهيمي والأنطولوجي، الذي طالما تأثّر بمحتوى الإرث الاستعماري ذاته، الذي يرى في وجوده امتداداً لوجوده ولو رمزياً على عكس المجتمعات المستعمرَة التي ترى فيه عقدة نقصٍ على مستوى الفرد والجماعة والمنطقة بل الوطن الواحد بحيث في ظلّه احتلّت الأوطان، وانتهكت المحارم، وأبيدت الثقافات، واستغلّت ،الخيرات وجلبت الثروات.

إنه واقعٌ جديدٌ في انتقال هذه الحملات العسكرية - الاقتصاديّة وليس الحضارية الثقافية من الداخل إلى الخارج من أجل إحلال سيطرتها وإمساك قبضتها خارج أقاليمها الجغرافيّة المعتادة في إطار الاستكشافات الجغرافية التي كان يُنظر إليها على أساس أنها نوعٌ من الهيمنة الجديدة في الدفع بفكر التوسّع الجغرافي على شعوبٍ ومجتمعاتٍ فقدت هذا الوازع لكي تستغلّه ربّما لصالحها ضّد غيرها بحكم ما عرفته من عصر الأنوار والثورة الصناعيّة

ص: 326


1- بسمة جيدلي ، دراسات ما بعد الكولونيالية من منظور أبرز أقطابها ، الجزائر : المركز الجامعي تمنغراست ، معهد الآداب واللغات ، العدد التاسع ، مايو / أيار ، 2016 ، ص238.

هذه المقومات والأبعاد هي من صنيع الحضارة والثقافة الغربيتين ما جعلهما يصوغان مجالاً للقوة للتحرك في نطاق المجال الحيوي باعتبار أنّ الظاهرة الاستعمارية هي من وليد هذه الآليات والميكانيزمات التي رمت بظلالها على الذات المستعمرَة سواءً أتعلّق الأمر بداخلها أو بخارجها أو كلاهما معاً. أضف إلى ذلك بأنّ هناك ظروف وملابسات كانت تخضع لها هذه المناطق والأقاليم المستعمَرة، والتي كانت «مهيأة» لاستقطاب هذه الظاهرة بالقوّة؛ إن لم تكن قابلة لها «القابليّة للاستعمار» بحسب مالك بن نبي، بالرغم من أنّها فُرضت عليها بقّوة السّلاح والدّمار والخراب لكنّها لم تتحاشها لكي تتفادها منذ الوهلة الأولى.

بيد أنّ التاريخ الاستعماري هو ما تأثّر به الآخر المستعمَر أكثر من المستعمِر ذاته، بحيث كانت فيه له الكلمة الأولى، حيث منشأ العنف والاضطهاد والاستغلال ضرب أمثلة خياليّة بل قياسيّة قد تعود باسم الذاكرة والماضي وكتابة التاريخ للمستعمَر كأحد حقوقه التي بموجبها عرّف الاستعمار، خاصةً في حديثه عن خطاب ما بعد الكولونيالية.

إنّ ما بعد الكولونياليّة تتطلب لوازم وجهود جبّارة في الاستعانة بها في تحليل وفهم ما مدى قدرة المخيال السوسيو- سياسي في مطارحاته وإشكالياته عند الحديث عن الوعي والوعي الجاد بعيداً عن المزيف منه لفهم أولى مقاصد وتوجهات الذات المستقلة في ظل ما بعد الكولونيالية. وما يأتي فعلاً من التحرر والانعتاق من ملابسات الماضي / الأجنبي وتداعياته على الذات والفكر والهوية لتخليصها من قبضة الوعي الكولونيالي ذاته وبشيء من المصداقية والجاهزية والعمالياتية في رصد لمعارك البناء والتنمية على أسس جادة وجديدة..

وبالتالي يمكن القول بأنّ المقاربة ما بعد الكولونيالية ما زال ينقصها التعميم حضورها كظاهرة قابلة ليس للنقد فحسب، بل في إعادة طرحها مجدداً وفق

العلاقة الثنائية / الجدلية بين المستعمَر والمستعمِر من خلال صراعهما في الماضي

ص: 327

وتعاونيهما في الحاضر ، وشراكتهما في المستقبل بالنسبة للدول، بحيث لا يمكن في هذه الحالة البقاء على عتبة الاتهامات المتبادلة دون تخطّي عقد الماضي وثغرات الاستعمار وسياساته الاستدماريّة، شأننا شأن ما فعلته اليابان مع الولايات المتحدة، والذي لم يقف عند أحداث هيروشيما ونقازاكي، بل خاض معارك اقتصاديّةٍ جادّةٍ، أصبح بموجبها يحتلّ القيادة التكنولوجيّة في العالم، وما الولايات المتّحدة إلا حليف استراتيجي بامتياز.

فالعملية جد معقدة لدرجة أنّ التوقف على الاستعمار أولاً، ثم ما بعد الاستعمار ثانياً يعني الحديث عن أسباب الضعف في الحالة الأولى (الاستعمار)، وشروط البحث عن القوة في الحالة الثانية (ما بعد الاستعمار). إن الصدمة الأولى تهدف إلى انصهار الجغرافيا وتلاقح الثقافات وتمازج المجتمعات بالعنف والاستغلال والاضطهاد. وفي هذا نعطي مثالاً حياً مفاده أنّ وجود الجالية الجزائريّة كجنودٍ في المهجر إبّان الحرب العالميّة الأولى على أساس تجنيدهم بالقوة أحياناً، وبالوعود الكاذبة أحياناً أخرى، وذلك نسبة للوجود الفرنسي في الجزائر فضلاً عن مشاركته في الحرب العالمية الأولى وعلى ترابها كان لحزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج أثراً كبيراً في جمع الجموع المهاجرة عن طريق التوعية والتحسيس بهدف الالتفاف حول قضية الأم قبل نقلها إلى التراب الجزائري حيث عامل المعارضة وحرية التعبير والتنقل كان مكفولاً من طرف القانون الفرنسي أكثر بكثير من ما كان عليه الحال في المستعمَرة ومن هنا لعب حزب الشعب الجزائري PPA دوراً رائداً في تثوير الجماهير بالمطالبة بالاستقلال الوطني مباشرة - كأولى الخلايا السياسية - من خلال قولةِ زعيمهٍ المشهورة مصالي الحاج على أنّ تراب الجزائر لا يُباع ولا يُشترى» رداً على زعيم جمعيّة العلماء المسلمين عبد الحميد بن باديس في إحدى اللقاءات الجماهيرية.

أمّا الصدمة الثانية (ما بعد الكولونيالية) فهي تعبّر عن النظر في هذا المنحى عن

ص: 328

طريق التفكيك للخطاب الذي تتبناه في طروحاتها ومواقفها تجاه القضيّة الأصليّة المتمثلة في الاستعمار، والتي ما فتئت تطرح بمثابة عائقٍ ضدّ التنمية في ترسّبات الوعي الذي انبثق عنه إعادة لهذا الاستعمار من الزاوية المعكوسة من حيث القيم والمبادئ والأطر التي تحمي الذات المستعمَرة قديماً وغير المستعمرَة حديثاً.«لهذه الأسباب، وأسباب أخرى، تجادل ما بعد الاستعمارية في صحّة الأفكار والعموميات المبتذلة التي تظهر اليوم رسمياً في الخطابات الأكاديمية والخطابات العامّة على أنّها «معرفة خبيرة» عن التوسّعات الاستعماريّة السابقة. وتتضمّن هذه الأفكار والعموميّات المبتذلة أفكاراً عن تأصيل العمالة والملكيّة والمؤسسات والقدرات في العرِق، وفي الثقافة، وفي البيئة؛ الأمر الذي كان في ما مضى بمنزلة تبريرات للإمبريالية وتوزيعها للقيم على الآخرين. وتجادل ما بعد الاستعمارية أيضاً في الافتراضات التي وضعها العقلانيون والمنظرون النقديون، والتي تقترح أنّ الأساليب الغربيّة، ولا سيما العقلانيّة والإنسانيّة، تصلح سياقاً لنقد الإمبرياليّة والاستعماريّة، وأنّها بذلك تقدّم الطريق لراحة الآخرين وخلاصهم. وهذا الغرور ممزوج بتعنّتٍ في الاعتقاد بأنّ الغرب لديه مسؤوليّة حصريّة في رسم مسار تاريخ البشريّة»(1).

و من هذا المنطلق، من الصعب إيجاد صيغة متّفقٍ عليها وبإجماع كلّ الأطراف التي بإمكانها أن تضبط بين المفهومان من خلال ما أخذه الطرح الأول بحسب بيئته الداخليّة، وظروفها المحاطة بها آنذاك في علاقاتها الثنائية بين المستعمَر / المستعمِر (الاستعمار) فضلاً عن حالة المستعمَر بمفرده عند الحديث عن ما بعد الكولونياليّة بحكم أنّه في وضعٍ متأخّرٍ جداً، قياساً بمستعمِر الأمس وحالته اليوم كونه متقدما اقتصاديًّا ومتطوراً تكنولوجيًّا وأرض هجرة ومنبر حقوق الإنسان... والذي أصبح لحدًّ ما مثالاً ل-- نموذج ناجح -.

ص: 329


1- تیم بان ، بيليا كوركي وستيف سميث، نظريات العلاقات الدولية التوسع والتنوع ، ترجمة ديما الخضر، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ) ، ص 369 .

ولعل وضع الاستعمار وما بعد الاستعمار كثيراً ما يدلّنا على فهم الماضي وتداعياته في المستقبل المنظور عبر المنظورات والنظريات والمقاربات على اختلاف أنواعها وأشكالها ما يضبط تلك الرهانات والأبعاد في كنه هذه التحولات والتغيرات من الإمساك بالأرض والإنسان وحريّته وهويّته وثقافته عن قرب إلى التعامل معه عن بعد في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والصناعة والأمن والتجارة... كدول ومجتمعات جديدة لها علاقة وطيدة بدول الأمس كإمبراطوريات ومماليك.

4. البعد الجيوسياسي لما بعد الكولونيالية:

إذا كانت تشكل ما بعد الكولونيالية أحد مراحل الاستعمار في العلاقات بالأهالي، عن طريق ما خاضته من سياساتٍ استدماريّةٍ خارج ،وطنها وما بات يقف حجرة عثرة ضد شعوب المناطق المستعمَرة آنذاك. فإن ربطها بواقعٍ جديدٍ يعدّ من أبرز المظاهر الذي يطغى عليها خطاب ما بعد الكولونيالية نسبةً لماضيها من جهة، وما تحمله الكلمة من أثقالٍ تجمع في ثناياها الأمس واليوم والغد من جهة أخرى.

و من هذا المنظور جاءت المقاربات متداخلة في طبيعة النظر لمثل هذه السياسات قديماً وحديثاً ضد الداخل وعلاقاته بالخارج. ولعلّ تصفية الاستعمار التي تقوم عليها ما بعد الكولونيالية تسترسل في تقصّي مدلول الخطاب في تحليل معالمه وأبعاده، رموزه وألغازه بما صادفه الخطاب الوطني ومنه انطلق في تأسيس كينونته البنائيّة ضدّه ولصالحه.

وعليه ارتبطت ما بعد الكولونيالية بالمجال «الجيوسياسي» كونه أحد معاقله بامتياز في كل من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة نتيجة ما خلفه، وما ينوي القيام به، عن طريق التعامل بموجبه وفق الإرث الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي نجم عنه عبر التاريخ.

ص: 330

إلا أنّ اعتماد الطرح الجيو سياسي من قبل الأخصائيين والخبراء في هذا المجال يعني التوقّف على جميع الخلافات والصراعات التي عرفتها جملة من الأقاليم، سواءً أتعلّق الأمر بالمجال الحيوي داخل المدن في الدولة الواحدة أو خارجها، بحكم أنّ بها صراعات أدّت بها إلى قيادة الحملات الاستعماريّة، والتي كانت وما تزال تفرز بعض التداعيات على المستوى المتوسّط والبعيد المدى فاستعمار فرنسا الجزائر مثلاً 14 جوان 1830 على رأس 37 ألف جندي يتقدّمهم 675 فيلق عسكري عن طريق البحر باتجاه سيدي فرج كنتيجة لطبيعة الحكم السائد في فرنسا بقيادة شارل العاشر بنقل العدوى خارج حدود فرنسا، نتيجة المضايقات والفوضى العارمة التي كانت تعرفها باريس، بدءً من بلاط الحكم لكي تكون الجزائر أحد مسارحها الأولى بامتياز(1). وعليه باتت تحمل هذه الظواهر الاستعماريّة والعمليات الاستيطانيّة أبعاداً جيو سياسية. «ولحظة ما بعد الكولونيالية هي التي التي أفصحت عن أنّ الاستعمار لم يكن فقط عبارة عن أقاليم ما وراء البحار تابعة للمتربول وعلاقة المركز بالأطراف، بل كان الاستعمار يعني أيضاً الاستعمار القاري (الممتد براً من العنصر المحتلّ نحو عناصر مختلفة تقع على الامتداد الجغرافي نفسه مثل روسيا التي امتدبت على حساب إثنياتٍ وقومياتٍ وشعوبٍ أخرى. كذلك الإمبراطوريّة السوفيتيّة التي ضمّت أراضي وشعوباً على الامتداد الجغرافي ذاته (لم تكن من وراء البحار)... إلى أن انتهت العلاقة إلى «استقلال» الجمهوريات، أي الكيانات السياسيّة التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي، لا بل صارت روسيا ذاتها دولة مستقلة في العام 1991 ، وانفرطت من ثمّ عرى «الوحدة» الشيوعيّة بين الاتحاد السوفيتي ومجموعة دول أوروبا الشرقيّة (المجموعة الشرقيّة) بعد انهيار جدار برلين وتداعياته المعروفة»(2).

ص: 331


1- H.Miloud Ameur, la politique coloniale et ses répercussions sur la formation de l'État algérien (1830- 1988). Thèse de doctorat soutenue en 2008 (non publiée). (Paris XII département de droit et de sciences politiques).
2- نور الدين ثنيو ، مسألة ما بعد الكولونيالية : تحليل جيو سياسي، المجلة العربية للعلوم السياسية، (بيروت مركز دراسات الوحدة العربية ، العدد 32 ، خريف (2011)، ص .164

ولعلّ من بين وجوه التلاقي والتقاطع هو ما أحدثته الصدمة الاستعماريّة في علاقاتها بالجهات والأقاليم المستعمرَة التي توّلدت عبرها ظاهرة الهجرة، التي ترعرعت كثيراً في مناطق تواجدها في الغرب بحسب طبيعة الاستعمار ذاته. فالاستعمار الانجليزي ذهب إلى المناطق البعيدة جغرافياً في آسيا ((الهند وأندونسيا والشرق الأوسط...) بحثاً عن مصادر الثروة اقتصادياً، بينما فرنسا ركّزت على شمال أفريقيا باتجاه أفريقيا تحديداً كامتداد لإمبراطوريتها الذاتانيّة. هذا ما جاء على لسان دي ألكسي توكفيل - كمنظّرٍ في الفكر السياسي - إلى الجنرالات الفرنسيّة بعد إخماد ثورة الأمير عبد القادر، خاصة عندما زار ضاحية متيجة في أعالي العاصمة عام 1841 مرتين بعدما أوصى هؤلاء بأن الجزائر في يدهم وأنّه لا مناصّ من فقدانها وأنّه منها يتمّ توسيع رقعة نفوذ فرنسا في القارة السمراء على أنّ حدودها تشمل أو تزيد هذه الأوطان(1).

إلا أنّ هذا الحضور( المستعمِر) والغياب (المستعمَر) في البلدان الحديثة والمتطورة والتي كانت استعماريّة في ما مضى، والتي باتت منتقدةً بشدةٍ على أنّ معرفة الغرب أو الدول المستقبلة لليد العاملة عن طريق تلك الهجرات آنذاك كجنودٍ أولاً لرد الخطر النازي بالنسبة لفرنسا التي لا تعترف بجرائمها في حقّ الشعب الجزائري بمقتضى قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي الموافق لتاريخ 23 شباط / فبراير 2005.

إنّ خطوط تلاقي الجنوب بالشمال عن طريق موجات الاستعمار سابقاً والهجرات المتتالية والوافدة من الأوّل إلى الثّاني، باتت تطرح أسئلة جوهرية ومصيرية وعميقة التوجه من جهة، ومن الهجرة المنتظمة قديماً وحديثاً إلى الهجرة غير الشرعية حالياً من جهة أخرى . ومن هجرة اليد العاملة إلى هجرة العقول والإطارات وهي قضايا ومسائل باتت تطرح نفسها وبإلحاح شديد في علاقات الدول بعضها ببعض، فضلاً عن مصير الأفراد والجماعات في ما بينها ، حيث تنامي الفقر والجوع والأميّة والخوف والإرهاب ... إلخ بعدما أصبحت تشكّل هذه المظاهر أحد التحدّيات الأمنيّة في الربع الأوّل من القرن الواحد والعشرين في العالم.

ص: 332


1- Alexie de Tocqueville, Sur l'Algérie. (Paris, Flammarion, 2003).

إنّ التحولات الجيوسياسية في علاقة الغرب (فرنسا) مع المجتمعات المستعمرَة قديماً باتت تطرح إشكاليات كبيرة حتى في فرنسا نفسها حول تنامي ظاهرة اليمين المتطرف والتي أصبحت تستدل كأحد الواجهات لدى كل من اليمين واليمين المتطرف من ناحية ، واليسار وأقصى اليسار من ناحية أخرى في حملاتهم الانتخابية وكأحد العقبات في الوصول إلى سدة الحكم بالإليزيه.

أ. ما بعد الكولونالية : بين الطرح والمعالجة

يتّسع مجال ما بعد الكولونيالية كمعطى أوّلي في تفسير تنقّل هؤلاء الأشخاص المهاجرين الأوائل وأبنائهم من ذوي الجيل الثالث والرابع، لا لكونهم من أصولٍ أجنبيّةٍ عربيّةٍ كانت أو أفريقية فحسب، بل كونهم يحملون الجنسيّة الفرنسيّة؛ أي بمعنى أنّهم من ذوي الصفات المواطنة التي يحملها الفرنسي الأصلي. لكن هناك مفارقة كبيرة جداً حيث إنّ فرنسا كثيراً ما حجبت الرؤية على تاريخها الاستعماري بالرغم من حداثة الخطاب السياسي الذي تتغنّى به النخبة السياسِية الحاكمة في البلاد.

وبالرغم من الإرث المشترك المتواجد والمتشعّب في النسيج الاجتماعي، وعبر الذاكرة الجماعيّة بحكم الاستعمار، فإنّ الاستقلال الوطني وتبعاته ألزمت المهاجرين سواءً أكانوا جنوداً أو عمّالاً ضرورة البقاء على الأراضي الفرنسيّة بحكم الجغرافيا والثقافة والتاريخ المشترك هذا ما ربط هؤلاء الشباب المتصاعد والمنحدر من أصول عربيّة وإسلاميّة بأن يبني «هويّة وطنيّة» له وبإمكانهم الإسهام في البناء الوطني لا كأجانب بل كوطنيين لهم من الحقوق والواجبات ما يضمن لهم البقاء عبر الانتخاب والعمل ودفع الضريبة... كغيرهم من الفرنسيين الأصليين.

لكن هناك خطاب مزدوج بحيث إن الجانب الرسمي منه للرأي العام ، أما الجانب الآخر هو الواقع المتردّي الذي تعرفه طبقة المهاجرين بحيث إن نظرة الغربي عامة

ص: 333

والفرنسي خاصة تختلف بكثير إلى هؤلاء الوافدين خارج الهوية الغربية ذات الأصول اليهودية - المسيحية. وبالتالي فهم في الواقع ينتمون إلى «الدرجة الثانية» من أهالي الجمهورية.

وهذا إن دلَّ على شی ءٍ فإنّما يدلّ على أن السكّان الأصليين في | القديمة لفرنسا كانوا يخضعون إلى نظامٍ خاصٍ، سواءً من الزاوية القانونيّة أو الإداريّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة... إلخ. ومع مرور الزّمن حاولت فرنسا وما تزال الإبقاء على هذا العرف حتى على الفرنسيين المنحدرين من المستعمرات السابقة ومن الأهمية بمكان أن الإرث الاستعماري الذي قام على التهجير والتنكيل والإبادة الجماعيّة والاستدمار لم يتعامل على تخليص المقاربة التاريخيّة من هذه الورطة التي لم تتخلّص منها ما بعد الكولونيالية ذاتها خاصةً في الحالة الجزائريّة. «وهكذا، فلحظة ما بعد الكولوناليّة في مرحلة إفرازات وتداعيات جاءت أعقاب انزياح الاستعمار عن الأقاليم التي كان يحتلّها سابقاً، وصارت تعنيها الدولة المستعمِرة اليوم، مثل الدولة الفرنسيّة كواقعةٍ وظاهرةٍ من بقايا ورواسب قديمة وجديدة في الوقت ذاته، بحيث صارت الرؤية ما بعد الكولونيالية تفصح، إذا لم نقل تفضح أيضاً، عن مدى تخلف «الشعوب» أو «الأهالي»، كما كان يصفهم الاستعمار، ليس بسبب الاستعمار فحسب، بل بسبب تقادم الجمود والتكلّس الثقافي والحضاري الوافد من تاريخها الخاص أيضاً. وإلا كيف نفسر مثلاً عدم قدرة المهاجرين، على اختلاف أجناسهم، على التكيّف والتماشي مع الواقع الحضاري والمدني في البلدان المتروبولية إلا بعد ظهور جيلين الثالث والرابع من أبناء المهاجرين؟»(1).

يبقى الإشكال مطروحاً في سلامته من عدمه، معالجته من إتلافه على أساس أن المهاجرين بقوا ضحية الأوطان الأصلية والبلدان المتروبولية دون أن يساهموا بقسط أوفر لا في الأولى بحكم لجوئهم إليها ليس ببعيد في ظلّ الاختلافات العرقيّة

ص: 334


1- نور الدين ثنيو، المرجع السابق، ص 165.

والمذهبيّة والدينيّة والفكريّة كحال الجالية العربيّة المتواجدة في الولايات المتحدة الأميركية مقارنة بالجالية اليهودية وانخراط هذه الأخيرة في اللوبي الصهيوني - وما مدى تأثيرات هذا الأخير على سلطة اتخاذ القرار الأميركي - وبأقل إسهام في الثانية باعتبار أنها تشكّل قطيعة تاريخيّة وسياسيّة واجتماعيّة بينها وبين الوطن الأصلي الذي تنتمي إليه - بحكم الانتماء ليس لا - .

ومن هنا بات لزاماً على السلطات الأوروبيّة استغلال هذا المعطى الأوّلي الذي يحمل غربة الذات في علاقتها بالآخر؛ إن لم يكن ضحية تعاطي الجغرافيا والتاريخ والثقافة. يتبدى ذلك واضحاً في الحالة الفرنسيّة على خلاف الحالة الإنجليزيّة حيث الانتماء إلى الأصل له مبرراته من أجل خلق فضاء لإبراز مكونات المجتمع الإنجليزي بهدف توسيع نطاق السياسة المعتمدة حكومياً من أجل جلب الإطارات والكفاءات والكوادر أكثر بكثير مقارنة بفرنسا التي لا تحبّذ ذلك إلا في القطاعات التي بها شحّ في الإطار الأصلي على أن جلّ الإطارات الأجنبيّة تعمل في خدمات وأشغال ليست من تكوينها . هل هي نظرة استعمارية جديدة حتى لا توظّف هذه الإطارات والكوادر لصالح بلدانها الأصليّة بحكم نقلها للتجارب والخبرات أم غلق باب الحاجة بها هو الأولى مقابل تكوين إطاراتها الخاصّة بها في الدّفع بها إلى مناصب الشغل ومراتب الحكم؟

هذا ما يجرّنا بالقول بأنّه وفي الكثير من الحالات ما تم التقليل من شأن هؤلاء الوافدين الجدد في مظاهر نجاحهم مقارنة بالجيل الثاني والثالث والرابع حيث تسيطر عليه وفي الكثير من الحالات مظاهر سيئة في معظمها كالسرقة والحجز والنصب والقتل والاغتصاب والجريمة والإرهاب وغيره، الأمر الذي ردّ عليه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بقوله بأن فرنسا تحتاج إلى هجرة نوعيّة وليس إلى هجرة كميّة.

ولعلّ القطاع الناجح والداعم في هذا السياق في فرنسا تحديداً هو الرياضة بهدف

ص: 335

صنع ألوان لها من داخل المجتمع لدعم ما فشل فيه أبناء الوطن الأصلي وبدعم من أبناء المهاجرين بدءً من زين الدين زيدان الذي ينحدر من أصول جزائرية مهاجرة. إلاّ أنّ هذا القطاع لم يهدأ كونه كان محل جدل بين الأحزاب الفرنسية خاصة المتطرفة منها، وخاصة التي هي بقيادة جون ماري لوبان على أنّ بالمنتخب الفرنسي عرباً وسوداً وأقلّ من الفرنسيين الأصليين.

ومن هذا المنطلق في اعتقادنا جاءت ما بعد الكولونيالية - كحالة عارضة - تمسّ ليس الأهالي الأصليين فحسب، بل حتى الوجود الغربي ذاته الذي اعتقد أنّه يصنع من هؤلاء المهاجرين وأبناؤهم نمطاً ناجحاً ولو نسبياً له وليس لصالحهم ووطنهم الأصلي بحكم ضآلة الوطنية الأم لديهم وضعفها في تحقيق ما فشلت فيه الأوطان الأصلية، الأمر الذي جعلها تعيش بين الحنين لها عبر الانتماء الديني والحضور الهوياتي في اللغة المكتسبة والجنسية والدفاع عنها في السلوك والانتخاب والمواطنة ... لكن ليس أمام الأوروبي الأصل بل أمام المهاجر الجديد وشعوب المناطق الأصليّة. علماً بأنّ السود الأميركان بدورهم لا يقبلون السود الأتون من أفريقيا تجزم إحدى الدراسات السياسية الأميركيّة.

إنّه الالتفاف حول هذا التوجّه في عمقه السوسيولوجي وطرحه الثقافي وجفائه السياسي على أبناء المهاجرين في فرنسا بعد إنشاء بيان «أهالي الجمهورية» في تسعينيات القرن الماضي أو ما قبلها بما يعرف ب- «مسيرة الأهالي» في ثمانينيات القرن الماضي كردٍّ للاحتلال المعاكس ومن أراضيه نفسها والذي يحاول طرح ومعالجة علاقة كل من المستعمِر السابق (الكولونيالية) واللاحق (ما بعد الكولونيالية). ولئن عدنا إلى بيان «أهالي الجمهورية» هذا على خلفية أن ما جاء به فعلاً باعتبار أنه يحاول أن يفنّد مقولة إن «جمهورية المساواة مجرد أسطورة، وعلى الدولة والمجتمع أن يعمدا معاً إلى إجراء نقدٍ راديكاليٍّ لماضيهم - حاضرهم الكولونيالي»(1).

ص: 336


1- Yves Lacoste, la Question post-coloniale : Une analyse géopolitique, (Paris, Fayard), p.55.

وإذا كان من وجود العلمانيّة بسبب قانون عام 1905 حيث دولة القانون تخضع إلى مبادئ والتزامات سياديّةٍ تقوم على الشخصيّة الفرنسيّة بحكم انصهار كل من الديانة اليهوديّة والمسيحيّة في بوتقةٍ واحدةٍ ألا وهي الجمهوريّة، فإنّ الإسلام كديانةٍ ثانيةٍ في فرنسا وجديد العهد بها بات يُطرح كمعادلة جديدة في حضور «الأهالي» غیر الأصليين على التراب الفرنسي حتى لا أقول تحدياً مباشراً فحسب، بل استمرار للتواجد الاستعماري خارج وطنه الأصلي الأم. إنها فعلاً معادلة اجتماعية وسياسية وثقافية في الحياة الفرنسية حيث المحدد الإثني والعرقي واللغوي والهوياتي بات من أولى المعايير في إرساء معالم الشخصية الفرنسية حيث أسماء مثل محمد وعلي والزبير وغيرهم هم الذين تمت مراقبتهم أول الأمر والذين اعتلوا مناصب عليا إلى جانب كل من فرنسوا وجون بيار وديفيد في المدارس والوكالات والجامعات والوزارات .

إنّ الحضور ذو الأصل الأجنبي في النسيج الاجتماعي الفرنسي تحديداً، وفي مضايقة من نوعها في المجالات الحيوية الأخرى، عدا الإنتاج الأدبي (نشير إلى كل من الأديبين الشهيرين هما : أنيسة جبّار والطاهر بن جلون) فضلاً عن النجاح الرياضي كافيين لطرق الأبواب الأخرى في الدفع بالطاقات والكوادر الأخرى إلى التألّق في صنع القرار أم في انتظار أجيال أخرى وبمزيد من التفوق في ميادين وقطاعات أخرى لها ؟

ب. ما بعد الكولونيالية : المقاربة التاريخيّة

من مفارقة القول هو ربط الاستعمار بالاستقلال من جهة، وبما بعد الكولونيالية بما بعد الوطنية من جهة أخرى . في الحالة الأولى هو ما دأب الاستعمار عليه بشجب الرأي العام عن فضائحه من جرائم ضد البشريّة كأحداث 8 مايو / أيار 1945 بالشرق الجزائري (قالمة سطيف، خراطة) والتي ذهب ضحيتها بحسب الروايات التاريخية والتصريحات الرسميّة حوالي 45 ألف ضحيّة ، بينما من المنظور الاستعماري لا تتعدى

ص: 337

العشرات من الأهالي الفرنسيين، وبعض الجنود العسكريين، بعدما خرج الأهالي في هبةٍ تظاهريّةٍ وبدعم من حزب الشعب الجزائري PPA للتظاهر بهدف الضغط على الإدارة الفرنسيّة بعد خيبة الأمل نتيجة الوعود الكاذبة التي منيت بها الإدارة الفرنسيّة الطبقة السياسيّة فى الجزائر، بالإضافة إلى حملات الاعتقال والتعذيب حتى على الفرنسيين أنفسهم من جنودٍ، وصحفيين على رأسهم موريس أودان، وهنري علاق من الشيوعيين ممن دانوا التعذيب.

لقد كتب موريس أدوان كتاباً صغيراً بعنوان جريمة دولة Un crime d'État في 1957 متحدثاً فيه عن أنواع التعذيب والتنكيل التي مُورست في حقّ الجنود السجناء الجزائريين لجبهة التحرير والذي مات تحت التعذيب هو الآخر. هذا إلى جانب حملات التهجير والاختطاف والاغتصاب، ونهب الأموال، وهتك الأعراض، وجلب الثروات، وحرق أكبر مكتبة جزائرية في العاصمة على مشارف الاستقلال من قبل المنظمة السرية OAS

أمّا بخصوص الثانية فإن الهجرات سواءً أكانت شرعيّةً أو غير شرعيّةٍ باتجاه أوروبا عامّة وفرنسا خاصّة أصبحت هي الدليل الرمزي لتوجه الشباب الإطار أو العاطل سواءً في إطار الهجرة الشرعيّة أو غير الشرعيّة في قوارب الموت للالتحاق بفردوس الدورادو Eldorado. وبالرغم من فشل هذه العملية أكثر من نجاحها فإن هؤلاء الشباب الوافد من البلدان المستعمَرة إلى المجتمعات المستعمِرة سابقاً كون أن حظوظه في الوصول إلى العيش الكريم والعمل وتحسين وضعيته الماديّة عامّة والإداريّة والقانونيّة خاصّة .. تبقى رهن الحظ بحسب الظروف المواتية لا لأنّهم كثيرون هؤلاء الشباب فحسب، بل كثرة الحلم لدى الباقون ومنهم من ذهب غذاءً للأسماك في قاع البحار والعصابات الإجرامية عبر البرّ.

لكن السؤال المثار للجدل في هذا السياق هو ما مصير الاستقلال؟ وما هي

ص: 338

دلالاته الرمزيّة وأبعاده الأخلاقيّة والأدبيّة في الجيل الأوّل الثائر والجيل الثّاني المستفيد من هذا الإرث المتراكم ؟ إنّ حروب التحرير كانت نهاية الاستعمار، لكنّها رُبطت بالاستقلال عن طريق ما صنعه الوطنيون على اختلاف أفكارهم ومشاربهم على مدار التاريخ، بهدف التخلّص من عقدة الماضي من ناحية، وبناء صرح جدید بدءً من قدرة هذا الشباب كيد عاملة وإطارات علميّة تثمن ما مدى أهلية الاستقلال في عملية النهضة والتنمية والتغيير في بناء القوة الداخلية... إلخ.

لا لشيء ء وإنما كون الاستعمار يعدّ ظاهرةً معقدةً لدرجة أنها فُرضت بقّوة السلاح والنار على أصحابها، بدليل أنّ التخلّص منها بقي صعب المنال لدرجة أنّ ما دفعه الجيل الأوّل من ثمن باهظ في حق الاستقلال لم يحترمه الجيل الثاني وفضل اللحاق بأعداء الأمس بدقّ أبواب المستعمِر بحثاً عن قوت يومه وشروط حياته. «لأنّ الاستعمار ظاهرة تاريخية معقدة لا تفصح عن نفسها في لحظة واحدة ، ولا لدى جيل واحد، مثل الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي استغلّه جيل الحركة الوطنيّة على حساب الأجيال اللاحقة التي فقدت البوصلة الهادية إلى حقيقة الاستقلال في مدلولاته الحديثة والمعاصرة تأسياً بالجيل الأوّل من الجزائريين المهاجرين في مطلع القرن العشرين الذين اشتغلوا في المناجم والمركبات الصناعيّة، والحقول الزراعيّة وفي الجنديّة أيضاً، أي دائماً في الأرض التي تصلح لتراكم التنمية الاقتصادية، على خلاف الأرض الجزائرية التي صارت بعد الاستقلال تمتصّ أموال المحروقات على نحوٍ سلبيٍّ، دونما تراكم لأي رصيدٍ تنمويٍّ يحفظ قاعدة الدولة الوطنية»(1). كما تعدّ هذه الظاهرة والمتمثلة في هجرة هؤلاء الوافدين إلى الخارج بمثابة قطيعة مع الوطن الأصلي ونجاح للسياسة الاستعمارية التي ما فتئت تتعمق بهؤلاء المهاجرين على اختلاف أعمارهم من الوطن الأصلي إلى غيره في وطن «النجدة»: عمليّة سياسيّة أم سياسة العولمة؟

ص: 339


1- 11. نور الدين ثنيو، المرجع السابق، ص 167.

هذا إلى جانب فشل الإطار السياسي العام الذي أضعف البنى الاجتماعية والأطر الاقتصادية مما أثقل كاهل العمل السياسي ذاته والذي انتقل في الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر من الثورات الشعبية إلى الاستعمار الاقتصادي الفاحش إلى حرب التحرير .(1954-1962). بيد أن الواجهة الأساسية أصبحت ظروفها الخاصة ضد الاستعمار، بحيث بات يقلّص من جهته الحياة السياسيّة التي لا تنتعش إلا بالمعارضة في المقابل إنّها المعارضة في زمن الحزب الواحد، حيث القيادات الثورية أمثال حسين آيت أحمد، ومحمد بوضياف وبن بلة وغيرهم والذي هربوا من السجن ومنهم من قام بانقلابٍ عسكريٍّ باسم «التصحيح الثوري» مثل هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة في 19 أيلول / جوان 1965 في ظرف وجيز لا يتعدى ثلاثة سنوات من الحكم بعد الحصول على الاستقلال الوطني.

أو بكلام آخر أن ظاهرة الاستعمار التي عبرّ عنها مالك بن نبي ب_ «القابليّة للاستعمار» Colonisability من خلال ما أحدثته من ثقوبٍ وانتكاساتٍ على مستوى الوعي / الفكر للنهوض بالذات المستعمرَة مما كانت عليه إلى ما ينبغي أن تكون عليه. ومن هذا المنطلق، الأكيد بأن العمل جادّ في هذا وما زال يتطلّب جهوداً جبارة للتخلّص من عقد الماضي إلى بناء الواقع باتجاه مستقبل زاهر.

إن جذور المعارضة الجزائرية الجديدة مثلما كان عليه حزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج الذي نشأ وترعرع في أوساط المهاجرين الجزائريين بعدما دخل الجندية أول الأمر في صفوف القوات المسلحة الفرنسية بات يدعو إلى الاستقلال بعدما اتصل مع حفيد الأمير عبد القادر الأمير خالد في باريس والداعية السوري شكيب أرسلان في المؤتمر الإسلامي في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي في بروكسل بلجيكا.

وعليه وبالرغم من المطالبة بالاستقلال الوطني على الأراضي الفرنسية؛ إلا أن

ص: 340

مصالي الحاج أبو الوطنية الجزائرية ظل يتلقى أنواع الرفض والقمع والسجن في حياته النضالية؛ أي بمعنى مضايقة الحياة السياسية حتى لا تنعم بالاستقرار والبناء والنضج ، الأمر الذي أثّر سلباً على مدركات العمل السياسي حتى في الجزائر بإعطائه شيئًا من الشفافيّة والقوّة والمردوديّة.

هذا ما لم يُسلّم به الاستعمار من أرشيف الثورة الجزائريّة لكي يعلن اعترافه بمجازره وتجاوزاته في حقّ الشعب الجزائري للأجيال اللاّحقة دون اعتراف بعض الأطراف خاصة اليمينيّة واليمينيّة المتطرّفة منها بنكران مسؤولية الاستعمار في جرائمها ضد البشريّة . إلاّ أنّ ما خلّفه الاستعمار من وحدة المستعمَرين ضدّه بالالتفاف حول نداء الوطن وفكرة الجهاد والاستشهاد في سبيل الله وغيرها صوّب الدولة الوطنية التي ما فتئت أن لا يصل بها الحال إلى تطوير الآليات السياسية للنهوض بذلك، لكن بعيداً عن ما يعوق مسارها كعودة القبيلة والعشيرة والمناطقية والطريقة والعائلة والحزب القائد... في ظلّ فشل الدولة الوطنية وما الثورات العربية إلا أحد سماتها الأولى في ما صنعته دون أن تصنع غيره في خريطة البناء والتنمية.. والتي تبقى ملاذ تعاقب الأجيال، وحلم يراود المخيال السياسي والطموح الاجتماعي والانتقال الاقتصادي أرض الواقع بحيث باتت ما بعد الكولونيالية كظاهرةٍ موجّهةٍ في عمق ما بعد الحداثة إلى تفكيكيّة عن طريق سحب الفرد من مكانه لفسح المجال لغيره بالرغم من صراعه معه عبر التاريخ وفي وطنه إلى مكان الأجنبي حيث تواجده.

خاتمة:

تعدّ ما بعد الكولونياليّة من أحد الحقول الجديدة والتي لها تأثير بليغ المستوى على الدول وفي ما بين المجتمعات خاصة تلك التي عرفت الاستعمار بالدرجة الأولى دون أن تتخلص منه نهائياً بسبب هذا الإرث المتراكم والمترسّب عندها في ذاكرتها الجماعيّة. إلا أنّ ربط الاستعمار بما بعد الاستعمار هو محكّ الإشكاليّة

ص: 341

التي انقاد بموجبها الأوّل في احتلال الإنسان والأرض والثقافة... بينما الثاني حاول استغلال ما قامت عليه سياساته قديماً للاستفادة منها أكثر استفادة بتصويبها لصالحه أكثر من غيره.

إنه صراع جديد لكنه من نوع مختلف، قد نتّفق حوله أو نختلف لكنه حريّ بنا الاضطلاع به والاهتمام ما دام يشكّل عائقاً جديداً ذي تحدٍّ كبير المستوى في علاقة المستعمِر بالمستعمَر قديماً وحديثاً وما نتج عنهما وما سيتفرع عنها من علاقات متوائمة أم متناقضة في البحث عن المصالح والغايات والأهداف التي تنجرّ من ورائها السياسات المختلفة والمتضاربة من دولة إلى أخرى.

ومن هنا يتعيّن التوقّف على مسارات ما بعد الكولونياليّة لكن بعد معرفة أوليّة للكولونياليّة ذاتها إذا أردنا تعميق المعرفة بالماضي خاصة بالتوقّف عند أخطاء التاريخ وعقد الواقع وتحديات المستقبل كون أن العمل شاقّ وجادّ وضروريّ في فهمه وطرحه ومعالجته بما يتماشى وأساليب معاينة حقائقه وأبعاده ورهاناته.

ص: 342

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح ،والمفهوم أم بالاختبارات التاريخية فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًا بالالتباس والغموض تعريفاته وشروحه وتأويلاته تكثرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد

الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين :

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات

مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المركز المالي للدراسات الاستر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 343

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.