نحن و أزمنة الإستعمار المجلد 2

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الثالث

نحن وأزمنة الاستعمار

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018 م

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر - الطبعة الأولى - بيروت [لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439 ه-. = 2018.

4 مجلد : ايضاحیات ؛ 24 سم.

يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

ISBN: 978-9922-604-11-4

1. ما بعد الاستعمارية .2 الاستعمار . 3. الامبريالية 4 العراق -- الاستعمار الف. حيدر محمود، محرر ومقدم. ب. العنوان.

JV51 .N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز : لماذا هذه السلسلة؟ ...6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي ...9

محمود حیدر... 9

الفصل الخامس : تجارب استعمارية ...19

«علماء الحوزة العلمية وصناعة التاريخ» ...20

:الدكتور محمد أمين الكوراني ...20

أدباء الحوزة العلمية في النجف الأشرفو مقارعة الاستعمار ...49

حسين الساعدي ...49

موقف علماء الحوزة العلمية من القضايا العربية والإسلامية ...77

حيدر عبد الهادي علي العذاري ...77

أهمية العراق الإستراتيجية للسياسة البريطانية ...99

صباح كريم رياح الفتلاوي ...99

الاستعمار البريطاني للعراق ...131

صلاح خلف مشّاي...131

الإدارة الاستعمارية البريطانية في العراق (1914-1920م ) ...150

سيف عدنان ارحيم القيسي ...150

ص: 4

الهيمنة الأميركية في العراق ...175

عامر عبد زيد الوائلي ...175

آثار الاستعمار على الأديان ...199

أحمد فاوسي أوغونبادو ...199

تاريخ الاستعمار في البلاد الإسلامية ...217

عبد الله الفاتح ...217

مناهضة الاستعمار الإنجليزي في السودان ...241

أحمد عبدالله محمد - حاتم الصديق محمد ...241

أشكال الجهاد والمقاومة إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب ...273

أنس صنهاجي...273

المجتمع المغربي في النص الرحلي الجاسوسي الفرنسي خلال القرن التاسع عشر ...313

محمد بوعزة ...313

الاستيطان الأوروبي في المغرب ...339

جلال زين العابدين ...339

مقاومة الكوفة للاستعمار البريطاني في ثورة العشرين ...354

محمد عبد الرحمن عريف ...354

الإيديولوجية الصهيونية والغرب ...394

أشرف بدر...394

ص: 5

مقدمة المركز: لماذا هذه السلسلة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن، مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولىّ وانقضى.. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة .. ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس صحیح أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت لكن هذا الانتداب يعود

ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

* * *

ص: 6

فی مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها ، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماضٍ يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّة مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمِر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعةٍ معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلّب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة

للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرقيّ والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب، وتنمية وعيه الثقافي ولا سيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما ندمّ الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط.

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى:«يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» (الحشر - 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين.

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه-

ص: 8

مدخل تاسیس:نقد مباني العقل الإمبريالي

محمود حیدر(1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أم بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً مفهوم «ما بعد الاستعمار»كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظّاً بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضادّاً للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةٍ تمكّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَين متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة ال«الما بعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه، أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءٍ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «المابعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه «الما بعديات» ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، أو «نهاية التاريخ»،«ما«ما بعد الميتافيزيقا»،«ما بعد الإيديولوجيا».. وأخيراً وليس آخراً ما «بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمة تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثٍ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياقٍ تنظيريٍّ بدأت مقدماته

مع نقد مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقدياً بعصرالتنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُّبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

* * *

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضية: إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما :

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

اما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعِ آخرَ من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو - إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً تستدعي تحليلاً

ص: 11

من نوع جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضِية «الما بعدية» لا مبرر لها».

* * *

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطّر عليها.

من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري.

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً : نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة:"اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها" وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن

طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعيٍ. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المُهَيْمَنُ عليه غافلاً المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال".. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهطٌ من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بينةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً ،تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية : لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطِّرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً المزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتِ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أميَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول

العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنيّ:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدٍ لحل مشكلات العالم تتجرد الذات الإنسانية من كلّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر «عقلانياً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة «الحروب العادلة» التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم الى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقِّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه. المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَين، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقياً وروحيا)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائقَ واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً : إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلات تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسببٍ من عقلانيتها البتراء حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييبٍ لأحكام العقل وقوانينه، كأنمَّا انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

* * *

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ. زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوى متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية. المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هی التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازِمه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فضّةٍ تسوّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من «الميديا البصرية والسمعية» - أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء.

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدّ «الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات ثبت بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل الخامس:تجارب استعمارية

اشارة

ص: 19

«علماء الحوزة العلمية وصناعة التاريخ »:فتاوى الجهاد تُسقط التآمر على العباد والبلاد

اشارة

محمد امین الکورانی(1).

تعتبر الحوزة العلمية وريثة الرسالة المحمدية والقاعدة المتكاملة وحلقة وصل الإمامة بين ما اجتهد ونطق من فكر وعلوم أهل البيت وما ظهر عن إرساله للتطبيق لكافة المسلمين دون استثناء، نظراً لامتدادها العقائدي في مسار الرسالة الإسلامية المحمدية بدءاً من رسولنا الكريمصلی الله علیه و آله و سلم إلى الأئمة علیهم السلام ثم نواب الإمام حتى زمن مراجعنا العظام.

وقد اختار الشيخ الطوسي مدينة النجف الأشرف داراً لهجرته عندما خرج من بغداد إثر حوادث السلاجقة في تتبع الشيعة فيها بالتنكيل والتقتيل. مضافاً إلى مجاورته لمرقد الإمام علي أمير المؤمنين علیه السلام، ولأن الشيخ الطوسي كان مرجع الشيعة في بغداد بعد وفاة أستاذه الشريف المرتضى فحين اضطر إلى هذه الهجرة القسريّة، انتقل

ص: 20


1- أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإسلامي - لبنان. المؤتمر الدولي حول التجديد في صناعة التاريخ وكتابته - جمهورية العراق كربلاء المقدسة - العتبة العباسية المقدسة - (15-16) اذار 2018 م 1439 ه- 21

مركز المرجعية معه، وحلَّ أرض النجف المقدسة طلاّبه ومريدو فضله، والتفّ حوله مَن فيها من الفقهاء والطلاب، ووفد إليها آخرون من حواليها وأطرافها والبقاع القريبة منها والنائية عنها.

وغدت الجامعة الكبرى للشيعة الإمامية وعاصمة المذهب الجعفري، يتخرج منها المئات من المجتهدين والعلماء في كل جيل طيلة الألف عام، ومرت بظروف مختلفة قوة وضعفاً لكنها حافظت على محوريتها في الحركة الفقهية الحوزوية والجهادية عند الشيعة. غير أن الحوزة العلمية في النجف لم تتوقف العطاء حتى عن مع بزوغ نجم الحلة واستمرت في رفد الميدان العلمي عند الشيعة بالعديد من العلماء المرموقين.

من خلال قراءتنا للتاريخ السياسي للعراق والمنطقة، لا نجد أيَّة شائبة في أن المؤسسة الدينية الشيعية وعلى رأسها المرجعية هي الأساس في تحريك السواكن داخل المناخ السياسي والاجتماعي، بالشكل الذي يحقق الإعتدال والإصلاح في المجتمع، وهذا ما نجده من خلال تتبعنا للدور المتميز لهذه المؤسسة منذ نهايات الحكم العثماني، وبدايات الاحتلال الأجنبي وصولاً إلى دورها في رسم أحداث ثورة العشرين الكبرى كحلقة تتبعها حلقات أخر، وإلى يومنا هذا في إصدار فتوى صادعة وتاريخية لمواجهة الفكر التكفيري وقوات الظلام التي هاجمت مدينة الموصل

العراقية وما تبعها من تجاوزات على الأهالي الآمنين في مختلف مناطق العراق.

كانت السلطة العثمانية في بغداد تحسب للمرجعية في النجف الأشرف ألف حساب كونها كانت تتمتع بكيان ديني وسياسي واسع يحظى بتأييد رموز إسلامية عالمية معروفة، ولذلك انتهجت حكومة الأتراك سياسة التّغاضي والتجاهل بشكل عام اتجاه السياسة العامة للسلطة الدينية في النجف الأشرف(1).

ص: 21


1- النفيسي، عبدالله- دور الشيعة السياسي في تطور العراق -الحديث - ترجمة دار النهار - بيروت - 1973- الكتاب هو رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة كمبردج 1972. ( الصفحات الأولى من الكتاب - بتصرف).

وقد عاش الشيعة في العراق في العصر العثماني حالة من الاستقلال النّسبي، ناشئ عن ارتباطهم بالمرجعية الدينية، بما تشكّله من استقطاب ثقافي وروحي وإدارة مالية مستقلّة، تؤدّي وظائفها على خلفية مفهوم صلب للشرعية. ومن جهة أخرى كان تواجد القبائل العربية الشيعيّة على طول نهر الفرات ضمن تنظيمات عشائرية تقليديّة، سنداً للقيادة الدينية بقوّة السلاح. ومن هنا كانت المدن المقدّسة وما يحيط بها من قبائل ترفض الخضوع للحكم العثماني.. ولا شك أنّ الصّراع التاريخي على العراق بين العثمانيين والدولة الصّفويّة ثم بينهم وبين الدولة القاجارية في إيران، قد ركّز هذا الواقع الخاص للعراق. ولما بدأت المرجعية مسيرتها الجهادية في أوائل القرن التاسع عشر ضد الاحتلال العثماني للعراق، كانت قد ورثت إرثاً ثقيلاً من التخلف والإستبداد . هذا الإرث دفع المرجعية لقيادة مشروع حركة التغيير المعاصرة بهدف اللّحاق بركب الحضارة الإنسانية المتوثبة وقد تحدد شعار الحركة الإسلامية والوطنية في محاربة المحتل ونيل الاستقلال. ولا شك أن هذه المقاومة ذات النهج لحسيني الأصيل كان لها الحق المشروع للدفاع عن الدين والوطن والنفس وأنها انطلقت ضد النهج القاسي للمحتل الهادف إلى تفكيك المجتمع العراقي طائفياً وعنصرياً وتغريبه عن لغته وتراثه ليتسنى له السيطرة الكاملة على مقدراته وثرواته بعد التحطيم الكامل لكيانه العتيد ولا ينسى العراقيون مجزرة كربلاء في زمن الوالي العثماني المملوكي سليمان باشاعام 1802 عندما هجم الوهابيون على المدينة بصورة فجائية وقتلوا الناس في الشوارع وفي داخل البيوت وخربوا قبة الإمام الحسين الله وسرقوا خزائن المرقد ومجوهراتها ولم يتركوا المدينة إلا بعد أن عاثوا فيها الفساد والدمار(1).

وفي عام 1808 شهدت الزيارة الأربعينية في كربلاء مظاهرات جماهيرية صاخبة لعموم سكان العراق يتقدمها رجال الدين الأجلاء قدموا من الحوزة العلمية في

ص: 22


1- الساعدي، كريم محمد حاتم الغزوات الوهابية على الأضرحة المقدسة في كربلاء والنجف خلال القرن التاسع عشر الميلادي - موقع موسسة النور للثقافة و الأعلام - 2014/10/29.

النجف الأشرف احتجاجاً على السلطات العثمانية لتقاعسها في صد الغزوات الوهابية المتكررة على مدن العراق كما هزت هذه الاعتداءات حماس الغيارى من أبناء الشعب العراقي وأججت مشاعر الإستياء لأقطاب المرجعية الدينية الذين شدّوا العزم وأرسلوا أعداداً كبيرةً من الشباب خريجي المدارس الدينية إلى المناطق الوسطى والجنوبية من العراق بهدف تذكير أفراد العشائر بمعاناة الشعب من جور الاحتلال

وإثارة روح الحماس الوطني في نفوسهم وتحريضهم على التمرد والعصيان(1).

من جهة أخرى، كان تواجد القبائل العربية الشيعية على طول نهر الفرات ضمن تنظيمات عشائرية تقليدية، سنداً للقيادة الدينية بقوة السّلاح. ومن هنا كانت المدن المقدّسة وما يحيط بها من قبائل ترفض الخضوع للحكم العثماني... ولا شك أن الصراع التاريخي على العراق بين العثمانيين والدّولة الصّفويّة ثم بينهم وبين الدولة القاجارية في إيران.. قد ركّز هذا الواقع للعراق... وإزاء التّغيرات التي حدثت في الحرب العالمية الأولى، اكتسحت المنطقة تلك الغزوة الاستعمارية العسكرية، حيث راح الإنكليز يخططون لتكوين أمبراطورية بريطانية تمتد من الهند إلى مصر إلى ممتلكاتهم في شرق أفريقيا. وكان العراق ضمن هذا المخطط الإنكليزي(2).

إن الوعي السياسي الجديد في العراق أخذ يتجسد عبر مواقف سياسية جريئة تتواتر على رؤية واضحة للموقف المتخذ وأصبحت محاربة الاستبداد مبدأ متكاملّ لدى علماء الدين في الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف الأمر الذي دفعهم للتعاون مع حزب (الاتحاد والترقي) التركي ضد استبداد السلطان عبد الحميد الثاني واستمر التعاون بينهم لمدة ثلاث سنوات (انهارت وانتهت مع بروز سياسة التتريك (الطورانية) التي شرع الاتحاديون بانتهاجها)(3).

ص: 23


1- الكركولي - دراسات في عشائر العراق- 1995.
2- كاظم عباس محمد - ثورة العشرين سلسلة نحو حضارة إسلامية - عدد 18/ 1984 ص: 120.
3- ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية) - مؤسسة الأعراف للنشر - ط-1-1999 ص: 63.

إن البدايات الأولى في الوعي السياسي لهذه المؤسسة ظهر في نهاية القرن التاسع عشر، إذ كان هناك سبب أساسي لهذا النمو متمثلا بالفتوى التي أصدرها السيد محمد حسن الشيرازي في مدينة سامراء لتحريم امتياز التبغ في إيران عام (1891) والتي جاءت لتمثل تيار عكسي ضد النفوذ الأجنبي في إيران، إذ مثّل هذا التصدي الدور الأساس في التخلص من الأزمة وتحقيق النصر ضد المطامح البريطانية (1).

وبناءً على هذه السياسات البريطانية الهادفة إلى الإنقضاض على العراق وانتزاعه من السيطرة العثمانية، حاول الإنكليز مراراً التواصل مع الشيعة في العراق باعتبارهم أقليّة الوسط العثماني السنّي بغية استغلال ضعفهم والظلم الواقع عليهم ، لاستمالتهم أحد

ناحية مشروعهم الاستعماري وإحدى هذه المحاولات كانت عام 1900، ففي أزقّة سامرّاء أصيب الإمام محمد حسن الشيرازي بحجر طائش - وهو صاحب فتوى تحريم التبغ - وعندما علم القنصل البريطاني ببغداد بالخبر توجه إلى سامرّاء لمقابلة الإمام الشيرازي فرفض مقابلته، وعندما أبلغه القنصل بأنه مستعد للاقتصاص ممن أساء للإمام ولو أدّى ذلك إلى إرسال إنذار للحكومة العثمانية، فرفض عرضه قائلاً: إنّه لا يعتقد بوجود عداء بينه وبين أهل سامرّاء، وإنّ ماحدث كان نتيجة الصدفة ولا يرى حاجة لدسّ أنف بريطانيا فى هذا الأمر الذي لايعنيها، لأنّه والحكومة العثمانية على دين واحد وقِبلة واحدة وقرآن واحد، ولم يسمح الإمام الشيرازي لأزمة الشيعة في ظل الدّولة العثمانية أن تتحول إلى خنجر بريطاني يشرخ الوحدة(2). ولاحقاً وقف الشيعة إلى جانب العثمانيين في خندق واحد للدفاع عن البلاد عندما بدأ الاجتياح الإنكليزي خلال الحرب العالمية الأولى. لقد أثبت التاريخ ومنذ قرن من الزمن على الأقل وفي تاريخ العراق الحديث أنّ من أهم أولويات المرجعية الدينية، الدفاع عن الوطن، وهو تاريخ حافل بهذه المسؤوليات ومن خلال قراءتنا للتاريخ السياسي للعراق

ص: 24


1- صاغية، حازم - صراع السلام والبترول في إيران بيروت دار الطليعة - ط1-1978- ص: 85-86.
2- الرهيمي، عبد الحليم - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق - ص: 128 عن علي البازركان - الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية : ط 4 - بغداد 1954

والمنطقة، لا تطالعنا أية شائبة في أنّ المؤسسة الدينية الشيعيّة وعلى رأسها المرجعيّة، كانت الأساس دائما في تحريك السّواكن داخل المناخ السّياسي والاجتماعي بهدف الإصلاح في المجتمع منذ بدايات العهد العثماني إلى بدايات الاحتلال الأجنبي مروراً برسم أحداث ثورة العشرين كحلقة أولى تبعتها حلقات أُخر، إلى يومنا هذا في إصدار فتوى صادعة وتاريخيّة لمواجهة الفكر التكفيري وقوّات الظلام التي عبثت بسوريا والعراق وأقطارٍ أخرى.

وتقول المصادر التاريخية أنّه : لمّا بلغ أهل النجف نبأ توجه الوهابيين الغزاة عام 1802 نحو مدينتهم أعدّ الزعيم الديني الشيخ جعفر كاشف الغطاء وبمساعدة العلماء قوّة جماهيرية هيّأ لها السّلاح وما يحتاجون من عدّة الدّفاع عن الأرض، ودُفع الغزاة عن النجف وتمكن الشيخ جعفر وثلة من العلماء من دفع ودحر القوّة الغازية(1). وهاهم المراجع العظام يصدرون فتوى الدّفاع عن ليبيا عندما غزاها الإيطاليون عام 1911 وفيها يشحذون الهمم ويستنفرون المسلمين في كل البقاع وخصوصا مسلمي العراق للدفاع والجهاد وردع المعتدي نقتطف منها مايلي: «... عليكم أيها المحامون والمدافعون عن الدين والحافظون لبيضة الإسلام ألا يخفى عليكم أن الجهاد لدفع هجوم الكفار على بلاد الإسلام وثغوره مما قام إجماع المسلمين وضرورة الدين على وجوبه.... هذه كفرة إيطاليا قد هجموا على طرابلس الغرب التي هي من أعظم الممالك الإسلامية وأهمها فخرّبوا عامرها وأبادوا أبنيتها وقتلوا رجالها ونسائها وأطفالها مالكم تبلغكم دعوة الإسلام فلا تجيبون، وتوافيكم صرخة المسلمين فلا تغيثون، أتنتظرون أن يزحف الكفار إلى بيت الله الحرام، وحرم النبي والأئمة عليهم السلام ويمحوا الديانة الإسلامية عن شرق الأرض وغربها وتكونوا معشر المسلمين أذل من قوم سبأ .... فبادروا إلى ما افترضه الله عليكم من الجهاد في سبيله، واتفقوا ولا تفرقوا، وأجمعوا كلمتكم وابذلوا أموالكم وخذوا حذركم وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم لئلا يفوت وقت الدفاع وأنتم

ص: 25


1- محبوبة، جعفر - ماضي النجف وحاضرها - دار الأضواء ط-2 - 1986 -ج-1 ص: 326

غافلون وينقضي زمن الجهاد وأنتم متثاقلون) وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبه- عذاب أليم)». وقد وقّعها المراجع العظام: محمد كاظم الخراساني وعبدالله المازندراني وشيخ الشريعة الأصفهاني وعلي رفيش ومحمد حسين القمشة وخدام الشريعة: الغراء حسن بن المرحوم صاحب الجواهر والسيد علي التبريزي ومصطفى الحسيني الكاشاني ومحمد آل الشيخ صاحب الجواهر ومحمد جواد الشيخ مشكور وجعفر ابن المرحوم الشيخ عبد الحسن ومحمد سعيد الحبوبي(1).

.. ومع بداية القرن العشرين بدأ علماء الشيعة يشعرون مدى حاجتهم إلى العديد من التصورات والأفكار التي تؤمّن تعاملهم مع مشاكل العصر التي بدأت تواجه المجتمعات الإسلامية وخاصة دول الجوار وحفزت النقاشات والسجالات حول طبيعة هذه الأحداث والتعامل معها(2).

وقد مثّل اندحار العثمانيين في العراق ودخول قوات الحلفاء تجدد المشروع الشيعي بقصد استثمار هذه المرحلة وبناء دولة مستقلة وعلى هذا فقد كان الوعي الشيعي حاضراً في صناعة الواقع العراقي وصياغة مستقلة حتى تجلى بظهور العديد من الندوات(3).

كما إن موقف المؤسسة الدينية لم يكن مقتصراً على تحريك الأحداث السياسية العراقية الداخلية أبان تلك المدة بل تعدى إلى المساندة الإقليمية في الأحداث التي تتعرض لها المنطقة بأسرها خصوصاً في عام 1911 عندما اجتاحت القوات الروسية شمال إيران إثر الخلاف المائي الحاصل بينهما وقيام القوات البريطانية باحتلال

ص: 26


1- (العدد /22/ مجلة كلية التربية الساسية للعلوم التربوية واإلنسانية / جامعة بابل آب/2015م، ص: 527 (محمد سعید الطريحي، المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي : الغزو الإيطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911 - مجلة الموسم - العدد السادس - بيروت - 1990 - ص: 381 - 382 مجلة العلم النجفيه - المجلد السابع - الجزء السادس - تشرين الثاني - 1911- ص : 249.
2- عودة، جهاد- تقدير الأزمة الإستراتيجية في العالم العربي - الناشر: المكتب العربي للمعارف - ص: 147.
3- المصدر السابق ص : 148

جنوب إيران حين برّرت تلك الدولتان بأن الهجوم على إيران جاء استناداً على اتفاقية عام 1907(1)كما وعمدت القوات الروسية إلى قتل علماء الدين في تبريز وإشاعة الرعب في صفوف الناس(2)، وعندها أعلن علماء الدين في العراق وخاصةً في النجف الأشرف الجهاد ضد القوات الروسية الغازية ومنهم الأخوند الخرساني الذي أوعز بنصب الخيام خارج مدينة النجف لتعبئة الجماهير استعدادا لمواصلة الجهاد ضد الغزاة.

وعندما قصفت القوات الروسية مرقد الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام اجتمع علماء الدين في مدينة الكاظمية وهم السيد مهدي الحيدري والشيخ مهدي الخالصي والسيد إسماعيل الصدر والسيد عبد الله المازندراني والشيخ فتح الله الأصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني والسيد علي الداماد والسيد مصطفى الكاشاني والسيد محمد تقي الشيرازي المقيم في سامراء (3).

وبرزت هذه المواقف للمؤسسة الدينية وخاصةً المواقف السياسية على أنها لم تأت من فراغ بل كانت بداياتها متمثلة بنمو الحركة الإسلامية في المدن الشيعية المقدسة، وكيف شكلت هذه المدن الاتجاه الفكري السياسي والرئيس خلال المدة الممتدة بين أوائل القرن العشرين وحتى الاحتلال الإنكليزي للعراق عام 1914 حيث تمثل ذلك النمو بعدد من المظاهر السياسية والفكرية للتيارات التي تولدت عنها وكانت النجف وكربلاء وعلى الرغم من أهمية المدن الشيعية الأخرى قد شكلتا المركز القيادي الأساسي للحركة الإسلامية ومظاهرها الفكرية وتياراتها.

وفي هذا الوقت قام كبار علماء المسلمين الشيعة بإصدار فتوى تدعو إلى الجهاد ومقاومة الاحتلال الإنكليزي وتأييد العثمانيين في الحرب على الرغم من أنهم كانوا

ص: 27


1- الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية) - مصدر سابق ص: 47.
2- الوردي، علي - لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث - قم - انتشارات الشريف الرضي - 1413ه-ط 1- ج 4 - ص: 57 - 59
3- الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية)، المصدر السابق، ص: 65.

على يقين بأن العثمانيين لا يمثلون الوجه الإسلامي الصحيح إلا أن شرّهم أهون عليهم من خطر الإنكليز الكفار(1)،حيث قاموا بتعبئة سكان المدن والعشائر وحثهم على الجهاد وتنظيم تطوع المجاهدين وقيادتهم إلى جبهة الحرب(2).

وعبر هذين التطورين الهامين دخلت المؤسسة الدينية حقبة جديدة وهامة من تطورها السياسي والفكري الذي امتد نحو عقد من الزمن كانت المواجهة المسلحة هي السمة البارزة لهذه الحقبة. وقد سجل المؤرخون مواقف علماء الشيعة، والمراجع العظام في الدفاع عن الدولة العثمانية رغم قناعتهم بطائفيتها الحمقاء، وعنجهيتها القومية، لكنهم أمام الغازي الأجنبي أعلنوا الجهاد المقدس، وتوجّهت الجموع الزاحفة إلى البصرة للدفاع عن الوطن، وشاركت القيادة المرجعية في المسيرة، وكان طليعتهم العلماء الأعلام من النجف.. وكان لهم موقف مشرّف في الدفاع عن الوطن(3).

كانت بريطانيا تدرك مسبقاً أنها ستواجه مشكلة كبيرة في العراق، العراق، هي موقف علماء الشيعة من احتلال العراق حيث إنها كانت تدرك أنّ علماء الشيعة لا يمكن أن يتقبلوا الاحتلال البريطاني، وذلك من خلال المواقف التي تبنّوها إزاء الاحتلال الاستعماري للأقاليم الإسلامية، وتصدّيهم لأي محاولة استعماريّة تستهدف كيان المسلمين السياسي(4).

كان للفتوى التي أصدرها السيد الشيرازي في 1919/1/23 الأثر العميق في نفوس الأوساط الشيعية وأوساط المعارضين للاحتلال الأجنبي وقد تطابقت مع عدد من الآيات القرآنية التي نصت على أن يطيع المسلمون أولي الأمر منهم، وتعدُّ هذه

ص: 28


1- الرهيمي، عبد الحليم - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق 1900 - 1924) - ط 1 (الدار العالمية للطباعة والنشر - بيروت، 1985) - ص: 163.
2- المصدر نفسه ص: 164.
3- لمحات من تاريخ العراق - مصدر سابق-ج-4 ص: 147-148
4- الجبوري كامل سلمان - النجف الأشرف وحركة الجهاد مؤسسة العارف للمطبوعات - بيروت- ط1--2002 ص: 8

الفتوى هي الأولى خلال السيطرة البريطانية الفعلية على العراق حين أعطى فيها السيد الشيرازي رأياً علنياً ضد البريطانيين الأمر الذي أضفى على الحكم الوطني مباركة دينية، وكان لهذه الفتوى انعكاساً ايجابياً كبيراً في نفوس الناس، وبذلك توازن موقف العلامة الشيرازي في كربلاء مع مواقف رجال الدين في النجف (1).

وكانت أولى المواجهات المسلحة هي التي قادها واشترك فيها رجال الدين والعلماء الشيعة ضد الاحتلال والتي شكلت تجربة مهمة ومتقدّمة لمواجهتين مسلّحتين هما ثورة النجف عام 1918 وثورة العشرين عام 1920، وجدد السيد اليزدي دعوته للجهاد في خطبة ألقاها في صحن الإمام علي علیه السلام حرض فيها الناس على الدفاع عن البلاد الإسلامية وأكد وجوب ذلك حتى على الفتى العاجز بدنا(2).

لقد كانت مدينة كربلاء في مقدمة المدن العراقية التي استجابت لحركة الجهاد التي قادها العلماء الأعلام حيث إن اجتماعا كبيرا عُقد في المدينة حضره كبار رجال الدين كان في مقدمتهم السيد إسماعيل الصدر الذي سار بالحاضرين إلى صحن الإمام الحسين علیه السلام.

أما في مدينة الكاظمية فقد كان لها الموقف المشرّف بالوقفة الأصيلة في الدفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين ، إذ برز فيها مجتهدان كبيران هما السيد مهدي الحيدري والشيخ مهدي الخالصي قادا الدعوة للجهاد وأشرفا على تطوع المجاهدين حيث بادر الأول بعد احتلال الفاو إلى إرسال برقيات إلى النجف وكربلاء وسامراء عبرّ فيها عن رغبته في الاجتماع بهم ويقصد رجال الدين لبحث أمر الاحتلال فضلاً عن مساهمته الفعالة في حثّ الناس على الجهاد من خلال المنبر في الصحن الكاظمي الشريف(3).

ص: 29


1- الشريفي، أحمد باقر علوان كربلاء بين الحربين العالميتين - رسالة ماجستير - معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا - بغداد - 2004 ص: 48.
2- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث - المصدر السابق- ج 4 ص 128-131
3- عبد الدراجي عبد الرزاق جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق - بغداد (1978)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة بغداد ص4240

أما الشيخ مهدي الخالصي فقد أصدر حكماً شرعياً أوجب فيه على المسلمين (صرف جميع أموالهم في الجهاد، حتى تزول غائلة الكفر، ومن امتنع عن بذله وجب أخذه كرها)(1). هذا فضلاً عن أنه أصدر رسالة عنوانها: (السيف البتار في جهاد الكفار) تعرض فيها إلى مسألة الجهاد في الإسلام وما يترتب على الأمة الإسلامية للقيام بشروطه وقواعده وأركانه(2).

وقد لقت فتاوى العلماء بكل العراق استجابة واضحة وكبيرة من قبل عامة الناس حيث انضم العديد من الأهالي إلى صفوف المجاهدين، وهذا الأمر يدلّل على عمق الترابط بين الناس ومقلّديهم داخل المؤسسة الدينية التي اعتبرت الموجه الأول للأحداث والقائد الأوحد للعمليات الجهادية. هذا فضلاً عن أن الصرخة الجهادية لم تنطلق من كربلاء أو النجف وحدهما باعتبارهما مركزاً للمؤسسة الدينية بل إن الصرخة كانت بوقت واحد في جميع مدن العراق ذات النفَس الشيعي وإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنه يدل على عمق الترابط الروحي والعقائدي بين رجال الدين والعلماء وطلبتهم خاصةً وأنهم أكثر الناس إدراكا لعظم المسألة التي تحيط بأفكارها وطموحاتها الاستعمارية في جسم العراق وأهله.

ولم تكن مدينة سامراء بعيدة هي الأخرى عن الروح الجهادية التي اكتنفت مدن العراق من النجف وكربلاء والكاظمية إذ كان لها دورها المشارك والفعال والذي جاء على لسان السيد محمد تقي الشيرازي الذي أوجب محاربة الكفار الإنكليز وأرسل نيابة عنه نجله محمد رضا إلى الكاظمية للانضمام إلى المجاهدين.

وعلى أي حال نجد أن مشاركة رجال الدين والعلماء تمثل وجهين الأول المشاركة

المباشرة في أغلب المعارك التي شنها المجاهدون ضد الجيش البريطاني.

ص: 30


1- المصدر نفسه ص 41.
2- تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 - 1924) - مصدر سابق- ص 167.

أما الوجه الثاني تمثل بالوجه الإرشادي والتوجيهي لزعماء العشائر الذين يقودون المجاهدين في عشائرهم (1).

ولبيان الدور الأساس لرجال الدين والمؤسسة الدينية إبان ثورة النجف لابد من الرجوع قليلا للأسباب والدواعي التي أوجبت على المؤسسة الدينية اعتناق ذلك الدور، إذ شكلت النجف ومنذ بداية الاحتلال الأجنبي للعراق مركزاً أساسياً لحركة الجهاد، حيث أقام زعماؤها المحليون إدارة ذاتية لتسيير شؤون المدينة

وهي إدارة كانت أشبه بحكومة مؤقتة وخلال تلك السنتين الأخيرتين التي تمتعت بهما المدينة بوضع مستقل(2).

قام السيد الشيرازي بتعزيز القيادة الدينية في معارضة المشاريع الإنكليزية ومقاومة الاحتلال وحل بعض المشاكل التي تواجهها حركة المقاومة الإسلامية وذلك قبل أن يتخذ موقفاً حازماً وحاسماً للبدء بمواجهة شاملة ومسلحة ضد الاحتلال حتى يتمكن من تحقيق وإنجاح جميع السبل القادرة على تحقيق النجاح في الحالة الثورية كما جعل وبشكل أكبر من المؤسسة الدينية عامل جذب لجميع أنظار أبناء الشعب وتمكن من حل المسألة المهمة الخاصة بالتناحر والصراع بين العشائر عن طريق خلق التآلف والتقارب في الوجهات المختلفة بالشكل الذي يمكن من خلال ذلك الاستفادة منهم في مقاومة المحتل.

إن التحول في موازين التأثير الذي حدث كان من خلال علماء الشيعة ومؤيديهم من رؤساء العشائر في العراق. وفي الوقت نفسه، ثمة صلة لاانفكاك عنها مع العالم العربي المتّسع إلى ماوراء حدود العراق؛ جعلت هذه الصّلة ما يحدث في العراق أمراً يهم العرب إلى حد كبير، وما يحدث للأقطار العربية مصدراً لإلهام العراقيين(3).

ص: 31


1- الحسني، عبد الرزاق - الثورة العراقية الكبرى -بيروت - 1978 - ط -4 ص 55.
2- دور الشيعة السياسي في تطور العراق الحديث - مصدر سابق- ص 63 - 130.
3- ثورة - 1920- مصدر سابق دار -التنوير - ط1 بيروت 2014 - ص49.

وعلى الطرف الآخر للعراق، وبالمقابل في لبنان وسوريا، كان هناك علّامتان مجتهدان كبيران من أساطين العلم والاجتهاد خرجا من رحم الحوزات العلمية في النجف وكربلاء وغيرهما المجتهد العلامة الكبير، السيد عبد الحسين شرف الدين في جبل عامل - لبنان والمجتهد العلامة الكبير السيد محسن الأمين في سوريا. وها هو السيد شرف الدين يعلن الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي بقوله : « .. وكان استقبالنا للاحتلال الفرنسي استقبالاً صاخباً محتجا يواجهها بالرفض والمصارحة والميل عنها ميلاً لا هوادة فيه ولا لين»(1). كان السيد شرف الدين راسخ اليقين، دائب الحركة يدور مع المحتلين مدافعاً أو مطارداً وعندما أفتى بالجهاد ضدهم حكموا عليه بالإعدام وطاردوه ولم يتزحزح عن مواقفه المبدئية قيد شعرة. وكان يردّد دائماً أينما حل«الهاشمي لا تعصب سلماته ولا تقرع جنباته... فكيف يلين الهاشمي لحادث، أو يلبس لباس الخوف، حاشي حفاظ بني الحسين»(2). تزامن انفجار الثورة في جبل عامل سنة 1920 ضد الاحتلال الفرنسي مع انفجار الثورة في العراق في نفس العام ضد الإنكليز. وما أن اندلعت الثورة في جبل عامل حتى تزامن أيضاً إصدار الفتاوى في النجف الأشرف من المراجع الكبار بضرورة التصدّي للاستعمار الإنكليزي في العراق (3). ثم اندفع المستعمر الفرنسي بحقده وحكم على السيد شرف الدين بالإعدام ثم خفّفه إلى النفي وأحرق داريه ومكتبته العامرة بنفائس المخطوطات والكتب.

أما في سوريا فإن المجتهد الكبير السيد محسن الأمين العاملي قد وقف في نفس الفترة بل في نفس العام 1920 لقيادة الحركة السياسية الكبيرة في سوريا، والتي كان لها الأثر البالغ في توطيد عرى الوحدة الوطنية في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وقد استطاع من خلال ذلك أن يجسّد صورة القائد الإسلامي الذي يحمل هموم الأمة ويدافع عن قضاياها، ويعيش مضحياً من أجلها، فغدا رمزاً من رموز التحرير في

ص: 32


1- شرف الدين السيد عبد الحسين - بغية الراغبين المخطوط - ص 62.
2- من مخطوطات السيد شرف الدين، ص 5 (نسخها ونقلها ولده المرحوم السيد جعفر شرف الدين.
3- كوراني، محمد أمين (صاحب البحث)-الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل- دار الهادي بيروت - ط2 - 2005 - ص 148.

العالم الإسلامي،كما اشتهر بمواقفه الوطنية والإسلامية المشرّفة، ودفاعه عن القضايا العربية في وجه الانتدابين الإنكليزي والفرنسي(1).

وكما كافح في سبيل استقلال سوريا فإنه لم ينسَ فلسطين حين أطلق فتواه الجهادية يستصرخ الأمة : «... أيها العرب أيها المسلمون: إنّ لكم في فلسطين تراثاً، وإن لكم في كل غور وحزَن دماً عُجن به ترابها واختلط به ماؤها ونباتها، وإنّ أربعة عشر قرناً زاخراً بالمفاخر والمآثر تحدق بكم اليوم، وأمجاداً من عليا معدِ ونزار، ترفرف أرواحٌ في آفاقكم تستفز عزائمكم، وتستصرخ نجدتكم»(2). ومن فتاواه التي أصدرها في سنة 1928 كتاباً تحت عنوان: (التنزيه لأعمال الشبيه) حول الممارسات العنيفة والدموية في أيام عاشوراء يستنكر فيه تلك الممارسات، وأيده عدد العلماء من في النجف، ولكن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وقف في مواجهة قرار الحكومة العراقية بحظر الشعائر الحسينية، ودافع عنها قائلا:«إنها أعظم رموز المذهب الشيعي وإنها ضرورية لوجوده، وحذر من أن تقييدها سيؤدي إلى اختفاء التشيع كله»(3).

يبدو من خلال المطالعات للتأريخ السياسي وما تتناقله كتب المؤرخين ومقالات الباحثين من أهمية لثورة العشرين التي قادها جهابذة العلماء في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء حيث نزل إلى ميدان الجهاد معظم عشائر الجنوب، بقيادة العلماء، واستمر هذا العطاء بثورات وحركات لم يهدأ العراق معها حتى يومنا هذا.

فالدستور الإنكليزي الاستعماري لثورة 1920م وإبعاد الغالبية السكانية، لا يُبعد النجف الأشرف عن القيادة الثورية ولا يطفئ شعلتها الجهادية، وستبقى النجف قبلة المسلمين ومحط المراجع العظام والعلماء والشعب الثائر مهما جار عليها الزمن لأن حمايتها بحاميها وهو سيّد الوصيين وإمام المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فهو حامي بيته ومَن يلوذ به والله المعين.

ص: 33


1- المصلح الإسلامي السيد محسن الأمين الناشر : المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق - 1992 ص 167
2- المصدر السابق ص 170.
3- كاشف الغطاء النجفي، الشيخ محمد الحسين - الآيات البينات في قمع البدع والضلالات- دار المرتضى، بيروت - لبنان - ص 10 - 11

وحول مواقف النجف السياسية: فإن المرجع الأعلى الميرزا محمد حسن الشيرازي قاد الحركة الوطنية في إيران من مقره في سامراء - العراق، وأفتى تلك الفتوى المشهورة بتحريم استعمال التنباك.

وكذلك في بداية الحرب العالمية الأولى، رأى مجتهدو النجف الأشرف في هجوم الإنكليز على العراق تدخلاً سافراً على وطنهم، فأفتوا بالجهاد فانخرط الشعب في أثرهم بقيادة المجتهد العالم السيد محمد سعيد الحبوبي ومعه كتائب العلماء وطلاب النجف وساروا مدججين بالسلاح إلى ساحات القتال في معركة (الشعيبة) ،وغيرها ملبين نداء الجهاد ضد البريطانيين.. وقد جاء النّداء بعد فترة وجيزة من اعتداء الأتراك على بيوت شيوخ بارزين كانوا يقبعون في سجون الأتراك.. لكن هؤلاء استُبِقوا بفرض الجهاد ضد البريطانيين لكونهم قوات غير مسلمة يقاتلون ضد العثمانيين المسلمين ، وإن كانوا ظَلَمَة(1).

وبعد الاحتلال الإنكليزي للعراق وإعلان الانتداب، دعا المرجع الأعلى الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي - من مقرّه في كربلاء - الشعب العراقي لمقاومة الاحتلال والثورة على الانتداب فهب الشعب حاملاً سلاحه فكانت الثورة العراقية الكبرى التي أرغمت المحتلين الإنكليز على إعلان الحكم الوطني، وقد أكدت هذه الثورة على التلاحم الجماهيري الديني والعشائري (القبائل) مما أكّد على تفاعل قوي شدّ هذه الجبهة ضد الاستعمار وتصميم صادق على محاربة العدو مهما كانت قوته، وقد أفتى السيد الشيرازي بأن«مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية الأمن والسلم، ويجوز لهم التوسّل بالقوة الدّفاعية إذا امتنع الإنكليز عن مطاليبهم» وطلب بتشكيل حكم عربي إسلامي دستوري متحرر من الاستعمار في العراق، وأصبحت الثورة رمز البطولة الوطنية العراقية في سبيل الدفاع عن الأمة والأرض من أجل غزو أجنبي محتل (2)وتوفي الشيخ الشيرازي فقاد

ص: 34


1- ثورة 1920 - مصدر سابق - ص 161.
2- العلوي، حسن - الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990- دار الثقافة للطباعة والنشر - قم، إيران - ص 97.

الثورة خلفه الشيخ فتح الله النمازي المعروف بشيخ الشريعة، وقد كانت العشائر في العراق تقف مع صوت المرجعية، وكان هذا العامل من جملة العوامل التي جعلت ثورة العشرين تنجح في دحر الاستعمار البريطاني حيث كان لفتوى المرجع الديني الميرزا محمد تقي الشيرازي أثر كبير في نفس ابن العشيرة وشيخها حيث يعتبرها واجباً مقدساً يلتزم به ، وبهذا الترابط القوي بين الشعب والمرجع تفجرت الثورة وتألقت تقدماً وأنزلت ضرباتها على المستعمر الذي حاول بمخططاته وضع كثير من الحواجز بينهما، وبذل الأموال لشراء ضمائر بعض ذوي النفوس الضعيفة

واستدراجها إليه.

وأصبحت مدينة النجف الأشرف - حينذاك - غرفة عمليات الثورة، جهاداً ومصدراً للبطولة والفداء حتى سرت الثورة إلى جميع محافظات العراق، والجنوبية بالذات.

وللدين الدّور الأساس في قيام الثورة لأنّ بذور التشيع في فكرة التحرك الثوري مدعاة لتكون الانطلاقة شيعية وإن انضمّ إليها شخصيات سياسية ودينية غير شيعية لما فيها من أصالة عقائدية، وصدقيّة في المسيرة. ومما يدلّل على ذلك صدقية الثورة ونبل الأخلاق العالية واتباع التعاليم الإسلامية وفتاوى المراجع والعلماء، حُسْن معاملة أسرى الحرب البريطانيين بفتوى من المجتهد البارز شيخ الشّريعة إلى حرّاسهم، مبيّنا أن المعاملة الحسنة للأسرى «واجب ديني ومدني وإنساني». وقد استُخدمت هذه الفتوى لدحض خطاب آرنولد ويلسون في 30 آب 1920 إلى شيخ الشريعة(1).

كان لدور العلماء - كما أشرنا - في تعبئة الجماهير للثورة أثره الكبير في الإستجابة لهم فالشيخ مهدي الخالصي والسيد هبة الدين الشهرستاني كانا حلقة الوصل بين القيادة وبين علماء الدين في الكاظمية وجماهيرها، كما أن السيد أبو القاسم الكاشاني

ص: 35


1- ثورة 1920 - مصدر سابق - ص 190

كان حلقة الوصل بين القيادة وإيران والميرزا أحمد الخراساني كان الحلقة بين القيادة وجماهير وعشائر النجف الأشرف، والأخيران كانا حلقة الوصل مع عشائر الفرات الأوسط.

إن منهج الإمام الشيرازي في القيادة كان يعتمد على الشورى، ومن هنا فقد شكّل في البداية مجلس شورى للعلماء، كما شكّل فيما بعد وعلى أثر فتواه بجواز حمل السلاح ضد الإنكليز مجلساً لإدارة الحرب ضد القوات الإنكليزية، يتشكل من رؤساء العشائر الثائرة، ومن الوجهاء وكبار زعماء الثورة(1)، كما كان منهج الإمام الشيرازي في الثورة قد تميز بما تميزت به الحركة الثورية الإسلامية في ذلك الوقت من المبادئ

الثلاثة:

-1 النفي المطلق للاستعمار ورفض المهادنة معه.

-2- الوحدة الإسلامية.

3 الاعتماد على الفكر الإسلامي في الحركة.

كما كان الإمام الشيرازي منذ توليه الزعامة الدينية والسياسية، قد سعى عبر توجيهاته ووكلائه ورسله، إلى تهيئة الأرضية الشعبية لتفجير الثورة بوجه الإنكليز، وقد أصدر عدة فتاوى حدّد فيها واجب الشعب في قضية الاستفتاء وفي حرمة التعاون مع السلطات المحتلة. ولم يكن الإمام الشيرازي تنقصه الشجاعة في إصدار فتوى يُلزم فيها الشعب بوجوب حمل السلاح، إنما كانت حكمته تقتضي أن يجعل الفتوى كفّ مسلّط على رأس الإنكليز دون استخدامه إلاَّ في الحالات التي تُفقد فيها جميع الآمال والحلول(2). وانتشرت

ص: 36


1- كمال الدين، محمد علي (تقديم علي الخاقاني) - معلومات ومشاهدات من الثورة العراقية لسنة 1920 - ط العراق 1971 - ص 100.
2- المصدر السابق ص 284

الفتوى على نطاق واسع في كل مكان مع مبعوثين خصوصيين من علماء الدين لتحريض الجماهير على حمل السلاح ومقاومة القوات الإنكليزية بالقوة، وكان بعض العلماء والخطباء والشخصيات الدينية من أقدر الناس على تعبئة الجماهير من أمثال أبو القاسم الكاشاني والسيد صالح الحلي، والسيد محمد الصدر(1).

ويلاحظ أنّه من الأمور المعروفة أن الزعامة الدينية الشيعية في العراق والتي لعبت دوراً خطيراً في تفجير وتأجيج ثورة 1920م الوطنية، كانت تنطلق في تفكيرها السياسي من منطلق ديني إسلامي عام لا يختص بطائفة مذهبية معينة، شيعية أو سنية، ولا بفئة إثنية دون أخرى عربية أو كردية أو تركية أو غيرها.

لقد ذهب علماء الدين الشيعة العرب منهم والإيرانيون على رأس قوافل المجاهدين إلى ساحات القتال في الشعيبة وغيرها لمحاربة القوات البريطانية(2).

يقول الأستاذ عبد الحليم الرهيمي: في مدينة النجف قام عدد كبير من العلماء بأدوار مهمة في حركة الجهاد، وكان أبرزهم المجتهد محمد سعيد الحبوبي، وأن السيد الحبوبي قام بدور رئيسي في الثورة، حيث كان أول من بادر إلى قيادة مجموعات المجاهدين والتوجه بهم إلى الجبهة وقد التف حوله عدد من العلماء في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية الذين قاموا بدور فعال في تعبئة عشائر الفرات الأوسط وحتّها على الجهاد(3).

أما ما يخص موقف علماء الدين فإن من أسباب الثورة واندلاع لهبِها في نظر الكثير من الباحثين والمؤرخين هو مواقف رجال الدين ولا يخفى أن المجتهدين من علماء الشيعة الإمامية، هم مرجع جميع أبناء هذه الطائفة في تلقّي الفتاوى والأحكام

ص: 37


1- المصدر نفسه ص 287.
2- المصدر نفسه 299.
3- الرهيمي، عبد الرحيم - تاريخ الحركة الإسلامية في -العراق- بيروت الدار العالمية - 1985 ص 165.

الدينية، وهم يعتقدون أنّ علماء هم نوّاب أئمتهم فلا يخالفون لهم أمراً، ولا فتوى، ولا حكماً من الأحكام الشرعية(1).

والنجف أول مدينة عراقية فكّرت بالتخلص من الاستعمار البريطاني، بالنظر لما قد تشبّعت من روح الحرية والنزوع إلى الديمقراطية، بسبب ما كانت تتلقاه من دروس متواصلة عن فلسفة نهضة الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي علیه السلام ، وبسبب كونها مهد العلماء ومركز الروحانية، ولذا فقد اهتم بها الحاكم الملكي العام اهتماماً عظيماً (2).. ولثورة العشرين أهمية خاصة، حيث أن 130 ألف ثائر من الفلاحين والبدو وسكان المدن شهروا السلاح في وجه أقوى دولة إمبريالية في ذلك الحين، وقاتلوا قواتها المتفوقة عدداً وعدة لأكثر من خمسة أشهر بشجاعة لم يسبق لها مثيل(3).

بعد ثورة العشرين كانت مطالب مراجع الدين وزعماء الثورة تأسيس دولة عربية وحكومة عربية، لكن السياسة البريطانية حاولت أن تتلاعب بهذه الإرادة العراقية عن طريق تمرير معاهدة انتداب تُبقي العراق تحت الانتداب البريطاني... وتنبه المجتهد الأكبر الشيخ مهدي الخالصي إلى هذه اللعبة الخطيرة فأصدر فتواه الشهيرة بتحريم المشاركة في الانتخابات، وجاء فيها:«من دخل أو تداخل أو ساعد فيه فقد حاد الله ورسوله، ومن يحاد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها، ذلك الخزي العظيم». وأيد هذه الفتوى مرجعيّان دينيان من مراجع الدين في النجف الأشرف، هما: السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني، والشيخ ميرزا محمد حسين الغروي النائيني، وقد كان لهذا الموقف السلبي من الانتخابات أثره الكبير في إحجام الجماهير عن المشاركة، وكان رد الفعل البريطاني نفي العلماء المعارضين لسياستهم إلى خارج العراق(4).

ص: 38


1- الرهيمي، عبد الرحيم- تاريخ الحركة الإسلامية في العراق بيروت الدار العالمية-1985- ص 165
2- المصدر السابق - ص 40.
3- ل . ن كونلوف ( ترجمة عبد الواحد كرم ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق - دار الحرية للطباعة - -بغداد-1971- ص 267
4- بحر العلوم، السيد محمد - النجف الأشرف والمرجعية الدينية - مجموعة بحوث ومقالات، ص90.

إن الانتفاضات التي قام بها الشعب العراقي كان انطلاقها من المدن المقدسة ابتداءاً من النجف الأشرف وللنجف دور خاص في ثورة العشرين حيث دفعت بسريانها ضد الاستعمار البريطاني خلال 1920 و 1924 و 1926 و 1927 و 1928م والانتفاضة الجبارة التي حدثت خلال الأعوام 1935 - 1938م والتي سجلت أحداثاً مجيدة في تاريخ النضال التحرري للشعب العراقي(1).

بعد أن أظهرت ثورة العشرين كوامن المجتمع العراقي، ارتأت الإدارة الاستعمارية البريطانية تشكيل حكومة وطنية الشكل، يمكنها اكتساب بعض التأييد الشعبي لتخفيف حدّة المعارضة العراقية وسحب البساط من تحت أقدام الوطنيين والاستقلاليين الشيعة. وإذا كانت ثورة العشرين مشروعاً سياسياً بأدوات عسكرية غير منظمة وغير مدروسة لم تعطِ ثمارها، رغم الإنجازات التكتيكية الكبيرة والضربة القوية التي وجّهتها للوجود البريطاني، وفي العموم كانت حركة قصيرة الأجل لم تصل إلى حد الاستثمار السياسي بالنسبة للشيعة، رغم تأثيرها العميق في مستقبل العراق الموحد(2).

لم يختلف موقف علماء الدين من حركة مارس/ آذار عام 1941م التي قام بها رشيد عالي الكيلاني، ففي هذه الحركة أصدرت حكومة الثورة في عام 1941م كراساً حوى صور فتاوى علماء النجف وكربلاء والكاظمية وبغداد ومعظمها بخطوطهم الشريفة، دعت أبناء العراق إلى نصرة حركة مارس / آذار والرفض للنفوذ البريطاني (3). ولاشك أن الأحداث الجسام التي مرت بها المرجعية منذ حرب الجهاد وحتى ثورة النجف وثورة العشرين قد جعلها تركز على مهمتها الرئيسة ، وهي المهمة العلمية والشرعية التي من أجلها قامت واستمرت عبر القرون، ولم يكن ذلك بسبب الضغط السياسي الذي مورس عليها من قبل الحكومات الحليفة لبريطانيا، لأننا نجد لها

ص: 39


1- ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق مصدر سابق - ص 270.
2- ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق مصدر سابق - ص 270
3- الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990- مصدر سابق ص189-190.

حضوراً سياسياً في ثورة العشائر في الفرات وسوق الشيوخ سنة 1935 وثورة مارس/ آذار سنة(1) (1941م.

ولم تغفل الحوزة العلمية عن قضايا الأمة، وقد رافقت كل القضايا والمحن التي مرت بها الأمة الإسلامية فناصرتها بما يمليه الشرع والواجب كالقضية الفلسطينية، فمنذ عام 1931م، حينما حضر الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء مؤتمر القدس

وحتى نكبة 1948م وما تلاها من حروب قامت مع الكيان الصهيوني الغاصب. واستمر العراق بعطائه حتى كانت اتفاقية بورتسموث 1948م حيث أحبطها الشعب بثورته ومزق اتفاقيتها(2).

وامتدت أعوام الجهاد حتى عام 1956م عندما قام العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على مصر، فكان الشعب العراقي يقف بالمرصاد لحكومة العراق فتظاهر مستنكراً، وسقط الضحايا في رصاص نوري السعيد، وكان للنجف موقف مشرّف بشجب هذا الإعتداء، فخرجت تظاهرات في الشوارع والأسواق، واستمر الإضراب في النجف أسبوعاً كاملاً اتخذ العنف طابعاً له، فعمدت السلطة إلى القوة، وأطلقت النار على بعض المتظاهرين في مرقد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فقتل اثنان، ولم تتوقف إلا بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958م، إضافة لتأييدها لحركات التحرر العربية في ليبيا والجزائر والمغرب العربي وغيرها (3) .. وها هو طود شامخ من رجالات الحوزة العلمية في الجانب الآخر، في وغيرها(3).. ،لبنان، إنه السيد عبد الحسين شرف الدين يطلق صرخاته للجهاد والاستشهاد على أرض فلسطين للملوك وللرؤساء العرب. وها هو يهيب بملوك العرب المجتمعين في عمّان قبل النكبة بقليل بنداء، بل بفتوى مدوية: «... الآن، وقد أسفر الصبح لكل ذي عين وأعلن الطائرون إلى الظل والماء، تردّدهم في خوض المحنة ودفع

ص: 40


1- المصدر السابق ص 203
2- موقع وكالة أنباء براثا ثورة العشرين في العراق والمرجعية الدينية فيها.
3- السراج، عدنان ابراهيم - الإمام محسن الحكيم - دار الزهراء - بيروت - 1993 ص 203.

الكارثة، أروا الأمّة ما عودتموها عليه - بني هاشم - من هبوبكم للأخذ بكظمها كلما ارجحنّت الخطوب وابتسموا لها في ثنايا ليلها الفاجع على مفترق الدروب. وليس ذهاب فلسطين فاجعاً لولا أنه ذهاب لريح العرب وعزّ الإسلام، وكرامة الإنسان المُسترَقٌ في غد هذا الشرق القريب»(1). ثم أعقب النداء ببرقية إلى الملك عبد الله ملك الأردن في اليوم الذي أعلن اليهود فيه قيام دولة إسرائيل وذلك على أثر انعقاد مؤتمر عمّان لإنقاذ فلسطين:«كرامة العرب الجريح تنظر إلى مؤتمركم من مأساة لا موضع فيها للصبر . تَنَمُّرُ الصهاينة يتحدى رسالة القرآن. انبعثوا على بركة الله بذات محمد الشعب العربي يجيش بثورة ضارية، فكونوا من وراء تضحيته، يكفكم الله عدوان شُدّاذ الآفاق»(2). ثم راح السيد شرف الدين يطلق الفتوى تلوى الأخرى يحث الأمة على القتال والإستشهاد من أجل فلسطين: «أيها العرب أيها المسلمون: هذا شهر المحرم الدّامي الذي انتصرت فيه عقيدة وبُعث فيه مبدأ. ألا إنّ قتلة الحسين عليه السلام، بِكر في القتلات، فلتكن قدوتنا فيه بكراً في القدوات. ولنكن نحن من فلسطين مكان سيد الشهداء من قضيته ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من مجد وخلود أيها العرب أيها المسلمون: لقد حُمَّ الأجل وموعدنا فلسطين. عليها نحيا وفيها نموت والسلام عليكم يوم تموتون شهداء ، ويوم تبعثون أحياء»(3). وفي أواخر أيامه كان السيد شرف الدين قد شارف على التسعين من عمره وقد وقع العدوان الثلاثي على مصر فأطلق فتواه من إذاعة الشرق الأوسط في القاهرة مدوية، إلى علماء الدين في العالم الإسلامي، جاء فيها: «... أناشد إخواني في الله تعالى علماء الدين في كل مكان أن يقولوا كلمتهم، فتدوي صارخة توقظ النائمين وتدفع الواقفين إلى الدفاع عن معقل هو أعز معاقلنا تحت راية الحق... وأهيب بالجميع ... إلى الاشتراك في معركة المصير هذه، وإعلان الحرب على الاستعمار .... ألا وإنّ الاستعمار الغربي يغزونا في عقر دارنا، معتدياً غاشماً. ألا ومن مات دون حفنة من تراب وطنه مات

ص: 41


1- السيد شرف الدين - بغية الراغبين - الدار الإسلامية - بيروت -1-1991 ج-2 ص 461
2- المصدر السابق ص 461.
3- السيد شرف الدين مخطوطة بخط ولده السيد جعفر شرف الدين ص 31.

شهيداً»(1). مرت المنطقة والعراق بالذات بعد نكبة فلسطين بمتقلبات كثيرة سادتها انعطافات سياسية واجتماعية عديدة وما رافقه من موقف المرجعية في الدفاع عن الوطن وإبعاد يد الاجنبي عنها، كذلك حرمة الاقتتال الداخلي بين المسلمين وأبناء الوطن الواحد، كالفتوى التي أصدرها السيد المرجع الحكيم في حرمة مقاتلة الأكراد وحرمة غزو البلدان المجاورة مثل الكويت.

وفي عام 1959م وعندما كان المد الشيوعي في العراق قد تفاقمت تصرفاته، امتدت الهجمة الشيوعية لتطال التيار الديني والمرجعية في النجف، وبدأت حالة من المواجهة في النجف بعد وضع علامة (لا) على دور علماء الدين بغية مهاجمتها ليلاً(2).

إن هذه النماذج من المواقف التي وقفتها النجف الأشرف بمراجعها العظام وعلمائها الأعلام وشعبها المتفاني، جعلتها تكون غرفة عمليات للمجاهدين للانطلاقة الأولى للثورة ابتداءاً من سنة 1917م بدء الحركة الجماهيرية ضد الاستعمار الإنكليزي وامتداداً واستمراراً بجميع الأحداث والانتفاضات والحركات التي مرت على العراق الأبى حتى يومنا هذا.

وفي قمة صعود المد (الماركسي) في العراق، وما شهده من انتهاكات فاضحة للقيم الدينية والأخلاقية، انبرت المرجعية الدينية بفتوى شجاعة بأن «الشيوعية كفرٌ وإلحاد»، رافقتها مواقف في كربلاء المقدسة، من لدن المرجع الديني الراحل الميرزا السيد مهدي الشيرازي بمواجهة الإلحاد وتبيين معالم الرموز المقدسة والنماذج العظيمة، عبر إطلاق مشروع الاحتفال العالمي بذكرى مولد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في الثالث عشر من شهر رجب، وتكرار البرنامج كل عام، ودعوة الأدباء والشعراء والشخصيات الدينية والسياسية لحضور هذا

ص: 42


1- بغية الراغبين- مصدر سابق ص322 .
2- الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990- مصدر سابق - ص: 219.

المهرجان الكبير في كربلاء المقدسة. وكانت أول تجربة ناجحة لهذا المهرجان عام(1) 1960م.

وفي مرحلة الستينيات من القرن الماضي، امتازت المرجعية بإرادة وقوة ووقفت ضد كل المؤامرات فعمد آية الله السيد محسن الحكيم المرجع الأعلى الشروع بزيارة العتبات المقدسة واستمرت زيارته شهراً كاملاً، وقد شعرت دوائر الاستكبار، بمغزى هذه الزيارة وعرفت قوة تأثير المرجعية في أوساط المجتمع العراقي، وفي عام 1964م عقد مؤتمر بدعوة من عبد السلام عارف للحصول على فتوى شرعية يجوّز بموجبها قتال الأكراد، وقد وجهت دعوة إلى علماء النجف للحضور فيه إلا أنهم قاطعوه، وحضر المؤتمر من غير العراقيين شيخ الأزهر آن ذاك وأصدروا فتاوى مفادها أن الأكراد بغاة يجوز قتالهم ورداً على ذلك دعا السيد الحكيم إلى عقد مؤتمر في كربلاء، أعلن فيه فتواه التي حرم بها قتال الإخوة الأكراد، كان ذلك أواخر 1964م، فقد زرعت هذه الفتوى حباً بين الأكراد والعرب لموقف المرجعية النبيل والشجاع والتي حفظت بها دماء المسلمين دون النظر إلى نوعية المكوّن المذهبي، كما أصدر فتاوى تاريخية وسياسية منها حرمة الإنتماء إلى الحزب الشيوعي، وعند وصول البعثيين إلى السلطة عام 1968م كانت هنالك مواجهات مع مرجعية السيد الحكيم، وقد تجنب حزب البعث الإحتكاك المباشر مع المرجعية، وخاصة أن المرجعية كان لها تأثير واضح وقوة على إرادة الجماهير، فعمد الحزب لتشويهٍ في سيناريو مملوء بالكذب والأباطيل هواتهامه أحد أولاد المرجع الكبير السيد الحكيم وهو السيد الشهيد يوسف الحكيم بالجاسوسية لخلق حالة الثقة عدم بین أوساط الجماهير وعزل المرجعية عنها(2). وأصدر السيد محسن الحكيم فتاوى بدعم العمل المقاوم لليهود في فلسطين والدفاع عن المقدسات الإسلامية في القدس، وموقف الإمام الخميني في هذه القضية كان مبكراً منذ بدايات تحركه السياسي في الحوزة (1963م)، وكان موقفاً مميزاً بين أقرانه

ص: 43


1- مجلة الهدى الشهرية، 2014/9/11
2- الأسدي، صادق غانم المشروع السياسي والجهادي للحوزة العلمية في العراق ص3.

المراجع والمجتهدين، وتجاوز التعاطف مع القضية ليصل إلى مساندة المجاهدين مالياً من خلال الحقوق الشرعية.

وفي الختام: إن النجف الأشرف شارك بجامعته العلمية وحوزته الدينية، وبكل ثقله وإمكاناته الفكرية المحن التي مرت بها شعوبنا العربية الإسلامية، وسجل في كل قضية مصيرية لهذه الأمة، طوال العقود المنصرمة موقفاً مشرفاً أملاه عليه الواجب الأخوي، والغيرة العربية، بداية من القضية الفلسطينية، ومروراً بالجزائرية، والتونسية، والمغربية والسورية والمصرية، وأخيراً الكويتية. وسجل كل ذلك - بكل فخر واعتزاز - في صفحات تاريخ هذا البلد العربي العراقي جهاداً، وفكراً.

إن الشيعة عندما ثاروا قبل ثورة العشرين واستمروا في ثورة العشرين وما بعدها وطردوا المستعمر الانكليزي شرّطردة من بلاد الرافدين فاشترك الشعب قيادته العلمائية المتمثلة بالمرجعية الرشيدة... دفعوا ثمن ذلك العمل البطولي حيث نفذ ما سنّه الإنكليز من دستور طائفي بغيض مدركين أن كل حاكم يستلم زمام الحكم في العراق يسارع إلى تطبيق الدستور ليتجاهل الأغلبية السكانية في الوقت الذي يصرح الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية في مذكراته التي أصبحت وصية بعده بقوله:«إنّ الضرائب على الشيعي، والموت على الشيعي، والمناصب للسني ما الذي هو للشيعي؟»(1).

المرجعية العليا للشيعة في العالم، تلك المؤسسة الدينية والعلمية المستمرة بالقرب من ضريح الامام علي علیه السلام منذ نحو ألف عام، والتي ارتبط حضورها بتاريخ العراق الحديث وبالتحديد منذ الحرب العالمية الأولى ارتباطا وثيقا حتى أنه لا يمكن لأي باحث في هذا التاريخ إلا أن يجعلها قطب الرحى في كل ما عاشه العراق ودول عدة وبالتحديد إيران من أحداث وتطورات والحديث عن دور النجف التاريخي

ص: 44


1- الأزري، عبد الكريم - مشكلة الحكم في العراق، ط لندن 1991، ص 4.

وارتباط الشيعة الروحي والسياسي بها يحتاج بطبيعة الحال إلى أن يفرد له فصل خاص، ولكن لا بد من الإشارة ولو لماما ، إلى أن هذه المرجعية، التي أجبرت عام 1896م شاه إيران على إلغاء امتياز التنباك مع الإنكليز بعد الفتوى الشهيرة للمرجع الميرزا حسن الشيرازي والتي أيدت نظام المشروطة» في إيران عام 1907م (أي اقامة ملكية دستورية)، وقادت عام 1915م الحرب ضد القوات البريطانية إلى جانب الأمبراطورية العثمانية والتي فجرت عام 1920م الثورة المشهودة ضد الإحتلال البريطاني، هي اليوم في واقع لا يسمح له بالاضطلاع بأدوار كبرى تضاهي أدوارها التاريخية هذه. والمعلوم أن المراجع أنفسهم هم الذين كانوا يرسمون أدوار مرجعية النجف ويمسكون بيد واحدة المرجعية الروحية والزعامة السياسية. ولعل آخر هذه المراجع التي توفر لها أداء هذا الدور كان السيد محسن الحكيم (توفي عام 1970م)، فهو ومنذ أن ثنيت له وسادة المرجعية أواخر عقد الخمسينات، بعد وفاة المرجع الشهر وردي، دخل في سجال حاد مع العهود التي تعاقبت على حكم العراق، وآخرها عهد حكم البعث وقد بلغت درجة صدامه معه أن أفتى في أواخر أيامه بتحريم الإنتساب إلى هذا الحزب، أو التعامل معه. وقد كان هذا العداء، الذي سبقته سلسلة صدامات دامية سبباً في اندفاع حزب البعث العراقي لاحقاً إلى محاصرة المرجعية الشيعية والقضاء على دورها وحضورها، والذي بلغ ذروته عام 1980م بإعدام المرجع الشيعي السيد محمد باقر الصدر وبعده مئات العلماء وأيا كان الأمر، فبعد عام 1980م تركزت فاعلية المرجع السيد الخوئي الذي خلف السيد الحكيم، في سدة المرجعية على الصمود لإبقاء ما تيسر من الحوزة العلمية على أساس أنه خير من زوالها».

ص: 45

مکتب البحث:

1- المصلح الإسلامي السيد محسن الأمين الناشر : المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق 1992.

2- الأسدي، صادق غانم - المشروع السياسي والجهادي للحوزة العلمية في العراق.

3- الأزري عبد الكريم - مشكلة الحكم في العراق، ط لندن 1991.

4- بحر العلوم، السيد محمد - النجف الأشرف والمرجعية الدينية - مجموعة بحوث ومقالات.

5- الجبوري كامل سلمان - النجف الأشرف وحركة الجهاد مؤسسة العارف للمطبوعات بيروت - ط1-2002.

الغرباوي، ماجد الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية) - مؤسسة الأعراف للنشر - ط1- 1999.

6- الحسني عبد الرزاق الثورة العراقية -الكبرى - بيروت- 1978 - ط4.

7- الرهيمي عبد الحليم - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق 1900 - 1924)- ط1 _الدار العالمية للطباعة والنشر - بيروت، 1985.

8- الساعدي، كريم محمد حاتم الغزوات الوهابية على الأضرحة المقدسة في كربلاء والنجف خلال القرن التاسع عشر الميلادي - موقع موسسة النور للثقافة و الأعلام - 2014/10/29.

9- السراج، عدنان ابراهيم - الإمام محسن الحكيم - دار الزهراء - بيروت 1993.

10- السيد شرف الدين عبد الحسين بغية الراغبين - الدار الإسلامية - بيروت ط1

- بغية الراغبين المخطوط.

ص: 46

11- الشريفي، أحمد باقر علوان كربلاء بين الحربين العالميتين - رسالة ماجستير - معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا بغداد 2004.

12- صاغية، حازم - صراع السلام والبترول في إيران بيروت دار الطليعة - ط1-1978.

13- الطريحي، محمد سعيد - المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي: الغزو الإيطالي للقطر

الليبي وحرب طرابلس سنة 1911.

14- عودة، جهاد- تقدير الأزمة الإستراتيجية في العالم العربي - الناشر: المكتب العربي للمعارف.

15- العلوي حسن الشيعة والدولة القومية في العراق 1914 1990 - دار الثقافة للطباعة والنشر - قم إيران -29.

16-عبد الدراجي، عبد الرزاق جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق- (بغداد 1978)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة بغداد.

17- الغرباوي، ماجد الشيخ محمد حسين النائيني (منظر الحركة الدستورية)- ط1- مؤسسة الأعراف للنشر 1999.

18- الكركولي - دراسات في عشائر العراق 1995.

19- كاظم عباس محمد - ثورة -1920- دار التنوير - ط1 بيروت.

20- كوراني، محمدأمين - الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل- دار الهادي- بیروت - ط2 - 2005.

21- كاشف الغطاء النجفي، الشيخ محمد الحسين - الآيات البينات في قمع البدع والضلالات دار المرتضی، بیروت - لبنان.

22- كمال الدين محمد علي (تقديم علي الخاقاني) - معلومات ومشاهدات من الثورة العراقية لسنة 1920 - ط العراق 1971.

ص: 47

23- ل ن كونلوف ( ترجمة عبد الواحد كرم - ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق - دار الحرية للطباعة - بغداد - 1971.

24 - الكاتب، أحمد - المرجعية الدينية الشيعية - .. آفاق وتطور- ط 2 العراق 2007- ص 11-12 .

25 - محبوبة ، جعفر - ماضي النجف وحاضرها - دار الأضواء - ط2 - 1986.

26 - النفيسي، عبدالله - دور الشيعة السياسي في تطور العراق -الحديث - ترجمة دار النهار، بيروت

.1973.

27 - الوردي، علي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث قم- انتشارات الشريف الرضي- 1413ه-- ط1.

28- موقع وكالة أنباء براثا - ثورة العشرين في العراق والمرجعية الدينية فيها.

29- مجلة كلية التربية الساسية للعلوم التربوية والإنسانية - العدد /22 / جامعة بابل آب/2015م

ص 527.

مجلة الموسم-العدد السادس - بيروت - 1990 - ص 381-382

- مجلة العلم النجفيه - المجلد السابع - الجزء السادس تشرين الثاني 1911 ص249.

- ثورة العشرين (عباس محمد كاظم): سلسلة نحو حضارة إسلامية- عدد1984/18.

- مجلة الهدى الشهرية ، 2014/9/11 -30-

ص: 48

أدباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف ومقارعة الاستعمار:شعر الشيخ محمد رضا الشبيبي أنموذجاً

اشارة

حسین الساعدی(1)

إنّ المرجعية الدينية هي الامتداد الطبيعي لخط الرسلة المتمثل بالرسول الاکرم (ص) كما أنها الامتداد الطبيعي لخط الرسلة المتمثل بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام حيث كانت المرجعية الدينية حماة للدين وأمنا في حفظ شريعة سيد المرسلين ولقد أدّت المرجعية الدينية دوراً أساسياً في استيعاب ونشر العلوم لسد حاجات المجتمعات ولم تدخر في هذا المجال جهداً إلا بذلته فقد بينت وبلغت الأحكام الإلهية ومسائل الحلال والحرام، وبذلت قصارى جهدها في تعليم المفاهيم الإسلامية الحقيقية، وفضلاً عن الدور الأساسي الذي قام به العلماء في مجال بيان الأحكام الإلهية وحفظ التراث الشيعي فقد اهتموا بإصلاح المجتمع وتحسين أوضاع الناس والدفاع عن المقدسات الدينية والكرامات الوطنية فيعتبر الشيخ محمد رضا الشبيبي من أدباء وشعراء العراق الأفذاذ وثوّاره الأحرار جمع إلى جانب أشعاره الوطنية

ص: 49


1- الباحث في علوم اللغة العربية - العراق. ترجمة : الأستاذ المساعد الدكتور عبيات قسم اللغة العربية وآدابها جامعة ،فرهنگیان طهران، جمهورية ايران الإسلامية.

والوجدانية المليئة بالعواطف والأحاسيس الملتهبة مواقفه البطولية في سوح الجهاد، فكان مثالاً حياً للإنسان الوطني المخلص الذي يطمح إلى الحرية لبلاده والتحرر من أغلال الاستعمار، كما كان أنموذجاً رائعاً لقادة الفكر وحاملي لواء النهضة الفكرية والاجتماعية ليس في العراق فحسب بل في جميع البلدان التي تسعى للنهوض والتقدم فكانت مبادئه السامية ومواقفه المشرفة نبراسا تهتدي به الأجيال جيلاً بعد جيل، شهد الشبيبي في الفترة التي عاشها أواخر الحكم العثماني على العراق وبعده الاحتلال البريطاني ثم الحكم الملكي في فترة الانتداب والاستقلال وانتهت في عهد الجمهورية. عيّن وزيراً للمعارف عدّه مرّات في مختلف الوزارات كما أُنتخب أيضاً عضواً في مجلس الأعيان ورئيساً له عدّة مرّات. كان ينظر إلى السياسة بأنّها وسيلة لخدمة الشعب ولذا دائماً يقدّم مصلحه الشعب على الألاعيب السياسية. ومن هذا المنطلق كلّما أحسّ بهضم حقّ المواطنين لصالح السياسة، استعفى من منصبه السياسيّ، فلهذا كان يعرف بين وسط السياسيين بالسياسيّ ذي النزعة الشعبية. وأمّا في الجانب الأدبي، فهو يعد شاعراً من أبرز شعراء العراق الحديث وكاتباً ضليعاً ومورخاً بحّاثه وناقداً أدبياً بعيد النظر حديد البصر دقيق الملاحظة. وكان عضو مجامع اللغة في دمشق وبغداد والقاهرة.

فهذه الدراسة التي اعتمدت على المنهج الوصفي - التحليلي تهدف إلى معالجة مفاهيم المقاومة في شعر الشبيبي ومن اهمها رفض ظلم الاستعمار وانتقاد سياساتهم والتنديد بالحرب والدعوة إلى وحدة الشعب، والثورة على الطغيان والاستبداد سبيل نيل حرية الوطن.

الكلمات الدليلة المقاومة الاستعمار الوطن النجف العراق، الشيخ محمد رضا الشبيبي.

لا شك إن الشعر من مظاهره العظيمة استنهاض همم الشعوب ضد إرادة الطغاة الذين لا يعرفون إلا الكبت والقمع، وانعكس صداها واضحاً في مجمل الإنتاج الشعري وتميّز بنزوع واضح نحو الاندماج بالمجتمع وقضاياه السياسية تحديداً

ص: 50

ومعايشة الهم الوطني الذي حمله الشعراء في ضمائرهم وحوّلوا قصائدهم إلى أسلحة حقيقية تعرّي وقاحة الطغاة والمحتلين وتدفع الشعوب وحُراكها الوطني إلى محطات الفعل الثوري، ولقد ورث الأدب العراقي المعاصر ومن قبله الأدب الحديث هموم المجتمع العراقي وإنعكست الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مضامینه بشكل كبير بسبب حالة الفوضى السياسية والتبعية والاحتلال الأجنبي، إلا أن المنجز الفني الذي تحقق للشعر على يد مجموعة من الشعراء لا سيما شعراء مدرسة الشعر الحر قد أسهم في إحداث نقلة كبيرة خلّصت الشعر من التبعية الفنية التي نألفها عند شعراء الاتجاه الكلاسيكي ومنهم الكاظمي والزهاوي والرصافي والشبيبي، فقد كان الشاعر قبل ذلك يعيش حالة من الانفصام عن الواقع على الرغم من تعلقه بمجريات الأحداث السياسية. وعندما نتكلم عن أدب المقاومة، سرعان ما يتبادر إلى الذهن محاربة الظلم والفساد الذي تنعكس فيه القضايا الإجتماعية والسياسية والأيدولوجية والاخلاقية. لأن العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة قديمة وكما يؤثر الأدب على المجتمعات تؤثر المجتمعات على الأدب. بتعبير آخر إن العادات والتقاليد والعقائد والنهضات التي انعكست في الأدب هي في نفس الوقت وليدة الآثار الأدبية» لا شك أن شعر المقاومة يُعدّ نوعاً من التصدي لكل أشكال الاستعمار والاستبداد؛ كما لا يخفى أنّ شعر شعراء المقاومة ينمّ عن مشاعرهم القلبية من حبِّ وغضب وحرمان والشاعر المقاوم يجمع بين مصيره ومصير ويتحمل السجن والمنفى والاضطهاد ليقوم فى وجه أعداء شعبه وينفض عن أمته غبار التخلف والعذاب والتوتر.

يعتبر أدب المقاومة ضمن الأدب الملتزم والسياسي الذي يعبّر عن جهود شعب تعرّض لهجوم عسكري أو ثقافي أو ديني أو ... وعن تضحياته وكفاحته ومظلوميته، وهو يعاني من الحرمان والمتاعب في هذا الطريق، وخلافاً لما كان في الماضي العتيق عند العرب بأنّ الشعرَ ديوانهم وسجل أيّامهم بل هو بُني على تفاعله مع المجتمع وثقافته و همومه ومعاناته وسروره و انتصاراته، وقضاياه المختلفة والمتنوّعة؛ فيعتبر انعكاساً لأحوال، وآمال وتطلّعات أبناء ذلك المجتمع.

ص: 51

تحتوي مادة الشعر المقاوم، الصمود والدفاع عن النفس والحرية والحياة الاجتماعية وارساء مبدأ الديمقراطية والتداول السليم للسلطنة. وشعراء المقاومة هم الذين يصوّرون في أناشيدهم قهر الظالمين والمصائب الواردة على المظلومين وتحريضهم على أخذ حقوقهم من المستكبرين ودعوتهم إلى النضال ضدّهم.

لم تكن لتلك الكوكبة من الشعراء مسمى واضح إلا في منتصف القرن العشرين عندما احتلت إسرائيل فلسطين ونهبت الأرض والعباد فمنذ ذلك الزمن ظهر شعر المقاومة وشعراؤها بشكل خاص كما نراه اليوم.

فالعراق يعد من أكثر البلدان مقاومةً للمحتلين والغزاة وبسبب موقعه المتميز عان الويلات من الطامعين والمحتلين وشهد أسوء الأدوار ومنها: عهد الحكم العثماني (القرن (19) والاستبداد البريطاني، ثم حكومة حزب البعث العراقي (القرن (20) و أخيراً الاحتلال الأميركي.

لا شك أنّ الحروب العثمانية والاستبداد البريطاني والفساد والاختناق الحاكم في المجتمع العراقي كان لها تأثير بالغ في إثارة مشاعر الناس لا سيما الشعراء ومنهم جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي والشيخ محمد رضا الشبيبي والحبوبي الذين خلقوا نوعاً جديداً من الشعر في ذلك المجتمع باسم «الشعر المقاوم» احتجاجاً بوجه الظالم.

تاريخ العراق السياسي

إنّ العراق بسبب موقعه الاستراتيجي كان محط أنظار البلدان الأجنبيّة منذ القدم، فتاريخ ،العراق، تاريخ ثورة وكفاح وإخفاقات تكسر القلوب وتحزنها. كان العراق في العهد العباسي - 656 - (132) من أهم حواضر العلم والثقافة والمدنية وأخصبها. لكنه قد اعتورته ضروب شتى من المحن والتدهور إثر هجوم هولاكو خان في سنة 656 ه- فأصاب من عزّته وازدهاره وأوهنه الضعف والتّخلف (الفاخوري، 1995م ص : (515) وقد مرّت بالعراق شتى الأدوار السياسيّة التي أضاعت شخصيّته وأفقدت أصالته ومسخت حضارته. فقد تداولته عدة أنظمة مستبدة وحكّام أجانب.

ص: 52

الدولة العثمانية

تولّى الأتراك العثمانيون أمور المسلمين بعد انهيار الخلافة العباسيّة وسقوط عاصمتها بغداد بأيدي التتار فصار المسلمون ميراثاً لبني عثمان بعد أن كانوا ميراثاً لبني أميّة ثمّ بني هاشم هم دخلوا في الإسلام وأدانوا به، فاستقاموا عليه حيناً وشرّدوا حيناً آخر. إنّ العثمانيين تلقوا راية الإسلام بقوة، لكنّ عاطفتهم نحو الإسلام كانت أقوى من فقههم فيه وحماستهم له أشدّ من تفهّمهم لروحه (الغزالي، 1997م: ص 206- 104) «مؤسس هذه الدولة أرطغرل بن سليمان شاه التركماني، قائد إحدى قبائل الترك النازحين من سهول آسيا الغربية إلى البلاد آسيا الصغرى. ولما توفي أرطغرل سنة 687 ه- عيّن الملك علاء الدين مكانه وهو عثمان مؤسس الدولة العثمانيّة» (عبد الحكيم 2004م ص354). بدأ العهد العثماني في العراق بانتصار السلطان سليمان القانوني على الصفويين واستيلائه على بغداد عام 1534م وقد دام حكم العثمانيين أربعة قرون على التقريب وانتهى باحتلال القوات البريطانية للعراق والعاصمة بغداد سنة 1917م. تعدّ الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني، العصر الذّهبي لأنّ في عهده توسّعت التّجارة وظروف المعيشة والاقتصاد وبُنيت أبنية جديدة في المدن العراقيّة لاسيما بغداد. توفّي سليمان القانوني سنة 1566م. فقد جاء بعده ملوك عدّة لكنّهم لم يتعقبوا خطوته ولم ينهجوا منهجه. ثمّ وصلت الخلافة إلى السلطان سليم الثالث سنة 1769م وكانت الدولة في الضّعف والتفّسخ والاحتلال وكانت الانكشاريّة (هم من الجيوش العثمانية معروفة بالهمجيّة والنهب) على رأس هذه الأمور، يعملون الأعمال الشنيعة ويسيرون وفق أهدافهم والبلاد في فوضى حتى ترسّخت فكرة الإصلاح في أذهان العثمانيين. فبدأ السلطان محمود باصلاح الأمور من الوجهة الإدارية والعسكرية وأخذ ببعث المنشورات الإصلاحية إلى الولاة لكنّه مات وبعد ذلك استمر رجال الدولة بتلك الحركة الإصلاحية إلى عهد السلطان عبد الحميد والسلطان عبد العزيز.

فألّفت القوانين العديدة التي كانت مقتبسة من القوانين الفرنسيّة مع مراعاة نصوص

ص: 53

الشريعة الإسلامية . فرجال الدولة دوّنوا قوانين متعدّدة لكلّ شأن من شؤونات الدّولة وسمّوه بالدستور. لكنّ نظام الحكم كان مطلقاً ورأي السلطان وإرادته فوق كلّ قانون، حتى وصلت الخلافة إلى السلطان عبد الحميد سنة 1876م، فزادت في زمنه شدّة سوء الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفتن الطائفية (أبو الشّباب، 1988م: ص : 11) في العهد العثماني «إنحطّ الأدب العربي إلى أسفل الدرك لشيوع التركيّة المخاطبات والمراسيم والدواوين وتسلط الخمور على العقول، والتقليد على المعاني والصناعة المقيتة في الأساليب» (الفاخوري، 1380م: ص861) وساد الأمّة العربيّة ثالوث الفقر والمرض والجهل، وأخذ الحكّام العرب يفرضون الضرائب الثقيلة على الشعب ويسوطونه بالاستبداد هكذا انتهى الحكم العثماني بدخول العساكر البريطانية إلى بغداد سنة 1917م.

الاحتلال الإنجليزي

كان العراق ولاية عثمانية منذ عام (1516م - 922ه- ) وحتّى (1917م - 1335ه-) وتنافست لاحتلاله الدول الأجنبية من مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا. ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة (1332ه-- 1914م) تحركت القوات البريطانية من الهند لاحتلال العراق ففازت هذه الجيوش واستولت على بعض المدن العراقية كالفاو والبصرة وسيطرت على جنوب العراق تدريجياً سنة (1333 ه- - 1915م) وفي سنة (1335ه- - 1917م) احتلت المدن الأخرى مثل: بغداد والموصل وفي النهاية أعلنت بريطانيا انهاء تبعية العراق للدولة العثمانيّة.(عبد الحكيم ، 2004م: ص: 444) انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانيّة، أدى إلى تقسيم المشرق العربي إلى دويلات بموجب إتّفاقية «سايس بيكو» في مؤتمر «سان ريمو» سنة (1338ه- - 1920م) إذ جُعل العراق تحت حماية الدولة البريطانية. (أبو الشباب، 1988م ص 12) بعد ذلك دخل العراق مرحلة جديدة من حياته السياسيّة وواجه لوناً جديداً من الاحتلال وهو لبس جلباب التدين والإسلام دون أن يراعى فيه الإسلام وقوانينه الإلهيّة. إن من أهم أسباب هجوم الإنجليز على العراق واحتلاله، هو تمتّع

ص: 54

العراق بالثروات الزراعيّة والمعدنيّة الكثيرة مما يجعله محط أنظار الأجانب، ثمّ كون العراق على شواطىء الخليج واقترابه من بلاد الهند حيث يمكن من خلاله الوصول إلى الهند في أقلّ وقت.. ومن المميّزات التي تتميّز بها الهند التي تتميّز بها الهند هي ارتقاء مستواها الاقتصادي والتجاري مما يجعل العراق في أحسن موقعها الاستراتيجية. (قدورة، 1985م: ص: 130-129) من الجليّ أنّ الدولة البريطانيّة دفعت التعويضات الكبيرة لإسقاط الحكم العثماني حتى بلغ عدد قتلاهم أكثر من مائة ألف نسمة. (فوستر،

1938م ص 156)

ثورة (1920م)

احتلّ الإنجليز كلّ المدن العراقيّة على التقريب. والشعب العراقيّ لم يقاوم تجاه هذا العمل الإجراميّ في بداية الأمر، لأنّه لم يكن راضٍ على الحكومة العثمانية وطريقة حكمها الجائر والمتسلّط ، فوصل الأمر إلى حدّ أن القبائل كانت تساند القوّات البريطانية وتعاونها في أمر خروج العامل العثماني من البلد. لكنّ سرعان ما رفع الإنجليز البرقع عن وجهها وعرف العراقييون أهداف بريطانيا الشيطانية ونيّاتها غير السليمة، فبدأوا بالمقاومة تجاه قواته المحتّلة وقاموا بثورة (1920م) على إثر مؤتمر سان ريمو وتقرير وضع العراق تحت الحماية البريطانيّة وانتشرت الثورة في كلّ أنحاء البلد من الموصل إلى البصرة وحدثت مظاهرات في كربلاء والحلّة يطالبون استقلال العراق وتشكيل الدّولة العراقيّة العربيّة، فاسترجعوا مدنهم من الإنجليز المحتلّ واحدة تلو الأخرى ولم يبق في أيدي الإنجليز سوى البصرة وبغداد والموصل. إثر اندلاع هذه الثورة في العراق بقيادة علماء ومراجع التشيّع وسائر العشائر والقبائل العراقية، قرّرت المقامات البريطانية أن تنشىء حكومة وطنية في العراق فجعلوا السر برسي كوكس مسؤولاً لهذه القضية. فصمّم كوكس أن يقيم في أول الأمر وزارة مؤقتة برئاسة النقيب أعلن تشكيل الوزارة في 25 تشرين الأول وعند تشكيل الوزارة النقيبية المؤقتة بدأت سياسة تقليص عدد البريطانيين والهنود وتكثير العراقيين في الوظائف الحكومية. (الوردي، 1992م : 40 -9) والمجلس المذكور تولّى إدارة البلد حتى صار

ص: 55

فيصل ملكاً للعراق قد أصاب الإنجليز خسائر فادحة إثر ثورة 1920م منها: قتل 426 فرداً، وجرح 1228 فرداً، وأسر 615 فرداً، إضافةً إلى أضرارٍ جسيمةٍ في الأموال. (نفيسي، 1364ه-.ش : ص : 144).

بداية الحكم الملكيّ (1958م - 1921م)

للتخلص من الحكم المباشر ولإزالة الغضب عن الشّعب العراقي اكتفى الإنجليز بالسلطة غير المباشرة. فاتخذ القرار بتعيين شخص عربي ملكاً للعراق. فعرضت بريطانيا عرش العراق على الملك فيصل مع تأسيس حكومة عربية تحت الوصاية والانتداب البريطانيّ. فدخل العراق في المرحلة الجديدة من حياته السياسيّة، المرحلة التي على رأسها حاكم عربيّ لكنّه كان رهن إشارة الإنجليز. (الواعظ، 1974م: ص: 128-129) تقرر أن يكون التتويج في يوم 23 آب وقد اختار فيصل نفسه ذلك اليوم؛ لأنّه يوافق يوم 18 ذي الحجة حسب التقويم الهجري. هذا اليوم الذي سمّاه الشيعة عيد الغدير، وقد أراد فيصل بانتخاب هذا اليوم تذكير الشيعة بأنّه من سلالة الإمام علیّ علیه السلام وتتويجه حدث في نفس اليوم الذي نُصِّب فيه جدّه للخلافة. (الوردي:عليّ 1992م: ص: 120).

العراق عضو في عصبة الأمم المتحدة

أنتخب نوري السعيد رئيساً للوزراء من جانب الإنجليز سنة 1930م. وهو كان عميلاً تنفيذياً لخطط الإنجليز الدنية وأبرم معاهدة مع الإنجليز تؤدي إلى تسلّط الإنجليز على مصادر العراق النفطية طوال سنين طويلة بشرط قبولها عضواً في عصبة الأمم. وهذه المعاهدة جعلت العراق في أظفار الاستبداد أكثر من ذي قبل وجعل العراق في أزمة سياسية واقتصادية وعسكرية واستمر الوضع المتأزّم حتى سقوط الحكومة الملكية في سنة 1958م . ( الجميلي، 1370م: ص: 24) مات الملك فيصل سنة 1933م وتولّى الملك غازي الحكم بعده تزامن حكمه بالاضطرابات والفتن وحدثت الثورات المختلفة في أنحاء البلاد واختلّ سير الإدارة وأهين الدستور. فقُتل الملك غازي سنة 1939م وتلاه فيصل الثاني وهو حديث السن، فصار عبد الإله

ص: 56

ونوري السعيد نائبين له في إدارة البلد. فاندلع لهيب الحرب العالمية الثانية في تلك السنة وفي هذه الفترة تحمل العراق خسائر فادحة لا تعوّض الحسني، 2008م ص:45).

ثورة رشيد الكيلاني (1941م)

في اليوم الأول من شهر نيسان سنة 1941م قام رشيد عالي الكيلاني مع أصدقائه بانقلاب على حكومة ولي العهد عبد الإله ففرّ الملك ونوري السعيد من البلد وتألّفت الوزارة برئاسة الكيلاني. كانت بريطانيا تخاف من أن يقوم الكيلاني بوقف إمدادات النفط إلى الدول الغربية، ومن أجل هذا قامت بغزو العراق واستعادة الملكية مرّة أخرى، فعاد الملك ونوري السعيد إلى البلد وقبضا على دفّة الحكم مرّة ثانية. (الواعظ، 1974م: ص129-128) تألّفت خمسون حكومة خلال الفترة الملكية وهذا يدلّ على عدم استقرار الحكومة وعدم ثباتها أيضاً.

الحكم الجمهوري (1968-1958م)

قام ضباط الجيش بانقلاب في 14 تموز عام 1958م أدّى إلى القضاء على الملكية، فتألّفت الحكومة الجمهوريّة برئاسة عبد الكريم قاسم وقد حدثت في الحكومة الجمهورية إصلاحات منها رجوع المنفيين إلى البلد تساوي حقوق النساء والرجال إحداث سكّة الحديد، بناء البنايات الجديدة وتأسيس المعامل والمصانع وإحداث المتنزّهات العامة .... (الجميلي 1370م ص : 6372)

حياة الشيخ محد رضا الشبيبي

الشيخ محمد رضا بن الشيخ جواد بن محمد بن شبيب بن إبراهيم بن صقر البطايحي الشهير بالشبيبي ولد في النجف الأشرف، رمضان عام 1306ه- المصادف 6 أيار عام 1889م والأسرة الشبيبية من أشهر الأسر العلمية في النجف الأشرف، قدمت من جنوب العراق وبالتحديد من مدينة البصرة وهي فرع من قبيلة بني أسد درس الشبيبي على أشهر علماء عصره كالشيخ محمد حسن المظفّر، والسيد مهدي

ص: 57

آل بحر العلوم، والسيد حسين الحمامي، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد حسين القزويني والشيخ هادي آل كاشف الغطاء، وأيضاً تتلمذ على أبيه الشيخ محمد جواد الشبيبي الذي تعدّه المدرسة الدينية من ألمع أساتذتها فضلاً عما امتاز به من قوة شخصية إثر مواقف وطنية هامة، إلى جانب ملكته الشعرية.

وفي مطلع شبابه عاش واقع العراق الصعب في وقت كانت الدولة العثمانية آيلة إلى السقوط ، ثم وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني عام 1918م. ولا يخفى ما كان عليه واقع العراق آنذاك من تخلف شامل (آقابزرگ تهرانی ، 1373 ق: ج2، ص: 745-747).

وفاته وتشيعه:

- توفي فجر يوم الجمعة 1965/11/25 إثر نوبة قلبية ألمَّت به وكان وفاته بعد يوم واحد من عودته من القدس حيث كان مشاركاً في أنشطة الاحتفال بالاسراء والمعراج الذي عقد في القدس. وقد شُيّع جثمانه تشيعاً مهيباً من مسكنه في الكرادة الشرقية إلى الكاظمية ومنها إلى جسر الخير سيراً على الأقدام مسافة طويلة تحمل الأكف خلالها النعش في خشوع واجلال، ثم نقل إلى كربلاء في موكب فريد ضم أكثر من ألف سيارة ثم شيع إلى النجف الأشرف ودفن في مقبرة آل الشبيب واشترك في تشييعه كبار الأدباء والعلماء والمسؤولين في الدولة.

أعماله الشعرية ومؤلفاته:

خلّف الشبيبي العديد من الآثار يقف في مقدمتها ديوانه الذي طبع في القاهرة عام 1940م (والديوان عبارة عن نماذج اختاره المترجم له من شعره الكثير)، ويضمّ عدّة أبواب منها الشعر الحماسي، والشعر الحكمي، والشعر الاجتماعي والسياسي والرثاء، وله مجموعة مراث في زوجته تعد من أجمل الأشعار الوجدانية ومن بين الأغراض النادرة في الشعر العربي، وقد نشرها الباحث قصي سالم عثمان في ذيل دراسته بعنوان: «الشبيبي شاعرًا»، وهذه المجموعة بعنوان : «رنين على الأجداث»، كما وردت نماذج كثيرة من شعره ضمن كتاب: «شعراء الغري» (وأغلبها مما أسقطه

ص: 58

الشاعر من ديوانه لأنه ينتمي إلى مرحلة البدايات الفنية)، وله مؤلّفات منها: ابن خلّكان وفن الترجمة، مؤرّخ العراق ابن الفوطي في جزئين، بين مصر والعراق في ميدان العلاقات الثقافية، التربية في الإسلام. وله عدد من المؤلفات الإبداعية والأدبية منها مذكرات الشبيبي (نشر منها عدة فصول في مجلة البلاغ)، وكتابان في أدب الرحلات بعنوان: «رحلة في بادية السماوة» - «رحلة إلى المغرب الأقصىم»، وله عدد من الدراسات والمحاضرات والتراجم والتحقيقات منها: (تراثنا الفلسفي حاجته إلى النقد والتمحيص)، و(القاضي ابن خلكان ومنهجه في الضبط والإتقان) و(التربية في الإسلام)، و (أدب المغاربة والأندلسيين في أصوله المصرية ونصوصه العربية) محاضرة ألقاها في معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة. (عبد شناوة، 1995م ص : 25).

شاعرية الشبيبي

يقول الجواهري، وهو من المولعين بشعر الشبيبي: «شاعر مجيد.. واسع البال.. رقيق أسلوب النظم حلو الصناعة... رقيق التعبير.. سارت بقصائده الركبان وتغنت ببدائعه البدو والحضر، شعره في الطبقة العليا .. عذب الألفاظ رقيقها صحيح المعاني فخمها .. ».

وقال روفائيل بطي: «خيال جميل صناعة عراقية، عليها مسحة عباسية».

وقال علي الخاقاني: «شاعر فحل قوي الديباجة جزل الألفاظ، مبدع في الخواطر، مرهف الحس يحمل نفساً كبيرة وروحا ،ثابة، وقلباً مفعماً بحب الدين والوطن، وله لفتات وفلتات قد لا يزاحمه عليها غيره وقالوا في وصفه مير بصري الذي لازمه سنين طويلة، وحضر مجالسه وأنس بزياراته وأحاديثه ونعم بصداقته ومودته: «أضفى الزمان على الشاب الأنيس وقار المشيب وجلال الشيخوخة دون أن يفقد جمال نفسه وصفاء سريرته. وقد زادته الأيام حنكةً وحكمةً، دون أن تزيده ثروةً ومالاً» .. وقال عنه روفائيل بطي في كتابه «الأدب العصري»: «شاب أنيس، منخفض

ص: 59

الصوت، تبدو عليه سيماء العلماء الذين أكمد لونهم الدرس الطويل، آية الأناة في تفكيره وكلامه وكتابته، غير مكثر من النظم والنثر ، لا ينظم باقتراح البتة، وهو الذي قال لي يوم طلبت إليه ان يعارض قصيدة «ياليل الصبّ»: لا أعرف أمراً يقال له الطلب إلى الشاعر أن ينظم كيت وكيت والشعر شعور تجيش به النفس ويصدر من القلب». وقال عنه عبد الكريم الأزري: رجل ،محنك حكيم مجاهد، واقف للحق وقفة. (المصدر نفسه، ص:202).

نشاطاته السياسية

لا يمكننا الفصل بأي حال بين الجانب الأدبي والفكري لهذه الشخصية وبين جانبها السياسي؛ فقد مثل الشبيبي واحداً من أكبر الشخصيات التي لعبت دوراً أساسياً ومؤثراً في السياسة العراقية في الفترة التي نشط فيها (العهد العثماني، عهد الاحتلال البريطاني والعهد الملكي وسنوات الانتداب وحتى عهد تأسيس جمهورية العراق الحديثة) (1908-1965م)، ويظهر دوره السياسي جلياً في المناصب العديدة التي تقلدها خلال حياته اعتباراً من وزارة المعارف وحتى مجلس الأعيان ومجلس النواب ودوره في حركة المعارضة في العهد الملكي حيث عُرف بالجرأة والصراحة وعدم الممالأة والمداهنة على حساب مبادئه ووطنه حتى «أن جرأته كانت نادرة ... لا ينافق ولا يمالق ولا يداهي ولا يداجي، ولا يقول إلا ما يصح في معتقده، ولا يعتقد إلا ما يصح في رأيه «على حد تعبير أحمد حسن الزيات، كما كانت له إسهامات سياسية خارج العراق تمثلت في رحلاته إلى الأردن والحجاز، ويمكننا القول إن دراسة حياة الشبيبي السياسية هي في الحقيقة تسليط للضوء على مراحل هامة من تاريخ العراق السياسي. وقد تأثر الشبيبي في أفكاره الإصلاحية والسياسية - كما كان حال معظم المثقفين الثوريين في تلك المرحلة - بأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا التحررية الإصلاحية التي كانت تصل العراق عن طريق مجلتي العروة الوثقى» و«المنار» وغيرهما، كما تركت ثورة الاتحاديين عام 1908م تأثيراً كبيراً على الشبيبي ولا سيما مدحت باشا الذي كان العراقيون من أشد المعجبين به بحكم

ص: 60

احتكاكهم المباشر بإصلاحاته في بلادهم، وكان أهم ما دفع الشبيبي إلى الترحيب بثورة الإتحاديين هو ما علقه آمال كبيرة عليها بأن تؤدي إلى انعتاق العراق من مشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفاقمت بصورة خاصة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م) فكان من شأن شعارات الاتحاديين (الحرية والعدالة والمساواة) أن تهز وطنياً متحمساً ومخلصاً مثل الشبيبي ولكن سرعان ما أصيب الشبيبي كأقرانه الوطنيين بخيبة أمل كبيرة من سياسة الاتحاديين التي انصبت في اتجاه قومي متعصب معاد للطموحات المشروعة للشعوب غير التركية في الإمبراطورية العثمانية (الشربتي، 1982: ص: 89).

نظرة الشبيبي للدين والعلم

على الرغم من إجلال الشيخ الشبيبي للدين النابع من إيمان المؤمن العليم وعن نشأته نشأة دينية بحتة فإنه كثيراً ما كان يهاجم رجال الدين عندما كان يجدهم أصبحوا حجر عثرة في سبيل التقدم أنه أراد أن يُفهم القوم أنَّ الدين ليس «عادات معطلة» بل أنه «تحليل وتحريم» فتوجه إليهم في العام 1911م طالباً منهم أن لا يجعلوا «آلة التفريق دينهم» لأن الدين «عن وصمة التفريق معصوم».

أجل إن الدين في نظر الشبيبي لم يكن «عادات معطلة» لذا فأنه دان بقوة وقناعة التقاليد البالية والخرافات، فهي التي أدت إلى تأخر الشعب فكرياً وثقافياً، وهي التي كانت تؤثر سلباً على مسار النضال من أجل التحرر والانعتاق.

يضع الشبيبي مع ذلك وغير ذلك الدين في المقام الأول بالنسبة لكل شيء في حياة المجتمع، فيرفض أن يكون غير الدين محوراً لكل ما فيه خيره وسؤدده، فا لأخلاق عنده تستقيم بالدين، ومن دون الأخلاق يذهب العلم ذهاب الزبد. والشبيبي بذلك يربط بين الدين والعلم بأسلوب صوفي مبدع، ودون أن يكون سلفياً، إنه على العكس تماماً من ذلك، واقعي في تفكيره، متفائل، فهو يفكر في «اليوم والغد» بل وحتى في «ما بعد الغد» لذلك يعد الشبيبي حقاً الأنموذج

ص: 61

المعبّر عن حقيقة أن العلم أداة لتهديم قلاع الظلم والاستبداد والتخلف وضمان السير نحو المستقبل الأفضل فهو يريد العلم العملي لكل شيء وفي كل ميدان ومجال سوى المدارس الدينية وحدها يستثنيها من ذلك، مع العلم أنه لم يفصل العلم عن الدين فإن الأول كلما بلغ به التطور ساعد أكثر على تجلي عظمة الخالق، كما أكد في بحثه عن الاكتشافات الفلكية بل أنه يذهب أبعد من ذلك بكثير حين جعل الدين والعلم أخوين إرتضيا رحماً واحداً غير مقطوع ولا منفصل. لقد كان الجهل لدى الشبيبي يعادل الموت. (نقلاً عن موقع المدى للإعلام والثقافة والفنون www.almadasupplements.com).

إهتمام الشبيبي بالاقتصاد

كان الشبيبي يبدي إهتماما للاقتصاد العرقي وخاصة القطاع الزراعي ويدعو إلى تشجيع الزراعة . كما كان يقف وبصلابة ضد هجرة أبناء الريف إلى المدن، ويقول أن ذلك يؤثر سلباً على الإنتاج الزراعي. وبعنوان (مرافق منسية) كتب الشيخ محمد رضا الشبيبي مقالاً بصحيفة الزمان بعددها في 27/4/ 1957 قال فيه في البلاد مرافق إقتصادية قليلة ولكنها منسية محرومة من العناية وفي مقدمتها مرافقنا الزراعية، وهذه المرافق أحق من غيرها بالحماية والتشجيع، لأن العراق بلد زراعي قبل كل شيء، وقد دلت التجارب على أن الحركة التجارية في جميع الأسواق تتوقف على إزدهار المواسم الزراعية وكثرة الطلب عليها من الخارج.

وها نحن نرى كساداً ظاهراً في الأسواق التجارية تردي المواسم الزراعية في السنوات الأخيرة، وعدم التمكن من تصريف منتجات العراق بأسعار حسنة، ويشمل ذلك كافة المحاصيل من الحبوب والتمور وغيرها من المنتجات.

من ذلك نفهم أن مرافقنا ومحاصيلنا الزراعية بحاجة إلى حماية قوية فعلى المسؤولين أن يبذلوا جهودهم، لترويج ما يصدر من العراق، والسعي إلى إيجاد الأسواق الخارجية. إننا نستورد بضائع مختلفة من البلدان الاجنبية تبلغ قيمتها أكثر

ص: 62

من مائة مليون دينار، وهي ثروة طائلة تتسرب إلى تلك البلدان الأجنبية، يجري كل ذلك من سمع المسؤولين وبصرهم ولا يحرك ذلك منهم ساكناً، لحفظ التوازن بين تجارة التصدير والاستيراد، والأنكى من ذلك أن أسواقنا تغص بالكماليات من تلك الحاجيات المستوردة، ولا يقتصر الاستيراد على الضروريات، كما يجري ذلك بالبلاد نظرة عابرة إلى المخازن التجارية في جميع أسواق العراق تكفي لمعرفة أننا مغبونون، وأننا عالة على غيرنا. ((المصدر نفسه)

إهتمام الشبيبي بالعلم والعلماء

اشارة

كان الشيخ محمد رضا الشبيبي يبدي إهتماماً كبيراً بالعلم والعلماء، ويدعو إلى الأخذ بأيديهم من أجل تقدم البلاد وتطورها. ففي /1957/15/5 كتب الشيخ الشبيبي عموداً في جريدة الزمان البغدادية بعنوان (المواهب الضائعة) تساءل فيه متى يكون بلدنا مقبرة تدفن فيها مواهب الموهوبين وكفايات الاكفاء؟ متى تكون مدنه ميداناً يصول فيه الجهل ويجول وتحترم فيه البلادة والغباء وتنقلب المقاييس؟ متى تعمم الدراسات العلمية والبحوث الأدبية؟ من يشجع ذويها ويأخذ بيدهم بدون تفريق أو تمييز؟ نقول يقع ذلك بل يقع أسوأ منه في كل بلد لا يبالي بالعلم وذويه. وفي العراق في هذا الوادي الحبيب أي وادي الرافدين ذلك الوادي الذي إنبثقت منه أنوار الحضارة والعلوم والفنون بأسرها حقباً غير قليلة في هذا الوادي الحبيب وادي الرافدين مهد الحضارة بقية باقية من ذوي المواهب والكفايات العلمية والأدبية، تقتل لياليها سهراً بالتجهيز والكتابة وتنشئ ما تنشيء من القطع الفنية منثورها ومنظومها، فهل سأل سائل في هذه البلاد عن الفئة المذكورة؟ وكيف تعيش وكيف تسد رمقها وكيف تطعم أطفالها وكيف تكسوهم وأين يقيمون ويسكنون؟ ومن هو الذي تفقد هذه الفئة المغمورة وعني بأمرها وبإنتاجها؟ وهيهات أن يتفقد متفقد أصحاب المواهب والكفايات في بلد يطغى فيه التكالب والنزعات المادية البحتة، وتطاحن المتطاحنون فيه على حطام زائل لا يبالون كيف حصل بأيديهم ذلك الحطام، وهل جاءهم من وجوه مشروعة أو غيرها ؟ لا شك أن هناك قوماً مسؤولين دائماً عن هذا

ص: 63

الضرب من التقصير بحق ذوي المواهب والكفايات وهو في الوقت نفسه تقصير في حق الوطن، وفي تفهم مصالحه وأسباب حياته والعمل على إنهاضه من كبوة الخمول. (المصدر نفسه)

ج - أدب المقاومة في شعر الشبيبى

المقاومة أُخذت من فعل«قاوم» وقاوم فى اللغة يعني «ثبت، صمد، لم يضعف، خاصم، شاجر و«المقاوم: من يعلن المقاومة» و«المقاومة: صمود في وجه المهاجم». (حموي، د.ت مادة قوم) «في هذه الكلمة دلالة وإشارة كافية على أصل معنى الصمود والتحدي وما تنطوي عليه الكلمات من الرفض والعصيان والثورة، وتقع المقاومة بين الحرية والعدوان حيث الحرية هي السعي للتخلص من إضرار ومن حيث إن العدوان هو التهكم والاحتقار والإرهاب بكل أشكاله» (معروف ، 1362 ه-.ش، ص: 663) تحدث المقاومة حينما لا يشعر الشخص بالأمن والراحة في حياته الفردية والاجتماعية أو حينما يرى أنّه يفقد كرامته الإنسانية وعزته الذاتية فيبدأ بالدفاع عن شرفه وعزته المهدورة بما عنده من القوى. «إذن الاحتلال يولد المقاومة وما دام الاحتلال قائماً فإنّ وجود المقاومة ضرورة ملازمة له». (الحمد، 1999م: ص: 56) وأدب المقاومة في الاصطلاح «أدب الصرخة الشجاعة بوجه الظالم وصيحة المظلوم بوجه الغاصب المستبد يدعو أبناء الأمة لنبذ المذلّة عن أعناق عباد الله» شعر المقاومة هو المقاومة أمام التشرد والإخراج لأجل البقاء في الأرض المقاومة أمام المنع وإزالة الهوية الثقافية والوطنية. أما التعريف الشامل والكامل لأدب المقاومة «أطلق اصطلاح أدب المقاوم إلى الآثار الأدبية التي تبدو عند ظهور المجالات الخاصة ككبت الحرية والاستبداد الداخلي ثم عدم الحرية الشخصية والاجتماعية أو الاغتصاب الخارجي والمقاومة أمام تيارات ضد الحرية». إذن أدب المقاومة هو الذي يحث الناس على التحدي أو الهرب والنجاة ممن يحاولون السيطرة عليهم.

المصدر نفسه.

أدب المقاومة (نشأته وتطوره)

ص: 64

المقاومة هی الثبات والدفاع عن النفس والكرامة الإنسانية والحياة ويمكن القول بأنّ كل شعر يستوعب هذه الأفكار فهو شعر مقاوم. وشعراء المقاومة هم الذين يتكلمون عن حقوق الشعب الضائعة ويحرضون الشعب على استرجاع حقوقهم من الظالمين وينبهونهم على عدم الخضوع للمستكبرين. لم يكن لهؤلاء الشعراء اسم خاص حتى عام 1948م؛ عندما حدثت كارثة فلسطين وشُكّلت الدولة الصهيونية. فبدأ شعر المقاومة وظهر شعراؤها. إنّهم كانوا يتكلمون عن آلام الشعب العربي المضطهد عامةً وفلسطين المغتصبة خاصةً . يُعتقد «أنّ إبراهيم طوقان يُعتبر المؤسس لهذا النوع من الشعر أي أدب المقاومة». لكننا إذ ندقق النظر، نرى مظاهر أدب المقاومة بأشكالها المختلفة في شعر الشعراء بكل عصر من العصور؛ لأنّ من أهم محاور أدب المقاومة هي قضية الحرب والنضال حيث إنّ عمر الحرب يكاد أن يساوي عمر الإنسان على الكرة الأرضية «منذ معركة قابيل وهابيل والصراع بينهما».(كياني، 1388ه-.ش : ص: 128).

أدب المقاومة في العصر الحديث

بعد استيلاء المغول ثم العثمانيين والمماليك على البقاع العربية، مُلِئت البلاد العربية بالظلم والاستبداد والنهب والخراب فكان الناس يعانون من مرارة العيش وكان الشعراء هم لسان الشعب - منذ الجاهلية فصاعداً - فالتجأوا إلى ذكر مظالم الأتراك، وإلى المدائح النبوية والاستشفاء بالأولياء انتهى العهد التركي بحملة «نابوليون بونابرت» على مصر فبعد دخول العوامل الأجنبية إلى بلاد العرب، صار الأدب ميداناً للصراع السياسي، والتزم بأمور الشعب حتى صار مرآة تعكس الحياة الاجتماعية وآلام الشعب وما مرّ به من الظلم والاضطهاد كما وقف ضد هؤلاء الظالمين الأجانب. الأدباء ومنهم الشعراء بدأوا بإنشاد الشعر السياسي والثوري الذي يتمحور حول هذين المحورَين

المحور الأوّل: المقاومة ضد الاستعمار الأجنبي وتحريض الناس للثورة عليه.

ص: 65

المحور الثاني: الاعتراض على الحكام العرب الذين صاروا دمى بأيدي الأجانب، وكشف الستار عن أوجههم الحقيقية.

وأما من أهم العوامل التي خلقت شعر المقاومة في الوطن العربي الحديث هي ثورة الشعب العربي ضد سلطة الأجانب للتخلص من مظالمهم وتعذيبهم واحتلالهم، منها:

- انتفاضة الشعب المصري بقيادة «عرابي باشا» ضد الإنجليز التي أدت إلى احتلال بريطانيا لمصر.

- ثورة الشعب العراقي ضد الاحتلال الإنجليزي سنة 1920م برئاسة علماء التشيّع وثوار العشائر.

- وثبة شعب الجزائر وليبيا ضد الاحتلال الفرنسي والايطالي بغية الاستقلال والتخلص من حبال الاستعمار.

- نهضة جمال عبد الناصر في المعركة بين العرب وإسرائيل.

الثورة الفلسطينية ضد الحكومة الصهيونية. وهذه الأخيرة من أهم العوامل التي برّزت النوع الجديد من الأدب باسم «أدب المقاومة» في الوطن العربي. (محسني نيا، 1388ه-.ش : ص : 148)

في منتصف القرن العشرين ذهب الأدب إلى ساحة المقاومة للغزو الصهيوني لأرض فلسطين ومنذ سنة 1948م صارت فلسطين من أهم محاور أدب المقاومة في بلاد العرب بحيث لا نرى شاعراً إلا وقد خصّص الكثير من أشعاره للقضية الفلسطينية كما أنهم قد اكتسبوا مكانة مرموقة في ساحة أدب المقاومة إثر المقاومة الفلسطينية. منهم الشعراء الفلسطينيون «كمحمود درویش»، «عز الدين المناصرة»، «سميح القاسم» و «فدوى طوقان». والشعراء الآخرون غير الفلسطينيين «كأمل دنقل»، «نزار القباني»، «عبد الوهاب البياتي»، «سعدي يوسف» و«بلند الحيدري». وصفوة القول

ص: 66

أنّ أدب المقاومة في العصر الحديث تطور بتطور الزمن ، لظهور العوامل الأجنبية في بلاد العرب والمقاومة ومظاهرها التي صارت جزءاً لا ينفك عن الأدب والشعراء كانوا أداة مهمة للتعبير عن المشاعر الوطنية، وكان الشعر يتمحور حول أحاسيس الناس وآلامهم ومشاكلهم ويهدف وراء ذلك إلى إذكاء روح المقاومة والوعي لدى العامة.

أدب المقاومة العراقية

إنّ الأدب كمرآة تعكس جميع زوايا الحياة البشريّة. والشعر نوع من الأنواع الأدبيّة، له مهمّة ورسالة وهي «الدعوة إلى إصلاح ما فسد من شؤون المجتمع بل العالم نحو الأفضل»(دلشاد، 1388ه.ش ص 3) فالشاعر العربي منذ القدم كان لسان قومه الصارم ويدافع عن حياضه وهو لا ينسى مهمّته البشرية تجاه قضايا شعبه الذي يعاني القهر والعسف والظلم هو أديب ملتزم شجاع لا يخاف من أيّ شيء«فالخوف من السجن ومن الاضطهاد، أمر يتنافى مع توجه الشاعر الملتزم بقضايا شعبه ومشاكل مجتمعه وتناقضاته». (أبو الشباب 1988م ص : 63) والشاعر العراقيّ الحديث لا يستثنى من هذه القاعدة. بعد أن ساد الشعب العراقي ثالوث الفقر والجهل والمرض بسبب احتلال الأجنبي لمقدراته وأرضه، أدرك الناس عامّة والشعراء خاصة ضرورة التخلص من نير الإستعمار والثورة على العادات والقوانين التي وضعها الاستعمار لهم. هم ينتهزون أيّ فرصة مناسبة ليعبّروا عن آرائهم السياسيّة، ويهتفون لتحرّر العرب وطرد المعتدين، والتفاخر بالشخصيّة العربية، ودعوة الجماهير إلى الثورة ضدّ حكم الأجانب المستكبرين. ويمكن القول إنّ شعر المقاومة لدى شعراء العراق بدأ منذ القرن التاسع عشر مع ظهور الظلم والاضطهاد من قبل الأتراك الأجانب «كان أغلب الشعر العراقي في القرن التاسع عشر، لا جميعه يقوم حول ما يمكن أن يُدعى بالموضوع السياسي الثوري، ويشكّل هذا النوع من الشعر السياسي أرقى مثالاً في العربية الحديثة للشعر الذي تجدد بتأثير العوامل الخارجية السياسية والاجتماعية». ( الجيلوسي، 2007م: ص: 4) فالأدب العراقي، أدب حيّ يحمل في طيّاته آمال الأمّة

ص: 67

الناهضة المتطلعة إلى الحريّة والاستقلال، الطامحة إلى العلم والرخاء بعد عصور طويلة من الجهل والفقر والتخلف... ولم يخل من التطلع إلى الماضي وأمجاده الزاهية».( بصري 1999م ص : 25)

حب الوطن والحرية

في غمرة النضال من أجل الحق والعدالة وبناء كيان عراق متحرر من قيود التقاليد البالية ورواسب الجمود انطلقت شاعرية الشبيبي ترسم الأحرار طريق الحرية والنور وتبنى لهم من ثقاب رأيها وصدق مبدئها وأمانة عقيدتها الوسيلة الناجحة للوصول إلى الهدف الأمثل ألا وهو الاستقلال التام والانعتاق من الظلم والجور والطغيان الذي تمثل في مآسيه لدرجة أن الحزن والأسى أصبحا ملازمين لطبيعته النفسية وقد وضح الشاعر هذه الفكرة في مقدمة ديوانه إذ قال كنا في رهط من الشباب العراقيين وغيرهم نفکر تارة رسم أهدافنا وطوراً في الوسائل التي توصلنا إليها. ولم نكن نستهدف في الواقع إلا الحياة في ظل نظام تُحترم فيه الحقوق والحريات، وتفلح في كنفه المساعي تيسر النهوض بالبلاد الشبيبي نذر نفسه لخدمة رسالته المقدسة وضحّى بكل غالٍ وثمين من أجل إعلاء كلمة الحق وإرساء راية العدالة الخفاقة على ربوع العراق ورافديه وهو يختار أقسى مرحلة من مراحل بنائه وتوطيد كيانه الحر المستقل فالقارئ لو اطلع على عناوين قصائده الموسومة بالوطنيات وحاول أن يتحسس بما وراء تلك العناوين من روح متحمسة وقلب كبير وعقل ثائر لأدرك بأن الشبيبي عاش ومات في (سبيل الشرق) وسكب عواطفه الحارة وأشواقه الملتهبة في كلمات مؤثرة بليغة وهو يتحدث عن العراق ودعوته الصابرة الشريفة لنيل استقلاله وحريته (فالثورة على الأتراك) بكل ما فيها من شكوى وعتاب و (قصيدة الباكية) وهو يتحدث عن (دمشق وبغداد) تلك القصيدة التي نظمها في أول تشرين الأول سنة 1918م حينما أذاع الإنكليز في العراق أنهم - لا العرب - أخذوا دمشق الشام والتي يقول فيها:

ماذا بنا وبذى الديار يراد؟ *** فقدت دمشق وقبلها بغداد

ص: 68

من موطن الميلاد قامت نازعاً *** خيل لهن بجلق ميعاد

ساءت وقائعها. ما سرت بها *** لا الهجرة الأولى، ولا الميلاد

وردت مياه الرافدين مغيرة *** شقر من انقب البطون وراد

هجن طردن من الجياد كرائماً *** عربینه كأنهن جياد

بردى وأودية الفرات ودجلة *** والنيل غص بمائك

(الشبيبي، 1940م: ص: 45)

فقد شارك الشبيبي بوجدانه المتدفق وعقليته المتحررة الوقادة في بناء الحكم الوطنى وكافح الاستعمار في كل أشكاله في عهد الاحتلال وبعده وكان في طليعة المشتغلين باخلاص ووفاء بالقضية العربية والعراقية.

الجانب الفكري

اشارة

الفكر ، سمة من سمات الشاعر المجدد، وقد طبعت هذه السمة أغلب شعره، فهو يرى مثلاً في الظلم أقبح صفة يتخلق بها الجائرون الظالمون، فحز ذلك في قلبه، وهو يراهم يعملون ما يشاءون، فيقول فيهم:

يقولون اتيان الكبائر جائز *** وفعل الخطايا المنكرات مباحُ

أخي هذه الأخلاق للجنس نهضةٌ *** وللبشر الآتين منه فلاحٌ

يريدون للدنيا ضماداً وأنهم *** بجثمان هذا الاجتماع جِراحٌ

فالنهضة التي يتطلع لها الشبيبي لابد أن يساهم أبناء شعبه فيها، إلا أنه يرى شباباً لا يدركون معنى الاصلاح وقيمة الفكر التجديدي، وشيباً عاجزين عن فعل شيء، فيصرخ قائلاً:

ص: 69

شبابٌ طائشٌ نزق *** و شبب مابهم رمقٌ

وشعب طالب ثقةً *** فدلوه بمن يثقُ

ففی آرائنا شِيع وفي أحزابنا فرق

والأروع ما قاله في الجانب الفكري اعتقاده على أن الحقيقة الكاملة معنىّ مجازياً، وكُلّ يقرؤها بمنظوره الخاص ويعتقد جازما أنها الحقيقة، فكتب قصيدته بعنوان «الحقيقة لا تدرك» وهي نقداً للتقليد والجزمية والتطرف في إطار البحث العلمي، فيقول:

يسوق له دلیل تخرّصاتٍ *** ويمنع خصمه أن يستدلا

يؤلفها قياساً منطقيا *** تمُثله قضايا الوهم شكلاً

رويدك قد فتنت بها نفوسا *** رأتك لأن تهذبهنّ أهلاً

دجی التقليد مات *** ولو تقرّى شؤون المستقلين استقلا

يصوب دونهم طرفاً غضيضاً *** ويقبض دونهم باعاً أشلاً

فمأسورٌ وإن قالوا طليقٌ *** ومأخوذ وإن قالوا مُخلّى

بماذا يا نصير الجهل قل *** لي تميس تغطرساً وتميل دلاً

وما طاوٍ يهاب الوحشُ منه *** عملس يسحب الذيل الرقلاً

بأغدر منك إذ تبتزّ مالاً *** يحرّمه النُهى وتراه حلِاً

إذا وجد المريب بأرض جُبنٍ *** تولاها، وإن شجت تولىّ

(عبدالحمید، 2004، ج2، ص: 196)

ص: 70

ج. الجهاد ضد الاستعمار

هكذا أظهر أثر هذا الوعي في الشعر بارزاً وواضحاً عند شعراء العراق البارزين والذين يعدون في الطليعة، فقد نظم الشيخ محمد رضا الشبيبي قصيدة أيضاً وهاجم فيها الاستعمار مهاجمة عنيفة وتعني هذه القصيدة صورة من فضل وجهاد الشاعر في

الذود عن حياض المسلمين:

عم الثغور الموشحات ظلام

ودَجت لأنك ثغرها السامُ

طوت الفياق نكساً أعلامها

إذ ليس تخفق بعدك الأعلامُ

رابطت في ثغر العراق وثغرها

يحمى الحجاز بسه والشامُ

سقط الذي شيدت من أركانه

وأعيد فيه النقض والابرامُ

صالت على تلك المنية أختُها

وسطا على ذلك الحمام حمامُ

طالت عليك فكل شهر عام

لله سعة أشهر قضيتُها

(الشبيبي، 1940 ، ص : 180)

وللشاعر قصيدة أخرى يتحدث فيها عن واقعة شعيبة والتي تعد من أعظم المعارك، والواقعة المهمة الأولى في حياة الحرب بالعراق، استنفر فيها العراقيون فقد جاء القائد سليمان عسكري بك، ومعه فريق من الجنود الأتراك متجهين نحو البصرة،

ص: 71

وهناك حدثت معركة كبيرة جرح فيها القائد التركي سليمان عسكري بك، وبعد أن القائد سليمان عسكري بك في هجومه الذي شنه على الانكليز ذهب إلى بغداد للتداوي في المستشفى العسكري (خسته خانة المجيدية) ولم يمكث غير أيام قلائل حتى عاد إلى أسلحة الحرب وقد شوهد هذا القائد راكباً عربة ولايزال مضطرباً من جرحه، ينتقل من مكان إلى آخر فيسوق الجيش ويدربه وبعد أن رأى الجيش على شفا جرف هرب موليّاً الأدبار وأن معونته قد ضعفت فما كان من القائد إلا الانتحار ألماً وحسرة بعد أن أبدى من الإخلاص والوفاء ما استحق به أن يخلد مع الابطال وقد سجل محمد رضا الشبيبي هذه المعركة الرهيبة وأتى على كثير من تفاصيلها فيرى فيها أشهر أيام الحرب العراقية، فقد كانت مناجزة شديدة هزم في آخرها العثمانيون، وتركوا نصف ذلك الجيش بين قتيل وجريح وأسير وفقيد وقد جسد لنا وقائع تلك الموقعة في قصيدة سماها يوم الشعيبة تحدث فيها عن معاناة الجيش العثماني الذي أقام ثلاثاً في خنادقها خالي الحقائب من ماء ومن زاد رغم موفور ماء الفراتين وحبهما وهو يبلغ الذروة حين يحدد سبب ذلك الخلل، فإن أقواتنا - في بطون الذر أكثرها، لا في بطون صعاليك وأخباد وما إلى ذلك فيقول:

نبت الربا حمر أشلاء واوراد

منثورة لك بين القصر فالوادي

دون الشعيبة اجساد موزعة

في البيد توزيع أعضاء بأجساد

جيش أقام ثلاثا في خنادقها

خالي الحقائب من ماء ومن زاد

(المصدر نفسه، ص 47-48)

د. مجد ثورة النجفيين

كان صراع الشبيبي مع الدولة العثمانية من وجهتين إحداهما أنها حائدة عن

ص: 72

الطريق القويم للسلام، يتضح ذلك بظلمها، والأخرى لأنها غاصبة حقوق العرب الذين قامت الدولة الإسلامية على أيديهم، ولكن الزمان أدى بها إلى هؤلاء ولذلك يقول:

أما صفحنا عن الماضي لاعينكم *** اما ادیلت لكم ايامنا الاول

(المصدر نفسه ص (27)

فالشبيبي يشعر بمجد العرب ولذلك يثور بعنف وقوة أثر ثورة النجفيين في عام 1915م تلك الثورة التي انتهت بطرد الترك وحكم الاهالي لأنفسهم، حتى إذا جاء الإنكليز استطاعوا إخضاعهم ففي هذا الحادث يقف ثائراً ومفاخراً يقول في قصيدته «ثورة على الأتراك»

لا الجبن فأطفانا ولا البخل *** الثأر والحقد بالأقوام والدخل

لو كان ما بهم جنبا لما انتقموا *** وفي طريق بلوغ النقمة الأجل

السيف قرب منا كل قاصية *** لا المنطق الفصل من قوم ولا الجدل

(المصدر نفسه)

ه-- التنديد بسياسية الاستعمار في ثورة العشرين انتفض الشعب العراقي في ثورة العشرين، ثم تلتها حركات أخرى تميزت بالبذل والفداء وإرخاص المهج والأرواح وذلك للتخلص من تعسف المتعسفين واثره المستأثرين، غير أنها كانت شرراً ينبعث من الثورة الكبرى وعاد التاريخ يعرّى أغراض أولئك الذين ناوأوا الوثبة الأولى وساموا قادتها العذاب ومقصدهم الوصول إلى المناصب الوثيرة وحوربت وتألبت عليها قوى الشر بالمال والنعرات الهدامة وبذور الشقاق والأنانية والجشع والاثرة. لذلك يقف الشبيبي ازاء هذه الفعلة النكراء فيقول:

ص: 73

أخطأ الحق فريق بائس *** لم يلومونا ولاموا الزمنا

خسرت صفقتكم من معشر *** قد شروا العار وباعوا الوطنا

ارخصوه ولو اعتاضوا به *** هذه الدنيا لقلت ثمنا

يا عبيد المجد خير منكم *** جهلاء يعبدون الوثنا

(المصدر نفسه، ص 105)

وهكذا يندد الشبيبي بالإنكليز وأتباعهم، ويصف الصراع بينهم وبين العشائر حينما طلبوا أسلحتهم وكان الطلب من هؤلاء حجة ظاهرة للانتقام منهم.

نتيجة البحث:

وصل البحث إلى القسم الأخير ، وهو تسجيل النتائج المتحصلة منه في النقاط التالية:

كان الشبيبي مجاهداً من أجل استقلال العراق وهو الذي صرخ في وجه الحاكم الانكليزي للإعتراف باستقلال بلاده و هو صاحب دعوة أن يتحد الشام والعراق.

يعتبر الشبيبي من أهم أركان أدب المقاومة على الساحة العربية عموماً وعلى الساحة العراقية خصوصاً.

تمثلت عناصر المقاومة في شعر الشبيبي كالتالي:

إشارة إلى القمع وفقدان الحرية والمخبرين وإظهار النقمة عليهم.

تحريض الشعب نحو الثورة ضد الاستبداد.

الدفاع عن الطبقات الفقيرة والمضطهدة.

لقد تضمّن شعر الشيخ محمد رضا الشبيبي حشداً كبيراً من المفردات ذات البعد الديني وهذا يدل على أنّ الشاعر ذو ثقافة دينية واسعة.

ص: 74

يصوّر الشاعر من خلال عدسة شعره حالة الاختناق والكبت والرعب والمأساة التي يعانيها الشعب العراقي من الاستعمار وسياساته.

يمتاز شعر الشبيبي بالصّدق الفنّي والوضوح والبساطة أو السهولة التي تميّز شعره من الشعراء المعاصرين الرّمزيين ويسهل فهمه للعموم؛ لأنّه شاعر الشعب.

قائمة المصادر

أبو الشباب، واصف، القديم والجديد في الشعر العربي الحديث دار النهضة العربية للطباعة

والنشر، بيروت، 1988م،

آقابزرگ تهرانی محمد حسن، الذريعة الى تصانيف الشيعة، دار الاضواء، بيروت، 1373 ق بصري، مير أعلام الأدب في العراق الحديث، دار الحكمة، لندن، 1999م.

الجميلي ،ع، نگاهي به تاریخ سیاسي عراق، ترجمه محمد حسين زوار كعبه، حوز هنري تبلیغات اسلامي ،تهران 1370ه.ش.

الجيلوسى، سلمى الخضراء الاتجاهات والحركات فى الشعر العربي الحديث الترجمة عبد الواحد لؤلؤة، الطبعة الأولى، بيروت. 2001م.

الحسني عبد الرزاق تاريخ العراق السياسي الحديث دار الرافدين، بيروت، 2008م.

الحمد، جواد و إياد البرغوثي، دراسة في الفكر السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)،

ط : 2 عمان مركز دراسات الشرق الأوسط، 1999

1م.

حموي، صبحي، المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، بلاتاريخ.

دلشاد جعفر وآخرون، الغربة في الشعر العراقي نموذجاً، مجلة العلوم الانسانية الدولية، العدد 15، 2008م.

الشبيبي، محمدرضا، الديوان، مطبعة لجنة التأليف والنشر، القاهرة ، 1940م.

الشربتي، أحمد حامد الشبيبي في حكمه وأمثاله، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1982م. عبد الحكيم ، عمر ، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية . لا . مط، بيروت، 2004م.

عبد شناوة، علي، محمد رضا الشبيبي ودوره الفكري والسياسي حتى العام 1932 ، دار كوفان

للنشر، العراق، 1995م.

عبدالحمید صائب، معجم مؤرخي الشيعة، مؤسسة دائرة معارف الفقه الاسلامي، قم، 2004م الغزالي، محمد الإسلام والاستبداد السياسي، دار النهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع مصر، 1997م.

ص: 75

فاخوري، حنا ، تاريخ الأدب العربي، ،توس ،تهران 1380ه.ش.

فوستر هنري نشأة العراق الحديث، ترجمة عبد المسيح ،جويده، مطبعة الشعب، بغداد،p1938.

قدورة زاهية تاريخ العرب الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، 1985م.

كياني، حسين وسيّد فضل الله میرقادري، «شهيد وجانباز در شعر إبراهيم طوقان، شاعر مقاومت فلسطين» نشريه أدبيات پايداري سال ،أول شماره 1 دانشگاه شهید باهنر کرمان، 1388ه.ش.

محسني نيا، ناصر،«مباني أدبيات مقاومت معاصر إيران و عرب . نشریه ادبیات پايداري، سال

أول، شماره 1 دانشگاه شهید باهنر کرمان 1388ه.ش.

معروف، لويس المنجد في اللغة والإعلام نشر اسماعيليان، تهران، 1362 ه.ش.

نفيسي، عبدلله فهد نهضت شیعیان در انقلاب إسلامي عراق مترجم کاظم چایچیان

انتشارات أمير كبير ،تهران، 1364ه.ش.

الواعظ، رؤف، الإتجاهات الوطنية في الشعر العراقي الحديث، دار الحرية للطباعة، بغداد، p1974.

الوردي علي لمحات إجتماعية من تاريخ العراق. الجزء السادس، لا.ب: لا. مط، 1992م.

www.almadasupplements.com

ص: 76

موقف علماء الحوزة العلمية من القضايا العربية والإسلامية: الاحتلال الايطالي لليبيا - أنموذجاً -

اشارة

حيدر عبد الهادي علي العذاري(1)

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على النبيّ الأمين وآله الطاهرين..

وبعد: فقد اخترت النقطة الخامسة من المحور الأول من محاور البحث المؤتمر الدولي حول (التجديد في صناعة التاريخ وكتابته) فسلطت الضوء على مرحلة جديرة بالدارسة والتحليل والبيان تتألق فيها الحوزة العلمية برجالها الذين حملوا أقلامهم بيدٍ وسيوفهم بيدٍ أخرى لينبروا مدافعين عن قضايا مصيرية عصفت بأُمّتنا العربية والإسلامية، فتألّموا حينما تألّم المسلم في أبعد المعمورة، ودافعوا عنه بما أتيح لهم من فرصة وامكانية ، والدليل هو الفتوى الخالدة لعلماء حوزة النجف الأشرف لما تداعت جيوش الاستعمار الكافرة في مطلع القرن الماضي، فدنست

ص: 77


1- أستاذ في الفلسفة - العراق- المؤتمر الدولي حول التجديد في صناعة التاريخ وكتابته 1439ه- - 2018م.

أرضنا العربية الإسلامية في (ليبيا) وغيرها، ووقتئذ لا الطائفية منعتهم ولا الحدود حجزتهم ولا بعد المسافة أعاقتهم عن نصرتهم، والوقوف إلى جانبهم، فبثت تلك الفتوى روح الجهاد والمقاومة والعزيمة فكانت كالروح تدب في جسد ميت.

المبحث الأول وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعريف مختصر بالحوزة العلمية وعلمائها

الحوزة العلمية مصطلحٌ يطلقُ على المراكز الدراسية التي تضمّ طلبة العلوم الدينية من شيعة أهل البيت، والتي تقع تحت إشراف وإدارة المراجع العظام والعلماء الكرام. وتحظى باستقلال مادي واقتصادي. فلا تخضع في مواردها المالیة و الاقتصادیة الی الدعم الحکومی بل یقوم مراجع التقلید بتامین ما تحتاج الیه الحوزات العلمیة من خلال الوجوه الشرعیة کالاخماس والزکوات و هدایا المومنینو الاوقاف...

وقد اختارت الحوزة العلمية وعلى مرّ التاريخ منهجاً دراسياً خاصاً يقسّم إلى ثلاث مراحل هي مرحلة المقدمات، والثانية مرحلة السطوح، والثالثة مرحلة الخارج.

وأهم مركز للحوزة العلمية هو النجف الأشرف ثم كربلاء المقدسة ثم قم المشرفة ثم سامراء ومشهد وأصفهان وبغداد والحلة وغيرها.

ويمكن القول: أن نواة الحوزات العلمية كان مع بزوغ فجر الإسلام وتأسيس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة؛ فلما كانت المدينة المنورة هي المنطلق الأول للرسالة الإسلامية، فلا غرو إذا كانت (المدرسة الأولى للفكر الإسلامي). واستمرت في عطائها كمركز علمي حتى عصري الإمامين الباقر والصادق.

وجاء بعد المدينة دور الكوفة بعد أن انتقلت مدرسة الفقه الشيعي من (المدينة) إلى (الكوفة)، ومع تأسيس بغداد واتخاذها عاصمة للدولة العباسية تحولت هي الأخرى إلى مركز علمي استقطب علماء الشيعة لما توفر فيها من مشايخ كبار كالشيخ الكليني والشيخ المفيد، وكانت المدرسة البغدادية ما بين (260) ه-) إلى (327ه-)

ص: 78

المعروفة بفترة الغيبة الصغرى تدار من قبل النواب الأربعة، ثم تواصلت الدراسة والنشاط العملي فيها إلى أن أثيرت الفتنة في منتصف القرن الخامس وتم إحراق مكتبة دار العلم ممّا اضطر الشيخ الطوسي إلى الهجرة منها إلى النجف عام (448 ه- ) ليؤسس هناك المدرسة النجفية التي تحولت بعد مدرسة بغداد إلى المركز الأمّ للدراسات الشيعية.

ثم ازدهرت بعد النجف حوزة الحلة العلمية التي تمكنت من حمل راية المرجعية العلمية على يد فقهاء ومراجع كبار كالعلّامة الحلّي والمحقق الحلّي وابن فهد الحلي.

وكذلك كان لجبل عامل نصيب كبير في دعم الحركة العلمية الشيعية لما جادت به يراع کبار علمائها کالشهيدين الأول والثاني.

ثم ازدهرت حوزة قم حين حل بها الشيخ عبد الكريم الحائري ثم ازدهرت أكثر في عهد السيد البروجردي ولا تزال .

وسر قوة الحوزة يكمن في عمق الدراسة وتقوى الدارسين واستقلالها من النواحي المتقدمة الذكر، فهي الإرث الحقيقي لأهل البيت (عليهم السلام) وامتداد المشروعهم الهدايتي في الأمّة.

المطلب الثاني: ليبيا قبل الاحتلال وبعده

خضعت طرابلس الغرب (ليبيا) للسيطرة العثمانية منذ عام (1551م)، وقسّمت البلاد إبّان عهد العثمانيين إلى ثلاثة أقسام رئيسية: هي أقاليم، (طرابلس، وبرقة، وفزان)، وطيلة القرن التاسع عشر كانت سيطرة العثمانيين على المناطق الساحلية قوية، في حين سيطرتهم على المناطق الداخلية ضعيفة،(1)وخلال الأعوام الأولى من ، القرن العشرين زادت أطماع إيطاليا في ليبيا، ولا سيما بعد احتلال فرنسا لمراكش بعد الجزائر وتونس واحتلال بريطانيا لمصر(2).

ص: 79


1- مجلة المؤرخ العدد 39 / بغداد 1988/ص13.
2- تاريخ العرب الحديث / ص 419.

ونتيجة لذلك بدأ التغلغل الإيطالي في ليبيا، فقد بلغ عدد الجالية الإيطالية في ليبيا عام (1900م) حوالي ألف ومائة شخص، وأنشأوا بنك روما في طرابلس عام (1907م)، وفتحت له فروع في باقي الأقاليم، وبذل البنك المذكور جهوداً حثيثة من أجل شراء الأراضي من الأهالي بأضعاف أسعارها، واتّباع سياسة الإقراض والاستملاك في حال عجز أفرادها عن الوفاء بالالتزامات مع البنك، وسيطر الايطاليون تدريجياً على صادرات البلاد من الصوف والحبوب وعشب الحلفا، وريش النعام(1).

وتمّ إرسال بعثة علمية آثارية إلى طرابلس عام (1910م) وظاهر عمل هذه البعثة هو التنقيب عن معدن الفوسفات وإجراء حفريات لإكتشاف المناطق الآثارية، ولكن مهمتها الأساسية في واقع الأمر هي وضع المصورات والخرائط الجغرافية اللازمة للعمليات العسكرية(2).

ويمكن القول إنّ الاجراءات الايطالية لاحتلال ليبيا خطط لها منذ أعوام، فقد اِستغل الإيطاليون حالة الفقر والفاقة التي عانى منها سكان ليبيا خلال تلك المرحلة التاريخية من أجل تنفيذ مخططاتهم الاستعمارية ولاقت تلك الخطط ثمارها، وفق مجتمع تعامل مع الطرف المقابل بحسن النية، ولكن أثبتت الأيام إن ما يبتغيه الإيطاليون ليس الأعمال الخيرية بل السيطرة على موارد هذه المنطقة مدفوعين

بروحهم الصلسة.

أكملت إيطاليا استعداداتها العسكرية لاحتلال ليبيا، أواخر عام (1911م)، وبلغت القوات العسكرية المعدة للغزو أربع وثلاثون ألف جندي، وستة آلاف وثلاثمائة حصان، وألف وخمسين عربة، وثمان وأربعون مدفعاً ميدانياً، وأربع وعشرين مدفعاً

جبلياً، ومائة وخمس وأربعون سفينة حربية، ومائة وأربعة عشر قطعة بحرية أخرى ضدّ القوات العثمانية المكونة من خمسة آلاف مقاتل في طرابلس وألفين في برقة، وكانت حجّة الإيطاليين هي مقتل شخصين إيطاليين في ليبيا عام (1908م)، وهي

ص: 80


1- مجلة المؤرخ العدد : 39 / بغداد 1988 ص39.
2- تاريخ العرب الحديث / ص 419.

حجّة واهية، و زعمت أن أملاك الإيطاليين وحياتهم في خطر، على الرغم من محاولة العثمانيين استرضاء الإيطاليون إلا أنهم لم يلقوا أذن صاغية لذلك(1).

أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية في ليبيا يوم 29 أيلول 1911م)، ولم یكن أمام الدولة العثمانية إلا إعلان موقف الحياد.

وممّا زاد الطين بلّة هو قيام الحكومة العثمانية بسحب معظم قواتها من ليبيا عام (1910م) بحجة أن وضعها في اليمن والبلقان حتم عليها ذلك، فضلاً عن سحب أسلحتها الاحتياطية في ليبيا والتي قدرت بأربعين ألف بندقية، إلى جانب سحبها الضباط الأكفاء ولاسيما العرب، وتركت البلاد بسبعة آلاف جندي، وتمّ إهمال تموين البلاد، في ظلّ تلك الظروف الحرجة التي أشتد فيها الجوع والقحط.

المطلب الثالث: موقف علماء الحوزة العلمية من الاحتلال

لقد حملت المرجعية لواء الجهاد دفاعاً عن حرمة الإسلام والمسلمين، بغض النظر عن الولاءات المذهبية والحدود الإقليمية والانتماءات العرقية، فحينما وقع الاحتلال الإيطالي لليبيا عام (1911م)، وقفت القيادة الدينية - الشيعية بكل إمكانياتها إلى جانب الدولة العثمانية في سبيل الدفاع عن ليبيا(2).

يقول الأستاذ محمّد سعيد الطريحي أصدر الشيخ الخراساني فتوى للجهاد والدفاع عن ليبيا ضدّ الاحتلال الإيطالي لها، وقد أكّد هذه الفتوى بعد وفاته، اثنان من كبار المجتهدين هما: السيد محمّد سعيد الحبوبي، والشيخ محمّد (صاحب الجواهر)، وقد أرسلت (الهيئة العلمية) إثنين من أعضائها إلى ليبيا لغرض الاستطلاع، ودرس إمكانية الاشتراك في حركة الجهاد هما: السيد مسلم زوين وعزيز بك، قائم مقام النجف المستقيل عن الاتحاد والترقي ، فسافرا إلى طرابلس ومنها إلى الآستانة.

ص: 81


1- جهاد الأبطال في طرابلس الغرب ص 35.
2- المرجعية الدينية الشيعية، مواقف مبدئية ضد الاحتلال مقال الكتروني للدكتور محمد جواد مالك موقع مكتبة العتبة الحسينية المقدسة : -2013/html http://imamhussain.194/09/lib.blogspot.com

و تتابعت فتاوى الجهاد من العلماء السنّة والشيعة لمقاومة الاحتلال الإيطالي وعلى أثرها تشكلت - في جميع أنحاء العراق - لجان للدفاع عن لیبیا من السنة والشيعة ولعب الشيعة فيها دوراً مميزاً رغم أن المعاملة التي كانوا يتلقونها من السلطة العثمانية سيئة جداً ..

وفي كربلاء عقد الأهالي اجتماعاً عاماً عند ضريح الإمام الحسين، وألقيت الخطب الحماسية، ثم جرى جمع التبرعات، وفي يوم (12 تشرين الأول 1911م)، تظاهر ما يقارب الألفين من الأهالي.

وشهدت مدينتا النجف وسامراء تظاهرات مماثلة خلال يومي (17،11) تشرین الأول، وألقيت فيها الخطب الحماسية، ودعا الخطباء إلى نبذ الخلافات الطائفية وتوحيد الجهود)(1).

وانعكس ذلك في مهرجانات الأدب والشعر التي كانت تلهب أحاسيس الناس وتدفعها للجهاد، وقد ذكر الأستاذ إبراهيم الوائلي مجموعة من الشعراء الذين وظفوا أقلامهم لنصرة هذه القضية في مقاله : الشعر العراقي وحرب طرابلس المنشور في مجلة كلية الآداب جامعة بغداد العدد السابع ،بغداد ،1964، ص: 202-217. نذكر منهم الشاعر الشيخ علي الشرقي إذ قال:

كيف أصبحت فأفصحي يا بلادي*** افيك ما يعقد الرطاب الفصاح

إن دعونا أرائك الجور طاحت*** يا دم الأبرياء كنت المطاحا

ما لروما فلا استوی عرش روما *** فتلت ذيلها وعجّت نباحا

جنبت عن نضال كل قويٍّ *** فأغارت على الزوايا اكتساحاً

نطحت ،برقة، وبرقة واحات*** من النخل ما عرفن النطاحا

ويقول الشيخ باقر الشبيي في قصيدته - ايتاليا وإعلان الحرب:

ص: 82


1- مجلة الموسم : العدد السادس : ص377 - 425.

فيا ايتاليا اعتقدي بأنّا *** سننشرها بأجنحة الظلامِ

ونضرب بالسيوف لكم رقاباً *** ونحمي بالدفاع حمي حمى الحريم

سلوا إن شئتم اليونان عنا ***وإن شئتم سلوا حرب الصريم

نصول بكل هدّار هزبرٍ *** إذا اشتد الوغى أسد هجوم

نذبّ عن الحقيقة في حماها*** ونحمي حوزة الوطن القديم

وللشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء قصيدة نهضوية هادفة بعنوان (حرب الطليان والبلقان (1)) يقول فيها :

أيها المسلمون هبّوا فليس ال***موت إلا حياتكم بهوان قد دهاكم ويلٌ فماذا التمادي *** وأتاكُمُ سيلٌ، فماذا التواني

جاءكم جارفُ من الغرب تيّار *** يهدّ البناء رأس المباني

يستغيث الإسلام فيكم فيلقي *** عنه منكم تصامم الآذان

صارخاً فيكُمُ فهل من سمیعٍ *** صرخات الإسلام والقرآن

أفيرجو الإسلام لقيان سلم *** (بعد حرب الطليان والبلقان)..

المبحث الثاني: نص الفتاوى التي صدرت باسم علماء الحوزة العلمية لاستنهاض المسلمين ضدّ المستعمر الإيطالي المحتل..

عقد مجتهدو النجف الأشرف وعلماؤها مجالس عديدة، واجتماعات مكثّفة وعطّلوا الدروس والجماعة تمخضت اجتماعاتهم في ذهاب السيد مسلم زوين

وعزيز بك (قائم مقام النجف) إلى ليبيا لدراسة إمكانية الاشتراك في ..الجهاد.

ص: 83


1- هناك الكثير من الشعراء الذين كتبوا عن هذه القضية لم أذكرهم في متن البحث وذلك لكثرتهم ومنهم: محمد حسين أبو المحاسن، والشيخ محمد رضا الشبيبي، وعبد العزيز الجواهري وغيرهم. وللمزيد من التفصيلات عن أولئك الشعراء ينظر إبراهيم الوائلي الشعر العراقي وحرب طرابلس مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد السابع ،بغداد، 1964 ، ص 202-217

أمر السيد اليزدي بعقد اجتماع عام، وأعلن بذلك، ونادى المنادي يطلب خروج الناس إلى وادي السلام فسارع عموم النجفيين ذكوراً وإناثاً صغاراً وكباراً، حتى كادت تخلو المدينة تقريباً، وغص الوادي بالناس ينتظرون رأي السيد وكلمته الأخيرة في أمر الجهاد، ودفاع العدو، وألقى الخطباء خطباً حماسية أبكت العموم، وأثارت فيهم نيران الحمية، فعلت الأصوات، وكثر الضجيج.

وقبل ساعة من أذان المغرب وصل السيد اليزدي بين تهليل وتكبير، وارتقى منبراً عالياً فضجّ الناس بالبكاء والعويل فرحاً...

وبعد برهة هدأ الجميع، وألقى خطبة أوضح فيها ما تمر به الأمة الإسلامية، ومؤامرات المستعمرين، ودعا للمدافعين عن بلاد الإسلام، ثم أعقبه الشيخ جواد الجواهري فرقى المنبر وشرح بعض مقاطع الخطبة وما حوته من مغازي. (1)

فتوى السيد محمد كاظم اليزدي

بسم الله الرحمن الرحيم

في مثل هذا اليوم حملت الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية من كلّ جهة، فمن جهة هجمت إيطاليا على طرابلس الغرب، ومن جهة أخرى روسيا على شمالي ،إيران، وإنكلترا على جنوبها، وهذا يهدّد باضمحلال الإسلام. لذا يجب على عموم المسلمين من العرب والعجم أن يهيؤوا أنفسهم للدفاع عن البلاد الإسلامية ضد الكفر، وأن لا يقصّروا ولا يبخلوا في بذل أنفسهم وأموالهم في تقديم الأسباب التي يمكن من خلالها إخراج جيش إيطاليا من طرابلس الغرب، وجيش روسيا والإنكليز من شمالي وجنوبي إيران، وهذا من أهم الفرائض الإسلامية، حتى تبقى المملكتان العثمانية والإيرانية مصونتين محفوظتين بعون الله تعالى من هجوم الصليبيين.

حرر يوم الاثنين خامس ذي الحجة الحرام سنة 1329ه- الموافق للسادس والعشرين من تشرين الثاني سنة 1911م . (2)

ص: 84


1- - النجف في ربع قرن: 148-149.
2- - السيد محمّد كاظم اليزدي، سيرته وأضواء على مرجعيته ومواقفه ووثائقه السياسية : 199-200.

أما بيان الشيخ كاظم الخراساني، والسيد إسماعيل الصدر، والشيخ عبد الله المازندراني، وشيخ الشريعة الاصفهاني قد جاء فيه:

إن هجوم روسيا على إيران وإيطاليا على طرابلس الغرب، موجب لذهاب الإسلام واضمحلال الشريعة الطاهرة والقرآن فيجب على كافة المسلمين أن يجتمعوا ويطالبوا من دولهم المتبوعة رفع هذه التعديات غير القانونية من روسيا وإيطاليا.. جهاداً في سبيل الله كالجهاد في بدر وحنين . (1)

نص فتوى أخرى لمجموعة من علماء النجف الأشرف

بسم الله الرحمن الرحيم

علماء النجف الأشرف إلى كافة المسلمين الموحدين، وممن جمعتنا وإياهم جامعة الدين والإقرار بمحمد سيد المرسلين ..

السلام عليكم أيها المحامون عن التوحيد والمدافعون عن الدين، والحافظون لبيضة الإسلام. لا يخفى عليكم أن الجهاد لدفع هجوم الكفار على بلاد الإسلام وثغوره مما قام إجماع المسلمين وضرورة الدين على وجوبه قال الله سبحانه « انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ » .

هذه جنود إيطاليا قد هجموا على طرابلس الغرب التي هي من أعظم الممالك الإسلامية وأهمها فخربوا عامرها وأبادوا أبنيتها وقتلوا رجالها ونسائها وأطفالها مالكم تبلغكم دعوة الإسلام فلا تجيبون وتوافيكم ضرخة المسلمين فلا تغيثون أتنتظرون أن يزحف الكفار إلى بيت الله الحرام، وحرم النبي والأئمة عليهم السلام ويمحوا الديانة الإسلامية عن شرق الأرض وغربها وتكونوا معشر المسلمين أذل من قوم سبأ، فالله الله بالتوحيد الله الله في الرسالة الله الله في نواميس الدين وقواعد الشرع المبين، وفيما بعد التوحيد إلا التثليث ولا بعد الإقرار بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم إلا عبادة المسيح،

ص: 85


1- شيخ الشريعة: 114

ولا بعد استقبال الكعبة إلا تعلق الصليب، ولا بعد الأذان إلا قرع النواقيس فبادروا إلى ما افترضه الله عليكم من الجهاد في سبيله، واتفقوا ولا تفرقوا، وأجمعوا كلمتكم وابذلوا أموالكم وخذوا حذركم (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) لئلا يفوت وقت الدفاع وأنتم فاعلون، وينقضي زمن الجهاد وأنتم متثاقلون (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

خادم الشريعة المطهرة محمد كاظم الخراساني

الأحقر الجاني عبد الله المازندراني

الجاني شيخ الشريعة الأصفهاني

الأقل علي رفيش

أقل خدام الشريعة محمد حسين القمشة

أقل خدام الشريعة الغراء حسن بن المرحوم صاحب الجواهر

الأحقر الجاني السيد علي التبريزي

الأقل الجاني مصطفى الحسيني الكاشاني

الراجي عفو ربه محمد آل الشیخ صاحب الجواهر قدس سره الراجي عفو ربه الغفور محمد جواد الشيخ مشكور ق س الأحقر جعفر ابن المرحوم الشيخ عبد الحسن ق س بسم الله الناصر المعين أنا وكل المسلمين نستعين الأقل محمد سعيد الحبوبي (1)

ص: 86


1- - السيد محمد كاظم اليزدي : ص197-198. شيخ الشريعة: 111-112

المبحث الثاني: قراءة تحليلية لنصوص تلك الفتاوى

اشارة

إن القراءة التحليلية الفاحصة لنصوص تلك الفتاوى المتقدمة تنتج لنا ما يلي:

حددت تلك النصوص أن الحرب قائمة بين جهتين الأولى هي : الحلف الأوروبي ووصفتهم الفتوى بالكفر ونعتت الحملة بالصليبية، والثانية: هم المسلمون..

تكشف لنا تلك النصوص بأن علماء الحوزة العلمية الشيعة في النجف الأشرف لم يفرقوا بين ليبيا ذات الصبغة السنية وبين إيران ذات الصبغة الشيعية فما حتّوا عليه من دفاع هنا هو عينه ما حثوا عليه هناك..

لقد شخص علماء الحوزة أن نتائج الاحتلال تتلخص في (اضمحلال الإسلام وذهابه، واضمحلال الشريعة والقرآن ونص تعبير الفتوى وفيما بعد إلا التثليث، ولا بعد الاقرار بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم إلا عبادة المسيح، ولا بعد استقبال الكعبة إلا تعلق الصليب، ولا بعد الأذان إلا قرع النواقيس).

لقد ندبت الفتوى العرب والعجم - كما عبرت - بلا فارق أو تمييز...

طلبت الفتوى وشجعت المسلمين على بذل الأنفس والأموال لشراء مرضاة الله تعالى ..

تحريك الرأي العام العالمي بأن ما تقوم به الدول المحتلة غير قانوني مطلقاً بل هو يخالف المعايير القانونية فضلاً عن المعايير الأخلاقية والدينية..

إعلان أن هذا الجهاد ليس جهاداً عن الوطن والعرض والمال وحسب بل هو جهاد عن التوحيد والدين وبيضة الإسلام..

الإشارة إلى أن مستند ومدرك الفتوى هو (إجماع المسلمين، ثم الاستدلال بقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ) .

تدل نصوص الفتاوى على أن العلماء المُفتُون قد اطلعوا على مدى آثار الاحتلال

ص: 87

وقد بينوا ذلك بقولهم: (فخربوا عامرها وأبادوا أبنيتها وقتلوا رجالها ونسائها وأطفالها).

تدل الفتاوى على أن العلماء استشرفوا مراحل الاحتلال وحذروا من السكوت عنه بقولهم أن بعد احتلال ليبيا سيتجهون لاحتلال البيت الحرام وحرم الرسول وآله الأطهار..

أكدت الفتاوى وحثت على الاتفاق والتوحد ونبذ الخلاف والتفرق بين جميع

المذاهب والفرق وتشخيص وتحديد العدو المشترك لمواجهته ودحره ..

المطلب الثالث: أصداء الفتوى في العراق

(النجف - الشامية - المشخاب - كربلاء - الكاظمية - البصرة - الأعظمية - سامراء)

تقول الدكتورة رنا سليم شاكر العزاوي، والباحث وائل جبار جودة النداوي في بحثهما المشترك في مجلة كلية التربية الأساسية جامعة بابل:

هبّ خطباء المنبر الحسيني من أجل التثقيف لتلك الفتوى، وخرج آلاف المتظاهرين في بغداد ولاسيما في باب المعظم والكاظمية، وكذلك في النجف وكربلاء والحلّة والشامية والبصرة، من أجل تلبية نداء المرجعية، وجمع المتظاهروين التبرعات لدعم المجاهدين في طرابلس(1).

وزعت الفتوى التي أسلفنا ذكرها في جميع أنحاء العراق وأمتد صداها إلى كل المسلمين في إيران وروسيا والهند وغيرها من البلاد الإسلامية، واندفع الناس بحماس كبير من أجل التطوع والتبرع..

وبدأت الصحف بالكتابة لدعم المجاهدين الليبيين، ونقل خطباء المنبر الحسيني فتوى المرجعية الدينية للجماهير وشرحوها لهم، وهذا الأمر زاد حماس الناس وتطلعاتهم للمشاركة في الجهاد إلى جانب إخوانهم في ليبيا، وأقيمت الاحتفالات ذات المظهر الديني لدعم المجاهدين هناك(2).

ص: 88


1- مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية / جامعة بابل / العدد (22) / آب 2015م.
2- الغزو الايطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911 مجلة الموسم، مجلة فصلية مصورة تعنى بالتراث والآثار العدد السادس، بيروت، 1990 ، ص .380

واحتشد الأهالي في بغداد بعد الهجوم على طرابلس في ساحة باب المعظم وتقدموا بتسجيل أسمائهم للتطوع، وفي يومي السادس والسابع من تشرين الأول عام 1911م، سارت مظاهرات أخرى في ذات المنطقة ضمت ما يقارب العشرة آلاف شخص كانوا ينقرون الطبول ويرددون أهازيج الحرب..

في الثامن منه تظاهرت حشود كبيرة من النساء والأطفال ورجال العشائر العربية في أزقة بغداد، وجرت مظاهرات مماثلة في الكاظمية حيث احتشد الأهالي عند الضريح وتكلم خطباؤهم فهاجموا إيطاليا ودعوا السنة والشيعة إلى توحيد صفوفهم ونبذ الخلافات الطائفية، وابتهلوا أن ينصر الله العرب الطرابلسيين في محنته..

وفي التاسع من تشرين الأول توجه المتظاهرون من مدينة الكاظمية عبر الجسر الخشبي إلى مدينة بغداد وكانوا يرددون هتافات بنصرة الطرابلسيين ويمزجونها بابتهالات دينية، ثم نظموا مظاهرة أخرى في العاشر من تشرين الأول عند ضريح الإمام موسى الكاظم علیه السلام.

وأثناء المظاهرات أطلقت العيارات النارية التي كانت بمثابة انذار للأوروبيين الموجودين في بغداد، وردد المتظاهرون عدة شعارات معادية لهم من بينها لعن الله كل أبو شفقه»(1).

وقام عدد من أعيان الشامية بتأليف جمعية في القضاء المذكور، وكان الشيخ مبدر الفرعون وأخوته من أوائل المتبرعين لها، حيث دفعوا ثلاثمائة ليرة، وتبرع الشيخ نفسه بخمسمائة ليرة أخرى، فضلاً عن ذلك عقد أهالي كربلاء اجتماعاً عاماً عند ضريح الإمام الحسين علیه السلام، وألقيت فيه الخطب الحماسية، ثم جمعت التبرعات فبلغت ستمائة ليرة يوم الرابع من تشرين الأول وسبعمائة ليرة في يوم الثامن من تشرين الأول.

ص: 89


1- الحركة القومية في العراق بين 1908 - 1914 اطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب جامعة بغداد عام 1980، ص 423-425

وتظاهر في الثاني عشر من تشرين الأول ما يقارب الألفين من الأهالي ثمّ احتشدوا عند ضريح الإمام الحسين علیه السلام ، وألقى السيد جواد الروزخون كلمة أثنى فيها على شجاعة الطرابلسيين.

وشهدت مدينتا النجف وسامراء مظاهرات مماثلة يومي الحادي عشر والسابع عشر من تشرين الأول، وألقيت الخطب الحماسية، ودعا الخطباء إلى نبذ الخلافات الطائفية وتوحيد الجهود، ثمّ تمّ جمع التبرعات فجمع أهالي النجف مائة وأثنين وأربعين ليرة خلال يوم واحد(1).

وتآزر المسلمون والمسيحيون على تشكيل لجان خاصة لمساعدة الطرابلسيين في حربهم، وفي اليوم السابع والعشرين من تشرين الأول، أعلنت أسواق البصرة إضراباً عاماً وتجمهر الأهالي خارج المدينة للاحتجاج على إيطاليا، وبدأوا يرددون أهازيج الحرب ويلوحون بأعلامهم ويطلقون العيارات النارية، وانضم إليهم أعداد كبيرة من الزنوج وهم ينقرون على الطبول والتحق بهم أعداد غفيرة من أهالي الزبير، فبلغ عدد المتجمهرين ما يقارب الثلاثة آلاف مواطن (2).

المبحث الثالث: المواقف المشابهة للحوزة العلمية في مواجهة المعتدين في زماننا المعاصر

لم يقتصر دور الحوزة العلمية وقادتها الربانيين على الموقف التاريخي الخالد تجاه الاحتلال الإيطالي لليبيا عام (1911م) بل تفاعلت النجف مع قضايا مفصلية في العالم العربي والإسلامي منها الوقوف مع المغرب العربي بعد الاحتلال الاسباني والفرنسي عام (1912م) ، والموقف من قضية الجزائر وثورة العراق الكبرى ضد الاحتلال البريطاني بقيادة المراجع العظام وعشائر الفرات الأوسط عام (1920م) ، ووقوف النجف مع فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي وقد ساهم الشيخ محمّد

ص: 90


1- شيعة العراق والقضية القومية العربية : الدور التاريخي قبيل الاستقلال مجلة المستقبل العربي، الأعداد 42-44 بيروت 1982، ص 81-82
2- المصدر السابق، ص 428

حسین كاشف الغطاء في مؤتمر القدس في كانون الأول (1931م) ونادى بمقاطعة المنتوجات الصهيونية وأمَّ المسلمين في صلاة الجمعة وانبرى علماء النجف وأدبائها وصحفها ومفكريها بمساندة الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد المستعمرين الغزاة وقد بين الدكتور محمد حسين الصغير دور شعراء النجف في تلك القضية في كتابه (فلسطين) في الشعر النجفي، واحتجاجات النجف المدوية ضد العدوان الثلاثي على مصر عام (1956م)..

ولا زالت مرجعية النجف العليا تقف مع قضايا المسلمين في العالم سيما مع القضية الفلسطينية، وإليكم أنموذجاً من بيانات مكتب السيد السيستاني حول الاعتداء الصهيوني على الشعب الفلسطيني عام ( 1423ه-) :

(الْعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) صدق

اللّه العلي العظيم.

يواجه إخوتنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة في هذه الأيام عدواناً صهيونياً متواصلاً قلّ نظيره في التأريخ الحديث. وتعجز الكلمات عن بيان أبعاده الوحشية، فقد عمّ الجميع ولم يسلم منه حتى الشيوخ والنساء والصبيان، وتنوعت أساليبه قتلاً وتعذيباً وترويعاً واعتقالاً وتشريداً وتجويعاً وهتكاً للحرمات واستباحة للمقدسات وتخريباً للمدن والمخيمات وتدميراً للبيوت والمساكن وبلغ حتى الممانعة من إسعاف الجرحى والمصابين ودفن أجساد الشهداء، ويجري كل ذلك بمرأى ومسمع العالم أجمع ولا مانع ولا رادع، بل إنه يحظى بدعم أمريكي واضح.

وإذا لم يكن من المترقب من أعداء الإسلام والمسلمين إلا أن يصطفوا مع المعتدين والغاصبين فإنه لا يترقب من المسلمين إلا أن يقفوا مع إخوانهم وأخواتهم في فلسطين العزيزة ويرصّوا صفوفهم ويجندوا طاقاتهم في الدفاع عنهم ووقف العدوان عليهم .

ص: 91

إن الوضع المأساوي الذي يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني المظلوم يقتضي أن لا يهنأ المسلمون في مطعم أو مشرب إلى أن يكفوا عن إخوانهم وأخواتهم أيدي الظالمين المعتدين.

لقد رُوي عن النبي الأعظم صلی الله علیه و اله و سلم أنه قال : (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)، ولذلك نهيب بالمسلمين كافة أن يهبّوا لنجدة الشعب الفلسطيني المسلم ويستجيبوا لصرخات الاستغاثة المتعالية منهم ويبذلوا قصارى جهدهم وإمكاناتهم في ردع المعتدين عليهم و استرداد حقوقهم المغتصبة وإنقاذ الأرض الإسلامية من أيدي الغزاة الغاصبين.

نسأل الله العلي القدير أن يأخذ بأيدي المسلمين إلى ما فيه الخير والصلاح ويمنّ عليهم بالنصر على أعدائهم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم)(1).

واليوم نشهد انتصارات الشعب العراقي الصامد على الهجمة الجاهلية الداعشية بفضل الموقف العظيم لمرجعية النجف الأشرف وفتواها الخالدة التي أنقذت العراق أرضا وشعبا وفكرا من مخطط مظلم رهيب لكن المرجعية وبتسديد من الله تعالى استطاعت أن تلعب دورها المرجو كما كانت بالأمس وخلصت العراق من الاحتلال والغزو فهي اليوم تنتفض كذلك وقد شهد لها القاصي والداني والقريب والبعيد بل العدو والصديق بحكمتها وعطفها وأبوّتها ودورها وستبقى كذلك إلى أن يرث الصالحون الأرض وتتحقق العدالة وينتشر القسط في ربوع المعمورة إن شاء الله تعالى..

أما تلك الفتوى الذي أذاعها ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي بتاريخ ( 14 شعبان / 1435ه-، 2014/6/13م) فقد جاء فيها:

(لا بد أن يكون لدينا وعي بعمق المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فهي مسؤولية شرعية ووطنية كبيرة).

ص: 92


1- (الموقع الرسمي لمكتب سماحة السيد علي الحسيني السيستاني. https://www.sistani.org/arabic/statement/1460/.

وأكد أنّ العراق وشعبه يواجهان تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً .. موضحاً أن الارهابيين لا يستهدفون السيطرة على بعض المحافظات مثل نينوى وصلاح الدين فقط، وإنما يستهدفون أيضاً جميع المحافظات، كما أعلنوا، ولا سيما بغداد وكربلاء والنجف، وجميع العراقيين في جميع مناطقهم.

وشدد على أنه لذلك فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مهمة الجميع ولا تخص طائفة دون أخرى أو طرف دون آخر.

وأضاف إن التحدي وإن كان كبيراً إلا أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمّل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من هذه التحديات والمخاطر.

وقال: إن المسؤولية في الوقت الحاضر هي حفظ بلدنا العراق ومقدساته من هذه المخاطر وهذه توفر حافزاً لنا للمزيد من العطاء والتضحيات في سبيل الحفاظ على وحدة بلدنا وكرامته وصيانة مقدساته من أن تهتك من قبل هؤلاء المعتدين ولا يجوز للمواطنين الذين عهدنا منهم الصبر والشجاعة والثبات في مثل هذه الظروف أن يدب الخوف والاحباط في نفس أي واحد منهم، بل لا بد أن يكون ذلك حافزاً لنا لمزيد من العطاء في سبيل حفظ بلدنا ومقدساتنا.

وأضاف: إن دفاع أبنائنا في القوات المسلحة وسائر الأجهزة الأمنية هو هو دفاع مقدس، ويتأكد ذلك حينما يتضح أن منهج هؤلاء الارهابيين المعتدين هو منهج ظلامي بعيد عن روح الإسلام يرفض التعايش مع الآخر بسلام ويعتمد العنف وسفك الدماء وإثارة الاحتراب الطائفي وسيلة لبسط نفوذه وهيمنته على مختلف المناطق في العراق والدول الأخرى.

وقال : إن منتسبي القوات المسلحة أمام مسؤولية تاريخية ووطنية وشرعية..

وخاطبهم قائلاً اجعلوا قصدكم ونيتكم ودافعكم هي الدفاع عن حرمات العراق

ص: 93

ووحدته وحفظ الأمن للمواطنين وصيانة المقدسات من الهتك ودفع الشر عن هذا البلد المظلوم وشعبه الجريح.

والمرجعية تحثكم على التحلي بالشجاعة والبسالة والثبات والصبر وإن من يضحي منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله وأعراضهم، فإنه يكون شهيداً إن شاء الله تعالى، والمطلوب أن يحث الأبُ ابنه والأمُّ ابنها والزوجة زوجها على الصمود والثبات دفاعاً عن حرمات هذا البلد ومواطنيه».

وشددت المرجعية على أن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن، وأهله وأعراض مواطنيه، وهذا الدفاع واجب على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الارهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ،ومقدساتهم، وعليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية.

ومن الجدير بالذكر أن المرجعية الدينية العليا لم تفت بالجهاد يوم اعتدى التكفيريون على مقدسات الشيعة في سامراء ففجروا قبة مرقد الإمامين العسكريين علیهما السلام عام ( 2007 م) ، بل أوصت بالصبر وقتها، ودرءاً لفتنة كادت أن تحرق الأخضر واليابس لولاها، كما أنها طالبت بالعض على الجراح والصبر على الألم وكظم الغيظ يوم استشهد أكثر من ألف زائر شيعي في المجزرة المعروفة بجسر الأئمة في ذكرى استشهاد كاظم الغيظ الإمام الكاظم علیه السلام في 2005 م، وغير ذلك

من الشواهد.

ولولا أن يكون الاختصار شرط من شروط المشاركة لبيّنا المزيد عن تلك المواقف والأدوار الجديرة بالدراسة، ليتعرّف العالم على هذه المؤسسة الربانية التي قالت

كلمتها الطيبة، واليوم أصبحت شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..

ص: 94

نتائج البحث

أثبت البحث أن الحوزة العلمية في النجف الأشرف غير منعزلة عن العالمية والإقليمية والمحلية فهي تراقب وترصد وتستشرف وتحلل وتشخص وتعالج ..

إن الحوزة العلمية في النجف الأشرف تتحرك حينما يكون هناك داعي لتحركها وفقاً لمعطيات مدروسة فهي تقدر الزمان والمكان والأسلوب المناسب للتحرك وكل ذلك من موقع المسؤولية الكاملة والشعور الحقيقي بها..

أثبتت المرجعية الدينية أن تعاملها مع القضايا العربية والإسلامية تعامل الإنسان تجاه أخيه الإنسان وتعامل المسلم تجاه أخيه المسلم، فهي فوق الطائفية والعرقية وغيرها والمدار هو الإنسانية والإسلامية ليس إلا..

كشف البحث مدى التفاعل الشعبي مع فتوى المرجعية عن طريق المظاهرات في المدن المقدسة وبقية المدن الأخرى وحملة التبرعات لنصرة الليبيين في طرابلس.

أثبت البحث وفاء الشعب العراقي لمرجعيته الدينية من خلال الاستجابة التامة لنداءات النصرة ..

ظهر من خلال البحث مدى تفاعل الشعراء وخطباء المنبر الحسيني والصحفيين مع فتوى المرجعية الدينية في ذلك الحين..

إن من يساهم في صناعة التاريخ المشرق وفق الكلمة الطيبة والموقف الشريف الشجاع سيخلده التاريخ وإن تعمد تجاهله المؤرخون والأسماء التي وردت في البحث (من العلماء المجاهدين) خير دليل على ما ندعي..

ص: 95

التوصيات

أولاً: أوصي بإقامة مؤتمر تعريفي بعلماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف لبيان مواقفهم الجهادية تجاه القضايا العربية والإسلامية سيما موقفهم من الايطالي لليبيا يقام في النجف الأشرف أو كربلاء المقدسة بالتعاون مع المقدسة وتدعى إليه شخصيات ليبية (سياسية ودينية وثقافية) معتدلة ليطلعوا عن قرب على تلك المواقف، مع تغطية إعلامية هادفة..

ثانياً: صناعة فلم وثائقي وفقا للموازين العلمية والفنية التخصصية يسوق للقنوات الفضائية التي ترغب في بثه ونشره..

ثالثاً: اصدار دراسة موضوعية تسلط الضوء على تلك المواقف لتنشر في كتاب مستقل أو مجلة محكمة، ويعمل على نشره في ربوع المعمورة سيما تلك الدولة

المعنية ..

المصادر والمراجع

* الجابري محمّد هليل الحركة القومية في العراق بين 1908-1914، اطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب جامعة بغداد عام 1980م.

* الجبوري كامل سلمان السيد محمد كاظم اليزدي سيرته وأضواء على مرجعيته ومواقفه ووثائقه السياسية، برهان ، ط: 1- 2006م. قم المشرفة.

* الجبوري كامل سلمان، وثائق الثورة العراقية الكبرى، دار المؤرخ العربي/ النجف الأشرف / ط : 1 - 2009م.

* حامش محمّد علي عمر المختار وحركة المقاومة المسلحة في ليبيا ضد الاستعمار الايطالي -1911-1931، مجلة المؤرخ ، العدد 39، بغداد، 1988.

* حرز الدين الشيخ محمّد معارف الرجال، ط: 1/ مطبعة النجف الأشرف، 1964م-النجف.

* الحسني السيد سليم دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار 1900م-1920م، ط/ بيروت 1995م.

* الحلي الشيخ عبد الحسين وضع تتمته كامل سلمان الجبوري، شيخ الشريعة، دار القارئ 2005 ، بيروت

ص: 96

* الخاقاني علي شعراء الحلة المجلد 3 المطبعة الحيدرية، النجف، 1953م.

* الزاوي الطاهر أحمد جهاد الأبطال في طرابلس الغرب، دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت، 1970.

* السبحاني الشيخ جعفر، موسوعة طبقات الفقهاء، دار الأضواء / بيروت - لبنان.

* السماوي الشيخ محمد الطليعة من شعراء الشيعة ، تحقيق: كامل سلمان الجبوري، دار المؤرخ العربي، ط: 1 / 2001م.

* شبر السيد جواد، أدب الطف، ط 1 دار المرتضى / بيروت - لبنان.

* الطريحي محمّد سعيد، المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي: الغزو الايطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911م، مجلة الموسم العدد السادس، بيروت، 1990م.

* الطهراني آغا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط 1 ، دار الأضواء، بيروت - لبنان.

* الطهراني آغا بزرك طبقات أعلام الشيعة نقباء البشر) ، مطبعة الآداب، النجف 1969م.

* العاملي محسن الأمين، أعيان الشيعة، ط: بيروت - 1963م.

* العذاري السيد حيدر حياة العالم الرباني الشيخ علي رفيش / ط :1 / دار الفضائل - 1438ه- .

* العذاري السيد حيدر محمّد رضا آل ياسين حياته - وفاته) ط: 1/ دار الفضائل - بيروت / 1437ه-.

* العذاري السيد حيدر، محمّد علي الأردوبادي / ط :1/ دار الفضائل / 1436ه-.

* قدوري زاهية تاريخ العرب الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، 1967.

* كمال الدين محمّد علي النجف في ربع قرن تحقيق وتعليق: كامل سلمان الجبوري، ط بيروت 2005م.

* مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية جامعة بابل/ العدد 22 / آب 2015

* محبوبة جعفر باقر، ماضي النجف وحاضرها، ط1 النجف 1958م.

* محمّد علي عبد الرحيم المصلح المجاهد الشيخ محمّد كاظم الخراساني، ط: النجف 197م.

* نظمي ميض جمال شيعة العراق وقضية القومية العربية الدور التاريخي قبيل الاستقلال مجلة المستقبل العربي، الأعداد ،42-44، بيروت، 1982.

ص: 97

* الوائلي إبراهيم الشعر العراقي وحرب طرابلس مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد السابع، بغداد، 1964.

* موقع سماحة السيد السيستاني.

* موقع العتبة الحسينية المقدسة.

* السيرة العلمية للباحث

* الباحث حيدر عبد الهادي علي العذاري

* ولد في النجف الأشرف عام 1980م / 1400ه-.

* حاصل على البكلوريوس في الفلسفة.

* درس النحو والبلاغة والفقه والأصول والتاريخ والتفسير وعلم الأديان المقارن في الحوزة العلمية في النجف الأشرف منذ عام 1998م ، والآن طالب مرحلة البحث الخارج.

* من أساتذته: السيد عدنان البكاء ، الشيخ حسن الجواهري، السيد أحمد الأشكوري، السيد عبد الحسين الطباطبائي القاضي السيد البدري، وغيرهم.

* مارس تدريس العقائد والفقه والتفسير والتاريخ لمجموعة من طلبة العلوم الدينية.

* اعتقل عام 1999م في مديرية أمن النجف ثم أطلق صراحه.

ص: 98

أهمية العراق الإستراتيجية للسياسة البريطانية:قراءة في دوافع وتطورات العلاقات البريطانية - العراقية حتَّى عهد الانتداب 1922م

اشارة

صباح کریم ریاح الفتلاوی(1)

إنَّ التنافس الاستعماري من أجل الحصول على مناطق نفوذ جديدة بدأ من القرن السابع عشر، وقد عَرَّض المنطقة العربية للسيطرة الأجنبية، فالتنافس الفرنسي - الإنكليزي أدى بالأخيرة إلى احتلال مصر 1882م إلَّا أنَّ هذا التنافس قد تلاشى ظاهرياً بعد أن وجدت هاتان الدولتان ما يُهدد مصالحها بظهور ألمانيا دولةً قوية منافسة لهما، حيث توطّد الوفاق بين الدولتين والذي ظهرت آثاره خلال الحرب الأولى في توزيعات سايكس - بيكو.

وفي الوقت الذي تُعلن فيه الدول الاستعمارية المُتنافسة أهدافها الظاهرية في تخليص المنطقة من السيطرة العثمانية، كما تُعلن أنّها تهدف إلى تطوير المنطقة وإنمائها، نراها في حقيقة الأمر تُخطِّط من أجل أهدافها الجوهرية الرامية إلى خدمة

مصالحها الاستعمارية.

ص: 99


1- أستاذ مساعد ودكتور في جامعة الكوفة / مركز دراسات الكوفة العراق. Dr. Sabah Kareem Reah Al-Fatlawi- Kufa Studies Center- University of Kufa. Iraq's strategic importance to British policy Reading the motives and developments of the British Iraqi relations until the mandate of 1922.

وبعد الحرب الأولى وفي الوقت الذي ركّزت بريطانيا نفسها في مصر بإعلان الحماية عليها، وتركيزها بالذات في قناة السويس على اعتبارها القاعدة البريطانية البحرية في منطقة الشرق الأوسط، كانت تحاول في الوقت نفسه إيجاد مناطق أخرى للدفاع الجوي، فاتجهت نحو العراق باعتباره موقعاً وسطاً بين مصر و والهند وهكذا تجسّدت المواقف البريطانية بناءً على إستراتيجيةٍ واضحة، بدفع من الرأسمال البريطاني التجاري في محاولةٍ لإيجاد أسواق وموارد كالمواد الأولية مع تصاعد أهمية المنطقة من الناحية الدفاعية والإستراتيجية .

وفي هذهِ الدراسة سنُسلِّط الأضواء على دوافع وتطورات العلاقات البريطانية - العراقية حتّى عهد الانتداب ،1922م من خلال النظرة البريطانية إلى أهمية العراق الإستراتيجية آنذاك.

تضمَّنت الدراسة مقدمة ومبحثين تناول المبحث الأول بإيجاز علاقة بريطانيا بالعراق وعوامل الاهتمام البريطاني بهِ، بينما تطرق المبحث الثاني إلى أثر الأوضاع الدولية في علاقات بريطانيا بالعراق وعوامل الاهتمام البريطاني به، وجاءت خاتمة الدراسة بأهمِّ الاستنتاجات والخلاصة في تحديد عوامل وتطورات علاقة بريطانيا بالعراق، فيما احتوت قائمة المصادر على جملةٍ من الكتب والوثائق باللغتين العربية والإنكليزية فضلاً عن الكتب المُعربة.

المبحث الأول : أثر الأوضاع الدولية في علاقات بريطانيا بالعراق وعوامل الاهتمام البريطاني بهِ

ارتبط مفهوم العلاقة بين بريطانيا والعراق منذ البدء بالمصالح والأطماع والاستعمار، وكان ذلك مع أوائل القرن السابع عشر حين كان العراق لا يزال ولايات ثلاث تابعة للدولة العثمانية (The Ottoman Empire المُترامية الأطراف، ومع مرور الأيام توسَّعت وترسَّخت هذه العلاقة، حتَّى أخذت شكلها الاستعماري بقيام بريطانيا بغزو وادي الرافدين واحتلالهِ أثناء الحرب العالمية الأولى، ومع النتائج المعروفة

ص: 100

التي آلت إليها تلك الحرب، أُسِّست دولة العراق المعاصر كدولةٍ واقعة تحت الانتداب البريطاني، بيد أنَّ ذلك لم يكن شيئاً عابراً، فقد ترسَّخ في العقل الجَمعي العراقي، مفهوم الاستعمار المُرتبط ببريطانيا، فهي التي احتلت العراق في الحرب العالمية الأولى بعد حرب دامية مُكلفة استغرقت أربعة أعوام بحجَّة التحرير، وهي التي فرضت عليه الاحتلال وهي التي أسَّست الجيش العراقي، ثمَّ قامت (بإنشاء) الدولة المعاصرة من الولايات العثمانية السابقة (بغداد البصرة، الموصل)، وفرضت عليه الانتداب ونصّبت عليهِ ملكاً من الحجاز، ثمَّ كبّلته بالمُعاهدات الاستعمارية، وأنشأت فيه القواعد العسكرية (1).

لقد تركت هذهِ العلاقة المعقَّدة بصماتها الواضحة بعُمق على الدولة والمجتمع العراقي، فكان بناء العراق المعاصر، والانتقال بهِ من المجتمع المتخلف، يحمل بصمات وطبائع وأهداف بريطانية، فبريطانيا كانت وراء إنشاء كل مؤسَّسات الدولة الجديدة، وأصبحت اللغة الإنكليزية هي اللغة الثانية في العراق، وكانت هي اللغة الأولى والسائدة في مؤسَّساتٍ كثيرة كالتعليم العالي والسكك والموانئ والطيران، وهذا يعني من بين أمور أخرى انعكاس الأنظمة البريطانية على مناحٍ كثيرةٍ من الحياة في العراق مما يتطلَّب وجود جالية بريطانية كبيرة فيه، لا سيّما أنَّ كثيراً من مؤسَّساتهِ كانت تُدار بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة من الإنكليز كشركات النفط والمصافي، وأنَّ الأمر يتطلب وجود المستشارين كما في كلِّ الوزارات والجيش والدوائر المهمة الأخرى، الأمر الذي أوجد دوراً مهماً وخطيراً للسفارة البريطانية في بغداد، إذ جعلها تتحكّم في كلّ أمور الحياة(2). ولسعة وتشعب هذهِ العلاقة، سنقف على أهمِّ المحطَّات التي تخدم الغرض من هذهِ الدراسة وبحدود ما يسمح بهِ البحث.

العراق والسيطرة العثمانية:

بعد سلسلةِ حروبٍ متصلة بين الدولتين العثمانية والصفوية، أصبح العراق جزءاً

ص: 101


1- العطية غسان العراق.. نشأة الدولة (1908-1921م)، ترجمة: عبد الوهاب الأمين (لندن، دار اللام، 1988م)، ص 130
2- المرجع نفسه، ص ص 133-134.

من الدولة العثمانية وذلك منذ القرن السادس عشر الميلادي، عندما احتل السلطان سليم الأول(1)مدينة بغداد في العام 1534م ، ومن المعروف أنَّ الدولة العثمانية استمرت تبسط سلطانها على المنطقة العربية في قلب الشرق الأوسط ما يقرب من أربعة قرون، لحين زوال تلك السلطة نهائياً من هذهِ المنطقة في القرن العشرين عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، وعلى هذا فإنَّ مصير (العراق) ومستقبله كان قد تقرر استناداً إلى علاقات الدولة العثمانية مع الدول الأوربية، لا سيّما أنَّ التوجهات العثمانية نحو الشرق قد اصطدمت بجدار دولة فارس الصفوية (2).

كانت ملامح الضعف والتراجع في الدولة العثمانية قد بدأت في الظهور أواخر القرن الثامن عشر، وقد شغل أذهان الساسة في أوروبا التفكير في مصير هذهِ الدولة ووراثة أملاكها، ومنذ ذلك الوقت المُبكِّر وأثناء القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا وروسيا وفرنسا هي الدول الأكثر اهتماماً بمصير الدولة العثمانية ومصير أملاكها، فبريطانيا رغبت في تأمين طُرق مواصلاتها إلى الشرق الأقصى والهند خصوصاً، سواء عن طريق قناة السويس والبحر الأحمر أو عن طريق الخليج العربي ونهري دجلة والفرات، أمّا روسيا فقد أرادت أن تجد لها منفذاً من البحر الأسود إلى البحر المتوسط بالاستيلاء على القسطنطينية ومضايق البسفور والدردنيل، فضلاً عن أحلامها في الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي(3)، بينما أخذت فرنسا على عاتقها منذ زمنٍ مبكِّر حماية مصالح رعايا الدولة (المسيحيين في شرق المتوسط)، إنَّ هذهِ الدول الثلاث كما

ص: 102


1- السلطان سليم الأول : سليم الأول بن بايزيد الثاني، تاسع سلاطين الدولة العثمانية . ولد في مدينة اماسية بالأناضول في 1470م اتصف بالشجاعة والإقدام، وتولى مناصب عدة في عهد والده، وبعد وفاة والده في مايس 1512م تولى عرش السلطنة. هزم الجيش الصفوي بقيادة الشاه إسماعيل في معركة جالديران 1514م وأنهى احتلالهم للعراق، دخل في حروب مع المماليك والبرتغاليين. توفي في 22/ أيلول /1520م للمزيد يُنظر : المحامي، محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، القاهرة، دار النفائس، 2006م)، ص186.
2- المرجع نفسه، ص 144
3- أوصى بطرس الأكبر (1682) Peter the Great-1725م) قيصر روسيا القياصرة الذين جاءوا من بعده بالوصول إلى مياه المحيط الهندي الدافئة، بعد أن استطاع بموجب معاهدة 1723م، مع الدولة العثمانية، السيطرة على الأقاليم الفارسية المجاورة لبحر قزوين ينظر نورس علاء موسى كاظم العراق في العهد العثماني.. دراسة في العلاقات السياسية (1700-1800م) ، (بغداد، دار الرشيد للنشر 1979م) ، ص 96؛ ويذكر كرزن أنَّ إنشاء ميناء روسي على الخليج العربي هو حلم الوطنيين المتحمسين من أهل الفولكا نهر) مشهور يمر في موسكو)، لكن هذا الحلم سيكون عنصر اضطراب في الخليج العربي حتّى في وقت السلم، وسيضر بتوازن القوى الذي فرضته بريطانيا بعد مجهود شاق. للمزيد عن الموضوع، يُنظر : 49.Gurson. G. N., Persia and the Persian, London: question, 1892, Vol.2, p.

سنرى فيما بعد هي الدول التي شاركت في رسم قسمة أملاك العثمانيين، «رجل أوروبا المريض»(1) أثناء الحرب فيما عُرف باتفاقية (سايكس - بيكو)(2).

المسألة الشرقية:

المسالة الشرقیه(3):

ركَّزت الدول الأوروبية عند النظر في مصير الدولة العثمانية، على ضرورة المُحافظة على توازن القوى، وعدم الإخلال بالتوازن الدولي في أوروبا. ولقد ترتَّب على محاولة الوصول إلى حلِّ لمشكلة مصير الدولة العثمانية وأملاكها في القرن التاسع عشر وحتّى أوائل القرن العشرين، أن برز ما صار يُعرف باسم «المسألة الشرقية». وانبرى كثيرون لتعريف هذا المصطلح في ضوء المُحاولات التي هدفت للتوفيق بين مصالح الدول المتُضاربة على حساب الدولة العثمانية (4)، وكان واضحاً أنَّ أكثر اهتمام الدول الأوربية كان موجَّهاً لتقرير الكيفية التي يمكن بها ملء الفراغ الذي ينجم من تقلص الحكم العثماني في أوروبا (البلقان)(5)، بيد أنَّ الدول الأوروبية تمكَّنت من إيجاد

ص: 103


1- الرجل المريض: أسم أطلقه قيصر روسيا نيقولاي الأول (1825) Nicholas-1855م على الدولة العثمانية سنة 1853م بسبب ضعفها، ودعا بريطانيا إلى أن تشترك معه في اقتسام أملاك الدولة، ثمَّ شاع هذا الأسم بعد ذلك واستعملته الدول الأوربية الأخرى للمزيد يُنظر : الصلابي، محمد علي الدولة العثمانية .. عوامل النهوض وأسباب السقوط، (القاهرة، 1979م) ، ص ص 22-24.
2- اتفاقية سايكس - بيكو ((sykes-Picot Agreement): هي الاتفاقية التي وقعت في 16 أيار/1916م، بين بريطانيا وفرنسا وانضمت إليها روسيا، وبموجبها حصلت بريطانيا على العراق وفلسطين وحصلت فرنسا على سوريا، أما روسيا فحصلت على ولايات أرضروم و طرابزون وبتليس وجزء كبير من شمالي كردستان يمتد إلى الحدود الفارسية. للمزيد، ينظر: مصطفى، أحمد عبد الرحيم في أصول التاريخ العثماني، (بيروت، 1983م)، ص ص 190-192.
3- المسألة الشرقية : المقصود بها النزاع بين الدول الأوربية الكبرى في المدة من أواخر القرن الثامن عشر حتى انتهاء الدولة العثمانية في 1923م، وتمحور هذا النزاع حول الدولة العثمانية بشأن البلاد الواقعة تحت سلطانها، وبعبارة أخرى هي مسألة وجود الدولة العثمانية نفسها في أوربا، وقد استخدم مصطلح المسألة الشرقية لأول مرة في مؤتمر فيرونا الذي عقده المحفل الأوربي سنة 1822م للمزيد يُنظر : التكريتي، هاشم صالح المسألة الشرقية.. المرحلة الأولى (1856-1774م) ، (بغداد بيت الحكمة 1990م ص 21 حسين فاضل ،وآخرون التاريخ الأوربي الحديث (1815- 1839م)، (بغداد، 1982م)، ص ص 52-58.
4- أنيس محمد والسيد رجب حراز الشرق العربي في التاريخ الحديث والمعاصر، القاهرة، دار النهضة العربية، د.ت.)، ص 199.
5- حرب البلقان في تشرين الأول من عام 1912م اشتعلت الحرب بين دول البلقان المتحالفة (بلغاريا والصرب واليونان والدولة العثمانية، تمكنت خلالها دول البلقان من تحقيق انتصارات سريعة على الدولة العثمانية، واستطاعت الدول الكبرى من خلال مؤتمر لندن أن تضع حداً لهذه الحرب في أيار من عام 1913م، وتحقيق السلام الذي اضطرت الدولة العثمانية بموجبه إلى التخلي عن جزيرة (غاليبولي) التي كانت تحت سيطرتها منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي. للتفاصيل، يُنظر .ه-. أ. ل. فشر، تاريخ أوربا في العصر الحديث (1789-1950م)، تعريب: أحمد نجيب هاشم وديع الضبع ط8 ، (القاهرة 1984م)، ص ص 453-454

حلّ للمسألة الشرقية عن طريق مؤتمر برلين (1878م)، إذ استطاعت تصفية القسم الأكبر من هذهِ المسألة باستقلال دول البلقان(1)، وهكذا يصح القول أنَّه أمكن تسوية المسألة الشرقية قبل قيام الحرب العالمية الأولى.

من الواضح أنَّ التسوية التي تمَّ الاتفاق عليها قد تركَّزت في أملاك تركيا في البلقان، ولذلك لم تفقد تركيا من أملاكها العربية سوى ليبيا، إذ بقيت الدولة العثمانية محتفظةً بسلطانها الفعلي أو بحقوق سيادتها أو بنفوذها الإسمي على المنطقة العربية في الشرق الأوسط، حتّى قيام الحرب العالمية الأولى(2).

تجدد البحث في مصير الدولة العثمانية وأملاكها التي بقيت لها بعد الحروب السابقة، منذ أن بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وذلك لانضمام تركيا إلى جانب ألمانيا والنمسا ضدّ دول الوفاق الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وروسيا) في هذهِ الحرب. ولهذا فإنَّ كسب الحرب وهزيمة الدولة العثمانية كانا أمرين ضروريين لتحقيق هدف تجريد الدولة العثمانية من أملاكها وإنهاء نفوذها في الشرق الأوسط، قبل معالجة موضوع ملء الفراغ الذي نشأ في تلك المنطقة، ويبدو أنَّه على خلاف ما حدث عند تسوية المسألة الشرقية، لم تشأ دول الوفاق أن يملأ الفراغ المنتظر حدوثه وحدات سياسية ذات كيان مستقل، كالدول التي أُسِّست في البلقان، بل أرادت إخضاع المنطقة إمَّا لسلطانها الفعلي وإمَّا لنفوذها غير المباشر(3).

وكانت مسألة التعجيل في هزيمة الأتراك وإخراجهم من الشرق الأوسط هي الشغل الشاغل لدول الوفاق - لا سيّما بريطانيا ، إذ رأت تلك الدول أنَّ الحلّ يكمن في تحريض العرب في تلك المنطقة على الأتراك؛ لذلك حرك الإنكليز بواسطة جواسيسهم ورجالهم في المنطقة ومنهم (لورانس)(4)القبائل العربية في الحجاز

ص: 104


1- المرجع نفسه،ص200
2- مجموعة من الأساتذة العراقيين العراق في التاريخ بغداد، مطبعة الثورة، 1983م)، ص 633.
3- المرجع نفسه، ص 634.
4- توماس إدوارد لورنس (1888) Thomas Edward Laurence-1935م): مغامر سياسي بريطاني، عمل في المخابرات التابعة للجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى في مصر، ثمَّ انضم سنة 1916م إلى القوات العربية المحاربة ضدَّ الدولة العثمانية بقيادة فيصل الأول، ألف كتباً كثيرة، أهمها أعمدة الحكمة السبعة ينظر الكيالي، عبد الوهاب وكامل زهيري الموسوعة السياسية، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974م)، ص463.

لإعلان الثورة، وسعوا لاستمالة الشريف حسين بن علي شريف مكَّة(1)إلى جانبهم، ومساعدته في إعلان الثورة، بيد أنّ مطامح الإنكليز كانت ترنو بشغف ورغبة كبيرة إلى منطقة وادي الرافدين(2).

أكَّد السير مكماهون (3)في رسائل عدَّة بعث بها إلى الشريف حسين، ضرورة قيام العرب بالثورة ضدَّ الأتراك، ووعد بمساعدتهم في نيل الاستقلال، وجاء في بعضٍ من تلك الرسائل ما يلي: «أمَّا في خصوص ولايتي بغداد والبصرة، فإنَّ العرب تعترف انَّ مركز بريطانيا العظمى الموطَّدة ومصالحها هناك تستلزم اتخاذ تدابير إدارية، لا سيَّما لوقايةِ هذه الأقاليم من الاعتداء الأجنبي، وزيادة خير سكَّانها، وحماية مصالحنا الإقتصادية المتبادلة»(4)، وأكَّد السير مكماهون للشريف حسين: «أنَّ حكومة بريطانيا العظمى كما سبقت فأخبرتكم مستعدة لأن تعطي كلَّ الضمانات والمساعدات إلى المملكة العربية، ولكن مصالحها في ولاية بغداد تتطلَّب إدارة ودية ثابتة كما رسمتم، على أنَّ صيانة هذهِ المصالح كما يجب تستلزم نظراً أدق وأتم مما تسمح بهِ الحالة

الحاضرة والسرعة التي تجري بها هذهِ المفاوضات»(5).

بريطانيا والاهتمام بالعراق:

يرجع تفكير بريطانيا في العراق إلى عهود سابقة طويلة سبقت الحرب العالمية

ص: 105


1- الشريف حسين بن علي شريف مكة: هو الحسين بن علي بن مُحمَّد بن عبد المعين من آل عون، ولد في إستانبول عام 1853م، ثم انتقل مع أسرته إلى مكة عام 1855م عند إسناد منصب الشرافة لجده، وفي عام 1893م عين عضواً في مجلس شورى الدولة، وفي تشرين الثاني 1908م عين أميراً لمكة وبقي على شرافتها إلى أن أُجبر على التنازل عن الملكية لابنه الكبير الشريف علي في أيلول 1924م، ونُفي إلى جزيرة قبرص في حزيران 1925م. توفي في 4/ حزيران/1931م. للمزيد، يُنظر : جار شلي إسماعيل حقي أوزون أمراء مكة المكرمة في العهد العثماني، ترجمة: خليل علي مراد (البصرة، مطبعة جامعة البصرة (1985م)، ص ص 182-185.
2- P. Graves, The life of sir Persy Cox, London: 1941, p. 182.
3- سير هنري مكماهون Henry McMahon : ولد في 28 نوفمبر / 1862م في الهند. الممثل الأعلى لملك Sir بريطانيا في الهند. عمل مديراً في الهند، اشتهر بمراسلاته مع شريف مكة الحسين بن علي بين عامي (1915-1916م) خلال الحرب العالمية الأولى. توفي في كانون الثاني من عام 1949م في لندن. للمزيد، ينظر: The New Britannic Encyclopedia, London: 1973, vol. 3, p.993.
4- مذكرة السير مكماهون الثانية إلى الشريف حسين بن علي القاهرة 24 تشرين أول/1915م،:مقتبس من: العطية، مصدر سابق، ص 182.
5- مذكرة السير مكماهون الثالثة إلى الشريف حسين بن ،على القاهرة 13/ كانون أول/1915. مقتبس من: العطية، مصدر سابق، ص 191.

الأولى، فنظراً لموقعهِ الجغرافي ومركزه السوقي، وعلاقته الوثيقة بجنوب إيران وخليج البصرة، فإنَّه من غير الطبيعي أن تغفل عنه دولة استعمارية وتجارية كبرى كبريطانيا العظمى(1)، ولم يكن الاهتمام بسلامة المواصلات الإمبراطورية والمحافظة على طريق الهند (درَّة التاج البريطاني) الحافز الوحيد للتفكير والاهتمام بأرض ما بين النهرين(2)، إذ كانت هناك أسباب مهمة أخرى لاهتمام بريطانيا بالعراق، منها:

1. إنَّ موقع العراق الإستراتيجي بين الشرق والغرب، كان عاملاً جوهرياً وأساسياً في توجيه انتباه البريطانيين وتحديد مسارات تغلغلهم ونفوذهم فيه، وإنَّه قلب الشرق الأوسط، وخطورة موقعهِ هذا تُفسّر جوانب من صراعهِ الطويل مع قوىّ أجنبية عديدة (3).

إنَّ لكلّ دولةٍ من عالمنا هذا موقع جغرافي له ميزاته الخاصة، ولكن هناك دول لَعِبَ موقعها الجغرافي أخطر دور في تاريخها، ومن هذهِ الدول (العراق)، فهو معبر عالمي بين الشرق والغرب، كما أنّه قلب العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه يقع على الطرف القصي الشرقي للوطن العربي(4). ويقع العراق في موضع يجعله طريقاً عالمياً، وفي الوقت نفسهِ مُلتقى لطرق العالم كلِّها ، ولقد كانت هذهِ القطعة من الأرض تبدو بالنسبة إلى القطعان البشرية الجائعة خلال العصور كنزاً للكثير من أولئك الذين كان يحركهم الشعر القائل «وطن الإنسان هو المكان الذي يجد رفاهه فيه»، فأين يمكن العثور على منطقةٍ مثل هذه كبيرة كانت أم ،صغيرة، قد منحت العالم، أو أخذ منها العالم هذا الشيء الوفير»؟(5).

وفي ظلِّ اشتداد التنافس الاستعماري الذي شَهِدته المنطقة في القرن التاسع عشر، تمكَّنت بريطانيا من تحقيق الأرجحية في العراق، حتّى غدا يشغل حيزاً كبيراً تفكيرها الإستراتيجي.

ص: 106


1- البزاز عبد الرحمن العراق من الاحتلال حتَّى الاستقلال، ط3، (بغداد، مطبعة العاني، 1967م)، ص42.
2- المرجع نفسه، ص43.
3- ویلسون، آرنولد تي، بلاد ما بين النهرين بين ولائين ترجمة فؤاد ،جميل، ط2، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1991م)، (المقدمة)، ج 1، ص (أ).
4- نوار، عبد العزيز سلمان، المصالح البريطانية في أنهار العراق، (القاهرة، مكتبة الإنجلو المصرية، 1968م)، ص3.
5- فوستر هنري نشأة العراق الحديث، ترجمة: سليم طه التكريتي (بغداد ، المكتبة العالمية، 1989م)، ج 1، ص7.

إنَّ ثلاثة عقود من القرن التاسع عشر (1830-1860م) كانت خطيرةً جداً في تاريخ العراق، إذ تميَّزت بتضخم مصالح بريطانيا، وتعدد مشاريعها واستقرار نفوذها في ربوعهِ، فقد كان الهدف الإستراتيجي البريطاني في تأمين السيطرة على خطوط المواصلات الدولية المؤدية إلى الهند يعني الدفاع عن وجود الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، والعراق عظيم الأهمية من وجهة نظر الدفاع عن هذهِ الإمبراطورية وحفظ مواصلاتها(1).

2. كان الموقف السياسي في العراق أثناء القرن الثامن عشر، يساعد على تغلغل النفوذ البريطاني، فقد كان المماليك يحكمون العراق منذ العام 1704م، وكان هؤلاء رغم تبعيتهم الإسمية للسلطان العثماني ينفردون بالحكم في العراق، ولذلك هم في حاجة إلى المساعدة وتأييد دولة كبرى ضدَّ أيَّ محاولة من جانب السلطة العثمانية لإرجاع نفوذها المباشر في العراق، وفي الوقت نفسهِ ضدّ محاولات فارس في بسط نفوذها على العراق، وقد نتج عن ذلك تقارب بين ولاية بغداد والسلطات البريطانية في بومباي، فقد وافق ولاة بغداد على تطبيق قاعدة الامتيازات التي كانت تمنحها الدولة العثمانية للأوروبيين، كما أنَّ بغداد كانت في أشدِّ الحاجة إلى مساعدة بريطانيا لمواجهة الخطر الوهابي الذي ظهر في نجد، جنوب العراق(2).

3. الصراع الدولي فقد شَهِدت منطقة الخليج العربي منذ بداية القرن السابع عشر صراعاتٍ دامية بين الدول المتنافسة، فكان الصراع البريطاني البرتغالي، ثمَّ الصِدام البريطاني الهولندي، وانتهت الأمور أخيراً لصالح السيادة البريطانية في الخليج، ففي أواخر القرن الثامن عشر أصبحت لبريطانيا العظمى الأرجحية تجارياً وسياسيا(3).

لكن التطور الخطير في سياسة بريطانيا وموقفها ليس تجاه الخليج العربي فحسب، بل تجاه وادي الرافدين ومنطقة الشرق الأوسط حدث مع بداية القرن التاسع

ص: 107


1- المرجع نفسه، ص7.
2- أنيس ، مرجع سابق، ص ص 100-103.
3- غازي علي عفيفي علي الصراع الأجنبي على العراق والجزيرة العربية في القرن التاسع عشر، بيروت، دار الرافدين، 2015م)، ص ص 11-16.

عشر، وعند ذلك لم يعد إحراز الأرجحية في نظر بريطانيا مجرد أمر مُحبَّذ أو مرغوبٌ فيه، بل لا بدَّ منه لصيانة مصالحها، وهيبتها في هذهِ البقعة من العالم، ولقد كان العامل الأكبر في حدوث هذا التطور الخطير، ظهور منافس عتيد على مسرح الشرق، ذلك هو نابليون بونابرت (1)بقيامه بغزو مصر، واتضاح خطره على الهند، فكان عصر نابليون هو العصر الذي أسَّس فيه النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط بصورةٍ جدية(2).

وكان على العراق أن يتحمل المزيد من عبء الصراع الدولي الذي أخذ أبعاداً أكثر تعقيداً وخطورة، لا سيّما مع التقارب التركي الألماني والأطماع الروسية في فارس والخليج العربي، ومعها دخلت المصالح الإستراتيجية البريطانية في العراق مرحلةً جديدة شَهِدت أوجهاً أخرى من التغلغل البريطاني، من خلال العديد من المنافذ والوسائل ومنها خطوط السكَّك الحديد المواصلات التلغرافية، مشاريع التنقيب الآثاري، مؤسَّسات التبشير الجاليات البريطانية تعدد القنصليات، فضلاً عن زيادة عدد الشركات التجارية والمِلاحية البريطانية. وهذا يعني أنَّ أهمية العراق الإستراتيجية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، لم تزد إلاَّ قوةً وتأكيداً، بل إنَّ العراق أصبح منطقة نفوذ بريطانية فعلاً، لذلك عبَّر أحد الإنكليز المهتمين بالسياسة والتاريخ، قائلاً: «لم يكن ليغيب عن بال الجميع في العراق، أنَّ مستقبل بريطانيا العظمى في العراق سائرٌ إلى الأهمية لا محالة، وربما ليصبح شيئاً أعظم» (3).

4. العامل الاقتصادي، فقد كان العراق مصدراً مهماً للموارد الاقتصادية والمواد الأولية التي تغذي الصناعة البريطانية، كما يُعد سوقاً مهماً لصناعتها وبضاعتها التي تحتاج إلى أسواق لتصريفها(4).

ص: 108


1- نابليون الأول Napoleon Bonaparte : هو قائد عسكري و حاكم فرنسا وملك إيطاليا وإمبراطور الفرنسيين (1769-1821م)، خاض معارك عديدة احتل بها نصف أوربا، وفي النهاية خرج مهزوماً على أيدي بريطانيا وحلفائها للمزيد، ينظر : سليمان علي حيدر، تاريخ الحضارة الأوربية الحديثة، بغداد، دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع، 1990م)، ص ص 199-216.
2- صالح، زكي، بريطانيا والعراق حتّى عام 1914م، (بغداد، مطبعة العاني، 1968م)، ص57.
3- لونكريك، ستيفنسن هيمسلي، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر الخياط، ط6، (بغداد، مكتبة اليقظة العربية، 1985م)، ص 336.
4- Mohammed A. Tarbush, The Role of the military in politics,.. a case study of Iraq to 1941, Isted, London: 1983, p.31.

ولقد قامت بعثات الخبراء البريطانيون وفي المقدمة منهم مهندسو الري بإرسال بعثةٍ فنية للقيام بمسح مشاريع الري القديمة في العراق وتحديث التصاميم اللازمة لإحيائها، وإنَّ مهمة بعثة الري الفنية هذهِ التي استمرت زهاء سنتين، تمكَّنت دراسة مختلف نواحي العراق وطبيعة أرضهِ وتضاريسهِ، وهي خطوة مهمة عززت فيها بريطانيا من نفوذها في العراق قبل نشوب الحرب العالمية الأولى(1).

وفضلاً عن النفوذ التجاري والاقتصادي المُتزايد فقد سعى البريطانيون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الكشف عن سُبُلٍ جديدة للتوغل في أرض ما بين النهرين، فأنشؤوا مثلاً دوائر بريد بريطانية هندية في بغداد والبصرة، وكذلك كانت طريقاً لأسلاك البرق التي تصل الهند بإنكلترا، التي تربط الأسلاك البرية للخط التركي بأسلاك بحرية تتصل عبر مدينة الفاو، كما وضعوا الخطط اللازمة لإنشاء خط سكَّة حديدية يمتد من بغداد إلى البصرة؛ لاستخدامها في المواصلات العسكرية والاقتصادية التي تخدم مصالح بريطانيا الحيوية داخل العراق وخارجهِ من خلال ربطهِ بالخليج العربي(2).

إنَّ المصالح الاقتصادية كما هي الحال عَبرَ التاريخ، تجلب معها النفوذ السياسي والتدخل الاجنبي، فقد تحول خليج البصرة إلى بحيرةٍ بريطانية هندية، الأمر الذي دفع ب- «اللورد كرزون» نائب الملك في الهند(3)إلى القول بأن:«العلاقة بين بريطانيا والخليج قد انفصلت عن دفاتر التجارة إلى حقائب السَّاسة»(4).

ص: 109


1- نظمي، وميض جمال ،عمر الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية (الاستقلالية) في ،العراق، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية (1984م ، ص ص 400-401 البزاز، مرجع سابق، ص 59.
2- إبراهيم عبد الفتاح على طريق الهند (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2004م)، ص 72 Zaki saleh, Mesopotamia (Iraq) (1900-1914), Baghdad: 1957, Pp. 153- 154.
3- اللورد كيرزن 1859) Lord George Curzon-1925م : سياسي بريطاني معروف، تولي مناصب إدارية وسياسية عديدة في حكومة الهند البريطانية حتّى أصبح نائباً للملك في الهند بين (1899-1905م)، ثم أصبح عضواً في مجلس اللوردات عام 1908م، وظلّ في هذا المنصب حتَّى وفاته. للتفاصيل، يُنظر: The New Encyclopedia Britannic، vol.3, London: 1973, p.807.
4- آیرلاند فيليب العراق.. دراسة في تطوره السياسي، ترجمة: جعفر الخياط، بيروت، دار الكشاف للطباعة، 1949م)، ص 37

5. الحرب العالمية الأولى، فهناك عوامل عدَّة ربطت دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى بالعراق. ومن أبرز تلك العوامل ما يأتي:

أ. إنَّ العراق جزء من الدولة العثمانية التي انضمت إلى جانب ألمانيا والنمسا ضدَّ دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية)، فمن الطبيعي أن تهاجم بريطانيا (العراق) بوصفهِ من أملاك الدولة العثمانية، فضلاً عن ميراث الموقع والثروات والخصائص الأخرى التي يمتلكها.

ب. النفط: حصلت بريطانيا بواسطة المهندس البريطاني (وليام دارسي)(1) في سنة 1901م من مظفّر الدين شاه(2) على امتياز التنقيب عن النفط، واستخراجه في منطقة جنوب إيران لمدة ستين سنة، فتشكَّلت (شركة النفط الإنكليزية الفارسية)، لتتولَّى القيام باستثمار ينابيع النفط الأراضي الإيرانية(3)، ولمَّا نشبت الحرب العالمية الأولى، تبيَّن للجميع بأنَّ لا سبيل إلى النصر إلاَّ بتأمين إمدادات النفط، إذ أصبح النفط المحرك الرئيس لماكنة الحرب، بيد أنَّ هناك كان يعتقد أنَّ الدفاع عن مصالح شركة النفط البريطانية في إيران هو الباعث إلى حملة العراق، مع أنَّ الحكومة البريطانية كانت تعتقد أنَّ النفط وحده لا يدعو إلى إرسال حملة كحملة العراق، فثمَّة مصالح أخرى ذات أهمية بالغة وذات جذور تاريخية دعت إلى تلك الحملة، ولكن سرعان ما ازداد الأمر أهميةً بعد أن أصبح النفط المُجهَّز من حقول عبَّادان، العامل الأول في تحقيق أهداف الحرب، الأمر الذي جعل الشركة تُضاعف

ص: 110


1- ولیم نوکس دارسي (1849) William N. Darcy-1917م) مهندس بريطاني هاجر إلى أستراليا، وعمل في مناجم الذهب فجمع ثروةً كبيرة، ثم عاد إلى بريطانيا، وفي عام 1901م حصل على امتياز النفط على سواحل الخليج العربي في إيران وبعد سنتين على منح الامتياز قام دارسي بتأسيس شركة لاستثمار النفط برأسمال مقداره (600) ألف جنيه إسترليني، وحصل دارسي على أرباح كبيرة خلال أعماله في حقول النفط الإيرانية، وقدَّم بعدها طلباً إلى الحكومة العثمانية للحصول على امتياز النفط العراقي. للتفاصيل، يُنظر : ميكائيل بروكس، النفط والسياسة الخارجية، ترجمة: غضبان السعد، (بغداد، 1951م)، ص42 S. H. Longrrigg, Oil in the Middle East, London: Groom Hel, Mltd., 1968, Pp. 17-36.
2- مظفر الدین شاه (1853-1907م) : خامس ملوك أسرة آل قاجار، اختاره والده ناصر الدين شاه ولياً للعهد وهو في سن الخامسة من عمره، اتصف بالثقافة والتحدث بأكثر من لغة كان ضعيف الشخصية مما أدى إلى سيطرة حاشيته على مقاليد الحكم للتفاصيل، يُنظر : المالكي، لازم لفته ذياب إيران في عهد مظفّر الدین شاه (1896-1907م)، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة البصرة ، كلية الآداب، 1979م، ص ص 39-43.
3- إبراهيم، مرجع سابق، ص174.

جهودها، فقد زاد إنتاج شركة النفط الإنكليزية الفارسية من (270) ألف طن في عام 1914م، إلى (900) ألف طن في نهاية الحرب(1).

كانت بريطانيا تنظر إلى ولاية البصرة أثناء تلك الحِقبة، بوصفها جزءاً وثيق الصِلة بالقسم الجنوبي من إيران والخليج، فكثّفت جهودها لتثبيت مركزها العسكري والسياسي والاقتصادي في البصرة وإيران والخليج ولقد كانت البصرة وما يُحيط بها ذات أهمية حيوية للإنكليز، أمَّا القسم الشمالي (بغداد والموصل) فلم يكن يمثل الأهمية الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية، وكان هذا التقسيم واضحاً في أذهان البريطانيين منذ العام 1898م، إذ إنَّ النصف الجنوبي من العراق يؤلف جزءاً من الخليج، وهو المنطقة «التي خلقت فيها الدبلوماسية البريطانية لمدة قرنين وضعاً فريداً، تتداخل فيه المصالح الإنكليزية والملاحة البحرية، والطريق الإستراتيجي إلى الهند جميعاً»(2).

كتب لويد جورج(3)رئيس وزراء بريطانيا في أواخر أيلول 1914م:«أصبح واضحاً أنَّ تركيا ستنضم إلى الدول العدو على الأرجح، وهذا الأمر جعل من المهم على الفور اتخاذ خطواتٍ للمحافظة على تجهيز النفط في الخليج والتي كانت مملوكةً لشركة النفط الإنكلو - فارسية، كوسيلةٍ لتأمين تجهيزات الوقود النفطي للبحرية»(4).

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م تحركت قوة عسكرية بريطانية نحو جنوب البصرة وفي 6 تشرين الثاني نزلت في الفاو، ثمَّ تقدمت إلى البصرة فاحتلتها ويمكن الاستنتاج بأنَّ الهدف البريطاني الأساس لم يكن احتلال كل ،العراق، بقدر ما كان ضمان المصالح البريطانية في الخليج وجنوب إيران، ولكن فيما بعد وللسهولة التي أحرزتها القوات البريطانية الهندية في احتلال البصرة وانسحاب

ص: 111


1- بولارد ،رید، بريطانيا والشرق الأوسط، ترجمة: حسن أحمد السلمان (بغداد، مطبعة الرابطة، 1956م)، ص 97.
2- (40) Stephan H. Longrigg, Iraq 1900 to 1950: Apolitical, Social and Economic History, London: Oxford University Press, 1953, p.3
3- ديفيد لويد جورج (1) David Lioyd-George/كانون الثاني/1863-26/آذار /1945م): سياسي بريطاني، عضو في مجلس العموم للمدة من (1890-1945م)، تولى لأول مرة منصب وزير التجارة سنة 1905م، ثم وزيراً للخزانة للمدة (1915-1908م)، عُين وزيراً للحربية لبضعة أشهر سنة 1916م، حتّى أصبح رئيساً للوزارة، استقال من رئاسة الوزارة سنة 1922م للاختلاف حول الميزانية. للمزيد، ينظر : 28...1.The New Encyclopedia Britannica, op. ct., Vol.
4- نظمي، وميض جمال ،عمر، مرجع سابق، ص 401.

القوات التركية شمالاً، واستثماراً للفوز الذي حصل ، ومع الواقع السياسي الجديد والتحالفات الناشئة، فقد اندفعت القوات البريطانية شمالاً حتّى أكملت احتلال العراق مع نهاية الحرب(1).

وكان من الواضح قبل الحرب العالمية الأولى أنَّ العراق قد أصبح من مناطق النفوذ البريطانية المهمة، فتعمَّقت مصالح بريطانيا في هذا الجزء من الدولة العثمانية وتشعَّبت، وكان منها وضع العراق الزراعي وأهميته كمجال حيوي لاستيطان عددٍ كبير من السكَّان الذين يفيضون عن قابلية الهند، وأيضاً أطماع بريطانيا الإقليمية في العراق ورغبتها في احتلال القسم الجنوبي منه على وجه الخصوص وربطهِ بالهند، ولذلك قامت بريطانيا بعد احتلال البصرة باتخاذ إجراءاتٍ على الأرض، لربط الجزء الجنوبي من العراق بنظام حكومة الهند البريطانية، وذلك باعتماد النُّظُم والقوانين الإدارية الهندية؛ لغرض ضمِّ جنوب العراق للهند تحقيقاً للسياسة التي أنتجتها المدرسة الهندية البريطانية من رجال الاستعمار البريطاني، التي كانت تُهيمن على دائرة نائب الملك في بومباي(2)؛ لذلك فإنَّ تلك السياسة قد تمَّ تثبيتها تماماً مع بداية الحرب، ففي 28 تشرين ثاني/1914م كتب ويلسون (الذي أصبح وكيل الحاكم البريطاني العام في العراق)(3): «أود أن أُعلن أنَّه من الضروري ضم ما بين النهرين إلى الهند كمُستعمرةٍ للهند والهنود، بحيث تقوم حكومة الهند بإدارتها وزراعة سهولها الواسعة بالتدريج، وتوطين أجناس البنجاب المُحاربة فيها» (4).

لقد كانت سياسة ويلسون ومشروع ربط العراق بالهند. من أخطر المشاريع الاستعمارية البريطانية التي لو حالفها النجاح لغيرت مستقبل العراق والمنطقة

ص: 112


1- حميدي، جعفر عباس، تاريخ العراق المعاصر (1914-1968م)، (بغداد ، دار عدنان للطباعة والنشر، 2015م)، ص ص 16-21
2- Gurson, Op., cit., p.49.
3- آرنولد ويلسون 1884) Arnold Talbot Wilson-1940م) عسكري بريطاني، خدم في الهند ثمَّ في الأحواز ، وقَدِمَ مع الحملة البريطانية على العراق عام 1914م ، وعُين وكيل الحاكم المدني في العراق منذ عام (1918-1920م)، غادر العراق نهائياً على إثر قيام انتفاضة 1920م والنتائج التي ترتبت عليها. قتل في معركة جوية خلال الحرب العالمية الثانية في الأول من حزيران عام 1940م. للمزيد، ينظر: Encyclopedia Britannica, Vol. 15, p.312.
4- نظمي، مرجع سابق، ص.399.

بالكامل، ومن المعروف والمُسلَّم بهِ أنَّ ثورة 1920م في العراق كانت هي العامل الحاسم الذي أطاح بتلك السياسة وذلك المشروع.

المبحث الثاني:

مشاريع بريطانيا في الاهتمام بولادة العراق المعاصر

اهتمت بريطانيا بتعزيز طموحاتها في بسط سيطرتها على بلاد وادي الرافدين، من خلال العديد من المشاريع والوسائل، منها:

مشروع سكَّة حديد بغداد:

يُعد مشروع سكَّة حديد بغداد، أحد أهم أسباب اهتمام بريطانيا بالعراق، فضلاً عن كونهِ أحد أهم الدوافع التي أدت إلى خوض غِمار الحرب العالمية الأولى.

كانت بريطانيا تنشد منذ أوائل القرن التاسع عشر طريقاً سهلاً قصيراً إلى جوهرة إمبراطوريتها يومذاك (الهند)، وفي سنة 1837م أنفقت مالاً كثيراً على مسح وادي الفرات لهذهِ الغاية، وحصلت من تركيا على امتياز مدِّ خط سكَّة حديد تصل الإسكندرية على البحر المتوسط بالخليج العربي وكان ذلك سنة 1851م، إلاَّ أنَّ بريطانيا نبذت مشروع الملاحة في الفرات سنة 1876م عندما استطاعت شراء ما قيمته (4) أربعة ملايين باون من أسهم قناة السويس، ورأت أنَّ الإفادة من القناة أفضل من الاستفادة من مشروع مِلاحة وسكَّة حديد عَبرَ الفرات وواديه(1)، وقبل الحرب العالمية الأولى أخذت ألمانيا تفكر في مشروع سكَّة حديد تمتد من برلين فاستانبول فبغداد فالبصرة، وهذا شيء أقلق مضاجع الساسة البريطانيين، وهم الذين كانوا يسعون جاهدين إلى الحفاظ على حياد تركيا وإبعاد النفوذ الألماني عنها، فلقد أراد الألمان من وراء سكَّة حديد برلين البصرة، التقرب من الهند وخلق المتاعب وإثارة القلاقل في أرجاء العالم الإسلامي، لخلخلة كيان الإمبراطورية البريطانية من جهة، وتهديد استثمار النفط، إذ تعمل شركة النفط الإنكليزية الفارسية منذ سنة 1906م

ص: 113


1- حافظ طالب حسين النفط والسياسة في العراق بغداد، دار الكتب العلمية 2017م)، ص 47.

في جنوب إيران وتمتد أنابيبها ومصافيها إلى عبَّادان على شطِّ العرب(1)، هذا فضلاً عن الامتيازات الإقتصادية المُتحققة من مدَّ خط السكَّة، عن طريق الاستثمار(ومنها النفط) على جانبي امتداد الخط في منطقة بين النهرين.

لقد كان مشروع سكَّة حديد بغداد من أشدّ مشكلات الاستعمار التي جابهتها الدول الأوربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعقيداً، ومن أقوى العوامل في سوق هذهِ الدول للانغمار في أتون الحرب الأولى، وكان أيضاً من أهمِّ الدوافع التي جعلت بريطانيا تقرر استعمار العراق والسيطرة على المنطقة العربية لضمان سلامة أقصر طرق المواصلات إلى الهند وإبعاد التهديد الأوروبي عنها، فقد شكَّل هذا المشروع تنافساً استعمارياً، وصراع قوى بين أهم الدول الفاعلة آنذاك على الساحة الأوروبية : بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا (2).

لقد أثيرت في بريطانيا قضية إنشاء الطريق البري للوصول إلى الهند أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، بعد أن شرع الفرنسيون في فتح قناة السويس، فقد شعرت بريطانيا أنَّ إيجاد طريق مختصرة كلِّياً لفرنسا للوصول إلى الهند هو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لوجودها ومصالحها في تلك المنطقة من العالم، وهكذا أُثيرت في بريطانيا مسألة إنشاء الطريق البري نحو الهند على أساس إقامتهِ كمنافس وبديل بريطاني لقناة السويس، بمدِّ سكَّة حديد من السويداء على خليج الإسكندرية حتّى قلعة جابر في أعالي الفرات، وكان الأمر معقوداً أن تكون هذه السكَّة حلقة وصل بين البحر المتوسط والطُّرُق النهرية في الفرات، وفي الوقت نفسهِ إمكانية مد السكَّة المذكورة نحو بغداد ومنها إلى البصرة(3).

وضمن تقرير اللجنة التي شكَّلتها الحكومة البريطانية في مجلس العموم البريطاني برئاسة السير نورثكوت لدراسة المشروع، وردت النقاط المهمة الآتية(4):

ص: 114


1- ويلسون، مرجع سابق، ص 11.
2- حافظ، مرجع سابق، ص47.
3- بحري لؤي سكة حديد ،بغداد بغداد، شركة الطبع والنشر الأهلية، (1967م)، ص ص 10-12.
4- حسين علي ،ناصر تاريخ السكك الحديدية في العراق (1914-1945م)، (بغداد، 1986م)، ص 21 E. M. Earle, Turkey The Greet Power and The Baghdad Railway, A study in Imperialism, New York: 1966, p.135.

أولاً: إنَّ قضية موضوع بناء سكَّة حديد وادي الرافدين كما أسمتها اللجنة (TRANS MESOPOTMIAN RAIL WAY) هو أمر في غاية الضرورة لبريطانيا ومصالحها الحيوية في المنطقة، وهو من الناحية الأخرى يؤمن سرعة نقل البريد نحو الهند والخليج العربي، وله مزايا وفوائد اقتصادية مهمة لبريطانيا.

ثانياً: إنَّ من الممكن استعمال السكَّة للأغراض الحربية الخاصة بنقل القطعات والأسلحة والمؤن نحو الهند ويمكن عدَّها حاجزاً لإيقاف أي توسع روسي تجاه الخليج العربي(1).

وبما أنَّ المشروع كان موضوعاً للمنافسة والصراع الاستعماري، فقد تقدمت روسيا القيصرية بعرضٍ لمدِّ سكَّة حديد من طرابلس على البحر المتوسط إلى الكويت على الخليج العربي عَبرَ الصحراء، على أن يُربط بالعراق بواسطة طريق فرعي يمتد نحو كربلاء(2). كما أنَّ فرنسا تبنّت أيضاً إنشاء مشروع سكَّة حديد بغداد، الأمر الذي رأت فيه بريطانيا تهديداً مباشراً لمصالحها، فإنَّ ذلك إلى جانب حصة فرنسا الواسعة في قناة السويس يعني سيطرتها على الطريق البري نحو الهند، الأمر الذي يُشكِّل تهديداً مباشراً لمصالح وسياسة بريطانيا في الشرق الأوسط والهند(3). ولأسبابٍ عدَّة لم تلقَ كلَّ تلك المشاريع موافقة السلطان العثماني(4).

وفي الجانب الألماني كان استلام القيصر وليام الثاني (5)الحكم عام 1888م قد

ص: 115


1- Zaki Saleh, Op. cit., p.154.
2- حسین مرجع سابق، ص422 135.Earle, Ibid., p.
3- حسین مرجع سابق، ص 22
4- حري، مرجع سابق، ص 21
5- ويليام الثاني (1859) William II-1941م): ملك بروسيا وإمبراطور ألمانيا، والدته ابنة الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا، سعى إلى تبني سياسة النهج الجديد التي أكدت حق ألمانيا في زعامة العالم، تلك السياسة التي أثارت البريطانيين ،ضده، كان يُعاني من عقدة الشعور بالنقص بسبب عوق في يده اليُسرى، وفي تشرين الثاني من عام 1918م تنازل عن العرش بعد أن انهزمت ألمانيا في الحرب، ونفي خارج ألمانيا، وعاش في المنفى حتى وفاته في عام 1941م. آلان بالمر، موسوعة التاريخ الحديث (1789-1945م) ، (بغداد، دار المأمون للطباعة والترجمة والنشر، 1992م)، ج 2، صص 391-392 Encyclopedia Americana, New York: 1968, Vol.28, p.779; Paul Kennedy Randon, The Rise and Fall of the Great Powers, U.S.A: 1987, p.25.

شكَّل تغييراً جذرياً إزاء سياسة التحفظ الألمانية حيال الإمبراطورية العثمانية، تحت تأثیر حاجة الاقتصاد الألماني لإيجاد أسواق جديدة في الشرق، ودخول ألمانيا مُعترك التنافس التجاري والسياسي مع الدول الرأسمالية الكبرى، إذ كان القيصر الألماني يُحبّذ فكرة التوسع الألماني في الدولة العثمانية، ويرى في الأمر تقويةً للمراكز الألمانية في آسيا كلّها(1).

وفي سنة 1898م قام القيصر وليام الثاني برحلة إلى بيت المقدس في فلسطين عَبرَ إستانبول، وكان لهذهِ الرحلة تأثيراً عميقاً في نفس السلطان عبد الحميد(2)، إذ كان الرأي العام الأوروبي ناقماً عليه نقمة شديدة من جراء مذابح الأرمن(3)التي وقعت حوادثها قُبيل هذهِ الرحلة، على أنَّ المنافع الاقتصادية كانت هي الأصل في هذهِ الرحلة كما يتبيَّن من مذكرة الفون بولو وزير الخارجية الألماني، التي نوَّه فيها بالمنافع التي عادت بها الرحلة، فقال: «... ومما يجب أن ننوه بهِ هنا ذكر تصميم إيصال سكَّة حديد الأناضول ببغداد، وهو ما نأمل أنْ نُحقِّق بهِ إكمال الفتح الاقتصادي في آسيا الصغرى»(4).

ونتيجةً لهذا التقارب الألماني التركي، فاز الألمان في 27/ تشرين الثاني/ 1899م باستحصال موافقة السلطان العثماني المبدئية على منح البنك الألماني امتياز إنشاء سكَّة حديد تمتد من قونية إلى بغداد فالخليج، وبعد مرور ثلاث سنوات صدرت الإرادة السلطانية بمنح الامتياز نهائياً إلى الألمان في العام 1902م، وكانت الشركة الألمانية قد أكملت أثناء هذهِ المدة أعمال المسح ووضع الخرائط(5).

ص: 116


1- بحري، مرجع سابق، ص.22.
2- السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918م) : سلطان عثماني، حكم من (1876-1909م)، كان عهده طافحاً بالحروب، حكم البلاد حكماً استبدادياً قاسياً، أكره على منح دستور للبلاد عام 1908م ، وفي عام 1909م أجبرته حركة تركيا الفتاة على التنحي عن الحكم. وتوفي عام 1918م يُنظر : علي أورخان محمد السلطان عبد الحميد الثاني وأحداث عصره، بغداد، مطبعة الخلود 1987م ، ص ص 371؛ والدي عائشة عثمان ،أوغلي، السلطان عبد الحميد :ترجمة صالح سعداوي صالح (عمان) ، (1991م، ص ص 11-48
3- مرت القضية الأرمنية بثلاث مراحل تاريخية : حقبة السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، والاتحاديين الطورانيين (1909-1919م)، وحقبة تركيا الكمالية (1919-1923م). للمزيد عن القضية الأرمنية، يُنظر اليافي نعيم وخليل موسى نضال العرب والأرمن ضدَّ الاستعمار العثماني، اللاذقية، دار الحوار، 1995م)، ص21.
4- إبراهيم، مرجع سابق، ص102.
5- المرجع نفسه، ص ص 113-115.

أعطي الامتياز النهائي لسكَّة حديد بغداد في 5/آذار 1902م، ونص الامتياز على موادٍ عدَّة، يمكن إجمال أهمها في ما يلي:

1. الحق لشركة سكَّة حديد الأناضول بتمديد الخط من قونية إلى بغداد والبصرة ، عَبرَ أو عند أقرب نقطة من قونية ونصيبين والموصل وتكريت وبغداد وكربلاء والنجف والزبير مع إقامة فروع للخط إلى مناطق عدَّة، أهمها حلب وخانقين ونقطة على الخليج العربي يتفق بشأنها فيما بعد بين الحكومة التركية وأصحاب الامتياز والمُلاحظ أنَّ نص الامتياز لم يُشر صراحةً إلى أسم الموقع الذي تمَّ الاتفاق عليه في الخليج العربي لتشييد فرع السكَّة إليه من الزبير، غير أنَّه من المعروف عموماً أنَّ الكويت كانت تلك هی النقطة المُقترحة كي تكون نهاية سكَّة حديد بغداد.

2. حددت مدة الامتياز بتسعة وتسعين عاماً.

3. أعطيت الشركة الحق في استغلال كُلَّ المناجم التي يُعثر عليها لمسافة عشرين كيلو متراً من جانبي الخط(1).

لقد كانت إحدى النتائج المهمة التي أدت إليها زيارة القيصر الألماني إلى تركيا والأراضي المقدسة، أن عجّلت بريطانيا بالسعي للقيام بعدد من الإجراءات الهادفة إلى حماية خطوط مواصلاتها نحو الهند، إزاء تقدم ألماني مُحتمل في منطقة وادي الرافدين عن طريق تنفيذ سكَّة حديد بغداد، وقام اللورد كرزون نائب ملك بريطانيا في الهند باستمالة الشيخ مبارك شيخ الكويت (2)، لعقد معاهدة حماية سرية بين بر بريطانيا والكويت في حزيران 1899م ، وفرضت المعاهدة المذكورة على شيخ الكويت عدم قبول أي ممثل لدولةٍ أجنبية في إمارتهِ دون الحصول على موافقةٍ مُسبقة من الحكومة

ص: 117


1- البحري، مرجع سابق، ص ص 69-71.
2- مبارك الصباح: الشيخ مبارك بن صباح الصباح، حاكم الكويت السابع والمؤسس الحقيقي لها، ولد عام 1837م في الكويت، تولى الحكم في 17 مايس / 1896م بعد أن قتل أخويه محمد وجراح، لقب بمبارك الكبير، ازدهرت الكويت في عهده تجارياً، وشيَّد فيها أول المدارس النظامية والمستشفيات. توفي في 28/نوفمبر/1915م. للمزيد، ينظر: براي، ن، مغامرات لجمن في العراق والجزيرة العربية ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، بغداد، دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع، 1990م)، ص42.

البريطانية، كما منعته من رهن أي جزء من أراضيه أو بيعه أو إيجاره دون الحصول على تلك الموافقة نفسها(1).

امتازت الحِقبة التي أعقبت إعطاء امتياز سكَّة حديد بغداد عام 1902م وحتّى إعلان الحرب العالمية الأولى بكونها حقبة المفاوضات والمناورات السياسية العنيفة بين الدول الأوروبية الكبرى لأجل التوصل إلى المُساهمة أو منع مساهمة الآخرين في مشروع السكَّة. لقد كادت تلك المفاوضات والمناورات التي كانت تسير صعوداً ونزولاً أن تعطي نتائج قائمة على أساس تفاهم الأطراف المعنية لولا قيام الحرب العالمية الأولى. ولقد عدَّت المشكلات الدولية المتعلقة بسكَّة حديد بغداد من العناصر الرئيسة للخلافات الأوروبية التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولى(2).

على أنَّ كلاً من بريطانيا وفرنسا وروسيا التي لها أطماعها ومصالحها في تلك المناطق، لم تنظر إلى المشروع بعين الرضا والقبول عندما شرع الألمان في مدِّ السكَّة، فبريطانيا مثلاً اشترطت وفق اتفاقية /15/ حزيران/1914م مع ألمانيا، على أن تكون البصرة نهايةً للسكَّة مهما كانت الظروف، وكذلك عدم القيام ببناء ميناء أو محطَّة للسكك الحديد على الخليج العربي، على أنَّ الدبلوماسية الألمانية لم تألُ جهداً في محاولةِ إنهاء معارضة الدول الكبرى لمشروع السكَّة ووضع حدِّ لتلك المعارضة، ولكنها لم تتمتع بمتَّسع من الوقت لجني ثمار جهدها الدبلوماسي وتحقيق حلمها بربط برلين ببغداد، ينقل الوجود الألماني إلى أبواب الهند والشرق، فما أن كادت تصل إلى الاتفاق مع أكبر منافسيها وهي بريطانيا حتَّى اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى.

وبقيام الحرب العالمية الأولى إنهار مشروع سكَّة حديد بغداد الذي تمَّت المباشرة بهِ تواً، وتحولت الأنظار الأوروبية واهتمامها نحو الصراع الحربي الدائر(3).

الملاحة النهرية في العراق:

كان القرن السادس عشر قرن الانطلاق عَبرَ المُحيطات للاستكشافات والاستعمار،

ص: 118


1- البحري، مرجع سابق، ص ص 51-52.
2- المرجع نفسه، ص 52.
3- فوستر ،هنري مصدر سابق، ج1، ص ص 59-65

وتزعمت هذه الحركة الكبرى كل من إسبانيا والبرتغال فكانت الضربة التي وجَّهتها البرتغال للتجارة العربية في مياه المُحيط الهندي والخليج العربي حاسمةً ومروعة، وفشلت مجهودات مماليك مصر ثمَّ سلاطين الدولة العثمانية في إعادة السيطرة الإسلامية على المياه الجنوبية.

وكانت إنكلترا في القرن السادس عشر تسعى إلى الحصول على شيءٍ من ثروات التجارة البحرية، فقد كان الأسطول الإسباني البرتغالي حتّى الثلث الثاني من القرن السادس عشر هو المتحكم في البحار والمُحيطات، لكن البحرية البريطانية استطاعت أن تكسر قوة ذلك الأسطول في عام 1588م عندما انتصرت على الأرمادا الإسبانية The Spanish Armada)، وبذلك أصبحت الطُّرق البحرية إلى المُحيط الهندي مفتوحةً أمام السفن البريطانية، إذ أسّست شركة الهند الشرقية البريطانية (1)في عام 1600م ، وبعد أنْ تمَّ طرد البرتغاليين من هرمز في العام 1622م انفتح الخليج العربي أمام السفن الإنكليزية الذاهبة إلى البصرة، وبذلك أصبحت البصرة واحدةً من أهم مراكز التبادل التجاري مع شركة الهند الشرقية(2).

ونظراً لاتساع نطاق العلاقات السياسية والاقتصادية بين بريطانيا والدولة العثمانية، فقد دارت مفاوضات بين الدولتين، انتهت بعقد معاهدة 1675م التي وضعت أُسس امتيازات المصالح البريطانية في العراق وتوطيدها بصفة عامة وفي نهري دجلة والفرات بصفةٍ خاصة، فقد تضمَّنت معاهدة عام 1675م امتيازاتٍ عدة فيما يخص المِلاحة النهرية(3).

ص: 119


1- شركة الهند الشرقية الإنكليزية The English East India Company شركة تجارية أسست للمتاجرة مع الشرق في 31/كانون الأول /1600م ، وكان هدفها استيراد البضائع الشرقية مقابل تصدير البضائع الإنكليزية. للاستزادة عن شركة الهند الشرقية، يُنظر: محمد أمين عبد الأمير، التنافس بين الشركات التجارية الإنكليزية في منطقة الخليج العربي والأقطار المجاورة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر مجلة كلية الآداب، (مجلة)، بغداد، ع48، 1963م؛ Bennett, Thomas Jewell, the past and Present Connection of England with the PERSIAN Gulf», Journal of the Society of Arts, London: June, 13, 1902, Pp.634- 652.
2- نوار مرجع سابق، ص ص 23-24
3- تضمنت المعاهدة ما يلي حق مجيء الإنكليز إلى أراضي السلطان العثماني للتجارة بسفنهم الكبيرة والصغيرة - والمتوسطة، وأن يقوموا بالشراء والبيع. أن تُعامل إنكلترا معاملة الدولة الأكثر رعاية. للمزيد، يُنظر : J. Hurewit, Diplomacy in the Near and Middle East, London: 1958, Vol.I. Pp.25-32.

لقد تظافرت عوامل عدَّة وراء اهتمام بريطانيا بالمِلاحة النهرية في العراق، ومن بين أهم تلك العوامل:

1. كان أمر حماية الهند وتقريب المسافة بينها وبين لندن، من أهمِّ الدوافع في اهتمام إنكلترا بوادي الرافدين فقد قام الإنكليز بمحاولاتٍ كثيرة لتمهيد طرق المِلاحة في الفرات ومدَّ السكك الحديد بين البحر المتوسط وسواحل الخليج.

2. قیام نابليون بونابرت بغزو مصر.

3. الخوف من نشوء دولةٍ قوية في مصر تقف في وجه الأطماع البريطانية، ولذلك فقد قاومت بريطانيا مُحمَّد علي باشا(1) لمَّا أراد أن يوحِّد سورية ومصر ويؤسِّس دولة حديثة قد تمتَّد إلى العراق وتوحد منطقة الشرق العربي.

4. المباشرة بإنشاء قناة السويس تحت رعايةٍ فرنسية.

5. مقاومة توسع النفوذ الروسي في الدولة العثمانية وأطماعها في الخليج، فإذا قبضت روسيا على الفرات سهل اجتياح سوريا والساحل الشرقي للبحر المتوسط وآسيا الصغرى(2).

لقد تداخلت أهمية الملاحة في وادي الفرات مع سكَّة الحديد، إذ إنَّه مهما يكن لقناة السويس من الأهمية لأوروبا، فإنَّه يمكن غلقها بسهولة، وإنَّها بمنزلةٍ ثانوية لسكَّة حديد وادي الفرات التي يمكن أن توفر الميزات الآتية:

1. إنَّها تُهئ السبيل لمنع روسيا من التقدم في آسيا الصغرى.

ص: 120


1- محمد علي باشا (1769-1849م) : ضابط عثماني ألباني الأصل، ولد في مدينة قولة الألبانية، جاء مع الفرقة الألبانية التي أرسلتها الحكومة العثمانية بهدف إخراج الغزاة الفرنسيين الذين سيطروا على مصر عام 1798م، وبسبب ذكاء هذا الضابط وبمساعدة الظروف له استطاع أن يكون والياً على مصر وأنْ يُثبت مركزه، وكان الشخصية الأكثر شهرةً في تاريخ مصر، إلا أنَّ الدول الأوربية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا أوقفت طموحاته في معاهدة لندن عام 1840م. توفي عام .1849. للمزيد يُنظر : شبارو، عصام محمد المقاومة الشعبية المصرية للاحتلال الفرنسي والغزو البريطاني، (بيروت دار التضامن للطباعة والنشر والتوزيع 1992م)، ص ص 100-102
2- حافظ مرجع سابق، ص 53.

2. إنَّ المشروع يربط البحر المتوسط بالخليج، ولذلك أهمية كبرى من الوجهتين السياسية والتجارية.

3. إنَّه يقصر المسافة بين الهند وإنكلترا ألف ميل، ويُقلل المدَّة اللازمة لقطعها من عشرين يوماً إلى عشرة أيام.

4. سيُضاعف من قوة إنكلترا الحربية، ويجعل آسيا الصغرى وسوريا والعراق وإيران مناطق نفوذ لها، كما أنَّ سيطرة إنكلترا عليه أمر متيسر إذ يسيطر أسطولها على طرفيه في البحر المتوسط والخليج(1).

وابتداءً من سنة 1728م أصبح للإنكليز قوارب في نهر دجلة تُبحر بين بغداد والبصرة وتطور النشاط البريطاني خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد بدأ الإنكليز باستخدام قوتهم البحرية ضدَّ هجمات العشائر، وضدَّ حكَّام العراق إذا ما اتخذوا موقفاً معادياً للأطماع البريطانية، وضدَّ إيران إذا تعرضت المصالح البريطانية في البصرة للخطر(2)، وفي أعقاب نزول الحملة الفرنسية إلى السواحل المصرية في العام 1798م تمَّ إرسال سفينةٍ حربية بريطانية لحماية المُقيمية البريطانية في بغداد، واستمرت هذهِ السفينة مع جنودها مُرابطةً في بغداد رغم فشل الحملة الفرنسية وانسحابها من مصر، وقد كانت المدة التي حكم فيها علي رضا (3)قائداً للجيش العثماني الذي بعثه السلطان محمود الثاني(4)، ليضع نهاية لحكم المماليك في العراق والتي امتدت من (1831-1841م)، هي الحقبة التي وضع فيها الإنكليز

ص: 121


1- Sir A. T. Wilson, Loyalties, Mesopotamia (1914-1917), London: 1930, p.102.
2- صالح مرجع سابق، ص.28
3- علي رضا اللاظ: ولد في طرابزون الواقعة على البحر الأسود عام 1779م، اتصف بالشدة ضد المماليك حيث ذبح منهم نحو مائتي مملوك ومن بينهم ابن داوود باشا، إلا أنه أحسن معاملة داوود باشا، إذ حافظ على حياته وجعله يرحل إلى أسطنبول بسلام. كما اتصف بميله إلى الطرق الصوفية، ومنها البكتاشية. توفي في إسطنبول عام 1846م. للمزيد، :يُنظر : العزاوي عباس، تاريخ العراق بين احتلالین ، بغداد ، 1955م) ، ج 7، ص 19؛ همسلي، مرجع سابق، ص322.
4- محمود الثاني (1784-1893م) : سلطان عثماني من (1808-1839م) ، أجلس على العرش بعد خلع أخيه مصطفى، تابع ما بدأه السلطان سليم الثالث من إصلاحات استمرت في عهده الحرب البروسية - العثمانية (1806-1812م) والتي فقدت فيها السلطنة بساربيا، وعوضتها باسترجاع صربيا سنة 1813م، قضى على ثورة اليونان بمساعدة محمد علي باشا، وقد غزا في عهده محمد علي فلسطين وسوريا والأناضول (1833-1839م). للمزيد، يُنظر: غربال، محمد شفيق، الموسوعة العربية الميسرة، بيروت، دار الفكر، 1974م)، ص1633.

أُسس حقوقهم في المياه العراقية، بعد أن قام خبراؤهم وابتداءً من سنة 1830م بدراسة نهري دجلة والفرات ومسحهما(1).

لقد تكلَّلت أعمال المسح النهري بتأسيس شركة مِلاحة غالباً ما تُعرف بشركة «بيت لنج » (2)وتُعرف رسمياً ب-«شركة المِلاحة البخارية في دجلة والفرات» التي أُسَّست في سنة 1860م، والتي كانت تُسيِّر باخرتين تجاريتين في دجلة، لقد اتَّسع نطاق أعمال الشركة وتعاظمت أهميتها أثناء الربع الأخير من القرن التاسع عشر نظراً لزيادة النفوذ البريطاني، إذ إنَّ الشركة اعتمدت أثناء الحِقبة التي سبقت الحرب العالمية الأولى على حماية الحكومة البريطانية.

حظيت أعمال شركة لنج بأعلى اهتمام من قبل الحكومة البريطانية؛ لأنَّ المصالح السياسية تتطلَّب توطيد المصالح التجارية، فهذا لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني يكتب في 18/كانون أول/1906م قائلاً:«إنَّ من الحكمة، جراء كون نهر دجلة هو أحد خطوط المواصلات المهمة إلى الخليج الفارسي والهند، أن نحذر لئلا يخرج النهر من قبضتنا، ثمَّ إنَّ مركزنا الممتاز في النهر يغدو الآن أكثر قيمةً جراء اقتراب سكّة حديد بغداد، وجراء احتمال أن تكون المِلاحة هي وسيلة النقل الوحيدة ورأس السكّة

في بغداد والبصرة(3)، وقد منحت الحكومة التركية، تحت الضغط البريطاني المُستمر،الإذن المطلوب لشركة لنج في العام 1907م لتشغيل باخرة ثالثة في دجلة(4).

ولادة العراق المعاصر:

رأينا من خلال ما سبق أنَّ السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، قد اهتدت تقليدياً بالضرورة السياسية والنزعة النفعية، وكانت كُلّ من فرنسا وروسيا

ص: 122


1- المرجع نفسه، ص33.
2- تحولت مؤسسة (لينش) إلى شركة للملاحة البخارية في أنهار العراق عام 1861م تحت مسمى (شركة السادة لينش للملاحة البخارية في نهري دجلة والفرات) Messrs Lynch of the Euphrates and Tigris steam Navigation Company»، وظلت قائمةً حتّى تمت تصفيتها عام 1951م للمزيد يُنظر نوار، مرجع سابق، ص 398
3- العطية العراق.. نشأة الدولة، ص 105.
4- المرجع نفسه، ص 105

وألمانيا تُحيط بالمصالح البريطانية، لاسيَّما منذ مغامرة نابليون في مصر. لقد حثَّ الوهن السياسي والاجتماعي والاقتصادي للرجل المريض (الدولة العثمانية) على التنافس بين القوى العظمى، كما مهَّد ذهاب تركيا إلى المعسكر الألماني، والحاجة إلى الإبقاء على روسيا حليفةً لبريطانيا في أي حرب أوروبية، مهَّد إلى ابتعاد السياسة البريطانية عن نهجها المُعلن في الحفاظ على إعلان وحدة تركيا، فقد ألزمت الحرب بريطانيا باتباع سياسة تفكيك النظام السياسي العثماني، وكان هذا التوجه قد حظي بترحاب أنصار «الإمبريالية الجديدة» (New Imperialism) التي بلغت ذروتها في حكومة لويد جورج David Lloyd George) (1945-1863 1م) (1)

لقد ظهرت المرحلة الأولى في نيل أهداف إمبريالية عزيزة على «الإمبرياليين الجدد» عندما نزلت قوات الاستطلاع الهندي في الفاو على الخليج العربي في 6 تشرين الثاني 1914م ، فقبل ذلك لم تكن بريطانيا قادرةٌ على الانتفاع من كونها أقوى دولة في المنطقة، كما كان يتوجَّب على رجال السياسة البريطانيين والإستراتيجيين تعزيز الحلقات الواهنة في سلسلةِ الدفاع عن الهند، ولقد أطلق احتلال القوات البريطانية للبصرة البوابة الإستراتيجية للعراق، الطموحات الأسيرة لدُعاة الضم في الهند ودار الحكومة البريطانية، فلقد أبرق السير برسي كوكس بعد احتلال البصرة بأنَّه من الصعوبة بمكان «تغاضي أخذ بغداد»(2).

أثارت النجاحات المُبكِّرة في احتلال البصرة جدلاً سياسياً عسكرياً بريطانياً بشأن القضية الكبرى في ماهيَّة المصالح الأساسية البريطانية في العراق، وكيف يمكن بلوغها والذود عنها، فحاجج «الإمبرياليون الجُدد» بأنَّ على بريطانيا أن تبسط مجال نفوذها على العراق كافّة، وإلاَّ فإنَّ القوى المنافسة الأخرى ستتحرك، فالعراق لا يمكن الدفاع عنه بالاحتفاظ بالمنطقة الجنوبية وحسب، لذا لا بدَّ من بلوغ الحدّ الأقصى من الحدود الطبيعية(3)، وقد كانت (وزارة الهند) من أولى الدوائر التي

ص: 123


1- نعمة، كاظم الملك فيصل الأول، (بيروت، الدار العربية للموسوعات، 1988م)، ص10.
2- P. Graves, The Life of sir Persy Cox, London: 1941, p.182.
3- نعمة، مرجع سابق، ص.12.

حاولت وضع سياسة خاصة بالعراق، فكتب السير آرثر هرتزل السكرتير السياسي في الوزارة المذكورةً مذكرةً مفصلة بتاريخ 14/آذار 1915م عن مستقبل بلاد ما بين النهرين، فاستناداً إلى نظرية الري في نشوء الدول ووحدتها، كتب يقول: «إنَّ الدولة التي تعتزم أن تطور ولاية البصرة يجب أن تكون هي الدولة التي تطور ولاية بغداد، وأن تكون كذلك هي الدولة التي تُسيطر على المجاري العليا للأنهار حتَّى الموصل والرقَّة». وهو يطمح من ذلك إلى أنَّ مشاريع الري ستُتيح فرصةً طيبة لهجرة الهنود إلى العراق لحاجتهِ إلى العمَّال من جهة، وكذلك لأسبابٍ أخرى أيضاً، منها إنشاء مستوطنة هندية في العراق (1).

وفي خضمِّ هذا الجدل تقرر التقدم نحو بغداد واحتلالها؛ لأنَّ ذلك سيؤمن أهداف بريطانيا في العراق، بضمِّ البصرة وبغداد والجزء الأكبر من الموصل، وإنَّ احتلال بغداد سيرفع السُّمعة البريطانية في الشرق الأوسط، وسيقطع خطوط المواصلات الألمانية مع إيران، ويؤمِّن الدفاع عن حقول النفط، وأخيراً وليس آخراً فإنَّ بغداد «كوكب جذاب» و اسم رومانسي قد يُثير مخيلة البريطانيين، إذ كانت بغداد هي الجائزة المتلألئة التي تتجه إليها جميع الأنظار (2). وهكذا ففي 11/آذار/1917م، احتلت القوات البريطانية بغداد ، ثمَّ جرى احتلال مدينة الموصل بتاريخ 8/ تشرين الثاني/1918م وذلك بعد ثمانية أيام فقط من عقد الهدنة مع تركيا، وبذلك انتهت الحرب العالمية الأولى والولايات الثلاث جميعها، البصرة وبغداد والموصل تحت السيطرة البريطانية.

اتفاقية سايكس بيكو:

لمَّا دخلت تركيا ،الحرب، بدأت الرغبات الاستعمارية الحبيسة تتحسّس طريقها نحو التجسد، فأرادت روسيا أخذ القسطنطينية والمضايق، وطالبت فرنسا بسوريا، وبدأت إنكلترا تحس بحاجتها إلى طريق برية إلى الشرق، وتود أي شيء آخر ضروري يمكن أن يشل أثر المطامح الفرنسية والروسية، كما أنَّ حكومة الهند كانت تصوب

ص: 124


1- العطية، مرجع سابق، صص174-175.
2- المرجع نفسه، ص 200. -

أطماعها بقوة نحو العراق، فافتتح باب المفاوضات في أوائل العام 1915م وأُبرمت بين تلك الدول سلسلةً من المُعاهدات السرية لاستقطاع أراضي الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب، فيما كانت بريطانيا في الوقت نفسهِ تعقد عهوداً جديدة تُناقض عهودها التي أعطتها للعرب بواسطة السير «مكماهون» في سنة 1916م، وكانت أولى تلك المعاهدات هي اتفاقية سايكس بيكو Picot Agreement - The Sykes)، (The وقد عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في ربيع 1916م، فلم يكد السير

مكماهون يُنجز صفقته مع الشريف حسين، حتّى بدأت وزارة الخارجية البريطانية مباحثاتٍ في لندن مع الحكومة الفرنسية، هدفها الوصول إلى تدبيرٍ ما ، بحيث يمكن التوفيق بين ما تدَّعيه فرنسا من حقِّ في بلاد الشام وما تعهدت بهِ بريطانيا للعرب ولأسبابِ مختلفة آثرت وزارة الخارجية البريطانية أنْ تُخفي عن فرنسا شروط الاتفاق الذي عقدته مع الشريف حسين(1). وكان المندوب الفرنسي هو المسيو جورج بيكو (François Marie Denis Georges-Picot) (1951-1870م)، أمَّا زميله الإنكليزي فهو السير مارك سايكس (Sir Tatton Benvenuto Mark Skes) (1919-1879م)، ورسم المندوبان مشروعاً لاحتياز تلك الأجزاء التي ترغب كل من بريطانيا وفرنسا أخذها من الإمبراطورية العثمانية ، ثمَّ توجها بعد ذلك إلى بطرسبرغ لبحث مقترحاتهما مع الحكومة الروسية، وابتدأت المفاوضات في آذار 1916م ونتج عنها تفاهم ثلاثي تبلورت عنه مسودات التفاهم رسمياً في نيسان وأيار من تلك السنة(2).

وفيما يخص دراستنا فقد احتفظت فرنسا لنفسها بالقسم الأعظم من سوريا

ص: 125


1- أنطونيوس، جورج، يقظة العرب.. تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة: ناصر الدين الأسد وإحسان عباس ط6 (بيروت، دار العلم للملايين 1980م ص ص 348-349. إنَّ من أهم الأسباب التي دعت وزارة الخارجية البريطانية () ، إلى إخفاء شروط الاتفاق الذي عقدته مع الشريف حسين، يعود لخشيتها من تعارض الاتفاق مع ما تريده فرنسا، فضلاً عن عدم رغبتها في الإيفاء بتعهداتها للشريف حسين وخوفها من تحالف الأخير مع فرنسا فيما لو كشفت الأخيرة سر ما تُضمره بريطانيا، ناهيك عن إحساس بريطانيا بحاجتها إلى طريق برية إلى الشرق ورغبتها في عمل أي شيء ضروري يمكن أن يشل أثر المكاسب الفرنسية والروسية من اتفاقية سايكس - بيكو، إضافةً إلى أنّ حكومة بريطانيا وعدت الشريف حسين بتنصيب ولده فيصل ملكاً على سوريا دون أن تُعلم حليفتها فرنسا بذلك، وكانت مخاوف حكومة بريطانيا في محلها، إذ أخرج الفرنسيون فيصلاً من سوريا بعد احتلالهم لها في معركة ميسلون آذار 1920م.
2- وقعت الاتفاقية بين مندوب الحكومة البريطانية مارك سايكس Mark Sykes ومندوب الحكومة الفرنسية شارل فرانسو بيكو Charles Frances Pico، سنة 1916م ، لذا عُرفت بهذا الأسم ووضعت ولايتي البصرة وبغداد تحت الوصاية البريطانية، أما ولاية الموصل فقد وضعت تحت الولاية الفرنسية. يُنظر البراوي، راشد، البترول في الشرق الأوسط، القاهرة، مطبعة دار العرب 1955م ، ج4، ص ص 121-122.

وبحصَّةٍ غير صغيرة من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل، أمَّا حصَّة بريطانيا فكانت تتألَّف من شريطٍ يمتد من أقصى جنوب سوريا عِبرَ العراق ليشمل بغداد والبصرة وكلَّ المنطقة الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة المُخصَّصة لفرنسا، وأيضاً مينائي

حيفا وعكًا في في فلسطين مع قطعةٍ صغيرة من المنطقة الداخلية، وهناك مناطق اخری تضم منطقةً

من فلسطين لتكون تحت حكم دولي خاص(1). إلاَّ أنَّ انتصار الثورة البلشفية في روسيا نهاية العام 1917م، وقيام السلطة الجديدة فيها بنشر بعض الوثائق السرية الموضوعة في محفوظات وزارة الخارجية القيصرية ومن بينها نصوص اتفاقية سنة 1916م، أدى إلى فضح اتفاقية سايكس بيكو وانسحاب روسيا منها(2).

وفي كانون الأول 1918م حاول كليمنصو (3)رئيس وزراء فرنسا أن يُقنع لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا الاعتراف باتفاقية سايكس بيكو من جديد، ولكن لويد جورج طالب بتعديل الاتفاقية فيما يخص ولاية الموصل وفلسطين، ومن ثمَّ وافق كليمنصو على نقل ولاية الموصل إلى منطقة النفوذ البريطاني على شروط، منها أن تنال فرنسا حصَّةً من نفط الموصل(4). بيد أنَّ الحلفاء اتفقوا في أثناء مؤتمر الصُّلح في باريس، على توزيع الانتدابات، وقد أعطيت بريطانيا الانتداب على العراق وفلسطين، وأعلنت هذهِ القرارات في /26/ شباط /1920م ، إذ كان المفروض أنَّ الانتداب قد وجد كحلّ وسط بين سياسة الاستعمار القديمة ووعود د الحلفاء في أثناء الحرب، وذلك وفقاً للمادة الثانية والعشرين من ميثاق عُصبة الأمم(5).

ص: 126


1- أنطونيوس يقظة العرب، ص ص 348-349.
2- المرجع نفسه، - ص 438.
3- جورج كليمنصو (1841 George Clemencea-1929م : من أبرز السياسيين الفرنسيين، رأس الوزارة مرتين (1909-1906م) و (1917-1919م)، انتخب عضواً في مجلس النواب عام (1876-1893م)، وفي مجلس الشيوخ عام 1902م، وفي عام 1906م أصبح رئيساً للوزارة ووزيراً للداخلية، وفي تشرين الثاني 1917م أصبح رئيساً للوزراء مرة ثانية، وأقام حكومة ائتلافية حكومة الاتحاد المقدس)، واصلت الحرب حتَّى إحراز النصر ، اعتبر كليمنصو معاهدة فرساي ( غير كافية لضمان سلامة فرنسا للمزيد، يُنظر بالمر ،آلان مرجع سابق، ج 1، ص 190.
4- حافظ مرجع سابق، ص 60.
5- عُصبة الأمم League of Nations : هي إحدى المنظمات الدولية السابقة التي تأسست عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919م والذي أنهى الحرب العالمية الأولى التي دمرت أنحاء كثيرة من العالم وأوربا خصوصاً، دولية هدفت إلى الحفاظ على السلام العالمي . للمزيد، يُنظر : وهي أول منظمة .The New Encyclopedia Britannica, New York: Vol. VI, p.244

لقد كانت الحرب العالمية الأولى نهاية قصَّة طال أمدها وتشعَّبت فصولها، وبداية مرحلة جديدة في تاريخ البلاد التي أصبحت تُعرف بالمملكة العراقية، ثمَّ استمرت العلاقات البريطانية العراقية تجري بواسطة أجهزة وأساليب جديدة وفي ظروفٍ تختلف جوهرياً عن كلّ ما سبق، غير أنَّ الإستراتيجية بقيت على حالها من حيث الباعث والهدف وغموض المصير، وفي ظلِّ آمالٍ ووعودٍ وشكوك غدا العراق تحت الانتداب البريطاني، وبقيام ثورة العشرين انقلبت كلَّ الخطط وعصفت بها الثورة إلى حيث لا رجعة فقد انتهت وإلى الأبد مشاريع ربط العراق بالهند وتقسيمه، فكان تشكيل أول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب (1)(25/ تشرين أول/ 1920م)، وتتويج فيصل ملكاً على العراق (23) آب / 1921م)(2)، واستعاضت بريطانيا عن صکِّ الانتداب بمعاهدة تحالفٍ مع العراق (1922م)(3).

وبرز في تلك المرحلة دور النفط في سياسة السيطرة البريطانية على العراق واستخدمه في دائرة مساوماتها السياسية معه، وهو دور لا يقل عن الاعتبارات الإستراتيجية التي كانت تشغل أذهان المسؤولين البريطانيين تجاه العراق، وكان خبراء النفط البريطانيون قد درسوا إمكانيات العراق النفطية منذ السنوات الأولى من القرن العشرين، وبعد الحرب أتم أولئك الخبراء وضع تقارير شاملة لأغلب مناطق النفط في العراق (4). وغَدَت قضية النفط وامتيازاته في الحِقب اللاحقة، أحد أبرز صور الوجود البريطاني في العراق ونفوذه واستغلاله.

ص: 127


1- عبد الرحمن النقيب (1854-1927م) : من رجال السياسة والحكم في العراق، ولد في بغداد وتعلم فيها، وتولى نقابة الأشراف فيها، تولى أول وزارة عراقية بعد ثورة العشرين، ثم بعد تولي فيصل الأول عرش العراق تولى رئاسة الوزارة مرتين، عُقدت في عهده المعاهدة العراقية - البريطانية عام 1922م. توفي في بغداد عام 1927م ودفن فيها. للمزيد ينظر : كحالة، عمر رضا، معجم المؤلّفين، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1967م)، ج 5، ص 156.
2- الملك فيصل الأول (1883-1933م) (1921-1933م) : ولد في مدينة الطائف في العشرين من أيار عام 1883م. ودرس في أسطنبول، شارك في الثورة العربية الكبرى التي اندلعت في العاشر من حزيران عام 1916م، إلا أنَّ الفرنسيين أزاحوا فيصلاً عن عرش سوريا بعد موقعة ميسلون في الرابع والعشرين من تموز عام 1920م، وفي آذار 1921م رشحت بريطانيا فيصلاً ملكاً على العراق في مؤتمر القاهرة، فى الثالث والعشرين من اب 1921م اعتلى عرش العراق. توفي في ليلة السابع على الثامن من أيلول عام 1933م للتفاصيل، يُنظر التكريتي، عبد المجيد كامل عبد اللطيف فيصل الأول.. ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة (1921-1933م)، (بغداد (1991م ص ص 10-15
3- حافظ، مرجع سابق، ص 61.
4- المرجع نفسه، ص 61.

الخاتمة:

لقد كان الجانب المادي الاقتصادي السبب الكبير والواضح من وجهة النظر الاستعمارية في احتلال بريطانيا المناطق المختلفة من العالم، خاصةً المنطقة العربية ومنها ،العراق، وفق إستراتيجيةٍ بُنيت على أساس الأسواق الجديدة والمواد الأولية المعدنية منها ، والزراعية إضافةً إلى أهمية الموقع الإستراتيجي والدفاعي الذي يدخل ضمن الحفاظ على هذهِ المصالح.

إنَّ اهتمام بريطانيا بالعراق قد سبق تدخلها العسكري المباشر فيه، ولكن بعد الحرب وبعد نزول القوات البريطانية في ولاية البصرة في شهر تشرين الثاني 1914م وجدت السلطات البريطانية، وخصوصاً وزارتي الخارجية والهند واللجنة الوزارية للشؤون الشرقية، أنَّه لا بدَّ من التفكير في مستقبل الولايات العثمانية الثلاث: البصرة، ،بغداد الموصل. وقد ازدادت الحاجة لبلورة سياسة مُحدَّدة على هذا الصعيد مع التطور في المعارك الحربية وتوسيع القوات البريطانية في احتلال أراضي ما بين النهرين (Mesopotamia)، وقد كانت هناك أسباب مهمة أخرى لاهتمام بريطانيا بالعراق ومنها:

أولاً: إنَّ موقع العراق الإستراتيجي بين الشرق والغرب، كان عاملاً جوهرياً وأساسياً في توجيه انتباه البريطانيين وتحديد مسارات تغلغلهم ونفوذهم فيه، أنَّه قلب الشرق الأوسط، وخطورة موقعهِ هذا تُفسِّر جوانب من صراعهِ الطويل مع قوىٌ أجنبية عديدة.

ثانياً كان الموقف السياسي في العراق أثناء القرن الثامن عشر يساعد على تغلغل النفوذ البريطاني، فقد كان المماليك يحكمون العراق منذ العام 1704م، وكان هؤلاء رغم تبعيتهم الإسمية للسلطان العثماني ينفردون بالحكم في العراق، ولذلك هم بحاجة إلى المساعدة وتأييد دولة كبرى ضدَّ أيَّة محاولةٍ من جانب السلطة العثمانية لإرجاع نفوذها المباشر في العراق، وفي الوقت نفسهِ ضدَّ محاولات فارس في بسط نفوذها على العراق. وقد نتج عن ذلك تقارب بين ولاية بغداد والسلطات البريطانية

ص: 128

بومباي، فقد وافق ولاة بغداد على تطبيق قاعدة الامتيازات التي كانت تمنحها الدولة العثمانية للأوروبيين، كما أنَّ بغداد كانت في أشدِّ الحاجة إلى مساعدة بريطانيا المواجهة الخطر الوهابي الذي ظهر في نجد، جنوب العراق.

ثالثاً: الصراع الدولي: شَهِدت منطقة الخليج العربي منذ بداية القرن السابع عشر صراعاتٍ دامية بين الدول المتنافسة، فكان الصراع البريطاني البرتغالي ثمَّ الصِّدام البريطاني الهولندي، وانتهت الأمور أخيراً لصالح السيادة البريطانية في الخليج، ففي

أواخر القرن الثامن عشر أصبحت لبريطانيا العظمى الأرجحية تجارياً وسياسياً.

رابعاً: العامل الاقتصادي:كان العراق مصدراً مهماً للموارد الاقتصادية والمواد الأولية التي تغذي الصناعة البريطانية، كما يُعد سوقاً مهماً لصناعتها وبضاعتها التي تحتاج إلى أسواق لتصريفها.

خامساً: الحرب العالمية الأولى : هناك عوامل عدَّة ربطت دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى بالعراق. ومن أبرز تلك العوامل ما يأتي:

1. إنَّ العراق جزء من الدولة العثمانية التي انضمت إلى جانب ألمانيا والنمسا ضدَّ دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية)، فمن الطبيعي أنْ تُهاجم بريطانيا (العراق) بوصفه من أملاك الدولة العثمانية، فضلاً عن ميراث الموقع والثروات والخصائص الأخرى التي يمتلكها.

2. النفط : حصلت بريطانيا في سنة 1901م من مظفّر الدین شاه على امتياز التنقيب عن النفط واستخراجه في منطقة جنوب إيران لمدَّة ستين سنة، فتشكَّلت شركة النفط الإنكليزية الفارسية، لتتولىَّ القيام باستثمار ينابيع النفط في الأراضي الإيرانية، ولمَّا نشبت الحرب العالمية الأولى، تبيَّن للجميع بأنَّ لا سبيل إلى النصر إلاً بتأمين إمدادات النفط، إذ أصبح النفط المحرك الرئيس لماكنة الحرب.

سادساً: كان من الواضح قبل الحرب العالمية الأولى أنَّ العراق قد أصبح من

ص: 129

مناطق النفوذ البريطانية المهمة، فتعمَّقت مصالح بريطانيا في هذا الجزء من الدولة العثمانية وتشعَّبت، وكان منها وضع العراق الزراعي وأهميته كمجالٍ حيوي لاستيطان عددٍ كبير من السكَّان الذين يفيضون عن قابلية الهند، وأيضاً أطماع بريطانيا الإقليمية في العراق ورغبتها في احتلال القسم الجنوبي منه على وجه الخصوص وربطهِ بالهند.

(Footnotes)

1. المجموعة الكاملة لأشعار الصافي، تقديم: د. جلال الخياط، 11.

2. الوافي في أحوال آل السيد الصافي محمود السيد محمد رضا الصافي، 38.

3. ديوان هواجس أحمد الصافي النجفي، 28.

4. ديوان الشلال: أحمد الصافي النجفي 52.

5. المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي غير المنشورة، تقديم: د. جلال الخياط: 73.

6. أشعة ملونة احمد الصافي النجفي: 19.

7. المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي غير المنشورة، 209.

8. المصدر نفسه : 435.

9. ثورة 1920 في الشعر العراقي: عبد الحسين المبارك : 96.

10. ديوان حصاد السجن الشاعر أحمد الصافي النجفي: 97.

ص: 130

الاستعمار البريطاني للعراق:دور بريطانيا وتأثيرها على تشكيل الحكم الملكي

اشارة

صلاح خلف مشَّای(1)

إنَّ احتلال الأوطان هو العلامة البارزة في تاريخ الدول الأوربية، فهي تَعمد على اختیار مستعمراتها وفق المواقع الاستراتيجية المهمّة وتتخذ من الظروف المعاشيّة الصعبة وعدم التحضر والابتعاد عن المعرفة الحقّة ذريعة ومبرراً لإحتلالها.

هذا بالضبط ما عملته بريطانيا حينما احتلت العراق الذي كان راضخاً تحت الاحتلال العثماني المتخلّف، فوظَّفت كُلَّ إمكانياتها المادية والإعلامية تمهيداً لاحتلال ذلك البلد، ذي الموقع الإستراتيجي المهم القريب من مُستعمرتها الكبرى في الهند.

عَمَدت بريطانيا على إشاعة أنَّها قادمة لتحرير العراق، وهدفت من ذلك إلى حشد همم العراقيين ضدَّ السلطات العثمانية وإضعافها في الحرب العالمية الأولى، لكن الذي حصل هو العكس تماماً، فعَمَدت إلى احتلال العراق واستغلالهِ اقتصادياً.

ص: 131


1- أستاذ مساعد ودكتور في جامعة بابل / كلية التربية للعلوم الإنسانية - العراق.

أهداف الدراسة:

1. إظهار الدور الذي تؤديه الدول الاستعمارية في استغلال الشعوب وإضعافها.

2. بيان ماهيّة الخطط التي تتبعها الدول الاستعمارية في احتلال الأوطان.

3. إظهار أهمية العراق الإستراتيجية ودور بريطانيا في تشكيل الحكم الملكي في العراق.

تقسيمات الدراسة:

قُسّمت الدراسة إلى مبحثين الأول: أهمية العراق الإستراتيجية في السياسة البريطانية. أمَّا المبحث الثاني فتناول دور بريطانيا وتأثيرها على تشكيل الحكم الملكي في العراق.

المبحث الأول: أهمية العراق الإستراتيجية في السياسة البريطانية

لقد مهَّدت الأوضاع السيئة التي عاشها العراق تحت ظلِّ الاحتلال العثماني، إلى دخوله مرحلةً أخرى مظلمة من تاريخه تمثَّلت في الاحتلال البريطاني، والذي بدأ في العام 1914م تزامناً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، فدخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا حليفها المهم ضدَّ بريطانيا وفرنسا، ومن ثمَّ أصبحت أراضي الدولة العثمانية ومنها كل دول المشرق العربي كالعراق وسوريا ولبنان هدفاً ومطمعاً لهجمات بريطانيا وفرنسا، وحتّى قبل إعلان الدولة العثمانية دخولها الحرب، كانت بريطانيا قد أمرت قواتها المُرابطة في الهند بمهاجمة العراق، وكان هدف بريطانيا الأساس آنذاك هو تأمين إمدادات النفط الإيراني، الذي تمَّ اكتشافه في العام 1908م ، وإذا ما علمنا أنَّ بريطانيا بدأت منذ عام 1909م، تغير اعتمادها على مصادر الطاقة من الفحم إلى النفط، تتضح لنا أهمية العراق الإستراتيجية، لاستمرار تدفق النفط الإيراني إلى الإمبراطورية البريطانية من خلال أراضيه(1).

وتأتي أهمية العراق الإستراتيجية لبريطانيا، نتيجة موقعهِ على طريقين مهمين هما

ص: 132


1- بيل، المس غيرترود، فصول من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر ،الخياط، ط2، بيروت، دار الكتب 1971م)، ص1.

الطريق الجنوبي، أو ما يُعرف ب- (طريق الهند المار بقناة السويس، والطريق الآخر هو طريق الهند البري المار بآسيا الجنوبية، والخليج العربي من العراق إلى البحر المتوسط عِبرَ سوريا، وإنَّ هذين الطريقين لتأمينهما، هناك حاجة أولاً إلى تأمين كلاً من ولايتي(1) البصرة والموصل، وهذا يعني السيطرة على العراق من شمالهِ إلى جنوبِه(2).

وفي تشرين الثاني من العام 1914م، بدأ الاحتلال البريطاني للعراق من خلال نزول كتيبة عسكرية في مدينة الفاو، وبعد أسبوعين، أي في 23 تشرين الثاني/1914م، احتُلت البصرة وطُرد منها الأتراك، وفي 11/آذار / 1917م، احتلت بغداد من قبل القوات البريطانية(3).

البريطانيون في سعيهم لتثبيت سلطتهم في العراق، عَمَدوا إلى إدارة كلَّ الشؤون العراقية بما فيها الشؤون المدنية كالضرائب والزراعة والطرق والإدارات العامة وقد حكم العراق طول المدة الممتدة من العام 1914م وحتّى العام 1920م ضباط عسكريون كان همهم الأول دعم الجيش البريطاني، وتدعيم سيطرتهم العسكرية، فقد عَمَد البريطانيون إلى مجموعةِ تغييراتٍ قانونية منها إلغاؤهم قانون العقوبات التركي، والكثير من مواد القانون المدني(4)، ومع دخول القوات البريطانية بغداد بحلول آذار من العام 1917م، أعلن الجنرال (ف. س. مود)(5)، القائد العام للقوات

ص: 133


1- أحد النواب العراقيين في مجلس المبعوثان، قال مخاطباً المجلس: «تصوروا أيها السادة محاكمة تجري في أحد محاكم العراق ، الحاكم (القاضي)، يجهل اللغة العربية، والمتهم يجهل التركية، ويقوم الكاتب أو المباشر بمهمة الترجمة، فأي ظلم هذا الذي يجري باسم القانون حين يخطأ المترجم». للمزيد يُنظر: الرهيمي، علاء حسين، : المعارضة البرلمانية في عهد الملك فيصل الأول، ط2، (بيروت، دار الكتب العراقية، 2010م)، ص44.
2- ديب كمال، زلزال في أرض الشقاق.. العراق (1915-2015م)، (بيروت، دار الفارابي، 2003م)، ص52.
3- ظهر مفهوم (الولاية) مع صدور قانون الولايات العثمانية في العام 1864م ، وقد طبق هذا القانون في العراق مع وصول (مدحت باشا) حاكماً عليه في العام 1869م ، إذ قسم العراق إلى ثلاث ولايات، وفي القانون وضحت حدود كل ولاية، والتقسيمات الإدارية الملحقة بها، وكانت بغداد العاصمة لارتباط ولايتي الموصل والبصرة بها، ولأنَّها كانت أي بغداد مقراً للجيش العثماني السادس للمزيد يُنظر الحسني عبد الرزاق العراق قديماً وحديثاً، ط4، (بيروت، مطبعة دار الكتب، 1971م)، 8 ص ص 90-94.
4- الخطّاب، رجاء حسين العراق بين (1921-1927م)، (بغداد، دار الحرية للطباعة، 1976م)، ص ص17-18.
5- ستانلي مود Sir Frederick Stanley Maude ولد مود في مقاطعة جبل طارق عام 1864م، وهو من أصل بريطاني، تخرج من كلية الأركان في كاميري، وشغل مناصب مهمة في مصر وفي حرب البوير جنوب أفريقيا وفي الحرب العالمية الأولى شغل منصب رئاسة أركان فيلق ثمَّ آمرية لواء وقيادة الفرقة (13) في العراق. كان مود قائد القوات البريطانية التي احتلت مدينة بغداد في 11/آذار /1917م. وتوفي بمرض الكوليرا ببغداد في /18/ تشرين الثاني / 1917م. لمزيد من التفاصيل، يُنظر نديم شكري محمود, حرب العراق (1914-1918م), (بغداد, شركة النبراس للطباعة, 1964م), ص 113.

البريطانية في العراق بيانه الشهير، والذي أكَّد فيه أنَّ الإنكليز ما دخلوا فاتحين بل دخلوا محررين، مؤكَّداً على أنَّه كقائد عام للجيش البريطاني في العراق أولي سلطة عليا تامة في جميع المناطق التي يقوم فيها الجيش البريطاني بعملياته، وأضاف مود أنَّ إرادة ملك بريطانيا وشعبها، وإرادة جميع الشعوب العظيمة المتحالفة مع بريطانيا، هدفها أنْ يكون العراق أمَّةً مزدهرة وخاطب مود العراقيين قائلاً ما نصه:«لا ينبغي أن يتبادر إلى أذهانكم أنَّ الحكومة البريطانية ترغب في أن تفرض عليكم أنظمة ومؤسَّسات غربية لا ترضون عنها ، بل الأمر على نقيض هذا، فإنَّ الحكومة البريطانية تأمل في أن تتحقق يوماً الأماني والآمال، التي كان يحلم بها مفكروكم وأدباؤكم»(1).

إنَّ إعلان الجنرال مود وما تلاه من الإعلان الإنكليزي - الفرنسي المشترك الصادر في 8 تشرين الأول 1918م، أي قبل استسلام ألمانيا بثلاثةِ أيام وانتهاء الحرب العالمية الأولى، عززت الآمال لدى بعض العراقيين في أنَّ بريطانيا ستحترم وعودها، وتمنح العراقيين استقلالهم، فقد أكَّد البريطانيون والفرنسيون في بيانهم على أنَّهم حاربوا في الشرق لغرض تحرير الشعوب التي رزحت أجيالاً تحت نظام التُّرك، وأنَّ هدفهم النهائي هو تحرير هذه الشعوب، وإقامة حكوماتٍ وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختياراً حراً، ومن ضمن هذهِ المناطق العراق وسوريا، كما أكَّد البيان على أنَّ كُلاً من فرنسا وإنكلترا لن تسعيا أبداً إلى فرض الحكم الذي تريدانهِ على أهالي العراق وسوريا، بل أن تساعد الحكومات التي ستنشأ على إقامة العدل والمُساواة بين الجميع ، وأن تساعد في إحياء الاقتصاد، ونشر العِلم، والقضاء على الخلافات القديمة، وهنا إشارة إلى الخلافات المذهبية(2).

وقد عَمَدت السلطات البريطانية أيضاً إلى نشر المبادئ الأربعة عشر الشهيرة

ص: 134


1- للمزيد من المعلومات عن احتلال العراق وتفاصيله يُنظر : مجيد, خدوري, أسباب الاحتلال البريطاني للعراق الموصل, 1933م)، ص ص 12-16.
2- العنجهية البريطانية كانت واضحة جداً في حكم العراق حتّى عام 1920م، ففي إحصائية أُجريت عام 1920م، تبين من خلالها أنَّ (96 % من الضباط السياسيين الإنكليز الحاكمين بالعراق في مختلف مناطقه كانوا دون سن الأربعين من العمر، وأنَّ الثلثين من هؤلاء ال- (96) كانوا دون الثلاثين، وأنَّ (23%) من ال- ( 96 ) كانوا دون ال- ( 25 ) سنة من العمر، بل إن نائب الحاكم المدني (إي. تي. ولسون نفسه كان دون ال- 35 سنة من العمر. يُنظر : النفيسي، فهد عبد الله، دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث، ط2، الكويت، ذات السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع، 1990م)، ص 155.

للرئيس الأميركي توماس ويلسون(1) في العراق، ومنها المبدأ الثاني عشر، الخاص بتقرير مصير الشعوب التي كانت خاضعةً للحكم العثماني(2).

هذا ما كان يُعلنه الإنكليز عن رغبتهم في مساعدة الشعوب التي (حرروها)، وإقامة حكم ،وطني، ومؤسَّسات ذات مقبولية شعبية، لكن الواقع كان مختلفاً، ففي التاسع من أيار عام 1916م، وقّع كلاً من عضو البرلمان البريطاني والخبير في شؤون الشرق

الأوسط السير مارك سايكس(3)، مع ممثل الحكومة الفرنسية فرانسوا جورج بيكو(4) فی لندن، ما عُرف لاحقاً باتفاقية (سايكس بيكو)، والتي كان فحواها تقسيم المناطق الخاضعة سابقاً لسيطرةِ الدولة العثمانية في المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا، حيث خضع العراق عدا (الموصل) إلى إنكلترا، وحظيت فرنسا بكلِّ من سوريا ولبنان(5).

ص: 135


1- توماس وودرو ويلسون Thomas Woodrow Wilson ولد عام 1858م ، وهو سياسي وأكاديمي أميركي شغل منصب الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة من عام 1913 إلى 1921م ولد ويلسون في مدينة ستونتون في فرجينيا، وقضى سنواته الأولى في أوغستا جورجيا وكولومبيا، ساوث كارولينا حصل ويلسون على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جونز هوبكنز The Johns Hopkins University، وشغل منصب أستاذ وباحث في مختلف المؤسسات قبل اختياره رئيساً لجامعة برنستون Princeton University ، وهو المنصب الذي شغله في الفترة من عام 1902 إلى 1910م وفي عام 1910م ، ترشح عن الحزب الديمقراطي في انتخابات حكومة ولاية نيوجيرسي، وانتخب ليكون الحاكم الرابع والثلاثين للولاية من عام 1911 إلى 1913م ترشّح ويلسون في انتخابات الرئاسة عام 1912م واستفاد من انقسام الحزب الجمهوري ليفوز بالمنصب، وحصل على أغلبية كبيرة في المجمع الانتخابي و (42) من عدد الأصوات الشعبية في السباق الذي جمع أربعة مرشحين. وكان أول جنوبي يُنتخب رئيساً منذ انتخاب زكاري تايلور Zachary Taylor في عام 1848م . توفي عام 1924م. للمزيد يُنظر: Blum، John Morton, Woodrow Wilson.. and the Politics of Morality, Boston: Little Brown, 1956, Pp10-18.
2- استقبل العراقيون هذه المبادئ بكثير من الأمل، إذ اعتقدوا أنَّ أميركا ستساعد على تطبيق ونشر مبادئ الرئيس ولسون، حتَّى أن بعض مراجع الدين في النجف، كتبوا إلى الرئيس الأميركي يُطالبونه بتطبيق مبادئه التي دعا إليها وتبناها في العراق لكن الواقع أثبت أنّ هذه المبادئ لم تعدو كونها شعارات ليس إلا . للمزيد عن هذا الموضوع، يُنظر : الخيون، رشيد، النزاع : على الدستور بين علماء الشيعة المشروطة والمُستبدة) ، ط2، دار مدارك للنشر، دبي، 2011م)، ص ص 13-14.
3- مارك سايكس Sir Tatton Benvenuto Mark Sykes ولد عام 1879م ، هو ابن البارون السادس من سيلدمير، مستشار سياسي ودبلوماسي وعسكري ورحالة بريطاني، كان مختصاً بشؤون الشرق الأوسط ومناطق سوريا الطبيعية خلال فترة الحرب العالمية الأولى، وقع عام 1916م على اتفاقية سايكس بيكو عن بريطانيا مع بيكو عن فرنسا، لاقتسام مناطق النفوذ في أراضي الهلال الخصيب التابعة بمعظمها آنذاك للدولة العثمانية المتهاوية. توفي عام 1919م. للمزيد، ينظر : 231.Encyclopedia Britannica, vol.11, p.
4- (12) فرانسوا ماري دينيس جورج بيكو François Marie Denis Georges-Picot : ولد في باريس عام 1870م، كان سياسي ودبلوماسي فرنسي ، وقع اتفاقية سايكس بيكو عن الجانب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى لاقتسام مناطق النفوذ مع بريطانيا في منطقة الهلال الخصيب وأراضي أخرى كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية. فيما بعد كان مسؤولاً عن إلحاق مناطق المشرق العربي للنفوذ الفرنسي والتأسيس للانتداب الفرنسي على سوريا. توفي عام 1951م. للمزيد، ينظر : 10.31.Encyclopedia Britannica, vol (5) -
5- تمَّ نشر نص هذه الاتفاقية في العام 1917م بعد الثورة البلشفية في روسيا، وتضمنت (12) مادة تناولت الحدود، والشكل المقترح للسلطة في المناطق التي خضعت للنفوذ البريطاني الفرنسي، وللإطلاع على النص الكامل لهذا الاتفاق، يُنظر ،سعيد الثورة العربية الكبرى، ص ص 147-151.

ومع نهاية شهر تشرين الأول من العام 1918م انتهت الحرب العالمية الأولى ووقِّعت هدنة (مودرس)(1)، لإنهاء الحرب بين بريطانيا وفرنسا وحلفائهما من جهة وبين ألمانيا وحلفائها ومنهم الدولة العثمانية من جهةٍ أخرى، ومع انتهاء الحرب كانت القوات البريطانية قد أصبحت على مشارف الموصل فقامت باحتلالها، ولقد أدرك الإنكليز عَقِب توقيع إتفاقية سايكس بيكو عام 1916م أنَّهم أخطأوا بالسماح لفرنسا بضمِّ الموصل (ولاية الموصل تضم إضافةً إلى الموصل محافظات إقليم کردستان الحالي الثلاثة)؛ وذلك لأنَّ الموصل كانت غنيةً بالنفط، كما أشارت إلى ذلك الاستكشافات النفطية هناك، ولذا تمَّ احتلال الموصل من قبل القوات البريطانية عام 1918م ، فأصبحت فرنسا أمام الأمر الواقع، وعلى أساس ذلك تمَّ تعديل اتفاقية سايكس بيكو، لتصبح الموصل خاضعةً بموجب التعديل لبريطانيا بدل فرنسا(2).

وقد بادرت بريطانيا من جانبها عَقِب انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى تأليف لجنة لوضع تصور حول سياستها في الشرق الأوسط، وفي المناطق التي من الممكن أن تبقى تحت سيطرة البريطانيين، وكانت الآراء منقسمةً حول هذا الموضوع، فمع الإعلان البريطاني - الفرنسي المشترك في 8 تشرين الثاني 1918م ، ظهر مفهوم (الحكم الوطني)، من خلال إنشاء حكم محلِّي في المناطق التي تحتلها بريطانيا، وكان هذا رأياً مقبولاً عند كثيرٍ من صُنَّاع القرار الإنكليز، وفي مقابل ذلك كان هناك رأيٌ آخر، يذهب إلى ضرورة الإبقاء على الحكم الإنكليزي المباشر للأراضي الواقعة تحت سيطرة البريطانيين، ومنها العراق(3).

وخلال حقبة انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتأليف اللجنة البريطانية المعنية

ص: 136


1- (14) أنهت هدنة مودروس الموقعة في 30/أكتوبر 1918م العمليات القتالية في القتال في الشرق الأوسط بين / الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، وقد وقعها وزير الشؤون البحرية العثماني رؤوف أورباي بك والأميرال البريطاني سومرست آرثر ،غوف على متن السفينة (إتش إم. .أس. أغاممنون) في ميناء مودروس في جزيرة ليمنوس اليونانية. أعقب الهدنة احتلال اسطنبول، وتقسيم الإمبراطورية العثمانية، ألغيت في وقت لاحق بعد معاهدة لوزان 24/ يوليو / 1923م عقب انتصار الأتراك في حرب الاستقلال التركية. للمزيد يُنظر: الحسني العراق قديماً وحديثاً،صص 53-56.
2- (15) الخطّاب، مرجع سابق، ص.112.
3- (16) غيرترود ،بیل فصول من تاريخ العراق الحديث، صص 335-337.

بدراسة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرة البريطانيين ومنها العراق، كان على رأس الإدارة البريطانية المدنية في العراق أحد أكثر الداعمين لفكرة الحكم المباشر للعراق وهو (إي. تي. ولسون)(1)، والذي حلّ محل المندوب المدني بيرسي كوكس(2)، الذي نُقل سفيراً للمملكة المتحدة لدى إيران، وكان ولسون يحمل صفة المندوب المدني وكالةً، كان ولسون من الرافضين للبيان الإنكليزي - الفرنسي المُشترك الذي صدر في /8/تشرين الثاني/1918م ، وكان يصف هذا البيان بأنَّه مُخالف ل- ( وعد بلفور)(3) الصادر في العام 1917م، والقاضي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبأنَّ هذا البيان لم يأخذ بعين الاعتبار حقوق الأقليات كالمسيحيين والأقليات الأخرى، ولإثبات وجهة نظره طلب من مكتب الهند البريطاني والذي كان العراق يقع تحت سلطتهِ، السماح له بإجراء استفتاء لبيان رأي العراقيين حول طبيعة وشكل السلطة التي يدعمونها، ولبيان موقفهم من الوجود البريطاني في العراق ومع نهاية تشرين الثاني من العام 1918م، وصلت الموافقة على إجراء استفتاء يضم ثلاثة أسئلة، هي(4):

1. هل يُؤثِر الأهلون إقامة دولة عربية واحدة تمتد من الحدود الشمالية لولاية

الموصل إلى الخليج الفارسي تحت وصايةٍ إنكليزية.

ص: 137


1- (17) أرنولد ويلسون Sir Arnold Talbott Wilson (1940-1884م): عسكري وسياسي بريطاني قدم مع الحملة العسكرية البريطانية إلى العراق عام 1914م تحت إمرة المقدم بيرسي كوكس ، وكان ويلسون آنذاك ضابط برتبة نقيب)، ثمَّ عين حاكماً عاماً بالوكالة بعد استدعاء بيرسي كوكس وتعيينه سفيراً في طهران، اتهمته الصحافة البريطانية بأنه يسعى إلى (تهنيد) العراق، أي جعله تابعاً إلى الهند، قتل ويلسون خلال الحرب العالمية الثانية أثناء أدائه للخدمة العسكرية في القوة الجوية البريطانية. يُنظر : فؤاد قزانجي، العراق في الوثائق البريطانية (1905-1930م)، تقديم ومراجعة عبد الرزاق الحسني (بغداد 1989م) ، ص 26 مذكرات سندرسن باشا (طبيب العائلة الملكية في العراق) (1918-1946م)، ترجمة سليم طه التكريتي، ط2، ،(بغداد، 1982م)، صص55-54
2- بيرسي كوكس Zachariah Cox: ولد عام 1864م، سياسي بريطاني ساهم في رسم السياسة البريطانية في العالم العربي بعد انهيار الدولة العثمانية، حيث شارك قوات الثورة العربية الكبرى في محاربة قوات الدولة العثمانية. وقد عمل بمنصب المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي والعراق، وكان له علاقة مع شيوخ دول الخليج العربي، وتربطه ببعض القبائل علاقات ودية. توفي عام 1934م. للمزيد، ينظر : 267.Encyclopedia Britannica, vol. 13. p.
3- (19) وعد بلفور أو تصريح بلفور Balfour Declaration : هو الأسم الشائع المُطلق على الرسالة التي أرسلها - آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2/نوفمبر / 1917م إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، يُشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، حين صدر وعد بلفور كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن (5%) من مجموع عدد السكان. وقد أرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطاني فلسطين، يُطلق المناصرون للقضية الفلسطينية عبارة «وعد من لا يملك لمن لا يستحق لوصفهم الوعد للمزيد يُنظر : Yapp. M. E., The Making of the Modern Near East 17921923-, Harlow, England: Longman, 1987, p.290.
4- الأدهمي، محمد مظفر ، المجلس التأسيسي العراقي، ط2، (بغداد، دار الشؤون الثقافية (1989م ، ج 1 ، ص 46

2. وفي حال قبول الأهلين بهذا، هل يرضون أن يكون على رأس هذهِ الدولة أمير أو شريف عربي.

3. في حال قبول هذا المبدأ، فمن يريدون أن يكون على رأس هذهِ الدولة.

لقد كان ولسون حريصاً على أن تكون نتائج الاستفتاء متوافقة مع توجهاتهِ الرافضة لمبدأ الحكم الوطني، وهكذا في 25 شباط / 1919م سافر ولسون إلى لندن حاملاً معه نتائج الاستفتاء الداعمة لبقاء الحكم البريطاني المباشر للعراق وبناءاً على هذهِ النتائج قدَّم ولسون رؤيته لحكم العراق، حيث اقترح أن يُلغى تعيين أمير عربي على رأس الدولة العراقية، وأنْ يُستبدل بمندوب سامي بريطاني، وأنْ يُقسَّم العراق إلى أربع ولايات هي بغداد والبصرة، والفرات، والموصل وإذا ضمَّت المناطق الكردية التي يسكنها الأكراد يكون عدد الولايات خمس كما اقترح ولسون أن يكون اشتراك العراقيين في مجالس حكم هذهِ الولايات استشارياً وليس تشريعياً، وقد لاقت مقترحات ولسون القبول من قبل لجنة الشرق الأوسط المُكلَّفة بدراسةِ أوضاع المناطق الخاضعة لبريطانيا، وتمَّ قبولها في 6 نيسان 1919م، في جلسةٍ حضرها ،ولسون، لكن الموضوع جُمّد لحين انتهاء مؤتمر الصُلح في فرساي بفرنسا عام 1919م، والذي كان عقده مقرراً لإنهاء ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى(1).

لقد كانت النتائج الحقيقية للاستفتاء ليس كما نقلها ولسون، فقد كانت مُجمل الآراء تذهب إلى ضرورة إقامة دولة يرأسها أحد أنجال الشريف حسين(2) شريف مكَّة، كما أنَّ ولسون بالغ كثيراً في نقل مدى موافقة العراقيين على استمرار النفوذ البريطاني

ص: 138


1- المرجع نفسه.
2- حسين بن علي الهاشمي : مؤسّس المملكة الحجازية الهاشمية، وأول من نادى باستقلال العرب من حكم الدولة العثمانية، ولد في إسطنبول سنة 1270ه- / 1854م حينما كان والده منفياً فيها فألم باللغة التركية، وحصل على إجازات في المذهب الحنفي، عاد إلى مكة وعمره ثلاث سنوات، قاد الثورة العربية الكبرى متحالفاً مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية لجعل الخلافة في العرب بدل الأتراك في 1916م، ولقب بملك العرب. توفي عام 1931م. للمزيد، يُنظر: علاء جاسم محمد الملك فيصل الأول.. حياته ودوره السياسي في الثورة العربية وسورية والعراق (1883-1933م)، (بغداد، مطبعة الخلود 1990م، ص 154 ؛ عبد المجيد كامل التكريتي الملك فيصل الأول ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة (1921-1932م) ، (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1991م)، ص97.

في العراق، وكانت من الشخصيات التي باتت تُخالف ولسون في توجهاتهِ، الموظَّفة الإنكليزية البارزة في العراق غيرترود بيل(1)، إذ باتت بيل ميالة أكثر إلى تشكيل دولةٍ عراقية يحكمها الإنكليز بشكلٍ غير مباشر(2).

وفي الحقيقة لم يكن موقف ولسون حول ضرورة الاستمرار في الحكم الإنكليزي المباشر للعراق نابعاً من العدم، بل إنَّ كثيراً من الشخصيات العراقية ذات النفوذ العشائري والديني والاجتماعي كانت داعمة لبقاء الإنكليز في العراق، وكانت تُعلن ذلك بدون تردد، فقد كانت بريطانيا تدفع لبعض شيوخ العشائر وبعض الوجهاء عشرات الآلاف من الجنيهات بصفةِ هدايا، وعطاءاتٍ لضمان استمرار ولائهم(3).

وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان نقيب أشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني(4) من الداعمين للوجود البريطاني في العراق، والذي أصبح لاحقاً أول رئيس وزراء في الدولة العراقية الجديدة، حيث كان الكيلاني من المُقرِّين بحقِّ بريطانيا في حكم ،العراق، وكان لا يتردد في إعلان ذلك، فهو القائل: «إنَّ أحسن ما تعملونه هو تستظلوا بظلِّ الحكومة البريطانية»(5)، ويُضيف قائلاً: «إنني اعترف بانتصاركم وأنتم الحكّام وأنا المحكوم وأنا من رعايا المنتصر، إنَّ الإنكليز فتحوا هذهِ البلاد وبذلوا ثروتهم من أجلها كما أراقوا دماءهم في تربتها، ولذلك فلا بدَّ لهم من التمتع بما

ص: 139


1- غيرترود .م. ل . بيل Gertrude Margaret Lowthian Bell (1926-1886م) : رحالة وسياسة بريطانية، عملت في المخابرات البريطانية منذ شبابها ، وزارت العراق ثلاث مرات لذلك الغرض قبل أن تلتحق بالجيش البريطاني في البصرة عام 1916م، وكانت حلقة وصل بين الإدارة البريطانية والأهالي والعشائر، وبعد دخول الجيش البريطاني إلى بغداد عُيِّنت بمنصب السكرتيرة الشرقية في السفارة البريطانية ببغداد ، ثمَّ تولّت مديرية الآثار العامة. وقد توفيت ودفنت في بغداد عام 1926م فؤاد قزانجي، العراق في الوثائق البريطانية، ص 137.
2- بطاطو، حنا، العراق: الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية في العهد العثماني حتّى قيام الجمهورية، ترجمة: عفيف الرزاز، قم، منشورات ،فرصاد (2005م، ج 1، ص ص 117-123.
3- المرجع نفسه.
4- هو: عبد الرحمن بن السيد علي أفندي ولد في بغداد سنة 1845م ولقب ب- (الكيلاني)، كلَّفه الملك فيصل الأول بتشكيل ثلاث وزارات وبعد استقالته من رئاسة الوزراء عام 1922م ترك السياسة ولازم داره حتى وفاته سنة 1927م. الخطاب عبد الرحمن النقيب.. حياته الخاصة وآراؤه السياسية وعلاقته بمعاصريه، بغداد, ينظر : رجاء حسين المؤسسة العربية للدراسات، 1985م)، ص ص 9-13.
5- المقتطفات أعلاه هي جزء من مذكرة رفعتها غيرترود بيل إلى الخارجية البريطانية عقب لقاء جمعها مع الكيلاني، وفي هذا اللقاء أيضاً يتناول الكيلاني مواضيع ذات صبغة طائفية مقيتة تُظهر توجهاته الطائفية، وللإطلاع على النص الكامل لهذه المذكرة ، يُنظر : غيرترود ،بيل، مرجع سابق، ص ص 472-481.

فازوا به»(1)، بل إنَّ الكيلاني يذهب إلى أبعد من ذلك، ويؤكِّد أنَّ ما حصل من وهنا يُشير إلى الاستفتاء الذي أجراه ولسون على ما فيهِ من تضليلٍ وكذب، يصفه بأنَّه حماقة، مؤكِّداً على أنَّه لا يصلح لحكم العراق إلاَّ رجل مثل بيرسي كوكس، ولم يكتفِ الكيلاني بذلك بل ذهب إلى ما هو أبعد منه، حيث يقول مُخاطباً (المس بيل):«إنَّ معظم أولئك الذين تكلموا ضدكم هم رجال لا سمعة لهم ولا شرف»(2).

وفي /18 كانون الثاني 1919م ، افتتح مؤتمر الصُلح ب-(فرساي) في فرنسا، وكان طرفاه الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى والدول الخاسرة، وما يميز هذا المؤتمر أنّه ظهرت خلاله فكرة (الانتداب)، وهو مقترح تقدم به مندوب جنوب أفريقيا إلى المؤتمر، وكانت الغاية من تقديمهِ هو (مساعدة) تلك الشعوب والدول التي كانت خاضعةً لسيطرة الدولة العثمانية، وغيرها من الدول الخاسرة في الحرب العالمية الأولى، وكانت غاية المساعدة المقدمة من خلال الانتداب، هي نهوض الدول الخاضعة تحت الانتداب والوصول بها إلى المرحلة التي تستطيع فيها إدارة شؤونها بنفسها، من خلال وضعها تحت انتداب دولٍ راقية ومتطورة(3).

وفي نيسان من عام 1920م، وقَّع الحلفاء اتفاقية (سان ريمو)، والتي ثبَّتت بشكلٍ نهائي مناطق الانتداب لكلِّ من فرنسا وبريطانيا، حيث دخل العراق بما فيه لواء الموصل تحت الانتداب البريطاني بشكلٍ رسمي(4).

ص: 140


1- المرجع نفسه.
2- المرجع نفسه.
3- للإطلاع على تفاصيل مؤتمر الصلح بفرساي عام 1919م، وتفاصيل مؤتمر سان ريمو بايطاليا، يُنظر: عيسى، حامد ،محمود القضية الكردية في العراق من الاحتلال البريطاني إلى الغزو الأميركي (1914-2004م)، (القاهرة، مكتبة ،مدبولي ،2005م)، ص ص 110-119
4- المرجع نفسه، ص ص 120-123.

المبحث الثاني: دور بريطانيا وتأثيرها على تشكيل الحكم الملكي في العراق

شَهِدَ شهر آب من عام 1920م التنازل الرسمي من قبل الدولة العثمانية عن، المناطق الواقعة ما بين النهرين في معاهدة (سيفر)، وفي هذهِ المعاهدة ولأول مرة تمَّت الإشارة إلى إمكانية استقلال المناطق الكردية، وإقامة دولة كردية عليها، لكن هذا الأمر لم يتم أبداً(1).

لقد مهَّدت الاتفاقيات والمُعاهدات المذكورة آنفاً إلى تضمين مبدأ (الانتداب) في ميثاق عُصبة الأمم ، والذي نصَّت المادة (22) من الفصل الأول منه على ذلك، وقد علَّل ميثاق عُصبة الأمم إقراره لمبدأ الانتداب، بعجز سكَّان تلك المناطق على حكم بلادهم ذاتياً، في ظلِّ الأوضاع الصعبة التي يعيشها العالم الحديث آنذاك، وقد أكَّد الميثاق على أنَّ رفاهية الشعوب الواقعة تحت الانتداب وارتقاءها وديعةٌ مقدسةٌ من ودائع المدنية(2).

وبعد أن حصلت بريطانيا على الاعتراف الأممي بحقها في أن تكون دولة الانتداب على العراق، مُستعينةً بالفقرة الرابعة من المادة (22) من ميثاق عُصبة الأمم، والتي نصَّت على ما يلي:«إنَّ بعض البلاد كانت في القديم تابعةً للإمبراطورية العثمانية، وقد بلغت درجةً راقية يمكن معها الاعتراف مبدئياً بكيانها كأمم مستقلة، على أن تشهد الإرشاد والمُساعدة من دولةٍ أخرى...»(3)، وانطلاقاً من هذهِ الفقرة، أُعلنت

ص: 141


1- الخطاب، مرجع سابق، ص.26.
2- نصَّت الفقرة (1) من المادة (22) من ميثاق عُصبة الأمم ، على ما يلي: في المُستعمرات والأراضي التي لم تعد بعد الحرب تابعة لسيادة الحكومة التي كانت خاضعةً لها سابقاً، والتي يعجز سكانها عن القيام بالحكم الذاتي في بلادهم، تحت الظروف الصعبة في العالم الحديث، يجب أن يُطبق المبدأ القائل بأنَّ رفاهية هذه الشعوب وارتقاءها، وديعة مقدسة من ودائع المدنية، وأن يتضمن هذا الميثاق الضمانات اللازمة للقيام بهذه «الأمانة». كما نصت الفقرة (2) من المادة (22) من ميثاق عُصبة الأمم ، على ما يلي: «إنَّ الطريقة المثلى لتحقيق هذه المبادئ عملياً، هو تسليم وصاية هذه الشعوب إلى الأمم الراقية..... للإطلاع على النص الكامل للمادة (22) من عصبة الأمم، يُنظر: الأدهمي المجلس التأسيسي ،العراقي، ص ص 243-244 وللإطلاع على النص الكامل للائحة الانتداب البريطاني على العراق، يُنظر: المرجع نفسه، ص ص 244-248.
3- المرجع نفسه.

لائحة الانتداب البريطاني على العراق، والتي تضمَّنت عشرين مادة تناولت وضع الدستور العراقي، وحقوق بريطانيا كدولةٍ منتدبة على العراق، وما يترتَّب عليها وعلى العراق جراء هذا الانتداب (1).

وبناءاً على التطورات الدولية الجديدة، باتت رؤية الحاكم المدني وكالةً ولسون لحكم العراق غير صالحة، ولهذا فقد أعلن في بيانٍ رسمي نُشر في 17/ حزيران/1920م، أنَّ هدف بريطانيا هو:«تحقيق استقلال ،العراق، وضمان هذا الاستقلال من قبل عُصبة الأمم، وأنَّ مؤتمراً عراقياً منتخباً من الشعب بمحض اختيارهِ سيُعقد لسنّ القانون الأساس، والتي ستبدأ إجراءات عقده في الخريف القادم، وهذا بناءاً على إعلان لائحة الانتداب البريطاني»(2)، والتي نصَّت مادتها الأولى على ما يلي: «المُنتَدِب يضع في أقرب

وقت لا يتجاوز ثلاث سنوات من تاريخ تنفيذ الانتداب قانوناً أساسياً للعراق...»(3).

إنَّ الشعور الوطني الذي عبرَّ عنه الكثير من العراقيين خلال العامين (1919- 1920م) كان واضحاً، حيث صدرت بعض الصُحف التي كانت تدعو إلى دولةٍ يحكمها الدستور وإلى حكومةٍ وطنية، وإلى إبعاد النفوذ الأجنبي عن العراق، لكن تعنُّت بريطانيا وحاكمها المدني بالوكالة كان واضحاً ومستفزاً لمشاعر العراقيين، مما دفعهم إلى العمل المُسلَّح ضدَّ القوات البريطانية، فيما عُرف لاحقاً ب- (ثورة العشرين)، والتي يُسمِّيها البعض ب- (ثورة التأسيس)، حيث كان من أبرز نتائج هذهِ الثورة إسراع بريطانيا بتشكيل الحكومة العراقية الأولى(4).

لقد عَمَدت بريطانيا رغبةً منها في إنهاء الثورة، إلى مجموعةٍ خطواتٍ كان أولها استبدال الحاكم المدني بالوكالة (إي. تي. ولسون)، والذي كان موقفه

ص: 142


1- جميل حسين الحياة النيابية في العراق (1925-1946م) ،(بغداد، مكتبة المثنى 1983م)، ص18
2- المرجع نفسه.
3- المرجع نفسه.
4- كان من أبرز تداعيات ثورة العشرين في العراق، قتل (500) جندي بريطاني، وجرح أكثر من (1200) جندي آخرين. للمزيد عن خسائر القوات البريطانية خلال ثورة العشرين وللمزيد عن ثورة 1920م في العراق، يُنظر الطاهر، جواد، ثورة العشرين ،بغداد مجموعة العدالة للصحافة والنشر 2010م؛ عیسی ،ندیم الفكر السياسي لثورة العشرين (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1992م).

الرافض من منح العراقيين حكماً وطنياً من الأسباب المهمة لنشوب ثورة العشرين، فاستُبدل ولسون بالسير بيرسي كوكس، والذي كان حاكماً مدنياً للعراق حتَّى أيار من العام 1918م ، قبل إيفادهِ إلى إيران بصفتهِ سفيراً، والذي عاد للعراق في 11/ تشرين الأول / 1920م، أي بعد نحو أربعة أشهر من اندلاع ثورة العشرين(1).

لقد كان للعامل الاقتصادي الأثر الأكبر في قبول بريطانيا فكرة إنشاء حكم وطني عراقي، حيث سَعَت بريطانيا من خلال ذلك إلى أن تتحول إلى الحكم غير المباشر للعراق من جهة، وتخفيض تكاليف حكمها المباشر للعراق من جهة أخرى، حيث انخفض عديد القوات البريطانية في العراق من (33) كتيبة و (6) أفواج خيالة و (16) بطاري-ة مدفعية و (6) سرايا هندس-ة وألغام، وسواها من القوات، إلى (1.5) سرية عربات مدرعة و (4) أسراب من سلاح الجو فقط، في الفترة من 1921م إلى 1929م(2).

عَمَد كوكس بُعيد وصولهِ للعراق إلى تأليف أول حكومة عراقية في /25/ تشرين الثاني 1920م برئاسة عبد الرحمن الكيلاني(3)، وكانت هذهِ الحكومة تعمل تحت إشراف المندوب السامي البريطاني (كوكس)، وسُمِّيت ب- (مجلس الدولة)، وتشكَّلت من رئيس وزراء و(8) وزراء بحقيبة، مع (12) وزيراً بدون حقيبة مثَّلوا مجلساً استشارياً داعماً للحكومة، وقد أكَّد كوكس في كتاب التكليف أنَّ هذا المجلس هو مجلس مؤقَّت لحين جمع المجلس التأسيسي ،العراقي، والذي سيُقرر الشكل النهائي للحكم

في العراق.

واستكمالاً لخطوات إنشاء حكم وطني في العراق، عَمَد الإنكليز إلى عقد

ص: 143


1- المرجع نفسه، ص 31
2- جمیل، مرجع سابق، ص 29.
3- كان عبد الرحمن الكيلاني يرفض رفضاً قاطعاً تولي أي منصب سياسي، ويؤكد أنَّه (درويش)، وإنَّ تولي أي منصب سياسي حتى لو كان رفيعاً، هو ضد أشد مبادئ عقيدته تأصلاً، وأنه يرغب في أن يقضي السنوات المتبقية من عمره في الدرس والتأمل، وأكد الكيلاني بضرس قاطع أنَّه لن يتراجع عن موقفه الرافض لتولي أي منصب سياسي، حتّى إذا كان ذلك يعني الدمار التام للعراق !؟ . للمزيد ، يُنظر : غيرترود ،بیل مرجع سابق، ص ص 480-481.

مؤتمر في القاهرة رأسه ونستون تشرشل(1)، وزير المُستعمرات البريطاني آنذاك في آذار من عام 1921م كان هدفه تقرير نوع الحكم في العراق، والذي تمَّ تثبيته على أنَّه حكم ملكي دستوري، على أن يكون الملك هو فيصل بن الحسين(2)، ثالث أنجال الشريف حسين بن علي شريف مكَّة ، لكن المشكلة التي واجهت المؤتمر هي كيف سيتم اختيار فيصل، فهناك حاجة إلى أن يظهر الاختيار على أنَّه مطلب شعبي، ولذا تمَّ الإيعاز إلى الحكومة المؤقتة للمُناداة بفيصل ملكاً على العراق(3).

وفي تموز من العام 1921م نادت الحكومة العراقية الأولى بفيصل ملكاً على العراق، بشرط أن تكون حكومته ،دستورية نيابية، ديمقراطية مقيدة بالقانون، وقد وافق كوكس من جانبه على ما اقترحته حكومة الكيلاني الأولى، وأعلن أن موافقته مرهونةً بقبول العراقيين فيصل ملكاً على العراق ولمعرفة آراء العراقيين عَمَدت حكومة الكيلاني إلى إجراء استفتاء ع--ام للشعب العراقي لمعرفة رأيهم في أن يكون فيصل ملكاً على العراق، وأظهرت نتيجة الاستفتاء ما يلي: أنَّ (97%) من العراقيين وافقوا على أن يكون فيصل ملكاً على العراق، فيما تذكر المصادر البريطانية أنَّ نسبة الموافقين كانت (%69) من المصوتين، وأنَّ نسبة المعارضة ضدَّ فيصل جاءت بشكلٍ أساس

ص: 144


1- السير ونستون ليونارد سبنسر تشرشل Sir Winston Leonard Spencer-Churchill : ولد عام 1874م في ،لندن، كان رئيس الوزراء في المملكة المتحدة من عام 1940 وحتّى عام 1945م إبان الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1951م تولى تشرشل المنصب ذاته إلى عام 1955م ، يُعد تشرشل أحد أبرز القادة السياسيين الذين انبلجوا على الساحة السياسية خلال الحروب التي اندلعت في القرن العشرين قضى تشرشل سنوات حياته الأولى ضابطاً بالجيش البريطاني، ومؤرخاً، وكاتباً، بل وفناناً، كلَّ في آن واحد تشرشل هو رئيس الوزراء الوحيد الذي يحصل على جائزة نوبل في الأدب، وكان أول من تمنحه الولايات المتحدة المواطنة الفخرية، وينحدر تشرشل من سلالة عائلات الدوقات الأرستقراطية بمارلبورو؛ وهي أحد فروع عائلة سبنسر الأشهر ببريطانيا، كان والده اللورد راندولف تشرشل أحد الساسة ذا الشخصية الكاريزمية، الذي تولى منصب وزير الخزانة آنذاك، وكانت جيني جيرودر والدة تشرشل عضواً بارزاً في المجتمع الأميركي في تلك الآونة. توفي عام 1965م ودفن في بلادون للمزيد ، يُنظر: .Encyclopedia Britannica, vol.7. p.178
2- فيصل بن حسين بن علي الهاشمي ولد عام 1883م، وهو ثالث أبناء شريف مكة حسين بن علي الهاشمي وأول ملوك المملكة العراقية (1921-1933م)، وملك سورية (مارس 1920- يوليو 1920م). توفي عام 1933م. محمد، علاء، مرجع سابق، ص.4.
3- المرجع نفسه.

من الأكراد، الذين وُعِدوا في معاهدة (سيفر) بالاستقلال ثمَّ تخلَّت بريطانيا وحلفاؤها عن وعودها لهم(1).

وفي /23/ آب/ 1921م توّج فيصل ملكاً على العراق، وألقى خطاب التتويج الذي بيَّن فيه أنَّ أبرز مهامه كملك هي(2): مباشرة الانتخابات التي ستفرز مجلساً تأسيسياً يضع الدستور بمشورة الملك، والمُصادقة على المعاهدة العراقية - البريطانية.

ولم يكن العراق في ظلِّ الاحتلال البريطاني أفضل حالاً منه في ظلِّ الاحتلال العثماني، ولكن ما اختلف هو الآليات والوسائل التي استعملها البريطانيون، والتي كانت أكثر حداثةً من تلك التي استعملها ومارسها العثمانيون، لكن ما هو ثابت أنَّ البريطانيين ظلُّوا ينظرون إلى سكَّان العراق على أساس مذاهبهم وطوائفهم، فحين أراد الحاكم المدني وكالةً ولسون إجراء استفتاء عام لمعرفة رأي العراقيين حول تفضيلهم بقاء الإنكليز كقوةٍ مسيطرة من عدمهِ طالب ولسون القاضيين الشرعيين في بغداد السُّنِّي والشيعي بانتخاب (25) شخصاً سُنياً، و(25) شخصاً شيعياً للحديث معهم حول هذا الاستفتاء، ولكن الرائع في هذه المسألة أنَّهما رفضا، وبدلاً عن ذلك تمَّت الدعوة إلى حشدٍ كبير في جامع الحيدر خانة ببغداد، وهناك تمَّ انتخاب ممثلين عن أهالي بغداد بمختلف طوائفهم للحديث مع ولسون، وهذا إنْ دلَّ على شيء فهو يدل على رغبة التعايش بين العراقيين، رغم كل محاولات تفرقتهم، ولم يعمد البريطانيون إلى محاولة تقسيم العراقيين على أساس المذهب فقط، بل إنّهم عمَّقوا الشرخ الذي كان موجوداً أصلاً بين الريف والمدينة، وذهبوا إلى إقرار القانون

ص: 145


1- (45) كان الاستفتاء أشبه بالبيعة، فقد وقّع بعض أهالي المحلات الذين تم اختيارهم على مضابط لذلك، وقد كانت غالبية العراقيين لا تعرف ما هو الاستفتاء وماذا يحوي وقد بيّنت النتائج أنَّ أهالي بغداد وقعوا (157) مضبطة مؤيدة لفيصل ، لكن (68) منها طالبته بالابتعاد عن النفوذ الإنكليزي، وبعقد مؤتمر وطني، وفي البصرة كانت هناك (47) مضبطة مؤيدة دون شروط ، وفي الموصل كانت هناك (68) مضبطة اشترطت (6) منها حماية حقوق الأقليات والأكراد، و (7) اشترطت استمرار الانتداب البريطاني، وفي كركوك كان عدد المضابط المؤيدة (صفر) ، في مقابل (21) مضبطة رافضة، كما اشترطت بعض المضابط المؤيدة في كلّ من لوائي الحلة والدليم استمرار الانتداب البريطاني. للإطلاع على النتائج مفصلةً، يُنظر : صلاح عبد الرزاق الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الإسلامي (1905-1920م)، ط4، (شركة الأنس للطباعة والنشر، د.ت.)، ص ص 161-162.
2- للإطلاع على النص الكامل لخطاب التتويج، ينظر الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج 1، ص ص 35- 37.

العشائري، وهو عبارة عن مجموعةٍ من الأعراف القبلية كانت تطبقها العشائر فيما بينها، ولا زال بعضها معمولاً بهِ حتّى اليوم، وفيما بعد جعلوه نصاً دستورياً ضمَّنوه القانون الأساسي العراقي عام 1925م، علماً أنَّ هذهِ الأنظمة العشائرية قد اعترف الإنكليز بها رسمياً منذ تموز من عام 1918م ، لذا فقد بقي العراق حتّى عام 1958م، حيث حصل التغيير السياسي وانتهى الحكم الملكي خاضعاً لنظامين قضائيين الأول خاص بالمدن، والثاني خاص بالريف العشائري(1).

لقد تجاوز الإنكليز كلَّ المعايير وذهبوا إلى أبعد من الطبقية، حيث عملوا على فصل أولاد مشايخ العشائر ، وعزلهم عن أقرانهم من الناس العاديين، وعملوا على بناء مدارس خاصة بهم، ففي تقرير بريطاني يعود إلى العام 1918م، يؤكِّد البريطانيون فيه على ما يلي:«يجب عدم إرسال أولاد هذهِ الطبقة إلى المدارس الحضرية ليختلطوا بأبناء المدن، فتُفسدهم الرذائل المتنوعة للمدينة العراقية، وألاَّ يرافقوا أولئك الذين ينظر آباؤهم إليهم على أنَّهم أدنى منزلةٌ»(2)، والنص السابق يُظهر مدى وحدة التمييز الذي كان البريطانيون يمارسونه، ويزرعونه في عقول البعض(3).

أمَّا التمييز على أساس مذهبي فكان هو الأكثر وضوحاً، فقد أُقصي الشيعة من أغلب المراكز المهمة، وعلى الرغم من أنَّ الشيعة كانوا في مطلع القرن العشرين يمثلون نحو (60%) من مجموع سكان العراق، إلا أنَّهم أُقصوا بشكل متعمد عن دوائر صنع القرار، وعن هذا الأمر تتحدث الموظَّفة البريطانية المهمة في العراق غيرترود بيل، قائلةً: «أنا شخصياً فأبتهج وأفرح أن أرى الشيعة الأغراب يقعون في مازق حرج، فإنَّهم من أصعب الناس مِراساً وعناداً في البلاد»(4)، أمّا بيرسي كوكس فذهب إلى القول في العام 1918م إلى: «إنَّ الذين تُناط بهم مسؤولية التعاون مع الإدارة البريطانية هم الطائفة اليهودية، والوجهاء والأشراف العرب من سكان مدينتي

ص: 146


1- الجدة، رعد، النظام الدستوري في العراق، ط2، (بغداد المكتبة القانونية، 2007م)، ص303.
2- حنا بطاطو، مرجع سابق، ج1، ص 43.
3- المرجع نفسه، ج 1، ص 120.
4- غيرترود ،بیل مرجع سابق، ص 478 .

بغداد والبصرة، والملاَّكين، والأغنياء، والشيوخ، والأكابر للعشائر المتواطئة»(1)، كما أنَّ أهم المناصب في العراق أُسندت إلى شخصياتٍ أقل ما يُقال عنها أنها كانت نفعية، لا همَّ لها إلا إرضاء الإنكليز، وتثبيت مصالحهم الخاصة، حتّى وإن كان ذلك على حساب العراقيين الآخرين ، فمثلاً كان رئيس الوزراء العراقي الأول (عبد الرحمن الكيلاني)، يُخاطب المِس بيل قائلاً:«أقول لكِ أن تكوني حذرة من الشيعة، إذا رجعتِ إلى صفحات التاريخ ستجدين أنَّ أبرز ميزة تُميّز الشيعة هي خفتهم، التقلب والوثنية تجتمعان فيهم، إياكِ أن تعتمدي عليهم»(2).

إنَّ شكل العلاقة مع العراقيين اختلفت مع تتويج فيصل ملكاً على العراق في العام 1921م، ففي السابق كانت بريطانيا متفردة بإدارتها للشأن العراقي، ولكن مع وجود ملك وحكومة بات للبريطانيين شريكٌ في إدارة الشأن العراقي، على الرغم من أنَّ النفوذ البريطاني ظل قوياً.

وبعد اكتمال تنصيب فيصل وتشكيل حكومة عراقية جديدة بدأت الأنظار تتجه نحو إقرار المعاهدة العراقية البريطانية من أجل تنظيم العلاقة بين بريطانيا والعراق عَقِب إقامة حكم وطني عراقي، حيث وافق مجلس الوزراء العراقي في حزيران عام 1922م على المعاهدة العراقية البريطانية، ولكنه اشترط أن يوافق عليها المجلس التأسيسي العراقي أيضاً(3).

لقد كانت المُعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922م تتضمن عدَّة فقرات، كان أهمها: أنَّ بريطانيا ستأخذ بيد الدولة العراقية الجديدة وتهيؤها للانضمام إلى عُصبة الأمم المتحدة، وأنَّ تحالفاً عسكرياً سيقوم بين بريطانيا والعراق، إضافةً إلى احتفاظ بريطانيا ومن خلال مندوبها السامي بمسألةِ السيادة الجوية في العراق(4).

ص: 147


1- المرجع نفسه.
2- المرجع نفسه.
3- الأدهمي ، المجلس التأسيسي العراقي، ص33.
4- المرجع نفسه.

وبما أنَّ المُعاهدة العراقية البريطانية لكي تصبح نافذة

يجب مُصادقة المجلس التأسيسي العراقي عليها، وهذا المجلس كان من أبرز ما أشار إليه الملك (فيصل) في خطاب التتويج، حيث أُجريت انتخابات المجلس التأسيسي وعُقدت أولى جلساته في آذار من عام 1924م ، وقد ضمَّ هذا المجلس شيوخاً للعشائر وبعض المثقفين والمحامين وعددٍ من أكراد العراق وبعض المسيحيين واليهود(1).

ولأنَّ المجلس التأسيسي العراقي لم يُصادق لغاية حزيران من عام 1924م على المعاهدة العراقية البريطانية، وُجِّه تهديد بحلِّ المجلس من قبل المندوب السامي البريطاني إلى الملك فيصل في حال عدم إقرار المعاهدة، وقبل انقضاء ليل العاشر من حزيران عام 1924م صادق المجلس التأسيسي العراقي على المعاهدة، حيث صوَّت للمعاهدة (37) من أصل (69) عضواً حضروا المجلس(2). وبهذهِ المعاهدة اكتملت خطوات البريطانيين بتثبيت حكمهم غير المباشر للعراق.

الخاتمة والاستنتاجات:

إنَّ بريطانيا خدعت الشعب العراقي حينما أعلنت أنَّها ستحرره من الاستعمار العثماني.

إنَّ بريطانيا عَمَدت إلى تمزيق وحدة الشعب العراقي، إذ إنَّها أقصت أبناء المذهب الشيعي من المشاركة في الحكم.

لم يكن الحكم الملكي في العراق، ولاسيَّما في بدايتهِ، مستقلاً عن السياسة البريطانية.

شكَّلت ثورة الشعب العراقي عام 1920م رفضاً عملياً للاحتلال البريطاني.

ص: 148


1- المرجع نفسه.
2- المرجع نفسه.

جاءت بريطانيا بشخص غير عراقي ليحكم العراق، وهو مخالف لكلّ ما وعدت بهِ قبل احتلالهم لذلك البلد.

عَمَدت بريطانيا نتيجةً لتأثيرات ثورة العشرين إلى حكم العراق حكماً غير مباشر وهذا تغير كبير أحدثتهُ ثورة العشرين في السياسة البريطانية.

إنَّ الشعب العراقي استمر في رفض السياسة البريطانية، وهو ما تمثل برفض المرجعيات الدينيَّة الشيعية التعامل مع الإنكليز، فضلاً عن ثورات العشائر في الجنوب والوسط والشمال كلَّها دلائل بارزة على ذلك الرفض.

ص: 149

الإدارة الاستعمارية البريطانية في العراق (1914-1920م ) الموقف حیال القومیات والاقلیات الدینیَّة

اشارة

سیف عدنان ارحیم القیسی(1)ارتبط العراق من الناحية الجيولوجية بالكتلتين العربية والإيرانية الواقعة بين منطقة جبال زاجروس The Zagros Mountains وطوروس (The Taurus Mountains)، ولا زال يُشكل هذا الموقع أهميةً في النواحي السياسية والجيولوجية والبشرية، فيُلاحظ أنَّ حدوده الطبيعية مفتوحةً أمام معظم المناطق والدول المجاورة خلال مراحل الحرب والسِّلم وعِبرَ كل حِقَب التاريخ بما فيها خضوعه للنفوذ والسيطرة العثمانية ولأكثر من أربعةِ قرونٍ مضت فقد ارتبط بالدولة العثمانية (The Ottoman Empire في ظروف قوتها وضعفها، ولذلك أضحت مميزات موقعه الجغرافي وموارده وإمكانياته محط أنظار القوى الدولية الكبرى (بريطانيا، فرنسا، روسيا، ألمانيا)، فضلاً عن ذلك الاستحواذ على خيراتهِ، وفي مقدمتها إمكانية

ص: 150


1- أستاذ جامعي - العراق.

وجود النفط في العراق بعد اكتشافهِ في إيران، إضافةً إلى استغلال شبكة المواصلات، ولهذا تغلغلت الشركات التجارية فى ولايات العراق الثلاث.

كتب بعض الرحالة الأجانب مؤلَّفاتٍ وثَّقت الجوانب الحياتية والجغرافية والدينية والاجتماعية في العراق، ومنها رحلة المُقيم البريطاني في بغداد كلوديس جيمس ریج(1) (James Rich Claudius) وما بعدها في الموصل عام 1820م ، كما تعرف الرحالة والسياسيون البريطانيون على مكونات المجتمع العراقي من المسلمين واليهود والمسيحيين والقوميات المتعددة كالعرب والكُرد والتركمان تجمعهم روح التعايش السلمي، فحاولوا خرقها بكلِّ وسائلهم والطرق المُتاحة لهم، ومنها توثيق العلاقات مع العشائر العراقية العربية والكردية في محاولة إضعافها وتحديد صلتها بالدولة العثمانية، ولم يكتفوا بذلك بل عملوا على تشجيع القوميات والطوائف على إقامة دول مستقلة بذاتها، تدعمها بكل الإمكانيات المادية والمعنوية، ولا شكّ أنَّ تلك السياسة حقَّقت بعض خطوات النجاح عن طريق استمالتها بعض مَنْ وعدتهم بالاستقلال عن الدولة العثمانية، من دون أن تُظهر لهم حقيقة ما دار في كواليس الغرف المغلقة بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية من تقسيم الدول العثمانية والولايات التابعة لها، ومنها العراق ليكون في إطار مطامع بريطانيا بموجب اتفاقية سایکس - بيكو عام 1916م.

ولكن السؤال هل كان الهدف من التقارب بين الجانبين ورفع راية الدفاع عن حقوق الأقليات هدفه صيانة حقوقهم، أو الهدف منه خلق مكونات مجتمعية منقسمة قد تفجر أزمة داخلية في أي وقت؟

لقد استغلت الإدارة العسكرية البريطانية التناقضات الدينية والمذهبية والمناطقية القائمة في العراق لتوظفها لمصلحتها وديمومة وجودها، فضلاً عن ذلك شجعَّت

ص: 151


1- كلوديوس جيمس ريج (1787-1821م): هو مُستشرق وعالم آثار إنكليزي، شَغَل منصب المقيم البريطاني في العراق خلال الفترة (1808-1821م)، وكان مندوباً عن شركة الهند الشرقية البريطانية، توفي عام 1821م بمدينة شيراز بعد إصابته بوباء الكوليرا. للمزيد يُنظر : باسم حطّاب ،الطعمة، تغلغل النفوذ البريطاني في العراق (1798-1831م)، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الآداب جامعة بغداد 1985م ص 85

القوميات والطوائف على تحقيق الانفصال وتجزئة المجزأ ؛ وهذهِ إشكالية العراق اليوم؛ ومنها تنطلق إشكالية هذهِ الدراسة التي نحن بصددها.

تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على الإدارة العسكرية البريطانية وآلية تعاملها مع القوميات والأقليات الدينية في العراق من عشية الاحتلال عام 1914م وحتّى إعلان الحكم الأهلي في العراق 1920م، مبينةً بالشواهد والوقائع التاريخية كيفية افتعالها للأزمات الداخلية في العراق، ولاسيَّما موضوع الأقليات، وهي فرصة لها للبقاء والنفوذ وهذا ما حصل واقعاً.

تمهيد: العراق في الإستراتيجية الاستعمارية أواخر القرن التاسع عشر

إنّ حقيقة فهم فحوى سياسات الدول الكبرى في المشرق العربي يُلزم العودة إلى سياساتها أواخر القرن التاسع عشر وبيان الدوافع السياسية والاقتصادية والعسكرية والدينية، ومنها الأطماع الأوربية الممثلة ببريطانيا وفرنسا، وقد ساعدتها عوامل فرضت هيمنتها على المنطقة ومنها الأقليات القومية والدينية في الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية التي ازدادت ضعفاً وتفككاً(1).

لا شكٍّ أنَّ عوامل الضعف التي شَهِدتها الدولة العثمانية كانت قد أسهمت في تسهيل مهمة القناصل ووكلاء الدول الأوروبية وزادت من تدخلهم في الشؤون الداخلية للدولة(2)، فقد كان النشاط البريطاني على أشدهِ في العراق(3)، كما كان للبعثات التبشيرية دور مهم في بثّ المفاهيم الأوروبية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ومنها تأسيس المدارس كمدارس (الإليانس) اليهودية التي تأسَّست في مدن العراق وفي الموصل والكاظمية والحلَّة والعِمارة تحت إشراف الدكتور دبليو

ص: 152


1- علي محافظة، موقف الدول الكبرى من الوحدة العربية بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1985م)، ص ص 13-14.
2- علي ناصر حسين الإدارة البريطانية في العراق (1914-1921م) ، بغداد، ص ص 15-16.
3- إيناس سعدي عبد الله، تاريخ العراق الحديث (1258-1918م)، (بغداد، مكتبة عدنان، 2014م)، ص 405.

أي. ويكرام(1) W.E .Wikram .، إذ نشطت في شمالي العراق وجنوبهِ وأسَّست لها مدرسة في العَمَادية، كما أنَّ دعم القنصل الفرنسي للإرساليات الدينية الكاثوليكية كان على أشدهِ، وفي الوقت نفسهِ تأسَّست مدرسة ألمانية لأول مرةٍ في الموصل عام 1909م ولكنها لم تستمر طويلاً، وبعدها كثر تردد البعثات الألمانية للتنقيب عن الآثار العراقية(2).

لم يقتصر النشاط التبشيري على البعثات التبشيرية البريطانية والفرنسية، بل تعدى الأمر إلى البعثات التبشيرية الأميركية هذهِ المرة التي بدأت مع كونها لم تشترك بأي نشاط في ذلك الصراع، إلَّا أنَّها خاضت صراعاً من أجل الحصول على الأسواق لتصريف منتجاتها الصناعية والاشتراك في التجارة العالمية، وكشفت الوثائق الأميركية بدورها وبشكلٍ واضح عن نشاطات المبشِّرين التجسسية في تزويد حكوماتهم بمعلوماتٍ تفصيلية عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأخذت البعثات التبشيرية الأميركية البروتستانتية بالتزايد في الأقسام الشمالية من العراق ولاسيَّما في الموصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان مدعوماً من قبل بريطانيا المُساندة للبروتستانتية تجاه الكاثوليكية الفرنسية، والتي شكَّلت تهديداً خطيراً لمصالحها، وبسبب تلك الظروف المساعدة تتابع قدوم المبشرين الأميركان من أمثال بركنز (Perkins وفورد (Ford) إلى الموصل والمناطق الكُردية أيضاً، وكانوا يقدمون لهم الخدمات الطبية والتعليمية التي يفتقر إليها سكَّان تلك المناطق بسبب إهمال السلطات الحكومية لها(3).

سجلت وقائع الحرب العالمية الأولى المحك الذي ركَّزت بريطانيا نفسها فی مصر ثمَّ لتحدد نقاط بقائها في العراق بوصفهِ موقعاً وسطاً بين مصر والهند،

ص: 153


1- هو : لاهوتي اسكتلندي، مثقف وأديب وسياسي، قدم في زيارة مكث فيها زهاء عشر سنوات في شرق كردستان مبعوثاً دينياً من لدن رئيس أساقفة كانتربري لاستصلاح أحوال الأثوريين الدينية في موطنهم بكردستان، له مؤلف بعنوان مهد) (البشرية)، يتناول فيه أوضاع مسيحيي العراق. للمزيد ، يُنظر الموقع الإلكتروني: http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=761586.0
2- فؤاد فزانجي، العراق في الوثائق البريطانية (1905-1930م) ، (دار المأمون، بغداد، 1989م)، ص 60.
3- سعاد رؤوف شير محمد، التغلغل الأميركي في العراق (1921-1939م) ، (بغداد، مؤسسة ثائر العصامي، 2016م)، صص 36-38.

وهكذا تجسَّدت المواقف البريطانية بناءً على إستراتيجيةٍ واضحة بدفع من الرأسمال البريطاني التجاري في محاولةٍ لإيجاد أسواق وموارد أولية قد تصاعد مع أهمية المنطقة من الناحيتين الدفاعية والإستراتيجية(1).

الأساليب البريطانية في استيعاب الأقليات وتوظيفها في العراق

سعی القناصل والوكلاء البريطانيون إلى كسب ثقة طوائف العراق بهدف الحصول على نفوذٍ في البلاد، وعملوا على اختراق منظومة العشائر الكردية وإثارة مشكلة العشائر العربية(2).

وكان للمناطق الشمالية التي يقطنها الأكراد بوصفها أجزاءً غنية ومهمة من الناحية الإستراتيجية مكان خاص في التوجهات البريطانية، مما دعا مسؤوليها وبعض تجارها للسعي بمختلف الوسائل لتعزيز نفوذهم فيها ، بغية تأمين الطرق البرية الموصلة إلى الهند، والسيطرةٍ على منطقةٍ واسعة وحساسة من الشرق الأوسط، من خلال إحكام السيطرة على شمالي ،العراق، وتحديد الطرق المهمة والمواقع الإستراتيجية التي وصلها عدد من الضباط البريطانيين(3).

لقد كرست الإجراءات التي اتخذتها الإدارة البريطانية في تعزيز نفوذها في العراق

ومن هذهِ الإجراءات لجوؤها إلى منح التأييد القوي للمصالح التجارية البريطانية ولاسيَّما في العراق، فلما طلب خط المِلاحة العائد لشركة لينج(4) إذن الحكومة العثمانية بتشغيل باخرة ثالثة في دجلة، أولت الحكومة البريطانية دعمها التام للشركة،

ص: 154


1- فاروق صالح العُمر ، العلاقات العراقية - البريطانية (1922-1948م)، (بيروت، دار ومكتبة البصائر، 2014م)، ص6.
2- عبد العزيز سليمان ،نوار تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حكم مدحت باشا (القاهرة دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1968م، ص301.
3- صالح إدريس، سياسة بريطانيا تجاه كرد العراق، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد، كلية التربية ابن رشد)، - عبد الرحة ص ص 39-40.
4- هي شركة نهرية بريطانية، أسستها أسرة لنج في عام 1841م، عندما سجلها ستيفن فينس لنج في لندن بماركة الحكومة البريطانية مع أخويه هنري بلوس وتوماس كير، باسم «شركة لنج إخوان المحدودة»، وتنوع نشاط الشركة بین النقل والتجارة، ولقيت مُساندة من الوكيل السياسي البريطاني في العراق، وحصلت رسمياً على الحماية من وزارة الخارجية البريطانية.

فقد كتب لويد جورج(1) Lord George إلى السير تشارلس هاردنغ (Charles Hardinge) في 18 كانون الأول / 1906م يؤيد له دعم الشركة: «أن أبادر القول أنَّ أيَّ إضعاف لوضعنا الحاضر في دجلة لا يعني فقط إضعاف مركزنا برمتهِ في بلاد ما بين

النهرين، بل يعني كذلك زيادة مقابلة في التجارة ونشاط الألمان»(2)، وقد اتسع هذا النشاط واكتسب بُعداً آخر مع اتساع أساليب الاستعمار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأصبح عاملاً مهماً للتصارع بين الدول على إخضاع البلاد المضطهدة، فلم يكن الاستعمار مقتصراً على القوة العسكرية والنشاط الاقتصادي، بل عملوا على إتباع سياسة قائمة على الأمور الآتية:

1. إغراء القوميات المنضوية تحت لواء الدولة العثمانية بمنحهم الاستقلال في حال الانتفاض على الدولة العثمانية.

2. استخدام الأساليب الإنسانية لتحقيق أهداف وتوسعات استعمارية في العراق عن طريق حماية الأقليات الدينية(3).

ويظهر أنَّ هذا التقارب مع القوميات أخذ بُعداً أكثر قوةً من قبل، لاسيَّما بعد انقلاب الاتحاديين عام 1908م، عندما صرّح قادة جمعية الاتحاد والترقي: «أنّ الأمة العثمانية كانت وستظل هي الأمة الحاكمة في السلطنة العثمانية، وأنَّ العثمانيين يتمتعون بحقوق وامتيازات سامية بصفتهم ،فاتحين فلا مجال إذاً للاعتراف بحقوق مساوية للعناصر العرقية الأخرى»(4)، وكان هذا التصريح كافياً ليولِّد شعور بالتمرد على الدولة العثمانية آنذاك.

مع ذلك فإنَّه لم يحدث أيَّ تعديلٍ في سياسة الأوساط العثمانية الحاكمة إزاء

ص: 155


1- لويد جورج (1863-1945م): سياسي بريطاني، وعضو في حزب الأحرار، انتخب عدة مرات عضواً في مجلس العموم البريطاني منذ العام 1890م، شغل منصب رئيس الوزراء للفترة (1916-1922م)، ومُنح لقب لورد. للمزيد، يُنظر :.Encyclopedia Britannica Ultimate Reference Suite, Chicago: 2013 .105
2- غسان العطية، نشأة الدولة (العراق)، ترجمة: عطا عبد الوهاب (لندن، دار ،اللام (1988م ، ص 105.
3- عبد العزيز سليمان نوار وعبد المجيد نعنعي التاريخ المعاصر لأوربا، (القاهرة، 1975م)، ص ص 308-309.
4- محمد إبراهيم محمد، مقاومة العرب للاضطهاد العثماني، بغداد، دار الجواهري، 2011م)، ص33.

الشعوب غير التركية بعد انتصار الاتحاديين في عام 1908م ، بل على العكس من ذلك سرعان ما ظهرت منطلقات جديدة وهي خيبة في نفوس هؤلاء السكَّان تجاه ،الاتحاديين، ومنها أمور أخرى بدأت تمس حياة الفرد اليومية بصورةٍ مباشرة، والتي أسهمت في انتقاد الاتحاديين ليوظَّف ذلك الموقف ضدهم(1)، وفي تقرير بريطاني أوضح أهداف دولته تجاه السكَّان المحليين مستفيدين من موقف السكَّان العدائي للاتحاديين:«لم يكن لدينا سبيل للاعتقاد بأنَّهم كانوا معادين كلِّياً للعثمانيين، وفعلاً فإنَّ المليون أو أكثر من السكان لم يكونوا كذلك، ولكن أملنا يعتمد على قدراتنا في إقناعهم منذ البداية أن ينتابنا نحوهم ونحو معتقداتهم طيبة وبذلك نستطيع إبقائهم على الحياد، فبدعوتنا نسوي خلافاتنا . العثمانيين دون التأثير عليهم»(2).

وكان من بين جهود تعزيز مركز بريطانيا إرسال الإرساليات ومنها الإرسالية الطبية في الموصل العائدة إلى الجمعية الإرسالية لكنيسة إنكلترا فيما بين النهرين وكادت أنْ تُنهي أعمالها لعدم توفر الأموال لولا تدخل الموظَّفين البريطانيين لضمان استمراريتها، وبهذا كتب لويد جورج في مذكرة بتاريخ 3/أيلول/1907م، قائلاً:«يجب أنْ نُدرك بوضوح من وجهة النظر السياسية، أنَّ وجود الإرسالية وعملها لهما أهمية عظيمة وبعيدة المدى، ومن المتعيَّن على المصالح البريطانية كذلك، إمَّا أن تتطور سريعاً، أو أن تتدهور على مدى العقد القادم من السنين، نظراً للتطور الذي بشَّر بفتح هذهِ البلاد للاستثمار والمنافسة الأجنبيتين، ويبدو أنَّ من غير المُستحسن جداً التفريط بمثل هذهِ الوسيلة القوية من وسائل نشر الحضارة والنفوذ السياسي»، وقد أمكن للإرسالية في الموصل أن تستمر في البقاء بمعونةٍ من القنصلية البريطانية في ،بغداد، وقد زوّدت القنصلية اعتباراً من 1906م إحدى المدارس اليهودية بأموالٍ لقاء المباشرة بتدريسها للغة الإنكليزية(3).

ص: 156


1- عبد الرزاق أحمد النصيري دور المجددين في الحركة الفكرية والسياسية في العراق (1908-1932م)، (بغداد، مكتبة ،عدنان (2012م ، ص 218.
2- فؤاد قزانجي، العراق في الوثائق البريطانية، ص 4.
3- غسان العطية، مرجع سابق، ص ص 105-106.

الاحتلال البريطاني للعراق وتشكيل الإدارة العسكرية:

عند اندلاع الحرب العالمية الأولى في آب من عام 1914م وانضمام الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، وانضمامها إلى كتلة الوسط في الخامس من تشرين الثاني عام 1914م نزلت القوات البريطانية مدينة الفاو في السادس من تشرين الثاني عام 1914م، ومن ثمَّ خاضت غِمار حرب ضدَّ القوات العثمانية المتواجدة في العراق، واستمرت الحرب على العراق خلال المدة (1914-1918م)(1).

وحينما أكملت الجيوش البريطانية احتلالها للعراق انتهت مهمة المراكز التجارية ودبلوماسية تعزيز النفوذ إلى السيطرة البريطانية المباشرة، وإتباع أساليب تثبيت الوجود البريطاني القائم على أساس تكريس سياسة الاستيلاء والسيطرة، وإقامة نظام احتلال مطلق وهو ما عُرف بالإدارة العسكرية البريطانية للعراق (1914-1920م)، وبدأت الإدارة البريطانية في العراق ببناء تنظيماتها على شكل مؤسَّساتٍ يُديرها القادة العسكريون، وكانت سياساتهم قائمة على فرض القوانين والأنظمة الهندية التي أثارت امتعاض السكّان منها(2)، وعلى ما يبدو أنَّ الإدارة العسكرية البريطانية وجدت ضالَّتها في الأقليات من اليهود والمسيحيين لشغل الوظائف الحكومية.

ومع الاعتراضات على نظام الإدارة العسكرية البريطانية بيَّنت بريطانيا عن عزمها البقاء في العراق، حتّى لو شكَّلت حكومة تمثل الشعب العراقي، فيُشير أحد الضباط البريطانيين في العراق برترام توماس(3) (Bertram Tomas) عن الاستقلال بقولهِ:«كيف نعطي الاستقلال الناجز والنهائي لشعب لا يعي معنى السياسة، وفي كثير من الأماكن لا تجد ذكراً أو معنى لكلمة حكومة على الإطلاق، كيف تُقيم حكومات

ص: 157


1- للمزيد، يُنظر: جعفر عباس حميدي، تاريخ العراق المعاصر (1914-1968م) ،(بغداد، مكتبة عدنان، 2015م)، صص 16-21
2- ياسين طه ظاهر، دار الاعتماد البريطانية وتكوين الحكم الوطني في العراق ،(1920-1932م)، (بغداد، مكتبة أحمد الدباغ، الب 2011م)، ص ص 28-29
3- برترام توماس (1893-1950) : موظف مدني ورحالة إنكليزي خدم في عدة وظائف حكومية في العراق خلال المدة (1916-1918م)، وفي الأردن (1922-1924م)، شغل بعدها منصب وزير المالية لسلطان مسقط وعُمان من (1932-1925م). للمزيد يُنظر : مذكرات برترام توماس ترجمة كامل سلمان الجبوري وعبد الهادي فنجان (بيروت مؤسسة العارف للمطبوعات، 2002م).

وإدارات وطنية تقودهم إلى التخلص من التخلف، وتمكينهم من حق الاختيار في بلدٍ غالبية رجالهِ من الجهلاء»(1).

وثمَّة مجموعة من الافتراضات حول الحكم كانت أكثر تعقيداً من المفهوم الصريح للحكم الاستعماري المباشر، وبات على البريطانيين إقامة دولة تستمد فيها الحكومة من ساكني ،البلاد، ومع ذلك سيحتفظ البريطانيون بما يكفي من السلطة السياسية لضبط السياسات والقرارات غير المقبولة التي تتخذها الحكومة الوطنية، وتمثل الأمر اللازم بإفساد علاقاتها مع الدولة العراقية(2).

وهذا ما دفع بريطانيا لتوظَّف من بقائها بعد فرض الانتداب البريطاني على العراق بشكل رسمي، بموجب صك الانتداب الصادر من عصبة الأمم في 25/نيسان/1920م التي أبرمت كنتيجة لتصفية الدولة العثمانية وإدخال مبدأ «حماية الأقليات» في صكوك الانتداب لتبرير وجودها الدائم والعمل على التفتيت القومی(3).

بل تحولت مسألة حماية حقوق الأقليات الدينية والعِرقية إلى عقبةٍ في تشكيل المملكة العراقية في عام 1921م عندما أجري استفتاء حول ترشيح فيصل بن الحسين (1933-1881م) ملكاً على العراق، فلقد طالب أصحاب الديانات والأقليات بإضافة بند في التصويت ينص على حماية حقوق الأقليات السياسية والثقافية(4).

اتفاقية سايكس - بيكو (1916م) ومشروع التقسيم:

ركَّزت بريطانيا نشاطها في العراق بعد تزايد النفوذ الألماني، ومحاولتهِ مد سكَّة حديد بغداد - برلين التي أثارت جدلاً واسعاً في أروقةِ الدول الأوروبية المنافسة لألمانيا، فخشيت بريطانيا أن تتزعزع سيادتها على البحار، وأدركت أنَّه لم يبقَ بعد

ص: 158


1- برترام توماس مخاطر ورحلات في الجزيرة العربية ترجمة عبد الهادي فنجان الساعدي، بغداد، دار مصر ، ،مرتضى 2009م)، ص 76.
2- عديد دويشا، عراق الحقبة الملكية، ترجمة: مصطفى نعمان أحمد ، بغداد، دار مصر مرتضی، 2012م)، ص29.
3- شامل عبد القادر ومحمد جبير يهود العراق.. المقدمات التاريخية والخطاب الثقافي بغداد، دار ،الجواهري 2013م)، ص 26
4- (25) عدید ،دویشا مرجع سابق، ص95.

هذا السبيل إلى التفاهم مع ألمانيا، فتقدمت إلى فرنسا تتقرب إليها حتّى عقدت معها اتفاقية عام 1904م، ثمَّ توسَّطت فرنسا بين بريطانيا وروسيا القيصرية فتمَّ الاتفاق بينهما على تقسيم مناطق النفوذ في عام 1907م(1).

وبعد قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م ومحاولات الشريف حسين بن علي شريف مكَّة البحث عن مشروع الدولة العربية الكبرى، الذي وِعَد بهِ من قبل البريطانيين في حال إعلانهِ الثورة على الدولة العثمانية لتتحفظ بريطانيا على الحدود التي حددها الشريف حسين بن علي، ولذا وجدت بريطانيا من الضروري التوصل مع حليفتها فرنسا إلى تسويةٍ حول تقسيم المشرق العربي، فطلبت بريطانيا أنْ تُحدد لها مندوباً لوضع اتفاقية التقسيم، فعيَّنت فرنسا مستشار سفارتها الأول بلندن فرانسوا جورج بيكو (Francois Georges-Picot) (1951-1878م)، لتُعين بريطانيا من جانبها مارك سايكس

(Mark Sykes) (1919-1879م)، لتبدأ مفاوضات التقسيم السرية بينهما(2).

وفي حقيقة الأمر إنَّ اتفاقية سايكس - بيكو لم تكن في حقيقتها إلا رداً على تحركات الشريف حسين بن علي والقادة القوميين الذين طالبوا بالوحدة العربية القومية، والذين كانوا يأملون بأنَّ الطريق بات مفتوحاً أمام تنفيذ المشروع القومي العربي، الذي كان محور نشاطهم وتفاهمهم مع بريطانيا، والتي أثبتت التطورات اللاحقة أنَّ هذا التفاؤل لم يكن في محلِّهِ(3)، مع أنَّ بريطانيا لم تكن عازمةً على تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية، وكان لها موقف معروف منذ أن برزت روسيا كقوةٍ كبرى مناوئة لجارتها الدولة العثمانية ومزاحمةً لبريطانيا في مناطق نفوذها، وكان رأي بريطانيا المحافظة على سلامة الدولة العثمانية، ومنع روسيا من الوصول إلى البحر المتوسط(4) The Mediterranean Sea bud!

ص: 159


1- عبد الفتاح إبراهيم على طريق الهند (بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1978م)، ص130.
2- ه- . أ. ل. فِشر، تاريخ أوربا في العصر الحديث (1789-1950م)، ترجمة: أحمد نجيب هاشم ووديع الضبع (القاهرة)، دار المعارف، 1958م)، ص 573.
3- رغيد الصلح، حربا بريطانيا والعراق ،(1941-1991م) ،(بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013م)، ص 37 .
4- جورج لنشوفسكي، الشرق الأوسط في الشؤون العالمية، ترجمة: جعفر خياط، بغداد، مكتبة دار المتنبي 1964م ، ج 2، ص 105.

ولكن الموقف تغير بالنسبة لبريطانيا بسبب تدخل الدول الأوربية فى شؤون الدولة العثمانية بطرق وأساليب مختلفة، وذلك استناداً إلى الامتيازات الممنوحة من قبل الدولة العثمانية للأجانب في تواريخ مختلفة، لذا أصبحت الدول الأوربية تعد تلك الامتيازات بمثابة حقوق مُكتسبة لها ولرعاياها، ودخول ألمانيا كحليف للدولة العثمانية هو ما أثار بريطانيا المحافظة على بقاء الدولة العثمانية فرأت بضرورة اقتسام أملاكها(1).

ولم تَكَد الدولة العثمانية تدخل الحرب حتَّى بدأت المفاوضات السرية بين دول الوفاق ترى النور لاقتسام أملاكها، فقد تمَّ الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا وروسيا في آذار من عام 1915م على أن تكون القسطنطينية من نصيب روسيا، ووافقت هذه الدول في معاهدة لندن المُنعقدة في 26 نيسان/1915م والتي انضمت إليها إيطاليا على أن يُحفظ التوازن السياسي في البحر المتوسط بمنح إيطاليا عند اقتسام الدولة العثمانية حصّة مُعادلة لحصّة بريطانيا وفرنسا وروسيا، وأُعيد النظر في 26 نيسان/1916م بمعاهدة لندن وعُقدت على أساسها معاهدة (زازونوف - باليولوك السرية) بين فرنسا وروسيا لتعيين حصَّتهما من البلدان العثمانية، وفيها مُنحت روسيا ولايات طربزون وأرضروم وبتلسيس، ومُنحت فرنسا ما يُعادل حصّة روسيا من البلدان المُحاذية لها من جهةِ الجنوب، على أنْ تُعيَّن الحدود بمفاوضة بريطانيا والاتفاق معها، وعلى إثر ذلک جرت المفاوضات وتمَّ الاتفاق بين الدولتين على اتفاقية سايكس – بيكو في آيار من عام 1916م، فعُيِّن لفرنسا بلاد الشام (سورية ولبنان) وولاية الموصل(2).

وفي ظلِّ الانتقادات الموجّشهة لاتفاقية سايكس - بيكو بكونها أجهضت مشروع الوحدة العربية الذي دعا إليه الشريف حسين بن علي، يتساءل الحاكم العسكري فيما بعد على العراق آرنولد ولسون (Arnold Wilson) (1920-1918م): «إنَّ تحقيق آمالهم المزعومة بالوحدة بأن يتحالف وهابية نجد وعسير وسادة الكويت والعرب

ص: 160


1- محمد إبراهيم محمد مرجع مر سابق، ص 105.
2- للمزيد، يُنظر: جورج لنشوفسكي، مرجع سابق، ص ص 105-106 ؛ عبد الفتاح إبراهيم، على طريق الهند، ص ص .230-229

في سورية والعراق فما هو مصير تلك الأقليات»(1)، ولم تكتفِ بتقسيم مناطق نفوذ بل وجدت بريطانيا وفرنسا فيما بعد حجة قائمة وهی انَّه يجب أن يضع العهد الجديد بعد الحرب على كواهل الدول الأوروبية التزامات لا نحو الأقليات العنصرية والدينية التي تعيش بين ظهرانيها فحسب، بل أيضاً التزامات نحو الجماعات الضعيفة المتأخرة التي بسطت عليها الدول القوية سيطرتها، وأن تقوم علاقاتها بتلك الجماعات على مبدأ الوصاية(2).

الإدارة العسكرية البريطانية والكُرد:

كانت بريطانيا قد بحثت عن مناطق نفوذ لها في العراق وبمختلف الطُّرق، وكانت المناطق الكردية أحد تلك المنافذ لتحقيق أهدافها منذ نهاية القرن التاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين ، وهذا يعود إلى العلاقة بين الكُرد والدولة العثمانية التي مرت في حالاتِ مدٍّ وجزر ، وسياسة المركزية التي اتبعتها الدولة العثمانية، وأمَّا العلاقات بين سلطات الاحتلال البريطاني وبين الكُرد فقد اتَّسمت بالتذبذب حسب أهداف بريطانيا الإستراتيجية، بما فيها خيارات الحرب مع الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية وهو أنَّ الموقع الجغرافي وانعدام وجود منفذ على البحر قد أسهم في تأخر وصولهم إليها(3).

تعود بدايات الاتصال بين بريطانيا وكُرد العراق إلى أعقاب الحرب الروسية - العثمانية (1877-1878م) إذ عيَّنت وزارة الخارجية البريطانية الميجر أ. ج. تروتر (Trotter J .A.Megger) قنصلاً لعموم كردستان العثمانية، قام بإرسال التقارير إلى لندن والنظر إلى الكُرد في أحد تقاريرهِ ما نصه: «لا شكّ أنَّ الكُرد في العديد من الأماكن يعانون من سوء الحكم أكثر من المسيحيين واتصالهم بالقناصل الأوربيين

ص: 161


1- سیر آرنولد تي ويلسون بلاد ما بين النهرين بين ولائين ترجمة فؤاد جميل ،بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1992م)، ج 2، ص 32.
2- ه-. أ. ل . فشر، مرجع سابق، ص573.
3- أوفرا بينغيو، كرد .العراق.. بناء دولة داخل دولة، ترجمة: عبد الرزاق عبد الله بوتاني، بيروت، دار الساقي، 2014م)، ص 23.

ضعيفاً، وأنا لا أرى أيَّ داعٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال يمنع خضوع الكُرد المستقرين إلى ذات القوانين والمؤسَّسات التي يخضع لها المسيحيون»(1).

تطورت علاقات الإدارة العسكرية البريطانية مع أكراد العراق(2) في وقتٍ مبكر من قيام الحرب العالمية الأولى، وذلك بإقامة مسح شامل أجرته الاستخبارات البريطانية عن أهمِّ العشائر الكردية في الوضع السياسي العام، ونجحت في كسبِ ود بعض زعماء القبائل الكردية المتنفذة مما عرَّض بعضهم للنفي من السلطات العثمانية بعدما نظر إليهم بعين الخشية بسبب ميولهم للجانب البريطاني(3).

وشدَّد الضباط البريطانيون المنتشرون في كردستان والألوية المُحيطة مراقبة الأوضاع في كردستان وأرسلوا التقارير المفصلة للأحداث والمعلومات، بيَّنت الواقع المرير في المنطقة(4).

ولا شكّ أنَّ اكتشاف النفط قد عزّز من صلات بريطانيا بالشيوخ الكُرد، ولاسيَّما خلال السنوات الأولى من القرن العشرين وقد نظرت إليه بريطانيا بأنَّه كنز لا يمكن تجاهله، وعلى هذا النحو عزّزت الإدارة العسكرية من رجالات استخباراتها فی المنطقة ومنهم الميجر سون(5) (Soan) Megger) الذي عُدَّ خبيراً في الشؤون الكردية (6).

وعشيّة قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م قدَّمت شخصيات كردية تعاونها مع دول الوفاق الودي، إذ أجرى البعض منهم اتصالاتٍ مع روسيا حليفة بريطانيا،

ص: 162


1- سعد بشير إسكندر، من التخطيط إلى التجزئة.. سياسة بريطانيا العظمى تجاه مستقبل کردستان (1915-1923م)، السليمانية، منشورات بنگه ژین - مطبعة ،شفان 2007م)، ص 46.
2- حنا بطاطو، العراق.. الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتّى قيام الجمهورية، (الكويت) منشورات دار القبس 2011م)، ج 1، ص 31.
3- عبد الرحمن صالح إدريس، مرجع سابق، صص 29-31
4- المرجع نفسه، ص ص 35-36 -
5- ضابط بريطاني، تجول في كردستان العراق قبل الحرب العالمية الأولى، متنكراً بزي رجل فارسي تحت اسم (ميرزا غلام حسين شيرازي)، عُين ضابطاً سياسياً لمندلي عام 1917م، ثمَّ للسليمانية 1919م، توفي عام 1923م. للمزيد يُنظر: عبد الرحمن صالح إدريس، مرجع سابق، ص32
6- سعد بشیر ،اسکندر مرجع سابق، ص49

وأجرى محمد شريف باشا خندان أحد الشخصيات السياسية الكردية وشيخ عشيرة (بلباس) في السليمانية اتصالاتٍ مع بريطانيا في كانون الأول 1914م، عارضاً مساعدته للحملة العسكرية البريطانية مقابل حصوله على ضماناتٍ حول استقلال المناطق الكردية، إلاَّ أنَّ بريطانيا شكَّكت في إمكانيتها بالاستقرار في مناطق شمالي ،العراق، ولكن بعد احتلال بغداد في 17 آذار / 1917م تغيرت موازين القوى لصالح البريطانيين، فتطلَّع الكُرد نحو بريطانيا بعد إنكارهم للسياسة التي اتبعتها القوات الروسية في المناطق الكردية ومن ثمَّ انسحابها بعد قيام ثورة أكتوبر 1917م، وأصبحت الفرصة كما يبدو مؤاتية لهم لإحياء فكرة الحكم الذاتي، بعد تصريح القائد البريطاني ستانلي مود Stanley Maude) (1917-1864م) عند دخولهِ بغداد وإبداء تعاطفهِ مع العرب في الحصول على الاستقلال، بعد أن تغيرت سياسة بريطانيا التي أخذت تهتم بكُرد ،العراق، وتسعى إلى كسب المزيد من الزعماء الكُرد المحليين إلى جانبها(1).

وأنَّ تعزيز صلاتها وبناء جسور علاقاتها مع الأقليات في العراق بحجَّة حمايتهم ما هي إلاَّ ورقة ضغط تستخدمها عندما ترى أنَّ مصالحها في خطر، وأنَّ الأقليات أنفسهم يربطون بقائهم ببقاء بريطانيا في العراق، وقد زرعت الإدارة البريطانية قواتها في العراق، وهذا ما أكَّده المفوض السامي البريطاني هنري دوبس (Henry Dobbs) (1934-1871م) قائلاً: «لو انسحبت القوات البريطانية من العراق أعتقد أنَّ الحكومة العراقية كانت إمَّا تلاشت كلياً خلال أشهر قليلة، أو بقيت ملتصقةً بشكلٍ بائس بشريط من الأرض على امتداد دجلة بين سامراء والكوت فقط، بينما انشقت بقية البلاد»(2)، واستقبل بعض الزعماء العشائريين ومنهم زعماء كردستان بالترحاب(3)، وقد يكون ذلك بسبب الإغراء وشراء الضمائر.

ص: 163


1- عبد الرحمن صالح إدريس ، مرجع سابق، ص ص 65-66
2- حنا بطاطو، مرجع سابق، ج 1، ص 43.
3- سير آرنولد تي ويلسون، مرجع سابق، ص 16.

لقد تفهمت الإدارة العسكرية البريطانية من جانبها رغبة الكُرد في الاستقلال السياسي، وذلك عندما قرروا تعيين الشيخ محمود الحفيد(1) حاكمًا للسليمانية، رد الشيخ الحفيد الذي ذهب أكثر من طموحهِ بإعلان نفسه ملكاً على كردستان، وهذا الأمر لم يُرضهم فشرع بالثورة ضدهم، الأمر الذي ولَّد ردود فعل معاكسة لدى بريطانيا فناصبوه العداء وعملوا على إخماد ثورتهِ(2).

عزز (نوئيل) الضابط السياسي البريطاني في السليمانية الذي جرى تعيينه في تشرين الثاني 1918م ، والذي بدأ بتوطيد نفوذ دولتهِ حتَّى بعد تعيين محمود الحفيد حكمدار لكردستان لم تكن في حقيقتها كما ذكر في أحد تقاريره بأنَّه:«أعير لنشر النفوذ البريطاني بين العشائر الكردية، وفرض النظام والشرعية، ومما لا شكّ فيه أنَّ البريطانيين حققوا بعض النجاحات في بادئ الأمر، وقد انتشر شعار كردستان للكُرد والذي قصد بهِ أنْ يكون تحت الحماية البريطانية»(3)، فلم تدع خطوات الإدارة العسكرية البريطانية في العراق بعد هدنة مودورس(4) حتَّى كشفت بريطانيا عن سياستها الحقيقة في العراق وتجاه الكُرد، عندما بدأت تعمل على إعادة القوانين والنظام إلى نصابهما، وبالدرجة الأساس للمناطق الكردية التي بدأت على ما يبدو تُشكل خطراً على مصالحها.

وبعد أن فرضت بريطانيا سيطرتها على العراق عقب هدنة مودورس في 30 تشرين الأول/1918م الأول / 1918م لتعطي الكُرد أبعاداً دولية من خلال إعطائهم حقوق دولية بموجب المادتين (62-64) من معاهدة سيفر المنعقدة في 10/آب/1920م، بأن يوضع مشروع للاستقلال المركزي للمناطق الكردية في شرقي الفرات وجنوب غربي أرمينيا،

ص: 164


1- الشيخ محمود الحفيد البرزنجي (1882-1956م) من مواليد السليمانية، ينتمي إلى أسرة دينية صوفية، وبسبب مكانته الدينية التف حوله الكرد، شغل الحكومتين البريطانية والعراقية بحركات مُسلّحة خلال المدة (1918-1919م)، أعلن نفسه ملكاً على كردستان سنة 1922م لتجرد ضده حملات عسكرية أنه تحركاته المسلحة. توفي في بغداد عام .1956م للمزيد يُنظر : عبد الرحمن صالح إدريس، مرجع سابق، ص 53.
2- عديد دويشا، مرجع سابق، ص50.
3- م. س. لازاريف المسألة الكردية (1917-1923م)، ترجمة: عبدي حاجي، ط2، (بيروت، دار الفارابي، 1981م)، ص 63.
4- هي: هدنة وقعت في 30/تشرين الأول/1918م بين بريطانيا والدولة العثمانية، والتي أنهت القتال في منطقة الشرق الأوسط، واستسلام القوات العثمانية في الولايات العربية ومنها العراق. للمزيد ، يُنظر: جعفر عباس حميدي، تاريخ العراق المعاصر، بغداد، مكتبة عدنان 2016م)، ص21.

وشمالي الحدود التركية المُتاخمة لسوريا والعراق، وذلك في خلال ستة أشهر من تاريخ دخول هذه المعاهدة حيّز التنفيذ(1)، وفي ظرف سنة واحدة من تاريخ هذهِ المعاهدة فاتح الكُرد مجلس عصبة الأمم وأعربوا عن رغبتهم في الانفصال عن تركيا، وأقر المجلس رغبتهم في ذلك(2).

لقد تفهَّم البريطانيون الأهمية الاقتصادية للمناطق الكُردية ودورها في استقرارها، وينظرون لهم بوصفهم قوة انفصالية غير راغبة بالمشاركة في بناء مجتمع عراقي موحَّد(3)، وهو ما يبدو ما كان يطمح إليه البريطانيون لتستخدم هذهِ الورقة عند الضرورة.

وحقيقة الأمر أنَّ بريطانيا أولت اهتمامها بالمناطق الكردية بهدف استثمار النفط، ومن ثمَّ تحويلها قاعدة للتوسع القادم في الجبهات الشمالية والغربية والشرقية، والعمل على مواجهة الحركة الكردية القومية الناشئة فيها بالحركة العربية التي اشتد عودها أيضاً في العراق، ومن ثمَّ توطيد السيطرة البريطانية في البلاد كلها، وقد تمّ تنفيذ جميع هذهِ المخطَّطات في مراحل متفاوتة(4).

الإدارة العسكرية البريطانية ويهود العراق:

أبدت الطائفة اليهودية من جانبها ترحيباً بالاحتلال البريطاني للعراق، كون البريطانيين في نظرهم سيُنقذونهم من سوء مُعاملة العثمانيين لهم خلال فترات حكمهم للعراق(5).

ص: 165


1- أوفرا بينغيو، مرجع سابق، ص24.
2- بعد تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق في 23 / آب / 1921م غیرت بريطانيا من سياستها تجاه انفصال الكُرد لتضمها إلى المملكة العراقية، وبعد تقرير اللجنة الأممية التي حسمت قضية بقاء الموصل جزءاً من الدولة العراقية، وأوصت اللجنة ببقاء المناطق الكردية ضمن المملكة العراقية، بعد أن ضمنت لهم حقوقهم القومية في الدستور العراقي، وهذا الموقف الذي عزز من موقع الكرد في واقعة يعود إلى أن بريطانيا أصبحت سيدة الوضع في العراق، وبدأت تشدد من ضغطها على القيادة الكردية للعمل ضمن الدولة العراقية، ولكنها من جانب آخر أسهمت في إرغام الكرد على خدمة مصالحها العسكرية والسياسية في المنطقة، وتبين أنَّها آثرت في المرحلة الأولى في اتخاذ إجراءات ذات طابع سياسي مع استغلال مشاعر الكُرد القومية في الاستقلال. للمزيد، يُنظر : عبد الرزاق الحسني العراق في دوري الاحتلال والانتداب (بغداد، دار الرافدين، 2013م)، ج 1، ص ص 296-300 م. س. لازاريف، مرجع سابق، ص57.
3- عديد دويشا، مرجع سابق، ص52.
4- م. س. لازاريف مرجع سابق، ص.64.
5- إيستر مائير غليتشتاين، رحيل يهود العراق (1948-1951م)، ترجمة مصطفى نعمان أحمد (بغداد، دار میزوبوتامیا، 2016م)، ص 16.

ومع دخول البريطانيين البصرة أواخر شهر تشرين الثاني من عام 1914م، وجدوا اليهود «فيها على استعداد لقبول فرص التعاون معهم، لا سيّما في الجوانب الاقتصادية التي عُرفوا فيها بمجال تفوقهم، لاسيَّما بغداد والموصل والبصرة(1).

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كانت لهم علاقات مع التجار العراقيين اليهود المُهيمنين على التجارةِ في البلد(2)، وقد بدأ النشاط اليهودي هو الآخر على أشدّهِ بعد تزايد البعثات التبشيرية الأوروبية، ففي تقرير بريطاني أوضح أنَّه قد وُزّع بين اليهود في بغداد منشور تحريض طُبع باللغةِ العبرية، وطبعه مُبشِّر يهودي أميركي يُدعى ويليام بلاكتون (Blackton William)، وقد اتخذ المبشرون الاحتياط لمغادرة بغداد قبل ان يوزع المنشور، وقد تضمن المنشور بيان الطريقة التي تعامل بها اليهود في العراق، وما دام اليهود يُعاملون بلا مودة فعليهم ألاَّ يُظهروا منها شيئاً، وأضاف أنَّ الحكومة العثمانية فاسدة، وأنَّ السلطة المركزية العثمانية فاسدة، وقد جاز زمن اليهود للكفاح»(3).

ويبدو أنَّ الآراء المتطرفة لبعض يهود العراق واستغلالهم الأزمة الاقتصادية خلال سنوات الحرب العالمية الأولى دفعت الوالي العثماني فائق بك، ومدير شرطة بغداد سعد الدين الخنَّاق قبل أسبوع واحد من سقوط بغداد عام 1917م بالقبض ليلاً على عددٍ من الصيارفة، بحجَّة أنَّهم سببوا هبوط سعر الأوراق المالية التركية إثر تلاعبهم بسعرها، وامتناعهم عن تبديل الليرة الورقية بالليرة الذهبية، فنكَّل بهم تنكيلاً شنيعاً، وجُدعت أنوفهم، وقُطعت آذانهم ، وسُمِلَت عيونهم، ثمَّ وضعوا في أكياس وأُلقيت جثثهم في نهر دجلة(4).

إنَّ من الأسباب التي أدت إلى هبوط سعر الصرف والتي اتُّهم فيها اليهود يعود في حقيقتهِ إلى صدور «النوط» العُملة الورقية التي أصدرتها الدولة العثمانية لتحل محل

ص: 166


1- أحمد برهان الدين باش أعيان النشاط الصهيوني في العراق (1941-1952م) .. أوضاع اليهود العراقيين، بحث غير منشور 2013م. نسخة منه لدى الباحث.
2- غسان العطية، مرجع سابق، ص 63.
3- فؤاد قزانجي، مرجع سابق، ص93.
4- نبيل عبد الأمير الربيعي اليهود في العراق .. منذ السبي الآشوري والبابلي وإلى تهجيرهم القسري في منتصف القرن العشرين ،،بغداد، دار الرافدين 2013م)، ص 24.

العملة الذهبية والفضية، فانخفضت قيمة العملة لكونها لم تلقَ رواجاً في الأسواق العالمية، وخسر اليهود من تلك الخطوة الكثير؛ لأنَّ أغلب الصرافين هم من اليهود، وبدورها وجهت السلطات العثمانية التهم لليهود(1).

ومهما يكن من أمر فقد أصاب يهود العراق خلال سنوات الحرب الضرر البالغ، لا سيّما رجال الأعمال فقد خضع التجار اليهود والصرافون لرقابةٍ شديدة، لِمَا كانوا يُتهمون بهِ من تخزين البضائع، ومن مُضاربة الأسعار، وليس هذا فحسب بل حاول بعضهم تحاشي الخدمة العسكرية، كما حاول بعض المُجنَّدين الهرب من الجيش، وقد شُنق علناً من قُبض عليه منهم بتهمة الفرار، كما شُنق آخرون بتهمة التجسس، فليس من المُستغرب أن تُرحّب الطائفة اليهودية بدخول القوات البريطانية ترحيباً حاراً، وقد أصبحت هذهِ الطائفة السند الأقوى للإدارة البريطانية(2).

اتضح أنَّ اليهود كانوا أكثر ارتياحاً بالوجود البريطاني فقد كان عددهم في بغداد يومذاك خمسين ألفاً، وخرج معظمهم هاتفين للبريطانيين(3)، وهذا الترحيب بدأ مع نزول القوات البريطانية للبصرة لم تُسجل الطائفة اليهودية موقفاً جديداً بترحيبها بالمُحتلين البريطانيين الجُدد الذين وصلت قواتهم إلى مدينة الفاو في 6/تشرين الثاني/1914م، ومع دخول القوات البريطانية بغداد في 11/آذار/1917م عدَّ اليهود هذا اليوم وهو يوم دخول القوات البريطانية بغداد بقيادة الجنرال ستانلي مود يوماً «معجزة»، احتفلوا بذكراه عدَّة سنين متوالية كونه يومٌ «حَسَن» بالنسبةِ إليهم، إلى حدِّ أنَّهم لم يسجدوا فيه على وجوههم في صلاة الصبح، وأطلقوا أيضاً على هذا اليوم اسم «يوم الأعجوبة»، مدَّعين أنَّهم تنفسوا فيه الصُّعداء باحتلال الإنكليز لبغداد، ووصفوهم بالمنقذين فاستقبلوهم بالتهليل والترحيب(4).

ص: 167


1- أزهار عبد علي حسين الربيعي، موقف النخبة اليهودية في العراق من الهوية العراقية (1920-1952م)، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الآداب جامعة بغداد، 2011م، ص 20.
2- غسان العطية، مرجع سابق، ص131.
3- علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (بیروت، دار الراشد 2005م)، ج4، ص 397.
4- للمزيد، يُنظر : صالح حسن عبد الله، تهجير يهود العراق (1941-1952م)، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية جامعة تكريت ،2003م ، ص 28 نور محمد العبدلي، ساسون حسقيل ودوره السياسي والاقتصادي في العراق (1932-1860م)، (بغداد، مكتبة النهضة العربية 2017م)، ص 73.

وعلى هذا النحو شبَّه أحد الكُتَّاب البريطانيين دخول ستانلي مود إلى بغداد بدخول كورش الأخميني إلى بابل، عندما أعاد لهم نفائسهم التي سُلبت منهم أيام البابليين، فقد شعر اليهود بأنَّ الاحتلال البريطاني كان لهم كالاحتلال الفارسي الذي أنقذ أسلافهم من الأسر البابلي ومن الطرائف التي أُشيعت بين اليهود المقولة الشهيرة:«ايش ما يقول لك الصاحب قُل له يس»(1).

ولم يكتفِ اليهود بالتعبير عن فرحهم بدخول البريطانيين بل أقامت مدرسة الإليانس اليهودية(2) في 16 تشرين الثاني 1917م حفلةً على شرف القوات البريطانية، حضرها قائد القوات البريطانية ستانلي ،مود وتَذكر المِس غيروترود بيل Miss) Gertrude Bell) (1926-1868م) التي رافقت (مود)، عن أحوال اليهود، قائلةً:«إنني عازمة على الانصراف إلى العناية بالطائفة اليهودية، والوقوف على الكثير من التفاصيل المُتعلِّقة بها وبنشاطها العام، مما لا شكّ فيه أنَّ هذهِ الطائفة سيكون لها في يوم ما شأن كبير»(3).

وبالرغم من ذلك فإنَّ اليهود استطاعوا من خلال تشعُّب نشاطاتهم التجارية وانتشارهم في المدن العراقية تمكنوا من ترسيخ قوتهم الاقتصادية بالتدريج، والسيطرة على أغلب الحلقات التجارية ليستفيدوا من وقوع الحرب العالمية الأولى بالتقارب

مع الإدارة العسكرية البريطانية في العراق(4).

وفي أعقاب انتهاء العمليات العسكرية تهافت اليهود بدورهم على التوظف في الدوائر الرسمية، وملأ شبابهم بوجهٍ خاص دوائر المالية والمحاسبات والكمارك والمكوس والبريد والبرق والسكك الحديدية وميناء البصرة، ولم تخلُ منهم دوائر

ص: 168


1- علي الوردي ، مرجع سابق، ج4، ص397.
2- مدارس الإليانس اليهودية هي المدارس التي أنشأها الاتحاد الإسرائيلي العالمي نهاية القرن التاسع عشر في العديد من الدول، وكان لها فروع في البلدان العربية ومنها العراق، فأسست أول مدرسة للإليانس في العراق سنة 1864م. للمزيد، :يُنظر : نوال كشيش محمد الزبيدي، موجز تاريخ اليهود في العراق، بغداد، دار ضفاف، 2015م)، ص86.
3- إليزابيث بيرغوين جيرتروود بيل من أوراقها الشخصية (1914-1926م)، ترجمة: نمير عباس مظفر، (بیروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2002م، ص 122
4- نوال كشيش، مرجع سابق، ص 20.

وزارة الداخلية والعدلية والجيش والشرطة، وشغلوا وظائف شركة النفط وسائر المؤسَّسات البريطانية والوطنية (1)

ويبدو أنَّ سبب تهافت اليهود على الوظائف يعود إلى سياسة بريطانيا، وتقربها إلى الأقليات ومنها اليهودية، فاستخدموهم ووثَّقوا بهم شأنهم في التعامل مع الأقليات في كُلِّ مكان، ولأنَّهم كانوا أكثر إخلاصاً لهم، فتحوا لهم أبواب المؤسَّسات الحكومية، كما فتحوا أبواب المدارس، وكانت مكاتب الحكومة غاصَّةً بهم، حتَّى شغل بعضهم مناصب رفيعة وصلوا إليها في سنوات الاحتلال(2).

درست الإدارة العسكرية البريطانية من جانبها أحوال الطوائف الأخرى ومنها اليهودية بحجَّة سوء أوضاعها في العراق، ففي تقرير سري للحاكم العسكري البريطاني في العراق بيَّن الأوضاع المتردية للمدارس اليهودية في العراق، موضحاً انَّ سبب عدم التحاقهم بالمدارس الأخرى واقتصارهم على مدارس الطائفة المُكتظة بالطلبة:«أنَّهم أُرسلوا إلى المدرسة لا ليتعلَّموا، بل لمجرد أن يبتعدوا عن الأذى من الطوائف الأخرى»، وطالب التقرير بضرورة تزويد بعض المدارس اليهودية بالمال(3).

وبهدف تنظيم الأوضاع في العراق عزمت بريطانيا على تشكيل حكومةٍ محلية في العراق بعد أحداث ثورة 1920م(4)، وناقش الحاكم العسكري أوضاع الطائفة اليهودية في العراق في ظلِّ تشكيل أيِّ كيانٍ سياسي جديد مما أثار اعتراض اليهود، ولتخوفهم من احتمال ظهور كيان سياسي متعصب ضدهم، يُشير تقرير بريطاني أنَّهم أرسلوا التماساً يطلبون فيه أن يُسمح لهم أن يكونوا رعايا بريطانيين إذا ما أُقيمت

ص: 169


1- مير بصري، أعلام اليهود في العراق الحديث (لندن، دار الوراق 2006م)، ص42.
2- صادق حسن السوداني، النشاط الصهيوني في العراق (1914-1952م) ، ،(بغداد، دار الحرية للطباعة والنشر، 1980م)، ص 15.
3- تقارير إدارية لسنة 1918م عن بعض الأقسام المدنية في مناطق العراق المحتلة. للمزيد ، يُنظر : العراق في سجلات الوثائق البريطانية (1914-1966م) ، المحرر: الف دي . ل . ،رش، محرر البحوث جين بريشود، ترجمة: كاظم سعد الدین، بغداد، بيت الحكمة 2013م، المجلد الثاني، ص 134.
4- تُشير الباحثة في تاريخ يهود العراق أنَّه عقب ثورة العشرين اعتمدت الإدارة البريطانية على الأقليات للحصول على دعم في ترسيخ كيانهم. للمزيد، أنظر إيستر مائير، مرجع سابق، ص 16.

حكومة عربية في العراق؛ ليشذوا بموقفهم هذا من جديد عن الشعب العراقي، إلَّا أنَّ المندوب السامي البريطاني في العراق السير برسي كوكس هدَّأ من روعهم، بتقديمهِ الضمانات لحمايتهم من أيِّ شكلٍ من أشكال الاستبداد، بل وأشرك ساسون حسقيل (1932-1860م) كوزير للمالية في أول حكومةٍ عراقية شكلها عبد الرحمن النقيب (1927-1845م) في الخامس والعشرين من تشرين الأول 1920م،(1) ليتعزز موقفهم في ظلّ المملكة العراقية التي ترأسها الملك فيصل بن الحسين في الحادي والعشرين من آب 1921م ، والذي بدورهِ أكِّد على المُساواة في ظلِّ الهوية العراقية.

الإدارة البريطانية العسكرية والطائفة المسيحية في العراق:

إنَّ مسألة الأقليات لا تُعد مشكلةً في حقيقة الأمر، فهذهِ الأقليات ومنها المسيحية التي كان يُقدَّر عددها عند دخول القوات البريطانية ب- (80000) حسب إحصاء نيسان 1920م، وينفرد المسيحيون من بين الأقليات الدينية بالاحتفاظ بمدارسهم الخاصة، فهم إجمالاً أفضل تعليماً من العربِ والكُرد(2)، ففي ظلِّ هذا التنوع القومي والديني لولايات العراق الثلاث لم يكن هدف بريطانيا فقط البحث عن الطرق التجارية وإقامة مراكز تجارية فحسب، بل بدأت تُوظِّف قضايا جوهرية لتتدخل بشكلٍ ممنهج في شؤون الدولة العثمانية، لتجد لها منفذاً آخر من دعمها للأقليات القومية والدينيَّة، وهم أصحاب الديانة المسيحية الذين يُشكِّلون جزءاً من المجتمع العراقي، الذي سَعَت بريطانيا في إيجاد قواعد لها بداخلهِ لتتمحور من خلالها إلى الدولة العثمانية بحجَّة حماية الأقليات المُضطهدة.

عملت بريطانيا من جانبها أن تجد لها موطئ قدم بين الأقليات الدينية ومنهم المسيحيون، لاسيَّما من خلال البعثات التبشيرية، ففي تقرير للموظَّفين البريطانيين بعد أن قررت الجمعية الإرسالية لكنيسة إنكلترا الطبية في الموصل أنْ تُنهي أعمالها بسبب الضائقة المالية، كتب لويد جورج Leorge) عضو مجلس العموم

ص: 170


1- العراق في سجلات الوثائق البريطانية، مرجع سابق، م2 ، ص274 صالح ،حسن مرجع سابق، ص ص 30-31.
2- اللورد لويد دولبران العراق من الانتداب إلى الاستقلال (1914-1932م)، ترجمة: مجموعة مترجمين، (بيروت، - الدار العربية للموسوعات (2002م)، ص 209 .

البريطاني في مذكرةٍ بتاريخ 3/أيلول/1907م: «يجب أن نُدرك بوضوح من وجهةِ النظر السياسية أنَّ وجود الإرسالية وعملها لهما أهمية عظيمة وبعيدة المدى، ومن المُتعيَّن على المصالح البريطانية كذلك إمَّا أن تتطور سريعاً، أو أن تتدهور على مدى العَقد القادم من السنين ، نظراً للتطور الذي يُبشِّر بفتح هذهِ البلاد للاستثمار والمنافسة الأجنبيتين». وقد أمكن لهذهِ الإرسالية أن تستمر في الموصل(1).

ومع بوادر الحرب العالمية الأولى انضم المسيحيون الآشوريون من مناطق حكاري (المنطقة الواقعة بين سهل نينوى وبحيرة وان(2) إلى جانب بريطانيا بهدف التخلص من سيطرة الدولة العثمانية من جانب والتخلص من مضايقات بعض العشائر الكردية والإيرانية من جانب آخر، فاضطروا إلى ترك مدنهم والدخول تحت حماية القوات البريطانية في العراق، حيث دخلت أول المجاميع من وان والقفقاس في شهر آب 1918م بلغ تعدادهم (50) ألف، فقد استغلت بريطانيا من جانبها الوضع السيء للآشوريين، وقررت أن تؤلّف قوات من هؤلاء تستخدمهم في الحملات التأديبية في المناطق المُحتلة، وليُعرفوا فيما بعد بقوات «الليفي»(3).

والمسيحيون هم الآخرون أظهروا تقربهم من الإدارة البريطانية؛ لأنَّهم كانوا بالأمس قد ذاقوا الأمرين من بلايا التجنيد والنوط والمُصادرة وغيرها، ثمَّ وجدوا تلك البلايا تزول عنهم بين عشيةٍ وضحاها، وشعروا بإزاحة كابوس ثقيل كان جاثماً على صدورهم(4).

وقد تقلّد البعض منهم وظائف إدارية والعمل كمترجمين مع القوات البريطانية، في دوائر الدولة الأخرى، لكن الآثوريين الذين استقروا بعد الحرب العالمية الأولى في العراق كان لهم نصيبٌ أوفر من الرعاية البريطانية، ومن الواضح أنَّ أسباب

ص: 171


1- غسان العطية، مرجع سابق، ص 106.
2- Van Gola Lake Van : أكبر بحيرة في تركيا، وتقع في منطقة شرق الأناضول، وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالي (12,500) كيلو متر مربع بعمق (174) متر في المتوسط. والبحيرة مالحة، كما يتواجد في البحيرة عدة جزر صغيرة وتطل على البحيرة عدة مدن منها مدينة (وان) ومدينة خلاط)، وقد عُرفت البحيرة قديماً باسم (بحيرة أرجيش). للمزيد، يُنظر الموقع الإلكتروني: Van_Lake/wiki/org.wikipedia.en//:https
3- وليم خمو وردا، الحماية الدولية للأقليات.. دراسة حالة الحماية الدولية للمسيحيين العراقيين، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2013م، ص ص222-223.
4- علي الوردي ، مرجع سابق، ج4، ص396.

ذلك تعود إلى ما قدمه هؤلاء من مساعداتٍ للسلطات البريطانية في حالة حدوث اضطرابات عن طريق وجودهم في أفواج قوات الليفي(1)، أي أصبحوا قوةً يمكن أنْ تقف بوجهِ أيِّ قوةٍ محلية تحاول تقويض مركز بريطانيا في العراق.

ويُشير باحث معاصر بأنَّه «لم يكن إقدام البريطانيين للآثوريين حدثاً عادياً، وإنمَّا أرادوا بوساطتهم تنفيذ برامجهم في العراق، فجعلوهم يتصورون أنَّ قيام بريطانيا بإسكانهم في العراق هو مكافأة لهم مقابل مساندتهم إياهم في الحرب، وأفهموهم بأنَّهم لن يستخدموهم للدفاع عن العراق، بل وعدوهم بالعودة إلى أوطانهم، فكانوا يأملون من حلفائهم البريطانيين المساعدة بعد عودتهم إلى مواطنهم السابقة، إلى (تأسيس حكم ذاتي) تحت الحماية البريطانية»(2).

ويُشير إلى ذلك آرنولد ولسن القائد العسكري للإدارة البريطانية في العراق عن المسيحيين ومنهم الآثوريون بقولهِ : «لقد جاء معهم مطارنتهم وقسسهم من النساطرة والكلدان والأرمن والكاثوليك والأورثوذوكس، وكان هؤلاء بالنسبة للإشراف الروحي في عهدةِ رأس القساوسة العسكريين»(3).

وبدأت الإدارة البريطانية تجد لها في الأقليات وسيلةً من وسائل التأثير على الواقع الاجتماعي في العراق، عندما بدأت تُثير القلاقل بين السكَّان المحليين بحجَّة حماية المسيحيين، كما حدث في واقعةِ الكويان في قضاء زاخو أحد أقضية لواء الموصل في كانون الأول من عام 1918م عندما طرح أحد الرهبان واقع المسيحيين في القضاء، والتعصب الديني ضدَّهم مع حاكم القضاء (بهسن) ليُثير في نفسهِ العصبية الدينية، وبدأ (بهسن) بإثارة قبائل الكويان فيما بينهم، والتي أدت في النهاية لمقتلهِ وإثارة الفوضى في القضاء، لتُجرد القوات البريطانية بمعية الآثوريين في الخامس من آيار عام 1919م حملةً عسكرية لتحرق القرى، وإخضاع العشائر المتمردة ضدهم(4).

ص: 172


1- أنعام مهدي علي السلمان، بريطانيا وتكوين الدولة في العراق.. أثر السير هنري دوبس في السياسة العراقية (1923- 1929م)، (بغداد ، دار الشؤون الثقافية 2016م)، ص 148.
2- ریاض رشيد ناجي الحيدري الآثوريون في العراق (1918-1936م)، (القاهرة، مطبعة الجيلاوي، 1977م)، ص95
3- سیر آرنولد تي ويلسون مرجع سابق، ج2، ص 114.
4- عبد الرزاق الحسني العراق في دوري الاحتلال والانتداب بغداد، دار ،الرافدين (2013م)، ج 1، ص ص 41-42.

وفي محاولة من قبل الإدارة العسكرية البريطانية إشراك المسيحيين في عددٍ من الوظائف الحكومية، ذكر تقرير بريطاني مؤرخ في 27 نيسان/ 1920م بصدد ذلك:« لا يمكن أن يذكر بين المسيحيين البارزين في بغداد أي شخص يستطيع الكلام أو

الكتابة بلغةٍ أوروبية»(1).

ولعلّ ما يؤشر تقرب الإدارة البريطانية إلى مسيحيي العراق هو مشاركة وفد مؤلَّف من (40) شخصية عراقية أغلبهم من اليهود والمسيحيين، المؤيدين للسياسة البريطانية الذين قابلوا آرنولد ويلسون لعرض مطاليبهم الوطنية(2)، وأضاف التقرير البريطاني حول ذلك اللقاء أنَّ أوضاع المسيحيين في ظلِّ تشكيل كيان سياسي في العراق قلق، وصرحوا أنَّ موقف المسلمين منهم أصبح قاسياً»(3).

وهذهِ الإشكالية التي خلقتها ظروف السياسة الاستعمارية في المنطقة العربية والعراق على نحوٍ خاص موظَّفةً التنوع العِرقي والديني، لتصبح إشكالية مُستديمة تواجه الحكومة العراقية، لا سيَّما بعد تشكيل الحكومة العراقية في 23/آب/1921م، وقد عبَّر الملك فيصل الأول عن شكواه من ذلك بمرارةٍ عندما أشار بمذكرتهِ الشهيرة عن العراق:«إنَّ البلاد العراقية من جُملةِ البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية المللية والدينية، فهي والحالة هذهِ مبعثرة القوى منقسمة على بعضها، يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء مادةً ،ومعنىً غير مجلوبين لحساسياتٍ أو أغراضٍ شخصية أو طائفية أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوةِ معاً»(4).

ص: 173


1- العراق في سجلات الوثائق البريطانية، مرجع سابق، م2، ص 240.
2- طارق مجيد تقي البلداوي، مقدمة في تاريخ العراق السياسي المعاصر، (بغداد، مؤسسة ثائر العصامي 2016م)، ص 64.
3- العراق في سجلات الوثائق البريطانية (1914-1966م)، مرجع سابق، م2، ص275.
4- عبد الكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق .. تحليل للعوامل الطائفية والعنصرية في تعطيل الحكم الديمقراطي في العراق والحلول الضرورية للتغلب عليها، بيروت، د.م.، 1991م)، ص2.

الخاتمة

لم يكن اهتمام الإدارة البريطانية العسكرية بالعراق فحسب، بل عَمِلَت على إيجاد سياسةً أخرى للتعامل مع القوميات والأقليات الدينيَّة، ومنها استمالتها إلى جانبها، وتوظيفها في المناصب الحكومية إلى جانبها كي تكون ملتصقةً بها، كونها صاحبة الفضل في تبوئها تلك المناصب.

من جانبٍ آخر بروز ظاهرة القمع والإذلال المُتعمد في التعامل مع أبناء البلاد، من خلال مظاهر الاستبداد السياسي والقمع العسكري، محاولةً إثارة الفُرقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع العراقي، بوسائل سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة (كالحروب أو الصراعات الداخلية)، أو ((الشللية) - الكتل الحزبية أو العشائرية أو الدينية أو الطائفية أو العنصرية... إلخ). من خلال عناصر حاولت ربط مصالحها الخاصة مع مصالح المُحتل الأجنبي، ليس في مراحل الاحتلال العسكري المباشر فحسب، وإنمَّا في مرحلة ما قبل الاحتلال وبعدهِ، فضلاً عن الإسقاطات التي قد يخلقها المرتبطون والمستفيدون من المُحتلين بعد رحليهم أيضاً، ولعلَّ واحدةً من نتائج الاحتلالات الأجنبية المستمرة للعراق، أنَّها أدت إلى محاولات تزويق وتعميم ثقافة الفُرقة بين أفراد المجتمع الواحد، واستغلال بعض العناصر الداخلة في تكوينة المجتمع العراقي(1).

مهما يكن من أمر فإنَّ الإدارة البريطانية وسياسة التجزئة التي اعتمدتها تجاه العراق توضح مدى اعتمادها على الأقليات القومية والدينية؛ لتُحقق بدورها مآربها في المستقبل، وتلعب على وتر تلك الأقليات بحجَّة الدفاع عن حقوقها المسلوبة، للضغط على الحكومة العراقية، وهذا ما تحقَّق فيما بعد من خلال استخدام ورقة الآثوريين والكُرد، مستغلةً مشاعرهم الدينية والقومية الرافضة لحكم الأكثرية العربية، وهذا ما جعل فيما بعد بريطانيا تحقق من خلالهِ مصالحها، الأمر الذي أحدث شرخاً في داخل بُنية المجتمع العراقي، حتّى بقي يُعاني منه إلى الوقت الحاضر نتيجةً لتكريس تلك السياسة.

ص: 174


1- عبد الرحمن البزاز العراق من الاحتلال حتّى الاستقلال، ط2، بغداد، 1967م)، ص39.

الهيمنة الأميركية في العراق: مقاربة في الاستعمار الجديد

اشارة

عامرعبد زید الوائلی(1)

هذا العالم الذي يصور نفسه بأنه متساوٍ في حضارة واحدة نعيش جميعاً فيها لأول مرّة طيلة تاريخ طويل من التمايز والنفي المزدوج، لكن تبقى هذه الحضارة الإنسانية الواحدة مجرّد طلاء طلي العالم محاولاً إخفاء القسمات المتوحِشة للاستعمار والهيمنة والفقر والنفي العنصري التي عانى فيها عالمنا الثالث من هيمنة، العالم الأوّل، وما زال وطني يعاني منها كل يوم.

إنّ استراتيجيّة التمثيل ونشر الديمقراطيّة المعزّزة بالقوة الطاغية التي تريد أن تفرض قيمها وأولويّاتها على الآخر بالقوة بدلاً من الحوار والتعاون والتثاقف

وهي لا تَعْيَ من تاريخ الصراع، فهو لا ينجم عنه؛ إلا مزيداً من العنف وتاريخاً من الحرمان والتمييز المشترك، والتباين تغذيه فلسفات عنصريّة كما تتجلى اليوم فكر المحافظين الجدد، وتوظيفها الذرائعي للدين وتبريراتها التي تختلق تقابلاً وتضاداً مع العالم الإسلامي بدلاً من بحثها عن أشكالٍ من التعاون القائم على النديّة

ص: 175


1- أستاذ ودكتور في كلية الآداب قسم الفلسفة - العراق.

عوضاً عن الإخضاع والتبعيّة. مما يجعل هذا العالم الحديث الذي يقدم حقوق الإنسان كأهم منجز له نجده يهدر هذه الحقوق على يد نظريّة العدو التي يعتمد عليها المشروع الإمبراطوري الجديد في عصر القوة الأميركيّة في تعاملها مع الآخر وتصنيفه كعدو؛ لأنّه يختلف عقائدياً أو فكرياً أو يعدُ مستقلاً اقتصادياً يتم نفيه وتحويله إلى عدو حقيقي أو افتراضي. إنها صنوفٌ من التفرعن والتعسف، تتعارض مع مشاريع التحديث والتعدد والديمقراطيّة.

فما حدث وما يحدث بحاجة إلى ضربٍ من المراجعة، في ظلِّ مشاريع الحداثة بمختلف مستوياتها الإدراكيّة فهي تختلف عن الفكر التقليدي، فهذا الأخير ليس بمقدوره الخروج على ذاته ونقدها، فما تفتقد له مجتمعاتنا التقليديّة هو القدرة على دراسة أخطائها وروح النقد والشجاعة في الكشف عن عيوبها وأزماتها المزمنة، مثلما يحدث في الفكر المعاصر الذي يتوجب عليه ممارسة نقد الأفكار الشمولية القائمة على الهيمنة واحتلال الشعوب والتلاعب في مصائرها .

وسوف نحاول أن نستعرض الإستراتيجيّة الأميركية من خلال تأصيل الرؤيّة والمنهج في نظرتنا إلى الموضوع في تمهيد منهجي، ثم حاولنا التركيز على دور الشركات ومراكز البحوث في إدامة الصراعات ومشاريع التسلح بالمنطقة، ومن ثم

عودة أميركا بشكل آخر، عبر مشروعها الجديد في العراق.

تأصيل الرؤية والمنهج

إن روح النقد ديدنه وهي أن تضع كل سند أن تضع كل سند موضع الشك، وظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها. وقد تنتهي من بحثها هذا إلى الإنكار ، أو إلى الإقرار، فنحن نواجه أشكالاً جديدة من الفكر الإمبراطوري الأميركي الذي ينشد فرض إرادة الهيمنة على الآخر وإعادة رسم سياسته بأشكال متنوعة من الهيمنة السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة وأحياناً باستعمال العنف والإرهاب وأشكال من الفوضى الخلّاقة.

ص: 176

الأطروحة:

فهي بالتأكيد تعبر عن موقفنا النقدي مما يجري في بلدنا من أحداث وصخب وعنف متوحِّش، فنحن نتأثر وننفعل لهذه الأحداث إذ ندفع الثمن غالياً لما يحدث لهذا البلد.

هذه المقاربة النقديّة يجب أن تُخضِع كل ما يحدث في المنطقة التي تهيمن عليها أميركا ومن ضمنها بلدنا وكل الأطاريح السياسيّة والإستراتيجيّة تبين هذا الأمر بأنّه بمثابة شكل جديد من الهيمنة الكونياليّة؛ لكنّه يحدث بآليّات جديدة نعم إنّ (الاستعمار ليس مجموعةً من المصادفات، إنه أنشئ في حوالي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وبدأ يؤتي ثماره في حوالي 1880م، ودخل في حدود الانهيار عَقِبَ الحرب العالميّة الأولى وهو اليوم يرتد على الأمّة المستعمرة)(1): لكن يبدو اليوم أنّ هناك إعادةَ صياغةٍ للاستعمار بمسمّيات جديدة من قبل مراكز البحوث المدعومة من لوبيّات ومراكز قرار وشركات النفط والنتاج العسكري فكلها تتعاضد في فرض سيطرتها على مراكز الطاقة إذ تحوّلت إلى مناطق قلقة حتى تشغلها بالصراعات الإثنيّة والقوميّة(2).

راهنيّة المشكلة :

أعتقد أنّ هناك حاجة ماسّة إلى حد كبير للبحث في هذه القضيّة وهذه الحاجَة تسوّغ الاهتمام بها كراهنيّة تدفعنا إلى الكشف عن واقعنا الراهن الذي نعيشه الآن هنا في العراق وبكل النتائج الكارثيّة التي جعلت من الضرورة أن نطرح هذه المشكلة، ولكن بطريقة نقديّة تهدف إلى ممارسة آليّة القلب الكامل لهذا التمثيل الذي تقدِمه مراكز البحوث الأميركيّة وهي تشرعن إلى الهيمنة وتسوِّغها من الطرف المهيمن (أميركا) كونه يبحث عن مصالحهِ وحماية أمنهِ الوطني ومن ناحية المهيمَن عليه

ص: 177


1- جان بول سارتر، الاستعمار الجديد، ترجمة عايده وسهيل ادريس دار الآداب، ط2، بيروت، 1966م، ص 21.
2- انظر: نصر محمد علي، دور لوبي المجمع الصناعي العسكري في الاستراتيجية الأمريكية، المركز الثقافي للطباعة والنشر ،ط1 ،بابل 2003م . وكانت تلك الشركات وهي تغدق بتبرعاتها تفضّل الجمهوريين على الديمقراطيين... الجمهوريون أكثر ميلا لتنفيذ الهيمنة باستعمال القوة العسكرية...74-75.

(العراق)؛ كونه يعاني من أزمات اجتماعيّة وسياسية وفساد وحروب فضلاً عن الإرهاب، وهو بحاجة ماسة إلى مساعدات اقتصاديّة وأمنيّة وهذا يسوّغ تدخل أميركا؛ كونها تقدم العون للعراق كونهما شركاء في محاربة الإرهاب وتقديم العون الأمني والاقتصادي فهذه المبررات بحاجة إلى التحليل والتفكيك وإعادة التوصيف لها . إنّ من يتقبل ظاهر النصوص من دون أن يخضعها إلى التحليل والفهم يكون فهمه قاصراً على الرغم من أنّ البعض كما يقول سارتر (إذا اكتشفت سبباً آخر لعدم الفهم، أعطوك في بلدك جائزة برهافة الحس)(1)وهذه كناية عن تشجيع الصمت على ما هو سائد.

الأطروحة المنفية:

أي التي نحاول هنا الاستدلال على تهافت التمثيل الأميركي لشرعنة الهيمنة التي نضعها من ضمن «مقولة الاستعمار أو الكونيالية الجديدة» إذ يعد مفهوم الاستعمار/الكونياليّة من المفاهيم التي ارتبطت بحقبة معيّنة من تاريخ الغرب خاصّة وتاريخ العالم عامّة والذي ارتبط بجملة من الأفكار والمظاهر الثقافيّة في توصيف وتمثيل الآخر، فمن توصيفات ظاهرة الاستعمار أنها تسعى إلى فرض سيطرة الدول القويّة على مقدَّرات الدول الضعيفة من أجل استغلال خيراتها في المجالات (الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة)، وهي بالآتي ينتج عنها نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمَرة، فضلاً عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة على الرغم من أنّ معظم المستعمرات منفصلة عن الدولة المستعمِرة ببحار ومحيطات. وغالباً ما ترسل الدولة الأجنبيّة سكاناً للعيش في المستعمَرات وحكمها واستغلال مصادر ثرواتها. وهذا ما يجعل حكام المستعمَرات منفصلين عرقياً عن المحكومين

فهذه التوصيفات للظاهرة كانت نتيجة لما تركته من آثار وأفكار تبين أنّها تمثيل محض وشرعنة إلى القوة وتبرير لها، إذ تمّ تطويع المعرفة حتى تبرر الهيمنة؛ فظهر

ص: 178


1- جان بول سارتر، الاستعمار الجديد، ص 5.

الكثير من الأفكار في مجال المعرفة وفلسفة التاريخ والاستشراق تُبرِر الهيمنة وتعدها محاولةً لتحويل وتحديث تلك الدول.

ولعل هذا ما يمكن استنتاجه من سير تلك المعارف وما كانت تحاول أن تقدمه من أطروحة معتمدة على سندات علمويّة واهية معرفياً وبالآتي فإنّ أطروحة الاستعمار تمثَّل هنا الأطروحة السلبيّة التي نحاول بيان نواقصها وارتباطاتها التي هي مجرد هيمنة محضة ليس أكثر. (1)بعدما انهار المشروع الإقصائي الكونيالي وظهرت بدلاً عنه عوالم جديدة سرعان ماتمّ تدجينها في عالم ثنائي القوة؛ لكن بعد ما انهار هذا العالم بدأت تظهر سيناريوهات تحاول إن تبني تصوُّرات جديدة وهي تحلم بالسيطرة المنفردة على مقدّرات العالم: وذلك من خلال ترسيخها الصراع بوصفه مصيراً حتمياً(2).

المبحث الأول: علاقة العراق بالولايات المتحدة الأميركيّة

على المستوى العمودي:

وهي مرتبطة هنا بالحقبة الاستعماريّة، اذ لم تمنع سياسة العزلة التي عُرفت بها الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر الميلادي من اتجاهها نحو فتح آفاق مع بقيّة دول العالم؛ وذلك لضمان أمنها الاقتصادي، وقد دخلت المصالح الأميركيّة إلى العراق في البداية عبر البعثات الاستكشافيّة (بعثة شوفلدت -1878م) والتي اعقبها تعيين قناصل ونوابهم في بغداد، بعد أن كانت القنصليّة البريطانيّة في بغداد هي التي تتولى الإشراف على شؤون الرعايا الأميركيين بصفة غير رسميّة.

وقد استطاعت الولايات المتحدة من الحصول على حصّة في الامتيازات النفطيّة في شركة نفط العراق بعد الحرب العالميّة الأولى. إذ كان النفط هو الدافع الأساس السياسة الأميركيّة تجاه ،العراق، إذ جاء الاهتمام به في المرتبة الثالثة بعد إيران

ص: 179


1- في مجال نقد الاستعمار هناك كثير من الأسماء المهمة يمكن العودة اليها في هذا المجال منها: هومي.ك.بابا، موقع الثقافة، ترجمة، ثائر ديب المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 2006م.
2- انظر اشبینجلر، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة احمد الشيباني، بيروت، 1964.

والمملكة العربيّة السعوديّة حتى أصبح النفط يدرج من ضمن اهتمامات الأمن القومي للولايات المتحدة وبعد نهاية الحرب العالميّة الثانيّة مرّ بمراحل، فقد تركّز على متابعة القضايا الاقتصاديّة بالدرجة الأولى عبر تعزيز الاتفاقيات التجاريّة والامتيازات النفطيّة في مطلع القرن العشرين وفي هذه المرحلة الاستعماريّة كان العراق يعتمد على بريطانيا في تسليح جيشه.

أما في أعوام الخمسينيّات من ذلك القرن تتّضح أهميّة العراق من خلال التفكير السياسي والإستراتيجي الأميركي عبر مقولة الرئيس دوايت إيزنهاور:«إن العراق حصن الاستقرار والتقدم في المنطقة»(1). وفي هذه المرحلة كان هناك مظهران للتعاون في المجال الأمني بين العراق والولايات المتحدة الأميركيّة، تمثّل، أوّلها: في عقد اتفاقيّة المساعدات العسكريّة التي أطلق عليها توصيف (اتفاقية الأمن المتبادل في عام 1954م). وثانيهما عندما أصبح التوجه الأمني نحو العراق يرتبط بسياسة الأحلاف، فكان تأسيس حلف بغداد بقيادة بريطانيّة وبمشاركة كلٍ من : (تركيا وإيران وباكستان) إلى جانب العراق، ولكن برعاية أميركيّة مباشرة(2). وشهدت مرحلة السبعينيات محاولة أميركيّة واضحة لربط ما سمي آنذاك بأزمة الطاقة بالأمن القومي الأميركي، وبدأ الحديث عن خطر تلك الأزمة وتأثيره في الأمن القومي الأميركي وفي الدول الصناعيّة والتي تقف في مقدمتها أوروبا واليابان(3).

وفي عام 1991م ، وفي إطار أزمة الكويت وأبان العدوان الأميركي على العراق فيما سمي ب- (حرب الخليج). أطلق على تلك المرحلة بمرحلة (سياسة الاحتواء).

على المستوى الأفقي:

الانتقال من سياسة الاحتواء إلى الحرب، فعلى طول أعوام التسعينيات كان العراق

ص: 180


1- كوثر عباس الربيعي استحقاقات المشروع الأمريكي في العراق مجلة الشؤون العراقية العدد الأول، 2008م . ص 212
2- وانظر: جهاد مجيد محي الدين العراق والسياسة العربية (1941-1958م)، مركز دراسات الخليج العربي، جامعة - البصرة، 1980م، ص .258
3- كوثر عباس الربيعي استحقاقات المشروع الأميركي في العراق، ص 213.

هدفاً لإستراتيجية الاحتواء المزدوج والحصار، لكن بعد وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول 2001م وجدت الإدارة الأميركية في تلك الأحداث فرصة لتصفيّة حساباتها مع العراق وإسقاط نظام الحكم فيه. وقد كانت أهداف الحرب تكمن في فرض وجود عسكري أميركي مباشر في المنطقة لضمان التفوق في هذا المجال وبسط السيطرة على نفط العراق الذي يشكل ثاني احتياطي في العالم، وحماية أمن اسرائيل بتأثير اللوبي الصهيوني، وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط على وفق المصالح الأميركية، وهذا ما كشف عنه التقرير الذي صدر من وزارتي الخارجيّة والدفاع الأميركيتين بعد الاحتلال الأميركي للعراق بمدّة وجيزة (قال الرئيس جورج دبليو بوش في 2003/12/20 إنّ الولايات المتحدة لم تقم بغزو العراق؛ لكي تنسحب منه، ولكنّها ذهبت من أجل مصالح وأهداف ينبغي تحقيقها، وأوصى التقرير بعدد من الاجراءات لتحقيق تلك المصالح والأهداف)(1).

يبدو أنّ أميركا قد استفادت من الحرب العراقيّة الإيرانيّة إذ تمّ الاحتواء المزدوج إلا أنها قرّرت تدمير العراق يوم دعمت تدخله في الكويت وأوحت له بعدم تدخلها الأمر إلا أنها قررت بعدها تدمير العراق وقد علّلت هذا (بأنّ إرسال قوات إلى العراق جاءت بطلب من (فهد) حقاً، وبهدف ردع العراق والدفاع عن صديق)(2)وقد ورد في مذكرات جورج بوش هو بحثه الجدي عن كيفيّة إقناع الكونغرس والشعب بأنّ هذه الحرب القادمة لن تكلِفهم الكثير، وأن أرباحها ضخمة. هكذا كان يتم تبرير الحرب عبر البحث عن منافع وإن كانت تتسبّب في دمار شعوب أخرى مثل العراق الذي تعرّض إلى الاحتواء والحرب ثم الحصار ثم الاحتلال ومن خلاله الحرب الأهليّة ثم ،داعش والآن الانفصال والتشرذم وقد يكون مرد هذا كما يقول مايكل شوير: (إنّ الأميركيين قد تورطوا في مثل هذه الحرب، لأنهم خطّطوا جيدا للغزو

ص: 181


1- كوثر عباس الربيعي استحقاقات المشروع الأمريكي في العراق 215-216. وانظر: شيرين حامد فهمي إستراتيجية إعادة النظر: وضع حد للإخفاقات الأميريكية، نشر تقرير واشنطن (الكترونية) على الانترنيت العدد 114:23 يونيو/ حزيران 2007م
2- المرحلة الحرجة للأمة الأمريكية في مذكرات جورج بوش الأب . مجلة رؤية الثقافية، ع 2»ن مركز ابن إدريس الحلي، 2010م، ص74.

لكنهم أهملوا الفترة التي تلي إسقاط النظام، وكيفيّة إدارة العراق وأي دور سيسند إلى العراقيين في تقرير مستقبلهم)(1).

يبدو لي أنّ الأمر ليس بهذه الشاكلة؛ بل أنّ أميركا بعد احتلال العراق رفعت سقف تطلعاتها إلى طرحها إستراتيجيّة الشرق الأوسط الجديد من أجل توسعها؛ ولهذا حاولوا أن يجعلوا من العراق نقطة انطلاق، فقاموا بمخططاتهم الإستراتيجيّة المتمثلة بالآتي: أوّلاً أن تسهم الولايات المتحدة وبشكل مباشر في تحديد معالم النظام السياسي المستقبلي في العراق. وثانياً عدم التسرع في سحب القوات الأمريكيّة قبل تأمين الأوضاع السياسيّة وقبل انتقال تلك القوات إلى قواعد دائمة في العراق. وثالثاً التعامل مع القواعد الأميركيّة في العراق كونها من أهم ضمانات النفوذ الأميركي في العراق. ورابعاً ربط العراق بسلسلة من الاتفاقيات امنيّة والاقتصاديّة. فيما جاء خامساً توسيع السفارة الأميركيّة في بغداد إذ لا يقل عدد العاملين فيها عن ثلاثة آلاف موظف في مختلف الاختصاصات الأمنيّة والاستخباريّة. وسادساً: إعادة النظر في أواخر 2006م ووضع المبادئ الأساسيّة لاستراتيجيّة جديدة في العراق والتي عدّت بمقتضاها الخطر الإيراني وعودة تنظيم القاعدة (2)؛ إلا أنّ لكل إستراتيجيّة لابد أن يكون لها مقاومة تختلف معها في المنطلقات وتحاول من إفشال مخططاتها.

فهذا جاء رد فعل الدول التي كانت تتوجس من التواجد الأميركي في العراق والمخطط المعلن عن الشرق الأوسط الجديد اذ اتّسمَ موقف دول الجوار من التواجد الأميركي بالرفض إذ يمكن القول (إنّ الدول المجاورة للعراق انقسمت ما بين رافض للوجود الأميركي ومؤيد له. وتمثّل الرفض بكل من إيران وسوريا بوصفهما يواجهان ضغوطاً أميركيّة منذ احتلال العراق في نيسان/ أبريل 2003م. وإنّ بقاء القوات الأميركيّة يشكّل تهديداً لأمنها القومي) (3). هذا ما يمكن وصفه بالإستراتيجيّة وموجهاتها والقوى المستهدفة.

ص: 182


1- مايكل شوير السير نحو الهاوية (أمريكا والإسلام بعد (العراق) ضمن مجلة رؤية الثقافية ، ع 5) ان مركز ابن إدريس الحلي، 2010م، ص 101
2- المرجع السابق، ص 216 وانظر: غراهام فولر إلى متى تدوم الامبراطورية الامريكية في الشرق الاوسط، الجزيرة نت في 2003/7/13م.
3- عامر كامل احمد ، مواقف الدول الإقليمية من آلات مرشحي الرئاسة الأميركية حيال ،العراق، مجلة شؤون عراقية العدد الاول تشرين الأول 2008م، ص109.

أهم المرجعيات الإستراتيجية الأميركية في العراق:

إنّ الشعارات المعلنة عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان ونصرة الشعوب لا توجِه الاستراتيجيّة الأميركيّة بل توجهها المصالح الأميركيّة(1)، ومن يحدد هذه المصالح هي قوة أميركا المتمثلة بالقوّة الضاغطة لأصحاب المصالح من صنّاع السياسة، ومراكز البحوث والشركات التي تبحث عن أسواق لها هذان العاملان مهمّان في فهم واستيعاب الهيمنة الأميركيّة (فيما يتعلّق في بنية المجتمع، إذ إنه يتكون من تحالف شركات الدفاع (جماعة المصالح) والبنتاغون (البيروقراطيّة) ولجان القوات المسلحة في مجلسي الشيوخ والنوّاب (الكونكرس) إضافة إلى مراكز الأبحاث المرتبطة بالبنتاغون)(2)وبالآتي فإنّ بنية المجتمع الصناعي العسكري تقوم على شراكة تضم: مالكي الصناعات ذات الإنتاج الحربي، وهم يمثِّلون جماعة ضغط، والمسؤولون الحكوميون الذين لهم سلطة أو مصالح في الإنتاج الحربي، والنوّاب الممثلون لولايات تستفيد اقتصادياً من

الاتفاق الحربي(3).

فمراكز البحوث تحاول تبرير تلك الحاجات ومنحها مصداقيّة من خلال إقناع المحتل الأميركي من ناحية والعراق من ناحية أخرى بقبول الهيمنة كونها تقدم له العون في مواجهة الإرهاب والتفكك والفساد عبر المعونات الاقتصاديّة والتدريب ودعم التفاهمات بين الأطراف المتنازعة من ناحية ثانية.

أسهمت بدور كبير في تأكيد الحضور الأميركي كقوة (Super power) على مستوى العالم. إن كثيراً من المشكلات والأزمات الاقتصاديّة قد تم حلها عبر متغير الحرب والسلام. إنّ هذه المؤسسات لم تنفك يوما عن إمداد الماكنة الانتخابيّة للرؤساء الأميركيين بالمال في حملاتهم الانتخابيّة تدعم حركة الأبحاث وتستثمرها

ص: 183


1- انظر: سعد سلوم امبراطورية العقل الأمريكي، مسارات، ط1، بغداد، 2006، ص .129
2- نصر محمد علي، دور لوبي المجمع الصناعي - العسكري في الإستراتيجية الأمريكية، ص 20-21. وانظر: .Stephen V.Monsma, op. cit.p.204
3- المصدر السابق نفسه ص 21 وانظر فؤاد موسى المجمع الصناعي - العسكري الإسرائيلي، مجلة المنار باريس، ع ،477 ، 1988، ص 27.

لصالح المؤسسة العسكريّة، على الرغم من كون هذه المخترعات تم توظيفها في القطاع المدني فيما بعد(1).

وإذا نظرنا إلى الوضع العراقي من خلال تلك المعادلة نجد أنّ النوازع البرغماتيّة لدى أصحاب المصالح هي المحركة وهذا يذكرنا ببداية الاحتلال، (فما أن تحقق احتلال بغداد عسكريا ، حتى لحقت بالحملة أسراب من رجال المصالح والشركات واللوبيات كلٌ يبحث عن فرصته التي انتظرها طويلا، غايتهم في ذلك أن يقتنصوا ما يقدرون عليه، وتمثيل جماعتهم أو لوبياتهم)(2).

المبحث الثاني: المرجعيّات السياسيّة والإعلاميّة والإستراتيجيّة

في بحثنا عن المرجعيات السياسيّة والإعلاميّة والإستراتجية، من الضرورة إدراك أهميّة الرأي العام إذ (جميع موظفي الدرجة الأولى في الولايات المتحدة ابتداءاً من رئيس الجمهوريّة إلى الوزراء إلى أعضاء الكونغرس بمجلسيه، يقعون تحت ضغوطات الرأي العام الهادف إلى معرفة كل التفاصيل الخاصّة بالشخصيّات العامّة فی البلد)(3)، فالداخل الأميركي وما يتعلق بالرأي العام (تعد الانتخابات والاقتراع شكلاً من الأشكال التي تحقق مكانة مهمّة في الرأي العام ودوره في العمليّة السياسيّة باعتبارها الإطار العام الذي يشهد بلورة وتحديد السياسة العامّة)(4)، فالتأثير في الرأي العام يبرز هنا مرجعيّات فكريّة سياسيّة وإعلاميّة، لقد هذا الخطاب الأميركي خلفيّة فكريّة متمثلةً في الفكر السياسي لدى المحافظين الجدد الذي يعود إلى تلك المرجعيات السابقة يضاف إليها اثر شتراوس كما تجلّت في هارفي مانسفيلد(5)

ص: 184


1- عبد علي كاظم المعموري انكفاء الامبراطورية الامريكية...، ص 133.
2- R.Alen Hays - How speaks for the poor? National interest Groups and social policy, Garland press forthcoming 2001.
3- Leonard Levy - The Emergence of a free press-oxford up 1985,p 47.
4- نصر محمد علي جماعات الضغط والمصالح والسياسة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، المركز الثقافي للطباعة والنشر، ط1، بابل، 2014م، ص 147. وانظر منصف السلمي، صناعة القرار الأمريكي، مركز الدراسات العربي - الأوربي، واشنطن، ط1، 1997م، ص.257
5- سمير مرقص ، الامبراطورية الامريكية ثلاثية الثروة والدين ،والقوة، بحث منشور على الانترنيت: ttp:llwww.islamonlie.coml2005

وتلميذه فرانسيس فوكوياما الذي يعد أحد قطبي التفكير الإستراتيجي أمّا القطب الثاني فهو: صاموئيل هنتنغتون وقد كانت مقولة الأول: (فوكوياما) تتمثّل في نهاية التاريخ والتي تُظهر المرجعيّة الليبراليّة بكل آثارها السلبيّة في كونها تعد لحظة اكتمال السقوف النهائيّة التي وضعها المنظرون الليبراليون(1). أمّا الثاني: فقد تمثّل في مقولته الموسومة ب- ( صراع الحضارات) الذي يتّسم بضيق الأفق الفكري والتاريخي وإنما مع المدى المتوسط الذي يفرز وقائع تشكل نمطاً من أنماط السلوك مع التكرار(2). فقد رسم صاموئيل هنتغتون صورة الغد والحضارات ببعضها والتجمعات الإثنيّة.. والقوميّة في عالمنا ،اليوم، فالصراع البشري مستمر وسيستمر إلا أنّه انتقل من صراع تقليدي إلى صراع أيديولوجي كان محكاً لاختبار تجارب القرن الماضي في آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينيّة إذ يرى أنّ الخلافات الثقافيّة سوف تأخذ موقعاً عالمياً متقدماً تلك الخلافات القائمة على الاتجاه الاقتصادي الجديد وعالميّة السوق الحرّة، وتحويل الفكر الإنساني وثقافته إلى سلع استعماريّة من ضمن منهج استهلاكي، لكن تظل العلامات الثقافيّة جوهراً للصراع القادم إذ سيكون المصدر الثقافي هو المسيطر على النزاع(3).

إننا نستطيع أن نقول إنّ الاجترار الإعلامي قد حوّل هذه العلامات إلى رأي عام وابتداءاً من كونها رأياً كونياً. فهي تدخل من ضمن آليّات جديدة أخذت تطبع عالمنا المعاصر لا هي بالآليات المنطقيّة ولا بالآليات الأيديولوجيّة، مع ما يفترض فيها من تشويه ،وقلب وإنما هي آليّات تجعل الأشياء حقيقة بمجرد التأكيد على أنها كذلك»(4).

فإنّ تلك الأطر النظريّة التي تحاول أن تضع مقدرات العالم في منظار أميركي

ص: 185


1- انظر فرانیس فوكوياما ، نهاية التاريخ ترجمة ،وتعليق حسين الشيخ دار العلوم العربي، لبنان، 1993م. وانظر: فرانسس فوكوياما، التصدع ،العظيم، ترجمة عزة حسين كبة بيت الحكمة، ط1، بغداد، 2004 ص .290 251-
2- انظر: صاموئیل هنتنغتون صدام الحضارات ترجمة مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق بيروت -1995م.
3- هنغتنون صاموئيل، صدام الحضارات، ص 17-19
4- عبد السلام بن عبد العالي في الحوار بين الثقافات والصراع بينها المحور ، م / نقد وفكر.

تكون بها أميركا ممثلةً للعالم الحر من ناحية وتضادها مع العالم الإسلامي ممثلاً بالإرهاب وأشكاله المتطرفة. فإنّ معالجة هذا الأمر في خلق خطاب سياسي يرسم الأبعاد الإستراتيجيّة ويمنحها إطاراً فكرياً ينطلق من مقولة «صناعة العدو»(1)وهي مقولة قديمة في الخطاب الإستراتيجي الأميركي كما عبرّ عنه هنري كيسنجر (هناك مشكلة عقلانيّة عميقة في سياستنا الخارجيّة اليوم، و تتمثل في أن أي غياب لتهديد منفرد وساحق من مثل التهديد الذي واجهناه في سنوات الحرب الباردة، سيجعل من الولايات المتحدة فاقدة لحاسة الاتجاه الذي تسلكه)(2). اذ يعد العدو هو الذي يوجه المسار، سواء أكان عدواً حقيقياً أم افتراضياً إلى جانب هذا العدو هناك طموح لدى كل رئيس أميركي أن يضع له بصمةً في تاريخ العنف الأميركي بحق الآخر وهذا ما يشير له كولن باول: إنّ كل رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأميركيّة يحتاج إلى تخليد لذاته(3). يمكن أن نأخذ بُعْدَيْن في تبيان السياسة الأميركيّة بشكلها العام وموقفها من العراق اليوم من خلال استعراض مفهوم الفوضى الخلاقة أوّلاً ، ثم موقف أميركا اليوم من العراق ثانياً:

أولاً: مقولة «الفوضى الخلّاقة فى الاستراتيجيّة الأميركية:

لعلّ أبعاد صناعة العدو تتجلى من خلال مفهوم «الفوضى الخلاقة Creative Chaos)».

يبدو أنّ هذا المفهوم أساساً يعتمد على بعدين الأوّل في مجال العلوم أما الثاني فيتعلق بالتوظيف في مجال السياسة وهي بالشكل الآتي:

1 - المرجعيات العلمية لمفهوم الفوضى الخلاقة:

ينطلق من مرجعيّات علميّة تختلف مع التصورات القائلة بالتطور الخطي

ص: 186


1- انظر صموئيل هنتننغتون من نحن؟، ترجمة حسام الدین ،خضور، دار الأي للنشر ، ط 1 ، دمشق، 2005، ص 263.
2- المصدر نفسه، ص 137. وانظر فخري الهواري، هل يشهد القرن الواحد والعشرين انهيار الولايات المتحدة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجيّة ، القاهرة ع / 126،1996م، ص 51.
3- المصدر نفسه، ص 146 ویری حسنين هيكل ان بثبات فكرة أن لكل رئيس أمريكي صولة عسكرية في العالم، يراد لها أن تسجل في التاريخ الأميركي كمنجز تعبيري..... انظر: محمد حسنين هيكل حرب الخليج وأوهام القوة، مركز الاهرام للنشر، القاهرة 1992م، ص 216.

المتصاعد نحو قراءة فيزيائيّة مختلفة تعرف بالفوضى يمكن أن نرصدها في حركة داخل الذرّة في غياب القصديّة، ف-(الفوضى)(1)هي فرع جديد من فروع العلم، التي تُعنى بدراسة ظواهر الاضطراب والاختلال واللانظام واللاخطيّة، في مختلف المجالات كالمناخ ، وأجهزة الجسم عند الإنسان وسلوك التجمعات الحيوانيّة، فضلاً عن الاقتصاد والتجارة وحركة الأسواق الماليّة، تطوراً نحو حركة المجتمعات الإنسانيّة والسياسة. تبتدئ نظريّة الفوضى (كايوس)، من الحدود التي يتوقف عندها العلم التقليدي ويعجز. فمنذ أن شرعَ العلم في حل ألغاز الكون، عاني دوماً من الجهل بشأن ظاهرة الاضطراب، مثل تقلبات المناخ، وحركة أمواج البحر، والتقلبات في الأنواع الحيّة، وأعدادها والتذبذب في عمل القلب والدماغ. إنّ الجانب غير المنظّم من الطبيعة غير المنسجم وغير المتناسق والمفاجئ والانقلابي، أعجز العلم دوماً.)(2)، إذ يمكن لكل علم أن يستفيد من الاكتشافات والأطروحات والاختراعات التي تأتي بها العلوم الأخرى وتكتشفها (وبعد عشر سنوات من تلك الجهود، صار مصطلح الفوضى (الكايوس) اختياراً لحركة متصاعدة أعادت صوغ المؤسسة العلميّة عالمياً) (3).(فإنّ هذا المصطلح عندما يحل ويحاول تقديم تفسير يفسرِ الفوضى التي عجز العلم الكلاسيكي عن تفسيرها، فما دام للعالم علماء يبحثون في قوانين الطبيعة، فسوف يعاني من إهمال لظاهرة : الاضطراب في الغلاف الجوي وفي البحار والمحيطات، وفي ظاهرة التقلب في التجمعات الحيوانيّة البريّة، وظاهرة تذبذب القلوب والعقول. فالجانب غير المنتظم من الطبيعة أي الجانب الذي يفتقر إلى الاستمراريّة ويمتلئ بالأخطاء، يمثل «لغزاً» للعلم وللعلماء. وقد كانت هناك جهود كبيرة في هذا المجال حتى عمل مديرو البرامج الحكوميّة المنوط عليها تدبير الموارد

ص: 187


1- الموسوعة الحرة : https://ar.wikipedia.org/wiki والمعنى القديم للمفهوم كايوس كاوس هو الربة الأولية لهذا الكون في الميثولوجيا الإغريقية وهي الربة التي تجسد المكان غير المحدد والمادة التي لا شكل لها والتي سبقت كل خلق وكل خليقة وكل ما هو معروف، أما الشاعر أو فيديوس (OBiotos) فقد وصف الربة كاوس بأنها المادة الخام المنفجرة التي لا حياة فيها وهى الربة التي لا حدود لها ولا تكوين إنها عبارة عن مجموعة بذور متضاربة تعمها الفوضى العادلة. وهي القاع الذي لا نهاية لعمقه وكل ما يقع فيها يكون منجرفاً إلى ما لا نهاية هي نقيض الأرض «غايا (Taia) ( المنبثقة منها، هي المكان الذي لا اتجاه محتمل فيه إن وقع فيها شيء تناثر في كل الاتجاهات، وهي الفضاء القاسم والفاصل ما بين السماء والأرض بعد انفصالهما عن بعضهما البعض.
2- جايمس غليك، نظرية الفوضى للامتوقع ترجمة، أحمد مغربي، الساقي، ط1، بيروت، 2008م، ص 16.
3- المرجع نفسه، ص17.

اللازمة للبحث العلمي في القوات المسلحة، وفي وكالة المخابرات المركزيّة، وفي وزارة الطاقة على توفير مزيد من الاعتماد لبحوث «الفوضى»، بل واتجهت إلى إنشاء وحدات ماليّة خاصّة لهذا الغرض. ويذهب أقوى الداعين لهذا (العلم الجديد) إلى حد القول بأنّ علم القرن العشرين، سوف يُخَلّد في التاريخ بسبب ثلاثة عوامل هي:(النسبية - الميكانيكا الكميّة - الفوضى)، ويذهبون إلى أبعد من ذلك إذ يعلنون أنّ (الفوضى) هي ثالث أعظم ثورة في العلوم الفيزيائيّة في القرن العشرين.

2. نظريّة الفوضى في المجال السياسي:

لقد جاءت التحولات الجديدة التي رافقت العولمة بمتغيرات كبيرة إذ أدخل العالم بعالم ما بعد الدولة القوميّة وأصبح العالم عابر للدولة من خلال (التجارة والثقافة والإعلام الرقمي) وكلها أسهمت إلى حد كبير بإحداث إزاحات كبيرة في العالم في ظل العولمة وهنا كان لابدّ من تفهم هذا العالم الحر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وضعف سيطرة الدولة على الشعب والمكونات فأصبحت هناك تحوّلات وغليان يعيد ترسيم الحدود وتنفجر الإثنيّات التي كانت شبيهةً بلعبة «طاولة بليارد» التي يتوسطها مثلث يحتوي على كل من الكرات الملوّنة، فهي شبيهة بالإثنيات المطوّقة بحدود الدولة وجاءت العولمة والإعلام الحر والتبادل للحر للتجارة والمعلومات فاكتشفت أُصولها والتي تريد أن تعود إليها هكذا (كانت البوسنة والعراق ولبنان واليمن) وغيرها كثير(1).

وقد ظهرت دراسات كثيرةٌ وكان من نتائجها الدعوة إلى إحداث تغيير في الطريقة التي يصنع بها رجال السياسة والاقتصاد والثقافة قراراتهم فيما يتعلق بالتعامل مع الأحداث الجديدة، وفي الأسلوب الذي ينظر به علماء الفلك إلى النظام الشمسي، وفي الطريقة التي يتحدث بها «المنظرون السياسيون» عن الضغوط التي تؤدِّي إلى صراع مسلح.

ص: 188


1- نحن هنا بين تفسيرين الأوّل يجد أنّ الأمر حالة مرتبطة بالتحولات لما بعد الدولة القوميّة وكأنّ الأمر ظهر بفعل العولمة، الرأي الآخر يعد هذه الاحداث كجزء من استراتيجية غربية في تفتيت المكونات التي قامت عليها الدول التي لم تقم على اساس دولة الأمة والدمج القسري للمكونات كما حدث في فرنسا إذ كانت دولة الأمة، وكأنّ الأمر مرتبط بصناعة وتفتيت الدول بشكل مخطط له غربياً وأمريكياً في صناعة العنف او الفوضى الخلاقة.

لكنّ هذا الأمر لا يعني جعل البلد يعيش في حالة من الفوضى والحرب الأهليّة ويتم تقسيم أرضه؛ بحجّة تقرير المصير أو الفوضى بل حتى (الشعب الأميركي فقد كانت حالة الفوضى التي شهدها العراق من دون تدخل القوّات المحتلة، دفع الرأي العام الأميركي والعالمي أيضاً إلى أن يصف عدوان الولايات المتحدة على العراق بأنه حرب من أجل النفط مهما أضيفت على نفسها من دعاوى أخلاقيّة وإنسانيّة ذات تأثير مباشر في الجمهور الأوسع)(1).

لكن لو عدنا إلى التأويلات التي قدّمها الخبراء في تفسير الفوضى سياسياً، سنجد هناك رؤيتين في معالجة هذه الفوضى ما بعد الدولة التي صاحبت العولمة والخطاب الرقمي، الأوّل مثّلهُ (مايكل ليدن)، والثاني نقدي مثّلهُ : (هيدلي بول):

1-2 فيما يتعلق بنظرة (مايكل ليدن):

إذ تمثّل في توجيه الاستراتيجيّة الأميركيّة في التعامل مع الأحداث السياسيّة التي تجتاح الشرق الأوسط بعد تحولات العولمة وما أحدثته من ظهور لكثير من المظاهر السياسيّة، فكانت رؤيته تحاول من أن تتعامل مع الوقائع وليس بالأفكار النظريّة المسبقة، فالواقع يفرض نفسه ويدفعك إلى التأمل في مسوغاته وأسبابه. وهذا بدوره يسهم في تشخيص البيئة المحددة له ليقول إنّه لا بدّ من التعامل مع معطياته وتطوراته . وهو يأخذ بنظر الاعتبار ما جاءت به النظريّة العلميّة وما جاء به التصور الجديد عن النظام العالمي ما بعد الدولة، وكل هذا دفعه إلى اجتراح ضرورة أن يكون لأميركا تأثيرها في إحداث تحوّلات كبيرة في المنطقة تسهم في خلق حلول لما تعانيه من مشاكل متراكمة وهذا كان يفترض أن يُحدث تحوّلات عميقة في الشرق الأوسط الذي يعاني من هيمنة الاستبداد والتأخر الاقتصادي الذي يسهم من دون شك في إنتاج ثورات اجتماعيّة لابدّ أن تكون لها نتائج وخيمة على الشرق والغرب معاً. مما جعلهُ يمضي في تقديم حلولٍ وتوجيهات تحدث تحوّلاً كبيراً في الشرق،

ص: 189


1- حميد حمد السعدون الرأي العام ومجموعة أصحاب المصالح وتأثيرها على المشروع الإمبراطوري الأمريكي، مجلة شؤون عراقية، عدد 1 ، تصدر عن مركز العراق للدراسات ،بغداد تشرين الأول 2008م . ص 53

ومن هنا نستطيع أن نفهم رد الوزيرة الأميركيّة عن الشرق الأوسط وما يفترضه من تحوّل ديمقراطي وتعدد ثقافي وسياسي يسمح بحريّات أكبر وبمشاركة فعالة في إدارة المجتمع، بالطبع لا نستطيع أن نغيّب الأهداف البعيدة لأميركا في المنطقة، فهي مَنْ دعمت الاستبداد والاستيطان وتشريد الفلسطينيين وبالآتي من أجل إحداث تحوّل لا بدّ له من أن يخلق أفقاً جديداً للحوار، هذا لا يشكل شعاراً في طريق المشروع الإمبراطوري الأميركي من ناحيّة والأنظمة المتسلّطة من ناحية أخرى فلا شكَ أنّ تلك القوى سوف تخلق فوضى أكبر متمثلة بالإرهاب والحرب وإلخ. وذلك لتعميم الأنموذج الأميركي باعتباره صورةً للمستقبل ولوضع هذا النشوء المستمر لمجتمع كوني مشترك في إطاره الجديد على وفق نظام المؤسسات والذي يجب أن يعزز التعاون بين محورين أساسيين: العلاقة الثلاثية بين الدول الأغنى والديمقراطيّة في أوروبا وأميركا وشرق آسيا، من خلال الولايات المتحدة الأميركيّة، باعتبارها محوراً للعمل الأوسع والممثل الأكبر للسياسة الدوليّة، يتطلب ذلك دعماً مقصوداً للدور السياسي الأميركي؛ لكي تصبح أميركا أميركا جديدة أكبر وأكثر فعاليّة في رسم السياسة الدوليّة وحركة الاقتصاد العالمي من خلال النظام الجديد الذي يربط أميركا بمنجزات هذه الشراكة في صناعة المستقبل(1).

2-2- أما النقد الذي قدمه (هيدلي بول)

في عام 1977م ، نشر بول عمله الرئيسي في الجمعيّة الفوضويّة. ويعد من الكتب الرئيسة في مجال العلاقات الدّوليّة على نطاق واسع، ويعدُّ كذلك النص المركزي في ما يسمى ب-«مدرسة اللغة الإنجليزيّة» للعلاقات الدوليّة في هذا الكتاب يقول بول: إنه على الرغم من الطابع الفوضوي على الساحة الدولية، ولا يتميز هذا عن طريق تشكيل مجرد نظام من الدول، ولكنّ مجتمع الدول له متطلبات لكيان يطلق عليه ب-(الدولة)، فهي التي يجب أن تطالب بالسيادة على (ط) مجموعة من الناس (ب) أرض محددة، ويجب أن يكون لدينا حكومة. وتشكّل الدولة النظام عندما يكون

ص: 190


1- بريجنسكي، زبغينور ،الفوضى الاضطراب، عند مشارف القرن الحادي والعشرين ترز مالك فاضل، دار الأهلية للنشر والطباعة عمان، 1998م، ص194.

لديها درجةٌ كافيةٌ من التفاعل والتأثير في القرارات؛ وذلك لأنها «تتصرّف - على الأقل إلى حد ما - كأجزاء من كل «نظام من الدول يمكن أن توجد من دون أن يكون أيضاً مجتمع الدول مجتمع الدول التي تأتي إلى حيز الوجود» عندما تُشكِل مجموعة من الدول، واعية لبعض المصالح المشتركة والقيم المشتركة في المجتمع بمعنى أنها تصور نفسها على أن تكون ملزمة من قبل مجموعة مشتركة من القواعد في علاقاتها مع بعضها البعض، ومشاركة في عمل المؤسّسات المشتركة».

مجتمع الدول هو وسيلة لتحليل وتقويم إمكانيات النظام في السياسة العالميّة. ويتابع حجته بإعطاء فكرة النظام في الحياة الاجتماعيّة وآليّات: ميزان القوى، والقانون الدولي، والدبلوماسيّة، والحرب والقوى العظمى الأدوار المركزيّة. ويخلص في النهايّة أنه على الرغم من وجود أشكال بديلة ممكنة للمنظمة، ونظام الدول هو أفضل فرصة لنا لتحقيق النظام في السياسة العالميّة(1).

وكان رأي (بول): أنه لا بد من وجود عرض أنموذجي للأسلوب الذي ينبغي أن نصوغ بموجبه آراءنا حيال المطالب بإحداث التغيير، فهو لم يتجاهل التغيير، لكنه دعا إلى التأني في «تحليل عمليّة التغيير»، وكان ثابتاً في رأيه، بأن الاتجاهات والمظاهر المعاصرة التي تبدو من نماذج «الحداثة» والتي تتراوح بين الشركات متعددة الجنسيّات، وخصخصة العنف على شكل جماعات إرهابيّة أو أمراء حروب، إذ ستظهر لنا بشكل مألوفٍ وبدرجة أكبر حين ندرسها من خلال «منظور تاريخي» طويل المدى بشكلٍ كافٍ، وأنه يمكننا أن نكسب كثيراً من خلال مقارنة الحاضر بحقب سابقة من التغيير.

كما أنّ العلاقات الدوليّة لا يمكن أن نفهمها أو أن ندرسها من «منظور الأقوياء» حصراً، وإنّ مجتمعاً دولياً راسخاً، لابد أن يرتكز على معنى من المعاني الأخلاقيّة والشرعيّة، وأنّ هذا بدوره يجب أن يبرز مصالح الأعضاء «الأضعف» في المجتمع الدولي، والقيّم السائدة لديهم.

ص: 191


1- الموسوعة الحرة بالانكليزي https://en.wikipedia.org/wiki/Hedley_Bull

فالعولمة و«نشر الفوضى»، قد بلغا حداً كبيراً في ممارسة ضغوط شديدة من أجل تحقيق التجانس والتقارب في العالم - بشكل وهمي - ولكنهما أيضاً دفعا العالم في اتجاه مقاومتهما وانعكاس تياره عليهما، وأصبح من الواضح أيضاً، أنه كما يتحرك «النظام القانوني الدولي» بشكل أكبر في اتجاهي التضامن، وتخطّي«الحدود القوميّة»، وانخفاض «منسوب السيادة»، كذلك يرتفع المستوى السياسي للاختلاف الاجتماعي والثقافي، وللقواعد الدوليّة المتعلقة بحقوق الإنسان وبحقوق الشعوب، وبمجموعة متعاظمة من القضايا الاقتصاديّة والبيئيّة، بما لها من أثر بالغ العمق في (التنظيم الأهلي للمجتمع).

تعدُّ الجمعيّة الفوضويّة إحدى روائع العلوم السياسيّة والنص الكلاسيكي على طبيعة النظام في السياسة العالميّة. ونشرت أصلا في عام 1977م، فإنه لا يزال لتحديد الانضباط وتشكيلهِ في العلاقات الدوليّة.

يبدو أنّ نظريّة الفوضى الخلّاقة وجدت تحققها في العراق وصولاً إلى ظهور تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة، ومنها العراق وقد ترك آثاره العميقة في وعي الناس ثم جاءت لحظة المواجهة والتحدِي فبعد فتوى الجهاد الكفائي استطاع الشعب والحكومة من تحرير الموصل وغيرها من المحافظات والآن العراق في طريقه إلى تحرير الحويجة.

في هذه الحقبة ظهر تقرير يشرف عليه السفير الأميركي السابق في العراق يحاول التأصيل إلى عودة أميركا إلى العراق.

ثانياً: شرعنة الهيمنة الأميركية في العراق ما بعد داعش.

غاية التقرير(1) تتمثل في أمرين: الأوّل، من أجل هزيمة دائمة للتنظيم، الأمر الثاني: لضمان مصالح الأمن القومي الأميركي في العراق على المدى الطويل. إذاً يجد التقرير

ص: 192


1- مجموعة عمل مستقبل العراق تحقيق استقرار طويل المدى لضمان هزيمة داعش، الرئيس السفير ريان كروكر المدير التنفيذي: د. نسيبة يونس

أنّ هنالك تلازماً بين هزيمة داعش، وبين ضمان الأمن القومي الأميركي في العراق، لا أدري كيف جمع بين الأمرين معاً، فهما يتعلّقان بمصلحة أميركا وبقاء سيطرتها على العراق فهو يتّخذ من هذا الأمر كأطروحة يدافع عنها التقرير على الرغم من كونها أطروحة لا تراعي العراق بالمرّة بل يُراعَى فيها بقاء النفوذ والمصالح الأميركيّة في العراق وكأنّ التقرير يريد يجمع بين الباحثين الأميركيين الذين يهمّهم أمن أميركا في الداخل وهيمنتها في الخارج وبين الباحثين العراقيين الذين يريدون من الأميركيين أن يعملوا على إقرار الأمن في العراق ويحرضونهم من خلال التذكير بالمنافع التي سوف تعود على أميركا، وغائيّة هؤلاء أن يحققوا الأمن في العراق، وتناسى هؤلاء إنّ هذا لا يحقق الأمن بل يحافظ ويشرعن الهيمنة الأميركيّة على العراق وأنّ أميركا تتوافق مصلحتها مع الإرهاب إذ مكنها من الهيمنة على العراق، فغياب الأمن وانتشار الفساد ليس سوى رد فعل للهيمنة الأميركيّة على العراق وليس العكس.

لكن المروجين للهيمنة ومانحيها الشرعيّة يقاربون الأمر من خلال المقاربة الآتية فهؤلاء يريدون أن يقولوا: إنّ وجود الأميركيين يسهم في محاربة الإرهاب من ناحية ومن ناحية ثانية يسهم في ظهور دعم أميركي عسكري وتقني للعراق، متمثلاً في بناء المؤسسات التشريعيّة وهو ما نفهمه من الفقرات الآتية (يشهد العراق الآن حالة الاضطراب المدني، أفسحت المجال أمام الجماعات الإرهابيّة، مثل تنظيم داعش الذي يهدِّد مصالح الأمن القومي الأميركي بشكل مباشر. ورغم أن القوّة العسكريّة يمُكنها أن تَحُدّ من قدرة الجماعات الإرهابيّة، فإنها لا تستطيع القضاء على الأسباب الكامنة وراء ظهور هذه الجماعات فوحدها فقط حكومة فعالة وسريعة الاستجابة وشرعيّة يمكنها أن تعالج الأسباب الجذريّة للتطرف. وهذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة يجب أن تشارك في برنامج بناء الأمة على نطاق أوسع، بل يجب على الأرجح أن تدعم التقدم المحرز في البرامج التشريعيّة الرئيسيّة ومبادرات الإصلاح، التي تعالج المظالم العراقيّة بشكلٍ مباشر).

هنا يعالج الأوضاع بطريقة يسوِغها هو فالإرهاب الداعشي، وكأنه وليد فوضى

ص: 193

داخليّة خلقت ظهور هذا التنظيم، الذي سوف يهدد الأمن القومي الأميركي، وكأنّ الإرهاب قد تمدد تأثيره في العراق حتى شمل أميركا وأمنها فهو سوّغ أمرين:

الأول يتمثّل في ظهور الإرهاب والتدخل الأميركي معاً في العراق. والأمر الثاني إنّ العلاج العسكري وحده لا ينفع فلابدّ من معالجة أسبابه، وهذا لا يتحقق إلا من خلال برنامج أميركي للإصلاح في العراق وعن كيفيّة حدوث هذا الأمر يقول: من خلال رفع المظالم.

نحن هنا نقرأ لتأويل أميركي وباحثين وسياسيين عراقيين يحاولون الدعوة إلى التدخل الأميركي وبالآتي شرعنتهِ من أجل مصالح أميركا أوّلاً؛ لأنها دولة برغماتيّة لا تعمل بدافع المصلحة، وهنالك فكرة ساذجة تماماً من قبل مثقفين مهرجين عراقيين علمانيين وليبراليين يريدون إزاحة خصومهم من التيارات الإسلاميّة، ومن ناحية ثانية هو تأويل خبيث من قبل استراتيجيين ومراكز بحوث وشركات تحاول دفع الحكومة الأميركيّة إلى مواصلة سيطرتها على العراق.

فالغباء من طرف العراقيين المسوّغين للتدخل الأميركي ينسى أو يتناسى أنّ التواجد الأميركي هو السبب الرئيس والأساس في محنة العراق وليس هو الدواء أو الترياق لها؛ فالخطاب الأميركي ودعوته إلى بناء الشرق الأوسط الجديد هو من آثار دول الإقليم ضد تدخلها في العراق وقاد إلى انسحابها وظهور دولة في العراق ومؤسّسات سياسيّة وهو السبب الذي قاد أميركا والعرب الداعمين لها إلى دعم وإثارة العنف الذي بدأ بالاعتصام وصولاً إلى تهيئة الظروف إلى دخول داعش وجعل العراق أمام محنة الإرهاب من أجل أن يعود إلى الحظيرة الأميركيّة.

اذاً التدخل هو ليس الحل بل يعد استمراراً للهيمنة وردود دول الإقليم على التواجد الأميركي في العراق؛ لأنه يهدد استقرار تلك الدول.(1) ويمضي التقرير في تسويغ التدخل الأميركي في العراق فيؤكِّد على (إنّ تعزيز المصالح الأميركيّة في

ص: 194


1- مجموعة عمل مستقبل العراق تحقيق استقرار طويل المدى لضمان هزيمة داعش الرئيس السفير ريان كروكر المدير التنفيذي .: د. نسيبة يونس

العراق سيكون له أثرٌ إيجابيٌ على مصالح الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط متمثلاً في النقاط الآتية:

- حرمان الجماعات الإرهابيّة في العراق من الملاذ الآمن يقلل من العمق الإستراتيجي للمجموعات المرتبطة العاملة في سوريا، ويحد من قدرتها على تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

- دعم الولايات المتحدة للحكومة العراقيّة سيقلل - في نهاية المطاف - من تعرض العراق للنفوذ الإقليمي، ولا سيما الإيراني، إذ يحدّ هذا الدعم من قدرة إيران على بسط نفوذها في الشرق الأوسط.

- من شأن إعادة العمل في طرق التجارة الرئيسيّة بين الأردن والعراق، أن يساعد في تعزيز الاقتصاد الأردني، وبالآتي استقرار هذا الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة، بدلاً من تعرضه للخطر.

- توفير إمكانيّات تصدير النفط والغاز في العراق وتحديث اقتصاده، يمكن أن يطلق محركاً جديداً وقوياً للنمو الاقتصادي الإقليمي والعالمي، مما قد يقوِّض من نفوذ الأيديولوجيّة المتطرِّفة بين الشباب في الشرق الأوسط).

هكذا يتم تسويق التدخل من قبل مراكز البحوث المدعومة من قبل الشركات التي تريد من أن تحافظ على مصالحها فتحاول أن تسوّغ التدخل متزامنةً مع انسياق المثقفين العراقيين العاملين في تلك الورش وهم يبررون ذلك بسعيهم إلى تطوير العراق وهي المفارقة العجيبة.

فتحليل تلك الفقرات يبين الأطروحة الاستعماريّة الأميركيّة الجديدة في شرعنة تدخلها في العراق؛ فهي تحاول تسويغ التدخل من خلال الفوائد العائدة على أميركا ودفعها الأخطار من ناحية أخرى.

فالفقرة الأولى التي تتناول حرمان الجماعات الإرهابيّة في العراق من الملاذ

ص: 195

الآمن، وتحدّ من قدرتها على تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، فإنها لا تعالج الأسباب ولا تعمل على إزالتها، بل تحدُّ من أثرها بمعنى أنها تحافظ على استمرارها؛ وتجعلها تحت السيطرة. لانها تسوّغ تدخله فإنّ استمرار الإرهاب يعني استمرار الحاجة إلى بقاء التدخل الأميركي من قبل الشعب الأميركي؛ لأنه يدفع الإرهاب وفي العراق إنّه يحمي المواجهة ويديمها ليس إلّا.

أمّا الفقرة الثانية: فبدلاً من أن تعالج أسباب الإرهاب، والجَّهات الداعمة فإنها تنقل الأمر إلى مواجهة أخرى مع إيران فيقول:إنّ وجود الولايات المتحدة مع الحكومة العراقيّة سيقلل - في نهايّة المطاف - من تعرض العراق للنفوذ الإقليمي ولا سيما الإيراني هذه الفقرة موجهة إلى دول الإقليم العربيّة من ناحية ومن ناحية ثانية إنّ الإرهاب في صراع عقائدي مع إيران وهي من دعمت العراق في مواجهة ،داعش، فهذه الفقرة ملغومة وهي لا تحث على الاستقرار بل العكس في ميلها إلى تهديد دول الجوار.

أمّا الفقرة الثالثة فهي لاتهم العراق بقدر ما تحشِّد القوى ضد إيران وتبحث عن مسوِّغات لا تهم العراق فالفقرة تؤكد على المصالح الأردنيّة وعن علاقاتها بأميركا. وكأنّ الفقرة تقول: إنّ الوجود الأميركي سوف يحافظ على الأردن المعتمد على الاقتصاد العراقي والأخير سوف تعود عليه الحماية الأميركيّة في مبيعات النفط.

بالآتي فإنّ هذه الفرضيّات كونها مسوِّغات إلى التدخل الموجه إلى اللاعب الأميركي ودول المنطقة ومن ثم العراق. ومن ثم فإنّه لا يقدِم مسوغات لها عمقها وأثرها في العراق ومصالحه بقدر ما يريد تبرير الهيمنة وكأنّها تحقق مصالح عراقيّة أميركيّة وكأنّ الأمر محاولةً لترويج ظاهره إقناع الشعب الأميركي وباطنه تبرير الهيمنة؛ لكونها تعبر عن مصالح عراقيّة. ولهذا يقدم التقرير المبررات الآتية: الأوّل ما يتعلق بالعنف والدعم الأميركي في مواجهته وتدريب القوات العراقيّة والأمر الثاني: في مواصلة الضغط عن طريق الضغط على الحكومة العراقيّة وحكومة إقليم كردستان؛ لتلبية احتياجات الشعب العراقي بشكل أفضل. وعلى المدى القصير عن طريق دعم

ص: 196

إجراء انتخابات برلمانيّة وانتخابات على مستوى المحافظات حرّة ونزيهة على الرغم من أنّ هذا الأمر قد تكرّر من قبل في تصريحات المرشح الأميركي الجمهوري (حول التعامل مع الملف الكردي في العراق هي باتجاه استكمال الإستراتيجيّة الأميركيّة

للإدارة الحاليّة حول إعطاء الأكراد المزيد من الحقوق السياسيّة»(1).

إلى جانب الدعم الاقتصادي للاقتصاد العراقي عن طريق: (الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمعونات متعددة الجنسيات). وهي أمور تمّ التطرق لها كثيراً إلا أنها غير فعالة في مواجهة الأوضاع العراقيّة بقدر ما تدفع العراق إلى تحقيق الهيمنة الأميركيّة على مقدّرات العراق وجعله دولة تعاني من مديونيّة للبنك الدولي. وقد كان للولايات المتّحدة دورٌ مؤثرٌ وفعّال في العقوبات التي فُرضت على العراق بعد دخول الجيش العراقي إلى الكويت، وهي عقوبات ليس لشعب العراق من دور بها(2)، ونجد التقرير يفصِّل نقاطاً مهمّةً منها :

من المسوِّغات إلى التدخل الأميركي كونه المتوسط بين بغداد وحكومة إقليم کردستان في هذه النقطة يحاول التقرير توصيف المشكلة (فقدان كبير للثقة ولحسن النيّة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان وذلك مع اعتقاد حكومة إقليم كردستان بأنها ضحيّة لبغداد، بينما تعِدُّ بغداد نفسها مُستغلَّةً من قِبل حكومة إقليم كردستان. لكنّ التدهور المستمر للعلاقة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان ليس من مصلحتهما، وبدوره فهو لا يخدم مصالح الولايات المتحدة.

ولا يوجد شك في أنّ معظم الأكراد العراقيين يريدون دولة مستقلة لهم، إلا أنّ هناك خلافات كبيرة بين الأكراد أنفسهم حول كيف ومتى يمكن أن يحدث ذلك. وهناك إجماع أكبر على أنّ العمليّة يجب أن تُدار بطريقة تجعل إقليم كردستان المستقل له علاقة وثيقة مع بغداد، وخاصّةً في المجالين الاقتصادي والأمني).

ص: 197


1- عبد الجبار المرهون، أمن الخليج والمتغير الأمريكي، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 328 حزيران / يونيو 2006م.
2- للمزيد ممكن العودة إلى : حكمت شبر، الحروب العدوانية وما أفرزته من قروض وتعويضات بحق العراق، م طبعة آزاد هورام كركوك 2008م.

(فيما تكون الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي يثق به كل من بغداد وحكومة إقليم كردستان لتوجيه هذه الجهود على المدى الطويل والقصير. ويمكن للولايات المتّحدة أيضاً أن تستعمل مساعدتها المستمرة بشكل استراتيجي لتشجيع التعاون بين حكومة إقليم كردستان و بغداد. وعلى سبيل المثال من خلال دعم مشاريع البنية التحتيّة المشتركة في المناطق المتنازع عليها التي تخدم الاحتياجات المحليّة. وبإيجاد حوافز للتعاون المستمر بين الجانبين يمُكِن أن يحاول الطرفان تجاوز الإدارة المستمرة للأزمات والتوجه نحو حالة من العلاقات الإيجابيّة).

الخاتمة:

هذا العالم الذي يصوّر نفسه أنه متساو، هذا مجرد ادعاء فارغ، ومجرد زيوت وأصباغ تحاول من أنْ تستر القسمات المتوحشة للاستعمار ،والهيمنة والفقر والنفي العنصري التي يعاني فيها عالمنا ولأجل كشف تلك الهيمنة لا بدّ من رؤيّة نقديّة تهدف إلى ممارسة آليّة القلب الكامل لهذا التمثيل الذي تقدمه مراكز البحوث الأميركيّة وهي تشرعن إلى الهيمنة وتسوّغها من الطرف المهيمن (أمريكا) كونهُ يبحث عن مصالحهِ وحمايةِ أمنه الوطني ومن ناحية المهيمن عليه (العراق) كونه يعاني من أزمات اجتماعيّة وسياسيّة وفساد وحروب مع الإرهاب؛ فهو بحاجة إلى مساعدات اقتصاديّة وأمنيّة وهذا يسوِغ تدخل أميركا كونها تقدِم العون للعراق كونهما شركاء في محاربة الارهاب وتقديم العون الأمني والاقتصادي. وهي تبقى إحدى تجليات ظاهرة الاستعمار كونها تسعى إلى فرض سيطرة الدول القويّة على مقدّرات الدول الضعيفة من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة)، وهي بالآتي تؤدي إلى نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمرة، فضلاً عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار

على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة.

وهذا ما يتجلّى في السياسة الأميركيّة سواء كانت على مستوى الداخل الأميركي أو ما يصدر عن الاتجاه الآخر من دعاية إعلاميّة هي في جملتها لا تقدِّم ما يتناسب مع العدالة بل مجرد هيمنة وتفرعن ونفي للآخر.

ص: 198

آثار الاستعمار على الأديان:تجربة جنوب غربيّ نيجيريا

اشارة

احمد فاوسی اوغونبادو(1)

يُعرّف الاستعمار أنّه استغلال دولة قويّة لأخرى ضعيفة أو استخدام موارد البلد الأضعف لتقوية البلد الأقوى وإثرائه، وقد خبرت مناطق كثيرة في العالم عامة وفي أفريقيا خاصة هذه الظاهرة ما بين العام 1861 إلى العام 1960 تعرضت نيجيريا للاستغلال من جانب بريطانيا العظمى ما ترك آثاره على الكثير من الصعد في هذا البلد الأفريقي المهم، إنّ في السياسة أو في الاقتصاد أو الدين أو التعليم أو الهيكلية الاجتماعية المراد من هذا البحث تقصي آثار هذه الظاهرة على الأديان في جنوب غربيّ نيجيريا، وتاليّا يتناول هذا البحث الديانتين اللّتين كانتا معروفتين في

ص: 199


1- دكتور في الفلسفة قسم الإنسانيات والعلوم الاجتماعية جامعة البخاري الدولية، ألور ستار، قدح، ماليزيا. - Impacts of Colonialism on Religions: An Experience of Southwestern Nigeria. Ahamad Faosiy Ogunbado, Ph.D. (School of Humanities Social Sciences, Albukhary International University, Alor Setar, Kedah, Malaysia). IOSR Journal of Humanities And Social Science (JHSS) ISSN: 2279- 0837, ISBN: 2279- 0845. Volume 5, Issue 6 (Nov. - Dec. 2012), PP 51 - 57 www.Iosrjournals.Org

تلك المنطقة قبل مرحلة الاستعمار بكثير وهما الدين التقليدي والإسلام، كما يدقق في إيجابيات هذه الظاهرة وسلبياتها ويُظهر حركات مقاومة شعبية لها وكيفية تغلب الحكومة البريطانية عليها. هذا البحث هو دراسة أكاديمية ما يعني أن كل المعلومات والمستندات والوثائق أُخذت من كتب أو مقالات أو مجلات أو مواقع الكترونية ذات صلة ضمن إطار منهجية البحث النوعي هذا البحث يكشف وجود دیانتین قبل وصول الاستعمار الذي أضاف ديانة جديدة إليهما وهي الديانة المعروفة بالمسيحيّة، كما يظهر أن آثاره السلبيّة تفوق تلك الإيجابيّة.

الكلمات المفتاحية آثار استعمار ،إسلام مسيحيّة دين دین موروث، يوروبا

تمهيد

تعريف الاستعمار أنّه استغلال دولة قويّة لأخرى ضعيفة أو استخدام موارد البلد الأضعف لتقوية البلد الأقوى وإثرائه Worldweb Online Dictionary)، وهو ظاهرة خبرتها قارات آسيا وأفريقيا بشكل خاص على أيدي القوة الأوروبية العظمى. كما يمكن تعريفه أنّه حالة تحكّم للدولة القادرة بالأخرى الضعيفة وتأسيسها لتجارتها ومجتمعها الخاص بها في تلك الدولة (Longman Dictionary2000).

لهذه الظاهرة أسباب عدة: (1) إلغاء تجارة العبيد التي تنامت في القرنين السابع عشر والثامن عشر أدى إلى البحث عن تجارة قانونية بديلة (2) الثورة الصناعيّة وارتفاع الطلب على المواد الخام التي لم تكن الزراعة المحلية قادرة على تأمينها . (3) البحث عن أسواق لمنتوجات المصانع الأوروبيّة. (5) التمدّن: حيث إن النزوح إلى المدن وما رافقه من انخفاض الإنتاج الزراعي والريفي أدى إلى ارتفاع الطلب على الإنتاج الغذائي لتلبية التضخم السكاني في المدن الأوروبية. هنا تجدر الإشارة إلى:

اجتماع القوى الأوروبية في مؤتمر برلين 1884-1885 وتقريرها مصير أفريقيا. وقد كانت بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا والبرتغال المشاركين الرئيسيين في هذا المؤتمر الذي استغرق ثلاثة أشهر وانتهى بتقسيم أفريقيا بين الأسياد الأوروبيين المستعمِرين وفرض حدود اصطناعية على رعاياهم الجدد.

ص: 200

أدى هذا المؤتمر إلى تفكيك أفريقيا بأكثر من طريقة وتمكنت القوى الاستعماريّة من فرض حيّزها على القارة الأفريقية. مع عودة الاستقلال في الخمسينيات كان هذا الحيز قد ترك إرثًا في التشظي السياسي لا يمكن إلغاؤه أو حتى توظيفه بشكل مرض. نيجريا «عملاق أفريقيا» و «أكبر أمة سوداء في العالم» من الدول المهمة التي عانت هذه الظاهرة. في الواقع فإن إسم نيجيريا نفسه أطلقه عليها السيد المستعمر بعد تشويه الحدود المثبتة والطبيعية مستبدلاً بها الحدود المصطنعة تماشيًا مع مصالحه.إنّ الجنوب الغربيّ من هذا البلد مستوطن بالدرجة الأولى من قوم اليوروبا الذين يشكلون في نيجيريا، بل في دول غرب أفريقيا قاطبة، أكبر تجمع ثقافي له تاريخه في الوحدة السياسية والإرث التاريخي المشترك. (Coleman1971). هذا البحث يهدف إلى النظر في آثار الاستعمار في أديان المنطقة التي أهلها اليوروبا، و«يوروبا» اسم يطلق على الشعب ولغته على حدّ سواء، ويستعرض بشكل إجمالي الدين التقليدي والإسلام قبل قدوم الدخلاء، ويقسم آثار هذا التدخل إلى قسمين: الإيجابي والسلبي ويبحث في كل منهما، كما يبين مقاومة عدة جماعات لهذا الاستعمار وكيفية تغلب البريطاني عليهم.

الديانات في المنطقة قبل الحقبة الاستعمارية:ما هو الدين؟

لا يوجد تعريف موحد للأديان بسبب تباينها الكثيرون يرون أن الدين هو «منظومة متّسقة من الاعتقادات والشعائر والتعبد تتمركز حول الرب الواحد المهيمن او تجلّياته الإلهيّة،«بينما يرى غيرهم «أن الدين يمكن أن يشمل آلهة أو تجليات إلهية

متعددة»، (1990,16:196 ,The world book encyclopedia -(197) ويرى البعض بعدم ضرورة اشتمال الأديان على أي إله أو آلهة كما يوجد من يعرّف الدين على أنه «مجموعة نظم ثقافية وعقائدية ورؤى للعالم تصل الإنسانية بالروحانيات وفي بعض الأحيان بقيم أخلاقية».على الرّغم من تباين التعريفات نجد أنّ معظم اتباع الأديان يرون أنّ العالم خلقته قوة علويّة لها أثرها في حيواتهم. بمعنى آخر تتشارك معظم

ص: 201

الأديان بشكل كلي أو جزئي عدّة خصائص : (1) الإعتقاد بالله أو بالتجلّيات الإلهية، (2) رسم صراط للخلاص (3) اتّباع ناموس سلوكي وخلقي، (4) استخدام القَصص المقدس، (5) ممارسة شعائر وطقوس ومناسك دينية محددة. (Ibid). لا تختلف الأديان في جنوب غربيّ نيجيريا عن غيرها في ما خصّ هذا، وهي كانت قبل قدوم السيد المستعمر دينين اثنين سنقوم بشرحهما لاحقًا وهما الدين التقليدي والإسلام.

من المهم أن نشير هنا إلى استحالة فصل كلمة الدين عن كلمة الثقافة، وهو ما رأيناه في التعريف الأخير للدين بوصفه «مجموعة نظم ثقافية...» وهذا ما نجده في إقتباس أمبونساه عن قاموس علم الاجتماع الأميركي والتي عرّفت الثقافة كما يلي:

اسم يشمل كلّ النماذج السلوكية المكتسبة اجتماعيًا ويتم تداولها اجتماعيًا باستخدام الرموز . إنّه إذّا اسم لإنجازات مميّزة لجماعات بشريّة، ولا يتضمن فقط منتخبات كاللغة وصنع الأدوات والصناعة والفن والقانون والدولة والأخلاق والدين، بل يشمل أيضًا أدوات ماديّة أو مصنوعات يدويّة تجسّد الإنجازات الثقافية [ك]، والتي من خلالها يتم إضافة انطباع عملاني للميزات المعرفية والثقافية نذكر منها على سبيل المثال الأبنية والأدوات والماكينات ووسائل التواصل والأعمال الفنية إلخ ... (2010:597, ,Amponsah).

دين اليوروبا التقليدي

الدين متأصّل وله التأثير الكبير في حياة شعوب جنوب غرب نيجيريا حيث أن كل مساعيهم على علاقة به ومن الصواب القول باستحالة فصل دين اليوروبا عن ثقافتهم. هذا ما رصده دوي في إحدى اعماله حيث يقول:

ليس هناك حدث في حياة أي شخص من اليوروبا لا يحمل بعدًا دينيًا، فهو لا يبرأ متدينًا من مهده إلى لحده ولا يمكن لأيّ غريب أن يفهم دين اليوروبا إلا من خلال إرتباطه الوثيق بهذا الشعب وفهمه لطرق حياتهم ومبادئهم الدينية.(Doi, 1992:121)

ص: 202

هذا ما خلص إليه كاتب آخر في مقالة عن الدين الأفريقي التقليدي حيت يقول :

الدين متأصّل وله التأثير الأكثر أهمية في حياة معظم الأفارقة ربما. على الرّغم من ذلك تبقى مبادئه الأساسية مجهولة للغرباء المسؤولين بالدرجة الأولى عن سوء فهم معتقدات الأفارقة ورؤيتهم إلى العالم الدين يغشى حياة الأفارقة من كل جانب، ولا يمكن دراسته بذاته بمعزل عن دراسة حياة الشعب الذي يطبقه . (1996:1 Awolalu).

في دين اليوروبا التقليدي يعتقد الناس بوجود الإله المهيمن الذي يدعونه أُلرون (رب الفردوس) أو الودوماره (الإله الأسمى أهل الإجلال)، وفي بعض الأحيان يجمعون الاسمين معًا فيلفظ الورونلودوماره ويستعملونه كاسم مركّب ليعبّروا عن الكائن العلوي المستقر في الفردوس. رغم ذلك نجدهم يقدّسون تجلّيات إلهية كوسطاء يصلونهم برب الفردوس لاعتقادهم بعدم إمكانية التواصل معه بشكل .مباشر. هذه الفكرة تطورت من الاحترام الذي كانوا يكنّونه ،لملوكهم، ففرضيتهم إن كان من غير الممكن لهم رؤية ملوكهم بشكل مباشر دون وسيط فكيف الحال بملك الملوك (أوبا أون أوبا)، والوسطاء الذين يصلونهم بالعزيز يعرفون بالأريساس.

(2001 .Johnson, 1921, reprinted ed) و (2010 ,Ogunbado).

الأريساس أو التجلّيات الإلهية وفيرة ونذكر منها أغون وسانغو وأُباتالا وإسو وأُيا وأُسون ويمِوجا، وكلّ مدينة أو قرية أو جماعة في جنوب غربيّ نيجيريا يقدّسون الأريساس الخاصّة بهم. في بعض الأحيان تُطلق أسماء عدة على التجلّي الإلهي نفسه بتعدد الأمكنة، فعلى سبيل المثال تُسمى أُريسالا أُلوفين في منطقة إيوفين وأُريساكو في أكو وأُريساغِيان في إجيغبو وأُريساكير في إيكيره وأُريساوفو في أُوو

وأريساجايه في إجايه.

الإسلام

الإسلام دين تأصّل بشكل كبير هو الآخر في جنوب غربيّ نيجيريا قبل قدوم الاستعمار، وهو دين توحيدي مبني على وحدانيّة الإله كلمة الإسلام مصدر مشتق

ص: 203

من فعل أسلمَ الذي يعني تسليم النفس للإقرار الإسلام، (Hastings, Selbie Gray (1908 كما أنها مشتقة من كلمة سِلم التي تعني السلام والصفاء والتسليم والطاعة. ببساطة يمكن فهم كلمة الإسلام على أنّها الخضوع لمشيئة الإله أو (الاستسلام لمشيئته)، كما يمكن تعريفها على أنها «القبول التام بتعاليم الله وإرشاداته كما بيّنها النبيّه محمد صلی الله علیه و اله و سلم (World Assembly of Muslim Youth, n.d).

من الصعب تحديد الوقت الدقيق لدخول الإسلام إلى جنوب غربيّ نيجيريا، لأن هذا الدخول لم يكن «مخططاً أو معلنًا»، كما أنّ المسلمين الأوائل في منطقة البحث كانوا يتعبّدون بشكل سرّي، (1978 ,Gbadamosi) وعلى الرّغم من ذلك فمن المعلوم أن التعبّد بالإسلام قد مورس في أُيوإيلي حيث شُيّد مسجد يعود إلى سنة 1550 ميلاديّة. (1990 ,Al-Alari). وقد دوّن أن أثر الإسلام غدا محسوسًا فی حقبة الملك ألافين أجيبويده ، وهنا نذكر أنّ رجل دين يدعى بابا كِوو أرسل لهذا الملك مبعوثًا «ليحتج على ظلمه وأعماله العدوانية بداعي الانتقام لولده الذي مات في الحقيقة ميتة طبيعية» . (2001:164 .Johnson,1921,reprinted). كما نجد أنّ الألوري (1965) Al-Alari) أشار إلى معرفة اليوروبا بالإسلام في حقبة منسا موسى إمبراطور مالي (توفي عام 1337م) عبر تجّار وسفراء مالي الذين سكنوا أيوإيلي عاصمة إمبراطورية أيو الغابرة، وربما يكون هذا وراء تسمية البعض «الإسلام» «إسين إيماله» بما معناه «دين الماليين» أو «الدين الذي أتى من مالي».

تمكّن الإسلام من اكتساب أرضيّة في بلد اليوروبا وقد تعايش الدينان معّا لعدة قرون قبل تدخل الرجل الأبيض، ويمكننا تقصّي ذلك في بعض التعاليم الإسلامية التي تتقاطع ودين اليوروبا التقليدي وثقافتهم . على سبيل المثال : (1) الدين التقليدي يعتقد بوجود كائن أسمى ويتفق بذلك مع الإسلام على الرّغم من وجود اختلاف في التطبيق، حيث أن أتباع الدين التقليدي يقدّسون الأريساس كوسيط بينما نجد أنّ الإسلام يرفض ذلك جملة وتفصيلا . (2) ونجد أنّ الدينين يقدّسان الزواج ويسمحان

ص: 204

بتعدد الزوجات مع فارق أنّ عدد الزوجات المباح في الاسلام أربعة وغير محدود في الدين التقليدي. (3) كما نجد أن الأخلاق والقيم كالتواضع والاحترام جزءٌ لا يتجزّأ من كلا الدينين.

ربما وبسبب التوافق والسكينة والتعايش بين الدينين لحقبةٍ زمنية طويلة إفترض قوم اليوروبا أنّ الدينين من موروث أسلافهم، وهذا ما ينعكس في إحدى أغانيهم الشعبية:

أيه لابا إيفا، أيه لابا إيمول

أوسان غانغان نيغبابو وُلِه دِه

إلتقينا بالعرّافة في هذا العالم

إلتقينا بالإسلام في هذا العالم

أما المسيحيّة فقد أتت آخر النهار

مقدم الأسياد المستعمرين والمسيحية والتعليم الغربي.

يمكن تقسيم غزو الرجل الأبيض إلى مرحلتين المرحلة الأولى كانت في القرن الخامس عشر مع الاستكشافات الجغرافية التي قام بها الأوروبيّون في بحثهم عن طريق إلى الهند، ووصل البرتغاليون إلى بنين سنة 1477 (Erio2012 بينما يرى فافونوا (2002 ,Fafunwa) أنّ التجّار البرتغاليين وصلوا إلى لاغوس وبنين سنة 1472. في سنة 1485 كان هؤلاء التجّار قد تمكنوا من جعل أهل بنين ينخرطون في

تجارة البهار، وعليه أرسل أوبا ملك بنين مبعوثًا إلى البلاط الملكي في البرتغال.

على الرّغم من أن اهتمام البرتغاليين بدءًا كان محصوراً في التجارة، ولكنهم رأوا لاحقًا أنّ عليهم تحضير الأفارقة ليصبحوا مستهلكين جيّدين، والتحضير بحسبهم هو تنصيرهم وجعلهم يتبعون مبادئ التعليم الغربي. بدأ النشاط التبشيري في

ص: 205

بنين سنة 1515 عبر مبشرين كاثوليكيين أسّسوا مدرسة للأمراء المتنصرين ولأولاد الوجهاء في بلاط أوبا. (Ibid). في السنة نفسها بعث غاسبر أسقف أبرشية ساو تومه رهبان أغسطينيين لزيارة واري وقد نجحوا في تعميد أحد أبناء ملك واري وسمّوه سباستيان. فيما بعد خَلف سباستين والده وأعطى المبشرين البرتغاليين دعماً واسعًا، أما ابنه دومينغوس فقد أُرسل إلى البرتغال لتعليمه الكهنوت. على الرّغم من وجد البرتغاليون من العوائق ما فاق الخدمات المقدّمة لهم ما جعلهم يتخلّون عن مشروعهم. أما المرحلة الثانية والتي آثارها ما زالت مستدامة فقد بدأت في أيلول من العام 1842 مع وصول أول المبشّرين الإنكليز إلى باداغري. في تلك المرحلة كان العبيد المحررون في سيراليون منخرطين في التجارة في مناطق اليوروبا ويعملون على نشر الدين المسيحي ويسيطرون على أول كنيسة أنشِئت في تلك المنطقة. أما المبشّرون فكانوا مؤتمنين على التعليم الذي استعمل كأداة للتنصير، لأنّ التعليم حينها كان يهدف إلى إنتاج مسيحيين يمكنهم قراءة الإنجيل وإقامة الشعائر. هنا نقتبس من ويليام بويد قوله:

«... يجب التذكير بأنّ الكنيسة أخذت على عاتقها مسألة التعليم لا لأنها ترى التعليم أمرًا جيدًا بذاته، ولكنّها وجدت أنّه لا يمكنها أداء دورها من دون توفير القدر اللازم من التعليم لأتباعها، وبشكل خاص لكهنتها ليتمكنوا من دراسة النصوص المقدسة وتأدية مهامهم الدينية. (2002:70 ,Fafunwa).

في هذا المقطع نستنتج أنّ قدوم الأسياد المستعمرين أدّى إلى إدخال المسيحيّة كدين جديد إلى جانب الدين التقليدي والإسلام، كما أنّ نمط التعليم الغربي تسلّل عبر المسيحيّة الوافدة، تاركا آثاره الإيجابيّة والسلبيّة على الأديان المتواجدة على تلك الأرض. وقد بيّنا سابقا في هذا البحث أنّ مفهوم الدين لا يقتصر على الشعائر فقط، ولكنّه يتخطاها إلى الثقافة والإقتصاد والسياسة وجوانب أخرى من سعي الإنسان وهو ما طالب به الإسلام على الرّغم من ذلك سنحقق في الجوانب الإقتصادية والسياسية من منظور الدين فقط وليس من منظور علمي الإقتصاد والسياسة.

ص: 206

الآثار الإيجابية للاستعمار في جنوب غربي نيجيريا

قدوم الأسياد المستعمرين استتبعه دخول دين جديد إلى المنطقة وهو المسيحيّة كان يُنظر إليها على أنّها دين البيض (إسين أوون أينبو). الاستعمار والمسيحيّة الملازمة له ساعدا على إلغاء الشعائر التي كانت تدور حول البشر أو تتضمّن أضاحٍ بشريّة. بمعنى آخر ساهمت هذه الظاهرة في إلغاء بعض شعائر الدين التقليدي التي تتضمن التضحية بالبشر لإرضاء الآلهة.

حلول الاستعمار مصحوبًا بظهور المسيحية جلب معه التعليم الغربي الذي يعدُّ قاطرة للازدهار الحضاري، وأدخل معه الزيّ المدرسي حيث أنّ التلاميذ والتلميذات كان عليهم أن يلبسوا ويتصرّفوا ويتكلّموا كالأوروبيّين.

كما أنّ مجيء البيض، لا سيّما في المرحلة التي سبقت إلغاء تجارة العبيد، عزز الحالة الاقتصادية للملوك وبعض الوجهاء الذين تعاملوا معهم بهذه التجارة، وقد ساهمت هذه التجارة في نقل الدين الأفريقي التقليدي إلى بلدان أميركا اللاتينيّة كالبرازيل وكوبا. أما بعد إلغاء تجارة العبيد فقد أدى التفتيش عن تجارة بديلة إلى اغتناء التجّار الذين أدّوا دور الوسيط بين التجار البريطانيين المتواجدين على الساحل والمزارعين في داخل البلاد.

نضيف أنّ رغبة الأسياد المستعمرين بالتوغّل في البلاد استوجبت إنشاء شبكات النقل كسكّة الحديد التي ظهرت أولاً في جنوب غربي نيجيريا، حيث بدأ إنشاؤها في لاغوس سنة 1896 لتصل أبِيوكوتا سنة 1900 وأبيدان بعدها بسنة والحدود الشمالية لنيجيريا سنة 1909 (2001 ,Olubomehin). أما أوّل طريق فقد أنشئ سنة 1906 بین أبيدان وأيو لربطها بسكّة الحديد، وفي سنة 1907 استكمل 30 ميلاً لربط ايو بأغبو موسو و 27 ميلاً لربط أيو بإيسِيين، وفي عام 1910 وما بعده تم إنشاء طريق بين إكيرون وإيلا وبين أسوغبو وإِلسا وهكذا دواليك. (Tbid). وقد أدّى هذا التوغّل إلى ظهور المرافق الاجتماعية كالمستشفيات والكهرباء وما شابه على الرّغم من ذلك يمُكننا بعد التدقيق إثبات أن الآثار الإيجابية هي في حقيقة الأمر سلبيّة، كما ستُظهر في المقطع التالي.

ص: 207

الآثار السلبية للإستعمار

ترك الاستعمار آثاره السلبيّة على الأديان الكائنة عبر إدخاله دينًا جديدًا أي المسيحيّة ما جعل أتباع الدين التقليدي والإسلام يشعرون بالتهديد حيث أن المبشّرين كانوا يجهدون في تنصير الكثير من أتباع الدين التقليدي والإسلام زارعين الاضطراب فيما بينهم. لم يقف حكّام اليوروبا حماة الدين التقليدي ورجال الدين المسلمون مكتوفي الأيدي ليسمحوا للمبشّرين بإخصاء دينهم، ولكنهم وظّفوا جلّ مجهودهم لمقاومة التنصير.

عمل المستعمِرون والمبشّرون يدًا بيد لتحجيم الأديان الموجودة وهذا ما نلمسه في شهادة فافونوا (2002:71,Fafunwa): «لقد اعتمد المبشّرون على الأوروبيّين لتكبيل الزعماء الأفارقة المتمردين حيث إن السلطات الأوروبيّة أملت أن تستولي عبر الإقناع الديني على ما لم تقدر عليه بالسلاح». ما نستنتجه من هذه الشهادة أنّ هدف السيد المستعمِر من إقحام المسيحيّة لم يكن دينيًا خالصًا مرتبطًا بحبّه للأب والابن والروح القدس إنما كان هدفه بالدرجة الأولى تثبيت هيمنته.

كما رأى البعض أنّ إقحام المسيحيّة يجب أن يهدف إلى اقتلاع القواعد السلوكية الموجودة من باب أن «الأديان البدائية مصيرها الزوال والتلاشي»

(1938:230 ,Kraemer)، وهذا ما يعبر عنه الاقتباس التالي بشكل جليّ :

المبشِّر ثائرٌ وعليه أن يكون ذلك لأنّ الوعظ وغرس المسيحيّة يعني الهجوم الصدامي على العقائد والعادات ومفاهيم الحياة والعالم وضمنًا - لأنّ الأديان القبليّة قبل كل شيء حقائق اجتماعية - على البنى والأسس الاجتماعية للمجتمع البدائي وعلى المؤسسة التبشيرية أن لا تخجل من ذلك لأنّ الإدارة الإستعمارية ومزارعيها وتجّارها والاختراق الغربي إلخ... يقومون بهجومٍ أكثر ضراوةً وتدميراً. (Ibid).

سبق وذكرنا أنّ الاستعمار والمسيحيّة جلبا معهما التعليم الغربي والحضارة، لكن المثبت حاليًا أنّ الجوانب السلبية لذلك فاقت الإيجابية (1) فالمدرسة استخدمت

ص: 208

كأداة للتنصير لتحويل المنتفعين إلى المسيحيّة. (2) كما يبدو أنّ التعليم الغربي والدين الملازم له ركّزا على الجوانب الروحية وبعض من الاجتماعية للحياة، بينما لم يبذلا أي جهد، وبأحسن الأحوال القليل منه، ما تعلق بالجوانب الإنسانية الأخرى كالأخلاقيّات والسلوكيّات الاجتماعيّة البينيّة، ونضيف أنّ الدين الغربي ركّز على العقيدة أكثر منه على التطبيق . (3) كان التعليم الغربي أو الاستعماري أدبيّا في معظمه، يرتكز على القراءة والكتابة والحساب والإلمام بالإنجيل والأدب المسيحيّ وما شابه، ويهدف لإنتاج مسيحيين بمقدورهم قراءة الإنجيل وخدمة أسيادهم المستعمرين كتّابًا أو وكلاء أو مترجمين لتسهيل تجارتهم . (4) نُضيف أنّ التعليم الغربي/ الاستعماري دفع التعليم الكائن إلى الاندثار، فعلى سبيل المثال كان التعليم العربي/ الإسلامي مزدهرًا قبل قدوم التعليم الغربي حيث إن لغة اليوروبا كانت تكتب بالأبجديّة العربية المعروفة بالعجميّة حتى تم اقتلاعها واستبدلوا بها الأبجديّة الرومانية التي ما زالت تُستخدم حتى يومنا هذا. كما أن نظام التعليم التقليدي كان يسمح بتعليم الأخلاقيّات وما شاكل خارج نطاق المدرسة، بينما نجد أن نظام المدرسة الداخليّة في التعليم الغربي حَرَم التلاميذ من هذه الفرصة الذهبيّة. (1998 ,Omotosho) (,Ogunbado . (2011.

زعم البعض أنّ تجارة العبيد ساهمت في نشر دين اليوروبا التقليدي خارج النطاق المحلي وساهمت بتعزيز الاقتصاد، وهذا يحتاج للتدقيق حيث إنّ العبيد الذين أُخذوا إلى البلدان الأجنبية تم نقلهم بالإكراه للخدمة في مزارع أسيادهم، ولم يُسمح لهم بممارسة دينهم وأُجبروا على اعتناق المسيحيّة، إلا قلّة بقيت على دينها وتمكّنت من ممارسته بعد تحررها نذكر أيضًا أنّ الأغلبيّة منهم ماتت خلال الرحلة وتم رميهم في المحيط، ناهيك عن الآثار الكارثية لترحيلهم على عائلاتهم ومجتمعاتهم لأنهم كانوا الأعمدة والأجسام القادرة (القوى العاملة) في مجتمعاتهم. الأقلية فقط من المتعاملين مع الاستعمار تمكّنوا من تعزيز وضعهم الاقتصادي بينما عانت الأغلبية

من نتائجه.

ص: 209

على الرّغم من إنشاء الإدارة الاستعمارية للمرافق الاجتماعية إلّا أنّ التمحيص في هذا الزعم يُظهر أنّ جلّ ذلك كان منطلقًا من دوافع أنانية، فشبكة النقل التي ربطت المدن الكبرى والأسواق والسواحل بعضها ببعض أُنشئت لتسهيل نقل المواد الخام من المصدر إلى الساحل ليتم شحنها بالسفن لاحقًا إلى أوروبا. كذلك لم يهدف بناء الطرق إلى رفع منسوب الرفاهية عند الناس ولكن إلى تمكين الضبّاط البريطانييّن من الوصول إلى داخل البلاد لجمع الأتاوات والضرائب، وإلى تسهيل إيصال المواد الخام إلى السكّة الحديدية التي لم تكن تغطّي كلّ الداخل. الظاهر أنّ معظم الطرق الأولى ارتكزت على طرق المشاة القديمة التي كانت تصل القرى بالمزارع والأسواق، وجلّ ما فعله الأسياد المستعمرون هو توسيعها وتقويمها حتى أن بعضها تُرك بلا تزفيت 198,Omotosho). نذكر هنا أنّ الحكومة الاستعمارية عارضت بدايةً إنشاء السكّة الحديدية بسبب تكلفتها التي تم تغطيتها لاحقًا بواسطة الضرائب. يحضر عامل الاستعمار الديني في هذا المشروع أيضًا كما نجد في كلام أحد دعاته المقتبس عن كولِمان (Coleman1977:55): «فكّروا بالمنافع التي ستحصل عليها إنجلترا عبر تزايد الأسواق لمنتوجاتها الصناعيّة وحصولها على إنتاج إضافي في المقابل،... هذا سيحضّر الهمجي ويهيّئه لتلقّي رسالة المبشّرين».

بذريعة الحضارة أفسد البريطانيون المؤسّسات التقليدية والثقافة الدينية، وجردوا الأوبا (الملوك) من حقوقهم وأبعدوهم وجعلوهم أتباعًا للهيمنة البيضاء، كما أنهم استبدلوا بالحدود الطبيعية والثقافية أخرى مصطنعة ما أدى إلى تقسيم بلاد اليوروبا

بين الهيمنة البريطانية في نيجيريا والإمبريالية الفرنسية في بنين.

المقاومة وردّ المستعمِر وأعماله الوحشية التنكيليّة

فى الحقيقة لا يوجد أيّ يوجد أي مجتمع يمكن أن يقف مكتوف الأيدي ويسمح بهيمنة الأجنبي على أرض أبائه، وهذه حال اليوروبا في جنوب غرب نيجيريا الذين لم يُذعنوا للإمبريالية، ولم يسمحوا بحلول الآثار السلبية دفعة واحدة، ولم يقبلوا الإخلال بمؤسساتهم التقليدية وثقافتهم الدينية، وأظهروا بعض المقاومة. كان قرار البريطانيين

ص: 210

وغيرهم من الأسياد المستعمرين هو استخدام القوة المفرطة ليتغلّبوا على الزعماء التقليديين وأتباعهم الذين كانوا يقاومون الهيمنة الأوروبية في مناطقهم، وقد وُظّف هذا التكتيك لإخضاع اليوروبا في جنوب غربيّ نيجيريا.

بدأ استعمار نيجيريا برمتها وجنوبها الغربي تحديدًا من لاغوس المدينة الساحلية في جنوب غربيّ نيجيريا . قامت الإمبريالية ابتداءً بابتداع معاهدة تمنع الاتجار بالعبيد ليُوقّعها الزعماء الأفارقة مع التهديد بأخذ إجراءات بحق رافضي ذلك، وقد كان أوبا لاغوس كوسوكو أول من طولِب بالتوقيع.

نظر الأوبا كوسوكو إلى المعاهدة على أنّها تدخّل في شؤون بلاده ورفض توقيعها ما جعل البريطانيّين يكيدون له ولمؤيّديه. في سنة 1851 حاول جون بيكروفت إقناع کوسوكو بالتوقيع من دون نجاح ما جعله يأمر السفن الحربية الأربع المرافقة له بقصف لاغوس إلّا أنّ كوسوكو ورجاله أظهروا شجاعةً بالتصدي وقاموا بالرد على النيران ما أدّى إلى قتل ضابطين وجرح ستة عشر آخرين. (1977 ,Ikime). كانت هذه المقاومة وهذا الردّ عاراً على البريطانيين الذين انسحبوا ليعودوا مع قوة مكتملة لقصف لاغوس في السادس والعشرين من كانون الأول من العام 1851. في النتيجة تم نفي كوسوكو من لاغوس وتُوّج خصمه في العرش أكينتويه الذي قام بتوقيع المعاهدة لتصبح لاغوس بعد بضعة أشهر مستعمرةً بريطانيّة، لكنّ كوسوكو، الذي صادف أنه مسلم ، وأتباعه تمكّنوا من إعادة بناء كيانهم وإحياء دينهم في إبه.

بعد نجاحهم في إخضاع لاغوس رغب التجار البريطانيّون والسلطة في لاغوس (المستعمرة البريطانية) الحيازة على منفذٍ لبناء علاقات مباشرة بداخل البلاد، وقرّروا الاصطفاف إلى جانب الإيجِبو كوسطاء، إلا انهم أرادوا نشر المسيحيّة في داخل بلاد اليوروبا أيضًا وهو ما لم يستسغه الإيجِبو الذين رأوا ذلك عائقًا لتجارتهم وانتهًاكا لسيادتهم. نظّم الإيجِبو تظاهرة عدائية خلال زيارة الحاكم الاستعماري سنة 1889، وهو ما عدّته السلطة الاستعمارية إهانة لها وطالبت الإيجبو بالإعتذار. وعندما أرسل الأووجالا وفدًا إلى لاغوس للترحيب بالحاكم الجديد أُكره هذا الوفد على التوقيع

ص: 211

على معاهدة ما رفضوه بشدة استثمرت السلطة الاستعمارية هذا الرفض لاجتياح الإيجِبو وفي التاسع عشر من أيار سنة 1892 حدثت معركة طاحنة، وعلى الرّغم من دفاع الإيجِبو المستميت إلّا أنّ الأسلحة البريطانية القاهرة تمكّنت من سحقهم.

في كانون الأول من العام 1893 استلم النقيب روبرت ميستر باور مهامّه كأوّل مندوب سام مقيم في أبيدان ومتنقّل في أرض اليوروبا الداخليّة جنوب غربيّ نيجيريا، وكان ضمن مهامّه فرض المعاهدات لتوطيد سلطة الإدارة البريطانية في تلك المنطقة. بدأ باور تعاطيه مع زعماء الأبيدان بإخافتهم وترهيبهم ليذعنوا للإمبريالية البريطانية. أعتقل بالوغون أبيدان الزعيم أكينتولا سنة 1894 خلال مهرجان شعبي تقليدي، كما اعتُقِل أوسي بالهِ ،زعيم ،فاجيمي، وقد كان الزعيم سانوسي قد اعتُقِل بدوره قبل ذلك، وحُمّل هؤلاء الزعماء مسؤولية مواجهات أتباعهم مع الضباط البريطانيين. Ajayis) 2008). كذلك تم اعتقال قائد للإكيتيبارابو - مجموعة مقاومة – وهو الزعيم أُعِْدِنقبه وأولاده وتم نفيهم لاحقًا إلى زعيم الإوو.

لم يكن النقيب باور سعيدًا برفض ألافين أُيو وشعبه للإمبرياليّة البريطانيّة، وكان الألافين يمارس دوره كما لو أنّه الحاكم الأعلى في بلاد اليوروبا ويرى أن الاستسلام للأينبو (البيض) تحقيراً لنظامه وحضارته. إستغلّ المندوب السامي الفرصة عندما أصدر الألافين حكمًا بإخصاء رجل جامع زوجة أسِيين من أسِيين، ووصف باور هذا الحكم بالبربري وأمر الألافين وزعماءه بالسجود أمامه في سوق المدينة. رفض الألافين هذا الأمر بشدة وتم تكبيل أسيين وضربه في العلن ما استتبعه قصف البريطانيين لأيو سنة 1895 Ibid.) و (1997 ,Lasisi). ثار الناس في أيو وإبادان ومدن رئيسيّة أخرى في جنوب غربيّ نيجيريا ضدّ الإمبريالية بطريقةٍ أو بأخرى ورفضوا التعليم الأجنبي الذي كان أداة للتنصير. كتب قس أُيو ج. بورتون في الخامس من كانون الأول من العام 1910:

الإسلام يكتسب أرضية بشكلٍ تصاعديّ في المنطقة الغربيّة لإرسالية يوروبا التبشيريّة. المسيحيّة تحقق تقدمًا بسيطًا في أُيو وأُغبومسو وإسيين ولكنّ المساجد

ص: 212

الإسلاميّة موجودة في كل مكان هذا الدين الإسلامي ذو طبيعة فظّة، وجهل أتباعه يجعل العمل بينهم صعبًا ومحبطاً بشكل استثنائي . هناك الكثير من المدارس الإسلاميّة في أيو حاليّا، وليس من الغريب رؤية الأطفال يحملون ، ألواحًا من النصوص العربية التي يتعلّمونها بشكلٍ ببغائي (1911351 ,The Muslim world).

على نحوٍ مماثل كتبت المعلمة التبشيرية أنّا في مذكّراتها بتاريخ الأول من تشرين الأول من العام 1853 عن تجاوب أهل ابيدان مع التعليم الغربي ونقتبس النص من فافونوا 85 Fafunwa, 2002:61 and): «لا نشهد تزايدًا لعدد التلاميذ في مدرستنا حاضرًا، السكّان يخافون من إرسال أولادهم إلينا ويظنّون أنّ «الكتاب» سيجعلهم جبناء، ولكنّ التلاميذ الموجودين عندنا يتجاوبون بشكل رائع».

خلاصة

الاستعمار مسألة لن تُنسى أبدًا في نيجيريا عامةً وفي جنوب غربها خاصةً بسبب آثاره المستديمة الاستعمار اصطلاحًا هو استغلال دولة قويّة لأخرى ضعيفة، أو إستخدام موارد البلد الأضعف لتقوية البلد الأقوى وإثرائه، وقد ظهر بسبب إلغاء تجارة العبيد وبزوغ الثورة الصناعية والبحث عن أسواقٍ جديدة للمنتوجات الصناعيّة إلخ ... آثار هذه الظاهرة راسخة في الكثير من جوانب حياة المستعمَرين. هذه المقالة بحثت حصرًا في آثار الاستعمار في الدين الذي هو بحسب تصورنا غير محصورٍ بالشعائر ولكنّه يتسع ليشمل الثقافة أيضًا.

هناك آثار إيجابيّة وأخرى سلبيّة لهذه الظاهرة، أما الإيجابيّة فتتضمن ظهور دينٍ جديد وقدوم التعليم والحضارة الغربيّة وإبطال الأضحيّة البشرية وشبكة النقل والكهرباء والمرافق الاجتماعية الأخرى. أما السلبيّة فتتضمن إضعاف الأديان الكائنة وتشويه الثقافات التقليدية القبلية والقيم والقواعد السلوكية، وتشمل أيضًا استحداث حدود مصطنعة والخضوع لسلطة أجنبية واستعمال أكثر الأسلحة تطورًا في ذلك الزمن لإرهاب الشعب. كما أنّ الاستعمار حارب المؤسسات التقليدية وفرض

ص: 213

ديكتاتوريته لإجبار الزعماء التقليديين على الخضوع للمعاهدة الإمبرياليّة لإرضاء المصالح الاستعماريّة.

مقاومة الجماعات والمدن المتعددة تُظهر أنّ اليوروبا لم يقفوا مكتوفي الأيدي ولم يضحّوا بسلطتهم للحكم الأجنبي. لقد خبرنا العديد من الوطنيين الشجعان الذين بذلوا حياتهم للدفاع عن أرضهم وسلطتهم، ونشدّد هنا على أنّ إحياء ذكراهم أمرٌ ضروريّ جدًا. لقد تمّ سحقهم بجبروت الأينبو (البيض).. برأي كاتب هذه المقالة أنّ على البريطانيين وغيرهم من الأسياد المستعمرين التعويض على مستعمراتهم جرّاء الخراب الذي سبّبوه لها.

المصادر والمراجع

[1]-Wordweb online dictionary.

[2] -Longman dictionary of contemporary english.

[3] -De Blij H.J. and Muller P. O, (1997). Geography: Realms, region, and concept. N.p :John Wiley Sons, Inc.

[4] -Coleman, J. S. (1971). Nigeria: Background to Nationalism. Berkeley: University of California Press.

[5]-http://www.thefreedictionary.com/Yorubas (accessed 3-March-2012).

[6] -The World book encyclopedia, vol 16:197.

[7] -http://en.wikipedia.org/wiki/Religion (accessed 5-March-2012) .

[8] -Amponsah, S. (2010). "Beyond the boundaries: Toyin Falola on African. cultures» in Niyi Afolabi, (Ed). Toyin Falola: The Man, the mask, the muse. North Carolina: Carolina Academic Press.

[9] -Doi, A. R. I. (1984). Islam in multi-religious society. Nigeria: A case study. Kuala Lumpur: A.S. Noordeen.

[10]-Awolalu, J. O. (1996). «What is African Traditional Religion?» Studies

in Comparative Religion, Vol. 10, No. 2:1. World Wisdom, Inc. www.

studiesincomparativereligion.com.

آثار الإستعمار على الأديان

ص: 214

[11]-Johnson, S. (1921, reprinted ed. 2001). The History of the Yorubas. Lagos: CSS Press.

[12]-Ogunbado, A. F. (2010). Islam and its impact in Yoruba land (South-west Nigeria). Paper presented at The Fourth International Malaysia-Thailand conference. on Southeast Asian Studies. Co-Organized by UKM-MAHIDOL. On 25- 26 March 2010. At Bangi, Malaysia.

[13]-Hastings J., Selbie J.A. and Gray L., (1908) Encyclopedia of religious and ethics. Edinburgh: TT Clark.

[14]-World Assembly of Muslim Youth, (n.d). Islam in concert, Riyadh: The

Cooperative office for call and guidance.

[15]-Gbadamosi, T. G. O. (1978). The Growth of Islam among Yoruba, 1841-

1908. London: Longman Group Limited.

[16]-Al-Aluri, A. A. (1990). Nasimu al-soba fi Akhbar al-Islam wa ‘Ulamah

bilad Yoruba. Cairo: Maktaba Wahaba.

[17]-http://www.alaafin-oyo.org/main/alaafin/genealogy. (accessed 6-June- 2011).

[18]-Al-Aluri, A. A. (1965). Mujiz tarikh Nigeria. Beirut: n.p.

[19] -Erivwo, S. U. (2012). History of Christianity in Nigeria, the Urhobo, the

Isoko and the Itsekiri.http://www.waado.org/UrhoboCulture/Religion/Erivwo/ HistoryOfChristianity/ChapterOne.html. access 5-march-2012

[20]-Omenka, N. I. (1989). The School in the Service of Evangelization: The

Catholic educational impact in eastern Nigeria 1886-1950. Leiden, E.J. Brill.

[21] -Fafunwa, Babs. (2002). History of education in Nigeria, Ibadan: NPS

Educational Publishers Ltd.

[22]-Olubomehin, O. O. (2001). The development of road and road transport in

South-Western Nigeria, 1906- 1920. NJEN No 4: 14- 24. www.ajol.info/index.php/njeh/article/viewFile/3649225497/ (accessed 5-March-2012).

ص: 215

[23] -Kraemer, H. (1938). The Christian message in a non-Christian world,

London: Harpers.

[24]-Omotosho, A. O. (1998). The impact of colonial education and culture

on the Muslim of Nigeria. Journal of Arabic and Islamic Studies, April/May 1998. Pp5261-.

[25]-Ogunbado, A. F. (2011). Muslim Education in Oyo Alaafin: Challenges and developments. Paper presented at International Conference on Islam in Africa: Intellectual Trends, Historical sources and Research Methods. Co-organized by The Federation of the Universities of the Islamic World (FUIW), International Islamic

University Malaysia (IIUM), and Islamic Educational, Scientific and Cultural

Organization (ISESCO). 19th-21st July, 2011.

[26] -Ikime O., (1977). The fall of Nigeria: The British Conquest, London:

Heineman.

[27]-Ajayi, S. A. (2008). Bower tower: A historical monument in Ibadan,

Southwestern Nigeria. The Social Science 3 (1) 2008: 45-50.

[28]-Lasisi, R. O. (1997). «Muslim Traditional Rulers in Nigeria: The Alaafin of Oyo during the Last Phase of British Colonialism, 1945- 1960. » Journal of Muslim Minority Affairs, Vol 17, No. 1, 1997: 31- 41.

[29]-The Muslim World, Vol. 1, No.3 July 1911.

ص: 216

تاريخ الاستعمار في البلاد الإسلامية:تجربة الشعب الصومالي مع الاستعمار

اشارة

عبدالله الفتاح(1)

يعد الشعب الصومالي من أكثر الشعوب الإسلامية التي إكتوت بنيران الاستعمار والقهر ردحاً من الزمن، تعرض من خلالها لهجمة شرسة استخدم فيها كل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية لإحداث اهتزاز في ثقة الأمة بمبادئها الإسلامية وقيمها الحضارية من أجل إخضاعها والنيل من كبريائها.

ورغم ذلك كله تميزت حركة الجهاد الإسلامي ضد القوى الاستعمارية في الصومال بأنها أكثر عمقاً وأشد صلابة، عن غيرها من الحركات المقاومة والجهاد في بقية أجزاء القارة الإفريقية، ولعل ذلك يرجع في المقام الأول الی أن هذه المنطقة عرفت الإسلام قبل غيرها وشهدت التحامات المسلمين

والمسيحيين منذ فجر الدعوة الإسلامية.

وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أخذ هذا الصراع منحاً تصعيدياً حيث تكالبت القوى الاستعمارية الكبرى على الصومال لاخضاعه بالقوة

ص: 217


1- بكالوريوس إعلام - دبلوم ترجمة - ماجستير في الصحافة الإلكترونية- جيبوتي.

المسلحة وتقسيمه لاحقاً بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا بالإضافة إلى إثيوبيا التي استفادت من عمليات التقسيم وقامت بحملة توسعية على حساب جيرانها.

وهكذا بدأ عصر القهر الاستعماري الأوروبي في الصومال والمنطقة عموماً، ليواصل الشعب الصومالي كفاحاً طويلاً من أجل استعادة حريته واستقلاله وتوحيد أراضيه المقسمة.

عندما استقل الإقليمان الشمالي (الصومال البريطاني) والجنوبي (الصومال الإيطالي) في عام 1960م، كوّنا دولة واحدة في ظل جمهورية الصومال.

ودخلت الدولة الوليدة عقب استقلالها مباشرة في صراعات مع جيرانها من أجل تحرير الأقاليم الأخرى ومنها إقليم الصومال الغربي الذي اقتطعته بريطانيا ومنحته لإثيوبيا، وإقليم (N.F.D) الذي منحته بريطانيا لكينيا.

وهكذا أصبح شعار الصومال الكبير مدعاة لصراع مستمر بين الصومال ودول الجوار، مما أثر سلباً في استقرار وأمن الدولة الوليدة.

هيكل الدراسة:

إحتوت هذه الدراسة على مقدمة ومدخل تمهيدي وأربعة محاور رئيسية وخاتمة اشتملت النتائج والتوصيات، حيث تضمن المدخل التمهيدي إطلالة عامة على واقع العالم الإسلامي، ويتطرق إلى ضبط مفهوم العالم الإسلامي والأمة الإسلامية لإزالة اللبس والغموض، وبعدها يسلط الضوء على أهميته الجيوبولتيكية للوصول إلى تصور شامل لواقع العالم الإسلامي من جميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى المشاكل والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الأمة الإسلامية.

أما المحور الأول فيعالج أسباب ودوافع الدول الاستعمارية للسيطرة على البلاد الإسلامية، بينما اهتم المحور الثاني بتجربة الشعب الصومالي مع الاستعمار، في حين احتوى المحور الثالث على الهجمة الاستعمارية على

ص: 218

الصومال وتقسيمه إلى خمسة أجزاء، أما المحور الرابع فقد تضمن عرضا تفصيلياً لمسار حركة الجهاد والمقاومة ضد الاستعمار في الصومال، فيما تحتوي الخاتمة رؤية وتصوراً شاملاً للخروج من هذا المأزق التاريخي الذي جعل الأمة الإسلامية فريسة سهلة لأطماع القوى الاستعمارية.

مدخل تمهيدي: إطلالة عامة على واقع العالم الإسلامي:مفهوم العالم الإسلامي

لا يوجد تعريف جامع ومانع للعالم الإسلامي، ولعل تعدد التعريفات عائد إلى المعايير والأطر المعرفية للمعرِّف، وتعدد الرؤى الإيديولوجية والفكرية والدينية للدارسين والباحثين بالمسألة الإسلامية، فقد استخدم الغربيون هذا المصطلح للدلالة على بلاد المسلمين التي تمتد من الغرب الأقصى إلى المحيط الأطلسي غرباً، إلى الصين شرقاً، ومن آسيا الوسطى شمالاً، إلى إفريقيا المدارية جنوباً(1).

ومع أن معظم العالم الإسلامي يقع جغرافياً في سرة العالم، إلا أنه ليس من السهل تحديده بإقليم جغرافي موحد نظراً لترامي أطرافه، بالإضافة إلى كونه عالم فكرة لا عالم حدود(2).

وبما أن الحكم على الشيء يعد فرعاً من تصوره، فإن رؤية المفاهيم تشكل في نظر هذه الدراسة مسألة في غاية الأهمية فهي الخطوة الأساسية التي نستطيع من خلالها تحديد المصطلحات وضبط مضامينها ودلالاتها، وهناك عدة معايير لتحديد مفهوم العالم الإسلامي، ولذلك ستعم-ل ه-ذه الدراسة على توضيح تلك المعايير ومن أبرزها:

ص: 219


1- د. أحمد صدقي الدجاني، آفاق التعاون بين العالم الإسلامي والمجتمعات الأخرى واستشرافها بالحوار (الإسلام اليوم) عدد (12)، 1949م، ص 10.
2- محمد طاهر ،روبله التعددية في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة وعلاقتها بالمشروع الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 2008م، ص22.

المعيار العددي:

يطلق العالم الإسلامي على مجموعة الأقطار التي تتميز بأكثرية سكانية من المسلمين وبنسبة تفوق 50% من عدد سكانها ، أي أن أكثرية سكانها مسلمون(1) .

المعيار الدستوري:

يطلق العالم الإسلامي على مجموعة من الدول التي تعلن في دساتيرها وقوانينها بشكل صريح بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، أو أن الشريعة الإسلامية هی المصدر الوحيد في التشريعات، أو مصطلحات أخرى مقاربة لهذه المعاني(2).

المعيار التنظيمي:

يطلق العالم الإسلامي على الدول التي تشكل منظمة المؤتمر الإسلامي حيث تقوم هذه المنظمة على فكرة التعاون والتنسيق فيما بين الدول الإسلامية وصولاً إلى التكامل الذي يؤدي مع الوقت إلى تفاعل أكبر، قد يقود - في المستقبل - إلى وحدة كاملة بين هذه الدول(3).

وفي عام 1994م كان عدد الدول الأعضاء في المنظمة إحدى وخمسين دولة، فيما بلغ عدد أعضائها في عام 1998م، ثلاث وخمسين دولة، ثم قفز عدد أعضائها - مرة أخرى - ليصل إلى سبع وخمسين دولة في عام 2002م، وذلك خلال مؤتمر المنظمة في الدوحة(4).

مفهوم الأمة الإسلامية

هناك تعريفات عديدة لمصطلح الأمة الإسلامية، فقد عرفه علماء

ص: 220


1- عبد سعيد إسماعيل، أرقام وحقائق العولمة والعالم الإسلامي، دار الأندلس الخضراء، جدة، ط1، 200م، ص .132_
2- المرجع نفسه، ص 132
3- المرجع نفسه، ص 132 133.
4- محمد طاهر ،روبله المصدر السابق، ص 22

العقيدة، بأنهم المصدقون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعرّف الإمام النووي الأمة الإسلامية بأنها :«من صدق النبي (ص) وآمن به واتبعه فيه، وهذا هو الذي جاء مدحه في القرآن كقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (1)، وقوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس)(2).

وعرّف عبد سعيد اسماعيل الأمة الإسلامية بأنها ذلك الكيان الذي يجمع كل المسلمين الذين يقرّون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مضيفاً أن هذه الأمة تميزت عن غيرها من الأمم بهذا الدين الخالد، وبصفاء عقيدتها (3).

وهنا نلاحظ أن مفهوم الأمة الإسلامية أكثر شمولية من مفهوم العالم الإسلامي، لأن الأخير يقتصر على أقاليم جغرافية معينة، بينما مفهوم الأمة الإسلامية يشمل جميع الناس الذين تجمعهم عقيدة واحدة، بغض النظر عن الإقليم الجغرافي الذي يعيشون فيه.

ثانياً: الموارد البشرية والطبيعية التي يمتلكها العالم الإسلامي تعداد المسلمين في العالم

يقدر عدد المسلمين في العالم بأكثر من (1250 مليون) نسمة، وفقاً المعظم الدراسات، ويشكل المسلمون نحو 23% من سكان العالم، ويقيمون % على 19% من مساحة العالم، ويتوزعون على 56 دولة مستقلة، بالإضافة إلى فلسطين المحتلة، وفضلاً عن ذلك هناك تجمعات إسلامية تضم أكثر من 400 مليون مسلم في دول خارج نطاق منظمة المؤتمر الإسلامي(4).

ص: 221


1- سورة البقرة الآية 143
2- سورة آل عمران الآية 110
3- عبد سعيد إسماعيل، المصدر السابق ص 144.
4- محمد طاهر ،روبله المصدر السابق ص 24

النمو السكاني في العالم الإسلامي

يتميز العالم الإسلامي بأنه عالم ولود يتكاثر بسر بأنه عالم ولود يتكاثر بسرعة مذهلة، بحيث يعتبر الأكثر نمو في العالم سكانيا، ويرجع الفضل في ذلك إلى النصوص الشرعية الداعمة للتناسل، والمشجعة على الزواج.

فقد بات الإسلام ينتشر في العالم أكثر من أي دين آخر، لا سيما في إفريقيا وآسيا، حيث يكتسب معتنقين جدد كل يوم وذلك بسبب بساطة عقيدته

المنطقية ويسر فرائضه.

واللافت للإنتباه أن أكثر من نصف المسلمين يعيشون في الوقت الحاضر في أقطار لم يسبق لها أن خضعت لسيطرة الإسلام السياسية على الإطلاق(1).

الموارد الاقتصادية للعالم الإسلامي

يتمتع العالم الإسلامي بجانب الموقع الاستراتيجي الهام بموارد اقتصادية هائلة، كافية لإشباع حاجاته، وتحقيق التنمية التي تتنافس بها الأمم اليوم، غي--ر أن معظم هذه الموارد تذهب لإنتاج كماليات ودرجات من الرفاه لبعض الأفراد أو الفئات، بينما تعاني الأكثرية من نقص حاد وخطير في الحصول على كثير من احتياجاتهم الضرورية.

ثالثاً: المشكلات التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر

يمر العالم الإسلامي بمرحلة صعبة ودقيقة من تاريخه ويتعرض لهجمة شرسة تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية، لإحداث اهتزاز داخلي في ثقة الأمة بمبادئها وقيمها الحضارية.

وقد حملت مرحلة ما بعد الاستعمار العسكري مجموعة من التحديات

ص: 222


1- د. عماد الدين خليل نظرة الغرب إلى حاضر العالم الإسلامي ومستقبله، دار النقاش، بيروت، الطبعة الأولي، 1999م، ص 28

يمثل بعضها امتداد لمرحلة الاستعمار وكان البعض الآخر نتاجاً لانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر، وطبيعة الكيانات السياسية الناجمة، وطبيعة النخب الحاكمة وممارساتها(1).

التحديات الداخلية:

منذ أن انجلى الاستعمار العسكري الأوروبي عن معظم البلاد الإسلامية - بعد تضحيات جسيمة دفعتها كافة الشعوب المسلمة التواقة للحرية - والدول الإسلامية تعاني من مخلفات الاستعمار وتبعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وبالرغم مما تمتلكها البلدان الإسلامية من موارد بشرية واقتصادية كافية لنهضتها وتحقيق التنمية التي تتنافس بها الأمم اليوم، إلا أن معظم الدول الإسلامية تعاني من مشاكل جمة وخطيرة، تتمثل بضعف التنمية الشاملة في التعليم والصحة والبنية الفكرية والبحث العلمي والنزيف المستمر في هجرة العقول والكفاءات وذوي الرأي والاختصاصيين، وذلك بنتيجة لغياب الحريات وسوء استخدام الموارد الاقتصادية والمالية وتوجيهها لمؤسسات رسمية غير منتجة، مما يجعل العملية التنموية غاية في الصعوبة في ظل تلك الأوضاع السياسية(2).

التحديات الخارجية:

يواجه العالم الإسلامي تحديات جمة وصعوبات عديدة، مفروضة عليه من الخارج، بالإضافة إلى التحديات الداخلية التي سبق ذكرها.

ولعل من أهم التحديات والصعوبات الاستراتيجية التي تواجه معظم الدول الإسلامية على الصعيد الخارجي، ما يلي:

ص: 223


1- لمزيد من التفاصيل أنظر ، د حمدي عبد الرحمن حسن الاسلام في افريقيا من الإرث الاستعماري إلى تحديات العولة.
2- محمد طاهر روبله، المرجع السابق، ص42.

* النهب المنظم لثروات العالم الإسلامي.

* تكريس سياسة تبعية الدول الإسلامية للغرب.

* الديون الخارجية وفداحتها.

* التهديد المباشر والاحتلال العسكري.

وهنا يبدو جلياً أن التحديات الاستراتيجية التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر، هي تحديات داخلية وخارجية مزدوجة، ولا شك أن التحديات الداخلية تبقى أكثر خطورة وأشد ضراوة من التحديات الخارجية، لأن التحديات الخارجية لا يمكن أن تؤدي أثرها الفعال إذا كان الداخل محصناً.

المحور الأول: الاستعمار الأوروبي وتمزيق العالم الإسلامي:

لا بد من العودة إلى التاريخ لسبر غور التأثير العميق للاستعمار الأوروبي في تمزيق وتقسيم العالم الإسلامي، وتشكيل أوضاعه وحدوده السياسية الراهنة.

فمنذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، تعرض المد الحضاري الإسلامي لجزر شديد، ولأزمة حقيقية وخانقة خلصت انتشاره واشعاعه.

وقد ظهرت في الأفق قوى استعمارية جديدة بدأت تمد أطرافها إلى كل مكان في العالم وتضع أقدامها عند كل نقطة استراتيجية أو مركز تحكم في العالم، وذلك في وقت أخذت الدولة الإسلامية في التدهور الحضاري بعد أن أصابتها أمراض التمزق والخلافات السياسية والمذهبية، الأمر الذي ساعد كثيراً أن تمد القوى الاستعمارية الجديدة نفوذها وترث الدولة الإسلامية التي هرمت وضعفت قواها (1).

وهذه القوى الجديدة تمثلت بالإمبراطوريات الأوروبية الناشئة والمتطلعة

ص: 224


1- صلاح الدين ،حافظ صراع القوى العظمى حول القرن الإفريقي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 49، يناير عام 1978م ص 35.

إلى بسط نفوذها على العالم والسيطرة على طرق التجارة الدولية وكل شبر يوجد فيه ثروة.

وهكذا تغيرت موازين القوة في العالم، وبدأ العصر الاستعماري، الذي قسم العالم إلى مناطق نفوذ، وفعلاً كانت إفريقيا وآسيا أساساً هي «الكعكة» التي قسمت بل شرحت إلى فطائر متناثرة رقيقة لكثرة الضعف والوهن ، وهذه الحالة ما زالت سائدة حتى الآن فيما يسمي بالعالم الثالث، وفي مقدمتها البلدان الإسلامية(1).

دوافع الاستعمار للسيطرة على العالم الإسلامي

لقد كانت ملابسات اجتياح الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي مدعاة لأن نقف متأملين في دوافعها وأسبابها، وعند إعمال مقاييس المنطق والواقع، نلاحظ أن هناك عوامل عديدة دفعت الدول الأوروبية إلى السيطرة على البلاد الإسلامية ومنها:

الدوافع العسكرية والسياسية

لعل من أهم ما عنيت به الدول الاستعمارية هو المصلحة العسكرية والسياسية التي أولتها أكبر الأهمية، وقد تعددت الأهداف السياسية التي حدت بكل دولة من هذه الدول إلى توسيع نفوذها ونشاطها الاستعماري، حيث استخدمت معظمها العنف والغلظة ضد أبناء المستعمرات المغلوبين على أمرهم حتى لا يحاول الفكاك من قبضتها الحديدية.

ولم تكتف بعض الدول كبريطانيا بإحكام تلك القبضة القوية على المستعمرات القائمة، بل إنها زحفت أيضاً نحو بلدان أخرى شعرت بضرورة الاستيلاء عليها بغرض تأمين موقفها وتثبيت مواقعها العسكرية.

ومن جهة أخرى تكالبت الدول الأوروبية على العالم الإسلامي بشكل

ص: 225


1- المرجع نفسه، الصحفة نفسها.

فظيع بعد ثمانينات من القرن التاسع عشر، لأن الخطط المرسومة تلخصت في استئثار هذه الدول والاحتفاظ عليها كترسانة بشرية في الحروب، وعمق استراتيجي في أيام السلم، وكانت فرنسا أولى الدول التي نفذت تلك الاستراتيجية السياسية عندما احتلت تونس في عام 1881م.

وشهدت تلك الحقبة مولد عصر التنوير في بعض البلدان الإفريقية وفي مقدمتها مصر، إلا أن القوى الاستعمارية أحسّت بخطورة ترك هذا التنوير الحضاري يتنامى وينضج ، فقررت ضرب بؤر الاستنارة في مصر، فمزقوا أسطولها في موقعة (نافارين) وسحقوا جيشها وقلص-وا تأثيرها وحاصروها داخل حدودها الجغرافية ليتم احتلالها بشكل كامل فيما بعد في عام 1882م(1).

الدوافع الفكرية

كان الاضطهاد الديني الذي ظهر في أوروبا في القرن الخامس عشر نتيجة لتعسف سلطة الكنسية والممارسات الاقطاعية التي كانت تحاك باسم المسيحية سبباً في خروج المستعمرين من بلادهم والتوجه نحو العالم الإسلامي.

الدوافع الاقتصادية

سعت الدول الاستعمارية للسيطرة على اقتصاديات البلاد المستضعفة كواحدة من أهم أهدافها التي أملت عليها دخول هذه المستعمرات.

ونتيجة للجهود الحثيثة التي بذلتها الدولة الاستعمارية، انتقلت ملكية وسائل الإنتاج والمشاريع الإنتاجية من المواطنين الأصليين إلى البيض في المستعمرات، خصوصاً الإسلامية منها، حيث سيطرت الدول الغربية جميع على اقتصاد المسلمين بأساليب في غاية الده-اء والحنكة، وكان أوله-ا إنشاء المصارف وبيوت الأموال التي بدأت ببنك الجزائر الذي أنشأه المستعمرون

ص: 226


1- صلاح الدین حافظ، المرجع السابق، ص 36.

الإيطاليون في عام 1851م، ثم أنشأوا بعده فرعاً لمصرف روما في مدين-ة طرابلس الليبية في أبريل 1907م.

وجاء إنشاء ذلك المصرف قبيل الاحتلال ليساعد الحكومة الإيطالية في بسط نفوذها الاقتصادي إبان فترات الاستيطان (1).

المحور الثاني: تجربة الشعب الصومالي مع الاستعمار:

تقع الصومال في شرق القارة الأفريقية على موقع استراتيجي مه-م في (القرن الإفريقي) على طول الإمتداد الجنوبي حتى باب المندب والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، كما تمتاز بطول سواحلها الممتد على خليج عدن وعلى المحيط الهندي، حيث يزيد مجموعها على ثلاثة آلاف كيلومتر(2).

ويحدها خليج عدن شمالاً، والمحيط الهندي شرقاً، وإثيوبياً غرباً، وكينيا من الجنوب الغربي، وجيبوتي من الشمال الغربي وتبلغ مساحتها 637.657 کیلومتر مربع ، فيما يقدر عدد سكانها 12 مليون نسمة(3).

ويوجد في الصومال عديد من الثروات الطبيعية مثل : اليورانيوم وخامات الحديد والنحاس والقصدير والغاز الطبيعي، وقد تم التأكد من وجود النفط بكميات تجارية.

وتعد الثروات الحيوانية الصومالية الهائلة في قمة الصادرات، فتكون بذلك الصومال من الدول الرئيسة في تصدير اللحوم ومشتقات الألبان كما يتمتع الصومال بمنتجاته الزراعية المختلفة وشوائطها الممتدة الغنية بثروة سمكية كبيرة وهي معرضة للنهب والسرقة وبحاجة ماسة لتأمين وتصنيع وتصدير.

ص: 227


1- د. عوض إبراهيم عوض المرجع السابق، ص21.
2- د. عبد الرحيم حاج يحي العربية الفصحى في اللغة الصومالية مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، الطبعة الأولى، 2006م، ص 13
3- أبشر الإمام أمين (الموقع الجغرافي للصومال وأثره في بنائه السياسي)، (جغرافيون العرب)، الرياض، 2011م، ص 2.

الصومال وحضارات العالم القديم

تميزت الصومال - عبر تاريخها القديم - بعلاقات وطيدة مع سكان سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي والجزيرة العربية ومصر، وعلاقات تجارية

مع مناطق الحضارات الكبرى في العالم القديم وكان من نتائج هذه العلاقات التجارية، أن ازداد عدد المهتمين بالكتابة عن الساحل الشرقي لإفريقيا، وكان البحارة والربابنة القادمون يطوفون بسفنهم التجارية على طول السواحل الصومالية، فسجلوا ما شاهدوه ونقش الفنانون بعض ذكرياتهم وانطباعاتهم عن تلك الزيارات في الرسوم الأثرية الفرعونية كتلك الرسوم الموجودة في الدير البحري في الأقصر بمصر والتي سجلت أعمال بعثة الملكة حتشبسوت إلى

الصومال(1).

ومن أهم الشعوب التي اتصلت بشرق إفريقيا والصومال منذ القدم شعوب الجزيرة العربية وساعد على ذلك عامل القرب الجغرافي، ونظام الرياح الموسمية في المحيط الهندي.

وقد نظم العرب رحلاتهم وفقاً لنظام هذه الرياح، وهناك العامل الاقتصادي الذي دفع العرب لارتياد سواحل شرق إفريقيا.

الهجرات العربية الإسلامية في العصر الإسلامي

وقد أعطى ظهور الإسلام أبعاداً جديدة للعلاقات بين جزيرة العرب وسواحل شرق إفريقيا، ومنذ الفجر الإسلامي تواصلت هجرات عربية متعاقبة إلى هذه المنطقة لأسباب دينية وسياسية، فضلا عن العامل الاقتصادي الذي كان بارزاً في جميع الهجرات.

فهناك هجرة الصحابة إلى الحبشة مخافة الفتنة وفراراً من قمع قريش، ويرجع

ص: 228


1- د. عبد الرحيم جاج يحي، المرجع السابق، الصفحة 15

ذلك عندما نصح النبي صلى الله علية وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة نظراً المعرفة العرب بأرض الحبشة خلال الاتصالات التجارية القديمة ولما عرف به ملكها من العدل.

ويبدو أن الرسول صلى الله علية وسلم لم يأمر أصحابه الهروب بالدعوة الإسلامية من مكة إلى الحبشة لمجرد الهروب ولكنه بالتأكيد أختار هذه الأرض لأسباب سياسية ودينية وأمنية وذلك بعدما تأكد أن أصحابه سوف يلاقون بالحماية اللازمة ومن ثم فسوف تظل بذور الدعوة الإسلامية في مأمن من

قريش وبطشها .

وتؤكد كل شواهد التاريخ بأن منطقة القرن الإفريقي عرفت الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المرجح أن جعفر بن أبي طالب خلال هجرته أسس مركزاً لنشر الدعوة الإسلامية في المنطقة بمساعدة القبائل العربية المستوطنة هناك والتي اعتنقت الإسلام، ثم تتابعت الهجرات العربية إلى الساحل الأفريقي الشرقي منذ عهد الخلفاء الراشدين، وازدادت بشكل كبير في عهد الدولة الأموية والعباسية.

لقد كان للخليفة العباسي هارون الرشيد اهتمام خاص بهذه المنطقة، ودفع برجاله إلى الهجرة إليها، ربما اقتفاء لآثار الأمويين وربما طلباً لتوسيع النفوذ السياسي والديني والتجاري للخلافة العباسية.

وفي تلك الحقبة توافدت على سواحل الصومال مجموعات كبيرة من دعاة الإسلام من عرب وفرس ،وغيرهم، لإنشاء مراكز إسلامية ثابتة لنشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بين القبائل الإسلامية في المنطقة(1).

وهكذا ظلت الهجرات العربية الإسلامية تتدفق على المنطقة طوال العصور الوسطى سواء كان ذلك هرباً من الاضطهاد السياسي والديني أو طلباً للتجارة

ص: 229


1- المرجع السابق . ص 16-17

والاستقرار أو رغبة في التوسع السياسي، لكن النتيجة النهائية هي ذلك الانصهار الحضاري بين العرب وشعوب المنطقة(1).

وفي القرن الرابع عشر، شهدت السواحل الصومالية بإنشاء عدد من الممالك الإسلامية حملت اسم إمارات الطراز الإسلامي، وهنا بدأت ملامح الحضارة العربية الإسلامية في المنطقة، تتبلور بشكل أكثر وضوحاً من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية.

وظلت هذه الممالك الإسلامية تتبادل أدوار الزعامة على منطقة القرن الأفريقي، إلى أن آلت القيادة لمملكة أوفات وأصبح الجزء الأكبر لهذه المنطقة - التي تعرف اليوم باسم جيبوتي - واقعا ضمن نفوذ المملكة.

وتعتبر ممكلة أوفات قاعدة الحضارة العربية الإسلامية في القرن الأفريقي، وكان لها مساهمات كبيرة في ترقية العلوم والثقافة العربية الإسلامية.

وقد برز في هذه المنطقة، أئمة عظماء من الفقهاء والعلماء والدعاة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر(2).

الإمام فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي المتوفي (743ه-).

الإمام المحدث جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي المتوفي (762ه-).

العلامة الشيخ عثمان بن علي الزيلعي المتوفي (872ه-) .

وكان لعلماء الزيلع شهرتهم في مكة والمدينة وفي مصر أيضاً، وتحلق حولهم طلاب العلم من كل بقاع العالم الإسلامي(3).

وقد وثق أ. د. حسن مكي في دراسته طائفة كثيرة من المخطوطات العلمية

ص: 230


1- صلاح الدين حافظ، المرجع السابق، ص 33-32
2- د. عبد الرحيم حاج يحي، المرجع السابق، ص - 19.
3- المرجع نفسه.

واللغوية والأدبية التي تمثل الثقافة العربية الإسلامية في الصومال، وقال إذا نظرنا نظرة مقارنة لحركة الثقافة الصومالية مع نظيرتها في السودان في ظروف ما قبل الهجمة الاستعمارية، فإننا نجد أن هذه الثقافة تتفوق على رصيفتها في السودان.

المحور الثالث: الاستعمار الأوروبي وتقسيم الصومال: جذور الصراع التاريخي بين الصومال والقوى الاستعمارية

منذ فجر التاريخ الإسلامي شكلت منطقة القرن الإفريقي نقطة إنطلاق الإسلام إلى شرق ووسط إفريقيا، لأن هذه المنطقة عرفت الإسلام قبل غيرها وشهدت التحاماً بين المسلمين والمسيحيين منذ فجر الدعوة الإسلامية مما جعلها منطقة احتكاك وصدام بين المسلمين ومحاولات الهيمنة الأوروبية المتدثرة بالمسيحية.

ويعتبر القرون ما بين (960 - 1413م) العصر الذهبي لإنتشار الإسلام في شرق إفريقا، حيث بدأت ملامح الحضارة الإسلامية تتضح في الساحل الصومالي، وتبلورت من الناحية السياسية في بروز عدد من الإمارات الإسلامية عرفت باسم «ممالك الطراز الإسلامي».

وظلت هذه الإمارات تتبادل أدوار الزعامة على منطقة القرن الإفريقي إلى أن آلت القيادة لمملكة أوفات التي وحدت الإمارات الإسلامية تحت رايتها.

وكان هذا الأمر يتعارض مع مشروع مملكة الحبشة المسيحية التي قامت على أساس اللغة الأمهرية والعقيدة الأرثوذكسية وأسطورة الدماء المقدسة التي تجري في عروق ملوك الحبشة من قومية الأمهرة(1).

ومنذ ذلك التاريخ صارت منطقة شرق إفريقيا وبلاد الصومال مسرحاً لحركة صليبية ضخمة لم تكن فقط نابعة من الصراع التاريخي بين مملكة

ص: 231


1- ا.د. حسن مكي، المرجع السابق، ص 35.

الحبشة والممالك الإسلامية التي كانت تحيط بالحبشة إحاطة السوار بالمعصم، بل جاءت نتيجة التحام القوى الاستعمارية التي راحت تتعقب المسلمين بعد طردهم من الأندلس، حيث بدأت القوات البرتغالية حملة عسكرية واسعة لاحتلال الصومال نظراً لموقعها الاستراتيجي في المنطقة، ومع ان هذه القوات الغازية واجهت مقاومة صومالية شرسة أجبرتها على الانسحاب إلا أن محاولات الاستعمار لاحتلال الصومال ظل قائماً (1).

ففي القرن السادس عشر الميلادي، وبالتحديد عام 1517م، استولى الأسطول البرتغالي على مينا زيل--ع وأحرقه، وبدورها انتهزت مملكة الحبشة فرصة وجود الأسطول البرتغالي في مياه البحر الأحمر والمحيط الهندي وأبدت رغبتها في التفاوض مع ملك البرتغال، لعقد تحالف عسكري معه، من أجل نقل قواتها لغزو الصومال وإغلاق البحر الأحم-ر عن-د باب المندب، وكانت هذه الرغبة المسيحية تمثل فصلاً جديداً من صراع المسلمين والمسيحيين في المنطقة(2).

الإمام المجاهد أحمد «جري» والفتح الكبير

في مطلع القرن السادس عشر، ظهر عامل جديد غيِّر مسار الصراع التاريخي بين الإمارات الإسلامية وملوك الحبشة، تمثل باكتساح المسلمين على جميع بلاد الحبشة، بقيادة الإمام المجاهد أحمد بن إبراهيم (3).

وقد استطاع الإمام أحمد«جري» من وقف التمدد المسيحي في المنطقة وإلحاق هزيمة ساحقة للأحباش الذين اندفعوا إلى غزو إمارة هرر الإسلامية في عام 1527م ، ولم يقف الإمام عند حد الإغارات الخاطفة، بل إنه استجمع كل قواته وتابع كره على الملك لبنادنجل في قلب الحبشة.

ص: 232


1- د. عبد الرحيم حاج يجي، المرجع السابق، ص 20.
2- د. عبد الله عبد الرزاق إبراهيم المرجع السابق، ص 176.
3- د. عبد الله خضر أحمد (2014م) أثر الهجرة في تكوين الإمارات الإسلامية في إفريقيا، مجلة قراءات إفريقية، المنتدى الإسلامي، العدد التاسع عشر، ص 18

وشهد عام 1529م ، المعركة الحاسمة بين الإمام والإمبراطور لبنادنجل حيث تعرض الأحباش لهزيمة عسكرية ساحقة، وفر الإمبراطور، وأصبح طريداً حتى مات في عام 1541م (1)، وهذه الانتصارات العسكرية مكنت الإمام من السيطرة على معظم بلاد الحبشة، كما دان لحكمه جميع الشعوب في الحبشة، ما عدا الأسرة المالكة التي استغاثت بملك البرتغال الذي أرسل قوة عسكرية كبيرة مجهزة بأسلحة نارية متطورة لمناصرة الأحباش ضد الجهاد الإسلامي(2).

ودارت المعركة بين قوات الإمام والقوات البرتغالية الغازية عند بحيرة الشانجي عام ،1542م ، وقد أصيب الإمام خلال المعركة واضطر إلى الاستنجاد بالوالي العثماني في زبيد الذي أرسل إليه قوة قوامها تسعمائة جندي من حملة البنادق وعشرة مدافع.

وفعلاً عاود الإمام هجومه على البرتغاليين والأحباش ولكن مع ضعف الدولة العثمانية ومضاعفة القوات البرتغالية الغازية ضرباتها العسكرية على الصومال، بدأت تتغير موازين الصراع التاريخي لصالح القوات المسيحية.

في منتصف القرن السادس عشر، تمكنت القوات البرتغالية من قتل الإمام المجاهد أحمد (جري) ، لكن حركة الجهاد لم تتوقف بوفاته، بل استمرت المقاومة لفترة طويلة قاوم فيها الصوماليون بشراسة كافة المخططات المسيحية للسيطرة على المنطقة.

الاستعمار الأوروبي وتقسيم الصومال

أدت التحولات الكبيرة التي شهدها العالم أواخر القرن التاسع عشر إلى تعاظم دور الدول الاستعمارية التي تفردت بإعادة تشكيل خارطة العالم

ص: 233


1- المرجع نفسه، ص 20.
2- عبد الله عبد الرزاق إبراهيم المرجع نفسه، ص 177.

الإسلامي، من أجل فرض سيطرتها وسطوتها العسكرية على الأمة الإسلامية.

وكان لتلك التحولات والتداعيات التي سادت هذه الحقبة تأثيراتها البالغة على الصراع التاريخي في منطقة القرن الإفريقي(1).

وفي تلك الفترة بدأ التنافس بين القوى الاستعمارية من أجل تقسيم أملاك الصومال بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، كما استفاد الأحباش من عمليات التقسيم، فتوسع-وا على حساب جيرانهم طبقاً لقرارات مؤتمر برلين لعام 1885/1884 .

وفي عام 1884م تمكنت بريطانيا بالاستيلاء على الجزء الشمالي للصومال بعدما أجبرت الإدارة المصرية على الخروج من مدينتي زيلع وبربرة، وفي العام نفسه فرضت فرنسا حمايتها على الساحل الصومالي المعروف حالياً ب(جيبوتي).

وقد تطورت الأحداث بشكل كبير - بعد الحرب العالمية الثانية - وفوجئ الجميع بقيام بريطانيا بتسليم الجزء الغربي للصومال (أوغادين) لإثيوبيا ومنطقة (NFD) لكينيا(2).

وفي مايو عام 1887م، تم الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا، اعترفت الأولى بالوجود والسيادة الفرنسية على جيبوتي، فيما تنازلت فرنسا على ميناء زيلع لبريطانيا، وبموجب هذه الاتفاقية رسمت الحدود السياسية بين الصومالي البريطاني الفرنسي(3).

وهكذا ظل الشعب الصومالي يتعرض لهجمات استعمارية كبيرة قسمت أرضهم وشتت شملهم.

ص: 234


1- محمد عمر جيدي، أبعاد الصراع التاريخي في القرن الإفريقي، ورقة بحثية غير منشورة.
2- الجزيرة نت موجز تاريخ الاستعمار في الصومال،
3- عبد الله الفاتح، المرجع السابق، ص 33.

المحور الرابع: الثورات الصومالية ضد الاستعمار:

قاوم الشعب الصومالي القوى الاستعمارية التي تكالبت عليه، وكان كل صومالي يرى أهمية التصدي للغزاة والدفاع عن الإسلام وشرف الأمة بأنها واجبه الأول، ولذلك شهدت الصومال ثورات عديدة ضد الاستعمار، إلا أن أخلدها وأشدها وقعاً على الاستعمار، كانت الثورة التي قادها الشيخ المجاهد محمد عبد الله حسن ضد المستعمرين في عام 1899م، والتي استمرت لمدة عشرين عاماً، سجلت فيها ملاحم جهادية بطولية كثيرة وانتصارات باهرة على جيوش المعتدين.

ثورة الشيخ محمد عبد الله حسن

ولد الشيخ محمد عبد الله حسن في 17 أبريل عام 1864م، بقرية (قوب فردود) في شمال الصومال ومنذ طفولته كانت تبدو علي-ه دلائل النباهة والذكاء، كما كان مولعاً في ممارسة الفنون الفروسية والحربية(1).

و في السابعة من عمره التحق بمدارس القرآن، حتى أصبح مساعداً للمعلم وهو في الثالثة عشر من عمره، ومن ثم بدأ مرحلة جديدة من حياته استهلها بالاتصال للعلماء والشيوخ المحليين بقصد التزود بالمعارف الإسلامية والعلوم الشرعية والأدبية.

وفي التاسعة عشر من عمره حاز لقب «الشيخ» وهو لقب لا يناله غالباً إلا من كان على مستوى رفيع من المعرفة الدينية، وقد استطاع الشيخ محمد عبد الله بذكائة وسرعة استجابته أن يحقق لنفسه مكانة مرموقة بين أهل الفقه ورجال الدين الذين أخذوا برأيه ولمسوا فيه التقوى والصلاح.

وفي عام 1885م ، قرر الشيخ محمد عبد الله التوجه إلى الجزيرة العربية لأداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة، وكان بصحبته في هذه الرحلة ما لا

ص: 235


1- جامع عمر عيسى تاريخ الصومال في العصور الوسطى والحديثة، القاهرة، 1965م، ص54.

يقل عن ثلاثة عشر رجلاً من خيرة أصدقائه المخلصين لدعوته، وقد أتاحت له الرحلة فرصة للتعرف على عدد كبير من العلماء والفقهاء والمشايخ من بينهم الشيخ محمد بن صالح الرشيدي السوداني - مؤسس الطريقة الصالحية - والذي أعجب به الشيخ محمد عبد الله حسن وبطريقته(1).

وخلال وجوده في الحجاز وقف على أحوال العالم الإسلامي من ضعف الخلافة العثمانية ومحاولات القوى الاستعمارية بتقطيع أوصال الأمة الإسلامية، إضافة إلى مساعي البعثات التبشيرية لنشر المسيحية في بلاد عرفت الإسلام منذ زمن طويل.

كما أنه تأثر بأخبار الثورة المهدية التي كان يقودها الإمام محمد أحم-د المهدي في السودان لتخليص وادي النيل من النفوذ الأجنبي(2)، وهذه العوامل كانت سبباً في ازدياد روحه الثورية لمقاومة الاستعمار الأوروبي في الصومال، والتصدي للتمدد الحبشي الذي يطمع في السيطرة والتسلط على بلاده، إلى جانب هدفه الأكبر في نشر الدعوة الإسلامية بين الشعوب في المنطقة(3).

وباختصار كانت هذه الرحلة بالنسبة للشيخ محمد عبد الله حسن بمثابة مرحلة الإعداد لهذه المهمة الكبيرة وتلك الأهداف النبيلة.

وفي عام 1895م، قرر الشيخ محمد عبد الله حسن العودة إلى الصومال عن طريق عدن، وعندما هبط أرض اليمن أحس بمرارة العداوة للمسيحيين وما أن التقى أحد البريطانيين حتى طلب منه هذا الرجل مشاهدة المظلة التي كان يحملها في يده، ورفض الشيخ الاستجابة لهذا الأجنبي، وذهب بعيداً

ص: 236


1- د. حسن البصري (2015م) الصومال في القرن العشرين حصاد الأسبوع مركز مقديشو للبحوث والدراسات، مقديشو، العدد 69، ص 22
2- شبكة الشاهد الصومالي، الشيخ محمد عبد الله حسن .. العالم الصومالي المجاهد).
3- د. عبد الله عبد الرزاق إبراهيم المرجع السابق، ص 180.

عنه، لكن البريطاني تبعه وحاول أن يريه المظلة بالقوة، فما كان للشيخ إلا أن دفعه بيده فسقط الرجل في مياه البحر، فتجمع البريطانيون وكلهم في دهشة من هذا الرجل الذي يتجرأ على ضرب أحد الأوروبيين، ولولا تدخل رجال الشرطة في عدن لدخل الشيخ السجن هناك.

ومنذ تلك الحادثة أدرك الشيخ أن التفاهم مع الأجانب أمر صعب، وأن التعامل معهم سيكون أكثر صعوبة وقسوة ، فازداد حقداً وكراهية لهم.

وعندما وصل إلى ميناء بربرة في شمال الصومال، تلقى معاملة قاسية من رجال الجمارك الذين طلبوا منه رسوم جمركية على أمتعته، فكان جوابه من الذي أعطاكم تصريحاً بالدخول في بلادنا، وهذه القصة تدل على روح الشيخ اليقظة والتي اتصفت بالشجاعة والجرأة وعدم قبول الضيم.

وذات يوم التقى بمحض الصدفة بمجموعة من الأطفال الصغار وهم في طريقهم إلى مدرسة البعثة الكاثوليكية الرومانية في بربرة، وعلم أن البعثة تقوم بتغيير أسمائهم إلى أسماء مسيحية، وقام على الفور بإرسال شكوى إلى المقيم السياسي البريطاني في بربرة، يطالب فيها بإبعاد المسيحيين والمبشرين عن أرض الصومال الإسلامية، وزاد الأمر اشتعالاً حادثة القس البريطاني الذي كان يسكن بجوار أحد المساجد في بربرة، وكان الأذان يؤرق مضجعه، فقام بإطلاق النار على المؤذن، وقد ترك هذا الحادث أثراً عميقاً في نفس الشيخ والمجتمع الصومالي في المنطقة بشكل عام وهذا كان سببا كافياً لقيام

الشيخ محمد عبد الله بثورته ضد الاستعمار الأجنبي في الصومال.

وفي عام 1897م ، أسس الشيخ حركته الجهادية التي أطلق عليها بالدراويش واختار قرية (قريو ويني) في وسط الصومال مقراً لقيادته ولم يكن البريطانيون قد وصلوا بعد إلى تلك المنطقة الداخلية.

وقد وصلت المقاومة ذروتها بإعلان الشيخ محمد عبد الله حسن

ص: 237

الجهاد ضد جميع المستعمرين في عام 1899م، واستمرت الحركة الجهادية في كفاحها المسلح ضد القوات البريطانية لمدة عشرين عاماً، سجلت من خلالها ملامح جهادية بطولية كثيرة وانتصارات باهرة على الغزاة دفاعاً عن الإسلام وشرف الأمة.

وفي عام 1908م، عقد مجلس الوزراء البريطاني اجتماعاً غير عادي، قرر فيه شن هجوم واسع للقضاء على الشيخ محمد عبد الله وحركته الجهادية في الصومال مهما كانت التكلفة.

وفي عام 1920م ، شنت بريطانيا هجوماً مركزاً بالقوات الجوية والبرية على معقل المقاومة في قلعة «تليح» وكانت الهزيمة هذه المرة محققة، حيث أدت عمليات القصف الوحشي إلى تفكك القيادة العسكرية والسياسية للمقاومة وانتشار الرعب في المنطقة.

ونتيجة لضربات الطائرات الحربية البريطانية التي استخدمت فيها لأول مرة في المعركة، اضطر الشيخ مع عدد من قواته باللجوء إلى إقليم الصومال الغربي، لكن معظم رجاله مات هناك بسبب البيئة السيئة والأوبئة والمجاعة.

وفي أكتوبر 1920م، تمركز الشيخ مع عدة مئات من أنصاره في منطقة (إيمي)، وبدأ ينظم المقاومة من جديد رغم تفشي المجاعة والأمراض في المعسكر.

وفي 21 ديسمبر عام 1920م، توفي الشيخ المجاهد محمد عبد الله حسن، ودفن في مقبرة صغيرة في المنطقة، وعندما علم أنصاره أن القوات البريطانية

تبحث عن جثته، قاموا بفتح القبر ونقلوا جثمانه إلى مكان مجهول(1).

بعد وفاة الشيخ محمد عبد الله حسن استمرت مسيرة الجهاد والمقاومة

ص: 238


1- موقع مجلة قراءات إفريقية، الشيخ محمد عبد الله حسن العالم الصومالي (المجاهد)

في الصومال بأشكال مختلفة، وفي الأربعينيات من القرن الماضي، تسلمت الحركات الوطنية زمام المقاومة والكفاح ضد الاستعمار، وكان من أبرزها حزب وحدة الشباب الصومالي في جنوب الصومال والرابطة الوطنية الصومالية والحزب الصومالي المتحد في شمال الصومال، والرابطة الشعبية الأفريقية للاستقلال، وجبهة تحرير الساحل الصومالي في جيبوتي.

وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1940م، استطاعت إيطاليا أن تحتل الصومال البريطاني، كما فرضت حصاراً خانقاً على الساحل الصومالي (جيبوتي) التي كانت تحتلها فرنسا، غير أنه في العام الثاني ألحقت بريطانيا هزيمة بالقوات الإيطالية وتمكنت من فرض سيطرتها على الصومال الإيطالي.

وتطورت الأحدات في عام 1948م، حيث فوجئ الجميع بقيام بريطانيا تسليم إقليم الصومال الغربي للإثيوبيا وإقليم (NFD) لكينيا.

وفي نوفمبر عام 1949م، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة حق الصومال الإيطالي في الاستقلال، كما قررت وضعه تحت الوصاية لمدة عشر سنوات ابتداء من 1950م ، فاختار الصوماليون إيطاليا وصية عليهم عوضاً عن بريطانيا، وبذلك استعادت إيطاليا سيطرتها مرة أخرى على محميتها القديمة، وهكذا تم تقسيم الصومال بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإثيوبيا وكينيا، وقد سمي ك-ل قسم باسم الدول المستعمرة.

وفي ديسمبر عام 1959م، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بمنح الصومال الإيطالي استقلاله مطلع يوليو 1960م.

وفي أواخر يونيو 1960م، استقل الصومال البريطاني، وبعدها بثلاثة أيام أي في 1 يوليو 1960م، استقل الصومال الإيطالي، واتح-د الاثنان تح--ت اس--م جمهورية الصومال.

ص: 239

وبقي الصومال الفرنسي (جيبوتي) تحت الاحتلال، إلى أن استقل في 27 يونيو 1977م ، وأعلن نفسه جمهورية مستقلة(1).

أما إقليم الصومال الغربي (أوغادين) فما زال تحت الاحتلال الإثيوبي حتى الآن وكذلك الأمر بالنسبة لإقليم (N.F.D) في كينيا.

و دخلت الصومال عقب استقلالها مباشرة في صراعات عسكرية مع جيرانها من أجل تحرير أراضيها التي اقتطعته بريطانيا ومنحته لإثيوبيا وكينيا.

وتذكيراً بهذه التقسيمات الاستعمارية التي تعرض لها الصومال، فإن العلم الصومالي يتكون من نجمة خماسية بيضاء على لون أزرق سماوي، حيث ترمز النجمة إلى الأجزاء الخمسة للصومال، كما يشير اللون الأزرق إلى الأفق حيث يلتقي البحر بالسماء.

وهكذا أصبح شعار الصومال الكبير مدعاة لصراع مستمر بين الصومال ودول الجوار، مما انعكس سلباً في استقرار الدولة الوليدة.

ص: 240


1- لمزيد من التفاصل أنظر عبد الله الفاتح (2015)، خريطة الأحزاب السياسية قي جيبوتي، حصاد الأسبوع، مركز مقديشو للبحوث والدراسات ،مقديشو، العدد 69، ص18.

مناهضة الاستعمار الإنجليزي في السودان: قراءة في تجربة السيد إسماعيل الأزهري

اشارة

أحمد عبدالله محمد(1) - حاتم الصديق محمد(2)

تتناول هذه الدراسة الدور الذي قام به الزعيم إسماعيل الأزهري في السودان خلال فترة نشوء الحركة الوطنية السودانية، وذلك بالوقوف على دوره في مناهضة الاستعمار الإنجليزي للسودان في الفترة الممتدة من العام 1930م وحتى العام 1953م، وهي الفترة التي شهدت البدايات الأولى لبزوغ فجر هذه الشخصية، علماً بأن السيد إسماعيل الأزهري له أدوار نضالية عديدة لا تكفي دراسة واحدة للوقوف عليها لذلك ستكون المراحل التالية من حياته محوراً لدراسات أخرى لتكتمل الصورة عن كفاح وجهاد هذه الشخصية حتى توجت بأن ينال السودان استقلاله.

ص: 241


1- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المشارك - جامعة الجزيرة - السودان.
2- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المشارك - جامعة الزعيم الأزهري – السودان.

هو السيد إسماعيل بن السيد أحمد إسماعيل الأزهري بن أحمد الأزهري بن الشيخ إسماعيل الولي بن عبد الله البديري الدهمشي ووالدته ست البنات من عائلة الشيخ ود دوليب الشهيرة بمنطقة خرس بالقرب من مدينة بارا بإقليم كردفان، ولد بمدينة أم درمان عام 1900م التحق بالمدرسة الوسطى بمدني من الخلوة مباشرة في عام 1913م وذلك بعد أن جلس للإمتحان وكان الأول على جميع الممتحنين وفي سنة 1917م انتقل أثناء مرحلة الدراسة الوسطى إلى مدرسة أم درمان التي أكمل تعليمه بها وكان أول دفعته في امتحان الشهادة السودانية، وظل كذلك طيلة فترة دراسته (1917-1921م)، كان يجيد اللغة الإنجليزية ويتكلمها بطلاقة ثم عمل مدرساً في عطبرة الوسطى في أكتوبر 1921م وذلك بعد إكماله للسنة الرابعة في الدراسة الثانوية لذكائه وتفوقه الدراسي، نقل سنة 1924م إلى مدرسة أم درمان الوسطى وهو أول شاب سوداني دون العشرين يحظى بالسفر إلى بريطانيا في عام 1919م كان ضمن وفد السودان بزعامة السيد علي الميرغني وعضوية كل من السيد عبدالرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي، أوفد إلى بيروت في العام 1927م ضمن مجموعة من المتفوقين لتلقي الدراسة بالجامعة الأميركية في العام 1930م ونال شهادة البكالوريوس في الآداب ودرس العلوم الاقتصادية والتجارية بجامعة بيروت بلبنان وعاد إلى الوطن ليعمل أستاذاً للرياضيات بكلية غردون في العام 1930م صدر له كتاب بعنوان (الطريق إلى البرلمان) في العام 1931م أُنتخب سكرتيراً دائماً لنادي الخريجين بأمدرمان وأول سكرتير لمؤتمر الخريجين عام 1938م، كما أنتخب أول رئيس للدورة السنوية للمؤتمر وظل رئيساً له باستثناء دورتي (1944-1942م) وفي العام 1943م صار رئيس لحزب الأشقاء وظل رئيساً له حتى انصهر في الحزب الوطني الاتحادي في العام 1953م وظل رئيساً للحزب وقائداً له خلال فترة الحكم الذاتي وأصبح أول رئيس وزارة لحكومته 6 يناير 1954م. توفي في أغسطس 1969م.

ص: 242

تخرج السيد إسماعيل الأزهري من كلية غردون التذكارية ونقل بعد ذلك للعمل في مدرسة عطبرة الوسطى ثم مدرسة أم درمان الوسطى وبعد ذلك أُنتخب سكرتيراً للجنة نادي الخريجين بأم درمان فبرزت بعد ذلك مكانته وقدراته في إدارة نادي الخريجين حيث كان النادي يضج بالعديد من النشاطات الرياضية والثقافية ثم اختير بعد ذلك لبعثة دراسية للدراسات العليابالجامعة الأميركية في بيروت في العام 1927م وقد شكلت هذه الفرصة إضافة حقيقية لمسيرة الزعيم الأزهري العلمية والسياسية (1).

بعد وصول الزعيم الأزهري إلى بيروت كان يرغب في دراسة التاريخ ودافعه في وجود عدد من الأساتذة أصحاب باع كبير في هذا التخصص من سوريين ولبنانيين وقد برعوا في كتابة وتحليل التاريخ الإسلامي على وجه الخصوص والتاريخ العربي والشرقي عموماً، ثم إتجه بعد ذلك إلى دراسة الرياضيات التي رع وأجاد فيها ونتيجة لما وفرته له الجامعة الأميركية في بيروت من نشاط ثقافي عن طريق الجمعية الأدبية بالجامعة، فقد انطلق في هذا النشاط الأدبي الأمر الذي ساعده مستقبلا في نقل هذا النشاط إلى السودان، كما استطاع أن ينقل كل الخبرات التي اكتسبها مثل نظم إدارة الإجتماعات وغيرها من الخبرات التي وضُحت بعد ذلك في شخصيته وفي من حوله ويعد ذلك النواة الأولى لما أصدره لاحقا في كتابه الطريق إلى البرلمان (2).

تخرج الزعيم الأزهري من الجامعة الأميركية في بيروت بنجاح ونال درجة البكالوريوس في العلوم الرياضية وبعد عودته للسودان تم تعيينه أستاذاً في كلية غردون وقد أتاح له العمل في كلية غردون معاينة الأوضاع عن كثب في الكلية والإلمام بكل التفاصيل داخل وخارج الكلية. اتصل بعد ذلك الزعيم الأزهري بنادي الخريجين الذي كان عضواً فيه منذ أن كان يعمل بالتدريس في المدارس الوسطي،

ص: 243


1- جعفر محمد حامد رجال وتاريخ، وزارة الثقافة والشباب والرياضة، سلسلة ثقافية للجميع، حصاد للطباعة والنشر، الخرطوم، 2003 ، ص 19.
2- المرجع نفسه، ص20.

وقد كان النادي في ذلك الوقت نقطة تجمع للصفوة المستنيرة من خريجي المدارس السودانية كما أصبح هذا النادي محط أنظار كل السودانيين وتتعلق به أمالهم (1).

قامت جمعية أدبية في كلية غردون مشابهة لنادي الخريجين في أم درمان، وكان (المستر بليك) مساعد الكلية وأستاذ التاريخ بالكلية قد رشح نفسه لرئاسة الجمعية الفخرية، وانتخب عبدالرحمن علي طه رئيساً لها. وقد نشأت مدرستان في كلية غردون الأولى تحت قيادة عبيد عبد النور والثانية تحت قيادة عبد الرحمن علي طه، وقد ظهر الزعيم الأزهري في ذلك الوقت وسط مجموعات الخرّيجين وطرح نفسه كقائدكما قام بطباعة كتابه (الطريق إلى البرلمان) والذي شرح فيه تكوين الجمعيات والندوات والمناقشات والقراءة فكان شعاراً ملفتاً طغى على كل ما يدور في كلية غردون (2).

كان الزعيم إسماعيل الأزهري من الأستاذة المحبوبين في كلية غردون، وقد كان مسؤولاً عن مراقبة الألعاب الرياضة في الكلية، كما كان مشرفاً على الجمعيات الأدبية التي هدفت إلى تهذيب نفوس الطلاب وتعويدهم على الاستفادة من أوقات فراغهم مفيد، كما أن الزعيم الأزهري كان مسؤولاً كذلك عن ثلاث جمعيات وهي جمعية الموسيقى، وجمعية الآداب والمناظرة، وجمعية التمثيل. كان يهتم بالموسيقى ويعمل على توجيه أعضاء جمعيتها وجدت جمعية الآدب والمناظرة إهتماماً واضحاً من الزعيم إسماعيل الأزهري ومنبع إهتمامه بها لأنها تمثل مدرسة يتعلم فيها التلاميذ الخطابة وحُسن الأداء وكذلك المناظرة والمجادلة من خلال منطق سليم وحقائق واضحة. وقد اهتم كذلك بجمعية التمثيل حيث كان يحرص على التجويد والاندماج فی الأدوار وتقمص شخصيات الأبطال وكان يختار من الروايات ما هو هادف ومفيد (3).

ص: 244


1- جعفر محمد حامد، مرجع سابق، ص 21
2- دريه عبدالله ميرغني، عبدالله ميرغني (ب د)، 1999م، ص 66.
3- بشير محمد سعيد، من تاريخ السودان السياسي، الزعيم الأزهري وعصره، مطبعة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1990م، ص6-5 .

كان الإنجليز في الكلية يقيمون المناظرات والمساجلات التي كان يتزعمها الأزهري في الكلية حيث إنه اِقتحم هذا المجال واستحوذ على مشاعر الطلبة وكسب ودَّهم. -م أقام الطلبة في الكلية مناظرة بين التعليم الأولى والتعليم العالي، وأقاموا لكل إتجاه منبراً يصعده المتكلم المؤيد لإحداهما، وقف الأزهري في منبر التعليم الأولى وأيده ثم نزل وسار للمنبر الآخر، وأيد التعليم العالي لأن البلاد لا تتقدم بدونه عندها الطلاب فصاح المستر (كرايتون) المشرف على المناظرة أنا أكره جمباز إسماعيل الأزهري، ومذ ذلك الوقت تعلق الطلبة بالزعيم إسماعيل الأزهري وأصبح يتردد صداه على مستوى القطر كله (1).

كسب الزعيم الأزهري ودَّ الطلاب في كلية غردون بتواضعه وحبِّه لهم واهتمامه الواضح بتعليمهم طرق الخطابة وتنويرهم من خلال الجمعية الأدبية في الكلية، ومن الواضح كذلك أن الإدارة البريطانية لم تكن راضية عن نشاط الزعيم الأزهري في كلية غردون والدليل على ذلك حالة الغضب التي تلبَّست المستر (كرايتون) بعد مناظرة الزعيم الأزهري.

كانت الصحف والمجلات العربية محظورة على طلبة كلية غردون وبعد أن إلتحق الأزهري بالكلية كأستاذ عمل مع عددٍ من زملائه على توطيد اللغة العربية وإتاحة الفرصة لها من خلال جمعية (الآداب والمناظرة) وقد وقف معه في هذا الأمر البشير الفضل ، والمرحوم الشيخ المصري، والأستاذ عبيد عبد النور، والأستاذ عبد الفتاح المغربي، وقد ازدهرت الجمعية الأدبية بصورة واضحة، كما أن الزعيم الأزهري وهو في كلية غردون قام بمعارضة تدريس مادة التاريخ الإسلامي باللغة الإنجليزية، ووافق الشيخ البشير الفضل على مقترح الأزهري وهو تدريس هذه المادة باللغة العربية، وبعد ذلك، وبمجهودات الأزهري ومن معه ظهرت إلى حيز الوجود مجلة كلية غردون التي احتجبت في العام (1940م) (2).

ص: 245


1- - دريه عبدالله ميرغني، مرجع سابق، ص 67-66 .
2- محمد عمر باشري ، رواد الفكر السوداني، دار العالم الاسلامي، بيروت، 1981م، ص 58.

حدث إضراب كلية غردون في العام (1931م) أي بعد مجيء الزعيم الأزهري من الجامعة الأميركية في بيروت بعام واحد وكان سبب هذا الإضراب خفض المرتبات عند تخرجهم وقد كان الطلبة قبل هذا الإضراب على صلة وثيقة بمعلميهم الذين عادوا من بيروت إلى السودان وهم يحملون أفكاراً ورؤى جديدة عن الحياة الجامعية ومن هؤلاء الأستاذة: عبيد عبد النور، وعبد الفتاح محمد المغربي ومحمد عثمان ميرغني، ومحجوب الضوى وبشير محمد سعيدا (1)

ساهم إضراب طلبة كلية غردون في إعطاء الحركة الوطنية دفعة قوية، وقد جاء الإضراب بعد سبع سنوات من القضاء على ثورة 1924م وقد كان سبب الإضراب تخفيض مرتبات الخريجين من ثمانية جنيهات في الشهر إلى خمسة جنيهات ونصف وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية التي دفعت الحكومة لتخفيض المرتبات وتخفيض عدد الموظفين (2).

نتيجة للظلم الذي وقع على خريجي الكلية تقدم طلاب الكلية بشكوى للحكومة، وبعد ذلك تكونت لجنة من كبارالسودانيين وهي لجنة العشرة في يوم26 یونیو 1931م وقد تدخلت الزعامات الطائفية كما تدخل السيد عبد الرحمن المهدي لأن إبنه الصديق كان طالباً بقسم الهندسة واختلفت وجهات النظر وبعد ذلك سافر السيد عبد الرحمن إلى القاهرة ولم يسهم في حل المشكلة (3)

تدخل السيد عبد الرحمن بعد ذلك ووعد بحل المشكلة من خلال إطعام ستين مسكينا ليحل الطلبة من القَسَم الذى قطعوه بأن لا يعودوا للدراسة إلا إذا استجابت الحكومة لمطالبهم، وقد كان تدخل السيد عبد الرحمن الهدف منه تحجيم اندفاع الشباب وتماشياً مع سياسة الحكومة البريطانية (4).

ص: 246


1- بشیر محمد سعید، مرجع سابق، ص 37.
2- محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحديث (1821-1956)، ط2،مطبعة جامعة افريقيا العالمية، الخرطوم، ص 459 .
3- محجوب عمر ،باشري معالم الحركة الوطنية في السودان المكتبة الثقافية، بيروت، 1996م، ص 243-244 .
4- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، ص 460.

قامت الحكومة البريطانية بعد ذلك بإدخال إمتحان عرف بإمتحان الخدمة المدنية لجواز تعيين أي خريج ولن يتم التعيين إلا بعد النجاح في هذا الإمتحان، كما تمت إضافة شرط آخر للتعيين وهو النجاح في إمتحان الهيئة وهو إمتحان مقابلة ودراسة لشخصية الطالب (1)

رأت الحكومة البريطانية أن من الأسباب التي أدت إلى تمرد طلب-ة كلي-ة غردون يعود إلى وجود عدد من المدرسين اللبنانيين والسوريين وخريجي الجامعة الأميركية في بيروت والمتحمسين لفكرة اليقظة العربية. كما أنه-ا ق-د وجهت الإتهام إلى السيد إسماعيل الأزهري وعبد الفت-اح المغربي وعبيد عبد النور المدرسين بالكلية والمتخرجين من الجامعة الأميركية في بيروت بأنهم وراء هذه الاضطرابات (2).

كان السيد عبد الرحمن المهدي شديد الاهتمام بالخريجين وكان يتبرع بسخاء لجمعياتهم الخيرية ويساعد غير المقتدرين منهم. مواصلة دراستهم كما استضاف البعض منهم في داره وكان أيضا يغدق بسخاء على المناسبات الدينية والاحتفال بها، ونتيجة لذلك وصفته المخابرات البريطانية في العام (1934م) بأنه الزعيم السياسي لطبقة الخريجين وقد تنبه السيدعبدالرحمن مبكراً لدور هذه الطبقة ولدورهم القيادي ولأن أتباعه (الأنصار) من مناطق الإنتاج التقليدي ولا يمكنهم قيادة الحركة السياسية (3).

سعی السيد عبد الرحمن المهدي إلى كسب عطف الخريجين عليه واستطاع نهاية الأمر أن يضم حوله عدداً منهم تزعمهم كل من علي شوقي ومحمد صالح الشنقيطي. كما ظهرت مقالة في مجلة الفجر بقلم يحيى الفضلي قدمت السيد عبد

ص: 247


1- محجوب عمر باشري، معالم الركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 244.
2- محجوب عمر ،باشري معالم الركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 245.
3- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، 461.

الرحمن كرجل استطاع أن يُثبت مقدرات فذة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وأن له قدرات هائلة لقيادة البلاد سياسياً (1).

مجموعات المثقفين بمن فيهم السيد إسماعيل الأزهري والسيد يحيى الفضلي والسيد عبد الله ميرغني والتي انضمت للسيد عبد الرحمن المهدي كان دافعهم وطنيّاً في المقام الأول وقد نظروا لشخصية السيد عبد الرحمن المهدي الوطنية وقد تعاونت هذه المجموعة مع السيد عبد الرحمن والتقوا من حوله كما التفَّ آخرون (2).

في العام (1931م) انتخب الزعيم الأزهري سكرتيراً لنادي الخريجين بأم درمان وكان وكيل النادي في تلك الدورة السيد محمد علي شوقي وهو من كبار الموظفين المصلحة القضائية وقد أصبح بعد ذلك عضواً ومؤسساً لحزب الأمة كما أنه كان أصدقاء السيد عبد الرحمن المهدي ومستشاره وقد بدأ الصراع الطائفي يطل برأسه ويهدد وحدة الخريجين (3)

أصبح نادي الخريجين في أم درمان مسرحاً للصراع بين الخريجين، وجاءت انتخابات النادي عام (1931م) لتنتقل بالصراع إلى معارك عملي-ة فق-د أب-دت مجموعة من الشباب تذمرهم من سيطرة محمد علي شوقي وجماعته على النادي، ولذلك خطط الأبروفيون للاستيلاء على لجنة النادي وذلك من الوقوف خلف السيد الفيل ليضمنوا تأييد السيد علي الميرغني هذا وقد أصبح الأبروفيون يسيرون خلف الطائفة بعد معارضتهم لها . استطاع الشوقيون اكتساح الانتخابات بفضل قدرات الأشقاء التنظيمية ومقدرات السيد إسماعيل الأزهري وتحالفهم مع السيد عبد الرحمن المهدي، وقد كان الأشقاء يمثلون سند السيد عبد الرحمن السياسي والتفوا حوله من منطلق الولاء الشخصي وقد عبر يحيى

ص: 248


1- محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان مرجع سابق، ص 184
2- محجوب عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 437.
3- بشیر محمد سعید، مصدر سابق، ص 38.

الفضلي عن ذلك الإعجاب في مقال بمجلة الفجر بعنوان (هاؤم اقرأوا كتابيه) وقال فيه أن السيد عبد الرحمن كان قريباً من الشعب وأن علاقته به ستظل متصلة ما بقي عاطفاً حادباً على هذا الشعب(1).

حاول شباب الأبروفيين خلق حركة جديدة داخل نادي الخريجين وتغيير الأوضاع القديمة وذلك من خلال تنفيذ برنامج اصلاحي يدعو إلى الاصلاح والتجديد فخططوا مقاعد لجنة النادي ماعدا منصب وكيل النادي الذي أوكل للسيد (أحمد لشغل جميع السيد الفيل) (2).

كان التنافس بين الطائفتين الختمية والأنصار قد بلغ ذروته وكل منهما يسعى لزيادة سنده الطائفي ولذلك من أجل أن يظهر السيدين أمام الحكومة بمظهر الزعيم القوي صاحب الأتباع الكُثر وقد كان هذا التنافس يشبع رغبات بريطانيا والتي تشجع مثل هذا التنافس انطلاقاً من مبدأ فرق تسد(3).

بعد الخلاف الذي نشب بين الخريجين حاول الزعيم الأزهري العمل على إرجاعهم للنادي ولم يكن يحب أن يرى التباعد والتشاحن بينهم وكان يردد قول المستر (سمسون) أن هذا النادي سيلعب دوراً هاماً في تاريخ السودان. وبعد انصراف الخريجين عن النادي اتجهوا إلى تكوين الجمعيات الأدبية في أحياء أم درمان وهي جمعيات للقراءة والمناقشة ومن هذه الجمعيات جمعية أبي روف وجمعية الهاشماب والتي نشأت في حي الهاشماب في منزل المهندس محمد عشري الصديق(4).

المحور الثالث : موقف الزعيم الأزهري من اتفاقية 1936م:

بدأت المفاوضات بين بريطانيا ومصر لعقد معاهدة (الصداقة والتحالف) وثم وقعت اتفاقية (1936م) بين الدولتين واتجهت أنظار السودانيين نحو مصر أملا في أن

ص: 249


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحديث، مرجع سابق، ص 462.
2- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص .65
3- بشیر محمد ،سعید، مصدر سابق، ص 38.
4- المصدر نفسه، ص .40-39

تنوب عنهم في الدفاع عن حريتهم وذلك لأن السودانيين لم يكونوا ممثلين كطرف في المفاوضات(1).

لم تُحدث اتفاقية (1936م) تغيراً جذرياً في إدارة السودان حيث إنها استمرت كما هي حسب اتفاقية (1899م) وقد علقت اتفاقية (1936م) مسألة السيادة على السودان ولكنها في الوقت نفسه أعادت لمصر بعض نفوذها الذي فقدته سنة (1924م) وقد سمحت هذه الاتفاقية بعودة أورطه من الجيش المصري إلى السودان على أن تكون تحت قيادة الحاكم العام وبهجرة المصريين الجماعية للسودان. ونصت المعاهدة على أن يعين الحاكم العام ضابطا مصريا ليكون سكرتيراً له واستيعاب المصريين في بعض الوظائف الفنية التي لا يوجد سودانيين مؤهلين للعمل فيها . وارضاءً للشعور الوطني السوداني اضافت المعاهدة نصا مبهما وغامضا فحواه أن الهدف من حكم السودان هو رفاهية أهله دون تحديد لهذه الرفاهية والطرق لتحقيقها(2).

كما نصت الاتفاقية فى الفقرة السادسة عشر من المحضر المتفق عليه بين بريطانيا ومصر إلى أن حكومة مصر ترسل فوراً بمجرد نفاذ المعاهدة ضابطا مصريا عظيما يستطيع الحاكم العام استشارته في الأمور الخاصة بالجنود المصريين الذين يمكن الاستعانة بهم للخدمة في السودان كما تم الاتفاق على تعيين ضابط مصري سكرتيراً حربياً للحاكم العام، كما تم الاتفاق على انتداب خبير مصري اقتصادي للخدمة في الخرطوم لتوثيق الروابط الاقتصادية بين السودان ومصر(3).

اعتبر السودانيون أن تعبير (رفاهية) مائع ومبهم ، الأمر الذي دفع السيد عبد الرحمن المهدي صديق الإنجليز للسفر إلى بريطانيا ومصر ليستوضح معناه ولقد دفعت تلك المعاهدة بالمثقفين والمتعلمين للتفكير في أمرهم بعيداً عن دولتي الحكم الثنائي.

ص: 250


1- عبداللطيف عبدالرحمن لمحات من الحركة الوطنية في السودان، شركة الطباعة والنشر المحدودة، الخرطوم، 1987م ، ص 13
2- حسن أحمد ابراهيم تاريخ السودان الحديث، (18821-1956م)، دار النشر الخرطوم، ط6، 1987م، ص 127- .128
3- يواقيم رزق مرقص، السودان في البرلمان المصري، (1924-1936م)، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، القاهرة 1989م، ص 67

تأثر المتعلمون بكفاح حزب المؤتمر الهندي، واستهواهم أسلوبه في الكفاح السلمي الذي يبعدهم عن الصدام المسلح بعد المرور بتجربة ثورة (1924م) وافتتنوا بشخصية (المهاتما غاندي) ومنهجه (1).

أدرك السيد عبد الرحمن أن اتفاقية 1936م تجاهلت سيادة السودانيين على بلدهم كما وجدت الاتفاقية رفض واضح من المستر (بريدن) (gr. bredin) وهو رجل مثقف تخرج من اكسفورد انضم للخدمة في السودان في العام 1921م وعمل مفتش مركز ثم عمل في مكتب السكرتير الإداري مُشرفاً على الشؤون السياسية ومتخصصا في دائرة المعلومات الخاصة بالمتعلمين، ثم عُيِّن مديراً للنيل الأزرق من عام 1941- 1948م(2).

كانت رؤية الزعيم الأزهري للاتفاقية أنّها صادمة حيث لم يتم أخذ رأيهم في الأمر ولم يتم الاهتمام بهم ولكن هناك نص في الاتفاقية وفي مادتها السادسة عشر يقول (... أنه يمكن للطرفين المتعاقدين أن يدخلا في مفاوضات بناء على طلب أي منهما في أي وقت بعد انقضاء مدة عشرين سنة على تنفيذ المعاهدة، بما يلائم الظروف السائدة حينذاك ...) كما نصت المعاهدة على أنه يمكن في أي وقت بعد إنقضاء مدة عشر سنوات على تنفيذ المعاهدة الدخول في مفاوضات ترضي الطرفين المتعاقدين بقصد النظر فيها(3).

ذكر الزعيم الأزهري أن هذا النص قد ساعد في إيجاد بصيص من الأمل في نفوس السودانيين ولذلك رأوا أن يهيئوا أنفسهم لمواجهة الموقف لإعادة النظر في المعاهدة أو تعديلها ليحصِّلُوا للسودان ما فاته ولقد كان ذلك حافزاً آخر لتوحيد الكلمة والصف مما أدى إلى مولد مؤتمر الخريجين العام(4).

ص: 251


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، ص .470-469
2- محجوب عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 248.
3- بشير محمد سعید، مصدر سابق، ص 51-52
4- المصدر نفسه، ص 52

موقف الأزهري من فكرة مؤتمر الخريجين:

كان موقف الزعيم الأزهري أو رأيه حول مؤتمر الخريجين أنه يعمل على إعادة وحدة الخريجين ولذلك تم أخذها منذ البداية مأخذ الجد، ثم بعد ذلك تنظيم اجتماعات اسبوعية يتم فيها تبادل الآراء حول التنظيم الجديد، كما طلب من بعض الخريجين بواسطة الزعيم الأزهري أن يعملوا على إعداد مذكرات عن فكرة تطرح للمناقشة في النادي، وبعدما تمت دراسة المقترح بصورة مستفيضة تم تدوين الأفكار والمقترحات حول المؤتمر في أوراق لكي يخرج منها مشروع دستور المؤتمر، وقد كان رئيس اللجنة التحضيرية لهذا العمل الأستاذ جمال محمد أحمد ومن الأعضاء البارزين والذين أسهموا مساهمةً فاعلة في الدراسة الدكتور مكي شبيكة الذي كان يمثل في ذلك الوقت سكرتير النادي والأستاذ علي محمد أحمد من أعضاء لجنة النادي ويحي الفضلي وإسماعيل عثمان صالح وخضر حمد وغيرهم(1).

ذكر الزعيم الأزهري أنهم وفي نادي الخريجين عملوا على نشر فكرة الخريجين على نطاق واسع، وعملوا على حشد الناس والحماس له كما كان يرجو أن يحقق هذا المؤتمر وحدة الخريجين وجلب المنفعة للسودان، وكان طموح الزعيم الأزهري جعل المؤتمر مؤسسة تعمل مع النادي وبالتعاون معه لتحقيق الخير العام وخدمة مصالح الخريجين، كما أوضح الزعيم الأزهري أن فريقا منهم كان يرى أن تقتصر عضوية المؤتمر على أعضاء النادي والغرض من ذلك تشجيع الخريجين على العودة إليه بعد أن هجروه، ورأى فريق آخر أن يكون المؤتمر منظمة منفصلة عن النادي، هدفها أن تعد النفوس لمواجهة الموقف عند إعادة النظر في معاهدة (1936م) أو تعديله(2).

بدأت فكرة مؤتمر الخريجين إثر احتفال كلية غردون في العام (1935م) بطلبتها القدامى، حيث إنه كان هناك عرف في الكلية يدعُوا كلَّ عام الطلاب لتجديد الولاء والعهد لها ويتعرفوا على أوجه النشاط الثقافي والرياضي كتب السيد خضر حمد

ص: 252


1- المصدر نفسه، ص 56.
2- بشیر محمد سعید، مصدر سابق، ص 57 .

بعد هذا الاحتفال مقال في عموده (في الهدف) الذي كان يُنشر في ذلك الوقت في جريدة السودان تحت توقيع (طوبجي) اقترح أن يجعل هذا اليوم مؤتمراً تبحث فيه الأمور الهامة التي تتعلق بالبلاد حاضرها ومستقبلها(1).

عقَّب على ذلك المقال الأستاذ أحمد خير المحامي في خطاب بعث به للسيد خضر حمد نشرته جريدة السودان بتاريخ 24 يوليو 1935م اقترح فيه لمن يهمه الأمر علاجا للموقف الحالي في نادي الخريجين واقترح أن يسير النادي بخطوات أوسع ليصبح منارة للخريجين كما نبّه إدارة النادي والذي يمثل الزعيم الأزهري أحد أركانها للدفع بالنادي نحو أفاق أكبر وأرحب والطريق إلى ذلك يكون عبر (مؤتمر الخريجين)(2).

لم تكتف جمعية ود مدني الأدبية بتقديم الاقتراح لإنشاء المؤتمر على لسان الأستاذ أحمد خير المحامي ومناقشته ومن ثم تأييد المقترح في صحيفتي (الفجر)و(النيل) فقد قامت بإرسال أربعة من اعضائها إلى نادي الخريجين في أم درمان حيث سلّموا نص المحاضرة التي نادت بقيام نادي الخريجين للسيد الزعيم الأزهري رئيس النادي، وجد هذا المقترح من قبل الخريجين كل الترحيب وقاموا بالثناء على محاضرة الأستاذ خضر حمد في نادي الخريجين في ود مدني التي اشتملت على أراء صادقة كانت تدور في نفوسهم، ومن الأشياء التي تُحسب لجمعية ود مدني الأدبية أنها صاحبة المبادرة والفكرة لمؤتمر الخريجين والنداء للمهرجان الأدبي ويوم التعليم(3).

يلاحظ أن جمعية ود مدني الأدبية قدمت خدمة جليلة للسودان والسودانيين من خلال المبادرات التي قدمتها، واقتراحها قيام مؤتمر للخريجين، والاحتفال بالمهرجان الأدبي، والاحتفال بيوم خاص للتعليم، كما يرجع الفضل في ظهور هذه المبادرات إلى مجموعة مدرسة أبي روف الأدبية الذين انتقلوا للعمل في ود مدني

ص: 253


1- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص 67.
2- المرجع نفسه، ص .68
3- بشیر محمد سعید، مصدر سابق، ص 55.

واتخذوا من نادي الخريجين في تلك المدينة نقطة انطلاق لنشاطهم الأدبي والثقافي.

كان الباعث الحقيقي للتفكير في قيام مؤتمر الخريجين هو إهمال دور السودان والسودانيين في معاهدة (1936م) بين بريطانيا ومصر، وقد ذكر الأستاذ أحمد خیر المحامي في كتابه (كفاح جيل) أن الدعوة للمؤتمر ما كان أن يكتب لها النجاح لو لم تكن تعبّر عن أماني جماعة من الرجال، كانت تُنتظم الجمعية الأدبية بنادي ود مدني ولقد أُخذت كلمة (مؤتمر) من (المؤتمر الهندي) ويرجع الفضل لجمعية أبوروف أو الأبروفيين في تكوين جمعية ود مدني الأدبية فقد نقل إلى هناك كل من إبراهيم عثمان إسحاق وإسماعيل العتباني وطه صالح وحماد توفيق كما أن صلة الأستاذ أحمد خير بالأبروفيين كانت قديمة (1).

المحور الرابع: قيام مؤتمر الخريجين 1938م:

انعقد الاجتماع التأسيسي للمؤتمر في 12 فبراير 1938م بنادي الخريجين بأم درمان وكان اجتماعاً مشهوداً حضره الخريجون من العاصمة المثلثة ومن الأقاليم القريبة مثل الجزيرة وبعض مناطق النيل الأزرق وعطبرة وشندي، وقد بلغ عددهم 1180 خريجاً، وقد بلغت الحماسة بالمؤتمر قمتها فكاد أن ينفرط عقد النظام لولا تدخل الزعيم إسماعيل الأزهري رئيس النادي ورئيس ذلك الاجتماع حيث تجلت مهارته في إدارة دفة الاجتماع بكل مهارة وحنكة وقد عمل على ضبط حماس الكثرين من المؤتمرين وقد عبر الكثير من الخريجين عن فرحتهم بميلاد المؤتمر وعبروا عن ذلك شعراً ونثراً وقد تغنّى شاعر المؤتمر على نور ببعض الأبيات حركت مشاعر الخريجين حيث قال (2) :

هذى يدي لسماء المجد أرفعها *** رمزاً يشير للمستقبل الحسن

لما نرجيه تحت الشمس من وطر*** وما نفديه بالأرواح من وطن

ص: 254


1- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص 69.
2- دريه عبد الله ،ميرغني مرجع سابق، ص 57

زفوا البشائر للدنيا بأجمعها *** وللعروبة من شام إلى يمن

إِنَّا هممنا وأرهفنا عزائمنا *** على النهوض بشعب للعلا قمن

الله أكبر هذا الروح أعرفه *** إذا تذكرت أيامى ويعرفني

کنا ننمیه سراً في جوانحنا *** حتى استحال إلى الإجهار والعلن

سيطر المؤتمر على مجرى الحركة الوطنية منذ تأسيسه في العام 1938م وحتى العام 1945م هناك عدد من العوامل الداخلية والخارجية ساعدت في التطورات التي شهدتها هذه الفترة والتي منها اتِّساع فرص التعليم الذي أدى إلى تزايد عدد الخريجين وتمركزهم في المدن الكبرى وازدياد مشاركتهم في أجهزة الحكم وأصبحوا يُعرفون بالأفنديّة، كما شهدت هذه الفترة صدور عدد من الصحف مثل جريدة النيل برئاسة عبد الرحمن أحمد وهي ذات ميول مصرية وختمية وفي العام 1939م صدرت جريدة صوت السودان تحت رعاية السيد علي الميرغني وأصدرت الحكومة مجلة (هنا السودان) عام 1940م بغرض مواجهة الدعاية النازية وفي العام 1943م صدرت جريدة السودان الجديد كل هذه الأشياء أعطت للخريجين إحساس التفرد(1).

تركز نشاط المؤتمر في السنوات الأولى حول التنظيم والقضايا الاجتماعية والثقافية والتعليمية كما بدأ محاولات أولية لإبراز بعض القضايا السياسية وكان كل ذلك في جو يسوده الود والاحترام وتشكلت لجان المؤتمر في مختلف المدن الكبرى، وباشرت جمع التبرعات من العضوية وبدأ المؤتمر بأول محاولة للتصدي للقضايا المطلبية مثل القضايا التي تخص الموظفين لكن الحكومة رفضت ذلك واعتبرته تدخلاً في علاقة العمل بين الحكومة والموظفين، كما نبهت المؤتمر إلى أنّه تنظیم قومي لا يمكن أن يحصر نفسه في قضايا فئويّة(2).

صدرت مجلة شهرية باسم المؤتمر وتم اعتماد أربعة أعياد في العام للاحتفال

ص: 255


1- محمد سعيد القدال مرجع سابق، ص 468
2- المرجع نفسه، ص 472.

بها وهي المهرجان الأدبي، وعيد العمال، وعيد يوم التعليم، ويوم السودان الرياضي وتم تنفيذ هذه اللأعياد بالفعل، وكانت تنتقل من مدينة إلى أخرى كل عام، كما دَعَى المؤتمر إلى تخفيض المهور وقتل الشعور الطائفي والقبلي وحارب تعاطي الخمور في بعض النوادي الوطنية وقد نجح في بعض المناطق كما درس المؤتمر أحوال الطلاب السودانيين في مصر فقام بتقديم الإعانات لهم وهيَّأ لهم بيت السودان في القاهرة بجهد شاركت فيه الحكومة المصرية وأصبح المؤتمر وبتفويض من مصر المسؤول عن اختيار الطلاب للدراسة بمعاهدها وجامعاتها فلا يتم قبول الطالب إلا بتوصية من المؤتمر(1).

اتجه المؤتمر كذلك ناحية الجنوب حيث طالب بإلغاء قانون المناطق المقفولة حيث إن هذا القانون ساهم في عزل الجنوب عن الشمال، وطالب المؤتمر كذلك بنشر الدين الإسلامي وتوحيد المناهج الدراسية ورفض توسّع الجمعيات التبشيرية في الجنوب وطالب أن تتولى الحكومة مسؤولية التعليم في الجنوب والشمال. كما نظم المؤتمر مسابقات للدراسات والبحوث عن جنوب السودان تشمل التكوين القبلي والعادات وسبل المعيشة والمجالات الاقتصادية(2).

قدم المؤتمر للحكومة مذكرات ودراسات منها مشروع إصلاح وتطوير المعهد العلمي بأم درمان ومذكرة أخرى عن التعليم في السودان حاضره ومستقبله واقترح في هذه المذكرة أن يكون الاتجاه الأساسي قائماً على الثقافة العربية الإسلامية، لا إلى الثقافة الغربية نسبة لصلات السودان الوثيقة بالعالم العربي. نجحت فكرة يوم التعليم والمهرجان السنوي للمساهمة الشعبية، وكان عيداً شاملاً تنظمه لجنان المؤتمر كل السودان، نجح نجاحاً باهراً حيث تم إنشاء (45) مدرسة وسطى للبنين والبنات و (8) مدارس ثانوية وبذلك أصبح ما قدمه المؤتمر في عشر سنوات أكثر مما قدمته الحكومة في نصف قرن(3).

ص: 256


1- عبد اللطيف عبد الرحمن مرجع سابق، ص 20.
2- المرجع نفسه، ص 21
3- المرجع نفسه، ص 21-22

شجّع الإنجليز قيام المؤتمر، ووقفوا معه، وسمحوا للموظفين من الخريجين الاشتراك فيه وكذلك الكتابة في الصحف على أن تكون معتدلة خالية من العداء للإنجليزي وكانوا يطمحون في قيام حركة سودانية خالصة تبعد عن مصر ولكن تأييد الإنجليز لم يكن مطلقاً حيث كان مقروناً ببعض المخاوف والحذر، وقد ظهر ذلك بصورةٍ جليّةٍ في الرد الرسمي الذي تمَّ به التصديق على قيام المؤتمر. فقد جاء فيه (... ما دامت أغراض المؤتمر ثقافية واجتماعية وما دامت عضويته قاصرة على الخريجين ومادام الخريجون بعيدون عن الخوض في السياسة فالحكومة لا تعترض على قيام المؤتمر...)(1).

وفي إطار العلاقة الجيدة بين الخريجين والحكومة البريطانية وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية أعلن المؤتمر تأييده لبريطانيا وحلفائها وقبل دعوة الحكومة له بتنظيم حملة لتجنيد السودانيين في قوة دفاع السودان وعندما أنشئت إذاعة أم درمان عام (1940م) شارك المؤتمر في إدارتها، وسمح له بإذاعة بعض الأنباء عن نشاطه فيها. وسعت الحكومة البريطانية إلى تسريع التعاون مع الخريجين فشرعت لجنة (دي لأور) التي كُلّفت بدراسة تطوّر التعليم في السودان حيث وصّت هذه اللجنة في تقريرها بزيادة عدد المدارس وإقامة جامعة في البلاد ووجدت هذه التوصيات الترحيب الكامل من أعضاء المؤتمر، وبتوجيه من (استيورت سايمز) أقام الموظفون البريطانيون علاقات صداقة مع بعض المثقفين السودانيين كما أنشأ مركز ثقافي اجتماعي في العاصمة ليلتقي فيه الإنجليز بالسودانيين(2).

بعد أن بدأ المؤتمر فى محاربة القبليّة سلّطت عليه الحكومة البريطانية الإدارة الأهلية لكي تعمل على إضعافه، كما أن مصر شكت في نوايا هذا المؤتمر، ولكي تتأكد من ذلك زار السودان في فبراير 1942م رئيس الوزراء المصري علي ماهر ومنذ هذه الزيارة تحول المؤتمر إلى أداة سياسيّة ثم بعد ذلك علا صوت الطائفية وبدأت بوادر الانشقاق كما ظهر تيار الوحدة مع مصر واستطاعت مصر استقطاب الشباب(3).

ص: 257


1- عبد اللطيف عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 22
2- حسن أحمد ابراهيم، مرجع سابق، ص 130.
3- محمد عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 256.

بعد هذه الزيارة اقتنع علي ماهر أن المؤتمر ليس صنيعة بريطانية بل هو هيئة يمكن التعاون معها ضد الاستعمار البريطاني، كما أن المؤتمر طلب من علي ماهر عون مصر المالي حتى يتمكن من تحقيق أهدافه الاجتماعية والتعليمية وكانت ردة فعل الحكومة البريطانية أنها اعتبرت اتصال المؤتمر بالحكومة المصرية فيه تجاوز لها وأي اتصال بمصر يجب أن يكون عن طريقها وبذلك تدهورت العلاقة بين المؤتمر والحكومة البريطانية عقب زيارة علي ماهر(1).

نشاط الزعيم الأزهري السياسي داخل مؤتمر الخريجين:

بدأ نشاط الزعيم الأزهري في مؤتمر الخريجين منذ نشأته في العام 1938م حيث كان الزعيم الأزهري أحد أعضاء اللجنة التحضيرية التي ضمت مجموعة من النخب السودانية أمثال مكي شبيكة وإسماعيل عثمان صالح وأحمد محمد ياسن وغيرهم، كما تم انتخاب الزعيم الأزهري أول أمين عام للمؤتمر وقام بدوره بإخطار السكرتير الإداري السير (أنجس جيلان) بتكوين المؤتمر الذي رحب بذلك في خطاب رداً على خطاب الزعيم إسماعيل الأزهري واشترط أن يكون هدف المؤتمر خدمي وليس سياسي(2).

أحرز الزعيم الأزهري أعلى عدد من الأصوات الانتخابية وأنتخب سكرتيراً عاماً للمرة الثانية. وعين السيد حماد توفيق سكرتيراً مساعداً والسيد عبد الله ميرغني أميناً للصندوق ولأول مرة أقسم كل من أعضاء الجمعية الستينية القسم التالي (أقسم بالله العظيم وكتابه الكريم بأن أرفع من شأن دستور المؤتمر وأكون مخلصاً له) وتكونت بعد ذلك عدد من اللجان لجنة الشؤون الاقتصادية والاصلاح الاجتماعي والتعليم وشؤون الطلبة والعمال والموظفين والتزمت كل لجنة بمهمة إعداد تقرير وبرنامج عمل كل في مجال اختصاصها(3).

ص: 258


1- حسن أحمد ابراهيم، مرجع سابق، ص 130.
2- محمد عمر ،باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 252-253
3- محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 202.

المحور الخامس: الزعيم الأزهري ومذكرة تقرير المصير 942م:

في العام (1942م) انتخبت لجنة جديدة لمؤتمر الخريجين كان العمل السياسي أول بند في أجندتها، كما أصبح السيد إبراهيم حمد رئيساً. وأعتبر انتخابه انتصاراً للعناصر المرنة غير المتطرفة والمنادين للتعاون مع الإنجليز، كما شهدت هذه الفترة تدخل واضح من قبل السيدين في الشؤون السياسية للمؤتمر كما لم يعد المؤتمر هيئة خاصة بالخريجين وحدهم بل أصبح هيئة متغلغلة في صفوف مؤيدي السيدين، ومن ثم أصبح كل طرف منهما مهتماً ومتأثراً بالآخر وهكذا تكونت القوى الوطنية من أعضاء مؤتمر الخريجين من ذوي الاتجاهات الحديثة والطوائف الدينية التقليدية(1).

قبل انعقاد الدورة الخامسة للمؤتمر حدثت تطورات عالمية وإقليمية هامة كان لها انعكاسها على السودان فقد شهدت الفترة ما بين (1940-1941م) انعطفا هاما في مجرى الحرب العالمية الثانية. فمنذ احتلال إيطاليا لإثيوبيا عام (1935م) ثم اندلاع الحرب في العام 1939 أصبح الخطر الإيطالي يهدد السودان واِحتلت كسلا في العام 1940 واخلتها في العام التالي 1941م وشاركت قوة دفاع السودان في الحرب وعملت على مطاردة القوات الإيطالية بمساندة القوات الهندية حيث إن القوات الهندية خسرت ما بين 4000 5000 مقاتل ووصلت القوات الهندية والسودانية إلى مشارف مدينة كرن الأريتيرية

وتحقق الانتصار الحاسم وظهرت بسالة الجندي السوداني في هذه المعركة (2) .

يذكر أنه وقبل دخول قوات دفاع السودان الحرب إلى جاب بريطانيا لهزيمة القوات الإيطالية في الحبشة وأرتيريا حضرت مجموعة من الضباط السودانيين للسيد عبد الرحمن المهدي وذكروا له أنهم لا يرغبون في دخول الحرب إلى جانب بريطانيا فما كان من السيد عبد الرحمن إلا أن طلب منهم المشاركة في الحرب لأن الانتصار فيها يعنى مطالبتهم بعد ذلك بالاستقلال(3).

ص: 259


1- المرجع نفسه، ص 209
2- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، ص 475.
3- مذكرات الامام عبد الرحمن المهدي مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1996م، ص 60.

كان لمشاركة قوة دفاع السودان في الحرب العالمية الثانية الأثر الطيب في نفوس السودانيين وذلك من خلال مساهمتهم في طرد الخطر الإيطالي عن شرق السودان وبعد مشاركة قوة دفاع السودان بدأ التفكير في اتخاذ خطوات سياسية وهي خطوات دفعت بها رياح الحرب ودور بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وأضف لذلك ظهور الميثاق الأطلنطي الذي بشر بحق الشعوب المستعمَرة في تقرير مصيرها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبذلك أصبح في يد الشعوب المستعمَرة حجة للمطالبة بالاستقلال وبعد ذلك تصاعد احتجاج حزب المؤتمر الهندي الأمر الذي أرغم بريطانيا على ارسال وزيرها السير (كرستوفر كربس) للتفاكر مع حزب المؤتمر حول المقترح المقدم من قبله حول مستقبل الهند، لكن حزب المؤتمر الهندي طالب بالاستقلال الفوري ووقعت الإضطرابات في الهند وتم اعتقال كل من غاندي، ونهرو، وأبو الكلام أزاد ومر (كربس) بالسودان وما زالت أحداث الهند يتردد صداها بعنف والتقى بالأستاذين أحمد يوسف هاشم وإسماعيل اعتباني في مطار الخرطوم. ثم التقى بالسكرتير الإداري (نيوبولد) ونصحه بالتفاهم مع مؤتمر الخريجين(1).

تقدم كل من السيد إسماعيل الأزهري، وعبد الحليم محمد، وعبد الله ميرغني وأحمد خير المحامي بمسودة مذكرة ترفع للحاكم العام، قبلتها اللجنة التنفيذية للمؤتمر على الفور، وقد احتوت المذكرة على عدد من المطالب تتمثل في:

1. اصدرا تصريح مشترك في أقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنجليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير المصير بعد انتهاء الحرب مباشرة.

2. تأسيس مجلس أعلى للتعليم أغلبيته من السودانيين وتخصيص على ما يقل عن 12% من الميزانية للتعليم.

3. تأسيس هيئة تمثيلية عن السودانيين لإقرار الميزانية والقوانين

ص: 260


1- محمد سعيد ،القدال مرجع سابق، ص 475-476.

4. فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية

5. إلغاء قوانين المناطق المقفولة ورفع قيود مزاولة التجارة والانتقال داخل الأراضي السودانية عن السودانيين.

6. وضع تشريع يحدد الجنسية السودانية.

7. وقف الهجرة إلى السودان فيما عدا ما قررته المعاهدة الانجليزية المصرية.

8. عدم تجديد عقد الشركة الزراعية بالجزيرة.

9. تطبيق مبدأ الرفاهية والأولوية في الوظائف من خلال:

أ. إعطاء السودانيين فرصة الاشتراك الفعلي في الحكم بتعيين سودانيين في وظائف ذات مسؤولية سياسية في جميع فروع الحكومة.

ب. قصر الوظائف على السودانيين، أما المناصب التي تدعو الضرورة لملئها بغير السودانيين، فتملأ بعقود محددة الأجل، ويتدرب فيها سودانيون لشغلها في نهاية المدة.

10- تمكين السودانيين من استثمار موارد البلاد التجارية والزراعية والصناعية .

11- وضع قانون يلزم الشركات والبيوتات التجارية بتحديد نسبة معقولة من وظائفها للسودانيين.

12- وقف الإعانات للمدارس الارساليات وتوحيد برنامج التعليم بين الشمال والجنوب (1).

كان لسان المؤتمر يطالب بالحكم الذاتي وكانت حاجة السودانيين للتدريب في الوظائف الحكومية أمراً معترف به من جانب الإدارة البريطانية، أما المطالب الخاصة

ص: 261


1- دريه عبد الله ميرغني، مرجع سابق، ص سابق، ص 80-81

بتغيير نظم التعليم والجنوب والبعثات التبشيرية ومشروع الجزيرة فقد كانت مطالب مشروعة بل كانت موضع نقاش بين المثقفين السودانيين من زمن بعيد(1).

كانت أولى ثمار مذكرة (1942م) إدراك الإدارة البريطانية بضرورة اتخاذ خطوات إيجابية بإشراك السودانيين في تصريف شؤونهم العامة ذكر السيد إسماعيل الأزهري أن رد الحكومة على المذكرة وإعادتها للمؤتمر تعتبر أكبر إهانة وجّهت إليه والخريجين، ورد المؤتمر على تصرف الحكومة بإرسال مذكرات للحكومة البريطانية ممثلة في الحاكم العام تمسَّك فيها المؤتمر بمطالبه وقد قام (نيوبولد) بدعوة رئيس المؤتمر السيد إبراهيم أحمد وبعض أعضاء اللجنة التنفيذية لاجتماع خاص ذكر لهم رغم عطف الحكومة على المؤتمر إلا أنها لا تعتبره ممثِّلاً لأهل السودان ولا معبِّراً عن رأيهم وبهذا لا تسمح له بتقديم أي مطالب باسم السودانيين كما حاول السير (دوقلاس ثيو بولد) أن يخفف على المجتمعين من خلال قوله لهم أن الحكومة البريطانية تعمل على إشراك السودانيين في الحكم وهو يأمل أن يجد لدى المؤتمرين التعاون في هذا الصدد(2).

وأشار السير (دوقلاس ثيو بولد) إلى الخطاب الذي تسلّمه المؤتمر في مناسبة تأسيسه وإلى خطابه إلى المؤتمر بتاريخ 20 اكتوبر 1940 والذي يأكد أنّ في حالة طرح المؤتمر نفسه كممثل للسودانيين أو حين يحاول أن يتحول لتنظيم سياسي فإنّ الحكومة ستجد نفسها مضطرة لوقف التعامل معه وربما سحبت اعترافها به(3).

كان رأي السير جيمس روبرتسون أن الحاكم العام (هد لستون) في ذلك الوقت لم يكن موفّقاً في عدم رده على المذكرة وكان عليه أن يرد عليها بلطف وأن يلفت نظر أعضاء المؤتمر لظرف الحرب العالمية الثانية وأنهم لا يمثلون كل الشعب السوداني(4).

ص: 262


1- محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 212.
2- بشير محمد سعید، مصدر سابق، ص 94-95
3- خالد حسین ،عثمان مؤتمر الخريجين ونشأة الاحزاب السياسية كتابات ،سودانية كتاب غير دوري، العدد الخامس أغسطس 1994 مركز الركز الدراسات السودانية، القاهرة، ص 49.
4- جيمس ،روبرتسون السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال (ترجمة) مصطفى عابدين الخانجي، دار الجيل بيروت، 1996م، ص 135.

واضح أن المذكرة قد أحدثت بلبلة بين المؤتمر والحكومة ومارست الحكومة البريطانية بعض الضغط، واتصل السكرتير الإداري السير (دوقلاس نيوبولد) ببعض المعتدلين وأبدى لهم تعاطف الحكومة مع مطالبهم نجح السكرتير الإداري في خطته حيث استمال بعض العناصر لسياسته الناعمة ومنعت الحكومة بعد ذلك الموظفين السودانيين من العمل السياسي وبذلك تكون الحكومة وقد بدأت مرحلة إضعاف المؤتمر الأمر الذي أوصل الحكومة والمؤتمر إلى طريق مسدود، وفي هذا الظرف الحرج ظهر رأي المعتدلين القائل بإعطاء الحكومة البريطانية فرصة لكي تثبت حسن نواياها ووعدها بالتدرج بالسودان نحو الحكم الذاتي ثم الاستقلال(1).

كانت الإدارة البريطانية ترغب في ترويض المؤتمر ولا تريد أن تظهر بمظهر الضعف أمامه أو قمعه ولذلك تسعى إلى أن يسير المؤتمر حسب رغباتها، ورغم أن بعض البريطانيين حاولوا الاتصال بأعضاء المؤتمر لكن رد المؤتمر كان حاسماً في هذا الشأن حيث حظر على أتباعه الاشتراك في مناقشات فردية أو جانبية مع البريطانيين وهكذا تم إغلاق الباب بين الطرفين(2).

بعد اتساع الشقة بين الحكومة البريطانية والمؤتمر شرع المؤتمر في تركيز نشاطه أكثر على الأعمال الإدارية والتنظيمية ومشروعات التعليم وحشد لهذا الأمر الكثير من الأعضاء الجدد من التجار والموظفين وقبل عضويتهم في المؤتمر وشكل مجلس من رجال المال والأعمال ليدعم المؤتمر بتقديم الاستشارات فيما يتعلق بالمسائل المالية والاقتصادية وزادت الإعانات للمؤتمر كما تم إنشاء عدد من المدراس في السودان باسم المؤتمر(3).

برز بعد ذلك معسكرين في المسرح السياسي السوداني أحَداهما معسكر المعتدلين بزعامة إبراهيم أحمد والذي يرى التعاون مع الحكومة رغم إهانتها

ص: 263


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحدیث، مرجع سابق، ص 477.
2- عثمان حسن أحمد ابراهيم أحمد حياة انسان بين الاصالة والتحديث، أفروجراف للطباعة والتغليف، الخرطوم، 1996م، ص .65-64
3- محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 214.

للمؤتمر، والمعسكر الآخر بزعامة الزعيم إسماعيل الأزهري الذي كان يرى عدم جدوى الحوار مع الحكومة ولذلك يجب مواجهتها مواجهة سياسية مباشرة بكل صلابة وقوة وأن ذلك لن يتحقق إلا عبر الإطاحة بقيادة المؤتمر المتمثله، في إبراهيم أحمد ومجموعته(1).

في العام (1943م) تم انتخاب السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للمؤتمر وأمين زيدان سكرتيراً. واستقال العدد المتبقي من المعتدلين في اللجنة التنفيذية وأصبح الطريق مفتوحاً أمام مقترح الأزهري المصادم للحكومة. بعد هزيمة إيطاليا في عام (1943م) أرسلت لجنة المؤتمر برقية للحاكم العام مهنئة الحلفاء بالنصر ومعبرة عن رغبتها في أن تتم الاستجابة للمطالب السودانية في إطار ميثاق الأطلنطي لدى تحقيق النصر النهائي(2).

عندما أحست بريطانيا بنجاح المؤتمر في توجيه الرأي العام ونجاحه كذلك في العديد من المشاريع الاجتماعية والخدمية وميولهم نحو مصر أخذوا يروّجون الإشاعات المريبة ليزعزعوا ثقة المواطن السوداني والمصري حول المؤتمر كما عملوا على إدخال التفرقة بين أعضاء المؤتمر عن طريق الحزبية السياسية(3).

المفاصلة بين الزعيم الأزهري والسيد عبد الرحمن المهدي:

كانت انتخابات مؤتمر الخريجين التي انعقدت في العام (1943م) من أعنف الانتخابات في تاريخه وانقسم أعضاء المؤتمر إلى مجموعة الأشقاء ويساندهم الأبروفيون ويقف معهم عبد الله الفاضل الذي كان يسعى للحصول على مركز سياسي في مواجهة عمّه السيد عبد الرحمن المهدي وابنه الصديق الذي ظهر في المسرح السياسي في ذلك الوقت ويرغب في أن يكون خليفة لوالده. والمجموعة الثانية تحت قيادة محمد علي شوقي ومعه مجموعة من الأنصار الذين يعارضون تحالف عبدالله الفاضل مع الزعيم الأزهري ويقف معهم محمد الخليفة شريف الذي

ص: 264


1- المرجع نفسه، ص .215
2- محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية في السودان ص .216-215
3- محمد نجيب، رسالة عن السودان، المطبعة الأميرية، القاهرة 1943م ، ص 14

رأى أن هذا التحالف يهدد مكانة ابن أخته السيد الصديق وقد حمل هذا الخلاف بدايات نشأة الأحزاب السودانية(1).

بعد اكتساح الزعيم الأزهري للانتخابات حصل على أربعين مقعد في الهيئة الستينية وعلى ثلاثة عشر مقعدا في اللجنة التنفيذية وأصبح بذلك رئيسا للمؤتمر، وحدثت بعد ذلك تحولات سياسية بدأت بفض التحالف بين الزعيم الأزهري وعبد الله الفاضل ،المهدي، وكان فض التحالف نتيجة لتمايز المواقف السياسية لكلا الجانبين، بعد ذلك تأكد للسيد عبد الرحمن أن الزعيم الأزهري والأشقاء ما عادوا يمثلون موقفاً معتدلا من الإدارة البريطانية، وتدخل محمد الخليفة شريف مع بعض شباب الأنصار بعد أن وجدوا الدعم من السيد عبد الرحمن المهدي وطلبوا من السيد عبد الله الفاضل فض الائتلاف القائم مع الأشقاء ونتيجة لذلك استقال عبدالله الفاضل من الهيئة الستينية ومن اللجنة التنفيذية(2).

نتيجة لذلك زاد التعاون بين السيد علي الميرغني والأشقاء الذين ظهر ضعفهم بعد فض تحالفهم مع السيد عبدالله الفاضل، وفي الوقت نفسه كان الأشقاء يهتمون بالتحالفات ذات العائد السريع، ثم بعد ذلك يبحثون عن العمل الجماهيري، بعد ذلك بدأ الاهتمام المصري بالسودان حيث قام السيد إسماعيل الأزهري بزيارة لمصر في الفترة 1943-1942م واتصل بقادتها وبذلك انفتح باب الدعم المصري للأشقاء لمواجهة مقدرات السيد عبد الرحمن المالية صادف ذلك تنبّه السيد علي الميرغني للعلاقة بين السيد عبد الرحمن والإدارة البريطانية وزادت مخاوفه عندما أحس أن السيد عبد الرحمن يرغب في أن يصبح ملكاً على السودان من خلال (قوله .... أنه يفضل أن يرى هيلا سلاسي إمبراطور الحبشة ملكاً على السودان من أن يرى السيد عبد الرحمن ...)(3).

عندما أيد السيد عبد الرحمن حزب الأمة كان من الطبيعي أن يساند السيد علي الميرغني حزب الأشقاء الذي أسسه الزعيم الأزهري في العام 1943م الذي كان

ص: 265


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع نفسه
2- المرجع ص 478-479. سابق، ص .478
3- محمد سعي القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق ص 479.

ينادي بالوحدة مع مصر وكان تأييد السيد علي الميرغني لحزب الأشقاء لأنه يعتبر إحدى الضمانات ضد عودة المهدي مرة أخرى للسودان(1).

وضَّح السير جميس روبرتسون في خطاب بعث به للحكومة البريطانية أنه اجتمع بالسيد علي الميرغني ولامه على دعمه لحزب الأشقاء والزعيم الأزهري وهم حسب تصنيف الحكومة البريطانية لهم هيئة معارضة لها عندها أكد له السيد علي الميرغني وبكل صراحة أنهم طالما يداعبون السيد عبد الرحمن المهدي بالطموحات الملكية فإنه سوف يؤيد أيَّ حزبٍ يعادي السيد عبد الرحمن(2).

ساهم كل من السيد محمد نور الدين والشيخ أحمد السيد الفيل في ربط جماعة الأشقاء (جماعة يحي الفضلى والأزهري) بطائفة الختمية والسيد علي الميرغني(3).

ذهاب الأزهري إلى مصر (وفد السودان 1946م)

عندما تقرر عقد مفاوضات بين مصر وبريطانيا لتعديل معاهدة 1936م رأت اللجنة التنفيذية لمؤتمر الخريجين أن تبعث بوفد إلى مصر بغرض عرض وجهة نظرهم على المسؤولين المصريين والبريطانيين وتكونت لجنة من الممثلين من كافة الأحزاب أسموها (لجنة الأحزاب المؤتلفة) وكان السيد عبد الماجد أحمد رئيساً لها وتم الاتفاق على عدد من النقاط منها :

1. قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحادٍ مع مصر وتحالف مع بريطانيا.

2. قيام لجنة مشتركة نصفها تعينه دولة الحكم الثنائي والنصف الآخر يُعينه المؤتمر.

3. ضمان حرية الصحافة والتنقل والاجتماعات والتجارة.

ص: 266


1- حسن أحمد ابراهيم مرجع سابق، ص 131
2- بشير محمد سعيد، خبايا واسرار في السياسة السودانية (1952-1954م)، دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1993م، ص .52-51
3- عثمان حسن أحمد، مرجع سابق، ص 69.

سافر الوفد الذي تكوَّن من ممثلي الأحزاب السياسية برئاسة إسماعيل الأزهري وسكرتارية عبد الله ميرغني(1).

يعتبر سفر وفد الأحزاب السودانية في العام 1946م تحركاً سودانياً تجاه التوحّد والخروج بالقضية السودانية إلى الخارج وذلك من خلال وفد السودان الممثل لكل الأحزاب السودانية الذي تقرر أن يذهب إلى مصر بغرض الاشتراك في المفاوضات المصرية - البريطانية بشأن السودان أن أمكن ذلك ومراقبتها ومتابعتها أن تعذر على الوفد الاشتراك الفعلي(2).

أخفقت مهمة وفد الأحزاب السياسية الذي ذهب لمصر لمناقشة وضع السودان وذلك بسبب عدم قبول الساسة المصريين إلا لبرنامج حزب الأشقاء بزعامة إسماعيل الأزهري المطالب بالاتحاد مع مصر تحت تاج واحد(3).

موقف الزعيم الأزهري من برتوكول صدقي - بيقن أكتوبر 1946م:

تم الاتفاق بين الحكومة المصرية والبريطانية حول السودان فيما عرف ببرتوكول صدقي - بيفن في أكتوبر 1946م حيث زعم صدقي باشا رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت أنه قد منح مصر السيادة على السودان مما أثار غضب السودانيين خاصة الاستقلاليين حيث فكر بعضهم الاستقالة من المجلس الاستشاري لشمال السودان وأن لا يتعاونوا مع قوم ثبت خيانتهم وغدرهم للسودانيين. أما البريطانيين فقد التزموا أن لا يقطعوا بأمر في شأن مستقبل السودان إلا بعد استشارة السودانيين بالطرق الدستورية(4).

تكونت بعد ذلك جبهة عرفت بالجبهة الاستقلالية ضمت أحزاب (الأمة، القوميين، الأحرار ، الحزب الجمهوري) وقدمت هذه الأحزاب مذكّرة إضافية

ص: 267


1- دريه عبدالله ميرغني، مرجع سابق، ص 86.
2- المرجع نفسه، ص .103
3- محمد عبد الحميد أحمد الحناوي معركة الجلاء ووحدة وادي النيل (19450-1954م) الهيئة المصرية العامة للنشر، القاهرة، 1998م، ص .250
4- عثمان حسن أحمد، مرجع سابق، ص 98.

للحاكم العام تنتقد فيها بروتكول صدقي - بيفن ، ووجدت المذكرة الترحيب من مؤتمر الخريجين الذي يهيمن عليه حزب الأشقاء بزعامة السيد الزعيم إسماعيل الأزهري، وسيّر موكباً ضخماً ابتهاجا به والملفت للنظر أن حزب الاتحاديين عارض البروتكول من خلال ممثله الأستاذ عبد الله ميرغني والأستاذ أحمد الخير المحامي وقد حاولا حَمْلَ الأشقاء وحلفاءهم على معارضة البروتكول ووفّقوا أخيراً في استصدار بيان يعارض البروتكول. بالإضافة للأحزاب السودانية كانت هناك عدد من الأحزاب المصرية التي عارضت البروتكول منها حزب الوفد المصري وقوى اليسار ،المصرية، وفي السودان نظم حزب الأمة عدداً من المظاهرات هاجمت إحداها مقر مؤتمر الخرجين وحطمت أثاثه. وسافر السيد عبد الرحمن لبريطانيا كما سعى لمقابلة الحاكم العام وصدقي باشا لكنه لم يوفق لكن نجح في مقابلة عدداً من الزعماء البريطانيين وإطمأن على حق السودان في السيادة على أراضيه وأنهم سوف يصرون على حق السودانيين وحدهم في تقرير مصيرهم(1).

ساهمت المصدامات التي حدثت بين مؤيدي حزب الأمة والأحزاب الاتحادية سواء في المدن أو الأرياف نتيجة معارضة برتوكول صدقي - بيفن في خلق مرارات عميقة بين الفريقين وأصبحت وأخذت العلاقة بينهم طابع الحدة والتنافر ولما تعذر الاتفاق بين مصر وبريطانيا سواء عن طريق الاتفاق أو مجلس الأمن لجأت بريطانيا إلى الخطط التي وضعتها من أجل التطور الدستوري في السودان والتي تهدف إلى إشراك السودانيين في الحكم من خلال الجمعية التشريعية والمجلس الاستشاري لشمال السودان(2).

ص: 268


1- المرجع نفسه، ص 98-99
2- محمد عمر بشیر، تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ص 222-223

المحور السادس: موقف الزعيم الأزهري من المؤسسات الدستورية 1948م:

أ. المجلس الاستشاري لشمال السودان:

كوَّن نيوبولد لجنة صغيرة من كبار المثقفين بغرض تقديم المشورة له، وكان من نتائج هذه اللجنة تكوين المجلس الاستشاري لشمال السودان في العام 1944م؛ وهو عبارة عن جهاز استشاري يتكون من 28 عضوا يتم تعينهم من المديريات الشمالية فقط. وجد هذا المجلس انتقادات عنيفة من مؤتمر الخريجين لكونه لا يتمتع بأي سلطات تنفيذية ولأنه لا يمثل كل أهل السودان وفي الوقت نفسه يتكون من تشكيل واسع من الأعضاء المعنيين، كما المجلس يناقش قضايا التعليم ومشروع الجزيرة وتعريف من هو السوداني، كانت قرارات المجلس تجد القبول من الحكومة رغم رئاسة ثيوبولد له، وفي الوقت نفسه كان ثيوبولد يحس بالغضب والضغوط الشديدة وهو يدير هذا المجلس وقد ظهر ذلك عليه منذ افتتاح المجلس في مايو 1944م(1).

نص قانون المجلس على أن غرضهُا استشاري وهو تقديم النصح للحكم العام في المسائل التي بحثها المجلس كما أن المجلس جَمَع بين الحكم المباشر وغير المباشر وغالبية عضويته من أعضاء الإدارة الأهلية وقد اقتصر على المديريات الشمالية بحجّة أن أهل الجنوب لم يصلوا بعد المرتبة التي تؤهلهم ليُمَثَّلُوا في المجلس وقد فشل المجلس في أن يكون أداة إدارية فعّالة ولم يوسع المشاركة للسودانيين فيه لذلك تكوّن مؤتمر إدارة السودان واجتمع في أبريل من عام 1946م وأصدر توصية بإنشاء جمعية تشريعية لكل السودان ومجلس تنفيذي(2).

هاجم مؤتمر الخريجين المجلس واعتبره خطوة نحو فصل الجنوب عن الشمال

ص: 269


1- جيمس ،روبرتسون، مصدر سابق، ص 138.
2- فدوى عبد الرحمن علي طه السودان في عهد الحكم الثنائي (1899 - 1956م) ، مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية أم درمان 1997م، ص 53-54

وأنه مجلس وهمي بغير فاعلية يمثل تجمعاً لامتصاص المواجهة الشعبية وتكريساً للسياسية البريطانية التي فشلت من قبل في مصر والهند(1).

ب - الجمعية التشريعية:

اشتد الصراع بين مصر وبريطانيا حول مسألة السودان ولذلك رفعت مصر قضية السودان إلى مجلس الأمن في العام 1947م، وبعد نقاش طويل داخل المجلس تم تعليق الأمر برمته ولم يصدر فيه قراراً قاطعاً. أما الادارة البريطانية في السودان فقد واصلت مساعيها الرامية لتطوير مؤسسات الحكم الذاتي فاقترح الحاكم العام الجديد السير روبرت ها و على مصر وبريطانيا تكوين جمعية تشريعية ومجلس تنفيذي عارض مصر هذه المقترحات، ولكن الحاكم العام أصدر في عام 1948م وبموافقة بريطانيا قانونا كوَّن بمقتضاه الجمعية التشريعية والمجلس التنفيذي(2).

تم افتتاح الجمعية التشريعية في 23 ديسمبر 1948م وتعتبر هذه الجمعية أول برلمان سوداني حسب رأي السكرتير الإداري جيمس روبرتسون(3).

عارضت الأحزاب الوحدوية هذا القانون كما عملت على مقاطعة انتخابات الجمعية التشريعية ونظمت ضدها المظاهرات الصاخبة ولكن الحكومة البريطانية استخدمت القوة لقمع هذه المظاهرات، كما عملت على اعتقال عدد من المتظاهرين على رأسهم الزعيم إسماعيل الأزهري، أما حزب الأمة والأنصار فقد رحّبوا بالجمعيّة التشريعية واشتركوا في انتخاباتها اختلفت الجمعية التشريعية عن المجلس الاستشاري في أنها مثلت السودان كله مما يعني تخلِّي الحكومة البريطانية عن سياستها السابقة الرامية لفصل الجنوب عن الشمال (4).

كانت مشاركة حزب الأمة في الجمعية التشريعية منطلقة من سياسته الرامية

ص: 270


1- محجوب عمر باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 289.
2- حسن أحمد ابراهيم، مرجع سابق، ص 134.
3- جیمس ،روبرتسون، مصدر سابق ص 183.
4- حسن أحمد ابراهيم مرجع ،ابراهیم مرجع سابق، ص 134-135.

للمشاركة في مؤسسات الإدارة البريطانية وذكر عبدالرحمن علي طه أن مشاركتهم تأتي من كونها هيئة دستورية تمكنهم من مواجهة الإنجليز في الداخل ومن الاتصال بدولتي الحكم الثنائي وهيئة الأمم المتحدة إذا دعا الحال كما ذكر السيد عبد الرحمن المهدي أن اشتراكهم في الجمعية يأتي لكونها تمثل فرصة لتدريب السودانيين على أساليب الحكم، وعاد وذكر أن دستورها كان ناقصا وسلطتها مبتورة(1). قاطع حزب الأشقاء كل مؤسسات الإدارة البريطانية ورغم تعديل قانون الجمعية التشريعية إلا أنّهم استمروا في المقاطعة وذكروا أن تعديل قانون الجمعية يزيد الأمر سوءً وذكروا كذلك أن هذه التعديلات والمؤسسات التي يقيمها الاستعمار تهدف إلى إطالة بقائه (2).

مثلت مقاطعة الأحزاب الاتحادية على رأسها حزب الأشقاء للمؤسسات نكسة حقيقية للإدارة البريطانية لأنها كانت تطمح في أن تكون الجمعية أكثر تمثيلاً من سابقها المجلس الاستشاري لشمال السودان، وقد حاولت الإدارة البريطانية إقناع الأحزاب الاتحادية على رأسها حزب الأشقاء بالمشاركة في الجمعية لكن محاولتها باءت بالفشل واستمر رفض حزب الأشقاء للمؤسسات الدستورية وللحكم البريطاني، كما أن الحزب استفاد من هيمنته على مؤتمر الخريجين لبناء سند شعبي قوي ضد هذه المؤسسات (3).

حاول الختمية تقديم العديد من المقترحات للدخول للجمعية التشريعية لكن الزعيم إسماعيل الأزهري أدان أي اقتراحات يقدمها الختمية بعد الدخول للجمعية التشريعية وقال (... لن ندخلها ولو جاءت كاملة مبرأة من كل عيب...) كان بعض الختمية يرغبون في الدخول للجمعية التشريعية . الأمر الذي أدّى لحالةٍ من الفتور بين الختمية والأشقاء وكان السيد علي الميرغني يرغب في أن يحضر الزعيم إسماعيل الأزهري من مصر ويواجه الاستعمار البريطاني من السودان وكان يخشى أن تسلّم بريطانيا السودان للسيد عبد الرحمن المهدي ويصبح ملكا عليه ولذلك عاد الزعيم

ص: 271


1- محمد سعيد القدال تاريخ السودان الحديث، مرجع سابق، ص 5050
2- المرجع نفسه،ص 509
3- فدوى عبد الرحمن علي طه مرجع سابق، ص.56

إسماعيل الأزهري من القاهرة ليقود النضال ضد الاستعمار البريطاني من السودان ويحقق الاستقلال المنشود(1).

المصادر والمراجع

جعفر محمد حامد رجال ،وتاريخ وزارة الثقافة والشباب والرياضة سلسلة ثقافية للجميع حصاد للطباعة.

دريه عبد الله ميرغني عبد الله ميرغني، (ب.د)، 1999م.

بشير محمد سعيد، من تاريخ السودان السياسي، الزعيم الأزهري وعصره، مطبعة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1990م.

محمد عمر باشري، رواد الفكر السوداني، دار العالم الاسلامي، بيروت، 1981م، ص 58.

محمد سعيد القدال تاريخ السودان ،الحديث (1821-1956)، ط2، مطبعة جامعة افريقيا العالمية، الخرطوم.

محجوب عمر باشري، معالم الحركة الوطنية في السودان المكتبة الثقافية، بيروت، 1996م. عبداللطيف عبد الرحمن لمحات من الحركة الوطنية في السودان شركة الطباعة والنشر المحدودة، الخرطوم.

حسن أحمد ابراهیم، تاريخ السودان ،الحديث (18821-1956م)، دار النشر الخرطوم، ط6، 1987م.

يواقيم رزق مرقص ، السودان في البرلمان المصري، (1924-1936م)، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، القاهرة ، 1989م.

مذكرات الامام عبد الرحمن المهدي، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1996م.

خالد حسین عثمان، مؤتمر الخريجين ونشأة الاحزاب السياسية، كتابات سودانية، كتاب غير

دوری العدد الخامس أغسطس ،1994 مركز الدراسات السودانية، القاهرة.

جيمس روبرتسون، السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال (ترجمة) مصطفى عابدين الخانجي، دار الجيل، بيروت، 1996م.

عثمان حسن أحمد ابراهيم حياة انسان بين الاصالة والتحديث، أفروجراف للطباعة والتغليف الخرطوم، 1996م.

محمد نجيب، رسالة عن السودان المطبعة الأميرية، القاهرة، 1943م.

بشير محمد سعيد خبايا واسرار في السياسة السودانية (1952-1954م)، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1993م.

محمد عبد الحميد أحمد الحناوي معركة الجلاء ووحدة وادي النيل (19450-1954م) الهيئة

المصرية العامة للنشر، القاهرة 1998م.

فدوى عبد الرحمن علي طه السودان في عهد الحكم الثنائي (1899-1956م)، مركز محمد عمر بشير، للدراسات السودانية، أم درمان، 1997م.

ص: 272


1- محجوب عمر ،باشري معالم الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 322-321

أشكال الجهاد والمقاومة إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب

«منطقة دكالة أنموذجاً»

اشارة

انس صنهاجی(1)

عقب قصف الفرنسيين لمنطقة الشاوية (الدار البيضاء وأحوازها) واحتلالها وجعلها نقطة انطلاق لاحتلال المغرب كتب المكلف بالأشغال الفرنسي «سان أولير» (Saint Oulir )إلى وزير خارجيتهم «بيشون» (S.Pichon)، في الرابع من اوغست / آب سنة 1907م، يُطلعه على الوضع بمدينة الجديدة، وعلى ضرورة التحرك لحماية الأجانب من ردود فعل الأهالي بعد قنبلة الشاوية، ملتمساً منه إرسال سفينةٍ حربيةٍ لمرسى الجديدة باعتبار فرنسا هي المخولة بحماية الأجانب، وفي الوقت ذاته، طلب القنصل الفرنسي بالجديدة من قائد الأسطول الفرنسي بالدار البيضاء، إرسال قوات لاحتلال المدينة التي أصبح فرسانها خطراً على الأجانب، خاصة مع إعلان المولى عبد الحفيظ الجهاد، إثر بيعته بمراكش يوم 16 من اوغست / آب سنة 1907م (2)وسيطرة مناصريه على بادية الجديدة ومدينة أزمور، غير أن السفن الحربية

ص: 273


1- أستاذ التاريخ المعاصر - المغرب.
2- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع الفرنسية بدكالة في بداية القرن العشرين ط 2 ندوة علمية بعنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010 ، ص. 146.

الرابضة قبالة المدينة اقتصرت على المراقبة والانتظار، وبمجرد اعتلاء المولى عبد الحفيظ رسمياً سُدَّة الحِكم، تخلّت فرنسا عن الخيار العسكري، وعوّضته بسلاح الاستتباب السلمي عن طريق التحالف مع القواد الضعاف الذين في حاجة إلى من يعزز مكانتهم ويقوّي حضورهم ، ومن هؤلاء القواد الذين رُصِدوا لإنجاز هذه المهمة، القائد عيسى بن عمر، الذي عملت فرنسا مع أمثاله على توسيع نفوذهم وتجميع عدة مناطق تحت سلطتهم. وفي إطار السياسة نفسها استغلت فرنسا الطاعون الذي ضرب إحدى مناطق دكالة، وعينت بعثة صحية لمحاصرة المرض والقضاء عليه، بمعيّة فيلقين يتكونان من الكوم، وعساكر بأحصنة(1).

وهكذا ساقت الظروف الداخلية والخارجية التي استبدت بالمنطقة إلى إجهاض مشروع الاحتلال المباشر لمدينة الجديدة سنة 1907م، والتي من أهمها:

- تقيّد الحكومة الفرنسية بمعاهدات دولية تثنيها عن التوسع والاحتلال.

- نقض قواد الجديدة لبيعتهم للمولى عبد الحفيظ واعترافهم من جديد بالسلطة العزيزية.

- الخوف من تأذي الجالية الأوروبية واليهودية جراء القصف وانتقام الأهالي.

- تكبّد القوات الفرنسية لخسائر جسيمة في حربها مع قبائل الشاوية(2).

ورغم المحاولات التي قامت بها القبائل الدكالية لصد الزحف الفرنسي، فإنها سقطت في الأخير تحت نير الاحتلال، بعدما أبرم السلطان المولى عبد الحفيظ صك الحماية الفرنسية على المغرب في 30 من مارس سنة 1912، لتنطلق بعدها أرتال القوات الفرنسية من الشاوية وتحتل المنطقة.

وقد عاشت مدينة أزمور رد الفعل عينه الذي شهدته مدينة الجديدة، الأمر الذي

ص: 274


1- A.N.R, Carton n°P15, Lettre à monsieur le contrôleur civil chef de la circonscription des Doukkala, 1919, p. 2.
2- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، صص. 150-151

دفع الجنرال «داماد» (Damad) إلى استغلال الفرصة والتفكير إجرائياً في جعل أزمور في تماس مباشر مع قوات الاحتلال الفرنسي على طول واد أم الربيع، وتأمين الحدود الشمالية الغربية للشاوية (1)فخرج يوم 27 من يونيو سنة 1908م، يقود طابوراً فرنسياً من البيضاء وبرشيد قوامه 2000 جندي، وبعد وصوله في 30 من يونيو، وجد أبواب المدينة مغلقة، والمراكب المستخدمة في عبور النهر مربوطة على ضفته اليسرى. وقد شهدت أزمور قبيل وصوله هجوماً في صباح اليوم عينه من قبل وحدات ،عزيزية، غير أن المدافعين عن المدينة ردّوها على أعقابها وغنموا ما كان معها من مدافع ومعدات.(2)وقد آزرت قوات «داماد» (Damad) طرادة فرنسية رابطت على مصب النهر بقيادة الأميرال ( فليبير) (Filiper)، وبعد مفاوضات قصيرة، اضطرّ القائد الحفيظي حسي الكلاوي إلى مغادرة المدينة صحبة جنوده صوب مراكش. وهكذا فتح المجال إلى دخول القوات الفرنسية دون قتال.

وقد استند التدخل الفرنسي في مدينة أزمور، على جملة من المسوغات، والتي من أبرزها:

- تجفيف منابع الأسلحة المهرّبة لصالح الثورة الحفيظيّة .

مساعدة المخزن العزيزي لاستعادة أزمور.

تأمين الاتصالات والمبادلات التجارية بين الجديدة والبيضاء.

حماية مصالح الأجانب ومحمييهم المغاربة على وجه الخصوص(3).

التضييق الذي أصبح يتعرض له الفرنسيون بأزمور(4).

ص: 275


1- الشياظمي ((محمد)، أزمور بعد الجلاء البرتغالي سنة 948/1541، معلمة المغرب»، ج 2، م.س، ص. 360.
2- B.E.S, Azemmour, vol VI, n°16, Avril 1937, p. 116.
3- الهيوز) بديعة ، موقف فرنسا من احتلال داماد لأزمور من خلال وثيقة غير منشورة ندوة علمية تحت عنوان: أزمور حاضرة دكالة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الجديدة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص. 127.
4- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص ص 152 - 153.

وما لبثت قوات «داماد» أن دخلت المدينة حتى انسحبت منها، بعد ما جاءها الأمر بالعودة فوراً إلى قاعدتها بالشاوية، وبالفعل ففي السادس من يوليو سنة 1908م، تحركت القوات في اتجاه خط العودة(1) ، بعدما تركت حراسة بحرية مستقدمة من الرباط، ومحلة عسكرية مخزنية قوامها 400 عسكري (2)، هذا بالإضافة إلى مجلس بلدي محلي، يضم 13 عضوا مهمته مساعدة العامل الجديد على تسيير شؤون المدينة.

وكان من بين أبرز البواعث التي دفعت «داماد»، إلى الانسحاب من المدينة هي:

- اعتبار هذا الاحتلال نقضاً لمبدأ الحياد الذي التزمت به فرنسا في إطار الصراع بين الأخوين.

- خرق فرنسا للفصل الأول من ميثاق الجزيرة الخضراء، الذي لا يُجيز للشرطة الفرنسية التدخل في ميناء أزمور(3).

كما أصدرت الحكومة الفرنسية مجموعة من المبررات التي حاولت من خلالها إخلاء مسؤوليتها المباشرة وهي:

- إصدار تقرير يبين فيه عدم رضاها عن عمل قائدها «داماد».

- مراسلته وتذكيره أنه لا يسمح له بعبور أم الربيع.

- الانسحاب فوراً من المدينة إلى مركز أعماله (الشاوية).

لكن يبدو أن السبب الرئيس والمنطقي لانسحاب «داماد» من أزمور، هي الأزمة التي كانت ستتفجر بين فرنسا وألمانيا جراء ذلك(4) الأمر الذي أجبر القيادة الفرنسية (5)إلى تسفيه عمل «داماد»، واعتباره خارج حدود الأوامر والاتفاق.

ص: 276


1- Bellaire) M,(Villes et tribus..., t 1, op. cit., p. 64. op.cit.,
2- B.E.S, Azemmour ), vol VI, n°16, Avril 1937, op.cit., p. 56.
3- الهيوز بديعة ، موقف فرنسا ...، م.س، ص. 127.
4- الهيوز ) بديعة ( ، موقف فرنسا ...، م.س، ص. 128
5- نفسه.

وفي غمرة ذلك استغل القائد التريعي هذه الأحداث المستجدة، وقام بقيادة هجوم ضد العزيزيين في المدينة، تكلل بإسقاط سلطتهم والقضاء على عاملهم الذي قتل مع نجله، ثم مُثِّل برأسيهما على أبواب مدينة أزمور(1)، كما قام القائد التريعي باعتقال ثلاثة أفراد من قبيلة الحوزية كانوا يوالون غرماءه، حيث رمى الأول في بئر سحيق، وأحرق الثاني، وقتل الثالث رمياً بالرصاص(2)، ولم يقف عند هذا الحد، بل نكّل بكل من ثَبُت تورّطه مع السلطة المندحرة(3). وهكذا أصبحت أزمور مركزاً سياسياً وعسكرياً متقدما لمواجهة العدو الفرنسى من جهة الشاوية(4)بعدما فشلت محاولة الاحتلال الأمر الذي فرض واقع سياسة شد الحبل بين السلطات الفرنسية والمقاوميين الدكاليين حتى فرضت الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912م(5).ليبدأ فصل جديد من الصراع الفرنسي - الدكالي، تصدر بطولته القائد التريعي.

ففي 23 من يوليو من السنة نفسها احتل الكولونيل «مانجان» (Mangin) مدينة أزمور، وجعلها نقطة مركزية لعمليات «التهدئة» بدكالة، حيث استهل إجراءاته بالمنطقة ب- :

* جعل دكالة والشاوية تحت إدارة واحدة.

* إخضاع المنطقة بالطرق السياسية.

* تجنب قدر الإمكان التدخل العسكري.

* القضاء على القائد التريعي وشيعته.(6)

فقبل غزو مانجان ( (Mangin) بشهرين ونيف مدينة أزمور، دخل القائد التريعي

ص: 277


1- ميشوبلير، أزمور وضواحيها، م.س، ص. 83.
2- Feucher)Christian(, Mazagan (15141956-), l'Harmattan, Paris, 2011, p. 179.
3- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 155.
4- B.E.M, « Azemmour, vol VI, n°16, Avril 1937, op.cit., p.116.
5- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 152.
6- A.N.R, Carton n° P15, Lettre à ..., op. cit., p. 3.

تحت حماية القنصلية الإسبانية بمساعدة كاتب القنصلية ديجول (Dujol) ، ووساطة اليهودي المغربي جوزيف راهون (Joseph Rahon)، ورغم المعارضة التي أبدتها الإدارة الفرنسية، ووزراء مغاربة أمثال محمد الجباص، فإن إسبانيا رفضت بشدة سحب هذه الحماية (1).

وبمجرد ولوج «مانجان» المدينة، اتّجه مباشرة صوب قصبة القائد التريعي لإسقاط آخر معقل يمكن أن يهدد الوجود الفرنسي بالمنطقة (2). غير أن رد فعل القائد كان سريعاً، حيث تسلل إلى دار اليهودي سيكسو) (Siksou) التي كانت على مقربة من مدينة الجديدة ليلة الثالث من اوغست / آب سنة 1912م،(3) ما دفع «مانجان» إلى تعقبه ومحاصرة ملجئه، هذا الإجراء جعل القنصل الإسباني يستشيط غضبا،ويحتج بشدة على الخارجية الفرنسية، بحكم أن القائد التريعي هو محمي إسباني، وأي تصرف ضده هو فعل خارج عن القانون(4).

وفي الخامس من غشت حاول مؤيدو القائد التريعي على الساعة التاسعة ليلا اقتحام الجديدة لتخليصه من الحصار فوقعت اشتباكات بينهم وبين الرماة ،الفرنسيين استمرت زهاء إحدى عشرة ساعة،(5)وفي اليوم الموالي قاد «مانجان» حركة ضد المهاجمين، معزّزاً في الوقت نفسه حصاره بفرقة من الرماة، (6)وفي التاسعة ليلاً عاود الغريمان التراشق بالرصاص لمدة عشر دقائق، دون أن يُسفر ذلك عن أي نتيجة(7).

وفي السادس من الشهر نفسه أصبحت جل المتاجر والمؤسسات البنكية

ص: 278


1- ركوك (علال)، المقاومة وأحداث من التاريخ الإجتماعي في الأدب الشفوي المغربي (1890-1956)، منشورات المندوبية السامية لقدماءالمقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة بني يزناسن ،سلا، 2001، ص 203.
2- للتوسع في الموضوع ، أنظر مجلة المناهل العدد 90/89، السنة 2011، ص. 213. .A.N.R, Carton n°P15, Lettre à..., op. cit., p. 3
3- Feucher)Ch,(Mazagan, (1514- 1956), op. cit,. p. 179.
4- Idem.
5- Idem.
6- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 156.
7- Feucher)Ch,( Mazagan (1514- 1956), op. cit., p.180.

والتجارية والإدارية خدماتها معلقة وسكان المنطقة متقوقعون في منازلهم، بعدما توجَّسوا من الاستعدادات العسكرية المتأهبة لاقتحام ملجأ القائد التريعي، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فبعدما نال التعب والقيظ والنوم من انتباه الجنود المحاصرين اندفع الفارس المغربي في الواحدة بعد الزوال، محفوفاً ببعض رجاله وهو يشق صفوف جنود «مانجان»، حاملاً ابنه الصغير في إزار معقود بطوق حزامه(1). ونظراً للمفاجأة والارتباك الذي أصاب الجنود، خابت كل الطلقات النارية التي سددت صوبه (2)، وإثر ذلك استطاع القائد التريعي الإفلات من قبضة «مانجان»، غير أن بعض أتباعه قبض عليهم، فحكم على خمسة منهم بالقتل واثنين بالسجن(3)، في حين ظل مصير القائد التريعي يكتنفه الغموض، فهناك من أورد أنه انخرط في الجهاد ضد الفرنسيين إلى جانب أحمد الهيبة، وشارك في معركة سيدي بوعثمان وهناك من أشار إلى مشاركته في الجهاد إلى جوار موحا أوحمو الزياني بالأطلس المتوسط(4)، ثم انتقل بعد ذلك إلى سوس ونزل في ضيافة القائد العربي الدردوري لكن ملاحقة الباشا الكلاوي له دفعته للفرار إلى تزنيت ثم إلى الصحراء وبعدها إلى كرسيف، ليحط رحاله أخيرا في بني وبالضبط بمنطقة بواوزغت حيث وافته المنية بها سنة 1929م(5).

وهكذا يتضح أن تصفية القائد التريعي والمقاومة التابعة له، كانت من أولويات الحملة العسكرية على دكالة، وذلك من أجل تصفية الأجواء للمشروع الكولونيالي بالمنطقة وصرف النظر عما قامت به فرنسا من خروقات حيال ميثاق الجزيرة الخضراء ومن تعسفات اتجاه الساكنة (6).

وبعد أن نجح «مانجان» في تصفية أو إبعاد خصومه من جهة دكالة، بدأ يتطلع إلى

ص: 279


1- الخديمي (علال)، مقاومة الأطماع ...، م.س، ص. 156.
2- ركوك ) علال ( ، المقاومة وأحداث...، م.س، ص. 204.
3- جريدة السعادة، حادثة الجديدة، العدد 579 ، الأربعاء 10 اوغست / آب 1912، ص. 3.
4- دوتوي (جان)، ترجمة عوام (عبد اللطيف) ، ( إعلان الحماية على مدينة آزمور»، مجلة المناهل، ع 31 يونيو 2011، ص 243.
5- ركوك ) علال ( المقاومة وأحداث، م.س، ص. 204.
6- دوتوي ) (جان)، إعلان الحماية ...، م.س، ص. 243.

إخضاع كل هوامشها المتاخمة لمدينة مراكش، منتهجاً سياسة بقعة الزيت المعتمدة على التوغل السلمي، وقد استهل عمله بالاتصال بعم السلطان الشريف العمراني، لإقناع القواد الناشزين الامتثال لسلطة الحماية مقابل مبالغ مالية وامتيازات سياسية (1). لكنه لم يكن في مستوى المهمة، حيث كان يقضي معظم وقته في أبناك الجديدة يعد الدورو(2).

مجمل القول إن تضافر مجموعة من العوامل والحيثيات جعلت منطقة دكالة على وجه الخصوص، تسقط لقمة سائغة في متناول المستعمر الفرنسي، ويُعزا ذلك بالأساس إلى واقع الإمكانيات المتباينة بين الغريمين على أكثر من صعيد، ما فرض

خضوع منطقة دكالة لإدارة الاحتلال بمنطق الغالب.

وإذا كانت مناطق مغربية معروفة، استأسدت في الدفاع عن مجالها مثل منطقة الريف، والأطلس المتوسط .... فلأن ظروفها أنتجت أولاً قيادةً حصيفةً واعيةً بقضيتها وإمكاناتها، ثانياً استقرارها بمناطق تغلب عليها الحواجز الجغرافية، ما يجعلها صعبة الاختراق وهذا ما يفتقده المجال الدكالي فالمعلوم أنه بعد اختفاء القائد التريعي، فُقد من ينهج نهجه أو يُتم ما بدأه ، بل على العكس من ذلك، سارع جل قواد دكالة للاستسلام للسيد الجديد، إما حفاظاً عن مواقعهم الاجتماعية أو القبلية ...، أو طلباً للسلامة.

وانطلاقاً من هذه الاعتبارات نستنتج أن المقاومة الدكالية إيَّان هذه الفترة، اتّسمت بالضعف والتسليم لأسباب عدة يمكن إجمالها في:

* طغيان الطابع السهلي المنبسط، الذي جعل المجال فاقداً للمناعة التضاريسيّة والمصدّات الجغرافية (3)، الأمر الذي جعل كل تحرك دكالي مسلح هو ضرب من ضروب الانتحار.

ص: 280


1- Feucher(Ch), Mazagan (1514- 1956), op.cit., p. 181.
2- A.N.R, Carton n°P15, Lettre à ..., op. cit., p. 4.
3- جمال عبد اللطيف المجال الجغرافي والمقاومة المسلحة نموذج منطقة دكالة ، ط2، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط 2010 ص53.

* تواضع القدرات العسكرية وقِدم المعدات الحربية الدكالية.

* غیاب قيادة كاريزمية تلتف حولها القبائل الدكالية لقيادة غمار المقاومة.

* سيادة المصالح الذاتية الضيقة لبعض النخب الدكالية.

فضعف المقاومة الدكالية لأسباب جغرافية وعسكرية، ليس وليد مرحلة الحماية بل بدأ منذ الاستعمار البرتغالي للمنطقة، حيث يؤكد الباحث أحمد بوشرب، أن دكالة المنطقة الوحيدة التي استطاع البرتغاليون الحصول فيها على مكتسبات سهلة، مع باقي مناطق الساحل المغربي،(1) والسبب في والسبب في اعتقاده هي التضاريس المنبسطة، وكثافة السكان القريبة من الثغور التي سهّلت على المستعمر مهمّة التحكم في المنطقة، حيث يقول:«لم تكن القبائل تجد مأوى تلجأ إليه، ذلك أن الجبل الأخضر، وجبال بني ماكر غير منيعة ...» وبهذا تكون دكالة فاقدة لعامل وازن استفادت منه قبائل الشمال على وجه الخصوص، وهو قرب الجبال المرتفعة من الثغور المحتلة،(2)هذا فضلاً عن التفوق الواضح للبرتغاليين من حيث نوعية السلاح المستعمل، والذي كان نارياً، في الوقت الذي كان فيها السلاح الدكالي بدائياً.(3)

1- خيار المقاومة السلمية بدكالة ظروفها وأساليبها (1930- 1952)

1 - الحركة الوطنية بدكالة وتدابيرها في مواجهة الحماية: سجّلت منطقة أولاد فرج أول انتفاضة ضد الاستعمار الزراعي، وذلك عقب صدور ظهير التحفيظ العقاري سنة 1914م ، غير أن آلة القمع الكولونيالية استطاعت محقها في مهدها(4). وقد جدّت الحركة الوطنية في المدن منذ فرض الحماية على دعم المقاومة المسلحة في البوادي

ص: 281


1- بوشرب (أحمد) ، دكالة والاستعمار ...، م.س، ص. 10.
2- نفسه، ص.22
3- جمال عبد اللطيف)، المجال الجغرافي...، م.س، ص. 52.
4- A.N.R, Carton n°F 160, Une lettre de chef de l'annexe de Sidi Benour à monsieur le contrôleur civil chef de la circonscription des Doukkala, 1919, p. 4.

والأرياف بالأسلحة والعتاد وفي هذا الصدد تشير التقارير الفرنسية الصادرة سنة 1915م، أن سلطات الاحتلال نجحت منذ اندلاع الحرب الكونية الأولى من کشف مكامن الذخائر والعتاد في مدينة الجديدة وأحوازها، وإعدام كل من تبث تورطه في جلبها أو تخزينها أو التستر على مخابئها، وعليه تم إصدار أحكام الإعدام بمحكمة الدار البيضاء العسكرية سنة 1916 في حق 38 مقاوماً دكالياً، وكل العملاء والمجندين المتعاونين معهم من الجنسيات الألمانية والسويسرية والإسبانية، التي نشطت بقوة في خلايا منظمة غداة الحرب، بغاية إضعاف الجبهة الداخلية الفرنسية وإرباكها وزعزعة استقرارها وهزمها من الداخل(1).

وقد أدّى انهزام المقاومة المسلحة بمنطقة دكالة سنة 1912م، واندحارها في الريف وجنوب المغرب إلى نهج خيار المقاومة السياسية كسبيل لنيل الاستقلال وقد استهل هذا النهج حضوره مع الظهير البربري سنة 1930م، الذي بلور معارضة حضريّة أغلبها من الشباب المثقف، عبر تأسيس أول حزب سياسي مغربي باسم كتلة العمل الوطني سنة 1934م، غير أنه انقسم على نفسه إلى حزبين سنة 1937م: الحزب الوطني الذي تحول إلى حزب الاستقلال سنة 1943م، والحركة القومية التي تحولت بدورها إلى حزب الشورى والاستقلال سنة 1946م، فما بين 1934 و 1937م، تمكنت حركة المعارضة من استقطاب بورجوازية صغرى من الصناع والتجار التي كانت ظروفهم صعبة، فتمخض عن ذلك انتفاضة جماهيرية اشتعلت شرارتها في جميع المدن المغربية، عقب تحويل مياه نهر بوفكران الذي كان يزود أحياء مدينة مكناس ومساجده لفائدة الكولون، غير أن هذه الانتفاضة انتهت في أواخر سنة 1937م، إثر القمع العنيف الذي حاق بها، والاعتقالات التي تعرضت لها قيادات الحزب الوطني (2)، الأمر الذي جعل اللجنة التنفيذية للحزب بالرباط، تعقد مؤتمراً مساء يوم من أكتوبر سنة 1937م بحضور فروع المدن المغربية، لإعلان نهج المقاومة الفعالة ضد سياسة الحماية الجائرة، والدفاع عن الحريات المغربية، لكن

ص: 282


1- محمد البكراوي، تساؤلات وملاحظات حول العمل الوطني المغربي قبل ،1930 ندوة علمية دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب دار أبي رقراق منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير، ص 58.
2- عياش (ألبير) ، المغرب والاستعمار ...، م.س، ص ص. 388 - 394.

في يوم 25 من أكتوبر ، أصدر المقيم العام قراراً بإلقاء القبض على علال الفاسي ونفيه إلى الكابون ثم إلى إفريقيا الاستوائية، أما محمد اليزيدي وعمر عبد الجليل وأحمد مكوار فنقلوا إلى مراكز مختلفة في الصحراء المغربية(1).

ولم تكن أسباب الاستياء والتذمر تنقص البورجوازية الحضرية الصغرى، لأن الرخاء الذي أحست به بعد الحربين كان عابراً، ولذلك تفاقمت المشاكل التي كانت تعاني منها بسبب الأزمة التي أضعفت في الوقت نفسه الاقتصاد العالمي، أما أوضاع الصناع الذين مثلوا وقتها أكثر من ثلث سكان المدن فقد أصبحت صعبة للغاية، حيث كانوا يعانون من مزاحمة المواد المصنعة المستوردة، ومن ضياع الأسواق التقليدية مثل الجزائر والسنغال، هذا فضلا عن تقلص القدرة الشرائية لزبنائها القرويين والحضريين. أما اليد العاملة المستخدمة في الأوراش التي فتحت خلال فترة الازدهار، فقد سرحت أو خفض عددها، وأجورها أصبحت لا تكفيها لسد رمقها، أما الفلاحون الذين تعرضوا من قبل لنزع أراضيهم، فقد تأثَّروا بالتدهور الكبير لأثمان المنتجات الزراعية ونوائب الأوبئة، كما تعرض سكان الجبال للتفقير

نظرا لاندماجهم في اقتصاد السوق، ولم يعد بحوزتهم أي مصدر للعيش(2).

لقد كان لحالة ضيق العيش المعمّمة هذه انعكاسات على التجارة وبصورة خاصة تجارة التقسيط فأصبح التجار إلى جانب الصناع يعانون من الكساد، وكان المثقفون الذين ينحدرون في معظمهم من هذه الأوساط الحرفية والتجارية، يكابرون بدورهم من مشاكلهم الخاصة، حيث وجد معظم هؤلاء أنفسهم وقد تلقوا تعليما تقليديا في الزوايا وفي جامعة القرويين - مبعدين من المناصب الإدارية التي كانت قبل الحماية بمثابة التتويج الطبيعي لدراستهم، وقد وُجد بجانبهم شباباً تلقوا تعليماً عصرياً في الثانويات الفرنسية - الإسلامية، وسمح من المحظوظين منهم بولوج ،المعاهد، ثم الذهاب لمتابعة دراستهم العليا في باريس، وهناك كانوا يتصلون برجال

ص: 283


1- الفاسي (علال)، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي دار الطباعة المغرب تطوان دون تاریخ ص ص. .220-218
2- عياش (ألبير ) ، المغرب والاستعمار ...، م.س، ص. 389.

السياسة من اليسار، غير أن علاقتهم بطلبة شمال إفريقيا كانت أوثق، كما أنهم تأثروا بتيارات الفكر التي اجتاحت شعوب الشرق الإسلامي ، وقادتهم إلى مواجهة الإمبريالية الغربية(1). وقد كان من هؤلاء الأفذاذ، نخبة من الوطنيين الجديديين المنحدرين من أصول فاسية ودكالية وسوسية (2)منخرطة في أنشطة الكتلة الوطنية سواء في اجتماعاتها الوطنية، أو في تحقيق أهدافها على المستوى الجهوي ، حيث كان من بين المؤسسين للعمل الوطني بالجديدة أسماء في مقدمتها: عبد الرحمان المسفر، قاسم العراقي، عبد السلام السراج، عبد الواحد التازي، عبد القادر جسوس، عبد الرحمان جسوس، أحمد الحلو الشيخ محمد المسفر، الحاج عبد الله خالد يحي، الطالب بنجلون، عبد الواحد القادري(3). وكان قاسم العراقي - مندوب فرع حزب الاستقلال في الجديدة - على رأس الحركة الوطنية بالجديدة، إذ كان يملك مكتبةً (النجاح) لم يتورع في تحويل مرأبها إلى مخزن للمناشير، ومكمنا لتوزيعها على الساكنة وأصحاب الدكاكين حين تفرض الضرورة ، وهذا ما جعل نصف حياته يقضيها بين السجن والتحقيق، الأمر الذي جعله مثار تقدير وإكبار من لدن ساكنة الجديدة وأحوازها، وحسبنا في ذلك ما قاله في حقه حسن هيكل (مدير مدرسة التهذيب الخاصة إبان الفترة المدروسة) مشيداً بالقول: إن الرجال مثل قاسم العراقي قليل وأمثاله يشكلون ثروة وطنية(4). وبعد تأسيس حزب الاستقلال رسمياً سنة 1944م استمر هؤلاء الرواد - باستثناء عبد السلام السراج الذي انضم إلى حزب الشورى والاستقلال - يناضلون ضمن فرع الحزب في الجديدة، الذي تشكل مكتبه على المنوال التالي:

* قاسم بن العربي العراقي: كاتب الفرع

* إدريس بن امحمد بن إدريس المسفر : الكاتب الثاني

ص: 284


1- نفسه صص. 389-390.
2- عز الدين) التاريخ الشفوي، المجلد الثالث منشورات المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، جسوس بيروت، 2015. ص.237
3- المسفر (إدريس)، صفحات من تاريخ الكفاح الوطني بالجديدة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2005، ص ص. 17-27.
4- جسوس (عز الدين) التاريخ الشفوي، م.س، ص.237

* عبد الواحد بن مولاي اليزيد القادري : أمين الصندوق.

* أحمد بن بوشعيب بن الجيلالي الزموري: مستشار

* عبد الله بن محمد الجيلالي: مستشار

* بوشعيب بن علال بن مبارك العيادي عضو رئيسي

* بوشعيب بن علال بن الحاج أحمد: عضو رئيسي

* عبد الرحمان بن الجيلالي بن علي عضو رئيسي:

* محمد بن الطاهر بن الحاج أحمد: عضو رئيسي

* أحمد بن بوشعيب بن لحسن فرجي: عضو رئيسي

* محمد بن عزوز بن عبد الكريم بنكيران عضو رئيس(1).

وعلى غرار ما كانت تقوم به الحركة الوطنية بمختلف فصائلها في أقاليم المغرب، قام عبد الرحمان المسفر والقاسم العراقي، بإنشاء مدرسة حرة بالزاوية الناصرية بدرب الطويل خلال سنة 1937م وهي المدرسة التي تحولت إلى مدرسة التهذيب على يد قاسم الزهيري وأسس عبد السلام السراج مدرسة أخرى بشارع الزرقطونى، وأنشأت مدرسة ثالثة على يد عبد الرحمان المسفر والحاج عبد الله يحي خالد وإدريس المسفر سميت بمدرسة الصفا الحسنية سنة 1945م. وكانت هذه المدارس الحرة، إلى جانب منظمة الكشفية الحسنية، والفرق المسرحية والموسيقية، بداية للعمل الوطني المنظم ، حيث كان الهدف منها تعليم أبناء المدينة وخاصة الأسر الفقيرة منها المحافظة على الهوية العربية الإسلامية، وزرع روح الوطنية والاستقلال في نفوس النشء الصاعد.

وقد جاء التعليم الحر كرد فعل على السياسة التعليمية الكولونيالية، التي كان من

ص: 285


1- المسفر (إدريس) ، صفحات من تاريخ الكفاح الوطني بالجديدة، م.س، ص 126

بين أهدافها خلق متعلم مفتون بالثقافة الفرنسية وقيمها الحضارية، وهذا ما دفع بعض مناضلي الحركة الوطنية منذ سنة 1919م إلى فتح ورعاية مدارس خاصة بالتعليم الحر، بغية محاربة الجهل وبث الروح الوطنية، وتعميق الشعور بالمواطنة ودعم الحركة الوطنية، وكانت المدرسة التي أسسها محمد باليماني الناصري في الرباط سنة 1919م، فاتحة هذه التجربة المتميزة، لتعرف مدن ،سلا، فاس، الدار البيضاء، مكناس، أسفي مراكش الصويرة، تطوان، بركان الجديدة... التجربة نفسها. وفي ثلاثينيات القرن العشرين دخلت الحركة الوطنية على الخط، فتوسع الاهتمام بفتح مدارس حرة كسبيل لإثبات الذات والتصدي للمخططات الكولونيالية في المجال التعليمي، ورغم ما أدته هذه المدارس من دور في إعداد وتعبئة نخبة واعية ومثقفة، قادرة على مجابهة استبداد الحماية ،وأنصارها فإنها عانت الكثير من المشاكل الهيكلية والتنظيم، كما كانت مقراتها وبرامجها فضلا عن روادها ومعلميها وأساتذتها عرضة لمضايقات سلطة الحماية ورقابتها (1)، وكان اقتصارها في الغالب على الأقسام الابتدائية، نقطة ضعف مركزية في هذه التجربة التعليمية، ومدعاة لانخراط تلامذتها في الثانويات الفرنسية، كما أن هذه المدارس ورغم الجهود التي بذلت، ظلت قاصرة عن تغطية كل المراكز والقرى المغربية(2). وقد احتضنت مدينة الجديدة مدرستين حرتين خلال الفترة المدروسة، الأولى باسم مدرسة التهذيب، والثانية باسم مدرسة الصفاء الحسنية التي عانت الأمرين قبل خروجها إلى حيز الوجود.

وتقرر تأسيس مدرسة الصفاء الحسنية في اجتماع للجنة التعليم التابعة لفرع حزب الاستقلال بالجديدة، لاستيعاب تلاميذ الحي الفقراء البالغين سن التمدرس، وقد أحدث لهذا الغرض لجنة لتنفيذ مشروع المدرسة تحت إشراف الحاج عبد الله بن ابراهيم، وخالد يحيى، وإدريس المسفر، وبعض وجهاء الحي الذي من بينهم الحاج عبد الرحمان الحنصالي، وعبد الرحمان ،الحمري والحاج أحمد الحمري، ومحمد

ص: 286


1- المحمودي (أحمد) ، حول التعليم الحر بمغرب الحماية، أعمال ندوة بعنوان: دور المدارس الحرة للحركة الوطنية في النضال الوطني من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الدار البيضاء، 2003 ص 12.
2- نفسه، ص 53.

ولد السايب والسيد المعطي وكانت مهمة اللجنة تتركز في السهر على إخراج مشروع المدرسة إلى النور ، وتهييئ الظروف المادية والأدبية لذلك(1).

وبرزت في البداية مشكلة رخصة فتح المدرسة، إذ كان أمر الحصول عليها صعبا، لذلك قررت لجنة التعليم أن تكون مدرسة الصفاء فرعا لمدرسة التهذيب، التي كان يديرها الأستاذ قاسم الزهيري، على أن تكون المدرسة مستقلة في إدارتها، وقد أسندت إدارة المؤسسة الجديدة لإدريس المسفر ، ليتم التعاون بمعيته مع الحاج عبد الله بن إبراهيم في البحث عن مكان لإقامة المدرسة، فوقع الاختيار على دار كبيرة في قلب حي الصفاء، كانت في ملك المرحوم الحاج إسماعيل بن دغة، وبعد

إدخال بعض التعديلات عليها صارت مكونة من ستة فصول، ومجهزة بما يلزم من التجهيزات التعليمية الضرورية، وعلى إثر خلاف سببه رفض قاسم الزهيري السماح للقيمين على مدرسة الصفاء تسجيل التلاميذ دون إشرافه أعلن أعضاء لجنة المدرسة في اجتماع قرار استقلال المدرسة التام عن أي مؤسسة (2)، ثم قدموا بعد ذلك ملفاً رسمياً إلى مندوبية التعليم بغرض أخذ رخصة قانونية تسمح بفتح المدرسة، وفي الوقت ذاته تم إيفاد لجنة من المدرسة لمقابلة السلطان المغربي محمد بن يوسف للتعجيل بالرخصة، وبالفعل كتب العاهل المغربي إذناً مؤقتاً يفي بالغرض ريثما يجهز الوصل الرسمي للرخصة، لكن بعد أسبوع تم استدعاء إدريس المسفر مدير المدرسة من طرف المندوب المخزني والباشا يأمرانه بإقفال المؤسسة، لكنه رفض ذلك معللاً أن المدرسة قد استهلت نشاطها التعليمي، وأن نشاطها لن يتوقف إلا بتصريح كتابي من قبل المندوبية أو الباشوية، لكن هذا التصريح لم يبعث، فظلت المدرسة تمارس نشاطها حتى انتقلت إلى بناية جديدة سنة 1947(3). وقد جاءت ملابسات هذا الانتقال إثر تقادم بناية المدرسة، فقرر أعضاء لجنتها بمساعدة الحاج عبد الله البحث عن أرض جديدة لبناء المدرسة ومصادر تمويلها، وفعلاً تم الاتصال

ص: 287


1- المسفر ( إدريس) ، صفحات ... م . س، صص. 53 - 54.
2- نفسه، ص ص 57 - 58.
3- المسفر ( إدريس) ، صفحات .... م. س، ص. 58.

بأعيان حي الصفاء، الذين باركوا الفكرة وأبدوا استعداداً كبيراً للمساعدة، وعلى هذا الأساس، تم الاتصال بالسيد أحمد الشرقاوي - وهو صاحب شركة للنقل - لإقناعه بوهب قطعة أرض تبلغ مساحتها ستمائة متر مربع كان يملكها بالحي، وبعد حيازة الأرض بدأت الاستعدادات الأولى للبناء، وبعد إتمام الخرائط والدراسات قدم طلب رخصة لبناء المدرسة لكنه قوبل بالرفض، غير أن إعادة تقديم الطلب بصيغة تحايلية مفادها السماح ببناء رياض لفائدة عائلة المسفر نجحت فشرع في بناء المؤسسة التي كانت عبارة عن قاعات دون نوافذ خارجية تطل على الشارع العام (1) ، والشرعنة تحويل هذا المبنى إلى مدرسة كتب مهندس من البلدية تقريراً يؤكد فيه أن البناية آيلة للسقوط، وأن وضعها يهدد التلاميذ في كل وقت وحين، وبعد ذلك سجل في محضر أن السيد إدريس المسفر مالك الرياض يعير الرياض الجديد ليكون مقراً مؤقتاً لإيواء التلاميذ ريثما ترمم بنايات المدرسة القديمة، وقد ظلت هذه المؤسسة قائمة حتى بعد نهاية الفترة المدروسة(2).

وهكذا شكلت المدارس الحرة المستحدثة إطاراً تعليمياً وتربوياً، غايته الحفاظ على الشخصية الثقافية والحضارية للإيالة المغربية، وتجنيد كل متمدرسيها صفوف الحركة الوطنية لمجابهة الوجود الفرنسي ، فالدفاع عن الهوية المغربية (3)بكل أبعادها كان من أهم الأهداف التي دفعت رواد الحركة الوطنية إلى فتح مدارس حرة في مختلف ربوع المغرب، بيد أن المحتل لم يقف مكتوف الأيدي، بل جد في التضييق عليها وسحب رخصها القانونية، ووضع القائم منها تحت المراقبة الصارمة السلطة الحماية(4).

وكانت التبرعات والإعانات أهم مصدر مالي لتمويل هذه المدارس وأنشطتها التربوية، حيث كانت هناك صناديق خاصة تقدم في الخفاء للمتبرعين، كما أسست

ص: 288


1- نفسه ص 76.
2- نفسه، ص 77
3- المحمودي ( أحمد) ، حول التعليم ... ، م . س ص ص. 49 - 50
4- ياسين (محمد)، سوسيولوجيا الخطاب الكولونيالي، ج 1، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ،فاس 1992-1993، ص. 481.

فرقة خاصة تزاوج بين نشر الوعي الوطني وتطوير موارد هذه المدارس. وكانت هذه الأنشطة التعليمية والثقافية والسياسية والترفيهية تخفي من ورائها حزبا رصينا يتزايد أعضاؤه باستمرار، وتتنوع أساليبه النضالية السلمية حتى سنة 1952م(1)، وكان الزيارة الزعيم علال الفاسي للجديدة عقب عودته من منفاه، الدور الكبير في رصِّ صفوف الوطنيين، إذ اعتبرها المراقبون زيارة تاريخية ألهبت الحماسة وقوَّت عزائم المناضلين الدكاليين، حيث أقيم على شرفه حفل ليلي بمنزل والد إدريس المسفر وخلال الحفل قام تلاميذ مدرسة الصفا الحسنية بتقديم رواية خالد بن الوليد، كما ألقى الزعيم كلمة على الحاضرين مفادها، أن نجاح الحركة الوطنية رهين بتمسك أفرادها بالإسلام الصحيح ومباشرة بعد الحفل، عمدت السلطات إلى استدعاء والد إدريس المسفر، حيث طالبوه بإعطاء توضيحات حول ما حدث في بيته، مدّعين أن أحد الحاضرين سب فرنسا بقوله تسقط فرنسا، فأنكر الوالد هذه الاتهامات، وعلل أن الاحتفال كان بمناسبة ليلة المولد النبوي، الذي تزامن مع وصول الزعيم علال الفاسي إلى الجديدة، وحضروه جاء باعتباره عالما كبيراً، وأن الحفل مرَّ بسلام ولم تصدر من الحاضرين أي كلمة نابية في حق أحد. وبعد ذلك أخلي سبيل الوالد بعد تحميله مسؤولية ما سوف يحدث بعد ذلك(2).

2 - اغتيال فرحات حشاد وإضراب الثامن من دجنبر سنة 1952م.

ظل هذا اليوم موشوما في الذاكرة النضالية الدكالية، فمن خلال الإضراب الذي قام به التنظيم الوطني بالجديدة، استطاع المناضلون إبراز الحاضرة بصورة المدينة الرائدة في مضمار النضال الوطني، إلى جانب مدن الدار البيضاء وفاس ومكناس.... وأنها تشارك إخوانها داخل الوطن وخارجه آلامهم وتآزر قضاياهم، حتى تنقشع الغمة على المغرب والمغرب الكبير. ومن ومضات ذلك، مشاركتها بقوة في إضراب الثامن من دجنبر 1952م على خلفية اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد في الخامس

ص: 289


1- المهناوي (محمد) المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص ص 188-187.
2- المسفر (إدريس) ، صفحات ...، م.س، ص ص 80-79.

من دجنبر من السنة نفسها، وبسبب هذا الحدث الجلل استدعت الأمانة العامة الحزب الاستقلال بالرباط مندوبها وكاتب فرع مدينة الجديدة السيد قاسم العراقي، للتشاور حول الإجراءات الواجب اتخاذها لإدانة الفعل الإجرامي، وجعل المناسبة فرصة لفضح وإحباط المخططات التي تحاك ضد العرش والشعب، غير أن وعكة صحية جعلته ينيب عنه السيد إدريس المسفر الذي رافقه بوشعيب العيادي، وقد دار موضوع الاجتماع حول تدابير وصم ،الاغتيال والإواليات الضرورية لمواجهة تعنت المحتل بالشجاعة والصرامة اللازمتين مقابل تقديم تضحيات كبيرة تسمع صوت الشعب في المحافل الدولية ونقض كل المؤامرات التي تستهدف القصر أو رموز حزب الاستقلال. وعند نهاية اللقاء عاد إدريس المسفر وصاحبه يحملان التعليمات الجديدة التي أبلغاها للمناضلين الاستقلاليين، فتقرر تصعيد وتيرة الاجتماعات لتعبئة الوطنيين والوطنيات، وفي يوم الأحد سابع دجنبر من السنة نفسها سلّم محمد بوستة رسالة من الأمانة العامة لحزب الاستقلال إلى السيد إدريس المسفر، فحواها يحث المناضلين على تنظيم إضراب عام وشامل يوم الاثنين الثامن من دجنبر، وبمجرد تلقيه الرسالة اجتمع مع رفقاء ضرب النضال في بيت عبد الواحد القادري لتوزيع الأدوار، حيث تكفل الحاج عبد الله بن إبراهيم خالد يحي، بإبلاغ

أصحاب محلات البيع بالجملة (الهريان)، وتكفل إدريس المسفر بإبلاغ سكان حی الصفا، وتكفل الحاج الحسن الشلح بإبلاغ التجار المنحدرين من سوس، بينما تكفل عبد الله النعماني والعربي الزموري بحي المستشفى، وعهد لمحمد التازي بمهمة الاتصال برجال التعليم والجدير بالذكر أن اليهود نفذوا تعليمات الحزب وشاركوا في الإضراب، لكنهم عادوا وفتحوا محلاتهم تحت ضغط سلطات الحماية، التي بدأت في تكسير أبواب المحلات المغلقة(1).

وقد بدأ الإضراب بإغلاق جميع المحلات التجارية الخاصة ببيع الأثواب ودكاكين البقالة وحوانيت الحلاقين والحرفيين المسلمين، وثلاث محلات لبيع الدخان، وفي الليل تعرضت الكنيسة الكاثوليكية بالمدينة للتخريب والإحراق

ص: 290


1- المسفر (إدريس) ، صفحات ...، م.س، صص. 103-94

وأتلفت أغلب محتوياتها، بينما اتسم مساء يوم التاسع من ديسمبر/ كانون الأول، بتطور الهيجان الشعبي داخل المدينة إلى حد إقامة متارس بالطرق الرئيسة بها، وكانت هذه المتارس على شكل سد منيع، تتكون من مواد مختلفة وأسلاك ضخمة ومصدات للسيارات. وأمام تصاعد الغضب الشعبي بالجديدة، قررت السلطات الفرنسية التحرك على النحو التالي:

* اعتقال احتياطي لقاسم العراقي وإدريس المسفر باعتبارهما المسؤولين عن هذه الفوضى».

* اعتقال احتياطي للحاج لحسن بن عبد الله الشلح أمين البقالين.

* البحث عن مدبري هذه الإضرابات والمشاركين فيها (1).

وعلى هذا الأساس بدأت مرحلة مطاردة الوطنيين بالجديدة، ومهاجمة بيوتهم ومحلاتهم المهنية، وبعد قضاء أكثر من شهر في التحقيق الذي وصفه العميد «لويس بريتي» بالمضني، كانت المحصلة اعتقال عشرات الوطنيين بالمحجوزات التالية:

* عشر لوائح بها أسماء المناضلين، وبرنامج اجتماع كان من المقرر أن يتم سراً عند بوشعيب بن مبارك بن أحمد العيادي.

* منشوران سیاسيان مرقونان بالعربية عند عبد الله بن الحاج أحمد.

* منشور سياسي مرقون بالعربية عند إدريس بن أحمد بن يوسف.

* منشور سياسي مرقون بالعربية عند الحاج لحسن بن محمد بن عبد الله(2).

وقد أوقف هذا التحقيق سلطات الحماية بالجديدة على مدى التنظيم الحقيقي

ص: 291


1- المهناوي (محمد) المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب المهناوي (محمد)، المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953-1952 ، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، صص. 190-189.
2- المسفر (إدريس) ، صفحات ... ، ط 1 ، م.س، ص ص . .125-124.

المجموعات العمل النضالى بالمدينة المرساة قواعده منذ عدة سنوات والمحيّنة هيكلتة قبل وقوع هذه الأحداث بوقت قريب، وبالضبط منذ شهر سبتمبر/ أيلول السنة نفسها. وقد أكد تقرير سري بتاريخ 14 من يناير سنة 1953م، أمضاه رئيس شرطة حفظ الأمن بالجديدة، يفيد أن إعادة الهيكلة هاته تمت بدار قاسم العراقي «الزعيم المحلي»، كما ركز التقرير بالأساس على تنظيمات المكتب المحلي لحزب الاستقلال بالمدينة، ورؤساء خلاياه وخطته في توسيع قاعدة التنظيم جماهيريا، واستقطاب عناصر جديدة للعمل الوطني، ليخلص التقرير إلى أن قاسم العراقي هو الذي أصدر التعليمات بإضراب الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، عن طريق رؤساء الخلايا، والاجتماع الذي ترأسه بمكتبة النجاح. وكانت الأوامر التي أعطيت، نقلا عن محضر اعترافات بوشعيب بن أحمد بن مبارك العيادي على الشكل التالي:

* إغلاق جميع الحوانيت يوم الاثنين.

* تعطيل إجباري لكل المأجورين.

* إخبار المواطنين وإشاعة التعليمات بينهم(1).

والأكيد أن هذه التعليمات كانت مصحوبة بديباجة توضّح الأسباب والغايات من الإضراب، إلا أن العميدين في تقريرهما تحاشياً ذكر ذلك بشكل واضح. وبهذا استطاعت سلطة الحماية أن تضع يدها على أهم تنظيم نضالي بالمدينة.

وقد لاحظ رئيس شرطة حفظ الأمن بالجديدة، وجود ممثلين عن جميع الشرائح الاجتماعية بهذا التنظيم، إذ رغم هيمنة العناصر المنتمية للبروليتاريا، فإن ذلك لم يمنع من وجود بعض البورجوازيين وخاصة منهم التجار، وكذلك بعض الفلاحين مثل عبد الله بن محمد بن الجيلالي النعامي وأحمد بن عبد الله بن الحاج عباس سرغيني، الذي أرسل برقية ولاء وإخلاص إلى القصر الملكي بمناسبة عيد العرش باسم الفلاحين في بداية عام 1952 وإلى هيئة الأمم المتحدة.

ص: 292


1- المهناوي (محمد)، المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952 ، ندوة علمية تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص. 191-190.

وكان المكتب المحلي لحزب الاستقلال، يقوم بتأطير الخلايا ويوجهها، أما الأوامر والتعليمات فتصدر باسم قاسم العراقي، وكان صلة الوصل بين هذا الأخير ورؤساء الخلايا في غالب الأحيان هم: عبد الله بن محمد النعامي، وأحمد بن بوشعيب بن الحسن ،فرجي والحسين بن أحمد اليوبي. وكان قاسم العراقي هو الذي يعين رؤساء الخلايا ويحدد أفرادها، كما كان يعقد في بيته اجتماعات خاصة مع رؤساء الخلايا كل ثلاثة أشهر، باستثناء الحالات المستعجلة، وآخر اجتماع لرؤساء الخلايا صحبة المكتب كان في نونبر سنة 1952م بدار الكاتب العام إدريس المسفر.

وكانت الأوامر والتعليمات تنقل إلى أعضاء الخلايا بواسطة رؤوسائهم. وكانت أكبر خلية من حيث العدد، هي تلك التي كان يرأسها محمد بن عزوز بنكيران، حيث تضمت أزيد من ستة وعشرين فرداً، وكان القسم إجبارياً لأي عضو يريد الانخراط في إحدى خلايا الحزب، إذ يقسم ويده اليمنى على نسخة من القرآن الكريم، بأن يلتزم بالإخلاص لله والوطن والتنظيم، وبأن ينفذ الأوامر وألا يخون رفاقه. كما يلتزم كل عضو منخرط مبدئياً بدفع مساهمة شهرية لا تتجاوز في الغالب الخمسين فرنكاً، تدفع لأمين مال كل خلية، الذي يسلمها بدوره لأمين الصندوق بالمكتب أو لقاسم العراقي مباشرة. ولتضليل سلطة الحماية والإفلات من عيون شرطتها السرية، كانت الخلية تعقد اجتماعاتها ليلاً وفي محلات مختلفة فخلية بوشعيب العيادي على سبيل المثال، المتكونة من عشرين إلى خمسة وعشرين عضواً، كانت آخر اجتماعاتها حسب الترتيب التالي : حيناً عند محمد بن بوشعيب (أمين الخلية بحي القلعة، وحيناً عند محمد بن بوشعيب بن عبد الله قرب مصانع بويسون (Bisson)، وفي أحايين أخرى عند عبد الله السلام بن محمد العبدي بدرب غلف، وكانت هذه الاجتماعات تتم مرة كل خمسة عشر يوما أو خلال كل الشهر، وذلك تبعاً للظروف والمستجدات وكان برنامج الاجتماع يتم على النحو التالي:

* لائحة بأسماء المتغيبين.

* لائحة بأسماء الحاضرين.

ص: 293

* التعريف بأهداف وتاريخ الحركة الوطنية.

* عرض لمظاهر التوتر الذي يشهده المغرب.

* وتنتهي الاجتماعات بقراءة جريدة العلم والمناشير ونشرة الأسبوع، وبعد شرح هذه المناشير ومداولة محتوياتها يتم إحراقها.

وفي ضوء هذه المعلومات التي تحصلت عليها الإدارة الكولونيالية لمدينة الجديدة، قامت بترحيل قاسم العراقي و إدريس المسفر إلى سجن أزيلال دون محاكمة، وتقديم أعضاء مكتب فرع حزب الاستقلال التسعة للمحاكمة، بصحبة رؤساء الخلايا، وأعضائها التسعة والعشرين الذين توزعوا على المنوال التالي:

* الخلية الأولى: رئيسها محمد التازي يشرف على تسعة أفراد.

* الخلية الثانية : رئيسها محمد التازي يشرف على سبعة أفراد.

* الخلية الثالثة: رئيسها بوشعيب العيادي يشرف على سبعة أفراد.

* الخلية الرابعة : رئيسها محمد بنكيران يشرف على ستة أفراد.

وبالمقابل أفرجت سلطات الحماية على ثمانية وثلاثين فرداً بعد اعتقالهم واستنطاقهم وهم:

* خلية محمد التازي : أحد عشر فرداً.

* خلية بوشعيب العيادي: خمسة عشر فرداً.

* خلية محمد بنكيران: إثنا عشر فرداً.(1)

وبعد ثلاث جلسات بمحكمة باشا مازغان (7 فبراير و 9 فبراير و 5 مارس 1953م) نطق القاضي بالحكم في حق ثمانية وثلاثين مناضلاً، تراوحت بين ثلاثة أشهر وسنة،

ص: 294


1- المسفر (إدريس)، صفحات ... ، ط 1 ، م.س، ص ص . .128-127

فهناك من سجن بتهمة التحريض في المساجد، مثل المناضل أحمد بن بوشعيب الزموري، وهناك من سجن بتهمة السب والقدح مثل المناضل عبد السلام بن محمد بن الحبيب، وهناك من سجن بتهمة إحداث الفوضى والاجتماع السري مثل المناضل محمد بن عزوز، وهناك من سجن بتهمة إنشاء مجموعات إرهابية مثل المناضل أحمد بن عبد الله بن الحاج عباس سرغینی و مناضلون آخرون سجنوا بتهمة الشهادة الكاذبة، أو المشاركة في المظاهرات، أو إحداث البلبلة(1).

وهكذا استغلت الآلة القمعية الكولونيالية، إضراب الثامن من دجنبر سنة 1952م لتضرب بقوة التنظيمات الوطنية الحزبية والنقابية، حيث تم حظر الحزب الشيوعي المغربي، وحزب الاستقلال الذي صودرت صحيفته واعتقل قادته، ليخيم عقب ذلك نظام الإرهاب البوليسي على المغرب كله(2).

وإذا كان التنظيم الوطني الاستقلالي بالجديدة وخارجها، قد تلقى ضربة قاسية إثر هذه المحاكمات فإن هذا لم يقف حائلاً أمام مواصلة العمل النضالي، فأغلب هؤلاء الذين سجنوا عادوا لممارسة العمل النضالي فور تسريحهم صحبة عناصر أخرى، لينخرط الجميع في مقاومة الاحتلال بشراسة أقوى، إثر نفي السلطان محمد بن يوسف سنة 1953(3).

11 - خيار المقاومة العنيفة بدكالة : بواعثها وأساليبها (1953-1955)
1 - المقاومة المسلحة بدكالة : أسبابها وحيثياتها

كان لنفي السلطان محمد بن يوسف وعزله عن عرشه وشعبه الدور الحاسم انتقال العمل الوطني من طوره الكلاسيكي المعتمد على المفاوضات ولغة النقد

ص: 295


1- المسفر (إدريس)، صفحات ... ، ط 1 ، م.س، ص.ص. 129-128
2- عياش (ألبير) المغرب والإستعمار ...، م.س، ص ص .412.
3- المهناوي (محمد)، المقاومة المنظمة بالجديدة بين 1953 1952 ، ندوة علمية تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص 199.

والتعاليق السياسية والصحفية إلى العمل المباشر القائم على تبني الخطاب العنيف والمجابهة بالسلاح أي سيادة لغة البيانات والمنشورات المحرضة على التصفيات الجسدية، وضرب المصالح الفرنسية، وقد برز في هذه المرحلة فدائيون أبلوا البلاء الحسن في زعزعة الاستقرار وترويع المستوطنين وعملاء الاحتلال، أمثال الخطابي المعروف بشقربل، والفاطمي الطرمونية، وحمو الطرمونية، ومحمد الكافي، ومبارك أبو قاسم، ومحمد بناجح، وأحمد طالب، والحاج بوشعيب الطاوسي، وأحمد الأزرق وصابر مصطفى ...(1)وفي خضم ذلك كان الدكاليون الوطنيون خارج وداخل دكالة، يشاركون إخوانهم المغاربة في التظاهر والتعبير عن رفض السياسة الكولونيالية، سواء أحداث سنة 1944 أو 1952 أو 1955م، مستعدين لتقديم أرواحهم وحريتهم قربانا الكرامة الوطن والشعب والسلطان.

ففي يوم السبت 20 اوغست / آب بعد الزوال، تجمهر في ساحة مولاي يوسف و درب غلف و درب ،بوشريط شباب وكهول النضال الوطني قدِّروا ب ستمائة متظاهر، ممتشقين صور السلطان محمد بن يوسف والأعلام الوطنية، وزغاريد النسوة تحفهم من جانب، وهم على صوت واحد يصدحون بعودة السلطان الشرعي إلى البلاد وإنهاء الاحتلال، بيد أن التدخل العنيف لقوات الاحتلال لثني المواطنين على المظاهرة، دفعت المتظاهرين إلى تكسير وتخريب كل ما تأكد ملكه للكولونياليين، فراغوا يهشِّمون ويكسِّرون زجاج السيارات ويضرمون النار في محلات بيع التبغ بساحة مولاي الحسن وساحة غاليني المعروفة اليوم بساحة عبد الكريم الخطابي وبعض منازل المستوطنين الفرنسيين بالحي البرتغالي، الأمر الذي فرض على سلطات الاحتلال نقل مستوطنين فرنسيين ومغاربة يهود إلى القاعة الرياضية المغطاة، خوفا من أن يطالهم مكروه. وفي الساعة الخامسة من مساء اليوم نفسه، طفقت قوات الاحتلال تبث في مختلف مناطق المدينة قوات الأمن والحراسة لتشديد المراقبة على مداخل المدينة ومخارجها، وضبط مفاصلها الرئيسة، وفي الساعة الثامنة مساء أعلنت حظر التجوّل أملاً في احتواء الانتفاضة، لكن الوضع ظل على ما هو عليه، فحتى

ص: 296


1- جريدة الصباح الإلكترونية، نصب تذكاري تكريما لرموز المقاومة بدكالة، الثلاثاء 22 يناير 2013، ص. 4.

الساعة الثانية ليلاً، والقوات في استنفار تام ورجال الإطفاء يخبون النيران المستعرة في مناطق متفرقة، ويخمدونها في منزل العميل المعاشي(1). وفي هذا الصدد يروي لنا المهندس الطبوغرافي ورئيس المجلس البلدي السابق عبد الكريم بنكيران عن حيثيات الانتفاضة وتفاصيلها بالقول: «في البداية كنا أربعة شبان مولاي مصطفى أبو مروان الملقب بالعلوي، وأحمد خشلاعة، ومصطفى بنكيران، وعبد ربه، كنا قد اتفقنا على القيام باحتجاج نعبر فيه عن سخطنا جراء تعرض محمد الخامس للنفي. اتفقنا على الالتقاء بساحة غاليني أمام مقر محكمة الباشا. ونحن في الطريق كان بعض رفاقنا ينضمون تدريجياً إلى مجموعتنا مثل أحمد رمزي وبوشعيب بوشتيه والعربي بلفقير وعبد الرحمان الريفي. كان أخي مصطفى بن كيران يحمل في يده اليمنى لوحة رسمها لمحمد الخامس لأنه كان يجيد الرسم بحكم عمله معلما في مدرسة الصفاء. أما أبو مروان فكان يحمل سكينا. حين وصلنا إلى شارع مولاي عبد ،الحفيظ، مرت أمامنا سيارة الشرطة ولم تنتبه إلى صورة محمد الخامس المرفوعة، بعد ذلك قررنا أن يعود كل منا إلى حيِّه ليستنفر أصدقاءه، للالتحاق بصفوف المستنكرين لخلع السلطان ونفيه بساحة قرب ضريح سيدي الضاوي. وفي الساعة الثانية بعد الزوال من يوم السبت بدأ وصول المتظاهرين إلى النقطة المعلومة، وما إن تكاثر المتظاهرون حتى أخطرت سلطات الحماية ووصلت تعزيزاتها الأمنية، كان المتظاهرون يهتفون بحياة الملك، ثم شرعنا في رشق سيارات «الجيب» البوليسية بالحجارة الرابضة بعين المكان فما كان المكان، فما كان منهم إلا أن باشرونا بوابل من الرصاص الحي، فتفرقنا على إثر ذلك إلى مجموعتين مجموعة أبو مروان التي شرعت في حرق مباني السلطات الفرنسية بسانية بلعبارية (حيث اليوم مدرسة التريعي للبنات) ومجموعة عبد الكريم بنكيران التي يممت وجهها صوب السوق القديم ودرب الطويل لتخريب وإحراق المتاجر والمحلات الفرنسية ودور العملاء، وكانت هذه المجموعة تزداد أعدادها كلما تقدمت في السير. غير أن المجموعة الأولى أصيب فيها أبو مروان برصاصة في فخذه اليسرى وألقي عليه القبض وفي هذا السياق حكى

ص: 297


1- Feucher) Christian(, Mazagan (1514- 1956), l'Harmattan, Paris, 2011 p.223.

مصطفى نجمي أنه شاهد من سطح منزله المنتصب حذو مزرعة «بيريز» عصبة من المنتفضين حاولوا إشعال النار في مزرعة المذكور ، لكنه استطاع أن يوقفهم بعد أن أردى اثنين بسلاحه الناري وكلاب مزرعته(1) . ورغم الاعتقالات الكبيرة التي طالت معظم المنتفضين بعد استعمال الرصاص الحي، فإن الانتفاضة استمرت حتى اليوم الموالي في جل أحياء المدينة رغم القمع الذي طال المظاهرة. وقد كانت حصيلة الانتفاضة مريرة من حيث الخسائر البشرية، إذ أمْنَتْ خمسة شهداء، وقصفت أرواح عميلين للاستعمار الفرنسي: الأولى تدعى زهراء الزخ، والثاني مراسل محلي لصحيفة الوداد المعروفة بولائها لسلطات الحماية، والمساندة لقرار خلع السلطان محمد بن يوسف المدعو التباري المهاجي وشهرته المعاشي، صفي بمقر سكناه بدرب طويل على يد الفدائيين، واتهم أحمد التجاني الملقب بالزنبقي مع ثلاثة من رفقائه بتهمة قتله(2). أما الجرحى فبلغوا ثمانية، ومن أبرز هؤلاء المدعو مصطفى أبو مروان والملقب بالعلوي، إذ يروي صديقهُ أحمد خشلاعة (نائب سابق لرئيس المجلس البلدي بالجديدة)، أنه وقتها كان على رأس المظاهرة يحمل في اليد اليمنى صورة كبير الصورة السلطان محمد بن يوسف، وفي اليد الأخرى سكينا وهو ينادي بملء صوته عاش الملك(3). وكان من بين المعتقلين في المظاهرة عبد الله شاكر وأبو بكر البركاوي وعبد القادر مديح وبوشعيب ،اللباط، وقد ارتفع عدد المعتقلين إلى الذي ضاقت بهم مفوضية الشرطة وسجن الجديدة، فاضطرت سلطات الاحتلال إلى نقلهم إلى سجن أزمور الذي قضوا به ثلاثة أشهر في وضعية جد سيئة، ثم نقلوا إلى مخازن التعاونية الموجودة بطريق مراكش بالجديدة، لمواصلة التحقيق معهم(4). ولم يتم تسريحهم إلا بعد عودة السلطان إلى عرشه(5).

ص: 298


1- الجماهري (المصطفى)، مظاهرات 20 اوغست / آب بالجديدة من خلال الشهادات والوثائق، مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 23 العدد 23 ، ص 37
2- الرايس مصطفى ملاحظات أولية حول علاقة شيوخ الزوايا بالاستعمار في الخمسينيات من خلال صحيفة الوداد)، مجلة المناهل يونيو 2011، ص 273.
3- Jmahri) Mustapha), « Souvenir marocain el Jadida au temps du protectorat», les cahiers d'El Jadida, Avril 2009, p. 26. 37. ...، م.س، ص.
4- الجماهري (المصطفى)، مظاهرات 20 غشت .... م.س،ص 37.
5- جسوس عز الدين، التاريخ الشفوي، ص. 244.

أما الخسائر المادية التي ترتَّبت عن الانتفاضة، فتمثلت في إحراق أكثر من أربعين منزلاً بدرب الحجار، والحي البرتغالي، وحي بن إدريس، وحي الركبة وحي ماشان(1)، ودرب بنيس وزنقة العرصة، ودرب النخلة، وزنقة مولاي عبد الحفيظ، وتخريب محلات خاصة بزنقة إسحاق حمو، وتخريب منقولات في ملكية أجانب أمثال الطبيب فيردي والصيدلي إنكرو والميكانيكي ريكس، وهذا ما يدل على أن الاحتجاجات مست كافة أطراف المدينة(2). وتؤكد الرواية الشفهية أن ما حدث كان بإشراف وتنسيق قاسم العراقي وإدريس المسفر وعبد الواحد القادري.

وإذا كانت مدينة الجديدة قد اقترن ذكرها في تلك الأيام الصعبة بسجن العذير، فلأن أسماء بارزة من الزعماء الوطنيين المغاربة زجت في زنازنه أمثال: عبد الرحيم بوعبيد، محمد الفاسي، أبو بكر القادري وغيرهم، أو تم إقبار رفاتهم بعد إعدامهم، أمثال عبد العالي وعبد العزيز بن شقرون ، والعربي بن محمد(3).

وحينما انطلقت المقاومة المسلحة في مختلف مناطق المغرب، كان أبناء دكالة من بين السبّاقين إلى الانخراط فيها، حيث كان المقاوم أحمد بن الحاج على سبيل المثال يزوّد بعض الدكاليين بالمسدسات والقنابل التي كان يخبِّئها عند أسرة مقاومة تحمل لقب مستعين بقبيلة العونات، والجدير بالذكر أن أم هذه الأسرة كانت العقل المدبِّر للعمليات الفدائية التي كان أبناؤها يقومون بها(4)، وكان مقاومو منطقة «متوح» من أشهر المناضلين الذين واجهوا سياسة «جوان» الاستعمارية، حيث نشطوا فی مختلف الخلايا الفدائية، سواء داخل دكالة أو خارجها، بحكم وجودهم في مدينة الدار البيضاء، التي باتت تختزل كل شروط وعناصر الصراع التي أنتجتها المرحلة

ص: 299


1- المرجع نفسه.
2- بوهادي بوبكر، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص ص 207 - 206
3- المرجع نفسه، ص ص 207 - 206
4- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة ...، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com

الكولونيالية، فالمقاوم علي بن المكي كان من أشهر الفدائيين الدكاليين الذين كانوا ينفذون العمليات الفدائية بالدار البيضاء (1) .

وانصبت مجهودات المقاومين ،بالخصوص على ضرب مصالح الاحتلال الفرنسي بدكالة، والمتجسدة في ضيعات المعمِّرين المنتشرة في المنطقة، حيث تم إلحاق أضرار جسيمة بها سواء عن طريق إتلاف المعدات الفلاحية ونهب المواشي وقطع الأشجار المثمرة، وتخريب المرافق الأساسية بها، أو عن طريق إضرام النار في مخازن الحبوب والتبن وإحراق المحاصيل، هذا إلى جانب مهاجمة الكولون وتصفية البعض منهم (2)، ولعل أشهر حادثة في هذا المجال، هي القنبلة التي فجرها المقاومون بأربعاء العونات في إحدى ضيعات الكولون(3)، الشيء الذي خلق جواً من الرُّعب في أوساطهم اضطرت بعضهم إلى الانتقال إلى مدينة الدار البيضاء(4).

ولم يفلت من عقاب المقاومين رقاب المتعاونين مع الاستعمار، فالمقاوم التجاني من قبيلة العونات كان معروفا بهذا النوع من الاغتيالات(5)، كما لجأ مقاومو مدينة الجديدة إلى التنسيق مقاومي الدار البيضاء لتصفية عملاء الاستعمار مثل الشرطي العميل الحمدوني الذي قتل في 20 من اوغست / آب سنة 1954م بسبب تعقب الوطنيين وإمعانه في تعذيبهم أثناء الاعتقال (6)، واعتماداً على رواية الخلفي فإن اغتيال الحمدوني انبرى له في الجديدة كل من العربي القرطبي ومحمد بن شقرون(7)، اللذان نفذا العملية بنجاح لكن الحظ شاكلهما حين اكتشف أمرهما وأودعا السجن، والمصير نفسه لقيه العميل المعاشي الكاتب العدل وموثق العقود،

ص: 300


1- نفسه.
2- بوهادي ( بوبكر)، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص ص . 207 - 206.
3- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة...، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www.
4- Siraj.3abber.com ) - بوهادي (بوبكر) ، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، صص.
5- سراج الدين (عبد اللطيف) ، دكالة .... م . س ، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com .206-207
6- جريدة الصباح الإلكترونية، نصب.... الثلاثاء 22 يناير 2013 ، م.س، ص. 4.
7- جسوس عز الدين التاريخ الشفوي، م.س، ص.242.

الذي فرّ من الدار البيضاء إلى الجديدة بعدما توعّده وطنيوها بالقتل، لكن أيدي الفدائيين طالته في مظاهرات اوغست / آب 1955، إذ أكدت رواية البركاوي أنه ذبح أمام داره بعد أن تم إحراقها(1). أما المحلات والمتاجر الفرنسية خاصة محلات التبغ أو المعروفة ببيع بضائع المحتل، فكانت مرتكز أهداف عمليات تخريب وتفجير الفدائيين، هذا إلى جانب قطع أسلاك الهواتف، وإتلاف المعدات وكل ما من شأنه تأمين شروط العيش الرفيه للأوروبيين بدكالة.

ولم يقتصر النشاط النضالي للدكاليين فقط على مدينة الدار البيضاء، بل شاركوا مع إخوانهم المغاربة في مدن أخرى في تظاهراتهم ومنظماتهم وخلياتهم السرية، كما هو الشأن بالنسبة للطوسي بوشعيب الذي استشهد في أحداث خريبكة يوم 20 اوغست / آب سنة 1955م، وبنطريق امبارك الذي نشط ضمن مجموعة حمان الفطواكي في مدينة الدار البيضاء و مراكش وتجنباً للمتابعة أو الاعتقال، انتقل العديد منهم نحو مدن شمال المغرب، وقاموا هناك بمد يد المساعدة للفارين من المنطقة ،الفرنسية ونشطوا في جمع وإرسال السلاح للمقاومين مثل عبد الله الناصري الذي استقر بمدينة القصر الكبير، كما التحق العديد منهم بفرق جيش التحرير وخاضوا معه أهم المعارك (2).

أما داخل منطقة دكالة، فقد تميز العمل الفدائي بتنوعه، حيث تراوح مابين العمل النضالي المنظم ضمن مجموعات فدائية وخلايا استقطبت العديد من أبناء دكالة، والعمل الفدائي العفوي الذي لم يخل في بعض الأحيان من تجاوزات ومبالغات، اتخذت صبغة أعمال انتقامية وتصفية حسابات، وهذا شيء يقترن عادة بالفترات التي يعمِّها الغليان الشعبي.

ومن المنظمات التي ارتبط ذكرها بأعمال المقاومة بدكالة نذكر على سبيل المثال: المنظمة السرية، المنظمة الحسنية، اليد السوداء، نصيب من جهنم، وقد اتخذت هذه المجموعات مقراً لها ولأعمالها أهم التجمعات الحضرية والسكانية بدكالة، سواء

ص: 301


1- المرجع نفسه، ص 243.
2- جريدة الصباح الإلكترونية، نصب .... الثلاثاء 22 يناير 2013 ، م.س، ص ص 208 - 207

بالجديدة أو سيدي بنور أو العونات أو الزمامرة أو أولاد فرج، ومن الأسماء التي نشطت تلك المجموعات هناك الأشهب ، وبلجو ،مبارك، والحسن الناصري، وصابر الفاطمي، ومستعين والمصدق، والتباري، والنعامي، وبدري...، هذه الأسماء منها من استشهد ومنها من عذَّب، ومنهم من بقي في السجن حتى إعلان الاستقلال(1).

ولم تكن المرأة الدكالية غائبة عن المقاومة السلمية منها والمسلحة، إذ كانت النساء تشكل السند الحقيقي لأزواجهن وأهلهن، فلا ننسى أن اجتماع مختلف هياكل التنظيمات الوطنية كانت تتم في المنازل. وكانت راضية المسفر زوجة قاسم العراقي نموذجا للمناضلة الدكالية حيث كانت حاضرة في كل المحطات النضالية التي شهدتها المنطقة، إضافة إلى دورها في التعبئة والتوعية والتعريف بأهمية المقاومة للنساء اللائي يجهلن ملابسات القضية الوطنية، لتحفيز أهلها على الانخراط في العمل الوطني، وتعزيز صفوف خلايا فرع حزب الاستقلال بالجديدة. وقد بدا نشاطها واضحا عندما ألقي القبض على زوجها قاسم العراقي،(2)إذ كانت على رأس النساء الجديديات في الاحتجاجات، كما كانت من الموقعات على عرائض المساندة لوثيقة الاستقلال، ولم تتخلف عن المشاركة في أحداث الثامن من دجنبر سنة 1952م استنكاراً لعملية اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد(3). وعند نفي السلطان كانت هي المسؤولة عن الحركة النسائية بمدينة الجديدة تندد وستنكر على طليعة المظاهرات النسائية بالمدينة خلع السلطان وجرائم الحماية إلى جانب مقاومات أخريات أمثال خديجة وفطومة وجميلة الصديقي وزوجة أحمد بن بوشعيب الزموري وفاطمة النعامي وعيشة النعامي، وعند عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه أصبحت هي المسؤولة عن الحركة النسائية الوطنية بالجديدة(4).

ص: 302


1- بوهادي ( بوبكر) ، انطلاق المقاومة المغربية ومساهمة أبناء دكالة في نشاطها ، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص 209.
2- المكاوي (أحمد)، سجن العذير و محاولة قمع حركة المقاومة المغربية، ندوة علمية، تحت عنوان: دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص 199.
3- موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب، الجزء الثاني، المجلد السادس، صص 885-886
4- المسفر (إدريس)، صفحات...، ط1، م.س، ص. 131-130.

وإلى جانب راضية المسفر اشتهرت عيشة النعامي أخت المقاوم عبد الله النعامي بنضالها المتفاني، رغم منع زوجها وتهديدها بالطلاق بسبب مشاركتها في العمل الوطني، وخروجها في المظاهرات، وجمعها للمناضلات في بيتها، وحضورها المجمل الاجتماعات واللقاءات المنعقدة بمقر حزب الاستقلال أو ببيت إحدى المناضلات الدكاليات وبعد نفي السلطان اتشحت السواد وأقسمت ألا تخلعه حتى يعود من منفاه ويملأ عرشه، وللتعجيل من هذا المرتجى سعّرت مع بقية المؤمنين بالقضية وهي في شهور الحمل من أُوار المقاومة والنضال، عبر توزيع السلاح وتخزينه وتفريق المناشير المناهضة للاستعمار، إلى جانب رعاية أسر السجناء والشهداء والمتابعين، وإذكاء روح الوطنية في نفوس النساء والتوعية بعدالة القضية الوطنية بينهن....، بيد أن نشاطها الوطني الذي طبق آفاق مدينة الجديدة وأحوازها، جعل المحتل يزمع اعتقالها سنة 1953 بدار العريفة الكائن بدرب النخلة الذي قضت به سنة كاملة قبل أن تخرج بصراح مؤقت(1).

ولازالت الذاكرة الجديدية تذكر نساءها اللائي أبلين بلاء الأبطال، حين خرجن في مظاهرات 20 من اوغست / آب سنة 1955 لمد الفدائيين بقنينات البنزين والغاز المخبأ بين ثنايا الحايك لتفجير محلات بيع التبغ (2). كما لم تنس المرأة الدكالية القروية ومساهماتها في المقاومة المسلحة من خلال تخزين السلاح وإيصاله للمقاومين وتخبيء الفدائيين وتمويه سلطات الحماية، ومن أبرز هذه الفدائيات نذكر عائشة زوجة العربي، وأم أسرة مستعين المنتميتان إلى قبيلة العونات(3) ، والأكيد أن كل قبيلة ودُوَّار ومدشر في دائرة دكالة كانت فيها نساء قدمن تضحيات جسيمة في سبيل نيل حرية الاستقلال.

صفوة القول، لقد استهدفت أعمال المقاومة الدكالية سواء من خلال العمل

ص: 303


1- ماجدة بنحيون، جوانب من تاريخ المقاومة النسائية بالمغرب (دكالة نموذجا)، الذاكرة الوطنية، العدد 24، 2015، ص. .97-96.
2- جماهري (المصطفی) مظاهرات 20 غشت...، م.س، ص. 37 .
3- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة ... ، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com

التلقائي أو المنظم ضمن المجموعات السالفة الذِّكر، رموز الاستغلال الاستعماري والمتعاونين معه، وتفاوتت مابين التحريض وتوزيع المناشير بالأسواق والدواوير، والتخريب والتصفية الجسدية، وقد استفاد المقاومون في نشاطهم من قربهم من مدينة الدار البيضاء(1)، ومن الدعم الذي يقدمه حزب الاستقلال.

2- أساليب قمع حركة المقاومة الدكالية : السجون والمعتقلات أنموذجاً

شكلت المعتقلات والسجون بالمغرب أداةً من الأدوات العديدة التي وظفتها سلطة الاحتلال الفرنسي لإرهاب الوطنيين المغاربة، وكسر شوكتهم وإحباط تطلعهم نحو الحرية والاستقلال، حيث تجرَّع المقاومون بين جنبات الزنازن وردهاتها ألوان العذاب والهوان بل تحوّل جزء من مجالها إلى مقبرة لباقةٍ من الشهداء، الذين أصدرت في حقهم المحاكم العسكرية حكم الإعدام ، ومن أشهر السجون التي اشتهرت بفظاعتها في التنكيل بالوطنيين نذكر:

أ- سجن العذير

يقع سجن العذير على بعد أحد عشر كيلومترا من مدينة الجديدة، على الطريق الرئيسة رقم 8 الرابطة بين أزمور والجديدة، وقد شرع في بنائه سنة 1916 في هذه المنطقة للأسباب التالية:

* خصوبة أراضي العذير.

* تشغيل المعتقلين والسجناء بأجور بخسة، أو دون مقابل في الأراضي التابعة للسجن أو أراضي الكولون.

*الهدوء النسبي الذي عرفته منطقة دكالة قياسا بمناطق أخرى.

وقد سلمت إدارة الفلاحة ثلاثمائة هكتار من أراضي العذير لمصلحة السجون، مقابل استخدام المعتقلين والسجناء في أشغال الفلاحة لفائدتها، وقد ظلت هذه

ص: 304


1- نفسه.

المساحة تتسع إلى أن وصلت إلى 1515 هكتاراً سنة 1956م(1). وقد مورست قسوة على المعتقلين في هذه المؤسسة قل مثيلها، حيث يروي المعتقل أبو بكر القادري على الأسلوب السادي في استقبال النزلاء الجدد الذين كانت رؤوسهم تتفصد دماً والآلام تستبد بأجسامهم جراء شفرة الحلاقة غير المشحوذة التي تُحلق بها شعورهم (2)، أما عبد الرحمان بوعبيد الذي قضى أربعة أشهر بالعذير، إثر الأحداث التي تلت تقديم عريضة الاستقلال، فقد وصف أيامه فيه قائلاً:«تمرُّ في ذهني الآن صور من حياتي في السجن كشريط تمتزج فيه القسوة والألم والعذاب بحكايات لا تخلو من الطرافة (3) ...».

وعقب المظاهرات المطالبة بالاستقلال التي عمَّت شوارع وجدة سنة 1944م، ألقي القبض على مجموعة من المتظاهرين، وقبل أن ينقلوا من السجن المحلي إلى عين علي مومن ،والعذير خاطبهم مدير السجن قائلاً: «... إن من يذهبون إلى العين سيجدون أمامهم الرئيس «كونتي» وهو لطيف ويعرف بعضكم وسأتصل به لأوصيه بكم خيراً، أما الذاهبون إلى العذير فسيجدون بعض الصعوبات...» وفي السياق ذاته أورد قدور الورطاسي أحد المعتقلين الوطنيين ما نصه وصباح الجمعة 19 من فبراير سنة 1944 نقل واحد وعشرون أخاً منَّا إلى العذير وقد علمنا أنَّهم واجهوا أنواعاً من الشقاء والتنكيل(4).

وفي شهادات حية عن معانات الوطنيين والمقاومين في هذا المعتقل الرهيب، نجد رواية إبراهيم لهلالي الذي يلخص معاناته فيه - إثر الأحداث التي أعقبت نفي السلطان محمد بن يوسف - فيما يلي:

ص: 305


1- المكاوي (أحمد)، سجن العذير ومحاولة قمع حركة المقاومة المغربية، ندوة علمية، تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2010 ، ص ص. .219-220
2- القادري (أبو بكر) ، مذكراتي في الحركة الوطنية من 1930 إلى 1940 الجزء 1 مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ، 1992 ، ص 456-454.
3- جريدة الإتحاد الإشتراكي، سجن العذير ، 13 يناير 1992، ص ص 6-5
4- جريدة العلم، جحيم العذير ، الأربعاء 10 يناير 1988، ص. 7.

* القيام بالأشغال الشاقة في الحقول والمقالع وتحت سياط الحراس، وإذا اشتكى السجين من العياء أو من ضخامة الحمولة (حبوب تراب، حجر ...)، أو ضبط متراخيا، فكنت لا أسمع إلا تحرك ... آه.... أدفع ... أجبد... أتقعد لامك، أهنا ماكين وطنية (1)...».

* العمل في ضيعات المعمرين التي توجد على بعد عشرة إلى ثلاثين كيلومترا عن السجن، حيث يتحتم على السجين قطع هذه المسافة الطويلة مشياً.

* غياب النظافة سواء تعلق الأمر بغرف النوم أو اللباس، بحكم العمل طول النهار وعدم استبدال البذلة الجنائية وغزو الحشرات للغرف.

* ندرة زيارة الطبيب، بل هذه الزيارة تتحول أحياناً إلى عسف إضافي إذا اعتبر الطبيب السجين متمارضاً، إضافة إلى ما يصاحب الزيارة من ركل ورفس وكلام ساقط.

* رداءة الوجبات الغذائية، وكان المحكوم عليهم بالإعدام أكثر تضرّراً، لأنه يمنع عليهم تناول أيّ وجبةٍ غير مهيأةٍ داخل السجن، وتلخص رسالة الشهيد مولاي علي بن مولاي العربي إلى محاميه الفرنسي، وضعيته بإحدى زنازن العقاب بالقول:«إن صحتي في خطر نظراً لكوني أسكن زنزانة بصحبة رفيق، طول الزنزانة متر وأربعين سنتمتراً وعرضها متر وخمس وعشرون سنتمترا، الشيء الذي يسبب لي صعوبات في جهاز التنفس، حيث لا يوجد بهذه الزنزانة لا نافذة ولا ماء ولا مرحاض ، وأؤكد لكم أنها خاصة بالعقاب، ولم أستطع تناول الطعام والشراب داخلها (2)».

وكرد على قساوة هذا السجن ومنها استمرار حمل الأصفاد ليلاً، شن المعتقلون المحكوم عليهم بالإعدام إضراباً عن الطعام خلال يومين من شهر أكتوبر سنة

ص: 306


1- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي رمز الأمة الهمام أحكام من شهور وأعوام إلى الإعدام (سجن العذير من 20 / 8 /1953 - إلى 1955-11-20) ، مطبعة نجم الجديدة، 1986، ص. 170.
2- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي...، م.س، ص 161.

1954م، وتكررت الإضرابات خلال شهري مارس وأبريل من سنة 1955م، كما نُظمت مظاهرات بهذه المؤسسة السجنية في فبراير سنة 1956م، وهو ما جعل مسؤولي السجن يضطرُّون لطلب التعزيزات العسكرية من جنود ودركيين(1)، وبسبب الإهمال والقمع، توفي بسجن العذير عدد من الوطنيين (2)منهم :

* المصطفى بن محمد المصطفى من تافوغالت مات في 23 من فبراير سنة 1955م، بعدما حوكم بتهمة إعادة تنظيم حزب ممنوع.

* أوسيدان أوقسو أوحساين من آيت ورير مات في 19 من يونيو سنة 1955م، بعدما حوكم بتهمة سب حاكم.

* الهاشمي البكاي بن بركان مات في 4 من يوليو سنة 1955م، بعدما اتهم بإخلال النظام.

* الفقير علي قتل على يد حارس فرنسي برصاصة من خارج شباك السجن، إثر مشادة كلامية بينه وبين القاتل، بسبب ضبطه وهو يقرأ خلسة جريدة تتحدث عن وقائع إضراب ديسمبر 1952م(3).

وقد انضاف إلى هؤلاء الشهداء، مجموعة من المقاومين الذين حوكموا أمام محاكم عسكرية، وصدرت في حقهم عقوبة الإعدام، وقد بلغ عددهم تسعة عشر شهيدا، وكانت لائحة المنفذ فيهم حكم الإعدام، مرشحة للتزايد لولا استفادة ثلاث عشر حالة من عفو رئاسة الجمهورية الفرنسية، التي حولت الإعدام إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، كما استفاد عشرة متهمين من العفو الشامل بموجب الظهير الشريف الصادر عن السلطان محمد بن يوسف المؤرخ في 19 من ديسمبر سنة 1955م(4)، ومن بين الذين تمتعوا بهذا العفو، نذكر عباس بن الحاج المدني من

ص: 307


1- المقاومة وجيش التحرير دون ناشر الوثيقة الرابعة، ج 1، مطبعة الرسالة، الرباط، 1986، ص ص 61-42.
2- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي...، م.س، ص 163. .158-159
3- نفسه، ص 173-163
4- لهلالي (إبراهيم)، بعد نفي ...، م.س، ص

مدينة أزمور، أما أحكام الإعدام التي نفذت فتمت مابين 22 من أبريل سنة 1955م والثاني من اوغست / آب من السنة نفسها، واستهلت بإعدام محمد بن أحمد البقال وعلي بن الطاهر بن يحي والعربي بن محمد وانتهت بإدريس الحرزي وعلال الأودي، وعبد الله الشفشاوني(1).

ب- معتقل آيت محمد

وجد هذا المعتقل بين أحضان جبال أزيلال في منطقة مرتفعة تتساقط عليها الثلوج بكثرة، وكانت جدرانه المتآكلة المسربلة بالثقوب، تجعل السجين كأنه وسط ثلاجة، ومن بين المقاومين الدكاليين الذين سجنوا بهذا المعتقل، مناضلو حزب الاستقلال أمثال قاسم العراقي، وإدريس المسفر، وذلك عقب إضراب سنة 1952م المندد باغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، حيث قضوا فيه سنة كاملة قبل انتقالهم إلى سجن أغبالو نكروس (2).

ج- معتقل أغبالو نكروس

معتقل يقع في دائرة مدينة بني ملال، وهو عبارة عن ساحة كبيرة محاطة بالغرف حالته جد مهترئة وشقوقه تسكنها الثعابين والحشرات ، وكان نظام الطعام فيه لا يتحول عن الشعير، حيث يقدم في الصباح للمعتقلين على شكل خبزتين، مصحوبتين بإبريق شاي، وفي المساء يقدم مبخر في إناء مملوء (البلبولة)، وفي يوم كل ثلاثاء وجمعة كان يضاف على الشعير قطع لحم الماعز (3).

وبعد قنبلة السوق المركزي للدار البيضاء لمّت سلطات الحماية المعتقلين السياسيين في السجون الكبرى، الذي كان هذا المعتقل من أبرزهم، وقد تجمع فيه أبرز المقاومين في أحداث تقديم وثيقة الاستقلال، وأحداث إضراب ديسمبر

ص: 308


1- المكاوي (أحمد)، سجن العذير ومحاولة قمع حركة المقاومة المغربية، ندوة علمية تحت عنوان دكالة وتاريخ المقاومة بالمغرب، م.س، ص 125.
2- المسفر (إدريس) ، صفحات ...، م.س، ص.114.
3- المرجع نفسه.

1952م، والمتهمين في أحداث تفجير المارشي سنطرال...، والذين من أشهرهم: المختار السوسي محمد الفاسي المهدي بن بركة، أحمد اليزيدي، محمد العلمي، أحمد بناني، إدريس المحمدي، إبراهيم الكتاني، عبد الكريم بنجلون التويمي، عنتر ،بنشمسي، الحاج الحسين أحمد المشهوري، مولاي هاشم العلوي، أحمد التبر سعيد أحيزون، بنسالم الكرواني أبا موح من زاوية الشيخ، البشير بلعباس، امحمد بن الجيلالي بناني المهدي الصقلي، فضول الصايغ عبد اللطيف الصايغ، علي بركاش، بسالم الكرواني، إدريس المسفر، قاسم العراقي، أحمد بن الحسين ...(1)، وكانت عتمة هذا السجن لا تضيئه سوى المناقشات الأدبية، والألعاب الرياضية،

والقفشات والمستملحات الطريفة، الصادرة عن بعض المعتقلين السالفي الذكر.

قصارى القول، سامت سلطات الحماية المقاومين المعتقلين مختلف ألوان العذاب الجسدي والنفسي، وقتلت باقة منهم بأعصاب سادية ملؤها الحقد والكراهية، عسى أن تكتم الأصوات المطالبة بالكرامة والاستقلال، غير أن عزيمة وصمود المقاوم الدكالي/ المغربي، كانت أقوى من الآلات الإرهابية التي وظفها المحتل. ولم تفتئ الذاكرة الدكالية تذكر المقاوم أحمد كربوب من منطقة بولعوان يردد إثر اعتقاله «والله ما نسيني ولا نبيع ديني»، وكلما ضربه جلادو سجن سيدي بنور يكيل له بالشتائم عوض أن يستعطفهم. وعلى شاكلته كان المقاوم امحمد سراج الدين، وبالبكاج، وبالخوصة، هذا الأخير كان من فرط التعذيب يفقد وعيه، وحين يستفيق يظل ثابتا على موقفه(2).

خلاصة الفصل الثاني:

تضافرت مجموعة من العوامل والحيثيات في بعث وإحياء مشاهد المقاومة والجهاد في كل ربوع المغرب، إذ تحكمت في خياراتها - السلمية أو العنيفة - أحداث فرضتها ظروف ومؤثرات داخلية انهزام المقاومة المسلحة، الظهير البربري، التنكيل

ص: 309


1- نفسه، ص 114- 141 ص.114-
2- سراج الدين (عبد اللطيف)، دكالة ....، م.س، أنظر الموقع الإلكتروني : www. Siraj.3abber.com

برموز الحركة الوطنية، نفي السلطان محمد بن يوسف...) وأخرى خارجية (الميثاق الأطلسي، حركات التحرر العالمية ...)،كانت منعطفاً حاسماً في تغيير منحنيات خريطة الطريق المرصوفة من قبل الحركة الوطنية لتحقيق غاياتها. وقد أسهمت الإستراتيجية الاقتصادية التي انتهجتها إدارة ،الحماية في ضرب مصالح فئات عريضة من التجار والحرفيين في العمق، حينما تم إغراق السوق المغربية بالمنتجات الأجنبية. فالنظام الاقتصادي الرأسمالي الجديد الذي أرست الحماية قواعده، ألحق رجة عنيفة في أسس البنية الإنتاجية التقليدية وأودى بثوابتها، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الكثير من الحرف وتجارتها، بل وإفلاس بعضها هذا الوضع خلق جوا شعبيا مشحونا بالامتعاض والتذمر مهد بشكل أو بآخر إلى تعزيز وتقوية صفوف الحركة الوطنية وجيش التحرير من مختلف فئات المجتمع المتضرر. وفي خضم ذلك استفادت دكالة من نشاط أحزاب سياسية وطنية وازنة (حزب الاستقلال، حزب الشورى والاستقلال، الحزب الشيوعي)، ومن قربها من مدينة الدار البيضاء، التي فتحت معها قنوات الاتصال والتنسيق النضالي، لتصفية رموز الاستغلال الاستعماري وأذنابه، وقد تنوعت أنشطته في هذا المجال مابين التحريض وتوزيع المناشير من جهة، والتخريب والاغتيالات من جهة أخرى، سواء في إطار العمل المنظم أو العمل التلقائي العفوي.

خاتمة:

مرَّت منطقة دكالة منذ القرن الخامس عشر إلى حدود القرن العشرين بتجربتين استعماريتين متباعدتين في الزمن ومختلفتين في شكل وأهداف الاحتلال (الاستعماري البرتغالي والفرنسي)، انسجاماً مع روح العصر الذي نشأت فيه الظاهرة الاستعمارية الأوروبية خلال العصرين الحديث والمعاصر، ولكنهما تجربتين نتجت عنهما نفس ردود الفعل المحلية من طرف السكان الذين أبانوا عن تلقائية الجهاد والمقاومة، وفي مرحلة لاحقة برزت الحركة الوطنية تعبيراً عن رفض الضغوطات الأجنبية الأوروبية.

ص: 310

فمنطقة دكالة كغيرها من المناطق المغربية الساحلية، رسمت تاريخها انطلاقاً من تفاعلاتها مع المجال وخصوصيته المنفتحة على البحر، فكل الحضارات المتوسطية التي انطلقت في بسط نفوذها انطلاقاً من هيمنتها البحرية، كان لها إسهام في ترك بصماتها بهذه المناطق منذ التاريخ القديم مع الفينيقين والرومان... وصولاً إلى مرحلة القرن الخامس عشر الذي شكل انطلاقة مسار تحول شامل ليس فقط على مستوى المجال المتوسطي ، وإنَّما أشَّر أيضاً لبداية التحول الأكبر على المستوى العالمي، حيت تمت النقلة العظيمة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مكرّسة الهيمنة الأوروبية بقيادة الرأسمالية التي انتهت إلى مرحلة الإمبريالية، حيث جدت في مرحلة نضجها الإمبريالي في دمج مجموعة من الشعوب البعيدة عن جغرافية أوروبا في حساباتها وصراعاتها، بحكم التهافت القوي الذي تشكِّل في سياق نشوء الدول الوطنية، واحتدام النزعات القومية بالمركز الأوروبي.

وقد نجم عن التنافس الأوروبي، سواء إبان العصر الحديث أو خلال الفترة المعاصرة، عن تعرض المغرب للضغوطات الأوروبية، تحددت معالمها بقوة في :مرحلتين: مرحلة الغزو البرتغالي ومرحلة الاحتلال الفرنسي، حيث كان الهدف متعدد للاستغلال، ولم تخرج منطقة دكالة عن هذه المشاريع الاستعمارية، بل يمكن القول على أنها شكلت للبرتغال مجالاً إستراتيجياً لا محيد عنه سواء في بعدها الاقتصادي أو الجيوسياسي، الأمر نفسه بالنسبة للفرنسيين الذين حافظوا على الطابع الفلاحي لدكالة محاولين جعلها تلبي حاجياتهم من الموارد الزراعية، ولم يكن من السهل تطبيق هذه المخططات دون الاصطدام مع أهلها الذين دافعوا بكل الإشكال، وفي كل الظروف طلبا في انعتاقهم من نير الاحتلال، وهم واعون ومقدرون للوضع حق تقديره. ومهما قلنا في بطولات أهل دكالة، فلم يكن الهدف الإجرائي هو خدمة هذا الأفق فقط، وإنما قصدنا الوصول إلى خلاصات واستنتاجات نابعة من دراسة مراحل هذا التطور التاريخي وتركته التي لا زالت حية بيننا، نلتقط تأثيرها العميق في المجتمع الدكالي والصورة المكتملة للشخصية الوطنية المدافعة عن التراب بكل ما أوتيت من قوة ورباط الخيل.

ص: 311

لقد أسست منطقة دكالة عبر التاريخ لذاكرة المقاومة المحلية، وجسدت ما تجتمع فيه كل المناطق المغربية بقبائلها فيما تعلق بمواجهة الأجنبي وروح الجهاد التي استمرت قائمة دون نقصان فأي تقييم لحركة الجهاد والمقاومة الدكالية، يجب أن يخضع لمنطق مطابقتها مع وسطها الطبيعي وظروفها السوسيو اقتصادية وتركيبتها البشرية... وكل العناصر المشكلة للذات الجمعية، حتى لا نسقط ضحية الأحكام القيميّة والأحكام الجاهزة التي يمكنها تبخيس التاريخ المحلي والجهوي، وتحتفي القضايا التي حاولت هذه الدراسة إبرازها بأهمية وضرورة كتابة التاريخ الجهوي لدكالة والحفاظ على موروثها بشكل عام دعماً للذاكرة والمجتمع،

خصوصاً ونحن في إطار خطاب الجهوية الموسعة الذي يؤمن بخصوصيات المناطق ويحترم ما يميزها خدمة لأفق الأهداف الوطنية الموحدة، ودكالة مثلت ولا زالت وحدة جهوية متميزة بكل تجليات التميز (الطبيعي - الاقتصادي - الاجتماعي -

الثقافي...).

ص: 312

المجتمع المغربي في النص الرحلي الجاسوسي الفرنسي خلال القرن التاسع عشر:المنطلقات والأهداف

اشارة

محمد بوعزة(1)

أعتبر القرن التاسع عشر مرحلة الازدهار الإمبريالي لأوروبا بعد أن وصلت عتبة متقدمة من التطور في منظومتها الرأسمالية، فزادت مشاكلها الاقتصادية، وتوتُّراتها الاجتماعية واشتدت حساباتها الجيوسياسية، فتقوّى مبدأ الدفاع عن المصلحة القوميّة في خطاب الدول، وتحوَّلَت أوروبا إلى مركزِ صراعٍ بين أقطاب الانشغال بالشعوب الأخرى، منضوية في أحلافٍ ،متعادية تتسابق على رفع شأنها السياسي بكل الوسائل، فأضحت الإمبريالية حلاً متعدّدَ الوظائف لمشاكلها، وتيقَّنت بأن تهدئة الوضع الأوروبي يفرض البحث عن مستقبلها خارج جغرافية قارتها، من خلال الهيمنة على شعوب ما وراء البحار.

واكب هذا التغيّر في مسارات الدّول الرأسمالية وإصرارها على التخلّص من قضاياها المقلقة عن طريق الاستعمار،«تزكية معرفيّة وعلميّة» من المعاهد والجامعات وبعض المفكرين، حيث بدأت الطروحات المؤيدة لسياسة الغزو، بذريعة نشر

ص: 313


1- باحث واستاذ التاريخ المعاصر في كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة سايس - فاس - المملكة المغربية.

الرسالة الحضارية، ودمج الأقطار الأخرى في مدار الحداثة بإخراج مجتمعاتها من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة. وهي مبررات كرَّست معناها لخدمة هدف شرعية الخطاب الاستعماري وجعله مقبولاً في الأوساط العامة، فتجنَّد العلماء والباحثون والمغامرون... لاكتشاف العوالم المجهولة من القارات، وجمع المعلومات عن الشعوب التي لا يعرفون عنها إلا القليل وترابطت هذه الأهداف التي قد تبدو لأول وهلة أنها علمية مع الأهداف الاقتصادية (الموارد الأولية، والأسواق) والأهداف السياسية (التنافس حول المستعمرات) والاجتماعية (التخلص من حالات التوتر التي شهدها المجتمع الأوروبي)، فتحالفت السلطة مع العلوم وتوحَّدتا لتنتجا خطاباً استعمارياً منسجماً متناغماً في المنطلقات، ومتحداً في منتظر الأهداف.

لم يخرج المغرب عن سياق هذا الاهتمام الاستعماري خصوصاً بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830م، فكبُر الهدف الاستعماري المجاور للمغاربة، وتطلع بكل السبل للسيطرة عليهم، فبدأت سياسة الاختراق المتنوعة، ولعل الرحَّالة أبرز من غامر وقاد مشروع التعرّف إلى المغرب وجمع كل المعلومات عن البلاد والعباد... في أفق الاكتشاف والفهم والإدراك لبنية المجتمع المغربي، حتى يتسنّى للسلطة الاستعمارية تطبيق مشروعها على الأرض بأليات مفكّر فيها من قبل، وأدوات متوقعة النتائج من قبل فانطلقت الرحلات تخترق المجالات المغربية، بوادي وحواضر، متخفية تقتنص المشاهد وتسترق السمع وتستطلع مجريات الأمور، وقد كانت هذه الرحلات بإشراف المعاهد والمجمَّعات العلمية الفرنسية، أو أنها مغامرة فردية قادت صاحبها لاكتشاف مجاهل المغرب، فجاءت العديد من الكتب المنشورة في هذا الصدد بعناوينها الملفتة لرغبة الاكتشاف التي استوطنت ذهنية الرحالة .

ونتيجة ذلك، أصبحت صورة المجتمع المغربي في الكتابات الفرنسية، وفي الفهم السائد مبنيَّةً على ما جمعه الرحّالة وكتبوه ونشروه، وبالضرورة حدثت حالات تناقض بين ما يرونه (واقع الحال بالمغرب وبين ما يتمنَّونه (احتلال المغرب)، فسقطت الأحكام الجزافية والاستعلائية مستوطنة متونهم مبررة لصورة التخلف

ص: 314

والبدائية والموت والتفكك والعدائية المتوحشة ... كعناصر مبررة تمنح طموحاتهم الاستعمارية شرعيتها، وهنا تطرح قضيّة الكتابات الرّحليّة وأهميتها باعتبار خط تحريرها ومقاصدها المعرفية في الكتابة التاريخية ورصد تحولات المجتمع المغربي خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فالكتابات الرحلية الفرنسية مهمة في بناء فهم عام. ولكن من الضروري وضعها في سياقها الذي أنتجها، أي التعامل معها بحذر والاستفادة منها مع خيانة بعدها الاستعماري.

1- النص الرحلي وأهميته في كتابة التاريخ

اشارة

لا يحتاج النص الرحلي لكثير عناء من لدن الباحث لتبيان أهميته في البحث التاريخي أو للكشف عن مركزيته في بناء المعرفة التاريخية، فالأمر محسوم من لدن المؤرخين الذين تنبَّهوا مبكراً إلى نوعيته فقد ساهموا في إخراجه للفضاء العلمي بعد تحقيقه ودراسته، فبرزت المصنفات التاريخية في هذا المجال، وعرف بين المتخصصين العديد من الباحثين المؤرخين الذين استوطنوا حقل الاهتمام به حتى أصبحت أسماؤهم ملصقة بهذا الصنف من الكتابات والمصادر التاريخية التي لا يمكن تجاهلها، ويعتبر هذا الاهتمام انعكاساً لترسّب الوعي العلمي بقيمة كتب الرحلات في استجلاء ما أهملته المصادر التاريخية السياسية أو التقليدية بحكم أنها لم تكن في إمكانها الاحتفاء بأكثر ما ركزت عليه على اعتبار قدرة الرحالة في تجميع عناصر معلوماتية عن كل ما أحاط به خلال رحلته مشاهدةً وسمعاً ومعايشةً. فما هي المميزات الأساسيّة لنصوص الرحلة؟ وما مظاهر أهميتها بالنسبة للمشتغل في حقل التاريخ؟

1-1 النص الرحلي ومميزاته :

ينضوي النص الرحلي ضمن الكتابات التي ولدت على أثر مخاض رحلة قام بها صاحبها في المكان والزمان فكان الراوي والمتحكم في الأصوات المتعددة ببطن نصّه، وقد عرف هذا الجنس السردي منذ القديم وشهد عبر المراحل التاريخية تراكماً كمياً ونوعياً فازدادت أهميته مع تطور العلوم الإنسانية والإبداع الأدبي وقد

ص: 315

زاد تطوره بتزايد عدد الرحالة والنصوص الرحلية المكتوبة(1) ، ويرتبط مسمّى النص بالرحلي لمصدره الناتج والمرتبط بالرحلة أي السفر والترحال عبر المكان والزمان كما تعنيها لغوياً، أي أن صاحب الرحلة انتقل من مكان لآخر، فما يهمنا منها ونقتصر على الإهتمام به هو الرحَّالة الذي ارتحل عن وعي ورغبة في الاكتشاف ودوّن رحلته وأخرج سرده من الشفاهي إلى المدوّن مؤَسِّساً لميلاد وثيقة مكتوبة، وبالتالي فالمرتحل المقصود في هذا الصدد هو الذي سعى من خلال تنقلاته الرحلية التعرف على عوالم جديدة والأماكن التي لم يكن يعرفها أو كانت مجهولة بالنسبة إليه ولمجتمعه، فحضر الدافع الذاتي والموضوعي لعملية تسجيل وتوثيق رحلته حتى أصبحت وثيقة تاريخية وجغرافية.... مما ينسجم مع روح الرحلة بإعتبارها عملية كشف النقاب عن المجهول من الناس والأرض(2).

وقد أثار هذا النوع من الأشكال السردية نقاشاً بين المهتمّين والمتخصّصين حول مسألة تصنيفه في جنس تعبيري محدد، ولم ينته هذا النقاش أو يتوقف بحكم انفجارية النص الرحلي وتشظيه وانفلاته من عمليّة الموقعة لأنه يرفض الظهور بلون واحد فالتجاذبات التي تستوطنه تجعل الناقد الأدبي والباحث في العلوم الإنسانية أمام حالة سردية متحركة عبر ثلاثة صيغ السرد الوصف، التعليق (3)لينبلج خلالها نصاً لطالما أعاد أدبيات المعارف القديمة المستعملة في كتابة الرحلة حين يمتزج الخطاب السردي في بنائه بين ما هو جغرافي وتاريخي واثنولوجي ولساني وبين الأحلام والأساطير ومقاطع من الكتابة الرومانسية... لأنه يحيك تقنية الاستطراد والتناص، مؤسساً لحالة متوتِّرة داخل المتن بين ما يمثل الواقع وبين ما يمثِّل الخيال والأسطورة، والمتخيل الذاتي لكاتبه (4).. فتقنية الكتابة تجعل عملية السرد تقترب

ص: 316


1- Nedjma, benachour, « voyage et écriture la littérature autrement »,in revue,Synergies Algérie ,N 3,2008,p.202
2- حسين محمد فهمي أدب الرحلات، عالم المعرفة عدد 138، يونيو 1989، ص،15.
3- Grégoire Holtz et Vincent Masse, «ETUDIER LES Récits de voyage: bilan,questionments,enjeux » in, revue d études francaises, N2 ,2012,p. 10
4- Sabine Roux, Le document et de voyage a traces et cheminements hybrides comme médiateurs de savoirs, These de doctorat Universités Toulouse 2 le Mirail, 2012, p. 18

من الرواية وخاضعة لمحددي الكتابة التاريخية (الزمن والمكان) فالبناء يتم على أرضية متحركة - إن صح التعبير - تتجاوز انتظارات القارئ وأفق توقعاته لأن صاحب الرحلة يطوّع الكتابة باعتباره راوياً وكاتباً... ولا يقتصر على التراوح بين هذه الأدوار والحالات لأنه ما يلبث أن يمرَّ نحو التجلي الثالث الأكثر تقلبا حينما يدمج ذاتية وينتقل بها في مرفولوجية نصه ليبرز نوعا ثالثا هو السيرة الذاتية(1).

فهذه المداخل تكشف عن التموجات التي يعيشها النص الرحلي نتيجة الدينامية والحركية التي تسببها مسألة المزج بين مختلف الأجناس التعبيرية وأيضا إختلاف زوايا الانطلاق في عملية سردها والحبكة التي تشكل مسارها مما يُجلي على صعوبة بل يمكن الزعم باستحالة الإمساك بمفاصل هذه التقاطعات والخروج بخلاصة معرفية ومنهجية تمكن من تصنيف كتابات الرحلة إلى حقل سردي معين، وهي قضيّة تتوحد فيها نصوص الرحلات بجميع أصنافها ولغاتها وانتماءاتها الحضارية أي ينطبق عليها نفس الأمر، وهو ما عمل عليه البحاثة من مختلف التخصصات وخصوصاً الذي يشتغل منهم بالتحديد على هذا الصنف من الكتابات والذين أجمعوا على هذه المميزات التي تحكم النصوص الرحلية

وصعوبة إكسابها هوية محددة تنضوي بها في تصنيف معيَّن وثابت(2).

ص: 317


1- Ibid. p.20
2- اشتغل العديد من الباحثين المغاربة والعرب كغيرهم من الباحثين الأجانب على نصوص الرحلات وعملوا على متابعة مسار منوال الكتابة فيها وقد اصدر هؤلاء كم مهم من الكتب والمقالات التي شكلت بيبليوغرافيا متكاملة بين ما يشكل منها المنهجي وبين ما يمثل فيها المعرفي ونسجل ايضا اختلاف مقارباتهم وخلاصاتهم حول نصوص الرحلات مما اثرى المكتبة العربية وتحولت بعض الأسماء إلى أيقونات في مجال الاشتغال بالنصوص الرحلية ومن بين هذه الانتاجات: - شعيب حليفي، الرحلة في الأدب العربي التجنس آليات الكتابة خطاب المتخيل سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002 - حسين فهيم أدب الرحلات : دراسة تحليلية من منظور إثنوجرافي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1989 - جورج غريب أدب الرحلة : تاريخه وأعلامه، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1966 - عبد النبي ذاكر، الواقعي والمتخيل في الرحلات الأوربية إلى المغرب، (دط)، مطبعة منشورات كوثر، الدار البيضاء، ..1997 عبد النبي ذاكر عينات الكتابة، مقاربة لميثاق المحكي الرحلي العربي د.ط، منشورات مجموعة البحث الأكاديمي في الأدب الشخصي، المغرب 1998 عبد النبي ذاكر ، إستراتيجية الغرائبية في الرحلة البطوطية منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، مطبعة ألطوب ريس طنجة 1996. - عبد الرحيم مؤدن ، أدبية الرحلة، ط1، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 19965. - عبد الرحيم مؤدن الرحلة في الأدب المغربي، النص - النوع السياق، إفريقيا الشرق، المغرب، 2006. - . عبد الرحيم مؤدن الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر، مستويات السرد، ط1، دار السويدي للنشر والتوزيع، الإمارات الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، 2006,

و مادام الانشغال بسؤال جدوى تعامل المؤرخ مع نصوصها، فالرحلة لذاتها هي الأهم بالنسبة له، فلا يهمّه منها تسميتها أو تصنيفها كما هو الحال بالنسبة للتخصصات الأخرى وخصوصا التي تشتغل في حقل الآداب، بحكم أن إجرائية النص الرحلي تتجلى في ما يمنحه من آفاق توثيقية وما توفره من معطيات تفيد في رصد تغيُّر معالم المكان عبر الزمان وتتبُّع مظاهر التحولات الشاملة التي تصفها الرحلات فما هي تجليات أهمية كتب الرحلات بالنسبة للمؤرخ ؟

1-2 - النص الرحلي مصدراً أساسياً بالنسبة للكتابة التاريخية:

انتبه المؤرخ المغربي إلى أهمية هذا الصنف من المصادر فاحتضنها وحقق الكثير منها فأخرجها ودرسها لتبرز العديد من كتب الرحلات، التي لم يتوقف النقاش عن معالم جاذبيتها وضرورة الاشتغال عليها باعتبارها تتضمن شواهد وتوثيق للأحداث والمشاهد بكل تفاصيلها، بل يصبح الرحالة الشهود المميزين من خلال شهادتهم عن عصرهم عبر صيغ تفيد المعاينة والمعايشة (رأيت - سمعت ...) فتلتقط الأحداث والأخبار وتسجل في الذاكرة إلى أن تتم كتابتها (بنفس دور الصحفي حاليا)، ولكن هذه الصفة قد تشوش عليها الأحكام السابقة الصادرة عن نفسية وذهنية هؤلاء الرحالة والتي تعمل على تسييج تصوراتهم السابقة المحمولة في ثنايا رؤيتهم العامة لما يكتشفونه ويصطدمون به ثقافياً(1).

والأهمية الأكثر تمييزا للرحلات هی أنها مصدراً مشتركاً لكل التخصصات ومنها تصدر متواليات السرد التي تخاطب القارئ المتعدد فتمنح الصورة الأشمل عن عصرها بكل ما حمله، وما تبقى منه داخل الرحلة يستوطن الكلمات والأشياء التي وصلتنا

ص: 318


1- Sarga Moussa, «Le récit de voyage,genre « pluridisciplinaire» A propos des voyages en Egypte au 19 siecle,in,Sociétés et Repésentation.N 21 ,2006,p. 252

إلى عصرنا باعتبارها علامات عن ما مضى(1)، وإن لكل عصر كلماته وأشيائه التي تعبر عنه وتجسد علاماته التاريخية، وضمن هذا الفهم فإن كل مرحلة زمنية معينة تمارس نوعاً من الوحدة التي تغطي فعل الكتابة وشروطها لتنسكب وفق تصور ينبع من روح الثقافة الناظمة لها وللمجتمع فتأتي نصوص الرحلات مدرجة في هذا السياق التاريخي ومحكومة بصداه وأثره، أي أن المؤرخ لا يهمه منها إلا ما يبحث عنه، فحتى لو كانت الرحلة سيرة ذاتية فإنه يستثمر ويستعمل منها «ما قد يحكيه المؤلف عن نفسه ليفهم به ومن خلاله ما له ارتباط بالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية»(2).

ولا تنعزل أهمية كتب الرحلات بالنسبة للمؤرخ عن ما تمثله من غنى بالنسبة لكل التخصصات الأخرى، فنصوصها المفتوحة تشكل فرصة معرفية ومنهجية أمام الباحثين لإكتشاف عوالم الحياة في شموليتها. ولا يخرج أيضاً المنتج السردي العربي عن هذا الإطار، فحينما يعمل المؤرخ على تجميع مصادره عن التاريخ العربي والإسلامي مثلا لا يكفيه ما قاله المؤرخون عن الفترة التي تشغل باله فقط وإنما ينفتح على كتب ومصادر عديدة (التراجم ، النوازل الفقهية، السير، كتب الجغرافيا ...، وكتب أدبية) بحثاً عن ما يؤثث في نهاية الحقبة التاريخية التي يقوم بدراستها، فالرحلات لا يمكن تفاديها أو تجاوزها في عملية البحث والتنقيب المصدري والتي تمكّن من النظر إلى السرد في شموليته فكلّ ما كُتب خلال المرحلة التي تهم المؤرخ والمنشغل بها يُعتبر مهمّاً وقادراً على كشف ما هو مغيّب عنه، لتنسجم مع ما لفت إليه بنباهة راقية الباحث المغربي «عبد الفتاح كليطو» حينما قال: «إن دراسة السرد لن تتقدم ما دام الجري مستمرا وراء «التخصص» وما دام العديد من الباحثين لم يتفطنوا إلى أن میدان اهتمامهم ينبغي أن يكون (التشديد على الواو بالكسر) السرد العربي بمختلف

ص: 319


1- يعتبر عمل المفكر الفرنسي ميشيل فوكو رائدا في لفت الانتباه إلى ما وصلنا من الكتابة التي تناولت الماضي والتي بالضرورة تنمدج ضمنها كتب الرحلات ملخصا هذا الأمر في عنوان كتابه : الكلمات والأشياء فكل مرحلة تاريخية تحتفي بشروطها المميزة والخاصة التي تميزها عن المراحل الأخرى وتختلف أيضا حول ما هو مقبول وما غير مقبول للمزيد ينظر ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء فريق الترجمة مطاع الصفدي، سالم يفوت جورج ابي صالح، كمال اصطفان، بدر الدين عردوكي، مركز الانماء العربي، بيروت، 1990.
2- عبد المجيد القدوري ، سفراء مغاربة في اوربا في الوعي بالتفاوت، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية بالرباط، 1995، ص 10

فنونه ومظاهره. إن الحواجز التي نضعها بين الأنواع لها ما يبررها، ولكنها تظل نسبية، فهناك خيوط كثيرة تشد الأنواع فيما بينها وعلى عدة مستويات ...»(1).

فهذا الإنفتاح والاشتراك في القراءة والتأويل والأخذ من نصوص الرحلات لا تلغي انتماء القارئ والباحث من تخصصه ولا تفقده رؤيته المنهجية بل تقويه وتسلمه إلى تجربة يكتشف فيها المشترك بين العلوم الإنسانية بالقدر نفسه الذي توجهه إلى ضرورة الإطلالة على علوم مساعدة لفك شفرات النص المشتغل عليه، فتتغذى قدراته وتتقوى أساليبه عبر ما يكتسبه من مهارات منهجية توسع من أفق زاوية نظره للأشياء، و ما دام الحديث هو بصدد أهمية النص الرحلي بالنسبة لعمل المؤرخ فإن العلاقة قائمة ومتداخلة بين ما يتضمَّنه عمل كتابة هذا النص وبين ما ينسجه مع انشغالات المؤرخ، فتعقيد وتركيب هذا النص يتجلى في تداخل ما هو أدبي بما هو تاريخي، وهو ما قد يبدو مربكا عند تحديده فكلّ متنٍ رحلي يأخذ معناه ووجوده من سياقه التاريخي فحتى لغته بكل تركيباتها ومنهجيتها لا تخرج عن هذا السياق، فكأننا أمام مصدر من مصادر تحديد هوية ثقافة وعصر معينين بكل تفاصيلهما ، فقد اعتبر الراحل ««ادوارد سعيد» أن الرحلة شكل هوياتي للإستشراق اشترك مع العلوم التقليدية ورؤية المؤسسات التي سادت في زمن هذه الرحلة بأوروبا بمعنى أن هناك «تركيباً أصيلاً» بين مقاربة تاريخية وأدبية أو بتعبير أخر جاذبية الفائدة المتبادلة لأجل تاريخية النصوص وتناص التواريخ(2).

فالعديد من الموضوعات في البحث التاريخي تم تغطيتها، من حيث المعطيات الخبرية والأحداث والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بفضل كتب الرحلات ونصوصها وهو أمر محسوم بين جل المؤرخين، ففي المجال التداولي العربي والإسلامي شكلت الرحلة أهميتها انطلاقا من ثقافة الرحلة والسفر التي جسدتها الرحلة صوب الحج وطلب العلم بالإضافة إلى الدوافع الأخرى التجارية والاستكشافية.... أو الرحلات الرسمية المبعوثة من طرف الحاكم مثل بعثات السفارات الدبلوماسية... وقد شكل هذا التنوع فضاء بحثيا للمؤرخ أدرك جدواه وحيويته في الحصول منه على

ص: 320


1- عبد الفتاح كليطو الحكاية والتأويل دراسات في السرد العربي دار توبقال. ص6.
2- Grégoire holtz...op,cit.p.11.

ما يمكّنه من إغناء المعرفة التاريخية عبر تجميع عناصر المشهد التاريخي الذي ساد في مكان ما خلال زمن الرحلة (1).

2- النصوص الرحلية الفرنسية (الجاسوسية) في حضرة المجتمع المغربي:

كان الغرض المعرفي من المدخل السابق الذي تم التطرق فيه إلى أهمية النص الرحلي، وخصوصية مناولة المشتغل في الحقل التاريخي عليه، وما يضفيه هذا النص من تنويع في الرؤية للواقع المرسوم عن مرحلة القرن التاسع عشر، واكتشاف أوجه اهتماماتها، هو إبراز دور النصوص الرحلية الفرنسية وخصوصاً الجاسوسية منها في الكشف عن الشخصية

المغربية خلال هذه المرحلة الزمنية، وكيف تجلى حضورها، من خلال منطلقات حددت خط تحرير الكتابات الفرنسية ورؤيتها، وباحت بأهدافها المضمرة والمعلنة. فما هو سياق الرحلات الجاسوسية الفرنسية؟ وما هي منطلقاتها وأهدافها؟

2-1 المغرب في صلب الاهتمام الاستعماري الفرنسي: البدايات والسياق

والمنطلقات

تتضح عناصر السياق التاريخي وامتداداته الأولى بجعل هذه الرحلات ضمن منظور العلاقات التي ربطت بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، وما سجلته من حالات مد وجزر، انتقلت من وضعية التوازن إلى وضعية اختلال التوازن لصالح أوروبا (2)، وبالتالي يمكن اعتبار الرحلات الأوروبية في مغرب ما قبل القرن التاسع

ص: 321


1- نوفل محمد نوري الروايات التاريخية في كتابات الرحالة المسلمين في العصر العباسي بين الحقيقة والاسطورة دراسة تحليلية)، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية مجلد ،11، العدد 2011، 1، ص 251.
2- تحددت العديد من الإصدارات العلمية عن هذه العلائق من خلال كتب الرحلات ، ليست الأوربية فقط وإنما حتى الرحلات المغربية في اتجاه أوربا، وللمزيد من الاطلاع على النوع من الكتابات في هذا المجال ينظر : - عبد المجيد القدوري سفراء مغاربة في أوربا ،1610-1922 ، في الوعي بالتفاوت، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية بالرباط 1995 المغرب وأوربا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، مسالة التجاوز المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 2000. - سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب بالرباط 1995. الطيب بياض رحالة مغاربة في أوروبا بين القرنين السابع عشر والعشرين تمثلاث ومواقف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء 2016.

عشر، قد مهدت للرحلات المعنية بالدرس على مستوى الصورة الاستباقية المنقولة حول المغاربة، بحيث الأولى (رحلات الأوروبين في العصر الوسيط والحديث)كرست النظرة العدائية الأوروبية، إذ كتب الطبيب الانجليزي ليمبريير (Lampriere) لذي أقام في حضرة السلطان سيدي محمد بن عبد الله 1790-1791م، ما يلي(1):

- عندهم جهل تام بالتاريخ السياسي للدول الأجنبية.

- هنا في المغرب يقطن جنس من الأنذال يرجعون في أصولهم إلى أولئك الأعراب المتوحشين الذين يقدمون إلى المدن الكبرى قصد السرقة وقطع الطرق.

وقبله كتب الفرنسي بيدو دون سان اولون (Pidou de saint-olon) الذي بُعث سفيراً لفرنسا سنة 1693م إلى بلاط المولى إسماعيل في قضية افتداء الأسرى، أبياته الشعرية على نفس المنوال(2) :

- اعتبر هذه الأمة السمراء

- أكثر ملعونة

- حيث لا مكان عندها للشرف أو الصدق أو الإيمان

- ودأبها نقض الأقوال وخيانة التعهدات

- عقولهم مغرورة وقلوبهم متبجحة

- وباختصار فهم متوحشو الشعور

- قبيحو المظهر

فهذه النظرة العامة والفرنسية الخاصة تجاه المغربيين لم تكن معزولة عن تاريخ العداء الإسلامي - المسيحي، وأثره على علاقات الدول والشعوب في ما بينها والتصورات التي حملوها وروجوها عن بعضهما البعض، ولم ينكسر هذا الحاجز

ص: 322


1- رولان ،لوبيل، الرحالة في الفرنسيون بلاد المغرب...، ص 66.
2- نفسه، ص 66-67.

العدائي، بل تطور إلى إرادة الهيمنة عند الأوروبيين بعدما إستطاعوا الخروج من جغرافيتهم مع بدايات القرن الخامس عشر في سياق ما عرف بالكشوفات الجغرافية وإستمر تطورهم إلى أن وصلوا درجة مرحلة الإمبريالية، خروجا للبحث عن مستقبلهم مرة أخرى في ما وراء البحار(1).

فجاء حدث غزو الجزائر 1830 من طرف فرنسا ليكبر حلمها بتطلعها لاحتلال المغرب وإدماجه في نسق هيمنتها ، ومجال سلطتها الإمبريالية. خصوصاً وأن اشتداد المنافسة على المستعمرات بين الدول الأوروبية، شجع المؤسسات العامة والخاصة، وحمَّسها للفعل الاستعماري واندمجت في هذا الخضم المراكز الجامعية والعلمية، والكل بدأ بدعم الرحلات الاستكشافية قصد جمع المعلومات الشاملة عن المجتمعات الأخرى. فتطور علاقات المغرب وفرنسا وما راكمته من صدام عسكري ومفاوضات

جعل فرنسا تفكر بجدية في ضرورة توسيع مجالها الاستعماري على حساب المغرب فحشدت قواها ووجهت تركيزها نحو أفق السيطرة عليه وضمه للمتربول، ويؤكد هذا الأمر بوضوح حتى الفرنسيين أنفسهم فيقول أحد الباحثين الذين عايشوا فترة الحماية الفرنسية، واهتم بدارسة الرحلات الفرنسية التي كان موضوعها المغرب قائلاً: «تزامن ظهور المغرب في تاريخنا الأدبي مع ظهوره تقريباً في تاريخنا السياسي...»(2) وفي خضم هذا الانشغال السياسي الإمبريالي برز الاهتمام العلمي والمعرفي في تناغم تام مع المشروع الاستعماري ، وهو ما حول المغرب إلى قبلة للرحالة والمهتمين والباحثين

سواء منهم الجماعين للمعلومات المختلفة أو المهتمين بالقضايا الاجتماعية(3).

فبرزت العديد من الأسماء الفرنسية التي أنتجت كتابات عديدة حول الظواهر الاجتماعية المغربية سعت من خلالها تحويل المجهول معلوما بالنسبة للفرنسيين دولة وشعباً، ومن جملة هؤلاء نذكر على سبيل المثال لا الحصر: اوغست مولیراس ايدموند دوتي ميشوبلير شارل دوفوكو،.... وآخرون أغلبهم لم يستطيعوا الانفلات

ص: 323


1- عبد الكريم غلاب : قصة المواجهة بين المغرب والغرب، دار الغرب الاسلامي، بيروت، 2003، ص. 72.
2- رولان لوبيل، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب من القرن 16 الى ثلاثينيات القرن العشرين، تعريب، حسن بحراوي، دار الأمان، الرباط، 2017، ص 11.
3- نور الدين الزاهي : المدخل لعلم الاجتماع المغربي وجهة نظر الرباط، 2011. ص، 14.

من سطوة وهيمنة الدور المحدد لهم مسبقا في إطار المشروع الاستعماري الفرنسي للمغرب، فخضعوا بذلك إلى انجذابات، يتمّ فيها الانضباط إلى الاختيارات الكبرى للمؤسسة السياسية واملاءاتها بعيداً «عن الموجّه العلمي»، واتباع منهجية مرتكزة على الموضوعية، فتحولت بذلك إلى آلية تتحرك وفق الأهداف الكولونيالية من خلال مهمة تحضير المداخل المعرفية التي تمكن من فهم الواقعة الاجتماعية المغربية وتفسير معطياتها الثقافية (1).

ولا يعني هذا الأمر، أن التوجه الاستعماري الفرنسي كان موحَّداً إزاء المغرب، ولا حتى حول الكيفية التي يجب أن يتم بها اختراقه، بل كانت هناك خلافات واختلافات في النظر إلى ما يجب أن يكون من وسائل عمل، ومن سياسات عن بعد وغيرهما مما يسمح بتجاوز حالة «الخصاص المعلوماتي» الذي تعانيه المؤسسة السياسية والعسكرية والدبلوماسية، بالإضافة للخلافات التي كانت بين أجنحة السلطة سواء في باريس أو الجزائر حول هذه الأمور ، ففي هذا الصدد يقول نور الدين الزاهي:« ظل المغرب منذ 1880م وإلى حدود بداية القرن العشرين موضوع صراع بين فرنسيي المتربول والجزائر . صراع يعكس تضارب المصالح بين الجماعات السياسية والبيروقراطية والاقتصادية المتنافسة، ودرجات تعارضها في الجواب عن السؤال : أية سياسة يجب إتباعها في المغرب؟ في خضم تلك الصراعات لم يكن من المدهش أن يكتشف المرء أن مسالة مراقبة البحث في مجال العلوم الاجتماعية ظلت قضية جوهرية بالنسبة لمختلف هذه الجماعات ... »(2).

فالسياق الاستعماري هو المؤطر لخروج الرحالة من أرض فرنسا بهدف مغامرة في أرض المغرب التي يجهلونها ، لم تكن قضية ترتبط بدوافع ذاتية عنهم، وإنما بدواف

ص: 324


1- للتدقيق أكثر في البناء النظري لهؤلاء الذين اهتموا بالشأن المغربي من الداخل وحاولوا جاهدين فهم بنياته وذهنياته، إنهم ركزوا على المناطق غير المعروفة في غالبيتهم، خصوصا بنية القبائل باعتبار أن المجتمع المغربي تشكل آنذاك ( القرن (19 في اغلبه بالبوادي مقابل ساكنة حضرية قليلة، وبدلك شن هؤلاء الدارسون تركيزهم على المجالات القروية لانها تضم اكثر عدد الساكنة المغربية للمزيد حول هذه المسألة ينظر: المختار الهراس: القبيلة والسلطة تطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب، نشر المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني مطبعة الرسالة، الرباط، 1988.
2- المدخل لعلم الاجتماع المغربي، مرجع سابق، ص، ص: 13-14.

مرتبطة بهذا السياق الذي خلق لهم الجو المحفِّز للقيام بما قاموا به، فقد كان جواً محموماً من التسابق والتنافس حتى بين الرحالة أنفسهم باختلاف جنسياتهم الأوروبية للوصول إلى مجاهل الأماكن الداخلية العميقة في القارات، واكتشاف الشعوب وثقافتها ونقل كنوز معرفية عنها ، فهم يدركون تمام الإدراك ما تعنيه هذه المعلومات في أوروبا، من طرف الفاعلين السياسيين والعسكريين ورجال المال والأعمال ... ..والجامعات... وهي تجليات كشفها الباحث الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في كتابه الرائد والمشهور في هذا المجال «الاستشراق»(1)والذي قلب المعادلات الأوروبية حينما فجر خطابها من الداخل بكشف زيفه الذي هيمن لمدة طويلة، ليبين كيف أن ما نسجه الأوروبيون ضمن ما صنفوه من العلوم والمعارف التي تكون الشعوب الأخرى موضوعا لها، هو في حقيقته مضموناً أكاديمياً لرؤية استشراقية، وأن الرحلات ونصوصها هي الأخرى وظفت في هذا المدار لإثبات وتكريس بداوة وإنحدار وتعصب وعدوانية الشرق، التي تفرض ضرورة تدخل الرجل الأبيض صاحب الرسالة الحضارية.(2).

لقد كان هذا السياق وهذه المنطلقات الاستعمارية، مفروضاً من باب الضرورة المنهجية للحديث عن الرحلات الجاسوسية الفرنسية التي قَدِمت إلى المغرب خلال القرن التاسع عشر، بشكل متواصل وكل منها تكمل الأخرى، ووُسِمت «بالجاسوسية»(3)لإبراز هدفها الحقيقي من جهة، وللفت الإنتباه إلى أهمية معلوماتها،

ص: 325


1- استطاع المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد تكسير الرؤية النمطية التي حفل بها الإنتاج المعرفي الغربي بكل تخصصاته وكشف حقيقة انه ما أسسته هذه المعارف الغربية حول الشعوب الأخرى، هو في حقيقته يضم كثيرا من الأوهام، ويعبر فقط عن تبريرات يراد بها الهيمنة على هذه الشعوب المستعمرة، وان مفهوم الشرق ماهو الا صناعة غربية لا وجود لها في جغرافيا، انه شرقهم الذي بنوه في أساطيرهم المعرفية، ولذلك يعتبر كتابه ( الاستشراق، المعرفة،السلطة، الإنشاء) الصادر سنة 1978، أساس كل باحث يشتغل في مجال الخطابات الكولونيالية وما قبلها.
2- خالد السعيد، ادوارد سعيد ناقد الاستشراق، قراءة في فكره النقدي، مكتبة مؤمن، بيروت، 2011، ص 81-106.
3- عكست الكتابات الناتجة عن رحلات جاسوسية والتي اتخذت من المغرب موضوعا لها طابع التسابق نحو جمع كم هائل من المعلومات وقد شمل هذا التسابق المجتمع والدولة على السواء، فإذا تمكنوا بطرقهم وضغطهم من التعرف إلى بعض مظاهر البنية المجتمعية في البوادي والمدن فإنهم ظلوا على إصرار في اكتشاف القصر السلطاني وحاشيته ودائرته الخاصة... وخصوصا ما حاكوه حول قضية الحريم. وقد حاول البعض اختراق هذا المجال المحرم بالنسبة لهم، إلا أن الرقابة المخزنية الشديدة حالت دون ذلك ومع مرور السنوات تمكن بعض الفرنسيين خلال القرن العشرين من الاقتراب من المجال السلطاني وعلى راسهم كابرييل فير، الذي الف كتابا عن مشاهداته داخل القصر باعتباره مصور وقد جاءت محاور الكتاب الذي ألفه لمشاهد شملت كل المجالات، ومنها عادات وتقاليد وحياة السلطان والحاشية وما إلى ذلك، وهذا تعبير عن قدرة الرحالة والباحثين في استكمال المخطط الامبريالي ومده بالمعطيات الاستخباراتية اللازمة. للمزيد من المعلومات انظر كابرييل فير في صحبة السلطان ترجمة عبد الرحيم حزل، جدور للنشر، الرباط، 2003

بحيث أن البعد الجاسوسي يجعل الرحالة أكثر دقة وأكثر مقاومة لانطباعاته، وإغراءات البعد الغرائبي الذي هيمن على العديد من الرحلات الأخرى، وهو تمييز ضروري، وبالتالي لا يمكن تجاوز الزخم المهم من المادة التاريخية التي تركتها هذه الرحلات الجاسوسية، ولذلك سيتم التركيز على نموذجين من هذه الرحلات أولهما: شارل دوفوكو من خلال كتابه التعرف على المغرب، وثانيهما كتاب المغرب المجهول لصاحبه اوغست مولیراس. فكيف تجلى الواقع المغربي في الرحلتين.؟

2-2 المغرب من خلال جاسوسية شارل دوفوكو(Charles de Foucauld) :

2-2 المغرب من خلال جاسوسية شارل دوفوكو (1)Charles de Foucauld) :

وصل شارل دوفوكو إلى مدينة طنجة - قادماً إليها من الجزائر - يوم 20 يونيو 1883 متخفياً في زي يهودي، مستعيناً بيهودي مغربي يدعى «مردوشي أبي سرور»، وواضعاً كف يده بطاقة لا تتجاوز حجمها خمس سنتيمترات مربعة، وقلم رصاص قصير الحجم أيضاً، حتى تسعفه هذه الطاكتيكات التي يبدو إنها مجربة لديه من قبل، وتضمن له تسجيل معلوماته بأمان دون أن يشعر به المغاربة، فجال العديد من مناطق المغرب لمدة بلغت 12 شهراً، أي إلى حين مغادرته التراب المغربي انطلاقا من وجدة إلى الجزائر يوم 23 ماي 1884 اكتشف فيها المناطق البعيدة عن المدن وغير المعروفة، أي عوالم القبائل والمغرب الداخلي، متمكنا من إنجاز كمٍّ مهمٍّ من الرسومات والبيانات والخرائط، كان يدوّن أي شيء مهما صغر شأنه(2)، ويلتقط جميع المعطيات ويسجل في ذهنه كل المشاهد، لقد كان بمثابة أداة تسجيل وتصوير صوتية ومرئية، بالإضافة إلى ما دونه كتابة وعلى المباشر كرؤوس أقلام لملاحظاته حتى

ص: 326


1- ولد في 15 شتنبر 1858 في مدينة استراسبورغ في عائلة تعود أصولها للنبلاء تميزت بالحفاظ على التقاليد الكاثوليكية، فقد ولديه وهو لا لم يتجاوز سن السادسة من عمره فتكفل به جده القيادي في الجيش الفرنسي، التحق بالمدرسة العسكرية ليعجب بتخصص الجغرافيا الذي كان انذاك بدأ في تطوير اتجاهاته وتجاوز بعد الوصف للطبيعة تضاريسا ومناخا وتشرب الاسس الاخرى للتفكير العسكري وعلم الاستراتيجية والتخطيط، سيرسل إلى الجزائر سنة 1880 ليشارك في محاربة مقاومة بوعمامة فادر كان ساحة الحرب ليست ميدانه المفضل وان الارتباط بالمؤسسة العسكرية ليست اختياره الصائب، ويفسر البعض قراره بما عاشه من صعوبات في بداية حياته، فكان هذا القرر بداية التفكير في مشروعه الذاتي الاكبر الذي هو القيام برحلة نحو المغرب. ينظر : Kninah. Abdeslam, Images Françaises du Maroc avant le Protectorat (siècle 17- 20),thèse de doctorat Université d'Avignon, Année universitaire 2015-2016,p.318-321.
2- شارل دو فوكو، التعرف على المغرب -1883-1884، ترجمة المختار بلعربي دار الثقافة الدار البيضاء ، 1999 ، ص 5.

لا يعول في كل الحالات على عملية الاستذكار ، فهذه الأساليب والتقنيات البسيطة والصبر على ركوب المخاطر، ومواجهة الصعاب جعلته متلبسا حقيقيا بشخصية أي جاسوس مدرِّب، وقد صدر كتابه المعنون التعرف على المغرب سنة (1)1888م.

لم ينطلق في رحلته إلا بعد تنسيق مسبق مع الممثل الدبلوماسي الفرنسي في طنجة، الذي قدم له مساعدات عديدة أفادته كثيرا في أداء مهمته، مما يبرز أن المشروع لم يكن فردياً في بعده العام، وإنما كان هدف كل فرنسي سواء في الجزائر أو في فرنسا، وقد جسَّد هذا الأمر في قوله: «زوَّدني أورديكا (ممثل فرنسا في طنجة) بجميع التوصيات التي قد تكون مفيدة لي من خلال سفري: لم توجد لو رسالة واحدة بين هذه الرسائل لم تخدم مصالحي فيما بعد .. »(2)، فهذه الرسائل باسم ممثل فرنسا كانت موجهة لكل الذين لهم قدرة على توفير الحماية للرحالة، وأبرزهم شريف وزان مولاي عبد السلام الذي وفر له من يحميه من خلال شبكة رجالات الزاوية في العديد من المناطق المغربية، فهذه التغطية الأمنية - إن صح التعبير - المرافقة دعمت عمله الجاسوسي وسهلت مأموريته في مغرب كان من الصعب أن يتنقل فيه أوروبي دون حماية.

2-3 المجال والسكان والسلطة : عناصر ركز عليها شارل دوفوكو

أي جاسوس حينما يقرر بدأ عمله من الضرورة أنه يخضعه لمبدأ: المطلوب في دولته، والذي يكون مجهولاً عندها، يحدد فيه المجالات المركزية في اهتمامه من المجالات الهامشية، فذهنية شارل دوفوكو كانت مرتبة وفق أهداف مسطرة من قبل، يرنو إلى حلم لم يسبقه إليه أي أحد تكوينه المتنوع وتدريبه العسكري سيساعدانه في تطبيق هذه الأهداف، والمتجلية في ضبط المعالم الأساس لطبيعة الأرض

ص: 327


1- اعتبر رولان لوبيل الباحث الفرنسي متخصص في صنف الرحلة، كتاب شارل دو فوكو بأنه : ( يمثل، بدون منازع ، أهم رحلة أنجزت داخل المغرب من طرف اوربي منذ قرن من الزمن... فهو قد وصف لنا مواقع ما تزال ماثلة للعيان، وتوغل في نفسية أناس لم يتغيروا كثيرا رغم كل التحولات التي حصلت من حولهم، وتعمق في طرح قضايا سياسية واقتصادية ما تزال تحافظ على راهنيتها، واجمالا يحمد له انه قد عبد الطريق في اكثر من مكان امام اجيال الباحثين. وكل هطا له وزنه وسيبقى الأمد طويل». انظر ، رولان لوبيل، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب، مرجع سابق، ص 166.
2- نفسه، ص 11.

المغربية ومميزاتها ورصد المجتمع المغربي وبنيته العامة، واختلافاته وثقافته، وطرق تفكيره... وأيضاً معرفة نظام السلطة السياسية وأجهزتها ومدى حجم قدراتها وإمكاناتها المتاحة فأثناء سرد رحلته يجعلك تتابعه وكأنه ممسك بأداة تصوير تصف ما تراه وصفاً دقيقاً، وحينما تسنح له الفرصة بإدخال رؤيته النابعة من طموحاته الاستعمارية، يقحم خلاصاته حول سلوك معين أو مشهد... محاولاً تبيان أفضال

الحضارة الغربية والإعجاب الذي تناله.

يقول في هذا الصدد كنت لاحظت منذ وقت، وهو أمر لم انته من معاينته فيما بعد، إن الحجاج، بصفة عامة، أكثر أدبا وبشاشة من باقي المسلمين» فهذا القول يطرح السؤال، ما السر في هذا الإطراء على الحجاج المغاربة؟ يأتي جوابه حينما یبرر ذلك: «يجعلهم سفرهم الطويل على اتصال بالغربيين فيريهم سفرهم كهذا أولا أن ليس هؤلاء الغربيون بالوحوش المخيفة لهم فيفاجأ هؤلاء الحجاج ويعترفون بالجميل... ثم تجعلهم سفننا البخارية وسككنا الحديدية يعجبون بنا عند رجوعهم من الحج...»(1) لا يترك أي فرصة للكشف عن ما يتمناه للمغاربة ألا وهو انفتاحهم على الحضارة، هذا الانفتاح لن يتأتى إلا تحت قيادة فرنسا طبعاً.

وتَخفِّيه في صفة اليهودي لم تبعده عن إبداء امتعاضه مما تقول به ديانة اليهودية في قضية الراحة الأسبوعية المقدسة يوم السبت، والتي رأى فيها مضيعة للوقت، وأنها ستسرق منه ساعات طوال يمكنه من خلالها جمع المزيد من المعلومات، «يجب أن لا تتفاجأ وأنت تحرر إذ قد يفشى سرك وسيعلم الآخرون أنك لست يهودياً. هل رأيتم يوما في المغرب يهودياً يكتب يوم السبت ؟ إنه محظور»(2). لهفته هذه على عدم تضييع الوقت نابعة فيما يبدو من توجساته التي تصاحب أي جاسوس، يفكر في العواقب التي تلي أمر انكشاف سره، إنها حالة نفسية رافقته طوال رحلته، فكانت محفّزاً على تكثيف وتسريع عملية جمع المعلومات، وفي نفس الوقت الزيادة في الحيطة والحذر.

ص: 328


1- شارل دوفوكو، التعرف على المغرب، مرجع سابق، ص21.
2- نفسه، ص 25

فكل مدينة وصلها إلا ويقدر عدد ساكنيها ويصف بنيتها الداخلية والخارجية ويتحدث عن جوارها دارساً أسباب ضعفها الاقتصادي، انطلاقاً من مقايستها اللاشعورية مع المدن الأوروبية ففي حالة فاس مثلا، وفي صدد الحديث عن التجارة المتشعبة لهذه المدينة والتي تمتد لمناطق بعيدة ومتنوعة يقر بأنه «قد تكون تجارة جد واسعة مثل هذه ثروات هائلة في بلد آخر غير المغرب لكن هنا عدة أسباب تقلل من الأرباح: أولا أثمان النقل المرتفعة والذي يكون على ظهور الجمال أو البغال، ثم أماكن المكس المتعددة الموجودة في طرق شمال جبال الأطلس وأخيرا الخفر الضروري جنوب هذه السلسلة كل هذه المعطيات تضاعف قيمة النفقات على الأقل. ثم يحدث أن تهاجم القوافل باستمرار ... »(1). فهذه التفسيرات المقدمة عن الوضع العام للنشاط التجاري، تجد صداها في واقع الحال آنذاك في مغرب القرن التاسع عشر، وتعد ملاحظات تأملية دقيقة في طبيعة الأعطاب التي واجهت المجتمع المغربي وأعاقت تطوره.

ولم يغفل أي أمر ارتبط بالدولة وطرق تدبيرها للفضاء الاجتماعي والطبيعي والسياسي.... مدفوعاً برغبة الباحث عن نقط الضعف وعن نقط القوة انسجاما مع أهدافه فملاحظاته في عمقه تحيل على رغبة التطابق مع القراءة الموضوعية التي يمكنها أن تمنحه صورة المغرب حقيقته، وفي أرضه، لا المغرب الذي صورته كتابات من سبقوه من الرحالة التي احتفت بمظاهر خيالية لا علاقة لها بحقيقة الوضع المغربي، فالدولة المغربية هي العدو الأول لفرنسا، فهي أضع-ف م-ن توحيد البلاد، ودليله في ذلك انقسام القبائل إلى بلاد المخزن وب-لاد السيبة وبالتالي لا وجود لسلطة ،واقعية، أو مركزية إدارية شديدة يمكنها التحكم في الجهات والأقاليم والحواضر والقبائل، مصوراً الوضع النظامي الع-ام في حالة اهتراء، يكفيه سبباً بسيطاً حتى ينهار، إنه لم يمتلك نفسه أمام جبروت طموحاته وطموحات بلاده الاستعمارية، فقدم هذه القراءة المتعسفة وأصدر بشأنها أحكاماً جزافية، لا يتم التمييز بينها

ص: 329


1- نفسه، ص 34.

وبين الأحكام التي أصبحت نمطية في كل الكتابات الفرنسية حول المغرب(1).

فسيكولوجية نص الرحلة يعيش تشنُّجاً، نتيجة عدم استطاعته تجاوز عقدة التفوق، التي تتحكم في الغربي عموماً والفرنسي خاصة . الناظر في تاريخ ووضع شعب مجاور يختلف عنه تمام الاختلاف، حيث تعمل ذاكرته على الضغط على هذا النص حتى يستضيف مرة تلو الأخرى ما يثبت حاجة المغاربة «للنور الغربي» وبالتالي للهيمنة الفرنسية... وإلا بماذا يفسر كلامه الآتي ؟ : «لهذا كم شاهدت من المغاربة، راجعين من الجزائر ، يحسدون جيرانهم على ما هي عليه وضعيتهم ما أعذب أن يعيش المرء في سلام، سواء ملك الكثير أو القليل ما أعذب أن يستفيد مما يملك دون خوف، الطرق الآمنة، السكك الحديدية، التجارة دون مشاكل احترام الملكية، سلم وعدالة للجميع: هذا ما رأوه وراء الحدود الجزائرية المغربية، كم قد يصير بلدهم البائس إلى حد ما رغم أنه الغنى إلى حد ما، سعيدا في مثل هذه الظروف»(2).

لم يغفل شارل دوفوكو ظاهرة سياسية عرفها المغرب خلال القرن التاسع عشر، وهي عملية العلاقة بين القبائل والسلطان والتي إن ساءت، تبرز عملية عسكرية سلطانية، تحت مسمى «الحركة». فطغى هذا المشهد على مجساته الذهنية والتقطها مناسبة ليكشف ما يخفيه أي إبراز الضعف والوهن المغربي وإن هذه العلاقة محكومة بالعداء وعدم الثقة، حيث خلال وقوفه على حركة السلطان الحسن الأول تادلا سنة 1883 عبر ما حكي له عنها، فاختزلها في ما حكي له عنها، فاختزلها في أنها حركة عسكرية تنظم كل سنتين أو أقل تقريباً ضد القبائل لإخضاعها أو لعملية جمع الضرائب... ليبين بعد ذلك كيف أن هذه الحركة توضح بعدم خضوع العديد من المناطق للمخزن

ص: 330


1- يتجلى هذا الأمر في قوله : ( لا توجد في بلاد المخزن أبدا أداة ادارية ، ولا توجد ابدا عدة قبائل مهمة او عدة مدن من ثمة سلطة مصير اداري واحد لكل قبيلة ذات اهمية بشرية عدد لكل حاضرة لكل اقليم قايد معين مباشرة من طرف السلطان ولا يخضع لسلطة هذا الاخير. يضاف الة هذا، كما هو الحال في العواصم مثل فاس ومراكش وفي القبائل الكبرى مثل حاحا والشاوية فان السلطة موزعة بين عدة عمال يحملون لقب باشا في مدن الاقامة الإمبراطورية مراكش وفاس ومكناس ولقب قايد في باقي الحالات الاخرى. هذا التفتيت الأقصى الغاية منه تجنب الشيء.هم السلطان الدائم أن يسهر على الا يصبح أي كان في مملكته غنيا جدا والا يكون له نفوذ كبير اذ يكفي حدث ضئيل لقلب عرشه المتداعى»، شارل دو فوكو، التعرف على المغرب، الجزء الاول، ص 36
2- شارل دو فوكو، التعرف على المغرب، الجزء الاول، ص 55.

قائلا:«لم يبق للحكومة إلا سكان شواطئ وهي مجموعة بشرية توفر جنودا دون المستوى في هذه الظروف»(1). لكنه يستدرك ليعترف بقدرة السلطان الحسن الأول في تحسين الأحوال عمّا ساد فيها قبله حيث اسكت صوت الصراعات في العديد

من المناطق.

وبنفس الايقاع والوهج تابع مسيرته، في مناطق الصحراء عبر الأطلس المتوسط مخترقا أفاقا تضاريسية متنوعة، مكتشفاً قبائل وتقاليد.. وكأنه يجعل رحلته تختم مراحلها بالخط الشرقي للمغرب المجاور للجزائر ، وهو أمر لم يكن بشكل اعتباطي، وإنما مرتبط بتخطيط مسبق، حتى وصل مدينة وجدة محطته الأخيرة التي كانت نهاية رحلته في مغرب استكشفه باحترافيّة جاسوس مدرب، لقد حقق حلمه، ومنح السلطات الاستعماري في الجزائر وفرنسا كتاباً كشَّافاً للأعلام والأماكن، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، التي تهم المغاربة، مسنوداً في ذلك بتوضيحات كثيرة من الرسومات والخرائط (2).

2-4 اوغست مولیراس (AUGUST MOLIER(AS ) والمغرب المجهول.

يمكن الجزم أن الكتاب الذي خلفه شارل دو فوكو قد أثَّر على العديد من المهووسين بالرحلة الاستكشافية والتجوال الاستخباراتي، ولعل «اوغست مولیراس» يعد أحد هؤلاء، ونجد لهذا التقدير إشارات يسندها العنوان الذي اختاره موليراس «المغرب المجهول». وأيضاً للكم الهائل للخرائط والتفصيل عن الأماكن، والوضعيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشكلها العام بالإضافة إلى أن مسؤولي الجزائر بقوا على نفس منوال الإصرار في ضرورة كشف مجاهل المغرب . فمن هو موليراس؟ وما حيثيات كتابه الجاسوسي؟

ص: 331


1- نفسه، ص ، 88 .
2- تطرق الرحالة في معظم قضاياه إلى توصيف الطرق والمسارات والسكان ( الزي المأكل والمشرب والتقاليد...) وبحث في العلاقات بين العناصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ودور التضاريس والمناخ، والنفسية العامة للمغاربة بما يخدم اهدافه الاستعمارية المنعكسة في متمنياته بان يكون لفرنسا مستقبلا في بلاد المغرب المجهول الذي أصبح بفضل هذه الرحلة الجاسوسية معلوما في عديد اموره وتلزم الاشارة الا ان المترجم قسم عمل دوفوكو إلى جزأن الجزء الاول تضمن المتن كاملا والجزء الثاني خصصه لملحق الخرائط والرسومات.

كان اوغست موليراس أستاذ اللغة العربية في وهران، ألَّف كتابه «المغرب المجهول» دون أن يتنقل إلى المغرب بل أوكل الأمر لشخصية من القبائل الجزائرية يطلق عليها لقب الدرويش ويحمل اسم محمد بن الطيب الذي جال في مناطق الريف وجبالة مدة 23 سنة، وقد وظف صاحب الكتاب عمق معرفته للغة العربية ومعلوماته عن بعض عوائد القبائل فهذا الكتاب المنشور سنة 1885م وسنة 1899م تناول الشمال الغربي للمغرب، أي منطقة الريف وجبالة، حتى أصبح هذا «البحث الأصيل يشكل عملاً ذا قيمة رفيعة»(1)، قيمته المتعددة لكل الباحثين من مختلف التوجهات العلمية، فالكتاب يطرح قضية إشكالية الإنسجام بين زمن الرحلة، التي خاضها رحالته محمد بن الطيب وبين زمن كتابتها من طرف ،موليراس أي بين عملية الحكي وما تعرفه، وبين عملية السرد و ما خضعت له من توجيهات ذهنية شعورية أو لا شعورية من طرف كاتبها، فهذا الأمر يتطلب بدوره تحليلاً دقيقاً في أفق قراءة نقدية تحتويه بالأسئلة في ذات الاتجاه.

فبعيداً عن حيثيات إنتاج الكتاب، ما يهم في هذا السياق هو إبراز نوعية المعلومات التي تصدر عن الذات السردية المتخفية، والتي تضمر البعد الجاسوسي في روحها، لأنها تستطيع بسبب هذا الموجه أن تفصل بين ما ينعكس في داخلها مما تراه وبين ما تحاول نقله «بأمانه»، وأما ذاتيتها فتأتي في الغالب في صفة التعليق والربط بين المظاهر والتحليل والتركيب مما يمكن القارئ استغلال هذه المعلومة بمعزل عن ذاتية كاتبها، تقسيمه للكتاب خضع لتقسيم اثني، مخصصا الجزء الأول للريف والثاني لمنطقة جبالة، التي تصل إلى مقدمة جبال الريف جنوباً، لم يستطع هو الأخر الخروج من نمطية الأحكام الجاهزة، فالريف بالنسبة إليه هو مجرد مجال للتوحش (2)ففي تحليله هي بلاد الفوضى وإنتشار السلاح والعصبية والعداء للأجانب، إنها منطقة لا تعرف استقرارا، مقارناً بين المغرب المهتز أمنياً، وبين الجزائر الذي ينعم في السلم والأمان وكأنه يعيد نفس الترنيمة التي ردَّدَها قبله الرحالة الفرنسيون

ص: 332


1- رولان لوبيل، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب مرجع سابق، ص 183.
2- اوغيست موليراس المغرب المجهول، الجزء الاول اكتشاف الريف ترجمة عزالدين الخطابي، منشورات تیفراس نريف ، 2007، ص 22

الآخرون، فأحكامه لا تقبل المراجعة، ولا تتطلع إلى فسح مساحة الحضور الإيجابي للمغربي الموجود خلف الحدود، إنها بالنسبة إليهم الأرض الموعودة التي يجب الهيمنة عليها ونقل أهلها من «حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة»، وقد حاول تعزيز أحكامه بما اعتبره الفوضى العارمة التي يعيشها المجتمع الريفي، لأنه ينظر إليها انطلاقا من ثقافته الغربية، ومنظومته الفكرية ومرجعيته الاستعمارية، فهذه المحددات لا يمكنها أن تدفعه لرؤية النظام أو الاعتراف بوجوده، لأنه يبرر لوضعية استعمارية آتية في المستقبل يراها قريبة على التحقق، فالمجتمع الريفي يعيش في نظره: «فوضى منظمة، بكل المتعارضات والمتناقضات المحلية لمفهوم من هذا النمط، ويمكن اختزالها بالأساس في غريزة الدفاع وفي روح التعاون»(1).

وفي سياق هذه الأحكام المطلقة، يتناول بالتفصيل خطاطة الأنساب العرقية والأصول البشرية المكونة لساكنة المغرب، معتبراً أن العرق الأمازيغي والعرق العربي يهيمنان على المكونات الأخرى، فالأمازيغ يشكّلون ثلثي الساكنة، والعرب الثلث المتبقي، مبيناً على أن العربي يتميز بكل المميزات السلبية، شُغلهم الشاغل السلب والنهب والحرب، لأنهم لم يخضعوا لنمط النظام والتنظيم، عاشوا في مجالات جغرافية واسعة ومتفرقة، «نصف متوحشين» (2)، ملصقا بهم جميع التهم التي دأبت الكتابات الفرنسية ترديدها في إطار اعتمادها مبدأ الثنائيات عرب/ بربر - قبائل مخزن/ قبائل سيبة.... فمدحه العنصر الأمازيغي الهدف منه خلق هذه الانقسامات، وإثبات واقعيتها وتاريخيتها، حيث يحاول جعل أصول الأمازيغ أقرب إلى الأوروبيين لأن هناك في نظره أوجه تشابه عديدة (3) .

هذه المداخل التي يضفي عليها طابع التحليل الواقعي والعلمي إنما هو مجرد

ص: 333


1- اوغست موليراس المغرب المجهول الجزء الاول، مرجع سابق، ص،21.
2- نفسه، ص 34
3- يقر في ذات السياق من خلال نص في مقدمة الكتاب ما يلي : «فوراء الحدود الوهرانية يوجد ملايين من الرجال حاجة إلى الهداية وتوجد منطقة شاسعة في حاجة إلى الاصلاح واتمنى ان تستحضر فرنشا هذا الامر دوما انني نشأت تحت سلطان فكرتين مازالتا حاضرتين إلى يومنا هذا وهما : معرفة جارنا الغريب - وادراجه ضمن الدائرة الخاضعة لتأثير (فرنسا) انظر المغرب المجهول، المرجع السابق، ص 3

غطاء لما يضمره في خاطره، فحين يناقش مصالح فرنسا في الريف يتطلع بحرقة إلى معرفة ما يحتفظ به المستقبل، إذ يطرح السؤال الذي يعبّر به عن حلمه في الهيمنة على منطقة الريف:«هل من الممكن مستقبلا استعمال هذه البوتقة الشاسعة التي تنفتح بشكل كبير على ريح الشمال عندما تحل الحضارة المتسامحة محل التعصب ؟(1). لكنه سرعان ما يخون شعار الرسالة الحضارية الفرنسية التي يروجها حينما يطمح ليرى فرنسا مهيمنة على البلاد وتاركة العباد في ثقافتها وتقاليدها دون مس بنية المجتمع الثقافية مقابل استغلاله اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا (2)... وكأنه يرى بعين المستقبل ما تحقق فيما بعد ضمن نظام الحماية الفرنسية.

ففي الجزء الثاني سار على نفس المنوال بمتواليات السرد الوصفي للمناطق الجبلية، والظواهر التي تعرفها والصراعات والصفات والتقسيمات القبلية الكبرى التي جعل منها مدخلا لوضع عرض تاريخي واجتماعي واقتصادي، من خلال رصد الأنشطة السائدة، وعادات السكان ومساكنهم وكل ما يهمهم... وهو بذلك يقدم القبيلة تلو القبيلة، يجول بالقارئ في رحابها هذا ما يبرز أهمية هذه المعطيات وتجددها في كل وقت وحين وانفتاحها على كل المناولات، كما خصص صفحات عن المصالح التجارية وتنافس الدول الأوروبية على الامتيازات التجارية المغربية، وكلما منحت له فرصة إلا وفسح المجال لنفسه للاستنقاص من المغاربة وحضارتهم، فعن النظام التعليمي الخاص بهم يقول: «هذا الانغلاق في الظلامية، الذي ليس حكرا على المسلمين وحدهم فقط (يعني اليهود)، لا يسع المرء إلا أن يحلم بثورة جذرية في النظام التربوي الحالي هذا النظام القائم على التعليم الديني الضيق والمتعصب، دون أي نقد فلسفي، أو أية دراسة محايدة لتاريخ الأديان»(3).

وفي اختتام عرض معطياته الاستخباراتية، يفسح المجال للتصريح بمشروعه

ص: 334


1- نفسه، ص 104.
2- نفسه، ص 40-41.
3- اوغست ،مولیراس، المغرب المجهول الجزء الثاني، ترجمة عز الدين الخطابي مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ، 2013 ، ص، 672.

وطموحه الاستعماري انطلاقاً من اهتماماته الذاتية وانشغالاته، وكأنه يدعو السلطة والعلم لأجل تنفيذ ما يطمح إليه كل المعجبين بالظاهرة الإمبريالية، والمستلبين بوهم الرسالة الحضارية لأوروبا، إذ يقول :«يجب أن نرسل إلى المغرب مبعوثين يمثلون الفكر الحر ، لأنهم الوحيدون القادرون على هزم التعصب الإسلامي ويجب أن نشرع في الحملة المقدسة والمسالمة للعقول... ونشر الأنوار وسط ملايين المتعصبين الذين يعتبروننا من أشد أعدائهم، لأننا لا نشاطرهم معتقداتهم الدينية .. والحال أنه بإمكاننا التنبؤ بمستقبل زاهر ومتنور للمغرب من خلال هذه الاستعارة الجميلة الصادرة عن أحد الفلاسفة المتصوفة بالشمال غرب إفريقيا والتي تقول: الغرب مليح وعندنا عليه الأدلة... الشمس تغرب فيه ومنو تطلع الأهلة»(1).

3 - النص الرحلي الجاسوسي في ميزان النقد:

تطرح النصوص الرحلية الفرنسية عامة والجاسوسية منها خاصة، نقاشاً في مدی أهميتها في الكتابة التاريخية المتعلقة بمرحلة القرن التاسع عشر، وحتى الكتابات التي دارت في فلكها وامتدت إلى القرن العشرين، في إطار ما يسمى بالمنتوج الكولونيالي فهي كتابات ودراسات وأبحاث ورحلات حاولت فهم ثقافة المجتمع المغربي برمتها، سواء التي تخص المجال القروي وساكنته أو المجال الحضري وأهله، أو حضورها على مستوى التراتبية الاجتماعية وتمايزها بين الفئات الاجتماعية، بحثاً منها في تحقيق فهم الحركة الداخلية للمجتمع المغربي. لأن النظام الاستعماري كان في حاجة إلى «... جمع المعلومات، وكذا بلورة تمثل لماضي وحاضر هذا المجتمع. ويكشف السياق الاستعماري في المغرب عن وجود علاقة متميزة بين السياسة والمعرفة. فعلا، فالأفكار والنظريات والأساطير المكونة للمعرفة الاستعمارية ستلعب دوراً حاسماً في تحديد العمل السياسي».(2)وهو يؤكد بشكل مباشر ترابط الهدف العلمي بالسياسي في اطار تحالف المعرفة والسلطة لبلوغ المراد الإمبريالي.

ص: 335


1- المغرب المجهول ، مرجع سابق، ص 697-698.
2- عبد الله بلمليح : التاريخ السياسي للمغرب ابان الاستعمار : البنيات السياسية، ترجمة : محمد الناجي، افريقيا الشرق، الدار البيضاء 2014 ، ص243.

وقد ينحو بنا هذا التحليل إلى التشكيك في مصداقية ما قدمته هذه الكتابات الرحلية حول المغرب على أساس طبيعة الرسالة التي حملتها الصورة الاستعمارية المقدمة عنها، وهو ما يؤكده بول« باسكون» بالقول «إن الشعور الوطني الذي رافق بحيوية التوسع الأوروبي لما وراء البحار، قد خلق مناخاً ثقافياً عاماً لم يستطع المثقفون أنفسهم الإفلات منه. فهل هناك فرنسي قبل 1930م مثلا لم يضع علمه في خدمة التوسع الاستعماري» ؟(1).

فهذا الأمر قد يشوش على من يقوم باستنطاق هذه الكتابات، بحثاً عن المادة التاريخية، مما يجعله في حيرة من أمره في العلاقة بما تطرحه من معلومات. خصوصاً أمام قوة حضور الأحكام الجاهزة والانطباعات المتسّرعة، والاستعلاء الحضاري كعناصر مبثوثة في روح أغلب الدارسين الاستعماريين، ولكن رغماً عن ذلك، فلا يمكن تجاوز هذه الكتابات أو حتى تجاهلها في ظل غياب كامل لكتابات أخرى موازية، وهو ما جعل الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي يقر :«... انه من جهة أولى يمكننا من تبين صورة المغرب في مرحلة هامة من مراحل تطوره مرحلة بداية المواجهة بين نمطين من أشكال الوجود السياسي والاجتماعي، والثقافي وذلك على نحو ما تظهر به هذه الصورة عند من كان يعتبر غيرا أو آخر أي مختلف ومخالفا في الملّة والحضارة والوجود، وهو من جهة ثانية يلقي أضواء كاشفة على معرفتنا بثقافة وذهنية من كان المغرب عنده غيراً أو آخراً وهو الاستشراق الفرنسي»(2).

وإنطلاقا من هذه الحيثيّات فقد أصبحت الركائز الأيديولوجية والمرجعية الإمبريالية واردة في مشروع غزو واستعمار المغرب وعقدة التفوق الحضاري، كمؤشرات ثابتة على طبيعة الاستراتيجية التي احتكمت إليها الكتابات الفرنسية، منعكسة في قالب جاهز يعمل على صياغة تنميطات حادة وأحكام جاهزة، وتصنيف ومقارنات متعسفة إزاء مظاهر الثقافة المغربية، ونظمه السياسية والاجتماعية، التي

ص: 336


1- نفسه، 243.
2- سعيد بنسعيد العلوي المغرب في الاستشراق الفرنسي، ندوة المغرب في الدراسات الاستشراقية، مطبوعات اكاديمية المملكة المغربية مراكش 1993 ، ص 38

نظر إليها ضمن سياق ما سبق ذكره، لكن هذه الاستراتيجية كانت في أقصى صور المخاتلة، لأن ظاهرها يحيل على البحث العلمي والموضوعية، وباطنها يكشف عن ما يتمناه الفرنسيون، ومن خلال هذه الدراسات كانت الغاية هي المساعدة على تسليم المغرب إلى إدارة باريس السياسية بعد أن يتم الكشف الكشف عن خباياه وأسراره.

لا يمكن للقارئ والباحث في التاريخ وفي التخصصات الأخرى أن يتنكر للعمل الذي قام به المستشرقون والدارسون والرحالة... الأجانب، بالرغم ممّا قد يسجل عليهم من إغراق في ما تميزت به كتابتهم الموجهة سياسياً وأيديولوجياً، وهو ما بدأه مع مرحلة الثمانينيات المفكرون المغاربة في العلاقة بسؤال التعامل مع الإرث الاستعماري، فمنهم من ارتكن إلى الإكتفاء بإتهام الاستعمار، واعتباره شراً مستطيراً، ومنهم من حاول أن يتعامل مع تركته الأدبية بأسلوب يروم الموضوعية والابتعاد عن الانضباط لردود الفعل الرافضة في إطار نظرة توفيقية والحفاظ على نفس المسافة بين الكتابات الوطنية والأجنبية وهو أمر نكتشفه مع «نجيب بودربالة» الذي أيَّد ضرورة اتخاذ رؤية هادئة حول الاستعمار وأثاره ...(1) أما «عبد الكبير الخطيبي» فقد اختار طريق النقد المزدوج، لأنه يمنح القدرة على التمييز بين الخطابات والمفاهيم المتصفة بقدرة مازال يمكن استعمالها، ومن جهة أخرى يمكن من ضبط المفاهيم التي يجب تصنيفها في تاريخ المعرفة، وبالتالي فتحليل البناء المعرفي أمر حاسم وضروري في نظره كإستراتيجية للتخلص من الاستعمار فعليا (2).

خاتمة

شكّلت الكتابة الرحليّة - ولا زالت نصوصاً مميزة تجمع في أحشائها كل الامتدادات الإبداعية والتعبيرية وتحتضن كل الأصوات والقضايا والإشكاليات... لأنها تنتمي إلى جنس أدبي منفتح انفتاح الرحالة على العوالم التي اصطدم بها جسدياً، وحسياً فوصف

ص: 337


1- نجيب بودربالة من اجل رؤية مهادنة حول الاستعمار، تعريب : محمد بنشقرون المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع عدد 07 ، الرباط، 1984، ص 40.
2- عبد الكبير الخطيبي، تخليص السوسيولوجيا من النزعة الاستعمارية، تعريب زبيدة بورحيل، المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع عدد 07 ، الرباط، 1984، ص7.

ما رآه وما سمعه... سمعه ... وما قفز إلى ذهنه من تمثّلاث عبّرت عن اندماجه الذاتي، وما صحب ذلك من حالة تشنج تثاقفي بحثا عن ما يخالف ثقافته وما يشبهها، فالرحلة هي واقعها تجربة متعددة الحواس لا تخضع لمنطق محدد بعينه، يمكن من خلالها الحكم عليها بضوابط المنهجية التي اعتاد الباحثون والنقاد استعمالها. لأنها تنفلت من الضبط نتيجة الارتباط الشديد بين الوصف الخارجي والحكم الداخلي للرحالة فانتقاله بين الأمكنة والأزمنة خلال مسار رحلته هو في نفس الوقت رحلة داخلية يسلكها تكشف عن تضاريس ومورفولوجية تمثلاته ورؤيته للأشياء والناس والأماكن.

وهي لذات السبب ،وغيره مهمة للباحث في التاريخ، لأنها توفر في عوالمها الداخلية فضاءات من زمن مضى تساعده في إعادة تشكيل الواقعة التاريخية أمام ،نظره فحينما نتحدث عن النص الفرنسي الجاسوسي فالهدف هو هذا البعد إعادة صياغة الوضع نظريا، كيف كان كيف طمحت فرنسا لغزو المغرب، والأساليب التي استعملت في ذلك، وأثر طموحاتها السياسية آنذاك ... بالإضافة إلى الأهمية الإستراتيجية لهذه النصوص في التقاط عناصر التاريخ التي يمكنها إخبارنا عن مغرب القرن التاسع عشر، فبالرغم من أنها كانت كتابات مغرضة إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها ، بل الانفتاح عليها ضرورة معرفية لأجل فتح آفاق المناولة التاريخية لأي موضوع إقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو دبلوماسي أو عسكري... بالضرورة ستجد له تماساً بنوع ما مع كتب الرحلات.

ص: 338

الاستيطان الأوروبي في المغرب: آثاره الاجتماعية والسياسية

اشارة

جلال زین العابدین(1)

أدت الهيمنة الاستعمارية والسياسة الفلاحية التي اتبعتها سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب إلى إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة في الوسط القروي؛ حيث تمَّ هيكلة بناه الإنتاجية على أساس مقتضيات السوق الفرنسية والمراكز الرأسمالية فاحتكر الأوروبيون الفلاحة العصرية المعتمدة على التقنيات والمفاهيم الزراعية الحديثة والتي تحظى بمختلف أشكال الدعم من إقامة بنيات تحتية، ونظام المكافآت المتعددة والمتنوعة للمستوطنين الزراعيين لتسهيل غرس جذورهم في التربة المغربية أولاً ، ولتسهيل اندماجهم في الاقتصاد الفلاحي الفرنسي ثانياً.

وإلى جانب الفلاحة الكولونيالية، نجد الفلاحة المغربية التي أحاطتها سياسة الحماية بحزام من البؤس والتخلف، فكان من نتائجها تجميد وتفتيت هذه الفلاحة رغم أهميتها الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة للسكان الحضريين والقرويين على السواء، فأغلقت أمامها جميع أبواب الطموح لتجاوز وضعية الفلاحة المعاشية، وقد

ص: 339


1- أستاذ التاريخ المعاصر - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء. المغرب.

أدت الأشكال الجديدة من الاستغلال التي رافقت الاستيطان الأوروبي إلى ظهور تناقضات اجتماعية عميقة مست الأسر والقبائل، وأعادت تصنيف المجتمع المحلي حسب المهن والدخل ومستوى المعيشة، كما أدت إلى زعزعة كيان المجتمع المغربي، وإلى تصدع البنى والعلاقات القبلية لتحل محلها علاقات الإنتاج المبنية على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والفردانية والتمايز الاجتماعي، وإلى بروز علاقات اجتماعية لم يألفها المجتمع المغربي الذي كان مبنياً على التآزر والتضامن وعلى أساس علاقات القرابة وروابط الدم وأواصر التضامن القبلي.

أولاً: الفلاحة المغربية في استراتيجية سلطات الحماية الفرنسية

1 - الفلاحة المغربية قبل الحماية

كانت الفلاحة تلعب دوراً اجتماعياً واقتصادياً مهماً في حياة المغاربة، وقد ظلّت لوقت طويل تقوم على علاقات ترتكز على عاملين أساسين الإنتاج المحلي والاستهلاك الذاتي للسكان، فكانت تقوم بتلبية حاجياتهم كماً ونوعاً. غير أنها عانت من توالي سنوات الجفاف التي كانت تمتد أحياناً لفترات طويلة، كان آخرها الجفاف الذي امتد لخمس سنوات بشمال المغرب بين سنتي 1978م ،و 1883م، وإلى سبع سنوات في الجنوب أي إلى حدود سنة 1885. كما عانت من الاجتياح الكثيف لجحافل الجراد، إذ يُبرز نيكولا میشیل Nicolas Michel) أنه بين 1800م و 1912م اجتاح الجراد 32 مرة جهات مختلفة من المغرب في ظل انعدام إمكانية محاربته. يضاف إلى هذه المشاكل مشكل البنية العقارية المعقدة وغير المساعدة، والتي لم تمنح السلاسة والمرونة الكافية للاستثمار في الفلاحة، حيث إن الملكيّة الخاصة للأرض لم تكن منتشرة في المغرب قبل الحماية، وكانت محصورة جداً في أراضي بعض العائلات الكبرى. وكانت الأرض تتوزع من الناحية القانونية إلى :

- الأراضي الجماعية أو أراضي القبائل وهي أراضي في ملكية الجماعة ولا يمكن التصرف فيها أو تفويتها.

ص: 340

- أراضي المخزن، وهي أراضي تابعة للدولة وتشمل الأملاك المخزنية وكل ما لا يمكن امتلاكه لأنه في مصلحة العموم مثل الشواطئ والغابات.

- أراضي الجيش، وهي أراضي تابعة للدولة أقطعتها لبعض القبائل مقابل تقديمها لخدماتها العسكرية لصالح المخزن.

- أراضي الأحباس، وهي ! الأراضي التي تم توقيفها على الأحباس، وهي کذللک لا يمكن تفويتها .

- أراضي الخواص، وهي أراضي في ملكية الأفراد لكن كما سبقت الإشارة إلى ذلك ظل انتشارها محدوداً.

لم يكن التعقيد الذي میَّز البنية العقارية في المغرب محفِّزاً للإنتاج والاستثمار الفلاحي بالنسبة للمغاربة فحسب، بل شكّل حاجز صدٍّ قانوني بالنسبة للأوروبيين الطامعين لامتلاك الأراضي المغربية مما جعلهم يناورون عن طريق المخالطة والحماية القنصلية، قبل أن يطرحوا الموضوع للتفاوض على أساس أحقيتهم في امتلاك العقار مقابل أدائهم للضرائب الفلاحية، وهو موضوع تطرقت إليه المواد 11 و 12 و 13 من مؤتمر مدريد والمادتين 59 و 60 من مؤتمر الجزيرة الخضراء.

وإذا كان إنتاج هذا القطاع قد ظل تحت رحمة التقلُّبات المناخية وعانى من البنية العقارية المعقدة ومن الأساليب التقليدية المستعملة، فإن عوامل أخرى أسهمت في تغییر ملامحه، خاصة الإكراهات الجديدة التي أفرزها التدخل الاستعماري ذلك أن دخول المستعمر إلى المغرب وما تبعه من جحافل المعمِّرين، أدى إلى خلخلة هذا التوازن من خلال استيلائهم على أجود وأخصب الأراضي الفلاحية، فأخذت وسائل العيش تتضاءل بالنسبة للفلاحين تدريجياً بسبب نقص مساحة الأراضى الصالحة للزراعة، ويقول القبطان روميو (Capitaine Rome) في هذا الصدد عن بني وراين «إن دخولنا البلاد قد أخَّل بالتوازن العريق بين أعداد السكان وبين الإنتاج، وهو توازن كان يفيد السكان أنفسهم، فأعطى المعمِّرون أزكى الأراضي التي كان

ص: 341

الناس يستغلونها (...) وحددت مناطق الغابات وأسندت إدارتها إلى مصلحة المياه والغابات وذلك ما اعتبر نقصا من حقوق السكان على هذه المناطق».

2- الاستيطان الزراعي وانعكاساته على الفلاحة المغربية

كان الجنرال ليوطي حذراً منذ البداية في تعامله مع مسألة الأرض في المغرب، فقد كان يدرك أن «مس آلة دقيقة على شاكلة التنظيم الاجتماعي للمغرب (...)، يمكن أن تكون له انعكاسات خطيرة جداً على أمن وتنظيم البلاد. ويجب التحرك باحتياطات

دقيقة وعدم الإقدام على تغيير الوضعية القانونية للأراضي الجماعية إلا بعد ان تكون قواعد الغزو قد ترسخت، وحتى تكون الإدارة قد بدأت تسير بشكل طبيعي». ولم يكن من السهل العثور على صيغة تمنع الابتزاز الذي جرى في الجزائر، وتحول دون تجريد الفلاحين المغاربة من أراضيهم، مع ما عرفوا به من تعلق وارتباط غريزي بأرضهم وغيرتهم عليها، فنشط تفكير ساسة الحماية على مستوى التحليل والتشريع واستنباط الحلول، لوضع أسس بناء ضخم من التأويلات والنظريات والنصوص القانونية، تشرِّع وتبرِّر ابتزاز الفلاحين والسيطرة على أراضيهم، تارة باسم استرجاع أراضي الدولة التي استولى عليها السكان في مراحل ضعف السلطة المركزية، وتارة بحجة الحصول عليها عناصر قيادية في السلطة المركزية، وتارة أخرى لعجز الفلاحين وعدم

بالتواطؤ مع قدرتهم على الإدلاء بالوثائق الضرورية التي تؤكد ملكيتهم للأرض.

وهكذا سنَّت إدارة الحماية مجموعة من التشريعات شكَّلت القاعدة القانونية للنهب والابتزاز، فأصدرت ظهير 12 اوغست / آب 1913م الذي نصَّ على تسجيل العقارات، وضرورة التدقيق في الوثائق المدلى بها. فأصبح لكل قطعة أرض بمقتضاها سند عقاري يحمل اسماً ورقماً وتصميماً للملكية، وسهّل ذلك تسلّط الأجانب على الأرض لجهل المغاربة بالإجراءات القانونية الجديدة. ثم صدر ظهير 7 يوليوز 1914م فجعل الأراضي الجماعية وأراضي الأحباس وأراضي الكيش، غير قابلة للتفويت، ووضعها تحت حماية الدولة التي أصبح لها حق مراقبتها وتسييرها. غير أنه بعد سنتين (1916) تم تأسيس لجنة استعمار الأراضي من أجل تشكيل وتوزيع قطع

ص: 342

الأراضي القروية، وقررت سلطات الحماية انسجاماً مع مبادئ الاستعمار المختبرة، تدعيم الاحتلال العسكري بإسكان عائلات فرنسية في القرى المغربية، وسيكون لهذه العائلات تأثير حضاري على الفلاحين المغاربة بالمثل الذي ستعطيه لهم. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، صدر ظهير جديد في 27 أبريل 1919م جعل الأراضي الجماعية تحت رقابة مجلس وصاية له صلاحيات تفويت أراضي الجماعات الطرف ثالث، فاقتطعت أجزاء مهمة من الأراضي تحت غطاء المصلحة العامة، وسهلت الاستيلاء عليها لفائدة الكولون بطرق شرعية غير منازع فيها، فتدهورت الجماعات ولحق التفقير بأفرادها وتغيرت الهياكل الزراعية التقليدية مما انعكس على الوضع الاجتماعي لسكان البوادي.

إن ما تجب الإشارة إليه هو أن السيطرة والاستيلاء على أراضي الفلاحين في المغرب، قد ارتبط إلى حد كبير بالغزو العسكري، فالمستوطنون المزارعون كانوا يسيرون على حد تعبير أحمد تافسكا، في عصابات مسلحة خلف القوات الاستعمارية التي تتولى إبادة ومطاردة السكان لتتيح المجال للمستوطنين للحصول على أملاك فلاحية، وتزيل كل ما من شأنه أن يشعرهم بأنهم غرباء في مجتمعهم الجديد، وتصفهم الصحافة الاستعمارية بأنهم «طلائع جيش قوي». لذلك قامت السلطات الفرنسية بتمهيد الطريق أمام الاستيطان الزراعي وتدعيمه، لأنه هو الذي يعطي حضوراً واستمراراً للنفوذ الفرنسي بالمغرب، وهو ما يوضحه كاديل (Cadile) بقوله :«لقد تم الاستيطان الرسمي بشرق تازة في ،1924م، وفي الريف ما بين 1926م و 1930م بالموازاة مع التهدئة العسكرية». وقد وصل هذا الاستيطان إلى أقصى تأثيره في حياة الفلاحين، كما يؤكد ذلك ألبير عياش حيث يقول «في الريف الشرقي وسهول ما بين تازة ووجدة وزعت القبائل الرحلية سابقاً فيما بينها أراضي فقيرة تزرعها بالحبوب (...) غير أن الهجرة نحو السهول

المستعمرة تبدو مفروضة».

ونشير إلى أن الاستيطان الزراعي كان قد تعرقل تطوّره في بداية الحماية بسبب تمسك المغاربة بأراضيهم، واستمرار المقاومات المسلحة في عدة مناطق بشكل

ص: 343

أعاق الاستيطان الأوروبي. وبعد القضاء على هذه المقاومات أصبح الفرنسيون أحراراً وسارعوا إلى الحصول على المزيد من أراضي الأهالي المغاربة مما أدى إلى تدمير القاعدة الاقتصادية للفلاحين المغاربة الذين تزايدت أراضيهم المغتصبة والمسلوبة وتحوّل قسم كبير منهم إلى خماسة»، أو إلى عمال في المزارع الأوروبية، كما تحول الوسط القروي إلى مصدر واسع النطاق للهجرة سواء كان داخل البلاد أو إلى خارجها.

وهكذا وجدت تشكيلة من المعمرين نافسوا الفلاحين المغاربة الذين أصبحوا درجة دنيا مقارنة معهم، لأن زراعاتهم التقليدية ذات الإنتاج البسيط لم تصمد أمام الزراعات المنتجة في الضيعات الأوروبية العصرية المستفيدة الأسمدة

من الكيمائية، والبذور المنتقاة، كما أن الفلاحين المغاربة لم يستفيدوا من الامتيازات المختلفة التي منحتها سلطات الحماية للمعمرين الأوروبيين. فرغم أن الظهائر لم تميز بين الأهالي والمستوطنين من حيث حق الاستفادة من المنح والمكافآت، إلا أن إمكانيات الفلاحين المغاربة المتواضعة لا تسمح لهم باستيفاء الشروط المحددة لنيل هذه المكافآت فكيف يمكن الحديث عن إدخال تقنيات وأساليب حديثة في عملية الإنتاج أو الزراعة على الطريقة الأوروبية لفلاحين جُرِّدوا من أراضيهم الخصبة؟

لقد ظل الفلاح المغربي خارج منظومة الإرشاد الكولونيالي، الذي ركَّز على توعية الكولون الأوروبي بأهمية وضرورة استعمال الأساليب العصرية في الفلاحة، كما حرص الفلاحون الأوروبيون على عدم انتقال المعرفة بهذه الأساليب العصرية إلى جيرانهم الفلاحين المغاربة، ليحافظوا على تفوق إنتاجهم، فبقي الفلاحون المغاربة يعتمدون على ما ورثوه عن أسلافهم من طرق ووسائل زراعية تقليدية، وهو ما كان يدفع أحيانا بعض الفلاحين المغاربة إلى «التجسس المعرفي» على الكولون الأوروبي عبر استخدام معارفهم وأصدقائهم العاملين في مزارع الأوروبيين، لاكتشاف سرّ تخلف إنتاجهم عن إنتاج الأوروبيين، أو سرّ عدم تأثّر حقول الكولون بأمراض تجتاح المنطقة، أو طرق تخلص الأوروبيين من أعشاب ضارة تعجز الأساليب التقليدية عن مكافحتها .

ص: 344

وواجه الفلاحون المغاربة بالإضافة إلى تربص المعمرين بأراضيهم، عوامل طبيعية أرهقتهم وزادت من بؤسهم مثل الجفاف والعواصف الرعدية والثلجية والجراد وهو ما أسهم في تأزيم وضعية الفلاحين وتراجع مستواهم المعيشي، كما دفعتهم في العديد من الأحيان إلى الخروج عن القبيلة في إطار هجرات جماعية للبحث عن مصدر عيش ملائم، يعوّض النقص الحاصل في المدخول الفلاحي.

أما الضريبة الفلاحية (الترتيب) فقد شكلت إلى جانب العوامل السابقة عبئا ثقيلاً على الفلاحة الأهلية، مما زاد في تأزيمها ولم تكن مصلحة الضرائب تأخذ في الحسبان ظروف الفلاحة المغربية، حيث كانت تحدد مبلغها بناء على تقديرات اللجنة الجهوية المكلفة بوضع تقديرات إنتاج المغاربة وعلى ضوء ذلك كانت تتم عملية تحديد الترتيب الواجب على كل ،فلاح وكذلك إعداد تقديرات الإنتاج الفلاحي، كما أن هذه التقديرات لم تكن تتم على أساس بحث موضوعي لوضعية الفلاحة والأشجار المثمرة ورؤوس الماشية التي توجد في حوزة المغاربة، بل كانت تتم بناءاً على تصورات أعوان السلطة المحلية التي غالبا ما كانت تجانب الواقع، ليجد الفلاح نفسه ملزماً بمبالغ تفوق إلى حد كبير محصوله الفلاحي.

ثانياً: بعض الإجراءات الاصلاحية للحماية الفرنسية في مجال الفلاحة المغربية

اتخذت الإدارة الفرنسية عدة مبادرات لتظهر أنها تريد النهوض بالفلاحة المغربية التقليدية وإصلاح العالم القروي، فتمَّ التفكير في إنشاء تعاونيات فلاحية تقوم بتخزين المنتوج وتحويله وبيعه وتقديم قروض لصغار الفلاحين لحمايتهم من المُرَابين ويتعلق الأمر بما كان يعرف بالجمعيات أو «الشركات الاحتياطية الأهلية» (Sociétés Indigenes de Prévoyance) أو (SIP) التي أُنشئت ونُظمت بمقتضى ظهير 26 ماي 1917م المغيَّر بظهير 19 يوليو 1917م، وظهير 12 أبريل 1912م، وظهير 28 نوفمبر 1921م، ثم ظهير 28 يناير 1922؛ وهي عبارة عن مؤسسات مدنية تحدث بقرار وزاري يحدد دائرتها الترابية،

ص: 345

تشمل إلزاماً كل الفلاحين الأهليين غير المحميين المسجلين في قائمة الترتيب. وتهدف إلى إعانة الفلاحين بالقروض، مادية كانت أو عينية، ليتمكنوا من مواصلة أعمال فلاحتهم ومن توسيع نطاقها، واعتماد التقنيات الحديثة الضرورية في ميدان الفلاحة وتربية الماشية والمساهمة في تطبيقها، وتهدف أيضا إلى حماية الفلاحين الأهالي من المضاربات العقارية (الربا - الاحتكار)، كما يمكنها أن تقوم مقامهم عند الحاجة بإلغاء كل رهن أو التزام يبدو لها مبالغا أو العمل على الحد منه، والمساهمة

كذلك في عقد تأمينات ضد الكوارث الفلاحية ( حريق، موت المواشي جراد...).

وإضافة إلى تقديم السُّلفات والإعانات كان بإمكان الشركات الاحتياطية الأهلية، إحداث جمعيات تعاونية يعهد إليها هي الأخرى بصيانة المنتوج وتحويله وتسويقه وفق الشروط المتبعة في المؤسسات الصناعية (مضاربة احتكار تحقيق القيمة المضافة ...)، وذلك - كما ينص عليه ظهير 24 أبريل 1937م - بعد الحصول على ترخيص من إدارة الداخلية استنادا إلى موافقة إدارة الفلاحة والتجارة والغابات وكذا المسؤول عن الصناعة التي قد يهمها الأمر وفي هذا الصدد شهدت سنة 1937م بالمغرب تأسيس 11 «تعاونية أهلية فلاحية (Coopérative Indigène Agricole) أو (CIA) بمقتضى ظهير 24 أبريل 1937م في مجموعة من المدن، الرباط، البيضاء، القنيطرة، مكناس، فاس تازة ،وجدة، واد زم مازاكان، آسفي، ومراكش. وحتى لا نعطي لإجراءات سلطات الحماية أبعاداً أكثر من حجمها، نتساءل ماهي حقيقة وفعالية هذه المحاولات التحديثية؟

لم تؤد هذه المجهودات في الواقع إلى النتائج المرجوة من طرف الأهالي لأسباب عديدة، ذلك لأن إدارة الحماية كانت تسعى من وراء كل المبادرات التي اتخذتها في هذا المجال إلى الاستحواذ على أقصى ما يمكن من الأراضي لتوزيعها على المستوطنين، وإلى تكوين «طبقة» متوسطة من الفلاحين الذين يزكون سياستها والحد في الوقت نفسه من الهجرة القروية للحفاظ على حشود العمال الفلاحين الذي يمكن استثمارهم في ضيعات المعمرين فالقبائل

ص: 346

ارتفعت معاناتها من هذه القروض التي كانت تمنحها هذه التعاونيات المحلية بفوائد عالية، كما أن هذه القروض لم يكن يستفيد منها إلا الفلّاحون الميسورون، أما صغار الفلاحين فقد كانوا في حالة عدم تأدية ديونهم في الأجل المحدد عرضة لفقدان أراضيهم، أضف إلى هذا أن عدم إشراك ،الفلاحين، وهم المعنيون الأساسيون بكل ما تقرره الشركات الاحتياطية الأهلية (SIP) والتعاونيات الفلاحية الأهلية (CIA) في اتخاذ القرار أفرغ الجانب التعاوني التي تدعو إليه هذه المؤسسات من كل مضمون حقيقي، وجعل منها مجرد مجال لتكوين الأطر التقنية والمراقبين أكثر منها مجالا لتكوين الفلاحين وتحسين أوضاعهم.

وأنشأت الإقامة العامة إضافة إلى هاتين ،التعاونيتين مركزية التجهيز الفلاحي للبيزانا (Central d'Equipement Agricole du Paysanat) أو (C.E.A.P) بظهير 26 يناير 1945 وهي مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي تهدف إلى تنمية الفلاحة وتربية الماشية، بتقديم قروض للفلاحين وتأطيرهم تقنياً وبيع المعدات الفلاحية أو كرائها لهم.

ولإنجاز مهامها، اعتمدت مركزية ال (C.E.A.P) على مكاتب محلية تقوم بتقديم معلومات حول التكوين الكيميائي للتربة ونوعية الأسمدة التي ينبغي استخدامها وطريقة محاربة التعرية والأمراض النباتية لقطاع التحديث الفلاحي (Secteur de Modernisation du Paysanat) أو (S.M.P) المنشأ بظهير 5 يونيو 1945م، وهو عبارة عن مؤسسة عمومية تسيرها السلطة المحلية، ترمي إلى تحقيق أهداف مادية واجتماعية وأخلاقية ، تتمثل في تحسين الإنتاج وتوجيه الفلاحين نحو زراعات جديدة والعمل على تطبيق مخطط للتنمية وتحسين أوضاع الفلاحين الاجتماعية، وذلك ببناء المدارس والمستوصفات ودور السكن قصد تحسين أوضاع الفلاحين الاجتماعية، وإشراكهم في مداولات مجالس (S.M.P) قصد تهيئتهم لتحمّل مسؤولياتهم مستقبلاً. وعموماً كانت ترمي «البيزانا» من خلال تدخلاتها هاته تحقيق تغيير جذري وإصلاح شامل في حياة الفلاح المغربي. فالتعليم الإجباري والمراقبة الطبية ضد

ص: 347

الأمراض والمساعدة الاجتماعية واستخدام الآلات...، ستسهم في توعية الفلاح وتجعله يتحرر من الاعتقادات الروتينية والقيود التي كانت تقف عائقا أمام تقدمه. وبلا شك فالإصلاح سيكون صدمة نفسية صادرة عن المكننة وهو ما سيؤدي إلى زعزعة أنماط الإنتاج التقليدية والرفع من القدرة الإنتاجية للفلاح ثم تغيير نمط عيشه.. بعد أن فرضت فرنسا سيطرتها على المغرب وتوغلت داخل أراضيه وجدت أمامها عدداً من خدام المخزن وهم الفئات الحاكمة المكونة من شيوخ القبائل والقواد والأعيان وبعض الزوايا وقد أبقى الاستعمار على معظم هذه الفئات وامتيازاتها الأدبية والاجتماعية، ومنحها مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية عند إدخال نظم تسجيل الأراضي لكي تكون دعامة وسنداً للمحتل، ولكنه جرَّدها في المقابل من نفوذها السياسي الحقيقي لأنه أصبح الحاكم الفعلي للبلاد. وظلت هذه الفئات أداة مسخَّرة من طرف الاستعمار حيثما يريد واجهة لإضفاء الشرعية على بعض سياساته الاستيطانية(1).

وقد أدت الهجرة القسرية بفعل التدخل الاستعماري في القرى إلى فقدان المغرب لتوازنه السكاني جغرافياً، حيث أفرغت البادية من سكانها، وازدحمت المدن بعشرات الآلاف من المهاجرين الفلَّاحين، الذين فقدوا كلياً أو جزئياً صلتهم الماضية بعالم الزراعة ولا رابطة تاريخية لهم بعالم المدينة ومجتمعها، وفجَّروا الإطار التقليدي للمدن التاريخية المغربية، وشكَّلوا قاعدة كبيرة من العاطلين وأشباه العمال في خدمة الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي، ووضعوا بذلك اللبنة الأولى في تكوين الطبقة العمالية المغربية (2).

وبإدخال نمط الإنتاج الرأسمالي الاستعماري عملت سلطات الحماية على تفكيك الملكية الجماعية للقبائل المغربية، والتي هي أساس التضامن القبلي. ومركزت سلطات الحماية الملكية الفردية للأرض ووسائل الإنتاج الأخرى، وأصدرت

ص: 348


1- عبد السلام ،أديب الصراع الطبقي والتحولات الاقتصادية والسياسية في المغرب، منشورات النهج الديموغرافي الرباط، 2005 . ص : 82.
2- أحمد تافسكا، تطور ... مرجع سابق، ص : 67.

من أجل ذلك سلسلة من القوانين لتدعيمها وتعميمها واستهدفت من ذلك تسهيل عمليات انتزاع أجود الأراضي، وجعلتها تحت تصرف المعمِّرين. وأدى ذلك إلى فصل الفلاح عن أرضه، وبالتالي عن «جماعته» وعشيرته وقبيلته. ووقع تحول وتدجين لدور «الجماعة» لدى القبيلة، وصدرت قوانين تحدد مهمتها الجديدة(1). ففقدت «الجماعة سلطتها السابقة، وأصبحت تابعة ومراقبة من طرف سلطات الحماية. ونفَذَت عن طريقها إدارة الحماية، بشكل أعمق لنسف جدور الحياة الجماعية القبلية.

وهكذا ظهر نمط الملكية الفردية للأرض، وتحولت العلاقات داخل القبيلة من علاقات عشرية في مفهومها التقليدي القديم إلى علاقات اقتصادية ترتكز على امتلاك رؤساء القبائل والقواد ورؤساء الطرق الصوفية للأراضي الزراعية الواسعة، وتحول سائر أفراد القبيلة بالتدريج إلى فلاحين أجراء في أراضي زعمائهم.

وما لحق الزراعة من تغير في نمط ملكيتها لحق تدريجياً ملكية الماشية، فقد تحولت هذه الأخيرة من ملكية عشيرة مشاعية إلى ملكية أسرية أو فردية، ولكن النشاط الرعوي لم يتطور في وسائله بالدرجة أو السرعة نفسها اللتان تطورت بهما الزراعة في البادية المغربية، لذلك يظل الفائض الاقتصادي المتولد من هذا النشاط والقابل للتوزيع والاستحواذ من خلال الآخرين محدوداً للغاية(2).

إن الاستعمار الذي أدخل الرأسمالية إلى البلاد لم يزد إلا في تأزمها، ولم يسهم إلا في «بلترة» أهاليها وتهميشهم، وتحويل أغلبيتهم إلى خمَّاسَة ومزارعين أو يد عاملة بخسة في متناول المعامل الاستعمارية التي تحول ثروات البلاد إلى بلدها الأصلي. صحيح أن الاستعمار قد ساهم في عصرنة الفلاحة بالمكننة وتقنيات الري الحديثة، ولكن ليس لصالح البسطاء من المغاربة بل لصالح المستوطنين أو لصالح

«الأرستقراطية العقارية» التي ستستولي بعد الاستعمار، على ما سمي ب «أراضي المعمِّرين المسترجعة»؛ ولكن صحيح أيضاً أن الرأسمالية الاستعمارية قد أسهمت

ص: 349


1- Abdeljalil Ben Abdellah, "Société et gestion des ressources dans le haut Atlas central, cas des Ait ougoudid», revue Abhath, n°4, 1994, pp.56-57.
2- عبد السلام أديب، مرجع سابق، ص : 82.

في تفكيك المجتمع المغربي وأشكال تضامناته التقليدية وشردت العائلة وقتلت الآلاف من الأهالي المغاربة تحت ذريعة التهدئة والسلم(1). فكان السلم والتهدئة الكولونياليين «مساهمة فعالة في إيقاف صيرورة التاريخ الاجتماعي الداخلي بتجميد البنيات المحلية، وبإدخال تحول اقتصادي اجتماعي وسلوكي»(2).

ومع تطور نظام ملكية الأرض، وظهور تقسيم العمل ونمو المبادلات التجارية بدأت تتبلور عملية التمايز الاجتماعي. وقد أصبحت هذه العلاقات تحلُّ تدريجياً محل التمايزات القبلية التقليدية القائمة على أساس علاقات القرابة وروابط الدم وأواصر التضامن القبلي. وقد ساهم التغلغل التدريجي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في هذا التحول من غير أن تختفي تماما البنيات التقليدية بل حدثت عملية مزاوجة وتهجين بين الهياكل والتمايزات القبلية التقليدية والعلاقات والتمايزات الرأسمالية الحديثة(3).

وهكذا أخذت عمليات التمايز الاجتماعي تسير في اتجاهات متعددة. فالتغيير الذي أجراه الفرنسيون في شكل الملكية، لم يؤدُّ إلى خراب الفئات الإقطاعية، بل أسهم في تبلورها وصياغة معالمها ورسم حدودها لكي تكون سنداً قوياً للمستوطنين الأجانب. كما ظهرت فئة من المغاربة المكونين من كبار ملاك الأرض الذين لا يقومون بزراعة أراضيهم بأنفسهم . وغالبا ما كانوا يقومون بتأجير أراضيهم للفلاحين أو يستأجرون عمّالاً زراعيين لفلاحتها. وأغلبية هؤلاء الملاك كانوا يقطنون المدن وبهذا لم يكن بينهم وبين قراهم وفلاحيها أية روابط وثيقة أو علاقات شخصية (4). لقد أدت التغييرات الاستعمارية الكبيرة إلى تحول أعداد كبيرة من الفلاحين إلى عمال يتقاضون أجراً، فقد وجدت هذه الفئة من الفلاحين نفسها محرومة الملكية

ص: 350


1- الهادي الهروي القبيلة، الإقطاع والمخزن مقاربة سوسيولوجية للمجتمع المغربي الحديث -1844 -1934، افريقيا الشرق، الدار البيضاء ، 2004، ص: 311-312.
2- Abdelatif Ben chrifa, Culture, Changement Social et Rationalité, in Pratiques et résistances culturelles au Maghreb, Sous la direction de Noureddine Sraib, Ed CNRS,1992, p : 141
3- عبد السلام أديب، مرجع سابق، ص : 85.
4- المرجع نفسه والصفحة نفسها.

وعاجزة عن تطوير مقدَّراتها لامتلاك إنتاجها تدفعها حركة مزدوجة، فعليها من جهة أن تجد عملاً مأجوراً يضمن لها حياتها، وعليها من جهة ثانية، كي لا تفقد كل شيء، أن تحافظ على تضامن تقليدي معين عائلي قروي ورثته من ماضيها. وكان الوصول إلى ظروف العمل المأجور يحصل بعقد فردي شفهي بين العامل وصاحب المزرعة وهذا مما أدى إلى نشوء شكل جديد من تبعية العامل الذي كان قد تحرر من التبعية السابقة للإقطاعيين.

إن هذه الفئة من الأجراء التي نمت ونشأت في ظل السيطرة الاستعمارية قد تضخم حجمها بسرعة كبيرة، وقد حصل هذا التوسع في حجمها بشكل رئيسي على حساب الفئات الاجتماعية الأخرى والتي اضطرها الإفقار المتزايد إلى الالتحاق بسوق العمل، بسبب سياسة الدمج الاقتصادي للسلطات الاستعمارية(1).

ونشير إلى صعوبة التحديد الدقيق لعدد اليد العاملة الزراعية وتوزيعها خلال فترة الهيمنة الاستعمارية، ويزيد في تعقيد هذه المهمة أن الزراعة الأوروبية كانت تعتمد على اليد العاملة المغربية اعتماداً كلياً - وأن الكثرة الساحقة من هذه اليد العاملة موسمية تأتي من المناطق القريبة من مزارع الأوروبيين، أو من أقاليم بعيدة مث-ل س-وس ودرع-ة وتافيلالت والأطلس والريف ودكالة والرحامنة وعبدة وبني حسن، أما العمال الدائمون في مزرعة أوروبية مساحتها 250 هكتاراً فيختلف عددهم باختلاف المناطق والظروف ويتراوح بين أربعة واثني عشر عاملاً في أحسن الأحوال، منهم عامل أو عاملان أوروبيان متخصصان فى تغيير آلات المزرعة والإشراف على عمل العمال المغاربة (2).

وعلى عكس العامل المغربي، كان العامل الأوروبي يتمتع بكثير من الامتيازات منها، عقود عمل مضبوطة، وأجرة مرتفعة، وسكني، ومكافآت تتراوح قيمتها بين ألفين

ص: 351


1- المرجع نفسه، ص:86.
2- أحمد تافسكا، تطور ... مرجع سابق، ص : 89.

وعشرة آلاف فرنك سنوياً بالإضافة إلى امتيازات أخرى منها الاستفادة من خدمات المستوصفات والمدارس لأبنائهم (1) .

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التنظيم النقابي في البادية المغربية قد واجه صعوبات عديدة لعدم استقرار العمال نتيجة للسياسة الاستيطانية والتقاليد الفلاحية وعدم وجود الوعي السياسي والنقابي، وانتشار الأمية، ومحاربة سلطات الاحتلال لأي نوع من النشاط النقابي. أما النضال الطبقي في البادية فقد كان معدوماً أيام الاستعمار الفرنسي لأن التناقض الرئيسي بين الاستعمار والحركة الوطنية قد غطى

كل صراع.

كما تحولت أعداد كبيرة من الفلاحين إلى مزارعين بالمحاصَصَة حيث يحصل المزارع على حصة عينية من المحصول بعمله هو وأفراد أسرته في أرض المالك. وتراوح نظم اقتسام المحصول بين «المرابعة »أي بربع المحصول و «المخامسة أي» بخمس المحصول حسب الترتيبات والأعراف السائدة في الوسط القروي (2).

خاتمة

يتضح من المعطيات السالفة الذكر، أن الاستعمار الفرنسي أحدث تحولات عميقة بالبوادي المغربية تمثلت في تحول أخصب أراضيها إلى مزارع كولونيالية، بعدما قامت إدارة الحماية بنسف المؤسسات والمبادئ التي كان يقوم عليها المجتمع المغربي، والتي كانت تشكل عائقاً أمام احتلال الأرض المغربية، حيث غيرت الوضعية القانونية للأرض بسنِّ ترسانة من التشريعات شكَّّلت السند القانوني للاستحواذ على أراضي المغاربة، وتوزيعها على الكولون الأوروبي، مما أدى إلى حدوث تحولات في شكل البنية العقارية. وحرص الأوروبيون على تطبيق أشكال الاستغلال الرأسمالي في الأراضي المغتصبة، باعتبار الأرض بمثابة رأسمال يدرُّ

ص: 352


1- المرجع نفسه، ص: 90.
2- عبد السلام ،أديب مرجع سابق، ص: 87.

دخلاً أي ينتج فائض قيمة، فركَّزوا على إنتاج مزروعات تسويقية يوجه إنتاجها لتلبية حاجيات الجاليات الأوروبية، ويصدَّر جزء منها إلى الخارج لتلبية متطلبات المتربول، مستفيدين من مساعدة ودعم إدارة الحماية من إقامة للبنيات التحتية، ومن مختلف التسهيلات المالية والتقنية.

أما الفلاحة المغربية المحلية التي كانت تلعب دوراً اجتماعياً واقتصادياً لأكثرية السكان فقد تعرضت خلال فترة الحماية إلى تحولات عميقة، نتجت عما لحقها في علاقتها بالاقتصاد الاستعماري الذي سيطر على أجود أراضي الفلاحين المغاربة بشتى الطرق والوسائل وحصرهم في المناطق القاحلة، فتضاءلت وسائل عيشهم، كما تصدَّعت البنى والعلاقات القبلية على التآزر والتضامن وعلى أساس علاقات القرابة وروابط الدم وأواصر التضامن القبلي، لتحل محلها علاقات الإنتاج المبنية على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والفردانية التمايز الاجتماعي، وهي علاقات اجتماعية لم يألفها المجتمع المغربي بل كانت وليدة التحولات التي رافقت التدخل الاستعماري. وقد دفعت الأوضاع والمتغيرات الجديدة بالعديد ممن نزعت منهم أراضيهم إلى العمل كعمال في ضيعات المعمرين أو الهجرة إلى المدن ليشكِّلوا النواة الأولى «للبروليتاريا».

ص: 353

مقاومة الكوفة للاستعمار البريطاني في ثورة العشرين:(مؤتمر الكوفة نموذجًا)

اشارة

محمد عبدالرحمن عریف(1)

أحاول في هذه الدراسة عرض بعض ما بدأَت به بريطانيا من محاولة لضمِّ العراق لمشروعها في الهند، ودور الكوفة في مقاومة هذا المشروع، متمثلاً في دور ثوار الكوفة ودعمهم لثورة العشرين وتمَّ اختيار (مؤتمر الكوفة نموذجا لهذا الدور).

أحاول كذلك أن أعرِّج على بعض جذور تلك المطامع والمصالح في العراق وأهمية تحققها، وذلك عندما بدأت القيادة العسكرية البريطانية بوضع الخطط العسكرية لاحتلال جنوب العراق عن طريق الخليج العربي، بعد أن شكّلت حكومة الهند لجنة رباعية عام 1911م، جاء في تقريرها في كانون الثاني/يناير 1912م، على ضرورة احتلال العراق من خلال تنشيط القناصل البريطانيين في بغداد والبصرة والموصل على إعداد المعلومات العسكرية والاقتصادية عن الجيش العثماني وتسليحه وتوزيعه، ووضع الخرائط العامة عن العراق ولا سيما التوزيع العشائري.

ص: 354


1- أستاذ في جامعة عين شمس - جمهورية مصر العربية.

قاومت السلطة المحلية العثمانية الاحتلال البريطاني، وأيدها رجال الدين العراقيين في إصدار فتاوى (مقاتلة الكفار) التي اتخذت اشكالاً متباينة في الرد على الاحتلال، إذ هبّ ألاف العراقيين من عرب وأكراد بقيادة رجال الدين في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة لوقف الزحف البريطاني على مدن العراق أبرزها موقعة (الشعيبة) في نيسان/ أبريل 1915م التي تصدَّر المشهد الحربي فيها علماء الدين و مراجع التقليد في الفرات الأوسط فضلاً عن جهود القيادات العشائرية في المناطق الأخرى، ونددت الجرائد العراقية بالاحتلال ودعت المواطنين إلى القتال والتصدي له بكل السبل المتاحة.

الأهداف البريطانية في العراق

لقد كانت خطة بريطانيا في العراق الاكتفاء باحتلال ولاية البصرة فقط، ولكن نجاح قوّاتها في احتلال البصرة جعلها تُغيّر خطتها والتقدم لاحتلال بغداد وفقًا لاعتبارات سياسيّة وجدت فيها تهدئة الحالة في إيران وإبعاد العثمانيين عن التجمع العسكري في العراق الذي سيؤثّر مستقبلاً على المحتلين البريطانيين، فضلاً عن تقوية مركز بريطانيا فى الهند من خلال صعوبة اتصال العثمانيين بأفغانستان وتحريض قبائلها الحدودية مع الهند على الثورة ضدها.

كان واضحًا من السياسة الدولية أن بريطانيا رسمت لوجودها في العراق ما يضمن بقاؤها طويلاً ، فعزمت على تهدئة الحال، ووجدت من الأفضل لها كسب ود الدول المتحالفة معها في منطقة الشرق الأوسط، فأصدرت وفرنسا تصريحًا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1918م، خففت فيه من قيودهما على العرب أيام الحرب العالمية الأولى، وسمحتا بعودة العراقيين إلى بلادهم، وأمَّلتهم على توفير الأمن وفرض النظام والارتقاء ببلادهم خيراً، وتأسيس حكومة وإدارة وطنية تستمد سلطتها من رغبة السكان الوطنيين وإعادة القومية العراقية إلى الحياة، وأن غايتهما في العراق وسوريا (الاعتراف بهذه الأقطار بمجرد تأسيس حكومات تأسيسًا فعليًا. وأن تساعدا على تعميم التعليم والتهذيب وأن تضعا حدّاً للتفرقة التي طالما توخَّاها الأتراك في سياستهم).

ص: 355

ليس احتلال بريطانيا للعراق في أثناء الحرب العالمية الأولى، وليد سياسة آنية أوحى بها إشراك الدولة العثمانية بالحرب، وإنما استجابة لمطامع بريطانية قديمة بأرض العراق، لأهمية موقعه الجغرافي ذي الصلة الوثيقة بين ما يجري في شبه القارة الهندية ومسارها في الخليج العربي، فضلاً عن وجود النفط الباعث الأساسي الآخر لاتجاه بريطانيا نحو العراق، ولضمان نجاح سياستها على أساس الأسواق الجديدة والمواد الخام فيه، وما أن فكرت أنّ سياستها ستصطدم بوابل مقاومة القبائل العربية الخليجية المعارضة لها، حتى أقامت مركزاً تجارياً لها في البصرة وعززت ذلك بنشاط علاقتها بالدولة العثمانية من خلال بعثة (جسني) لمعرفة صلاحية النقل في نهري دجلة والفرات ومسحهما لأغراض الملاحة ظاهراً ولأغراض سياسية عسكرية باطنًا، من خلال بسط نفوذها على العراق تمهيدًا لما يتيسر لها عملها فيه في المستقبل، ساعدتها على ذلك الإرساليات البريطانية الطبية والتبشيرية وفتح دوائر البريد البريطانية في بغداد والبصرة (1).

إن السمة الغالبة على الأفكار والخطط والمشاريع للاحتلال البريطاني في العراق أيًا كانت الجهة التي صدرت عنها الرسمية فيها أو قرارات القادة العسكريين هي تحقيق المصلحة البريطانية قبل كل شيء، فعملت على إصدار القوانين التي تتطلبها الأوضاع المحلية التي تبنتها اللجان العسكرية البريطانية، يجاريها فيما تصبو إليه بعض شيوخ القبائل في المحكومين بأعرافهم العشائرية، ثم رسمت سياستها المستقلة فيما تراه ممكنا على نظام سياسي هيكلي للدولة ككل في أنظمة جزئية ذات وظائف متخصصة كالسلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) مبتغية بذلك تحقيق مآربها الاستعمارية بصورة مماثلة لمحيطها الدولي نظريّا، اختلفت فيه عن الواقع الفعلي، التي اغاضت العراقيين بتلمسهم أن بريطانيا أنكرت وعودها وقراراتها لحماية أمن العراق والالتزام بصون الكرامة واحترام العراقيين، وعملت على إساءة معاملتهم في وطنهم وعظّمت المكانة الاجتماعية لعشائر العراق محاولةً منها

ص: 356


1- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد سياسة الاحتلال البريطاني للعراق في منطقة الفرات الاوسط 1917 1920م ، مجلة كلية التربية الأساسية، جامعة بابل العدد السادس، آزار مارس 2012 ، ص417

لفصلها عن الكيان المدني واستخدامهم كسلاح قوي مع المتغيرات الجديدة، الأمر الذي ولّد جراحات بليغة ومؤلمة على المستويات السياسية والاجتماعية نتج عنها قيام التمردات والثورات (1).

لقد شخصت مظاهر السياسة البريطانية في منطقة الفرات الأوسط خاصة، ما خفي منها في دراسة الوثائق البريطانية السرية وما نشر وقتها في الكتب والصحف المحلية، التي أظهرت واقع العراق السياسي والاجتماعي وما نتج عنها في قيام الثورات والانتفاضات المحلية في معظم مناطق العراق وبالأخص مدن الفرات الأوسط وعشائرها وبتوجيه مباشر من المرجعيات الدينية التي كانت رافضة لسياسة المحتل البريطاني، حتى رضخت حكومة الاحتلال لمطاليب الثوار وأجبرتها على تغيير سياستها في تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1920م ، ورسمت لكل ما سيحدث لها سياسيًا باختيارها وقبولها لميلاد المملكة العراقية في 23 آب 1921م(2).

نمو المصالح البريطانية في العراق

برز أهمية موقع العراق في نظر السياسة البريطانية مع ازدياد أهمية منطقة الخليج العربي دوليًا وتصاعد الصراعات السياسية والاقتصادية العالمية فيها، ولا سيما أن بريطانيا توسعت تجارتها في منتصف القرن التاسع عشر، وأصبح بوسع المقيم البريطاني في العراق أن يحقق مساعي دولته وطموحاتها بكلمة منه إلى الحكام العثمانيين في اسطنبول، والتي لم يفتأ بعض من زعماء العشائر العراقية أن يطلب الحماية أو العون من المقيم في التأثير بالولاة العثمانيين أحيانًا(3).

رسمت بريطانيا طريقاً برياً بامتداد نهري دجلة والفرات وسيرت باخرتين فيهما، المعرفة صلاحية النهرين للملاحة، بعد أن تخلت عن مشروع (بالمرستون) في مد

ص: 357


1- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص417.
2- المرجع السابق، ص 418.
3- ستيفن همسلي لونكريك اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة جعفر الخياط، مطبعة الاديب، ط6، بغداد، 1985م، ص 307.

خط حديدي عبر وادي الرافدين عام 1857م(1) ، وقد شجع ذلك الألمان في وضع خطة لإقامة سكة حديد ترمي الوصول بها إلى بغداد والخليج العربي ثم إيجاد قاعدة بحرية على الخليج، فضلا عن تغلغلها في الدولة العثمانية باعتقادها أن العراق رأس جسر سهل المنال لاقتحام الهند، لذلك أصبحت سياسة الألمان تشكل خطراً على المصالح البريطانية في الهند، الأمر الذي حفّز بريطانيا على سرعة الاندفاع العسكري نحو الشرق الأوسط والعمل على توطيد العلاقات الجيدة مع دول الخليج العربي وعقد المعاهدات، وقد وجدت هذه الدول فيها صيانة لمركزها ضد السلطان العثماني والشاه الإيراني على حد سواء(2)، فضلاً عن بعث بريطانيا إلى العراق دوائر مخابراتها العسكرية والسياسية عملاء بصفة سائحين ومبشرين وآثاريين لتحصل على معلومات أدق عن العراق من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وشيئاً فشيئاً حصل البريطانيون على النفوذ التام في العراق وهابهم الولاة العثمانيون وأصبحوا ذوي سطوة عالية، وفي الأكثر أداروا وكالات قنصليات الدول الأخرى في العراق، ولهم ثلاث قنصليات واحدة في البصرة وأخرى في بغداد وثالثة في الموصل، يديرها وكيل سياسي ثم مقيم، وكانت وظيفتا القنصل والمنقب الأثري تتحدان في شخص واحد، وكان تحت تصرف القنصل باخرة تلازمه في أعماله على الدوام (3).

تمتع الوكلاء البريطانيون بحريَّة التنقل في العراق، وحصلوا على امتيازات كثيرة في الملاحة النهرية ودوائر البريد الهندية، وأصبحت منزلتهم نافذة ومحترمة في الأوساط السياسية والاجتماعية العراقية، واستفاد منهم بعض شيوخ العشائر والتجار، وبذلك حصلت بريطانيا على القسط الأوفر في التجارة بين الشعوب الأوروبية في العراق(4) .

وقد رسخت بريطانيا دوافعها وغاياتها السياسية في العراق بواسطة التستر بإقامة

ص: 358


1- هنري فوستر، نشأة العراق الحديث، الجزء الأول، ترجمة سليم طه التكريتي، مطبعة الفجر، بغداد1989-م، ص 58.
2- المصدر نفسه، ص 68.
3- ستيفن همسلي لونكريك، المصدر السابق، ص 335.
4- Langley K,M, The Industrialization of Iraq,Caambridge,1961,P,24.

المشاريع الاقتصادية وطرح شعارات المصلحة العامة ومنفعة العراق بإطلاق عناوين التمجيد للعراقيين وخدمة الإنسانية، ومحاولات إعادة تذكير العراقيين بماضي بلادهم المجيد وتراث إمبراطورية العرب المسلمين فيها، وتبرير ما قد تقتضيه المشاريع التي سيحققونها من نفقات تضهد خزينة الدولة لإتمام ضبط فيضان نهري دجلة والفرات وإنشاء السدود لمصالح الزراعة، وتنفيذ المشاريع العمرانية والصناعية، التي من شأنها تنمية الرغبة البريطانية في وضع قدمها في العراق، وعلى ذلك سعی البريطانيون إلى أقامة صداقات حميمة وكثيرة مع العراقيين(1).

سعت بريطانيا بواسطة شركاتها (لنج والشركة العثمانية للملاحة النهرية) (2)التدخل بدبلوماسية عالية في أوساط الحكومة العثمانية للحصول على امتيازات اقتصادية كبيرة في ولاياتها ولاسيما في العراق منافسين في ذلك الدبلوماسية الألمانية الناجحة في العلاقات التجارية والاقتصادية مع العثمانيين، وبحنكة الوكيل البريطاني (كلوديوس ريج) دخل العراق حظيرة النفوذ البريطاني، وتمكن من السيطرة على الجهاز الحكومي وأن يكون مهيباً وفي موقع الصدارة والكلمة النافذة في بغداد، وقد سارت العلاقات البريطانية - العراقية من بعده بالشكل الذي حقق المصالح البريطانية في العراق (3)، وكادت الشركات البريطانية أن تحصل على استغلال المناطق النفطية في الدولة العثمانية، إلا أن إصدار السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1909م) فرماناً يقضي بنقل ملكية الأراضي النفطية في العراق من الخزينة الخاصة إلى أملاك الدولة خيب آمال البريطانيين في عقد ذلك الاتفاق(4).

أسباب ومقدمات ثورة العشرين في العراق

وفي وسط تلك التحديات الكبرى تجسد موقف العراقيين الرافض للاحتلال

ص: 359


1- زكي صالح، منشأ النفوذ البريطاني في بلاد مابين النهرين، بغداد1949-م، ص 142.
2- علاء موسى كاظم الدبلوماسية البريطانية في العراق 1808-1823م، مجلة افاق عربية عدد 12 آب 1980م، ص ص 107-108
3- المصدر نفسه.
4- عبد الفتاح ابراهيم على طريق الهند دار الشؤون الثقافية، ط2، بغداد 2004 م ، ص 178

ونظامه الجديد في محاولته تطبيق أسس سياسته في الهند إلى مواقف ثورية وشديدة فقد التزم الأهالي بفتاوى رجال الدين في البلاد الذي رسَّخت في أذهانهم على أن من يعمل مع البريطانيين يعدّ كافرًا، وصاروا يلعنوهم في الشوارع والمقاهي، وكثيراً ما تحول موقف الناس إلى مجابهة مسلحة منتظمة، ففي مدينة النجف الأشرف قادت (جمعية النهضة الإسلامية) السرية الثورة الشعبية ضد الاحتلال والتي كانت لها وقعًا كبيراً على العشائر في تهيأة وتنظيم القتال في المنطقة(1).

تفجرت انتفاضات شعبية ضد البريطانيين في المناطق الكردية كلفتهم خسائر كبيرة ولا سيما في السليمانية، التي سرعان ما أفصحت بريطانيا بعد أن لمست خطورتها على أمن المنطقة وعرقلة سياستهم فيها عن سياستها الجديدة في المنطقة من خلال إخبار الأكراد مضامين كتاب وكيل الحاكم الملكي العام الذي نصَّ على ما يأتي: (خولتني حكومة صاحب الجلالة أن أطمئنكم شخصيًا بأنها لا تنوي انتهاج سياسة انتقامية نحو الأكراد عن الأعمال التي ارتكبت خلال الحرب، لكنها مستعدة لمنح العفو العام عن الجميع... وترغب حكومة صاحب الجلالة أن أطمئنكم بأن المصالح الكردية سوف لا يغض النظر عنها في مؤتمر الصلح) (2)، والتي لم تضمن للأكراد فيما بعد الوفاء بوعدها وتنفيذ مقرراتها، وسايرت سياسة تركيا في مخططاتها تجاههم في سياسة الصهر العنصري والقمع الدموي، وفي كربلاء المقدسة وبابل وبغداد وغيرها من المدن عقدت الاجتماعات والندوات والتي كان لرجال الدين فيها قصب السبق في قيادتها إذ طالبوا بتشكيل حكومة عراقية مستقلة وإنهاء الاحتلال ، ورداً على تلك التحديات ألقت القوات البريطانية القبض على بعض رجالاتها ونفتهم إلى جزيرة هنجام (3).

ترك الاحتلال البريطاني بصماته على المجتمع العراقي من الأوجه جميعًا، على أساس (فرق تسد) القائمة على تعزيز ربطه بأسواقها الخاصة والأسواق الرأسمالية عامة، من خلال الاعتماد المباشر في أقل عدد ممكن من رؤساء ومتنفذي العشائر

ص: 360


1- عبد الرزاق الحسني، ثورة ،النجف، مطبعة العرفان ط5 ، صيدا ، 1983م، ص ص 30-41
2- المس بيل المصدر السابق، ص ص 213-214.
3- محمد حسين الزبيدي، العراقيون المنفيون إلى جزيرة هنجام دار ،الحرية، ط2، بغداد، 1989م، ص44.

العراقية، وأقاموا علاقات معهم منذ الاحتلال في تركيز القوة الاقتصادية (الأرض) والسلطة (الإدارية) بأيدي الشيوخ (1).

رأى العراقيون في الاحتلال البريطاني الغلاء غير المعهود، إذ ارتفع سعر خبزه اليومي خلال سنوات قليلة بمقدار 1.5 2.5 مرة والشاي بمقدار ثلاث مرات والسكر بمقدار خمس مرات، وكثيراً ما أصبحت هذه المواد توزع بالبطاقات (2).

إزاء ذلك قامت السياسة البريطانية على ستر سياستها في إشغال مسؤوليها العاملين في العراق ممن يفتقرون إلى الخبرة الإدارية والحنكة السياسية والجهل بطبيعة المجتمع العراقي في أن العراقيين غير قادرين على الإدارة بنفسهم، وصار الموظفون الأجانب الجدد صارمين في تطبيق الأنظمة والقوانين لا يراعون فيها أحدًا، وكثيراً ما كانوا يعاملون الناس بعدم الاحترام على النحو الذي اعتادوا عليه في الهند بغض النظر عن الفرق بين شخصية ونفسية العراقي والهندي(3)، وتحفظت السلطة البريطانية على عودة الضباط العراقيين من سوريا وتركيا الذين كانوا يؤلفون نخبة المثقفين العراقيين آنذاك، قد جعلها هذا الأمر في مأزق سياسي واجتماعي عندما عزمت على ترشيح الأمير (فيصل) ملكًا على العراق والقبول بشروطه في إدارة الدولة الجديدة(4)، عززه الترحيب الشعبي الكبير بالأمير (فيصل) في معظم مدن العراق.

قلد الحكام البريطانيون أناسًا عوامًا ومنبوذين في المجتمع بعض المناصب الإدارية، وفي أمور الشرطة ألبستهم سراويل قصيرة لم يألفها العراقيون من قبل، وأقامتهم في الشوارع والأزقة، وفرضت على المارة أن يسيروا في الجهة اليسرى من

ص: 361


1- كانت وسيلة مؤثرة على المجتمع في إطاعتهم لرئيسهم الذي وجدوا فيه ضمان حل مشاكلهم والتقرب به من سلطة الاحتلال عند المراجعات الرسمية وضح ذلك في تقرير الحاكم السياسي البريطاني في العمارة قوله (لقد ساعدنا أيام الحرب إبقاؤنا على شيخ واحد في مقاطعات كبيرة ... إن المهمات الآتية جعلت من الضروري والعملي إسناد الشيوخ الكبار. انظر ، محمد سلمان حسن طلائع الثورة العراقية العامل الاقتصادي، الثورة العراقية الأولى، مطبعة النعمان ،ط2 ،بغداد 1958م، صص 17-18.
2- علي آل بازركان الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية، مطبعة الاديب، بغداد- 1954م، ص15.
3- عبد العزيز القصاب من ذكرياتي بيروت 1962م، ص ص 198-199
4- وميض جمال عمر نظمي ثورة 1920م، بيروت 1985 ص173.

الشارع، ومن خالف تلك الأوامر وسلك الجهة اليمنى سهوًا كان يتعرض للإهانة أو يضرب بالسوط يلفحه جنود الانضباط العسكري (1)، الأمر الذي أزعج الفئات الاجتماعية وولّد عندها الاستياء والكره في التعامل أو إنجاز متطلبات الإدارة الناجحة، فضلاً عن سماع الحكام البريطانيين شكاوى الفلاحين من دون الأخذ ببراهين الملاكين، مما أدى إلى التقليل من مكانتهم في المجتمع وأصبحت طبقتهم مستاءة من الحكومة، فانضموا إلى التجمعات والتنظيمات السياسية والسرية ذات الأهمية بين الفئات الاجتماعية والدينية المشتركة (2).

لقد سار الحكام البريطانيون على أسلوب هدر كرامات الناس من خلال الضرب والإهانة والزجر وعلى طريقة ما نقلته قصص ألف ليلة وليلة في خروج الملوك ، فيقدم الشرطي أو العسكري بيده عصا وبخطوات سريعة يصرخ بأعلى صوته (قوموا... قوموا على الجالسين في المقاهي والراجلين في الشوارع ليُحيُّوا الضابط البريطاني المار في ديرتهم، والذي يقوم بدوره بتحية الواقفين بابتسامة ساخرة واستخفاف مقيت، ومن لم ينتبه له لانشغاله بحديث مع زميله أو بابتياع حاجة انهالت عليه السياط (3)، وكمثال على ذلك ولد سلوك حاكم النجف الأشرف الكابتن (كرين هاوس Greenhouse S.F) القسوة والألم والإهانة على مجتمع المدينة من خلال إساءته عند السير في الشارع وهو يدفع أمامه من يستعمل السوط ليضرب به الناس لفسح الطريق أمامه (4).

كما أجبرت شرطة الإدارة البريطانية شيوخ القبائل من العراقيين على النزول من ظهور خيولهم عند دخول المدينة من مسافات بعيدة فضلا عن إصدارهم الأوامر المهينة والمخجلة بإبقائهم واقفين مدة طويلة تحت الشمس الحارقة وإجبارهم

ص: 362


1- على الوردي، الجزء الخامس المصدر السابق، ص 23
2- وبذلك احدث الاحتلال طبقات اجتماعية اصبح فيها المحترم ذليلاً والذليل ،محترم، وسيء احترام الاشراف وذوي النسب الرفيع، الذي كان بارزاً في العهد العثماني. انظر، ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث، الجزء الأول، ص 193.
3- طالب مشتاق اوراق ايامي الجزء الأول دار واسط للدراسات والنشر ، بغداد - 1989م ، ص 90
4- جعفر محبوبة، ماضي النجف وحاضرها الجزء الاول ب ط ، صيدا - 1353ه-، ص249.

بالعمل على جمع فضلات الخيل وإفرازاتها (الروث) إمعانا منهم بالتنكيل والإهانة(1)، ومن كان منهم يخالف نظام السير في شوارع المدينة وفي الجسر بركوب الحيوانات (الحمير، الخيل والإبل) كان يعاقب بالضرب المبرح بعصا غليظة)(2)، ففي مدينة الديوانية وهي مدينة عشائرية أمر (الميجر ديلي) أن يترجل الخيَّال عن ظهر حصانه قبل وصوله إلى البلدة بخمسمائة متر ويخلع عقاله ويسير مشيّا على الأقدام (3).

أما محاكمهم فكانت شاذة ومنافية لأبسط قواعد العدل فيخبر الحاكم السياسي في الديوانية المتنازعين أنه سيرمي العملة النقدية المعدنية على الأرض، فإن كانت صورة (طره) فسيحكم لصالح فلان وإن كانت كتابة (كتبة) فسيحكم لخصمه (4)، وانطوت تلك الأعمال على الاستخفاف بعقول الناس وإذلالهم إذ كانت تلك المحاكمات أشد وطأة من سلوك الولاة العثمانيين.

اتخذت حكومة الاحتلال اجراءات صارمة ضد (الأشقياء) وحملة السلاح، فقد حكمت على من يلقى القبض عليه ليلاً وهو حامل سلاحه بالإعدام، وشاهد المواطنون صباح كل يوم جثثًا معلقة على المشانق ، فولدت تلك السياسة ذعرًا بين الناس وعزموا على التخلص من اسلحتهم برميها في الأنهر والأبار أو بدفنها تحت الأرض، وشاع بين الناس أن المحتلين جلبوا معهم القطط القادرة على كشف السلاح المخبوء في البيوت عن طريق الشم(5).

ركزت السياسة البريطانية على تقويض مقومات الإقطاع وترسيخ دعائمه وتنظيم أسسه قانونيًا من أجل تكوين قاعدة اجتماعية مضمونة يمكن الاعتماد والركون إليها في الحكم، وبذلك عملت على إصدار (قانون دعاوى العشائر المدنية والجزائية) المستمد من النظام الهندي من خلال الاعتماد على أقل عدد من أبرز متنفذي الريف

ص: 363


1- عبود الهيمص ذكريات وخواطر عن احداث عراقية في الماضي القريب، مطبعة الراية بغداد 1991م ، ص 43.
2- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص401.
3- المصدر نفسه، الجزء الخامس، ص 32.
4- عبود الهيمص، المصدر السابق، ص 42.
5- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص 401.

وذلك من خلال تركيز السلطة السياسية والإدارية في أيدي الشيوخ(1) من المتعاونين مع سلطات الاحتلال، وبموجب ذلك القانون فصل المجتمع العشائري قانونًا عن المحاكم المدنية، حيث سمحوا بالعمل بالفصل في أمور العدالة بين رجال العشائر، واحتوى القانون على مواد عقابية لم يألفها الناس حتى قبل الإسلام، فقد عرضت المنازعات على محاكم عشائرية لتحقيق الرضا من خلال دفع دية الدم إلى أهل القتيل أو فصل الاعتداءات بمبالغ يحددها المجلس العشائري وبحضور الضابط السياسي البريطاني ليكون لحكومة الاحتلال نصيب ايرادي من المبلغ المدفوع باعتباره تأكيد المسؤولية الجماعية لسلوك الفرد، لإذلال الشعب العراقي وتمزيق وحدته الاجتماعية وحتى الدينية (2).

ونتيجة للموقف المقاوم لمنطقة الفرات الأوسط للسياسة البريطانية سار الاحتلال تلك المنطقة بسياسة خاصة تمثلت باختيار بعض الشيوخ الموالين لها دون مراعاة للقواعد المتعارف عليها في وراثة المشيخة، من أن الرئاسة العامة في العشيرة الكبيرة تنحصر حسب العرف العشائري في سلالة الرئيس الأكبر دون أخوته أو ابنائه لكن الإنكليز اختاروا لرئاسة العشيرة ممن أبدى لها الصداقة والولاء أو كانت له صلة سابقة بهم في العهد العثماني بغض النظر عن مقامه الحقيقي في عشيرته (3)وكان لتلك السياسة أثر كبير في اندلاع ثورة العشرين وبروز بعض المواقف المؤيدة للمحتل البريطاني فيما شكلت المعارضه الغالبية العظمى لتلك السياسة الهوجاء، وإمعاناً بإذلال الشيوخ وإضعاف مكانتهم، سمحت حكومة الاحتلال بقبول شكاوى الفلاحين ضد شيوخهم وان كانت ملفقه وغير صحيحة والنظر فيها، حتى أصبحت طبقة الملاكين والشيوخ من أكبر المعارضين والمستائين من سياسة الحكومة البريطانية(4).

ص: 364


1- للمزيد من المعلومات عن القانون ينظر: نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية، المصدر السابق.
2- هنري فوستر نشأة العراق الحديث، الجزء الأول، ترجمة سليم طه التكريتي، مطبعة الفجر بغداد 1989م، ص ص .340-339
3- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص 28؛ انظر وثيقة عزل وتنصيب الشيوخ في الملحق.
4- فلاح محمود خضر، عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص442.

مارست حكومة الاحتلال أساليب أخرى منها سياسة التحبب إلى السكان وأظهرت تلك السياسة في مدينة بغداد بصورة خاصة في محاولة لدحض الدعاية العثمانية ضدهم، فصاروا يظهرون الاحترام للمساجد والمراقد المقدسة وسمحوا بإقامة الشعائر الدينية المختلفة وزاروا رجال الدين في بيوتهم لكسب ودِّهم معلنين حبهم للإسلام وخدمتهم ،لرجاله ولعل هذه السياسة أتت أكلها من خلال التقرب من رجال الدين من الطائفة السنية إذ أغروا علماءها بقبول الوظائف والاهتمام بدوائر الأوقاف وأغدقوا عليهم الأموال، وفي المقابل اهتموا بالطبقة الشعبية من الطائفة الشيعية فراعوا مواكبها وطقوسها الحسينية التي تقام في شهر المحرم وقدّموا لهم ما تحتاجه تلك المواكب من مظاهر الحماية والمواد النادرة كصفائح النفط ونسيج الأكفان (1)، وبالمقابل نكلت بقياداتهم الدينية التي وقفت أمام تطلعاتهم في السيطرة على مقدرات البلاد من خلال الفتاوى التي نبهت الأهالي إلى خطورة السياسات الاستعمارية على مستقبل العراق وأهله إن هذه السياسة التي اتبعتها القوات المحتلة أججت من خلالها الطائفية المقيتة بين أبناء البلد الواحد في سعي من سلطة الاحتلال لتمزيق وحدة المجتمع العراقي وممارسة سياسة التنكيل بقياداته الدينية من خلال كيل الاتهامات السياسية لهم أو اعتبارهم من المحرضين على إثارة الفتن وتهويل تلك الأمور في أيام المناسبات الدينية المختلفة (2)ليكون تأثيرها ووقعها أكبر في النفوس من أجل بث الفرقة بين مكونات أبناء الشعب العراقي.

لقد أشاع المحتل البريطاني النعرات الدينية والمذهبية بأسلوب مقيت في أكثر مدن العراق، حيث أشار التقرير الإداري البريطاني لشهر تشرين الأول 1918م أن الإدارة البريطانية تعتزم تعيين قاضٍ سني في مدينة النجف الأشرف، فضلاً عن إصدار تعليمات على العمال العاملين عندها بإجبارهم ارتداء ثيابِ موحدة بحسب انتمائهم القومي والطائفي، فالعمال السنة يرتدون كوفية حمراء وعقال أسود ويرتدي إخوانهم من الشيعة كوفية زرقاء وعقال أبيض ، وربط فئة المسيحيين الدينية بوشائج

ص: 365


1- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص 398
2- فلاح محمود خضر، عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص443.

قوية مستغلين بذلك ما خلفته مظاهر السياسة العثمانية في المجتمع(1)، لتمزيق لحمة الشعب العراقي وإضعافه من خلال تلك السياسة والواضح أن سياستها في إظهار الطائفية سيعود عليها بالنفع السياسي الذي ستجده في تعلق المسيحيين واليهود بحكمها، فضلاً عن تهيئة ورقة رابحة لديها عن طريق بث كوامن الفرقة والحقد أبناء المذاهب الإسلامية أحدها تجاه الآخر، وأصبحت هذه السياسة ورقة رابحة تبرزها متى جاءت الحاجة إليها للضغط على المذهبين بوسائل تصطنعها، وكان أبرز أعمالها لإثارة أبناء الطائفة الشيعية استحواذ السلطات البريطانية على أوقاف الشيعة والإشراف عليها بشكل مباشر (2).

أججت السلطة البريطانية المشاعر العربية للمواطنين في زرع النزاعات القومية والدينية والقبلية وعمدت إلى إهانة السكان من كبار السن والأطفال من العرب والأكراد على حد سواء ولم يتورع ضباطها في الكف عن ذلك، وحطّم جنودها تراثهم الآثاري والحضاري في بعض المدن العراقية القديمة(3)، وعزمت في شمال العراق على كسب الاثوريين الهاربين من زعمائهم في مدينة عقرة وأسكنتهم قرب مدينة بعقوبة والقسم الآخر حلُّوا في بعض المناطق الكردية من أراضي الفلاحين الأكراد التي طردتهم منها، وتعدّ هذه القضية من أوائل قضايا التغيير (الديمغرافي) العرقي والقومي للسكان، الأمر الذي زاد في حدة النزاع بين الأكراد والاثوريين، كما استخدم الجيش البريطاني فوجين من الاثوريين المدربين في بعقوبة لإخضاع مناطق (العمادية والكويان وبرواري السفلى والعليا) (4)، وركزت السلطة البريطانية على زرع الشّقاق بين القوميات والقبائل والأديان المختلفة، عندما دمجت منطقة الأيزيدين بمنطقة جبل سنجار إداريا (5)، لتدب النزاع المستحكم بينهما، مبتغية بذلك استمرار

ص: 366


1- كمال مظهر احمد الطبقة العاملة الكردية، التكوين وبداية التحرك، مطبعة دار الكتب بيروت 1981م، ص ص 44-45.
2- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص443.
3- محمد طاهر العمري الموصلي، الجزء الثالث المصدر السابق، ص 104.
4- المس بيل فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة: جعفر الخياط دار الكتب ط2، بيروت، 1971م، ص 220.
5- ل. ن كوتلوف ، ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق، ترجمة عبد الواحد كرم، دار الحرية، بغداد 1971م، ص 128 .

أعمال العنف والقتال بين المنطقتين وإبعادهما عن مقاتلتها ثم تثبيت سياستها عليهما باسم الحفاظ على أمن المنطقتين (1).

عزمت السلطة البريطانية على تمزيق أواصر العلاقات الاجتماعية العشائرية فيما بین أبناء العشائر مما أدى إلى أن يدبّ بينهم وبين البعض الآخر الحزازات والأحقاد، الأمر الذي وصل في نهاية المطاف إلى حد الاقتتال بين تلك العشائر، فقد أقدمت قبيلة عنزة برئيسها (فهد بن هذال) الموالي لبريطانيا هجومها على مضارب عشيرة (عطية أبو كلل) قرب السماوة المتهم بقتل القائد البريطاني (مارشال) في النجف الأشرف، الأمر الذي أجبره على تسليم نفسه للسلطات البريطانية قبل نهاية نيسان عام 1918م (2) ، ولم تفلح السلطة البريطانية في تمزيق شمل عائلة (آل كمونة) المتنفذة في كربلاء المقدسة وتأجيج خلافاتها مع أسرة (آل العواد)، فضلا عن اعتقال كبيرها فخري كمونة) من لدن السير (بيرسي كوكس) الحاكم الملكي العام وتهديد شقيقه (محمد علي) بالإقامة في بغداد ليبقى تحت أنظار السلطة البريطانية، والتي انتهت سيادتهما ومكانتهما في كربلاء المقدسة بنفيهما إلى الهند عام 1917م(3).

صادرت قوات الاحتلال مطبعة الولاية عند دخولها مدينة البصرة ورأت أن تستخدمها في طبع نشراتها وبياناتها لإطلاع السكان على سیر المعارك في العراق ولتستعين بها على توطيد سلطان سیاستها ومتطلباتها وللحيلولة دون استخدامها من الآخرين ضدهم(4)، وكانت تلك النشرات تقرأ بصوت عال على تجمع حشود الناس في المقاهي، لتؤثر أخبارها في حمل الناس على التأثر بالدعاية المؤيدة للبريطانيين)(5).

ومنعت السلطة المحتلة العراقيين من إصدار الجرائد الوطنية والسياسية، حيث

ص: 367


1- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص444.
2- المس بيل المصدر السابق، ص 126
3- المصدر نفسه، صص-116-115.
4- المس بيل، المصدر السابق، ص 61.
5- هنري فوستر الجزء الثاني المصدر السابق، ص ص 342-343

سمحت فقط بصدور الجرائد الرسمية التابعة للسلطة (جريدة الموصل ونجمة الكركوكية التي تصدر نصفها باللغة التركية والنصف الآخر بالعربية، وجريدتا العرب البغدادية والأوقات البصرية وإلى جانبها صدرت جريدة بصرة تايمز باللغة الإنكليزية) وأصدرت مجلة واحدة بعنوان (اللسان الأدبية) (1)، وكانت كتابات تلك الصحف والمجلات وسيلة دعائية للمحتلين، إذ كانت السلطة المحتلة تدفع لتلك الجرائد أجوراً عالية لمن ينشر مقالاً أو قصيدة يمجد فيها الاحتلال ويعظم قادته، وبذلك أخذت القصائد (العصماء) أو المقالات (الرنانة) تنهال على تلك الجرائد وهي تلهج بمدح سلطة الاحتلال البريطاني وذم الأتراك، وحملت المقالات أسماء بتواقيع مستعارة، فصحيفة العرب وصفت العرب بأهل الحضارة والعلم والشهامة والوفاء، و(الأتراك أهل عبث وجهل وفساد وقد عُرفوا بنكث الوعود)(2) ونعتتهم الجريدة بكلمات مقيته ومشينه في أنهم ما جاؤوا (الأتراك - أي وربك - فاتحين، بل مخربين عائثين) (3)وربطت الجريدة بين سياسة التتريك والتجنيد من أن (غرض الاتحاديين في تجنيد الناس بعد تتريكهم كان لغرض أن يحولوا دون تعلمهم علوم الدين وأداء ،فرائضه ولكي يهجروا المساجد والجوامع (4)، وعلى العكس من ذلك مجدت الجريدة بالاحتلال البريطاني وصورته بأنه كان (بدافع سامٍ محض حينما أقدمت على خوض الحرب في العراق فقُيّض لها النصر، ودخلت جيوشها الباسلة بغداد، مصافحة العرب، مصافحة الحبيب لحبيبته) (5)، لقد ولّدت تلك السياسة مجموعة منافقة ومتقلبة في نظر المواطنين العراقيين، قالت عنهم المس بيل إنّ (الكلمات عند الشرقيين هي مجرد ألفاظ لاتعني شيئا فقد يقولون اليوم شيئا وينقضونه غدا،وهم لايتركون هذه العادة أبدًا) (6)، وبالمقابل عملت سلطة الاحتلال على كبح حرية الكلام والاجتماعات وراقبت السياسيين والنخب المثقفة من خلال جواسيسها، وحددت

ص: 368


1- عبد الله الفياض، الثورة العراقية الكبرى سنة 1920م ، مطبعة ،الارشاد بغداد 1963- م، ص ص 158-159.
2- جريدة العرب في 1918/2/28م.
3- المصدر نفسه في 1917/7/17م.
4- المصدر نفسه في 1917/12/28م.
5- المصدر نفسه في 1917/7/31م.
6- Elizebeth Burgoyne (Certrude Bell) -London 1921- vol. 2,p. 57-58.

مضامين المناهج الدراسية العامة، لتحقيق ما يضمن سياستها وأهدافها في العراق، باعتقادها بأنها الوسيلة الوحيدة لنهضة البلاد الثقافية والاجتماعية مستقبلاً (1).

كما أفشت بريطانيا في العراق تعاطي المخدرات وسمحت علنًا من غير وازع أخلاقي، إذ أمرت أنظمتها على إصدار تعليمات خاصة في زراعة (الخشخاش) الذي يدخل في إنتاج (الأفيون)، وسمحت باستيراده وخصصت رسوم جمركية يدفعها المستورد ومنحت إجازات للبيع العام لتسهيل توصيله إلى جميع أنحاء العراق (2)، ساعية من خلال ذلك إلى تحقيق نتائج اجتماعية سلبية تؤثر على الروابط الاجتماعية، وإضفاء حالة الانتشاء منه بتخدير عقول الشعب وخموله مؤديًا إلى إبعاده عن معتقداته وإيمانه بدينه، وسلوك هاوية الرذيلة والموبقات التي تبعده عن المطالبة بحقوقه وتضعه في الشرك المذموم اجتماعيًا ودينيًا (3).

كانت محصلة سياسة الاحتلال البريطاني تعزيز التناقضات والمشكلات الاجتماعية، التي أدت إلى أن يرزح العراق تحت كابوس أشد وطأة وأكثر خبثًا وتنوعاً عما كان عليه في العهد العثماني، وربطته بأسواقها خاصة والأسواق الرأسمالية عامة، وأصبح الاحتلال في نظر العراقيين واقعا مرفوضا إلى درجة أنهم لم يتأثروا بإجراءاته الإيجابية مقارنة بما سرى عليهم في العهد العثماني، فكان صورة قاتمة للمحتل الذي فرض إرادته بحكم مركزي قوي أفضى بتحقيق أهدافه الاستعمارية(4).

على الرغم من ورود تلك المساوئ في سياسة الاحتلال البريطاني إلا أن هذا الدور لم يخل من محاسن في تهيئة بعض العراقيين للاتصال بالمدنية الغربية اتصالا مباشرا والتأثر فيهما حسبما تقتضيه الأحوال الاجتماعية والفكرية لهم، فقدمت الحكومة البريطانية نموذجاً لحكومة حديثة أكثر حداثة من حكومة العثمانيين في نشر النظام وإطاعة القانون ومعالجة مشاكل البلاد وتوضيح فكرة الحكومة الجديدة

ص: 369


1- فلاح محمود خضر، عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص445.
2- المس بيل المصدر السابق، ص 267
3- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص446.
4- نفس المرجع والصفحة.

وهيأت الظروف الملائمة لقيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921م ، التي أدت إلى حدوث تبدلات جوهرية في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية(1).

ففي مجال مكافحة مرض الكوليرا الذي ظهرت أعراضه في العراق، صدرت أوامر مشددة بفرض التطعيم الإجباري على معظم السكان، ونقل كل مريض مشتبه به إلى مستشفى العزل، وصاحب تلك الإجراءات إجراء بمنع السفر إلا لمن يحمل وثيقة تطعيم ضد المرض(2)، وإن كانت بادرة حسنة وصحية إلا أن الناس ضجرت هذه الإجراءات وتهربوا من رجال التطعيم، وانتشرت وثائق تطعيم مزورة تباع من خفية عن أنظار الحكومة للمسافرين، فضلا عن كتمان أمر المصابين بالمرض عن الحكومة كي لا تنقله إلى مستشفى العزل لاعتقادهم أن هناك من يقتل مرضاهم(3).

وصف التقرير الرسمي البريطاني حالة بغداد الاقتصادية بالآتي: (الصعوبات ناشئة عن قلة وسائل النقل، ولم تتوفر وسائل النقل لتصدير الجلود والصوف والمواد الخام الأخرى التي تجمعت في بغداد قبل احتلالنا، والتي نحن في حاجة ماسة لها في الوطن ويصدق ذلك على التمور أيضاً... وعلى هذا فقد تأثر الوضع المالي في ولاية بغداد في صورة عكسية ولكنه ما لبث أن تحسن)(4)، ومدت الإدارة البريطانية فی وقت قصير جداً عام 1918م خطوطاً حديدية بين بغداد والحلة مع خط فرعي من الحلة إلى الكفل وآخر من الناصرية إلى السماوة، فضلاً عن تحسين الطرق الصالحة لحيوانات الحمل فقط لتمكين المركبات من استعمالها(5)، والتي سهلت عملية جباية الضرائب في لواء الحلة، كما بادرت الإدارة البريطانية إلى إلغاء بعض الضرائب مثل ضريبة الأشغال العامة وضريبة التعليم وغيرها من الضرائب الإضافية، لاعتقادها أن الاستمرار في استحصالها سيؤدي إلى استياء تام، وهو ما حصل في أوساط العشائريين في الديوانية، واشتكى عشائر عفك عام 1919م من تزايد المقادير

ص: 370


1- نفس المرجع والصفحة.
2- علي الوردي الجزء الرابع المصدر السابق، ص 400.
3- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص446.
4- -Reports of The Baghdad Wilayat. 1917. P,3.
5- غسان العطية العراق نشأة الدولة، ترجمة عطا عبد الوهاب دار اللام، لندن 1988م، ص .334

المحصلة وتقاوم الدفع سلماً(1)، والذي يدل على مدى الاهتمام الواضح من جانب سلطات الاحتلال بالجانب التجاري والاقتصادي دون الاهتمامات الأخرى لما توفره لهم تلك العملية من أرباح مالية كبيرة وإنعاش للسوق العراقية بعد أن حلت به الأزمة الاقتصادية عند دخول جيوش الاحتلال البريطاني لأراضيه (2).

كان (بيرسي كوكس Persy Kocks) أول من شغل منصب المندوب السامي البريطاني في العراق، ومنحت له السلطات التشريعية والتنفيذية، ثم خلفه المقدم (ويلسون) عام 1917م، الذي عيّن موظفين بريطانيين و هنود لإدارة الوحدات الحكومية، ورفعت منزلة رئيس الحكام السياسيين إلى حاكم ملكي عام له صلاحيات المخابرة مباشرة مع الحكومة البريطانية ترسل تقاريره إلى وزير الدولة لشؤون الهند معتمدين في سلطتهم على القوات المسلحة والشرطة ومجموعة من العملاء

السريين (3).

وجدت بريطانيا في توحيد قياداتها مع رؤساء العشائر الموالين لها والعاملين تحت امرة الضباط السياسيين، وسيلة لحماية طرق المواصلات المارة في مقاطعاتهم، والإسهام في بعض الأعمال الإداريةٍ والقضائية ومنحتهم لذلك صلاحيات واسعة في اعتقال المجرمين والنظر في بعض الدعاوى القضائية، وعلى جمع الضرائب لقاء نسبة معينة (4)، فضلاً عن الاستفادة منهم في تنفيذ السياسة الاستعمارية في مناطقهم، ومساعدتها في كبح الانتفاضات المحدودة، في حين بقيت عشائر (البدو) متمتعة بالاستقلال التام ومعفوة من دفع الضرائب للسلطات البريطانية مقابل اعتراف رؤوسائها بالإدارة البريطانية المدينة عليهم.

اختلفت سياسة الإدارة البريطانية في كردستان على الرغم من خضوع بعض

ص: 371


1- المصدر نفسه، ص ص 334-335
2- فلاح محمود خضر عبد الكريم حسين عبد المرجع السابق، ص446.
3- ل . ن . كوتلوف المصدر السابق، ص 114؛ المس بيل المصدر السابق، ص232
4- محمد طاهر العمري الموصلي، تاريخ مقدرات العراق السياسية، الجزء الثالث، مطبعة دار السلام، بغداد1925-م، ص 5.

مناطقها إلى سلطة الضباط السياسيين، إلا أنها لم تتبع السياسة المركزية التي اتبعتها المناطق الجنوبية والوسطى من العراق وقررت تعيين زعماء القبائل الكردية ورجال الدين كرؤساء للوحدات الإدارية (1)، والتي لم تستمر طويلاً حيث أخضعت مدينة السليمانية إلى سلطاتها المباشرة بعد إبعاد الشيخ (محمود البرزنجي) عن السلطة عام 1919م.

ثورة العشرين في النجف

أعلنت الثورة في مدينة النجف الأشرف يوم 21 تموز/ يوليو، بالتشاور بين رجالات الدين وشيوخ العشائر فيها، وعند إعلان الثورة في المدينة انسحب معاون الحاكم السياسي للمدينة حميد خان من السراي الحكومي بهدوء وبدون أي مشاكل وأصبحت مدينة النجف الأشرف بعد إعلان التمرد تحكم نفسها بنفسها وأصبحت لا تخضع السلطة الإدارة البريطانية المتواجدة في العراق حيث تقرر في النجف تشكيل مجلسين هما المجلس التشريعي والمجلس التنفيذي على أن يكون عدد أعضاء المجلس التنفيذي للمدينة أربعة أشخاص وهم رؤساء المحلات الأربعة الموجودة النجف وعلى أن يكون عدد أعضاء المجلس التشريعي ثمانية أشخاص يجرى انتخابهم من المحلات حيث جرت الانتخابات في يوم 25 آب/ اغسطس.

جاءت المفاوضات، وكانت أولى شروط القائد الإنجليزي للوفد هو تسليم الأسرى الذين كانوا معتقلين في خان شيلان بالنجف فجرى تنفيذ الطلب وسلم الأسرى في اليوم الثاني إلى القوات الإنجليزبة ولكن الإنجليز لم يعلنوا جميع شروطهم للوفد وذلك لانشغال قواتهم في القتال في مناطق أخرى وفي صباح يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر تلى الإنجليز على علماء ووجهاء النجف الأشرف بقية الشروط عليهم وذلك بعد أن قاموا بحشد العديد من قواتهم بالقرب من المدينة وقد تم تنفيذ جميع شروط الإنجليز وبعدها دخلت تلك القوات المدينة وقامت بإغلاق باب السور وقامت بمنع الدخول والخروج من وإلى المدينة إلا بإذن منها وقد استمر هذا الحال لمدة 24 يومًا.

ص: 372


1- كمال مظهر احمد، دور الشعب الكردي في ثورة العشرين العراقية بغداد - 1978م، ص ص 79-96.

صراع الإنجليز في الكوفة

بعد هذا التاريخ أضطر رؤساء العشائر المترددين إلى الانضمام إلى الثوَّار تحت ضغط الرأي العام الذي كان يعد كل من لا ينضم إلى الثورة كافرًا نصرانيًا وقام الثوار ومن انضم معهم بحصار الحامية الإنجليزية الموجودة في الكوفة والتي كان يقدر عدد أفرادها ب- 750 شخصًا مؤلفة من الجنود الشبانة الشرطة والموظفين وكان يرأس الحامية الميجر نوربري وقد بدا الحصار الفعلي للحامية في يوم 21 تموز/ يوليو، وأناط الثوار بأمر الحصار بعلوان الحاج سعدون رئيس بني حسن، وقد كانت الحامية قد تحصنت في الخانات المشرفة على النهر كما كانت الباخرة الحربية آير فلاي قد رست في النهر تجاه الحامية لحمايتها، وقد كانت الطائرات الإنجليزية تقوم بالإغارة على الكوفة طيلة مدة الحصار من خلال الإغارة على الحامية وفي يوم 24 تموز/ يوليو ألقت إحدى الطائرات ثلاث قنابل على جامع الكوفة الكبير فأدى ذلك إلى مقتل العديد من الناس الذين كانوا متواجدين في الجامع، وقد استمر حصار الثوار للحامية الإنجليزية زهاء ثلاثة أشهر وفي يوم 17 تشرين الأول/اكتوبر، وعند الساعة الثامنة صباحًا وصلت القوات الإنجليزية إلى الأطراف الشمالية من البلدة وكان الثوار متجمعين في البلدة وبعد معركة ما بين الطرفين استطاعت القوات الإنجليزية دخول البلدة وكان ذلك عند الساعة التاسعة والنصف من صباح نفس اليوم كما تم في اليوم نفسه فك حصار الحامية الإنجليزية وفي يوم 20 من نفس الشهر استعادت القوات الإنجليزية المدفع الذي كان الثوار قد غنموه منهم في معركة الرارنجية والذي كان قد أستعمل في قصق الحامية الإنجليزية أثناء فترة حصارها.

نشطت الأفكار القومية الهادفة إلى تحقيق استقلال العراق بين المثقفين العراقيين في المدن، كقوة ثورية تقف بحزم في المعسكر المعادي للسياسة البريطانية، وساندتهم أعداد كثيرة من الحرفيين والعمال والتجار الصغار، مكوِّنين قاعدة سياسية احتضنتها الأحزاب السياسية السرية التي لعبت دورًا واضحًا وفعالاً في

ص: 373

قيادة العمليات العسكرية ضد الاحتلال، فضمت جمعية (حرس الاستقلال) (1)بغداد النخب المثقفة السياسية ورجال الدين من المجتهدين والشيوخ الوطنيين وأقامت هذه الجمعية علاقات تنظيمية مع المرجعيات الدينية ورؤساء عشائر الفرات الأوسط، ورفعت شعار الاستقلال التام للعراق، وأسهمت في تحشيد الشعب العراقي ضد الاحتلال البريطاني عام 1920م (2)، وفي مدينة النجف الأشرف تشكلت جمعية (النهضة الإسلامية) من علماء ورجال الدين فضلاً عن النخب المثقفة بجناحين الأول (السياسي) يقوم أعضاءه بالاتصالات السياسية والتنظيمية بين المواطنين، والثاني (الفدائي) يسعى إلى محاربة سلطات الاحتلال التي كانت لهما علاقات حسنة مع جمعية حرس الاستقلال (3)، و(الجمعية الوطنية الإسلامية) في كربلاء المقدسة(4)، تحت إشراف آية الله العظمى الشيخ (محمد تقي الحائري الشيرازي)(5)، فضلا عن وجود حزب (العهد العراقي)، الذي رأى رجاله في المفاوضات مع بريطانيا أمراً ضرورياً لنجاح القضية العربية عامة والعراقية خاصة.

بغية تهدئة الحالة السياسية في العراق ورغبة بريطانيا في تحقيق الاستقلال الشكلي وفقاً لما نوّه عنه التصريح البريطاني - الفرنسي في تشرين الثاني 1918م، أظهرت السياسة البريطانية أن العراقيين غير مؤهلين لتحمل الاستقلال الذاتي(6)،

ص: 374


1- جمعية سياسية وطنية تشكلت في نهاية شهر شباط عام 1919م في بغداد برئاسة السيد محمد الصدر وعضوية (جلال) ،بابان محمود رامز شاکر محمود المرافق، عارف حکمت حسین شلال سعيد حقي، عبد المجيد عبد المجيد يوسف عبد اللطيف حميد الحاج محي الدين السهروردي علي افندي واخرون من منهاجها تسعى الجمعية وراء استقلال البلاد العراقية استقلالا مطلقا ولها موقف ومشاركات وطنية في ثورة العشرين عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، المصدر السابق، ص ص .81-79
2- عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، مطبعة دار الكتب ط5 ، بيروت - 1982م، ص ص 77-81.
3- عبد الجبار حسن الجبوري الاحزاب والجمعيات السياسية في القطر العراقي 1908-1958م، دار الحرية، بغداد 1977م- ص ص.55-54
4- المصدر نفسه، ص 54.
5- ولد في مدينة شيراز جنوب (ايران) في سنة 1256ه- / 1840م، ونشأ بها، ثم هاجرها إلى العراق سنة 1271ه-، واقام في مدينة كربلاء وتدرج في الدراسات الدينية وبعدها انتقل إلى مدينة سامراء واصبح استاذا لجمع كبير من طالبي العلم، وبعد احتلال القوات البريطانية مدينة سامراء سنة 1917م ، انتقل إلى مدينة الكاظمية في مدينة بغداد، وبعد مدة توجه إلى مدينة كربلاء في منتصف سنة 1336ه- / 23 شباط 1918م، وتوفي في 10 آب 1920م. للمزيد من المعلومات :انظر کامل سلمان الجبوري محمد تقي الشيرازي، القائد الاعلى للثورة العراقية الكبرى 1920م، مطبعة برهان قم 1427 ه- / 2006م، ص 43.
6- امين سعيد الثورة العربية الكبرى الجزء الثاني مطبعة القاهرة القاهرة - 1935م، ص ص16-17.

ووجوب إجراء الاستفتاء العام خلال المدة من نهاية عام 1918م وبداية عام 1919م، حول نظام الحكم الذي دعت له رؤساء العشائر وممن ارتبطت مصالحهم مع السلطات البريطانية، في التصديق على صيغة معينة تضمن الشروط التي وضعتها في إبقاء الحكم البريطاني المباشر، وجاءت الأسئلة الموجهة إلى سكان العراق بالإجابة عليها (1)وهي :

هل يرغبون في دولة عربية واحدة، تحت الوصاية البريطانية، تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل حتى الخليج العربي؟.

هل يرغبون في هذه الحالة في رئيس عربي بالاسم يرأس هذه الدولة الجديدة؟.

من هو الرئيس الذي يريدونه في هذه الحالة؟.

تفاوتت أراء المواطنين في الإجابة، وظهر للبريطانيين أن سياستهم في ضم العراق إلى مستعمراتهم، تقاوم بأكثرية الشعب العراقي، ورفضهم للمقترحات التي وجدت الفئات السياسية العراقية المثقفة وعلماء الدين وشيوخ عشائر الفرات الأوسط، على ضرورة النضال ضد الاستعمار للحصول على الاستقلال (2)، وعززتها فتوى آية الله الشيخ (محمد تقي الحائري الشيرازي) في كربلاء المقدسة بأن (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإدارة والسلطنة على المسلمين)(3)والتي كانت صفعة قوية للسياسة البريطانية، نسفت أطماعها وأهدافها في العراق، ولكبح نشاط الحركة الوطنية حثت السلطات البريطانية على وضع حدِّ للجماعات النشطة المقاومة الاحتلال بإبعادهم خارج العراق وإيداع الآخرين في السجون.

بعد تعاظم الحركة الوطنية ونشاطاتها البارزة في معظم مدن العراق وبغية تهدئة الوضع ألغت السلطات البريطانية اللجنة الخاصة التي يرأسها (بونكهام كارتر

Bongham Karter) مدير دائرة العدلية في العراق، الذي يقترح فيه تشكيل مجلسين

ص: 375


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص46.
2- محمد طاهر العمري الموصلي، الجزء الثالث، المصدر السابق، ص 60.
3- الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص 49.

الأول (مجلس دولة) كسلطة تنفيذية يتألف من رئيس عربي يتمتع بنفوذ ومنزلة اجتماعية مرموقة وأحد عشر عضواً، ستة من البريطانيين وخمسة من العرب يعينهم أو يعزلهم المندوب السامي، يمثلون دوائر الدولة أو سكرتيرين فيها، وثانياً المجلس التشريعي تعينه هيئات محلية تكون نفسها منتخبة ومن غير أعضاء مجلس الدولة يمثلون المدن والمناطق الريفية حسب عدد السكان فضلا عن تمثيل الطوائف اليهودية والمسيحية فيه، فيصبح العدد الكلي للمجلس حوالي خمسين عضواً لسن الدستور، ويكون رئيس المجلس من غير المنتخبين إن لم يوجد مرشح مناسب للمنصب، وصلاحية المجلس وضع القانون الأساس على غرار قانون الأساس المصري لعام 1913م، كنموذج يحتذى به بعد إجراء بعض التعديلات عليه، وجعل لمجلس الدولة صلاحية إصدار القوانين وفرض الضرائب، وإضافة جملة مواد متعلقة بواجبات المجلس وصلاحياته التي لا تخرج عن التأثير السياسي البريطاني عليه وفي فقرات المشروع الجديد الذي وضعته بريطانيا لنظام الحكم، يحتفظ الموظفون البريطانيون بسلطاتهم الرسمية السابقة، ويهيمن (مجلس الدولة) المتكون من البريطانيين والعراقيين على السلطة التنفيذية، وتحت إشراف المندوب السامي في العراق(1)، الذي لم يضمن للعراقيين صدق اشتراكهم في الحكم، حيث كان في طيات المجلس منح حق الرفض المطلق (الفيتو) للمندوب السامي حول القرارات، فضلا عن عدم إعطاء رئيس المجلس العربي حق التصويت إلا بعد تعادل الأصوات بين أعضاء المجلس والتي كانت مجمل مقررات مجلس الدولة هي صلاحية استشارية، لتثبيت بريطانيا طريقة الحكم بمشروع الدستور الذي ستصدره في العراق.

جرت اتصالات واسعة بين جمعية (حرس الاستقلال) وشيوخ العشائر والمرجعيات الدينية لحث الجميع على الاستعداد للثورة، وقيام التظاهرات والاجتماعات الشعبية، ورفع شعارات تدعو إلى إطلاق سراح المعتقلين، لذلك اضطر (ويلسون) إلى امتصاص نقمة الشعب على سياستهم من خلال اجتماعه بوفد

ص: 376


1- Ireland، P. W. Iraq. Astudy in Political development، London، 1937,P,305; السر ارنولد ويلسن الثورة العراقية، ترجمة جعفر الخياط، دار الرافدين، ط2، بيروت 2004م، ص ص 45-48 -

المفاوضة في حزيران،1920م، الذي ماطل بتنفيذ مطاليب الوفد في إقامة الحكم الوطني المستقل، وتعاظمت إجراءات السلطة البريطانية القمعية بهذا الشأن، حيث أفضى آية الله الشيخ (الحائري الشيرازي) على دعوة المواطنين للانضمام للحركة في بغداد (1)، وأصبح الوضع السياسي في غاية التوتر عندما أفتى آية الله (الحائري الشيرازي) بالجهاد (مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية اذا امتنع الانكليز من قبول مطالبهم) (2)، وبذلك أصبحت الثورة المسلحة ضد بريطانيا عملاً مشروعاً بموجب الشريعة الإسلامية.

لم تكن الحكومة البريطانية راغبة في تغيير سياستها في العراق وعزمت على إلحاقه بمستعمراتها، فقامت بمناورات سياسية لخداع الشعب العراقي من خلال إجراء بعض التنازلات السياسية وشق وحدة الفئات الوطنية، بغية الاستفادة من كسب الوقت في تهدئة الحالة، والقضاء على المظاهر المسلحة وزج القيادات الشعبية في السجون أو النفي إلى جزيرة هنجام، في الوقت الذي حطم مؤتمر (سان ريمو) عام 1920م آمال الوطنيين العراقيين بتثبيته على قرارات (سایكس - بيكو) باقتسام العراق وسوريا ولبنان وفلسطين بين بريطانيا وفرنسا ثم إصداره قرار فرض الانتداب البريطاني على ،العراق، الذي صدم العراقيين بعقم أملهم في إنشاء دولة عراقية مستقلة، وكشف تنكر المستعمرين للوعود التي قطعوها على أنفسهم للشعب العربي، ففشل البريطانيون في تهدئة الحالة من خطورة نفور العراقيين من كلمة (الانتداب) بتبريرهم على لسان المندوب السامي (بيرسي كوكس) [إنني أقرر بأن الكلمة (منتدب) قد طرحت من قبل الشخص الذي اوصى بها، وهو الرئيس ويلسون... أي أنه الشخص الذي يتعهد بتقديم الخدمة إلى الآخر بالنسبة إلى الملكية المودعة في يديه من لدن الآخرين، فالكلمة (الآخرون) يقصد بها عصبة الأمم، في حين أن كلمة انتداب هي العقد الذي تقدم الخدمة بموجبه، غير أن الكلمة في العراق أخذت معناها الآخر الذي يعني

ص: 377


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص ص 129-145.
2- المصدر نفسه، ص 145

بطلب السيادة من لدن دولة ما](1)، ومهما يكن ترتيب العبارات ومضمونها فهي لا تخرج عن معنى الاستعمار.

لم تجدِ نفعاً المفاوضات السياسية التي عقدت بين مندوبي الشعب وأصدقاء الحكومة ومواليهم مع نائب الحاكم الملكي (ويلسن) في 28 مايس 1920م، إذ كانت المفاوضات أشبه بالمناظرة التي يعقدها الفرقاء لكسب الجولة ودحر الخصم دون التوصل إلى حل ينال موافقة الطرفين، وبذلك أظهر للعراقيين أن قضيتهم لا تحل إلا بقيام الثورة المسلحة التي أعلنت في الثلاثين من حزيران 1920م، والتي توقع قيامها وكيل الحاكم السياسي البريطاني ضد حكومتهم في مضمون رسالته إلى الجنرال هالدن في حزيران 1920م قوله (إنه من المحتمل أن تحدث اضطرابات خطيرة في البلاد خلال الشهرين القادمين ) (2)وأكدتها (المس بيل) في رسائلها (لقد مرَّ علينا أسبوع مليء بالحوادث، ازدادت فيه دعاة الوطنيين... وكان المتطرفون يدعون إلى الاستقلال ولا يريدون الانتداب) (3).

أصدرت السلطة البريطانية منشور رقم 70 نشر نصَّه في جريدة العراق حول تحديد سياستها النهائية في العراق من أنها ستجعل فيه حكومة مستقلة تضمن استقلالها جمعية عصبة الأمم ، وإلزامها بتشكيل قانون أساسي واستشارتها أهالي العراق في مسألة تشكيله مع ملاحظة حقوق (الأجناس المختلفة الموجودة في بلاد العراق ورغائبها ومنافعها)(4)، فهو وثيقة رسمية واضحة سوَّغت بريطانيا فيه سياستها الاستعمارية التي ستربط العراق بالقرارات الدولية المهيمنة عليها، وبهذا الشأن لقيت معارضة شديدة من الوطنيين العراقيين، فضلا عن تطور الموقف الحربي في الفرات الأوسط وظهور الحركات المسلحة ضد القوات البريطانية في تلك المناطق.

لقد مارست بريطانيا سياسة الاستبداد في العراق القائمة على اضطهاد سكانه

ص: 378


1- The letters. Vol. 11,PP,535 -536.
2- Haldane. Op, Cit. P,36.
3- The letters، Vol 11,P,397.
4- جريدة العراق في 2 حزيران 1920م.

ومعاملتهم بقسوة في ثورة العشرين ومضت على هذا الأسلوب في محاولةٍ منها لكسب بعض رؤساء العشائر وجعلهم موالين لها خدمة في تحقيق أهدافها ومصالحها، فانضوى بعضهم للخدمة المدنية عند الضباط السياسيين البريطانيين فحققت بذلك سلطة داخلية محكمة لها نفوذ كبير على المواطنين منفذة أوامرهم وخولتهم على قمع المعارضين والسيطرة الأمنية في مناطقهم، فالشيخ (عمران السعدون) قائم

مقام الهندية رافق معاون الحاكم السياسي البريطاني في مدينة ( طويريج) الكابتن (جاردين) في 19 تموز 1920م وسايره في التوسط إلى مخيم الكوفة لإجراء الترتيبات لوقف القتال، وانقطعت تلك المفاوضات مع الثوار(1)، حيث أثَّرت سلباً في العلاقات العشائرية في المنطقة، وعُلم عند العشائر أن ولاء الشيخ (عمران) غير أكيد وحُذِر منه ، فضلا عن معارضته للعشائر التي حررت مدينة الكفل التابعة إدارياً لقضاء الهندية في 20 تموز في كبح نشاط الثوار وهدَّدهم بالتعاون مع البريطانيين في مقاومتهم (2)، وعلى العكس من ذلك عمل الميجر (ديلي Deely) إلى (الحاج مخيف) مكيدة عند حضوره لمقره في الديوانية وأمر باعتقاله وسوقه إلى البصرة ثم نفيه إلى جزيرة هنجام مع المنفيين هناك (3).

كما استخدم المحتلون أسلوب حجز الأشخاص (رهائن) حيث عملت القوات البريطانية في الديوانية على وضع خطة عسكرية للانسحاب منها إلى الحلة، فأطلق الميجر (ديلي) سراح الشيخ (شعلان العطية) رئيس عشائر الأكرع بعد أن حجز شقيقه الشيخ 0جبل العطية) وابنه (موجد الشعلان) كرهائن للبر بالوعد الذي قطعه بعدم مقاتلة الجيش المنسحب في حدود قبيلته (4).

نكثت السلطة البريطانية وعدها بقيادة الميجر (نوربري Noorbery) ولم تفِ بمواثيقها عندما وقعت اتفاقية هدن مع الثوار في الكوفة في تموز 1920م، باتفاق

ص: 379


1- المس بيل المصدر السابق، ص 450
2- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص274.
3- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص214.
4- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص 282.

الإفراج عن المنفيين والمعتقلين العراقيين ووقف القتال في الرميثة وإجلاء الحكام البريطانيين من مناطق الفرات الأوسط وإجراء الاستفتاء والمفاوضات من البريطانيين على أساس منح العراق الاستقلال والحرية مقابل تعهد رؤساء القبائل في فك الحصار عن الحامية البريطانية في أبي صخير الذي تم ت- تنفيذه لدن العراقيين (1)حيث وافتهم القوة البريطانية في مقاتلتهم بعد أن حصلت على مرادها بنقض الاتفاق.

مارست السلطة المحتلة أساليب أخرى منها التجويع والحرمان من خلال قيامهم بإتلاف المزارع والبساتين وقطع المياه عن مدينة كربلاء المقدسة لإيقاع الأذى في سكانها ومزارعها التي قال فيه الجنرال هالدن (لما كانت كربلاء مسؤولة إلى حد غير قليل عن قيام الثورة فإني رغبت في الاستيلاء على ناظم الحسينية الذي كان يبعد عن الفرات بمائتي ياردة، لكي أجعل سكان البلدة يشعرون بعذاب الحرمان من الماء) وتشفَّى بمعاناة ومشقَّات سكان كربلاء المقدسة قائلاً (فالضغط المعنوي الذي نتج عن اظهار مقدرتي على حرمانهم مَعِين الحياة كان بلا شك عظيما) (2)، وسارت سياستهم على حرق بيوت ممن اشتركوا في الثورة في شمال العراق في منطقة دلتاوه ودور الرؤساء الزيباريين والبرزانيين ومصادرة أموالهم(3) ، وأتلفت مزارع وحقول قرى قضاء الهندية وحرق مضيفي الشيخ (شمران) رئيس عشيرة آل فتلة والشيخ (جياد المحمد) رئيس البراجع، وقامت بمصادرة وقتل أعداد كبيرة من رؤوس الأغنام والأبقار والخيل في المنطقة(4)، ولم تُعِر اهتماماً بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان، فأقدمت على إعدام من أسرته من الثوار دون تحقيق أو محاكمة(5).

وتم قصف المدن والقرى بقذائف الطائرات والمدافع التي لم يسلم منها حتى المتعبدين في مسجد الكوفة، وفتكت قنابلهم بأجساد الكثيرين نشر خبره الثوار ببلاغٍ

ص: 380


1- عبد الله الفياض، المصدر السابق، ص 274.
2- Haldane، OP,cit، P,147
3- جريدة العراق في 4 تشرين الأول 1920م ؛ المس بيل، المصدر السابق، ص 227.
4- فريق المزهر الفرعون الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920م ونتائجها، مطبعة النجاح، ط2، بغداد، 1955م، ص 423
5- أمين سعيد، الجزء الثاني، المصدر السابق، ص 70.

إن (جناية الانكليز على المعابد وإلقاء القذائف النارية على مسجد الكوفة، قتل النساك والمتعبدين)(1).

استلمت قيادة الاحتلال البريطاني سبعين ألف بندقية من عشائر الفرات الأوسط بعد ثورة العشرين في حين لم يجمع من عشائر المنتفك أية قطعة سلاح (الأسباب استثنائية )(2)، حيث كان المحتلون يبتغون من ذلك تحقيق أمرين، الأول بقاء هذه العشائر على ولائها وإخلاصها لهم والثاني تكيد بهم كقوة يمكن أن تستغلها في ضرب العشائر الأخرى المعارضة السياستها في مناطقهم.

اعترف وكيل الحاكم المدني العام (ويلسن) بتقريره السري على (انتعاش الروح القومية) وأن ثورة العشرين جعلت (الشك يحل محل اليقين) والذي غير فكره السياسي في تحويل العراق إلى هند ثانية وإقامة حكم بريطاني مباشر(3)، فضلاً عن تزويد الحكومة البريطانية مندوبها الجديد للعراق (بيرسي كوكس) الأكثر هدوءً ودبلوماسية من سابقه في سياسته مع العراقيين تعليماتها السياسية في رسم مستقبل العلاقة بينهم والعراق بموجب معاهدة جديدة لا بصك الانتداب القديم(4)، والعمل على تأليف حكومة عراقية مؤقتة تعتمد العراقيين في إشغال مناصبها الوزارية، الذي سعى بصعوبة على اختيار شاغليها ممن يعرفون ب- (المعتدلين) على حد تعبيره لهم الإلمام بالأمور الإدارية والحكومية، حيث لم يتورع من أجل الحصول عليهم إلا بنشر الإعلانات الرسمية التي حددت فيها العراقيين ممن سبق انتخابهم لمجلس الأعيان ومجلس المبعوثان العثماني(5)، فضلا عن بعثه الكتب الخاصة للعراقيين الموجودين خارج العراق ممن لهم دراية في أمور السياسة والإدارة(6)، فوقع تعيينه

ص: 381


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص 221.
2- ستيفن همسلى لونكريك، العراق الحديث من سنة 1900-1950م، الجزء الأول، ترجمة سليم طه التكريتي، مطبعة حسام بغداد 1988م، ص 205.
3- Wilson، A. T. Mesopotamia، 19171920 - A clash of Layalties، London، 1931، P,54.
4- عبد الله الفياض، المصدر السابق ص 327.
5- جريدة العراق في 12 تموز 1920م.
6- مجید خدوري، عرب معاصرون، ادوار القادة في السياسة، الدار المتحدة للنشر، بيروت - 1973م، ص 58.

على حكومة عراقية برئاسة (عبد الرحمن النقيب) (1)في 25 تشرين الأول 1920م الذي وافق على أن يعمل تحت إشراف المندوب السامي البريطاني، وكانت بريطانيا تريد لهذه الحكومة ان تكون جسراً بينها وبين الشعب العراقي لإقامة شكل نظام الحكم الذي تقرره هي بنفسها، وجعلت على رأس كل وزارة مستشاراً بريطانياً لتوجيه سياستها من خلاله، وبذلك حكمت بريطانيا العراق حكماً مباشراً، فعينت لكل لواء وقضاء حاكماً عسكرياً من ضباط الجيش البريطاني، ممن لم يمارسوا الشؤون الإدارية والمدنية، الذين ازدروا الناس واحتقروهم وعاملوهم بخشونة، ووضعوا نظاماً من عادات وأوضاع غير مألوفة عند العشائر العراقية(2)، واعترفت السلطة البريطانية بالأساليب الإدارية الفوضوية التي مارسها موظفوها في العراق، من خلال استخدامها (الجنود والضباط الذين لم يألفوا الاشتغال في المناصب الإدارية... ولم يطلعوا على وسائل الإدارة ويجهلون الأحوال والظروف التي تحيط بهذه البلاد (العراق)... وإن فريقاً منهم ضعيف في الإدارة... غير كفؤ للقيام بوظائفه ومنهم من كان يرسل تقريراً ويعقبه بأخر يختلف فحواه عن التقرير الأول)(3)، وبذلك وجدت بريطانيا ترشيح الأمير (فيصل بن الحسين) لعرش العراق الأفضل لأداء مهمتها في ،العراق، دون اعتراض شعبي لحل مشاكلها في العراق وإبعاد العراقيين عن اللجوء إلى السلاح مرة أخرى، فضلاً عن تعويضه عما فقده في مملكة سوريا بنظامه المعتدل الذي سيكون في نظرهم خير ضمان لهم في التصدي للتيارين الكمالي والبلشفي الذي ظهر تأثيرهما واضحًا في العراق(4).

ص: 382


1- من وجهاء مدينة بغداد ونقيب اشرافها، ولد سنة 1261ه-/ 1845م وتقلد نقابة الاشراف بعد وفاة اخية سنة 1315ه-/1898م ومنحه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني نيشانا من الدرجة الثالثة سنة 1297ه-/1880م، وكان مقدرا من الحكومة العثمانية وعند احتلال البريطانيين مدينة بغداد عام 1917م ، لقي الحظوة عندهم وعين اول رئيس لوزراء العراق عام 1920م واستقال سنة 1922م، وتوفي سنة 1345ه- / 1927م. أبي المعز السيد محمد القزويني، طروس الإنشاء وسطور الإملاء، تحقيق: جودت القزويني ب ط ، بيروت - 1418ه-/1998م، ص 139.
2- فاضل حسين وعبد الوهاب عباس القيسي ،وآخرون تاريخ العراق المعاصر ، مطبعة جامعة بغداد، بغداد 1980-م، ص 23.
3- Haldane. OP. Cit. P,36.
4- فاروق صالح العمر، حول سياسة بريطانيا في العراق 1914-1921م، دراسة وثائقية مطبعة الإرشاد، بغداد - 1977 م، ص ص 104-105

عانى الملك (فيصل) من الثقل السياسي الذي اكتشفه، في التعامل مع إرث ثقيل خلفه حكم عثماني متخلف واحتلال بريطاني استعماري يشوبه التشابك وعقدة مستعصية، وجد فيصل في تخفيف أثارها (في المراوغة والتلون ونقض العهود) (1)عمل طوال سنوات حكمه العراق من تتويجه يوم 23 أب 1921م وحتى وفاته في 7 أيلول 1933م(2) ، بنشاط منقطع النظير نابع عن رغبة صادقة في إقامة الدولة الحديثة في حدود الإمكان، ونزاهة مشهودة.

مقدمات مؤتمر الكوفة

وسط كل الأحداث السابقة، وفي يوم 17 تموز/ يوليو عقد في مدينة الكوفة مؤتمرٌ لعقد هدنة ما بين الثوار في منطقة لواء الشامية والنجف والإنجليز وقد حضر المؤتمر عن الجانب الإنجليزي الميجُر (توربري) الحاكم الإنجليزي للواء الشامية والنجف (3). ومثَّل الثوار بالإضافة إلى رؤساء العشائر الموجودة في المنطقة كل من الشيخين عبد الكريم الجزائري وجواد الجواهري اللذان كانا مندوبين عن آية الله الشيخ فتح الله الأصفهاني وقد تم الاتفاق أخيراً ما بين الطرفين على هدنة تكون مدتها أربعة أيام ابتداءً من اليوم الأول من شهر ذو القعدة لسنة 1338 هجري الموافق ليوم 17 تموز/ يوليو حيث تنسحب حامية أبو صخير إلى الكوفة من دون أن يصيبها أي أذى وقد تعهد من جانبه الميجر نوربري بمراجعة الحاكم العام ببغداد حول مطاليب الثوار في اللواء وهي: العفو العام عن جميع العراقيين بمن فيهم أهل الرميثة الشامية والدغارة. وتوقف جميع الحركات العسكرية وإصلاح سكة الحديد ونقل القوات العسكرية من مكان إلى آخر. وإطلاق سراح جميع المعتقلين والمنفيين. وتشكيل المؤتمر العراقي(4).

ص: 383


1- أمين الريحاني، ملوك العرب، الإعمال الكاملة، المجلد الأول، الجزء الثاني، ب ط ، بيروت - 1980 م، ص 327.
2- عبد المجيد كامل التكريتي، الملك فيصل الأول ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921-1933م، دار الشؤون الثقافية، بغداد - 1991 م، ص 320 .
3- علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس، ص265.
4- المرجع السابق، ص270.

لم تستمر الهدنة الموقعة ما بين الطرفين التي كان أمدها أربعة أيام إذ تم اِختراقها من قبل كلا الجانبين في اليوم الثالث أي في يوم 19 تموز ويرجع السبب الرئيسي في خرق الهدنة من قبل الثوار هو أن الكثير منهم قد ندموا في إعطاء هذه الهدنة وتخليص حامية أبو صخير من الحصار بعد أن كثر عليهم النقد والتجريح، حيث هاجم ثوار المنطقة خمسة شخاتير وهي محملة بالمُؤن والعتاد لنقلها لغرض إمداد حامية الكوفة وفي الوقت نفسه هاجم نفر من أهل الكوفة السراي الحكومي الموجود في المدينة وقاموا بالاستيلاء عليه(1).

بعد هذا التاريخ اِضطر رؤساء العشائر المترددون إلى الانضمام إلى الثوار تحت ضغط الرأي العام الذي كان يعد كل من لا ينضم إلى الثورة كافرًا (2). وقام الثوار ومن انضم معهم بحصار الحامية الإنجليزية الموجودة في الكوفة والتي كان يقدر عدد أفرادها ب 750 شخصًا مؤلفة من الجنود «الشبانة) الشرطة والموظفين ويرأس تلك الحامية الميجر نوربري وقد بدا الحصار الفعلي للحامية في يوم 21 تموز وأناط الثوار أمر الحصار بعلوان الحاج سعدون رئيس بني حسن(3). وقد كانت الحامية قد تحصنت في الخانات المشرفة على النهر كما كانت الباخرة الحربية آير فلاي قد رست في النهر تجاه الحامية لحمايتها (4).

وقد كانت الطائرات الإنجليزية تقوم بالإغارة على الكوفة طيلة مدة الحصار على الحامية وفي يوم 24تموز ألقت إحدى الطائرات ثلاث قنابل على مسجد الكوفة الكبير فأدى ذلك إلى مقتل العديد من الناس الذين كانوا متواجدين في المسجد(5).

وقد استمر حصار الثوار للحامية الإنجليزية زهاء ثلاثة أشهر وفي يوم 17من شهر تشرين الأول وعند الساعة الثامنة صباحا وصلت القوات الإنجليزية إلى

ص: 384


1- علي الوردي، مرجع سابق، ص 271.
2- علي الوردي، مرجع سابق، ص 272.
3- علي الوردي، مرجع سابق، ص 343.
4- علي الوردي، مرجع سابق، ص 344.
5- علي الوردي، مرجع سابق، ص 348.

الأطراف الشمالية من البلدة وكان الثوار متجمعين في البلدة وبعد معركة ما بين الطرفين استطاعت القوات الإنجليزية دخول البلدة وكان ذلك عند الساعة التاسعة والنصف من صباح نفس اليوم(1).

كما تم في اليوم نفسه فك حصار الحامية الإنجليزية وفي يوم 20 من نفس الشهر استعادت القوات الإنجليزية المدفع الذي كان الثوار قد غنموه منهم في معركة الرارنجية والذي كان قد أستعمل في قصف الحامية الإنجليزية أثناء فترة الحصار لها(2).

الخاتمة

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، تركزت سياسة الاستعمار البريطاني في الهند على العراق من خلال الصلة الوثيقة بين ما يجري في شبه القارة الهندية ومسارها عبر الخليج العربي والتي نتج عنها إجبار العراق على تحقيق أهداف الاستعمار البريطاني بعد ضمَّه إلى المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، في میدان شاسع من السياسة العامة والإدارة، معتقدة أنها ستضمن نجاح سياستها على أساس وجود الأسواق الجديدة والمواد الخام فيه، كما عملت سلطة الاحتلال على إصدار قوانين تطلبتها الأوضاع المحلية والإدارية بعيدة عن واقع العراق السياسي والاجتماعي، تبنتها لجانها العسكرية بمعاونة شيوخ القبائل المؤيدين للاحتلال ببقائهم في حكمهم حسب العرف العشائري، رافقها تصرفات حكامها الحمقى في التعامل مع العراقيين وفي التأثير المباشر في المجتمع العراقي من خلال سياسة (فرق تسد) كان محصلتها تعزيز التناقضات والمشكلات الاجتماعية والسياسية في منظور منشور الجنرال (مود) وهدفها في تضليل العرب وخداعهم بسعيها إلى نهوضهم مرة أخرى واستعادت مكانتهم السياسية وفق مبدأ ( تقرير المصير) الذي وجدت فيه أيسر وسيلة للسيطرة عليهم وتحقيق سياستها الواضحة المنفذة في الهند ومصر.

ص: 385


1- علي الوردي، مرجع سابق، ص.147.
2- Edinburgh 1922 (Haldane (Insurrection in Mesopotamia. P 192

فرضت سلطة الاحتلال الحكم المركزي المباشر على العراق وتفننت استحصال الضرائب القائمة والجديدة، التي أثقلت كاهل العراقيين بأعباءٍ اقتصاديةٍ كبيرة، وأتبعت سياسة التركيز في توسيع نفوذها وترسيخ دعائم الإقطاع وتطوير مقوماته بأسس قانونية من خلال اعتمادها على أقل عدد من عملائها سواء العشائر أو المتنفذين في المدن في حكم العراق من خلال تشريعاتها وقراراتها المكرسة أغلبها بشأن الأرض والعشائر وأحكامها.

توسع الموقف الذي تبناه البريطانيون تجاه استقلال العراق السياسي من شقة الخلاف بينهم وبين العراقيين وفشلت خططهم في حكم العراق حكماً مباشراً وربطه بحكومة الهند وكان لافتقار العاملين السياسيين البريطانيين في العراق إلى الخبرة الإدارية والحنكة السياسية وجهلهم بطبيعة المجتمع العراقي، وراء ايقاعهم في نشاط المقاومة الوطنية المسلحة ورفض الشعب لسياستهم القائمة، وفشلهم في تفكيك أواصر الشعب ولحمته في تأجيج الطائفية نتيجة الوعي الفكري الواضح لدى علماء الدين، ونتيجة لذلك حصل عكس ماكان الإنجليز يخططون له عندما تمسك الناس بمراجع تقليدهم وفتاوى قياداتهم الدينية، التي وحدت موقف العراقيين وجمعت كلمتهم في رفض الاحتلال ومقاومته المسلحة في ثورة العشرين، والتي نتج عنها انهيار مخططات الإنجليز الاستعمارية في جعل العراق مستعمرة لها من خلال تمسكهم بالقرارات الدولية بفرض الانتداب عليه، والتي أجبرها العراقيون على إعادة النظر في سياستهم تجاه ،العراق، بأسلوب ذكي يضمن لبريطانيا مصلحتها في العراق بوسائل جديدة عبر عنها حكامهم في خطاباتهم ومذكراتهم بقول المندوب السامي بيرسي كوكس (إن دولة إنكلترا ارسلتني للمساعدة والاتفاق مع أشراف ورؤساء العراق لنحصل على الغاية المطلوبة للطرفين وتأليف الحكومة العربية حكومة مستقلة بنظارة دولة انكلترا، ولقد جئت لهذا المقصد) (1)، وإن لم يكن هناك حتى قرار متخذ بشأن شكل الحكم في العراق فقد اقترح (بيرسي كوكس) بوثيقة مؤرخة في

ص: 386


1- عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث الجزء الأول، المكتبة العصرية، ط2، صيدا 1957م، ص 157.

نیسان 1918م قائلاً (إن المندوب السامي قد تساعده إذا تطلب الأمر وزارة نصفها من الأهالي ونصفها من الموظفين البريطانيين ، وربما يستندها مجلس إداري أو هيئة ما استشارية تتألف بأجمعها من أعيان البلاد البارزين... وإذا أريد تنصيب رأس رمزي فهو يوصي بنقيب بغداد وهو أحد الذوات المسنين) (1)واعترفت صحفهم بسياستهم الفاشلة بأنها (منحت الشعب العربي من دون ريب درسًا عمليًا في الكفاءة، غير أن هناك أشياء أخرى أعزّ على قلب الإنسان وإلى قلب العربي بصفة خاصة من الكفاءة، ولاسيما حين يتم دفعه بثمن باهظ فالعرب اليوم أقل تمتعًا بالحرية مما كانوا عليه تحت حكم الأتراك، وأنهم الآن يدفعون ثلاثة أضعاف ما كانوا يدفعونه من الضرائب)(2).

لم تكن الحكومة البريطانية راغبة في تغيير سياستها في العراق وعزمت على إلحاقه ،مستعمراتها، فقامت بمناورات سياسية لخداع الشعب العراقي من خلال إجراء بعض التنازلات السياسية وشق وحدة الفئات الوطنية، بغية الاستفادة من كسب الوقت في تهدئة الحالة، والقضاء على المظاهر المسلحة وزج القيادات الشعبية في السجون أو النفي إلى جزيرة هنجام، في الوقت الذي حطم مؤتمر (سان ريمو) عام 1920م آمال الوطنيين العراقيين بتثبيته على قرارات (سایكس - بيكو) باقتسام العراق وسوريا ولبنان وفلسطين بين بريطانيا وفرنسا ثم إصداره قرار فرض (الانتداب) البريطاني على ،العراق، الذي صدم العراقيين بعقم أملهم في إنشاء دولة عراقية مستقلة، وكشف تنكر المستعمرين للوعود التي قطعوها على أنفسهم للشعب العربي، ففشل البريطانيون في تهدئة الحالة من خطورة نفور العراقيين من كلمة (الانتداب) بتبريرهم على لسان المندوب السامي (بيرسي كوكس) إنني أقرر بأن الكلمة (منتدب) قد طرحت من قبل الشخص الذي أوصى بها ، وهو الرئيس ويلسون... أي أنه الشخص الذي يتعهد بتقديم الخدمة إلى الآخر بالنسبة إلى الملكية المودعة في يديه من لدن الآخرين،

ص: 387


1- F. O. 371/ 4148 13298. War Cabinet- Eastern Committee. Secret. 39th Meeting. November 27,1918. Annex. مقتبس عن غسان العطية المصدر السابق، ص 223
2- جریدة المانجستر غاردیان فی 24 تموز 1920م مقتیس عن هنری فوستر الجزء الاول المصدر السابق ص 141.

فالكلمة (الآخرون) يقصد بها عصبة الأمم ، في حين أن كلمة انتداب هي العقد الذي تُقدّم الخدمة بموجبه، غير أن الكلمة في العراق أخذت معناها الآخر الذي يعني بطلب السيادة من لدن دولة ما (1)، ومهما يكن ترتيب العبارات ومضمونها فهي لا تخرج عن معنى الاستعمار.

لم تجدِ نفعاً المفاوضات السياسية التي عقدت بين مندوبي الشعب وأصدقاء الحكومة ومواليهم مع نائب الحاكم الملكي (ويلسن) في 28 مايس 1920م، إذ كانت المفاوضات أشبه بالمناظرة التي يعقدها الفرقاء لكسب الجولة ودحر الخصم دون التوصل إلى حل ينال موافقة الطرفين، وبذلك أظهر للعراقيين أن قضيتهم لا تحل إلا بقيام الثورة المسلحة التي أعلنت في الثلاثين من حزيران 1920م، والتي توقع قيامها وكيل الحاكم السياسي البريطاني ضد حكومتهم في مضمون رسالته إلى الجنرال هالدن في حزيران 1920م قوله (إنه من المحتمل أن تحدث اضطرابات خطيرة في البلاد خلال الشهرين القادمين)(2)وأكدتها (المس بيل) في رسائلها (لقد مر علينا أسبوع مليء بالحوادث، ازدادت فيه دعاة الوطنيين... وكان المتطرفون يدعون إلى الاستقلال ولا يريدون الانتداب) (3).

أصدرت السلطة البريطانية منشور رقم 70 نشر نصه في جريدة العراق حول تحديد سياستها النهائية في العراق من أنها ستجعل فيه حكومة مستقلة تضمن استقلالها جمعية عصبة الأمم، وإلزامها بتشكيل قانون أساسي واستشارتها أهالي العراق في مسألة تشكيله مع ملاحظة حقوق (الأجناس المختلفة الموجودة في بلاد العراق ورغائبها ومنافعها)(4)، فهو وثيقة رسمية واضحة سوغت بريطانيا فيه سياستها الاستعمارية التي ستربط العراق بالقرارات الدولية المهيمنة عليها، وبهذا الشأن لقيت معارضة شديدة من الوطنيين العراقيين، فضلا عن تطور الموقف الحربي في الفرات الأوسط وظهور الحركات المسلحة ضد القوات البريطانية.

ص: 388


1- The letters. Vol. 11,PP,535-536.
2- Haldane Op,Cit، P,36.
3- The letters، Vol 11,P,397.
4- جريدة العراق في 2 حزيران 1920م.

مارست بريطانيا سياسة الاستبداد في العراق القائمة على اضطهاد سكانه ومعاملتهم بقسوة في ثورة العشرين ومضت على هذا الأسلوب في محاولة منها لكسب بعض رؤساء العشائر وجعلهم موالين لها خدمة في تحقيق أهدافها ومصالحها، فانضوى بعضهم للخدمة المدنية عند الضباط السياسيين البريطانيين فحققت بذلك سلطة داخلية محكمة لها نفوذ كبير على المواطنين منفذة أوامرهم وخولتهم على قمع المعارضين والسيطرة الأمنية في مناطقهم، فالشيخ (عمران السعدون) قائم مقام الهندية رافق معاون الحاكم السياسي البريطاني في مدينة (طويريج) الكابتن (جاردين) في 19 تموز 1920م وسايره في التوسط إلى مخيم الكوفة لإجراء الترتيبات لوقف القتال، والتي انقطعت تلك المفاوضات مع الثوار(1)، حيث أثرت سلباً في العلاقات العشائرية في المنطقة، وعُلم المنطقة، وعلم عند العشائر أن ولاء الشيخ (عمران) غير أكيد وحذر منه، فضلا عن معارضته للعشائر التي حررت مدينة الكفل التابعة إدارياً لقضاء الهندية في 20 تموز في كبح نشاط الثوار وهددهم بالتعاون مع البريطانيين في مقاومتهم (2)، وعلى العكس من ذلك عمل الميجر ( ديلي Deely) إلى (الحاج مخيف) مكيدة عند حضوره لمقره في الديوانية وأمر باعتقاله وسوقه إلى البصرة ثم نفيه إلى جزيرة هنجام مع المنفيين هناك(3).

كما استخدم المحتلون أسلوب حجز الأشخاص (رهائن) حيث عملت القوات البريطانية في الديوانية على وضع خطة عسكرية للانسحاب منها إلى الحلة، فأطلق الميجر (ديلي) سراح الشيخ (شعلان العطية) رئيس عشائر الأكرع بعد أن حجز شقيقه الشيخ (جبل العطية) وابنه (موجد الشعلان) كرهائن للبر بالوعد الذي قطعه بعدم مقاتلة الجيش المنسحب في حدود قبيلته (4).

نكثت السلطة البريطانية وعدها بقيادة الميجر (نوربري Noorbery) ولم تفِ

ص: 389


1- المس بيل المصدر السابق، ص 450
2- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص274.
3- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص214.
4- علي الوردي، الجزء الخامس، المصدر السابق، ص 282.

بمواثيقها عندما وقعت اتفاقية هدنه مع الثوار في الكوفة في تموز 1920م، باتفاق الإفراج عن المنفيين والمعتقلين العراقيين ووقف القتال في الرميثة وإجلاء الحكام البريطانيين من مناطق الفرات الأوسط وإجراء الاستفتاء والمفاوضات من البريطانيين على أساس منح العراق الاستقلال والحرية مقابل تعهد رؤساء القبائل في فك الحصار عن الحامية البريطانية في ابي صخير الذي تم تنفيذه من لدن العراقيين(1)، حيث وافتهم القوة البريطانية في مقاتلتهم بعد أن حصلت على مرادها بنقض الاتفاق.

و مارست السلطة المحتلة أساليب أخرى منها التجويع والحرمان من خلال قيامهم بإتلاف المزارع والبساتين وقطع المياه عن مدينة كربلاء لإيقاع الأذى في سكانها ومزارعها التي قال فيه الجنرال هالدن (لما كانت كربلاء مسؤولة إلى حد غير قليل عن قيام الثورة فإني رغبت في الاستيلاء على ناظم الحسينية الذي كان يبعد عن الفرات بمائتي ياردة لكي اجعل سكان البلدة يشعرون بعذاب الحرمان من الماء) وتشفى بمعاناة ومشقات سكان كربلاء قائلاً ( فالضغط المعنوي الذي نتج عن اظهار مقدرتي على حرمانهم معين الحياة كان بلا شك عظيماً)(2)، وسارت سياستهم على حرق بيوت ممن اشتركوا في الثورة في شمال العراق في منطقة دلتاوه ودور الرؤساء الزيباريين والبرزانيين ومصادرة أموالهم(3)، وأتلفت مزارع وحقول قرى قضاء الهندية وحرق مضيفي الشيخ (شمران) رئيس عشيرة آل فتلة والشيخ (جياد المحمد) رئيس البراجع، وقامت بمصادرة وقتل اعداد كبيرة من رؤوس الأغنام والأبقار والخيل في المنطقة(4) ولم تعر اهتماماً بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان، فأقدمت على إعدام من أسرته من الثوار دون تحقيق أو محاكمة(5).

وقصفت المدن والقرى بقذائف الطائرات والمدافع التي لم يسلم منها حتى المتعبدين في مسجد الكوفة، وفتكت قنابلهم بأجساد الكثيرين نشر خبره الثوار

ص: 390


1- عبد الله الفياض، المصدر السابق، ص 274.
2- Haldane، OP,cit، P,147.
3- جريدة العراق في 4 تشرين الأول 1920م ؛ المس بيل، المصدر السابق، ص 227.
4- فريق المزهر الفرعون المصدر السابق، ص 423
5- أمين سعيد، الجزء الثاني، المصدر السابق، ص 70.

ببلاغ إن جناية الانكليز على المعابد وإلقاء القذائف النارية على مسجد الكوفة ، قتل النساك والمتعبدين(1).

استلمت قيادة الاحتلال البريطاني سبعين ألف بندقية من عشائر الفرات الأوسط بعد ثورة العشرين في حين لم يجمع من عشائر المنتفك أية قطعة سلاح الأسباب استثنائية )(2)، حيث كان المحتلون يبتغون من ذلك تحقيق أمرين، الأول بقاء هذه العشائر على ولائها وإخلاصها لهم والثاني تكيد بهم كقوة يمكن أن تستغلها في ضرب العشائر الأخرى المعارضة لسياستها في مناطقهم.

واعترف وكيل الحاكم المدني العام (ويلسن) بتقريره السري على انتعاش الروح القومية) وأن ثورة العشرين جعلت (الشك يحل محل اليقين) والذي غيّر فكره السياسي في تحويل العراق إلى هند ثانية وإقامة حكم بريطاني مباشر (3)، فضلاً عن تزويد الحكومة البريطانية مندوبها الجديد للعراق (بيرسي كوكس) الأكثر هدوءً ودبلوماسية من سابقه في سياسته مع العراقيين تعليماتها السياسية في رسم مستقبل العلاقة بينهم والعراق بموجب معاهدة جديدة لا بصك الانتداب القديم(4)، والعمل على تأليف حكومة عراقية مؤقتة تعتمد العراقيين في إشغال مناصبها الوزارية، الذي سعى بصعوبة على اختيار شاغليها ممن يعرفون ب- (المعتدلين) على حد تعبيره لهم الإلمام بالأمور الإدارية والحكومية، حيث لم يتورع من أجل الحصول عليهم إلا بنشر الإعلانات الرسمية التي حددت فيها العراقيين ممن سبق انتخابهم لمجلس الأعيان ومجلس المبعوثان العثماني(5)، فضلا عن بعثه الكتب الخاصة للعراقيين الموجودين خارج العراق ممن لهم دراية في أمور السياسة والإدارة(6)، فوقع تعيينه

ص: 391


1- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، ص 221.
2- ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث الجزء الأول، ص 205.
3- Wilson، A. T. Mesopotamia، 19171920 - A clash of Layalties، London، 1931، P,54.
4- عبد الله الفياض، المصدر السابق ص 327.
5- جريدة العراق في 12 تموز 1920م.
6- مجيد خدوري، عرب معاصرون، ادوار القادة في السياسة الدار المتحدة للنشر، بيروت - 1973م، ص58.

على حكومة عراقية برئاسة (عبد الرحمن النقيب)(1) في 25 تشرين الأول 1920م الذي وافق على العمل تحت إشراف المندوب السامي البريطاني، في حكومة أريد لها أن تكون جسراً بين المندوب السامي البريطاني وبين الشعب العراقي لإقامة الحكم المقرر ، وجعلت على رأس كل وزارة مستشاراً بريطانياً لتوجيه سياستها من خلاله، وحكم العراق حكماً مباشراً، فعينت لكل لواء وقضاء حاكماً عسكرياً من ضباط الجيش البريطاني، ممن لم يمارسوا الشؤون الإدارية والمدنية الذين اِزدروا الناس واحتقروهم وعاملوهم بخشونة، ووضعوا نظاماً مستمداً من عادات وأوضاع غير مألوفة عند العشائر العراقية (2)، واعترفت السلطة البريطانية بالأساليب الإدارية الفوضوية التي مارسها موظفوها في العراق، من خلال استخدامها (الجنود والضباط الذين لم يألفوا الاشتغال في المناصب الإدارية... ولم يطلعوا على وسائل الإدارة ويجهلون الأحوال والظروف التي تحيط بهذه البلاد (العراق)... وإن فريقاً منهم ضعیف في الإدارة... غير كفؤ للقيام بوظائفه ومنهم من كان يرسل تقريراً ويعقبه بآخر يختلف فحواه عن التقرير الأول (3)، وبذلك وجدت بريطانيا ترشيح الأمير (فيصل بن الحسين) لعرش العراق الأفضل لأداء مهمتها في العراق، دون اعتراض شعبي، لحل مشاكلها في العراق، وإبعاد العراقيين عن اللجوء إلى السلاح مرة أخرى، فضلاً عن تعويضه عما فقده في مملكة سوريا بنظامه المعتدل الذي سيكون في نظرهم خير ضمان لهم في التصدي للتيارين الكمالي والبلشفي الذي ظهر تأثيرهما واضحاً في العراق(4).

ص: 392


1- من وجهاء مدينة بغداد ونقيب اشرافها ولد سنة 1261ه- / 1845م وتقلد نقابة الاشراف بعد وفاة اخية سنة 1315ه- /1898م ومنحه السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني نيشانا من الدرجة الثالثة سنة 1297ه- /1880م، وكان مقدرا من الحكومة العثمانية وعند احتلال البريطانيين مدينة بغداد عام 1917م ، لقي الحظوة عندهم وعين اول رئيس لوزراء العراق عام 1920م واستقال سنة 1922م، وتوفي سنة 1345ه- / 1927م. أبي المعز السيد محمد القزويني، طروس الإنشاء وسطور الإملاء، تحقيق جودت القزويني ب ط ، بيروت - 1418ه- / 1998م، ص 139.
2- فاضل حسين وعبد الوهاب عباس القيسي وآخرون، تاريخ العراق المعاصر ، مطبعة جامعة بغداد، بغداد - 1980م، ص 23. .139.
3- Haldane. OP. Cit. P,36.
4- فاروق صالح العمر، حول سياسة بريطانيا في العراق 1914-1921م، دراسة وثائقية، مطبعة الإرشاد، بغداد 1977م، ص ص 104-105.

عانى الملك (فيصل) من الثقل السياسي الذي اكتشفه في التعامل مع إرث خلَّفه حكم عثماني متخلف واحتلال بريطاني استعماري يشوبه التشابك

وعقدة مستعصية، وجد فيصل في تخفيف أثارها (في المراوغة والتلون ونقض العهود) (1)عمل طوال سنوات حكمه العراق من تتويجه يوم 23 أب 1921م وحتى وفاته في 7 أيلول 1933م(2) ، بنشاط منقطع النظير نابع عن رغبة صادقة في إقامة الدولة الحديثة في حدود الإمكان، ونزاهة مشهودة .

الثورة العراقية وإن فشلت عسكريًا، لكنها أسهمت كثيراً في تطور الوعي السياسي والثوري بين السكان، وأظهرت دلائل نضوج سياسي في الفرات الأوسط لاسيما عند بعض كبار علماء الدين الذين حرَّكوا الشارع وشيوخ العشائر في رفض جميع أنواع السلطة المفروضة من خارج العشيرة والرغبة في تجنب الضرائب، فضلاً عن مطالبهم السياسية في تحقيق الاستقلال وتقرير المصير وإقامة حكم وطني في العراق بديلاً عن الحكم البريطاني المباشر.

ص: 393


1- أمين الريحاني، ملوك العرب الإعمال الكاملة، المجلد الأول، الجزء الثاني، بط، بيروت - 1980 م، ص 327.
2- عبد المجيد كامل التكريتي الملك فيصل الأول ودوره في تأسيس الدولة العراقية الحديثة1921-1933م، دار الشؤون الثقافية، بغداد - 1991م، ص 320.

الإيديولوجية الصهيونية والغرب:رحلة التوظيف من الاستشراق إلى الإسلاموفوبيا

اشارة

اشرف بدر(1)

تنسب المصادر الصهيونية لناثان بیرنباوم (Nathan Birnbaum) ابتكار مصطلح «الصهيونية» سنة 1890، إذ تعرِّف نفسها ك- «حركة تحرر وطني هدفها عودة الشعب اليهودي لوطنهم واستعادة السيادة على أرض إسرائيل»(2)، وهذا ما ذهب إليه المستشرق برنارد لويس (Bernard Lewis) حيث عدَّ الصهيونية حركة تحرر وطني للشعب اليهودي (3). بينما يرى عبد الوهاب المسيري أنه من الصعب تعريف الصهيونية وذلك لعدة أسباب، من أهمها أن المصطلح يشير إلى نزعات وحركات ومنظمات سياسية غير متجانسة بل متناقضة أحياناً في أهدافها ومصالحها ورؤيتها للتاريخ أو في أصولها الإثنية أو الدينية أو الطبقية(4). ومع إقرارنا بصحة ما ذهب إليه المسيري، إلا أن أصول

ص: 394


1- باحث وأكاديمي من فلسطين.
2- Definition of ionism. ttps://www.jewishvirtuallibrary.org/jsource/Zionism/zionism.html Jewish Virtual Library.
3- Bernard Lewis. "The Anti-Zionist Resolution Foreign Affairs. Vol. 55. No. 1. Oct. 1976. pp. 54- 64. https://www.foreignaffairs.com/articles/israel/1976-10-01/anti-zionist-resolution
4- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ط1، (القاهرة: دار الشروق، 1998)، ص: 13.

البحث العلمي توجب اعتماد مفهوم محدد للمصطلحات الأساسية التي يدور حولها البحث، مع العلم بأننا سنصطدم بتعريفات مجزوءة للصهيونية، كتعريف قاموس أكسفورد (Oxford Dictionary) لها بأنها : «حركة سياسية اهتمت بشكل أساسي بإقامة دولة مستقلة للشعب اليهودي، وهي الآن تهتم بتطوير دولة إسرائيل»(1). بالرغم

ذلك، فإننا سنعتمد في بحثنا على تعريف موسوعة السياسة الذي ينص على ان الصهيونية: «دعوة وحركة عنصرية دينية استيطانية إجلائية مرتبطة نشأة وواقعاً ومصيراً بالإمبريالية العالمية تطالب بإعادة توطين اليهود وتجميعهم وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين بواسطة الهجرة والغزو والعنف كحل للمسألة اليهودية»(2)، مع تحفظنا على تعريفها كحركة دينية، فالصهيونية استخدمت الدين كأداة إضافة إلى أن معظم مؤسسي الصهيونية علمانيون.

اختلف الباحثون في مجال الاستشراق حول تعريفه كمصطلح؛ فهل هو حركة أم علم أم ظاهرة فأحمد بهنسي يرى بأنه «حركة علمية غربية (أوروبية) هدفها دراسة شؤون الشرق كافة (سياسية اقتصادية تاريخية جغرافية /أنثروبولوجية) لخدمة الأهداف الاستعمارية للسيطرة على بلدان العالم الشرقي (الإسلامي)(3). بينما نجد أن المستشرق الألماني رودي بارت (Rudi Paret) يذهب إلى أن كلمة الاستشراق مشتقة من كلمة شرق وكلمة شرق تعني مشرق الشمس، وعلى هذا يكون الاستشراق عبارة عن «علم الشرق أو علم العالم الشرقي»(4). أما مالك بن نبي فيرى أن المستشرقين هم الكتاب الغربيون الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي

ص: 395


1- Oxford Dictionaries، Zionism. https://www.oxforddictionaries.com/definition/learner/zionism
2- عبد الوهاب الكيالي (محرر) ، موسوعة السياسة، ط1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1983)، ج3، ص: 659.
3- أحمد بهنسي الاستشراق الإسرائيلي... سمات وأهداف، تقرير القدس الشهري الصادر عن مركز الإعلام العربي، (الجيزة: مركز الإعلام العربي السنة الثامنة، العدد 95 نوفمبر 2006، ص: 91.
4- رودي بارت الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة: مصطفى (ماهر)، (القاهرة: دار الكتاب العربي (1967)، ص: 11.

وعن الحضارة الإسلامية، والذي يمكن تصنيفهم من حيث الزمن إلى طبقة القدماء کجریر دريياك والقديس توما الأكويني (Thomas Aquinas)، وطبقة المحدثين مثل كارًا دوفو ( Carra de Vaux) وغولد تسيهر (Goldziher)، أو تصنيفهم من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين في كتاباتهم؛ فهنالك طبقة المادحين للحضارة الإسلامية وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها(1). وذهب إدوارد سعيد إلى اعتبار الاستشراق ظاهرة ، معرِّفاً إياه بأنه «أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه»(2). في هذا البحث سيُعتمَد على تعريف سعيد، وذلك لدقة رؤيته وتعريفه للاستشراق.

قسّم سعيد الاستشراق في كتابه إلى الاستشراق الجامعي، والاستشراق المسيحي الغربي أو الديني والاستشراق المعلمن المبطن والاستشراق السياسي، بينما يجد أحمد سمايلوفيتش (Ahmed Simillovic) بأنه يمكن تقسيم الاستشراق بناءً على

دوافعه المتعددة، وعلى رأسها: التاريخية والنفسية والاقتصادية، والإيديولوجيا،والدينية والاستعمارية والعلمية(3)، فالاستشراق من وجهة نظره يمثل حركة متواصلة الحلقات يحاول الغرب فيها التعرف إلى الشرق علمياً وفكرياً وأدبياً، ثم استغلاله اقتصادياً وثقافياً واستراتيجياً وجعله منطقة نفوذ له يسيطر فيها على العالم بأسره(4). ويمكننا القول إن رؤية سمايلوفيتش لا تتعارض مع ما ذهب إليه سعيد من ناحية جوهر الاستشراق، فالاختلاف بينهما ليس جوهرياً بل شكليّاً.

يرتبط الإطار النظري للاستشراق (من وجهة نظر سعيد) ببعض الأفكار والمذاهب والاتجاهات المتطرفة التي تسود الثقافة من وقت لآخر، بحيث نجد

ص: 396


1- مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره على الفكر الإسلامي الحديث، ط1، (بيروت: دار الإرشاد، 1969)، ص: 5.
2- إدوارد سعيد الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق (ترجمة: محمد عناني) ، ط1، (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص: 46.
3- أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1998) ص: 40-52
4- المرجع نفسه، ص: 39.

صورة لغوية للشرق وصورة فرويدية (Freudian)، وصورة شبنجلرية (Spen gler) ، وصورة داروينية (Darwinism) ، وصورة عنصرية(1)، وهكذا فإننا نجد أن الأطروحات الخاصة بتخلف الشرق وانحطاطه وعدم مساواته بالغرب، ترتبط بالغ بالأفكار الخاصة بالأسس البيولوجية للتفاوت العنصري، والتي أضيف لها مذهب دارويني يبرز الصحة «العلمية» لتقسيم الأجناس البشرية إلى أجناس متقدمة وأجناس متخلفة(2). فنجد اتفاقاً عاماً بين المستشرقين على إحدى صور الداروينية التي تقول بأن الشرقيين يمثلون البقايا المنحطة لعظمة سابقة (3)، وذلك بهدف تبرير احتلال الشرق واستعماره، وهذا ما التقطه منظرو الصهيونية وبنوا عليه الفكر الصهيوني؛ فبحسب المسيري، بنيت الصهيونية على عدة أسس فكرية من أهمها فكرة الإنسان الطبيعي، وضرورة عودة الإنسان إلى الطبيعة ليعيش حسب قوانينها البسيطة، ومن هنا فإن الدعوة الصهيونية للعودة إلى صهيون (فلسطين) هي عودة للطبيعة، مع ربط هذه الفكرة بفكر فريدريك نيتشة (Nietzsche Friedrich) القائم على الإيمان بالإنسان الأعلى «السوبرمان» (Superman)، الذي يجسد القوة ولا شأن له بالخير أو الشر؛ فنجد أن آحاد عام ( am had a ) ( أحد منظري الصهيونية) قد كتب في مقالة إعادة تقويم القيم»: اليهود ليسوا مجرد أمّة بل هم سوبر سوبر أمّة أو الأمة العليا. إضافة لذلك

استعانت الصهيونية بفكر تشارلز داروین (Darwin Charles) (الفكر الدارويني) القائم على النظر للواقع باعتباره صراعاً لا يهدأ؛ صراع الجميع ضدّ الجميع، البقاء فيه للأقوى، وذلك من أجل تبرير الاستعمار باسم البقاء للأقوى، مع ربط ذلك بنظريته التي تفترض أنّ هنالك تفاوتاً عرقيّاً وبيولوجيّاً وحضاريّاً بين الأجناس (4). بناءً على ذلك نجد أن هنالك قاسماً فكرياً مشتركاً بين الاستشراق

ص: 397


1- إداورد سعيد، الاستشراق، ص: 72.
2- المرجع نفسه، ص: 324
3- المرجع نفسه، ص: 388.
4- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي، ط1، (دمشق): دار الفكر، (2003)، ص: 78-82

والصهيونية قائم على النظرة الاستعلائية العنصرية مع إدعاء النقاء والتفوق وبالتالي فإن الإيديولوجيا الاستعمارية الغربية المبنية على مفاهيم الاستشراق (سنناقش لاحقاً اعتماد الاستعمار على مفاهيم الاستشراق) تعدُّ أحد أهم المصادر للإيديولوجيا الصهيونية.

يصعب تقسيم الاستشراق إلى حقب تاريخية، ومع ذلك يرى عبد الله محمد أن القراءة الغربية الاستشراقية تنقسم إلى ثلاث دوائر تاريخية مرّبها المسلمون :وهي دائرة التراكم العدائي ،المغلوط، وتبدأ منذ بزوغ الإسلام وتنتهي بتضعضع قوة الدولة العثمانية في نهاية القرن ال- 17 ، وتليها مرحلة الإرث الاستعماري، وتبدأ مع إرهاصات انهيار الدولة العثمانية وبروز دور محمد علي في مصر، وأخيراً مرحلة الاستعمار والانطلاق نحو العالمية، وتبدأ بعد سقوط الدولة العثمانية وبزوغ فجر الدولة الحديثة في العالم الإسلامي، حيث يعزو المستشرقون فشل التحديث إلى طبيعة المسلمين والديانة الإسلامية غير المتطابقة مع الديموقراطية، حتى انّ بعض أصحاب المدرسة الاستشراقية الحديثة كبرنارد لويس يدعي أن مناهضة العرب والمسلمين ل- «إسرائيل» يعود إلى تعصبهم وعدم تقبلهم مفاهيم الحداثة التي تؤهلهم للتعايش السلمي مع غيرهم(1).

النظرة الاستشراقية

يتضمن الاستشراق مادة علمية تتخللها أفكار التفوق الأوروبي وشتى ألوان العنصرية والإمبريالية، وقد استمدت الصهيونية نظرتها للعرب من المفاهيم الاستشراقية ومن ثم طورتها استناداً إلى نظرتها العنصرية(2)، يرى سعيد أن الاستشراق في نهاية الأمر هو رؤية سياسية للواقع، وهذه الرؤية مبنية علی

ص: 398


1- عبد الله محمد مؤسسات الاستشراق والسياسة الغربية تجاه العرب والمسلمين دراسات استراتيجية 57، ط1، أبوظبي مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2001)، ص: 8-29.
2- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 52

تعزيز الفرق بين المألوف (أوروبا أو الغرب أو نحن) الأذكياء الموضوعيين/ العقلانيين، وبين الغريب (الشرق أو هم) الأغبياء غير العقلانيين الفاسدين/ غير الموضوعيين(1). فها هو المستشرق الفرنسي رونيه دوشاتوبریان (Cha 1768)(teaubriand_1848) على سبيل المثال يصف سكان مصر من المسلمين بالشعب الغبي المنحط(2)، هذه النظرة الاستعلائية العنصرية جسَّدتها الصهيونية مع بداية نشأتها؛ ففي الاجتماع الذي عقده مارك سايكس (Mark Sykes) (كمندوب عن الحكومة البريطانية) في 1917/2/7 مع قادة الصهيونية للاطلاع على مطالبهم تركزت مطالبهم حول عدم مساواتهم مع سكان فلسطين العرب ، لأنها بلاد متخلّفة، والحقوق المتساوية تكون في البلاد المتقدمة وفلسطين تحتاج من يطوّرها، وذلك موجود عند اليهود (الأوروبيين) وحسب(3). وذهب المستشرق جورج بوش (Bush George) (جدّ الرئيس الأميركي) (1796-1859) في كتابه «محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين» and of The Life of Mohammed: Founder of the Religion of Islam) the Empire of the Saracens إلى وصف العرب والمسلمين بأنهم أعراق منحطة وحشرات وجرذان وأفاعٍ(4)، هذه الأوصاف تكررت في خطبة للحاخام عوفاديا يوسف (Ovadia Yossef) (الرئيس الروحي لحزب شاس «Shas») في آب/ أغسطس 2004 بثتها الفضائيات الإسرائيلية، يقول فيها: «إنّ اليهودي عندما يقتل مسلماً فكأنما قتل ثعباناً أو دودة، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن كلاًّ من الثعبان أو الدودة خطر على البشر ، لهذا فإن التخلص من المسلمين مثل

ص: 399


1- المرجع نفسه، ص: 101+96+95
2- المرجع نفسه، ص: 283.
3- صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 2015/12/28، عدد: 13544، يعقوب الإبراهيم، إعلان بلفور الحلقة 32. http://bit.ly/1RIAtsd
4- انظر عرض ونقد كتاب: «محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين لجورج بوش (1796 (1859)، شبكة الألوكة. http://www.alukah.net/library/018660//

التخلص من الديدان أمر طبيعي أن يحدث»(1)، وهذا يشير إلى تبني الصهيونية للنظرة الاستشراقية للعرب والمسلمين.

تبنَّت وسائل الإعلام الغربية وعلى رأسها وسائل الإعلام الأميركية النظرة الاستشراقية للفلسطينيين بعد الإعلان عن «دولة إسرائيل»؛ من خلال وصفهم بالغباء والتعصب والتخلف الاجتماعي، في مقابل أطفال «إسرائيل» الجدد الذين استولوا على المنازل العربية ونظفوها لمصلحة المهاجرين الجدد الذين يعملون على إقامة حضارة جديدة في المشرق العربي، وقد ظهر ذلك بوضوح في كتاب كينيث بيلبي (Kenneth Bilby) (مراسل صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون New York Herald Tribune في حرب 1948) الصادر سنة 1950 بعنوان نجمة جديدة في الشرق الأدنى(2) (2)New Star in the Near East. وبعد حرب - 1967 - بحسب دراسة لجانيس مونتي بيلقاوي Janice Monti Belkaoui) - صورت وسائل الإعلام الأميركية قادة «إسرائيل» كأبطال أسطوريين شديدي الوسامة، وفي المقابل أغفلت أقوال القادة العرب أو إجراء مقابلات معهم مجری تصوير الإسرائيليين كضحايا يدافعون عن أنفسهم ضدّ هجمات المعتدين العرب (3).

يكمن الاستشراق في كونه دليلاً على السيطرة الأوروبية الأميركية على الشرق أكثر من كونه خطاباً صادقاً حول الشرق (4)، فالعلاقة بين الشرق والغرب علاقة قوة وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركبة ) . وتقوم النظرة الاستشراقية الاستعلائية على أن «القوة والعصا أفضل وسيلة»(5)، و «القطيع يتبدد بإزالة من يقف في المقدمة»، تكثيفاً لمقولة

ص: 400


1- الجزيرة نت عوفاديا يوسف عندما يتحول الحاخام إلى داعية كراهية http://bit.ly/1leH713 .2013/10/7
2- ستيفن بينيت الاستشراق والخطاب التوراتي في وسائل الإعلام الأميركية (ترجمة سميح حمودة)، مجلة حوليات القدس، القدس: مؤسسة الدراسات المقدسية، عدد ،10، شتاء 2010)، ص: .21
3- ستيفن ،بینیت مرجع سابق، ص: 2725.
4- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 50.
5- المرجع نفسه، ص 49.

عالم النفس فرويد الشعوب غير الأوروبية كاذبة همجية عنيفة، كسولة، متخلفة»، وقد تمظهرت هذه النظرة الاستشراقية تجاه الفلسطينيين من خلال تصريحات قادة«إسرائيل»؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير (Yitzhak Shamir) يقول رداً على انطلاق انتفاضة الحجارة سنة 1987: «سوف نخضعكم بالبطش...... أنتم لستم سوى جنادب قياساً بإسرائيل»(1)، وعلى المنوال نفسه نجد أن الحملة الانتخابية لحزب «إسرائيل بيتنا» اليميني سنة 2009 تبنى شعار «فقط ليبرمان ( Lieberman) يفهم العربية»(2)، كناية عن أن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة.

استفحلت مؤخراً النظرة الاستشراقية الاستعلائية في صفوف القادة الإسرائيليين؛ حتى وصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (-Benjamin Netanya hu) للمجاهرة - في معرض تعليقه على تشبيه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية لحادثة حرق عائلة الدوابشة الفلسطينية على يد مستوطنين يهود ببعض الأفعال «الإرهابية» العربية - برفضه تشبيه الإرهاب اليهودي ب-«الإرهاب العربي» بحجة كون «إسرائيل» دولة ديموقراطية بعكس غيرها من الدول العربية(3). فبالرغم من بشاعة الجريمة وحرق عائلة فلسطينية كاملة بما فيها طفل رضيع على يد المستوطنين إلا أن نتنياهو يرى بأنه لا مجال لوصم هذا الفعل بالإرهاب، وعلى ما يبدو ينبع حرص نتنياهو على عدم مساواة العربي باليهودي من رغبته في الإبقاء على الصورة الذهنية للإرهابي ملتصقة بالعربي الفلسطيني دون أن تشمل المتطرفين من اليهود.

قامت المؤسسة الصهيونية بتغطية هذا الإجرام بفتاوى بعض الحاخامات

ص: 401


1- صحيفة القدس، القدس، 2015/11/30 ، أحمد قطامش استحقاقات سياسية وتنظيمية يستوجبها الاشتباك الانتفاضي في الأراضي المحتلة.
2- موقع اليوتيوب، الدعاية الانتخابية لحزب إسرائيل بيتنا 2009 (بالعبرية) http://youtu.be/0mjceh-6Hq4)
3- موقع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي جلسة الحكومة بتاريخ 2015/12/27. (العبرية): .http://www.pmo.gov.il/MediaCenter/SecretaryAnnouncements/Pages/govmes271215.aspx

المتطرفين، فقد تبين أن معظم منفذي العمليات الإرهابية ضدّ الفلسطينيين هم من أتباع الحاخام إسحاق جيزنبيرغ(Yitzhak Ginsburg) حيث اشتهر بفتاواه التي تحرّض بشكل مباشر على قتل الفلسطينيين والفتك بهم وإصدار الفتاوى المحرضة على قتل الفلسطينيين لا تتوقف على جيزنبيرغ؛ فقد أيَّد أيضاً الحاخام دوف ليئور (Dov Lior) (الذي يعد أبرز المرجعيات الدينية لحزب البيت اليهودي Jewish Home Party جريمة إحراق عائلة «دوابشة»، وفي مطلع سنة 2013 أصدر جيزنبيرغ ما يمكن عدّه «المسوغ الفقهي» الذي عملت على أساسه مجموعات «تدفيع الثمن» (Price tag) الإرهابية اليهودية، التي نفَّذت عشرات الاعتداءات في المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وأحرقت عدداً كبيراً من المساجد وثلاث كنائس في الغربية وداخل المدن التي يقطنها فلسطينيو الداخل. وحسب غيزنبيرغ، فإنه يتوَّجب تفهّم جرائم «شارة ثمن» على أنها «مقدمة طبيعية للخلاص اليهودي»، حيث عدّ هذه الجرائم بمنزلة «المخاض الذي تمر به الأمة قبل تحقيق الخلاص». ومما لا شكّ فيه أن أخطر «المصنفات الفقهية» اليهودية التي صدرت حديثاً، وتسوّغ قتل العرب لمجرد أنهم ،عرب، وعدم التفريق بين طفل وبالغ، هو كتاب «شريعة الملك (Torah King s) لمؤلفه الحاخام إسحاق شابيرا (Yitzhak Sha pira)، الذي صدر سنة 2009 وهناك في «إسرائيل» من يرى أن أعضاء التنظيمات الإرهابية اليهودية الذين يتعمدون المس بالأطفال الفلسطينيين تأثروا بمصنف شريعة الملك، لأنه تضمن «مسوغات فقهية» توجب قتل الرضع العرب بحجة أنهم عندما يكبرون سيحاربون «إسرائيل»، لذا فالأجدر أن يُقتلوا مبكراً. المفارقة أنه على الرغم مما يعكسه هذا الكتاب من شطط وخلل أخلاقي وقيمي وديني، فإن العشرات من الحاخامات أيدوا ما جاء فيه، في حين عدّه عدد من أعضاء مجلس الحاخامية الكبرى - التي تعدُّ أكبر هيئة دينية رسمية في «إسرائيل» - «إبداعاً فقهياً»(1).

ص: 402


1- الجزيرة نت 2016/1/1 ، صالح النعامي، الحاخامات وفقه التوحش المسكوت عنه . http://bit.ly/1Ombgjc

يتساءل المرء لماذا يحرص المستشرقون والصهاينة على وصم الشرقيين بصفات غير إنسانية، ولماذا الحرص على ترسيخ معادلة «نحن» و «هم»، الإجابة قد تكون في علم النفس الاجتماعي، حيث حاول هذا العلم تفسير بعض تصرفات الجماهير وكيفية حصول تحول في سلوكياتها، بحيث تتحول من تصرفات عاقلة إلى تصرفات تفتقر للعقل والمنطق؛ وبالتالي يتحول أفراد مُسالمون غيرُ عنيفين إلى النقيض تماماً. على ما يبدو كان لا بدّ للاستشراق كي يمهِّد للاستعمار والصهيونية إقناع جمهوره «الغربي» بتقبل فكرة السيطرة على شعب آخر «الشرقي»، بل ممارسة العنف ضده، وهذا لن يحصل بدون نزع صفة الإنسانية عن «الآخر» من خلال وصمه بصفات التخلف وتشبيهه بالحيوانات بحيث يكون هنالك «نحن» المتحضرون الأذكياء المتفوقون في مقابل «هم» المتخلفين الأغبياء المنحطين، الذين لا يستحقون الحياة ولا حتى الشفقة عند قتلهم كما صرَّح بذلك الحاخام عوفاديا يوسف. تصنيف «نحن» و «هم» هو الخطوة الأولى لذلك، كما حدث في تجربة جَين إليوت

(jane Elliott)(1) مع تلاميذها.

المثال الصارخ على نتيجة نزع صفة الإنسانية عن الخصم في العصر الحديث كان في رواندا عندما قام الإعلام التابع لقبيلة الهوتو (Hutu) بوصف أعدائهم من قبيلة التوستي (Tusti) بأنهم وحوش وآكلي بشر وأنهم عبارة عن ثعابين وجرذان، فكانت النتيجة حرب أهلية راح ضحيتها أكثر من 800 ألف إنسان(2). وهكذا يجري

ص: 403


1- قامت المعلمة جان اليوت عقب اغتيال مارتن لوثر كنغ سنة 1968 بمحاولة إقناع طلابها بخطورة الحكم على الآخرين بسبب لون بشرتهم ولإثبات ذلك قامت بإجراء تجربة على تلاميذها من الأطفال لمعرفة تأثير «التصنيف» في سلوكيات الأطفال من خلال تقسيم الطلاب إلى فريقين فريق الأطفال اصحاب العيون الزرقاء الذين تم وصفهم بالأذكى، بينما الأطفال أصحاب العيون البنية يعدّون أقل ذكاءً وبالتالي لا يحق لهم الشرب من صنبور المياه مباشرة بل يجب أن يشربوا بواسطة الأكواب الورقية ولا يحق لهم اللعب مع الأطفال أصحاب العيون الزرقاء، النتيجة كانت إحباط أصحاب العيون البنية في مقابل فرح أصحاب العيون الزرقاء، وخلال فترة وجيزة قام أصحاب العيون الزرقاء بالتحرش وضرب أصحاب العيون البنية، وأصبح إطلاق وصف صاحب العيون البنية بمثابة شتيمة، وعند تكرار التجربة مع طلبة الجامعات تكررت النتيجة نفسها مع علمهم بأنها تجربة. أنظر http://www.janebelliott.com/
2- https://www.youtube.com/watch?v=jk2-ZXAWkfg Five Steps to Tyranny. BBC.

تحويل «الغرب/ نحن» و «الشرق / هم» إلى «جمهورَين نفسِيَّين»؛ كل جمهور معادٍ للآخر، كما أشار إلى ذلك غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) في كتابه سيكولوجية الجماهير (Crowd Psychology)، حيث يرى لوبون بأن هنالك روحاً للجماهير مكوّنة من الانفعالات البدائية ومكرَّسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية، وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي، كما أنها خاضعة لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها؛ فالقائد يستخدم الصور الموحية والشعارات بدلاً من الأفكار المنطقية والواقعية ليستملك روح الجماهير ويسيطر عليها. يرى لوبون أن الجمهور النفسي عبارة عن تجمع بشري يمر في لحظة معينة بظروف متشابهة تحوِّله لكائن جديد له صفات مختلفة، فيتجمع الأفراد ويصبحون كتلة ذهنية واحدة والكتلة هذه لها صفات مختلفة عن صفات الأفراد المتفرقين، بحيث يتصرف الجمهور بلا وعي أو عقلانية، فتجد الفرد (بغض النظر عن مستواه الفكري) يؤيد جمهوره النفسي وتصرفاته لمجرد أنها خرجت من جمهوره بغض النظر عن صحة التصرف أو خطئه؛ فهو لا يُخضع هذه الأفكار للمحاكمة العقلية لأنها ببساطة صادرة عن «جمهوره النفسي»(1)، وهذا ربما يفسرِّ ما حدث في الولايات الأميركية المتحدة عقب أحداث 2001/09/11 من سقوط ضحايا مدنيين من النساء والأطفال في أفغانستان والعراق بذريعة محاربة الإرهاب»، حيث تظهر بعض الإحصائيات مقتل أكثر من مليون شخص منذ بداية الغزو الأميركي للعراق(2).

الصهيونية بين الاستشراق والاستعمار:

مَهَّدت أعمال بعض المستشرقين الطريق أمام الحملات الاستعمارية الأوروبية بل عمل بعضهم بشكل مباشر في خدمة الاستعمار، وهذا ما أقر به المستشرق جوستاف دوغا Gustave Dugat) بقوله:

ص: 404


1- انظر كتاب غوستاف لوبون، سيكولوجيا الجماهير، (ترجمة: هاشم صالح، ط 1 (بيروت: دار الساقي، 1991).
2- الجزيرة نت 2008/4/6 القتلى العراقيين والغزو الأميركي . http://bit.ly/1UpZqX3

إنّ المستشرقين مُناطٌ بهم بمهمة جديدة، إذ عليهم وهم يجوبون فلك العلم الخالص أن يهتمُّوا بالعالم الحاضر في الوقت الذي تكتسح فيه أوروبا كل المناطق الشرقية، ويقوم أمر تكوين عاملين حضاريين وتلقينهم العلوم الآسيوية قصد غاية سياسية وتجارية (....) على الحكومات الواعية بمصالحها الحقيقية أن تعرف كيف تشجع وتستخدم رجال العلم والإخلاص أولئك فالأمر يتعلق بإلحاق إضافات أخرى إلى محصول الحضارة المكتسبة وذلك لاغتنام الإفادات التي من شأن الشعوب الشرقية أن تعطينا إياها، كما يتعلق بإمداد هذه الشعوب بنصيبها من فتوحاتنا الفكرية والأخلاقية والمادية (1).

ما ذكره دوغا كان واضحاً في حملة نابليون بونابرت (Napoleon Bonaparte) الاستعمارية على مصر والشام (1798-1801) حيث قام بتجنيد عدد كبير من العلماء وأوصى نائبه كليبر (Kleber) بأن يدير مصر من خلال المستشرقين والزعماء الدينيين الإسلاميين الذين يستطيع المستشرقون استمالتهم(2)، وها هو المستشرق الفرنسي سيلفستر دوساسي (Silvester de Sacy)، الذي شغل منصب مستشار للشؤون السياسية الشرقية في الحكومة الفرنسية، يشرف بنفسه على تحرير البيانات والنشرات لجيش نابليون إضافة إلى صياغة النداء الموجه إلى الجيش الفرنسي باجتياح الجزائر سنة 1830(3). أضف إلى ذلك عدة مهام جرى إيكالها للمستشرقين فعلى سبيل المثال أوفدت الحكومة البريطانية المستشرق هنري بالمر (Henry Palmer1840 (1882 خلال أحداث ثورة عرابي بهدف رشوة القبائل العربية في سيناء من أجل تأليبها ضدّ عرابي، كما سخّر المستشرق الهولندي کریستان سنوك (1857) (Christian Souk_1956) أبحاثه في خدمة الاستعمار الهولندي في العالم الإسلامي؛ وخصوصاً في جزر الهند الشرقية(4)، ووصل الأمر

ص: 405


1- سليمان حميش الاستشراق والعقد الاستعماري، مجلة الاجتهاد، 1994، ص: 198+199.
2- إدوارد سعيد الاستشراق، ص : 154153 http://bit.ly/1P0CXzq
3- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام (ترجمة: قصي أتاسي وميشيل واكيم (دمشق: دار الوثبة، 1983، ص: 233.
4- توفيق سليمان، أسطورة النظرية السامية (دمشق: دار ،دمشق، (1982)، ص: 71-78.

بالمستشرق ماكس ميلر (Max Miller) إلى الإشراف على تخريج كوادر الإدارة الاستعمارية في الهند سنة (1)18821، ويُعدُّ الضابط البريطاني المستشرق توماس إدوارد لورانس Thomas Edward Lawrence) لورانس العرب) صاحب الدور البارز الثورة العربية سنة 1916 ضدّ الدولة العثمانية مثالاً صارخاً على تماهي بعض المستشرقين مع الاستعمار؛ فهو يصرِّح بشكل واضح : «عندما أعلنت تركيا الحرب على بريطانيا، انطلقنا نحن الذين نؤمن بالعرب لنعمل على تركيز الجهود البريطانية وخلق عالم عربي جديد في آسيا، ولم يكن عددنا كبيراً بل كنا قلائل نلتف حول كلايتون (Clayton) رئيس إقليم الاستخبارات المدنية والعسكرية في مصر»(2).

برر الغرب الاستعماري إقدامه على احتلال الشرق من أجل معاونته على التحضر ؛ تطبيقاً للفكرة القائلة إنّ على الرجل الأبيض يَقعُ عِبءَ تمدين البرابرة وتثقيفهم (3)، ولم يقتصر جهد المستشرقين على التمهيد للاستعمار بل تجاوزه للتمهيد لتحقيق مشروع الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وهذا ما سنستعرضه في السطور القادمة.

تمهيد الاستشراق للصهيونية

يرى أحمد بهنسي بأن هنالك تداخلاً بين الاستشراق الغربي، واليهودي، والصهيوني والإسرائيلي؛ فالاستشراق اليهودي بدأ بدراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية مع انطلاق الاستشراق الغربي في القرن ال- 18 ، ثم ارتبط المستشرقون اليهود بالحركة الصهيونية بعد انطلاقها سنة 1881، بهدف خدمة الحركة الصهيونية وتأصيل الوجود اليهودي في فلسطين، وأخيراً جاء الاستشراق الإسرائيلي بعد إعلان عن قيام

ص: 406


1- روجيه غارودي، مرجع سابق، ص: 233.
2- توماس لورنس، أعمدة الحكمة السبعة (ترجمة محمد النجار)، ط1، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، (1963)، ص: 25.
3- أرسكين تشايلدرز الحقيقة عن العالم العربي :(ترجمة: خيري حماد، بيروت: المكتب التجاري، 1960) ص: 54.

(إسرائيل) سنة 1948، الذي عمل على دراسة قضايا الصراع العربي الإسرائيلي بهدف تقديم العون للقيادة الإسرائيلية في إدارتها للصراع(1). فعندما نستعرض أسماء أبرز المستشرقين نجد أن عدداً كبيراً منهم أصوله يهودية ، فمنهم على سبيل المثال الفرنسي سولومون مونك (1803) (S. Munk-1867) الذي كتب سنة 1845 «فلسطين وصف جغرافي وتاريخي وأثري (Description Géographique Historique ،Palestine Archeologique ، والهنغاري أرمينوس فامبري (1832) (A.Vambery_1913) الذي توسط ثيودور هرتزل سنة 1901 كي يقابل السلطان العثماني عبد الحميد أما المجري اجنتس غولد تسيهر (1850) (1921E.Goldziher) فقد اهتم بالدين الإسلامي والفرق الإسلامية ومن أهم كتبه دراسات إسلامية». ونجد أن الألماني جوزيف هو رفيتش (1874) (Horovitz 1931 كان عضواً في مجلس إدارة الجامعة العبرية Hebrew University) ، بينما كتب الإنجليزي ريتشارد غوتهيل .

1862) ( Gottheil_193 مقالة الصهيونية (Zionism) فى الموسوعة اليهودية Jewish Encyclopedia) وترأس اتحاد الصهيونيين الأميركيين (Federation of American Zionists) في الفترة 19041898 ، واهتم الألماني ماكس مايرهوف (M. Maeyerhof 1874) (1945) بتحقيق أعمال موسى بن میمون (Moses Maimonides)، وعمل الألماني دافيد بانت (D. Banet) (؟1897) أستاذاً للغة العربية في الجامعة العبرية، وأخيراً نجد أن النمساوي باول كراوس (1904) (1944-P. Kraus) تعلم العربية في الجامعة العبرية ومارس التدريس في جامعة القاهرة(2).

من الصعب التصور أن توجه عدد كبير من الباحثين ذوي الأصول اليهودية للدراسات الاستشراقية قد جاء من قبيل المصادفة، حيث يرى ساندر سلیمان (Sander Suliman)(3) أن اليهود كأقلية في أوروبا توجهوا عن قصد لدراسة العلوم

ص: 407


1- أحمد بهنسي، مرجع سابق، ص : 92.
2- ابراهيم عبد الكريم الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل، ط 1 ، عمان: دار الجليل، 1993، ص: 40-46.
3- رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل مواليد ألمانيا والده فلسطيني ووالدته ألمانية، خبير في الاستشراق.

الإنسانية من أجل التأثير في الأفكار والتوجهات الغربية، وهذا على ما يبدو ما يفسر هذه الظاهرة (1).

هيَّأ الاستشراق من خلال المعرفة كل الشروط لترجمة القوة وفرض سيطرة استعمارية على فلسطين، حيث عملت عدة جمعيات استشراقية على تسهيل مهمة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، من أهمها صندوق الاكتشاف الفلسطيني( Palestine Exploration Fund) الذي أُسّس سنة 1865؛ والذي يهدف إلى القيام بمسح كامل ودقيق لفلسطين، والبحث العلمي في الآثار الوثيقة الصلة ب- «التاريخ التوراتي»، والقيام بحفريات لإلقاء الضوء على فنون «الأمة اليهودية». فعملت اللجان التابعة للصندوق من أجل الإجابة عن عدة أسئلة من أهمها تحديد موقع «هيكل اليهود» (Jewish Temple) الذي بناه سلیمان و هدمه تيتوس (Titus)، إضافة إلى معرفة الطريق الذي سلكه النبي موسى مع بني إسرائيل عند هجرته من مصر إلى فلسطين. وعلى الرغم من أن نشاط الصندوق ينبع من فكرة دينية تستهدف دراسة كل ما يتعلق بالأراضي المقدسة، إلا أن مجالات نشاطه وما قام به من عمليات المسح والحصر ووضع الخرائط لا يمكن إرجاعها إلى مواضع أثرية دينية وحسب، وخصوصاً أن التعاون كان كاملاً بين العاملين فيها من علماء ومستشرقين وضباط في وزارة الحربية البريطانية وسلاح الهندسة الملكية، مثل كوندور Condor)، وولي ولورنس Lawrence) وبالمر (Palmer وكيتشنر ( Kitchener) الذي كان يرى بأن احتلال فلسطين سيضمن تأمين طرق المواصلات الرئيسية، وبأن أرض فلسطين تعود ملكيتها لليهود(2). أما الكابتن تشالرز وارين Charles Warren) فقد دعا كتابه أرض الميعاد (The Land of Promise إلى ضرورة تطوير فلسطين

ص: 408


1- مقابلة شخصية مع د. ساندر سليمان رئيس قسم العلوم السياسية جامعة الخليل في جامعة الخليل بتاريخ .2015/12/20
2- خيرية قاسمي نشاطات صندوق اكتشاف فلسطين 1865-1915، مجلة شؤون فلسطينية، (بيروت: مركز الأبحاث م.ت.ف عدد ،104 تموز/يوليو (1980) ، ص: 71-94.

على يد شركة الهند الشرقية (East India Company عن طريق إدخال اليهود عليها من أجل احتلالها وحكمها(1)، إضافة إلى الكولونيل واطسون (Watson) الذي رأس اللجنة التنفيذية للصندوق واشترك في الحملة المصرية وعُيِّن بدائرة المخابرات في الجيش وقام بوضع كتاب سنة 1915 Fifty years Work in the 1865 1915Holy Land: A record and summary)، وبذلك أسهم الصندوق في تكوين صورة كاملة عن أوضاع فلسطين في مداها الأوسع والأدقّ، فقدم خدمة عظيمة للصهيونية (2). وهذا ما عبرَّ عنه المستشرق كلود كوندور (Claude Conder) في محاضرة ألقاها سنة 1892 بقوله إنه وزملاؤه كان لهم الفضل في تشجيع الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين، من خلال إلقاء الضوء على التوراة بهدف مساعدة سكان فلسطين المستقبليين من اليهود من أجل الحصول على الحقائق الثابتة عن طاقات البلد وإمكانياته(3).

لم يقتصر التمهيد للصهيونية على الاستشراق الفرنسي والبريطاني بل تعداه إلى روسيا القيصرية التي أنشأت سنة 1852 لجنة من المستشرقين هدفها تهيئة الوسائل اللازمة لتأسيس بيوت للمهاجرين اليهود إلى فلسطين، وفي أثناء الاحتفال بالذكرى ال- 90 لتأسيس الجمعية، ألقى المستشرق س.ل. يتحسفكي كلمة قال فيها:«إن جمعية الاستشراق الروسي قد ساهمت مساهمة فعّالة في إنجاز وتحقيق الوطن القومي في فلسطين»(4).

ص: 409


1- أسعد رزوق، إسرائيل الكبرى دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني، سلسلة كتب فلسطينية (13)، (بيروت: مركز الأبحاث م.ت.ف، 1968)، ص: 42.
2- أحمد سمايلوفيتش، مرجع سابق، ص: 142+143.
3- محمود المراش بريطانيه صندوق الاستكشافات الفلسطينية، مجلة شؤون فلسطينية، (بيروت: مركز الأبحاث م.ت.ف عدد 9 أيار/مايو 1972)، ص: .202-200
4- محمد الدسوقي ، الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه، ط1، المنصورة: دار الوفاء، 1995)، ص: 50.

الالتقاء الديني بين الاستشراق والصهيونية

تقع معتقدات عقيدة العصر الألفي السعيد في قلب معظم المعتقدات المسيحية والإنجيلية المتعلقة بدور «إسرائيل» في ما يتعلق ب-«نهاية العالم»، وهو تفسير تنبؤي معقد للنصوص المقدسة المتعلقة بالمجيء الثاني للمسيح ونهاية العالم، بالاستناد على قراءات من مرقس ،13 ومتّى ،24 ولوقا ،21 بحيث يصبح تدفق اليهود إلى «الأرض المقدسة»، وتأسيس «دولة إسرائيل» كمقدمة لسيناريو نهاية العالم(1). وهذا يفسر دور حركة الاسترجاع المسيحية/ البروتستانتية (Protestantism) (الصهيونية المسيحية) التي كانت تطالب بإعادة اليهود إلى «أرضهم الأم» حتى يتسنى هدايتهم وتحويلهم إلى المسيحية، فعودة اليهود وهدايتهم وتنصيرهم كانت تعد شرطاً أساسياً لحلول الألفية السعيدة (التي سيحكم فيها المسيح المخلِّص ألف عام)، وهذا ما جعل الصهيوني ناحوم سوكولوف (Nahum Sokolov) في كتابه تاريخ الصهيونية (History of Zionism) يفسر تعاطف بريطانيا وتفهمها للحركة الصهيونية بالطابع الإنجيلي للشعب الإنجليزي(2). حيث أتاحت حركة الإصلاح الديني البروتستاني الفرصة لانبعاث القومية اليهودية عبر التغييرات اللاهوتية التي جاءت بها، وعلى رأسها الترويج لفكرة أن اليهود أمة مفضلة وضرورة عودتهم إلى أرض فلسطين(3). في السياق نفسه رأى العديد من الإنجيليين حرب 1967 كأنّها التحضير للمجيء الثاني للمسيح، فحثّ القس الأميركي الشهير بيلي غراهام (Billy Graham) «إسرائيل» على عدم التخلِّي عن الأراضي التي استولت عليها، مشيراً إلى أن اليهود هم «شعب الله المختار» وأن أرض فلسطين ملك لهم(4). هذه النظرة الدينية مهَّدت للحركة الاستعمارية «الرأسمالية» والصهيونية وهذا ما ذهب إليه ماكس فيبر

ص: 410


1- ستيفن ،بینیت مرجع سابق، ص: 19.
2- عبد الوهاب المسيري، الايدلوجية الصهيونية، ط2، (الكويت دار المعرفة (1992)، ص: 34432.
3- ريجينا الشريف، مرجع سابق، ص 35.
4- ستيفن بینیت، مرجع سابق، ص: 2725.

(Max Weber) حيث يرى أن النزعة الطائفية البروتستانتية قامت على الربط بين السلوك الديني والرأسمالية، فالمسيحيون «الحقيقيون» وحدهم هم المقبولون في الطائفة (1).

استخدام الدين لم يقتصر على الاستشراق الغربي بل نجده حاضراً بقوة في السلوك الصهيوني، فالعقيدة الدينية لعبت دوراً مهماً في الإيديولوجيا الصهيونية، وكما يرى روجيه غارودي (Roger Garaudy) فإن «الحركة الصهيونية لا يمكن أن تتماسك إلا بالعودة إلى الموزاييك الديني، احذفوا مفاهيم الشعب المختار وأرض الميعاد فستنهار أسس الصهيونية.... إن ضرورة الترابط الداخلي للبنية الصهيونية لإسرائيل فرض على قادتها تعزيز سلطة رجال الدين»(2)، فكما هو معروف أن المتدينين عارضوا في البداية الصهيونية، لكن بعضهم وجد فيها وسيلة لتحقيق «بداية الخلاص» ونزول المسيح المنتظر. كما حاول قادة الحركة الصهيونية التوصل إلى تسويات من أجل وحدة الأمة»(3)، وهكذا نجد رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون Ben Gurion David) في سنة 1956 يبرر مشاركة «إسرائيل» بحرب السويس (بالرغم من كونه ملحداً ويفتخر بعدم التزامه بشروط الدين اليهودي)، بالتصريح في الكنيست أن السبب الحقيقي للحرب هو «استعادة مملكتي داوود وسليمان إلى حدودها التوراتية»(4).

التقى الدافع الديني للاستشراق مع الطموحات الصهيونية، وحصل انسجام كبير أهداف الاستشراق الدينية والصهيونية، حيث يرى محمد إدريس أن الهدف الديني

ص: 411


1- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة: محمد علي مقلد، تحقيق: جورج أبي صالح)، ط1، (لبنان: مركز الانماء القومي، 1990)، ص: 179.
2- موقع إنسانيات، 2007 ، عبد القادر عبد العالي، التصدّع الديني العلماني من خلال الحالة الإسرائيلية. http://insaniyat.revues.org/3167
3- موقع مركز تكنولوجيا التعليم العلاقة بين المتدينيين والعلمانيين في إسرائيل (الماضي/الحاضر/المستقبل). بالعبرية) 17807=http://lib.cet.ac.il/pages/item.asp?item)
4- اسرائيل شاحاك، تاريخ اليهود وديانتهم ترجمة ناصرة السعدون دمشق: دار کنعان (2012)، ص: 41.

للاستشراق كان إضعاف الإسلام وتشويهه والتشكيك في قيمه عن طريق إثبات فضل اليهودية عليه، والزعم بأن اليهودية مصدر الإسلام الأول، لأن الدين الإسلامي كان دوماً المحرك الأساسي لمقاومة الاستعمار والحملات الصليبية(1). وهذا ما عبر عنه المستشرق برنارد لويس بقوله:«كان الإسلام في عيون مسيحيي العصور الوسطى العدو الأكبر، وكانت دراسته تعد ضرورة من أجل أهداف واقعية للغاية، أحدها كان جدلياً الرغبة في فهم هذا الدين بهدف مقاومته وتدميره»(2).

الاستشراق وحل المسألة اليهودية:

بدأت المسألة اليهودية (أو معاداة الساميّة) بالظهور في برلين عقب تأسيس «عصبة اللاساميين» (Antisemitism) عام 1880 في السنة نفسها كتب الأستاذ الجامعي تريتشكيه: «اليهود عنصر غريب في ألمانيا لا يريد ولا يستطيع أن يندمج، مطالبتهم بالاعتراف بحقوقهم القومية تهدم الأسس القانونية للمساواة التي منحت لهم. وتبعه يوجين ديرينغ الذي كتب «العنصر اليهودي هو أسوأ عناصر العرق السامي؛ هدفه التسلط على العالم واستعباد الشعوب الأخرى ... اليهودية تتصف بصفات ضارة غير اجتماعية خصوصاً عندما تنشط فی السياسة أو «الصحافة». واستنتج البريطاني هو ستون تشامبرلين ( Houston Chamberlain) (عاش في ألمانيا) في كتابه «أسس القرن التاسع عشر» (The Foundations of the Nineteenth Century أن تاريخ المدينة (ألمانيا) عبارة عن صراع بين الآريين الصديقين والساميين، تزامن ذلك مع ظهور كتاب برتوكولات حكماء صهيون (The Protocols of the Elders of Zion) الذي يدَّعي واضعوه بوجود زعامة يهودية عالمية تدير العالم، وهكذا بدأت بوادر معاداة الساميّة بالظهور في محاكمة درايفوس (Dreyfus) (ضابط أركان فرنسي

ص: 412


1- محمد إدريس، الاستشراق الإسرائيلي في المصادر العبرية (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 1995)، ص: 84.
2- المرجع نفسه،ص:27.

يهودي اتهم زوراً بالخيانة (1894) رافقها مشاعر كراهية كبيرة؛ أدين ثم بُرِّىَ جزئيا وصدر عفو عنه(1).

يرى صبري جريس في كتابه تاريخ الصهيونية (1862-1948)، أن هنالك عدة أسباب قادت لظهور معاداة السامية من أهمها (2):

- تحميل المسيحية لليهود مسؤولية قتل المسيح.

- سيطرة رأس المال اليهودي.

- سيطرة اليهود على الإعلام.

- اشتراك اليهود في الحركات الثورية.

- شجب الديانة اليهودية من قبل بعضهم من خلال شجب الدين عامة والمسيحية خاصة، واعتبار أنه لا يمكن دمج اليهودي بالمجتمع.

- هجرة اليهود إلى أوروبا الغربية مما أدى لمزاحمة السكان الأصليين.

ويرى المسيري أن البيئة التي ظهرت فيها المسألة اليهودية تتلخص بالتالي(3):

- فشل المسيحية الغربية في صياغة رؤية محددة تجاه الأقليات بشكل عام والجماعات اليهودية تحديداً، فالكاثوليكية (Catholicism) تبنت أن اليهود قتلة المسيح، أما البروتستانت فقالوا إن اليهود أداة للخلاص بعد عودتهم لفلسطين.

ص: 413


1- صبري جريس تاريخ الصهيونية (1862-1948)، (قبرص : مركز ابحاث م.ت.ف»، 1981)، ص: 4745.
2- المرجع نفسه، ص: 49و47.
3- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي، ط1، بيروت: دار الفكر، 2003)، ص: 8669.

- تبنِّي العقيدة الألفية (في آخر الزمان وبعد عودة اليهود لفلسطين سيأتي المسيح المنتظر ويحكم العالم مدة ألف عام).

- تحويل الغرب لليهود كأداة وجماعة وظيفية؛ لا ينظر لها في ضوء إنسانيتها وإنما فی ضوء نفعها للمجتمع، (مثال : حلت البنوك مكان اليهودي المرابي).

- تعثر التحديث في شرق أوروبا وخصوصاً في روسيا بسبب: سرعة معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي لم يتأقلم اليهود مع النظام الجديد، وعزلة اليهود وعدم اندماجهم (ثقافة الغيتو «Ghetto»).

- حدوث انفجار سكاني بين يهود شرق أوروبا في منتصف القرن ال- 19 ما دفع مئات الألوف للهجرة إلى أوروبا الغربية ما أثر في الاقتصاد.

- سُكنى اليهود في مناطق حدودية متنازع عليها ما أضعف ولاءهم القومي.

- تكلس اليهودية الحاخامية وعدم مسايرتها لروح العصر.

- ظهور قيادات يهودية مثقفة فاقدة لهويتها اليهودية ولكنها لم تكتسب هوية غربية.

يستنتج جريس في كتابه أن آراء اللاساميين قد التقت مع الأفكار الصهيونية، حيث نجد أن أبرز أفكار المعادين للسّاميّة كالتالي(1):

- اليهود (دين) وقومية وعرق).

- لا يمكن أن يتعايش اليهود مع الأوروبيين.

ص: 414


1- صبري جريس، مرجع سابق، ص 50.

- يجب عزل اليهود.

- يجب إقامة دولة لليهود في الشرق حيث أصولهم .

ومن ثم كان الحل الصهيوني المقترح للمسألة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من العملية الاستعمارية الغربية. فبحسب أو سكار. ب رابينوفيش(Rabinovitch Oscar) اتفق الاقتراح الصهيوني مع الصيغة الاستعمارية الأوروبية بواسطة تحويل تيار المهاجرين اليهود من إنجلترا إلى أفريقيا وآسيا بحيث تبني الصهيونية موقعاً مهماً لبريطانيا وطرقها عن طريق إنشاء مركز يهودي مستقل(1)، فنجد أن وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور (Arthur Balfour)، الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين، كان محسوباً على المُعادين للسّاميّة حيث كان هدفه منع اليهود من الهجرة إلى بريطانيا، وتوجيههم إلى الشرق من أجل ضمان سيطرة بريطانيا الاستعمارية فترة طويلة(2)، حتى نابليون بونابرت الذي دعا الصهاينة إلى الاستيطان في «بلاد أجدادهم» يُعد من أهم المعادين لليهود(3).

الاستشراق واختراع شعب وأرض «إسرائيل»

بدأ ذلك بنداء بونابرت لليهود في أثناء حملته على مصر والشام حيث حثهم على السير وراء فرنسا حتى يتسنَّى استعادة العظمة الأصلية لبيت المقدس، ووعد بأنه سيعيد اليهود إلى الأرض المقدسة إذا ساعدوا قواته (4)، وخاطبهم بقوله: «سارعوا؛ هذه اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سُلبت منكم لآلاف السنين وهي

ص: 415


1- المسيري، الايدلوجية، ص: 43.
2- Raja Shehadeh (Book Review). Victor Kattan. From Coexistence to Conquest: International Law and the Origins of the Arab-Israeli Conflict (18911949-)، Middle East Policy Council. http://bit.ly/1Pw5PSq
3- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود، ص: 14.
4- Sokolov. Nahum. History of Zionism. 16001918-(vol. 1). New York: KTAV Publishing House. 1964. P: 63.

وجودكم السياسي كأمة بين الأمم»(1). لقد تبنَّت حملة بونابرت طروحات كتاب «وصف مصر» (Description of Egypt)، الذي كتبه المستشرقون الفرنسيون المرافقون للحملة، من تشديد الادعاء بأن اليهود هم ورثة فلسطين الشرعيون وعلى إعادة إنشاء مملكة القدس القديمة»(2)، ما دفع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن (Chain Weizmann) إلى وصف نابليون في رسالته لتشرتشل (Churchill) بأنه: «أول الصهاينة العصريين من الأغيار»(3). في هذا السياق نجد أيضاً مشروع المستشرق أنكتيل ديبرون (1805-1731) (Anquetil-Duperron) الرامي إلى إيجاد مرتكز يهودي في المنطقة، إذ قام ديبرون بكثير من الرحلات ليبرهن على وجود«شعب الله المختار في ماضي فلسطين وحاضرها عبر تتبع أصول اليهودية (4).

التقت أفكار بعض المستشرقين كالفرنسي ألفونس دي لامارتين (Alphonse 1790-1869) (de Lamartine) مع الصهيونية بأن فلسطين صحراء خاوية تنتظر من يزرعها، وأن سكانها من الرحّل الذين لا قيمة لهم ولا حقّ لهم فعليّاً في الأرض(5) ، وربما اعتمد الصهيوني ماكس نوردو (Max Nordau) على هذا الرأي عندما أطلق عبارته الشهيرة:«أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»(6)، هذا الادعاء انعكس على الخطاب الصهيوني وبشكل واضح في تصريح رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير (1974 - 1969) (Golda Meir):«لا يوجد شعب فلسطيني»(7). ولم يقتصر الأمر على إنكار وجود شعب فلسطيني، بل تعداه إلى إنكار الاسم التاريخي لفلسطين، فها هو المستشرق برنارد لويس يدَّعي بأن

ص: 416


1- Franz Kobler. Napoleon and the Jews. Schocken Books. 1976. p: 57.
2- شكري نجار ، لم الاهتمام بالاستشراق ، مجلة الفكر العربي (السنة 5 ، 1983، عدد (31)، ص: 67.
3- Crossman، Richard. A Nation Reborn: The Israel of Weizman، Bevin and Ben Gurion. London: Hamish Hamilton. 1960. P: 130.
4- شكري النجار، مرجع سابق، ص 67.
5- إدوارد سعيد الاستشراق، ص: 7 .437
6- بول فندلي الخداع، ترجمة وتحقيق محمود زاید، ط1، بیروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1993)، ص: 25.
7- إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق (ترجمة وتحرير: صبحي الحديدي)، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996)، ص: 111.

الاسم التاريخي لفلسطين «بلسطينا» لم يكن متعارفاً عليه بين اليهود وأن الاسم المتعارف عليه هو «أرض إسرائيل»(1).

عملت الصهيونية على بناء وطن قومي لليهود، ولم تكن مصرّة في بداياتها على الاستيطان في فلسطين (مع تفضيلها لذلك بسبب وجود الرابط التاريخي) بحسب ما ذكر هرتسل في كتابه «الدولة اليهودية» Jewish State The) (حيث طرحت الأرجنتين ) (2). الدافع الأساسي لاختيار فلسطين على يد الصهيونية كموقع للاستيطان وتفضيلها عن الأرجنتين أو أوغندا كان بحسب هرتسل «قوة الأسطورة، أي الاسم في حد ذاته»(3).

ثمة إجماع بين الحاخامات الأرثوذكس على أن تعبير «الشعب اليهودي» في اليهودية تعبير ديني، يشير إلى جماعة المؤمنين المخلصين الذين يتوجهون بإيمانهم إلى الله الواحد، بل إن انتماء هم مشروط بمدى طاعتهم لله(4)، وهذا ما صرَّح به الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية في بريطانيا سنة 1909 بقوله :«منذ تحطيم الهيكل وانتشار اليهود في العالم، فإنهم لا يشكلون أمة بل نحن طائفة دينية» (5). لقد استخدم التناخ كنص مشكل لهوية وعقيدة اليهود بعدما حرر ونشر في وسط جماعة المؤمنين التي كانت وبحق في أمس الحاجة له(6)، وهذا ما يؤكده الحاخام ساديا ها غاون الذي عاش في

ص: 417


1- Bernard Lewis. Palestine: On the History and Geography of a Name. The International History Review. Vol.2. No. 1. Jan 1980. p:1. http://www.jstor.org/stable/40105058?seq=1page_scan_tab_contents
2- موقع الجامعة الإسلامية بغزة (مترجم)، ثيودور هرتسل الدولة اليهودية ، ص : 19. http://bit.ly/1ZoQRgj
3- Patrai. Raphael. The complete Dairies of Theodore Herzl. (vol. 1). New York: Herzl Press and Thomas Yoseloff. 1960. Trans Harry Zohn. P: 56.
4- عبد الوهاب المسيري، الايدلوجيا، ص: 116
5- صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 2015/12/27، عدد : 13543 ، يعقوب الإبراهيم، إعلان بلفور الحلقة 31. http://bit.ly/1ZwqdUC
6- شلوموساند، إختراع الشعب اليهودي، ترجمة: سعيد عياش، ط2، رام الله مدار، 2013)، ص: 103.

القرن العاشر بقوله «شعبنا هو شعب بسبب التوراة» (1)،حيث يصف اليهود أنفسهم كأمة دينيّة.

تزامن ظهور الصهيونية مع انتشار الحركات القومية التي كانت مبنية إما على النموذج القبلي واللصيق بالطبيعة والأرض أو النموذج الإقليمي السياسي وهو أقل ارتباطاً بالأرض وأكثر ارتباطاً بالدولة، لم يجد مفكرو الصهيونية ضالتهم في كلا النموذجين فقام سيمون دوبنوف (Simon Dubnow) بابتكار القومية اليهودية بالاعتماد على النموذج الروحي المستقل عن الطبيعة لأن وجوده يستند أساساً إلى الوعي بالذات التاريخية؛ حيث يرى دبنوف أن اليهود ينتمون لهذا النموذج أو بلغة أخرى قوميّة الشتات(2).

يعدُّ مفهوم الشعب غير دقيق فهو يدل على جماعة اجتماعية تحمل مزايا مشتركة على مستوى من الأهمية يكفي لبلوغ حدّ أدنى من الوحدة والاستقلالية، أما الشك في طبيعة هذه المزايا (لغة، وثقافة، وتاريخ، وموقع جغرافي) وبالتالي الأساس الموضوعي أو الذاتي لهذا المفهوم (هل يوجد شعب بذاته أو لاعتقاده أنه كذلك بتأثير الممارسات الاجتماعية) فيصعبان عملانيته في العلوم الاجتماعية. في المقابل، نرى أن الاستخدام الإيديولوجي لمفهوم الشعب هو أكثر شيوعاً، إما لتسليمه مقاليد السيادة، وإما لتشريع كل ممارسة تطالب باستقلاله أو خروجه من مجموعة وطنية مبنية مسبقا(3).

قامت عملية اختراع الشعب اليهودي على ركنين أساسيين، وهما فكرة الشتات اليهودي وبأن اليهودية بقيت محصورة في العرق الذي اعتنقه في البداية، الدلالة الرئيسية المتوخاة لهذا الادعاء هی أن الشتات الذي رحل إلى مناطق مختلفة من

ص: 418


1- اسرائيل شاحاك، مرجع سابق، ص: 51. -
2- Rabinovitch، Simon. Alternative to Zion. 2007. P: 55. http://bit.ly/1mW6zUf.
3- غي هرميه وآخرون، قاموس علم السياسة والمؤسسات السياسية (ترجمة: هيثم اللمع)، ط1، (بيروت: مجد، 2005، ص: 252

العالم وكُتب له البقاء يعود من ناحية جذوره العرقية والقومية إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثرت في نقاء العرق اليهودي. وقد جرى تفنيد هذا الإدعاء على يد جمال حمدان في دراسته القيمة التي توصلت إلى أن اليهود الحاليين ليسوا من بني إسرائيل؛ فيهود العالم اليوم مختلطون في جملتهم اختلاطاً يبعدهم عن أيّ أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة، ولا يوجد رابط أنثروبولوجي بين الجهتين، والرابط الوحيد هو رابط الدين(1). وهذا ما يقرُّ به هرتسل ضمنياً في معرض انتقاده لليهود المندمجين في أوروبا بسبب وجود الزواج المختلط في عدة دول أوروبية، خصوصاً في المجر(2)، قام الكاتب الإسرائيلي شلوموساند (Shlomo Sand) أيضاً في كتابه «اختراع الشعب اليهودي» The Invention of the Jewish People بتفكيك هذا الادعاء نفي ما يسمى بالشتات اليهودي الذي تقف وراءه فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، وبدحض الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشيرياً بل بقي محصوراً في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته(3).

تقاطع المصالح بين الاستعمار والصهيونية

ظهرت الحاجة الغربية لمعرفة الشرق الإسلامي وخصوصاً من الناحية الجغرافية والاجتماعية للتعرف إلى موارد الثروة من جهة، ومصادر التوزيع للإنتاج الأوروبي من ناحية أخرى، لذلك وجدنا عدداً كبيراً من المستشرقين يركزون في دراسات الجدوى الاقتصادية لبلادهم وخصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين(4).

ص: 419


1- جمال حمدان، اليهود انثروبولجياً ، (القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1967)، ص: 90.
2- ثيودور هرتسل، مرجع سابق، ص 8.
3- شلوموساند، إختراع الشعب، ص: 179-233.
4- محمد ادریس مرجع سابق، ص 30.

يميز المؤرخون عادة بين نوعين من الاستعمار:

1. استعمار المرحلة الأولى المرتبطة بالرأسمالية المركانتيلية ( Mercantilist Capitalism) (التجارية) الذي تركز في النصف الغربي للكرة الأرضية والجزر ،الاستوائية، وكان الهدف منه زيادة قوة وثروة الدولة المستعمرة من خلال الحصول على المواد الخام من ذهب وفضة ومنتجات استوائية، ولم يكن الاستيطان أحد أهدافه الأساسية.

2. استعمار ما بعد سنة 1870، والذي تركَّز في أفريقيا وآسيا بهدف خدمة بعض طبقات المجتمع وفئاته عن طريق تزويدهم بالأسواق لبضائعهم إضافة للبحث عن المواد الخام وبالتالي سعى الاستعمار في هذه المرحلة لتغيير البنية الاجتماعية للمجتمعات التابعة كي تصبح تابعة للحلقة الرأسمالية الإمبريالية. حاجة دول أوروبا للأسواق أفاد الصهيونية لكون فلسطين ومصر مدخلاً لهذا المسرح الجديد(1).

التعرف إلى الجذور الحضارية لنوعي الاستعمار الاستيطاني التقليدي والإحلالي قد يكون أمراً له أهميته، إذ يبدو أن النوع التقليدي في الجزائر وأنغولا قد نشأ في الدول الكاثوليكية، بينما تعود جذور النوع الإحلالي في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة إلى الدول البروتستانتية. وسيقودنا هذا إلى التساؤل عمَّا إذا كان التفسير الحرفي للعهد القديم وهو التفسير الذي يسود بين كثير من البروتستانت يوجِد حالة عقلية تسهل عملية نقل السكان وتجعلها أمراً طبيعياً لأنها تجري باسم الأوامر المقدسة التي ترد من علٍ؟ قد يمكن القول إن الكنيسة القومية أي الكنيسة القاصرة على مجموعة بشرية لها الانتماء العرقي نفسه أو الإثني نفسه كما هي الحال مع الكنيسة الهولندية الإصلاحية في جنوب أفريقيا التي لا تسمح للسود بالانضمام إليها، مثل هذه الكنيسة تضفي قدراً من القداسة على الأفعال التي يأتيها أعضاؤها وتقدم

ص: 420


1- عبد الوهاب المسيري الايدلوجية، ص: 30.

هي التبريرات الدينية التي تكون عادة ذات طابع إنجيلي، فتسوِّغ عمليات الطرد بأن الآخرين يقعون خارج نطاق الخلاص والتوبة، أما الكنيسة العالمية أي الكنيسة التي تفتح أبوابها لأي إنسان فهي تمنح المؤمن سواء أكان من المستوطنين أم من السكان الأصليين حقوقاً معينةً بغض النظر عن انتمائه القومي أو العنصري وهو ما يجعل من الصعب على المستوطنين الذين يتبعون الكنيسة العالمية تبني النمط الإحلالي من الاستعمار (1).

تقاطعت مصلحة الاستعمار مع الصهيونية، فحاول اللورد بلمرستون (Palmerston)، وزير خارجية بريطانيا سنة 1840 إقناع السلطان العثماني بفوائد السماح لليهود بالعودة والاستيطان في فلسطين، بسبب الأموال التي سيحضرونها معهم لكونهم أثرياء وبالتالي ستزداد ثروات السلطان، ومن ناحية أخرى سيكونون بمنزلة حاجز بشري أمام محمد علي(2). وفي سنة 1860 أشار أرنست لاهاران ) Ernest La

haranne)، سكرتير نابليون الثالث الخاص في كتيِّب بعنوان «المسألة الشرقية الجديدة» Eastern Question New The) إلى المكاسب الاقتصادية التي ستعود على أوروبا من خلال فتح أسواقٍ جيدةٍ في حال استقرَّ اليهود في فلسطين وعودة الدولة اليهودية القديمة (3).

في السياق نفسه قام البريطاني جورج غاولير (George Gaulir)، الذي تولىَّ منصب حاكم في جنوب أفريقيا، وزار فلسطين سنة 1849 ، بوضع خطَّةٍ لإعادة اليهود إلى «بلدهم» هادفاً من وراء ذلك إلى إيجاد منطقة عازلة بين سورية ومصر (4). التقطت

ص: 421


1- المسيري، الايدلوجية ص: 55.
2- Alexander Scholch. Britain in Palestine. 18381882-: The Roots of the Balfour Policy. Journal of Palestine Studies. Vol. 22, No. 1. 199293/ p: 39. http://www.palestine-studies.org/jps/fulltext/39775.
3- Abu-Lughod Ibrahim، and Abu-Laban Baha. Settler Regimes in Africa and the Arab World: The IIIusion of Endurance. Willmette، Illinois: Medina Univeristy Press 1974. P: 22.
4- شلوموساند اختراع أرض إسرائيل (ترجمة) : انطوان شلحت وأسعد زعبي) ، ط 1 ، رام الله مدار (2013)، ص: .176

الصهيونية الفكرة فقام هرتسل بالترويج لها في حال أقيمت الدولة في فلسطين بقوله: «من هنالك سنشكل جزءاً من استحكامات أوروبا في آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية»(1)، ويبدو أن مؤتمر لندن الاستعماري الذي عقد سنة 1907 أخذ بخطة غاولير؛ حيث أوصى رئيس الوزراء البريطاني ب-«إقامة حاجز بشري قوي و غريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوةً عدوّةً لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها»(2).

حينما احتاجت بريطانيا الاستعمارية مستوطنين بيض لتشجيع التجارة في بلاد الشام، ومن ضمنها فلسطين طلبت من الصهاينة تجنيد اليهود لتنفيذ هذه المهمة عبرالاستيطان في فلسطين، وهذا ما ،فلسطين، وهذا ما صرح به الأيرل شافتسبري (Shaftes- Earl of bury): «من هم أكثر الناس في العالم احتراماً للتجارة وهل يجد اليهودي موقعاً أو مجالاً أفضل من سوريا لتنمية نشاطه؟ أليس لبريطانيا مصالحها الخاصة في تحقيق التغييرات الضرورية؟. ولذا أقترح أن تدعم إنجلترا القومية اليهودية» وتساندها»(3)، كما أعد الوزير البريطاني اليهودي هربرت صموئیل Samuel) (1906 Herbert 1915) بعد الحرب العالمية الأولى تقريراً بعنوان عن مستقبل فلسطين (About The Future of Palestine ؛ تحدث فيه عن الصهيونية والفوائد الاستراتيجية التي ستجنيها بريطانيا عبر تشجيع المهاجرين اليهود على الاستقرار في فلسطين حتى يشكِّلوا نسبةً عاليةً من السكان وبذلك تضمن بريطانيا بقاء فلسطين تحت هيمنتها(4).

ص: 422


1- ثيودور هرتسل، مرجع سابق، ص 19.
2- موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وثائق خاصة بالقضية الفلسطينية، توصية مؤتمر لندن مؤتمر کامبل بنرمان http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/Recommendation_of_the_London_ Conference.pdf.
3- Sokolov. Nahum. History of Zionism. 16001918-(vol. 1). New York: KTAV Publishing House. 1964. P:206-207.
4- صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 2015/12/27، عدد : 13543، يعقوب الإبراهيم، إعلان بلفور الحلقة 1-3. http://bit.ly/1ZwqdUC

قام وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور بتبرير استعمار الشرق من خلال النظرة الاستشراقية بقوله:

انظروا أولاً إلى حقائق القضية: إن الأمم الغربية ما إن يبدأ ظهورها في التاريخ حتى تظهر بدايات قدرتها على الحكم الذاتي.... وهي القدرة الجديرة بالتقدير في ذاتها.... ثم انظروا إلى تاريخ الشرقيين برمته في ما يسمَّى بصفة عامة الشرق ولن تجدوا آثاراً تنبِّئُ بالحكم الذاتي إطلاقاً، إذ مرت كل قرونهم العظمى (ولقد كانت بالغة العظمة) في ظلّ الحكومات الاستبدادية والحكم المطلق، كما كانت كل إسهاماتهم الحضارية العظمى (ولقد كانت حقاً عظمى) في ظلّ ذلك اللون من الحكومة...، هل تعود ممارسة هذه الحكومة المطلقة من جانبنا بالخير على هذه الأمم العظيمة والتي أعترف بعظمتها ؟. أعتقد أنها تعود بالخير عليها وأعتقد أن الخبرة قد أثبتت أنها تمتعت في ظلها بحكومات أفضل كثيراً مما شهدته على امتداد تاريخ العالم كله، وهي ليست مفيدة لها وحدها لكنها ولا شكّ مفيدة للغرب المتحضر برمته(1).

يدّعي بلفور بأن الشرقيين أغبياء وقاصرون لا يقدرون على حكم أنفسهم وذلك من أجل تبرير احتلال أراضيهم واستعمارها، فهو يصرح في موضع آخر بأن «السكان الأصليين لفلسطين يتمتعون بالأولوية في امتلاك أراضيهم، ولكنها أولوية لا تداني على الإطلاق السلطة التي يتمتع بها المحتل في الاحتفاظ بهذه الأرض»(2).

مع انبعاث الحركة القومية العربية المعارضة للحكم العثماني اتجه الصهاينة إلى الأتراك ناصحين إياهم بإنشاء مقاطعة يهودية في فلسطين لإيجاد توازن مع 600 الف عربي في فلسطين ومع الدول المحيطة بها (3)، حيث حذر حاييم وايزمن في

ص: 423


1- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 8786
2- المرجع نفسه، ص: 388.
3- المسيري، الايدلوجية، ص: 46.

رسالته لتشرتشل(1)، القوى الاستعمارية من الاعتماد على الولاء العربي - عقب ثورة الشريف حسين ضدّ الدولة العثمانية - وبأن عليها الاعتماد على اليهود الموالين للغرب(2). أكدّ وايزمن على ذلك في رسالة لصديقه بقوله:«إذا دخلت فلسطين في نطاق النفوذ البريطاني، وإذا شجعت بريطانيا عملية استيطان اليهود هناك، وأصبحت دولة خاضعة لبريطانيا، فخلال (خلال عشرين عاماً إلى ثلاثين عاماً) مليون يهودي سيقومون بتطوير البلد وإعادته للحضارة ويشكلون حماية فعالة لقناة السويس»(3).

حتى يومنا هذا لم تتوقف الصهيونية عن ممارسة دور مخلب القط في الشرق الأوسط لمصلحة الدول الاستعمارية، فها هو يعقوب ميريدور (akov Meri - Ya dor) وزير التخطيط والتنسيق الاقتصادي (1982-1984) يصرح في حديث له في الإذاعة التابعة للجيش الأميركي أنه لولا وجود «إسرائيل» كقاعدة وكمنطقة نفوذ وكحليف للولايات المتحدة لاضطرت الأخيرة لبناء عشر حاملات طائرات(4).

من الاستشراق إلى الإسلاموفوبيا

من الاستشراق إلى الإسلاموفوبيا (5)

يرى إدوارد سعيد أن الاستشراق يشبه العداء للسامية، ويذهب إلى أن الاستشراق عبارة عن الفرع الإسلامي للعداء للسامية(6)، حيث نظر كثير من المستشرقين للنبي محمد عليه الصلاة والسلام كدجال؛ واتهموه بنشر تنزيل زائف (7)، فانطوى

ص: 424


1- رسالة كتبت في شهر يوليو 1921 لكنها لم ترسل إلى تشرتشل.
2- Crossman، Richard. A Nation Reborn: The Israel of Weizmann، Bevin and Ben- Gurion. London: Hamish Hamilton. 1960. P:131-132.
3- Abu-Lughod Ibrahim.op. cit. p: 183+ 184 .
4- عبد الوهاب المسيري، الايدلوجية، ص: 65.
5- مصطلح حديث نسبياً، تم نحت المصطلح الذي استعير في جزء منه من علم الاضطرابات النفسية للتعبير عن ظاهرة الرهاب أو الخوف المرضي من الإسلام. (أنظر خالد سليمان ظاهرة الإسلاموفوبيا، مركز الشرق العربي http://bit.ly/20gv5Rz)
6- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 79.
7- المرجع نفسه، ص 128

فهم الإسلام عند الغرب على «محاولة تحويل تنوعه إلى جوهرٍ وحدانيٍّ غير قابلٍ للتطور، وقلب أصالته إلى نسخة منحطة من الثقافة المسيحية، ومسخ شعوبه إلى كاريكاتورات مثيرة للرعب»(1)فها هو المستشرق برنارد لويس يستند في كتابه «ثورة الإسلام» على دعوة السياسيين في مصر سنة 1945م لتنظيم مظاهرات بمناسبة ذكرى وعد بلفور وما رافق ذلك من مهاجمة الكنائس الكاثوليكية والأرمنية والأرثوذكسية اليونانية؛ ليصل إلى نتيجة مفادها أن الإسلام ظاهرة جماهيرية مخيفة تستهدف اليهود والنصارى على حدّ سواء(2)، وفي السياق نفسه نجد المستشرق شالوم زاوي (-Sha lom Zaoui) يؤكد ذلك بقوله :«يفرق المسلمون بين دار الإسلام ودار الحرب، ويجب أن تسلم كل الشعوب بالسيف والجهاد إذا لم يقبلوا دين محمد طواعية» (3).

يرى سعيد أن جذور الخوف من الإسلام «الإسلاموفوبيا» في الغرب وخصوصاً فی الولايات المتحدة تعود إلى فترة حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بين مصر و«إسرائيل»، عندما هددت السعودية بقطع البترول، فتسبب ذلك برفع أسعار الوقود، فجرى تصوير العربي المسلم كإنسان ،عنيف بل ذهب بعض المستشرقين إلى القول بأن العرب سفَّاكون للدماء وأن العنف والخداع كامنان في الجينات الوراثية العربية، كما ادّعى أحد المستشرقين بأن الرابط بين أهل الشرق الأوسط هو كراهية وعداء اليهود وأمّة إسرائيل (4). بينما يرى آخرون أن ظاهرة الإسلاموفوبيا قد انتشرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في خضم بحث الغرب عن عدو بديل، حيث خرجت الصحافة الغربية حينها بعناوين متشابهة تقول بأن:«التهديد الأحمر ذهب وجاء الإسلام»(5)، تعزز ذلك بشكل «علمي» بعد تبني بعض الباحثين لهذه الفكرة أمثال فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) (منظر سابق للمحافظين

ص: 425


1- إدوارد سعيد ،تعقیبات ص 28
2- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 482.
3- محمد إدريس، مرجع سابق، ص: 126.
4- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص: 439.
5- عبد الله محمد - مرجع سابق، ص: 45.

الجدد(Neoconservatism)(1) وتلميذ ألان بلوم ( Allan Bloom) تلميذ اليهودي الأميركي من أصول ألمانية ليوشتراوس (Leon Strauss) مؤسس فكر المحافظين الجدد في الولايات المتحدة (2)) في كتابه «نهاية التاريخ» (The End of History) الذي أعلن فيه أن الإسلام يعدُّ المنافس الإيديولوجي للديموقراطية الليبرالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي (3)، تبعه في ذلك المفكر صامويل هنتنجتون (Samuel Huntington) في كتابه «صراع الحضارت» (Clash of Civilizations)، الذي « اعتمد فيه على آراء المستشرقين، وخلص إلى نتيجة مفادها أن الصراع الإيديولوجي بين الشيوعية والليبرالية قد انتهى وأن الصراع القادم سيكون صراعاً بين الحضارات ومن ضمنها الحضارة الإسلامية وخصوصاً في الجانب الأخلاقي والديني لكل أمّة (4). هذه الأجواء هيّأت الساحة السياسية في الولايات المتحدة لتولي التيار اليميني الممثل بالمحافظين الجدد أهم مواقع التأثير، وخصوصاً في فترة إدارة الرئيس جورج بوش الابن ( George W. Bush)، فانعكس ذلك على علاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي واستغلت حادثة 11 أيلول / سبتمبر كذريعة لاحتلال وتدمير بلدين إسلاميين (أفغانستان والعراق).

استغلت الصهيونية مخاوف الغرب من الإسلام فعملت على ترسيخ هذه المخاوف كي تطرح نفسها كحليف للغرب ضدّ الإسلام، وهذا ما وضحه بول فندلي (Paul Findley) في كتابه «لا سكوت بعد اليوم» Silent No More)(5)،

ص: 426


1- تراجع فوكومايا فيما بعد عن تأييد فكر المحافظين الجدد وأعلن عن ذلك في كتابه (أميركا على مفترق الطرق) - المنشور سنة 2006.
2- Terence Ball، Neoconservatism، Encyclpaedia Britannica. http://www.britannica.com/topic/ neoconservatism.
3- فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر (ترجمة حسين أمين، ط1، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر (1993، ص: 56
4- صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات إعادة صناعة النظام العالمي (ترجمة : طلعت الشايب)، ط2، (الاسكندرية منتدى مكتبة الاسكندرية، 1999)، ص: 181.
5- بول فندلي، لا سكوت بعد اليوم مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أميركا، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، ط 5، 2010)، ص: 11.

وفي سنة 1992 صرَّح شلومو غازيت (Shlomo Gazit)، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (أمان)، لصحيفة يديعوت (Yedioth) بأن:

المهمة الرئيسية لإسرائيل لم تتغير قطّ(منذ انهيار الاتحاد السوفياتي) وتظل ذات أهمية حاسمة إن الموقع الجيوستراتيجي لإسرائيل في مركز الشرق الأوسط العربي/ المسلم يجعل القدر المسبق لإسرائيل أن تكون الحامي المخلص للاستقرار في جميع الدول المحيطة بها، هو حماية الأنظمة القائمة؛ بمنع أو عمليات النزوع للتطرف أو إيقافها وقطع الطريق أمام توسع الحماسة الأصولية الدينية (1).

وها هو وزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريس (Shimon Peres) يوضح الدافع الأساسي لتوقيع اتفاق أوسلو وهو السعي لبناء نظام إقليمي جديد من أجل مواجهة انتشار المدّ الإسلامي «الأصولي»(2).

استفحلت ظاهرة الإسلاموفوبيا عقب هجوم 11 أيلول/ سبتمبر الذي تبناه تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، وقامت الصهيونية باستغلال الحدث كي تمرر نظرية مفادها بأن «إسرائيل» تحمل القيم الأميركية نفسها (الديموقراطية)، وتحارب الخصم نفسه وهو «الإرهاب الإسلامي». فشُبِّه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بابن لادن(3) في خطوة مكشوفة لإلصاق صفة «الإرهاب» بنضال الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال ونزع الشرعية عن مقاومته تساوق السياسيون الأميركان مع هذه «الفكرة» فوجدنا الرئيس باراك أوباما (Barack Obama) يصرح في خطابه أمام الإيباك (AIPAC) عام 2009 بأن لدى أميركا «قيماً مشتركة» مع «إسرائيل» وأنهم شركاء في الحرب على

ص: 427


1- اسرائيل شاحاك، مرجع سابق، ص: 45
2- شمعون بيريس، الشرق الأوسط الجديد، (ترجمة: محمد حلمي ط1، عمان الأهلية للنشر والتوزيع، 1994)،
3- قصي حامد، الولايات المتحدة والتحول الديمقراطي في فلسطين، ط1، (بيروت) مركز الزيتونة (2009)، ص: 120

الإرهاب(1)، وهذا ما أكّده الناطق باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية أو فير جندلمان (Ofir Gendelman) في معرض تعليقه عن طبيعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية(2). ومع كل هجمة تشنها التنظيمات الإسلامية المتشددة على الغرب تستغل الصهيونية الحدث لتؤكد الفكرة نفسها ؛ فها هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يخاطب السفير الفرنسي عقب الهجوم الذي قام به تنظيم الدولة «داعش» في فرنسا عام 2015 بقوله: «نحن صامدون ولن نسقط، رغم أن البرابرة يوقعون ضحايا في صفوفنا.... نحن فخورون «بقيمنا» وصداقتنا وحريتنا .... عندما تشخّص «القوى المتحضرة» المشكلة لن يبقى أمامها سوى الاتحاد من أجل القضاء على هذه الحيوانات، هذه الحيوانات لها اسم وهو الإسلام المتطرف... نحن ملزمون بالوقوف معاً لنحارب الإسلام المتطرف»(3)، لاحظ استخدام نتنياهو في خطابه لمصطلح البرابرة ذو الدلالة التاريخية عند الغرب وحرصه على ربط العالم الغربي ب-«إسرائيل» لأنهما مشتركان بالقيم نفسها وبالعدو نفسه، وإشارته إلى أن الحرب عبارة عن حرب حضارات.

تقوم استراتيجية نتنياهو على استغلال هجمات «داعش» ضد أهداف غربيّة من أجل الربط بين الإسلام والإرهاب من جهة ومقاومة الإحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى؛ فهو يدَّعي بأنّ «إسرائيل» والغرب يواجهان عدواً مشتركاً، حتى وصل به الأمر للإدعاء أنَّ العمليات التفجيرية ناتجة عن طبيعة الإسلام العدائية لا نتيجة الاضطهاد أو الاحتلال، ولا يتورَّع نتنياهو عن تضليل الرأي العام الغربي من خلال تشبيه محاولة «داعش» إقامة دولة الخلافة بمحاولة الفلسطينيين التخلّص من الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية؛ وقد عبَّر عن ذلك بشكل مباشر في تصريح له عقب هجمات بروكسل وبتاريخ 2016/3/23 بقوله: «إننا نخوض حرباً عالميةً ضدَّ الإرهاب، إنها حرب أبناء

ص: 428


1- موقع اليوتيوب، خطاب أوباما لدى لجنة الشئون العامة الأميركية الإسرائيلية، 2009/6/28. http://youtu.be/KJq6ykarsp0
2- موقع اليوتيوب، أو فير جندلمان: العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة قوية لأنها مبنية على قيم مشتركة، http://youtu.be/uSkRHooFJEU.2015/3/3
3- موقع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، 2015/11/18. (بالعبريةhttp://www.pmo.gov.il/MediaCenter/Events/Pages/eventJpost181115.aspx.

الحضارة ضد أبناء الظلام يضرب الإرهاب في كل مكان إنه يضرب باريس (حيث قتِل في مساء واحد 129 شخصاً)،كما أنه يضرب أنقرة وبروكسل حيث قتِل العشرات، وإسطنبول حيث قتِل أيضاً 3 من مواطنينا وساحل العاج وكاليفورنيا وتل أبيب وأورشليم القدس والقرى والمدن في أرض «إسرائيل»، ولا تأتي الممارسات الإرهابية في كل هذه المواقع انطلاقاً من الشعور بالإجحاف أو بالإحباط، بل إنها تنجم عن العقيدة القاتلة والرغبة في القضاء على الخصم ووراثته، وسبق أن قلت مراراً وتكراراً إنّ الإرهاب لا ينبثق من الاحتلال أو اليأس بل من الأمل، أي من أمل مخرّبي داعش في أن يتمكنوا من إنشاء خلافةٍ إسلاميةٍ على كامل الأراضي الأوروبية ومن أمل المخربين الفلسطينيين في أن يتمكَّنوا من إنشاء دولةٍ فلسطينيةٍ على كامل الأراضي الإسرائيلية. يجب علينا العمل معاً لحرمانهم من هذا الأمل هذه نقطة الانطلاق الأهمّ لمحاربة الإرهاب. لذلك أكدتُ لمحاوريَّ (رئيس الوزراء البلجيكي ووزيرة الخارجية للاتحاد الأوروبي) ضرورة إدانة الإرهاب في أي مكان وضرورة محاربته في أي مكان ولا يوجد أدنى شك في أننا سننتصر على الإرهاب لكن إذا تكاتفت جهود شعوب العالم فإننا سننتصر عليه بسرعة أكبر بكثير»(1).

تظهر المعطيات المتوافرة بأن ظاهرة الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة صُنِعت على يد مجموعة من الصهاينة وهذا ما أشار إليه بول فندلي في كتابه «لا سكوت بعد اليوم»(2) كما توصل بعض الباحثين الأميركيين في تقرير نُشِر سنة 2011 إلى هذه النتيجة، ويشير التقرير إلى أن الممولين لهذه الظاهرة هم عبارة عن سبع هيئات ومنظمات محافظة التوجه، وأغلبها منظمات غير ربحية تدعم مشاريع تعليمية وأخرى خيرية على الأغلب لا يعرفون بأن تبرعاتهم تذهب لتمويل صناعة الإسلاموفوبيا في أميركا. هذه الملايين أُنفِقت على مَنْ يسمَّون ب-«الخبراء» مروّجي الشائعات الذين

ص: 429


1- موقع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي .2016/3/23 http://www.pmo.gov.il/Arab/MediaCenter/Events/Pages/spokrstatmemt230316.aspx.
2- بول ،فندلي، لا سكوت بعد اليوم، ص: 86.

يلفقون أخباراً ومعلومات خاطئة عن الإسلام، عددهم خمسة أشخاص، وهم: فرانك غافني (Frank Gaffiney)، وديفيد يروشلماي David Yerushalm)، ودانيال بايبس (Daniel Pipes) وروبرت سبنسر (Robert Spencer) ، وستيفن إيمرسون (Steven Emerson)، وكلّهم محسوبون على التيارات الصهيونية في أميركا. تلخيص رسالة هؤلاء «الخبراء» للشعب الأميركي هي كالتالي: «الإسلام عبارة عن إيديولوجيا عنيفة تسعى للسيطرة على الولايات المتحدة الأميركية، ما يشكل خطراً على المجتمع الأميركي لأنه يشجّع على قتل اليهود والمسيحيين»، كما أشار البحث إلى المنظمات التي تشكلت وتفرّع منها عدة أفرع في عدد كبير من الولايات الأميركية، واحدة من هذه المنظمات أنشأتها لبنانية مارونية تدعى بريجيت غابريال (Brigitte Gabriel) واسمها افعل من أجل أميركا Act for America . ويذكر التقرير أنها صاحبة مقولة «إن الفرق بين العرب والمسلمين والإسرائيليين هو كالفرق بين الهمجية والتحضر الفرق بين الديموقراطية والديكتاتورية الفرق بين الخير والشر»، إضافةً إلى منظمةِ باميلا جيلير (Pamela Geller) واسمها «أوقفوا أسلمة أميركا» (Stop Islamization of Ameri ca) والتي نظّمت حملة لوقف بناء مركز إسلامي في مدينة نيويورك والمعروف باسم «بارك 51» (51 Park) بسبب قربه من مركزي التجارة العالميين اللذين دُمّرا في أحداث أيلول / سبتمبر. وشنّت باميلا حملةً منظمةً قالت فيها: لا لمسجد أوباما، الإسلام يعني 1400 سنة من الاعتداءات والجريمة، إلا الاستسلام للشريعة، وإلى غيرها من عبارات الكراهية للإسلام وهي صاحبة فكرة وضع ملصقات المترو في نيويورك التي تقول فيها: «عندما يجري تخييرك بين الشخص المتحضر والشخص الهمجي فعليك باختيار المتحضر، ساند إسرائيل واهزم الجهاد»(1).

أضحت ظاهرة الإسلاموفوبيا صناعة متكاملة لأطراف في الغرب تعود عليهم بالربح المادي والمعنوي وتساعدهم في الوصول إلى السلطة، وإن على جثامين

ص: 430


1- Wajahat Ali and others، Fear، Inc. The Roots of the Islamophobia Network in America، August 2011. https://cdn.americanprogress.org/wp-content/uploads/issues/201108//pdf/islamophobia.pdf .

الأبرياء وغير الأبرياء؛ وذلك بحسب ناتان لین (Nathan Lean) مؤلف كتاب «صناعة الإسلاموفوبيا» (The Islamophobia Industry) درس لين المسألة تاريخياً وأثبت أن زرع الخوف في قلوب الأميركيين ليس مسألةً جديدةً وإنما ذات تاريخ طويل، غير مشرِّف، ولا يرتكز إلى حقائق وإنما لهدف محدّد، ويلاحظ أن الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة الأميركية أقوى في 2012م مما كانت عليه قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، بل إنَّ استقصاءات الرأي تبين أن معاداة الإسلام والخوف من المسلمين بعد مضي شهرين على ذلك التاريخ كانت أقل بكثير مما هی عليه الآن، وهذا ليس مصادفة بل نتاج حملة منظمة.

لا يقبل ناتان لين الادعاء بأن أعمال الاعتداء على المواطنين والمؤسسات الأميركية في مختلف أنحاء العالم، إضافةً إلى أخذ موظفي السفارة الأميركية في طهران رهائن سبب ذلك الخوف الذي يغذِّيه اليمين الصهيوني المعادي لكل ما هو ليس صهيونياً، هو يرى أن الجذور تاريخية، ويرى أن أحد أهم جذورها يُعثر عليه في الفكر البروتستانتي المتطرف وغاية في المحافظة، والذي يكفِّر كل من هو ليس مثله، ومن ضمنهم المسيحية الكاثوليكية والشرقية أي الأرثوذكسية. ويثبت صحة رأيه بالإشارة إلى حوادث عديدة وقعت في الولايات المتحدة الأميركية في القرون الماضية، ادعت بوجود مؤامرة عالمية عليها هدفها القضاء على المسيحية الصحيحة، أي البروتستانتية المتطرفة.

ويشير لين إلى دور بارز تقوم به قنوات تلفزيونية أميركية ومنها محطة فوكس (Channel Fox) في التحريض على نثر بذور الفرقة والكراهية والهلع من المسلمين والآخر المختلف، عبر استقبالها قادة تلك التيارات والمؤسسات المصابة بهوس معاداة الآخر المختلف. لكن المؤلف في الوقت نفسه يشير إلى دور صحف يومية أمريكية معروفة في نثر بذور الكراهية ورُهاب المسلمين والإسلام، كل ذلك طبعاً تحت بند حرية التعبير والرأي المستقل والديموقراطية، كما يشير لين إلى الدور الأساسي الذي

ص: 431

تمارسه بعض التجمعات والأحزاب وفي مقدمتها حزب الشاي (The Tea Party)، الذي أنتج بدوره عدداً من المنظمات والمؤسسات هدفها نشر رُهاب الإسلام والتحذير منهم والدعوة إلى تشجيع تنصيرهم ... إلخ ، وينضَمُّ إلى مختلف هذه المجموعات مؤسسات وقوى صهيونية. ويلفت لين الانتباه إلى تحالف اليمين المؤيد ل- «إسرائيل» ودوره في نشر رُهاب المسلمين ودعم بناء المستعمرات في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، وهذا كله متعلق بفكرة تأسيس دولة لليهود في فلسطين وتجميعهم هناك، هذه الفكرة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفكر البروتستانتي الألفي الذي انتشر مذعوراً بعد نجاح الثورة الفرنسية ورفعها رايات الحرية والعدالة والإخاء، التي أرعبت اليمين البريطاني فأطلق هوس اقتراب موعد الألفية ونهاية العالم وعودة المسيح بين شعبه وفي أرضه، أي في

فلسطين.

يرى لين أن الجذور الحقيقية للصهيونية لم تكن يوماً يهودية وإنما بروتستانتية أصولية، وهذا ما يجمع رُهاب الإسلام باللوبي المؤيد للصهيونية و«إسرائيل» ويقدم لها الدعم كبرنامج سياسي - ديني متكامل(1).

صناعة الإسلاموفوبيا في الغرب غير مقتصرة على اللُّوبي الصهيوني؛ بل أصبحت أشبه ما يكون بالتجارة الرائجة لكتاب وصحفيين وسياسيين يتّخذون من الإسلاموفوبيا مادة للتكسّب والربح السياسي، وتعدَّى الأمر كونه خوفاً من الإسلام إلى نوع من الهوس؛ ففي ألمانيا واجهت المستشارة أنجيلا ميرکیل (Angela Merkel) احتجاجات من اليمين تحت شعار منع «أسلمة البلاد» عقب السماح لبضعة آلاف من المهاجرين السوريين باللجوء إلى ألمانيا (2)، وفي فرنسا توقع الكاتب ميشال هو لباك ( Michel Houelle becca في كتابه «سومسيون» (Soumission) (خضوع) تحول فرنسا إلى دولة إسلامية سنة 2022م بعد انتخاب رئيس من حزب إسلامي(3)،

ص: 432


1- الجزيرة نت 2012/12/27 ، زياد منى صناعة الإسلاموفوبيا . http://bit.ly/1niY2Lm ) -
2- صحيفة الشرق الأوسط، ،لندن 2014/12/17 ، ميركل أمام مأزق صعود اليمين المعادي للمهاجرين. http://bit.ly/1GsYomJ
3- موقع فرانس 24 2015/9/7، رواية فرنسية تصور تحول فرنسا إلى دولة إسلامية» في 2022. http://f24.my/1i7qrlc

كما استغل دونالد ترامب Trump Donald)، الرئيس الأميركي المنتخب جديداً المحتمل، حادثة مقتل 14 أميركي على يد زوجين أميركيين مسلمين، للدعوة إلى فرض حظر على دخول المسلمين الولايات المتحدة (1). هذه الشواهد فيض من غيض لكثير من المؤشرات حول استفحال ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب والتي تتغذى على ممارسات بعض التنظيمات الإسلامية المتشددة.

يرى سعيد أن الرأي «المعتمد» لدى المستشرقين بأن الشرقيين يفتقرون إلى تقاليد الحرية (2)، تجدد طرح الفكرة نفسها مع مزجها بالإسلاموفوبيا عقب انطلاق الانتفاضات العربية المطالبة بالحرية ضدّ الأنظمة الشمولية في سنة 2011 أو ما اصطلح عليه ب- «الربيع العربي»، فنجد «الخبير» برنارد لويس في مقابلة أجريت معه في تموز/ يوليو 2011 يرفض إجراء انتخابات حرة ونزيهة في العالم العربي؛ خشيةً من وصول الإسلاميين للحكم وهو ما سيكون كارثياً، مبرراً وجهة نظره بأن الديموقراطية ممارسة غربية نابعة من التاريخ الغربي (3)؛ وبالتالي فهي لا تصلح للعرب. يحاول لويس وأمثاله إخفاء المقصد الحقيقي لهذا الطرح من خلال الادعاء بأن الديموقراطية غير ملائمة للعرب والمسلمين؛ بينما يخفون خشيتهم من نشوء أنظمة ديموقراطية في الدول العربية ترعى مصالح شعوبها ولا تخضع للإملاءات الغربية الفكرة نفسها عبَّر عنها عاموس جلعاد (Amos Gilad) ، رئيس الدائرة الأمنية والعسكرية في وزرارة الدفاع الإسرائيلية في تشرين الأول/ أكتوبر 2013 عندما هاجم ثورات الربيع العربي خلال مؤتمر بالعاصمة الأميركية واشنطن ، وقال : إن «إسرائيل» تفضِّل استقراراً يستند على نفوذ أميركي بالشرق الأوسط بدل ديموقراطية تأتي بالإسلاميين(4).

ص: 433


1- موقع بي بي سي، 2015/12/9، هل يتصاعد العداء للمسلمين في أميركا بعد تصريحات ترامب؟. http://bbc.in/1RX23BG
2- إدوارد سعيد الاستشراق، ص: 373
3- موقع اليوتيوب، برنارد لويس يقارن احتلال بريطانيا وروسيا لمصر ما بين اللبن واللحم. http://youtu.be/IQgHsOigfm0
4- Amos Gilad. Israeli Security Policy in an Uncertain Middle East. The Washington Institute. 111072013/.https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/2013-schiff-memorial-lecture

يرى عبد الله محمد أن مدرسة الاستشراق الحديثة تقوم على ثلاثة محاور رئيسية وهي: تهديد المسلمين ،المتعصبين، ثم حتمية انتصار التغريب، وأخيراً «الحق الإسرائيلي». وعند تشريح هذه المدرسة نجد أن أكثر المنتمين إليها إمّا من اليهود أو الصهاينة وإما مناصريهم، وأن مفهوم الخطر يتجسَّد في الخطر من الإسلاميين، وأن هذا الخطر موجه بالدرجة الأولى إلى «إسرائيل» عاصمة الغرب الديموقراطي في الشرق الأوسط(1). ويذهب عبد الإله بلقزيز إلى أن انحسار ظاهرة الاستشراق ناجم استنفادها دورها المعرفي، نتيجة نضوب ينابيع الإبداع العلمي فيها، وسقوطها في الاجترار والانغلاق الفكري والمنهجي على عالمها الداخلي؛ فلم يعد الاستشراق قادراً على أن يقدِّم أعمالاً مقنعةً بعد رحيل آخر رموز جيله الأخير مكسيم رودنسون (Rodinson Maxime)، وجاك بيرك (Jacques Berque)، وشيخوخة آخرين مثل جوزيف إس فان San Joseph) وانتهاء آخرين مرموقين إلى إنتاج نصوص في غاية السخف والتفاهة (برنارد لويس)، ولم يصدر عن مستشرقي اليوم إلا القليل من النصوص الجديرة بالقراءة مثل كتابات مايكل كوك (Michael Cook)، أو جاكلين الشابي(Chabbi Jacqueline)، أما البواقون فيُكرِّرون أنفسهم في حركة رتيبة لا إبداع فيها ولا تجديد مع تراجعٍ حادٍ في عدد الدراسات، وتدهورٍ ملحوظٍ في المؤسسات العلمية والكراسي الجامعية والمجلات الخاصة بالدراسات العربية والإسلامية في البلدان الغربية، وتوقف كامل للمؤتمرات العلمية ،الاستشراقية، وتراجع في مستوى اكتساب اللغة العربية. ويقترن بهذا الانحسار الكبير لموجة الاستشراق إعادة توزيع الدراسات الإسلامية على ميادين وتخصصات دراسية فرعية مثل العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية، ومع هذا التوزيع الجديد يتبين أن ميدان الاستشراق بدأ يتعرض للتهشيش المتدرج، وأن هشاشته آخذةٌ إياه إلى الانفراط كميدان مستقل، وإلى نجاح تلك الميادين والتخصصات التي تتناهبه في وراثته(2).

ص: 434


1- عبد الله محمد مرجع سابق، ص: 33+34.
2- عبد الإله بلقزيز، سمات الدراسات الاستشراقية وخطوطه المتوازية ، مجلة النهضة، 2015. http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?Type=NPArticleID=674122.

ويرى بلقزيز أن الدراسات التي تصدر عن الإسلام والحركات الإسلامية في هذه الأيام، بل منذ الثورة الإيرانية في سنة 1979 هي في معظمها تجري في نطاق مراكز أبحاثٍ أو معاهد تابعة لوزارات الخارجية والدفاع والاستخبارات في دول أوروبا وفي الولايات المتحدة، أو ممولة من هذه المراكز أو من وكالات أخرى مثل الوكالة الدولية للتنمية (AID Agency for International Development) وهي لهذه الأسباب، موجهة وتضمر اغتراضاً سياسياً ولا توجد من ورائها جدوى علمية. أما الباحثون الذين يعِدُّون دراساتهم، في نطاق هذه ال-«أجندة» الغربية الرسمية، فلم يعودوا باحثين بالمعنى الأكاديمي بل تحولوا إلى «خبراء» في الإسلام والحركات الإسلامية وبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يؤدون سخرة سياسية الحكوماتهم باسم «علم» في غاية الضحالة، ولقد استدرج إلى الفخ مستشرقون مرموقون (سابقاً) من طراز برنارد لويس الذي ارتضى أن يكون لساناً ألسنة المحافظين الجدد إن ما يقوم به الجيل الجديد من الباحثين»/ «الخبراء»، في ميدان دراسات الإسلام، يشبه أن يكون نظيراً لما يكتبه «خبراء» الغرب و«العالم الثالث» في دراساتهم المكتوبة لمصلحة البنك الدولي (World Bank)، وصندوق النقد الدولي (International Monetary Fund)، وبعض المنظمات الفرعية التابعة للأمم المتحدة (United Nations) من تقاريرٍ لا قيمة علمية فيها(1).

ص: 435


1- عبد الإله بلقزيز، مرجع سابق.

الخلاصة والاستنتاجات

تلتقي الصهيونية مع الاستشراق في الجذور الفكرية، فهنالك قاسم فكري مشترك بينهما قائم على النظرة الاستعلائية العنصرية مع إدعاء النقاء والتفوق، وبالتالي فإن الإيديولوجيا الاستعمارية الغربية المبنية على مفاهيم الاستشراق تعدُّ أحد أهم المصادر للإيديولوجيا الصهيونية.

تبنّى كل من الاستشراق والصهيونية النظرة نفسها للشرقيين، وهي رؤيةً مبنيةٌ على تعزيز الفرق بين (أوروبا أو الغرب أو نحن) الأذكياء /الموضوعيين/ العقلانيين؛ وبين (الشرق أو هم) الأغبياء غير العقلانيين/ الفاسدين/ غير الموضوعيين، وذلك بهدف التمهيد للاستعمار الغربي والصهيوني، وإقناع الجمهور «الغربي» بتقبل فكرة السيطرة على شعب آخر «الشرقي» بل وممارسة العنف ضده، وهذا لن يحصل بدون نزع صفة الإنسانية عن «الآخر» من خلال وصمه بصفات التخلف وتشبيهه بالحيوانات، بحيث يكون هنالك «نحن» المتحضرون الأذكياء المتفوقون في مقابل «هم» المتخلّفون الأغبياء المنحطّون، الذين لا يستحقون الحياة ولا حتى الشفقة عند قتلهم.

مهّدت أعمال بعض المستشرقين الطريق أمام الحملات الاستعمارية الأوروبية بل عمل بعضهم بشكل مباشر في خدمة الاستعمار فهيَّأ الاستشراق من خلال «المعرفة» كل الشروط لترجمة القوة وفرض سيطرةٍ استعماريةٍ على فلسطين، كما عملت عدة جمعيات استشراقية على تسهيل مهمة الاستيطان الصهيوني في فلسطين؛ من أهمها صندوق الاكتشاف الفلسطيني.

التقى الدافع الديني للاستشراق مع الطموحات الصهيونية، وحصل انسجام كبير بین أهداف الاستشراق الدينية والصهيونية، ترافق ذلك مع ظهور معاداة السامية في الغرب ومن ثم كان الحل الصهيوني المقترح للمسألة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من العملية الاستعمارية الغربية.

ص: 436

حرص المستشرقون ومن خلفهم الاستعمار على إحياء فكرة «الشعب اليهودي» وعملوا على حثّ اليهود لاستعادة «أرض الميعاد»، بدأ ذلك بشكل عمليٍّ بنابليون بونابرت وتعمق بأعمال المستشرقين الهادفة لإثبات الحق التاريخي لليهود في ،فلسطين، ترافق ذلك مع إنكار المستشرقين لوجود شعب فلسطيني، وإصرارهم على أن التسمية التاريخية لفلسطين هي «أرض إسرائيل».

تقاطعت مصلحة الاستعمار مع الصهيونية سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فتحولت «إسرائيل» إلى أداةٍ استعماريةٍ لحماية المصالح الغربية، وتطورت لتصبح قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في آسيا تمنع أي حركة تحرر وطني تهدف للتخلص من الهيمنة الغربية.

تطورت ظاهرة الاستشراق وتحولت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا، حيث تشترك ظاهرة الإسلاموفوبيا مع الاستشراق في الطروحات نفسها. ظاهرة الإسلاموفوبيا تعززت بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لتصبح بمنزلة صناعةٍ يشرف عليها الصهاينة في الغرب؛ هدفها تعزيز المخاوف من العرب والمسلمين والحؤول دون قيام أيّ نظامٍ ديموقراطيٍّ في الدول العربية، والعمل على نزع الشرعية عن المقاومة الفلسطينية من خلال وصمها ب-«الإرهاب».

يمكننا وصف العلاقة بين الصهيونية والاستشراق بأنها أشبه بالعلاقة الطفيلية، بمعنى أن الصهيونية تغذت على المفاهيم الاستشراقية وتبنَّت النظرة الاستشراقية للعرب ما انعكس على سلوكها الاستعماري العنيف. أما علاقة الصهيونية بظاهرة الإسلاموفوبيا فهي قائمةٌ على استغلال مشاعر الخوف لدى الغربيين من الإسلام، فقامت بتغذية هذه المشاعر وتنميتها، بمعنى أن الصهيونية تغذت على المفاهيم الاستشراقية وقامت في ما بعد بدورها بتغذية ظاهرة الإسلاموفوبيا. بينما يمكننا وصف العلاقة بين

ص: 437

الاستشراق والإسلاموفوبيا بعلاقة تطور حيث تطورت ظاهرة الاستشراق بعد استنفاد أغراضها لتتحول إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا.

نستنتج من خلال استعراضنا لظاهرة الاستشراق وتحولها إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا؛ بأن هنالك ما يشبه الخط غير الظاهر الذي يربط بين أعمال المستشرقين و«الخبراء» ومحاولة إثبات الحق التاريخي للصهاينة في فلسطين بحيث يُعَدُّ أيّ شكل من أشكال «الرفض» لهذا «الحق» «إرهاباً»، وهذا سيقود بالضرورة إلى تصوير الصراع بین الفلسطينيين والإسرائيليين كصراع بين قوميتين متصارعتين على أرض فلسطين لهما الحقوق نفسها القومية الفلسطينية و«القومية اليهودية»، وذلك بهدف التعمية على حقيقة المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين، وحقيقة أن الصراع هو بين مستعمر محتل وسكان أصلانيين.

ص: 438

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح ،والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض . تعريفاته وشروحه وتأويلاته تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن

يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب

التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين :

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المرة الختامي للدراسات الشر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 439

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.