الكلام الإسلامي المعاصر

هوية الکتاب

خسروبناه، عبد الحسين مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر/ تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3 مجلد ؛ 24سم – (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

.1 علم الكلام أ. الواسطي، محمد حسين مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

خسروبناه عبد الحسين، مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر. الجزء الاول / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه = 2019.

3 مجلد ؛ 24-سم - (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

1. علم الكلام. أ. الواسطي، محمد حسين، مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC : BP166K462019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز ...8

تصدير...11

الباب الأول: مبادئ علم الكلام ...15

1. ماهيّة علم الكلام الإسلاميّ. ...16

1/1. التعريف بالدراسات الدینیّة ومجالاتها ...16

2/1 . تعاريف علم الكلام الإسلامي ...17

3/1 . ماهيّة علم الكلام الجديد ... 20

4/1 . شاكلة علم الكلام الإسلامي الجديد... 25

5/1 . ضرورة التعرّف على علم الكلام ...32

2 . معقوليّة القضايا الدينيّة وقابليتها للإثبات ...35

1/2 . المبادئ التصوّريّة في المسألة .... 37

2/2 .معقولية القضايا الإسلامیّة الوصفية: ....38

4/2 .معقولية القضايا العرفانية الدینیّة: ....44

5/2 . معقوليّة القضايا التاريخية الدینیّة: ...47

6/2. معقولية القضايا التجريبية الدینیّة ...50

الباب الثاني: الإلهيات ...55

3 .معرفة وجود الله وإثباته....56

1/3 .تمهید ...56

2/3 . معرفة الله ....58

3/3 . براهين إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ ...59

4/3 . دليل الفطرة: ...63

5/3 . دليل النظام : ...63

ص: 4

6/3 .برهان الوجوب والإمكان ...90

4 . إثبات التوحيد الإلهي ومراتبه. ..98

1/4 . تمهید: ...98

2/4 . تفسير معنى التوحيد النظري: ...98

3/4 . تفسير معنى التوحيد العملى : ...102

4/4 . إثبات التوحيد الذاتي ...103

4/4 . إثبات التوحيد الصفاتی ... 105

5/4 . إثبات التوحيد في الخالقية ...106

6/4 .إثبات التوحيد في الربوبيّة ...108

6/4 .إثبات توحيد الحاكميّة والمالكيّة والولاية ....110

7/4 . إثبات التوحيد في العبادة ...112

8/4 . إثبات التوحيد في الطاعة .....116

9/4 . دور الإيمان بالتوحيد ...117

10/4 . عوامل النزوع إلى الشرك :...119

5 . الصفات الإلهية ...122

1/5. تمهید ... 122

2/5 . الصفات الإلهية الذاتية: ...132

3/5 . الصفات الإلهية الفعلية .... 142

4/5 . الصفات الإلهية السلبية: ... 153

6. الأفعال الإلهية ... 157

1/6. نطاق معرفة الأفعال الإلهية : ....157

2/6 . حاجة الممكنات إلى الواجب عَزَّ وَجَلَّ: ...158

ص: 5

3/6 . الفاعليّة الإلهيّة وفاعلية المخلوقات: ...159

4/6 . القضاء والقدر الإلهيّان ...164

الباب الثالث: معرفة الدين ..235

7 . حقيقة الدين ...236

1/7 . تمهید: ...236

2/7 . كيفية تعريف الدين : ...236

3/7 . الاتجاهات المتنوّعة في تعريف الدين : ...239

4/7 . مفردة «الدين» في اللغات المختلفة: ...240

5/7 . تعريف الدين عند المفكّرين الغربيين. ...241

6/7 .تعريف الدين عند المفكّرين المسلمين. ...246

7/7 . التعريف المختار للدين ....248

8 .حقيقة التجربة الدینیّة ....264

1/8 . تمهيد ... 264

2/8 . ماهية التجربة الدينيّة وأنواعها ..265

3/8 . ماهية التجربة العرفانية وأنواعها ....272

9 . توقعات الإنسان من الدين ... 278

1/9 . تمهید ...278

2/9 . أضواء على بعض المفاهيم ...279

3/9 . تحليل القضية ....281

4/9 . منطلق القضية : ...283

5/9 . منهج البحث في القضية : ...284

6/9 . رؤى المفكرين الإسلاميّين في القضية : ...286

ص: 6

7/9 . رؤى المفكرين الغربيين في القضية ...292

8/9 . نظريّة التوقعات المعتدلة من الدين ...297

9/9 . توقعات الحد الأقصى والنصوص الدینیّة: ...300

10 . منشأ الدين ...306

1/10 . تمهيد : ....306

2/10 . معنى منشأ الدين: ...306

3/10. أضواء على نظرية الاغتراب : ...307

4/10 . أضواء على نظرية الجهل ...311

5/10 . أضواء على نظرية التوالد الاجتماعي: ...312

6/10. أضواء على نظرية الطبقات الاجتماعية: 317

11 . الإيمان الديني : ...342

1/11 .تمهيد : ...342

2/11 .الإيمان في القرآن الكريم : ...347

3/11 .العوامل والموانع في الإيمان الديني....350

12 .التعدّدية الدينيّة.... 360

1/12 .تمهيد : ...355

2/12 .مناحي البحث في تعدّد الأديان ...356

3/12. حقيقة التعدّديّة الدینیّة: ......360

4/12 .خلفيات التعدّديّة الدينيّة: .... 360

5/12. أدلّة التعدّديّة الدينيّة: .... 363

6/12. معايير التقييم عند جون هيك : ...368

7/12 .تحليل التعدّديّة الدينيّة: ..369

ص: 7

مقدمة المركز

اختلفت الآراء في تعريف علم الكلام الجديد هل هو امتداد للكلام القديم ليكون مسائل كلامية جديدة ومستحدثة، أم انه مختلف جذرياً عن الكلام القديم في المنهج والمسائل والبنى، وإن اشترك معه في الهدف، عدا ما يراه البعض من انّ هذا المصطلح وليد العالم الشرقي الذي أدهشته صدمة الحضارة الغربية بما فيها من معارف جديدة وتقنيات حديثة أثرت على نمط الحياة والفكر، وإلّا فالغرب لا يوجد فيه كلام جديد أو قديم.

مع قطع النظر عن الخوض في تفاصيل الموضوع وتأييد هذا أو ذاك، باتت ضرورة الاهتمام بمسائل علم الكلام الجديدة حتمية لما لها من رواج وإقبال واسع في الوسط العلمي الجامعي وطبقة المثقفين، مما أدّى الى إرفاد المكتبة الاسلامية بعشرات الكتب والدراسات الجادّة في هذا المضمار .

وقد حاول مؤلّف هذا الكتاب ( الكلام الاسلامي المعاصر) سماحة الشيخ الدكتور عبدالحسین خسروبناه، سبر أغوار هذا العلم بطريقة مبتكرة، حيث مزج بين القديم والجديد، وجعل الواحد تلو الآخر ومكملاً له في باقة عطرة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.

وقد أخذ المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية - المهتم برسم الاستراتيجيات الدينيّة والمعرفية – على عاتقه الاهتمام بمسائل العقيدة وعلم الكلام بشقيه القديم والجديد، لما له من دور محوري في سعادة الانسان الدنيوية والأخروية، سيما ونحن نعيش الثورة المعلوماتية وما أنتجته من ( عولمة الشبهات).

ص: 8

من هذا المنطق قمنا بترجمة هذا الكتاب تعميماً للفائدة ورفداً للمكتبة العربية بالدراسات الجادة في الدفاع عن العقيدة، ونحن إذ نقدم هذا الكتاب إلى القرّاء الكرام، نتقدّم بالشكر والامتنان لمؤلفه الفاضل حيث وافق على ترجمته، وكذلك الفاضل سماحة الشيخ محمد حسين الواسطي حيث أجاد في عمله، وكذلك من أعانه في الترجمة الأخ الفاضل محمد مجتبى الجعفري، والاستاذ أسعد الكعبي، حيث ترجم قسم المعاد، علماً بأننا لم نترجم ما أورده المؤلف الفاضل حول الحضارة الاسلامية (وهو الباب السادس من الكتاب) لملاحظات فنية، بأمل أن تطبع مستقلة لاحقاً.

ونحن إذ نثمن هذه الجهود، نتمنّى للمؤلف دوام التوفيق ومتابعة الأمر والمثابرة في الدفاع عن العقيدة كما نعتقد أنّه جهد بشري يعتريه ما يعتري البشر من السهو والخطأ والنسيان، والعصمة الله وحده ولمن اصطفاه.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

النجف الاشرف

مدير المركز

ذو القعدة الحرام 1440 ه

ص: 9

ص: 10

تصدير

شغلت فصول «الكلام الإسلامي المعاصر» لعدّة سنوات حيزاً من اهتمامي، وتمنيت أن أوفّق - يوماً ما - لجمع شتات الأبحاث الكلامية التقليدية والجديدة في كتاب واحد بنسق وترتيب منطقي. لقد اعتاد - وللأسف - أساتذة علم الكلام في الجامعات والحوزات العلمية وغيرها على الفصل في محاضراتهم بين مادّةٍ تتناول قضايا الكلام التقليدي كما في كتاب كشف المراد مثلاً، ومادة أخرى تستعرض قضايا الكلام الجديد»، فتُدرّس كلّ من المادتين في وحدات دراسية مستقلة، دون أيّ حلقة وصل بينهما .

والهاجس المهم هنا هو أن نتساءل: ألا ينبغي أن يؤدي تدفّق مسائل الإلهيات الغربية الحديثة المسماة ب «الكلام الجديد» على العالم الإسلامي إلى تحريك الفكر الكلامي الإسلامي نحو إعادة هيكلة تنتظم فيها مسائله التقليدية مطعمة بهذه الأبحاث الجديدة، ضمن نظام متناغم وموحد ؟ ! ألم تكن الشبهات والمسائل الكلامية التقليدية تثرى على العالم الإسلامي قديماً، وترده من أقصى الشرق والغرب؟! هل انبثقت شبهات الثنوية، والجبرية، وغيرها، في عالمنا الإسلامي من تلقاء نفسها؟ أم أنها وليدة الاحتكاك الفكري بين المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى؟! لا شكّ في أنّ علاقات المسلمين الأوائل مع أبناء الديانات الأخرى - كالهندوسية، والزرادشتية، والنصرانية واليهودية - قد أفضت إلى دخول عدد من الأبحاث الكلامية في العالم الإسلامي، الأمر الذي اضطرّ المتکلّمین المسلمين - في كل عصر - إلى بلورة مباحث هذا العلم ضمن هيكلية حديثة، تضع القضايا القديمة إلى جانب القضايا المستحدثة ضمن نظام معرفي جديد وهذا هو الذي أدّى إلى تنوّع المنهج المتبع في أمهات المصادر

ص: 11

الكلامية القديمة ؛ مثل: «أوائل المقالات» للشيخ المفيد (413 ه)، و«الذخيرة في علم الكلام» للسيّد المرتضى (436ه)، و «تمهيد الأصول» للشيخ الطوسي (460ه)، و«تقريب المعارف» لأبي الصلاح الحلبي (447ه)، و«تجريد العقائد» للمحقق الطوسي (672ه).

وليس الحال في عصرنا يشطّ عن هذا؛ فقد أدّى ورود المسائل الكلامية المستحدثة إلى ولادة مناخ جديد، يستدعي منا التفكير في حلّ ناجع ، ونظام كلامي عصري، يجمع بين دفتيه القضايا التقليدية والجديدة معاً. وتتأكّد ضرورة ذلك بملاحظة ما يطرأ على علم الكلام من مسائل من خلال ما نشهده من تطوّر العلوم والمعارف التي تؤدّي بدورها - إلى توسيع دائرة الكلام نفسه، وما يقابله من تأثير الكلام على نموّ العلوم الأخرى. إنّنا اليوم، وفي ظلّ البلوغ العلمي الذي أحدثه الشيعة اليوم في المجتمع، وما نشهده في عصرنا من الاهتمام بتطوير العلوم التجريبية والإنسانيّة بمناحيها الدینیّة، مطالبون ببذل مزيد من الاهتمام والعناية بتطوير علم الكلام، خاصّة لما يتحلّى به هذا العلم من دور تنظيري وتأسيسي لسائر العلوم.

ولا يخفى أن هذه النقلة النوعية في العلوم لا تتأتى إلا من خلال التعريف بالتراث الإسلامي في شتى مجالات العلوم التجريبية والإنسانيّة، من أجل ترسيخ الإيمان بالذات، والتحلّي بروح الشجاعة العلمية، ونقد النماذج والأنماط الفكرية للعلوم الغربية، مستعينين بذلك، وبالنماذج الفكرية الغربية الموافقة، ومن خلال الاعتماد على الأسس الفلسفية والكلامية، والرؤية الكونية الإسلاميّة. ولا شكّ في أنّ كشف نماذج العلوم من صميم الحضارة الإسلامیّة المتقدّمة، وتدوين فلسفات للعلوم الإسلامیّة ونظام للأنثروبولوجيا الإسلامیّة، وكذا عرض نماذج أسلمة شتّى العلوم لها بالغ التأثير على هذه الطفرة العلميّة.

وهذا هو ما يستهدفه كتاب «الكلام الإسلامي المعاصر»، وهو حصيلة أبحاث

ص: 12

كاتب هذه السطور، وكذا تدريسه وتأليفه في السنوات الأخيرة، حيث يرى أنه يلبّي الحاجة المعاصرة. لقد حاولتُ في هذا الكتاب الإفادة من المصادر الأصيلة قديماً وحديثاً، وسعيتُ إلى تقديم الأبحاث الكلامية القديمة والجديدة ضمن شاكلة منطقيّة تعرّضتُ لشرحها في الباب الأوّل، مجيباً على أحدث الشبهات في هذا الصدد.

وقد قمتُ بتدريس هذا الكتاب في الحوزة العلميّة المخصصة بطلبة الجامعات (حوزة الشهيد بهشتي بطهران). ولهذا، أرى لزاماً عليّ أن أتقدم بأسمى آيات الشكر إلى جميع الطلبة الذين شاركوني البحث، وإلى كافة من أعانني في تدوين هذا الكتاب، وبالأخص إلى الأخ الطالب محمّد يوسفي الذي تجسّم عناء تنسيق الكتاب، وزوجتي الفاضلة التي تولّت مراجعته وتدقيقه وتصحيحه.

عبد الحسين خُسروپناه

أستاذ الحوزة العلميّة

وأستاذ مشارك في معهد الثقافة والفكر الإسلامي

25 ذي القعدة 1432ه

الموافق لذكرى استشهاد الإمام الصادق

ص: 13

ص: 14

الباب الأول: مبادئ علم الكلام

1. ماهيّة علم الكلام الإسلامي

1/1 . التعريف بالدراسات الدینیّة ومجالاتها

1- ماهيّة علم الكلام الإسلاميّ

2- معقوليّة القضايا الدینیّة وقابليتها للإثبات

ص: 15

قد يتراءى للبعض ممّن لا معرفة له بهذا العلم - عند أوّل ارتباط بعنوان «علم الكلام» - أنّ المقصود من «الكلام» هنا: «التحدّث»، و«الحوار»، وأنّ «علم الكلام» هو العلم الذي يتناول تعليم «إلقاء الكلمات»، وفنّ «الخطابة» ! والحقيقة أنّ هذا العلم لا يمتّ إلى شيء من ذلك بأيّ صلة، رغم أنه يستفيد من «الخطابة» لتحقيق أهدافه. من هنا، تتجلّى أهمية الوقوف على تعريف دقيق لعلم الكلام، ومعرفة موضوعه، ومنهجه، وأهدافه، ومسائله، والذي هو بمثابة خارطة طريق تدلّنا على النهج الصحيح، وتقودنا نحو الهدف. وعليه فإنّ البحث عن ماهية علم الكلام مقدّم على سائر الأبحاث الأخرى.

يمكن تصنيف علم الكلام الإسلامي ضمن مجموعة «الدراسات الدینیّة»، وهو حقل معرفي حظي باهتمام شديد في تاريخ معرفة الأديان. لقد اشتغل المتكلّمون على مدى العصور - في إثبات العقائد الدینیّة، والردّ على شبهات المخالفين والمعاندين حتى سمّي هذا العلم ب «الفقه الأكبر» نظراً لعلوّ مكانته ، كما عمد الكثير من الفقهاء إلى بيان المعارف العقائدية، وتأليف الكتب للدفاع عنها، بالتزامن مع اشتغالهم ببحوث الفقه والأصول.

يشتمل حقل الدراسات الدینیّة على عدد من الفروع العلميّة المتنوّعة التي تدرس بمناهج مختلفة أبعاداً ومجالات متعدّدة من الدين. وبملاحظة أن الأديان السماوية - وعلى رأسها الإسلام - تنطوي على جوانب عقائدية وفقهية وحقوقية

ص: 16

وفرديّة واجتماعية وتربوية وسياسية وما إلى ذلك، يمكن تصنيف العلوم المنضوية تحت مسمّى الدراسات الدینیّة ضمن تصنيفات متنوّعة. فعلى أساس أصول التدين ومضامينه، وأثره وماهيّته والأبحاث المقارنة، تنشعب أبحاث الدراسات الدینیّة إلى خمسة فروع:

1 . الأسس الدینیّة في فلسفة الدين.

2 . المضامين الدینیّة في علم الكلام وعلم الفقه وعلم الأخلاق.

3 . أثر الدين في علم الاجتماع الديني وعلم نفس الأديان، والأنثروبولوجيا الدینیّة ( علم الإنسان) ، والميثولوجيا الدینیّة (علم الأساطير).

4 . حقيقة الدين والتديّن في فينومينولوجيا الدين (علم الظواهر).

5 . الأبحاث المقارنة في علم الأديان المقارن، وتاريخ الأديان.

هذا، وتبحث بعض أفرع الدراسات الدینیّة (مثل : فلسفة الدين، وعلم الكلام) صدق القضايا أو كذبها، فيما يكتفي البعض الآخر منها (مثل: تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، وفينومينولوجيا الدين وعلم الاجتماع الديني، وعلم نفس الأديان) على وصفها، دون الاهتمام بصدق القضايا الدینیّة أو كذبها (1).

2/1 . تعاريف علم الكلام الإسلامي:

بعد أن تبين تعريف «الدراسات الدینیّة»، والأفرع المعرفية التي تناولتها، نتوجّه الآن إلى تعريف علم الكلام الإسلامي باعتباره أحد فروع هذه الدراسات. لقد تطرّق عدد من العلماء المسلمين إلى تعريف هذا العلم بعبارات شتى؛ نشير إلى بعض منها فيما يلي :

ص: 17


1- للاستزادة راجع الكلام الجديد في مسيرة الأفكار : [بالفارسيّة كلام جدید در گذر انديشه ها]، إعداد على اوجبي مقالة: «فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد» لمحمّدرضا كاشفي ص 258-256 .

قال الفارابي (339ه ) في تعريف علم الكلام :

«صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة، وتزييف ما خالفها بالأقاويل»(1).

وقال صاحب «المواقف القاضي عضدالدين الإيجي (756ه):

«علم يُقتدر معه على إثبات العقائد الدینیّة، بإيراد الحجج، ودفع الشبه»(2).

وأشار سعد الدين التفتازاني (793ه) في تعريفه لهذا العلم بالقول :

«الكلام هو : العلم بالعقائد الدینیّة عن الأدلّة اليقينية» (3).

وأورد عبدالرحمن بن خلدون (808ه) قوله:

«هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقليّة، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنّة . وسرّ هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد»(4).

وقال المحقق اللاهيجي - بعد إشكاله على تعاريف غيره من المتکلّمین - :

«الكلام صناعة يُقتدر بها على إثبات العقائد» (5).

أما التعريف المختار - وهو التعريف الشامل الملاحِظُ للأهداف، ومهام المتکلّمین ومنهج علم الكلام - فيمكن أن يُقال فيه:

ص: 18


1- إحصاء العلوم، الفارابي، ص 114 .
2- شرح المواقف الإيجيّ، ج 1 ص 24 ؛وراجع أيضاً شوارق الإلهام، عبد الرزاق اللاهيجيّ، ج 1 ص 3.
3- شرح المقاصد التفتازاني، ج 1، ص 163.
4- مقدّمة ابن خلدون، ص 458 .
5- شوارق الإلهام، اللاهيجي، ج 1، ص 5.

هو : علم وفنّ ينتمي للدراسات الدینیّة، تُستنبط وتُنظَّم وتُبيَّن به المعارف والمفاهيم العقائدية، من خلال الاستعانة بالنصوص الإسلامیّة، ويُستدلّ به على إثبات تلك المعارف وتبريرها باتباع مختلف المناهج والمقاربات الدینیّة وغير الدینیّة، ويُردّ به على شُبهات المخالفين ومناقشاتهم العقائديّة.

وكما هو ملاحظ، فإنّ هذا التعريف لم يُشر إلى «موضوع العلم»؛ لأنّ علم الكلام لا موضوع له(1)، وفي المقابل ركّز التعريف على غاية علم الكلام ومنهجه.

ونستنتج ممّا تقدّم :

أوّلاً: يُصنّف علم الكلام على أنّه علم وفنّ ينطوي على جانب نظري تعليمي، وآخر تطبيقي مهاريّ، يحافظ من خلاله المتكلّمون على سلامة عقائد العوام والخواص من الناس، كما يسهر الحَرَس ورجال الشرطة على أمن المجتمع.

ثانياً : علم الكلام فرع علمي ينضوي تحت مظلة الدراسات الدینیّة.

ثالثاً : . طبيعة قضايا هذا العلم وأبحاثه تنتمي إلى المفاهيم والمعارف العقائديّة.

رابعاً: تتحدّد أهداف علم الكلام ومهام المتکلّمین فيما يلي :

1 . الاستنباط.

2 . التنظيم.

ص: 19


1- احتدم الجدل بين من تطرّق لبيان موضوع علم الكلام بين مشدّد على ضرورة التماس موضوع له - لما في ذلك من فائدة أهمها: معرفة حقيقة ذلك العلم، واتضاح الضابطة التي على أساسها تتضح حدود العلم ونطاق دائرته وبين نافٍ لتلك الضرورة. وقد ارتأى البعض أنّ «العلم الحقيقي البرهاني» هو العلم الذي ذهب مشهور الحكماء والمناطقة إلى ضرورة اشتماله على موضوع، أما «العلم الاعتباري» فاختلفوا في أمره، ولعلهم يختلفون أيضاً في تصنيف علم الكلام؛ هل هو حقيقي برهاني، أم اعتباري ؟ وهذا كلّه، بخلاف من أنكر ضرورة وجود موضوع للعلم من الأساس. وقد ارتأى المؤلف هنا أنّ علم الكلام لا موضوع له؛ من باب إنكاره لضرورة وجود الموضوع للعلوم، كما أفادنا به صراحةً [م]

3 . بيان المعارف والمفاهيم العقائدية.

4 . إثبات القضايا العقائدية، وعقلنتها.

5 .حماية التعاليم الدینیّة، ودرء الشبهات عنها.

خامساً: تُستخدم في علم الكلام شتّى المناهج الدینیّة وغير الدینیّة؛ مثل: المنهج العقلي، والنقلي، والتجريبي، والوجداني، علاوةً على ما يُعتمد عليه في هذا العلم من مقاربات استدلاليّة، ووصفيّة، وتحليلية، وتفسيريّة.

وتتلخّص أبرز قضايا علم الكلام ومباحثه في البحث عن: إثبات وجود الله تعالى، والصفات الإلهية، وإثبات التوحيد الإلهي، وقضايا تتعلّق بالأفعال الإلهية؛ مثل: حدوث العالم أو قِدَمه، وحدوث القرآن أو قدمه، والقضاء والقدر العلميّين والعينيّين للّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والجبر والاختيار، وبحث الآلام والشرور ، والهداية والإضلال، الأعواض والآجال والأرزاق، والعدل الإلهيّ، وضرورة إرسال الرسل، وضرورة الإمامة والخلافة، ومباحث المعاد والحياة الأخروية، وبعض القواعد الكلاميّة؛ مثل : قاعدة الحسن والقبح العقليين، وقاعدة اللطف، وقاعدة الأصلح ، وغيرها من الأبحاث الأخرى (1).

3/1 .ماهيّة علم الكلام الجديد

استخدم مصطلح الكلام الجديد في الأوساط العلميّة الإسلامیّة - لأوّل مرّة - من قِبَل الكاتب الهندي سيّد أحمد خان (2)؛ حيث قال في خطاب له عام 1286ه :

ص: 20


1- راجع: مبادئ علم الكلام ومصادره للمؤلّف، وهي دروس ألقاها في مؤسسة الإمام الصادق ، ص 100 و101.
2- سيد أحمد خان بهادر (1232-1306ه - 1898-1817م) سياسّي، ورجل تعليم هندي مسلم عده البعض أحد أبرز قادة حركة الإصلاح الاجتماعي والثقافي في الهند ورائد التعليم الحديث للمسلمين في هذه البلاد، وذلك بتأسيسه الكلّيّة المحمدية الأنجلو شرقية، والتي تطوّرت لتصبح جامعة عليكرة الإسلامیّة لاحقاً. لم يشارك في أحداث ثورة الهند ضد الإنجليز والتي قادها المجاهدون المسلمون. تفاهم مع البريطانيين، وساهم في إنهاء حالة العداوة بين الطرفين. ترك عدة مؤلّفات في مجال التاريخ والآثار والمعارف الدینیّة له آراء تفرّد بها، مما أثار حفيظة عدد من علماء المسلمين. [م]

«إنّنا نحتاج اليوم إلى علم كلام جديد نستعين به على إبطال التعاليم الجديدة، أو إثبات مطابقتها لمراتب الإيمان في الإسلام»(1).

وبعد ذلك، جرى استخدام هذا المصطلح في كتابات العالم الهندي شبلي النعماني(2) (1332ه)، وكان العلامة الشهيد مرتضى المطهّري (1399ه) أوّل من تطرّق في إيران إلى ماهيّة الكلام الجديد، وضرورة البحث فيه (3). والمهمّ هنا أن نقف على المقصود من «الكلام الجديد»، ومفردة «التجديد» في هذا التعبير؛ فهل إنّ صفة «الجديد» هذه نعت للعلم، أم لمسائل العلم ؟

يمكن أن نحصي في المقام اثني عشر نظريّة؛ لكننا سنكتفي في ما يلي باستعراض نظريتين أساسيتين منها (4):

1/3/1. نظرية النسخ:

تبتني نظريّة نسخ الكلام الجديد للكلام القديم على رؤية لا تؤمن بأيّ علاقة

ص: 21


1- تاريخ الفلسفة في الإسلام، ميان محمد شريف [النسخة المترجمة إلى الفارسيّة تاريخ فلسفه در اسلام، ج4، ص 201-202.
2- شِبلي حبيب الله بن سراج الدولة النعماني (1275 - 1332ه/1857 - 1914م): عالم وشاعر هنديّ مسلم عمل في جامعة عليكرة، وشارك في تأسيس ندوة العلماء بلكنو، أبرز كتبه: علم الكلام والسيرة النبوية، وسيرة عمر بن الخطاب، ونقد لكتاب تاريخ التمدن الإسلامي، رد فيه على كتاب جورجي زيدان وبعض الكتب الأدبية، ومقالات منوّعة. [م]
3- لا نبالغ إن وصفنا هذا الحكيم الفذّ بمحيي الكلام الإسلامي؛ حيث أدرك ضرورة الكلام الجديد في الدفاع عن كيان الفكر والإيمان الديني ونبه المفكّرين الإلهيّين إلى رسالتهم الخطيرة قائلاً: «طالما أننا نواجه في عصرنا شبهات حديثة وغير مسبوقة، وبعد ظهور بعض المؤيّدات التي ترتبط بالتقدّم العلمي الحديث، وانعدام المبرّر الموضوعي لكثير من الشبهات القديمة في زماننا كما فقدت كثير من المؤيدات السابقة قيمتها فمن هنا، يتحتّم تأسيس كلام جديد .... راجع حول الجمهورية الإسلامیّة، مرتضى المطهري، [النسخة الفارسيّة: پیرامون جمهوري إسلامي] ط17 ص 37-38. وهذا ما دعى بعض المعاصرين إلى تسمية المطهري بمؤسس الكلام الإسلامي الجديد راجع المطهري وعلم الكلام الجديد، في ذكرى العلامة = الشهيد المطهري [بالفارسيّة : يادنامه استاد شهيد مرتضى مطهري]، رضا داوري اردكاني ، ج 2، ص 35. وكذا: إطلالة على الكلام الجديد بالفارسية: آشنايي با کلام جدید همایون همّتي ومقدّمة على الإلهيّات المعاصرة ، ليث وآخرون، ص40.
4- راجع للاستزادة : ماهيّة الكلام الجديد بالفارسية چيستي كلام جديد، خسروبناه ومهدي عبداللهي فصلية «اندیشه نوين ديني».

تجمع الكلام الجديد بالقديم غير «الاشتراك اللفظي» في العنوان؛ حيث يرى أصحاب هذه النظرية أنّ اختلافاً جوهريّاً يفصل بينهما، فما لبث الكلام الجديد بالظهور حتّى نُسخ الكلام القديم واضمحل. وما ذلك إلا بسبب ما طرأ في العصر الراهن على البيئة الفكريّة العامّة من تقلبات وتبدّلات، وانهيار الجزمية العلمية أو الفلسفيّة، حتى بات «إثبات العقائد الحقّة» الذي كان هدفاً للكلام التقليدي - يوماً ما - في عداد المستحيلات. وفي كلمة واحدة يرى أصحاب هذا الاتجاه أنّ الساحة الفكرية المعاصرة تحكمها اليوم تساؤلات ومطارحات جديدة، وتسودها مناهج و مبادئ ومناخات مختلفة، تتطلب أساليب جديدة في الحديث عن «الله»، و«النبوّة»، و«الإنسان»، و«المعاد»، و«الوحي»(1).

ولعلّ أبرز ما تعاني منه هذه الرؤية : معاداتها للموروث التقليدي، وانبهارها بحركة التطوّر في الغرب، وقراءتها الخاصة بها فيما يتعلّق ب«الوحي» و«الكلام»، تأثراً بنظرية النسبيّة الجديدة. إضافةً إلى أنّها - في خضم هذا البحر اللجيّ من الآراء الغربية المتلاطمة -لم تحدّد بعد انتماءها في المنهج والنظرية النسبيّة؛ فهل تؤمن بمنهج شلاير ماخر(2) (1834م) في الكلام الجديد؟ أم أنها تنتمي إلى مقاربة ألستون(3) (2009م)؟ أم أنها تتوافق مع رؤى أخرى؟ فلا ريب في أنّ أيّاً من هذه الآراء والانتماءات الفكرية تترك آثاراً بالغة الأهميّة على صورة الكلام الجديد» المزمع تعريفه.

2/3/1. نظرية التكامل:

ذهب أصحاب هذه النظرية إلى أنّ صفة «الجديد» نعت متعلّق بالشبهات

ص: 22


1- هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة محمد مجتهد شبستري بالفارسيّة: هرمنوتيك كتاب وسنّت]، ص 168-170 .
2- فريدريش شلایرماخر (1768 Friedrich Schleiermacher -1834م) فيلسوف ولاهوتي بروتستانتي ألماني، عرف بتأسيسه اللبنات الأولى للهرمينوطيقا الحديثة. ترك بصمات واضحة على الفكر المسيحي المعاصر، وخاصة في دائرة اللاهوت البروتستانتي. [م]
3- وليام ألستون (1921) William Alston-2009م) : فيلسوف أمريكي، يعد من أشهر فلاسفة الدين الغربيين. له مساهمات مميّزة في فلسفة اللغة ونظرية المعرفة والفلسفة المسيحيّة [م] .

والأساليب الكلاميّة، نافين الاختلاف الجوهري المدعى بين الكلام الجديد والقديم فالكلام الجديد عندهم ليس إلّا نموذجاً متكاملاً للكلام القديم، واستمراراً له ومن هنا، قال بعض روّاد هذه الرؤية :

«علم الكلام الجديد استمرار للقديم، وليس بينهما اختلاف جوهري. ويمكن رصد التجديد في الكلام عند أمور ثلاثة أحدها أنّ الردّ على الشبهات هوأحد أهمّ مهام علم الكلام، وطالما أنّ الشبهات متجدّدة، فالكلام يتجدد كذلك. فلا ينبغي الاعتقاد بإمكان مجابهة الشبهات بالأساليب والأسلحة القديمة على الدوام؛ فإنّنا بحاجة - أحياناً - إلى أسلحة جديدة. ومن هنا، يحتاج المتكلّم إلى معرفة المسائل الحديثة وبالتالي يتضح أنّ علم الكلام يتغذى وينمو عبر المعارف الجديدة، مثلما ينمو بالمسائل الجديدة كذلك»(1).

أما التفسير السائد والمتداول عن صفة «الجدة» في «الكلام الجديد» فهو عدّها نعتاً للمسائل والقضايا الكلاميّة؛ بما يعني أنّ الكلام القديم تناول - في الأعم الأغلب القضايا المتعلّقة بالإلهيات والمعاد؛بيد أنه اليوم يلج مدارات بحثية أكثر اتساعاً، فيتناول أبحاثاً مرتبطة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وعلم الأديان، وغير ذلك(2).

3/3/1. النظرية المختارة:

الحق أننا إذا انتهينا إلى اضطلاع علم الكلام ببيان المعتقدات الدینیّة وإثباتها والدفاع عنها، فلا محيص من عدّ «الكلام الجديد» استمراراً للكلام التقليدي؛ وهو بذلك ليس مشابهاً لحال الفيزياء القديمة نسبةً إلى الحديثة، ليكون الجديد ناسخاً

ص: 23


1- القبض والبسط في الشريعة النسخة الفارسية بعنوان: قبض وبسط تئوريك شريعت عبدالکریم سروش ط 3 ص 79 -78 .
2- لاحظ: مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام [بالفارسيّة: مدخل مسائل جديد در علم کلام] ، جعفر السبحاني، ص 10.

للقديم منها. أما لو كان المراد من«الكلام الجديد»: العقائد الدینیّة التي تتناولتها الإلهيّات المسيحيّة البروتستانيّة الحديثة - حيث يُنفى الإله المحدّد والمعاد الديني، ويُعدّ الوحي فيها تجربةً دينية شخصيّةً فاقدة للعصمة، ويُصار إلى حقانية جميع الأديان على إطلاقها - ففي هذه الحالة، لا مانع من كون الكلام الجديد ناسخاً للقديم. ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا : كيف يمكن تسمية شيء كهذا بعلم الكلام، وعده علماً يستهدف الدفاع عن المعتقدات الدینیّة ؟! فهل يجوز لنا مثلاً أن نعد السارق الذي يُخلّ بالأمن في المجتمع حارساً؟! أو أن نسمّي الجندي المتعاون مع العدوّ بالمدافع عن ثغور البلاد؟! أو أن نصف المجرم الذي يبيع أعضاء مرضاه بالطبيب؟! لا شكّ في أنّ أيّاً من هذه التسميات لا تجوز. وعليه لا يمكن تسمية من يسعى إلى إنكار المعتقدات الدینیّة، ويدافع عن الشبهات الاعتقادية بدل الردّ عليها، ويلعب في أرض المسيحيّة البروتستانية «متكلّماً إسلامياً»، فغاية ما يمكن تسميته به : «أنه فيلسوف ديني». ومن العَجب العجاب دخول البعض في المعترك الكلامي بزي الفلاسفة، ثمّ وصف أنفسهم بالمتكلّمين، ليغيّروا على الناس معتقداتهم، ويسعون في خرابها، وكذا عدّهم «التفلسف» كواحدة من المهام التي يضطلع بها هذا العلم؛ حتى قال قائلهم :

«يضطلع علم الكلام - علاوةً على مهمته في ردّ الشبهات، وبيان المعارف، وإثبات المباني والأسس الدینیّة - بمهمة جديدة؛ تتمثل في علم معرفة الدين؛ وعلم معرفة الدين نظرة خارجية إلى الدين. ولذا، سمّي الكلام الجديد أحياناً بفلسفة الدين»(1).

وهذا المدّعى باطل؛ لأننّا سنبيّن - لاحقاً - الفرق بين «فلسفة الدين» و «علم الكلام الإسلامي». أما أهمّ القضايا التي يتناولها علم الكلام الجديد فتتمحور حول: «تعريف الدين»، و«حاجة الإنسان إلى «الدين»، و«منشأ الدين»، و«عقلانية القضايا الدینیّة» و«أثر الدين ودوره» و «جوهر الدين وصدفه»، و«لغة الدين»، و«التعدّديّة الدینیّة»، و«العقل والدين»، و«العلم والدين»، و«الدين والأخلاق»، و«الدين والدنيا» .

ص: 24


1- القبض والبسط في الشريعة مصدر سابق، ص 78-79 .

نستنتج مما تقدّم أنّ الكلام الجديد استمرار للكلام القديم، وعلينا أن نستعرضهما معاً في إطار واحد، ونظام موحد ومتناسق تحت مظلة علم الكلام الإسلامي المعاصر.

4/1 . شاكلة علم الكلام الإسلامي الجديد

بعد أن تبيّنت معالم الكلام الجديد من تعريف وماهية والرأي المختار في هذا الخصوص، واتضحت أيضاً ضرورة تلفيق المباحث الكلامية التقليدية مع المسائل الكلامية المستحدثة، نقترح هيكلّيّة جديدة للكلام الإسلامي بثوبه الجديد؛ وهي كما يلي:

الباب الأوّل: المبادئ والمقدّمات:

البحث الأوّل: ماهيّة علم الكلام (وتشمل أبحاث: التعريف، والموضوع، ،والمنهج، والأهداف، ونظام علم الكلام، والفوارق بين علم الكلام وفلسفة الدين، وعلم اجتماع الدين، وعلم نفس الأديان، وغيرها من العلوم المماثلة).

البحث الثاني: قابليّة الإثبات للقضايا الدینیّة ومعقوليتها.

الباب الثاني: الإلهيات:

البحث الثالث: معرفة الله وإثبات وجوده (سبل معرفة الله في الفكر الإسلامي والغربي، ثمّ إثبات وجود الله بدليل الفطرة، وبرهان النظم، وبرهان الوجوب والإمكان وما إلى ذلك).

البحث الرابع: إثبات وحدانية الله ومراتب التوحيد (التوحيد العملي والنظري).

البحث الخامس الصفات الإلهية (ماهية الصفات ، ثمّ تصنيفها، وإثبات الصفات الإلهيّة، ومباحث العدل الإلهى ).

البحث السادس: الأفعال الإلهية (حاجة الممكنات إلى الواجب تعالى فاعلية

ص: 25

الله وفاعليّة الخلق القضاء والقدر الإلهيّان، وموضوع الجبر والاختيار، والهداية والإضلال الإلهيّان وعلاقتهما بالاختيار البشري، ثمّ الصفات الإلهية والإبداعات البشرية الحديثة، بحث البداء، والنظام الكوني الأحسن، وفلسفة خلق العالم والإنسان، وفلسفة خلق الشيطان، وتبرير الشرور في العالم).

الباب الثالث: معرفة الدين :

البحث السابع: حقيقة الدين.

البحث الثامن : حقيقة التجربة الدینیّة.

البحث التاسع : المطلوب من الدين.

البحث العاشر: منشأ الدين.

البحث الحادي عشر : الإيمان الديني.

البحث الثاني عشر : التعددية الدینیّة.

الباب الرابع: النبوة:

البحث الثالث عشر : النبوّة العامة .

البحث الرابع عشر : النبوّة الخاصة .

البحث الخامس عشر : إعجاز القرآن .

البحث السادس عشر : القرآن وثقافة العصر.

البحث السابع عشر : ختم النبوّة.

الباب الخامس: الإمامة :

ص: 26

البحث الثامن عشر : الإمامة العامة (ماهية الإمامة وخصائصها، والنسبة بين الإمامة والديمقراطيّة، والصفات فوق البشريّة للإمام) .

البحث التاسع عشر : الإمامة الخاصة .

البحث العشرون المهدويّة.

الباب السادس: الإسلام :

البحث الحادي والعشرون: ماهية الإسلام ولغته.

البحث الثاني والعشرون: منهج فهم الإسلام (إثبات منهجية الاجتهاد، وإبطال تاريخية الفهم الديني).

البحث الثالث والعشرون: شمولية الإسلام (على الصعيد النظري، والخُلُقي، والسلوكي).

البحث الرابع والعشرون: الإسلام والمتطلبات الدنيوية (إبطال العلمانية، وإثبات الأيديولوجيا الإسلاميّة والحكومة الولائيّة ).

البحث الخامس والعشرون: جوهر الإسلام وصدفه .

البحث السادس والعشرون: الإسلام والعقل والعقلانية.

البحث السابع والعشرون: الإسلام والغرب الحداثي (نسبة عناصر الحداثة وما بعد الحداثة مع الإسلام).

البحث الثامن والعشرون: الإسلام والعلوم الحديثة (الطبيعية والإنسانية).

البحث التاسع والعشرون: العلم الدينيّ .

ص: 27

الباب السابع: المعاد.

البحث الثلاثون: المعاد الجسماني والروحانيّ.

البحث الحادي والثلاثون: الرجعة.

البحث الثاني والثلاثون: إبطال التناسخ.

البحث الثالث والثلاثون عالم البرزخ والقيامة.

4/1. الفرق بين الكلام الإسلامي والعلوم المماثلة

علم الكلام الإسلامي - كما تبيّن ممّا سبق - علم يهدف إلى تبيين المعتقدات الدینیّة وإثباتها والدفاع عنها. وتُعدّ فلسفة الدين وأنثروبولوجيا الدين، وعلم نفس الأديان، و علم اجتماع الدين وأخريات نأتي على ذكرها من العلوم المماثلة لعلم الكلام. وسنقف فيما يلي على تعاريف هذه العلوم لتتضح نقاط افتراقها عن علم الكلام.

1/4/1. علم الأديان المقارن:

علم الأديان المقارن(1) - أو قد يسمّى أيضاً بتاريخ الأديان(2) - علم حديث ظهر في الغرب، ويتمتع بحيوية وازدهار بالغين ودائمين وهو - كغالبية العلوم الأخرى - وليد عصر التنوير، أو على نحو الدقة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

وقد أشار عالم الأديان المعاصر والاجتماعي الشهير يواخيم واخ(3) (1955م) - في كتابه «الدراسة المقارنة للأديان» الصادر بعد وفاته - إلى تاريخ علم الأديان، ووضعه حالاً ومستقبلاً بقوله:

ص: 28


1- Comparative Study of Religion.
2- History of Religions.
3- يواخيم واخ (1898) Joachim Wach-1955م) عالم اجتماع وأديان ألمانيّ، أكّد في أبحاثه على الفصل بين حقلي تاريخ الأديان وفلسفة الدين. [م]

«لن يتصرّم هذا القرن دون أن نشهد تأسيس علم متكامل ومتناسق، نجد أجزاءه اليوم مبعثرة ومتناثرة. علم لم يكن له وجود في القرون الماضية، ولا نملك له تعريفاً واضحاً بعد ، علم لعله يسمّى - لأوّل مرّة - بعلم الأديان (1)»(2).

هذا، ويمكن اقتفاء جذور لعلم الأديان المقارن في تراث عالم اللسانيات الألماني ماكس مولر(3) (1900م)؛ حيث كان لإلمامه باللغات الهنديّة والأوروبية، وكذلك لمنهجه المقارن في فقه اللغة، وتطبيقه له في علم الأديان، ودعمه الصريح لهذا الحقل كفرع علمي طيلة حياته، دور كبير في التمهيد لإيجاد الكرسي الجامعي لهذا العلم في جامعات أوروبا الرائدة وقتذاك(4).

2/4/1 .فلسفة الدين:

فلسفة الدين تعني التفكير الفلسفي في الدين ولو نظرنا إليها كوسيلة للدفاع العقلي والفلسفي عن المعتقدات الدینیّة، فهي - في هذه الحالة - استمرار لمسيرة الإلهيّات الطبيعية (العقليّة) المتمايزة أصلاً عن الإلهيّات الوحيانية، ومكملة لدورها، وغايتها إثبات وجود الله عبر البراهين العقليّة. أما اليوم فلا تُطلق فلسفة الدين إلا على التفكير الفلسفي والعقلاني حول الدين، ولا يمكن عدها وسيلة لتعليم الدين. بناءاً على ذلك، يمكن للملحدين واللاأدريين - كما للمتدينين - مزاولة التفكير الفلسفيّ حول الدين وعليه فإنّ فلسفة الدين فرع من الفلسفة، تُدرس فيه المفاهيم والأنظمة العقيديّة الدینیّة، والظواهر الأصيلة للتجربة الدینیّة، والمناسك العبادية،

ص: 29


1- Science of Religions .
2- مجلّة كيهان الثقافية (باللغة الفارسية)، الكاتب همايون همتي.
3- فريدريك ماكس مولر (1823 Friedrich Max Müller-1900م) : عالم ألماني اهتم بصفة خاصة باللغة السنسكريتية الهندية القديمة. أسهم في الدراسة المقارنة في مجالات اللغة والدين وعلم الأساطير [م] .
4- مجلة الدراسات الدینیّة(دين پژوهي) العدد الأوّل، طهران، معهد العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية،الكاتب: ميرتشا ،إلياده ص134 .

والأسس الفكرية التي تبتني عليها هذه الأنظمة الاعتقادية(1). وأهم ما يبحث في فلسفة الدين بالمنهج العقلي: تعريف الدين، ومنشأ الدين، وبراهين إثبات وجود الله، والتعدّديّة الدینیّة، والشبهات المثارة حول الشرور، والصفات الإلهية، والصلة بين العلم والدين، ثمّ الأخلاق والدين، ولغة الدين.

3/4/1. أنثروبولوجيا الدين:

تمتد جذور المنحى الأنثروبولوجي في دراسة الدين كحقل معرفي ممنهج إلى أعماق الثقافة الغربية، وتعود الدراسات الأولى له إلى أعمال المؤرّخين الأنثروبولوجيين الإغريق وأسلافهم الرومان. وقد لعبت النزعة الاجتماعية التكاملية والبيولوجية (الحيوية) في القرن التاسع عشر دوراً فعّالاً في النظريات الأنثروبولوجية حول الدين؛ فقد كان الأنثروبولجي الإنجليزي تايلور(2) (1917م) من الأوئل في استخدام المفاهيم التكاملية في الأبحاث الدینیّة، ويعد مؤسساً لأنثروبولجيا الدين، فقد وجد في الآداب والتقاليد والعقائد العائدة للثقافات الإنسانية القديمة شواهد تدلّ على المرحلة البدائية للأديان، وقد ذهب إلى أنّ أوّل مرحلة من الدين تمثلت في الإيمان بالأرواح التي لا تختص بالبشر ، بل توجد في جميع الكائنات الطبيعية وغيرها. وقد كان لأمثال الأنثروبولجيّين البريطانييّن سميث (3) (1894م) وماريت(4) (1943م) إسهامات ودراسات في هذا المجال ايضاً (5).

ص: 30


1- فلسفة الدين [النسخة المترجمة للفارسية]، جون هيك ص 13-12 .
2- إدوارد بيرنت تايلور (1917 (1832) Edward Burnett Tylor : عالم بريطاني اشتهر بنظرية التطوّر الثقافي، ويعد من المؤسسين لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية [م] .
3- ولیام روبرتسون سمیت 1846) William Robertson Smith-1894م): مستشرق أسكتلندي، وأستاذ اللاهوت ، ووزير الكنيسة الحرّة في اسكتلندا. اشتهر بتأليفاته التأسيسية في الدراسة المقارنة للدين. [م]
4- روبرت رانولف ماريت 1866) Robert Ranulph Marett-1943م): عالم أجناس بريطاني، من روّاد المدرسة التطوّرية البريطانيّة، ركّز عمله على أنثروبولوجيا الدين، وعمل على تطوير ونقد نظريات تايلور. [م]
5- المصدر السابق، ص 137.

4/4/1 علم نفس الأديان:

نشأ علم نفس الأديان - كما هو مشهور اليوم - تزامناً مع ظهور علم الأديان المقارن، وتبلور علمين آخرين لم تربطهما في أوّل الأمر أيّ صلة بالدين؛ وهما: علم نفس الأعماق(1) الذي ظهر في العلوم الطبيّة كمحاولة أولى في البحث عن نظرية حول العقل الباطن لعلاج الأمراض النفسية، وعلم الفسيولوجيا النفسية (2) الذي تشعب عن الفسيولوجيا كمحاولة لاستبدال النظام والمرتكز الفلسفي في نظرية الإدراك بالتجربة العينيّة. ورغم العلم الزاخر والمنهج الشامل الذي كانت تتحلّى به أعمال روّاد علم نفس الأديان إلا أنّ الجذور المتباينة للعلمين قيدت كلا منهما بمنهج متعارض مع الآخر، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد مناهج حديثة في علم نفس الأديان(3).

5/4/1 . علم اجتماع الدين:

تعود الدراسات الأولى حول الصلة بين الدين والمجتمع إلى عهد الإغريق لكنّ ابن خلدون (4) (808ه) هو أوّل من تطرّق إلى دور الدين في النظم الاجتماعية والسياسية، كما أبدى بعض العلماء المسيحيين أيضاً عناية بالدور المحوري للدين في المجتمع ، وردود الفعل الدینیّة تجاه القوّة والنفوذ الكبير للمظاهر الدنيوية وقد درس الفلاسفة الجدد البعيدون عن الرؤى والميول الدینیّة هذه الصلة من زاوية دنيوية بحتة؛ كما دلّت عليه نظریات كونت(5) (1859م) وسبنسر(6) (1903م).

ص: 31


1- Depth Psychology .
2- Psychophysiology ، وقد يطلق عليه بالعربية أيضاً: علم الطبيعة النفسية. [م]
3- مجلة دین پژوهي، العدد الثاني طهران، پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1373 ه ش، ص 253.
4- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي (732-808ه/1332-1382م) مؤرّخ عربي تونسي المولد وأندلسي الأصل ومغربي الثقافة، يعدّه البعض مؤسس علم الاجتماع الحديث. [م]
5- أوغست كونت (1794 Auguste Comte-1859م) : عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي، أعطى لعلم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن اتسمت كتاباته بجانب كبير من التأمل الفلسفي، ويعدّ المؤسس للفلسفة الوضعية. [م]
6- هربرت سبنسر 1820) Herbert Spencer-1903م): فيلسوف بريطاني، يعدّ منمؤسسي علم الاجتماع الحديث. [م]

هذا، وكانت أبحاث علم اجتماع الدين تعدّ جانباً من علم اجتماع الثقافة والوعي كما صرح بذلك ماركس (1)(1883م) حين جعل الوعي الإنساني رهيناً بطبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعيّة.

ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى الصلة الوثيقة بين ظهور الدراسات الاجتماعية حول الدين في العصر الجديد على يد ،بارسونز و دوغلاس وطوماس لوكمان، وظهور الرأسمالية وتعدّد الثقافات والتساهل الديني والحكومة الليبرالية. وعليه : لا يمكننا عد هذا العلم أسلوباً موضوعياً لدراسة الدين والمجتمع، بل على العكس تماماً؛ فهو منتوج ثقافي صُنّع في معمل التطوّرات التاريخية للفكر الغربي، أرغم الباحثين على التخلّي عن المعايير والقيم التي يتبناها ذلك الدين أو المجتمع المزمع دراسته. وبالتالي: فإنّ علم اجتماع الدين هو حصيلة لإحدى تعلّقاته، وهذا يعني علمنة المؤسسات والأفكار الدینیّة وحصرها بالأطر الدنيوية.

5/1 . ضرورة التعرّف على علم الكلام :

تتضح ضرورة التعرّف على علم الكلام للمتدينين مع كل ما يشمله من قضايا قديمة ومستحدثة من خلال الوقوف على المبرّرات التالية :

1. ينقسم التديّن في إحدى التصنيفات العامة له إلى نوعين: التديّن المبرّر، والتدين المبرهن. أمّا التديّن المستدل والمبرهَن فهو تدين قائم على أساس البرهان والمنطق، بخلاف التديّن المبرّر الذي هو وليد مبررات وأسباب عائلية وثقافية واجتماعية وغيرها، والذي قد تتغيّر أحواله مع كلّ تغيّر يطرأ على هذه المبرّرات والأسباب، فيصاب تديّن الناس على أثر ذلك بالقبض والبسط ، أو الظهور والكمون. ومن هنا،

ص: 32


1- کارل هانريك ماركس (1818 Karl Heinrich Marxx-1883م): فيلسوف واقتصادي وعالم اجتماع ألماني لعبت أفكاره دوراً فعّالاً في تأسيس علم الاجتماع، أسّس نظرية الشيوعية العلمية بالاشتراك مع فريدريك إنجلز، وهو من تُنسب إليه الماركسية.[م]

يتحتّم على المتدينين أن ينفتحوا على معتقداتهم الدینیّة التي تمثل جذور شجرة الإيمان والتدين عندهم من بوّابة المعارف المبرهنة المستدلّة؛ كي لا تتزلزل أو تنحرف عن الحقيقة. وما علم الكلام - حسبما تقدّم من تعريفه - إلا تمهيد لهذا اللون من التدين. وبطبيعة الحال، لا ينبغي للمتدينين أن يغفلوا عن الدور المركزي الذي يلعبه العمل الصالح في تقوية الإيمان، فيظنوا أن المعرفة الدینیّة المبرهنة كافية في ظهور التديّن واستمراريته. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ تقليد الفقيه الأعلم في الأحكام الشرعية يصنّف ضمن التدين المبرهن؛ لأنّ تبعيّة الجاهل للعالم والمتخصص فعل يستند إلى أدلّة ومبادئ عقليّة؛ بخلاف التقليد الأعمى والأخرق الذي يمارسه الجاهل تجاه جاهل آخر، فهو يفتقر إلى أي دعم عقليّ مبرهن. وإن رجوع التلميذ والطالب إلى المعلم والأستاذ، والمريض إلى الطبيب، وغير الفقيه إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى كلّه يقع ضمن دائرة التقليد العقلاني، خلافاً لتقليد المشركين آباءهم وأجدادهم؛ فهو تقليد أعمى.

2 .يُصنّف المتدينون أيضاً إلى طائفتين : الطائفة الأولى : مجموعة المتدينين القلقين والحريصين على الدين، وهم الذين يشعرون بالمسؤولية تجاه ما يدور حولهم، ويدافعون عن العقيدة والدين إلى آخر لحظة من حياتهم، فيتألمون إذا ما ضعف دور الدين أو غاب عن مسرح المجتمع. وعلى هذا الصنف من المتدينين أن يتفحّص أوجه الخلل، وأن يبادر لدرء الشبهات، وينفتح على البحوث الكلامية والأصول المعرفية والعقائديّة؛ ليذبّ بعد ذلك عن حياض الإيمان، وأسسه في المجتمع. ناهيك عما يستلزمه هذا التوجّه من وعي للتحدّيات الفكرية والسلوكية التي يعاني منها الجيل المعاصر، والدور الاجتماعي الذي يضطلع به. أما الطائفة الثانية: فهم أولئك المتدينون الذين لا يعيرون اهتماماً بالمعضلات والتحدّيات الدینیّة أو الثقافية، ولا يكترثون بواجباتهم في إيجاد حلول لها.

ولا يخفى أنّ كلّ مؤمن مطالب - على أدنى تقدير - بالحفاظ على إيمان أبنائه، والحرص على الوقوف في وجه التحدّيات العقائدية التي تعترض طريقهم، ومن ثمّ

ص: 33

الدفاع عن المعتقد الدينيّ. إنّ عالمنا الذي نعيش فيه اليوم متخم بالشبهات الفلسفية والاجتماعية والثقافية التي تكالبت على الدين وقيم المجتمع الإسلامي وتغلغلت فيه من جهات وقنوات شتى، وينبغي العلم بأننا مهما أغفلنا انتماءنا الديني أو تدين غيرنا فإن عدوّنا الثقافي ليس بغافل .

3. تصنع البحوث العقائدية والكلامية للإنسان نظاماً وأنموذجاً فكرياً يترك أثره - حسبما يرى فلاسفة العلوم الطبيعية والاجتماعية المعاصرين - على جميع مناحي الرؤية الكونيّة والطبيعية للإنسان. هذا، ناهيك عن أثرها على الفكر والسلوك الفقهي والقانوني والأخلاقي. وهنا نتساءل: هل يمكن الالتزام بالأحكام الفقهية والمبادئ الأخلاقية الدینیّة بمعزل عن الإيمان بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ، ومن دون معرفته، والاعتقاد بالحياة بعد الموت، ومعرفة أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ عالم بالمصالح والمفاسد الحقيقية للأمور؟!

وعليه الذهاب إلى أنّ عالم الطبيعة خاضع لنظام ميكانيكي لا شأن لتدبير الله فيه، ليعترف - في الحد الأدنى - بكونه خالقاً ليس أكثر، أو ما عبّروا عنه بمصطلح إله الفراغات (1) لم يكن إلا بسبب رؤية وموقف معين تبلور في ثنايا البحوث والدراسات الطبيعية (2).

ص: 34


1- بالإنجليزية: God of the gaps. [م]
2- للمزيد راجع: العلم والدین، ایان باربور .

2 .معقوليّة القضايا الدینیّة وقابليتها للإثبات

1/2 .المبادئ التصوّريّة في المسألة:

قبل بضع سنين، كنتُ ضيفاً في رحلة جبلية، وعند عودتي من نزهة السير على الأقدام بمفردي، وجدتُ الجميع منهمكين في نزاع فلسفيّ عنيف، تمحور موضوعه حول سنجاب! لقد افترضوا أنّ سنجاباً كان على طرف من جذع شجرة، وكان شخص في مقابله على الطرف الآخر. فكلما حاول ذلك الإنسان أن يدور حول جذع الشجرة في حركة سريعة لينظر إلى السنجاب، وكلّما أسرع في دورانه، كان السنجاب يدور معه في سرعة تضاهي حركة الإنسان، فيدور معه حول جذع الشجرة في الاتجاه نفسه، بحيث يبقى الجذع قائماً بينهما على الدوام، ولا ينجح ذلك الشخص في رؤية .السنجاب والسؤال الميتافيزيقي المتبلور من هذه الحالة هو: هل دار الإنسان حول السنجاب حقّاً، أم لا؟ لا شكّ في أنّه دار حول الشجرة، وأنّ السنجاب كان ملتصقاً بها؛ لكن هل دار هذا الشخص حول السنجاب أيضاً؟ لم يفض النقاش في تلك الفترة التي كان يقضي فيها المخيّمون أوقات فراغ مفتوحة إلى نتيجة. كان الجميع قد شارك في الإدلاء برأيه والإصرار عليه، وكان المتنازعون منقسمين بالتساوي. وعند ورودي، لم يكن مستغرباً من كلا الطرفين أن يحاولوا استقطابي لأنحاز إلى أحدهما، فنشكّل بذلك أغلبيّة. أمّا الذي كان يشغل ذهنيّ وقتئذ هو المثل المدرسي الذي يقول: متى ما واجهت تضاداً فضع مائزاً. وعندئذٍ وجدت وجه التمايز، وقلت لهم: البحث عن الرأي الصائب رهين بتعريف الدوران»، وتحديد المقصود منه؛ فإذا كان المقصود من الدوران أن يتحوّل موقع الشخص من شمال السنجاب إلى شرقه، ثمّ إلى جنوبه، فغربه، ومنه إلى الشمال ثانيةً، ففي هذه الحالة: ما من شك في أنّ الرجل كان يدور حول السنجاب. أما لو كان المقصود أن يقف المرؤ أمام السنجاب، ثمّ يتحوّل إلى

ص: 35

يمينه، فشماله، ثمّ يتموضع أمامه ثانية، فلا يخفى أنه لم يتمكن من الدوران حول السنجاب؛ لأنّ السنجاب بدورانه الدائم جعل بطنه نحو الرجل دائماً، وأخفى ظهره عنه! ضعوا هذا التمايز في الحسبان، ولن يبقى مجال للنزاع أكثر من ذلك(1).

نقلتُ هذه الأقصوصة عن وليام جيمس (2) (1910م) تمهيداً للبحث عن إمكانية إثبات الدعاوى الدینیّة، ولأقرّب قضيّة قابليّة إثبات القضايا الدینیّة إلى الأذهان.

لقد أصيب بعض أنصار التيار التنويري الإيراني في عصرنا بشيء من الشكّ والترديد في القضايا الدینیّة، تأثراً بالغرب، وما شهده من تطوّرات معرفية هناك، لا سيّما من أصحاب النزعة الشكيّة (3) الحديثة. ويهدف هذا البحث إلى البرهنة على معقوليّة القضايا الدینیّة، وقابليتها للإثبات. لقد كان التنويريون الإيرانييون - منذ عهد القاجار - أتباعاً ومقلّدين لفلاسفة الغرب، على الرغم من ظهورهم بزي العلماء والمفكرين، وكان منهجهم العلمي يفتقد الدقة والعمق الفكري ومن هنا، لم يلعبوا أيّ دو دور فاعل على صعيد هذا الموضوع سوى وقوفهم كمتفرجين وداعمين لما يردّده الآخر في نفي قابلية القضايا الدینیّة للإثبات، وقد شكّل هذا المنحى لهذا التيار المتبجح بآرائه في إيران خللاً كبيراً في فكره.

وهنا، نشير إلى أن مشكلة «قابلية إثبات القضايا الدینیّة» قضية تتصدّر أهمّ موضوعات الكلام الجديد، وفلسفة الدين ونظريّة المعرفة الدینیّة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا البحث :هو هل بإمكاننا الحديث عن صدق العقائد الدینیّة، وتبريرها بأساليب منطقيّة، وإثبات حقيقتها ومعقوليتها في حال اعتبار المعرفة عقيدة صادقة مبررة؟

ص: 36


1- وليام جيمس البراغماتية (ترجم إلى الفارسيّة :بعنوان پراگماتیسم) ترجمة عبدالکریم رشیدیان، منشورات آموزش انقلاب إسلامي، طهران، 1370 ھ ش ، ص 39-40.
2- ویلیام جیمس (1842 William James-1910م): فيلسوف وعالم نفس ،أمريكي، ألف كتباً مؤثرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني والتصوّف والفلسفة البراغماتية. [م]
3- [م] .Skepticism

سوف نتناول البحث والتحليل حول هذا الموضوع ضمن ثلاثة محاور هي: المبادئ التصوّريّة، والنظريات والنظرية المختارة.

المبادئ التصوّريّة في المسألة:

1. الدين: ويُراد منه المسلك أو النظام الذي يتسم بالصفات التالية: أولاً: أن يكون سماويّاً إلهيّاً ؛ لا دنيوياً وضعيّاً من صنع البشر . ثانياً : أن يمثل رسالة إلهيّة مشتملة على التعاليم الوصفية والمعياريّة، وأن يكون في متناول أيدي الناس. ثالثاً: أن يحمل نصاً سماويّاً مقدساً بعيداً عن التحريف بزيادة أو نقصان. رابعاً: أن يكون هادياً للبشر، ومؤمّناً له السعادة الأخروية. وبناءً على هذه المبادئ فإنّ الدين هو تعاليم وصفية ومعياريّة أنزلها الله لهداية الإنسان، ورسالته دون أيّ ،تحريف، موجودة وفي متناول أيدي الناس ولا ينطبق هذا التعريف في عصرنا إلا على دين الإسلام.

2. القضايا الدینیّة تنقسم القضايا الدینیّة إلى قسمين هما: القضايا الوصفية (1) والقضايا المعياريّة(2)؛ أي: الإخبارية والإنشائية . أما القضايا الإخبارية فهي ما تحتمل الصدق أو الكذب؛ لأنها من سنخ العلوم المعرفية. وأما القضايا الإنشائية فهي - باعتبار دلالتها المطابقيّة - لا تحكي عن الواقع ونفس الأمر الخارجيّ؛ رغم إمكانية وصفها بالكذب أو الصدق - باعتبار المصدر أو الغاية - . والقضايا الإخبارية في الإسلام : القضايا العقائديّة، والتأريخيّة، والطبيعية، والعرفانية، والأخبار الغيبية، والسنن الإلهيّة المشروطة . والقضايا الإنشائية هي القضايا الأخلاقية والقانونية والفقهية.

3 . قابليّة الإثبات ولمصطلح «قابليّة الإثبات» أكثر من معنى في فلسفة الدين؛ إذ يُراد بها - أحياناً - «القبول والتصديق العام» ، أو «تطابق الفكرة مع الواقع». وبناءً على الرؤية الأولى الشهيرة ب-«العقلانية القصوى»(3) فلا يمكن بلوغ مرتبة الصدق في

ص: 37


1- Descriptive.
2- Normative.
3- Strong Rationalism.

الاعتقاد إلا في حال اقتناع جميع العقلاء، كما لا يُركن للأدلة والبراهين على العقيدة الدينيّة إلّا إذا أذعن بها العقلاء كافّةً. وقد مال البعض الآخر من الكتاب في قبال هذا التعريف إلى القول ب- «الإثبات المرتهن بالفرد»(1). وحسب اعتقادي فإنّ كلا المعنيين (التصديق العام، والتصديق الشخصي) مرفوض ؛ لأنهما يخلطان بين الصدق الخبري والصدق المخبريّ(2). وتوضيح ذلك : أنّ المعنى السائد والمشهور للصدق هو: «تطابق الفكرة مع الواقع»، ولا يخفى أنّ «المعقوليّة» و «قابليّة الإثبات» إنما تبحث في إطار هذا التعريف؛ سواء آمن بمضمون القضيّة أحد أم لم يؤمن. أما التصديق العام أو الشخصيّ فهو عائد إلى الصدق المخبري الذي يحكي عن «مطابقة القضية لاعتقاد المخبِرين»، وهذا النوع من الصدق لا محلّ له في أروقة العلوم العقلية وعلم الكلام، ولا يدل على الصدق الخبري الذي يعني مطابقة الفكرة للواقع.

2/2 .معقوليّة القضايا الإسلامیّة الوصفية:

نستنتج من الأبحاث السابقة أن قضايا الدين الإسلامي تنقسم إلى وصفية ومعيارية، والوصفية - التي تحكي عن الواقع - تنقسم بدورها إلى ستة أقسام:

1 . القضايا الفلسفيّة والعقليّة ؛ كما في قضيّة: «الله موجود».

2 . القضايا الطبيعية والتجريبية ؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهُ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ (3).

3 . القضايا التاريخية والنقليّة؛ كما في قصص الأنبياء والأمم.

4 . القضايا العرفانية والشهوديّة؛ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانَا) (4).

ص: 38


1- العقل والإيمان الديني، مايكل بطرسون وآخرون، ص 72 و 131 [المصدر بالفارسية].
2- مختصر المعاني سعد الدين التفتازاني منشورات مكتبة إسلامي، من دون تاريخ، ص12.
3- سورة النمل 88 .
4- سورة الأنفال 29 .

5 . القضايا الكونيّة والسنن الإلهيّة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ (1)، أو : وَمَن يَتَّقِ الله يُجْعَل لَّهُ خَرَجًا) (2).

6 . الإخبار الغيبي للقرآن الكريم.

وهنا نشير إلى أنّ القسمَين: الخامس والسادس من القضايا الوصفية يمكن تحويلهما إلى قضايا عقائديّة أو علميّة أو تاريخيّة أو عرفانية، وتثبت بتحققها في الخارج.

هذا، وتستند قابلية الإثبات في القضايا المعيارية - أي: القضايا الأخلاقية والفقهية والحقوقية (القانونية) - إما على بديهيات العقل العملي (حسن العدل وقبح الظلم)، وإما على معقولية القضايا الوصفية. توضيح ذلك: أنّ بعض القضايا الإنشائية والمعيارية الدینیّة تحظى بالصدقيّة من باب أنها ذات قضيّة حُسن العدل وقُبح الظلم، أو من مصاديقها. وتثبت صدقية البعض الآخر من القضايا المعيارية من خلال إثبات القضايا العقائديّة، وحقّانيّة الدين الإسلامي. والمراد من صدقية القضايا الإنشائية: مطابقتها لكمال الإنسان وسعادته؛ وهو ما يثبت بدوره عن طريق حُسن العدل وقُبح الظلم، أو من خلال إثبات حقانية الدين الإسلامي، وحقانية كلام الله عَزَّ وَجَلَّ. وحين يقال بصدقية قضايا؛ مثل: «العدل والإحسان حسنٌ»، و«الظلم وغصب مال الغير قبيحٌ» فإنّ المقصود من ذلك أن تحقق العدل والإحسان، وكذا اجتناب الظلم وغصب أموال الناس موصل إلى نيل الكمال والسعادة وكذا عندما يُقال بصدقيّة قضايا معياريّة؛ مثل: «صلاة الفجر ركعتان»، أو«تجب مراعاة حقوق الجار»، أو «الحجاب واجبٌ» ، وإنّ قابليّة إثبات حقانيّة هذه القضايا أن كلّ هذه القضايا تتأتى من خلال إثبات انتمائها إلى كلام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وكلامه حكيم وحق. وعليه:

تكون كلّ القضايا المذكورة آنفاً حكيمة وحقة أيضاً.

ص: 39


1- سورة الطلاق 3 .
2- سورة الطلاق 2.

ويمكن إثبات القضايا الوصفية من خلال توظيف المعايير الفلسفية والعلمية والتاريخيّة والعرفانية؛ كما سيأتي بيانه أدناه.

3/2 .معقوليّة القضايا العقليّة الدينيّة :

تتصدّر القضايا العقليّة والفلسفيّة قائمة أهم القضايا الأساسية الدینیّة، وهي قضايا يستتبع معقوليتها وقابليتها للتبرير - علاوة على إثباتها وصدقها وقابليتها للبرهنة - معقولية سائر القضايا الدینیّة، بما يعم الوصفية والمعيارية. توضيح ذلك: أنّ بالإمكان تصنيف تعاليم الدين الإسلامي إلى صنفين : تعاليم البنية التحتية، وتعاليم البنية الفوقية. أمّا تعاليم البنية الفوقية فيلزم من واقعيّتها والقبول بها واقعية تعاليم البنية التحتية والقبول بها أيضاً من أمثلة ذلك : الإيمان بوجود الله وعلمه، وقدرته، وحكمته، وحاجة البشر الماسة إلى الدين والنبوة، والحقانية، والاعتقاد بوحيانية القرآن وكونه منزلاً من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فكلّ ذلك ينتمي إلى تعاليم البنية التحيّة. أما حقانية سائر التعاليم الإسلاميّة؛ مثل : إثبات باقي الصفات الإلهيّة الفعلية، وقضايا المعاد، والتعاليم الأخلاقية والفقهيّة فهي مبتنية على تعاليم البنية التحتيّة آنفة الذكر. وهذا يعني أننا لو أثبتنا قضايا البنية التحتيّة الإسلامیّة فقد ثبتت بذلك سائر التعاليم الدینیّة.

أمّا معيار الكشف وطبيعته في المعرفة العقلية، وكذا تمييز المعارف الصادقة والحقيقيّة من الكاذبة وغير الحقيقية فيعد من أهم القضايا المعرفيّة والمنطقيّة من هنا، أسس فلاسفة نظرية المعرفة في هذا البحث - الذي درسوه تحت عنوان قيمة المعرفة - لنظريتين أساسيتين هما: البنيوية، والاتساقية.

النزعة البنيوية (1) هي أقدم النظريات في هذا المجال وأرسخها، وقد دافع عنها أو تبنّاها فلاسفة اليونان؛ مثل: أفلاطون (348 ق.م)، وأرسطو (322 ق.م) ، وكذا فلاسفة مسلمون؛ مثل: ابن سينا (428ه) ، والسهروردي (587ه)، وصدر الدین

ص: 40


1- Foundationalism.

الشيرازي (1050ه)، وبعض مشاهير فلاسفة المعرفة من الغربيين في العصر الراهن؛ مثل بلانتينغا (1) وسوينبرن(2). ولعلّ أشهر تقرير لفكرة البنيوية يتلخص في أنّ المعتقدات والمعارف الحصوليّة للإنسان تنقسم إلى قسمين: معتقدات أساسية (3) وأخرى مستنتجة (4)، أو كما يعبر المناطقة: معارف بديهية وأخرى نظرية (5). والمعرفة البديهية هي التي لا تحتاج في تصديقها إلى استدلال؛ فتصوّر الموضوع والمحمول فيها يكفي لتصديق القضية بخلاف المعرفة النظرية التي هي قضية يفتقر التصديق بها إلى استدلال، ولا يكفي للتصديق بمضمونها مجرّد تصوّر الموضوع .والمحمول أمّا البديهيّات والمعارف الأساسية فعلى ضربين:

.1 البديهيات الأوّليّة : وهي ليست مستغنية عن الاستدلال فحسب، بل يستحيل الاستدلال عليها من أمثلتها مبدأ استحالة التناقض، أو امتناع اجتماع النقيضين، أو استحالة اجتماع الوجود والعدم. فبمجرّد تصوّر النقيضين، وتصوّر امتناع اجتماعهما يحصل التصديق وبداهة هذه القضية تعني: استغناء القضية عن الاستدلال والبرهنة لإثباتها، بل امتناع الاستدلال عليها؛ لأنّ جميع الأدلّة والبراهين سوف تعود - لا محالة - إلى مبدأ امتناع التناقض في نهاية المطاف. من هنا، تجد المنكرين لهذا المبدأ أيضاً يستخدمونه حتى عندما يمارسون إنكاره أو التشكيك فيه؛ لأنّ الرافض لاستحالة اجتماع النقيضين لا يمكن له أن يكون منكراً وشاكاً

ص: 41


1- ألفن بلانتينغا Alvin Plantinga : فيلسوف دين أمريكي معاصر ، ولد في ولاية مشيغان عام 1932م. كرّس جهوده في إثبات الدفاع عن العقيدة بوجود الله كأساس للإيمان، وتوسّع في نظرية المعرفة الدینیّة. يشغل حالياً منصب مدير مركز فلسفة الدين في جامعة نوتردام الكاثوليكية الأمريكية. [م]
2- ريتشارد سوینبرن Richard Swinburne : فيلسوف دين إنجليزي ،معاصر يحاضر في جامعة أكسفورد البريطانية من مواليد العام 1934م. [م]
3- Basic Beliefs.
4- Inferred Beliefs.
5- المنطقيّات الفارابي، ج 1، ص 19؛ شرح الإشارات والتنبيهات ابن سينا ونصير الدين الطوسي، ج1، ص 229213 شرح المواقف، ج 2 ، ص 36-41 حكمة الإشراق، ص 39 و 118-123 المنهج الجديد في تعليم الفلسفة محمّد تقي مصباح اليزدي، ج1، ص 211-212 .

فيه، ثمّ غير منكر وغير شاكٌ فيه في الوقت ذاته ! وذلك لأنه يقرّ في نفسه بامتناع اجتماع النقيضين.

2 .البديهيات الثانوية: وهي قضايا يتطلب التصديق بها توظيف أدوات أخرى؛ كالحس والعقل. وبعبارة أخرى البديهيات الثانوية غنيّة عن الاستدلال، لكنها ليست مستحيلة الاستدلال. وسمّيت ب- «الثانوية» لأنّ تصوّر الموضوع والمحمول لا يكفي لتصديقها، بل يلزم وجود عنصر آخر، بيد أن استخدام هذا العنصر لا يتوقف على تعمل عقليّ، أو العثور على برهان أو حدّ أوسط.

والبديهيات الثانوية بدورها تتكوّن من:

1 . الحسّيّات وهذا الصنف من البديهيات قضايا تستشعر بالحواس الظاهرة؛ مثل: «الجوّ مُشمِس» . التصديق بهذه القضايا وكذا الحكم فيها يفتقر إلى أعضاء حسيّة، علاوةً على أنّ إثبات وجود المحسوسات في الخارج، وتطابق الصور الحسّية المدرَكة مع الواقع الخارجيّ أمر يستدعي برهنة عقليّة؛ فلقائل أن يقول: لعلّ الصور الحسّية المدرَكة نتائج لنفس الإنسان، ولا دلالة لها على الواقع المحسوس في الخارج! لكنّ العقل المستدلّ يبرهن على ذلك المدعى بالقول: لو لم يكن الواقع الخارجيّ مصدرَ الصور المدركة، وكانت من صنع النفس ، لوَجَب أن يُدرِك الإنسانُ تلك الصور في كل زمان و مكان وعلى كل حال؛ فالنفس والعلة في إيجاد هذه الصور - حسب الفرض موجودة، وطالما أننا لا نستحضر هذه الصور المدركة - كما ذكر - فإذن نستنتج أنّ الواقع المحسوس موجود في الخارج وهو مصدر لإدراك الصور الحسية في الذهن (1). السرّ في بداهة الحسيّات على رغم احتياجها إلى البرهان العقلي هو أنّ العقل البشري يبرهن تلقائياً على هذه المدركات ولا يستعين بالبحث. قد أخرج البعض عدداً من المحسوسات كالألوان والأصوات من مجموعة اليقينيات والبديهيات الثانوية مستدلا

ص: 42


1- التعليقات ابن سينا ص 68 و 88 و 148 نهاية الحكمة الطباطبائي المرحلة 11 الفصل 13، الأسفار الأربعة، صدر الدين الشيرازي، ج3، ص 498 .

بنسبيّة هذه المدركات والحال أنّ الألوان والأصوات هي حقائق نسبية ومتغيّرة تكويناً والإدراك الحسي المتغيّر كذلك تابع للواقع الذي يعكسه.

2 .الفطريات: هي قضايا أوّلاً لا يتم تصديقها بتصوّر الموضوع والمحمول فحسب بل تحتاج إلى برهان عقلي أيضاً؛ وثانياً البرهان العقلي قرين لهذه القضايا ولا يحتاج إلى الجهد العقلي وبعبارة أخرى يتولّد بتصوّر الموضوع والمحمول البرهان العقليّ؛ وثالثاً لاتحتاج هذه القضايا إلى آلة حسّ ظاهرة أو باطنة (1)؛ كما في مبدأ السببية (كلّ معلول أو ممكن محتاج إلى العلّة) ومبدأ الهوهوية (الشيء هو هو)، واستحالة ارتفاع النقيضين (ارتفاع النفي والإثبات معاً عن قضية واحدة ممتنع)، والحمل الأولي (الإنسان إنسان)، واستحالة الدور (توقف وجود «س» على «ص»، ووجود «ص» على «س» محال)، واستحالة تقدّم الشيء على نفسه (تقدّم وجود «س» على نفسه محال) كلّها قضايا فطريّة؛ لأنّ تصوّر الموضوع والمحمول يولّد البرهان العقلي، ومعه تصدق القضيّة. توضيح ذلك : أنّ كلّ هذه القضايا كانت مصاديق لاستحالة اجتماع النقيضين فإنّ تصوّر المعلول أو الممكن وتصوّر احتياجه إلى العلّة يظهر معها البرهان العقليّ القائل ب- «ان المعلول لو يكن يحتاج إلى علة فيستلزم ذلك اجتماع النقيضين؛ ولكن التالي باطل فالمقدّم مثله»، وعليه يتمّ تصديق أصل العلية. كما يتكوّن بعد تصوّر الموضوع والمحمول في أصل الهوهو البرهان القائل بأنّ كلّ شيء لو لم يكن هو هو، استلزمه اجتماع النقيضين، ولكنّ اجتماع النقيضين محال، فإذن كلّ شيء هو هو. وقد عدّ بعض المحققين هذا الأصل من البديهيات الأولية (2).

3 .الوجدانيات: هي قضايا تحصل بانعكاس العلم الحضوري في الذهن وتبدّله إلى علم حصولي ولا يحتاج إلى برهان عقليّ أو حواس ظاهريّة. بعبارة أخرى الوجدانيات علوم حصوليّة ناشئة عن علوم حضوريّة. لا يحتاج هذا السنخ من القضايا في مصدر

ص: 43


1- شرح الإشارات والتنبيهات ابن سينا، ج1، ص 289 .
2- لاحظ : نظرية بداهة مبدأ الهوهوية [بالفارسية: نظريه بداهت اصل هوهويت]، أحمد أحمدي.

الإنتزاع إلى برهان عقلي ولكنّه مدين إلى آلة العقل. والجدير بالذكر أنّ الوجدانيات تستند في تصوّر الموضوع والمحمول وكذلك في التصديق والحكم إلى العلم الحضوري كما في قولك: «أنا خائف»، أو «أنا جائع» أو «أنا أشعر بالحاجة».

كان المناطقة - في الماضي - يصنفون التجريبيّات والحدسيات والمتواترات في عرض الفطريات والحسيّات والوجدانيّات، فتكون كلّها من أقسام القضايا اليقينية، واستبدل مصطلح اليقينيات بالبديهيات فيما بعد. ولا يبعد أن تكون التجريبيّات والحدسيات والمتواترات من أقسام اليقينيات بالدقة المنطقية والمعرفية، علماً بأنّ اليقين المقصود هنا أعمّ من اليقين المنطقي أو العقلائي؛ ومعناه أنّ للعقلاء أن يستيقنوا بالقضايا التجريبية والمتواترة والحدسية عبر التجربة والأخبار المتواترة والحدس يقيناً عقلائياً، رغم أنّ هذا النوع يعتبره المنطق ظناً معتبراً مورثاً للاطمئنان. وعلى أيّ حال، فإنّ هذه القضايا ليست من البديهيات الثانوية، بل هي من سنخ القضايا النظرية؛ لأنها أوّلاً تحتاج في تصديقها إلى استدلال وثانياً لا يرافقها الاستدلال العقلي وثالثاً إنها محتاجة إلى جهد وعمل عقليّ. نتاج البحث هو أن ملاك تمييز المعارف والقضايا الصادقة عن القضايا الكاذبة في المجال الديني - العقليّ هو البداهة العقلية. وبناءاً عليه لإثبات وجود الله استدلّ العقلانيون إلى برهان الصدّيقين وبرهان الإمكان والوجوب وأصل العليّة وغيره وتمسكوا ببرهان حاجة البشر الاجتماعية إلى القانون لإثبات ضرورة بعثة الأنبياء. وهذا ما يثبت به معقولية القضايا العقليّة الدینیّة وهي البنية التحتية للمعارف الدينيّة وتثبت بها معقولية سائر المعارف الدینیّة.

4/2 .معقوليّة القضايا العرفانية الدینیّة :

تثبت القضايا العرفانية بمنهج العلم الحضوري والشهودي؛ ففيه يحضر وجود المعلوم واقعه الموضوعي عند العالم؛ فعلى سبيل المثال: قضيّة (أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ

ص: 44

الْقُلُوبُ) (1) قضية دينية عرفانيّة قابلة للإثبات عن طريق العلم الحضوري. توضيح ذلك : لا نشكّ في أنّ فرقاً ما يميّز بين «الشعور بالألم» و «تصوّر الألم»، أو بين «الإحساس الحبّ» و«تصوّر الحبّ»، أو بين «إدراك الجوع والعطش» و «تصوّر الجوع والعطش»؛ فمتعلَق الشعور بالألم والحبّ والجوع والعطش هو الواقع الموضوعي لتلك الأمور، في حين أنّ متعلَّق تصوّرها هو صورها ومفاهيمها الذهنية. وبالتالي: يمتلك الإنسان ضربين من الوعي والإدراك:

1. إدراك يحصل من خلال توسط الصور والمفاهيم الذهنية، ويحكي واقعاً خارجياً.

2 . إدراك يتحقق من دون توسط تلك الوسائط .

تسمّى المعرفة المستغنية عن الواسطة والتي يحضر فيها الوجود الواقعي للمعلوم عند العالم ب- «العلم الحضوري» ؛ كما في علمنا بأنفسنا وحالات أنفسنا وقواها مثل: الخوف، والحبّ، وما إلى ذلك. أما المعرفة الحاصلة بتوسط المفهوم أو الصورة الذهنية فیسمى ب- «العلم الحصولي» .

ومن هنا، يظهر أن العلم الحضوري معرفة مباشرة يدرك فيها الإنسانُ الوجود الواقعي للمعلوم. ويتميز العلم الحضوري بالنقاط التالية:

1 . الاتحاد الوجودي بين «الواقع المدرَك» أو «المعلوم»، وواقع «العلم»؛ في حين أنّ العلم الحصوليّ ينطوي على ثلاثة أمور؛ هي : العالِم والمعلوم والواسطة؛ وهي تلك الصورة أو ذاك المفهوم الذهني.

2 . في أطر العلم الحضوري لا معنى للشكّ والتصوّر، والتصديق، والخطأ، . والحافظة، والفكر، والتعقل، والاستدلال، وما شاكل ذلك من أمور متعلّقة بالعلوم الحصوليّة، ومرتبطة بعالم الذهن

ص: 45


1- سورة الرعد: 28 .

3 . لا معنى للخطأ في العلم الحضوري، في حين أن الخطأ محتمل في العلم الحصولي.

4 . يجوز في العلم الحصولي أن يتطابق مع الواقع، كما يجوز فيه أيضاً ألا يتطابقا، ويكمن السر وراء رفض العلم الحضوري للخطأ، وقوع الواقع العيني بذاته ومن دون وسائط تحت طائلة الشهود ، اما الواقع في العلم الحصولي فيتأتى من خلال نافذة المفاهيم والصور الذهنيّة، ولا محيص في ذلك من احتمال الخطأ، وعدم التطابق مع الواقع المفترض. وما المكاشافات الشيطانية عند العرفاء أو الشهوة المزيفة عند المريض إلا ضرب من ضروب العلوم الحصوليّة التي تقع تفسيراً لعلوم حضوريّة، وهي معرّضة للخطأ. ولعلّ عارفاً يدرك شيئاً عن طريق خياله المتصل والذهني، فيظن أنه من سنخ العلم الحضوري والكشف العرفاني، في حين أن الخيال المتصل ليس لون من ألوان العلم الحصوليّ المعرّض للخطأ .

وعلى صعيد آخر، لا يفتأ ذهن الإنسان - الشبيه بآلة التصوير - عن التقاط صور تلقائية للمدركات الحضوريّة، وتخزين صور أو مفاهيم خاصة في جنباته، والقيام بعمليات الفرز والتحليل والتفسير بشأنها. ومن هنا، من الممكن لبعض العرفاء بعد حصول كشف أو شهود لهم أن تقوم نفوسهم من خلال الذهن أو الذهنيات بتفسير مدركاتها الحضوريّة، فيخالوا تفسيراتهم تلك - وهي مكاشفات شيطانية من سنخ العلم الحصولي - مكاشفاتِ ربّانيةً وإلهيّة!

ولهذا السبب، عقد أرباب العرفان الإسلامي بحثاً بعنوان «ميزان العرفان»؛ ليميّزوا على ضوئه الكشف العرفاني الصحيح عن السقيم، وقد أشاروا في العرفان الإسلامي إلى ثلاثة معايير : عامة وخاصة، وعقليّة:

*أرادوا ب«العامة» : الشريعة ؛ أي إذا ما أراد العارف الوثوق بكشفياته، فعليه أن يطبّقها الشريعة؛ فإذا توافقا وتطابقا، فله أن يثق بها، وإلّا فلا(1). والمقصود

ص: 46


1- لاحظ شرح فصوص الحكم، داوود القيصري، باهتمام سيد جلال الدين الآشتياني ص 32 إعجاز البيان في تأويل القرآن، صدر الدين القونوي، ص 12 .

بالشريعة مجموعة من المعارف والتعاليم المنزّلة على الإنسان عن طريق الوحي. وتثبتُ معياريّة الدين والشريعة بالنسبة إلى كشفيات العرفاء والتمييز بها بين الكشفيات الحضوريّة الإلهية والإلقاءات الحصوليّة الشيطانية بعد إثبات معقولية القضايا والتعاليم الدینیّة، وهذا يعني أولوية البدء باستخدام المنهج العقلي في إثبات معقولية قضايا مثل : وجود الله وصفاته الذاتية والفعلية، وضرورة حاجة الإنسان إلى الدين، وحقانية الدين الإسلامي.

* وقد أضاف العرفاء علاوةً على الشريعة معياراً خاصاً أسموه ب- «الأستاذ الكامل»؛ فإذا خضع الفرد إلى تربية الأستاذ الكامل المكمل وهدايته أمكن له من خلال تطبيق كشفياته مع كشفيات الأستاذ الوقوف على صحة مشاهداته أو سقمها؛ لأن الأستاذ مطّلع على أحوال تلميذه ومشاهداته بشكل كامل، وله أن يصوّب طريقه بالإرشادات التي تناسبه(1).

* أمّا المعيار الثالث لصحة الكشف والشهود العرفاني أو سقمه فهو «العقل». وقد تقدّم بيان معيارية العقل في بحث معقوليّة القضايا الدینیّة العقلية»، فلا نعيد.

وفي المحصّلة نقول : لا شكّ في أنّ قابليّة إثبات القضايا الدینیّة العرفانية أمر متيسّر من خلال العلم الحضوري الذي تقدّم أنه عصيّ على الخطأ.

5/2 . معقوليّة القضايا التاريخية الدینیّة:

تنتمي القضايا التاريخيّة في النصوص الدینیّة الإسلاميّة إلى صنف القضايا الوصفيّة . ويعتمد إثبات هذا اللون من القضايا، وكذا معقوليتها، على صدق المخبرين والمقرّرين، وعلى مدى ضبطهم ودقتهم؛ فإذا ثبت اتصاف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والرسول (صلّی الله علیه وآله)، والأئمة (علیهم السلام) ، ومذا نقلة التاريخ وحملة الأخبار بكونهم مخبرين صادقين، أمكن إثبات صحة القضايا التاريخية الدینیّة ومعقوليتها.

ص: 47


1- لاحظ شرح فصوص الحكم مصدر سابق، ص 32؛ تحرير تمهيد القواعد الجوادي الآملي، ص 715.

من جهة أخرى، فإنّ صدق الله والرسول والأئمة قد ثبت بالبراهين والأدلة العقليّة في علم الكلام والفلسفة الإسلامیّة؛ حيث خلصت تلك الأبحاث إلى أنّ الكلام الكاذب والمجانب للواقع لايمكن له - بالضرورة الفلسفية والأنطولوجية - أن يصدر عن الإله القادر والعالم المطلق والحكيم الغنيّ عن غيره؛ لأن صدور الكلام الكاذب قد يكون ناشئاً عن العجز ، أو الجهل، أو الحاجة، أو لغويّة الفعل، وجميعها محال في شأن القادر العالم المطلق الحكيم الغني بذاته. وعليه: فإنّ صدور الكلام الكاذب منه تعالى شأنه ممتنع عقلاً. والأصول الموضوعة لهذا الدليل هي: إثبات وجود الله، وإثبات صفاته الكمالية بالمنهج العقلي، وصدق كلام الرسول والأئمة (علیهم السلام)، المدلّل عليه بدليل العصمة. وفي المحصلة نقول: جميع القضايا التاريخية الواردة في كلام الله ورسوله محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) صادق.

هذا، ولكن البحث في هذا المجال يبقى مفتوحاً بالنسبة إلى المخبرين المعاصرين؛ فهم لم يتلقوا تلك المنقولات التاريخية بشكل مباشر من الله ورسوله وأولياء الدين بل تلقفوه من خلال وسائط ومخبرين ،آخرين والسؤال هنا: ما السبيل إلى إثبات صدق هذه الوسائط ؟

لقد خاض المؤرّخون والرجاليّون في هذا الحقل، وتطرّقوا لبيان أنواع الأخبار المتواترة غير المحفوفة بالقرائن القطعية، وتوصلوا بسلوك هذا السبيل إلى كشف استناد المقولة إلى قائلها المعصوم. توضيح ذلك: أنّ الخبر المتواتر يعني الخبر المنسوب للقائل من قِبَل مجاميع من المخبرين المتعدّدين، وتعدّد الوسائط فيه على نحو لا يُحتمل معه تواطؤهم على الكذب في ذلك الخبر المنقول فينتفي ذلك عنهم(1).

وعلى أساس من حساب الاحتمالات، يجب أن ينتفي إمكان خطأ جميع المخبرين الواقعين كوسائط في فهم كلام المتكلم، أو الواقعة التاريخية، أو تتضاءل على ضوئه فروض ذلك إلى أدنى حدّ.

ص: 48


1- راجع شرح الإشارات والتنبيهات، ج 1، ص 218 .

لا شكّ في أن القرآن الكريم من حيث السندية، وكذا بعض الأحاديث الشريفة؛ مثل : حديث الثقلين، وحديث الغدير وما شابهها، يقعان ضمن هذه الدائرة. أمّا الأخبار غير المتواترة - وهي الأخبار المنقولة من قبل الوسائط والمخبرين المتعدّدين - فهي على ضربين:

1 . الأخبار غير المتواترة المحفوفة بالقرائن القطعية، وهي التي يثبت استنادها لقائلها؛ نظراً لوجود تلك القرائن القطعية.

2 . الأخبار غير المتواترة الخليّة عن تلك القرائن القطعيّة.

ولا يخفى أنّ المؤرّخين - وفقاً لمنهج البحث التاريخي - بل عموم العقلاء يميلون إلى تقديم الأخبار المتواترة في الدرجة الأولى، ثم يليها في الأخذ والترجيح: الأخبار غير المتواترة المحفوفة بالقرائن القطعية، ثم تأتي في المرتبة الثالثة: الأخبار غير المتواترة غير المحفوفة بالقرائن القطعية. أما الأخبار الواردة من المخبرين الوضاعين أو غير الموثوقين فلا يُعتنى بها من الأساس.

وحصيلة ما تقدّم أنّ قابليّة الإثبات في القضايا الدینیّة التاريخية رهينة بمدى اعتبار صدق المخبرين - كما في إخبار الله عَزَّ وَجَلَّ والمعصومين (علیهم السّلام) - ومدى صحة ذلك. ويثبت صدق استناد الكلام لهم عقلاً عن طريق الوسائط من خلال الأخبار المتواترة، والمستفيضة، وأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن وغيرها. نعم؛ يمكن الإفادة من المناهج التاريخية المذكورة آنفاً من دون إثبات صدق المخبرين الدينيين للوصول إلى کشف تطابق القضايا الدينيّة التاريخية مع الواقع.

ص: 49

6/2 .معقوليّة القضايا التجريبيّة الدينيّة:
1/6/2. الاستقراء في فلسفة اليونان والمشاء:

يرتهن موضوع قابليّة الإثبات في القضايا العلمية والتجريبية في الإسلام برؤى فلاسفة العلم في باب «الاستقراء». والاستقراء قضيّة شغلت اهتمام المفكرين منذ قديم الزمن ؛ فقد انبرى سقراط كأول مفكّر استقرائي مارس البحث في معرفة المصاديق والجزئيات وتوظيف منهجه الجدلي للوصول إلى تعاريف عامة. وأفاد أفلاطون من بعده مما انتهى إليه الأستاذ (1) ، لكنّه لم يُذعن باعتبارية الإدراكات الحسية والتجريبية وصدقها (2). أما أرسطو (322ق.م) فاكتفى في تقديم القياس كممثل وحيد للاستنتاج المنطقي، وأرجع إليه باقي الحجج؛ ومن بينها: الاستقراء(3).

وقد مال الفلاسفة المشّاء إلى التفريق بين الاستقراء الناقص والتجربة، وذهبوا إلى انضواء التجريبيات تحت مظلة البديهيات الثانوية والقضايا اليقينية، ولكنّهم اعتمدوا -بطبيعة الحال - على أصل موضوع :مفاده رجوع المشاهدات الجزئية إلى القياس واليقين المنطقي ببركة قواعد عامة تقول : إنّ الاتفاق أو الصدفة لا يكون دائميّاً أو أكثرياً»، و«إنّ الحالات المتشابهة من الطبيعية تؤدّي إلى نتائج متماثلة»، و«إنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد. ووفقاً لهذا المنحى، تثبت معقوليّة القضايا التجريبية والعلمية التي نجدها في النصوص الإسلاميّة.

2/6/2. الاستقراء عند التيار التجريبي:

على الصعيد الآخر، توزّع التجريبيون - على طول خط الفكر المنتمي لأصالة التجربة (4) - فيما يخص «الاستقراء» إلى أربعة مذاهب؛ هي: التحقّقيّة، ومذهب التأييد،

ص: 50


1- أفلاطون عبد الرحمان بدوي، ص 140.
2- الأعمال الكاملة لأفلاطون، رسالة الجمهورية، ورسالة فيدو.
3- منطق أرسطو ، ج 1 ، تحقيق عبدالرحمان بدوي .
4- [م] . Empiricism

والعادة، والتكذيب :

*أما التحققية (1): فيمثلها فكريّاً الفيلسوفان الإنجليزيان الشهيران: فرانسيس بيكون (1626م)، وجون ستيوارت مِل (1873م)(2). وعلى أساس من هذا المنحى، فإن القضايا التجريبية والطبيعية في النصوص الدینیّة الإسلامیّة قابلة للإثبات؛ إذ يمكن توظيف منهج بيكون ومل في إخضاع القضايا الدینیّة التجريبية للبحث والتحقيق، وإثبات معقوليّتها .

*وأما مذهب العادة: فهو ما نظر له ديفيد هيوم (1776م)، أحد أبرز قادة الاتجاه التجريبي؛ حيث تناول بيان الاستقراء باستخدامه للمنهج الحسّي التجريبي، وآمن بأنّ المشاهدة المتعاقبة للأحداث هي الأمر الوحيد الذي يمكن أن يُستنبط منه تزامن تلك الأحداث أو تقارنها وتواليها مع بعضها في الماضي(3).

ووفقاً لرؤية هيوم، فإنّ الاستقراء لا يورث اليقين؛ لكن المشاهدة المتعاقبة للظواهر يمكن لها أن تكشف النقاب عن عادة التقارن فيها . وعلى أساس من هذا المنحى أيضاً، يمكن الدفاع عن القضايا الدینیّة التجريبية، ونعت معقوليتها بأنها «معتادة» أو «حسب العادة».

*وأمّا مذهب التأييد(4): فهو لون آخر من ألوان التيار التجريبي، وهو يعمد - بدلاً عن الإثبات - إلى إصدار فتوى بتأييد القوانين والقضايا العلمية التجريبيّة العامة

ص: 51


1- Verificationism ، وهو المذهب الذي اعتمد مبدأ قابليّة التحقق Verifiability ، وقد آمن به من الفلاسفة مبكراً أنصار الوضعية Positivism. [م]
2- لاحظ ترجمة فرانسيس بيكون ومؤلفاته محسن ،جهانگيري ص 145 مسيرة الحكمة في أوروبا، محمد علي فروغي، ج1، ص 120 وج3، 1296-141؛ تاريخ الفلسفة، فردريك كابلستون، ج 8 ص 93-98 و 124-125؛ معرفة المناهج في العلوم أو الفلسفة العلمية، ص 123-124 [المصادر باللغة الفارسية].
3- مدخل تاريخي إلى فلسفة العلم ،لازي، ص 97 معرفة العلوم الفلسفيّة، سروش ص 222 [بالفارسية].
4- وهو المذهب الذي اعتمد مبدأ قابلية التأييد Confirmability في تقييم المعرفة. [م]

على أساس الاختبار والتجربة المتعاقبة. وقد رحّب بمذهب التأييد هذا الوضعيّون المنطقيّون مثل كينز ،وكارناب وریشنباخ وبرتراند راسل، ونلسون غودمن، وجين نيكود(1). ووفقاً لهذا المذهب، يمكن الدفاع عن معقولية القضايا الدینیّة التجريبية.

*وأمّا مذهب التكذيب (الإبطال)(2) : فهو ما بشر به کارل بوبر (1994م) - وهو - أحد فلاسفة العلم في القرن العشرين - حيث استعرض نظريّته في الأخذ بمبدأ «قابليّة التكذيب» (الإبطال) كأساس في التمييز بين العلوم التجريبيّة، وعارض منهج «قابلية التحقق» و«قابلية التأييد» في تمحيص النظريات العلميّة، محاولاً تقديم حلّ بديل يعتمد الأسلوب التجريبي التكذيبي، معالجاً بذلك قضيتين مهمتين؛ هما: الاستقراء، وتمييز العلم عن غيره. وعلى ضوء هذه الرؤية، لا تتصف الفرضيات أو القوانين الحاكية عن العالم الخارجي الحاكمة عليه ب-«العلمية» ، ولا تكون «إخبارية» إلا إذا كانت «قابلة للإبطال»؛ بمعنى أن تمنع طائفة من القضايا الحسّية، ويحكم باستحالتها؛ بحيث إذا تحقق فرد أو مصداق مَنَعه هذا القانون أو تلك النظرية، فإنه يُستكشف بذلك بطلانها. ويبتني المنحى البوبري على عدد من الأسس والأصول الموضوعة؛ منها : أنّ الحسّ والتجربة المجرّدة عن أي حكم مُسبَق أو مبدأ نظري أمر متعدّر، والنظريّة مقدّمة على الحسّ والتجربة. وقد تعرّضت هذه الرؤية لسهام النقد من قبل بعض العلماء؛ مثل : لاكاتش، وتشالمرز وفايرابند و بارتلي، وكوهن(3). وعلى أساس

ص: 52


1- مدخل إلى فلسفة العلوم رودلف ،کارناب ص 45 الحدس والإبطال كارل بوبر ص ،17 و 35 منطق الكشف العلمي، كارل بوبر، ص 149 ظهور الفلسفة العلمية، هانس ،ريشنباخ، ص 261-274 [المصادر باللغة الفارسية].
2- وهو المذهب الذي اعتمد مبدأ قابلية التكذيب (الإبطال) Falsifiability ، والذي قد يعبر عنه أيضاً: بقابلية الخطأ، وقابلية الدحض وقابلية التفنيد والمراد بهذا المعيار أنّ أيّ افتراض أو نظرية لا يمكن لها أن تكون علمية ما لم تقبل إمكانية أن تكون كاذبة؛ وليس المقصود من قابلية التكذيب - بطبيعة الحال - الحكم بكذب النظرية أو بطلانها فعلاً، بل المدعى هنا هو أنّ الفرضية لا يمكن لها أن تتصف بالصحة لو لم تكن قابلة للتكذيب، ومعنى قابليتها للتكذيب أن يكون هناك - من حيث المبدأ - إمكانية إجراء تجربة تظهر أنها خاطئة؛ حتى لو لم تُجر هذه التجربة المكذبة من الأساس. [م]
3- ماهية العلم ص 83 [باللغة الفارسية].

من هذا المنحی، يمكن - أيضاً - الحديث عن معقوليّة القضايا الدینیّة التجريبية؛ لأنّ هذا اللون من القضايا قابل للإبطال والتجربة.

3/6/2. الاستقراء ومعيار النظام الفكري :

ذهب توماس كوهن (1996م) - وهو من وهو من الشخصيات التي كتبت في «فلسفة العلم، وتناولت طبيعة العلم وتاريخه ضمن منظومة الثورات العلمية - إلى أنّ «العلم» لا يتحلّى بمسيرة متسلسلة من تراكم الحقيقة، ولا تصح دعوى من يقول: إنّ العلم في مراحله المتأخرة يتحلّى بنسبة كبيرة من الحقيقة والصحة، تفوق ما نجده في المراحل المتقدّمة. وقد تمسّك بنظرية «النظام الفكري» أو «البرادايم»، ذاهباً إلى ارتهان جميع الأحداث في تاريخ العلم بظهور «النظم الفكرية» (البراديامات) وأفولها؛ حيث يشمل كل نظام فكري معيّن نظرية علمية، ومجموعة من المقبولات الميتافيزيقية ومنهجاً وأسلوباً ومعياراً للبحث .

وعلى ضوء ذلك، فإنّ البحث العلمي الذي تبلور في ظلّ اكتشاف أو اكتشافات علميّة معيّنة في فترة زمنية معينة، ضمن مجتمع علمي معيّن يقع تحت هيمنة نظام فكري معيّن. وبعد مرور فترات من الزمن ، وطروء بعض الظروف الموضوعية، يفقد هذا النظام الفكري جدارته وأهليته المتوخاة منه، ويُصاب بداء التخبّط والخروج عن القاعدة؛ وهذا يعني بروز ظروف وموضوعات لا يُمكن تفسيرها أو تبريرها على ضوء ذاك النظام الفكري. ويرى كوهن أن النظم الفكرية غير خاضعة للقياس (1) .

ومع غضّ الطرف عن المناقشات الواردة على قراءة كوهن هذه - كانزلاقها في هاوية النسبية، مما يجعلها تعاني من التهافت والتناقض الذاتي (2)- يمكن دراسة القضايا الدینیّة التجريبية وفقاً لهذا المعيار أيضاً. وما من شكّ في أنّ هذه الطائفة من القضايا

ص: 53


1- لاحظ بنية الثورات العلمية توماس كوهن .
2- راجع مقالة «قابليّة الدين للقراءات دراسة في البنى التحتية» للمؤلّف، مجلة قبسات، العدد 23.

الدینیّة منضوية تحت مظلة نظام فكري معين، وبالتالي فهي - على أساس مما ذهب إليه كوهن - قابلة للإثبات والمعقولية أيضاً.

وفي خاتمة هذا البحث، ننوّه بأننا لم نعمد - فيما نقلناه من الاتجاهات المتنوعة التي ذهب إليه الفلاسفة في موضوع الاستقراء - إلى التمحيص والمحاكمة، وقد اكتفينا بعرض تقرير وصفي موجز استهدفنا منه التدليل على إمكانية الحديث عن معقولية القضايا الدینیّة التجريبية، ومعنائيتها، وقابليتها للتبرير، وفقاً لأيّ من المدارس والمذاهب التي أدلت بدلوها في قضية الاستقراء.

ص: 54

الباب الثاني: الإلهيات

3 .معرفة وجود الله وإثباته

1/3. تمهید:

- معرفة وجود الله وإثباته

- إثبات التوحيد الإلهي ومراتبه

- الصفات الإلهية

- الأفعال الإلهية

ص: 55

هل يمكن لنا الحصول على معرفة يقينيّة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟

هذا هو التساؤل المبدئيّ الأوّل في باب الإلهيّات، وقد أجابت المدارس الفكريّة المختلفة على هذا السؤال بعدة إجابات؛ منها ما يلي:

1 . يرى أرباب الوضعيّة المنطقية والتجريبيون المتشدّدون أنّ التجربة هي المعيار الأوحد للمعرفة، وذهبوا إلى امتناع معرفة الله من باب أنها غير تجريبيّة، بل أنكروا أصل وجود معنى لقضايا «الإلهيّات». ولا يخفى أن بحوث نظرية المعرفة والأدلة على حقّانيّة المنهج العقليّ والشهوديّ كفيلة بإبطال هذا المدّعى.

2. يذهب بعض العرفاء إلى امتناع العلم بذات الله وكُنهه؛ وذلك لأنّ الذات الإلهية غير متناهية وغير متعيّنة؛ في حين أن إدراك الإنسان محدود، ومتناه. ومع ذلك، فهم لم ينكروا إمكانية معرفة الصفات الإلهية والبحث في العرفان النظري عن الذات الإلهيّة اللامتعيّنة التي لا ينالها الواصفون بالاسم أو الوصف أو الرسم، وكذا البحث عن مسألة التعيّن الأوّل والثاني الجامع لجميع الأسماء والصفات على نحو اندماجي في التعيّن الأوّل، وتفصيلي في التعيّن الثاني، ما هو إلا تفسير لهذه الرؤية(1). وقد غفلت هذه الطائفة عن عينيّة الذات والصفات الإلهية، وكون الصفات الإلهية غير متناهية أيضاً كما هي الذات، والتفكيك المعرفي بين الذات والصفات لا يستند إلى أي مبرّر عقلي أو نقلي.

ص: 56


1- شرح فصوص الحكم، تاج الدين الخوارزمي، ص 23 .

3 . يرى البعض عدم إمكانيّة المعرفة بالله عَزَّ وَجَلَّ معرفةً تشبيهيّة (غير تنزيهية)؛ لعدم تناهي الذات والصفات الإلهية، وبالتالي تجب معرفته سُبحَانَهُ وَتَعَالى من خلال الصفات السلبية التنزيهية. وهو ادّعاء غير تام؛ لأنّ الإنسان قادر على معرفة الذات والصفات الإلهية من خلال المفاهيم. والأمر الذي نصفه باللامتناهي أو اللامحدود هو وجود تلك الذات، ووجود تلك الصفات الإلهية وليس المفاهيم الحاكية عنها؛ مثل : علم الله وقدرته وحكمته وعدله، وما إلى ذلك؛ فهي قابلة للإدراك والإثبات العقليّ؛ وإن كان الوقوف على كنه الذات والصفات والمصداق الحقيقي لها أمر خارج عن القدرة . وبعبارة أخرى القوة العاقلة عند الإنسان ليست مطالبةً بأكثر من إدراك المفاهيم الكلّيّة، وليس من وظائفها الوقوف على الحقائق الخارجية بصورة مباشرة؛ وإن كانت المفاهيم المدرَكة تحظى بحيثيّة الحكاية عن الخارج، وتكشف عن الواقعيات الخارجيّة، وكان البرهان يساعد على إثبات المصاديق الخارجية لتلك المفاهيم. وعليه: فإن معنى الحديث الشريف: «إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار» امتناع العلم بنفس ذات الله وصفاته؛ لأجل عدم التناهي من جهة، وإمكان العلم المفهومي بنحو يحكي عن الخارج من جهة أخرى.

4 . يؤمن البعض بالمعرفة التشبيهية، ولا يمانع من التعريف به عَزَّ وَجَلَّ أو معرفته على هذا النحو. وهذه الطائفة هم الذين باتوا يعرفون بين الفرق الإسلامیّة ب«المشبهة» . وقد ذهبوا إلى تفسير آيات قرآنية - مثل : (يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (1) - بما يتناسب مع التجسيم، متشبثين بالإسرائيليات والأحاديث الموضوعة في تكوين تفسير مادّي عن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وللأسف، فقد زلّت أقدام مجموعات من أهل السنة والسلفيّة - وعلى رأسهم الوهابية - في هذا المستنقع (2) .

5 . مفهوم «الحقيقة اللامحدودة» مفهوم قابل للمعرفة والإثبات الخارجي، كما

ص: 57


1- سورة الفتح: 10 .
2- لاحظ: دراسة في التيارات المضادة للثقافة، للمؤلّف، بحث حول الوهابية.

أنّ الكشف الحضوري والشهودي لحقيقتها الوجودية أمر ممكن أيضاً.

وهذه نظريّة يمكن الدفاع عنها عقلاً ونقلاً؛ وذلك لأنّ كلا من الدليل العقلي، وكذا الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة ، يثبت وجود الله وصفاته كما يمكن من خلالها أيضاً الخوض في أبحاث الإلهيّات. ولو كانت المعرفة المفهوميّة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى غير ممكنة، للزمت لغويّة الآيات النازلة في الإلهيّات منه عَزَّ وَجَلَّ. هذا، ولكن الجدير بالالتفات هنا ألّا تُتخذ المفاهيم الحاكية عن الإلهيّات معبوداً حقيقياً؛ لأنّ المعبود الحقيقي هو الواقع الموضوعيّ الخارجيّ للحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى . أمّا المفاهيم تلك، فليست إلا مرآة تحكي ذلك المعبود الحقيقي. وقد قال الإمام الباقر (علیه السّلام): «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم - في أدق معانيه - مخلوق مثلكم مردود إليكم»(1). وعليه فإنّ التصوّرات الذهنية مخلوقة للنفس الإنسانيّة، وبالتالي : فإنّ تصوّر الله مغاير لوجوده؛ وإن كان حاكياً عنه.

وفي المحصلة نقول : يمكن لنا إدراك مفهوم الله وصفاته وأفعاله بالعلم الحصولي، وهذا المفهوم يدلّ بالدليل العقلي على الواقع الخارجي له عَزَّ وَجَلَّ، والعلم الحضوري أيضاً يدعم إدارك وجوده الخارجيّ، لكنّ وجود الإنسان - لما فيه من نقص وفقر وجودي - عاجز عن إدراك كُنه وجود الله اللامتناهي، وعاجز عن الإحاطة به بالعلم الحضوري أو الحصوليّ.

2/3 .معرفة الله :

من الواضح أنّ البحث عن تعريف «الله» يتقدّم منطقياً على البحث عن وجوده، وكما يعبّر في المنطق : فإن مطلب« ما» الشارحة مقدّم على مطلب «هل» البسيطة (2). وعليه: ينبغي أن نكوّن في مستهل البحث تصوّراً - ولو إجمالياً - عن مفهوم «الله»، قبل الولوج في ثنايا بحث براهين إثبات وجود الله» فقبل امتلاك مفهوم أو تصوّر عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا معنى للحديث عن وجوده أو عدمه من الأساس.

ص: 58


1- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 131.
2- المنطق، محمد رضا المظفّر ، ص 110.

وهنا نشير إلى أنّ الانطباع المتداول عن اللّه وصفاته عند فلاسفة الدين واللاهوتيين الغربيين - أي : في ما يُعرف ب «الإلهيّات التوحيدية التقليدية»(1)- لا يختلف عن الانطباع العامّ عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عند غالبيّة مفكّري الأديان التوحيدية (2) من اليهودية والمسيحيّة والإسلاميّة فقد آمنوا بذلك مع شيء من الاختلاف(3).

وفي تحديد «الإيمان بالله» يمكن القول بأنه: إيمان بإله، واحد، خالق، غير متناه، قائم بالذات، مجرّد، سرمدي ، لا متغيّر، ولا متأثر بسيط، کامل، عالم مطلق، وقادر مطلق، وخير ،مطلق، ومتشخّص، وأهل للعبادة. فإذا كان الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى غير متناه فيجب - عندئذٍ - أن يكون واجداً لجميع الصفات المجرّدة عن المحدوديّة (4).

وتُعرف هذه الحقيقة - في الثقافة الإسلامیّة - باسم «الله» ؛ وهو يعني : الربّ الواجد لجميع صفات الجمال والجلال، وهو الوجود الأسمى والأكمل من جميع الموجودات، وخالق كلّ ما سواه.

3/3 .براهين إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ :

بعد تكوين مفهوم ذهنيّ عام عن الله جَلَّ وَعَلا يصل الدور إلى براهين إثبات وجوده(5). وقد أقام المفكرون المسلمون والغربيون حُججاً وبراهين عديدة تُثبت وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، صنّفها الغربيون إلى ثمانية أصناف على النحو التالي:

1 .البراهين الوجودية (6): وفي هذا الصنف من البراهين يُستخدم في الاستدلال .

ص: 59


1- Classical theism .
2- Theistic .
3- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 97.
4- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، بول إدواردز ، ص 25 و 99 ؛ فلسفة الدين جون هيك ص 29 [باللغة الفارسية].
5- Arguments of the existence of God.
6- Ontological arguments.

على وجوده عَزَّ وَجَلَّ التحليل المفهومي الصِّرف لله. ويُعدّ الأسقف الأوغسطيني أنسِلم(1) (1109م) مؤسّس البرهان الوجودي(2).

2 . البراهين الكونية (3): وهذا اللون من الحجج - الذي ينضوي تحته أمثال: برهان الوجوب والإمكان وبرهان الحدوث، وبرهان الحركة - عنوان عام يشمل مجموعة من براهين إثبات وجود الله المبتنية على أكثر المبادئ عمومية - كمبدأ السببية مثلاً - وعلى أكثر الواقعيات بداهةً في العالم(4).

3 . البراهين الغائيّة (5): وهذا الصنف من الأدلّة - الذي ينتمي إليه ما يُعرف باسم «دليل النظام»، أو «برهان إتقان الصنع»(6)- يشكّل مع الحجج الوجودية والكونية ثلاثي البراهين التقليدية على وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى . وتُعدّ البراهين الغائيّة أكثر الأدلّة شعبية وقرباً من الناس نسبةً إلى غيرها من الحجج (7).

4 . براهين درجات الكمال (8): ويجري التركيز في هذا الصنف من الأدلّة على صفات حاكية عن مراتب الشدّة والضعف في الموجودات؛ حيث يستدلّ بالكمالات

ص: 60


1- أنسلم الكنتربري (1033 Saint Anselm of Canterbury - 1109م) رئيس أساقفة كنتربري (في إنجلترا)، ومن فلاسفة أوروبا في القرن الحادي عشر. سُمّي برهانه الشهير هذا ب- «الدليل الأنطولوجيّ» أو «الوجودي»، أمّا أنسلم - نفسه - فقد أسماه «الدليل الأوحد»، أو «دليل العظمة»، وعرضه في كتابه «التمهيد». [م]
2- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 134 النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية عبد الرسول عبوديت ج 1، ص 51-50 الحكمة المتعالية والفلسفة المعاصرة، مقالة «بحث في براهين إثبات وجود الله في الحكمة الإسلامیّة وفلسفة الغرب»، للمؤلّف ص .351 [المصادر باللغة الفارسية]
3- Cosmological arguments . ومن البراهين المنتمية إلى هذا الصنف ما يسمّى ب- : The causal argument [م] .Argument from universal causation, Argument from first causes <
4- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 134 [باللغة الفارسية].
5- [م] . physico-theological arguments وتسمى في الغرب أيضاً ب- .Teleological arguments
6- [م] . from intelligent design أو ، argument from design
7- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 58.
8- Degrees of perfection arguments.

بعد ثبوت تحققها، لإثبات وجود تلك الصفة الكمالية بنحو مطلق، ومن ثُمّ إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى .

5 . براهين الإجماع العام (1): فقد تمسّك جمع غفير من الفلاسفة والمتكلّمين باتفاق عموم البشر؛ حيث عُدّ هذا الإجماع تأييداً لوجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وخلود روح الإنسان(2).

6. البراهين الأخلاقية (3): حاول فيلسوف القرن الثامن عشر الألماني كانط (1804م) - بعد تسليمه بما أورد هيوم (1776م) على براهين إثبات وجود الله - أن يستدل بالتجربة الأخلاقية على وجوده عَزَّ وَجَلٌ ؛ حيث ذهب إلى قصور العقل النظري عن إثبات وجود الله ، لكنّه استعاض عن ذلك بالعقل العملي المرتبط بالأمر والنهي الأخلاقي، ليجعل منه منطلقاً للاحتجاج على ذلك(4).

7. براهين التجربة الدینیّة (5): يسعى هذا الصنف من البراهين إلى إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ من خلال التجربة الدینیّة، أو ما يُعبّر عنه بالأحاسيس والمكاشفات الدینیّة؛ فإنّ الوحدة النسبية للكشف والشهود العرفاني - على مرّ التاريخ عند الأمم والملل المختلفة - تدلّ على وجود حقيقة غائيّة ماورائية.

8. برهان التجارب الخاصة ويُقصد بالتجارب الخاصة أموراً ثلاثة؛ هي: استجابة الدعاء، فالكشف والكرامات، ثمّ المعجزات. وكلّها أمور خارقة للعادة(6)،

ص: 61


1- Common consent arguments.
2- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 105-16- [ باللغة الفارسية].
3- Common consent arguments.
4- المصدر السابق، ص 137.
5- Religious experience
6- النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص 61-62 .

وهي أحداث يرى بعض فلاسفة الدين أنها دالة على وجود حقيقة ماورائية (1). وقد وصف المفكرون الغربيون براهين التجارب الشخصية، والإجماع العام، والغائية، بأنّها براهين متداولة قريبة من قلوب الناس(2).

هذا، وقد قدّم المفكّرون الإسلاميون أدلّة إثبات وجود الله في سبعة حجج؛ هي: «دليل الفطرة»، و «برهان الوجوب والإمكان» ، و«برهان الحدوث»، و«برهان الحركة»، و«برهان النفس» ، و «دليل النظام»، و«برهان الصدّيقين».

وعلى ضوء الإيضاحات المارّة آنفاً، يمكن تصنيف البراهين الإسلامیّة هذه إلى أربعة أصناف هي:

1 . برهان الإجماع العام وهو «دليل الفطرة ».

2 . البراهين الكونية وتشمل: «برهان الصدّيقين»، و«برهان الوجوب والإمكان »، و «برهان الحدوث»، و« برهان الحركة» .

3 . برهان «إتقان الصنع» أو «دليل النظام».

4 . «برهان النفس».

ولا شكّ في أنّ استيفاء شرح جميع هذه البراهين وتحليلها يتطلب متسعاً وافراً من البحث، لكنّنا سوف نكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاثة براهين مشتركة بين الفكر الإسلامي والغربي، معتمدين على المنهج الوجداني والتجريبي والعقلي؛ حيث سندرس : الفطرة أو الإجماع العام (الدليل الوجداني)، وبرهان النظام (الدليل التجريبي العقلي)، وبرهان الوجوب والإمكان (الدليل العقلي) (3).

ص: 62


1- الحكمة المتعالية والفلسفة المعاصرة، مصدر سابق، ص 373؛ أنيس الموحدين، النراقي، ص 53 و 57 .
2- Papular arguments.
3- للوقوف على البراهين الثمانية في إثبات وجود الله لاحظ المسائل الكلامية الجديدة وفلسفة الدين، للمؤلّف .
4/3 . دليل الفطرة:
1/4/3 التقرير الأول: الإيمان الفطري بوجود الله:

برهان الفطرة في الكلام الإسلامي يعادل إلى حدّ ما برهان الإجماع العام في اللاهوت الغربي، فقد استدل جمع غفير من الفلاسفة والمتكلّمين بالاتفاق العام بين بني البشر على إثبات وجود الله عَزَّ وَجَلَّ.

و ممن ناصَرَ هذا البرهان شيشرون(1) (34 ق.م)، وسينيكا (2) (65م)، وإكليمندس الإسكندري)(3) (215م)، وغروتيوس (4) (1645م)، و هربرت تشيربوري(5) (1648م)، وغاسندي (6) (1655م)، وأفلاطونيو كمبريج . وانضم إلى هذا الركب - في السنين الأخيرة - عدد لا يستهان به من مشاهير اللاهوتيين الكاثوليك والبروتستانت.

وقد وصف هيغل (7) ( 1831م) برهان الإجماع العام - رغم إنكاره له - بأنه يحظى بمساسه لبّ ،الحقيقة وأشار إليه إيسلر (8) (1926م) ضمن تصنيفه الخامس لبراهين وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى .

ص: 63


1- ماركوس توليوس كيكرو (106) Marcus Tullius Cicerق.م34 - ق.م): عُرّب اسمه - من الإيطالية - إلى «شيشرون»؛ وهو أشهر كاتب روماني عرفه التاريخ، وخطيب روما المميز [م]
2- لوكيوس أنايوس سينيك (4) Lucius Annaeus Seneca. م-65-م فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني. يُلقب بسينيكا الفيلسوف أو الأصغر، تمييزاً له عن والده الخطيب الشهير. [م]
3- تيتوس فلافيوس إكليمندس Titans la Clemens (توفي بين عامي 211 و 215م ) : أحد أبرز معلّمي مدرسة الإسكندرية اللاهوتية. وقد تميّز بربطه وتقريبه بين الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي. [م]
4- هوغو غروتيوس (153) Hugo Grotius (1645م فيلسوف ولاهوتي ومؤرّخ وشاعر هولندي. عُرف بأنه وَضَع مع جماعة أسس القانون الدولي، اعتمادًا على الحق الطبيعي. [م]
5- إدوارد هربرت تشيربوري (1583) Edward Herbert of Cherbury-1648م) دبلوماسي ومؤرّخ وشاعر وفيلسوف دين إنجليزي. [م]
6- بيير غاسندي (1592) Pierre Gassendi-1655م): فيلسوف وعالم فلك ورياضيات فرنسي [م]
7- غيورغ فيلهلم فريدريش هيغل 1770) Georg Wilhelm Friedrich Hegel-1831م): أحد أبرز الفلاسفة الألمان. ويُعدّ أهم مؤسّسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. [م]
8- رودولف إيسلر (1873 Rudolf isler-1926م) : فيلسوف نمساوي من أصول يهودية، كتب قاموساً في المصطلحات والتعابير الفلسفية باللغة الألمانية، وتخصّص في دراسة تاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة [م]

وعلى الرغم من نُدرة المؤمنين بمتانته المنطقيّة عند من يحترف الفلسفة في عصرنا الراهن، فإنّ توظيف هذا البرهان - على أي حال - متداول على نطاق واسع عند المنافحين عن الأديان بلغة مفهومة للعُرف(1). وهو برهان يتحلى باهتمام وقبول واسعين عند المفكرين الإسلاميين - قديماً وحديثاً - كما نجده عند الفخر الرازي (606ه)، والعلامة الحلّيّ (726ه) ، ثمّ العلامة الطباطبائي (1402ه)، والشهيد المطهّريّ (1399ه)، والشيخ السبحاني.

وقد عرض اللاهوتيون الغربيون تقريرين لبرهان الإجماع العام؛ هما :

1 . أدلّة تمسكوا فيها بعمومية الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ، متخذين من ذلك شاهداً على غريزيّة هذا الإيمان، ليستنتجوا - في نهاية المطاف - صدق هذا الإيمان والمعتقد. وقد أسموا هذا النمط من التقرير باسم «التفسيرات البيولوجية» أو «التفسيرات الأحيائية».

2 . أدلّة تمسكوا فيها بعمومية الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ، مع ضمّ مدّعى آخر مفاده: أنّ المؤمنين بوجود هذا الإله لم يعقدوا القلب على ذلك إلا بعد متابعتهم هدى العقل . وقد نعتوا هذا التقرير باسم «القياس الأقرن المضادّ للشكّيّة» (2).

وفي ما يلي نتطرّق لبعض تقريرات برهان الإجماع العام :

التقریر الاول:الإيمان الفطريّ بوجود الله:

أشار الفيلسوف الروماني في القرن الأوّل الميلادي سينيكا (65م) في الرسالة

ص: 64


1- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، بول إدواردز، ص 105-106 [باللغة الفارسية].
2- المصدر السابق ص 102 . المضاد للشكّيّة أي . و القياس الأقرن» - أو ما قد يسمّى في علم المنطق أيضاً: بالقياس ذي الحدّين وذي ،الفرضين وقياس الإحراج، والديليميا Dilemma - : هو الدليل الذي تكون إحدى مقدّماتها قضيّة عنادية ذات ،احتمالين وتكون مقدّماتها الأخرى دالّة على أنّ كلّ احتمال من هذين الاحتمالين يتضمّن النتيجة نفسها. وهو قياس مركب ومزدوج يحرج الخصم، ويُلزمه بقبول النتيجة. لاحظ: المعجم الفلسفي صليبا، ج1، ص 42 [م]

المرقمة ب 117 من رسائله الأخلاقيّة إلى هذا المدّعى - لأوّل مرّة - حيث استدلّ بأنّ الإيمان بالآلهة أمر عام، وعموميّته هذه تدلّ على فطريّة الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ. ودافع بعض من جاء بعده عن هذا الدليل؛ مثل هُودج(1) ( 1878م ) .

وتترتب مقدّمات هذا البرهان على النحو التالي:

1. الإيمان بقضيّة«الله موجود فطريّة».

2 . كلّ إيمان فطري مطابق للواقع.

*قضيّة «الله موجود» مطابقة للواقع.

وقد أشكل لوك (2) (1704م) على هذا التقرير من برهان الإجماع العام بعدة مناقشات أجاب عليها أنصار هذا البرهان. وأهم تلك المناقشات: الاستفسار عن الملازمة بين فطريّة المعتقد وصحته من أين نشأت؟!

وقد يحلو للبعض الردّ على ذلك بما أومأ إليه ديكارت(3) (1650م) بخصوص تلك الملازمة، متمسكاً ب«كمال الله» و«إرادته للخير»؛ حيث أفاد ما حاصله: «إذا كانت هذه المعارف التي عُبّئ بها الوجود الإنساني باطلة ومخالفة للواقع، للزم من ذلك أن يمارس الله المكر والخديعة؛ وهذا ينافي إرادته للخير». لكن الحق أنّ ردّاً مثل هذا - كما أفاد ستيوارت مل (1873م) - يعاني من مشكلة الدور(4).

ص: 65


1- تشالز هودج 1797 Charles hodge-1878م أحد أبرز علماء اللاهوت الأمريكيين، وداعية قيادي في الكنيسة الأرثوذكسية في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر. [م]
2- جون لوك (1632)John Lock-1704م) : فيلسوف و مفكّر سياسي إنجليزي، يعد من أقطاب المذهب التجريبي. [م]
3- رينيه ديكارت (1596 Ren: Descartes-1650م) : فيلسوف وفيزيائي وعالم رياضيات فرنسي، يلقبه البعض في الغرب بأبي الفلسفة الحديثة؛ إذ تشكّل الكثير من الأطروحات الفلسفيّة الغربيّة التي جاءت بعده انعكاساً لأفكاره التي ما زالت تُدرّس حتى اليوم. [م]
4- لمزيد من التوسع في المناقشات والردود عليها لاحظ براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة مصدر سابق ص 108-112 دراسات الفطرة الإنسانية في الإلهيّات الفطرية علي الشيرواني، ص 175-182 .
2/4/3 . التقرير الثاني : القياس الأقرن المضادّ للشكّيّة:

استعرض جويس(1) (1943م) في كتابه «مبادئ الإلهيات الطبيعية قياساً ذا حدين مضاد للشكيّة كواحد من براهين الإجماع العام. وحاصل هذه الحجّة أن يُقال: قضيّة الله موجود قضيّة صادقة، وإلا شككنا في جميع القضايا، وانسدّ باب العلم علينا بنحو مطلق . وتترتب مقدّمات هذا القياس على النحو التالي:

1. كلّ البشر يؤمنون بوجوده عَزَّ وَجَلَّ ؛ حتى أولئك الذين ينكرونه في الظاهر.

2 . الإيمان بوجود الله يمنع الحريّة المطلقة للإنسان في تصرفاته؛ لأنّ جميع المؤمنين بالله يثبتون له القدرة المطلقة والهيمنة العامة على بني البشر .

3 . الإنسان شغوف بالحرّيّة، وكاره للرضوخ إلى سلطة قاهرة فوقه.

4. يُستنتج من المقدّمات الثلاثة أعلاه أنّ نداء العقل هو الذي حثّ الإنسان على الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ وليس ميوله أو أحاسيسه.

5. إذا أخطأ كل بني البشر في هذا الاستنتاج العقلي، لاستلزم ذلك إبطال جميع الأحكام العقلية، ولتعذر الإيمان بها، وهذا يعني الوقوع في هاوية السفسطة والشكّيّة (2) المحضة.

6. بناءً على ما تقدّم، يتوجب الحكم بصدقية قضية «الله موجود»، أو القول بالسفسطة والشكيّة.

7 . لكننا نؤ من جميعاً باعتبار العقل البشري وموثوقيته، ولا يصح القول بالسفسطة والشكّيّة في جميع القضايا.

ص: 66


1- جورج هایورد جویس (1864 George Hayward Joyce-1943م): لاهوتي وقسّيس وأستاذ جامعي إنجليزي كتب ودرّس في المنطق ونظرية المعرفة، وشغل منصب عميد كلّيّة اللاهوت في بريطانيا. [م]
2- Skepticism

* إذن يجب الإذعان بصدقية القضيّة المذكورة، والإيمان بوجود الله عَزّ وَجَل (1).

وقد استخدم المحقق النراقي (2)(1209ه) برهاناً مشابهاً لما ورد بالقول:

«الدليل السادس: اتفاق جميع الفرق والطوائف على وجود الصانع؛ وذلك لأنّ جميع عقلاء البشر وعلمائهم يؤمنون بأنّ لهذا العالم صانعاً حكيماً، وخالقاً عليماً. ولهذا، لم يُعدّ إثبات الصانع من ضمن أصول الدين؛ إذ يجب أن تكون الأصول من الأمور الضرورية في دين الإسلام التي تُنكر أو تُخالف. ولا شكّ في أنّ ذوي الفهم والوعي لا يتفقون على أمر خاطئ؛ فإذا اجتمعت كلمة الفِرَق والأمم وجميع العقلاء من بني آدم على أمر ، حصل اليقين بضرورة ظهور دليل ذلك الأمر، وأنه حقّ»(3).

هذا، ولعلّ الذي يؤمن بالبديهيات الأولية قادر على الخدش في هذا البرهان بالقول: طالما آمنا بالبديهيات الأولية، فلن يُفضي إنكار وجود الله إلى السفسطة.

3/4/3 .التقرير الثالث : الانجذاب الفطري إلى الله :

ذهب هودج (1878م) إلى أنّ جميع القوى والأحاسيس الذهنية لأبداننا تمتلك متعلقات تناسبها، ووجود هذه القوى يستلزم وجود متعلقاتها. وعليه: فإنّ العين بشاكلتها الحالية تستوجب وجود نور يُرى، ولن تكون الأذن قابلة للفهم ما لم يكن للصوت وجود، وعلى ذات المنوال يُقال: الحسّ والاندفاع الديني عندنا يستوجب وجود الله (4). فكما يميل الإنسان ويتوق إلى جنسه الآخر، أو رؤيته لمناظر خلابة، أو

ص: 67


1- دراسات الفطرة الإنسانيّة في الإلهيّات الفطرية، مصدر سابق، ص 185 النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص 59 [المصادر باللغة الفارسية ]
2- محمد مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني (1128 - 1209ه): فقيه وأصولي وفيلسوف إمامي. تتلمذ عند الوحيد البهبهاني والشيخ يوسف البحراني، وغيرهما من كبار علماء الشيعة. من أشهر مؤلّفاته في الحكمة والكلام أنيس الحكماء، أنيس الموحدين بالفارسيّة ] العرشيّة في الحكمة الإلهيّة، اللمعة الإلهية وغيرها. [م]
3- أنيس الموحدين، محمد مهدي النراقي ص 55-57 [باللغة الفارسية].
4- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 112 [باللغة الفارسية].

سماعه لأصوات عذبة، فإنّه ينجذب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وبناءً على ذلك، يُستدلّ بكلّ ميل وإحساس بشريّ على جود متعلّق ذلك الميل في الخارج، فيستنتج منه أنّ شوق الإنسان وانجذابه إلى الله يستلزم وجوده.

وقد نعت الفلاسفة المسلمون هذا البرهان باسم «دليل الميول الإنسانية»، أو «البحث الفطري عن الله»، واستندوا بدلاً عن «الانجذاب إلى الله» على «حبّ الإنسان للكمال المطلق» الذي يمكن بسهولة العثور عليه في أي إنسان دون استثناء. فإذا مال الإنسان إلى السلطة والهيمنة فإنّه لا يتوق إلى حدّ معيّن منها، بل يطلبها على نحو مطلق وغير محدود، والسلطة أو الهيمنة المطلقة هي التي تعشقها نفسه وترغب فيها، وهكذا الحال عند من يحبّ العلم، أو يطلب الجمال. والنتيجة هي أنّ كلّ إنسان - بلا استثناء - يميل إلى الكمال المطلق بالفعل، فيستخلصون من ذلك: أنّ الميل الفعلي نحو الكمال المطلق يستلزم وجوداً فعليّاً للكمال المطلق، وعليه يُستنتج أنّ الكمال المطلق موجود بالفعل (1).

وقد تعرّض هذا التقرير إلى جذب وشدّ في السؤال والردّ (2).

ويمكن ترتيب المقدّمات التي استند عليها هذا البرهان على النحو التالي:

1 . ينجذب الإنسان ويتوق إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بنحو فطريّ.

2 . كلّ انجذاب فطري في الإنسان يمتلك متعلقاً معيناً له في الخارج.

* إذن متعلق الانجذاب الفطري الإنساني إلى الله عَزَّ وَجَلَّ له وجود في الخارج؛ وهذا المتعلّق هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى .

ص: 68


1- النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ص 62-63 [باللغة الفارسية]
2- للوقوف على المناقشات وأجوبتها لاحظ براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 113 -114 دراسات الفطرة الإنسانيّة في الإلهيّات الفطرية، مصدر سابق، ص 183-184 [باللغة الفارسية]

ووافق على هذا التقرير بعض كبار العلماء المسلمين؛ مثل: الإمام الخميني (1409ه) ، والعلّامة الجوادي الآملى(1)، حيث أشار إليه الإمام الراحل بقوله:

«تُوجَد في البشر خصائص لا توجد في أي موجود آخر؛ من جملتها: أنّ في فطرة الإنسان ميل نحو القدرة المطلقة ؛ وليس القدرة المحدودة، وطلب الكمال المطلق؛ وليس الكمال المحدود، فهو يطلب العلم المطلق، والقدرة المطلقة. ولما كانت القدرة المطلقة لا تتحقق غير الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فإنّ البشر يطلب الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ بالفطرة؛ دون أن يعرف. أحد الأدلّة المحكمة لإثبات الكمال المطلق هو هذا الحبّ الإنسانيّ للكمال المطلق؛ فهو يمتلك حبّاً فعليّاً للكمال المطلق؛ وليس توهماً للكمال المطلق، بل حقيقة الكمال المطلق. من المحال أن يكون هناك عاشق فعلي دون معشوق فعليّ. هنا لا أثر لتوهم النفس أو اختلاقها؛ لأنّ الفطرة تبحث عن حقيقة الكمال المطلق؛ وليس عن توهّم الكمال المطلق؛ حتى يُقال إنّها خُدعت، فالفطرة لا تنخدع أبداً. الفطرة عند جميع الناس تنزع إلى الكمال المطلق، وهو يطلبه لنفسه الإنسان يميل إلى الاحتكار. يريد الكمال المطلق، ويريد أن يتملكه لنفسه ... هذا، في حين أنّ الأرض - بكاملها - لو أعطيت لأحدهم لذهب يبحث عن الذي لا يملكه، ولا يقنع بما لديه. يسعى لما لا يملكه؛ لأنه يعشق الكمال المطلق، ويعشق القدرة المطلقة. فإذا سُخر جميع هذا العالم، وجميع هذه المجرّات، وجميع هذه الكواكب السيارة والثابتة وكل ما هو موجود، إذا سخر جميع هذا تحت سلطة شخص واحد، فإنّه لا يقنع؛ لأنّ هذه الأشياء ليست الكمال المطلق. وما لم يصل إلى حيث يتصل ببحر الكمال المطلق، ولم يفن فيه، فلن تطمئنَّ نفسه: ﴿أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (2)... ، فحبّ الكمال المطلق، وحبّ الله مركوز في فطرة البشر كافةً، دون استثناء. أما العذاب فلأجل أننا لا نفهم، ولأننا جاهلون، ونتناول الأمور بشكل معكوس. إذا سرنا على هدى هذه الفطرة نصل إلى الكمال المطلق» (3).

ص: 69


1- لاحظ آداب الصلاة، وشرح الأربعين حديثاً، للإمام الخميني؛ أضواء على براهين إثبات الله الجوادي الآملي ص 289.[ المصادر باللغة الفارسية].
2- سورة الرعد 28 .
3- صحيفة الإمام، ج 14، ص 164-166 [النسخة المعرّبة].

ويقول في موضع آخر:

«وجميع الأحكام الإلهية تنقسم - بكليتها - إلى مقصدين: أحدهما أصلي ومستقلّ، والآخر فرعي وتابع وجميع الأوامر الإلهية ترجع إلى هذين المقصدين، إما بواسطة أو بدونها؛ فالمقصد الأوّل الأصلي المستقل هو توجيه الفطرة إلى الكمال المطلق الذي هو الحقِّ جَلَّ وَعَلا وشؤونه الذاتية الصفاتيّة والأفعالية، ويرتبط به - بواسطة أو بلا واسطة - أبحاث المبدأ والمعاد، ومعاني الربوبيات من الإيمان بالله والكتب والرسل والملائكة واليوم الآخر، وعمدة مراتب السلوك النفساني، والكثير من فروع الأحكام؛ كفريضتي: الصلاة والحج. والمقصد الثاني - وهو العَرَضيّ و التبعي - هو تنفير الفطرة من الشجرة الدنيوية الخبيثة والطبيعة التي هي أمّ النقائص والأمراض، ويرجع إليه كثير من مسائل الربوبيّات وعمدة الدعوات القرآنية والمواعظ الإلهية والنبوية ومواعظ الأئمة، وعمدة أبواب الرياضة والسلوك، والكثير من الفروع الشرعيّة؛ كالصوم والصدقات الواجبة والمستحبّة، والتقوى، وترك الفواحش والمعاصي»(1).

4/4/3. دليل الفطرة في القرآن الكريم :

تُصنف الآيات القرآنية التي تطرقت لفطرية بعض الأمور إلى عدة طوائف:

* الطائفة الأولى: الآيات التي عدّت رسالة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) تذكيراً للإنسان؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَذَكَّرُ إِنَّهَا أَنتَ مُذَكَّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرِ )(2) .

* الطائفة الثانية: الآيات التي دلّت على العهد والميثاق؛ كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ﴾ (3).

ص: 70


1- جنود العقل والجهل، الإمام الخميني، ص 47 [النسخة المعرّبة].
2- سورة الغاشية: 21-22 .
3- سورة يس 60.

* الطائفة الثالثة : الآيات التي أشارت إلى دعاء الإنسان وتوسله بالله عند الخوف والخطر؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(1) ، أو قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تُجَأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (2).

* الطائفة الرابعة : الآيات التي تحدّثت بصراحة أكثر عن فطرية الدين والأصول الدینیّة؛ كما في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّين حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (3).

* الطائفة الخامسة: الآيات التي قرّرت أنّ هداية الإنسان فطريّة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهْمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾(4) .

وقد تمسّك الأئمّة من أهل البيت (علیهم السّلام): بفطريّة وجود الله، وفطرية الدين؛ كما نجد في الدعاء المنقول عن الإمام الحسين (علیه السّلام) :

«كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرُ إِلَيْكَ؟! أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ؛ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟ مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ یَدُلُّ عَلَيْكَ ؟! ومَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟! عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ، وَلَا تَزَالُ عَلَيْهَا رَقِيباً» (5)(5) .

وقد سأل رجلٌ الإمام الصادق (علیه السّلام) ليدله على دليل يُثبت وجود الله، فقال له : «يَا عَبْدَ الله ! هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةٌ قَطُّ ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ

ص: 71


1- سورة العنكبوت: 65 .
2- سورة النحل: 53-54 .
3- سورة الروم: 30 .
4- سورة يس: 60 .
5- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 64، ص 142.

72

الكلام الإسلامي المعاصر

تُنْجِيكَ ولَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَالِكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ، قَالَ الصَّادِقُ 7: فَذَلِكَ الشيء هُوَ الله الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ؛ حَيْثُ لَا مُنْجِي، وَعَلَى الْإِغَاثَةِ؛ حَيْثُ لَا مُغيث» (1). وبذلك، أوصله الإمام (علیه السّلام) إلى الفطرة الباحثة عن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى .

5/3 .دليل النظام:
1/5/3. حقيقة النظام وأقسامه:

يُعد «دليل النظام» - أو ما قد يُطلق عليه «برهان إتقان الصنع»(2)، أو «البرهان الغائي»(3) - أوسع حُجّة استشهد بها الفلاسفة الغربيون والإسلاميون على حدّ سواء، وغصت بها النصوص الدینیّة القرآنية ،والحديثية، معتمدةً على الآيات الآفاقية والأنفسيّة في إثبات وجود الله العليم القدير.

ويقوم هذا الدليل - الذي حظي منطقيّاً وعُرفيّاً بين عامة الناس بالثقة والاعتماد - بإيصال الاحتمال القاضي بانعدام وجود الله إلى حدّ مقارب للصفر.

تعود سابقة هذا البرهان في التراث والنصوص الفلسفية إلى «رسالة طيمايوس»(4) من رسائل أفلاطون (348ق.م)، وللبرهان الأخير من البراهين الخمسة التي ساقها أكويناس(5) (1274م)، كما نجد شرحاً لهذا الدليل أيضاً في كتاب بيلي(6) (1805م): «الإلهيّات الطبيعية»، أو «شواهد وجود الله وصفاته من الظواهر الطبيعية) (7) .

ص: 72


1- التوحيد الشيخ الصدوق، ص 231.
2- Argument of design .
3- Teleological argument.
4- [م] . Timaeus
5- توماس أكويناس - أو توما الأكويني - (1225) Thomas Aquinas-1274م: قسيس كاثوليكي إيطالي من الرهبانية الدومينيكانيّة، وفيلسوف ولاهوتي بارز في الفلسفة المدرسية (السكولائية) [م]
6- وليام بيلي (1743 William Paley - 1805م) : لاهوتي وفيلسوف إنجليزي. اشتهر بتقريره عن دليل النظام وذلك من خلال كتاب الإلهيّات الطبيعيّة، ومثاله المشهور عن صانع الساعة [م]
7- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 85.

أماً الفلاسفة والمتكلّمون الإسلاميون المتقدّمون، فلم يوظفوا دليل النظام في إثبات ذات واجب الوجوب، مكتفين باستخدامه في باب التوحيد» و«العلم الإلهي؛ مع أنّ الحكماء المتأخرين استدلوا به على إثبات ذات الباري تَبَارَكَ وَتَعَالَى(1) .

حقيقة النظام وأقسامه:

«النظام» لونٌ من ألوان علاقة الانسجام بين أجزاء مجموعة، تكوّنت من أجل تحقيق هدف محدّد، بحيث يكون كلّ جزء من أجزاء المجموعة مكمل للآخر، وفقدان أيّ منها يتسبب في أن تفقد المجموعة هدفها المعيّن، وأثرها المنشود . وإن واقع «النظام» في الظواهر الطبيعية لا يعدو اجتماع أجزاء مختلفة من حيث الكم والكيف، ائتلفت مع بعضها لأجل أن يُسفر تكاملها وتعاونها عن تحقيق هدف محدّد (2).

ويدلّنا تحليل مفهوم النظام وتعريفه إلى أنّ تحققه رهين بتأتي الأركان التالية:

1 . وجود عدد من الأشياء أو الأجزاء المختلفة.

2 . حالة الترتيب والانسجام والتناغم السائدة عليها.

3 . وجود هدف محدّد.

4 . التأثير النسبي لكلّ جزء من الأجزاء في تحقيق الهدف، وارتهان تحقق الهدف باجتماعها وائتلافها .

5 . عنصر الربط وعامل تلك العُلقة الموجدة بين الأجزاء(3).

ص: 73


1- لاحظ أضواء على براهين إثبات الله الجوادي الآملي ص 227 مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، جعفر السبحاني ص 78 -79 [المصادر باللغة الفارسية ]
2- المدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، مصدر سابق، ص 73.
3- براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون ،هاسبرز حمید رضا شاکرین، ص 148 [بالفارسية].

ويُقسّم النظام - بالنظر إلى إحدى الجهات - إلى نظام صناعيّ، ونظام طبيعي . أما النظام الطبيعي التكويني فهو أن تكون العلاقة وحالة الترتيب السائدة على أجزاء ظاهرة ما، أمراً تكوينيّاً وطبيعياً؛ لا أمراً وضعيّاً أو ناشئاً من التركيب الصناعي.

وينقسم هذا النظام التكويني إلى ثلاثة أقسام:

1 . نظام ناشئ من العلاقة بين العلة الفاعلية ومعلولها، أو قل : «النظام السَبَبي والمسببي» (1).

2 . نظام ناشئ من العلاقة بين العلّة الغائيّة مع معلولها، أو قل: «النظام الغائيّ»(2)

3 . نظام ناشئ من العلل المقوّمة، أو العلائق الداخلية بين أجزاء الشيء الواحد مع بعضها، أو قل : «النظام الداخلي»، أو «النظام الجمالي» (3) . وهنا، لابد من الإشارة إلى أنّ «النظام» المبحوث عنه في هذا البرهان هو النظام الطبيعي - لا الصناعي، ولا الوضعيّ - وهو نظام غائي ذو هدف(4).

2/5/3 .أضواء على دليل النظام :

يرتكز أساس هذا الدليل على الامتناع العقلي لانعدام صانع أو ناظم هادف يقف خلف ما نجده من نظام أو انسجام سائد على أرجاء الكون(5). وبعد اتكائه على وجود شيء أو أشياء خارجية تتسم بالنظام الغائي ( الهادف)، يوظف هذا النمط الاستدلالي مبدأ «السببية»، فيُثبت به «وجود الله» بصفته «سبباً غير مادي وعالماً وقادراً».

ص: 74


1- Cousal order .
2- Teleological order .
3- Aesthetistical order . وقد يسميه البعض بالنظام الاستحساني. [م]
4- براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون هاسبرز، مصدر سابق، ص 149.
5- المصدر السابق، ص 147.

وفي البراهين الغائيّة عادةً ما يُفترض وجود غاية أو غايات للطبيعة أو الموجودات الطبيعيّة، ثم يُنظر إلى أنّ وجود غاية للفعل تستلزم وجود وعي وشعور في فاعل ذلك الفعل، في حين أن العوامل الطبيعية فاقدة لأيّ وعي أو شعور، فيُستنتج من ذلك: ثبوت فاعل في هذه الطبيعة، يفوق الطبيعة، ويمتلك الوعي والشعور؛ وهو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى(1).

وقد ذكروا لدليل النظام تقريرات عديدة، يتفق جميعها في اعتماده على مقدمتين؛ إحداهما حسّيّة، والأخرى عقليّة:

* المقدّمة الأولى : مشاهدات عينيّة، وبحوث علمية تحكي لنا وجود نظام هادف يسود الموجودات الطبيعية. ومن أجلى وأبرز مظاهر النظام للإنسان ما يشاهده في عوالم النباتات والحيوانات والإنسان، والتي تولّت دراستها والتدقيق في نظامها وانسجام أجزائها، وأهدافها، وآثارها المترتبة عليها، حقول علميّة ؛ مثل: الفيزياء والكيمياء والأحياء. فعلى سبيل المثال : تتكاتف جميع تنظيمات «العين» - بما فيها الحدقة، وأغشيتها المتنوّعة، وشتّى ألوان المياه والمخاريط ، وأعصاب البَصَر ، والعضلات التي تؤدّي إلى اكتمال حركة العين وتتضافر جهودها بكميات وكيفيات معيّنة، لتحقق هدفاً محدداً يُسمّى «الإبصار». والكشف عن وجود نظام يلفّ الطبيعة أمر يشترك فيها العالم والجاهل؛ فالفلاح الأمي يفهم من خلال تفحّصه للأرض والشجر أنّ نظاماً ما يسود هذا العالم، وهو ما أدركه العلماء، فانطلقوا بعد توصلهم لوجود قوانين تكوينيّة نحو التفكير في اكتشافها .

* المقدّمة الثانية : إدراك العقل وفهمه لوجود علاقة منطقية واضحة تربط بين «النظام» الذي يسود العالم وهدفيّته من جهة، و«الوعي» من جهة أخرى؛ فالعقل يوحي إلى صاحبه أنّ الجهاز الذي تتحلّى به كلّ من هذه الظواهر يحكي عن ألوان من الحسابات والمعادلات جعلت الأجزاء المختلفة فيها تتناغم وتتناسب فيما بينها كماً وكيفاً، وفرضت عليها حالةً من التعاون والانسجام، ليتحقق - في نهاية المطاف -

ص: 75


1- النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص 57.

الهدف المنشود. وهو أمر لا يُعقل أبداً أن نعدّه مسبّباً عن أي عامل عديم الوعي؛ لأنّ وضع الحسابات والمعادلات التي تشكل أساس النظام، أمر لا يصدر إلا عن علم وإدراك، ولا يُحسن فعله إلا فاعل عليم وقدير؛ وليس الفاعل الفاقد للشعور (1).

ويُعدّ المدّعى القاضي بأنّ «انتظام العالم لا يصح فرضه أو شرحه وتبريره إلا بوجود ناظم له روح دليل النظام. هذا، وإن كانت تقريرات الغربيين منصبة على التمثيل بالمصنوعات البشريّة؛ ولهذا تجد بيلي (1805م) يقارن بين «العين» و«الساعة»، ويستدلّ قائلاً : لو عَثر شخص يعيش في جزيرة نائية على «ساعة»، فإنّه سيصدّق - لا محالة - بأنّها صُنعت بيد موجود عاقل. ومن هنا، ينبغي على الإنسان أن يتفحص «العين»، ليستنتج من ذلك أنّ موجوداً عاقلاً هو الذي صنعها (2). لكن من الجدير أن نلتفت هنا إلى أنّ دليل النظام في عالم التكوين غير مقتبس من المصنوعات البشرية.

أما التلازم العقليّ القائم بين «النظام» في ظاهرة ما، و«الوعي» الذي يتصف به فاعل تلك الظاهرة، فهو جوهر هذا الدليل . ووجود «الشرور» في عالم الطبيعة ما هو إلا نتيجة لنظام تكويني ، وليس ينفي «الهدفيّة»، ولا «الوعي».

وعليه : لا تَرِد المناقشات الستة التي سطرها ديفيد هيوم (1776م) في مصنَّفه «حواريات في الدين الطبيعي»؛ وهو كتابٌ نُشر قبل ثلاثة وعشرين عاماً من حديث وليام بيلي (1805م) ، وقد رُدّ عليه بمجموعة من الردود(3).

ص: 76


1- لاحظ مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، مصدر سابق، ص 74-76 . وقد ذكروا لإثبات المقدمة الثانية طرقاً متعدّدة؛ منها: -1 المنهج التحليلي. 2- المناهج البرهانية؛ كالمنهج المبتني على مبدأ السببية، والمنهج المبتني على الاختيار والانتقاء. 3- المنهج المبتني على الاستقراء. للتوسع في ذلك راجع دليل النظام؛ دراسات في الطبيعة ،والحكمة أحمد ديلمي، ص 113-115 .
2- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 78.
3- لمزيد من التوسع في مناقشات هيوم، وسائر الإشكاليات والردّ عليها لاحظ براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، م.س، ص 78- 79 أضواء على براهين إثبات الله، م.س، ص 231-243؛ مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام ،م. س ص 80-109 فلسفة الدين جون هيك، م.س، ص 61-68؛ براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون هاسبرز م س ص 160-174 [المصادر باللغة الفارسية ]

وقد دلّت على هذا البرهان مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة؛ منها قوله تعالى:

*( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ) (1).

*(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (2) .

*(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمينَ)(3).

* (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (4).

*وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (5).

* (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(6).

وهناك آيات عديدة أخرى جاء بها القرآن الكريم، ودلّت على إثبات وجود الإله العليم القدير على أساس من «دليل النظام» أو «البرهان الآياتي » (7).

ص: 77


1- سورة الروم: 20 .
2- سورة الروم: 21 .
3- سورة الروم: 22 .
4- سورة الروم: 23 .
5- سورة الروم: 24 .
6- سورة البقرة: 164.
7- سورة الرعد: 3 ، والروم: 25، والأنفال: 62-63 .

وحاصل ما تقدّم أنّ العقل والنقل الديني يُثبتان دليليّة هذا البرهان في إثباته لموجود عليم قدير حكيم، وناظم لعالم الطبيعة، بيد أنّ إثبات «وجوب وجوده» متوقف على «برهان الوجوب والإمكان».

3/5/3 . دليل النظام ونظرية داروين:

ينطوي ظهور الأنواع عند العلماء على فرضيتين:

1 . فرضيّة «ثبات الأنواع» القاضية بخلق مستقل وظهور فجائي لها.

2 . فرضيّة «تبدّل الأنواع» الذاهبة إلى اشتقاق الموجودات من بعضها البعض.

والسؤال المطروح هنا هو : هل يمكن لنا أن نعدّ نظرية ثبات الأنواع متسقة مع متبنيات الإلهيات ودليل النظام، ونصف نظرية «تبدل الأنواع» بأنها نافية ومنكرة لذلك؟ ذهب البعض إلى أنّ نظرية داروين تتعارض مع «برهان إتقان الصنع»(1)، أو «البرهان الغائيّ »(2)؛ بنحو لا يمكننا من التدليل على وجود الله بهذا البرهان الذي يُعدّ أهمّ الأدلّة على وجوده سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وما من شك في أن برهان إتقان الصنع أو دليل النظام يُمثل - إلى جانب البراهين الوجودية والكونية - إحدى أهمّ الحجج التقليديّة الثلاثة.

وكما تقدّم، فإنّ هذا البرهان يهدينا إلى الحقيقة القاضية بأنّ العالم دال على وجود نظام هادف، متّسم بالتخطيط والتدبير. وعليه يجب أن يكون صانعه عاقلاً ومدبّراً وحكيماً. والميزة الأساسيّة للنظام الهادف أنه يجتر مفاهيم لإحداثيات وأجهزة ائتلفت فيما بينها بنحو متناغم، يُفضي إلى نتيجة معينة.

يقول اللاهوتي والفيلسوف الإنجليزي وليام بيلي (1805م) في تبيينه لهذا البرهان :

ص: 78


1- Argument of design.
2- Teleological argument.

إذا عثر أحدهم على ساعة في جزيرة مهجورة، فمن حقه أن يفكر في أنّ صانعاً عاقلاً هو الذي صنعها. ووفقاً لنظرية التكامل، فإن تركيبة العناصر في زماننا الراهن قد ولدت من رحم عناصر أخرى أكثر بساطة منها عبر عمليات طبيعية محضة. وعلى أساس ذلك، فإنّ عاملين رئيسين لعبا الدور الأهم هنا؛ وهما : أوّلاً: الطفرة(1)، وثانياً: وفرة النسمة . أما الطفرة فتحدث حينما يتوافر الطفل الوليد على عنصر يتمايز فيه مع الأب والأم بما يمكنه من نقل هذا التمايز إلى نسله أو الأجيال من بعده من خلال نسله. وقد صبّ داروين كلّ اهتمامه في أن يُبرّر ويشرح كيفية انبثاق العناصر المعقدة من بوتقة عناصر بسيطة (2).

وقد ذكروا في بيانهم واستعراضهم لدليل النظام قراءات وتقارير مختلفة، غير أن داروين وكما يقول لورن آيسلي (3) (1977م) لم يدحض سوى قراءة «الساعة وصانع الساعة»(4). ولعلّ ذلك لأنه في بعض مصنفاته الأخرى عد قوانين تكامل الحياة مخلوقة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، غير أنه اختار انبثاق الأنواع الجديدة الخارجة من رحم التكامل وليدةً للصدفة، وليس حصيلةً لتخطيط أو تدبير سابقين.

وهنا، لا بدّ من الالتفات إلى أن التمعن في مؤلّفات داروين يهدينا إلى ما قصده من «الصدفة» ؛ إذ لم يعن به سوى جهلنا بالعلل والعوامل الموجدة للظواهر؛ وإن كان قد أبدى معارضته الشديدة لمبدأ الغائيّة أو الهدفية.

ومهما يكن من أمر، فإنّ بعض العلماء ذهبوا في تفسيرهم للعلاقة بين الله والطبيعة إلى القول بأن الخالق سلك في عمله طريق التكامل، وأنه دبّر أطروحةً تتفتح معالمها و تتوسّع آفاقها بنحو تدريجي(5).

ص: 79


1- Mutation.
2- الله في الفلسفة، بهاء الدين خرمشاهي ص84. [بالفارسية]
3- [م] Loren Eiseley
4- العلم والدين ص 113 .[بالفارسية ].
5- العلم والدين، ص 113 .

ومن جهة أخرى فقد انبرى جماعة آخرون بعد ظهور كتاب «أصل الأنواع»، ليُعلنوا أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قد اكتفى من عمليّة «الخلق»، واستقال ببركة «القوانين الثابتة التي لا تتغيّر» عن إدارة العالم (1).

لقد أدى ظهور نظرية داروين وتشابكها مع العقيدة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى تفجر جدل واسع في أوروبا، انقسم فيه المفكرون إلى موالٍ ومعارض؛ فذهبت طائفة إلى إنكار ما آلت إليه نظريّات ،داروين وذبّت عن حياض الإيمان بالله وانطلقت جماعة أخرى للخدش في دليل النظام، والوصول من ذلك إلى نتائج إلحاديّة، وحاول فريق آخر بشيء من الحذاقة الجمع بينهما ؛ فعلى سبيل المثال لم يرتض بعض الأعوان المقرّبين من داروين - مثل تشارلز ،لاين وهرشل - فرضيته في «الاصطفاء الطبيعي» مع أنهم في الوقت ذاته لم يعدّوها متقاطعة الدین أو الحكمة الإلهية. وقبل ذلك، فإنّ المفكرين الإسلاميين لم يجدوا بين الداروينية وإتقان الصنع، أو اتصاف العالم بالتدبير أي تعارض يُذكر، ذاهبين إلى أنّ هذه النظرية عاجزة عن إثبات فرضيّة استقلال المادّة في حركتها واستغنائها عن العامل الخارجيّ؛ فإن انخراط المادة ضمن حالة قانونية دليل على إتقان الصنع وحكمته، كما أنّ ظهور أنواع جديدة في الجمادات والنباتات والكائنات الحية أيضاً آية من آيات الحكمة في الخلق، ومدخليّة اليد الغيبية في تلك الظواهر.

إنّ الإيمان بنظرية «تطوّر الأنواع» - كما الإيمان بنظرية «ثبات الأنواع» - لا تتنافى مع مبدأ التوحيد أو الإيمان بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وكلاهما يُثبت - على نحو سواء - وجود نظام متجدر ومرموز في هذا العالم، ويعدّ هذا النظام أجود علامة تدلّ على وجود الله؛ فأي نظام أسمى من أن يخلق الله كلّ هذه الكائنات الغريبة المذهلة المتنوعة من كائن أحادي الخلية؟!(2).

ص: 80


1- الدين والعلم، برتراند راسل، ص 53 .
2- دراسة حول الداروينية، ص 153-155 تطوّر الأنواع وحكمة الصنع، مجلة الكلام الإسلامي، العدد 15 .

هذا، وقد أشار العلامة الشهيد مرتضى المطهّري (1399ه) إلى الرؤية التي تقول بأنّ المبادئ التي ارتكز عليها لامارك وداروين لوكانت كافية لظهور النظام في الطبيعة لانتقض بذلك دليل النظام في دليليّته على إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لكنّه أضاف أنّ المبادئ تلك لا تُبرّر الطبيعة؛ إذ لا يكفي الظهور التدريجي أو التطوّر الصدفي في الجهاز العضوي للنباتات والحيوانات ليكون مبرراً كافياً لوجود هذا النظام الدقيق، وإنّ كلَّا من هذه الأجهزة - كالجهاز الهضمي والتنفّسي وجهاز الإبصار والسمع وما إلى ذلك - يُشكل حلقة من سلسلة باهرة مذهلة، يرمي مجموعها إلى عمل وهدف واحد ومع ذلك، فلا مبرّر يدعونا للقبول بأن تطوّراً صدفيّاً هو الذي أوجد ذلك كلّه؛ ولو على نحو تدريجي. ولهذا نرى أن مبدأ التطوّر ما فتئ يدلّ ويُشدّد على مدخليّة قوّة مدبّرة وهادية ومسيّرة(1).

وبهذا، يكون العلامة المطهّري (1399ه) قد شرح أسباب مدعى التعارض بين النظرية الداروينية ودليل النظام، مرجعاً ذلك إلى هشاشة أسسه الفلسفية، لكنّه أذعن في موضع آخر بوجود هذا التعارض بين النظرية والدليل المشار إليهما، غير أنه لم يُسلّم بتماميّة المبادئ التي انطلقت منها تلك النظرية.

وقد أوضح في بيانه لهذا التعارض ما مضمونه بعد صراع الكائنات على البقاء، وتغلّب الكائن الأقوى واستمرار هذه الغلبة في الصراع عند الأجيال التالية التي انتقلت إليها من خلال الوراثة خصائص وسمات معيّنة على نحو من الصدفة، ليكون نظام الخليقة حصيلة لخصائص متكرّرة امتازت بها الكائنات، وجدت بشكل صدفي بموجب قانون صراع البقاء، وبقاء الأصلح والأنسب.

وهنا يُقال : إذا كان هذا النظام قد وجد منذ البداية مع هذه الخصائص والسمات، فإنّ المبرّر الوحيد لها هو وجود مدخليّة لمدبّر حكيم صدرت عنه. أما لو أذعنا بوجود

ص: 81


1- الدوافع نحو المادّيّة، مرتضى المطهّري، ص 122 .[بالفارسية]

ذلك ضمن حركة تدريجيّة استغرقت مئات ملايين السنين، فعندئذٍ يكون انعدام وجود المدبّر أمراً قابلاً للتبرير (1).

وفي اعتقادنا، فإنّ نظريّة الاصطفاء الطبيعي لا تتنافى مع إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للأسباب التالية :

1 . فرضيات العلوم التجريبية وإنجازاتها متغيّرة ومتبدّلة على نحو الدوام.

2 . دليل النظام ليس هو البرهان الوحيد، ولا حتى أهم الأدلة على وجود الله؛ فهناك في هذا الحقل حجج وبراهين تفوقه في الأهمية والقوة.

3 . لا ينحصر عالم الخلق بالنباتات والكائنات الحيّة؛ حتى يتسنى لنظرية تطوّر الكائنات الحيّة أن تنفض اليد عن وجود ربّ مدبّر حكيم لها؛ إذ كيف يمكن لهذه المبادئ الداروينية أن تفسر وتبرّر وجود كل هذا النظام في العالم العلوي والكواكب

والمجرات ؟!

4. مفهوم «الغائيّة» أو «الفيناليزم» قضيّة فلسفيّة محضة، ولا يحق لعلماء الأحياء التدخل فيها، وإبداء آرائهم بالإيجاب أو السلب. وإن وجود قوى تفوق الطبيعة، وتُسيّر الأحداث الطبيعية دعوى فلسفيّة لا تقبل الأخذ أو الردّ إلا ضمن سياقاتها الفلسفية.

5 . لا تدلّ التطوّرات الصدفية أبداً على نفي الهدف أو العلة الغائيّة؛ لأنّ هذه الدعوى ناشئة من جهل الإنسان، وكما يعبّر العلامة الطباطبائي فإنّ القول بالصدفة ينطلق من الجهل بالأسباب الحقيقيّة، وكذا الجهل بنسبة الغاية إلى ذي الغاية(2).

هذا، وقد أيد بعض الكتاب - خلافاً لما هو متوقع منهم - هذا اللون من التعارض قائلاً:

ص: 82


1- التوحيد مرتضى المطهّري، ص 248-250 .[بالفارسية]
2- لاحظ: نهاية الحكمة محمد حسين الطباطبائي، ص 190.

«لقد فجّر داروين ثورةً نيوتينية في عالم علم الأحياء. ولم تكن تلك الثورة غير انقشاع ضباب التفاسير الغائيّة عن سماء الحياة والأحياء، واستبدالها بتفسيرات علّيّة بدل تلك التفسيرات الغائيّة. إنّ نظريّة تطوّر الأنواع تقدّم في واقع الأمر تفسيراً عليّاً عن عالم العناصر بما يُغني العلماء عن الخوض في إيجاد تفسير غائيّ، ويفتح الباب على التفسير الصدقيّ للعالم الحيّ. فعلى أساس من نظرية خلق الساعة لا يمكن الإذعان بأنّ أنواعاً بهذه العظمة والتعقيد صمّمت من دون ناظم؛ فإنّ احتمال تحوّل مادّة فاقدة للحياة إلى إنسان ضئيل جداً بما لا يُساعد على الوثوق به. أمّا في إطار رؤية الخلق المتطوّر، فلا بعد في قبول صدفية نشأة الأنواع؛ لأنّ العالم يشهد تطوّراً، والأنواع تتبدل تدريجياً من أنواع شديدة البساطة لترى النور بعد ذلك.. وبعبارة أخرى: فإنّ نظرية التطوّر هذه تهدينا إلى أنّ دلالة النظام على ناظم مرهونة بما لو جهلنا الظروف المحيطة بالحدوث الصدفي

للظاهرة، وفيما لو عجزنا عن تفسير ذلك بما نملكه من آليات مادية»(1).

يعاني هذا الكلام من عدة أوجه تعرّضه للنقد؛ نذكرها باختصار فيما يلي:

1 . إذا صح وصمُ ما قام به داروين على أنه ثورة في علم الأحياء، وانقشاع لضباب التفسيرات الغائية، واستبدالها بتفسيرات عِلّيّة، فإنّ الأصح إذن أن يُقال للكاتب الموقر : إنّ هذه الثورة انطلقت منذ عهد غاليليو (2) (1642م) في مطلع القرن السابع عشر، واستبدلت فيها تفسيرات أرسطو (322 ق.م) الغائية إلى تفسيرات علية! يقول باربور(3) (2013م) في هذا الصدد: «بعد انحسار التشبّث بالعلّيّة الغائيّة استبدل

ص: 83


1- موقف العلم والدين في خلق الإنسان، أحد فرامرز قراملكي، ص 44-45 .[بالفارسية]
2- غاليليو غاليلي Galileo Galile : عالم فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي، ولد في بيزا في إيطاليا. نشر نظرية كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، فقام أولاً بإثبات خطأ نظريّة أرسطو حول الحركة، وقام بذلك عن طريق الملاحظة والتجربة [م]
3- إيان باربور In Barbour : فيزيائي وفيلسوف أمريكي معاصر كرّس جهوده في إثبات العلاقة بين العلم والدين. عمل أستاذاً في كلّيّة كارلتون في نورثفيلد بولاية مينيسوتا الأمريكية، لأكثر من ثلاثة عقود. أثار نقاشات بين العلماء واللاهوتيين على قضايا فكرية أساسيّة؛ مثل: نشأة الكون، والآثار الأخلاقية المترتبة على التكنولوجيا. حصل على جائزة تمبلتون المرموقة. توفي مؤخّراً عن عمر ناهز التسعين. [م]

تعريف الله، والتصوّر المرسوم عنه، بصفته الخير الأسمى الذي ترجع إليه الأمور كلّها، بتعريف آخر يصفه بالعلّة الأولى، حيث يُشار إليه بعنوانه أوّل حلقة من سلسلة العلل الفاعلية» (1).

2 . نظراً إلى ما أولاه العلماء من اهتمام بالطبيعة يعود قدمه إلى أربعمائة عام، فمن اللازم - حسب تلك الرؤية - ألا يخوض أيّ عالم في تفسيرات غائيّة لعالم الطبيعة، وأن نبرئ ساحة العلماء من هذا اللون من التفسيرات والبحوث الطبيعية؛ لأن واجبهم العلمي يمنعهم من ذلك نفياً أو إثباتاً، لكنّ الفلاسفة لا يحق لهم عدم الاكتراث بهذه الرؤية.

3 . إذا آمن أحدهم بتفسير عِلّيّ عن العالم، وأعاد حلقات سلسلة العلل والمعاليل إلى العلة الأولى مع اتصافها بصفات؛ مثل: «وجوب الوجود»، و«الحكمة»، و«العلم المطلق»، و «القدرة المطلقة»، و«إرادة الخير التي لا حدّ لها»، وما إلى ذلك، فلا محيص له من الإذعان بالعلة الغائيّة والتفسير الغائي عن العالم أيضاً؛ وذلك لأنّ حكمة الواجب تعالى واستغنائه عن غيره، يُثبت لنا هدفية فعله.

4 . إذا ألحقنا التطوّر الدارويني التدريجي بحساب الاحتمالات الرياضي العقلائي أمكن لنا إثبات النظام الهادف والخالق الهادف بنحو رياضي.

4/5/3 .دليل النظام والنظرية الكمية:

النظرية الكمّيّة (2) نظريّة متداولة أخرى في الفيزياء الحديثة، ولعلّ فيها تعارضاً

ص: 84


1- العلم والدين، ص 37. [بالفارسية]
2- النظرية الكمية Quantum Theory - أو فيزياء الكم Quantum Physics ، أو ميكانيكا الكم Quantum Mechanics - : نظرية فيزيائية أساسية، جاءت كتعميم وتصحيح لنظريات نيوتن التقليدية، ودمجها بالحركة الموجيّة خاصّةً على المستوى الذري ودون الذري. أمّا الكَمْ - أو : الكَمة - Quantum في علم الفيزياء: فهو مصطلح يُستخدم لوصف المقدار الأقل من المادة أو الطاقة المُمْكِنُ وُجوده، أو قل: أصغر مقدار من الطاقة يمكن أن يوجد مستقلا. اكتُشفت الظاهرة الكمومية عام 1900م على يد العالم الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858) Max Planck-1947م). [م]

ظاهرياً مع دليل النظام الفيزياء هو علم دراسة الطبيعة (من الذرّة إلى المجرّة) لمعرفة خواصها والقياسات فيها. وقد جاءت ميكانيكا الكم التي هي فرع من الفيزياء النظرية كبديل عن ميكانيكا نيوتن الكلاسيكية، وأخذت على عاتقها وصف العالم الميكروسكوبي وحالات الذرّة، بمقياس ذرّيّ ودون ذرّيّ على أساس من حساب الاحتمالات. وقد ساهم في تأسيس هذا اللون من المعرفة جماعة؛ منهم:

بلانك (1) (1947م)، وشر ودنغر (2) (1961م)، وبور(3) (1962م)، وهايزنبرغ (4) (1976م)، وديراك (5) (1984م)، وغيرهم .

لا تؤمن الفيزياءُ الكمّيّة بدوران الإلكترون في فلك النواة كما في المنظومة الشمسية منكرةً هذا النمط من حركة الإلكترونات ومستعيضةً عن ذلك بتفسيرها المبتني على نظرية «ازدواجية موجة - جُسيم»(6).

يتمركز الجسيم في نقطة معينة من الجو، ويتناثر الموج فيما حوله. يوصف الإلكترون

ص: 85


1- ماكس بلانك (1858) Max Planck-1947م فيزيائي ألماني، من أقدم مؤسسي نظرية الكمّ، وأحد أهم علماء الفيزياء في القرن العشرين [م]
2- إرفين شرودنغر (1887) Erwin Schrodinger - 1961م) : فيزيائي نمساوي اشتهر بإسهاماته في ميكانيكا الكم وقدّم فيها معادلة حملت اسمه، وحاز من أجلها على جائزة نوبل في الفيزياء. [م]
3- نيلس بور (188) Niels Bohr-1962م): فيزيائي دنماركي ترأس لجنة الطاقة الذرية الدنماركية ، وأسهم في صياغة نماذج لفهم البنية الذرّية وميكانيكا الكم.[م]
4- فيرنر هایزنبرغ (1901) Werner Heisenberg-1976م) فيزيائي ألماني اكتشف أحد أهم مبادئ الفيزياء الحديثة ؛ وهو مبدأ الارتياب (اللاتعيّن)، وحاز على جائزة نوبل في الفيزياء [م]
5- بول ديراك (1902) Paul Dirac-1984م): فيزيائي بريطاني من مؤسسي ميكانيكا الكم، عُرف بتطوير نظرية فيزيائية عامة تشمل في طياتها نظريات هايزنبرغ وشرود نغر . [م]
6- يُقال في علم الفيزياء أنّ هذه الازدواجية - أو المثنوية كما قد يُعبر أحياناً - هي خاصية مميّزة للجسيمات المجهرية تمكنها من التصرف في بعض الأحيان كموجة وفي البعض الآخر كجسيم. ولعلّ من أبرز الأمثلة لتمثيل هذه الظاهرة هو الضوء؛ ففي ظاهرة التداخل يتصرّف الضوء (الفوتون كموجة وفي ظاهرة المفعول الكهروضوئي يتصرف كجسيم مادّي (فوتون). بالمقابل أمكن إجراء تجربة التداخل بواسطة الإلكترونات وهذا يدعم بشكل مطلق الازدواجية جسيم موجة في جميع الأجسام دون الذرية [م]

في الفيزياء الكمّيّة بصفة الجسيم تارةً، وبصفة الموجة تارةً أخرى. ولا يتسنّى بيان هيكليّة الذرّة ونسيجها في هذا النموذج من خلال الحواس الظاهرية، وبكيفيات حسّية، ومقولات زمانية ومكانية وسببية.

الإلكترون الواحد هو كمّ واحد ويرتهن كون الإلكترونات أو الكمومات (الكمّات) موجاتٍ أو جسيمات بالناظر. لا تمتلك الإلكترونات الذرية في حين انعدام الناظر نطاقاً أو حدّاً معيناً، وتتبدّل إلى موجات .

وفيزياء الكمّ لاتميّز بين الواقع الذاتيّ (1)والواقع الموضوعيّ (2)، ولا تتماشى مع مسلك الواقعية الساذجة (3) ، وهي تولي الشخص المجرّب (المشاهد) في عمليات التجربة أهميةً بالغة. ولهذا، ليست هنالك قوانين دقيقة تحكم الذرّة(4).

إلى هنا، قمنا بإلقاء نظرة عابرة على فيزياء الكمّ، ووصل الدور إلى بيان دليل النظام ليتبيّن لنا : هل العلاقة القائمة بينهما هي علاقة تحد أم لا علاقة بينهما أساساً؟

ص: 86


1- [م] .Subjective
2- Objective. [م]
3- الواقعية Realism هي المذهب الذي يقرر للواقع الخارج عن التعقل وجوداً مستقلا، ويقيس صدق الكلام بمطابقته للواقع، وهي بهذا المعنى تعارض المثالية [ر] idealism فترفض أن تربط وجود الأشياء والطبيعة بالوجود الإنساني وترى أن للعالم وجوداً عينياً مستقلاً عن الذات العارفة وأحوالها وقد برزت في هذا المذهب نظريتان: نظرية ترى أن الإدراك إلمام مباشر بأشياء أو كائنات مختلفة عن الذات المدركة، ونظرية غير مباشرة يكتسب فيها إدراك الصور التي تتشكل في العقل المكانة الأولى، وقد عرفت هذه النظرية بالواقعية الثنائية dualist realism لأنها تقول بوجود الأشياء في العالم وبصورها في الذهن وتفرع عنها نظرية الواقعية التمثيلية representatives والواقعية النقدية critical ، في حين انبثق عن النظرية الأولى ما يعرف بالواقعية الساذجة naive realism والواقعية الجديدة neo-realism. تتفق الواقعية الساذجة مع ما يراه عامة الناس الذين يسلمون دون نقد أو مناقشة بأن العالم الخارجي موجود كما يتبدى للحواس دون تعديل أو تحوير فما يدرك من خصائص الأشياء إنما يمثل حقيقتها، ومن ثمّ فإن دور الإنسان في المعرفة يشبه دور «آلة التصوير» الذي يقتصر على نقل الأشياء وإبرازها دون تفكير أو نقد. انظر: الموسوعة العربية، ج22، ص 113 مقالة «الواقعية»، لسوسان إلياس. [م]
4- راجع العلم والدين إيان ،باربور، القسم الثالث و: Herbert, Nick, Quantum Reality: Beyond the new phisucs (New York: Doubleday, 1985) p: 30

تبتني القراءات والتقارير المتنوّعة لدليل النظام على وجود نظام في الطبيعة، يدلّ بدوره على وجود ناظم حكيم. وهنا نتساءل: ألا تؤدّي حالة التشويش واللانظام التي يشهدها عالم الذرّة وما دون الذرّة حسبما تعرض لها فيزياء الكم - كما يحلو للبعض أن يدعي - ، وكذا انهيار الانطباع السائد حول النظام في الطبيعة، ومبدأ الارتياب(1)، أو اللاتعيّن(2) في فيزياء الكم، ألا يؤدّي ذلك كلّه إلى غياب التدبير والتخطيط الشامل في العالم الميكروسكوبي؟ هل سوف يمكن إثبات وجود الله في ظلّ إنكار مبدأ السببية في فيزياء الكمّ؟ ويبدو في الوهلة الأولى أنّ هذا البحث يدلّنا على تصادم فيزياء الكمّ ليس مع دليل النظام وحده، بل مع أي لون من ألوان التدليل والبرهنة المبتنية على مبدأ السببية.

والغريب في الأمر أنّ الفيزياء التقليدية مع جزميّتها، ودعوى امتلاكها القدرة على التنبؤ ، وكذا مسلكها الاختزالي، كانت تحاول إنكار الربوبية والتدبير الإلهي، لكنّ فيزياء الكمّ - حسب قراءة البعض بطبيعة الحال - تسعى جاهدةً من خلال إنكار مبدأ السببية، أو من خلال مبدأ الارتياب (اللاتعيّن)، أن تغلق عينيها عن الاعتراف بالنظام الذي يسود الكون، وأن تنكر وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى . وليس هذا النمط من الاستنتاجات اللاهوتية التي سطرتها الفيزياء التقليدية أو فيزياء الكمّ إلا ثمرة أفرزتها الفلسفة الغربية السقيمة.

وهنا نتساءل باختصار : هل إن حالة الارتياب وعدم التأكد ناتجة عن اللاتعين في الطبيعة؟ أم أنه إقرار بجهل البشر ليس إلا؟ هل يعني ذلك غياب قوانين دقيقة تحكم

ص: 87


1- مبدأ الارتياب - أو مبدأ عدم التأكد، أو الريبة، أو اللايقين - Uncertainty Principle أحد أهم المبادئ في فيزياء الكمّ. صاغه العالم الألماني هايزنبرغ (1976 Heisenberg)، وهو ينص على عدم إمكانية تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة؛ أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة متناهية (ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى، ويشيع تطبيق هذا المبدأ بكثرة على خاصيتي تحديد الموضع والسرعة لجسيم أولي فهذا المبدأ معناه أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة 100%. ولا يمكنه قياس كلّ شيء بدقة 100%، إنما هناك قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه [م]
2- [م] . Indeterminacy Principle

عالم الذرّة، أم أننا لم نتوصل بعد لكشف هذه القوانين؟ وبعبارة أخرى: هل إنّ هذا الارتياب بذاته عيني خارجي أم ذهني اعتباري؟

لقد أجاب الفيزيائيون والفلاسفة الغربيون على هذه التساؤلات بإجابات مختلفة؛ منها قولهم:

1 . إنّ الارتياب وعدم التأكّد عائد إلى الجهل الذي يغمر الإنسان في الوقت الراهن. وهذا الرأي يجمل في خلفيّاته الإيمان بوجود قوانين دقيقة تنتظر من يكتشفها في المستقبل.

2 . يرتبط الارتياب وعدم التأكد بالقيود التجريبية أو المفهومية الداخلية؛ لأنّ الشخص المجرّب (المشاهِد) سوف يعمد - لا محالة - إلى التشويش على النظام الذي يقوم بتجربته أو مشاهدته، وإنّ النظريات المرتبطة بالذرّة لا بدّ لها من أن تستخدم المفاهيم المتداولة، والذرّة - نفسها - كانت وما تزال في غير متناول اليد.

3 . يعود الارتياب وعدم التأكد المذكور إلى اللاتعين في الطبيعة ذاتها؛ أي أنّ عالم الذرّة ينطوي على قوى وقابليات بديلة.

الرأي الأوّل - الذي مال إليه بلانك (1947م)، وأينشتاين (1955م)، وديفيد بوم (1992م) - هو اعتراف بالمنهج الواقعي إبستمولوجياً، وهو قول بالجبرية أنطولوجيّاً. أما الرأي الثاني الذي ذهب إليه نيلز بور فهو رؤية تنتمي للوضعية(1) ،وتفوح منها رائحة اللاأدرية (2)؛ لأننا لن نتمكّن على الإطلاق من الوقوف على نشاط

ص: 88


1- مذهب الوضعية Positivism يمثل إحدى مدارس فلسفات العلوم من أبرز معالم هذه الرؤية أن المعرفة الحقيقيّة في مجال العلوم الاجتماعيّة والعلوم الطبيعيّة هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية والعلاجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات والتي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية وخصائصها والعلاقات بينهم والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية. [م]
2- مسلك اللاأدرية (الأغنوستيّة) Agnosticism: توجّه فلسفيّ يقول أنّ القيمة الحقيقية للقضايا الدینیّة أو الغيبية غير محدّدة ولا يمكن لأحد تحديدها. وباختصار فإنّ أتباع اللاأدرية يؤمنون باستحالة التعرف على وجود الله والتوصل لهذا الإيمان ضمن شروط الحياة الإنسانية. [م]

الذرّة وحراكها في الفترات التي تفصل بين الملاحظات والتجربات التي تجرى عليها. وأمّا الرأي الثالث فيعود إلى رؤية هايزنبرغ (1976م)(1).

لقد اتّضح من الرأي الأوّل والثاني رؤيته في نفي أي تقاطع أو تعارض بين دليل النظام أو سائر براهين إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وفيزياء الكم، وقد خلص الرأيان إلى أن النقص إن وجد فهو متوجّه إلى المقدرة البشرية في الإدراك راهناً أو بشكل دائم. وينصب أساس المشكلة عند اعتناق الرأي الثالث في النظرية الكمية. لكنّ هذه الرؤية لا يمكن لها أن تخدش في مصداقية دليل النظام أو أدلّة إثبات وجود الله؛ لما يلي:

1. لا تمثل رؤية هايزنبرغ التفسير الوحيد في فيزياء الكم، ولا يجب عدّ هذا التفسير من جملة مصاديق التعارض بين العلم والدين.

2 . المعادلات الكمومية تقدّم توقعات وتنبوءات جزمية للكليات العامة الكبرى؛ فاللاتعيّن يجري فيما يخص كمّ الإشعاع (2)؛ وليس لفئة الذرّات الإشعاعية.

3 . مبدأ السببية هو مبدأ بديهي فلسفي يلزم من إنكاره اجتماع النقيضين، ولا يمكن أن ينتقض هذا المبدأ بما يُتداول في العالم الغامض للذرّة وما دون الذرّة، او بالفيزياء النظرية الكمّيّة .

4 . ترتكز فيزياء الكمّ على حساب الاحتمالات، ومما لا حساب الاحتمالات ومما لا ريب فيه أنّ منطق الاحتمالات مبني من الأساس على مبدأ السببية؛ لأنّ كلاً من «الإمكان» و «الاحتمال» و«الاستعداد» تمثل دوالا موجية (3) للحظات السابقة، وإنّ إنكار السببية يستلزم إنكار فيزياء الكمّ من أساسها. ورغم الالتفات إلى الفرق القائم بين السببية في منطق

ص: 89


1- العلم والدين إيان باربور، القسم الثالث .
2- [م] .Radioactive
3- [م] .Wave functions

الاحتمالات والسببية في منطق الضرورة، لكن - وعلى أي حال - لا مانع من أن نقوّي رصيد احتمالات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من خلال السببية في منطق الاحتمالات .

5 . إذا ارتهنت الأحداث والتطوّرات في عالم الذرّة بالناظر والمشاهد، وإذا ابتنى أساس فيزياء الكمّ على رؤية معرفية مثالية، أو عقلانية نقدية، فكيف يجوز أن ننسب اللاتعيّن إلى الواقع الموضوعي للطبيعة؟!

6 . ما الذي منع أنصار الفيزياء الكمّيّة من أن يستنتجوا من اللاتعين الكمّي السيطرة على الطبيعة من خلال المشيئة والإرادة الإلهية، واستعاضوا بدلاً عن القول بالتشويش واللانظام في عالم الطبيعة ؟!

6/3 .برهان الوجوب والإمكان :

يُعدّ «برهان الوجوب والإمكان»(1) من إبداعات الفارابي ،(339ه)، وقد تناوله ابن سينا (428ه) في بعض كتبه مثل : «المبدأ والمعاد»، و«النجاة» (2) وأسماه في «الإشارات» ب«برهان الصدّيقين» (3) . وتدلّنا الخلفية التاريخيّة لهذا البرهان على مقبولة عامة حظي بها من قبل الأغلبية الساحقة لأهل الفكر والنظر. ولعلنا لا نجد في مختلف العلوم برهاناً يتحلّى بهذا القدر من الإتقان والقدم والتسالم (4).

أوّل من تداول استعمال هذا البرهان في اللاهوت والفلسفة الغربية هو توماس أكويناس(5) (1274م)، وهناك مجموعة من الشواهد والقرائن التي تدلّنا على أنّه

ص: 90


1- Contingency Argument.
2- موسوعة الفلسفة، عبد الرحمان بدوي، ج2، ص 102.
3- الإشارات والتنبيهات ابن سينا، ج 3، ص 66.
4- فلسفة الدين، حسين زاده، ص 267-268 .
5- توماس أكويناس - أو توما الأكويني - Thomas Aquinas : قسيس وراهب دومينيكاني كاثوليكي إيطالي وفيلسوف ولاهوتي مؤثر ضمن تقليد الفلسفة المدرسية. [م]

اقتبسه من الفلاسفة المسلمين؛ مثل: الفارابي (1)، وابن رشد(2). وقد تابعه في ذلك لا يبنتز(3) (1716م)؛ حيث قدّم في عرض هذا البرهان تقريراً مغايراً أسماه ب«مبدأ العلة الكافية»(4).

أمّا كانط(5) (1804م) الذي هاجم براهين إثبات وجود الله بأشدّ المناقشات وقعاً أذعن بالمنزلة الرفيعة التي يمتاز بها هذا البرهان في أيّ منظومة كلامية طبيعية (6).

هذا، وينطوي برهان الوجوب والإمكان على تقريرات متنوّعة نشير في هذا الكتاب إلى ثلاثة منها؛ وهي تقريرات ابن سينا، وأكويناس، وصدر الدين الشيرازي.

تقریر ابن سینا :

قرّر ابن سينا (428ه) في كتابه الإشارات هذا البرهان بقوله :

«كلّ موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره، فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال إنّه ممتنع بذاته بعدما فرض موجوداً، بل إن قرن باعتبار ذاته شرط عدم علته صار ممتنعاً، أو مثل شرط وجود

ص: 91


1- موسوعة الفلسفة، مصدر سابق .
2- أضواء على براهين إثبات الله، الجوادي الآملي .
3- غوتفريد فيلهيلم لايبنتز Gottfried Wilhelm Leibniz: فیلسوف وعالم طبيعة وعالم رياضيات ودبلوماسي ألماني شهير. [م]
4- Principle of sufficient reason ، لاحظ فلسفة ،الدين حسين ،زاده ص 305 و 319 هذا، وقد يُطلق عليها البعض اسم العلة المعينة » Determining Reason ؛ أي: العلّة التي تعين وجود الشيء، وتجعله على الهيئة التي هو عليها لا غيرها. وقد يقرّر هذا المبدأ - أحياناً - بالقول: لا يمكن أن تكون هناك واقعة حقيقية، أو موجودة، أو قضية صادقة، ما لم تكن هناك علّة كافية لأن تكون هكذا؛ لا شيئاً ،آخر سواء كانت هذه العلل معروفة أو غير معروفة لنا. [م]
5- إيمانويل كانط Immanuel Kant : فيلسوف ألماني شهير من أبرز مفكّري القرن الثامن عشر. [م]
6- نقد العقل المحض، كانط، ص 667 [نقلا عن النسخة المترجمة إلى الفارسية. ويُقصد - عادةً - بالكلام الطبيعي في الفكر الغربي الكلام العقلي الذي يقابل الكلام الوحياتي (النقلي). [م]

علّته صار واجباً، وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له في ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان. فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع، فكلّ موجود إما واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود بحسب ذاته»(1).

ويمتاز هذا التقرير بأنه علاوة على استغنائه عن دراسة صفات المخلوقات، وإثبات الحدوث والحركة وغيره من الصفات، فهو لا يحتاج إلى إثبات وجود المخلوقات من الأساس؛ لأن مقدمته الأولى وردت بصيغة الافتراض.

وبعبارة أخرى يكفي في مضيّ هذا البرهان الإيمان بأصل الوجود العيني (مبدأ الواقعية)، والتسالم على مبدأ السببية، وبطلان الدور والتسلسل. وهي أمور إما أن تكون بديهيّة غير قابلة للطعن، أو هي أمور قابلة للإثبات والبرهنة(2). ناهيك عما ذهب إليه البعض في استغناء برهان ابن سينا حتى عن مقدّمة بطلان الدور والتسلسل (3).

وإذا كان برهان الوجوب والإمكان متوقف على امتناع الدور والتسلسل، فإنّ إثبات ذلك متيسر من خلال مبدأ عدم التناقض:

*فالدور - الذي يعني: توقف وجود الشيء«س» على وجود الشيء «ص» و العكس صحيح - يبتني على «توقف الشيء على نفسه»، ولازم ذلك أن يكون الشيء «س» والشيء «ص» في ذات الوقت الذي يقع كلّ منهما فيه سبباً ومتقدّماً، أن يكون كلّ منهما أيضاً مسبباً ومتأخّراً، وهذا يعني أن يكون الشيء موجوداً وغير موجود في آن واحد وهي نتيجة تستلزم اجتماع النقيضين.

ص: 92


1- الإشارات والتنبيهات، ابن سينا ص 18 فما بعد وقد قال في النجاة لا شك أن هنا وجوداً، وكل وجود فإما واجب أو ممكن ، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب. وإن كان ممكناً فإنّا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود ... ثم ينهي ابن سينا سلسلة الممكنات إلى علة واجبة الوجود ، إذ ليس لكل ممكن علة ممكنة بلا نهاية [م]
2- لاحظ: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة مصباح اليزدي، ج 2، ص 341 [النسخة الفارسية].
3- لاحظ النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، عبوديت، ج1، ص 133 [ النسخة الفارسية؛ العرفان النظري يحيى يثربي، ص 75-77 (بالفارسية).

* أما التسلسل فهو يعني أن يكون وجود الشيء «س» محتاجاً إلى وجود الشيء «ص»، والأخير محتاجاً لوجود الشيء «ع»، وهلم جرا.. إلى ما لا نهاية.

وبالتالي فإنّ التسلسل في الفلسفة مغاير للتسلسل في الأعداد والرياضيات. يتعلّق التسلسل الفلسفي بسلسلة توجد جميع حلقاتها بالفعل، وهي ممكنة الوجود، وتسودها علاقة السببية، ولا تقف عند واجب الوجود إلى ما لا نهاية.

وهذه الصورة من التسلسل مستحيلة الوقوع في الخارج؛ لأنها تستلزم اجتماع النقيضين؛ فجميع حلقات هذه السلسلة التي لا تنتهي ممكنة الوجود، ومحتاجة للعلّة الموجدة لها، فإذا لم تصل السلسلة في نهاية المطاف

إلى واجب الوجود، فهذا يعني أن السلسلة لا تحتاج إلى علة موجدة، وفي المحصّلة : السلسلة اللامنتهية الممكنة الوجود تحتاج إلى علة ولا تحتاج إلى علّة في الوقت ذاته!(1).

تقرير أكويناس:

قرّر توماس أكويناس (1274م) في كتابه «الخلاصة اللاهوتية»(2) برهان الوجوب والإمكان بصفته طريقاً ثالثاً من الطرق التي سلكها لإثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وعرضه على هذا النحو:

1 . بعض الأشياء موجودة حالياً، ووجودها غير ضروري؛ بمعنى أن بإمكانها أن تكون أو لا تكون.

2. إذا كانت جميع الأشياء على هذا الحال لزم ألا يوجد أي شيء في الزمان الأوّل.

3. إذا كانت جميع الأشياء في أحد الأزمنة معدومة، لزم ألا يكون أي شيء موجود حالياً.

ص: 93


1- لمزيد من التوسع راجع المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، مصدر سابق، ج2، بحث العلية.
2- Summa Theologica.

4 . حالياً هناك في الخارج موجودات متحققة على نحو القطع.

5 . إذن، يجب أن يكون هناك موجود ضروريّ، والموجود الضروري هذا يجب أن يكون موجوداً بالفعل، وألّا تكون نسبته إلى الوجود والعدم متساوية.

6 . ضرورة هذا الموجود الضروري لا يمكن لها أن تكون مسبّبةً لشيء آخر. ولهذا يجب أن يكون هذا الموجود «ضرورياً بالذات»؛ وهو الله (1).

وبعبارة أخرى: إذا كان الموجود غير ضروري الوجود، لزم ألا يوجد الموجود غير ضروري الوجود، ولأنّ الموجودات ليست بضروريّة الوجود، فالموجود ضروريّ الوجود متحقق وموجود .

لقد تعرّضت فقرات هذا الاستدلال لعدّة مرّات إلى سهام النقد، لكنّ أبرز الإشكاليات التي يعاني منه دليل أكويناس أنه أراد استنتاج انعدام الأشياء في أحد الأزمنة من خلال اتصافها بالإمكان، في حين أنّ اتصاف الشيء بالإمكان لا يتعارض مع اتصافه بالقدم، ولا يجوز استنتاج العدم الزماني للشيء من كونه ممكناً.

وبالإضافة إلى ما تقدّم نقول : لو سلّمنا أنّ الإمكان يستلزم حدوث الموجود، فإنّ لازم الإيمان بكون جميع الأشياء ممكنةً هو «عدم كلّ منها في زمن معين»؛ وليس اللازم هو «ألا يوجد أي شيء في زمن معيّن» ! وعليه تنثلم المقدّمة الثانية للاستدلال؛ إذ من الممكن لأيّ شيء أن يكون معدوماً في زمن بعينه، لكن هذا لا يعني ألا يكون هناك زمن لا يوجد فيه أي شيء.

بإمكان هذه المناقشة أن توقف دليل أكويناس في خطواته الأولى، لكنه إذا لم يكن يقصد من «كون الأشياء ممكنة» أمراً أكثر من كونها «حادثة»، فإنّ الإشكالية المذكورة لن تطاله؛ لأنّ الأشياء كلّها إذا كانت حادثةً حقاً، فلا يجب أن يوجد شيء حالياً. وفي

ص: 94


1- براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، مصدر سابق، ص 55.

هذه الحال، لن يختلف برهانه عن الدليل المسمّى ب- «برهان الحدوث، وهو لا يثبت سوى أنّ الشيء أو الأشياء الحادثة التي هي ليست بزمانيّة، يجب أن تكون موجودة.

وعلى أي حال، فإنّ برهان أكويناس وإن كان دليلاً يمكن الذب عنه، إلا أنه ليس برهان الإمكان، بل هو تركيب تشكّل من «برهان الحدوث» الذي أقامه المتكلّمون ،و «برهان السببية» الذي أقامه هو بنفسه(1). وعلى أساس من ذلك، اشتهر دليله باسم «برهان الوجوب والإمكان»، أو «برهان حدوث العالم»(2).

تقرير صدر الدين الشيرازي :

استند تقرير ابن سينا (428ه) وغيره من المفكرين المسلمين إلى زمن الشيرازي (1050ه) عن برهان الوجوب والإمكان إلى تفسير «الإمكان» ب«الإمكان الماهوي» ، وهي صفة عقليّة توصف بها الماهيّة، وتتلاءم مع مسلك «أصالة الماهية». وقد حاول صدر الدين الشيرازي أن يُقرّر برهان الصدّيقين على أساس من مسلك «أصالة الوجود»، وتفسير الإمكان ب «الإمكان الوجودي» أو «الإمكان الفقري»، ليُقلّل من المقدمات التي يتطلبها هذا الدليل.

يقول الشيرازي في تقريره لبرهان الصدّيقين:

«الوجود المتعلّق بالغير، المتقوم به، يستدعي أن يكون ما يتقوم به وجوداً أيضاً؛ إذ غير الوجود لا يتصوّر أن يكون مقوّماً للوجود . فإن كان ذلك المقوّم قائماً بنفسه، فهو المطلوب. وإن كان قائماً بغيره، فننقل الكلام إلى ذلك المقوّم الآخر، وهكذا، إلى أن يتسلسل، أو يدور، أو ينتهي إلى وجود قائم بذاته غير متعلّق بغيره»(3).

والحق أنّ برهان الصدّيقين الذي يعرضه صدر المتألهين لا يتطلب إلا الإيمان بمبدأ الواقعيّة، وأصالة الوجود ولا حاجة له بإثبات امتناع الدور والتسلسل (4).

ص: 95


1- مدخل إلى الإلهيّات الفلسفيّة، محسن جوادي، ص 128-129 .
2- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 12-13 .
3- الشواهد الربوبيّة صدر الدين الشيرازي ص 36-35 .
4- يقول في بيانه لبرهان الصدّيقين في كتاب الأسفار: «وتقريره أن الوجود - كما مرّ - حقيقة عينية واحدة بسيطة لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلا بالكمال والنقص والشدّة والضعف، أو بأمور زائدة كما في أفراد ماهيّة نوعية وغاية كمالها ما لا أتمّ منه؛ وهو الذي لا يكون متعلقاً بغيره ولا يتصوّر ما هو أتمّ منه؛ إذ كل ناقص متعلق بغيره، مفتقر إلى تمامه. وقد تبيّن فيما سبق أنّ التمام قبل النقص، والفعل قبل القوّة والوجود قبل العدم، وبيّن أيضاً أنّ تمام الشيء هو الشيء، وما يفضل عليه. فإذن، الوجود: إما مستغن عن غيره وإما مفتقر لذاته إلى غيره. والأوّل: هو واجب الوجود؛ وهو صرف الوجود الذي لا أتمّ منه، ولا يشوبه عدم ولا نقص. والثاني : هو ما سواه من أفعاله وآثاره، ولا قوام لما سواه إلا به». الحكمة المتعالية (الأسفار)، صدر الدين الشيرازي، ج6، ص 15 .

وهذا البرهان مقتبس من قوله تعالى :

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إلى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ) (1).

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء) (2).

ويُروى عن الإمام الحسين (علیه السّلام) أنه قال في دعاء عرفة:

«كَيْفَ يُستَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فى وُجُودِهِ مُفتَقِرُ إِلَيكَ ؟! أيَكُونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيسَ لَكَ؛ حَتّى يَكُونَ هُوَ المُظهِرَ لَكَ؟! )(3).

وبيان هذا الاستدلال: انّ الموجود إمّا أن يكون مفتقراً للغير، أو لا يكون كذلك. فإذا كان مفتقراً للغير كان ممكن الوجود، وإلا كان واجب الوجود.

استطاع برهان الوجوب والإمكان المبتني على الإمكان الماهوي الذي ابتكره الحكماء المسلمون أن يشق طريقه لينفذ إلى التعاليم التقليدية لفلاسفة القرون الوسطى من خلال مصنفات الحكماء المشّاء؛ إلا أنّ برهان الإمكان الفقري الذي بلورته الدقة العقليّة التي مارسها الحكماء المتألّهون، ودارت حول محورها رحى التعاليم الفلسفية الإماميّة مدّة أربعة قرون، غاب عن المخيّلة المضطربة للمتفلسفين الغربيين، ومؤرّخي الفلسفة الغربية (4) .

ص: 96


1- سورة فاطر: 15 .
2- سورة محمد 38 .
3- إقبال الأعمال السيّد ابن طاوس، ص 660.
4- أضواء على براهين إثبات ،الله مصدر سابق، ص 188.

هذا، وقد أورد بعض الباحثين المعاصرين ما يربو على مئتي تقرير لبرهان الصدّيقين(1).

لقائل أن يقول : إن هذا البرهان لا يُثبت إلا واجب الوجود بوجود مستغن عن غيره، وهو لا يتطرّق إلى إثبات وجود ذلك الإله الديني أو القرآني !

والردّ عليه : أنّ البرهان يستدلّ حسبما يقتضيه الحد الأوسط في الدليل، ولا ينبغي المطالبة بشيء يفوق ذلك؛ فدليل يثبت واجب الوجود، ودليل آخر علمه، وثالث قدرته، وأدلّة أخرى يُثبت كل منها صفة من صفاته، لتفضي هذه المجموعة من الأدلّة إلى إثبات ذلك الإله الديني، أو القرآني.

وعليه: رغم أنّ البرهان محدود بدائرة حده الأوسط، ولا يسعه إثبات الإله الديني المستجمع الجميع صفات الجمال والجلال مرّةً واحدةً، لكنّ مجموعة البراهين تكفل إثباته بجدارة. وحينئذ يمكن الوقوف على جميع الصفات التي وردت في دعاء عرفة المشار إليه؛ حيث رُوي عن الإمام الحسين (علیه السّلام) قوله:

«يا مَوْلايَ أَنْتَ الَّذِي مَنَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَنْعَمْتَ ، أَنْتَ الَّذِي أَحْسَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَجْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَفْضَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي رَزَقْتَ، أَنْتَ الَّذِي وَفَقْتَ ، أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَغْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَقْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي آوَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي كَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَصَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي سَتَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي غَفَرْتَ أَنْتَ الَّذِي أَقَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي مَكَّنْتَ أنتَ الَّذِي أَعْزَزْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَضَدْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَيَّدْتَ، أَنْتَ الَّذِي نَصَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي شَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَافَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْرَمْتَ؛ تَبَارَكْتَ رَبِّنا وَتَعَالَيْتَ»(2).

ص: 97


1- براهين الصدّيقين، حسين العشاقي الإصفهاني.
2- إقبال الأعمال السيد ابن طاوس، ص 656.

4 . إثبات التوحيد الإلهي ومراتبه

1/4. تمهید:

يُعدّ «التوحيد» أهمّ أصل من أصول الدين الإسلامي، وسائر الأديان الإبراهيمية. التوحيد في اللغة: جعل الشيء واحداً(1) ، وفي مصطلح علم الكلام: الحكم أو العلم بأنّ الله واحد(2). وهو يُصنّف إلى التوحيد النظري، والتوحيد العملي. يمثل التوحيد النظري لوناً من ألوان الإيمان القلبي، أمّا التوحيد العمليّ فهو إيمان مقرون بالعمل.

وهنا، تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز في الدراسات المرتبطة بالتوحيد بين زوايا البحث الثلاثة التفسير والتبيين، ثمّ الدور ،والوظائف، وأخيراً الإثبات والتدليل. وفي مطلع هذه الأبحاث سنعمد إلى تفسير معنى التوحيد وأقسامه، والتدليل على ذلك، ثمّ نعرّج على دور الإيمان بالتوحيد، واستعراض العوامل والدوافع المؤثرة في النزوع إلى الشرك.

2/4. تفسير معنى التوحيد النظري:
1/2/4 التوحيد الذاتي:

التوحيد النظري يعني الإيمان بوحدانية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على مستوى الذات، والصفات، والأفعال الإلهيّة. يقول الحكيم السبزواري:

ص: 98


1- قال أرباب اللغة: الوحد المنفرد والواحد أوّل عدد من الحساب والوحدان جماعة الواحد. والرجل الوحد والوحد والوَحْد الذي لا يعرف له أصل. ووحده توحيداً جعله واحداً. راجع العين 3: 280-281، تهذيب اللغة 5: 193، الصحاح 2 :548 ،لسان العرب :3 - 447446، القاموس المحيط: 414. [م]
2- قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: «أمّا في اصطلاح المتکلّمین فهو العلم بأن الله - تعالى - واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الذي يستحقه والإقرار به» شرح الأصول الخمسة القاضي عبد الجبار ص 128 وقال الجرجاني: «التوحيد ثلاثة أشياء: معرفة الله - تعالى - بالربوبية والإقرار له بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة». التعريفات الجرجاني، ص 99. [م]

«عدد مراتب التوحيد [النظري]: توحيد الذات وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال وتوحيد الآثار»(1).

وإليك فيما يلي بيان هذه المراتب :

التوحيد الذاتي:

تُقسم هذه المرتبة من التوحيد إلى قسمين: توحيد واحديّ، وتوحيد أحديّ:

*أمّا التوحيد الذاتي الواحدي فيعني: توحيده تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الوجوب الذاتي، والإيمان بوحدانية واجب الوجود بالذات، وإنكار أي شريك أو شبيه أو نظير للحق جَلَّ وَعَلا.

* وأما التوحيد الذاتيّ الأحدي فيعني: إنكار أي لون من ألوان التركيب العقليّ، أو الوهمي، أو الخارجي الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإثبات بساطته.

ويرى البعض أن الوحدة الإلهية تعني الوحدة العددية، والتوحيد الذاتي يعني أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى واحد ؛ وليس اثنين. لكنّه قول أنكره المروي عن الإمام عليّ (علیه السّلام) في نهج البلاغة؛ حيث قال: «واحد لا بالعدد»، فهو يعني أن وحدة الله ليست بوحدة عددية، كما أنها ليست وحدةً جنسيّة أو نوعية.

وعليه: ينحصر التفسير الصائب للتوحيد الذاتي في معنيين :

1. أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى لا شبيه له، ولا نظير ولا مثيل، وأن تصوّر فرد آخر . لواجب الوجود بصفته مفهوماً كلّيّاً ضربٌ من المحال، كما أنّ الصورة الذهنية عن «شريك الباري» أيضاً تصوّر خاطئ. وإذا ما تصوّرنا «واجب الوجود» بنحو صحیح، انتفى تصوّر شريك الباري»، وانتقضت أحكامه في الذهن .

ص: 99


1- أسرار الحكم الملا هادي السبزواري، ص 748 . [بالفارسية]

2 . أنّ الله جَلَّ وَعَلا بسيط، لا جزء له.

ويسمّى هذا اللون من الوحدة في الفلسفة الإسلامیّة بالوحدة الحقة الحقيقية.

2/2/4. التوحيد الصفاتي:

ويعني أنّ صفات الله تَبَارَكَ وَتَعَالى عين ذاته. وهي متحدة مع بعضها. ومنه يتبيّن سقم ما ذهب إليه البعض في نفيهم لصفات الكمال عن الله، أو قولهم بزيادة صفات الكمال على الذات المقدّسة. وهو خطأ جرّهم إلى إنكار التوحيد الصفاتي، وأودى بهم

في هاوية الانحراف العقائدي.

3/2/4. التوحيد الأفعالي:

وتعني هذه المرتبة التوحيدية: إسناد جميع الأفعال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. وهي تنقسم إلى التوحيد في الخالقية والربوبيّة، والمالكية، والحاكمية.

4/2/4 .التوحيد في الخالقيّة:

ويعني ذلك ألّا خالق إلا الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وأنه هو الذي خلق الكون بما فيه؛ حتى أفعال الإنسان الإرادية، خلقها من دون أن يلزم الجبر.

5/2/4 .التوحيد في الربوبية :

ويعني أنّ ربوبية العالم منحصرة في الله جَلَّ وَعَلا، وألّا شريك له في تدبير العالم. وتنقسم الربوبية إلى تكوينية، وتشريعية :

*أمّا الربوبية الإلهية التكوينية: فتعني أنه هو وحده من يتولى تدبير السنن و نواميس الطبيعة وما وراء الطبيعة في عالم الممكنات، وقد ينكشف بعض من هذه السنن التكوينية في الطبيعة للناس بالعلوم الطبيعية، أو غيرها.

ص: 100

*وأما الربوبية الإلهية التشريعية : فتعني أنه هو وحده من يتولى التقنين والتشريع الهادف إلى هداية الإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية.

6/2/4. التوحيد في المالكية :

وهو يعني أنّ الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى - ذلك الربّ الخالق لكلّ شيء - هو وحده من يملكها. وبطبيعة الحال، فلا مانع من أن يتصف الناس بالمالكية الخاصة بإذنه؛ فالكيته التكوينية تقتضي أن تكون الكائنات وأموال الناس بأسرها مملوكة له، ومالكيته التشريعيّة تقتضي أن يزاول الناس نشاطاتهم الاقتصادية طبقاً لتعاليمه، وألا يضربوا في الأرض موغلين في جمع المال من أي مصدر اتفق وألا ينفقوها في أي مصرف، فإذا أمرهم ربّهم بإيتاء الخمس والزكاة لا يمتنعون، ولا ينسبون المال لأنفسهم، بل يؤمنون بأن جميع أموالهم ملك له عَزَّ وَجَلَّ.

7/2/4 .التوحيد في الحاكمية والولاية:

لمّا كان الله جَلَّ وَعَلا هو الربّ الخالق القادر المالك للكون والإنسان، فإنّ الولاية والحاكميّة السياسية والاجتماعيّة له أيضاً، فإذا أراد أحد أن يطوي وسادة الحكم لزمه إذن إلهي يتيح له ذلك. ومن هنا، فلا أحد يتمتع بالاستقلال في الحكم أو التشريع دونه، وهو وحده الحاكم والوليّ على أنفس الناس وأموالهم، وليس أحد سواه يملك هذه الولاية المباشرة الأصيلة.

وبناءً على ذلك، فإنّ الحقّ تَبَارَكَ وَتَعَالى لقدرته وخالقيته وربوبيته المطلقة هو وحده من يتولى تدبير الشؤون التكوينية والتشريعية والاجتماعية للكون والإنسان، لا ينازعه في ذلك أحد. فإذا نُسبت الولاية التكوينية أو التشريعية أو السياسية للأنبياء أو الأئمة أو الولاية السياسية للفقيه الجامع للشرائط، فما هي إلا ولاية تابعة لولاية الله، يتجلّى الله بها في خلقه من دون أن يُنقص ذلك من ولايته شيئاً.

ص: 101

ولعلّ المراد من الحديثين القدسيين الآتي ذكرهما هو ذاك الحبل المتين الذي يربط بين التوحيد والولاية؛ فقد روي عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال :

«سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ يَقُولُ : سَمِعْتُ الله جَلَّ جَلالُهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِ. قَالَ [الراوي]: فَلَمَّا مَرَّتِ الرَّاحِلَةُ نَادَانَا [الإمام الرضا (علیه السّلام)]: بشرُوطِهَا؛ وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا» (1).

ورُوي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال أيضاً:

«عَنْ جَبْرَئِيلَ، عَنْ مِيكَائِيلَ، عَنْ إِسْرَافِيلَ، عَنِ اللوح، عَنِ الْقَلَمِ، قَالَ: يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ نَارِي» (2).

فدلّنا هذان الحديثان إلى أنّ التوحيد الإلهي وولاية الإمام هما تجلّيان لحقيقة الحصن الإلهيّ في ساحة العمل والعقيدة؛ ذلك الحصن المنيع الذي يلجأ إليه الإنسان هرباً من نار جهنم.

3/4 .تفسير معنى التوحيد العملي:

التوحيد العملي الذي يعني الإيمان العملي بوحدانية الله عَزَّ وَجَلَّ ينقسم إلى أقسام؛ منها التوحيد في العبادة والتوحيد في الطاعة :

* أمّا التوحيد في العبادة: فيعني أنه هو المستحق للعبادة وحده دون سواه؛ لأنه الواحد الفرد الذي لا نظير له في الخلق والتدبير.

* وأما التوحيد في الطاعة: فتعنى أن طاعته المستقلة والذاتية هي الطاعة الواجبة الوحيدة، ولا طاعة لمخلوق إلا لمن أذِنَ الله له أن يتولّى هذا الشأن.

ص: 102


1- الأمالي الصدوق، ص 235.
2- الأمالي الصدوق، ص 235.
4/4 .إثبات التوحيد الذاتي:

تمسّك المفكرون لإثبات التوحيد الذاتيّ الأحديّ والواحدي له تَبَارَكَ وَتَعَالَى بباقة من الأدلّة والبراهين. وفيما يلي قبس من ذلك:

1. برهان إثبات الأحديّة: الله جَلَّ وَعَلا بسيط منزّه عن جميع أنحاء التجزئة والتركيب (العقلية والوهمية والخارجية) ؛ لأنه إن كان مركباً من الأجزاء افتقر إليها، وهو ما لا ينسجم مع واجبية الوجود . إذن، فصفة «واجب الوجود» تستلزم إثبات البساطة له، ونفى التركيب عنه. وآيات التنزيل تدلّ على هذا المعنى أيضاً؛ حيث قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ) (1).

2 . إثبات التوحيد الواحدي ببرهان «صرف الوجود» بعدما ثبتت واقعيّة واجب الوجود ببرهان الوجوب والإمكان يثبت بذلك أيضاً أنه «صرف الوجود»، وأنه «لا يتثنى ولا يتكرّر». ومعنى ذلك أنّ واجب الوجود هو الموجود الذي يتحد وجوده مع ذاته (وجوده عين ذاته)، وخلافاً لما هو حال الممكنات : لا سبيل لأي حيثية عدمية إليه. وبعبارة أخرى : فإنه وجود صرف محض خالص لا يحده العدم، ولا نهاية له، ولا تكرار. فإذا افترضنا إلهاً آخر، وجب أن يكون كذات واجب الوجود، ولما كان الله وجوداً محضاً غير محدود في كمال، فإنّ هذا الفرض ينتفي وينتقض عقلاً .

3 . إثبات التوحيد الواحدي ببرهان نفي التركيب: إذا افترضنا وجودين واجبين، لزم من ذلك أن يكون كل من هذين الإلهين مركباً مما به الاشتراك ومما به الامتياز؛ أي: مركباً مما يشتركان فيه ومما يمتازان به عن بعضهما. ومن جهة أخرى: فإنّ كلّ موجود مركّب مفتقر إلى أجزائه التي تركّب منها؛ في حين أنّ واجب الوجود لا يجوز فيه أن يكون فقيراً أو محتاجاً لأيّ شيء. وعليه فإنّ نفي الحاجة يستلزم نفي التركيب في واجب الوجود، ونفي التركيب يستلزم نفي الشبيه والنظير فيه. يقول

ص: 103


1- سورة فاطر: 15 .

تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)(1) ، ويقول أيضاً: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شُيَءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير ﴾(2) .

4. إثبات التوحيد الواحدي ببرهان وحدة انسجام العالم : إذا سادت على عالم الوجود الطبيعة إرادتان وجهتا تدبير مختلفتان، عمّ الفساد وفشيت الفوضى في العالم. وانعدام الفساد في عالم الطبيعة دليل على وحدة الذات الإلهيّة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا البرهان رغم إثباته وحدة الخالق والمدبّر أوّلاً وبالذات، إلا أنه صالح لإثبات الوحدة الذاتية أيضاً؛ لأنّ واجب الوجود يجب أن يكون الخالق والربّ أيضاً، وفي غير هذا الحال لو كانت الخالقيّة والربوبية الموجود آخر - واجب أو ممكن - يزاولها بنحو استقلالي، لزم الشرك في الذات أو اجتماع النقيضين، أو نسبة واجبية الوجود لموجود ممكن؛ وهو محال فإن قيل : ما الضير في وجود واجبين مستقلين يدبّران أمر مخلوقين مستقلين؟ أو واجبين يدبّران أمر عالم واحد بالتعاون والتعاضد فيما بينهما؟ قلنا: إنّ الفرض الثاني (تدبير العالم الواحد بالتعاون بين الواجبين) يتعارض مع استقلال واجب الوجود وكلا الفرضين يتعارض مع كونه سُبحَانَهُ وَتَعَالى صرف الوجود». يقول جَلَّ وَعَلا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَنَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ (3)، ويقول أيضاً : (مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهِ إِذًا لَّذَهَبَ كُلٌّ إِلَه بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ) (4). إن افتراض حالة التعاون والتعاضد بين إلهين لتدبير أمور العالم لا ينسجم مع الاستقلال الذاتي الذي يتصف به الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا جاز تحقق أكثر من واجب للوجود - لتكون إدارة العالم شركة بينهم - لزم من ذلك أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى غير مستقل في إدارة العالم وتدبيره، وأنه مفتقر إلى غيره، ومتوقف عليه، وهذا ما لا يتلاءم مع واجبيّة وجوده جَلْ وَعَلا.

ص: 104


1- سورة التوحيد.
2- سورة الشورى: 11 .
3- سورة الأنبياء: 22.
4- سورة المؤمنون: 91.

5. إثبات التوحيد الواحدي ببرهان «وحدة الأنبياء»: إذا جاز أن يتعدّد واجب الوجود، لزم أن يبادر كلّ منهم إلى إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لهداية الناس، لكنه أمر لم يحدث. يقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ هُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (1)، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾(2).

4/4 .إثبات التوحيد الصفاتي:

التوحيد الصفاتي مرتبة من مراتب التوحيد النظري الاعتقادي، وهو يرتبط بعقيدة المؤمنين وإيمانهم، ويُراد به عينيّة الصفات الذاتية والكمالية مع الذات الإلهية، وعينيّة تلك الصفات مع بعضها البعض. ولمزيد من التوضيح نقول : يُحتمل في قضيّة العلاقة بين الذات والصفات الإلهية ثلاث احتمالات :

1 . أن تُسلب صفات الكمال عن الذات: وهو باطل ومحال عقلاً ونقلاً؛ لأنه لو كان سُبحَانَهُ وَتَعَالى فاقداً لصفات كماليّة؛ مثل: العلم والقدرة، لاستلزم ذلك أن يكون واجداً لصفات؛ مثل: الجهل والعجز في حين أنه منزّه عن أي نقص.

2 . أن تتباين الصفات مع الذات: أي أن يكون جَلَّ وَعَلا واجداً لصفات كمالية زائدة على ذاته. وهذا الاحتمال إما يستلزم الكثرة في ذاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتركب الذات من أجزاء، أو يُفضي إلى سلب الصفات عن الذات، وإثبات الحاجة إلى الغير.

3 . عينيّة الصفات مع الذات: وهو المدعى الذي ينادي به المعتقد الإسلامي، وأحاديث المعصومين (علیهم السّلام): أما آيات القرآن الكريم بخصوص الصفات فهي على طائفتين: الأولى آيات تتحدّث عن صفات إلهيّة؛ مثل : العلم والقدرة والحياة وما

ص: 105


1- سورة الأحقاف: 4 .
2- سورة الأنبياء: 25 .

شاكل ذلك، والثانية: تدلّ على استغنائه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ونفي المثليّة عنه، وتثبت عينيّة الصفات مع الذات؛ لأنّ الصفات إن كانت زائدة على الذات لاحتاج عَزَّ وَجَ- في كماله إلى تلك الصفات الزائدة عليه، ولاستلزم ذلك تشبيهه بالموجودات الممكنة؛ في حين أن القرآن الكريم يؤكّد على أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(1)، وَأَنَّهُ (هُوَ الْغَنِيُّ الحميد ) (2) . وقد شدّد أئمة أهل البيت (علیه السّلام)- بصراحة - على هذا المعنى، وحذّروا من القول بزيادة الصفات على الذات.

5/4 .إثبات التوحيد في الخالقية:

أثبت المتكلّمون المسلمون التوحيد في الخالقية من خلال لجوئهم إلى توسيط القدرة الإلهية المطلقة؛ فقدرته المطلقة تُثبت لنا أنّ كل قدرة أخرى لا يمكن لها إلا أن تكون منبثقة من القدرة الإلهيّة. ومن جهة أخرى فإنّ الخالقية حقيقة ناتجة عن القدرة؛ فإذا وجدت صفة الخالقية عند غير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فهي وليدة القدرة والاختيار الذي أفاضه الله تَبَارَكَ وَتَعَالى على صاحبها. وبناءً على ذلك، فإنّ الشرك في الخالقيّة يحل عند الإيمان بخالقية مستقلة ومستغنية عن الواجب، تُنسب إلى غير الله، وهي أمر يستلزم اجتماع النقيضين، وإثبات صفة واجب الوجود الموجود ممكن! أو يستلزم خالقيّة واجب آخر غير الله ؛ وهو ما يتعارض مع التوحيد الذاتي آنف الذكر. وقد دلّت الآيات الكريمة على توحيد الخالقية في مواضع مختلفة؛ منها قوله تعالى :

(وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾(3).

(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (4).

(ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (5).

ص: 106


1- سورة الشورى: 11 .
2- سورة فاطر: 15 .
3- سورة الصافات: 96.
4- سورة فاطر: 3 .
5- سورة الأنعام: 102 .

ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ الإذعان بالتوحيد في الخالقية لا يعني إنكار السببية في سائر الموجودات، وقد أشارت الآية 96 من سورة الصافات إلى هذا المعنى :بقوله: ﴿وَمَا تَعْمَلُونَ) ؛ إذ نسبت الآية صناعة الأوثان إلى المشركين، وإن استخدام المفردات المشتقة من خَلَق» يوضح لنا أنّ فاعليّة الحقِّ جَلّ وَعَلا تقع في طول فاعليّة الموجودات الأخرى. وما قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ (1) إِلا إشارة إلى تلك العلاقة الطولية بين الرمي الإلهي والرمي البشري؛ فلم ينفِ القرآن الكريم الرمي عن الإنسان وإنما قال: إنك عندما رميت لم تكن قد رميت أنت، بل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى هو الذي رمى؛ أي إنّ رميك لا يتصف بالاستقلالية. وبناءً على ذلك، فإنّ العلاقة القائمة بين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وسائر العوامل الأخرى هي علاقة طولية، وليست عرضيّة.

وفي المحصلة نقول: إنّ التوحيد الأفعالي والتوحيد في الخالقية المستنبطين من القرآن الكريم والعقل لا يتلاءمان مع الرؤية الاعتزاليّة التي تنفي التأثير الإلهي على أفعال الإنسان بقول مطلق، وتذهب إلى «التفويض»، كما لا يتلاءمان أيضاً مع الرؤية الأشعريّة المتمثلة في نظريّة «الكسب» التي تفضي بالنهاية إلى «الجبر».

لقد مالت المعتزلة إلى القول بالتفويض في مسيرتها التدليليّة على إثبات العدل الإلهي وتنزيه ساحة الله جَلَّ وَعَلا عن فعل الأعمال القبيحة والشنيعة، فيما ابتليت الأشاعرة بالميل نحو النزعة الجبرية في خضم استدلالاتها لإثبات التوحيد الأفعاليّ. لكنّنا لو أردنا أن نؤمن بالعدل الإلهي والتوحيد الأفعالي دون أن نقع في منزلق التفويض، أو مستنقع الجبر ، فعلينا أن نتمسّك بعُرى التبعية لأهل البيت (علیهم السّلام) ، وأن نقول بما قالته الإمامية: «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ ؛ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْن) (2)؛ ومفاده: أن الإرادة الإلهية اقتضت السماح للإنسان أن يفعل أو يترك بإرادة إنسانيّة حرّة. ومن هنا، لا مانع من أن تُنسب أفعال

ص: 107


1- سورة الأنفال: 17 .
2- وهو مقطع من حديث مروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام). لاحظ الكافي الكليني، ج1، ص 160. [م]

الإنسان إلى الإرادة الإلهية، فيثبت التوحيد الأفعاليّ، كما لا ضير في استنادها إلى إرادة الإنسان من دون أن يلزم القول بالجبر، أو أن ينثلم الإيمان بالعدل الإلهي .

6/4 .إثبات التوحيد في الربوبيّة:

يمثل التوحيد في الربوبية الإلهية إحدى أهم مراتب التوحيد في عصرنا الراهن. وفي ظلّه تتمايز المدرسة الفلسفيّة الإسلاميّة ونظامها الفكري العام جليّاً عن سائر المدارس الأخرى؛ فلعل عالم الحداثة أو ما بعد الحداثة يذعن بوجود الله، أو خالقيته، لكن أصحاب النزعات الإنسانوية التي تدين بأصالة الإنسان لا يؤمنون بالربوبية الإلهية، وينكرون التدبير الإلهي للأمور التكوينية، وينسبونها إلى قوانين تكوينية جبرية، كما ينكرون أيضاً التدبير الإلهي للأمور التشريعية، وينسبونها إلى إرادة الإنسان، متغافلين عن عينية الصفات الكمالية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى مع ذاته، وأنه جَلَّ وَعَلا من حيث كونه واجباً للوجود، فهو قادر مطلق وعالم مطلق وخالق مطلق، ومن حيث أنه خالق مطلق، فله الربوبية المطلقة أيضاً. ولا يعني سلب الربوبية عنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلا إنكار خالقيّته المطلقة.

وبعبارة أخرى: لا يمكن الفصل بين قضيّة تدبير شؤون الكون فيما يخص الإنسان والعالم، وبين قضيّة الخلق ؛ فليس التدبير إلا الخلق. فإذا كان خالق الكون والإنسان واحداً، فإنّ مدبّره واحد أيضاً؛ إذ لا ريب في وجود صلة وثيقة وعلاقة متينة بين تدبير العالم وخلقه.

ومن هنا، تجد القرآن الكريم عند وصفه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالخالقية، يُلمح إلى كونه المدبّر للمخلوقات أيضاً. يقول تعالى في مواضع مختلفة:

(الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبَّكُمْ تُوقِنُونَ )(1) .

ص: 108


1- سورة الرعد: 2.

(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرجُ المُيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرَ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (1).

(إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ (2) .

(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهُ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلَّ شَيْءٍ) (3).

(قَالَ بَل رَّبِّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض الَّذِي فَطَرَهُنَّ)(4).

(لَوْ كَانَ فِيها الةٌ إلا الله لَفَسَدَنَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(5).

وتدلّ هذه الآية المباركة على أنّ الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى لو كان له شريك في الخلق والربوبية لاستلزم ذلك الاختلاف والفساد في الأرض والسماء، وهذا يعني أنّ النظام والانسجام السائد على أرجاء الكون يهدينا إلى وحدة الخالق والمدبّر له.

وبعبارة أخرى: إذا تعدّد الخالق والمدبّر، لاختلفا من حيث الذات، وتعدّد الذات يستلزم تعدّد الآثار. وإذا افترضنا ضرباً من التعاون والتوافق بين واجبين للوجود لإدارة العالم وتدبير شؤونه، فقد ساوينا بين الله والإنسان، وقارنا بينهما، وأخضعنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى حفنة من القواعد الاعتبارية، في حين أنه جَلَّ وَعَلا قاهر فوق عباده، وحاكم على أي قانون أو قاعدة.

إن التوحيد في الخالقية والتوحيد في الربوبية يستلزمان التوحيد في الرازقية وسائر

ص: 109


1- سورة يونس: 31 .
2- سورة يونس: 3 .
3- سورة الأنعام: 164.
4- سورة الأنبياء: 56.
5- سورة الأنبياء: 22 .

الكمالات الأخرى. وعليه فإنّنا لا نرى حاجة ملحة لاستعراض تلك الأبحاث بنحو مستقلّ.

6/4 .إثبات توحيد الحاكميّة والمالكية والولاية :

الحكومة تعني السلطة، والحاكم هو صاحب القدرة والسلطة الذي يسعى إلى إحلال النظام وسيادته وإنّ كلّ حاكم يتحلّى بضرب من ضروب الولاية التي يتخذ على أساسها قرارات ويُصدر في ضوئها أوامر ترتبط بأنفس الناس وأموالهم.

وإذا ثبتت خالقية الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وربوبيته، فإنّ البرهان العقلي يُثبت لنا أنّ الله هو الوحيد الذي يحق له أن يتصف بالحاكميّة على الإنسان، ولا أحد غيره؛ لأنّ جميع الناس سواسية فيما بينهم من هذه الجهة. وبناءً على ذلك، فإنّ حق الحاكمية المالكية منحصر فيه، وفيمن يأذن له سُبحَانَهُ وَتَعَالى. يقول في القرآن الكريم:

(إنِ الْحُكْمُ إِلا لله أَمَرَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (1) .

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلْكَ مِن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (2).

(وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾(3).

(ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ)(4).

(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبع الهوَى) (5).

ص: 110


1- سورة يوسف: 40.
2- سورة آل عمران: 26 .
3- سورة البقرة: 247 .
4- سورة فاطر: 13 .
5- سورة ص: 26 .

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(1).

(أَفَغَيْرَ اللهُ أَبْتَغِي حَكَما وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(2).

واستنتاجاً لما ورد من آيات كريمة بهذا الصدد نقول:

1. الحاكمية صفة منحصرة في الحق سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأنّ الولاية على الأنفس والأموال، وكذا الخالقية والتدبير منحصرة فيه جَلَّ وَعَلا.

2 . الحكومة على نحوين: تكوينية (تدبير عالم الخلق)، وتشريعية. تُستفاد «الحكومة التشريعية» من الآية 40 من سورة يوسف و «الحكومة التكوينية» من الآية 26 من سورة آل عمران.

3 . مع أنّ الحكومة حق حصري الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أوّلاً وبالذات، لكن لا ينبغي الظنّ بمبادرته لتدبير الأمر بنحو مباشر في كل حين، بل شاءت إرادته أن يوكّل في ذلك من يأمره ،به ويأذن له ذلك، ويرضى له . وقد أشارت الآية 26 من سورة ص إلى هذا المعنى فيما يخص النبي داوود (علیه السّلام). وعليه فإنّ شعار الخوارج الذي صدحت به حناجرهم: «لله الحكم يا علي ! لا لك ولا لأصحابك» (3) قول غير تام. ولهذا، ردّ عليهم أمير المؤمنين (علیه السّلام) بقوله: «كَلِمَةً حَقٌّ يُرَادُ بِهَا بَاطِل»(4).

4 . الدولة والحكومة ظاهرة لا يمكن للمجتمعات البشرية أن تتجاوزها، أو تتغاضى عنها ، أو تحذفها من قواميسها ومجريات حياتها.

ص: 111


1- سورة المائدة: 47. وقد سبقت هذه الآية آيتان من نفس السورة، ورد فيهما قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بَمَا أَنزَلَ الله فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ المائدة: 44 (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأَوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة: 45.
2- سورة الأنعام: 114.
3- الإرشاد، المفيد، ج1، ص 20.
4- روى الشريف الرضي في نهج البلاغة قوله :«كَلِمَةً حَقٌّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ. نَعَمْ، إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلا لِله وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ إِلَّا ِلله! وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ؛ بَرٌّ أَوْ فَاجِر..». الخطبة 40 ط صبحي الصالح. [م]

5 . الآيات التي تطرّقت إلى التوحيد في الحاكميّة والتشريع تحصر مهمة التقنين وجعل الحقوق وسن القوانين بالله تَبَارَكَ وَتَعَالى وبمن أذن له الله، وتصف العدول عن الأحكام الإلهية بالظلم والفسق والكفر؛ كما في الآيات 44 و 45 و 47 من سورة المائدة، والآية 26 من سورة ص وغيرها .

6. عدّت بعض الآيات القرآنية الحكم الإلهي بمثابة المحور الذي تحلّ في ظله النزاعات والخلافات بين بني البشر؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )(1).

7/4 .إثبات التوحيد في العبادة :

تقع دعوة الإنسان إلى عبادة الإله الواحد، ورفض عبادة أي موجود سواه على رأس قائمة الواجبات التي اضطلع بها الأنبياء منذ فجر التاريخ. والتوحيد في العبادة يمثل أحد أنماط التوحيد العمليّ؛ وهو يعني أنّ العبادة مختصة بالله عَزَّ وَجَلَّ، ولا يستحقها أحد غيره؛ لأنّ العبادة تعني أن يقوم المرؤ بعمل لموجود يرى فيه الألوهية، ويعدّه ربّاً، أو وجوداً مستقلاً في التأثير.

وبناءً على ذلك، لا تعني العبادة - كما يخال البعض - مجرّد الخضوع للغير، أو اللجوء إليه، والتذلّل أو الخشوع في حضرته؛ وإلّا لكان أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لنبیّه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بالخضوع وخفض الجناح للمؤمنين (2) ، أو أمره للناس بالخضوع والتذلل أمام الوالدين (3) - كما حثّ عليه القرآن الكريم - تشجيعاً وتحفيزاً على الشرك بالله؛ وهو ليس كذلك بلا ريب.

وقد تطرّقت آيات قرآنية عديدة لما يتصل بالتوحيد العبادي؛ حيث قال تعالى:

ص: 112


1- سورة الشورى: 10 .
2- قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين) سورة الحجر: 88 [م]
3- قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُما جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) سورة الإسراء: 24. [م]

(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (1).

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ (2).

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّه وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا)(3).

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ (4).

﴿وَاعْبُدُ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )(5).

﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(6).

(يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (7).

وبعد استعراض هذه الآيات، يتوجب الوقوف عند الرسائل القرآنية التالية :

1 . التوحيد العبادي مبدأ تسلّم به جميع الفرق والمذاهب الإسلامیّة، ولئن انحرفت بعض جماعات من المعتزلة والأشاعرة عن الجادّة في التوحيد الصفاتي والأفعاليّ، فإنّها لم تختلف مع باقي طوائف المسلمين في التوحيد العبادي.

ص: 113


1- سورة النحل: 36.
2- سورة الأنبياء: 25 .
3- سورة آل عمران: 64.
4- سورة يس 60-61 .
5- سورة الحجر: 99.
6- سورة البينة: 5 .
7- سورة العنكبوت: 56.

2 . يُقسّم الشرك في العباة إلى شرك جلي، وآخر خفي. أما الشرك الجلي فهو عبادة غير الله ؛ كما كان يصنع عبدة الأوثان في الجاهليّة، وهو الذي يؤدّي إلى تصنيف معتنق هذا الاعتقاد كلاميّاً في خانة «المشركين». وأمّا الشرك الخفي فهو الاستمداد من غير الله، والتملق له دون الالتفات إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والتوجه إليه. وإن هذه السلوكيات تجعل من الإنسان مشركاً من الناحية الأخلاقية؛ لا الكلامية. ولهذا، لا يُرتب على هذا النوع من الشرك أي آثار فقهيّة ثابتة للمشركين بالشرك الجلي.

.3 . «العبادة» لغةً - كما يرى الراغب الإصفهاني - تعني : إظهار غاية التذلّل (1) ويُطلق «العبد» ويُراد منه تارةً: العبد بحكم الشرع ؛ وهو الإنسان الذي يصح بيعه وابتياعه، وتارةً أخرى العبد بالإيجاد؛ وذلك ليس إلا الله جَلَّ وَعَلا ، وثالثةً : عبد بالعبادة والخدمة. أمّا العبادة في معناها الاصطلاحي فتعني: القيام بعمل لموجود يُعتقد فيه الألوهية، ويُعدّ ربّاً، أو وجوداً مستقلاً في التأثير؛ أي: السلوك الذي يُعبّر عن إيمان بألوهية ذلك الموجود. يُستفاد هذا التعريف من بعض آيات القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ)(2)، وقوله أَيضاً : ﴿إِنَّ الله رَبِّيٌّ وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)(3) ؛ حيث نستفيد من هاتين الآيتين ومثيلاتهما أنّ العبادة عمل يقوم به صاحبه لأجل موجود يرى فيه الألوهية أو الربوبية .

4 . يمكن لنا أن نستنتج من التعريف المذكور آنفاً ما يلي : أولاً: التمسك بالأسباب الطبيعية وغير الطبيعية ليس شركاً بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - كما يحلو للوهابية أن تصوّر وتسوّق - ؛ لأنّ نظام الخلق مبني على أساس مبدأ السببية؛ فإذا ابتغى أحدهم مسبباً قصد سببه لا محالة؛ وإن كان المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو علة العلل، والخالق والمدبّر لنظام الخلق بأسره. وقد أمر القرآن الكريم بالاستعانة بالصبر والصلاة في قوله تعالى:

ص: 114


1- قال ما نصّه: «العبوديّة: إظهار التذلّل والعبادة : أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلّل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال؛ وهو الله تعالى». مفردات غريب القرآن الراغب الإصفهاني ص 319 .[م]
2- سورة الأعراف: 59 .
3- سورة آل عمران: 51 .

(وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(1) . وثانياً : التوسل بالغير واللجوء إليه ليس أنه لا يُعدّ شركاً أو عبادةً للغير وحسب، بل هو مصداق حي من مصاديق عبادة الله، سواء كان هذا التوسل بالصالحين في فترة حياتهم أو بعد مماتهم؛ فقد طلب صحابة رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) منه الدعاء والشفاعة. والسرّ في مجانبة هذه الأعمال للشرك أنّ طلباً مثل هذا لا يجري بنيّة الإيمان بألوهية المطلوب منه، أو ربوبيته، بل من أجل المكانة والوجاهة التي يحظى بها عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وقد قال عَزَّ اسمَهُ في كتابه: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكِ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لَمَن يَشَاء وَيَرْضَى) (2). وعليه : فإنّ طلب الشفاعة من الغير ليس بشرط، طالما يجري وفق الإذن الإلهي؛ فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يرضى بالشرط بأي حال.

5 . الرسالة الأهمّ التي أكد عليها الأنبياء هي الدعوة إلى التوحيد في العبادة، ورفض جميع ألوان الشرك. من هنا، يمثل التوحيد العبادي مبدأ عاماً تشترك فيه جميع الأديان السماوية.

6 . يُستفاد من الآيتين 60 و 61 من سورة يس أنّ التوحيد العبادي أمر فطري جبل عليه الإنسان، وأنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد أخذ من الناس جميعاً عهداً تكوينياً فطرياً يدعو إلى رفض عبادة الشيطان.

7. يُستفاد من الآية 5 من سورة البينة أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يرضى إلا بالعبادة الخالصة التي لا يشوبها أيّ قصد أو توجّه لغيره جَلَّ وَعَلا.

8 . تهدينا الآية 99 من سورة الحجر إلى أن منافع العبادة وثمارها لن تكون إلا من نصيب الإنسان نفسه. يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (3)، والمعنى يمكن أن يُفسّر بنحوين: الأوّل: أن يُراد باليقين «الموت»، ويراد ب- (حَتَّى يَأْتِيَكَ )

ص: 115


1- سورة البقرة: 45.
2- سورة النجم: 26.
3- سورة البقرة: 45.

الغاية الزمانية؛ فيكون المعنى أنّ عبادة الله واجبة إلى حين الممات. والثاني: أن اعبد ربّك حتى تبلغ مرحلة اليقين، وتصل إلى مرتبة المعرفة الجزميّة، وهو ما يدل على أنّ العبادة توصل الإنسان إلى مقام اليقين. وهذا هو المعنى الذي تُستفاد منه فلسفة العبادة، والفوائد المترتبة عليها بشكل واضح.

9 . نجد في الآية 56 من سورة العنكبوت مزيداً من التأكيد على عبادة الله تَبَارَكَ 9 وَتَعَالى؛ حيث يأمر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإنسان بالهجرة في أرضه الواسعة، والبحث عن مكان بديل إذا كان بقاؤه في البقعة التي يقطنها يحول دون عبادة الله جَلّ وَعَلا.

10 . إذا ثبتت خالقية الله وربوبيته، فهو وحده من يستحق العبادة؛ دون سواه.

8/4 .إثبات التوحيد في الطاعة :

لما كان الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وحده الخالق والمدبّر للكون والإنسان دون غيره، فتجب إذن طاعته وحده، ولا تجوز الطاعة لغيره ؛ لأنّ الطاعة شأن من شؤون المالكية والمملوكيّة، ولا مالك إلا هو. وبطبيعة الحال، تجب طاعة الإنسان الذي يأمر الله بالانصياع له؛ لأنّ في ذلك امتثال لأمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى. يقول تعالى:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله ) (1).

والآية تشير إلى أنّ الطاعة الله جَلَّ وَعَلا إنّما تصل للغير بإذن منه، ويقول أيضاً:

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله )(2) .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (3).

ص: 116


1- سورة النساء: 64.
2- سورة النساء: 80.
3- سورة النساء: 59 .

(قُلْ أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )(1) .

ولهذا، فإنّ طاعة الرسول والأئمة والفقهاء الجامعين للشرائط والوالدين وغيرهم ممن أمرنا بطاعتهم، إنما جاز لأنه مأذون به من قِبل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى. ومن هنا، فإن إطاعة أئمة الدين تجري باعتبار كونها تجليّاً إلهيّاً، وليست من باب التجافي(2)؛ فالتجلي يعني التنزّل إلى المقصد من دون انتقاص المبدأ؛ بخلاف التجافي الذي يعني الوصول إلى المقصد مع نقص يتوجّه إلى المبدأ . فعندما يهب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لمخلوقة كمالاً ما، لا ينقص ذلك من الله شيئاً. ولهذا فإنّ تنزّل الخالقية والربوبيّة والرازقية والمالكية والولاية والطاعة إلى المخلوق لا يتسبب في سلب كمال أو إنقاص شيء منه جَلَّ وَعَلا. وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الصفات الإلهية قد تتنزل على المخلوق بنحو من التجلّي؛ لا كالمطر الذي إذا هطل من الأعلى إلى الأسفل، استقرّ في الأسفل، وانتفى عن الأعلى.

9/4 . دور الإيمان بالتوحيد:

رغم أن التوحيد يتناول في علم الكلام على أنه عقيدة، وفي علم العرفان بصفته مقاماً ومنزلاً، لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ التوحيد في الإسلام يُعبّر عن حقيقة وعمليّة اهتمّ المتكلّمون بجانبها العقائدي، والعرفاء بجانبها السلوكيّ.

والحق أنّ التوحيد يجب أن ينطلق من الساحة العقائدية، وصولاً إلى فضاءات السلوك التعاملي والروحاني، ونظهر آثار التوحيد في مناحي الأفكار والسجايا والأفعال الفرديّة والاجتماعية.

ص: 117


1- سورة آل عمران: 32 .
2- يفرّق العلماء بين الصدور أو النزول على نحو التجافي، والصدور أو النزول على نحو التجلي؛ أما التجافي فهو أن يظهر الشيء أو ينتقل من موضع إلى موضع آخر، ولكن عند ظهوره في المكان الجديد يفقد المكان الأوّل. وإلى هذا الاستعمال يشير قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: (16) فعندما ينهض الناس لا تبقى جنوبهم في المضجع بل تتجافى عنه وتتباعد. وأما التجلّي فيعني أنّ الشيء إذا صدر أو انتقل من منزل إلى منزل آخر لا يفقد موقعه الأصلي، وهذا يتحقق في الأمور المجرّدة. ويمكن تقريب الحالة بمثال من النشاط العلمي للإنسان، فإذا ما كانت عند الإنسان فكرة في ذهنه، ثمّ عمد إلى كتابتها على الورق، فإنّ هذه الفكرة تكون قد تنزّلت من مرتبة العقل وصارت في مرتبة الورق، من دون أن تفقد مرتبتها السابقة.

إنّ الفرد الموحّد لا يكتفي بعقد القلب على وحدانية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الذات والصفات والأفعال، بل يمكن استشراف الحالة التوحيدية عنده في ملكاته النفسانية، وشتى نشاطاته الفردية والاجتماعية؛ بما يعمّ حراكه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وإن اصطباغ الملكات والنشاطات الفردية والاجتماعية بصبغة التوحيد يعني ألا يقتصر الفرد على تطبيق الشريعة وإخلاص العمل الله عَزَّ وَجَلَّ في اكتساب الفضائل الأخلاقية، وما ينشط فيه من فعاليات سياسية واجتماعية (مثل تأسيس الأحزاب، وإنتاج المنتجات والعلاقات الدولية، والتحصيل، والتدريس، وتهذيب النفس)، بل يرتقي أيضاً لما يجعله يؤمن بأنّ المقدرة والتوفيق، أو الإخفاق والهزيمة منوطة بما تمليه القدرة والربوبية والمالكية والإلهيّة ، وعلى قدر ما تفيضه على الإنسان. والفرد الذي يتصف بهذا اللون من التوحيد لن ينتابه الملل أو الكسل في حياته؛ حتى لو مني بالهزيمة في الحرب، ولن يعتريه الغرور؛ وإن حاز على النصر المؤزّر فيها.

إنّ الإنسان الموحّد لا يترك فعلاً فردياً أو نشاطاً عائليّاً أو اجتماعياً يقوم به إلا ويسيّره في خط العبادة والجهاد في سبيل الله، فتجده على الدوام مستبشراً ونشيطاً ومتطوّراً في حياته بشكل ملحوظ، لا يخبو وهج إيمانه بالقدرة الإلهية، ويخطو جميع خطواته - حتى في إسهاماته السياسية - ليكسب بها رضا ربه.

نعم؛ إنّ التحصيل الدراسي وإنتاج العلم تحت مظلة الرؤية الموحدة يختلف كثيراً عن التحصيل والإنتاج في بيئة مشركة، وللأسف فإنّ العلوم الطبيعيّة والإنسانية في عالمنا المعاصر قد انعقدت نطفها ووُلدت وترعرعت في بيئات تسودها الرؤية المشركة . ولهذا، تجد العالم الفيزيائي والكيميائي والأحيائي - الذي ما فتئ يفتش في أعماق الحقائق والظواهر الطبيعية مثل : الحركة، والأوزان ، والكُتل، والعلاقات المتبادلة بين العناصر الكيميائية ، وكيفيات نموّ الكائنات الحيّة وتحرّكاتها، والعلاقات التي تحكم المجتمعات البشرية، وما إلى ذلك، ويضع لها القوانين والمعادلات العلمية - يتجاهل

ص: 118

العلاقات الطولية التي تربط القوانين الطبيعية والإنسانية بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويُنكر الربوبية التي يتصف بها، والسنن الإلهيّة التي وضعها في الخلق .

إنّ الفرد الموحد ينظر إلى الإنسان والطبيعة من منظار توحيدي، ويرى أنّ قانون القصور الذاتي(1)، أو الجاذبية، أو نسبيّة الكُتل، وما إلى ذلك هي من صنع الله ، ومحكومة بسننه، منطلقاً من أسسه التوحيدية ليلجَ عالم الأبحاث الوصفية والمعيارية الدارسة للعلاقات بين بني البشر. وإنّ هذا المنحى التوحيدي في البحث هو الذي قد يقف أحياناً في وجه بعض نظريات العلوم الإنسانيّة، فيرفضها؛ كما في مثل نظرية «تبعيّة الطلب للاستهلاك» في الاقتصاد الإسلامي.

10/4 .عوامل النزوع إلى الشرك:

تتناظر - أو بالأحرى تتقابل - مراتب الشرك مع مراتب التوحيد؛ فطالما قسمنا التوحيد إلى نظري ،وعمليّ، ثمّ النظري إلى ذاتيّ وصفاتي وأفعاليّ، ثمّ العملي إلى: توحيد في العبادة وتوحيد في الطاعة، فإنّ الشرك أيضاً ينقسم إلى هذه الأقسام باستبدال مفردة «التوحيد» إلى «الشرك».

ينجم الشرك في المراتب التوحيديّة المختلفة من عوامل معرفية ونفسية واجتماعية سَردها لنا القرآن الكريم، كما سيأتي بيانه فيما يأتي:

وردت مفردة «الشرك» في آيات الذكر الحكيم بمعنى إنكار وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، واتخاذ بديل له كاله ،ومعبود، وقد عدّ لنا القرآن مجموعة من العوامل التي شخص أنها تسببت في نزوع المشركين نحو الشرك؛ منها - على سبيل المثال - : العمل بالظنون والأوهام، والنزعة الحسّيّة، والنزعة النفعية، وحالة التقليد الأعمى.

ص: 119


1- قانون «القصور الذائي» - أو ما قد يسمّى بالعربية أيضاً ب- «العطالة» - Inertia : مصطلح فيزيائي يعني مقاومة الجسم الساكن للحركة ومقاومة الجسم المتحرك بتزويده بعجلة ثابتة أو تغيير اتجاهه. وهو معروف بصفته القانون الأول لنيوتن (1642 Newton-1727م). [م]

1/10/4. عامل الظنون والأوهام :

يمثل العمل بالظنّ والركون إلى الوهم أحد أهم العوامل المؤثرة في نزوع الإنسان نحو الشرك . قال تعالى :

(وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهُ إِلَّهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(1) .

(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلُ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ هُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نصير) (2).

(أَلا إِنَّ لله مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) (3).

2/10/4. عامل النزعة الحسّيّة:

الركون إلى الحسّ والإيمان بأصالته هو العامل الثاني من عوامل نزوع الإنسان نحو الشرك. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى:

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلَّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ )(4).

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور) (5).

ص: 120


1- سورة المؤمنون: 117 .
2- سورة الحج: 71.
3- سورة يونس: 66.
4- سورة القصص: 38 .
5- سورة البقرة: 210 .

3/10/4 . عامل النزعة النفعية :

تشكّل حالة البحث عن النفع والفائدة كأصل حياتي إحدى العوامل المؤثرة في ميل الإنسان إلى الشرك. يقول تعالى :

﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُون الله الةٌ لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ) (1).

(وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله آلِهَةً ليَكُونُوا هُمْ عِزّاً)(2).

(ألا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ (3).

4/10/4. عامل التقليد الأعمى :

يعرّف القرآن الكريم حالة التقليد الأعمى للآخرين كأحد العوامل المؤثرة في اعتناق الشرك . يقول تعالى :

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (4).

(قَالُواْ أَجِئْنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (5) .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ )(6).

ص: 121


1- سورة يس: 74.
2- سورة مريم: 81 .
3- سورة الزمر: 3 .
4- سورة الزخرف: 22-23 .
5- سورة يونس: 78 .
6- سورة سبأ: 43.

5 . الصفات الإلهية

1/5. تمهید :
1/1/5 . اتحاد الصفات مع الذات :

طالما أنّ المعرفة الحضوريّة أو الحصوليّة لكنه الذات الإلهية أمر متعدّر وغير ممكن للإنسان، ولما كان تعطيل المعرفة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أمراً محظوراً عند العقل والشرع، فإنّ السبيل الأمثل لاكتساب المعرفة بالله هو الوقوف على صفاته جَلَّ وَعَلا، شريطة ألّا ننزلق في هاوية التشبيه، وألا تُنزّل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى منزلة البشر، ونقيسه بهم.

لقد أوضح لنا القرآن الكريم في سورة الأعراف اتصاف الله عَزَّ وَجَلَّ بالأسماء الحسنى؛ حيث قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(وَ للّه الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (1).

وفد نزّه القرآن الكريم الذات المقدّسة عن أي لون من ألوان المثلية والتشبيه بغيره؛ حيث قال جَلَّ وَعَلا:

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (2).

ونجد هذا المعنى بعينه في الآية 74 من سورة النحل في الآية 4 من سورة التوحيد

هذا، وتنطوي الصفات الإلهية من زاوية تعريفها وتقسيماتها على أبحاث، نعرض لها في ما يلي:

ص: 122


1- سورة الأعراف: 180 .
2- سورة الشورى: 11 .

اتحاد الصفات مع الذات:

الصفات الإلهية مفاهيم كمالية متحدة مع الذات الإلهية (صفاته عين ذاته)، وتتمايز من حيث المفهوم فيما بينها، كما تتمايز من حيث المفهوم أيضاً مع الذات. ولا يستلزم القول بالصفات الإلهيّة أيّ حيثيّة للتكثر في الذات الإلهية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ حقيقة «الاسم» و«الصفة» واحدة ولا يختلفان إلا على مستوى اللفظ والاعتبار الذهنيّ؛ فالاسم هو الذات بضميمة الصفة.

2/1/5 .تقسيمات الصفات الإلهية :

قسم المتكلمون المسلمون الصفات الإلهية إلى : ذاتية وفعلية، وإلى: ثبوتية وسلبية، أو: جمالية وجلالية(1)؛ فإذا انتزعت الصفات الإلهية في مقام تصوّر الذات الإلهية من دون أخذ الفعل الإلهي بعين الاعتبار كانت تلك الصفات ذاتية؛ مثل : العلم والقدرة والحياة الإلهيّة. وإذا انتزعت تلك الصفات في مقام التصوّر من النسبة بين الذات والأفعال - أي ارتبطت بأفعال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - كانت الصفات حينئذ فعليّة مثل : الخالقية والرازقية وما شاكلهما. من الجدير بالانتباه أنّ الصفات الذاتية والفعلية لا تتفاوتان في مقام الإثبات والتصديق؛ بمعنى أنّ كلا الصفات الذاتية والفعلية قابلة للإثبات من دون أيّ التفات إلى الأفعال الإلهية، ويكفي في ذلك توسيط مفهوم «واجب الوجود»، كما أنها قابلة للإثبات أيضاً مع توسيط الأفعال الإلهيّة في عمليّة الاستدلال وتنقسم الصفات الإلهية في تقسيم آخر أيضاً إلى صفات ثبوتية أو جمالية؛ مثل: العلم والقدرة، وصفات سلبية أو جلالية؛ مثل : سلب الجهل والعجز عنه.

ص: 123


1- وقد جاءت التسمية استئناساً بقوله تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ) [سورة الرحمن: 78]، حيث يستفيد بعضهم بأنّ «الإكرام» إشارة إلى الصفات الجمالية التي تكرّمت بها الذات الإلهيّة وتجمّلت بها، في حين أنّ «الجلال» فهو ما جلّت ذاته وتنزّهت عن الاتصاف به [م]
3/1/5 . الجدل حول الصفات الخبرية:

ذهب بعض المتکلّمین إلى استحداث قسم آخر من الصفات الإلهية أسموه بالصفات الخبرية، ومثلوا لها ب- : «العلوّ»، و«الوجه»، و«اليد»، غير ذلك. والصفات الخبرية تعني تلك الصفات التي أخبر عنها القرآن الكريم؛ وإن كانت حقيقتها محلّ نظر واختلاف بين أهل النظر؛ حيث انقسموا في شأنها إلى مذاهب:

1 . نظريّة المجسّمة المشبّهة : وهم من نسبوا الصفات الخبرية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمعانيها وكيفيّاتها البشرية. وقد تصدّى لهذا المنحى جمهور المسلمين، وناقشوه بأدلة عقلية ونقلية؛ لأن الكيفيات البشرية - أياً كانت - تتصف بصفات المخلوق والمعلول، ويمتنع انتسابها لواجب الوجود عقلاً.

2 . نظريّة غالبيّة الأشاعرة: وهم الذين حملوا هذه الصفات على الله جَلَّ وَعَلا بالمعنى المتبادر منها في العرف، لكنهم حاولوا إبعاد تهمة التشبيه عن ساحتهم بالقول: «إنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وجهاً ويداً بلا تشبيه ولا تكييف»(1). وهذا ما مال إليه الشافعي وأبو حنيفة؛ وهو قول لا يحمل في طياته معنى مبرراً ومقنعاً لأهل الدين والإيمان.

3 . نظرية بعض الأشاعرة : وهم الذين وصفوا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذه الصفات، إلا أنهم ارتأوا تفويض أمرها إلى الله جَلَّ وَعَلا ؛ أي: أنهم أعلنوا العجز عن فهم معاني الصفات الخبرية. وهذا القول أيضاً لاينسجم مع شرطية الفهم والمعرفة نسبةً إلى المضمون الإيماني والمعتقد الديني، ويُفضي بالنتيجة إلى تعطيل العقل عن إدراك الآيات والصفات الإلهيّة وهو باطل .

4 . نظريّة المشهور من المعتزلة : وهم الذين مالوا إلى نظرية التأويل، وحملوا ألفاظ

ص: 124


1- يقول الأشعري - رئيس هذا المذهب - : «إنّ لله سبحانه وجها بلا كيف؛ كما قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [سورة الرحمن: 27]، وإنَّ له يدين بلا كيف؛ كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [سورة ص : 75]». انظر: الإبانة الأشعري: ص18. [م]

الصفات الخبرية على خلاف ظواهرها؛ فقالوا في معنى «اليد» - مثلاً - : إنها «النعمة» و القدرة». وقد قصدوا بالتأويل هنا : العدول عن المعنى الظاهري، والتشبث بمعنى مخالف للظاهر. وهنا ننوه بأنّ القدرة» تشكّل إحدى المعاني الظاهرة من لفظ «اليد»؛ وليست تخالف الظاهر كما يقولون.

5 . نظريّة أصوليّي الإمامية وهم يرون تنويع الدلالة اللفظية إلى نوعين:

أوّلاً: الدلالة التصوّرية؛ وهي تعني انتقال الذهن إلى معنى اللفظ بمجرد صدور اللفظ من اللافظ، ولا يُشترط في تحقق هذه الدلالة إرادة اللافظ .

ثانياً : الدلالة التصديقية وهي التي ترتبط بإرادة اللافظ.

قُسّمت هذه الأخيرة إلى تصديقية استعمالية، وتصديقية جدّيّة، فتمسّكوا لإثبات الأولى بوضع الواضع ولإثبات الثانية بسيرة العقلاء وبنائهم.

ولا تتحقق الدلالة التصديقية من دون وجود إرادة استعمالية أو إرادة جدّية. الاستعمال يعني: استخدام اللفظ في المعنى، فإذا كان المعنى المستخدم فيه هو المعنى الذي وُضع اللفظ له فإنّ الاستعمال حقيقي. أما لو استخدم اللفظ لمعنى لم يوضع له اللفظ فالاستعمال عندئذٍ مجازيّ. ولا بدّ في تحقق المجاز أن تكون هناك مناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

وقد انقسم اللغويون فيما يخص الاستعمال المجازي إلى رأيين مختلفين:

*ذهب بعضهم إلى أنّ الاستعمال المجازي يُعدّ تصرفاً في المعنى، فحملوا معنى كلمة «الأسد» في قولك «رأيتُ الأسد الذي فاز بالجائزة العالمية الأولى للمصارعة »على معنى «البطل» أو «الرجل الشجاع».

*وذهب آخرون إلى أنّ الاستعمال المجازي تصرّف في المصداق؛ لا المعنى.

ص: 125

فالأسد لم يتغيّر معناه في المثال المذكور، وله مصداق حقيقي واحد هو ذلك الحيوان المفترس الذي نعرفه ، لكنّ هذا لا يمنع من أن نختلق له مصداقاً ادّعائياً آخر هو ذلك الرجل الشجاع المذكور.

والحق أنّ الاستعمال هو استخدام اللفظ في ما يريده المتكلّم؛ وليس في معنى اللفظ. فإذا كان مراد المتكلّم مطابقاً لمعنى اللفظ كان الاستعمال حقيقياً، وإلا صنف ضمن الاستعمال المجازي. وعليه فمجازيّة الاستعمال تعود إلى عدم التطابق بين مراد المتكلّم ومعنى اللفظ.

ولمزيد من التوضيح نقول : تنطوي عمليّة الاستعمال على ثلاثة عناصر؛ هي: اللفظ والمعنى، والمراد. أمّا حقيقة الوضع فهي إيجاد العُلقة بين اللفظ والمعنى، وأمّا حقيقة الاستعمال فهي إيجاد العلقة بين اللفظ ومراد المتكلّم.

يتضح من هذا، أنّ كلمةً مثل «اليد» من الممكن لها أن ترتبط بأكثر من معنى على نحو العُلقة الوضعيّة؛ منها المعنى المعروف المشير إلى أحد الأطراف، والآخر معنى القدرة. وبالتالي فإنّ هذه المفردة لفظ مشترك، له معنيان حقيقيان، يمكن للمتكلّم في مقام الاستعمال أن يقصد أحدهما.

ولأجل استكشاف مقصود المتكلّم ومراده من اللفظ يجب التدقيق في نوعية التركيب اللفظي والقرائن اللفظية والعقلية الحافّة به؛ فعلى سبيل المثال: عندما يُقال لنا: إنّ الإمارة بيد الأمير، أو (يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (1)، يدلنا تركيب الجملة مع انضمام [1] القرائن العقليّة إلى أن اليد المقصودة هنا ليست تلك اليد الجسمية، فينتفي معنى التجسيم عن ساحة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى . وإذا ما انضمت - علاوةً على ذلك - قرينة لفظية كما قوله عَزَّ اسمَهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ )(2) ، دلّت الألفاظ على أنّ المراد هو

ص: 126


1- سورة الفتح: 10 .
2- سورة الشورى: 11 .

«القدرة». بناءً على ما تقدّم، فإنّ استعمال لفظ «اليد» في معنى القدرة، ليس استعمالاً مجازيّاً، وليس بتأويل، بل هو استعمال للفظ في معناه الحقيقي (1).

والسؤال المركزي هنا هو : لماذا استخدم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في بيان تلك الصفات الخبرية آيات متشابهات؟ يستعرض العلامة الطباطبائي في تفسيره آراء مختلفة بهذا الخصوص، وقد خلص في بحثه هذا إلى أنّ وجود الآيات المحكمة والمتشابهة أمر تقتضيه اللغة والدلالة وعلى هذا الأساس، وبالرغم من إمكانية استخدام مفردة «القدرة» بدلاً عن «اليد»، فإنّ الظرافة التي نجدها في مفردة «اليد» بما توحيه من إحاطة وسيطرة لا نعثر عليها في مفردة القدرة». ومن هنا، فإنّ الاستعاضة عن اليد بالقدرة من ناحية لغوية ودلالية ليس أمراً مستحسناً (2).

4/1/5 . الصفات المشتركة:

البحث الآخر الذي يتناول ضمن إطار أبحاث الصفات الإلهية يتعلق بالصفات المشتركة بين الخالق والمخلوق والسؤال عن طبيعة معنى تلك الصفات عند استخدامها في الله عَزَّ وَجَلَّ وفي الإنسان أيضاً؛ هل هي من باب الاشتراك اللفظي أم المعنويّ؟

يرى بعض المتکلّمین المسلمين أنّ الصفات المشتركة بين الله والإنسان هي ألفاظ مشتركة فعلاً ظانّين بأنّ القول باتّحاد المعنى الذي تدلّ عليه هذه الصفات يستلزم رفع اليد عن واجبيّة وجوده تَبَارَكَ وَتَعَالى، أو القول بواجبيّة وجود الممكن وقد تغافلوا في رأيهم هذا عن إمكانيّة القول بالاشتراك المعنوي الذي يسمح بوجود مصاديق متعدّدة لمفهوم واحد تتفاوت فيه تلك المصاديق من حيث الشدّة والضعف.

ص: 127


1- لاحظ الملل والنحل الشهرستاني، ج1، ص 105؛ الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، محاضرات الشيخ السبحاني، ج1، ص 317 .
2- لاحظ كلام العلامة الطباطبائي في: الميزان في تفسير القرآن ذيل الآية 7 من سورة آل عمران.

وفي هذا السياق، صاغ فيلسوف القرون الوسطى توماس أكويناس (1274م) نظريته المسماة ب-«التمثيل» ( أنالوجي)، مصرحاً فيها بأنّ الصفات والمحمولات التي تُنسب إليه جَلَّ وَعَلا - مثل : العدل، والعلم والقدرة - تُطلق على المخلوقات أيضاً؛ كما ورد في الآيات 13 و 14 من الباب الثالث في سفر الخروج من العهد العتيق، فقد وُصف الله عَزَّ وَجَلَّ بالوجود كما وُصفت المخلوقات بالوجود أيضاً، لكن هذه المحمولات لهذين الموضوعين لا يمكن لها أن تكون من باب الاشتراك اللفظي، ولا الاشتراك المعنوي:

*فمن جهة : هناك حالة الشبه والترابط بين العدل الإلهي والعدل البشري - على سبيل المثال - لكنّ المحمول ((عادل) ليس بمشترك لفظي .

*ومن جهة أخرى هنالك اختلافات قائمة بين الله اللامتناهي والإنسان المتناهي، فهذا المحمول ليس بمشترك معنوي.

وكما يعبّر الفرنسي جيلسون (1979م)(1) فإنّ اللفظ عندما يحمل على موضوع بنحو من الاشتراك المعنوي، فإنّه يُحمل عليه بوصف كونه جنساً، أو فصلاً، أو عَرَضاً؛ وليس أيّ من تلك المحمولات - بهذا المعنى - صالح ليطلق على الله عَزَّ وَجَلَّ.

والدليل على هذا النحو من الاستنتاج يكمن في طبيعة العلاقة القائمة بين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وغيره من الموجودات؛ فإنّه جَلَّ وَعَلا هو الوجود بعينه، وهو - أيّاً كانت حقيقته - كائن باقتضاء ذاته؛ في حين أنّ سائر الموجودات - أياً كانت حقائقها - كائنة باكتسابها الفيض من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وإنّ جميع الكمالات مستندة أوّلاً وبالذات إليه عَزَّ وَجَلَّ، وإنما تُنسب إلى غيره وتُحمل عليه ثانياً وبالعَرَض. ومن جهة أخرى، فلا يمكن الركون إلى تباين كامل وتفاوت تام بين صفات الله عَزَّ وَجَلَّ ومخلوقاته

ص: 128


1- إتيان جيلسون (1884 Étienne Gilson-1978م) فيلسوف ومؤرّخ للفلسفة الفرنسية، وهو أحد الكتاب البارزين في الفلسفة المدرسية الجديدة، ومن المختصين في فكر توماس أكويناس. [م]

حتى يبلغ بنا المقام إلى القول بالاشتراك اللفظي. وبالتالي: فإنّ هذه النظرية - كما يرى روس (1) ( 2010 م) - تسعى لإنقاذ الإنسان من ورطة التشبيه والتعطيل.

لقد استعرض توماس أكويناس (1274م) نظريته التمثيلية هذه التي ابتنت على إنكار الاشتراكين اللفظي والمعنوي في الصفات الإلهية بعد إيمانه بمعنائية القضايا الدینیّة، وكونها قضايا إخبارية ناظرة للواقع . والأمر المهم اللافت في هذا السياق أنّ مفسّري نظرية أكويناس انقسموا في تفسيرهم للتمثيل الأكويني هذا إلى فريقين ورؤيتين:

1 . التمثيل الإسنادي: وهو ما ذهب إليه الفريق الأوّل منها؛ وهو يعني أنّ الصفة قد تكون أصلية بالنسبة إلى موضوع ما ، وقد تكون مجازية. فعلى سبيل المثال عندما يقال: «الله عالم» أو «قادر»، ويقال أيضاً: «الإنسان عالم» أو «قادر»، فإنّ المعنى هو كونه سُبحَانَهُ وَتَعَالى سبباً للعلم والقدرة في المخلوقات، وأن هاتين الصفتين تُنسبان له على نحو المجاز. وهنا، يمكن الخدشة في هذا البيان بأن يقال: إذن ، لماذا لا يجوز لنا أن ننسب الجسمية له جَلَّ وَعَلا؛ فنقول: «الله جسم»، ثمّ نؤوّل ذلك بنفس البيان المذكور لنقول : المقصود هو كونه سبباً للأجسام؟!

2 . التمثيل التناسبي : حيث ارتاه الفريق الثاني؛ وهو ليس الحاصل من عقد مقارنة بين الصفات الإلهية والصفات البشريّة، بل ينتج عن مقارنة تجري بين نسبتين؛ كما لو قسنا مثلاً النسبة القائمة بين الكسرين ، دون أن نقارن بين الأعداد 1 و 2 و 4 مثلاً؛ ففي باب الصفات الإلهيّة والبشرية نقول : النسبة القائمة بين ذات . وصفاته هي نفسها تلك النسبة القائمة بين ذات الإنسان وصفاته. وبخصوص هذه الرؤية يمكن أن نستشكل على هذا التحليل بفقدانه لأيّ معطى معرفي جديد يمكن له أن يزيدنا علماً بالصفات الإلهية، أو يسلّط عليها شيئاً من الضوء(2).

ص: 129


1- جيمس فرانسیس روس James Francis Ross فيلسوف أمريكي اختص بالفلسفة والميتافيزيقيا، وفلسفة الدين والقانون، وكان عضواً في قسم الفلسفة بجامعة بنسلفانيا الأمريكية من عام 1962م حتى وفاته. [م]
2- استفدنا في بيان هذا القسم من المصادر التالية: العقل والعقيدة الدینیّة؛ أسس الفلسفة المسيحية؛ مجلّة المعرفة، مقالة أنالوجي، العدد 19 مجلة رسالة المفيد، مقال بعنوان: في دلالة الصفات الإلهية، العدد 18.

إننا نرى أنّ الخلل الأساسي الذي تعاني منه رؤية أكويناس هو ظنّه وهاجسه الذي يصوّر له الوقوع في فخ التشبيه إذا ما تبنّى نظرية الاشتراك المعنوي بين الصفات الإلهيّة والبشرية، واستنتاجه المصير إلى وحدة مصداقية عند الإيمان بوحدة مفهومية.

و في كلمة واحدة: إنه تورّط في خلط بين المفهوم والمصداق؛ فكم من مفهوم اتحد معناه مع مفاهيم كثيرة أخرى، وكان لكلّ من هذه المفاهيم المتحدة مصاديق متعددة ومختلفة.

وعلى هذا الأساس، قسّم المناطقة المسلمون المشترك المعنوي إلى: «متواطئ»، و «مشكَّك» ، ثمّ عرّفوا المشترك المعنوي المتواطي بأنه مفهوم كلّيّ يصدق على أفراده، ويُحمل عليهم بنحو واحد؛ كما هو الحال في حمل مفهوم «الإنسان» على مصاديقه(1). أمّا المشترك المعنويّ المشكك فقد عرّفوه بأنه المفهوم الكليّ الذي يُحمل على أفراده على نحو الشدّة والضعف ؛ كما في حمل مفهوم «النور» على مصاديقه الشديدة والضعيفة مثلاً (2).

وإنّ صفات مثل: «العلم»، و«القدرة» أيضاً لا يمكن لها أن تنخرط في صنف المشترك المعنوي المشكّك ، فيكون معنى الصفة واحداً، بيد أنه يصدق على الأفراد على نحو الشدّة والضعف ؛ فعلم الله علم لا حد له، وعلمٌ يجب وجوده، وهو عين الذات الإلهيّة، لكن علم الإنسان علم محدود ممكن.

ص: 130


1- المفهوم الكلّي الذي لا يوجد بين أفراده تفاوت في نفس صدق المفهوم عليها هو المسمّى بالمفهوم المتواطئ. ومثاله الإنسان؛ فزيد وعمرو وخالد - إلى آخر أفراد الإنسان - من ناحية الإنسانية سواء، من دون أن تكون إنسانية أحدهم أولى من إنسانيّة الآخر، ولا أشدّ ، ولا أكثر ولا أي تفاوت آخر في هذه الناحية. وإذا كانوا متفاوتين فاختلافهم في نواح أخرى غير الإنسانيّة؛ كالتفاوت بالطول، واللون والقوّة، والصحة والأخلاق وما إلى ذلك. ومثل هذا المفهوم الكلّيّ المتوافقة أفراده في مفهومه يسمّى بالمتواطئ؛ لأنّ التواطؤ يعني هنا التوافق والتساوي، وأفراده - كما تقدّم - متوافقة فيه راجع المنطق، محمد رضا المظفر، ص 71. [م]
2- المفهوم الكلّي الذي يوجد بين أفراده تفاوت في نفس صدق المفهوم عليها هو المسمّى بالمفهوم المشكك. ومثاله: البياض؛ فإذا طبقته على أفراده، تجد - على العكس من المفهوم المتواطئ - تفاوتاً بين الأفراد في صدق المفهوم عليها بالاشتداد أو الكثرة، أو الأولوية، أو التقدّم، فنرى - على سبيل المثال - بياض الثلج أشد بياضاً من بياض القرطاس وكلّ منهما بياض ومثل هذا المفهوم الكلّيّ المتفاوتة أفراده في صدق مفهومه يسمّى بالمشكك؛ لأنّ التشكيك يعني هنا التفاوت راجع المصدر السابق، ص 71-72. [م]
5/1/5 .إثبات الصفات الإلهية:

أقيمت براهين متنوّعة على إثبات الصفات الإلهية نشير إلى بعضها على نحو الإيجاز فيما يلي. ويمكن التدليل على الصفات الكمالية من خلال سلوك طريقين:

أوّلاً من خلال إثبات واجبيّة الوجود له عَزَّ وَجَلَّ، وأنه واجب الوجود بالذات من جميع الجهات؛ لأنّ هذا يستلزم أن يكون تَبَارَكَ وَتَعَالى واجداً لجميع الكمالات الوجوديّة، ومنزّهاً عن أيّ نقص، وإلا جاز فيه الاتصاف بالعدم وإمكان الوجود؛ وهو ما لا يجتمع مع واجبية الوجود بحال.

وثانياً: البرهنة المبتنية على كمالات الممكنات؛ حيث يُستدل بها لإثبات وجود تلك الكمالات فيه عَزَّ وَجَلَّ بنحو أكمل وأتمّ. توضيح ذلك في النقاط التالية:

1 . معلولاته ومخلوقاته سُبحَانَهُ وَتَعَالى حائزة على بعض الصفات الكمالية؛ مثل: العلم، والقدرة، والحياة، وما إلى ذلك.

2 .مبدأ السنخيّة بين العلة والمعلول ينصّ على أنّ الصفة الكماليّة يجب أن تكون موجودة بنحو أكمل وأتمّ في علّتها الحقيقية؛ وذلك لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه؛ إذ كيف يُعقل لعلّة فاقدة للكمال أن تفيض به على معلولها؟! والنتيجة: أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ واجد للصفات الكمالية بنحو أكمل وأتمّ ؛ لأنه العلة المفيضة للوجود، والعلة الأقوى والأكمل من المعلول.

6/1/5 .صفة اللامحدودية:

الموضوع الآخر الذي يتناول على طاولة البحث في الصفات الإلهية هو اتصافه جَلَّ وَعَلا بالإطلاق أو اللامحدوديّة؛ فقد أقيمت براهين متعدّدة على رفض هذه الصفات لأي لون من ألوان الحدّ والقيد . من بين تلك البراهين ما يلي:

ص: 131

1 . الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وجود لا حد له؛ لأنه واجب الوجود، وغني عن الغير، فلما كانت الحاجة ناشئة من المحدوديّة، فإنّ انتفاء الحاجة بنحو مطلق (الغنى المطلق) يدلّنا على كونه غير محدود.

2 .صفات الله عَزَّ وَجَلَّ هي عين ذاته اللامحدودة، والنتيجة: صفاته عَزَّ وَجَلَّ غير محدودة.

2/5 .الصفات الإلهية الذاتية:
1/2/5. العلم الإلهي:

الصفات الإلهيّة الذاتية في علم الكلام هي علم الله وقدرته وأزليته وأبديته وحياته سُبحَانَهُ وَتَعَالى . وفيما يلي مزيد من الأضواء على هذه الصفات:

العلم الإلهي هو أحد صفات الله جَلَّ وَعَلا؛ وهو يعني أنه عالم مطلق، لا سبيل للجهل إلى ساحة قدسه والعلم الإلهي علم لا حد له، وهو عين ذاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وإنّ إحاطته عَزَّ وَجَلَّ تشمل الذوات والأفعال، وتعمّ الكون بأسره؛ بما فيه من صغيرة وكبيرة في مختلف الأزمنة. وهذا العلم متحقق للذات الإلهية بنحو تفصيلي قبل وجود العالم .

وقد تمسّك المتكلّمون لإثبات العلم الإلهي بعدد من الأدلة؛ منها : إثبات العلم الإلهي عن طريق إتقان صنعه وإحكام فعله عَزَّ وَجَلَّ، فالنظام والاستحكام في أفعاله سُبحَانَهُ وَتَعَالى المستكشفة للإنسان من خلال مشاهداته للطبيعة ودراساته في العلوم الطبيعية تدلّ على علم صانعها بما صنع ويستحيل صدور أفعال محكمة متقنة من فاعل غير عالم . وعليه : يثبت علم الله جَل وَعَلا بمخلوقاته(1) .

ص: 132


1- راجع كشف المراد العلامة الحلّي، ص 20.

وقد استدلّ الحكماء في برهان آخر من خلال صفة إمكان الوجود الثابتة لجميع ما سوى الله عَزَّ وَجَلَّ، واستنادها جميعاً في الوجود إلى واجب الوجود. وطالما أنّه تَبَارَكَ وَتَعالى عالم بذاته، وإنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، فإنّ ذلك يهدينا إلى أنّ الإله العالم بذاته وكمالاته، عالم بجميع مخلوقاته أيضاً.

وقد أثبتت آيات القرآن الكريم صفة العلم الإلهي بالانطلاق من اسمي «اللطيف»، و «الخبير»، كما في قوله عَزَّ اسمَهُ: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)(1) . وقد تطرّق المفكّرون المسلمون بعد إثبات أصل هذه الصفة إلى أحكامها؛ نُشير إلى أبرزها فيما يلي:

1 . العلم الإلهي علم حضوريّ؛ لا حصولي فعلمه عَزَّ وَجَلَّ بذاته وأفعاله لا يفتقر إلى وجود المفاهيم والتصوّرات الحصوليّة، بل هو يعلم بذاته وكمالاته وأفعاله بنحو حضوري.

2 . إحاطة العلم الإلهي بكل شيء: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الإحاطة العلمية بكلّ شيء؛ كما في قوله عَزَّ مِن قَائل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (2)، ﴿وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ (3)، (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(4)،( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمُهُ الله وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (5)، ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سَرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلّامُ الْغُيُوب)(6) ، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ

ص: 133


1- سورة الملك : 14.
2- سورة البقرة: 231 .
3- سورة الأنعام: 3 .
4- سورة الأنعام: 59 .
5- سورة آل عمران: 29 .
6- سورة التوبة : 78.

حَبْلِ الْوَرِيدِ) (1)، فإذا ثبتت له سُبحَانَهُ وَتَعَالى صفة الخالقية وشمولية هذه الصفة فهو عالم بجميع أفعاله من دون شك؛ لأنه يمتلك الإرادة والاختيار.

وعلاوةً على هذا الاستدلال، يمكن توظيف دليل النظام هنا ليستدلّ من خلال الانسجام والتناغم المدهش الذي يلفّ العالم ، وكذلك من خلال عدم التناهي الذي يتصف به واجب الوجود وعلّة العلل، وإحاطته المطلقة على الكون أن نصل إلى علمه اللامحدود.

3. العلم الإلهي بجميع المخلوقات قبل الخلق وبعده: فهو عَزَّ وَجَلَّ عالم بالموجودات قبل خلقها، وعالم بها بعد الخلق أيضاً. أما علمه بها بعد الخلق فهو ناتج عن واجديّته لجميع الكمالات في ذاته، ولإحاطة العلّة التامة بمعلومها . وأمّا علمه بها قبل الخلق فهو ناتج عن واجديته جَلَّ وَعَلا الجميع كمالات تلك الموجودات، فهو إذن في مقام الذات عالم بجميع الكمالات، وجميع الموجودات.

4. سمعه وبصره أثبت المتكلمون المسلمون تبعاً لآيات القرآن الكريم اتصافه تَبَارَكَ وَتَعَالى بالسمع والبصر. وقد ذهب الأشاعرة إلى عد هاتين الصفتين - كسائر الصفات الأخرى؛ مثل: العلم والقدرة والإرادة والحياة، والتكلّم - قديمتين وزائدتين على الذات؛ وهو قول يستلزم تعدّد الشريك لذات واجب الوجود.

أما سائر المتكلّمين فقد فسّروا السمع والبصر بعلمه عَزَّ وَجَلَّ بالمسموعات والمبصَرات وبذلك يمثل السمع والبصر الإلهيّان مرتبتين من مراتب علمه عَزَّ وَجَلَّ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الله بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)(2) ، (ليسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (3)، (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (4)، (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ

ص: 134


1- سورة ق : 16.
2- سورة فاطر: 31 .
3- سورة الشورى: 11.
4- سورة البقرة: 244.

لي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء)(1) ، وروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ؛ سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرُ بِغَيْرِ آلَةٍ، بَل يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ)(2). والسؤال المهم المطروح هنا هو :

لماذا أشار القرآن الكريم إلى هاتين الصفتين علاوةً على استخدامه لصفة العلم؟

أو قل : طالما دلّت صفة العلم على مضمون الصفتين، فما الداعي إذن لذكرهما؟

والجواب: لعلّ الاكتفاء بمفردة «العلم» يترك للظانّ مجالاً ليظن أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عالم بالكلّيّات فقط، ولا إحاطة له بالأمور الجزئية والحسية، فاستخدام هاتين الصفتين كفيل بتبديد هذه الشكوك.

5 .صفة الحكمة الحكمة هي الصفة الثالثة التي تُعدّ من لوازم العلم الإلهي . يقول : تعالى: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(3)، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾(4)، ﴿ وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيماً )(5). وقد عُرّفت الحكمة في أمهات المصادر اللغوية - مثل : العين، وصحاح اللغة، ولسان العرب، ومفردات الراغب، وغيرها - بأنها تعني: «العلم»، و«معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم»(6)، و«إصابة الحق بالعلم والعقل»(7)، و«إتقان الأفعال»(8)، وما إلى ذلك. وعلى أي حال، فإنّ الفعل الحكيم هو

ص: 135


1- سورة آل عمران: 38 .
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 83، ح 6.
3- سورة البقرة: 220 .
4- سورة هود: 1.
5- سورة النساء: 130 .
6- النهاية ابن الأثير، مادّة حكم، ج 1، ص 119 لسان العرب، ج 12، ص 140؛ المعجم الوسيط مادة : حكم، ج 1، ص 190. [م]
7- المفردات في غريب القرآن الراغب الإصفهاني، مادة حكم ص127. [م]
8- يُقال : أحكم الأمر؛ أي: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد. انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص1415؛ لسان العرب، ابن منظور، ج 12، ص 143 مختار الصحاح مادة حكم، ص62. [م]

الفعل الصادر عن مصلحة المشتمل على هدف وغرض، وهو لا يتحقق من دون علم مسبق. وطالما أنّ العلم الإلهي بكل شيء فإنّ جميع أفعاله تتصف بالحكمة. ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ الهدفيّة في الله جَلَّ وَعَلَا تُنسب إلى فعله؛ لا إلى ذاته. وهذا يعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ ليس له هدف فاعلي؛ أي: لم يخلق الخلق لرفع حاجة عنده؛ لأنّ الهدف الفاعليّ يستلزم النقص، ويدلّ على استكمال الفاعل، بل هدفيّته عَزَّ وَجَلَّ متوجّهة لأفعاله؛ بمعنى أنه يفعل أموراً تُفضي إلى رفع النقيصة عن أفعاله؛ وإن كانت هذه الأهداف في نهاية المطاف تعود إلى حبّ ذات الفاعل.

6 .صفة الإرادة والمشيئة تندرج الإرادة والمشيئة الإلهيّتان ضمن لوازم العلم الإلهي. وما من شك في أن أفعال الله تَبَارَكَ وَتَعَالى صادرة ومنبثقة من إرادته واختياره. والإرادة على نحوين: تكوينية وتشريعية . أما الإرادة التكوينية فهي تظهر بهيئة أفعال متحققة في عالم التكوين، وأما الإرادة التشريعية فهي تبرز من خلال الأوامر والنواهي في الشريعة الإلهية. وتعني صفة الإرادة الرغبة والمحبّة والقصد، والتصميم على القيام بعمل والقرار المنبثق عن ترجح حكيم. وتعني صفة الاختيار: الرغبة، وتقديم خيار ما على غيره من دون إكراه أو اضطرار. أمّا الإرادة والاختيار في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فتعني : المحبّة، ونفي الإكراه والاضطرار(1).

وبعبارة أخرى تنقسم الإرادة الإلهية إلى قسيمن: ذاتي وفعلي: أما الإرادة الذاتية فهي العلم بالنظام الأصلح في عالم الخلق، أو هي حبّ الكمالات، وأما الإرادة الفعلية فهي عين الإيجاد، وتحقيق الفعل الإلهي . وعليه فإنّ الإرادة الذاتية هي عين العلم، والإرادة الفعليّة صفة من الصفات الإلهية الفعلية. أما الآيات القرآنية المرتبطة بالإرادة الإلهية، فمنها قوله عَزَّ اسمهُ: (إِنَّمّا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن تَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(2) ، وتدلّ هذه الآية على أنّ الفعل الإلهي لا يتخلّف عن الإرادة الإلهية بأي فترة زمنيّة،

ص: 136


1- راجع المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ج 2، ص 9-91 . [النسخة الفارسية]
2- سورة النحل: 40 .

وإذا كانت هناك فترة زمنية تفصل بينهما فهي تتعلّق بعلم الله جَلَّ وَعَلا؛ أي: أنه يعلم بالمخلوقات المادية إن كانت لم تتحقق في الخارج إلى الآن. يقول تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(1). وهناك من الآيات الكريمة ما يوضح المراد الإلهي أيضاً؛ كما في قوله عَزَّ مِن قَائل: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (2) . (يُريدُ الله بِكُمُ الْيُسَر وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسَرْ) (3). ﴿ يُخْلُقُ الله مَا يَشَاء إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(4)، وهي تدلّ على المشيئة الإلهية وشموليتها.

2/2/5. القدرة الإلهية :

القدرة هي الصفة الثانية من الصفات الثبوتية الذاتية للحق عَزَّ وَجَلَّ، وهي تعني: أن يكون الفاعل بنحو إذا شاء فعل، وإذا شاء لم يفعل. وعليه فإنّ كلّ «قادر» هو مريد وذو مشيئة. وكما يتضح من المعنى المتقدّم فإن دائرة قدرة الفاعل تشمل الفعل والترك. ما من شكّ في أنّ واجبيّة الوجود وعلّيّة العلل التي يوصف بها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى تُبيّن وتُثبت القدرة له، إضافةً إلى أنّ دليل النظام كفيل أيضاً بإثبات ذلك.

ویرى الحكماء المسلمون أنّ القدرة الإلهية لا تتعلّق إلا بالممكنات بالذات. أمّا الأمور الممتنعة بالذات، فلا تشملها دائرة القدرة؛ لأنّ المحال الذاتي يتضمّن فرضُه التناقض، وما يتضمّن فرضُه تناقضاً يستلزم تحققه ووقوعه التناقض أيضاً (5).

ومن الأدلة المثبتة للقدرة الإلهية : الاستدلال بحدوث العالم؛ فإذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ فاعلاً موجباً غير قادر، لزم من ذلك حدث الواجب، أو قدم العالم، واللازمان

ص: 137


1- سورة الفتح: 11.
2- سورة القصص: 5 .
3- سورة البقرة: 185 .
4- سورة النور: 45 .
5- كلّ شيء يمكن فيه الوجود والعدم فهو ممكن بالذات، وكلّ شيء تحققه محال فهو ممتنع بالذات.

باطلان، فالملزومان مثلهما، فيثبت أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى قادر مختار. وتستبين الملازمة بين المقدّم والتالي في هذا الاستدلال إذا ما علمنا أن تخلف الأثر عن الفاعل الموجب محال، فإذا كان الواجب عَزَّ وَجَلَّ فاعلاً موجباً لزم أن يتحقق الأثر في الخارج من دون أيّ انتظار ؛ لأنّ الفاعل الموجب لا ينفك عن الفعل. وعليه إما أن ينسب الحدوث إليه جَلَّ وَعَلا، أو يصح قدم العالم؛ وكلاهما باطل(1).

يقول سبحانه وتعالى في هذا الصدد:

(الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(2).

والآية الكريمة - كما غيرها من الآيات الأخرى المشابهة - تدلّ على شمولية القدرة الإلهيّة، وقد عَدَّ القرآن الكريم الوقوف على شموليّة هذه القدرة الإلهية هدفاً من أهداف الخلق. ويقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى أيضاً :

(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾(3) .

والآية الأخيرة تنفي أي لون من ألوان العجز عنه الله عَزَّ وَجَلَّ، وهي هنا تُثبت من خلال الملازمة التي تدلّ عليها شمولية القدرة الإلهية - أصل اتصافه عَزَّ وَجَلَّ بالقدرة. وقد تطرّقت آيات قرآنية عديدة إلى بيان نماذج من قدرته سُبحَانَهُ وَتَعَالى على خلق السماوات والأرض، وإحياء الموتى، ومراحل تطوّر الإنسان، وقدرته على المعاد، وغير ذلك؛ منها قوله عَزَّ اسمه:

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المُوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (4).

ص: 138


1- لاحظ كشف المراد، العلامة الحلّي، ص 12-13.
2- سورة الطلاق: 12 .
3- سورة فاطر: 44 .
4- سورة الأحقاف: 33 .

(الله الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفِ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(1) .

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِونَ إِلا كُفُورًا ﴾(2).

(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمُشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن تُبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)(3).

3/2/5. الأزليّة والأبدية الإلهيّتان:

أثبت المتكلّمون المسلمون بما استوحوه من هدي القرآن الكريم الله جَلَّ وَعَلا وصفين آخرين هما: الأزليّة والأبديّة. والمقصود بهما أنه تبَارَكَ وَتَعَالى قديم من الأزل، وباقٍ إلى الأبد. ويثبت هذا المعنى من خلال اتصافه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بواجبية الوجود بالذات. وإنّ تنزيهه عَزَّ وَجَلَّ عن الحدوث والحاجة إلى العلة من شأنه أيضاً أن يُثبت أزليته. وإنّ وجود واجب الوجود بالذات هو عين ذاته، ولا ينفك عنه، وهذا ما يُفضي بدوره إلى إثبات أزليّته أيضاً. ثمّ إنّ القول بأزليّته جَلَّ وَعَلا يستلزم القول بأبديته.

وبناءً على ذلك، ينتفي في الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى وجود مبدأ، أو غاية له، وكما هو مروي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام):

«لَيْسَ لأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءُ، وَلاَ لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءُ»(4).

وقد دلّت آيات قرآنية كثيرة على أزليته وأبديته؛ منها قوله عَزَّ من قائل:

ص: 139


1- سورة الروم: 54 .
2- سورة الإسراء: 99 .
3- سورة المعارج: 40-41.
4- نهج البلاغة الخطبة 163 .

(وَالله خَيْرٌ وَأَبْقَى)(1).

(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (2).

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(3).

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (4).

4/2/5. الحياة الإلهية :

قبل الولوج في البحث عن حقيقة الحياة الإلهية وإثباتها، ينبغي بدايةً أن نقف على تعريف هذه المفردة، وإنّ العلوم الكفيلة بتقديم تعريف لهذا المفهوم هما: الفلسفة وعلم الأحياء. لقد حاول العلماء منذ القدم أن يقدّموا تعريفاً موحداً لمفهوم «الحياة» ، لكنّهم لم ينجحوا في الاتفاق على تعريف يحظى بالقبول العام، ويتصف بالجامعية والمانعيّة المنشودة.

وقد ذهب جمع غفير من الفلاسفة المعاصرين إلى أن «الحياة» تنطوي على معنى يتجاوز معنى «العلم» ، لكنّهم عجزوا عن تقديم إيضاحات تكشف عنه.

أمّا علماء الأحياء فقد حاروا في تعريف «الحياة» لسنين عديدة، واختار الكثير منهم أن يستعيض عن تقديم تعريف للحياة بسرد مجموعة من خصائصها، وتسليط بعض الضوء على الكائنات الحيّة .

هذا، ويمكن أن تدرس «الحياة» من جهات مختلفة، وتقدّم التعاريف التالية:

ص: 140


1- سورة طه، 73 .
2- سورة القصص: 88 .
3- سورة الحديد: 3 .
4- سورة الرحمن: 26 .

1. التعريف الفسلجي: الحياة نظام قادر على القيام بعمليات رئيسية؛ منها : التغذية، والهضم والدفع والتنفس، والحركة، والنموّ، والإنجاب.

2 . التعريف الاستقلابي (الميتابوليك)(1): الحياة نظام يقوم بتبادل المواد مع البيئة الخارجيّة على نحو الدوام وهو نظام يحافظ على خصائصه العامة مع استمرار هذه العمليّة التبادلية بشكل دائم.

3 . التعريف البيوكيميائي (2): الكائنات الحيّة أنظمة تقوم بتخزين بياناتها الوراثية القابلة للنقل إلى الغير. وتخزن هذه البيانات في الحمض النووي، وتقوم بتنظيم ردود الأفعال الحياتية، وقيادتها من خلال عملية التخليق الأنزيمي(3)، والتركيبات البروتينيّة.

4 . التعريف الجيني (4): الكائنات الحيّة - ابتداءً من الخلية، ووصولًا إلى الإنسان - هي أجهزة تقوم بتنشيط الخلايا الآلية المعقدة وتحريكها بقوة خارقة للعادة، تلك الخلايا التي تنشأ منها السمات والسلوكيّات، وكذلك إنتاج المواد المركبة والمعقدة من المواد الخام البسيطة. وإلى جانب هذه المسارات يمكن للأجهزة الحية أن تؤدّي إلى إيجاد كائنات مثيلة لها بنحو أو بآخر.

ص: 141


1- الاستقلاب - أو الأيض، أو عملية التمثيل الغذائي (Metabolism : هو مجموع التحولات الكيمياوية والفيزيائية التي تمر بها المادة في الخليّة الحيّة. وتقدّم للكائن الحي ما يحتاج إليه من طاقة ومادة. [م]
2- البيوكيمياء - أو الكيمياء الحيوية Biochemistry) - : هي أحد فروع العلوم الطبيعية، ويختص بدراسة التركيب الكيميائي لأجزاء الخليّة في مختلف الكائنات الحيّة؛ سواء كانت كائنات دقيقة؛ كالبكتيريا والفطريات والطحالب أو راقية؛ كالإنسان والحيوان والنبات [م]
3- التخليق الأنزيمي هي العمليّة المسماة أيضاً بالاصطناع الأنزيمي (Enzyme's synthesis). وقد عُرّفت عملية الاصطناع الكيميائي أو التخليق الكيميائي Chemical synthesis بأنها عملية تصنيع مادة كيميائية ما اعتباراً من مركبات كيميائية أوّلية غاية في البساطة تتضمّن العملية استخدام إجراءات فيزيائية وكيميائية، وتتخلّلها طبعاً تفاعلات كيميائية للحصول على المنتج المراد تصنيعه. [م]
4- الجينات - جمع جين Gene وقد عُرّبت إلى المورثة ( وجمعها مُوَرِّثَات) - : هي الوحدات الأساسية للوراثة في الكائنات الحيّة. أمّا علم الوراثة (Genetics) فهو العلم الذي يدرس الجينات والوراثة وما ينتج عنه من تنوّع الكائنات الحية. [م]

أمّا الفلاسفة والمتكلّمون فقد عدّوا الحياة صفة مقارنة للعلم والقدرة؛ فالحياة في النبات والحيوان والإنسان - كما قرّروا - صفة تؤدّي إلى النمو والتكامل، علاوةً على ما تحمله في طياتها من العلم والقدرة. والحياة التي ننسبها الله عَزَّ وَجَلَّ هي صفة كمال غير محدود، وهي عين الذات الإلهيّة، ولا تؤدّي إلى تكامل تلك الذات؛ لأنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى موجود كامل ؛ وليس مستكملاً .

والدليل على إثبات الحياة الإلهيّة أنّ الحياة صفة كمال، ويجب في خالق الكمال أن يكون واجداً له؛ لأنّ الموجود الفاقد لكمال ما لا يمكن له أن يكون موجداً له. فإذن: الله عَزَّ وَجَلَّ متّصف بصفة الحياة.

لقد اقترنت صفة «الحياة» في القرآن الكريم بصفة «القيموميّة»، وهذا يعني أنّ الله جَلَّ وَعَلا متصف بالحياة، أنّ ذاته قائمة بنفسها، وكلّ ما سواه قائم به. يقول تعالى:

(الله لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ)(1).

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيَّ الْقَيُّوم وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)(2).

3/5 .الصفات الإلهيّة الفعلية:

الصفات الإلهية الفعلية صفات تُنتزع من خلال مقارنة الذات الإلهية والفعل الإلهي. وهذه الصفات لا تتحد الذات؛ أي أنها ليست عين ذاته عَزَّ وَجَلَّ.

مع وهي تُنسب إليه بعد صدور الفعل عنه. وهي صفات مثل: «الخالق»، و«الفاطر»، و «البارئ»، و«البديع»، و«المصور»، و«المالك»، و«الحاكم»، و«الربّ»، و«الولي»، و «الرقيب»، و«الرزّاق»، و «الكريم»، و«الكافي»، و «الشفيع»، و«الغفّار»، و «السلام»، و«المؤمن»، و«الهادي»، و«التوّاب»، و«العفو»، و«اللطيف»، وغيرها من الأسماء

والصفات المشابهة. وكلّها صفات فعليّة ورد ذكرها في القرآن الكريم.

ص: 142


1- سورة البقرة: 255 .
2- سورة طه: 111 .

و سنشير في ما يلي - على سبيل المثال فقط - إلى مجموعة من الصفات الفعلية التي وردت في القرآن الكريم، مسلّطين الضوء على أبرزها لما يتحلّى به من أهميّة :

1 . الخالقيّة الإلهية:(قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ (1)، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ)(2).

2 . البارئ (الخالق لا عن مثال سابق): ﴿هُوَ الله الخالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ)(3).

3 . الفالق : ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ)(4) .

4. البديع : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (5) .

5 . المالك: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ) (6).

6 . الحاكم : ﴿وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ﴾ (7).

7. الربّ : ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلَّ شَيْءٍ) (8).

8 . العزيز الحكيم (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (9).

9 . الوليّ: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ )(10) .

ص: 143


1- سورة الرعد: 16.
2- سورة الحجر: 86.
3- سورة الحشر : 24 .
4- سورة الأنعام: 96 .
5- سورة البقرة: 117 .
6- سورة آل عمران: 26 .
7- سورة الأعراف: 87.
8- سورة الأنعام: 164.
9- سورة البقرة: 209 .
10- سورة الشورى: 9.

10 . الحافظ : فَالله خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (1).

11 . الرقيب: ﴿وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ (2).

12 . الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن:(هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المُلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ)(3).

13 . الرزاق:( إنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المتين ﴾(4).

14 . الغنيّ الحميد: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾(5).

15 . الفتاح العليم: (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (6).

16 . الرؤوف الرحيم: (إِنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (7) .

17 . الغفور الودود: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ (8) .

18 . اللطيف الخبير : ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ)(9).

19. الحفيّ: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) (10).

ص: 144


1- سورة يوسف: 64.
2- سورة الأحزاب: 52 .
3- سورة الحشر : 23 .
4- سورة الذاريات: 58 .
5- سورة البقرة: 267 .
6- سورة سبأ: 26.
7- سورة البقرة: 143 .
8- سورة البروج: 14.
9- سورة الأنعام: 103.
10- سورة مريم: 47 .

20 . الشكور: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ (1).

21 . الشفيع والولي: (لَيْسَ هُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (2).

22 . الوكيل: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾(3).

23 . الكافي: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ (4).

24 . الحسيب وسريع الحساب وأسرع الحاسبين وسريع العقاب: ﴿وَكَفَى بِالله حَسِيبًا) (5)، ﴿ وَاللهُ سِرَيعُ الْحِسَابِ) (6)، (وَهُوَ أَسْرِعُ الحَاسِبِين) (7)، ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (8).

25. القاهر والقهار: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾(9) ، ﴿ أَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(10).

26 .المحيي: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)(11) .

27 . الشهيد: (وَالله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) (12).

ص: 145


1- سورة الشورى: 23 .
2- سورة الأنعام: 51.
3- سورة الأنعام: 102.
4- سورة الزمر: 36.
5- سورة النساء: 6.
6- سورة البقرة : 202.
7- سورة الأنعام: 62.
8- سورة الأنعام: 165.
9- سورة الأنعام: 18.
10- سورة يوسف: 39.
11- سورة الروم: 50.
12- سورة آل عمران: 98 .

28 . الهادي والنصير : (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (1).

29 . الخير: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (2)، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين) (3)، ﴿ وَهُوَ خَيْر الْفَاصِلِينَ)(4) ، ﴿وَأَنتَ خَیرُ الْفَاتِحِينَ)(5) ،(وَالله خَيْرُ الرَّازِقِين)(6).

30. المتكلّم: (وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا) (7). والمراد من الكلام الإلهي تلك الحروف والأصوات التي تُحدثها القدرة الإلهية بنحو معيّن في بعض الحقائق الخارجيّة؛ مثل: الشجرة، والملائكة، وقلب الرسول .. وعليه فإنّ الكلام لا ينتمي إلى الصفات الإلهية الذاتية، ولا يُعدّ قديماً أو قائماً بالذات الإلهية، بل يمثل واحداً من المخلوقات التي خلقها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى . والكلام الصادر من الشجرة، أو القادم من الملك على هيئة كتاب سماوي هو كلام إلهي بلا شك. هذا، ويرى الأشاعرة أنّ كلام الله جَلَّ وَعَلا ليس من سنخ الأصوات والحروف، بل هو مفاهيم قديمة قائمة بالذات الإلهية، أسموه ب- «الكلام النفسي. أما التكلّم باللسان فهو من عوارض الجسم، ويُعدّ الصفات السلبية له عَزَّ وَجَلَّ (8)؛ لأن واجب الوجود منزّه عن أي أمر جسمي ومادّيّ. وردّاً على ما تقدّم نقول : إنّ القول بقدَم الكلام النفسي، أو قيامه بالذات الإلهية، يتنافى مع التوحيد الذاتي، إلّا إذا قلنا أنّ الكلام النفسي مرتبة من مراتب العلم الإلهي الذاتي، وعندئذٍ يكون متحداً مع الذات. والحصيلة أنّ الكلام يعني خلق الأصوات في الموجودات الإمكانيّة من قِبَل الله عَزَّ وَجَلَّ، وهو من الصفات الفعلية.

ص: 146


1- سورة الفرقان: 31 .
2- سورة المؤمنون: 109 .
3- سورة الأعراف: 87.
4- سورة الأنعام: 57.
5- سورة الأعراف: 89 .
6- سورة الجمعة: 11.
7- سورة النساء: 164.
8- أي: يُقال: إن الله ليس متكلّما بلسان. [م]

31 . الصادق: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثًا ﴾(1) ، ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ ﴾ (2). ومن الجدير بالذكر هنا أنّ القائلين بالحسن والقُبح العقليّين يمكن لهم أن يبرهنوا عقليّاً على صدق الكلام الإلهي، أما المنكرين لهذه القاعدة الكلامية - وعلى رأسهم الأشاعرة - فلن يتسنّى لهم صنع ذلك .

32. العدل الإلهي: وهو موضوع شكّل في بدايات التاريخ الإسلامي أحد أبرز النقاشات والمجادلات الكلامية، وأكثرها ضراوةً وحِدّةً. وفيما يلي مزيد من الضوء على هذه الصفة.

1/3/5. العدل الإلهي:

تمتلك الكائنات في نظام الخلق قابليّات وإمكانيات واستعدادات معينة، ونظراً إلى اتصاف الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بالخير والفيّاضيّة المطلقة فإنه يُفيض على كلّ كائن الكمال الممكن له، ويضع كلّ شيء في موضعه، ويعطي كل ذي حق حقه. وبالتالي: فإنّ نسيم عدله جَلَّ وَعَلا قد غطّى عالم التكوين والتشريع بأسرهما في الدنيا وفي الآخرة. وما من شكّ في أنّ المفكرين المسلمين لا يختلفون على صفة العدل بما هي صفة يتصف بها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، لكنّ موضع النقاش هنا يكمن في الأساس والدليل الذي تبتني عليه هذه الصفة.

وبناءً على ما تقدّم، فإننا هاهنا أمام مبحثين:

*المبحث الأوّل: هو الأساس الذي يبتني عليه العدل الإلهي في مدرسة العدلية، والمدارس المخالفة لها؛ أي قضيّة الحسن والقبح الذاتيّين العقليين عند العدلية، وقضيّة الحسن والقبح عند غيرهم.

ص: 147


1- سورة النساء: 87.
2- سورة آل عمران: 152 .

*المبحث الثاني: هو الدليل العقليّ الدال على العدل الإلهيّ.

2/3/5 . الحُسن و القبح العقليان والشرعيّان:

آمنت طائفة من المسلمين عُرفت ب«العدلية» بأن الحسن والقبح أمران ذاتيان عقليّان. وذهب هؤلاء وهم المعتزلة والإماميّة إلى أنّ الأفعال تتصف بهاتين الصفتين بلحاظ ذواتها، أو بلحاظ صفة معيّنة أو وجوه واعتبارات مشتملة على الحسن و القبح؛ فعلى سبيل المثال : يتصف مفهوم «العدل» بالحسن ذاتاً، ويتصف مفهوم «الإحسان» بالحسن نظراً لاندراجه تحت مسمى «العدل»، وكذا «ضرب اليتيم لتأديبه»؛ لأنه «تأديب». وإنّ الحسن والقبح الذي هو ذاتي للأفعال هو الذي اتخذه الله عَزَّ وَجَلَّ معياراً ومقياساً لصدور أفعاله وأحكامه التشريعية؛ وهو معنى «العدل».

وتُكتشف ذاتيّة الحسن والقبح في الأفعال من خلال العقل والشرع. وعليه: فإنّ العدلية تؤمن بالحسن القبح الذاتيين في مقام الواقع والثبوت، وبالحسن القبح العقليين الشرعيين في مقام المعرفة والإثبات.

ويعني الحسن والقبح الذاتيّان أنّ كلّ فعل ينطوي على حسن أو قبح نابع من ذاته؛ مع غضّ الطرف عن فاعله. أما الحسن و القبح العقلي الشرعي فيعني أن عقل الإنسان قادر على إدراك عموميات الحسن و القبح وبعض من جزئياته ومصاديقه، أمّا الوقوف على كثير من تلك الجزئيات فهو متروك للشرع.

وفي الجهة المقابلة، يُنكر الأشاعرة وجود معيار أو مقياس تُقاس به الأفعال الإلهية، وينفون أن يكون معنى العدل الإلهي انطباق الأفعال الإلهية على قوانين العدل، ويذهبون إلى أنّ العدل ما يفعله الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ فكلّ ما يصنعه هو عين العدل وأنّ فعله هو المعيار الذي يجب أن تُقاس به الأمور؛ لا أن تُتوّج قوانين الحسن والقبح في الأفعال مقياساً للعدل الإلهي.

ص: 148

وذهبوا - علاوةً على ذلك - إلى أنّ الحسن و القبح في مقام الواقع والثبوت شرعيّ، وفي مقام المعرفة والإثبات شرعي أيضاً، هذا يعني أن معرفة الإنسان بمصاديق الحسن والقبح في الأفعال منحصرة في سلوك طريق النقل، أما العقل فهو قاصر عن الوقوف على هذه الحقائق. وعلى أساس من هذه الرؤية، إن أراد الله جَلَّ وَعَلا أَن يُلقي المؤمنين بل الأنبياء - في نار جهنم، وأن يُنعم الكفّار والمنافقين في جنات النعيم، فليس في هذا أيّ قُبح، بل هو حسن جميل.

لقد تسبّب هذا النقاش الجاد في أن تتحوّل هذه الصفة إلى مبدأ مستقل تتناوله المصنفات الكلاميّة في أبحاثها، وحاصل الكلام أنّ المسلمين من خارج المدرسة العدلية يرون أنّ «كلّ ما يصنعه الحبيب جميل»، في حين أن العدلية تقول: «الحبيب لا يصنع إلّا الجميل».

تمسكت العدليّة لإثبات نظريتها بعدد من الأدلة؛ من أهمها ما يلي:

إننا إذا لم نقل بالحسن والقبح الذاتيين والعقليين، فلن يثبت إذن أصل الحسن والقبح الشرعيين؛ لأنّ العلم بحسن الأوامر والنواهي الإلهية سيكون متوقفاً على قبح الكذب؛ أي: إذا كان الحسن و القبح شرعيّين - لا ذاتيّين - فإنّ الفعل الذي يتعلّق به الأمر الإلهي هو الذي سيتصف بالحسن ، والفعل الذي يتعلّق به النهي الإلهي هو الذي سيتصف بالقبح، ولن يكون هناك وجود لحسن أو قبح سابق على الأمر والنهي الإلهيين.

وهنا نتساءل: هل الأمر والنهي الصادر عن المولى تَبَارَكَ وَتَعَالَى صادق أم كاذب؟ إن قلت: إنه صادق؛ لأنّ صدور الكذب منه قبيح، تساءلنا: لم هو قبيح؟ وما سبب استحالة صدور الكذب عنه عَزَّ وَجَلَّ ؟ هل لأنّ قبح الكذب ذاتي ؟ أم لأنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قبّحه في القرآن الكريم؟

ص: 149

أما الجواب الأوّل: فهو يُثبت المطلوب؛ أي أنّ الحسن والقبح ذاتيّان عقليّان، وأمّا الجواب الثاني: فيستلزم الدور أو التسلسل ؛ لأنّ هذا السؤال مطروح عن تلك الآيات التي أثبتت الحسن أو القبح أيضاً وعليه فإنّ الأشاعرة مضطرون إلى القول بذاتيّة الحسن و القبح، وعقليتها (1).

إن قلت: إنّ الحكم بالحسن والقبح الصادر عنه عَزَّ وَجَلَّ إنشائي؛ لا إخباري، والإنشائيات ليست كالقضايا الإخبارية قابلة للصدق والكذب!

قلنا : الإخبار عن القضايا الإنشائية قابل للصدق والكذب؛ لأنّ كماً هائلاً من الجمل الإنشائية والإخبارية الواردة في القرآن الكريم يعتمد أو يرتهن صدقه - من خلال صدق الإخبار عنها - على التثبت من ذلك؛ وهو أمر قابل للوقوع.

3/3/5 .إثبات العدل الإلهي :

استدلّت العدليّة على العدل الإلهي عقلياً بأنه إن لم يكن الله جَلَّ وَعَلا عادلاً، لثبت له الجهل، أو العجز أو الحاجة، أو الحسد أو اتباع الهوى، أو ما شاكل ذلك صفات دالّة على النقص مما له دخل في حدوث الظلم أو دوافعه وطالما أنّه عَزَّ وَجَلَّ عالم وقادر وغنيّ على الإطلاق، ومنزه عن أي نقيصة، فلا يُعقل أن يصدر منه أي ظلم.

وقد أشارت آيات الذكر الحكيم إلى إثبات العدل، وتنزيه المولى تَبَارَكَ وَتَعَالى عن أي لون من ألوان الظلم في لفيف من الآيات الكريمات؛ نشير إلى بعض منها فيما يلي:

1. نفي الظلم عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)(2)؛ حيث يُستفاد . من هذه الآية أنّ الظلم لا يجتمع مع الربوبية الإلهية، وأن مقتضى الربوبية هو رعاية

ص: 150


1- لاحظ شرح تجريد الاعتقاد القوشجي، ص 338.
2- سورة الكهف: 49.

المخلوقات وتكاملهم، وليس صبّ جام الظلم والجور عليهم، مما يستلزم انتقاصهم؛ وهو ما يتضادّ مع تكاملهم(1).

2 . نفي الظلم عنه يوم القيامة: ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(2) ، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا )(3) .

3. ظلم الناس لأنفسهم: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(4) ، ووفقاً لهذه الآية والآيات الآخر فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا يوجه ظلما لأحد، وإذا وجد الظلم في هذا العالم فهو من ناحية الناس الظالمين لأنفسهم(5).

4 . الأمر بالعدل والعمل به: (شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إلا هو والملائِكَةُ وَأُولُوا العلم قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا )(6)، (الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ (7)، ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِبْنَاء ذِي الْقُرْبَى)(8)، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾(9) ، (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله) (10)، وهذه الآيات تدلّ على الحسن والقبح الذاتيين والعقليين؛ أي أنّ الأفعال - في ذواتها - إمّا حسنة أو قبيحة، أما الأمر

ص: 151


1- راجع قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَيِّ مَن يَشَاء وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ سورة النساء: 49 (تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لَلْعَالَمِينَ) سورة آل عمران: 108.
2- سورة يس: 54 .
3- سورة الأنبياء: 47.
4- سورة يونس: 44.
5- راجع قوله تعالى: (فَما كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) سورة التوبة: 70 (فَما كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) سورة الروم: 9.
6- سورة آل عمران: 18 .
7- سورة ص: 28.
8- سورة النحل: 90 .
9- سورة الأنعام: 115.
10- سورة المائدة: 8 .

والنهي الإلهيان فهما صادران على أساس من الحسن القبح والمصالح والمفاسد الذاتية في الأفعال.

وقد أورد بعض المخالفين لنظرية الحسن و القبح الذاتيين والعقليين إشكالاً مفاده أن الأفعال إذا كانت تتسم بالحسن والقبح الذاتيين، فلم تكون بعض الأفعال حسنة في ظروف ما، وقبيحة في ظروف أخرى؟! فعلى سبيل المثال: إنّنا نَصفُ «ضرب الطفل اليتيم للتأديب بالفعل الحَسَن، في حين أننا نصف ضرب الطفل اليتيم لإيقاع الظلم والحيف عليه» بالفعل القبيح.

وقد أجاب كبار علماء الأخلاق والكلام على هذه الشبهة بجوابين هما:

*أوّلاً: إنّ الكذب قبيح ومذموم على الدوام؛ ولا استثناء فيه، لكن إذا تزاحم في وقت ما فعلان لا يمكن الجمع بينهما بحال، يحكم العقل بشكل مؤقت بتقديم الأهمّ على المهم؛ فعلى سبيل المثال : إذا تزاحم الكذب الذي هو قبيح في جميع الأوقات، وكذا الصدق الذي هو حسن في جميع الأوقات مع إنقاذ نفس محترمة، حكم العقل بشكل مؤقت بجواز إنقاذ هذا الإنسان عن طريق الكذب إن تطلب الأمر. وما من شكّ في أنّ التوري(1) أرجح من الكذب إذا أمكن العمل بها.

*ثانياً: إنّ الذي يتصف بالحسن و القبح ليس هو ظاهر الأفعال، بل حقائقها؛ فالظاهر من ضرب اليتيم أنه فعل يمكن أن يدلّ على معنيين مختلفين ينضوي كلّ منهما تحت مسمّى «العدل» تارةً، وتحت مسمّى «الظلم» تارةً أخرى؛ فإذا قصد به «التأديب»، وراعى فيه المؤدِّبُ شروط التأديب وحدود الضرب المجاز كما ينبغي ،التحق هذا المصداق من الضرب بمصاديق العدل، واتّسم بالحسن. أمّا لو قصد به الظلم والجور، فهو إذن قبيح.

ص: 152


1- «التورية» هي الحديث بشكل يوهم المتلقّي معنى آخر غير المعنى الصادق الذي أراده المتحدّث.
4/5 . الصفات الإلهية السلبية:

بعد الفراغ من بيان الصفات الثبوتية، أو ما يعبّر عنها أيضاً بصفات الجمال الإلهية وإثبات ذلك، يصل الدور إلى استعراض الصفات السلبية، أو ما يُعبّر عنها بصفات الجلال الإلهيّة؛ مثل: «الجسميّة»، و«التركّب»، و«الرؤية»، و«التأيّن»، و«التوقت»، و «الحاجة»، و«التغيّر»، وما إلى ذلك، ثمّ التطرّق إلى إثباتها، والتدليل عليها .

لقد أثبتنا في ما مضى من أبحاث أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ غنيّ عن أي شيء؛ لأنّ واجب الوجود هو موجود مستغن في تحققه وكمالاته عن الغير، والوجود هو عين ذاته. وبهذا المنحى يمكن لنا أن ننزّه الباري جَلَّ وَعَلا عن الجسميّة أيضاً؛ لأنّ كلّ جسم ممكن الوجود، ومحتاج للغير. وإذا انتفت الجمسية عنه عَزَّ وَجَلَّ فرؤيته بالعين المادّيّة الجسميّة منتفية أيضاً .

هذا، وننوه هنا بأنّ المسلمين انقسموا حيال موضوع رؤيته إلى ثلاثة طوائف:

1 . نظرية الإمامية وهي أوّل نظرية ذهبت إلى امتناع رؤيته سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالعين المادّيّة في الدنيا وفي الآخرة؛ وإن جازت رؤيته بالعين الباطنية والعلم الحضوري.

2. نظرية المجسّمة : وهي الطائفة التي لم تتورّع عن الذهاب إلى جسميّته عَزَّ وَجَلَّ، وبالتالي فهي لم تمانع من جواز رؤيته .

3 . نظريّة الأشاعرة وهي من أبرز فرق أهل السنّة، وقد ذهبوا مع تنزيههم له تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن المادّيّة الجسميّة إلى أنّ رؤيته في الآخرة ممكنة، وليس هناك يمنع ما تحققها، وقد رأوا أن المؤمنين ينظرون إليه جَلّ وَعَلا في الآخرة بعيون مادّيّة، من دون حاجة إلى إثبات الجهة، أو التأين في رؤيتهم تلك.

ويكفي في إبطال النظريتين الأخيرتين قليل من التأمّل ؛ لأنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى ليس بجسم، ولا مراء في أنّ الرؤية المادية تتطلب جهةً، ومكاناً، وجسماً مرئياً؛ وهي صفات لا تتلاءم والذات الإلهية المقدّسة.

ص: 153

وقد دلّت آيات الكتاب العزيز على نفي الرؤية البصرية إليه عَزَّ وَجَلَّ في أكثر من موضع ؛ منها قوله عَزَّ اسمه :

(لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) (1).

﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوا كَبِيرًا ﴾(2) .

﴿وَلمّا جَاء مُوسَى لِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِن انظُرُ إلَى الجَبَل فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) (3).

وليست هذه الآيات تدلّ على نفي الرؤية البصريّة إليه وحسب، بل إنّها توبّخ أيضاً القائلين بذلك، والطالبين له؛ وإن كانوا من الأنبياء. ولا شكّ في أنّ طلب النبي موسى (علیه السّلام)، وذهابه إلى الطور من أجل الحصول على الردّ الإلهي، لم يكن إلا بعد تعنت وإلحاح شديدين مارسه بنو إسرائيل، وتلته أحداث عجيبة سردها لنا القرآن الكريم. ويتأتى لنا هذا المعنى أيضاً من قوله عَزَّ مِن قَائل:

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّه جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ )(4).

ومن كلام موسى (علیه السّلام) في سورة الأعراف :

(سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ) (5) .

ص: 154


1- سورة الأنعام: 103 .
2- سورة الفرقان: 21 .
3- سورة الأعراف: 143 .
4- سورة البقرة: 55.
5- سورة الأعراف: 143

حيث تدلّ الآية على أنه (علیه السّلام) كان مؤمناً بالقول الحق الذي تلقاه من ربّه منذ أوّل الأمر، ولم يتقدّم بهذا الطلب إلا بعد ضغوط قومه، وإصرارهم على ذلك.

هذا، وقد تمسك القائلون بجواز الرؤية ببعض الآيات القرآنية التي هي في الأعم الأغلب آيات متشابهات؛ مثل قوله عَزَّ اسمه:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (1).

لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ مفردة «ناظرة مشتقة من «النظر»؛ وهو اسم يدلّ على معنين أوّلهما: الرؤية، والثاني: الانتظار . ولذا لا يجوز تفسير الآية من دون أن نأخذ هذا الاختلاف بعين الاعتبار، كما لا يجوز غضّ الطرف عن قوله عَزَّ مِن قَائل: ﴿وَلَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ (2)، وبالتالي : يتوجب نفي معنى الرؤية من الأساس.

ومن الآيات التي تمسكوا بها في هذا الخصوص أيضاً : قوله عَزَّ اسمَهُ:

(كَلَّا إِنّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(3) .

فاستنتجوا منها أنّ رؤية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى جائزة يوم القيامة؛ في حين أنّ نفي الحجب لا يدلّ على ما ادعوه من الرؤية البصرية.

وقد نزهت آيات قرآنية أخرى الله عَزَّ وَجَلَّ عن التأين والتموضع في مكان أو محل؛ وذلك لأنه من لوازم الجسمية، ونفي الجسمية يستلزم انتفاء لوازمها أيضاً، وبالتالي: يجب تنزيهه جَلّ وَعَلا عن الزمان والمكان أيضاً. يقول تعالى :

(وَالله المُشْرِقُ وَالْمُغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾(4).

ص: 155


1- سورة القيامة : 22-23 .
2- سورة الأنعام: 103.
3- سورة المطفّفين: 15.
4- سورة البقرة: 115 .

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (1) .

فإذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ مع الجميع، وكان - كما عبّرت سورة ق - «أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو معنا أينما كنّا، فمن الواضح أن حضوره هذا يعني الإحاطة الوجودية - لا الإحاطة المكانيّة - ؛ إذ إنّ العلة الموجدة محيطة بمعلولها، وهي مسيطرة ومهيمنة عليه.

ص: 156


1- سورة الحديد: 4 .

6 .الأفعال الإلهية

1/6 .نطاق معرفة الأفعال الإلهيّة:

يمثل البحث عن الأفعال الإلهيّة أحد مباحث الإلهيات بعد إثبات وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ،والصفات الإلهيّة. وإن عالم الممكنات بأسره يُعدّ من أفعال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ بما فيه من كائنات مجرّدة ومادّيّة، ملائكةً أو شياطين، وبما فيه من الجنّة والناس والحيوانات والنباتات والجمادات.

وفي مطلع هذا البحث ينبغي علينا الردّ على سؤال مهمّ في هذا الباب؛ وهو: هل من المطلوب هنا أن نتطرّق إلى جميع ألوان الفعل الإلهي، ونبحث فيه عن معارفها جميعاً، وعن كلّ ما يتطلبه أمر التعرّف عليها؟ وبعبارة أخرى: هل يجب أن ندرس في علم الكلام كلّ ما يتعلّق بعلوم معرفة العالم والطبيعة والإنسان والجن والملك، وحتّى الذرّة والإلكترون؟ وبالتالي تنضوي جميع العلوم تحت راية علم الكلام؟

من الواضح أنّ الجواب سلبيّ؛ لأنّ البحث عن المخلوقات والممكنات في علم الكلام إنما يجري من حيث استنادها إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وارتباطها بصفاته، ولا يتطرّق فيه إلى القضايا الجزئية والأحكام الخاصة؛ لأنها متروكة إلى علوم أخرى تكفّلت بها. وإنّ علوماً مثل معرفة الإنسان الدینیّة أو معرفة الطبيعة الدینیّة أو معرفة المعالم الدینیّة هي علوم مستقلّة، ينبغي على الحوزات ومؤسسات العلوم الإسلامیّة أن تقوم بالعمل الدؤوب من أجل تأسيسها واستخراج موضوعاتها من الكتاب والسنة، لتصاغ في هيئة علوم مستقلّة، ويُحترز بذلك عن تضخيم علم الكلام بما يؤدّي إلى وهن تلك العلوم وانكفائها، وإلى تضعيف علم الكلام أيضاً.

ص: 157

وعليه: فإنّ البحث عن الأفعال الإلهية بما يشمل المخلوقات والممكنات في علم الكلام هو بحثُ عنها من جهة انتسابها إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وصفاته، ولا يجري الحديث هنا عن أحكامها الخاصة التي يوكل أمرها إلى علوم مستقلة أخرى.

أما البحث عن «الجبر والاختيار» وهو من أبرز أبواب علم معرفة الإنسان، أو البحث عن «القضاء والقدر» وهو من أهم أبواب علم معرفة العالم ضمن الأبحاث الكلاميّة، فهو جارٍ لأنهما مرتبطان بصفتي العلم الإلهي والقدرة الإلهية، ولأنّ هذين الموضوعين أثارا مشكلة معرفية مرتبطة بالفاعلية الإلهية، وهي إحدى صفات الله جَل وَعَلا ، فاستدعت منا الحل والشرح في علم الكلام. ولأجل الصلة الوثيقة بين بعض الصفات الإلهيّة ؛ مثل: «العدل»، و«الحكمة»، و«الهداية» من جهة، والمباحث المرتبطة بمعارف الدين والإسلام والنبوة والإمامة والمعاد من جهة أخرى، يجري تناول هذه الأبحاث في علم الكلام بمزيد من الإسهاب والتفصيل.

تأسيساً على ما تقدّم ، يتسم البحث عن الأفعال الإلهية بجهتين :

أوّلاً: من حيث الأحكام العامة للأفعال الإلهية؛ مثل: البحث عن سبب حاجة الممكنات إلى الواجب تَبَارَكَ وَتَعَالَى، النسبة بين الفاعليّة الإلهية وفاعلية المخلوقات، ومثل أبحاث القضاء والقدر الإلهيين، والنظام الأحسن في العالم، والبحث عن شبهة الشرور والآلام.

وثانياً: استعراض بعض مصاديق الأفعال الإلهية؛ مثل: أبحاث معرفة الدين والإسلام والنبوة والإمامة والمعاد.

2/6 .حاجة الممكنات إلى الواجب عَزَّ وَجَلَّ:

ينصب أساس البحث عن الأفعال الإلهية على أنّ الشرائع السماوية تستعرض تفسيراً شاملاً عن ربوبيّة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وتأثيره في النظام الكوني، وأنها تنسب الخالقية والتدبير والإدارة المستمرة للعالم لحظة بلحظة إليه عَزّ وَجَلّ .

ص: 158

وهي رؤية لا تتفق مع م بإله حكمه حكم صانع الساعة؛ خلق الخلق ونظمه، ثمّ اعتزل خلقه؛ والسبب في هذا الاختلاف أنّ الله جَلَّ وَعَلا هو علّة موجدة حقيقية لوجود هذا الكون، ونظراً إلى أنّ معیار حاجة المعلول إلى علته الحقيقيّة هو الفقر والحاجة الوجودية التي يتصف بها المعلول نسبةً إلى علّته الموجدة، وأنّ هذه الحاجة هي عين ذات المعلول، فالمعلول - إذن محتاج إلى علته الموجدة (الله عَزَّ وَجَلَّ) في جميع لحظاته؛ حدوثاً وبقاء.

يذهب إليه أصحاب النزعة الطبيعية الحديثة الذين آمنوا

وعليه: فإنّ العلاقة بين الكون والله تَبَارَكَ وَتَعَالى ليست هي علاقة المعلل بعلته المعدّة - كما هو الحال في علاقة الولد بوالديه، أو البناء بالبناء - حتى لا يحتاج المعلول بعد تحققه إلى استمرار وجود العلة ، بل العلاقة بينهما هي من سنخ العلاقة بين المعلول المحتاج وعلته الموجدة كما تقدّم.

3/6 . الفاعليّة الإلهيّة وفاعلية المخلوقات :

لا يتعارض التفسير المختار للعلاقة بين الخلق والخالق مع القوانين التكوينية للطبيعة، أو مع إرادة الإنسان؛ وذلك لأنّ استمرار الحياة وبقاء هذه القوانين أمر يفتقر إلى الإرادة التكوينية الإلهية. وقد استعرض القرآن الكريم هذا اللون من التدليل العقليّ في أكثر من موضع ؛ منها قوله عَزَّ مِن قَائل:

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (1).

(ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ ﴾ (2) .

(وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(3).

ص: 159


1- سورة الأنعام: 101 .
2- سورة غافر: 62 .
3- سورة الصافات: 96.

(يُدَبِّرُ الأَمْرَ)(1).

﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(2).

(إنَّ الله فَالِقُ الحبِّ وَالنَّوَى) (3).

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُيْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (4).

(الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ مَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ )(5) .

(وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(6).

ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ أيّاً من هذه الآيات الكريمات لاتدلّ على نفي القوانين الميكانيكية أو الطبيعية، ولا تستلزم القول بجبر الإنسان. وقد أشارت آيات قرآنية عديدة إلى التدبير الإلهي، علاوةً على تطرّقها للقوانين الطبيعية؛ مثل زوجية النباتات وحركة الأرض وما شاكل ذلك. كما توجد آيات قرآنية أخرى تدلّ على التدبير الإلهي بالنسبة إلى الأفعال البشريّة الاختيارية، مشيرةً إلى حكمة نزول القرآن، وإرسال الرسل، والحساب والكتاب والثواب والعقاب الأخرويين.

ويمكن تصنيف الآيات التي تحدّثت عن الفاعلية الإلهية، وفاعلية المخلوقات إلى ثلاثة طوائف؛ هي حسب الترتيب التالي :

ص: 160


1- سورة يونس: 3 .
2- سورة الأعراف: 54 .
3- سورة الأنعام: 95.
4- سورة الأنفال: 17 .
5- سورة الرعد : 26 .
6- سورة البقرة: 213 .

1 . الفاعلية الإلهية ونفي الفاعلية عن الغير: يقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(1) ، والآية تدل على أنّ الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وإن كان يريد هداية الناس إلا أنّ إرادته هذه إن لم تكن في ظلّ إرادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فلن يرى فعل الهداية هذا النور أبداً.

2 . القبول بالفاعليّة الإلهيّة وفاعليّة الغير : فقد نسب القرآن الكريم في موضع ما وفاة الإنسان إلى ملك الموت أو غيره من الملائكة، ونسبه في موضع آخر إلى نفسه؛ حيث قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾(2)، وقال أيضاً:(الله يَتَوَفَّ الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾ (3)،( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) (3) ، (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾(4) ، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (5) ويمكن تفسير هذه الآيات من خلال سلسلة التأثيرات الطولية؛ فيكون تأثير ملك الموت في ظلّ التأثير الإلهي، وكذا دور إيمان المؤمنين في نزول البركات من السماء والأرض، ودور الإيمان والعمل الصالح في الهداية الإلهية.

3 . انتساب الفاعلية لغير الله والسكوت عن انتسابها له عَزَّ وَجَلَّ : فقد نسبت بعض الآيات القرآنية الفاعلية إلى غير الله، ولم تتطرق لفاعليته عَزَّ وَجَلَّ، كما في انتساب فاعلية الوسوسة إلى الشيطان؛ حيث قال تعالى: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (6) ، أو نسبة القتال والإخزاء إلى المؤمنين؛ كما في

ص: 161


1- سورة القصص: 56.
2- سورة السجدة: 11 .
3- سورة الزمر: 42 .
4- سورة يونس: 9.
5- سورة الأعراف: 96 .
6- سورة الناس: 4-5 .

قوله عَزَّ اسمَهُ:(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ)(1) ، أو نسبة الفساد الظاهر في البر والبحر إلى الإنسان؛ كما في قوله عَزَّ مِن قَائل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (2).

والسؤال المركزي المتعلّق بالعلاقة بين الله والكون يتمحور حول كيفية الجمع بين جميع هذه الأمور المذكورة آنفاً؛ بما يعم التدبير الإلهي والقوانين التكوينية.

والجواب هو أنّ العلل قد تكون على أنحاء:

*أولاً : أن تكون العلل الإلهية والتكوينية والبشرية في عرض بعضها علّةً حقيقيةً وتامّةً لتحقق معلول ما. وهذا الافتراض باطل؛ لأنّ العليّة الإلهية لا يمكن لها أن تكون في عرض علّيّة القوانين الطبيعية، وأن تدير الكون بالتعاون فيما بينها؛ لأنّ هذا يستلزم أنّ الله جَلَّ وَعَلا محتاج في أفعاله إلى شريك، بل شركاء عديدون.

*ثانياً : أن تكون العليّة الإلهية وعليّة القوانين الطبيعية نسبةً إلى بعضها عليتين بديلتين؛ فيكون لكلّ منهما إمكانية إيجاد المعلول بنحو مستقل، كما في علّيّة النور والحركة نسبةً إلى إيجاد الحرارة؛ حيث يؤثر كلّ منهما في ذلك بنحو مستقل. وهذا الافتراض باطل أيضاً؛ فليس كلّ منهما مستقل في الفاعلية على نحو بدلي لإيجاد المعلول؛ لأن هذا الفرض يستلزم أن تكون الظواهر الطبيعية غير محتاجة إلى واجب الوجود؛ وهو باطل.

*ثالثاً : أن يكون دور الفاعليّة الإلهية في أفعال ما سوى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في طول الفواعل الأخرى؛ وليس في عرضها، ولا بدلاً منها ؛ فيكون هو عَزَّ وَجَلَّ من خلق الكون كله بإرادته التامة وهو الذي تستمد منه الموجودات وجودها وحياتها على وجه الدوام، فتحتاج إليه، وتستند عليه. وإذا غابت إرادته للحظة واحدة تلاشي

ص: 162


1- سورة التوبة: 14 .
2- سورة الروم: 41.

وجودها، ومع انعدام تلك الإرادة ، فلا أرض ولا سماء، ولا بشر، ولا شجر، ولا فعل، ولا انفعال وبالتالي: طالما أنّ العلاقة بين العلة الموجدة وسائر العلل والعوامل المؤثرة في صدور أفعالها هي علاقة طوليّة يمكن لنا أن ننسب الظواهر إلى عللها الطبيعيّة إلى الذات الإلهيّة المقدسة على نحو سواء، ولكن لا على نحو مجموعي أو بدلي، بل على نحو طولي.

ومن هنا، نجد أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن الكريم قد نسب الأفعال إلى السماء والأرض والإنسان والملك وسائر الكائنات الأخرى، كما نسبها أيضاً إلى نفسه، فكانت الهداية هدايته على الرغم من وصف القرآن والرسول بالهادي، وعُدّ الإنسان كأحد العوامل المؤدّية للهداية والضلالة ونضيف هنا أنّ علية الموجودات الممكنة ليس أنها تقع في طول العلة الإلهية وحسب، بل هي علّيّة إعداديّة وممهدة، ولا تُعدّ علّةً حقيقية. وإذا قيل إنّ الممكنات نسبةً إلى بعضها هي علل إعداديّةً، فهذا لا يعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ محتاج في فاعليته وعليّته إلى مجموعة من العلل الإعدادية؛ إذ هو الغني المطلق الذي لا سبيل للحاجة إليه، بل الحق أنّ الممكنات محتاجة في تحققها إلى علل إعداديّة؛ كحاجة الشجر إلى المزارع بصفته علّةً إعداديّة، وإلى الله جَلَّ وَعَلا بصفته علّةً حقيقية.

وحصيلة ما تقدّم من البحث القرآني أنّ الفاعليّة الحقيقية الإلهية ثابتة وصحيحة نسبةً إلى الأفعال، كما أن فاعليّة الفواعل الإعداديّة أيضاً ثابتة وصحيحة، وأن إرادات الفواعل الإعدادية المختارة تقع في ظلّ الإرادة الإلهية وطولها، ومن دون ذلك لا يتحقق أيّ فعل على وجه الإطلاق.

وبهذا التفسير يمكن لنا الجمع بين طائفتين من الآيات، أو قل الجمع بين مبدأ السببية والاختيار والإرادة البشرية والثواب والعقاب من جهة، والتوحيد الأفعاليّ من جهة أخرى.

ص: 163

4/6 .القضاء والقدر الإلهيّان:
1/4/6 .أضواء على القدر الإلهي:

قضيّة القضاء والقدر الإلهيان هي إحدى المعتقدات الأساسية التي تناولتها جميع الشرائع السماوية في باب الأفعال الإلهية، والتي واجهت موجات كبيرة من الضبابية وسوء الفهم. وقد تعرّض هذا البحث في العهود الأولى من تاريخ الإسلام إلى سيل عارم من الشبهات مهدت الطريق لاشتداد عود النزعة الجبرية، وتبلور فرق منحرفة اتخذت من الجبر أصلاً المعتقداتها، وساهمت في تسهيل حركة بعض الساسة الذين امتطوا هذه المطيّة لبلوغ مآربهم الدنيئة من خلال تقديم تفسيرات مغلوطة عن القضاء والقدر، فتمكّنوا بذلك من اللعب بحُريّة في مسرح السياسة والحكومة.

وفي الجهة المقابلة نفضت طائفة أخرى آمنت باختيار الإنسان وحرّيّة إرادته اليد كلّيّاً عن الإيمان بالقضاء والقدر، أو أثرت سلوك سبيل التأويل الباطل فيهما .

وقبل الولوج في خضم أبحاث القضاء والقدر، وتبيان التفسير الصحيح لهما، نلفت الانتباه فيما يلي إلى الآيات القرآنية الكريمة في هذا الصدد.

أضواء على القدر الإلهي:

تطرقت آيات قرآنية كثيرة إلى القدر الإلهي؛ ومنها قوله عَزَّ اسمَه:

1 . التقدير العام للمخلوقات: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا )(1) .

2 . تقدير الشمس: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي مُسْتَقَرٌّ مَّا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (2).

3. تقدير القمر: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (3). .

ص: 164


1- سورة الفرقان: 2 .
2- سورة يس: 38 .
3- سورة يس: 39 .

4 .تقدير المطر: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ )(1).

5 .تقدير الأرض: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء للسَّائِلِينَ) (2).

6 . تقدير الهلاك : (... إلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَنَ الْغَابِرِينَ ) (3).

وبالاستفادة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وما أدلى به الفلاسفة والمتكلّمون في هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:

* أوّلاً: التقدير يعني إيجاد تحديد أو قَدَر في شيء .

* ثانياً: تُظهر الآية الأولى أن التقدير يشمل كلّ شيء؛ وإن أشارت آيات أخرى البعض مصاديق التقدير الإلهيّ. وقد ألمحت الآية الأخيرة أيضاً إلى شمول التقدير الإلهي للأفعال الاختيارية عند الإنسان.

* ثالثاً: ينقسم التقدير الإلهي إلى علمي وعيني؛ أما التقدير العلمي فيعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ يعلم بتحقق كل شيء في الزمان والمكان الذي يتحقق فيه، وبالكيفية التي يكن عليها، وهذا المعنى من التقدير يؤول في النهاية إلى العلم الإلهي، ولا يتعدّى مضمونه علم الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بالعلل الناقصة للممكنات. وأما التقدير العيني الخارجيّ فإنّه يعني أن يتسم كلّ شيء في الواقع الموضوعي بقدر وحدود معينة؛ بما يعني تحققه ضمن دائرة خاصة وفي ظروف معينة، وليس القدر العيني الخارجيّ شيء أكثر من وجود العلل الناقصة في الخارج.

* رابعاً: هل تقدير الموجودات يستلزم جبرها؟ من الواضح أن التقدير العلمي لا يتعارض مع اختيار الموجودات المختارة؛ لأنّ معنى التقدير العلمي - كما تبين - هو

ص: 165


1- سورة المؤمنون: 18.
2- سورة فصلت: 10 .
3- سورة الحجر: 60.

علم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالاختيار الذي سوف يُقدِم عليه الموجود المختار، فيكون عالماً بما سوف يفعله أو ما سوف يتركه بحكم اختياره وكذا لا يستلزم التقدير الخارجي العيني ذلك الجبر المشار إليه؛ لأن معنى التقدير الخارجي - كما تقدّم - هو تأطّر كلّ شيء بحدود و قیود و مقادير ترتبط به ، وهذا المعنى لا يمكن له أن ينفي وجود الاختيار عن الموجودات المختارة؛ لأنّ الاختيار صفة تتحقق في الموجود المختار، وهي نفسها تتأطّر بحدود وظروف معينة؛ فعلى سبيل المثال : إذا قرر الموجود المختار أن يمشي فإنّ تحقق هذا القصد يتطلّب سلامة أعضائه وجوارحه والعديد من العوامل الداخلية والخارجية الأخرى. وبتعبير آخر : يرتهن تحقق كل معلول بمجموعة من الظروف والعلل الناقصة، ومن دون اجتماع جميع أفراد العلة، وتحقق العلة التامة فلن يتحقق ذلك المعلول، وما من شكّ في أن الاختيار وإرادة الفاعل هي إحدى أجزاء العلة في الأفعال الاختيارية.

2/4/6 .أضواء على القضاء الإلهي:

تطرّقت آيات قرآنية عديدة إلى القضاء الإلهي ؛ نذكر منها ما يلي :

(وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(1).

(الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمَّتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الموْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (2) .

(وَلَكِن لَّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً )(3).

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)(4) .

ص: 166


1- سورة البقرة: 117 .
2- سورة الزمر: 42 .
3- سورة الأنفال: 42 .
4- سورة الإسراء: 23.

_وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ هُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (1).

(وَالله يَقْضِى بالحقِّ) (2).

(وَغِيضَ الماء وَقُضِيَ الأَمْرُ ) (3).

(فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾(4).

(وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (5).

وبالنظر إلى هذه الآيات الكريمات وما ورد من أحاديث شريفة، وما أدلى به الفلاسفة والمتكلمون في هذا الخصوص، من الممكن لنا في موضوع القضاء الإلهي استخلاص ما يلى:

1 . حقيقة القضاء الإلهي: القضاء الإلهي - كما هو حال القدر الإلهي - شامل لكلّ - - الأحداث، ومحيط بكل الموجودات؛ بما فيها الأمور الاختيارية. وقد استخدمت مفردة «القضاء» في الآيات الكريمة المشار إليها آنفاً في معان مختلفة؛ هي : (أ) : القضاء بمعنى الإرادة الإلهية؛ مثل: (وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾(6) ، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (7) (ب): الحكم التشريعي؛ مثل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )(8) ؛ (ج) : الحكم بين المتخاصمين؛ مثل: (والله

ص: 167


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة غافر: 20.
3- سورة هود: 44 .
4- سورة القصص: 15.
5- سورة طه: 114.
6- سورة البقرة: 117 .
7- سورة يس: 82 .
8- سورة البقرة: 117 .

يَقْضِي بِالحَقِّ)(1). ؛ (د): بمعنى الإتمام والانتهاء؛ كما في أغلب الآيات الأخرى.

2 . أنواع القضاء الإلهيّ : ينقسم القضاء الإلهي إلى علمي وعيني؛ أما القضاء العلمي فهو العلم الإلهي بالعلة التامة لتحقق الموجودات، أمّا القضاء العيني منه فهو التحقق الحتمي للأشياء، فالقضاء إذن يعني: إتمام العمل، وهو لا يتنافى مع الأفعال الاختيارية؛ لأن إتمام الأفعال بيد الله عَزَّ وَجَلَّ أي أنّ جميع الأفعال في قبضته، وكما مرّ معنا في بحث التوحيد الأفعالي فإنّ فاعليّة سائر الموجودات تقع في طول فاعليته عَزَّ وَجَلَّ، وليس لأيّ منها الاستقلالية في وجوده وأفعاله بنحو مطلق؛ وعليه: فإنّ كلّ شيء في يده. وهذا التفسير لا يعني بأي حال من الأحوال سلب اختيار الإنسان ، أو سلب إرادته. وفي تعبير آخر : إذا تحققت العلة التامة، فإنّ المعلول يجب أن يتحقق بالضرورة، ولا يأتي زمن إتمام المعلول وضرورة وجوده إلا حين توجد علته التامة، وإن آخر جزء من أجزاء العلة التامة في الأفعال الاختيارية هو إرادة الموجود المختار واختياره، لكن وفقاً لمضمون التوحيد الأفعالي فإن جميع الموجودات هي عين الربط إلى الله، ولا استقلال لها من عند أنفسها، فيكون القضاء وإتمام الأمر بيده وفي قبضته جَلَّ وَعَلا.

3/4/6 .القضاء والقدر الإلهيان والاختيار البشري:

يؤدّي اتضاح الرؤية في بحث القضاء والقدر الإلهيين العلميين والعينيين إلى اتضاحها في مشكلة الجبر والاختيار. وقد قدّم أئمة أهل البيت : في معرض مواجهتهم للفكر الجبري المفضي إلى سلب الاختيار عن الإنسان، وكذا ردّاً على الفكر التفويضيّ المفضي إلى سلب الاختيار عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَطروحة «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ ؛ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْن»(2) ، وبينوا لنا أنّ أفعال الإنسان ترتبط بالإرادة الإلهية من جانب وبالإرادة البشريّة من جانب آخر، لكن إرادة الإنسان تقع في طول الإرادة

ص: 168


1- سورة غافر: 20.
2- مقطع من حديث مروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) لاحظ الكافي الكليني، ج1، ص 160. [م]

الإلهية؛ لا في عرضها؛ بمعنى أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أراد أن يقوم الإنسان بأفعاله بإرادة هذا الإنسان.

وبناءً على ما تقدّم لا يعني القضاء ولا القدر سلب اختيار الإنسان، بل القضاء يعني: نسبة العلة التامة في الأفعال والمعلولات، والقدر يعني: نسبة كل جزء من أجزاء العلة التامة بالمعلول؛ لأنّ تحقق العلة التامة يفضي إلى حتمية المعلول، ومع تحقق كل جزء منها يتقدّر المعلول بقدر معيّن، وإن أحد أهم أجزاء العلة التامة في الأفعال الاختيارية البشريّة هو الجزء الأخير منها؛ وهو إرادة الإنسان.

4/4/6 . الموقع العلمي لقضية الجبر والاختيار:

البحث بخصوص الجبر والاختيار بحث ينتمي لعلم معرفة الإنسان، ويجب أن يُتدارس بتفاصيله وحيثياته في علم مستقل عنوانه : علم معرفة الإنسان الإسلامي، لكن نظراً إلى ارتباط هذه القضية ببحث الصفات الفعلية الإلهية، وما أحدثته من شبهة، فهو يتناول هنا في علم الكلام الإسلامي.

لقد درست مختلف المدارس البشرية موضوع الجبر والاختيار في الإنسان، وقدّمت نظريّاتها وتفسيراتها بهذا الشأن، وقد عدّت الإنسان موجوداً تهيمن عليه القوانين الطبيعية والاجتماعية، ونسبوا إليه أيضاً خضوعه لجبر طبيعي واجتماعي؛ حتى آمنوا بسنن ثابتة وأبديّة في الطبيعة والمجتمع تسيطر على أفعال البشر. وقد زعموا أن العلوم الاجتماعية قد أخذت على عاتقها واجب الكشف عن هذه القوانين المهيمنة، وما يرتبط بها، والتنبؤ بردود الأفعال حيالها، ثمّ ملاحظتها، ووصفها، وتحليلها، بعيداً عن تقديم الإرشادات والتوجيهات لبني البشر (1) .

إنّ الإسلام يرفض الهيمنة المطلقة للقوانين الطبيعية والاجتماعية على إرادة

ص: 169


1- لاحظ : تاريخ المذاهب الاقتصاديّة، شارل جيد وشارل ،جیست ج 2 ص 48 و 76 [النسخة المترجمة للفارسية ]؛ أسس الاقتصاد الإسلاميّة، منشورات سمت ص 101-102.

الإنسان؛ لأنّ هذا الزعم يستلزم القول بالجبر ، وينفي حكمة نزول الكتب السماوية وإرسال الرسل وإنذار الناس من الزيغ عن الحق في أعمالهم، وينسف معنى الثواب والعقاب الأخرويين. وقد أكّد القرآن الكريم على دور الإرادة الفردية في أحداث المجتمع، وتطوّراته، رغم اعترافه بأثر العوامل الاجتماعية. يقول تعالى:

(إِنَّ الله لا يُغَيَّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(1).

وإن وجود التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنشأ منها تطوّرات اجتماعيّة مهمّة لهو خير دليل على هيمنة الإرادة البشرية ومقدرة الإنسان على الإمساك بزمام القرار. ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى تأثر الفرد من التيارات المهيمنة على المجتمع بقوله:

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُهْتَدُونَ )(2).

ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ هذا التأثر نفسه قد نتج عن إرادة الإنسان وقراراته؛ لا أنّ جبراً اجتماعياً قد اعترى إرادة الإنسان، وتسبّب في نقضها !

وبالتالي يجد الإنسان في وجدانه وقرارة نفسه أنه يمتلك إرادة الاختيار، حتى أنّ الأشعري المتمايل إلى القول بالجبر إلى حد ما قد اعترف بوجود هذا الشعور الدال على إرادة الإنسان وقدرته على الاختيار(3). ولا مراء في أنّ الإنسان محدود ومؤطر في حدود تفرضها علیه طبائعه الجسمية والروحيّة والوراثية، وكذا الجغرافية والاجتماعية والسياسية.

5/4/6 .الخلفية التاريخية للقول بالجبر:

يمكن العثور على خيوط تاريخية للجبر، تقودنا إلى عهد المشركين وعبدة الأصنام في الحجاز؛ إذ ينقل لنا القرآن الكريم ما نصه :

ص: 170


1- سورة الرعد: 11 .
2- سورة الزخرف: 22 .
3- لاحظ: اللمع أبو الحسن الأشعري، ص 41.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا) (1).

وقد دلّتنا الأخبار والتقارير التاريخية إلى رواج سلعة القول بالجبر بين المسلمين بعد التحاق الرسول الأكرم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بالرفيق الأعلى (2) ، حتى بلغ ذروته على عهد بني أمية، وقد نقل القاضي عبدالجبار المعتزلي عن شيخه الجبائي أنّ أوّل من نشر عقيدة الجبر هو معاوية بن أبي سفيان. وقد تصدّى لذلك من أجل تبرير أفاعيله الباطلة، وإسباغ المشروعية عليها (3).

وفي المقابل، تمخض المعتقد الجبري هذا عن بروز نظريّة التفويض التي أكدت على حرّيّة الإنسان، وأنكرت القضاء والقدر الإلهيين، وهيمنة الله عَزَّ وَجَلَّ على أفعال البشر.

أمّا القائلون بالجبر فقد تنوّعت اتجاهاتهم إلى تيارين:

1 . الجبرية الخالصة وهم من رفضوا اختيار الإنسان بقول مطلق؛ مثل: الجهمية وهم أتباع جهم بن صفوان.

2 . الجبرية المتوسطة ويمثلهم الأشاعرة الذين نسبوا للإنسان مقدرته على الاختيار بنحو لا تأثير فيه (4). وقد ذهب مؤسس هذا المذهب إلى أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ عند خلقه الفعل في الإنسان يوجد فيه قدرةً حادثةً، وقد أسموا التقارن بين خلق الفعل والقدرة الحادثة في الإنسان ب«الكسب »(5).

وهنا نقول: إنّ الإيمان بالجبر لا يقي وجهاً أو مبرراً للأوامر والنواهي والتكاليف الإلهية، ولا يترك معنىً للثواب والعقاب الأخرويين، كما أنّ الإيمان بالتفويض يُسفر

ص: 171


1- سورة الأنعام: 148.
2- انظر: تاريخ المذاهب الإسلامیّة، أبو زهرة، ص 95-96 .
3- راجع: المغني في أبواب التوحيد والعدل القاضي عبدالجبار، ج8، ص 4.
4- لاحظ: الملل والنحل الشهرستاني، ج1، ص 85.
5- راجع: اللمع، مصدر سابق، ص 42.

عن تضييق دائرة الإرادة والقدرة الإلهية، ويُفضي إلى إثبات الضعف والعجز الله جَلَّ وَعَلا.

أما تیّار التفويض فينقسم إلى شعبتين:

1. التفويض التشريعي: وهو ما نجده عند فرق وأديان؛ مثل: المزدكيّة (1) والخُرميّة (2)، والمسلميّة (3)، وفرق أخرى من الغُلاة؛ حيث يرون إيكال أمر تكليف الإنسان وأعماله إلى نفسه.

2 . التفويض التكويني في الأفعال وهو يعني أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى قد فوّض الإنسان قدرة القيام ببعض الأفعال، وتنحى هو جانباً، ولم يعد بعدئذ قادراً على الإمساك بزمام الإنسان وأفعاله. كما ذهبت إليه المرجئة، والقدرية (ومنهم: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي)، وبعض المعتزلة.

وقد انبرى أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) لدحض هاتين النظريتين المعروفتين بالجبر والتفويض، وأطلقوا أطروحتهم التي اشتهرت بعبارة: «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ ؛ وَلَكِنْ أَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْن»(4). وعلى أساس من هذه الرؤية فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد أفاض على الإنسان قدرة القيام بأفعاله، غير أنه بقي مالكاً لهذه القدرة، وانضوت إرادة الإنسان لأفعاله تحت إرادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في علاقة طوليّة مرّت الإشارة إليها مسبقاً.

ص: 172


1- المزدكية: دينٌ ثَنوي منبثق من المانوية، مؤسسه الزعيم الديني الفارسي مَزْدَك بن موبذان. وقد نُسب إليه أنه أحلّ النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيه؛ كاشتراكهم في الماء والنار والكلاً [م]
2- الخُرَّمِيّة - أو الخُرَّمْدينيّة - : طائفة دينية فارسية ظهرت في أقاليم عدّة شرقي العراق (مركز الخلافة العباسية)، وفي أوقات مختلفة في العصر العباسي، حملت أسماء متنوعة منها المحمرة والمبيضة، والبابكية والمازيارية. [م]
3- المسلِمِيَّة - أو الأبُومُسلِمِيَّة - : هم أصحاب أبي مسلم عبد الرحمن الخراساني، ويُنقل عنهم أنهم قالوا بإمامته بعد قتله، وادعوا أنه حي لم يمت ولم يُقتل. [م]
4- الكافي الكليني، ج1، ص 160.
6/4/6 .الهداية والإضلال الإلهيّان والاختيار البشري:

يقول تعالى في سورة الرعد :

﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)(1).

يتضح لنا مما تقدّم من أبحاث أنّ هذه الآية الكريمة لا تدلّ على الجبر كما قد يتصوّر البعض ؛ للأسباب التالية:

1 .أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قال في آية أخرى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(2).

2 . ما دامت جميع الأسباب والعوامل والمعدّات تخضع للأمر الإلهي، فلا ضير في إسناد الهداية والإضلال إليه جَلَّ وَعَلا .

3 . لا يتنافى استناد الهداية والإضلال إليه مع الدور الذي تلعبه إرادة الإنسان في الهداية. لقد أراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن تشمل هدايته أو يغطّي إضلاله الإنسان جراء أعماله الاختيارية.

وتجدر الإشارة هنا إلى انقسام الهداية الإلهية إلى أقسام ثلاثة هي:

*أولاً : الهداية التكوينية الأولى : وهي التكامل الطبيعي الذي قدرته المشيئة الإلهية للإنسان جسماً وروحاً.

*ثانياً : الهداية التشريعية: وهي تلك الأوامر والنواهي الإلهية المعدة لإيصال الإنسان إلى تكامله الاختياري.

ص: 173


1- سورة الرعد: 27 .
2- سورة الإنسان: 3 .

*ثالثاً: الهداية التكوينية الثانوية : وهي التي تشمل الإنسان بعد تنعمه بالهداية التشريعية .

ومن هذا يظهر أنّ بعض أقسام الهداية الهداية التكوينية الأولى) رهين بإرادة الإنسان، والبعض منها (الهداية التشريعية) متوقف على إرادة الإنسان بنحو مباشر، أما البعض الآخر الهداية) التكوينية (الثانوية فهو مرتبط بإرادة الإنسان أيضاً، لكن بنحو غير مباشر (1).

7/4/6 أنواع الفعل البشري:

تنقسم الأفعال البشرية إلى ثلاثة أنواع:

1 . ما يُنسب إلى الإنسان من الأفعال ومثاله : الحياة البشريّة . وهذه النسبة جارية رغم أن حياة الإنسان متوقفة على إرادة الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بنحو حصري، ولا دخل لإرادة الإنسان فيها ؛ فقبل أن يولد الإنسان تتعلّق الإرادة الإلهية وفقاً لحكمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وقدرته بإيجاد هذا الإنسان، فتحدث ولادته وعليه : لا معنى لقول من ينفي إرادته للقدوم إلى هذا العالم، ودخوله عالم الوجود .

2 . الأفعال التي تتحقق بإرادة الإنسان، والتي تشكل تلك الإرادة الجزء الأخير من العلة التامة لوجودها؛ بمعنى أن الإنسان بمجرد أن تتعلّق إرادته بالمشي أو الأكل مثلاً، يحدث ذلك المشي أو الأكل في الخارج.

3 . الأفعال التي تتدخّل الإرادة البشريّة في تحققها، لكن لا على نحو الجزء الأخير من العلة؛ ولهذا فقد تتعلّق إرادة الإنسان بفعل ما ، ثمّ لا يتحقق. ومثاله: كما لو أراد الإنسان الموت بالانتحار؛ فهو لا يحصل بمجرّد الإرادة، بل لعله لا يحصل أيضاً حتى مع إقادمه على الانتحار عمليّاً، من دن الفصل بين الإرادة والفعل ؛ كما لو تناول سمّاً

ص: 174


1- راجع: الهداية والضلال في القرآن الكريم، الجوادي الآملي .

قاتلاً مثلاً. والسبب في ذلك أن الإرادة الإلهية هي الجزء الأخير من علّة الموت. وننوه هنا أيضاً إلى اللبس الذي قد يقع في قول بعضهم: إنّ فلاناً أراد أكل الطعام، لكنّه لم يأكل»؛ ففي هذا المثال لم تُستخدم الإرادة بمعناها الحقيقي، بل المقصود بها: اشتياقه أو تمايله ولا محيص عن تحقق الفعل بعد تحقق الإرادة .

8/4/6 .قضيّة البداء الإلهي:

يمثل البحث عن «البداء» - الذي يؤمن به علماء الإمامية، ويُنكره أهل السنة - بل يستنكرونه على الشيعة - أحد الأبحاث المنشعبة عن القضاء والقدر الإلهيين.

و«البداء) في اللغة (1) قد يُستخدم في معنيين؛ هما :

1 . الظهور بعد الخفاء(2).

2 . نشأة الرأي الجديد أو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة (3).

وما من شكّ في عدم جواز إسناد أي من هذين المعنيين للبداء إلى الله عَزَّ وَجَ- لأنّ ذاته ليست محلا للحوادث، وبالتالي فهو ضرب من الكفر، وقد منعه جميع علماء الإماميّة؛ لأنه صفة من صفات الممكنات ولا يليق بواجب الوجود، فلا يمكن القول بأنه عَزَّ وَجَلَّ قد ظهر له شيء بعد أن خفي عنه، فأدى إلى تراجعه عمّا

ص: 175


1- «البداء» في اللغة: مصدر «بَدَا»؛ يقول ابن منظور: بَدَا الشيءُ يَبدُو بَدْوَاً، وبُدُوَّاً، وبداء، وبدأ - الأخيرة عن سيبويه - : ظهر، وأبديته أنا أظهرته». لسان العرب ج ،14 ص ،65، وانظر القاموس، ص1629. [م]
2- يقول ابن فارس: «هو ظهور الشيء؛ يقال : بدا الشيء يبدو، إذا ظهر فهو باد معجم مقاييس اللغة ، ج 1، ص212. ومثاله قولك: بدا سور المدينة؛ أي ظهر. ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم به الله) سورة البقرة: 284. [م]
3- يقول ابن فارس: «تقول : بدا لي في هذا الأمر بداء أي تغير رأي عما كان عليه» معجم مقاييس اللغة ص 212. ويقول ابن منظور: «البداء: استصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم يعلم»، ويورد أيضاً: «قال الفراء: بدا لي بداء؛ أي ظهر لي رأي آخر لسان العرب، ج 14، ص 66 ويقول الشيخ المفيد: «إنّ لفظ البداء أطلق في أصل اللغة على تعقب الرأي والانتقال من عزيمة إلى عزيمة». تصحيح اعتقادات الإماميّة، المفيد، فصل في معنى البداء، ص 67. ومنه قوله تعالى: ((ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُأ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ سورة يوسف: 35 .[م]

كان قد عزم على فعله(1)، أو أن يُقال مثلًا: إنه نشأ له رأي جديد صرفه عما كان قد قدره مسبقاً !

وبناءً على ذلك، لا يعني البداء في معتقد الإمامية ما تقدّم، وقد صرّح بذلك كبار علماء الشيعة مثل : الشيخ الطوسي (460ه) في «عدّة الأصول»(2)، وتفسير «التبيان»، السيّد المرتضى (3) (436ه) في «الذريعة»(4). وقد أوضح العلّامة الشيخ مكارم الشيرازي ( مواليد 1345ه) حيثيات قضيّة البداء في معتقد الإمامية بقوله :

لقد بيّن هذا البحث في الآية 39 من سورة الرعد؛ حيث قال تعالى: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). يقول [ الفخر] الرازي (5)في تفسيره الكبير في ذيل الآية - محلّ البحث - : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى، وهو يعتقد أن شيئاً، ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثبِتُ) ، ثمّ يضيف الرازي: «إنّ هذا باطل؛ لأنّ علم الله من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيّر والتبدل فيه باطلاً»(6).

ص: 176


1- ويقول الشيخ المفيد: «إنّ لفظ البداء أطلق في أصل اللغة على تعقب الرأي والانتقال من عزيمة إلى عزيمة». تصحيح اعتقادات الإماميّة، المفيد، فصل في معنى البداء، ص 67. [م]
2- يقول الشيخ الطوسي: «إذا أضيفت هذه اللفظة [أي البداء إلى الله تعالى: فمنه ما يجوز إطلاقه عليه، ومنه ما لا يجوز؛ فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه... [ وأما ما لا يجوز من ذلك فهو: حصول العلم بعد أن لم يكن». عدّة الأصول الطوسي، ج 2، الباب ،7 ف1، ص 495 [م]
3- يقول السيّد المرتضى: «البداء في لغة العرب هو الظهور من قوله : بدا الشيء: إذا ظهر وبان والمتكلمون تعرّفوا فيما بينهم أن يسمّوا ما يقتضي هذا البداء باسمه، فقالوا: إذا أمر الله تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معيّن ومكلّف ،واحد ، ثمّ نهى عنه فهو بداء، والبداء على ما حدّدناه لا يجوز على الله تعالى لأنه علم بنفسه، ولا يجوز له أن يتجدّد كونه عالماً ، ولا أن يظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهراً . .». رسائل الشريف المرتضى، مسألة 5، ص 117 المسألة الرازية. [م]
4- راجع ما ذكره الشيخ أبوالحسن الشعراني تعليقاً على شرح الكافي للملا صالح المازندراني.
5- وللتوضيح نضيف: ليس الرازي فريداً في التقوّل في هذا المجال، بل سبقه البلخي في هذه النسبة، راجع التبيان الطوسي، ج 1، ص 13 ، ونقله أيضاً الشيخ الأشعري راجع مقالات الإسلاميين ، ص 107 لاحظ أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، السبحاني، ص 431 . [م]
6- تفسير الرازي ج 4 ص 216 ، تفسير الآية 39 من سورة الرعد. [م]

ومما يؤسف له حقاً أنّ عدم المعرفة بعقيدة الشيعة في مسألة البداء أدّت إلى أن ينسب كثيرون تهماً غير صحيحة إلى الشيعة الإمامية.

ولتوضيح ذلك نقول: «البداء» في اللغة بمعنى الظهور والوضوح الكامل، وله معنى آخر هو الندم، لأنّ الشخص النادم قد ظهرت له - حتماً - أمور جديدة.

لا شكّ، إنّ هذا المعنى الأخير بالنسبة إلى الله تعالى مستحيل، ولا يمكن لأي عاقل وعارف أن يحتمل أنّ هناك أموراً خافية على الله ثمّ تظهر له بمرور الأيام، فهذا القول هو الكفر بعينه ولازمه نسبة الجهل وعدم المعرفة إلى ذاته المقدّسة، وأنّ ذاته محلاً للتغيير والحوادث.

وحاشا للشيعة الإمامية أن يحتملوا ذلك بالنسبة لذات الله المقدّسة! إنّ ما يعتقده الشيعة من معنى البداء ويصرون عليه، هو طبقاً لما جاء في روايات أهل البيت (علیهم السّلام) «ما عرف الله حق معرفته من لم يعرفه بالبداء ».

كثيراً ما يكون - وطبقاً لظواهر العلل والأسباب - أن نشعر أن حادثة ما سوف تقع أو أنّ وقوع مثل هذه الحادثة قد أخبر عنه النبي، في الوقت الذي نرى أنّ هذه الحادثة لم تقع، فنقول حينها: إنّ «البداء» قد حصل، وهذا يعني أنّ الذي كنا نراه بحسب الظاهر سوف يقع واعتقدنا تحققه بشكل قاطع قد ظهر خلافه.

والأصل في هذا المعنى هو ما قلناه في بحثنا السابق، وهو أن معرفتنا مرّةً تكون فقط بالعلل الناقصة، ولا نرى الشروط والموانع ونقضي طبقاً لذلك، ولكن بعد أن نواجه فقدان الشرط أو وجود المانع ويتحقق خلاف ما كنا نتوقعه سوف ننتبه إلى هذه المسائل، وكذلك قد يعلم النّبي أو الإمام بأمور مكتوبة في لوح المحو والإثبات القابل للتغيير طبعاً، فقد لا تتحقق أحياناً لمواجهتها بالموانع وفقدان الشروط.

ولكي تتضح هذه الحقيقة لابد من مقايسة بين «النسخ» و«البداء»: نحن نعلم أنّ

ص: 177

النسخ جائز عند جميع المسلمين، يعني من الممكن أن ينزل حكم في الشريعة فيتصوّر الناس أنّ هذا الحكم دائمي، لكن بعد مدة يعلن الرّسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عن تغيير هذا الحكم ا. وينسخه ويحلّ محلّه حكماً آخر؛ كما قرأنا في حادثة تغيير القبلة.

إنّ هذا في الحقيقة نوع من «البداء» ولكن في القضايا التشريعية والقوانين والأحكام يسمّونه ب«النسخ» وفي الأمور التكوينية يسمّى ب «البداء» ويقال أحياناً: (النسخ في الأحكام نوع من البداء، والبداء في الأمور التكوينية نوع من النسخ).

فهل يستطيع أحد أن ينكر هذا الأمر المنطقي ؟ إلا إذا كان لا يفرّق بين العلة التامة والعلل الناقصة، أو كان واقعاً تحت تأثير الدعايات المغرضة ضد شيعة أهل البيت (علیهم السّلام)، ولا يجيز له تعصبه الأعمى أن يطالع عقائد الشيعة من نفس كتبهم، والعجيب أنّ الرازي قد ذكر مسألة «البداء» عند الشيعة في ذيل الآية ﴿يَمْحُو اللَّه مَا يَشَاء وَيُنْبِتُ) بدون أن يلتفت إلى أنّ البداء ليس أكثر من المحو والإثبات، وهجم على الشيعة بعصبيته المعروفة واستنكر عليهم قولهم بالبداء.

اسمحوا لنا هنا أن نذكر أمثلة مقبولة عند الجميع : نقرأ في قصة «يونس» أنّ عدم طاعة قومه أدّت إلى أن ينزل العذاب الإلهي عليهم، وقد تركهم النّبي لعدم هدايتهم واستحقاقهم العذاب، لكن - فجأةً - وقع البداء حيث رأى أحد علمائهم آثارالعذاب، فجمعهم ودعاهم إلى التوبة، فقبل الجميع ورفع العذاب:

(فَلَوْلاً كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (1)، (2).

ص: 178


1- سورة يونس: 98 .
2- تفسير الأمثل مكارم الشيرازي، ج 6، ص 467.
8/4/6 .الصفات الإلهيّة والإنجازات البشرية الحديثة :

يُعدّ البحث عن الصلة بين الإنجازات البشرية الحديثة والصفات الإلهية إحدى المسائل الجديدة المطروحة في علم الكلام ومعارف العقيدة، ومفادها التساؤل الذي يقول:

هل تتعارض التقنيات المتقاربة (1)الأربعة الشهيرة - وهي: تقنية النانو (2)، والتقنية الحيوية(3) ، وتقنية المعلومات (4)وتقنية العلوم الاستعرافية (5) - مع صفات إلهية؛ مثل «الحكمة»؟ وللتمهيد لما تقدّم نقول:

تجاوز الإنسان في مسيرته الإنتاجية وصناعاته التقنيّة منذ القرن الثامن عشر

ص: 179


1- [م] . Convergent Technologies
2- تقنية النانو - أو : التقانة النانوية، وتقنيّة الصغائر Convergent Technologies) : هي العلم الذي يهتم بدراسة معالجة المادة على المقياس الذرّيّ والجزئي. وتهتم تقنية النانو بابتكار تقنيات ووسائل جديدة تقاس أبعادها بالنانومتر وهو جزء من الألف من الميكرومتر؛ أي جزء من المليون من الميليمتر .[م]
3- التقنية الحيوية - أو التكنولوجيا الحيوية (Biotechnologies) : هي تطبيق المعلومات المتعلقة بالمنظومات الحيّة، بهدف استعمال هذه المنظومات أو مكوّناتها في الأغراض الصناعية؛ أي أنها تقانة مستندة على علم الأحياء، خصوصًا عندما تستعمل في الزراعة علم الغذاء، والطب. [م]
4- تقنية المعلومات (Information technology) التي تسمى اختصارا IT - : هي دراسة تصميم تطوير تفعيل دعم أو تسيير أنظمة المعلومات التي تعتمد على الحواسيب بشكل خاص تطبيقات وعتاد الحاسوب، وتهتم تقنية المعلومات باستخدام الحواسيب والتطبيقات البرمجية لتحويل وتخزين وحماية ومعالجة وإرسال والاسترجاع الآمن للمعلومات وهو اختصاص واسع يهتم بالتقنية ونواحيها المتعلّقة بمعالجة وإدارة المعلومات، خاصة في المنظمات الكبيرة [م]
5- العلوم الاستعرافية - أو علوم الإدراك Cognitive science- : هي الدراسة العلمية للعقل أو الذكاء علم الاستعراف تخصص جامع لعدة علوم فهو يأخذ، يساهم ويتكامل مع علم النفس (خاصة علم النفس الاستعرافي ومع الذكاء الاصطناعي واللسانيات linguistics وكذلك اللسانيات النفسية psycholinguistics، والفلسفة خاصّة فلسفة العقل، وعلوم الحاسب والعلوم العصبية neuroscience ،والمنطق والروبوتات robotics وعلم الإنسان أو ما يدعى بالأنثروبولوجيا anthropology ، وأخيراً: علم الأحياء؛ بما في ذلك الميكانيك الحيوي biomechanics. [م]

الميلادي وإلى يومك هذا خمسة أمواج رئيسية؛ هي:

1 الثورة الصناعية: وهي تمتد من حوالي عام 1780 إلى 1830م، وقد تمظهرت في تقنيات الفحم، وماكنات النسيج، ومحرّكات البخار ، والنهضة الثقافية والاجتماعية التي أحدثتها النزعة الرومنطقية في الفنّ والأدب.

2 . عصر الرأسمالية: وهو في الفترة الواقعة بين عام 1830 إلى 1880م التي احتوت مظاهر ؛ مثل : السكك الحديديّة، والتلغراف، والفولاذ، والحركات الشعبوية، والشيوعيّة، والديمقراطية الاشتراكية.

3 . عصر الإمبريالية: وهو في الفترة الواقعة بين عام 1880 إلى 1930م التي تمظهرت في مثل الكهرباء، واختراع السيّارة والطائرة، والصناعات الكيميائية، وبرزت فيه حركات مقارعة الاستعمار ، وكذا الحركات الفاشية، والحداثوية في الفنّ.

4 . الفترة ما بين 1930 و 1980م: وقد طفت على السطح في هذه الآونة علوم وفنون في مجالات الطاقة النووية، والوراثة والحاسوب، وظهرت حركات الحقوق المدنية، ومكافحة الأنشطة النووية، ثمّ حركات أنصار البيئة، والنزعة النسوية، وما بعد الحداثة.

5 . عصر المعلومات وهو في الفترة الواقعة بين عام 1980 إلى يومنا هذا، وقد برزت فيه التقنيات المتقاربة تقنية النانو، والتقنيّة الحيوية، وتقنية المعلومات وتقنية العلوم الاستعرافية)، وتزامنت معه ظهور الحركات السياسية ذات نزعات أصالة الهويّة، والحركات المطالبة بالوصول الحرّ إلى المعلومات والتخطيط وفق أسس مقتبسة من علم البيئة، والعدل في معاييره العالمية. وإنّ تلاحم التقنيات المتقاربة الأربعة وانسجامها يعني أنّ الأبعاد التطبيقية لكل منها آخذة في التقلّص والصغر، لتصل في نهاية المطاف إلى معايير نانومترية (1) حتى ظهرت على نحو قوالب التقنية

ص: 180


1- النانومتر (Nanometer): هي وحدة لقياس الأطوال تستعمل لقياس الأطوال القصيرة جداً؛ وهي جزء من مليار جزء من المتر (جزء من الألف من الميكرومتر؛ أي جزء من المليون من الميليمتر. لها استخدامات كثيرة في الفيزياء والكيمياء، وهي غالباً ما تكون من أبعاد الذرّة، يُرمز لها ب- نم أو nm. [م]

العملاقة، وحققت قدرات فريدة ومنقطعة النظير. وإنّ الاستمرار في مسيرة التقنية العملاقة لسوف يفتح المجال أمام الإنسان لإعادة هيكلة الطبيعة، والتدخل في بنيتها وعناصرها الأحيائية المكوّنة لها .

لقد استخدم مصطلح «تقنية النانو» لأوّل مرة من قبل الأستاذ في جامعة طوكيو للعلوم نوريو تانيغوتشي (1) عام 1974م، وقد استخدمه لوصف تصنيع مواد دقيقة يبلغ مقياس عدم الدقة في تعيين أحجامها نسبة تفاوت بقدر نانومتر واحد. وقد نمت تقنيات النانو في مطلع الألفية الجديدة في وتيرة متصاعدة. وفي السنوات الأخيرة الماضية رصدت بعض الدول ميزانية بحثيّة ضخمة، تهدف إلى تنمية هذه التقنية، وقد بلغ مجموع الميزانيات البحثية في هذا الحقل ما يزيد عن أربعة مليارات دولار سنوياً. وقد انطلق العصر الإلكتروني الذي نعيش فيه الآن من عام 1940م، واخترع فيه أوّل حاسوب رقميّ (ديجتال) سريع قادر على القيام بمهمات حسابية مبرمجة، وقد بلغ وزن هذا الجهاز الذي صُنع لصالح الجيش الأمريكي، وسُمّي ب- «إينياك»(2)ما يقرب من ثلاثين ،طناً، استخدمت فيه الصمامات الإلكترونية المفرغة (3) للقيام بأعمال حسابيّة، وهو ما أنبأ بشرارة الانطلاقة الأولى للعصر الإلكتروني.

تلبث هذه الصمامات الإلكترونية المفرغة حتى أزيحت لتأخذ الترانزستورات (4)

ص: 181


1- استخدم العالم الياباني نوريو تانيغوتشي Norio Taniguchi هذا المصطلح لأوّل مرة في محاضرة علمية، وصف فيها عمليات معالجة أنصاف النواقل، وكيف يمكن تطويرها مستقبلاً، معرّفاً هذه التقنيّة على أنّها الآلية الجديدة التي تتيح تركيب المواد وتعديلها ذرّةً ذرّة. [م]
2- إينياك (ENIAC) هو أول جهاز حاسب آلي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1945م. واسم الجهاز اختصار ل- Electronic Numerical Integrator Analyser and Computer ؛ أي آلة حاسبة ومكامل عددي إلكتروني. [م]
3- الصمام الإلكتروني - أو الصمام المفرغ في الإلكترونيات (Electronic tube أو Vaccum tube) - : هو صمام مفرغ يستخدم كثيراً في تضخيم الإشارات والتردّدات ومعالجتها إلكترونية متعددة؛ مثل: الراديو، والتلفزيون ومكبرات الصوت وفي أجهزة البحث العلمي وغيرها [م]
4- الترانزستور - أو المقحل Transistor : هي نبيطة تُعدّ أحد أهم مكوّنات الأدوات الإلكترونية الحديثة مثل: الحاسوب. والنبيطة Semiconductor device) هي مكوّنات إلكترونيّة تُصنع من مواد شبه موصلة، يمكن معالجتها لتصبح موصلة. [م]

محلّها، وقد استعيض فيه أيضاً عن البطاقات المثقوبة بشرائط كاست.

وفي هذه الحقبة كذلك، طوّرت لغات برمجيّة في مستويات عالية؛ مثل: الكوبول(1)، والفورتران(2). أمّا التطوّر اللاحق فيتمثل في استبدال الترانزستورات بالدارات المتكاملة (3)، مما سهّل عملية إنتاج أنظمة التشغيل التي تدير عمل الحواسيب، والتي صُمّمت على أساس من لغات برمجيّة أكثر تطوّراً؛ مثل : البيسيك(4).

هذا، وتُعدّ التقنية الحيوية - أو تكنولوجيا الأحياء - ضرباً من ضروب العلوم التكنولوجية المبتنية على علم الأحياء، وهي تُستخدم عادةً في حقول علمية مثل: الطبّ والزراعة؛ حيث توظف نتائجها في التعديل على العمليات البيولوجية والمتعضيات (5) التلبية بعض متطلبات حياة الإنسان. لكنّ هذا المصطلح كان يُستخدم قبل عام 1971م للتعبير عن التقنيات المرتبطة بالغذاء والزراعة، واستخدم من عام 1970 فما بعد لوصف المناهج التجريبية التي توظف في البحوث البيولوجية. وتتبلور التقنية الحيويّة الحديثة من ثنائي العلم والتكنولوجيا في حقول؛ مثل: علم الوراثة،

ص: 182


1- لغة الكوبول (COBOL اختصار Common Business-Oriented Language): هي لغة برمجية متعدّدة الاستخدام تخدم النواحي التجارية، وخاصّة مجال البنوك وغيرها [م]
2- لغة الفورتران ( Fortran مركبة من FORmula TRANslation؛ بمعنى : ترجمة المعادلات): هي لغة برمجة متعدّدة الاستخدام عُدت كأولى لغات البرمجة ذوات المستوى العالي تُستخدم في التحليلات العددية، وفي الحوسبة العلميّة [م]
3- الدارة المتكاملة (IC) - أو الشريحة الإلكترونية (Chip : هي دائرة إلكترونية مصغرة أحدثت ثورة في عالم الإلكترونيات، وهي من ضمن ما يعرف بتقنية ميكروية، والتي هي بدورها جزء من الهندسة الإلكترونية وهي شريحة رقيقة من مادة السيلكون تبلغ مساحتها عدة مليمترات تحتوي على الآلاف من المكوّنات الإلكترونية الدقيقة جداً التي تربط معاً لتكوّن دوائر إلكترونية متكاملة. أُنتجت - لأوّل مرّة - بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1958 [م].
4- لغة البيسيك (BASIC اختصار Beginners All Purposes Symbolic Instruction Code): هي لغة متعدّدة الأغراض تستخدم اليوم للمبرمجين المبتدئين. طُوّرت عام 1964م؛ حيث كانت تستند بشكل كبير على لغة الفورتران. [م]
5- الْمُتَعَضّيات - جمع الْمُتَعَيّ (Organism) : هي كل نظام متكيّف معقد حيّ من أعضاء تتأثر ببعضها البعض بحيث تعمل بشكل عام ككل واحد مشكلة كياناً وحيداً حياً [م]

وعلم الأحياء الجزيئي (1)، والكيمياء الحيوية(2)، وعلم الأحياء الخلوي(3)، وهي تقدّم إنجازات جديدة للبشريّة بالتعاون العمليّ مع علوم؛ مثل : الهندسة الكيميائية (4)، تقنية المعلومات والروبوتات الحيوية (5).

وإنّ أبرز الوظائف العمليّة التقليديّة التي تمنحها التقنية الحيوية تتجلّى في زراعة النباتات؛ حيث يُستفاد منها في إنتاج الغذاء المناسب للإنسان من خلال إنتاج مواد تتعلّق بالاحتياجات الغذائيّة عند البشر. وقد تصدّر المزارعون قائمة الفئات التي استفادت من هذه التقنية؛ حيث وظفت في اختيارهم للفصائل النباتية المناسبة والمقاومة، وفي عملية تطعيم النباتات أيضاً .

لقد عرفت بعض الحضارات - مثل : مصر والهند القديمتين - عمليات تخمّر ماء الشعير (المزر) ، وهو أحد أبرز نماذج التقنية الحيوية. وإنّ الأسلوب الذي اتبعه أبناء هذه الحضارات في ذلك ما يزال يُستخدم إلى اليوم. وفيما بعد، اكتشفت حضارات

ص: 183


1- علم الأحياء الجزيئي - أو البيولوجيا الجزيئية Molecular biology : علم يقوم بدراسة الأحياء على المستوى الجزيئي لذلك فهو يتداخل مع علم الأحياء والكيمياء في عدة فروع ويتقاطع مع الكيمياء الحيوية، وعلم الوراثة في عدة مناطق وتخصصات تهتم البيولوجيا الجزيئية بدراسة مختلف العلاقات المتبادلة بين جيمع الأنظمة الخلويّة وخاصة العلاقات بين الدنا (DNA) والرنا (RNA) وعمليّة الاصطناع البروتيني، إضافة إلى آليات تنظيم هذه العمليّة وسائر العمليات الحيوية. [م]
2- الكيمياء الحيوية - أو البيوكيمياء (Biochemistry) : من فروع العلوم الطبيعية، وهو علم يختص بدراسة التركيب الكيميائي لأجزاء الخليّة في مختلف الكائنات الحيّة؛ سواء كانت كائنات دقيقة؛ كالبكتيريا والفطريات والطحالب أو راقية؛ كالإنسان والحيوان والنبات [م]
3- علم الأحياء الخلوي - أو البيولوجيا Cell biology أو cellular biology أحيانا cytology) - : علم يقوم بدراسة الخلايا الحية؛ بخواصها، وبنيتها ومكوناتها، والعضيات الموجودة فيها، وتفاعلاتها مع البيئة المحيطة. إضافة لذلك دورة حياتها، وانقسامها، وأخيرا موتها، وتُدرس على نطاق مجهري أو جزيئي. [م]
4- الهندسة الكيميائية - أو الهندسة الكيماوية (Biochemistry) - : علم هندسي يختص بتصميم وتطوير العمليات الصناعيّة الكيميائيّة أو التحويلية. وبتصميم وبناء وإدارة المصانع التي تكون العملية الأساسية فيها هي التفاعلات الكيميائية، وتندرج تحت هذا التخصص عمليّات انتقال المادّة والحرارة والكتلة كما تشمل التفاعلات وعمليات الفصل متعدّدة .المراحل وتكاد تكون مقابلة لمصطلح هندسة العمليات. [م]
5- الروبوتات الحيوية (Biochemistry) مصطلح يُستخدم أحياناً للإشارة إلى اختصاص نظري للهندسة الوراثية الشاملة التي يتم إنشاء الكائنات الحية وتصميمها فيها عن طريق الوسائل الاصطناعية [م]

أخرى عمليّة تخمّر حمض اللاكتيك. وقد أفادت هذه الطريقة في الحفاظ على الأطعمة المنتجات، وما زلت تُستخدم إلى اليوم في الخبز والمعجنات. وبالرغم من رواج استخدام هذه التقنية عند الإنسان منذ آلاف السنين، لكنّ العالم الفرنسي باستور (1)(1895م) استطاع أن يكتشف أسراره العلمية عام 1857م، ويقدّم بياناً دقيقاً لمجرياته. وإنّ هذا التأخّر الزمني في الوصول إلى بيانات علمية تفسّر بعض الظواهر - قياساً لتوظيف القدرات العِلّيّة تقنيّاً - أمر ليس بالغريب، بل نراه يتكرّر في تاريخ العلوم على الدوام، وإننا هنا عند الحديث عن حقول التقنيات المتقاربة، نواجه أحد أمثلته المتعدّدة. ومن بين مظاهر التقنية الحيوية يمكن الإشارة إلى تركيبة النباتات والمتعضّيات الحيّة لأهداف طبية وعلاجية.

وهذا اللون من استخدام التكنولوجيا الحيوية كان متداولاً في كثير من الحضارات القديمة بصفتها فرعاً من فروع الطبّ؛ فعلى سبيل المثال: اعتاد الأطباء منذ حوالي 200 عام قبل الميلاد على استخدام مقادير صغيرة من عدوى الأمراض، لإيجاد الحماية ضد أنواع من العدوى التي قد يُبتلى بها جسم الإنسان. وقبل عقود قليلة سبقت اكتشاف الإنجليزي جينر (2) (1895م) للقاح الجدري، ورواجه في إنجلترا، استخدم الأطباء المسلمون في الدولة العثمانية وغيرها من البقاع تلك الطريقة أيضاً؛ حيث قاموا بالتلقيح مستخدمين مقادير ضئيلة من فيروس الجدري؛ لتحصين الناس أمام هذا المرض، لا سيّما الأطفال منهم. وقد طوّرت أعداد كبيرة من هذه الأساليب والعمليّات في الطبّ ،الحديث وخضعت لتعديلات وإصلاحات، لتظهر في نهاية المطاف على هيئة لقاحات، ومضادات حيويّة، وتدخل في سلك الاستخدام العام.

لقد انطلقت بدايات التقنية الحيوية الحديثة - حسب بعض المنقولات - في عقد

ص: 184


1- لويس باستور (Louis: Pasteur عالم كيميائي فرنسي عُدّ كأحد أبرز مؤسسي علم الأحياء الدقيقة في الطب، ويُعرف بدوره المميّز في بحث أسباب الأمراض وسبل الوقاية منها. ساهمت اكتشافاته الطبية بتخفيض معدل وفيات حمّى النفاس وإعداد لقاحات مضادّة لداء الكلب والجمرة الخبيثة [م]
2- إدوارد جينر (Edward Jenner طبيب إنجليزي اشتهر باكتشافه لقاحاً ضد مرض الجدري. [م]

الثمانينات من القرن العشرين؛ حيث قام الباحث الهندي شاكرابارتي (1)- الذي كان يعمل لصالح شركة جنرال إلكتريك - باستخدام علوم الهندسة الوراثية لتطوير نوع من البكتيريا قادر على تفتيت بقع النفط الغليظة، وتحويلها إلى مادة أقل كثافة. ومنذ ذلك الحين، توسعت هذه التقنية بشكل مطّرد، مستلهمة من الطبيعة، ومتطلّعةً لإمكانية التدخل في العمليات البيولوجية، والتعديل عليها، وقد فتحت أمام الإنسان أفقاً رحباً من الإمكانيات والقدرات الجديدة. هذا، وتتوزّع استخدامات التقنية الحيويّة في أربعة حقول صناعيّة أساسية؛ هي: الرعاية الصحيّة (الطبّ)، وإنتاج المواد الزراعية، والاستخدام الصناعي - لا الغذائي - للمنتجات الزراعية (كما في المواد البلاستيكيّة القابلة للتحلّل في الطبيعة، والزيوت النباتية وأنواع الوقود الحيوي)، والاستخدامات المرتبطة بالبيئة.

لقد حاول علم الأعصاب الإدراكي (2) - والعلوم الاستعرافية بشكل عام - أن يعثر على إجابة للاستفسار عن كيفية جريان العمليّات الذهنيّة كعمليات التفكير والإدراك، والذاكرة) التي ينظمها وينفّذها الدماغ. وإن أملاً كبيراً يحدو البشرية اليوم للوصول إلى إجابات شافية لهذا اللون من الأسئلة من خلال توظيف هذا العلم، والوقوف على كيفية انقداح هذه الكيانات في الذهن والدماغ، وكيفية إدراكنا لما نعلم به. ووفقاً للعلوم الاستعرافية فإنّ المعرفة سلسلة متنوعة من عمليات عليا يقوم بها الذهن؛ كما في عمليات التفكير والإدراك، والتخيّل، والنطق والتخطيط والعواطف المرتبطة بالإدراك . وعلى أساس من هذا التعريف، حاول علم الأعصاب الإدراكي أن يقدّم شرحه وتفسيره للعمليّات المعرفية من خلال مقاربات اعتمدت بشكل أساسي على محورية الدماغ.

ص: 185


1- أناندا شاكرابارتي (Ananda Chakrabarty: باحث هندي أمريكي مختص في الميكروبيولوجيا، اشتهر بتعديله الوراثي على كائنات حية دقيقة طوّرت لتأكل النفايات الخطيرة. [م]
2- علم الأعصاب الإدراكي (Cognitive neuroscience) هو فرع علمي يُعنى بالبحث عن الركائز البيولوجية الكامنة وراء الإدراك مع التركيز بوجه خاص على الركائز العصبية للعمليات العقلية [م]

وعلى الرغم من أن مجموعة العلوم الاستعرافيّة تنطوي على حقول معرفية متنوعة - مثل : علوم اللغة، والفلسفة وعلم النفس، وعلم الأعصاب الإدراكي - لكن التقنيات المتقاربة تركّز في أبحاثها على معطيات علم الأعصاب الإدراكي بشكل أساسي. وعليه: فإنّ الاهتمام الأوّل في هذا الصدد سيكون منصباً على بحوث تتصف بثنائية العلم والتكنولوجيا. هذا، ويقوم علم الأعصاب الإدراكي بمدّ الجسور بين العلوم الاستعرافية وعلم النفس المعرفيّ من جهة، وعلم الأحياء وعلم الأعصاب من جهة أخرى. وهو حقل علمي حديث لم يلتحق بركب العلوم والتنقيات سوی قبل بضع عقود خلت.

أمّا الحقل البحثي المسمّى بالحياة الاصطناعية (1) فهو مجال متعدد التخصصات يهدف إلى كشف الخصائص الجوهرية (2) للأنظمة الحيوية من خلال التعديل الاصطناعي على هذه الأنظمة باستخدام قنوات مثل : المحاكاة، والنماذج الحاسوبية، والروبوتيات، والبيوكيمياء .

ونظراً إلى أنّ الخصائص الجوهريّة الانتزاعيّة للأنظمة الحيّة (مثل : السلوك الذكي أو قابليّة التأقلم مع البيئة) تنتمي إلى الأمور التي تتناولها العلوم الاستعرافيّة، فإنّنا نشهد نوعاً من التداخل (3) بين حقلي الحياة الاصطناعية والعلوم الاستعرافية.

ص: 186


1- الحياة الاصطناعية (Artificial life) - وتختصر أيضاً ب- «ALife - : أحد حقول العلم الممتزجة بالفنّ، يبحث في الأنظمة المرتبطة بالحياة، وعملياتها، وتطوّرها من خلال المحاكاة باستخدام نماذج حاسوبية، أو روبوتات والكيمياء الحيوية. وهو مجال يتشابه مع علم الأحياء، ويفارقه؛ فهو يحاول إعادة صناعة الظاهرة البيولوجية وترميمها بدل محاولة عزلها. وباختصار يمكن تعريف الحياة الاصطناعية بأنها مجال يدرس البيولوجيا من زاوية تهدف إلى تصنيعها. فمعظم الباحثين في هذا المجال يعتقدون أن منتجاتنا الاصطناعية (مثل: التركيبات الكيميائية، والروبوتات لاسيّما ،الحواسيب وما شاكلها تطوّرت، وبلغت حداً من التعقيد يجعلنا نتطلّع إلى صناعة الحياة وتخليقها. وقد تأسست بدايات هذا الحقل العلمي التكنولوجي في سبتمبر 1987م على يد لانغتون الذي عرفه بالقول: «تُعنى الحياة الاصطناعية بدراسة الأنساق التي تبنيها يد الإنسان والتي تكشف عن تصرفات تتميز بها في مستقر العادة الأنساق الطبيعية الحيّة؛ فالحياة الاصطناعية مبحث يكمّل ويتمّم العلوم البيولوجيّة التقليدية التي تدرس الأجهزة العضوية الحيّة، ويسعى إلى تركيب السلوكات الشبيهة بسلوك الحيّ عن طريق استعمال الحواسيب وغيرها. [م]
2- Essential properties.
3- Overlap.

هذا وتنشعب أبحاث الحياة الاصطناعية إلى ثلاث شُعب مترابطة فيما بينها، وتتمايز من خلال نوعية الأساليب المتبعة في عملية الترميم الاصطناعية المستخدمة فيها.

أمّا شعبها الثلاثة فهي: الحياة الاصطناعية البرمجية(1)، والحياة الاصطناعية العتاديّة (2) ، والحياة الاصطناعية الرطبة (3)، وهي التي تستلهم أبحاثها من الكيمياء الحيويّة، وتقوم بتصنيع نماذجها باستخدام مواد بيوكيميائية (4).

أمّا مصطلح الحياة الاصطناعيّة فهو تعبير اقترحه العالم الأمريكي لانغتون(5).

لقد تحوّلت عمليّات المحاكاة الحاسوبية إلى أداة مهمة في مجالات بحثية وعلمية متعدّدة، ويتجلّى الدور البارز لهذه الأداة بشكل خاص في الموضوعات التي لا يمكن فيها استخدام مناهج الرياضيات التقليديّة في تحليل النظم غير الخطية (6)المعقدة جداً، أو في شأن التجارب الخطيرة المحفوفة بالمجازفة، أو التي تكون باهظة التكاليف، أو تلك التي يتعسّر تنفيذها فنيّاً. وكمثال على ذلك لو أردنا الإجابة على سؤال مفاده: كيف يمكن لمجرّتين أن يتصادما، وماذا سوف ينجم عن هذا الاصطدام؟ فإننا لن نتمكن من الحصول على ردّ من دون اللجوء إلى أسلوب المحاكاة الحاسوبية. وكذلك الحال فيما لو أردنا الإجابة على سؤال يستفسر عن ردود الأفعال التي سوف يلاقيها

ص: 187


1- Soft Artificial Life .[م]
2- Hard Artificial Life. [م]
3- Wet Artificial Life . [م]
4- Biochmical Substances.
5- كريستوفر لانغتون (Christopher Langton عالم كمبيوتر أمريكي، بادر إلى إطلاق الشرارة الأولى لأبحاث الحياة الاصطناعية عندما كان يعدّ بحثاً لنيل شهادة الدكتوراه آنذاك، وذلك خلال ندوة بلوس ألاموس في نيو میكسيكو عن موضوع تركيب الأنساق البيولوجية ومحاكاتها (Synthesis and Simulation of Biological (Systems) نُشرت أعمالها عام 1989 [م]
6- [م] . Nonlinear systems

منتج جديد يُعرض لأوّل مرّة على السوق المحليّة مثلاً، أو عن تقلبات الظروف الجويّة، فإنّ أسلوب المحاكاة الحاسوبية هو الأنجع.

واليوم، يمكن لحواسيب فائقة القوّة - مثل : الحاسوب 512 ، وهو المعالج الذي تستخدمه وكالة ناسا الفضائية لدراسة الأنواء والتقلبات الجوية، أو الحاسوب 2200 هو المعالج الذي تمتلكه جامعة فرجينيا للتقنية، وهو ثالث أسرع حاسوب في العالم - أن تلعب دوراً بارزاً وموسّعاً لتخمين آثار التقنيات المتقاربة (NBIC) وتداعياتها على البيئة. وعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى الآمال الكبيرة بشأن السيطرة على مقادير غاز ثاني أكسيد الكربون المعلقة في الجو باستخدام تقنية النانو، وكذلك التقنية .الحيوية كما يمكن لأسلوب المحاكاة الحاسوبية أن يبيّن لنا مدى انطباق هذه الآمال مع الواقع أيضاً. وإنّ عمليّات المحاكاة هذه من شأنها أن تسهم في الحد من إهدار الطاقة والمواد، وأن تحول دون وقوع مخاطر قد تلوح في الأفق(1).

وبعد إلقاء نظرة على التقنيات الحديثة، يأتي دور السؤال المهم هنا؛ وهو: إذا كانت هذه التنقنيات البشرية مفيدة ، فلِمَ لم يمنحها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للإنسان بشكل مباشر ؟ وإذا كانت غير مفيدة فلِمَ لم تتصدّى لها الحكمة الإلهية وتمنعها؟

والجواب الوجيز على هذا السؤال يمكن استخلاصه مما تقدّم على النحو التالي:

لا تختلف التقنيات الحديثة عن التقنيات القديمة في انقسامها إلى خيّرة وشرّيرة. وإنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يختار الإنسان - بمحض إرادته - سلوك طريق الخير أو الشر. وقد جعل الله جَلَّ وَعَلا بقدرته سنناً طبيعية تسود هذا العالم، ويمكن للإنسان من خلال جهوده العلمية وما أتاحه له الإذن الإلهي التكويني أن يسبر أغوار هذه السنن. وهو مخيّر بحُسن إرادته أو بسوئها في أن يحوّل العلوم التي يحصل عليها

ص: 188


1- لاحظ: الموج الرابع في التنمية العلميّة التكنولوجية وتداعياتها الثقافية والاجتماعيّة في إيران علي بابا ورضا كلانتري نجاد مركز بحوث السياسة العلمية في إيران، ص 45-3 .[بالفارسية]

إلى تقنيات مفيدة أو ضارّة. ولم تتعلّق الحكمة الإلهية في أن توفّر للإنسان وتملكه مقاليد كلّ خير أو شرّ في هذا العالم، بل يجب عليه أن يحوز حقائق الكون ويتصرف فيها بعد محاولاته ومساعيه العلمية والعملية الحثيثة . ومهما يكن من أمر، فإن المهم هنا قضيّة السيطرة على السلوك البشري الحديث الذي من شأنه أن يفجّر أزمات عديدة للبشرية بأسرها، وهي المسؤولية الجسيمة التي تكفّلتها بعض العلوم الإسلامیّة في مجالات العقيدة والفقه والأخلاق .

وبناءً على ما تقدّم، كان من الممكن للحكمة الإلهية أن تُطلع الإنسان على السنن الطبيعية، أو أن تمنحه قدرة التصرّف في الطبيعة من خلال حصوله على التقنيات الحديثة، كما كان من الممكن لها أن تهديه إلى دستور إلهيّ يضمن له السيطرة على تلك التصرفات. والواقع المعاش ينبئنا بأنّ الإنسان - مع كلّ ما يعانيه من ابتعاد عن الدين الإلهيّ، وانغماس في العقل المغرور بذاته - قد توصل اليوم إلى امتلاك تقنيات حديثة، قدّمت له حلولاً ناجعة لبعض مشكلاته، إلّا أنها أودت به إلى منزلقات خطيرة جداً، وتركته في دهليز مظلم ومؤسف . وإذا ما أرادت البشريّة أن تتكامل وتتألّق، وتنأى بنفسها عن مخاطر الإفراط أو التفريط، فلا محيص لها في أخذها بحبال العقل والتجربة من التمسّك بعُرى الوحي الإلهي .

9/4/6. النظام الكونيّ الأحسن:

لا يعني النظام الأحسن إنكار النقص الذاتي في الممكنات؛ فالنقص على مستوى الذات لا ينفكّ عن الممكنات بأي حال. النظام الكونيّ الأحسن والأكمل يعني أنّ نظاماً أفضل وأكمل من النظام الذي هو موجود في عالم الممكنات غير قابل للتحقق؛ لأنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى يتصف بالفيّاضيّة، ومن اللازم أن يخلق جميع مراتب الوجود. ونظراً إلى عدله فمن الضروري أنه يضع كلّ شيء في موضعه. أما حكمته فهي تقتضي أن يكون خلقه على نحو غائي وهدفيّ (1).

ص: 189


1- لاحظ شرح كشف المراد، ص 85.

وقد ذهبت غالبيّة المتكلّمين من الإماميّة إلى أنّ الإرادة الإلهية هي علم الله عَزَّ وَجَلَّ بالمصلحة الكامنة في الأمور(1). وصرح الحكماء المسلمون بهذا المعنى أيضاً؛ حيث ذهبوا إلى أنّ إرادته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هي عين علمه بالنظام الأحسن، ويُعدّ هذا العلم منشأ الخلق العالم (2).

ومن هنا نجد الشيخ الطوسي (460ه) يقول:

الله تعالى مريد؛ بمعنى أنه يرجّح الفعل إذا علم المصلحة؛ بدليل أنه خصّص بعض الأشياء بوقت دون وقت، وشكل دون شكل (3).

ويقول الشيخ المفيد (413ه) في هذا الصدد:

الإرادة [الإلهيّة ] هنا :قسمان: إرادة لأفعال نفسه، وإرادة لأفعال عبيده، وكذا الكراهة؛ فإرادة أفعال نفسه عبارة عن علمه الموجب لوجود الفعل في وقت دون وقت ؛ بسبب اشتماله على مصلحة داعية إلى إيجاد الفعل في ذلك الوقت، دون غيره وإرادة أفعال عبيده عبارة عن طلبه إيقاعها منهم على وجه الاختيار(4).

وفي الفلسفة فإنّ الفاعل بالعناية هو الفاعل الذي يتبع فعله عمله، وعلمه بالخير المطلق يكفي في صدور الفعل من الفاعل من دون وجود دافع زائد على ذات الفاعل وفعله هو مجرد علمه بالنظام الأحسن. وبعبارة أخرى: إنّ منشأ الفاعلية الإلهيّة هو علمه بالخير المطلق، والنظام الأحسن في الوجود، وإن علمه بنظام الوجود هو عين الوجود(5).

ص: 190


1- راجع: أنوار الملكوت في شرح الياقوت ص 67؛ معجم الكتب الحديثية الشيعية، ص 69 .[بالفارسية].
2- دانشنامه ،علائي ابن سينا ص 93-97 [بالفارسية].
3- الرسائل العشر الشيخ الطوسي، ص 95 راجع أيضاً: إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، المقداد السيوري، ص 40 ومعجم الشيعة ص 69 [بالفارسية].
4- النكت الاعتقادية ،الشيخ المفيد، ط بيروت، دار المفيد، ص 18.
5- لاحظ: شرح المنظومة السبزواري، ص 112؛ الحكمة المتعالية (الأسفار)، صدر الدين الشيرازي، ص 165، و213؛ معجم المعارف الإسلامیّة، ج 3 [ بالفارسية].

ويرى العلامة المطهّري (1399ه) أنّ صفتي «العدل» و«الحكمة» صفتان مهمتان في باب الأفعال الإلهيّة. أمّا المقصود بالعدل الإلهي فهو أَنه جَلَّ وَعَلا لا يُهمل أيّ استحقاق أو أهليّة لأيّ موجود، ويعطي كل ذي حق حقه. وأما المراد من حكمته فهو أنّ نظام الخلق هو النظام الأحسن والأصلح؛ أي: أفضل نظام ممكن على الإطلاق(1).

إنّ العالم في أفق الرؤية الكونية التوحيديّة الإسلامیّة هو مخلوق من خلق الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وإنّ العناية والمشيئة الربانية هي التي تحافظ عليه وترعاه، وإذا تخلّت تلك العناية الإلهية عن العالم - ولو للحظة - لتلاشى واندثر وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالى لم يخلق هذا الكون باطلاً، أو لعباً، أو عبثاً، بل لأجل أهداف حكيمة هي التي تقف وراء خلق العالم والإنسان، ولم يُخلق في هذا العالم أيّ شيء فاقد للحكمة، أو في غير محله، وإنّ النظام الموجود هو النظام الأحسن والأكمل، والعالم قائم على العدل والحق. وقد خلق هذا الكون على أساس من الأسباب والمسبّبات ويجب العثور على أي نتيجة حاصلة من خلال أسابها ومقدّماتها التي تخصها، ولا ينتج عن أي مقدّمة أو سبب سوى النتيجة والمسبب الخاص بها. فالقضاء والقدر الإلهيّان لا يوجدان أي شيء إلا من خلال مجرى علته الخاصة به والقضاء والقدر الإلهيان لشيء ما هما عين القضاء والقدر لسلسلة علله (2).

10/4/6 .فلسفة خلق الإنسان والعالم:

يمثل البحث عن فلسفة الخلق، والسؤال عن هدفيّة الفعل الإلهي أو عدمها، أحد القضايا المركزية التي يعالجها باب الإلهيات في علم الكلام والهدف أو الغرض أو الغاية يعني: الفائدة التي تترتب على الفعل. ومن زاوية فلسفية فإنّ العلة الغائية هي : العلم والإرادة التي تتعلق بالفائدة والكمال المترتبين على الفعل.

ص: 191


1- الأعمال الكاملة، المطهري، ج 2، ص 149. [بالفارسية].
2- الأعمال الكاملة المطهري، ج 2، ص 87، 149 . [بالفارسية].

ومن الجدير بالتنويه به هنا ما يلي:

1 . تنطوي الأفعال الإرادية والاختيارية على غايات وعلل غائية؛ بمعنى أنّ الفاعل يعلم بالفائدة والكمال المترتبين على الفعل، ويريده، كما أنّ الفعل ذاته ينطوي على غاية وفائدة في مقام التحقق أيضاً؛ سواء كانت هذه الغاية أو تلك الفائدة هي ذاتها التي أرادها الفاعل، أم لا، وسواء كانت عقلانية، أو غير عقلانية.

2 . ما من شكّ في أنّ الأهداف تنقسم من ناحية طولية إلى: أهداف بدائية، ومتوسطة ونهائية. بيد أنّ الهدف النهائي في الحقيقة أمر واحد. أما الأمور الأخرى فهي ترد بوصفها أموراً معدة ،وممهدة، أو من مستلزمات الهدف النهائي؛ فعلى سبيل المثال : إذا وضع الطالب في مسيرة تحصيله العلمي غاية كبرى تتمثل في نيله مرتبة الدكتواره أو الأستاذية في الجامعة مثلاً، فلا مراء في ضرورة طيّه لجميع المقدّمات والمراحل الدراسية والتحصيلية التي تسبق ذلك، فتكون الدكتوراه أو الأستاذية الهدف النهائي، وتمثل المقدّمات والمراحل الدراسية التي تسبقها الأرضية عندئذٍ هي التي تحقق ذلك الهدف النهائي.

3 . من المعتاد أن ينبري الإنسان لتلبية احتياجات نفسه وقواه التي يتحلى بها؛ بمعنى أن الفاعل المختار أياً كان يقوم بتصوّر الهدف أولاً، ثمّ يمضي في إرضاء إحدى غرائزه الشهوية أو الغضبية أو العقلية، أو أحاسيسه وعواطفه، وما شاكل ذلك.

4 . يدلّ وجود الهدف على النقص، والسعي نحو كسب الكمال عند الفاعل، وبهذا المعنى يستحيل فرض هدف أو غاية الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ لأنه هو الكمال المحض، وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَالله هُوَ الْغَنِيُّ ) (1).

ومن هنا، فإنّ الأفعال الإلهية ليست معلّلة بالأغراض، لكن انعدام الهدف بهذا

ص: 192


1- سورة فاطر: 15 .

المعنى لا يستلزم العبثية أو اللغوية وانعدام الحكمة في الأفعال الإلهية؛ لأنّ المسلوب عن الله جَلَّ وَعَلا هنا هو الغرض بمعناه البشريّ الذي يدلّ على تلبية حاجة الإنسان، ولا ضير في فرض الهدف لفعله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بمعنى آخر مغاير لذاك.

وقد أجاب بعض المتکلّمین على هذا السؤال بتصنيفهم الهدف إلى ضربين: فاعلي، وفعليّ. أمّا الهدف الفاعلي منسوب (للفاعل فهو الذي يضعه الفاعل نصب عينيه لرفع نقص فيه، ولأجل بلوغ مرتبة من الكمال، وأمّا الهدف الفعلي (منسوب للفعل) فهو ما يتناوله الفاعل من أجل رفع النقص عن فعله، ولا يترتب عليه أي منفعة ذاتيّة تعود للفاعل؛ كما هو حال المعلّم الذي يدرّس تلاميذه من دون مقابل، ولا يستهدف في فعله إلا رقيهم وتنامي معارفهم . وإذا كان الله تَبَارَكَ وَتَعَالى لا يصح فيه الهدف الفاعلي، فلا ضير في تصوّر هدف فعلي له.

في المحصلة نقول : الهدف الإلهي من خلق العالم هو إيصال المخلوقات إلى الكمال. ولا يخفى على أهل التحقيق أن تلبس الكائنات الممكنة بجلباب الوجود، وخروجها من دائرة العدم هو كمال في حدّ ذاته يحصل عليه كلّ مخلوق بمجرد تنعمه بنعمة الوجود وبعد استحصال الموجودات المختارة لكمال الوجود بوصفه هدفاً بدائيّاً للخلق، تتحلّى هذه المخلوقات بأهداف متوسطة ونهائيّة؛ أي أنها تمضي في مسيرة استكمالية متواصلة. ويمكن لسائر الموجودات أيضاً أن يكون لها أهدافاً أخرى تصبّ في دائرة الابتلاء والاختبار الإلهي للإنسان. ولم يكتف بعض الفلاسفة بهذا القدر فذهبوا إلى أن إيصال المخلوقات إلى الكمال هدف متوسط، ينتظر منا هو الآخر إجابة لنعرف العلة الغائية له، والجواب عندهم: إنّ ذات الله عَزَّ وَجَلَّ - أو قل: ألوهيته وربوبيته - تستلزم إيصال مدّ المخلوقات بما ينفعهم؛ بمعنى أنّ الرحمة الإلهية المطلقة التي هي عين ذاته تقتضي هداية المخلوقات إلى كمالها. وبذلك، تكون العلة الغائية قد عادت إلى أمر هو من لوازم الذات الإلهية.

ص: 193

أمّا الآن وبعد أن تبيّنا شرحاً عقليّاً لمعنى الغائيّة في الفعل الإلهي فقد وصل الدور لإلقاء نظرة فاحصة على ما يمدنا به الوحي الإلهي من إضاءات تنير لنا الدرب في طريق معارفنا، وتعطّر لنا أجواء السير إلى فناء الحب الإلهي.

وقد ورد في القرآن الكريم بخصوص الهدفية والغائية في عالم الخلق آيات عديدة ومتنوعة نذكّر بها حسب الترتيب التالي :

1 . الآيات التي تشير إلى صفة «الحكمة»، وتتناول الاسم الإلهي «الحكيم» بوصفه أحد الأسماء الحسنى لله جَلَّ وَعَلا ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (1)، ﴿ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (2) ،(وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحَمْتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابُ حَكِيمٌ ﴾(3)، (ولا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدِ) (4).

2 . الآيات التي تبيّن أهداف خلق العالم والكائنات؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )(5)، والمقصود في هذه الآية الكريمة أن هدف خلق الإنسان هو بلوغه الكمال، وأن هذا الهدف متوقف على وجود عالم الطبيعة والسماوات والأرض والابتلاء والاختبار؛ وبالتالي فإنّ المشروع الإلهي ينطوي على هدف نهائي واحد، وأنّ تحققه يجري من خلال ذلك.

ويقول تعالى أيضاً: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (6) ، (إنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (7)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ﴾(8) ، ﴿وَإِلَيْهِ

ص: 194


1- سورة البقرة : 220 .
2- سورة النساء: 26 .
3- سورة النور: 10 .
4- سورة فصلت: 42.
5- سورة هود: 7 .
6- سورة الكهف: 7 .
7- سورة العلق: 8 .
8- سورة الذاريات: 56.

يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾(1) ، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾(2)، (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَام )(3)، (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالأَخِرَةِ)(4) ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ (5) .

وبيان الآيتين الأخيرتين بالنظر إلى العلم الذاتي واللامحدود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ صفاته على ضربين : ذاتيّة وفعليّة . والبعض من صفاته يمكن فيه هذين المعنيين؛ أي أنّ صفة واحدة تكون ذاتية بمعنى، وفعليّة بمعنى آخر. فإذا تصوّرنا «الإرادة الإلهية» مثلاً بملاحظة الفعل الإلهي كانت هذه الصفة فعلية، وإذا تصوّرناها بملاحظة العلم الإلهي، بعيداً عن الأفعال، فإنّ هذه الصفة تُعدّ ذاتيّة. و«العلم الإلهي» نفسه يكون صفة فعليّة إذا كان المعنى حضور العمل عند الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وبناءً على ذلك: فإنّ معنى الآيتين أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد خلق الشيطان من أجل أن يحضر إيمانكم وعملكم الله بصورة فعليّة؛ لا أنه جَلَّ وَعَلا قبل تحقق الفعل، لم يكن يعلم بوجود الفعل أو طبيعته، وأنه احتاج لرفع جهله إلى الابتلاء والاختبار، بل إن تحقق الأعمال وحضورها بين يديه بشكل فعلي أمر له أهميّته وموضوعيّته عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى

3 . الآيات التي أنكرت العبثية في الخلق، ونزّهت الباري عَزَّ وَجَلَّ عن اللهو واللعب، مصرحةً بحقانية عالم الخلق. يقول تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) (6)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)(7)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ هُوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾(8)،

ص: 195


1- سورة هود: 123 .
2- سورة البقرة: 29.
3- سورة الرحمن: 10 .
4- سورة سبأ: 21 .
5- سورة محمد: 31 .
6- سورة المؤمنون: 115 .
7- سورة الدخان: 38 .
8- سورة الأنبياء: 16-17 .

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ)(1) ، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾(2).

4. الآيات التي أشارت إلى هدف خلق الإنسان؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(3) ،( وَاعْبُدُ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ﴾(4) ، ﴿أَلهاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجُحِيمَ ﴾(5) ، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾(6). وقد ظنّ الكثير من الكتاب والباحثين أنّ هذه الآيات قد حاولت رسم الأهداف الإلهية وترتيبها بتسلسل ينطلق من الأهداف البدائية، ويمر بالأهداف المتوسطة، ليصل إلى الهدف النهائي، لكنّ كاتب هذه السطور يرى أن الآيات واضحة في إشارتها إلى الهدف النهائي والحقيقي لخلق الإنسان؛ ألا وهو العبودية. وإنّ اليقين أو القرب واللقاء الإلهي إنّما تُعدّ من لوازم العبودية.

11/4/6. فلسفة خلق الشيطان:

واقع «الشيطان» - أو الكائن المسمّى ب«إبليس» - هو انتماؤه إلى «الجنّ». وقد شملت فيّاضيّة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إبليس لتخرجه من دائرة العدم إلى الوجود. وقد انخرط هذا المخلوق في سلك العابدين الله عَزَّ وَجَلَّ، ثمّ شاء بإرادته واختياره وبسبب الحسد الذي اعتراه أن يتمرّد على الأمر الإلهيّ، وهذا ما أدى به إلى أن يغدو كافراً وشيطاناً.

ص: 196


1- سورة الأنعام: 73.
2- سورة ص: 27.
3- سورة الذاريات: 56 .
4- سورة الحجر: 99.
5- سورة التكاثر: 1-6 .
6- سورة الانشقاق: 6 .

وبناءً على ذلك، فإنّ المقولة التي تزعم أنّ الشيطان» مرتبة من مراتب وجود الإنسان لا أساس لها من الصحّة .

يقول الفيض الكاشاني (1091ه) في هذا الصدد:

قال بعض أهل المعرفة : اعلم أنّ النفس والشيطان والملك ليست أشياء خارجة عنك، بل أنت هم؛ وكذلك السماء والأرض والعرش والكرسي، ليست أشياء خارجة عنك، ولا الجنّة والنار؛ إنّما هي أشياء فيك (1).

هذا ، ويؤمن المفكّرون الإسلاميون تبعاً لما استنبطوه من الكتاب والسنة بوجود كائنات واقعية خارج خيال الإنسان وغرائزه، قد تتسمّى ب«الجنّ» أحياناً أو «الشيطان» في أحيان أخرى. ويمكن تصنيف الآيات التي تطرّقت هذا الموضوع على النحو التالي:

1 . الآيات التي تبيّن أنّ المنشأ المادّيّ لإبليس، وأنّ ماهية الجن والشيطان هو النار؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَالجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴾(2)، ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ )(3).

2 . الآيات التي تصف إبليس بأنه من الجنّ؛ مثل قوله تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجنَّ )(4) .

3 . الآيات التي تصف إبليس بأنه كافر ومستكبر؛ مثل قوله تعالى: ﴿فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )(5). وحسبما تقصه لنا آيات القرآن الكريم (6)

ص: 197


1- الفيض الكاشاني، أنوار الحكمة: 372 .
2- سورة الحجر: 27.
3- سورة الرحمن: 15 .
4- سورة الكهف: 50 .
5- سورة البقرة: 34 .
6- راجع الآيات التالية: سورة التحريم: 6 ؛ النحل: 49؛ الأنبياء: 19.

فإنّ الملائكة لم تتورّط في المعصية أو تمارس الاستكبار ، لكنّ إبليس اختار بإعراضه عن السجود لآدم المعصية، وانخرط في زمرة المستكبرين.

وقد صرّحت أحاديث شريفة متعدّدة(1) رويت عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) بوجودِ واقعي خارجي للشيطان، وأنه من الجنّ؛ منها : ما رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، أنّ الإمام الصادق (علیه السّلام) قال:

«فَإِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ يَعْبُدُ الله، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَظُنُّ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَمَرَ الله الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، أَخْرَجَ مَا كَانَ فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ مِنَ الْحَسَدِ، فَعَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ... كَانَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ بِالْوَلَاءِ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَة ) (2) .

وعلي بن إبراهيم ثقة في الرواية، أما ابن أبي عمير، وجميل بن دراج فهما من أصحاب الإجماع (3). ويروي ابن درّاج في رواية أخرى عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قوله :

«سَأَلْتُهُ عَنْ إِبْلِيسَ أَكَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ أَوْ هَلْ كَانَ يَلِي شَيْئاً مِنْ أَمْرِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَلي شَيْئاً مِنْ أَمْرِ السَّمَاءِ، وَكَانَ مِنَ الْجِنِّ، وَكَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَرَى أَنَّهُ مِنْهَا، وَكَانَ الله يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا (4).

12/4/6. حكمة وجود الشيطان:

يقول العلامة الطباطبائي (1402ه) في شأن فلسفة خلق الشيطان:

عاد موضوع إبليس موضوعاً مبتذلاً عندنا لا يُعبأ به، دون أن نذكره أحياناً

ص: 198


1- راجع الأحاديث التالية: بحار الأنوار، ج 63، الصفحات : 212 ، 217، 220، 229، 234، 249، 259، 262، 273.
2- بحار الأنوار (ط بيروت)، ج63، ص 234 .
3- كليات في علم الرجال جعفر السبحاني، ص 177.
4- بحار الأنوار (ط) بيروت)، ج63، ص 218.

ونلعنه، أو نتعوّذ بالله منه، أو نقبّح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية ووساوسه ونزغاته، دون أن نتدبّر، فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسنا، وما له من عجيب التصرّف والولاية في العالم الإنسانيّ. وكيف لا وهو يصاحب العالم الإنسانيّ على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود، حتّى ينقضي أجله، وينقرض بانطواء بساط الدنيا، ثمّ يلازمه بعد الممات، ثم يكون قرينه، حتّى يورده النار الخالدة. وهو مع الواحد منا كما هو مع غيره؛ هو معه في علانيته وسره يجاريه كلّما جرى، حتى في أخفى خيال يتخيّله في زاوية من زوايا ذهنه، أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته، لا يحجبه عنه حاجب، ولا يغفل عنه بشغل شاغل . وأما الباحثون منا، فقد أهملوا البحث عن ذلك، وبنوا على ما بنى عليه باحثو الصدر الأوّل، سالكين ما خطّوا لهم من طريق البحث ؛ وهي النظريات الساذجة التي تلوح للأفهام العامّيّة لأوّل مرّة، تلقوا الكلام الإلهي، ثمّ التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كلّ طائفة خاصة والتحصن فيه، ثمّ الدفاع عنه بأنواع الجدال، والاشتغال بإحصاء إشكالات القصّة، وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه(1).

والسؤال المركزي هنا يدور حول سبب خلق الله جَلَّ وَعَلا لإبليس؛ لماذا خلقه رغم علمه بأنه سيغدو شيطاناً مريداً، يغوي الإنسان ويخدعه؟! هنالك أوجه وأسباب عديدة تفسّر لنا الحكمة من خلق الشيطان، نعرض لها فيما يلي:

1 . الوجه الكلامي أثبتت الأدلّة العقلية والنقليّة أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حكيم. عليه فإن جميع أفعاله تصدر وفقاً لحكمة معيّنة. ولأجل ذلك، أكّد القرآن الكريم على نفي البطلان والعبثية في خلق السماوات والأرض وما بينهما (2). وعليه: فإن خلق الشيطان بوصفه واحداً من مخلوقات الله تَبَارَكَ وَتَعَالى هو الآخر ينطوي على حكمة؛ وإن لم يقف البشر على وجهها.

ص: 199


1- الميزان في تفسير القرآن الطباطبائي، ج 8، ص: 36.
2- راجع الآيات التالية: سورة الأنبياء: 16 الدخان: 38؛ ص: 27.

يقول صدر الدين الشيرازي (1050ه) في هذا الصدد:

اعلم أنّ الله في كلّ مخلوق حكمة ومصلحة وإلّا لم يوجد؛ لاستحالة العبث والقبح في فعله، والإهمال والتعطيل في إيجاده، وأنّ الإنسان كما ينتفع من إلهام الملك كذلك ينتفع بوجه من وسوسة الشيطان(1).

ينبغي أن يُعلم أن الله في كلّ ما يفعله، أو يأمره، أو يأمر به حكمة، بل حكماً كثيرةً؛ لأنه تعالى منزّه عن فعل العبث والاتفاق والجزاف؛ وإن خفي علينا وجه الحكمة في كثير من الأمور على التفصيل، بعد أن علمنا القانون الكلّيّ في ذلك على الإجمال؛ وخفاء الشيء علينا لا يوجب انتفاءه(2).

فإن قلت : فما الحكمة في إيجاد مثل الشيطان، وتسلّطه على أفراد الإنسان، حتى أغوى كثيراً منهم، وأهلكهم، وأوقعهم في سخط الله وغضبه ؟! قلنا: الحكمة فيها كثيرة، لا يحيط بها إلّا الله (3).

ولعلّ إحدى تلك الحِكَم الإلهيّة أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لم يخلق الشيطان بطبيعة ذميمة أو ماهيّة شريرة، بل خلقه كموجود قابل للتكامل، وقد أغدق عليه من هدايته، لكنّ الشيطان اختار أن يسلك طريق الشرّ والانحراف والدليل على أن ماهيّته لم تكن شريرة اشتغاله بالتسبيح والتقديس الله جَلّ وَعَلا لسنوات طوال، حاله في ذلك حال فرعون، أو حال عبدالرحمن بن ملجم ؛ إذ لم يخلقها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بسجيّة أو طبيعة ذميمة، بل كانا مؤهلين للرقي والتكامل الإنسانيّ، لكنّ سوء اختيارهما أودى بهما في هاوية الانحراف(4). لقد وهب الله تَبَارَكَ وَتَعَالى لإبليس عقلا وفها يستعين به

ص: 200


1- مفاتيح الغيب، ص 165.
2- مجموعة الرسائل الفلسفيّة لصدر المتألهين، ص 350 .
3- تفسير القرآن الكريم، صدر الدين الشيرازي، ج 5، ص 245.
4- لاحظ: تفسير النور محسن قرائتي، ج 4، ص 37.

في تمييز الخير عن الشر، ثمّ أمره ونهاه لكنّه حاد عن جادة التقوى، واتبع هوى نفسه فغوی(1).

هذا، ويرى صدر الدين الشيرازي أنّ وجود الشيطان ينطوي أيضاً على فائدة أخرى، تتمثل في الرقي العلمي؛ فوجوده يفضي إلى ذلك. يقول :

كما ينتفع الإنسان من إلهام الملك، قد ينتفع من وسوسة الشيطان؛ فإنّ اتباع الشيطان وأهل الضلال كلّهم تبعة الوهم والخيال ولو لم يكن أوهام المعطلين، وخيالات المتفلسفين والدهريين، وسائر أولياء الطاغوت ومراتب جربزتهم، وفنون اعوجاجاتهم وضلالاتهم وانحرافاتهم وخيالاتهم لما انبعثوا أولياء الله في طلب البراهين، لبيان علّة حدوث العالم على نهج الكشف واليقين. وهكذا في الأعمال؛ لو لم يكن اغتياب المغتابين وتجسّس المتجسّسين بعيوب الناس، لم يجتنب الإنسان كلّ الاجتناب من العيوب الخفية، التي قد لا يراها الأصدقاء، وإنّما يظهر لهم تحققها من تدقيقات الأعداء، وفحصهم والتماسهم ظهورها عليه وعلى غيره. فكم من عدوّ انتفع العبد من عداوته أكثر مما ينتفع من محبّة الصديق ؛ فإنّ المحبّة مما تورث الغفلة عن عيوب المحبوب، والعمى عن رؤية نقائصه، والصمم عن سماع مثالبه. ومن هاهنا، يظهر أنّ لوجود الأفاعيل الشيطانية - كإظهار العداوة والبغضاء والحسد والغدر من الأعداء - فوائد كثيرة عائدة إلى المؤمنين(2).

وبعبارة أخرى: لا يبلغ الإنسان المراتب العليا من الكمال من دون مواجهته لموانع عديدة تعترض طريقه، فيزيحها جانباً ويواصل مسيره إلى الأمام. ولا يتسنّى للإنسان أن يسمو ويتعالى من دون أن تتحدّاه الوساوس الشيطانية، لكنّه بالاتكال على الله عَزَّ وَجَلَّ، وبتوظيفه الصحيح لما يمتلكه من قوة الاختيار، يتجاوز ذلك ويتقدم بخطواته

ص: 201


1- انظر رسائل العدل والتوحيد يحيى بن الحسين، ص 128.
2- تفسير القرآن الكريم، صدر الدين الشيرازي، ج 5، ص 245.

الواثقة نحو الهدف السامي في حياته. وإذا لم يكن أمام الإنسان أي تهديد لوساوس الشيطان، أو أي أثر لإلقاءات النفس الأمارة بالسوء، فماذا يعني التكامل إذن؟!(1)

ويقول صاحب «الرياض» السيد علي خان المدني (1120ه) في هذا الصدد:

وأما الشبهة الخامسة ؛ وهي السؤال عن فائدة تمكين الشيطان من الدخول إلى آدم في الجنّة ... فالجواب عنها : أنّ الحكمة في ذلك والمنفعة عظيمة، فإنّه لو بقي في الجنّة أبداً لكان بقي هو وحده في منزلته التي كان عليها في أوّل الفطرة، من غير استكمال واكتساب فطرة أخرى فوق الأولى، وإذا هبط إلى الأرض خرج من صلبه أولاد لا تحصى، يعبدون الله ويطيعونه إلى يوم القيامة، ويرتقي منهم عدد كثير في كلّ زمان إلى درجات الجنان بقوّتي العلم والعبادة (2).

2 . الوجه النقلى أجابت أحاديث شريفة متعدّدة وردت عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) عن شبهة الحكمة من خلق إبليس، فأشاروا إلى أنّ إبليس كان من الجنّ، وقد خلقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كباقي الجنّ ليبلغ مرتبة الكمال في العبودية، لكنه تمرّد عن أمر ربه بمحض اختياره فاكتوى بنار الحسد التي استعرت في وجوده تجاه المقام الذي بلغه آدم (علیه السّلام) ، وأن عبادته أو عصيانه لا ترد بنفع أو ضرر على الله جَلَّ وَعَلا، كما أنّ سلطانه على الناس لا يتجاوز كونه وسوسةً يلقيها في روعهم. يروي هشام بن الحكم عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال:

«سَأَلَ الزِّنْدِيقُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقَالَ أَفَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِنَفْسِهِ عَدُوّاً وَقَدْ كَانَ وَلَا عَدُوَّ لَهُ فَخَلَقَ كَمَا زَعَمْتَ إِبْلِيسَ فَسَلَّطَهُ عَلَى عَبِيدِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى خِلَافِ طَاعَتِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِمَعْصِيَتِهِ وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ كَمَا زَعَمْتَ يَصِلُ بلُطفِ الحِيلَةِ إلَى قُلُوبهمْ فَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِمْ فَيُشَكِّكُهُمْ فِي رَبِّهِمْ وَيَلْبِسُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فَيُزِيلُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى

ص: 202


1- أسس معرفة الإنسان في القرآن الكريم عبدالله نصري، ص 351 . (بالفارسية)
2- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: 184/3.

أَنْكَرَ قَوْمٌ مَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ رُبُويَّتَهُ وَعَبَدُوا سِوَاهُ فَلِمَ سَلَّطَ عَدُوَّهُ عَلَى عَبِيدِهِ وَجَعَلَ لَهُ السَّبِيلَ إِلَى إِغْوَائِهِمْ قَالَ إِنَّ هَذَا الْعَدُوّ الَّذِي ذَكَرْتَ لَا يَضُرُّهُ عَدَاوَتُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ وَلَايَتُهُ وَعَدَاوَتُهُ لَا تَنْقُصُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئاً وَوَلَايَتُهُ لَا تَزِيدُ فِيهِ شَيْئاً وَإِنَّمَا يُتَّقَى الْعَدُوُّ إِذَا كَانَ في قُوَّةٍ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ إِنْ هَمَّ بِمِلْكِ أَخَذَهُ أَوْ بِسُلْطَانٍ فَهَرَهُ فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَعَبْدٌ خَلَقَهُ لِيَعْبُدَهُ وَيُوَحدَهُ وَقَدْ عَلِمَ حِينَ خَلَقَهُ مَا هُوَ وَإِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدُهُ مَعَ مَلَائِكَتِهِ حَتَّى امْتَحَنَهُ بِسُجُودِ آدَمَ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَسَداً وَشَقَاوَةً غَلَبَتْ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ صُفُوفِ المَلَائِكَةِ وَأَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْضِ مَلْعُوناً مَدْحُوراً فَصَارَ عَدُوّ آدَمَ وَوُلْدِهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَمَا لَهُ مِنَ السَّلْطَنَةِ عَلَى وُلْدِهِ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ وَالدُّعَاءَ إِلَى غَيْرِ السَّبِيل وَقَدْ أَقَر مَعَ مَعْصِيَتِهِ لِرَبِّهِ بِرُبُوبِيَّتِه» (1).

والسؤال المركزي الآخر الذي قد يخطر بالبال من قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ ﴾(2) هو السبب في منحه هذه المهلة ليمضي في خداع الناس وإضلالهم؟ والجواب : أنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى قد أمهله إلى يوم القيامة على أساس من قوله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) (3)، وقوله أَيضاً: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُردْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا )(4).

ويروي الشيخ الصدوق (381ه) عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى بن علي بن حسان عن علي بن عطية، قال:

قال أبو عبد الله(علیه السّلام): إنّ إبليس عبد الله في السماء سبعة آلاف سنة في ركعتين، فأعطاه الله ما أعطاه ثواباً له بعبادته»(5).

ص: 203


1- بحار الأنوار (ط) - بيروت)، ج 60، ص 234 .
2- سورة الحجر: 38-37 .
3- سورة الكهف: 30 .
4- سورة آل عمران: 145 .
5- علل الشرائع، ج 2، ص 213؛ بحار الأنوار، ج 63، ص 240.

ويروي أيضاً عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن الحسن بن عطية، قال:

«قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): حدثني كيف قال الله لإبليس: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى الْوَقْتِ المَعْلُوم ) ؟ قال : لشيء كان تقدّم شكره عليه، قلت: وما هو ؟ قال: ركعتان ركعهما في السماء في ألفي سنة، أو في أربعة آلاف سنة»(1).

وفي رواية أخرى:

فقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَحِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(2) قال إبليس: يارب فكيف وأنت العدل الذي لا تجور؟! فثواب عملي بطل ؟ قال : لا ؛ ولكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثواباً لعملك أعطك، فأوّل ما سأل البقاء إلى يوم الدين، فقال الله: قد أعطيتك»(3).

13/4/6 تبرير الشرور في الكون:

السؤال عن أسباب حدوث الشرور في العالم، وكيفية التخلّص منها هو أحد أعرق الأسئلة التي اعترضت طريق الإنسان منذ القدم؛ بغضّ النظر عن دينه أو معتقده. وهي قضيّة تناولها معظم المفكرين بالبحث والدراسة، بل هي مسألة تستوقف كلّ إنسان في مسيرته التكاملية فكرياً وعقليّاً.

لقد ارتبطت مشكلة الشرور هذه في الشرق والغرب بعدد من القضايا العقائدية الجادّة، وأسفرت عن تبلور فلسفات ونزعات مادّيّة، وثنوية، وتشاؤمية، وما يُسمّى بلاهوت الصيرورة(4). وما زالت هذه المشكلة تمثّل إحدى أبرز المسائل الأساسية في

ص: 204


1- المصدران السابقان؛ علل الشرائع، ص 212 .
2- سورة الحجر: 34-35 .
3- بحار الأنوار، ج 63، ص 274.
4- [م] .Process Theology

فلسفة الدين والكلام واللاهوت؛ حيث يتساءل فيها عن كيفية التوفيق بين حدوث الشرور والآلام في العالم وصفات إلهية مثل القدرة والعلم والخيريّة المطلقة، والعدل، والحكمة الإلهية.

من هنا، فإنّ فك رموز هذه المسألة وسير أغوارها بما ينسجم مع القضايا الدینیّة المسلّمة أمر مهم وحيوي، ولا يستهان به، لا سيّما أنّ أيّ إخفاق تقع فيه المنظومات الفكرية المنتمية للأديان الإلهية (الإسلام والنصرانية واليهودية) ضمن سعيها لتقديم عرض معقلن في هذا الصدد من شأنه أن يُلحق أضراراً جسيمةً في إيمان الناس، وتعرّضهم لأخطار فادحة.

14/4/6. نطاق البحث في قضية الشرور:

ترتبط قضية الشرور والآلام بمجموعة من المعتقدات الأساسية من جهات متنوّعة، وقد أفضت نتائج البحث فيها إلى شبهات مختلفة. وهنان يمكن الإشارة إلى بعض المعتقدات المرتبطة بهذه المسألة:

1. وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى : فقد طرحت قضية العلاقة بين الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ ووجود الآلام والشرور على طاولة البحث بقوّة في دراسات فلسفة الدين والعلوم اللاهوتية المعاصرة في الغرب. وقد تشبّث البعض في محاولاته لإبطال المعتقدات الدینیّة وعلى رأسها الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا ساعياً إلى إنكار عقلانيّتها ببعض التقارير المنطقية عن هذه المسألة؛ منهم على سبيل المثال جون ليزلي ماكي (1) : (1981م) الذي زعم بوجود مفارقة بين الإيمان بإله قادر مطلق وعالم مطلق، وخيّر مطلق من جهة، وبين وجود الآلام والشرور في العالم من جهة أخرى(2).

ص: 205


1- John Leslie Mackie. [م]
2- الكلام الجديد عبدالحسین خسروبناه ص 76 .[بالفارسية ]

2 .التوحيد الإلهي والسؤال المطروح هنا هو : هل يتلاءم القول بوجود الشرور التي تقابل الخير مع القول بوحدانية المبدأ والخالق؟ وقد أدّى العجز عن حلّ هذه الإشكالية إلى ظهور الثنوية، والإيمان بإله الخير (يزدان) وإله الشرّ (أهريمن)، أو إله النور وإله الظلمة .

3 . القدرة الإلهية المطلقة : لماذا لا يقوم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مع كلّ ما يملكه من قدرة مطلقة بدفع الشرور أو رفعها؟ وكيف التوفيق بين وجود هذه الشرور وصفة القدرة الإلهية المطلقة على تبديد أي مكروه؟ وقد أدّى العجز عن حلّ هذه المسألة عند أصحاب النزعة المسماة بلاهوت الصيرورة في الغرب إلى القول بأنّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكامل بنحو تدريجي على مر الزمن، وزعموا أنّ امتلاك مزيد من العلم والقدرة من شأنه التسبيب في التغلب على النوائب والصعاب شيئاً فشيئاً، والحد من ازديادها، وتقليلها إلى مستويات متدنية جداً.

.4 . العدل الإلهي والسؤال هنا : هل يمكن الإذعان بوجود شرور طبيعية، والبقاء على الإيمان بالعدل الإلهي؟ لقد أدّى إنكار الأشاعرة للحسن والقبح الذاتيين في الأفعال، ونفي قدرة العقل على تحديد الحسن والقبيح إلى إنكار صفة العدل في الله عَزَّ وَجَلَّ وَجَلَ؛ بما يعني عدم وجود معيار عقلانيّ توزن به الأفعال جميعاً؛ بما فيها: الفعل الإلهي، حتى خلصوا إلى القول بأنّ كلّ ما يصنعه الحبيب جميل». وفي المحصلة: إذا انعدم الحسن و القبح الذاتيان والعقليان فكيف يمكن الحديث عن خير أو شر؟ فكلّ الأفعال مستند إلى الله جَلَّ وَعَلا، وكلّ ما يفعله الربّ خير؛ فلا وجود - إذن - للشر.

5 . الرحمة والخير الإلهيّان وهنا يتساءلون: كيف يصح في ربّ رحيم وخيّر مطلق أن يجوّز حدوث أو ظهور كلّ هذه الشرور ؟!

6 .الحكمة الإلهية والسؤال فيها : ألا تتقاطع الشرور في الكون وتتنافى مع الحكمة الإلهية، والهدفية التي أثبتناها له تَبَارَكَ وَتَعَالَى ؟!

ص: 206

7. القضاء الإلهي والعناية الربانية : وهنا يُقال : كيف يمكن للشرور أن تقتحم حريم القضاء الإلهي والعناية الربانية؟ أليسا يقتضيان تحقق الخير في العالم؟ أم أنهما يقتضيان وقوع الشر فيه ؟!

8. النظام الأحسن في الكون والشبهة المطروحة هنا حول كيفية التوفيق بين وجود الشرور والآلام ووجود النظام الأحسن؛ فإذا كان عالم الطبيعة هذا هو أحسن عالم يمكن له أن يرى النور ، فلِمَ - إذن - خُلق بنحو لا ينفك فيه عن الشرور ؟! وقد أفضى العجز عن إيجاد حل لهذه المسألة لى نشوء فلسفات تشاؤمية؛ مثل: فلسفة شوبنهاور(1) (1860م).

وحصيلة البحث هنا أنّ خيوط مشكة الآلام والشرور قد تشابكت مع خيوط البحث عن أصل وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى تارةً، ومع التوحيد بصفته أهم الصفات الإلهية تارةً أخرى، ومع بعض الصفات الإلهية الأخرى ثالثةً، وقد فتحت في كلّ ميدان منها جبهة يجب الخوض فيها بحثاً ودراسةً؛ لما تتحلّى به من ضرورة وأهميّة.

15/4/6. أنواع الشرور:

يمكن تصنيف الشرور بنحو عام إلى نوعين رئيسين:

.1 الشرور الإرادية (الأخلاقية): وهي الشرور التي تنتج عن سوء اختيار الإنسان، وانحطاطه الأخلاقي؛ كما في ما يقترفه من قتل أو نهب أو ظلم أو سرقة أو ما شابه ذلك.

2. الشرور غير الإرادية (الطبيعية): وهي النوائب والصعاب التي تنجم عمّا تفرضه الطبيعة ،وتقلباتها، أو التي تنشأ من تفاعل بعض أجزاء الطبيعة مع بعضها الآخر؛ مثل: السيول، والزلازل، والأوبئة، والأمراض، وما شاكل ذلك.

ص: 207


1- آرثر شوبنهاور (178) Arthur Schopenhauer-1860م) : فيلسوف ألماني عُرف بفلسفته التشاؤمية. كان يرى في الحياة شراً مطلقاً. [م]

وقد يحلو للبعض إضافة نوع ثالث لما ذكر باسم «الشرور العاطفية»، ومثالها : ما يصيب الإنسان من ألم ونصب، وعوز، وهم، وغمّ، وانكسار، وما إلى ذلك(1). لكن، يتحتم الالتفات إلى أنّ الشرور العاطفية ليست نوعاً مستقلاً عما ذكر؛ فالحوادث والنوائب التي تلم بالإنسان - مثل : السيول والزلازل - لا تُعدّ شروراً إن لم تُسفر عن ألم أو نَصب، والحوادث - بحدّ ذاتها - لا تشكل شراً للإنسان، بل تُعدّ شروراً حينما تسبّب إصابة أو ضرراً في حياة الناس ويتقارن معها أي لون من ألوان الأذى والألم. كما أنّ الشرور الأخلاقية لا تتصف بالشر إلا حيث تتسبّب في إيجاد الشرور العاطفية.

وعليه : فإنّ الشرور العاطفية نابعة من منشأ أخلاقي تارةً، ومن منشأ طبيعي تارةً أخرى

ومن اللافت للأنظار هنا أنّ المتكلّمين المسلمين قد استخدموا في بحوثهم عن الشرور مفردة «الآلام أيضاً؛ ليشيروا بذلك إلى أنّ حقيقة الشبهة في قضيّة الشرور تعود إلى حالة الأذى والألم التي تنتج عنها؛ وإن رجّح الفلاسفة الاكتفاء بمصطلح «الشر» نظراً إلى الواجب العلمي الذي تضطلع به الفلسفة بشأن كشف الواقع ومعرفة الوجود، وقد ذهبوا إلى أنّ الشرور أمور عدميّة. وبالتالي : اقتضت أبحاث الأنطولوجيا في الفلسفة إلى تناول عنوان «الشرور» ، ومن ثمّ إثبات أن الشر أمر عدميّ؛ بخلاف المتکلّمین الذين يُحتّم عليهم واجبهم العلمي تبيين المعتقد الديني والدفاع عنه، وقد اقتضى البحث عندهم استخدام عنوان الآلام ، ثمّ الحديث عن حكمة وجودها.

16/4/6 .معقولية الإيمان بالله ومشكلة الشرور:

الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ - بصفته موجوداً كاملاً سامياً وفوق كلّ كمال أو جمال أمر كامن ومستقرّ في فطرة كلّ إنسان. والفرصة متاحة لأي شخص في أن يرجع إلى ذاته، وينظر في باطنه، ليتعرّف على خالقه، ويؤمن به كما أنّ شمولية الإيمان بالله جَلّ

ص: 208


1- نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله عسكري سليماني ص 325 .[بالفارسية]

وَعَلا واتساع رقعة المؤمنين به بين الأغلبية الساحقة من البشر على طول التاريخ يشهد على فطريّة هذا المعتقد.

وفي الوقت ذاته، يمكن للعقل أن ينظم ما يملكه من قضايا أوّليّة في نسق منطقيّ ليصل إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن طريق العلم الحصولي، ومن الممكن أيضاً أن تتعاضد البراهين العقلية مع المعلومات البديهية الواضحة للوصول في نهاية المطاف إلى إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى .

وتتحلّى هذه البراهين التي تأتي بأجمعها لتعزيز المعطيات الفطرية عند الإنسان بوظيفتين أساسيتين هما:

1 . أنّها مؤهّلة لإقناع أولئك الذين علقوا في دوّامة الشبهات المتنوّعة، لكنّهم ما زالوا يحاولون الكشف عن وجه الحقيقة .

2. أنها تعرض المعتقد الديني والإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ في هيئة معقلنة، وقابلة للتبني عقلاً(1).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا يبتني على الفطرة وعلى البراهين العقلية أيضاً. ومع ذلك، إذا غضضنا الطرف عن دليل الفطرة أو الأدلة العقلية، فلا يمكن لأحد أيضاً أن يحكم ببطلان الإيمان بوجوده تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أو بكونه منافياً للعقل.

ص: 209


1- لاحظ: الله والاختيار والشر (God, Freedom and Evil) ألفن بلانتينغا، ص 32 [النسخة المترجمة للفارسية]. وقد ذهب بلانتينغا إلى أنّ الرسالة الكبرى التي تضطلع بها براهين إثبات وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالى هي تقديم المعتقد الديني بشكل معقلن. ويقول في هذا الصدد: «الواقع أنّ قلّةً من الناس اكتسبوا إيمانهم بالله لأجل ما تتحلى به هذه البراهين من قوّة إقناعية ... وإن الواجب الأبرز للكلام الطبيعيّ (العقلاني ) هو عرض المعتقدات الدینیّة في حلّة معقلنة وقابلة للتبنّى». هذا، ولكنّنا أسلفنا في النصّ أنّ براهين الإثبات العقلي لوجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الفلسفة والكلام مؤهّلة لأداء دور إقناعي عقلائي بعد تعاضدها مع فطرة البحث عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالى؛ ناهيك عن عدم الحاجة إلى كلّ تلك البراهين العامة بعد وجود تلك الفطرة.

ولا يكفي مجرّد إنكار الفطرة أو ردّ أدلّة إثبات وجود الله لنفي وجوده من الأساس، أو الحكم بكون ذلك منافياً للعقل . ولتبرير إنكار وجود الله، ليس أمام المنكرين سوى أن يقيموا الدليل على نفي وجوده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أو إثبات التعارض بين الإيمان به والعقل.

لقد حاول فلاسفة الدين الملحدون - الذين لم يألوا جهداً في إظهار المعتقدات الدینیّة على أنها أمور غير عقلانية - أن يثبتوا استحالة وجود الله، وأن يلمعوا صورة ما يخالف ذلك، ليبدو عقلانياً، وعندما عجزوا عن ذلك اكتفوا بالإعلان عن عدم عقلانية الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ. هذا، علاوةً على محاولاتهم ومساعيهم الحثيثة في ردّ براهين إثبات وجود الله جَلّ وَعَلا .

17/4/6 . قضيّة الشرور وشبهة هيوم:

تمثل قضية الشرور والآلام إحدى الذرائع التي تشبّث بها الفلاسفة الملحدون، بل لعلها الأهم - أو الدليل الأوحد أحياناً - في مسعاهم لرفض وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، والحكم بعدم عقلانيّة الإيمان به؛ حتى وصف البعض هذه القضيّة بأنها الملجأ الذي يأوي إليه الإلحاد (1).

هذا، ويسمّى الجهد المبذول في سبيل هذا الهدف في فلسفة الدين باسم «الإلحاد الطبيعيّ». ويُعدّ الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم (1776م) من زمرة أولئك الذين حاولوا التصدّي لردّ براهين إثبات وجود الله، وكذلك إقامة أيّ حجّة على نفي وجوده، وقد اعتمد في ذلك على قضيّة الشرور (2).

ويرتكز استدلال هيوم على أنّ العالم حافل بالشرور الكثيرة، فكيف يجيز إله

ص: 210


1- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 177.
2- نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله، مصدر سابق، ص 305.

يُوصف بالقدرة المطلقة والخير العميم وقوع هذا الكمّ الهائل من الشرور العظيمة؛ مثل: السيول، والزلازل، والحروب الطاحنة، والمجازر بحق الأبرياء، وهلم جراً؟! لماذا لا ينظم الكون بنحو لا يسمح فيه بوقوع هذه الشرور ؟! ويقول في هذا أيضاً:

هل يروم الربّ إلى إيقاف الشرّ فلا يقدر على ذلك؟ إذن فهو عاجز ! هل هو قادر لكنّه لا يريد ؟ إذن هو مريد للشر ! هل هو قادر ومريد؟ إذن من أين يأتي الشر؟! لماذا يوجد السوء والشؤم في العالم من الأساس؟ من الواضح أن هذا ليس تصادفيّاً، بل مسبب عن علّة؛ فهل هو مسبّب عن قصد إلهي ؟ لكنه مريد للخير المطلق! فهل أتى ذلك رغماً عن القصد الإلهى ؟ ! لكنه قادر مطلق ! ...(1).

18/4/6. مناقشة شبهة هيوم:

قدّم المفكّرون المسلمون وغيرهم سبلاً مختلفة لحل مشكلة الشرور.

وهنا نكتفي بالإشارة إلى بعض منها فيما يلي:

1 . يبتني استدلال هيوم على فرضيّة فرضيّة أُخذت مأخذ الأصل الموضوع؛ وهي أنّ الموجود المريد للخير سوف يقضي على أيّ شيء تفوح منه رائحة الشر! في حين أنّ عموميّة هذه القضية مخدوشة من الأساس. نعم؛ يمكن للموجود المريد للخير الفاقد لصفة الحكمة وإتقان الصنع في أفعاله أن يكون على هذا الحال وأن يقارع أيّ شيء متصل بالشر، لكنّك إذا افترضت موجوداً مريداً للخير، ويتحلّى بالحكمة، ويزن أفعاله بها، فسوف تجد أنه لا يتنازل عن الخير الأسمى إذا توقف عليه الرضا بشر ضئيل؛ لا سيّما إذا كان ذلك من لوازمه المنطقية؛ فالأب الحكيم الذي يروم الخير لولده يصبّ الدواء المرير في جوف ابنه؛ وإن عُدّ ذلك شرّاً بأي نحو من الأنحاء.

وعليه: فإنّ زعم التلازم بين إرادة الخير والقدرة المطلقة من جهة، وإنكار أيّ

ص: 211


1- الله والاختيار والشّر ، مصدر سابق، ص 40.

لون من ألوان الشر - حتّى ما يقع مقدّمة للخيرات السامية - باطل، ولا أساس له من الصحة، بل إن إرادة الخير هذه تقتضي منه الرضا ببعض الشرور والآلام طالما وقعت مقدمة لاكتساب خير أكبر وأسمى. وبالتالي : فإنّ شريّة هذه الشرور ليست مطلقة ولا دائميّة، بل تتصف بنوع من الخيريّة؛ لأنها وقت مقدّمةً لحلول خير أكبر وأسمى. هذا، ناهيك عن أنّ القادر المطلق إذا أراد أن يوجد عالماً يتحلّى بمواصفات معينة وتترتب عليه بنحو التلازم المنطقي بعض الشرور التي إذا نظر للعالم بنحو كلّي ومالي لتبين أنها ضئيلة قليلة، فإنّ هذا لن يتنافى أو يصطدم بقادريّته المطلقة، أو كونه مريداً للخير المحض، وهما أمران يجتمعان من دون أي مشكلة منطقية.

نعم؛ لا ننكر أن القادر المطلق لا يعجز عن التصدّي لهذه الشرور القليلة من خلال الإحجام عن خلق مناشئها، فتزول بذلك من الأساس؛ وذلك لأنه قادر مطلق، لكن هذا الفعل بذاته مخالف لحكمته وفيّاضيّته وإرادته للخير؛ إذ يترتب على ذلك ضياع خير وفير عميم لأجل شرّ ضئيل قليل ، وهو بحدّ ذاته شرّ كبير ! وبعبارة أخرى العالم المادّيّ الجسماني - بذاته - ملازم لبعض الشرور المترتبة على وجود الحركة والزمان والتضادّ في الحركة - كما في حركة الغاز تحت الأرض الذي قد يبلغ مرحلة الانفجار أحياناً - لكن خير ذلك أكثر بكثير من الشر المترتب عليه .

2 . افترض أنّ أيّاً من الحلول المقدّمة لمشكلة الشرور لم تكن مقنعة، وافترض أنّ الموحد اعترف بجهله السبب الذي دعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للسماح بحدوث الشر، فما النتيجة التي يمكن أن نخرج بها من ذلك؟ ما الذي يدعو إلى تخيل أنّ الإنسان هو أوّل من يجب أن يقف على السبب المقنع والتبرير الصحيح لفعل الله عَزَّ وَجَلَّ؟!

وفي المحصلة : لماذا يجب أن يكون جهلنا بالتبرير المقنع دليلاً على عدم وجود تبرير مقنع ؟! فلعلّ الله يملك تبريراً ودليلاً صحيحاً ومقنعاً للسماح بحدوث الشرور في العالم، لكنه أعقد من أن تفقهه عقولنا مثلاً . والموحد يرى من خلال توظيفه لبرهان

ص: 212

اللّمّ (العلم بالمعلول عن طريق العلم بالعلّة) أنّ الله جَلَّ وَعَلا يمتلك التبرير الذي يسمح بحدوث الشر؛ وإن كان يجهله هو والتساؤل الأساس هنا : كيف يستنتج من ذلك أنّ الإيمان بوجود الله باطل أو غير عقلاني؟!

و ببيان آخر قد يؤدّي الفشل في حل مشكلة الشرور إلى بروز إشكالية عند من يحصر إثبات وجود الله في دراسة ظواهر الخلق والنظام العام السائد على الكون، ومن لا يرى الله إلا في ظلّ النظم في هذه الخليقة، لكنّ المتکلّمین والفلاسفة توصلوا في قضيّة إثبات وجد الله عن طريق برهان اللّم إلى حل الإشكالية، وطريقهم إلى الله غير منحصر في النظم الحكيمة والمتقنة في هذا العالم. إذن، فلنفترض فرداً لم يتغلب على مشكلة الشرور بنحو منطقي، لكن إيمانه واعتقاده لن يتصدّع عندئذ؛ لوجود طرق أخرى أثبتت له وجود الله وعدله وحكمته بعيداً عن نظام الخلق، بما يجعله عنده من اليقينيّات والمسلّمات؛ وإن كان غير قادر على عرض ذلك بنحو تفصيلي(1). وبناءً على ذلك لا يحق للملحد من أجل إثبات موقفه أن يُطلق وابلاً من الأسئلة المحيرة التي قد لا يهتدي الموحد إلى إجابات مفصلة عليها، ثم يقف جانباً بكل هدوء وسكينة (2).

19/4/6 .قضيّة الشرور وشبهة ماكي:

استغلّ الفيلسوف الطبيعي الأسترالي المعاصر جون ليزلي ماكي(3) (1981م) مشكلة الشرور ليستخدمها كحربة في صراعه مع الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا، فهو وجود الشر لا ينسجم مع بعض الصفات الإلهيّة الأساسية مثل : العلم

يرى أنّ

ص: 213


1- لاحظ: العدل الإلهي مرتضى المطهّري، ص 3- النسخة الفارسيّة. وهنا تجب الإشارة إلى أنّ هذا البيان ماضٍ فيما لو أردنا أن نماشي الخصم في النقاش وإلا فإنّ الذي يحصر معرفة الله في سلوك طريق النظم الحكيمة في الخلق أيضاً لن يواجه مشكلة في قضية الشرور إذا ما جهل التبرير المذكور؛ لأنّ بإمكانه الاستناد إلى النظام المدهش السائد على العالم في مجالات أخرى من الخلق، وإلى علمه اليقيني بحكمة الخالق، ثمّ يحمل حدوث الشرور على جهله هو.
2- الله والاختيار والشّر، مصدر سابق، ص 41-42 العدل الإلهي، مصدر سابق، ص90.
3- [م] .John Leslie Mackie

المطلق القدرة ،المطلقة وإرادة الخير المحض. ويؤكّد من جهة أخرى أنّ الإله الفاقد لهذه الصفات لا يمكن له أن يكن إلهاً حقيقياً في أعين المتألهين. ويخلص بناءً على ما تقدّم إلى إنكار وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على الأقل في المستوى الذي تصوّره الأديان الإلهية (1).

وبالتالي: نحن أمام زعم مفاده المفارقة المنطقية، أو قل: اللاانسجام بين الإيمان بالله والإذعان بوجود الشرور(2). يقول ماكي في مقال له بعنوان «الشر والقدرة المطلقة »ما نصه :

إنّ تحليل قضيّة الشرّ يكشف لنا فقدان المعتقدات الدینیّة لأي مرتكز عقلاني، وانعدام قابليتها للإثبات العقلي، بل يدلّنا أيضاً إلى أمر مسلّم به وهو كون تلك المعتقدات غير عقلانيّة؛ بما يعني أنّ بعض مقاطع هذه النظرية الكلامية العامة لا تنسجم مع مقاطع أخرى منها(3).

وقد أوضح استدلاله بقوله:

مسألة الشرور في أبسط صورها على النحو التالي: «الله قادر مطلق» و«الله خير مطلق» و مع ذلك «الشر موجود» ثلاثة قضايا متناقضة ؛ بحيث إذا صدقت اثنتان منها، فإنّ الثالثة كاذبة(4).

وهو يعترف أنّ التناقض المزعوم بين هذه القضايا الثلاثة ليس بتناقض صريح كما نجده بين القضيتين: الإنسان فان» و «ليس صحيحاً أنّ الإنسان فان»، بل التناقض فيما نحن فيه ضمني يتطلّب إظهاره اللجوء إلى قضيتين أخريتين؛ هما: «الخير يقابل

ص: 214


1- الله والاختيار والشّر ، مصدر سابق، ص 196.
2- بطبيعة الحال، لا يؤمن كلّ الباحثين في هذا الحقل بوجود مفارقة منطقية، أو عدم انسجام بين ما ذكر أعلاه، بل الغالبية منهم أذعنوا بجود انسجام منطقي بين الإيمان بالله لا من باب المفارقة المنطقية، بل ببيان آخر مختلف.
3- مقالة الشّر والقدرة المطلقة ماكي، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان السنة الأولى، العدد 3 .
4- مقالة الشّر والقدرة المطلقة ماكي، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان السنة الأولى، العدد 3 .

الشر؛ بحيث أنّ الفرد الخيّر يطرد الشرّ ما استطاع»، و « لا حدود لقدرة القادر المطلق» ثمّ يُقال: «لازم المقدمات المذكورة أنّ الخيّر المحض والقادر المطلق يطرد الشر ويبدده بشكل كامل» ولهذا فإن قضيّتي القادر المطلق «موجود»، و«الشرّ موجود قضيّتان متناقضتان (1).

ويقول أصحاب هذا الرأي : إذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ يمتلك العلم والإرادة والقدرة المطلوبة لتبديد الشر، وإذا كان وجود الشرّ ليس بضرورة منطقية، فلا يجب إذن أن يكون هناك شر.

ومع ذلك فإنّ بعض الناقدين يرون أن صرف وجود الشر لا يتنافى مع وجود إله الأديان التوحيديّة، بل الذي لا ينسجم مع وجود إله مثل هذا هو كثرة الشر في العالم.

ويرى آخرون أنّ اللاانسجام يظهر بشكل أجلى بين الشرور الطبيعية ووجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وهذا الرأي يرتكز على تصوّر مفاده أنّ الله يُبيح صدور الشرور الأخلاقية من الإنسان المختار، لكنّه لا يسمح بحدوث الشرور الطبيعية التي تبدو عبثية وعمياء. والقاسم المشترك بين هذه الأدلّة هو مصيرهم إلى وجود نوع من عدم الانسجام بين وجود الشرور ومجموعة المعتقدات الدینیّة بشأن الله جَلَّ وَعَلا (2).

20/4/6 .مناقشة شبهة ماكي :

يمكن إبطال الاستدلال الذي جاء به ماكي بسلوك إحدى الطرق التالية :

1 . يكفينا في نقض هذا الاستدلال - كما يعترف ماكي نفسه - أن نُخرج أياً من القضايا المذكورة عن اليقين والقطعية.

2 . أن نُثبت صدقيّة وجود الله القادر المتعال وإثبات وجود ذلك الإله الخير

ص: 215


1- المصدر نفسه.
2- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 180.

بالدليل القطعي؛ وذلك لأنّ جميع القضايا الصادقة منسجمة فيما بينها، وفي حالة إثبات صدق هاتين القضيتين فإنّ القضيّة الثالثة التي تتحدّث عن وجود الشرور في العالم ستكتسب معنى يؤهلها للانسجام مع القضيتين السابقتين.

3 . أن يبرهن على أنّ اللا انسجام المزعوم بين القضيتين الأوليتين من جهة، والثالثة من جهة أخرى لم يثبت بالدليل، وأن أصحاب هذا الزعم أخفقوا في البرهنة على ذلك.

وقبل الولوج في تفاصيل مناقشة الاستدلال، نرى ضرورة الالتفات إلى أن القدرة الإلهية - كما يراها السواد الأعظم من المؤمنين بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - قدرة مطلقة لا يحدّها حد؛ لكنّ السؤال المطروح هنا هو : هل تتعلّق هذه القدرة بالمحالات المنطقية (العقلية) أيضاً؟ فمثلاً: هل تتسع دائرة القدرة الإلهية لتشمل خلق مربع مدوّر؟ أو هل يقدر عَزَّ وَجَلَّ على أن يخلق شيئاً لا يكون مخلوقاً له؟!

الجواب على هذا عند غالبيّة المؤمنين بالقدرة الإلهية المطلقة وجميع المفكّرين المسلمين أنّ المحالات الأمور الممتنعة عقلاً لا يمكن لها أن تقع في دائرة القدرة الإلهية؛ لأنها - بذواتها - فاقدة لقابلية الوجود والتحقق في الخارج، وهذا لا يعني أبداً الحدّ من القدرة. نعم؛ ذهب بعض المفكّرين إلى أنّ قيداً مثل هذا يُعدّ حدّاً وقيداً للقدرة الإلهيّة المطلقة، وأنّ هذه القدرة المطلقة لا تخضع حتى للحدود المنطقية، فلا تُحدّ بها؛ وهو ما ذهب إليه ماكي(1).

ومن هنا، جاءت القضية الخامسة التي تحدّثت عن نفي الحدّ والقيد عن القادر المطلق كتفسير المفردة ما استطاع الواردة في القضية الرابعة؛ حتى لا يُقال إنّ الشر لازم منطقي للخير، وهو غير قابل للانفكاك عنه.

ص: 216


1- ذهب ماكي إلى أنّ منظومة علم اللاهوت (الإلهيات) المتداولة تستلزم عدم تقيّد القدرة الإلهية المطلقة حتّى بالمحالات المنطقية. ولهذا، عد الحلّ الذي سعى إلى تصوير «الخير الذي لا شرّ فيه على أنه من المحالات المنطقية أمراً يُفضي إلى تقييد القدرة المطلقة. ولهذا فقد رفضه، ورأى أنه يُعدّ تراجعاً وانكفاءاً عن الإلهيات العرفية المتداولة. راجع مقالة الشرّ والقدرة المطلقة، مصدر سابق.

وعلى هذا الأساس، يمكن الردّ على استدلال ماكي؛ لإمكانية الخدشة في ما ذهب إليه من تعلّق القدرة المطلقة بالمحالات ولإمكانية إبطال استدلاله حتى لو سلّمنا جدلاً بمذهبه ذاك؛ حيث نقول عندئذ : إذا صح تعلّق القدرة الإلهية المطلقة بما يشمل المحالات العقلية والمنطقيّة، فما المانع إذن من أن يخلق هذا القادر المطلق الشر بما يمتلكه من صفات؛ حتى إذا استلزم ذلك التناقض ؛ لاشتماله أموراً ممتنعةً عقلاً؟!(1) ولهذا فإنّ الحجّة المذكورة لا تتحلّى بأيّ متانة عقلية أو رصانة منطقية.

ولو افترضنا أن صاحب الاستدلال تراجع عن مقولته، وأذعن بعدم تعلق القدرة بالمحالات المنطقية، فيمكن الردّ عليه أيضاً من خلال سلوك الطرق الثلاثة المذكورة آنفاً على النحو التالي:

1 . أن نُخرج أيّاً من القضايا الأربعة المذكورة عن دائرة اليقين والقطعية. وقد تبينا مما سبق أنّ القضية التي تحدّثت عن تعلّق القدرة بالمحالات ليست أنها فاقدة للقطعية وحسب، بل يمكن لنا القطع بأنها كاذبة؛ وقد ثبت ذلك في محلّه، وهو أمر بديهي لا يتطلب منا إلا تأمّلاً بسيطاً. وفي المحصلة : إذا أثبت الإلهي امتناع انعدام الشرور، أو أثبت أنها من لوازم بعض الخيرات الكبرى التي لا تنفك عنها، أو أبدى احتمالاً في ذلك، فقد أبطل حجّة ماكي.

2 . أن نُثبت قطعيّة صدق القضيتين الأوليتين؛ فإنّ القضايا القطعية لا تتناقض مع القضايا الصادقة. وكما نعلم فإن البراهين اليقينية التي لا تقبل النقاش قد قامت على ضرورة وجود الواجب، وإطلاق علمه وقدرته وسائر صفاته الكمالية، وقد بحثت جميعاً في محلّها(2).

ص: 217


1- مقالة: مواجهة مع ماكي في مقالته الشّر والقدرة المطلقة هادي ،الصادقي، مجلة ،كيان السنة 3 العدد 17.
2- تجدر الإشارة إلى أنّ بعض البراهين التي أقامها الفلاسفة المسلمون تتحلى بهذه الصفة؛ بخلاف الأدلة التي ساقها المتألهون في الغرب، فإن غالبيتها أو ربما جميعها لا يتمتع بهذه القطعية الفلسفية المشار إليها.

3 . أن نكشف وهن الدليل الذي تشبّث به ماكي؛ إذ لا وجود لأيّ حجّة تثبت ما زعم من عدم الانسجام بين القضيتين الأوليتين والقضية الثالثة؛ حتى وإن أضفنا إليها القضية الرابعة والخامسة . وقد سلك ألفن بلانتينغا هذا الطريق(1). وتوضيح ذلك أننا إذا أمعنا النظر في القضية الرابعة لاتضح أن هذه القضية ليست صادقة بالضرورة؛ إذ من الممكن أن يكون الموجود خيراً، وأن يكون حكيماً أيضاً، وأن يمتلك مبرّراً كافياً نابعاً من حكمته؛ لعدم وقوفه في وجه الشر، أو تبديده له؛ كما لو قرّر الأب الحنون المريد لخير ولده عدم دفع الشرّ عن ابنه ؛ لأنه يرى في تجربة الأخطار التي تشكله بعض تلك الشرور كمالاً ضرورياً له. أما الأمر الذي يمكن أن يكون صادقاً بالضرورة فهو أمر جديد، وهو قضيّة سادسة يمكن أن نضعها كبديل عن القضية الثالثة؛ ومفادها: «لا يسمح الموجود القادر المطلق والعالم المطلق والخيّر المحض بوجود الشر إلا إذا امتلك مبرّراً كافياً لذلك».

ومع الاستعاضة عن القضية الثالثة بهذه القضية السادسة لا يبقى مجالاً للتناقض من الأساس؛ لأنّ الموحِّد يزعم - بل يُثبت - أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مع أنه قادر على منع الشرّ من التحقق ، لكنّه نظراً لحكمته وفيّاضيّته وسائر صفاته الكمالية لم يشأ صنع ذلك؛ ورضي بوجود بعض الشرور؛ لأنّ في منعها زوالاً لخير أسمى وأعم. أما لو ادعى أحدهم قضيّة سابعة؛ مفادها: «يستحيل على القادر المطلق والعالم المطلق والخيّر المحض أن يمتلك مبرراً كافياً للسماح بوقوع أي لون من ألوان الشر» قاصداً بذلك ما يعمّ الشرّ النسبي، أو الشر الذي يأتي مقدّمةً ضرورية لبعض الخيرات الكبرى، فالجواب على ذلك أن نقول : ليس أنّ هذه القضيّة فاقدة لوصف «الصدق بالضرورة» وحسب، بل هي كاذبة قطعاً؛ لوجود صفات إلهية مثل الحكمة والفياضية، وللضرورة المنطقية في وجود بعض الشرور المقدّمية، وعدم انفكاك البعض منها عن الخيرات.

ص: 218


1- راجع مقالة : قضيّة الشر، ويليام وينرايت (William J. Wainwright)، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان السنة 3 العدد 17، ص 34 .
21/4/6 .معقولية الإيمان بالصفات الإلهية وقضية الشرور:

قدّم المفكرون المسلمون وغيرهم في معرض ردّهم على شبهة الشرور، وإثبات انسجامها مع الصفات الإلهية مجموعةً من الإجابات المتعدّدة في هذا الصدد؛ منها ما هو كلّيّ عام يدور حول إثبات الحكمة الإلهية، ومنها ما هو جزئي خاص يستعرض بعض مصاديق الحكمة في ما نراه يحدث في هذا العالم من نوائب وآفات وبليّات، أو فقر وتمييز وزوال للنَّعَم، أو غير ذلك من الشرور الطبيعية أو الأخلاقية.

وإن تناول جميع تلك الردود يتطلب مجالاً واسعاً ومطوَّلاً يمكن الوقوف على تفصيلاته في كتاب العدل الإلهي للعلامة المطهّريّ (1399ه). وفيما يلي نشير إلى بعض تلك الردود مستفيدين من هذا المصدر وغيره مع تصنيفها إلى أربعة اتجاهات ومناح؛ هي: المنحى الكلامي، والفلسفي، والعرفاني، والتربوي.

22/4/6 .المنحى الكلامي في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الأول في الردّ على هذه الشبهة هو ما ذهب إليه المتكلمون في ردودهم ذات الطابع النقليّ أو العقلي، المنبثقة من الداخل الديني أو من خارجه. وملخصه ما يلي:

1 . إنّ الله جَلَّ وَعَلا عالم قادر حكيم منزّه عن جميع مناشئ الظلم ودوافعه - مثل: الجهل، والعجز، والحاجة، والنقص - ولهذا، فلا يوجد ما يدعوه للظلم، أو قل : ما يتسبب في ممارسته الظلم على أحد من خلقه . أما الحكمة من الشرور والآلام والصعاب التي قد نجدها هنا أو هناك فأمر خارج عن نطاق علمنا، لكننا لا نشك في وجود حكمة أو فلسفة تقف خلفها. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ وصف هذا المنحى بالدليل الفلسفي والعقلي تابع لاعتماده على إثبات الحكمة الإلهية بمنهج عقلي منبثق من خارج الأطر الدینیّة.

2 . قدّم المتكلّمون في تبرير الشرور بالحكمة الإلهية - علاوةً على الردّ العام أعلاه

ص: 219

- مجموعة من الردود التفصيلية الأخرى؛ منها على سبيل المثال قولهم: إنّ بعض الشرور المذكورة كالظلم والفقر والجوع وعشرات المعضلات الاقتصادية والسياسية والصحية وغيرها ما هي إلا شرور أخلاقية نابعة من إرادة البشر. وهذا الردّ كسابقه صحيح أيضاً، لكنه لا يحلّ إلا مشكلة الشرور الأخلاقية من دون أن يتطرّق إلى الحكمة الفاعلية في الشرور الطبيعيّة.

23/4/6 .المنحى الفلسفي في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الثاني الذي نتناوله هنا يعالج القضيّة من زاوية فلسفية خارجة عن الأطر الدينيّة؛ وهو ينطوي على الردود التالية:

1 . ماهيّة الشرور من سنخ العدم فالتحليل يدلّنا إلى أن العمى والصمم والجهل والعجز والمرض وأي لون آخر من ألوان الشر ليس إلا انعدام للبصر والسمع والقدرة والصحة. والعدم لا يتطلب في نظام الأسباب والمسبّبات علّة موجدة، حتّى نحتاج إلى إسناد شيء إلى إله الخير (يزدان)، أو إله الشر (أهريمن)، أو إلى النور والظلام. وهذا الردّ الأفلاطوني قد يتناسب مع السؤال الأنطولوجي والفلسفي عن الشرور، فيكشف لنا عن كون الشرّ أمراً ،عدميّاً، لكنّه لا يوضح لنا حكمة تلك الأعدام المسماة بالشرور؛ فلقائل أن يقول : لماذا لم يعالج الإله القادر هذه الأعدام، ويدفعها من الأساس؟!

2 . الشرور أمور نسبيّة : الجواب التالي الذي قدّمه الفلاسفة في بحثنا أنّ هذا العالم ليس فيه شرّ مطلق ؛ فالسيول الزلازل والوحوش والأمراض والأوبئة قد تكون شرّاً لبعض المخلوقات، بيد أنها قد تكون خيراً لمخلوقات أخرى؛ فسمّ الحية الذي قد يفتك بالإنسان أحياناً، فيكون شرّاً لا محالة، هو خير إذا ما لاحظنا كونه الدواء الوحيد الذي ينقذ الإنسان من الهلاك أحياناً أخرى وهذا الجواب صحيح أيضاً، لكنّه لا يجيب على السؤال المشار إليه آنفاً بنحو كامل ؛ فالسؤال ما يزال باقياً: طالما أنّ

ص: 220

الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذو قدرة غير محدودة، وهو خير محض ، فلِمَ لا تُقلع هذه الشرور من جذورها، ويستريح العالم منها ؟ !

3 . اللاانفكاك بين الخير والشر : أجاب الفلاسفة من المدرسة المسائية على السؤال بنحو مختلف؛ حيث قالوا إن عالم الطبيعة هو عالم الحركة والتعارض والتصادم، وإن الموجودات المادية في تكامل وحراك مستمرّ يخرجه على الدوام من القوّة إلى الفعل وقد ينجم عن هذه الحركة تضاد، أو تزاحم بينها، وعندئذ لا يمكن الفصل والتفكيك بين الشرور والخيرات؛ فالخيرية المحضة في هذا العالم رهينة بإيقاف عجلة الحركة، وانتفاء مادية العالم؛ أي: يلزم السلب بانتفاء الموضوع انتفاء الحركة يساوي انتفاء عالم الطبيعة)، وحينئذ يلزم انتفاء الخير الكثير؛ وهو - في حد ذاته - شر كثير. فبزوال عالم الطبيعة وتلاشيه ننجو من الشر القليل، لكنّنا في الوقت ذاته سوف نخسر خيراً كثيراً؛ هو عالم الطبيعة. ناهيك عن كون بعض الشرور - مثل: التفاضل والاختلاف بين الأشياء - ناشئ عن اختلاف المناطق والأقاليم الجغرافية المتفاوتة فيما بينها أصلاً، وهذا هو مقتضى الطبيعة؛ بمعنى أنّ هذا الاختلاف يُعدّ من اللوام الذاتية للطبيعة.

وبعبارة أخرى تتعلق الإرادة الإلهية بالخيرات أوّلاً وبالذات؛ وإن تعلقت بالشرور ثانياً وبالعرض. وعليه ليست الشرور متعلقة بالإرادة الإلهيّة أوّلاً وبالذات؛ بل تبعاً وبالعرض. وإنّ هذه الإرادة العرضية التبعية لازم ذاتي للطبيعة، فنحن نبتلى بالشرور إلى جانب تنعمنا بالخيرات. ومع الإذعان بصحة هذا الرد، لكنّه يعاني من أنّ شريّة الحوادث ليس بذاتيّ طبيعي لها؛ إذ توصف الحوادث بالشرّ من جهة إضرارها بالإنسان فيرد السؤال هنا: لماذا لا تتكاتف القدرة والعدل والحكمة الإلهية لتنتج سيلاً أو زلزالاً أو حادثاً طبيعياً لا يحلق الضرر بالإنسان؛ كما لو حدث مثلاً في مناطق غير مأهولة ؟! وطالما أنّ الحوادث الطبيعية ليست بشرور ذاتية، لم لا تتعلق الإرادة الإلهية بخيرات لا تستلزم شروراً عرضية؟!

ص: 221

4. الخيرات أكثر من الشرور يردّ الفلاسفة أيضاً بأنّ الشرور وإن وُجدت في هذا في العالم، لكنّها ليست بأكثر من الخيرات فيه؛ وإلا لما بقيت لعالم الطبيعة باقية، ولتبدّد وفنى. وما بقاء العالم وثباته إلا دليل على غلبة الخيرات على الشرور. وبالنظر إلى ما تقدّم من نقاط، فإنّ هذا الردّ لا يُبدد الهواجس الكلامية، أو يحلّ مشكلاتها؛ فهو لا يفسر لنا ما يبرّر وجود هذه الشرور القليلة في العالم، والسؤال القائل: لم لا ينطوي عالم الطبيعة مع وجود هذه الحوادث الطبيعية على خير مطلق ؟ أو قل : لم لا تتحق ه الحوادث في الطبيعة بنحو لا يطال الإنسان، ولا يجرّه إلى ويلاته؛ فيجري السيل أو يحلّ الزلزال مثلاً في موضع لا يؤثر سلباً على الإنسان؟!

23/4/6 .المنحى العرفاني في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الثالث في الردّ على شبهة الشرور هو المنحى العرفاني؛ فقد انبرى العرفاء بما يملكونه من رؤية شمولية لحل هذه المسألة، نعرض قولهم بإيجاز على النحو التالي:

1. الرؤية الجزئية هي منشأ الشرور وهذا يعني أنّ الشرور نابعة من نظرتنا للأمور؛ فلو نظر الإنسان إلى عالم الطبيعة برؤية شمولية واسعة الأفق لرأى أن وجود ما وصفه بالشرّ أمر مناسب وضروري، بل لما وَجَد فيه أيّ شرّ أو ألم أو نَصَب؛ فنحن بنو البشر نحسب المحن والصعاب التي تواجهنا شروراً وآلاماً لأفقنا الضيق ونظرتنا الجزئية للأمور، فنعيش حالة الاستياء والسخط باستمرار، أما لو بسط الإنسان بصره على المشهد بأكمله برؤية شمولية ؛ كما لو لاحظ داراً بعموميتها، لوجد أنّ المجاري والمرافق الصحيّة فيها ضروريّة، ولما وصمها بالشر، أمّا لو قصر نظره على ما تطلقه من روائح كريهة لما تردّد في وصفها بالشر والسوء. ومع أنّ هذا الردّ صحيح - في حدّ ذاته - وهو يضع بين أيدينا حلاً عرفانيّاً عملياً كي لا نتجاهل الشرور والصعاب، بيد أنه عاجز عن الأخذ بيد الذين لم يبلغوا هذا المستوى العرفاني.

2 . النظرة إلى الشر : بعض الأمور الموصوفة بالشر إذا لوحظت بنظرة دنيوية بحتة

ص: 222

فهي معدودة في زمرة الشرور، أمّا لو أخذنا عالم الآخرة بعين الاعتبار أيضاً، فلن يبقى مجال لعدّها من الشرور؛ فعلى سبيل المثال: الموت عند أصحاب النظرة الدنيوية شر وعذاب أليم، لكنّ المؤمن باليوم الآخر يراه انتقالاً من عالم إلى عالم آخر. وهذا الجواب صحيح أيضاً، وهو ناجع لحل عقد بعض الشرور ، لكنّه لا يكفي لحلّها جميعاً. ولا يخفى أنّ حلّ المعضل النفسي والعاطفي للشرور لا يُلزمنا الوصول إلى ذلك من خلال طريق واحد ؛ فمن الممكن سلوك طرق مختلفة لحل مشكلة الشرور في صوره ومصاديقه المختلفة .

24/4/6 .المنحى التربوي في الردّ على شبهة الشرور:

قدّم بعض العلماء حلولاً تربوية للأخذ بيد العالقين في شبهة الشرور والآلام؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الشدائد والصعاب وما يلمّ بالإنسان من نوائب ومصائب لها دور مفصلي في تكامل الإنسان علمياً ومعنوياً وصناعيّاً على مستوى الفرد والمجتمع. :وعليه فإنّ الشرور تفضي في نهاية المطاف إلى خير كثير، وهذا ما يكسبها لوناً من ألوان الخير. ومع أن هذا الردّ صحيح أن هذا الردّ صحيح كذلك، غير أنه لا يجيب على المشكلة المشار إليها آنفاً؛ فالسؤال الملح هو : ألا يمكن الحصول على تلك الخيرات من دون الاضطرار إلى ركوب مقدماتها الشريرة ؟!

25/4/6 .الرأي المختار في الردّ على شبهة الشرور:

لا نرفض أياً من الحلول الكلامية والفلسفية والعرفانية والتربوية التي تقدّمت، غير أننا سوف نسلك طريقاً مختلفاً نظراً إلى إلحاح السؤال على كشف الحكمة من وجود الشرور ونظراً إلى التساؤل الذي يقول : لماذا لم تُخلق الحوادث الطبيعية بنحو يسفر عن مشكلة الشر، ولا ينتهي إلى تورّط الإنسان في دوامة من الآلام والصعاب؟!

وخلاصة الجواب على ذلك فيما يلي:

ص: 223

ترتبط بعض الشرور بصلة تكوينية مع أعمال الإنسان كما في بعض ألوان العذاب الدنيوي، وجميع ألوانه الأخروية. ولهذا، يجب الالتفات إلى أن الصلة بين العمل من جهة، والجزاء في الآخرة أو بعض الجزاء في الدنيا من جهة أخرى ليست صلةً وضعيّةً جعليّةً؛ وإنّما هي صلة السبب والمسبّب، وبعبارة أدقّ الجزاء هو عين العمل في تجسّده الأخروي. والتدليل على هذا المدعى متروك إلى حين الحديث عن الحياة في عالم ما بعد الموت عند التطرّق إلى بحث «تجسّد الأعمال».

وهذا الردّ في رأي كاتب هذه السطور أنجع في تفسير الحكمة عند الفاعل الإلهي بالنسبة إلى مسألة تحقق الشرور في هذا العالم. ولمزيد من تسليط الضوء على هذ الجواب نقول :

ترتهن شرّيّة الحوادث المؤلمة بنوعية تأثيرها وارتباطها بالإنسان؛ فوقوع الكوارث الطبيعية في الصحارى القفار لا يُعدّ شرّاً لأيّ إنسان، كما أنّ حادثةً ما قد تكون شراً لقوم وخيراً لقوم ،آخرين، ويتوقف اتصاف الحوادث المريرة بالشر على اقترانها بالآلام والصعاب التي تتوجّه للإنسان. وقد أشرنا إلى مناسبة استخدام مفردة «الآلام» عند بعض المتکلّمین حين تطرّقهم لبحث الشرور. أما الفلاسفة فقد ركزوا اهتمامهم بالحديث عن وجود الشرور أو عدم وجودها نظراً إلى هواجسهم الأنطولوجية عند تحليلهم لكل ظاهرة. ومن هنا، يستدعي البحث الفلسفي عن الشر القول بأنّ الحوادث التي تتسبب في الشرور إنّما تُفضي إلي تحقق أمور عدميّة؛ فشر مثل: الموت أو الإصابة الجسدية أو فقدان المال أو ما شاكل ذلك هو أمر عدمي بلا شكّ، لكنّ اللافت للانتباه أن جميع ما ذكر يتسبب في إيلام الإنسان وإيجاعه، وهذا أمر وجوديّ، وهو من سنخ العلم الحضوري، ويؤدّي أيضاً إلى خلق معضلات نفسانية عديدة للإنسان. ولهذا، فإنّ السؤال الكلامي في ما يخصّ الحكمة الإلهية وراء حدوث الآلام ما يزال قائماً .

ص: 224

والجواب على ذلك في تقديرنا أنّ الشرور الطبيعية - كما هو حال الشرور الأخلاقية - وليدة إرادة الإنسان، وأفعاله الاختيارية، وإنّ الحكمة والقضاء الإلهيين يقتضيان أن تكون إرادة الإنسان في طول الإرادة الإلهيّة، وقد شاء الله عَزَّ وَجَلَّ أن يتحقق الخير والشرّ بإرادة الإنسان نفسه. أضف إلى ذلك أن كشف هذه الحقيقة ليس من صلاحيّة العقل، ولا يجري من خلال الشهود والتجربة البشرية، أو الفلسفة والعرفان والعلوم التربوية، بل هو أمر يُستكشف من وحي التعاليم الدینیّة التي نص عليها الكتاب والسنة؛ فالدور المركزي الذي يضطلع به الدين الإلهي هو إماطة اللثام عن العلائق والصلات الخفية التي تربط بين فعل الإنسان وجزائه الدنيوي والأخروي.

ومع وجود هذا الردّ المشار إليه آنفاً يبقى سؤال آخر في المقام؛ ومفاده: صحيح أنّ جميع الشرور الطبيعية والأخلاقية وليدة لإرادة الناس، لكن جميع هذه الشرور ليست وليدة ذلك الشخص المبتلى بالشر تحديداً؛ فقد يُبتلى الإنسان بشر ما ، بيد أنّه ناتج عن إرادة إنسان آخر، ويمكن لمجموعة من الناس أن تورّط مجتمعاً بذنوب تقترفها، وتزج بها في أتون العذاب الإلهي، وفي ذلك المجتمع أناس أبرياء يقع عليهم الأذى والضرر، كما يمكن أن نشهد إضراراً أو إيذاءاً يوجّهه الإنسان المذنب أو المجرم إلى الأبرياء بما يقترفه من أفعال سيئة؛ كالقتل أو السرقة أو الاغتصاب. والسؤال الملح هنا هو : لماذا يجب أن يُبتلى هكذا إنسان بريء بالشر؟! وما الحكمة في ذلك؟

والجواب: أنّ الأناس الأبرياء قد يلتزمون الصمت أحياناً على الذنب أو الجريمة التي تقترف في المجتمع، أو قد تراهم يعربون عن قبولهم بها، تاركين واجبهم في مر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالتالي : يتغيّر وضع هؤلاء الأبرياء بتورّطهم في ذنب مختلف عنوانه : السكوت على الجريمة والقبول بها ، وهذا - بحدّ ذاته - كافٍ في شمول العذاب الإلهي لهم، كما أنّ الأناس الذين نعدهم أبرياء حسب الظاهر قد يتعرّضون إلى الأذى والضرر بسبب إرادة بشريّة أخرى عن قصد أو عن دون قصد فيُبتلون بحادث مروري، أو يفقدون أموالهم في عملية سطو، وما إلى ذلك، وهذا كله

ص: 225

معلول لبعض ما جنته أيديهم؛ فلعل بعض أفعالهم مثل: عقوق الوالدين، أو التعدّي على حقوق أرحامهم أو جيرانهم هو منشأ بعض تلك الأضرار والحوادث المفاجئة. وهذه الحقيقة قد نُص عليها بشكل جلي وواضح في ما ورد من نصوص دينية.

نعم؛ قد نجد أحياناً بعض الأناس الأبرياء الذين ابتلوا بالشرور الإرادية رغم أنهم لم يرضوا بالجريمة، بل أنكروها وانبروا للتصدّي لها، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولاقوا في سبيل ذلك الأذى والمضض، وأبرز مثال على ذلك ما لاقاه الأولياء والصالحون في واقعة كربلاء الأليمة؛ فقد استبيحت حرماتهم على أيد جناة طغاة اختاروا لأنفسهم حياة السبعية والتوحش، فقتلوهم وأبادوهم لأنهم أبوا ظلم الطاغوت وثاروا عليه، أو مثل إنسان بريء يفقد حياته على يد قاتله ظلماً وجوراً. ويجب العثور على الحكمة في وقوع ذلك في بحث عدم قابلية التفكيك بين إرادة الإنسان وعمله، وكذلك عدم قابلية التفكيك بين العمل الصالح أو الطالح وتداعياته أو آثاره التكوينية.

توضيح ذلك : أنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن يمارس الإنسان أفعاله الصالحة أو الطالحة بإرادته هو؛ فهل يمكن لنا أن نفترض إنساناً أراد القيام بفعل حسن أو قبيح، ثم لا يتحقق فعله، في حين أنّ نسبة إرادة الإنسان إلى فعله فلسفياً هي كونها الجزء الأخير من العلة التامة للمعلول؟! أو أن يتحقق الفعل في الخارج دون أن يوجد أثره التكويني؛ كأن يرمي الإنسان بسهمه، فيصيب الهدف به دون أن يُجرح الهدف أو يُبتلى بأذى أو ضرر؟! الجواب سلبي طبعاً؛ لأنّ في ذلك اجتماع للنقيضين؛ وهو محال. نعم؛ يمكن للنار أن تتحوّل إلى جنّة غنّاء، فلا يحترق من بداخلها، أما طالما كانت النار ناراً فهي محرقة؛ لا محالة.

وهنا يطرح هذا السؤال: ما دام هذا حتمي وضروري، فماذا نقول في الإنسان البريء؟ لقد قدّمت لنا النصوص الدینیّة في الإسلام بحثاً يرتبط بما سُمّي ب

ص: 226

«الأعواض» ؛ ومفاده أنّ الله الحكيم العادل يعوّض الإنسان المتضرر الذي حلّت به تلك المصائب والنوائب بما يجبر به ذلك؛ فيقال على سبيل المثال : إن المصيبة للإنسان المبتلى هي كفّارة لذنوبه، أو أنه سوف يتنعم بنعم مادية ومعنوية دنيوية (مثل: حصوله على النفس الملهمة، أو المطمئنة، أو على مرتبة علمية عالية)، أو يدفع عنه عذاب أخروي، أو يُخفّف عنه ذلك العذاب؛ بما صبر عليه من هول المصيبة وأذاها.

26/4/6 .الآيات المتعلقة بالشرور :

يمكن استنباط أغلب ما ورد من ردود سابقة - لا سيّما الرأي المختار في الردّ على شبهة الشرور - من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي نستعرضها فيما يلي بإيجاز :

1 . الآيات التي تحدّثت عن وجود الشرور المتعدّدة؛ مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد)(1) ، ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَبِرْ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ (2)، (الَّذِينَ يُحْشُرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ (3)فالشرور - نظراً إلى وجود الألم والنَّصَب فيها - أمور وجودية؛ لا عدمية.

2 . الطائفة الأخرى من الآيات هي التي أشارت إلى أنكم قد تعدّوا بعض الأشياء خيراً أو شرّاً لكنّ واقعها ليس كما تحسبون أي أنّ النظرة الشمولية الجامعة تكشف لكم خلاف ذلك؛ منها قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(4)، وقوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً )(5).

ص: 227


1- سورة الفلق 1-5 .
2- سورة الأنبياء: 35.
3- سورة الفرقان: 34 .
4- سورة البقرة: 216 .
5- سورة الإسراء: 11 .

3 . الآيات التي تطرّقت إلى اقتران الخير بالشر، وأفادت أن السعادة تأتي من رحم المصيبة، وأنّ الآلام والنوائب مقدّمات لوجود الراحة والسكينة، وهي التي تتسبب في حدوثها. ومثالها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا )(1) .

4. الآيات الدالة على السنن التكوينية؛ مثل قوله تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا ﴾(2) ، فقانون الجاذبية، واحتراق النار، والبراكين، والزلازل ، وعشرات القوانين الأخرى، ما هي إلا سنن طبيعية لا تنفكّ عن الطبيعة بحال.

5 . الآيات التي أخبرت عن إسناد التطوّرات الاجتماعية، والصعاب، والآلام والمصائب إلى إرادة الإنسان؛ مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(3) . ويشير القرآن الكريم إلى أنّ بعض ما يُبتلى أو يُصاب به الإنسان ناتج عن أعماله هو : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾(4) ، وقد قصّت لنا الآيات الكريمة ما مرّت به الأمم المختلفة في غابر الزمان من ويلات، وطوفانات، وغرق، وما شاكل ذلك، مبينةً أنّ هذا كان جزاءً وانعكاساً لأفاعيلهم السيئة. يقول تعالى في قصة قوم لوط(علیه السّلام): ( قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظالمينَ ﴾ (5)، ثمّ يقول عقب ذلك : (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ (6)، ثمّ يستعرض يستعرض ما جرى على قوم شعيب ى على قوم شعیب (علیه السّلام) قائلًا: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ (7)، ثم يتناول قصص عاد وثمود

ص: 228


1- سورة الشرح 5-6 .
2- سورة فاطر: 43
3- سورة الرعد: 11 .
4- سورة الشورى: 30 .
5- سورة العنكبوت 31 .
6- سورة العنكبوت: 34 .
7- سورة العنكبوت: 37 .

وفرعون وقارون وهامان بقوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(1) ، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَاَ أَغْنَتْ عَنْهُمْ الفَتْهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ لما جَاء أَمْرُ رَبَّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَثْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً كُنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ﴾(2)، ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَنتُهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَما كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(3) ، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لا ظَلَمُوا وَجَاءَتُهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾(4) ، ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ )(5) ،(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ ا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِکهِم مَّوْعِدًا) (6))، ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )(7).

6 . رغم أنّ الشرور الطبيعية والأخلاقية ناتجة عن إرادة طائفة . من الناس؛ حيث يشكّل البعض بإرادتهم منطلقاً للشرور والآلام، تذهب مجموعة أخرى من الناس -

ص: 229


1- سورة العنكبوت: 40 .
2- سورة هود: 101-103 .
3- سورة التوبة :70.
4- سورة يونس: 13 .
5- سورة القصص: 58-59 .
6- سورة الكهف: 59 .
7- سورة الروم: 9.

على خلاف إرادتهم - ضحيّةً لإرادات الآخرين. والسؤال المطروح هنا هو : ما الحكمة في تبلور هذه الظاهرة؛ ظاهرة لم يكن لإرادة الشخص المتألّم أو المبتلى بها أي دور في حدوثها، بل إنّ وقوعها كان وفقاً لإرادة الآخرين التي تقع في طول الإرادة الإلهية؟ والجواب أوّلاً: أنّ شراً مثل هذا غير قابل للانفكاك عن الطبيعة، وافتراض نفي الشر عن الطبيعة في هذه الحالة يستلزم اجتماع النقيضين؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ في كبد) (1). وثانياً : أعدّ الحكيم العادل تبَارَكَ وَتَعَالى للمتألم المبتلى نعما وجوائز ؛ مثل: منحه مزيداً من الصبر والجلد في دار الدنيا، ومزيداً من الأجر والثواب والأعواض الدنيوية والأخروية المترتبة على ما أبلاه في الامتحانات والاختبارات الإلهية. وقد تناولت الأحاديث الشريفة هذا الموضوع بتفصيل أكبر ؛ حيث نجد قول الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «إن الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها باللبن»(2) وعن عليّ (علیه السّلام) عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «ما كرم عبد على الله إلا ازداد عليه البلاء» (3) ؛ وروي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة»(4) ، ويروى عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قوله: «إنما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه» (5)، وعنه (علیه السّلام) : «إنّ أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم ثمّ الأمثل فالأمثل»(6)، ويقول أيضاً: «إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً غَته بالبلاء غتاً » (7)، وكان قد قال النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عن نفسه: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(8)، ولا شكّ في أنّ البلاء من عوامل الاختبار

ص: 230


1- سورة البلد: 4 .
2- بحار الأنوار، ج 78، ص 195، الباب ،1، فضل العافية والمرض وثواب المرض وعلله وأنواعه.
3- بحار الأنوار، ج 93 ص ،28 الباب ،1 وجوب الزكاة وفضلها.
4- مستدرك الوسائل، ج 2، ص ،437 باب استحباب احتساب البلاء.
5- وسائل الشيعة ج 3 ص ،263 ، الباب ،77، باب استحباب احتساب البلاء.
6- المصدر السابق ص 262 .
7- الكافي، ج 2 ص ،253 باب شدّة ابتلاء المؤمن ؛ بحار الأنوار، ج 15، ص 55.
8- بحار الأنوار، ج ،39 ص 55 في مساواته يعقوب ويوسف.

الإلهي، وكما يعبّر القرآن الكريم: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ)(1) ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾(2) ، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشْيَءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا الله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾(3).

ومن الواضح أنّ الاختبار الإلهي يساهم في الكشف عن الواقع، والتعريف بالمحسنين والمسيئين من الناس ويمهد لتكامل الإنسان ورقيه كما شاءت الإرادة الإلهيّة، كما أن الابتلاءات تطهر القلوب من أدرانها، وكما هو مروي في الحديث الشريف: «ساعات الهموم ساعات الكفارات» (4) ، «السقم يمحو الذنوب»(5)، كما تمثل النوائب والبليات جرس إنذار مستمر للإنسان، والعامل الوحيد الذي يوقظه بين الفينة والأخرى من رقاده وانغماسه في لذائد الدنيا، فينتبه من غفلته، ويسلك طريق الهداية؛ يقول تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّاهُ اسْتَغْنَى ) (6)، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيِّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾(7) ، ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾(8) .

27/4/6 . حصيلة بحث الشرور :

تقدّم أنّ بحث الشرور باب واسع يتضمّن في طيّاته أبعاداً عديدة، وأن الملحدين حاولوا قدر جهدهم أن يصوّروا القضيّة وكأنها لا تنسجم مع بعض المعتقدات

ص: 231


1- سورة الأنبياء: 35.
2- سورة محمد: 31 .
3- سورة البقرة: 155-156 .
4- بحار الأنوار، ج 64، ص 244 .
5- المصدر السابق.
6- سورة العلق 6-7 .
7- سورة الأعراف: 94 .
8- سورة الأعراف: 130 .

الأساسية التي يؤمن بها المتأهون، وأنّ الموحدين ردّوا عليهم بأنّ جهل الإنسان بحكمة بعض الشرور ليس من شأنه أن يزلزل الإيمان الديني.

وهنا، يمكن تلخيص ما تقدّم في النقاط التالية:

1 . الشر - الذي يعني: النقص في أي موجود ممكن - هو أمر متحقق، وغير قابل للزوال. وإنّ إنكار جميع ألوان النقص والعدم في «الممكن» لا يعني سوى تبدّله إلى «واجب الوجود»؛ وهذا جمع للنقيضين؛ لأنّ لازم هذا القول أن يكون ممكن الوجود بالذات واجب الوجود بالذات في الوقت الذي هو ممكن الوجود بالذات! وعليه: لا محيص عندئذ من الوقوع في اجتماع النقيضين.

2 . المراد من الشر وجود أمور توجّه الألم والضرر للإنسان؛ مثل: السيول والطوفانات والزلازل والسموم وما إلى ذلك. وطالما أنها لا تلحق بالإنسان ألماً أو نَصَباً فهي لا تُعدّ من الشرور. وعليه فإنّ شرّيّة الشرور رهينة بما يعانيه أو يقاسيه الإنسان من أذاها.

3 . الشرور الأخلاقية وليدة الإرادة البشرية ورفعها سهل يسير على الله جَل وَعَلا ، لكن هذا منحصر فيما لو انتفت إرادة الإنسان، وسُلبت منه، وبات مجبراً على أفعاله، وهذا ما يتعارض مع الحكمة الإلهيّة. وبناءً عليه نقول : لقد خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإنسان بنحو حكيم ، وهداه النجدين؛ سبيل الهدى (الخير) وسبيل الضلال (الشر) بالعقل أو النقل والإنسان - بعد ذلك - مخيّر بإرادته بين سلوك سبيل الهدى والصلاح، فيجنّب بذلك مجتمعه ويلات الشرور الأخلاقية، ويتسبب في تنعمهم بالخيرات، وبين سلوك سبيل الغيّ والفساد بسوء إرادته، وتعريض مجتمعه إلى الفناء والاضمحلال . وقد يُستشكل هنا بالقول : أليس الله عَزَّ وَجَلَّ بقادر على أن يريد إنساناً يقوم بالعمل الصالح بمحض إرادة هذا الإنسان ويتجنّب السيء من الأعمال، وما يؤدّي إلى الشر والأذى؟ والجواب : بلى؛ إنّه قادر على ذلك عندما يبلغ الإنسان درجة

ص: 232

العصمة، ويجوز مَلَكتها، أو حينما يتصف بالعدالة في أقلّ التقادير، وهما درجتان يمكن للإنسان الوصول إليهما باختياره. فإذا بلغ الناس جميعاً باختيارهم مرتبة العصمة أو العدالة، فسوف يريد الله تَبَارَكَ وَتَعَالى أن يفعل الناس جميعاً أفعالاً صالحة وعادلة بإرادتهم هم؛ دون أن يتحقق أي جبر أو إلجاء، وهو اليوم الذي تتبدّل فيه الدنيا إلى جنّة خالية من الشرور الطبيعية والأخلاقية إلا تلك الشرور التي تفرضها الضرورة المنطقية لعالم الطبيعة، واللوازم التي لا تنفك عنها عقليّاً؛ مثل: الموت. وإن العالم الذي يحتضن أيام العدل الإلهي على يد المهدي الموعود(علیه السّلام) هو مصداق هذا الأمل والمبتغى الإنسانيّ؛ فعجّل الله لنا ظهوره ، ونعمنا بنمير خيره وعميم أمنه .

4 . الشرور الطبيعية من حيث ذات الحوادث التي تنطوي عليها أمر ذاتي للطبيعة، ولا ينفك عنها؛ فطالما كانت الطبيعة طبيعةً ففيها الحركة والتضادّ والتزاحم والتعارض والكوارث الطبيعية، لكنّ أيّاً من هذه الحوادث لن تُعدّ شراً ما دامت لم تُلحق ضرراً أو أذى بالإنسان. والسؤال هنا: لماذا تحققت هذه الكوارث (مثل: السيول والزلازل والطوفانات والأمراض والأوبئة وهلم جراً) بنحو ألحق الأذى والضرر بالإنسان، فكانت شروراً؟ والجواب على هذا السؤال يرتبط بأعمال الإنسان الاختيارية؛ فالإنسان المعاصر نتيجةً إلى استخدامه المنفلت واللامسؤول لمصادر الطبيعة، وتصرفاته وعبثه في الطبيعة قد أوغل في تلويث البيئة، وتسبّب في ظهور أمراض وأوبئة عصيّة على العلاج في عالمنا المعاصر.

لقد تمادت بعض الشركات العالمية لتصنيع الأدوية في أفاعيلها، حتى أجازت لنفسها إنتاج فيروسات، واختراع أمراض جديدة لا سابق لها؛ من أجل استقطاب مزيد من الأرباح والمكاسب المالية ! فهل يجب بعد ذلك أن نعدّ هذه الشرور الطبيعية قادمة من الله جَلّ وَعَلا ، أو الحق أن ننسبها لإرادة الإنسان نفسه؟!

نعم؛ كلّ ما يحدث في هذا العالم يعود في مآل أمره إلى الإرادة الإلهية القاهرة

ص: 233

لكنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أراد أن يفعل الإنسان الخير أو الشر بإرادة هذا الإنسان، ليلقى جزاء أعماله. إنّ جانباً مهماً من الشرور الطبيعية ناتج عن أفعال الإنسان غير المشروعة؛ أفعال ارتبطت بنتائجها وآثارها الدنيوية والأخروية ارتباطاً تكوينياً وثيقاً؛ فلعل هذا السيل أو ذاك الزلزال أو التسونامي الذي ضرب داخل تلك المدينة دون حواليها وضواحيها مرتبط بما اقترفه أبناء هذه المدينة في حياتهم.

5 . اتضح مما تقدّم آنفاً أنّ قضيّة الشرور ليست معضلة مبهمةً عصيّةً على التبرير العقلاني كما يرى الأشاعرة، ولا هي أمر ينفي الوجود الإلهي، ويدعونا إلى إنكاره كما يحلو للملاحدة والطبيعيين أن يصوّروه، ولا هي مشكلة فكرية عويصة يجب أن تنتهي بنا إلى الثنوية والإيمان بإله للخير ، وإله للشر. إنّ الشرور بأسرها وليدة إرادة الإنسان، وإنّ الإرادة الإلهية تقع في طول إرادة الإنسان من الأعلى.

ص: 234

الباب الثالث: معرفة الدّين

7. حقيقة الدين

1/7. تمهید:

- حقيقة الدين

-حقيقة التجربة الدینیّة

-توقعات الإنسان من الدين

- منشأ الدين

-الإيمان الديني

- التعددية الدینیّة

ص: 235

تمهید:

لا تتمتع أيّ ظاهرة أو مؤسسة أو نشاط اجتماعي وإنساني في تاريخ البشرية بعراقة تاريخية أو تنوّع في الشكل والمضمون كما يتمتع به الدين والتدين عند الإنسان. فكلّ الأديان تنطوي على معتقدات ومفاهيم وطقوس معيّنة أدت إلى تنوّع هذه الأديان. ومن هنا، تبلورت فروع علمية متعدّدة في حقل الدراسات الدینیّة - منها: علم الاجتماع الديني، وعلم نفس الأديان، وفينومينولوجيا الدين (علم الظواهر ) ، وفلسفة الدين، وعلم الكلام، وعلم اللاهوت، وما إلى ذلك - سبرت أغوار الدين و درسته من زواياه المختلفة، وقامت بتقديم تعريفات له، وأوضحت دوره وآثاره.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأبحاث التقليدية لعلم الكلام لم تخصص باباً أو بحثاً مستقلاً يدرس الدين الإلهي بوصفه أحد أهم الأفعال الإلهية في مسيرة الهداية. وقد اقتصر ذلك على ما ورد في أبحاث الكلام الجديد، وفلسفة الدين.

2/7 كيفية تعريف الدين:

هل يجب أن يُعرّف الدين بالتعريف الحقيقي؟ أم يجب أن يُستخدم فيه التعريف اللفظي؟ وبعبارة أخرى: هل ينتمي مفهوم الدين إلى المفاهيم الماهوية التي تنطوي على مفاهیم نوعية وكليات خمس (النوع، والجنس والفصل والعرض العام، والعرض الخاص) ، أم أن مفهوم الدين ينتمي إلى المفاهيم المنطقية والفلسفية؟

توضيح ذلك : أنّ الفلاسفة وعلماء نظرية المعرفة قسّموا عموم العلم والمعرفة إلى

ص: 236

علم حصولي وعلم حضوري. أمّا العلم الحضوري فهو علم لا تتوسّط فيه الصورة الذهنية في التعلق بذات المعلوم، فيكون الوجود الواقعي المعلوم حاضراً عند المدرك؛ كما في معرفة الإنسان بذاته، وهو أن يظهر له بالشهود الباطني. وأما العلم الحصولي فهو علم تتوسط فيه الصورة الذهنية من أجل الارتباط بالمعلوم. وعليه فإنّ الصورة الذهنية هي التي تكشف عن المعلوم الخارجيّ، كما في علمنا بشخص زيد عن طريق مفهومه لدينا .

وقد قسم علماء المنطق العلم الحصولي إلى تصوّر وتصديق. أما التصوّر فهو تلك الصورة الذهنية البسيطة الفاقدة للحكم؛ كمفهوم «غار حراء»، وأما التصديق فهو الإذعان بحكم ما ، يُثبت نسبة المحمول إلى الموضوع، أو يسلبها عنه . ويتعلق التصديق دوماً بقضيّة حملية أو شرطية؛ مثل قولك : الإنسان حيوان ناطق»، أو «إذا طلعت الشمس كان النهار ».

وينقسم التصوّر - في إحدى تقسيماته - إلى كلّيّ وجزئي. أما الكلّيّ فهو المفهوم الذي من شأنه أن يصدق على كثيرين ؛ مثل مفهوم «الإنسان» الذي بإمكانه أن يصدق على مليارات من أفراد البشر. وبعبارة أخرى الكلّيّ مفهوم له قابلية الحمل على أفراد متعدّدين ؛ سواء كان لذلك المفهوم مصاديق موجودة بالفعل في الخارج؛ مثل مفهوم «الإنسان»، أم لم تكن له مصاديق ؛ مثل مفهوم «شريك الباري»، أو كان له مصداق خارجي واحد فقط؛ مثل مفهوم «واجب الوجود». وأما التصوّر الجزئي فهو تلك الصورة الذهنية التي ليس من شأنها سوى الإشارة إلى موجود واحد؛ كالصورة الذهنية (سقراط).

وتنقسم كلّ من التصورات الكلية والجزئية إلى أقسام أخرى؛ فالتصورات الجزئية تنقسم إلى حسّيّة، وخيالية، ووهمية والتصورات الكلية تنقسم إلى : مفاهيم ماهوية (معقولات أولى) ، ومفاهيم فلسفية (معقولات ثانية فلسفية)، ومفاهيم منطقية (معقولات ثانية منطقية).

ص: 237

ومفهوم «الدين» من المفاهيم الكلية القابلة للصدق على مصاديق كثيرة، وهنا يجب أن نبحث هل هو مفهوم ماهوي أم فلسفي أم منطقي؟

وقبل البدء في تحديد هوية مفهوم الدين وانطباقه مع أيّ من هذه المفاهيم الكلية الثلاثة، يتوجب إلقاء نظرة على تعاريف هذه المفاهيم أوّلاً:

1 . المفاهيم الماهويّة (المعقولات الأولى) : هي مفاهيم ينتزعها ذهن الإنسان من المصاديق الجزئية بشكل تلقائي ومن دون الحاجة إلى أي عملية أو مقارنة ذهنية؛ مثل : مفهوم «الإنسان» و«البياض»، فبمجرد إدراك شخصيّ واحد أو أكثر بالحواس الظاهرية أو الشهود الباطني، يتوصل العقل إلى المفهوم الكلي. وتمتاز المفاهيم الماهوية بأنها تحكي ماهية الأشياء، فتبين حدودها الوجودية، وتضع لكلّ موجود حدّاً هو بمثابة القوالب المفهومية.

2. المفاهيم الفلسفيّة (المعقولات الثانية الفلسفيّة): هي مفاهيم يتطلب انتزاعها شيء من التأمل والمقارنة؛ مثل : مفهومي «العلّة» و«المعلول»، حيث ينتزعان من مقارنة شيئين يتوقف وجود أحدهما على الآخر، فيؤخذ المعنى من واقع هذه العلاقة. مثال ذلك : عندما نقارن بين النار وبين الحرارة المتصاعدة منها ونلاحظ توقف الحرارة على النار، ينتزع العقل مفهوم «العلّة من النار ، ومفهوم «المعلول» من الحرارة. وإذا لم تكن هناك أي مقارنة لما كانت هذه المفاهيم. ويتميّز هذا اللون من المفاهيم الكلية بعدم وجود مفاهيم أو تصوّرات جزئية توازيها؛ فعلى سبيل المثال: لا يمتلك الذهن صورةً جزئية أو مفهوماً كلّيّاً عن «العلّيّة».

3 . المفاهيم المنطقيّة (المعقولات الثانية المنطقية): هي مفاهيم تنتزع من ملاحظة مفاهيم أخرى، والتدقيق في خصائصها. مثال ذلك : أننا حينما نلاحظ مفهوم الإنسان، ونجد أنه قابل للانطباق على مصاديق كثيرة، ننتزع منه مفهوم «الكلي». ولهذا، فإنّ هذه المفاهيم لا تقع إلا صفات لمفاهيم أخرى . وكل المفاهيم الأساسية في علم المنطق هي من هذه الطائفة (1).

ص: 238


1- راجع المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، مصباح اليزدي، ج1، الدرس 15.

وبملاحظة هذه التعاريف يتضح أن مفهوم الدين ليس من سنخ المفاهيم الماهويّة، ولا الفلسفية، ولا المنطقيّة؛ فلا الدين مفهوم يمتلك ماهية وحدّاً وجوديّاً يُعيّن مصاديقه حتى يكون مفهوماً ماهويّاً، ولا هو مفهوم يتطلب تأمّلاً ومقارنةً لأمرين حتى ينتزع منهما مفهوم فلسفيّ، كما أنه ليس بمفهوم يؤخذ من ملاحظة عدد من المفاهيم والتدقيق في خصائصها حتى يكون مفهوماً منطقياً.

والسرّ في عدم انتماء هذا المفهوم الكلي إلى أيّ من هذه الأقسام الثلاثة المذكورة للمفاهيم الكلية أنّ المقسم فيها هو الكليات البسيطة، في حين أن مفهوم الدين مفهوم مركب اعتباري تبلور من عناصر وأجزاء فرعية متعدّدة؛ مثله في ذلك مثل مفاهيم «الفيزياء»، و«علم النفس»، و«الرياضيّات»، و«التاريخ»؛ فمفهوم العلم مركب اعتباري يضعه العلماء وضعاً وجعلاً على مركب ما مثل: «الفيزياء» و«علم النفس».

ومحصلة ما تقدّم أنّ مفهوم الدين ليس مفهوماً ماهوياً ينطوي على نوع أو جنس أو فصل أو عرض عام أو خاص ؛ فلا تعريف حقيقي له إذن، ولا يصدق في حقه أيّ من أقسام التعريف الحقيقي الأربعة (الحدّ التام والناقص، والرسم التام والناقص). ولهذا اضطرّ علماء الدراسات الدینیّة إلى الاكتفاء بتعريفه حسب منهج التعريف اللفظي؛ ليستوعب المتلقّي مدلول هذا اللفظ والمعنى الذي وضع له، والمراد به حين الاستخدام، تحصيناً له من اللبس الذي قد يوقعه فيه الاشتراك اللفظي.

وإذا كان موضوع بحثنا هو مصداق معيّن ومحدّد مصداق معيّن ومحدّد من المصاديق المتعدّدة للدين، فعلينا أن نستعين بالتعريف المصداقي إذن؛ أي: أن نوضح للمتلقي خصائص ذلك المصداق، وأجزائه، وعناصره، وأركانه وآثاره؛ ليتميّز عن غيره من المصاديق.

3/7 .الاتجاهات المتنوّعة في تعريف الدين:

التدين حالة مدهشة ورثها الناس منذ عهد الإنسان البدائي في العصور الضاربة في القدم من حياة البشرية. وهي حالة وجدت في مختلف الأزمنة، ومستمرة إلى يومنا هذا،

ص: 239

وإذا تفاوتت في شكلها، وتنوّعت فيها الفرق والمذاهب فإن تغييراً لم يطل مفردة «الدين» .بعينها . لكننا نتساءل هنا هل يمكن العثور على معنى ثابت و أساسي للدين؟ فهل يمكن الوصول إلى معنى مشترك يلتقي فيه دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين محمد (عليهم أفضل الصلاة والسلام)؛ وهي الأديان الإلهية السماوية، وكذا دين بوذا (483 ق.م) وكونفوشيوس (479ق.م) وغيرهما؛ بوصفها أدياناً بشريةً أرضيّة؟

للإجابة على هذا السؤال، ينبغي لنا أن ندرس معاني «الدين» في المصادر اللغوية والدینیّة كما ستوافيه الأبحاث التالية.

4/7 .مفردة «الدين» في اللغات المختلفة:

تعد مفردة «دين» من المفردات المشتركة بين اللغات السامية (1) والإيرانية (2) .

و «الدين» في اللغة العربيّة والفارسيّة لفظ يُصنَّف على أنّه من «الأضداد»؛ لاشتماله على معان متفاوتة، بل متناقضة أحياناً؛ منها على سبيل المثال: «المذهب» و«الملة» و«الشريعة» و«المنهاج» و«القانون»، وكذلك «الحساب» و«القضاء» و«الجزاء» و«القصاص»، ومعاني: السلطان و الرفعة و الشأن، ومنها أيضاً: «الذلّ» والخضوع» و«الانقياد» و«التسليم» و «المقهورية» و«المحكومية» و«المملوكية»، وكذلك : «العبادة» و«الطاعة»، إلى جانب المعصية»، وغير ذلك ..(3) .

ص: 240


1- اللغات السامية هي إحدى فروع أسرة اللغات الأفروآسيوية. وهي فرع استقل تدريجياً ليشكل ما يفترضه اللغويون من لغة سمّوها اللغة السامية الأمّ. وتُنسب هذه اللغة للساميين الذين ينسبون إلى سام بن نوح. يتحدّث باللغات السامية حاليّاً حوالي 467 مليون شخص، ويتركز متحدّثوها حالياً في الشرق الأوسط وأفريقيا. أكثر اللغات السامية انتشاراً هذه الأيام هي العربية 22 دولة)، والأمهرية (إثيوبيا)، والتيغرينية (إرتريا وإثيوبيا)، ثم العبرية (اليهود). [م]
2- لاحظ: فرهنگ ،فارسي محمّد ،معین، ج2، مفردة «دين».
3- هذا ويحلّل صاحب كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» هذا الجذر اللغوي بقوله: « الأصل الواحد في هذه المادة : هو الخضوع والانقياد قبال برنامج أو مقرّرات معينه ويقرب منه : الطاعة والتعبد والمحكومية والمقهورية والتسليم في مقابل أمر أو حكم أو قانون أو جزاء. وبهذا الاعتبار، يفسّر اللفظ بما يقرب من مصاديق الأصل من الجزاء والحساب والدين والطاعة والذل والعادة والمملوكية وغيرها ولازم أن نتوجه بأن المعنى الحقيقى هو ما قلناه ولا بد من اعتبار القيدين الخضوع وكونه في مقابل برنامج. وأما مطلق الانقياد أو الطاعة أو الجزاء أو غيرها فليس من الأصل ومن لوازم هذا الأصل وآثاره: ذلّة ما أو العزة بعد الانقياد، وهكذا حصول التعبّد والمحكوميّة، واجراء الجزاء خيرا أو شرًا، وتحقق الطاعة أو المعصية والتثبت والاعتياد وهذا المعنى إذا لوحظ من جانب البرنامج يطلق عليه الحكم والجزاء والحساب والإعطاء وما يقرب منها. وإذا اعتبر من جانب المطاوع والقابل فيستعمل في معاني الطاعة والذل والمملوك والدين إذا يأخذه و غيرها». [م]

وفي اللغة الإنجلزية تعادل المفردة (Religion) الدين في العربية، وهي تعود إلى الجذر اللاتيني (Religio) ، وهي مشتقة من المفردة اللاتينية ( Religare) التي تعني : «التقريب»، و«الربط».

ويجب التنويه هنا بأنّ التعاريف اللغوية التي تعرضها لنا القواميس والمعاجم العربيّة والفارسية والإنجليزية وغيرها عاجزة عن كشف حقيقة مفهوم «الدين» وماهيته، ولهذا ينبغي البحث عن المعنى الاصطلاحي الماهوي له.

5/7 .تعريف الدين عند المفكرين الغربيين:

قدّم المفكرون الغربيون - بما يعم: الفلاسفة منهم و والمتكلّمون، وعلماء النفس والاجتماع والدراسات الدینیّة - حتى الآن تعاريف معيارية(1)، وماهوية وصفية(2)،وأخرى وظائفية (3)، ناهيك عن التعاريف المركبة والممزوجة(4) في موضوع «الدين»؛ نشير إليها فيما يلي بإيجاز :

1. التعاريف القيمية المعيارية : يرى مؤسس اللاهوت المعتدل شلاير ماخر(5) (1834م) أنّ الدين موضوع للتجربة، وهو إحساسنا بالتعلّق والتبعية المطلقة، وأنّ

ص: 241


1- Normative definition.
2- Descriptive definition .
3- Functional definition.
4- Complex.
5- فردریش دانيال أرنست شلاير ماخر 1768 Friedrich Daniel Ernst Sheermacher-1834م): فيلسوف ألماني ومؤسّس اللاهوت البروتستانتي الحديث ذاع صيته بسبب عمله عن أفلاطون، وتجلّى اهتمامه بالمشكلات الهرمنيوطيقية تأويل النصوص الدینیّة)، ويعد مؤسّس الهرمنيوطيقا الحديثة. [م]

الشعور بالتناهي أمام اللامتناهي هو العنصر المعياري المشترك بين جميع الأديان(1). ويُعرّف تي ميل الدين بأنه وضع روحانيّ، وحالة فذة محترمة تُسمّى الخشية(2). ويُعرّفه وليام جيمس (1910م) بأنّه : الأحاسيس والأفعال والتجربيات التي يجدها الناس في خلواتهم مع الله (3).

.2 . التعاريف الماهوية الوصفية : يبحث هذا اللون من التعاريف عن كشف ماهية الدين، ويرى سبنسر(4) (1903م) أنّ الدين هو الاعتراف بحقيقة مفادها أنّ جميع الموجودات تجليات لقوّة أسمى من علومنا ومعار فنا(5). ويُعرّفه بارسونز (6) (1979م) بأنّه مجموعة من المعتقدات والأفعال، والطقوس والمؤسسات الدینیّة التي شيدها الناس في شتى المجتمعات(7). ويرى روبرتسون(8) (مواليد 1938م أنّ الثقافة الدینیّة تُطلق على المعتقدت والرموز القيم التي تنشأ منها بشكل مباشر)، وهي تشتمل على التمييز بين الأمر التجريبي، والأمر المتعالي على التجربة، أو الواقع المتعالي. وهنا، تتحلّى الأمور التجريبية بأهمية أقل من الأمور غير التجريبية(9). والمناقشة التي نوجهها لهذه التعاريف ( المعيارية والوصفية) أنها لا تنطبق على جميع مصاديق الدين في المجتمعات البشرية، أو أنّ بعض المفاهيم المستخدمة فيها مثل: «المعتقدات»، و«الأفعال»،

ص: 242


1- الدراسات الدینیّة، ج 1، ص 85 بالفارسية)؛ العلم والدين ص 131 .(بالفارسية).
2- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 18.
3- فلسفة الدين، ص 2 .
4- هربرت سبنسر Herbert Spencer .[م]
5- المصدر السابق. ص .2 وقد نُقل عنه قوله في تعريف الدين: الاعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم وكذا الإيمان بقوّة لا يمكن تصوّر ماهيّتها الزمانية ولا المكانية راجع كتابه المبادئ الأولية First Principles. [م]
6- تالکوت بارسونز Talcott Parsons . [م]
7- فلسفة الدين، ص 2.
8- [م] .Roland Robertson
9- Roland Robertson, The sociological interpretation of religion, Oxford: Blackwell, (1976) p.47.

و«الأحاسيس» غامضة، وليس هناك ما يمنع اشتمالها للمدارس الفكرية غير الدینیّة.

3 . التعاريف الوظائفيّة: هذا اللون من التعاريف ليس على نسق موحد، والقاسم المشترك بينها هو الحديث عن الوظائف التي يضطلع بها الدين؛ فيشير بعضها إلى الوظائف الفردية أو الاجتماعيّة للدين، ويقدّم البعض الآخر تقريراً عن الوظائف والآثار الإيجابية أو السلبية التي تُنسب للدين. على سبيل المثال: يرى براولي أنّ الدين قبل كلّ شيء هو جهد يسعى إلى اكتناه الحقيقة الكاملة للخير في جميع أرجاء وجودنا(1). ويذهب ريناخ (2) (1932م) إلى أنّ الدين مجموعة من الأوامر والنواهي التي تقف مانعاً في وجه الأداء الحرّ لقدراتنا. ويعتقد دوركايم(3) (1917م) أنّ الدين جامع وموحد لأتباعه في مجتمع أخلاقي واحد(4). ويقول سنغر: الدين منظومة من المعتقدات والأفعال، يوظفها بعض الناس لمعالجة القضايا الغائية في حياة البشر(5).

والمناقشة الأهمّ الموجّهة إلى هذا الضرب من التعاريف أنها شاملة لبعض الظواهر غير الدینیّة التي تشترك في الوظائف المذكورة، والتي لا محيص عن عدّها ديناً وفقاً لما تنص عليه هذه التعاريف وعليه فإنّ السعة غير المبرّرة لدائرة هذه التعاريف من شأنها أن تحدّ من دقته بشكل كبير؛ فهي تسمح بدخول بعض المنظومات العقائدية والأيدولوجية - مثل : الاشتراكية - إلى داخل نطاق الدين؛ في حين أنها مدارس لا تخفي عداءها للدين ووفقاً لهذا التعريف أيضاً سيكون المشجّعون المستميتون لأحد أندية كرة القدم، أو المعجبون المغرمون بأحد المطربين أو الممثلين أتباعاً لدين معيّن!

ص: 243


1- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق، ص 18.
2- سالومون رینا Salomon Reina : عالم آثار فرنسي [م]
3- إميل دوركايم Emile Dekheim فیلسوف وعالم اجتماع فرنسي يهودي. يُعدّ أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث [م]
4- وقد نُقل عنه قوله في تعريف الدين: أنه منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدّسة تضمّ أتباعها في وحدة معنوية راجع كتابه الصور الأولية للحياة الدینیّة Les Formes élémentaires de la vie religieuse [م]
5- علم الاجتماع الديني (The Sociology of Religion) مالکولم هاميلتون ص 31 . [النسخة الفارسية]

أضِف إلى ذلك غموض المقصود ب«القضايا الغائية في حياة البشر» ؛ ما هي ؟ ومن يمكنه تحديدها؟ هل هم المؤمنون، أم علماء النفس والاجتماع، أو غيرهم؟ وهل إنّ أساليب الالتذاذ بالحياة، واجتناب الأذى والألم تُعدّ من القضايا الغائية في حياة البشر ؟

كما يتوجّه نقد آخر لهذه التعاريف، يكمن في حكمها المسبق على الدين، ودوره أو تأثيره على المجتمعات؛ حيث يُذكر في قالب التعريف بالدين ما هو الشيء الذي يجب إثباته بنحو تجريبي. فعلى سبيل المثال : عندما يُقال: إنّ الدين عامل عالمي في الحياة الاجتماعيّة؛ لأنه ضروري للوحدة الاجتماعية والنهوض بالاستقرار الاجتماعي. وقد حاول أنصار هذا التعريف الدفاع عنه في قبال أيّ شاهد يمكن له أن ينقض هذه النظرية. ولو وضعنا اليد على مجتمع فاقد لأي نظام ديني، فإنّ أنصار التعريف الوظائفي سوف يزعمون أن انعدام ما تعارف الناس على تسميته بالدين لا يُبطل رؤيتهم؛ لأن أيّ لأنّ أيّ مجموعة من المعتقدات والقيم التي تعزّز الوحدة والاستقرار في المجتمع هي دين حسب رؤيتهم(1).

والشاهد على ما ذكرنا حديث دوركايم عن الدين وتعريفه المبتني على التفريق بين المقدس واللامقدّس ؛ فهو يقول فيه : منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدّسة؛ أي: الأمور التي يُتصَوَّر أنها مختلفة عن غيرها، وتُعدّ من الأمور المحرَّمة، وهي معتقدات وممارسات تجمع كلّ العاملين بها في مجتمع أخلاقي واحد(2).

.4 التعاريف التركيبية تتنوّع هذه الطائفة من التعاريف بشكل كبير، وتنطوي في : مضمونها على تعاريف عقائدية - أخلاقية، أو عقائدية - رمزية، أو عقائدية - آدابية، وهكذا دواليك. نذكر منها على سبيل المثال : ما ذهب إليه دوبيلاري(3)؛ حيث ارتأى

ص: 244


1- علم الاجتماع الديني مصدر سابق، ص 32.
2- المصدر السابق، ص 22-23 .
3- کارل دوبيلاري Karel Dobbelaere (من مواليد 1933م) عالم اجتماع بلجيكي متخصص في الدين. وهو أستاذ فخري في كل من جامعة أنتويرب والجامعة الكاثوليكية في لوفين ببلجيكا. ترأس سابقاً الجمعية الدولية لعلم الاجتماع الديني. [م]

أنّ الدين نظام موحد من المعتقدات والآداب المرتبطة بحقيقة سامية ومتعالية على التجربة هي توحد كلّ أتباعها، والمؤمنين بها، لتأسيس مجتمع أخلاقي موحَّد(1). ويرى ماستراو أنّ الدين مركب من أمور ثلاثة؛ هي: الاعتراف بقدرة (أو قدرات) لیست تحت تصرفنا، والعلم بخضوعنا ومقهوريّتنا لهذه القدرة (أو القدرات)، وطلب الارتباط بها. ويتحصل من هذه العناصر الثلاثة ما يلي : الدين إيمان نظري بقوّة أو قوى مجرّدة عنا، ومسيطرة علينا، وينتج عن هذا الإيمان أمور؛ هي: منظومات وقوانين محدّدة، وأفعال معيّنة، وأنظمة خاصة تربطنا وتصلنا بتلك القوّة (أو القوى) (2).

وإذا ما أمعنا النظر في هذه التعاريف لوجدنا أنها تسمح أيضاً بدخول بعض المدارس غير الدینیّة إلى نطاق التعريف، فتشتمل مثلاً الليبرالية والماركسية.

نستنتج مما تقدّم أنّ التعاريف المعيارية والماهوية والوظائفية والتركيبية التي عرض لها المفكّرون الغربيون للدين بنظرة علمية - اجتماعية تفتقر للجامعية والمانعية المطلوبة في التعريف؛ فلا ينطبق أياً مما ذكر على الأديان الحاضرة في المجتمعات البشرية، بل إنها تنطبق على بعض المدارس الفكرية غير الدینیّة.

ومن هذا المنطلق، تمسّك فيتغنشتاين (3) (1951م في تعريفه المفاهيمي عن الدين بنظرية «التشابه العائلي» (4).

وعلى أساس من هذه الرؤية، ليس هناك أي قاسم مشترك بين المصاديق المتنوّعة

ص: 245


1- سوسيولوجيا الدين دانيال هيرفيه ليجيه وجون بول ويلام ص 171 (النسخة المترجمة للفارسية). تُرجم هذا الكتاب وطبع عام 2005 ترجمة درويش الحلوجي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة في مصر. [م]
2- ماهية الدين ومنشأه فضل الله ،کمپاني ص 112-113 (بالفارسية).
3- لودفيغ فيتغنشتاین Ludwig Wittgenstein : فيلسوف وعالم منطق نمساوي، انقسمت حياته الفلسفية إلى فترتين في الأولى كتب رسالته المشهورة في المنطق «الرسالة» حاصراً وظيفة الفلسفة بتحليل اللغة فقط، ورأى أن هذه اللغة تخضع لجملة من القواعد المنطقية هي بمنزلة «الصياغة المنطقية للغة». وفي الفترة الثانية: بدأ بنقد «الرسالة» وتطويرها إلى «بحوث فلسفية»، وفيها رفض أي أثر للفلسفة في تقديم تفسيرات للعالم وما يدور فيه. [م]
4- Family resemblance.

للدين، بل إنّ مصاديق الدين قد تشترك مع بعضها البعض مثنى وثلاث ورباع أو .أكثر . أما جيمس (1) (1910م) فقد استنتج من التنوّع الوسيع لمصاديق الدين أنّ هذه المفردة لا تدلّ على مبدأ موحد، بل هي اسم يُطلق على مجموعة من الطقوس(2). هذا، وقد أعرض ماكس فيبر (3) (1920م) في مطلع كتابه حول علم الاجتماع الديني عن تعريف الدين، زاعماً أنّ هذا يجب أن يحدث بعد الفراغ من البحوث والدراسات القارئة للدين(4). لكنّه لم يبلور نظرية واضحة في دراساته الاجتماعية؛ لأنه لو رام إلى وضع تعريف جامع ومانع يشمل كلّ الأديان الموجودة لتورّط في دوّامة العناصر الغامضة والمجملة في التعريف.

6/7 .تعريف الدين عند المفكّرين المسلمين:

استعرض الحكماء والمتكلّمون والمفسّرون المسلمون تعريفاتهم الحقيقة الدين، بعيداً عن الأساليب الأحادية المحور، فلم يُعرّفوه بأسلوب أو منحى معرفي-عقائدي، أو بمنحى وجودي، أو وظائفي، أو ما شاكل ذلك، بل اختاروا منهج التعريف الشامل الجامع. وعلى سبيل المثال:

يقول العلامة الطباطبائي (1402ه) :

الدين هو مجموعة المعتقدات والقوانين التي تناسبها مما له جانب عملي في الحياة (5) .

ص: 246


1- ويليام جيمس William James : فيلسوف مثالي أمريكي من أصل أيرلندي. يُعدّ من روّاد علم النفس الحديث كتب مؤلّفات مؤثرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني والتصوّف والفلسفة البراغماتية [م]
2- The Varieties of Religious Experience (New York: Collier Books, 1961, P.39
3- ماكسيميليان كارل إميل فيبر Maximilian Carl Emil Weber : عالم اقتصاد وسياسة واجتماع ألمانّي يُعدّ من مؤسسي علم الاجتماع الحديث عمله الأكثر شهرة مؤلفه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية أسس به لعلم الاجتماع الديني، وأشار فيه إلى أنّ الدين هو عامل غير حصري في تطوّر الثقافة في المجتمعات الغربية والشرقية.[م]
4- راجع كتابه: 1.The Sociology of Religion, P
5- الشيعة في الإسلام محمد حسين الطباطبائي، ص 3 (النسخة الفارسية).

ويقول العلامة الجوادي الآملي في تعريفه للدين :

إنه مجموعة العقائد والأخلاق والقوانين التي جاءت لإدارة شؤون المجتمع البشري، وتربية الإنسان، فإذا كانت حقةً سُمّي الدين بالدين الحق. وعليه فإنّ الدين الحق هو دين نزلت عقائده وقوانينه من الله عَزَّ وَجَلَّ، والدين الباطل هو الذي جاء ووضع ونظم من عند غير الله (1) .

ويرى حامد الغار (2) في شرحه عن الدين :

إنّه مجموعة من الأحكام والعقائد التي وضعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بين يدي الإنسان لهدايته وإيصاله إلى السعادة الدنيوية والأخروية... وإنّ الدين والدنيا والحياة أمور مندكة في بعضها، وقد جاء الدين لإصلاح الحياة، وهدايتنا في بوتقة الدنيا. وإنّ معرفة الأسلوب والنموذج الصحيح للحياة لا يتسنّى من دون الوحي، والعمل بأحكام الدين ... الدين شامل للمعارف العقلية، والشهود القلبيّ والعمل الشرعيّ (3).

وعن تعريف الدين أيضاً يقول الشيخ العلامة السبحاني:

هو ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال والترقي في جميع المجالات. وما هذه المجالات إلا أبعاده الأربعة: تقويم الأفكار والعقائد وتهذيبها عن الأوهام والخرافات وتنمية الأصول الأخلاقية، وتحسين العلاقات الاجتماعية، وإلغاء الفوارق العنصرية والقومية (4) .

ص: 247


1- الشريعة في مرآة المعرفة عبدالله الجوادي ،الآملي، ص 93-95 .(النسخة الفارسية).
2- حامد الغار Hamid Algar (من مواليد 1940م بإنجلترا: أستاذ بريطاني أمريكي مختص بالدراسات الإسلامیّة والفارسية في كلية دراسات الشرق الأدنى بجامعة كاليفورنيا ببيركلي الأمريكية. حاز على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج، كان مسيحيّاً، ثمّ أسلم عام 1959م، له عدة مؤلّفات وترجمات، ونُشرت له أكثر من مئة مقالة في موسوعة إيرانيكا [م]
3- مجلة كتاب نقد، العدد ،2و 3 ص 114 (بالفارسية).
4- الإلهيّات على هُدى الكتاب والسنة ،والعقل، جعفر السبحاني، بقلم حسن مكي العاملي، ج 1، ص 6.

ويقول العلامة الشيخ مصباح اليزدي :

«الدين» كلمة عربية، ذكرت في اللغة بمعنى: الطاعة والجزاء. وأما في الاصطلاح فتعني : الإيمان بخالق الكون والإنسان، وبالتعاليم والأحكام العملية الملائمة لهذا الإيمان(1).

7/7. التعريف المختار للدين :
1/7/7. المنحى التجريبي والاجتماعي:

مكانة البحث عن حقيقة الدين في خضم قضايا الدراسات الدینیّة ليست على نحو واحد أو وتيرة مشابهة؛ فبعض من تلك القضايا تتوقف بنحو تام على تعريف

الدين، ومن دون تحديد تعريف دقيق له، والكشف عن هويته وحقيقته، أو ما يقصده الباحث - على أقل التقادير - لا يمكن تقديم أي تفسير، أو تحليل لتلك القضايا. ومن بين الأبحاث والقضايا التي هي على هذا النحو البحوث المتعلقة بالعلاقة بين الدين

والدنيا، أو الدين والآخرة، أو العلم والدين، أو العقل والدين، وهلم جرّاً ..

وهناك قضايا أخرى مما تتناولها بحوث الدراسات الدینیّة تتميّز بترابط متبادل مع حقيقة الدين ومثالها : القضايا المرتبطة بحاجة الإنسان للدين وتوقعاته منه، ونطاق الدين؛ فمن جهة يتوقف البحث عنها على تعريف الدين؛ لأنّ الإجابة المنطقية على التساؤل عما يتوخاه الإنسان ويرتقبه من الدين، أو عن نطاق الدين، لا تتأتى من دون معرفة معنى الدين وحقيقته، ومن جهة أخرى فإنّ تحديد ماهية الدين هي النتيجة والثمرة التي ينتهي إليها هذان البحثان . وبعبارة أخرى: هنالك دور هر منيوطيقي في هذا النوع من القضايا. وبطبيعة الحال، يكفي أن نفرّق ونميز بين التعريف الإجمالي والتفصيلي للدين؛ كي نتفادى التورّط في الدور الفلسفي.

هذا، ويمكن استعراض تعريف الدين حسب رؤيتنا من خلال ثلاث زوايا مختلفة؛ هي : المنحى التجريبي، والعقلي، والنقلي؛ كما يلي:

ص: 248


1- دروس في العقيدة الإسلامیّة، مصباح اليزدي، الدرس الأول.

المنحى التجريبي والاجتماعي:

يعتمد هذا المنحى التجريبي أو الاجتماعي على دراسة جميع مصاديق الدين؛ بما يعمّ الأديان الإلهية والوضعية؛ التوحيدية وغير التوحيدية؛ السماوية وغير السماوية، ثمّ الخلوص إلى نتيجة هذا البحث والدراسة في صورة تعريف جامع لكل الأفراد، ومانع لكلّ الأغيار.

وقد ذهب جمع غفير من المحققين إلى تعسّر الوصول إلى تعريف جامع ومانع يحتوي الأديان الموجودة كافةً لسببين :

1. أنّ التحوّلات والتغييرات المتلوّنة التي شهدتها الأديان على مر التاريخ تسبّبت في تبلور ملل ونحل عديدة ومختلفة. وقد تبنّت هذه الأديان والملل والنحل المتنوّعة معتقدات مختلفة، بل متضادّة، ومتناقضة أيضاً. ولهذا، لا يمكن الوصول إلى تعريف دقيق، تستظل بمظلّته جميع المعتقدات الدینیّة إلّا إذا لجأنا إلى مفردات غامضة في التعريف؛ وهذا - كما ألمحنا مسبقاً - أسلوب خاطئ، ولا ينسجم مع الغرض من التعريف بتاتاً.

2 . أن تعريف الدين ليس مسألة أوّليّة في سلّم أبحاث الدراسات الدینیّة؛ فإنّ ماهية الدين تنطوي على أسس ومبادئ إبستمولوجية، وأنثروبولوجية، وأنطولوجية، ووظائفية، كما أنّ معطيات علم المناهج لها تأثيرها في تمحيص التعاريف المقدمة عن الدين، وترجيح بعضها على الآخر؛ فعلى سبيل المثال : تُقدّم المناهج النصوصية المنتمية للداخل الديني، وعمليات مراجعة مصادر كل دين تعريفاً معيناً، فيما تخلص المناهج اللانصوصيّة الخارجة عن الأطر الدینیّة - كالمنهج الوظائفي مثلاً - إلى تعاريف أخرى مختلفة؛ نظراً إلى التنوع الموجود في مصاديق الأديان.

وفي تقديرنا يمكن في المنحى التجريبي الاجتماعي الإشارة إلى ثلاثة قواسم مشتركة، لا ضير في إسنادها إلى جميع الأديان الإلهية والوضعية؛ هي :

ص: 249

1 . الإيمان بعالم باطني ملكوتي، يُقابل العالم الظاهري الملكي.

2 . الإيمان بقضية النجاة والفلاح.

1. تقديم منظومة وصفية معيارية لاكتشاف العلقة بين الملك والملكوت، والفوز بالنجاة والفلاح.

وإن جميع الأديان الإلهية والوضعية تؤمن بأنها تستطيع هداية الإنسان نحو العُلقة بين الظاهر والباطن، أو الملك والملكوت، وكيفية العبور من الظاهر للوصول إلى الباطن في هذا العالم، وكذلك سبل الفوز بالنجاة والفلاح. ولا يخفى أن المنحى التجريبي ليس من شأنه أن يكشف النقاب عن حقّانيّة هذا المدعى أو بطلانه، أو أن يميز بين الدين الحق والدين الباطل، وهو يكتفي بتقديم تقرير محايد عنه. ولهذا، فإنّ الوقوف على حقّانيّة المزاعم الدینیّة أو عدمها أمر مطلوب من المنحى المنطقي.

2/7/7. المنحى العقلي والمنطقي :

المنحى البحثيّ الثاني الذي يمكن اتباعه في الكشف عن حقيقة الدين وماهيته هو المنحى العقلي والمنطقي؛ حيث يقوم هذا الأسلوب البحثي بدراسة مدعيات الأديان، وتمحيصها بعيداً عن ملاحظة ما تطلقه من مزاعم، وذلك من خلال توظيف القواعد المنطقية. ويمكن للأسس الإبستمولوجية والأنثروبولوجية والأنطولوجية والوظائفية أن تمدّ يد العون لتعزيز عمليّة الوصول إلى تعريف منطقي للدين.

ويعتمد المنهج المنطقي في عملياته على توظيف القواعد المنطقية لإثبات وجود إله حكيم مستجمع الجميع الكمالات، ثمّ الحكم بضرورة وجود حياة تعقب الموت على أساس من العدل الإلهي والحكمة الربّانيّة، ثم التدليل على الصلة التي تربط المعتقدات والأفعال والسلوكيات الدنيوية بالعالم الأخروي، وبعبارة أخرى العلقة بين العالم الظاهر (الملك) والعالم الباطن (الملكوت)، ثمّ تبرهن بعد ذلك على عجز الأدوات

ص: 250

والمصادر البشرية الاعتيادية - كالعقل والتجربة والشهود - عن كشف العلقة بين هذين العالمين (الدنيا والآخرة، أو الظاهر والباطن، أو الملك والملكوت)، وكذلك عجزها عن تأمين السعادة والفلاح للإنسان. ثمّ يستنتج من الحكمة الإلهية ضرورة التمهيد لهداية الشر. ولا تتحقق هداية الإنسان إلا بعد ظهور الوحي الإلهي والدين الحق، وصيانتهما من التحريف اللفظي والمعنوي.

أمّا حقيقة الدين في هذه الرؤية فتتحلّى بمبدأ فاعليّ إلهي ومبدأ غائيّ محقِّق للسعادة، ومبدأ مضموني تفسيري للعلقة بين الملك والملكوت، وسبل الفوز بالسعادة.

وهذا التعريف لا ينطبق إلا على بعض الأديان، وليس جميعها؛ فالأديان الوضعية البشرية وإن ادّعت أنها تمثل الظاهر والباطن للعالم وللنجاة والفلاح الإنساني، وينطبق عليها مسمّى «الدين في المنحى التجريبي، لكنّها لا تُعدّ ديناً حقيقياً؛ بمعنى أنها عاجزة عن هداية الإنسان أو إسعاده، وغير مؤهّلة لاكتناه العلقة الحقيقية بين ظاهر العالم وباطنه.

3/7/7. المنحى النصوصي الديني :

المنحى البحثي الثالث الذي يمكن توظيفه في معرفة حقيقة الدين هو المنحى النصوصيّ المنتمي للداخل الديني، من خلال مراجعة المصادر الدینیّة. ولا يخفى أنّ مفردة «الدين» قد استخدمتها بعض النصوص الدینیّة؛ مثل: الأبستاق(1)، والتوراة والقرآن الكريم. ويمكن للبحوث الدلالية الدارسة لهذه المفردة أن تسهم في معرفة حقيقة الدين بشكل مؤثّر.

ص: 251


1- الأبستاق أو الأفيستا كتاب زرادشت رسول) الدين المجوسي)، وهو الكتاب المقدس عند أتباع الديانة الزرادشتية (المجوسية). وتعني كلمة أفيستا - أو أوستا - باللغات القديمة الأساس والبناء القوي، ولغته هي اللغة الأفستية ذات الصلات القوية باللغة السنسكريتية الهندية القديمة [م]
4/7/7 .مفردة الدين في الأبستاق:

المقصود بمفردة الدين في الأبستاق لفظة «دَئنا » ، أو Daena». وتعود جذور هذه الكلمة إلى معانٍ مثل : التفكير، والاطلاع، والمعرفة . وتُعدّ الدئنا في الديانة الزرادشتية من الأسس والأصول؛ لأنها القوّة المدركة التي يتميّز بها الإنسان، وتمنحه القدرة على معرفة الصالح والطالح، والتي تجري على أساسها عمليّات الاختيار والاصطفاء، ومن ثم النجاة والخلاص.

وقد عزا البعض مفردة الدئنا إلى اللفظة «داي» ، أو (Day» التي تعني الإبصار. ولهذا ذهبوا إلى أنها تعني: «النظر» و«الرؤية» ؛ لكن ليس بمعنى الرؤية الاعتيادية، بل الرؤية الدینیّة والشهودية على نحو الحصر؛ أي الوسيلة التي يجد بها الإنسان الحقيقة الإلهية (1).

5/7/7 .مفردة الدين في التوراة :

لم تُستخدم مفردة «الدين» في العهد الجديد أو الأناجيل الأربعة، لكنّها ومشتقاتها اللغوية وردت في التوراة بمعنى: «القضاء» و«الجزاء» في هذه الحياة الدنيا؛ وليس القضاء والجزاء في الحياة الأخرى بعد الموت.

ومن نماذج القضاء الإلهي في التوراة قصص طوفان النبي نوح (علیه السّلام)، وخراب قريتي «سدوم» (2) و «عمورة»(3) اللتين ورد ذكرهما في سفر التكوين، والاسمان «دان Dan» و «دينة Dena » المنسوبان إلى أبناء يعقوب (علیه السّلام)، ومن المحتمل أنهما مشتقان من مفردة الدين ولهما ارتباط معنوي بالقضاء والجزاء أيضاً.

ص: 252


1- لاحظ: الأبستاق، ترجمة وتحقيق هاشم رضي ص 115 و 424 (بالفارسية).
2- سَدُوم (بالإنجليزية : Sodom) : اسم عبري يعني الاحتراق أو المحروق وهو اسم قرية لوط ، خسفها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بسبب ما كان يقترفه أهلها من مفاسد - منها: إتيانهم الذكور من دون النساء - وفق ما ورد في بعض النصوص الدینیّة [م]
3- عَمُورَة (أو): غومورا؛ بالإنجليزية: Gomorrah): كلمة عبرية تعني مغمورة؛ وهي اسم قرية أخرى خسفها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بسبب ذنوب أهلها، ورد ذكرها في التوراة. [م]

وحسب الرواية التوراتية فإنّ ابنة يعقوب تقع في فخ ابن أحد الأمراء، وتفقد في تلك الحادثة عفافها، فيرسل الخاطئ أهله ليطلبها زوجةً من أهلها، فيلتزم يعقوب الصمت. وبعد وقوف بني يعقوب على ما حدث، يذهب اثنان منهما، وهما شِمْعُونَ وَلاَوِي، فيغدرون بقوم ذلك الرجل، وجميع أهله، وأبناء قريته، ويبيدون رجالهم جميعاً، وهكذا يكونون قد قاضوهم، وأنزلوا بهم جزاء أفعالهم (1). وقد أطلق اليهود على فتاة هذه الواقعة اسم «دينة»(2) .

وقد استخدمت المفردة «دان Dan» في سفر التكوين أيضاً؛ حيث تقص الرواية التوراتية أنّ راحيل زوجة يعقوب كانت عاقراً، في حين كان لأختها ذرية كثيرة. فدبّت نار الغيرة والحسد في نفسها تجاه أختها ، وخاطبت يعقوبَ أن ائتيني بذريّة، وإلا مِتُّ. فزوجته جاريتها «بِلْهَة» التي حملت من يعقوب بغلام، ولدته في حجر راحيل. فقالت راحيل : قد قضى لي الله وسمع الصوتي، وأعطاني ابناً، ولهذا أسموه دان (3).

ص: 253


1- ونصّ الواقعة - حسب ما ورد في سفر التكوين - ما يلي: وخرجت دينة ابنة ليئة التي ولدتها ليعقوب لتنظر بنات الأرض، فرآها شكيم ابن حمور الحوّيّ رئيس الأرض، وأخذها واضطجع معها وأذلّها. وتعلّقت نفسه بدينة ابنة يعقوب وأحب الفتاة ولاطف الفتاة فكلّم شكيم حمور أباه قائلاً: "خذ لي هذه الصبية زوجةً“. وسمع يعقوب أنّه نجس دينة ابنته. وأما بنوه فكانوا مع مواشيه في الحقل فسكت يعقوب حتى جاءوا. فخرج حمور أبو شكيم إلى يعقوب ليتكلّم معه. وأتى بنو يعقوب من الحقل حين سمعوا. وغضب الرّجال واغتاظوا جدًّا لأنّه صنع قباحةً في إسرائيل بمضاجعة ابنة يعقوب، وهكذا لا يصنع. وتكلّم حمور معهم قائلاً: "شكيم ابني قد تعلّقت نفسه بابنتكم. أعطوه إيَّاها زوجةً وصاهرونا... فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكرٍ وتكلموا؛ لأنه كان قد نجس دينة أختهم ... فحدث في اليوم الثالث إذ كانوا متوجّعين أنّ ابني يعقوب، شمعون ولاوي أخوي ،دينة، أخذا كلّ واحدٍ سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كلّ ذكرٍ. وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف، وأخذا دينة من بيت شكيم وخرجا. ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة، لأنّهم نجسوا أختهم . غنمهم وبقرهم وحميرهم وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كلّ ثروتهم وكلّ أطفالهم ونساءهم وكلّ ما في البيوت». راجع سفر التكوين، الباب 34، من رقم 1 إلى 29 حاشا الأنبياء وأبناء الأنبياء مما نسب لهم اليهود أخزاهم الله وتعالى الله عما يصفون.[م]
2- ولعلّ الأدق أنّ الاسم قد ورد بنصه في تلك الواقعة كما نقلنا في الهامش السابق. [م]
3- ونص الأقصوصة - حسب ما ورد في سفر التكوين - ما يلي: «فلما رأت راحيل أنّها لم تلد ليعقوب، غارت راحيل من ،أختها وقالت ليعقوب: "هب لي بنين، وإلا فأنا أموت فحمي غضب يعقوب على راحيل وقال: "ألعلّي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن؟ فقالت: "هوذا جاريتي بلهة ادخل عليها فتلد على ركبتي، وأرزق أنا أيضًا منها بنين. فأعطته بلهة جاريتها زوجةً، فدخل عليها يعقوب، فحبلت بلهة وولدت ليعقوب ابنًا، فقالت راحيل: قد قضى لي الله وسمع أيضًا لصوتي وأعطاني ابنًا . لذلك دعت اسمه دانًا» راجع سفر التكوين الباب ،30 من رقم 1 إلى 6 [م]

ومن هنا، فإنّ مفردة الدين ومشتقاتها وردت في التوراة بمعنى القضاء والجزاء الدنيويّين، لكنّ هذه الكلمة بعينها جاءت في التلمود (1)بمعنى القضاء والجزاء الأخرويين.

6/7/7 .مفردة الدين في القرآن الكريم :

وردت مفردة «الدين» في الكتاب والسنّة بمعانٍ عديدة؛ منها ما يلي:

.1 النظام المعرفي والقيمي عموماً (الحق والباطل) : كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ﴾ (2) ، (لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِي دِينِ) (3). ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرُ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (4).

2 النظام المعرفي والقيمي الإلهي الحق كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لله أَمَرَ أَلَا تَعْبُدُواْ إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾(5) ، ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ) (6))، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ

ص: 254


1- التلمود Talmud : لفظة عبرية تفيد معنى «التعليم» و «التعلم والدرس. والمقصود بها التعليم القائم على أساس الشريعة الشفهية. وتطلق هذه المفردة عادة على مصنّف الأحكام الشرعية أو مجموعة القوانين الفقهية اليهودية»، فهو كناية عن فقه شرعي وتفسير كتاب التوراة ويضم مجموعة الكتب والأسفار التي تحوي سجل التشريعات والمجادلات والأخبار والقصص والأقوال الحكمية كذلك الأعمال والآثار التي أنتجتها المدارس الدینیّة اليهودية في فلسطين وبابل خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى القرن الخامس للميلاد [م]
2- سورة التوبة: 33.
3- سورة الكافرون 6 .
4- سورة آل عمران: 85 .
5- سورة يوسف: 40.
6- سورة يونس: 105.

اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(1) ، (أَفَغَبَرْ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ (2)،(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (3)، (وَوَصيَّ بَهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾(4).

3. الجزاء والحساب: كما في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾(5) ، ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (6).

4. الشريعة والقانون(7): كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بالله هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾(8) ، ﴿فَبَدأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَن يَشَاء الله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (9) وإن كان المعنى الأول والثاني محتمل أيضاً في هذه الآيات.

5 . الطاعة والعبادة والتدين (10): كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ

ص: 255


1- سورة آل عمران: 19 .
2- سورة آل عمران: 83 .
3- سورة التوبة: 33 .
4- سورة البقرة : 132 .
5- سورة الفاتحة: 4 .
6- سورة الشعراء: 82 .
7- راجع: تفسير الميزان محمد حسين الطباطبائي، ج 15، ص 79.
8- سورة الحج: 78.
9- سورة يوسف: 76.
10- راجع:تفسير الميزان محمّد حسين الطباطبائي، ج 17، ص 233.

فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) (1)، وقد ورد في الحديث الشريف: «الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين»(2).

6 . الإيمان والعقيدة القلبية (3): كما في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَنَّ الرُّشْدُ مِنَ الْغَى فَمَنْ يَكْفُرُ بالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (4)، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مُمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ الله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً )(5) .

7 . الإسلام: وردت مفردة الدين في القرآن الكريم بمعنى «الإسلام» والرسالة الخاتمة المنزلة على الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في الآية التاسعة عشر من سورة آل عمران (6) ،كما وردت بهذا المعنى بكثرة في الأحاديث الشريفة؛ فعلى سبيل المثال: روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «بني الإسلام على عشرة أسهم على شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة، والصلاة وهي الفريضة، والصوم وهو الجنّة، والزكاة وهي الطهارة، والحجّ وهو الشريعة، والجهاد وهو العزّ، والأمر بالمعروف وهو الوفاء، والنهي عن المنكر وهي المحجّة والجماعة وهي الألفة، والعصمة وهي الطاعة»(7).

وقد سأل كميل بن زياد أمير المؤمنين (علیه السّلام) عن قواعد الاسلام ما هي ؟ فقال (علیه السّلام): «قواعد الاسلام سبعة فأولها العقل، وعليه بني الصبر، والثاني صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة تلاوة القرآن على جهته والرابعة الحبّ في الله والبغض في الله، والخامسة حق آل محمّد ومعرفة ولايتهم، والسادسة حق الإخوان و المحامات

ص: 256


1- سورة الزمر : 2 .
2- نهج البلاغة الكلمات القصار 125 .
3- راجع: تفسير الميزان محمد حسين الطباطبائي، ج 9، ص 428.
4- سورة البقرة : 256 .
5- سورة النساء: 125 .
6- قال تعالى في هذه الآية: (إنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلَامُ). [م]
7- بحار الأنوار، ج 65، ص 375.

عليهم، والسابعة مجاورة الناس بالحسنى»(1). وروي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنه قال: «بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم، والحجّ، والولاية..»(2).

ويرى بعض الكُتّاب (3) أنّ كلّ مفردة تنطوي على معنى رئيسي ومركزي واحد تبقى روحه مخيّمة على اللفظ ؛ وإن طرأت عليه تطوّرات دلالية متعاقبة، مَثَله في ذلك مَثَلُ أيّ عنصر من مجموعة عناصر تتألف منها منظومة حيّة، فعلاقته وصلاته بالعناصر الأخرى لتلك المنظومة في حال تجدّد وتبدّل مستمرّين، ولعلّه في خضمّ تلك التطوّرات والتبدلات يضطلع بأدوار جديدة لم تكن من ذي قبل؛ كما في الأدوار التي يلعبها الفرد الإنساني في مجتمعه الذي يعيش فيه. فالمنظومة اللغوية لها وضع مشابه لذلك؛ ولو على نحو الموجبة الجزئية. ولو لم نقبل بهذه الرؤية كقاعدة كلية، فإن صدقيتها في المفردات القرآنية ليست بالأمر البعيد.

ومن هنا، فإنّ وجود عشرات الآيات ومئات الجمل المتنوعة التي استخدمت فيها مفردة «الدين» من شأنه أن يضعنا في مواجهة مع عشرات المعاني المختلفة لهذه المفردة، لكن المعاني المتغيّرة لا تتصف بالمصداقية والاعتبار إلا إذا أُخذت ضمن تركيبتها اللغوية التي تتموضع فيها، ولم تتناقض مع المعنى الأساسي والمركزي.

ولا يخفى أنّ أحد العوامل التي أدّت إلى حدوث اضطرابات كثيرة في المعاني التي تنقلها لنا المعاجم والقواميس اللغوية هو التركيز المتزايد على حشد مجموعة من المعاني النسبية المتنوّعة لمفردة واحدة، بدل السعي في تحديد المعنى الأساسي لها. فعلى سبيل المثال: لو راجعنا قاموساً مثل المنجد في «اللغة لنلحظ فيه معاني مفردة «الدين»، لوجدنا أنه يستعرض تسعةً وعشرين معنى مختلف لها، في حين أنّ كلاً من هذه المعاني لا يمكن الأخذ به كمدلول دقيق ومناسب لهذا اللفظ إلا إذا لوحظ في تركيبة ونسيج

ص: 257


1- بحار الأنوار، ج 65، ص 381.
2- الكافي، ج 1 ، ص ،18 باب دعائم الإسلام.
3- لاحظ: الهاجس الأخير علي طهماسبي، ص 73-95 . (بالفارسية)

لغوي معيّن استخدم فيه، ولا يتسنّى لهذا المعنى أن يرتبط بلفظ «الدين» خارج هذه الدائرة.

والشواهد القرآنية تشير إلى أنّ المعنى الأساسي والمركزي للدين في جميع الحالات المتغيّرة لهذه الكلمة سواء وردت في مجالات الآداب أو الشعائر أو السلوكيات أو الحقوق الاجتماعيّة وغيرها، ومن دون ملاحظة التطوّرات الزمانية والمكانية الطارئة عليها - هو دائماً معنى واحد فقط. والمعنى الأساسي هو ذلك الجوهر الباطني الذاتي الفريد الذي لا يتقيّد بالأزمنة والأمكنة والأفراد؛ بخلاف المعنى النسبي الذي يتأثر بكلّ ذلك.

وهنا نقول : إذا أردنا الالتزام بهذا المبدأ، أو حتّى إذا لم نشأ فعل ذلك، واكتفينا بما نستنتجه من مجموع الآيات القرآنية التي وردت في مفردة الدين، فسوف يكون بمقدورنا اكتناه المعنى الحقيقي لهذه المفردة في الكتاب والسنة. وحسب تقديرنا، فإنّ حقيقة الدين في النصوص الدینیّة هي :«مجموع الرؤى والمناهج والسلوكيات التي تبيّن للإنسان طريق السعادة والنجاة».

توضيح ذلك : أنّ الدراسة الدلالية للآيات القرآنية المباركة تهدينا إلى أن مفردة «الدين» قد استخدمت غالباً في معنيين مختلفين أكثر من المعاني الأخرى؛ وهما:

1 . معنى «المذهب» و «الملة» و«الشريعة» و«القانون» و«الآداب»؛ كما استخدمت في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾(1) ، ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ (2)، ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ) (3))، ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ )(4) ، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ (5)، وغيرها .

ص: 258


1- سورة الكافرون: 6 .
2- سورة المائدة: 3 .
3- سورة النصر : 2 .
4- سورة المائدة :3 .
5- سورة النساء: 171 .

2 . معنى «الحساب» و «القضاء» و «الجزاء» و«الثواب» و«العقاب» وما شاكل

ذلك؛ ومنه قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (1)، (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع )(2) ، (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)(3) ، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (4)، وغيرها .

نعم؛ استخدمت لفظة «الدين» بمعنى التدين» في كثير من النصوص الدینیّة، وهو معنى يجب إرجاعه إلى المعنى المرتبط بحقيقة الدين.

وإنّ التأمل الدلالي في هاتين الطائفتين من المعاني يأخذنا إلى منطلق وجذر معنويّ واحد لهذه المفردة في القرآن الكريم، وهو ما يمكن استكشافه من خلال وقوفنا على أصل موضوعي قرآني مسبق؛ مفاده : الترابط التكويني بين المعتقدات والأفعال من جهة، والنتائج المترتبة عليها من جهة أخرى؛ وهو ما يمكن استنباطه بشكل واضح وصريح من آيات قرآنية عديدة.

ولتقريب الفكرة نقول: إذا زرع الفلاح القمح في ظروف اعتيادية ضمن خطّة مدروسة وسليمة فإنه سوف يحصد ثمار جهوده هذه بعد انقضاء الأجل المطلوب لذلك لا محالة؛ وهو أمر طبيعي وبديهي. وهذا هو حال العلاقة الوطيدة بين الإيمان والعمل من جهة والمصير الذي يرتبط بهما من جهة أخرى؛ حسبما فهمناه من القرآن الكريم. قد أشارت مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية إلى ارتباط كل المعتقدات والأفعال والسلوكيات والآداب والشعائر التي يحملها أو يمارسها الإنسان بجزاء دنيوي أو أخروي لها، كما شدّدت أيضاً على التقييم الذي سوف تخضع له بعد موت الإنسان (يوم القيامة)، فيمتاز الصالح عن الطالح، ويذوق كلّ

إنسان ثمار فعله وصنيعه

ص: 259


1- سورة الفاتحة: 4 .
2- سورة الذاريات: 6 .
3- سورة المطففين: 11.
4- سورة الماعون: 1.

وبناءً على ذلك، فإنّ جزاء كلّ إنسان هو منتوج معتقداته وأفعاله وسلوكياته في دار الدنيا، وقد أشارت إلى ذلك الآيات الست الأولى من سورة الزلزلة : ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لَّبُرُوْا أَعْمَاهُمْ)(1) . وَإِنّ استخدام مفردتي «يوم القيامة» و«يوم الدين يدلّنا بنحو صريح على الوشائج المعنوية التي تربط أفعال الإنسان في هذا العالم بالنتائج المترتبة عليها يوم القيامة.

وبالتالي فإنّ العلاقة بين «الدين» الذي يعني الأفعال والسلوكيات والشعائر والمعتقدات من جهة والدين» الذي يعني الحساب والجزاء من جهة أخرى باتت واضحة وجلية (2).

ومن الممكن أن يذهب البعض إلى أنّ الفعل ونتيجته واقعيتان مستقلّتان، لا تربطهما نسبة العينية والهوهويّة؛ فكيف يجوز استخلاص أن معنى الدين هو الترابط بين المعتقدات والآداب والشعائر من جهة والجزاء والحساب من جهة أخرى؟! والجواب: أنّ بعض آيات القرآن الكريم شدّدت على اتحاد حقيقة الأفعال الدنيوية والنتائج الأخروية، وأنهما يمثلان الظاهر والباطن لحقيقة واحدة. ولهذا، تجد التعبير القرآني في الخطاب الموجه لأهل النار : (ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (3)، واللافت هنا استخدام مفهوم «الذوق» بدلاً عن مفهوم «الرؤية»، كما تجد أيضاً ما ينقله لنا القرآن الكريم من حديث أهل الجنة : (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) (4).

وتلخيصاً لما تقدّم نستنتج النقاط التالية:

1. المعنى الأساسي هو الروح المعنوية التي الروح المعنوية التي تُخيّم على المفردة في جميع صورها

ص: 260


1- سورة الزلزلة 1-6
2- لمزيد من التوضيح راجع: الهاجس الأخير، مصدر سابق، ص 73-95 .
3- سورة العنكبوت: 55 .
4- سورة البقرة: 25.

وتقلباتها الصرفية والنحوية المتنوعة ؛ كما في معنى «الحبس» أو «المنع» الذي يخيم على معاني مفردة «العقل» بجميع مشتقاتها. وإنّ المفردة الواحدة قد تتعانق في أنسجة الغويّة مختلفة وجملات متعدّدة ضمن ظروف زمانية ومكانية متفاوتة مع شبكة وسيعة من المعاني، لكنّها تحتفظ في جميع أحوالها تلك بمعناها الأساسي والمركزي. والمعنى الأساسي الذي يمثل القاسم المشترك لمعاني مفردة «الدين» هو تلك الرؤى والمناهج والسلوكيات التي ستؤول إلى نتائجها فيما بعد.

2. استخدمت مفردة «الدين» في القرآن الكريم بغضّ النظر عن المبدأ المشار إليه آنفاً للدلالة على معنيين رئيسيين يرتبط أحدهما بدار الدنيا، والآخر بالآخرة. أمّا الذي يخصّ عالم الدنيا فهو السلوك والفعل المستند إلى القانون الإلهي وما جاء به الرسل والقادة الإلهيون؛ وهو المسمّى ب- الدين القيم»، أو «دين الحق». وأما الذي يخص عالم الآخرة فهو انتقال المؤمنين والمحسنين إلى الجنّة؛ لينالوا أجورهم في حياة خالدة، وانتقال الكافرين والمسيئين إلى النار والعذاب الأبديّ. ويدلّ هذان المعنيان على أنّ الحياة في الدنيا وفي الآخرة تتحلّى بالقدسيّة، ويشيران أيضاً إلى أنّ التعدي على حقوق الناس في هذا العالم يستتبعه جزاء أخروي في العالم الآخر. فالدين - إذن - يمثل الحقائق التي تبيّن للإنسان النتائج الأخروية لمعتقداته وأفعاله وسلوكياته في الدنيا؛ فإذا كان الدين منتسباً لله جَلَّ وَعَلا كانت النتائج الأخروية التي يعرضها لعقيدة الإنسان وسلوكه مطابقة للواقع، وجاز لنا الاعتماد إليها، وإلا فلا يمكن الركون إلى أي دين آخر يزعم مقدرته على كشف العلاقة بين الأفعال في الدنيا والمصير الأخروي السعيد أو الشقي.

3 . المصدر الوحيد الذي يمكنه أن يميّز القضية الدینیّة عن غيرها من القضايا هو المصدر الذي لا يعجز عن تبيين العلقة بين الدنيا والآخرة، أو الملك والملكوت بنحو يقيني وقطعي. وهذا يعني أنّ المصادر الدینیّة الكفيلة هي المصادر التي - أولاً : - جاءتنا من عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كتاباً أو سنةً، أضف إلى ذلك ثانياً : العقل الكاشف

ص: 261

بنحو قطعي عن المآل الأخروي للمعتقدات والأفعال الدنيويّة. وعليه: فإنّ جميع القضايا التي بينها الله عَزَّ وَجَلَّ هي قضايا دينية؛ لأنّ غايته تَبَارَكَ وَتَعَالَى من ذلك: تعريف الإنسان بطريق السعادة والشقاء، وبيان النتائج الأخروية التي تترتب على عقيدة الإنسان وعمله، وإيصال ذلك إلى مرتبة الكمال. وعليه : فإنّ المبدأ الأوّلي يحكم بأن تكون التعاليم الإلهيّة بأسرها مندرجةً في سياق بيان الغاية المشار إليها إلّا إذا نص دليل آخر على ما يخالف هذه القاعدة العامة؛ فعلى سبيل المثال : قد يصدر تعليم أو سلوك من الإمام المعصوم على وجه التقية مثلاً، فعندئذ لا يجوز عدّ ذلك ضمن التعاليم الدینیّة؛ وإن كان فعل التقية نفسه فعلاً دينياً.

وفي المحصلة نقول: تتصف جميع التعاليم القرآنية والحديثية الصادرة عن المعصومين (علیهم السّلام) بما فيها التعاليم الواردة في موضوعات تخص الغذاء أو معالجة الأمراض وما شابه ذلك بأنها دينية، وهي واردة في مقام تبيين المآل الأخروي لعقائد الإنسان وأفعاله الدنيوية إلا في بعض الاستثناءات؛ حتى لو لم يُصرح في الآية أو الرواية بالجزاء الأخروي، أو ما ستؤول إليه تلك المعتقدات أو الأفعال. وعلى صعيد متصل، يمكن عدّ المتبنّيات والتعاليم العقلية التي تتصف بالشرطين التاليين ضمن مجموعة القضايا الدینیّة أيضاً. والشرطان هما: أولاً : أن يكون ذلك في سياق تبيين العلقة بين الدنيا والآخرة، أو الصلة التي تربط الحياة الدنيوية بالسعادة أو الشقاء في الآخرة، أو قل الربط بين الملك والملكوت وثانياً: أن يُبيَّن مضمون الشرط الأوّل على نحو يورث القطع أو الاطمئنان. ولا تتصف القضية العقلية بأنها «دينيّة» إلا إذا استوفت هاتين النقطتين من هنا، فإنّ القضايا المتعلقة بمباحث الإلهيات بالمعنى الأخص (بحوث معرفة الله ومعرفة النبي والإمام والمعاد (العقليّة يمكن عدها ضمن القضايا الدینیّة. أما القضايا القطعية الأخرى كالقضايا الرياضياتية أو الأبحاث المسماة بالأمور العامة في الفلسفة فلا تُعدّ من القضايا الدینیّة وفق المعطيات اللغوية والدلالية القرآنية؛ لأنها ليست بصدد بيان المآل الأخروي للمعتقدات والأفعال الدنيوية، أو بيان العلقة بين الملك والملكوت.

ص: 262

وحاصل ما تقدّم أننا نذهب إلى عدم اقتصار القضايا الدینیّة على النصوص الدینیّة، بل نرى علاوةً على ذلك انضمام القضايا العقلية اليقينية، أو المورثة للاطمئنان إلى حظيرة القضايا الدینیّة، طالما أنها نصت على العلقة بين الدنيا والآخرة، أو أخذت هذا الترابط من الكتاب والسنّة.

4. الصراط المستقيم في القرآن الكريم هو الدين الإلهي: يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا فِيهَا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) (1) وقد نقل الإمام الباقر (علیه السّلام) عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال في تفسير هذه الآية: أنّ دين إبراهيم (علیه السّلام) هو ديني (2).وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (3).

5 . تدلّنا الأبحاث السابقة إلى وجود انسجام وتناغم دلالي في موضوع حقيقة الدين بين المنحى التجريبي والعقلي والنقلي وحقيقة الدين هي التعاليم المبينة للجزاء الأخروي المترتب على الرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية؛ بما يضمن نجاة الإنسان وسعادته. فإذا كانت التعاليم مستندةً إلى الله جَلَّ وَعَلا كان الدين حقاً وإلهيّاً، وإلا فهو دين باطل وغير إلهي. وإن اشتملت الأديان الباطلة على بعض التعاليم الحقة فهذا لا يعني أن مزيج الحق والباطل يمكن له ضمان سعادة الإنسان أو نجاته.

ص: 263


1- سورة الأنعام: 161.
2- راجع تفسير نور الثقلين الشيخ الحويزي، ج 1، 786 .
3- سورة إبراهيم: 1.

8 .حقيقة التجربة الدینیّة

1/8. تمهید :

كانت حقيقة الدين هي تلك الحقيقة المبينة للمآل الأخروي والملكوتي لعقيدة الإنسان وأفعاله الدنيوية، وطالما أنّ إثبات هذا يحصل في الأعمّ الأغلب من خلال النصوص الدینیّة، وما دام الوحي الإلهي هو أهم تلك النصوص، فإنّ السؤال عن العلاقة بين الدين والتجربة الدینیّة إنما هو سؤال يعود إلى الصلة بين الوحي والتجربة الدینیّة.

ومن أهمّ المسائل المطروحة في موضوع التجربة الدینیّة البحث عن واقع الصلة بينها وبين الدين؛ فهل حقيقة الدين هي ما يُسمّى بالتجربة الدینیّة؟ وهل الوحي الإلهي تجربة دينية ؟ وهل التجربة العرفانية هي تجربة دينية أيضاً؟

تتطلب منا الإجابة على هذه التساؤلات فتح ملفّ يدرس كلًا من «التجربة الدينيّة»، و«التجربة العرفانية»، و«الوحي».

أمّا الوحي فتُعرف ماهيّته وحقيقته من الكتاب والسنة، وأما التجربة العرفانية فالطريق إليها يمرّ عبر العرفاء وأهل الشهود، وأما التجربة الدینیّة فنقف على تفاصيلها حسب ما أفاده المفكّرون والمنظّرون.

وسوف نسعى في هذه البحوث إلى إثبات التغاير بين حقيقة الدين والتجربة الدينيّة. أما التغاير بين الوحي والتجربة الدينيّة فأمره موكول إلى بحوث باب النبوة.

ص: 264

2/8. ماهية التجربة الدینیّة وأنواعها :
1/2/8. ماهية التجربة الدینیّة :

ماهية التجربة الدینیّة :

المنهج المتبع في مسألة تطابق الدين أو عدم تطابقه مع التجربة الدینیّة هو منهج ظاهراتي، بمعنى أننا سوف ندرس - بادئ ذي بدء - الظواهر المنتمية لكلّ من الدين والتجربة الدینیّة؛ لنتعرّف عى معانيها، ثمّ نقف من خلال ذلك على تغايرها أو اتحادها.

وسوف تنتهي هذه الدراسة - من خلال مطالعتها لظواهر التجربة الدینیّة كما صوّرها شلاير ماخر، وألستون، وبراودفوت، والأنواع التي فصلها سوينبرن، ومن خلال معطيات البحث عن حقيقة الدين - إلى الحكم بتغاير الدين والتجربة الدینیّة.

تقدّم أنّ الوقوف على معنى التجربة الدینیّة يتأتى من خلال استعراض رؤى المفكّرين والمنظّرين في هذا الصدد؛ إذ سنتهي من ذلك إلى تعريف دقيق عن هذه الظاهرة، مما يسمح لنا بعدئذٍ بعقد مقارنة بينها وبين الوحي.

2/2/8 .التجربة الدينيّة عند شلاير ماخر :

يُعدّ شلاير ماخر أوّل من تناول مصطلح «الشعور الديني»، ثمّ كتب بعده وليام جيمس (1910م) كتاباً عنوانه «تنوع التجارب الدینیّة». وقد ذكر شلايرماخر السبب الذي دعاه إلى خوض غمار هذا البحث ضمن مقدّمة كتابه المسمى ب- «حول الدین»(1)؛ حيث قال إنّ بعض أصدقائه الذين حضروا حفل عيد ميلاده ذات يوم عاتبوه بالقول: إنّ الإلحاد واللادينية قد بلغا حدّ الذروة في القرن التاسع العشر ، وقد تمايل أغلب الناس والعلماء نحو النزعة الإلحادية؛ فلِمَ لا تحرّك ساكناً وأنت متكلّم لاهوتي لتذبّ عن حياض الدين؟ لم لا تعلن أن من حق الدين أن يبقى حيّاً؟ لماذا

ص: 265


1- [م] .On Religion

لا تُبيّن دوره وفاعليته؟ وهذا هو ما دفع بشلاير ماخر ليكتب كتاباً موجزاً خصصه للحديث عن الدين، فأوضح فيه ما يجب معرفته من معنى الدين.

وقد تطرّق شلاير ماخر في هذا الكتاب إلى مجموعة من الفرضيات، وناقشها، ليخلص في النهاية إلى رؤيته في هذا المقام . وقد بدأ في استعراض برهانه من خلال الفرضيات التالية :

1 . هل الدين هو الميتافيزيقا (1) ؟ الجواب: الدين مختلف عن الميتافيزيقا

2 . هل الدين هو الأخلاق؟ يقول : هاتان حقيقتان منفصلتان؛ خلافاً لما يزعمه باركلي؛ حيث اصطنع تلفيقة معينة جمع فيها الأخلاق والدين.

3 . هل الدين هو العرفان أو التصوّف؟ يرفض شلاير ماخر هذا الفرض أيضاً.

ويخلص شلاير ماخر في نهاية المطاف إلى أنّ الدين تجربة دينية، ويُعرّف التجربة الدينيّة بأنها الشعور بالاعتماد على موجود مطلق، وحقيقة مطلقة (2) . ويرى أنّ هذا الشعور بالاعتماد على الموجود المطلق هو شعور بالاعتماد الكامل الشامل على جهة أو قوّة تمتاز عن العالم.

وعلى هذا الأساس، يرى أن التجربة الدينيّة هي من جنس الإحساس والشعور؛ لا من سنخ العلم أو المعرفة. ويضيف إلى ما تقدّم : وفقاً لهذا التعريف، ليس الدين من جنس العلم، وهو لا ينتمي إلى الأمور المعرفية وبالتالي فإنّ لغة الدين ليست لغةً معرفية، والدين لا يتصف بأي صبغة علمية أو معرفية، بل إنه يمنحنا شعوراً روحانياً عبّر عنه بعض علماء النفس بأنه شعور يُخرج المرء من وحدته، ويرمي به في أحضان أجواء روحانية معيّنة.

ص: 266


1- المراد بها هنا الإلهيات بالمعنى الأخص ، وهي الأبحاث المرتبطة بمعرفة الله، ومعرفة الدين، وفلسفته.
2- الإطلاق هنا بمعنى الكمال والشمولية والشعور المشار إليه في التعريف هو شعور ينطوي على ضرب من ضروب الوحدة، وهو شعور ينتاب كل كيان الإنسان، وهو إحساس يتعلّق بقوّة تفوق هذا العالم، ولا يتطرّق إلى أنها الله .

وقد وافق رودولف أوتو على تعريف شلاير ماخر بحذافيره، ساعياً إلى إسقاط تفاصيله على الأديان السماوية والإبراهيمية.

لقد ذهب شلاير ماخر في نظريته التي تزعم الانسجام والتناغم بين الدين والتجربة الدینیّة إلى أنّ كلّ إنسان متديّن؛ حتّى إنسان القرن التاسع عشر، وأنهم جميعاً يمتلكون تلك التجربة الدینیّة، وليس هناك من البشر من لا يشعر في قرارة نفسه بالاعتماد على الموجود المطلق الذي وصفه بأنه ما وراء هذا العالم. ولم يستثن شلاير ماخر الفنانين الذين اشتهروا في ذلك العصر بأنهم أكثر الناس بعداً عن الدين؛ حيث عدّهم من أشدّ الناس تديناً؛ لأنهم حسب وصفه يمتلكون هذا الشعور بالاعتماد على الموجود المطلق أكثر من غيرهم. وكما يعبّر ستيس في كتابه التصوف والفلسفة فإنّ هذه الحالة مشهودة حتّى عند المدمنين على المخدرات.

وفي الختام، ردّ شلاير ماخر على أصدقائه بألا يتحسّروا على الدين، أو يهابوا لادينية القرن التاسع عشر(1).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التجربة الدینیّة تنتمي إلى أحاسيس الإنسان ومشاعره، ولا يخفى أنّ الشعور ينطوي على مراتب و درجات، فلا يبعد أن يُدعي القائلون بالتجربة الدينيّة أنّ المرتبة العليا من هذا الشعور هي المرتبة المسماة ب-«الوحي»، وهو ما أرسله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى تلقاه الإنسان منه .

3/2/8 . التجربة الدینیّة عند ألستون:

يرى ألستون أنّ التجربة الدینیّة أمر علمي؛ وليس من سنخ الشعور والأحاسيس. وإذا انتهينا إلى أنّ التجربة الدینیّة تنتمي إلى جنس الأحاسيس فمن اللازم عندئذٍ أن يكون الشخص صاحب الإحساس موجوداً. أمّا متعلق هذا الشعور فلن يكون أمراً

ص: 267


1- وبعبارة أخرى: إنه أفاد هنا من مجاز السكاكي حينما تصرف في معنى الدين، ليصبح الجميع متديناً؛ كما صنع السكاكي في مجازه فتصرف في معنى الأسد ليشمل كل إنسان شجاع أيضاً.

وارداً في البحث؛ لفرط غموضه، فالفرد المدمن

على المخدّرات مثلا لديه شعور وإحساس معين، لكن متعلق هذا الإحساس أمر مجهول، فلعله يحس بالوحدة، وبحاجته إلى من يمد يد العون له، لكن من هو هذا الشخص المعين الذي يحتاجه؟ وما هي صفاته؟ ذلك أمر غير معلوم، وليست الصورة واضحة حياله ، ولهذا لا يدخل متعلق الإحساس في خضم البحث. وعليه، فإنّ الشعور يتكوّن من ثلاثة عناصر؛ هي: الشعور، وصاحبه، ومتعلق هذا الشعور . ولا يجري الحديث عن متعلق الشعور لشدّة غموضه.

أما لو كانت التجربة الدینیّة من جنس العلم والإدراك (وهي العلاقة بين المدرِك والمدرَك)، فلا محيص إذن من وجود مدرك ومدرَك (متعلّق الإدراك)، ولا مفرّ أيضاً من وجود مدرَكين مدرَكاً أو معلوماً بالذات (الصورة الذهنية)، ومدرَكاً أو معلوماً بالعَرَض (الخارج)؛ فإذا كان المدرَك بالذات متطابقاً مع المدرَك بالعَرَض فالإدراك حينئذٍ صادق، وإلا فهو كاذب.

4/2/8 .التجربة الدینیّة عند براودفوت:

يرى براود فوت أنّ التجربة الدینیّة - سواء كانت من جنس الإحساس أو الإدراك حقيقة قابلة للبيان والتفسير وهو بالتالي لا يفصل بين التجربة الدینیّة وتفسيرها (1). ويذهب أيضاً إلى أنّ الإدراك أو الشعور الروحي وكذا إدراك الموجود السامي أو الشعور بالاعتماد على المبدأ أو الحقيقة الممتازة عن الكون لا يمكن له أن يتحقق من دون تفسیر صاحب التجربة نفسه.

وفي واقع الأمر، فإنّ التجربة الدینیّة عنده مركّب يجمع بين إدراك صاحب التجربة أو شعوره زائداً تفسيره لذلك.

ص: 268


1- التفسير هنا هو الانطباع الشخصي لصاحب التجربة الدینیّة عما جرّبه، سواء ظهرت هذه التجربة في هيئة ألفاظ، أم لم تتحمّلها قوالب اللغة لضعف الأخيرة، أو لأنّ قابلية المتلقي لشرحها غير محرّزة. وبشكل عام فإنّ صاحب التجربة له معرفة بتجربته ؛ وهذا هو تفسيرها.

ولا يخفى على المتتبع تأثر أبحاث براودفوت هنا عما يدور في أروقة الهرمنيوطيقيا الفلسفية؛ فوفقاً لبعض الأصول الموضوعة المفترضة مسبقاً تتبلور التجربة لصاحبها جرّاء مجموعة من العلل والعوامل، ثمّ يقوم الفرد على ضوء تلك المفترضات بتفسير شعوره أو إداركه. وتركيب هاتين الخطوتين هو ما يعبّر عنه بالتجربة الدینیّة. ولهذا، ليس هنالك تجربة دينية عارية عن التفسير.

ولعلّ هذا القول مشابه لما ردّده كانط (1804م) حين ذهب إلى امتلاك الإ

نسان لقوى ثلاثة؛ هي : الحساسة، والواهمة والفاهمة وأنّ هناك وقائع موجودة خارج الذهن تترك آثارها علينا؛ فالإنسان يدرك بعض الأمور عن طريق حواسه، لكنه يجهل ماهية ما يدركه في الواقع؛ فالمواد المدركة تلك تمتزج بفضل قواه الواهمة والفاهمة مع عنصري الزمان والمكان أو قل تمرّ هذه المواد من خلال معبر يكونه الزمان والمكان. ثمّ يتحدّث عن المقولات الاثني عشر ، وما تصدره القوّة الفاهمة أو العاقلة؛ أي: مرور تلك المواد من ذلك المعبر، واستقرارها في إحدى المقولات المشار إليها. ثمّ يستصدر من هذه المقولات أحكاماً اثني عشر. والأحكام الكلية والجزئية أو الشخصية إنما تصدر من هذه المقولات الاثني عشر.

ويرتكز ما ذهب إليه كانط (1804م) إلى نقطتين:

أوّلاً: أنّ هنالك وقائع موجودة في الخارج (الأنطولوجيا عنده).

وثانياً : أنّ هنالك أحكاماً أيضاً (الابستمولوجيا عنده) ، ثمّ يفتح باباً يخص العلاقة بين بحوث معرفة الوجود الأنطولوجيا)، ونظرية المعرفة (الابستمولوجيا) يسميها ببحوث معرفة الذهن.

ولا يخفى أنه لم يُشر في نسخته الأولى من كتاب «نقد العقل المحض» إلى موضوع معرفة الذهن، بل اكتفى هناك بالإشارة إلى القوة الحساسة والفاهمة.

ص: 269

وفي معرض الرد على مناقشة مفادها السؤال عن كيفية الولوج في بحث المقولات فجأةً، يقول : يرتبط عنصرا الزمان والمكان بالقوى الواهمة، ومن خلال ذلك تتبلور حقيقة ما لتلك المواد والمقولات، تُطلق عليها اسم «الأحكام».

وكما أسلفنا فيما مضى، فقد ذهب شلاير ماخر إلى أنّ عنصري الزمان والمكان وكذلك المقولات أمور ذهنية، وأنّ المواد تأتينا من الخارج. ومن هنا، فإن المركب الناتج عن هذه العناصر الثلاثة (الزمان والمكان + المقولات + المواد) هو ما نطلق عليه اسم المعرفة. وبعبارة أخرى المعرفة مركب ناتج عن مواد متخذة من الخارج، وتأثيرات تركتها قوى الذهن الفعالة على هذه المواد.

ويرى براودفوت أنّنا كما لا نملك مواداً محضةً، فإننا لا نملك أيضاً تجربة دينية صرفة خالصة . وإذا جاز لنا أنطولوجياً أن نذعن بوجودها، فإننا عاجزون عن بيانها أو الإفصاح عنها. وبالتالي: إذا نجحت عملية التبيين في التجربة الدینیّة، فتغيرت حالات الشخص، وبدأ يذرف الدموع، أو يسرد الأبيات الشعرية، فإنّ هذا مركب نتج عن شعور هذا الشخص أو إدراكه ممتزجاً بتفسيره لذلك؛ وليس مجرّد الشعور أو الإدراك المحض؛ لأنّ الشعور والإدراك لا ينفكان عن التفسير(1) .

وبناء على ذلك، فإنّ التجربة مقرونة بالتفسير على الدوام، سواء كانت من جنس الأحاسيس، أو انتمت إلى فئة الإدراكات. كما أنّ التفسير الذي تجري عملياته بفعل من صاحب التجربة نفسها هو الآخر لا ينفصل عن الشعور أو الإدراك.

5/2/8 .أنواع التجربة الدینیّة:

التجربة مشترك لفظي يدل على التجربة الحسية والتجربة العرفية، والإدراك الحسي، والتجربة الأخلاقية، والتجربة العرفانية، والتجربة الدینیّة.

ص: 270


1- تأثر براودفوت بإلقاءات كانط في التمييز بين ما أسماه بالشيء بذاته أو النومين Noumen من جهة، والظاهرة Phenomenon من جهة أخرى، وكذا تأثر بآراء هايدغر وغادامر الهرمنوطيقية الفلسفية، ناهيك عما لاحه من تأثيرات البراغماتيكية المذهب النفعي.

والمراد بالتجربة الدینیّة الشعور أو الإدراك الذي ينتاب الإنسان تجاه أمر معنوي أو روحي وحقيقة غائيّة.

ويرى سوينبرن أنّ للتجربة الدینیّة - أو تجربة الله حسب تعبيره - خمس مراتب؛ هي ما يلي:

1 .تجربة الحقيقة الغائية بواسطة شيء محسوس : وهي أمر متاح لكل شخص، ويقع في نطاق التجربة العامة ومثالها : تجربة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أو الحقيقة الغائية برؤية صورة لشخص مقدّس مثلاً؛ كما لو تداعى ذلك لمن شاهد صورة السيد المسيح (علیه السّلام) وهو يرزح تحت التعذيب ضمن أحداث عرض سينمائي، أو من خلال مشهد حي لغروب الشمس مثلاً، وفي هذين المثالين تحصل للإنسان حالة روحانية ناتجة من التجربة المحسوسة العامة.

2 . تجربة الحقيقة الغائية بواسطة شيء محسوس غير مألوف لكنّه عام: كما في مشاهدة نبتة تلتهمها النيران، لكنّها لا تحترق، أو كواقعة إلقاء إبراهيم (علیه السّلام) وسط الحريق دون أن يمسّه سو ء؛ فهاتان تجربتان بصريّتان محسوستان عامتان)، لكنهما غير مألوفتين.

3 . تجربة الحقيقة الغائية بواسطة ظاهرة شخصية قابلة للوصف باللغة الحسية المألوفة والمقصود بها هنا تلك التجربة المنطلقة من الظواهر الشخصية؛ لا العامة، كما هو الحال في مثل الأحلام والمكاشفات.

4 . تجربة الحقيقة الغائيّة بواسطة ظاهرة شخصية لا تقبل الوصف باللّغة الحسّية

المألوفة في الغالب كما هو الحال في الكشف والشهود العصي على البيان.

5 . تجربة الحقيقة الغائية دون توسيط أمر حسّيّ (ظاهري أو باطني): ومثاله: الإنسان الذي يرتبط بالله عَزَّ وَجَلَّ ، وهذا يعني : انعدام أي أمر محسوس في البين رغم وجود التجربة الدینیّة (1).

ص: 271


1- العقل والإيمان الديني، مصدر سابق فصل التجربة الدینیّة.

لقد استعرض سوينبرن هذه المراتب المختلفة للتجربة الدینیّة ليؤكد على أنّ التجربة الدینیّة - سواء كانت من جنس الإدراك أو الشعور ، أو كانت قابلة للتفسير أو عصيّة عليه - مظلة كبرى تشمل أدنى المراتب؛ وهي ما قد يحدث لأي شخص، وصولاً إلى أسماها مقاماً؛ مثل ما كان يحدث للسيد المسيح (علیه السّلام)، أو للرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وهو المسمّى بالتجربة الوحيانية .

وبناءً على ذلك فالتجربة الدینیّة التي تناولها سوينبرن تشتمل على الترجبة الروحانية والعرفانية - بما يعمّ القابلة للوصف والعصيّة عليه - وكذلك التجربة الوحيانية التي نجدها عند الأنبياء.

3/8 . ماهية التجربة العرفانية وأنواعها:

التجربة العرفانية هي كشف أو شهود قلبي يحصل عليه العارف نتيجةً لتزكية النفس وترويضها عملياً. وفي معرض دراستنا لهذه الظاهرة وفقاً للمنهج الظاهراتي فإننا لا نسعى هنا إلى ممارسة أيّ برهنة عقلية أو أي إثبات عرفاني على وجود هذه الظاهرة، بل يجب أن يكون أحدنا ذلك العارف الذي يمرّ بتجربة تلك الظاهرة، أو أن نطرق باب العرفاء مستفسرين منهم عن حقيقتها، أو مراجعين لمصنفات عرفانية مثل منازل السائرين، والتمهيدات»، و«الفتوحات»، و«الأربعون مجلساً لعلاء الدين الكرماني وغيرها.

وقد عبّر العرفاء عن المعرفة العرفانية بمفردات مثل: «الكشف» و«المكاشفة»، و الشهود»، و«المشاهدة»، و«المعرفة القلبية»، وغير ذلك. وقسموها إلى أقسام. يقول الكاشاني: «الشهود رؤية الحق بالحق»(1).

وهذا يعني أن الإنسان إذا أدرك الحقيقة التي مفادها أن العالم بأسره ما هو إلا

ص: 272


1- اصطلاحات الصوفية، عبد الرزاق الكاشاني (القاساني)، ج 2 ، ص 152 مصطلح شهود.

مظهر وتجلّ من مظاهر الحق وتجلياته، حصل له شهود الحق بهذه المظاهر والتجليات، فقد بلغ حقيقة الشهود وجوهره. وقد قسّم الكاشاني بعد ذلك الشهود إلى مجمل في مفصل، ومفصل في مجمل.

وأشار إلى أنّ الشهود المجمل في المفصّل يتلخّص في رؤية الأحدية في الكثرة؛ أي أننا إذا استطعنا أن نرى أحديّة الله تَبَارَكَ وَتَعَالى في كثرة العالم، فقد بلغنا شهود المجمل (الأحدية) في المفصّل (الكثرة).

أمّا شهود المفصل في المجمل فيتلخّص في رؤية الكثرة في الذات الأحديّة؛ وهو يعني السير من الحق إلى الحق في مسلك مسير الصعود للوصول إلى الذات الأحديّة (مقام الأحديّة)، ورؤية الكثرة في هذا المقام، وذلك لأنّ الكثرة الموجودة في الأعيان الخارجيّة لها وجودها في الأعيان الثابتة، وفي علم الله جَلَّ وَعَلا.

وعليه، فإنّ مقام شهود العلم الإلهي ينطوي على شهود المعلومات الإلهية أيضاً؛ لا أنّ الأعيان الخارجيّة موجودة هناك بماهيّاتها، بل هي حاضرة جميعاً بكمالاتها، والعلم بها في أعيان الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

يقول القيصري (751ه) :

«الكشف لغةً رفع الحجاب، يُقال: كشفت المرأة وجهها؛ أي: رفعت نقابها. واصطلاحاً هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني (1) الغيبية، والأمور الحقيقية(2)وجوداً أو شهوداً» (3).

ص: 273


1- يقول العلامة حسن زاده الأملي في تعليقته أي من الأسماء والصفات. راجع التعليقة على شرح فصوص الحكم للقيصري، ج 1، ص 127. [م]
2- أي الموجودة خارجاً :أي: صيرورة المكاشف متصفاً بحقيقة المكشوف. لاحظ المصدر السابق. [م] [3] - وجوداً أي وجداناً لها بحيث لا يصير المكاشف متحققاً بحقيقة المكشوف، وهذا مقام حق اليقين. ووجداناً أي ورؤيةً، وهذا مقام عين اليقين.
3- شرح فصوص الحكم للقيصري، ج 1، ص 127. [م]

وبعبارة أخرى : إذا بلغ الإنسان مقام عين اليقين، وشاهد الحقائق الغيبية فقد حصل على مرتبة الكشف، وإذا بلغ مقام حق اليقين فإنّ وجوده في واقع الأمر قد اتحد بوجود سائر الموجودات بنحو ما، وعندئذ فالمقام ليس مقام ،الشهود، بل مقام الوجود؛ وهو ما عبّر عنه العرفاء بوحدة الوجود التي هي مرتبة تلي مقام وحدة الشهود.

وبعد ذلك، يقسّم القيصري الكشف قائلاً :

«وهو معنوي(1) وصوري، وأعني بالصوريّ: ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس (2) وذلك إما أن يكون على طريق المشاهدة (3)؛ كرؤية المكاشف صور الأرواح(4) المتجسّدة، والأنوار الروحانية(5). وإما أن يكون عن طريق السماع؛ كسماع النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) الوحي النازل عليه»(6).

وهذا يعني أنّ الإنسان عندما يرتبط بعالم المثال المنفصل والبرزخ يحصل على مشاهدات مشابهة لما هو في الخيال المتصل، فيمكن للإنسان أن يشاهد صوراً لا يراها الآخرون، ولهذا يمكن للعارف أن يرتبط بالخيال المنفصل، وهو مرتبة من مراتب العالم المجرّد (التجرّد غير التام، وأن يرى أو يسمع أموراً؛ كما نجد في قول الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لأمير المؤمنين (علیه السّلام) «إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى»(7)، وهذا هو الكشف الصوريّ. ويمكن هذا عن طريق الذوق؛ كما في السالك الذي يحصل له شهود بطعام يتناوله فيطّلع به على معان غيبية، وفي بعض الأحيان قد يأكل الإنسان

ص: 274


1- أي: عقلي ، لاحظ: المصدر السابق. [م]
2- الحواس الخمس الباطنة. م.س. [م]
3- وهو الاطلاع الشهودي. م. س. [م]
4- أي: أرواح الأناسي.م.س. [م]
5- أي: العقول. م.س. [م]
6- المصدر السابق، ص 127-128. [م]
7- نهج البلاغة ص 417 ،ط شرح محمد عبده [م]

طعاماً في الخيال المنفصل، ويمكن أيضاً أن يكون هذا الكشف من خلال سائر الحواس الأخرى.

وحسب ما ذهب إليه العرفاء فإنّ الحواس الخمس موجودة في باطن النفس، باعتبار وجودها البرزخي والمثالي، وإنّ حواسنا المادية تستفيد من النوافذ المفتوحة لها من الحواس الموجودة في الخيال.

والقسم الآخر الذي استعرضه القيصري هو الكشف المعنوي (في قبال الصوري)، مثاله : أن يطلع الإنسان على مقام الأحدية الإلهيّة، أو ظهور الوحدة في الكثرة (1).

وقد قسّم العرفاء أيضاً التجلي إلى نوعين: ثبوتي، وإثباتي.

أما التجلي الثبوتي فهو وجودي أنطولوجي، ومعناه أن يُعرف الحق عَزَّ وَجَلَّ بصفته هوية غيبية غير متعينة. والهوية الغيبية له تَبَارَكَ وَتَعَالى تظهر في قوس النزول على هيئة التعيّن الأول بدايةً (الحضرة الأحدية)، ثمّ التعين الثاني (الحضرة الواحدية)، ثم التعينات الخلقية ( عوالم العقل والمثال، والمادة).

وأما التجلي الإثباتي فهو الشهود أو الكشف العرفاني.

والعارف في عرفانه العملي يمضي في سيره وسلوكه ليتجاوز عدة منازل في قوس الصعود فيرتقي من اليقظة، ليبلغ مقام الفناء. وآخر مراحل السلوك الوحدة في الشهود؛ بمعنى أن يجد الله جَلَّ وَعَلا في كلّ شيء، أو الوحدة في الوجود؛ أي: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو الوجود الأوحد.

لقد خلص العرفاء قبل ابن عربي إلى أنّ أقصى مراتب الكمال هي مرتبة الوحدة الشهودية، لكن ابن عربي ذهب إلى وحدة الوجود. فكلّ ما سوى ذهب إلى وحدة الوجود. فكلّ ما سوى الله متحقق في وحدة

ص: 275


1- راجع شرح فصوص الحكم، القيصري، الفصل الرابع في مراتب الكشف وأنواعها إجمالا، وراجع كذلك شرح مقدّمة القيصري، ص 536.

الشهود، لكنّ العارف لا يتلفت إليه بل يرتكز شهوده على الوحدة، ففي وحدة الوجود لا وجود لأي شيء غير الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ، وغيره ما هي إلا تجليات له.

وقد استطاع ابن عربي بنظريته هذه في وحدة الوجود أن يبني رؤيته في العرفان النظري، وأن يبيّن العرفان العملي الذي يُعدّ طريقة الوصول إلى الكمال والوحدة بشكل ممنهج، وتمكّن بعده صدر الدين الشيرازي أن يكمل ما بدأه ابن عربي، وأن يبرهن على مجموعة مدعياته العرفانية.

هذا، ولا يختلف العرفاء جميعاً في أنّ الشهود هو منطلق العرفان. وهو ينتمي إلى العلم الحضوريّ، ويُعدّ مرتبةً من مراتبه إلى جانب المراتب الأخرى؛ مثل: الشعور بالألم، أو العطش، وما شاكل ذلك. ويصرّح العرفاء أنفسهم بأن منطلق الشهود وأصله قد يكون إلهياً تارةً وشيطانياً تارة أخرى. وفي واقع الأمر، فإنّ الشهود الشيطاني ليس بشهود أصلاً، بل هو ارتباط مع الخيال المتصل والذهن البشري؛ إذ يمكن للفرد أن ينغمس في خياله لأسباب نفسانية أو شيطانية، فيخال له أن صوره الذهنية شهود عرفاني، أو خيال منفصل، فيختلط عليه الأمر.

وللوصول إلى الشهود المنفصل أي إلى الواقع الخارجي والملكوتي للعالم، وتمييز الشهود الإلهيّة عن النفساني أو الشيطاني اقترح أهل العرفان طرائق متعددة؛ منها: موازين العقل والسؤال من العارف الواصل ، وكذلك عرضها على الكتاب والسنة. وهنا ننوه بأنّ العرفاء المتشرّعين ليس أنهم يؤمنون بأنّ القرآن الكريم هو الأصل والمنطلق الوحيد لاكتشاف صدق الشهود أو كذبه وحسب، بل إنهم يرون فيه المصدر الأنطولوجي للعرفان أيضاً. وبتعبير آخر يرى العرفاء أن جميع مراحل العرفان موجودة في الكتاب والسنة. وبالتالي، فإنّ آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لم تبالغ فقط في بيان أحكام الشريعة، بل أوغلت أيضاً في تناول المقامات العرفانية، وطرق الوصول إليها.

ومن هنا، فقد رفضوا ألوان الرياضة الصوفية وجعلوها خارج دائرة الكتاب والسنة، وعدّوها في واقع الأمر كحلقة من خلقات الإلقاءات الشيطانية.

ص: 276

هذا، ويدعي العرفاء في معرض بيانهم لشهودهم أنّ بياناتهم وإفصاحهم عما رأوه لا يعدو كونه أمراً شخصياً، وليس له منطلق إلهي . وعليه، طرحوا قضية ضيق الخناق في التعابر اللغوية، ووجدوا أنفسهم عاجزين في الإعراب عن مشاهداتهم. وقد عزوا هذا العجز إلى ضعف القدرة على البيان عند العارف، وانخفاض مستوى قدرة الفهم عند المخاطب، وإشكالية المعاني عندما يروم العارف إلى بيان المعارف العرفانية السامية، وهذا هو الذي أدّى إلى ظهور توجّهات معيّنة عند بعض العرفاء، انتهت بهم إلى إبراز ما وصف بالشطحيّات (1).

وفي المحصلة نقول : اتّضح من وقوفنا على التجارب العرفانية وما تبين لنا بشأن التجربة الدینیّة وأقسامها - لا سيّما التجربة الدینیّة في نظرية سويبرن - أنّ الشهود العرفاني لون من ألوان التجربة الدینیّة. ومع اتضاح حقيقة الدين التي ذكرنا أنها تلك الحقائق المبينة للمآل الملكوتي الذي ستؤول إليه الرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية، واتضاح معنى التجربة الدینیّة التي هي شعور أو إدراك روحي وقدسي، ينقشع الضباب عن إجابة السؤال المثار آنفاً؛ ألا وهو هل يمكن القول بأنّ التجربة الدینیّة هي حقيقة الدين؟

فالإجابة هي بالنفي طبعاً؛ لأنّ التجربة الدینیّة وليدة للعوامل الداخلية والخارجية، وهي تتأثر بالمتغيرات التي تحيط بحالات صاحب التجربة وشؤونه الاجتماعية؛ فكيف يمكن لأمر مثل هذا أن يتحد مع حقيقة الدين التي لا منشأ لها إلا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟!

نعم؛ يمكن عد التجارب العرفانية لوناً من ألوان التجربة الدینیّة، لكن حقيقة الدين تتفاوت مع التجربة الدینیّة تفاوتاً ماهويّاً وحقيقيّاً.

ص: 277


1- نُقل عن البسطامي أنه قال: «لا إله إلا أنا فاعبدني»، ومنها أيضاً مقولة الحلاج الشهيرة: «أنا الحق».

9. توقعات الإنسان من الدين

1/9. تمهيد :

يردّد بعض من يسمون بأنصار حركة التنوير من العلمانيين أسئلة تطعن في حاجة الإنسان إلى الدين، زاعمين أن عجلة التطوّر العلمي المتسارعة لم تترك حاجة يتوقف سدها على الدين؛ فما الحاجة إليه إذن؟

لقد ذهب البعض إلى أنّ علوم النفس والاجتماع ومثيلاتها أظهرت كفاءةً عالية في التصدّي للمعضلات التي يواجهها المجتمع البشريّ؛ مثل: السرقة، أو الاحتكار، أو ما شابه ذلك، والناس اليوم باتوا في غنى عن الفقه والأحكام الإسلامیّة. وبذلك، حصروا الدين وقيّدوه بين جدران الأمور الروحانية؛ وإن عادوا بعد ذلك ليعيدوا النظر في قولهم بعد حين، فسلبوا من الدين هذا الدور الخجول أيضاً، ومنحوه لبعض المدارس الصوفية الشرقية أو الغربية. وبناءً على هذه الرؤية، لن يبقى في نهاية المطاف أي حاجة إلى الدين أو أيّ توقع منطقي منه، ولا أي أمل يعلّق عليه.

إنّنا عندما نخاطب أصحاب هذا الاتجاه متسائلين عن كيفية حل الإشكال عندما يختلف علماء النفس والاجتماع وأرباب التصوّف الشرقي أو الغربي، ونتوقف عند آراء أرباب هذه العلوم وحلولهم ومناهجهم وطرائقهم في كسب السعادة وتحصيل الكمال الإنساني، نجد أنفسنا في دوّامة من التناقضات والرؤى المتهافتة، حائرين في متاهات وضعتنا فيها تلك العلوم الإنسانية التي كان من المفترض بها أن تكون بلسماً لتلك الجراح.

ص: 278

والسؤال المطروح هنا هو: هل يمكن لنا الاعتماد على أحكام ورؤى متناقضة و متضادّة فيما بينها اتخذتها العلوم الإنسانيّة وتبنّتها بعيداً عن الدين ؟ هذا هو السؤال المعبّر عنه أحياناً ب- توقعات الإنسان من الدين ، وهو تساؤل انطلقنا منه في كتابنا الذي وضعناه للردّ على هذه الإشكالية (1) خلال عشرة أعوام من البحث والدراسة.

2/9 .أضواء على بعض المفاهيم:

ينطوي عنوان «توقعات الإنسان من الدين» على ثلاث مفردات أساسية؛ هي: «التوقعات»، و«الإنسان»، و«الدين». ومن المناسب أن نتوقف عند كل منها فيما يلي :

أما مفردة «التوقعات» فقد تستخدم بمعنى الدوافع والاحتياجات أو المتطلبات والتطلعات، ولا يخفى أنّ «التوقع» - هنا - يدلّ على حاجة مقرونة بالترقب، علاوةً على ما يحمله المعنى من تحلّي صاحب الحاجة بهذا الحق. أما «الحاجة» فلها مفهوم أوسع مما تقدّم، فهو يشمل حالات احتياجات الشخص المحق في حاجته، وغير المحق أيضاً.

ويضيف إبراهام مزلو في كتابه «الدوافع والشخصية» حاجات الإنسان إلى سبعة أصناف هي الحاجة الفسلجية، والأمن (الوقاية)، والحب أو التعلق، والحاجة إلى الحفاوة والاحترام والحاجة إلى ازدهار الطاقات الذاتية، والنزوع إلى الفهم والمعرفة، والاحتياجات المرتبطة بالجوانب الجمالية (2).

وحول بحث الاحتياجات نلفت عنايتكم إلى بعض النقاط الجوهرية التالية:

1 . لا تتسنّى تلبية احتياجات الإنسان بصورة جزئية ومنفصلة (كل حاجة على حدة)، بل إنها بشكل عام ممتزجة ومندكة فيما بينها؛ فلا يكتفي الإنسان بتأمين متطلباته

ص: 279


1- عنوان الكتاب بالفارسية: «انتظارات بشر از دین» .
2- راجع الدوافع والشخصيّة، إبراهام ،مزلو، ص 75-76 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].

من الغذاء والسكن وحسب، بل يريدهما مع ما يحفظ له سمعته وماء وجهه أمام أبناء المجتمع من حوله ،وبالتالي فهو يكدح من أجل رفع حاجته الجسمية، وحاجته إلى الحفاوة والاحترام على حدّ سواء.

2 . الحاجات الجسمية المحضة قابلة للتأمين، لكن الحاجة إلى الحفاوة والاحترام أمر ذو أفق رحب؛ بمعنى أن الحاجة إلى الطعام ترتفع بمجرد تلبيتها، أما الحاجة إلى الاحترام فهي ذات مراتب تتفاوت في شدتها وضعفها .

3 تأمين الاحتياجات البشرية موضوع يختلف عن موضوع رعاية الاعتدال في ذلك، هو أمر يتطلبه حال الإنسان، كي لا ينجرّ إلى هاوية الإفراط أو التفريط، وقد وردت قيم الإسلام وتعاليمه لتأمين الجهتين معاً (1).

أمّا المقصود بالإنسان فيعمّ كلّ أصناف البشر ؛ خواصه وعوامه، فالناس بشكل عام لهم حاجات ومتطلبات دينية مشتركة؛ فالكل يحتاج إلى الهداية من دون فرق بين الخواص والعوام. ولا يخفى أنّ الخواص من الناس أيضاً لهم احتياجات دينية معينة كذلك، وهي ترتبط بحقل اختصاصهم؛ فالفيزيائيون أو الكيميائيون المتدينون يحتاجون إلى مبادئ علم الطبيعة الديني، أو السياسيون المتدينون مثلاً هم بحاجة أيضاً إلى الفقه والأخلاق والكلام السياسي الديني.

وأما المقصود بالدين فهو كل حقيقة مبينة للمآل الملكوتي للرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية . وهذه الطائفة من الحقائق يمكن أن تكون نابعة من منطلق تجريبي أو شهودي أو عقلي، أو تتمتع بنقل ديني يعمها. وبطبيعة الحال فإنّ بيان المآل الملكوتي والأخروي لها بنحو شمولي يغطّي جميع الجوانب لا يتسنّى من دون الوحي والنقل الدينيّ؛ لأنّ باقي المصادر المعرفية عاجزة عن أداء هذا الدور الخطير الجامع. وتشمل هذه الطائفة من الحقائق الدینیّة على حقائق وصفية وأخرى معيارية، وكلّ

ص: 280


1- راجع: تشريح المجتمع فرامرز رفیع بور، ص 69- 5 . [ العنوان بالفارسية آناتومي جامعه].

قضية تقع في طريق هداية الإنسان بما يعمّ القضايا العقائدية والأخلاقية والفقهية والحقوقية وغيرها. وبالطبع، فإنّ الدين في هذا البحث الدارس لتوقعات الإنسان من الدين يمكن له أن يدلّ أيضاً على المرجعية الدینیّة؛ أي: الله جَلَّ وَعَلا ، والرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، والأئمّة من أهل البيت (علیهم السّلام).

3/9 .تحليل القضية:

يمكن لنا أن نحلّل قضية توقعات الإنسان من الدين على صعد وجوانب مختلفة؛ فعلى سبيل المثال: يمكن لنا أن نسأل في الجانب التاريخي والمنطقي عما يتوقعه ويرتقبه المتدينون وعلماء الدين في شتّى الأديان على مر التاريخ، أو نتساءل مثلاً: ماذا يرتقب الإنسان منطقياً من الدين؟ والمقصود هنا - بطبيعة الحال - تلك التطلعات المنطقية التي يتوقعها الإنسان من الدين .

ويمكن تحليل هذه القضية منطقياً من خلال استعراض التساؤلات التالية : هل الدين حاضر على مسرح الحياة في جميع الاحتياجات السبعة المذكورة آنفاً؟ هل إنّ توقعات الإنسان من الدين في الميادين الاقتصادية والحقوقية والسياسية والتربوية والإدارية وعلى صعد العلوم الإنسانية والطبيعية هي توقعات منطقية؟ وهل إنّ تدخلات الدين في الاحتياجات الفردية والاجتماعية المادية والمعنوية، وكذلك الدنيوية والأخروية تدخّلات مبرهنة ومبرّرة؟ وهل تعد تدخلات الدين في هذه القضايا تدخلات مباشرة أم غير مباشرة؟

ذهب بعض الكتاب إلى اعتماد التحليل في هذه القضية على ثلاث ركائز مبدئية؛ هي ما يلي:

1 . يجب على الإنسان أن يشعر ويحس بحاجاته الدینیّة بنحو مستقل.

2 . يجب على الدين أن يكون مؤهلاً لتلبية حاجات الإنسان الدینیّة.

ص: 281

3 . يجب على الدين أن يلبّي هذه الاحتياجات بشكل حصري، وألا يستعين بغيره في قضاء هذه الحوائج الدینیّة، أو يتخذ في ذلك ما ينوب عنه فيها(1).

وفي تقديرنا فإنّ هذه الركائز والأصول باستثناء الركيزة الأولى التي تنص على أهلية الدين ومقدرته على رفع احتياجات الإنسان الدینیّة غير تامة، ويمكن الخدشة فيها لما يلي:

أوّلاً: لم يزعم أيّ علم بما فيها العلوم الدارسة للإنسان والتي تتناول الاحتياجات الإنسانيّة أنّ على الإنسان معرفة جميع حاجاته الذاتية، والشعور بها أولاً، ثمّ المصير إلى تلبيتها؛ فلعله يفتقر إلى أمور لا يكتشفها ولا يشعر بها إلا من خلال سلوكه لطرق أخرى؛ كاعتماده على الآخرين مثلاً، مثل ما نجده في حال المريض على سبيل المثال؛ فهو ينتهج أسلوب تقليد أهل المعرفة واتباع الخبير حينما يراجع الطبيب المختص للتداوي فيكتشف بذلك مرضه ؛ وإن لم يصل إلى تلك النتيجة ولم يشعر بها من خلال طرق فسلجية. والحق أن الرواية التي تذهب إلى أنّ «رجوع الإنسان إلى الدين لا يجري إلا عبر الاحتياجات الدینیّة التي يشعر بها الإنسان، ويبرهن عليها الحسّ والعقل» هي رؤية نفعية براغماتية وإنسانوية هيومانيزمية، وهي لا تنسجم مع مسلك الفلسفة العقلانية.

وبناءً على ما تقدم، يمكن للإنسان بعد تجاوزه لمراحل إثبات وجود الله وصفاته الكمالية ووقوفه على ضرورة ابتعاث الأنبياء وعصمتهم، م إعجاز القرآن الكريم وحصانته من التحريف أن يستنتج حقانية الدين الإسلامي، وأن يكتشف حاجات الإنسان إلى الدين من تقارير وضعها بين يديه العليم الحكيم على الإطلاق.

وثانياً : تتأخر مكتشفات العلوم التجريبية الحديثة زمنياً عن عصر نزول الشريعة الإلهيّة، وعلى الدين الذي يتبوّء وظيفة هداية البشرية بأسرها أن ينظر إلى جميع الأزمان والأعصار، وأن يأخذها بعين الاعتبار. أضف إلى ذلك أنّ غرائب العلوم التجريبية على

ص: 282


1- راجع: الله والآخرة غاية ابتعاث الأنبياء مهدي ،بازركان مجلة كيان العدد 28 [بالفارسية].

كثرتها لا تُغني عن الرجوع إلى تعاليم الدين وإنجازات الشريعة؛ لأنّ العلوم الحديثة لم تُفلح أبداً في كشف النقاب عن العلة التامة أو العلة الحصرية للظواهر الموجودة في هذا العالم؛ فإذا استطاعت العلوم الجديدة أن تظهر كفاءة في تلبية الاحتياجات الدینیّة فهذا لا يعني إلغاء توقعات الإنسان من الدين في هذه الميادين؛ لأنّ هذه العلوم الجديدة المستحدثة عاجزة عن اكتناه العلة التامة للاحتياجات الدینیّة، وكذلك ليس بإمكانها أن تبيّن لنا المآل الأخروي لهذه العلوم؛ وإن كانت قادرةً عمليّاً على ذلك حسب رؤية المذهب النفعي البراغماتي.

وبعبارة أخرى قد يتسنّى للعلوم والفلسفات البشرية أن تلبّي بعض الاحتياجات الدینیّة، لكنّ مجموعة الاحتياجات الدینیّة التي تُستكشف عن طريق العقل والنقل الديني، وكذلك المآل الأخروي للأعمال الدنيوية لا تُكشف إلى من خلال الدين، ولا بديل عنه فيها.

4/9 .منطلق القضية :

انطلقت شرارة البحث عن توقعات الإنسان من الدين من زناد مطارحات إنسانوية (هيومانيزمية)؛ أي أنّ النزعة الفلسفية التي استبدلت محورية الله بمحورية الإنسان في كلّ شيء هي التي تسببت في تبلور قضية توقعات الإنسان من الدين؛ وذلك لأنّ الإنسانوية شاءت أن تنصب الإنسان نظرياً وعملياً على الصعيدين المعرفي والقيمي كمعيار للصحة والسقم، أو الخير والشر. ولا ننكر في هذا المقام أثر النسبية المعرفية والشكوكية المحدثة في ظهور هذا المسلك الفكري؛ حيث حصر أنصار هذه المذاهب العلوم والقيم في الإنسان، وجعلوها رهينة به.

وقد عمّم أصحاب المذهب الإنسانوي منحاهم هذا على جميع أصناف البشر، بما فيهم الأنبياء الإلهيون؛ فذهبوا إلى أن الوحي والحقائق الدینیّة ما هي إلا ثمرة من ثمار تفاعلات الشد والجذب التي تمارسها أذهان الأنبياء مع العالم الخارجيّ !

ص: 283

وبناءً على ما ذهبت إليه المدرسة الهيومانيزمية لا شيء ولا موجود - بما يشمل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى والقيم الأخلاقية والاجتماعيّة مثل الحرية والعدالة وما إلى ذلك - يعلو على الإنسان شرفاً وأهميةً. وبالتالي، فإنّ التضحية في سبيل الله والدين والمثل الأخلاقية والروحية حسب الفكر الحداثوي والإنسانوي أمور عديمة المعنى. وكذلك الأوامر والنواهي الإلهية أو أحكام الشريعة وتكاليفها كلها أمور لا تعني شيئاً إلا إذا أدركها الإنسان ،بحواسه، وأدرك فوائدها ومنافعها لحياته الدنيوية (1).

نعم؛ نشأت قضية توقعات الإنسان من الدين في بوتقة هذه الرؤية الفلسفية، والنزعة إلى محورية الإنسان، لكن يتوجب هنا ألا نخلط بين المنطلقات والنتائج؛ فلا يصح أن نستنتج من لاصوابية المنطلق كون القضيّة سقيمة من الأساس؛ وإن كنا لا ننكر تأثير المنطلقات تلك على نوعية اختيارنا لمنهج الردّ على أتباع النزعة الإنسانوية.ومن هنا، فإنّ السؤال عن توقعات الإنسان من الدين أو مدى احتياجه وتطلعاته إليه له ما يبرّره ويبرّر البحث فيه، بالرغم من المنطلقات الخاطئة التي أدّت إلى تفجر النقاش بشأنه، كما أنّ البحث عن توقعات الدين من الإنسان له مبرره، ولا يخدش في إيمان المؤمنين بذلك الدين.

5/9 .منهج البحث في القضية :

يمكن أن نحلّل قضية توقعات الإنسان من الدين على مستوى منهج البحث أيضاً، والسؤال المطروح في هذا الجانب هو: هل إنّ تطلعات الإنسان هذه حالة نفسانية ذهنية لها جانبها الشخصي، أم يمكن أن نضع اليد على توقعات وتطلعات مقنّنة ومنضبطة؟ وفي الحالة الأخيرة، هل يجب اتخاذ منهج خارج عن الأطر الدینیّة، أم يكفي مراجعة الكتاب والسنة والإفادة من منهج النصوص النصوص الدینیّة؟

ص: 284


1- راجع: تاريخ الهيومانيزمية ورؤية هايدغر بشأنها بالفارسية، علي أصغر مصلح مجلة نامه فرهنك، السنة الرابعة، العدد 4، ص 122 تأثيرات الهيومانيزمية على الفكر الديني، مصطفى ملكيان كراسة غير مطبوعة [بالفارسية] ؛ تاريخ الفلسفة ،كابلستون، ج 8 ص 380 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].

إننا نرى أن اتباع أسلوب الجمع بين المنهجين المذكورين عن طريق الإفادة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكذلك العقل والتجربة هو أكثر الطرق إتقاناً و شموليّةً للخوض في قضية توقعات الإنسان من الدين؛ إذ يمكن استخدام المنهج الخارج عن الأطر الدینیّة أي بتوظيف العقل والتجربة من أجل إماطة اللثام عن بعض الحاجات الدینیّة عند الإنسان، ثمّ نذهب بعد إثبات حجية الدين ومصداقية النصوص الدینیّة إلى انتهاج طرق الكتاب والسنة للوصول إلى سائر الاحتياجات الدينيّة الأخرى عند الإنسان.

وبناءً على ما تقدّم، يمكن أن نعدّ المناحي البحثية المتنوعة التالية ضمن الاتجاهات والمناهج الكفيلة بإثبات أصل موضوع حاجة الإنسان إلى الدين:

*المنهج العقلي الفلسفي المبتني على ضرورة ابتعاث الأنبياء.

*المنهج الوظيفي التجريبي؛ لا سيما في حقلي علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني بغية كشف النقاب عن التأثيرات والخدمات الفردية والاجتماعية التي قدّمها الدين.

*أسلوب استبيان آراء المتدينين والرافضين للدين.

منهج المعارف الإنسانية التجريبية، ودراسة الاحتياجات الفردية والاجتماعية والمادية والروحية والدنيوية والأخروية عند الإنسان، وتحديد حصص الحاجات الدینیّة بعد فرز سائر الاحتياجات العلمية والفلسفية وغيرها.

*منهج التمدّد التاريخي للدين، وكذلك قابلية الدين للتحقق والاختبار.

أما تحديد جميع الاحتياجات الدینیّة عند الإنسان على نحو الدقة فهو أمر متروك لمنهج النصوص الدینیّة؛ أي أنه يتيسّر من خلال مراجعة الكتاب والسنة، والإفادة من هديهما.

ص: 285

ولا يخفى أن الميزة التي يتحلى بها هذا الأسلوب (الجمع بين المناهج الدینیّة والخارجة عن الأطر الدینیّة) ويتميّز بها عن غيره من الأساليب الاكتفاء بأحد المنهجين المذكورين) تكمن في كشفه عن جميع الاحتياجات الدینیّة، بل وفي كونه مفيداً لجميع شرائح المجتمع ؛ بما فيهم غير المتدينين وغير المؤمنين بالمعتقدات الدینیّة ونصوصها.

ومن الجدير بالإشارة هنا أوّلاً أنّ المنهج التجريبي والعقلي ليس أنه نافع للتداول به مع اللادينيين وحسب، بل هو مفيد أيضاً في فهم الكتاب والسنة، وإظهار فاعليتهما، علاوةً على إسهامه في تحديد المصلحة، ومواطن تزاحم الأحكام أحياناً، وثانياً: أن توظيف النصوص الدینیّة من القرآن الكريم والحديث الشريف مرتكز على الالتزام بالقواعد اللغوية العامة (مثل : قاعدة العام والخاص) ، وقواعد اللغة العربية على نحو الخصوص ( مثل القواعد الصرفية والنحوية)، وكذلك القواعد القرآنية والحديثية وهي أكثر خصوصية (مثل: قاعدة الناسخ والمنسوخ) ، وهو مرتهن أيضاً بالاجتناب عن إصدار أحكام مسبقة والزج القسريّ بالرؤى والمعتقدات الشخصية لتلولى بها أعناق النصوص الدینیّة؛ وذلك لأنّ النصوص الدینیّة ناطقة، ودالة على معانيها، والواجب هنا هو کشف النقاب عنها (1).

6/9 .رؤى المفكرين الإسلاميين في القضية :
1/6/9 .التوقعات المعتدلة من الدين :

تنطوي قضية توقعات الإنسان من الدين على رؤى ومناهج فكرية متعددة يمكن تصنيفها وفقاً لإحدى الاعتبارات إلى توقعات الحد الأدنى، وتوقعات الحد الأقصى والتوقعات المعتدلة.

أمّا توقعات الحد الأدنى فتقرر اقتصار وظائف الدين على علاقة الإنسان بربه، وأمّا توقعات الحد الأقصى فهي تزيد على ذلك جميع الاحتياجات الدنيوية والاخروية،

ص: 286


1- راجع: توقعات الإنسان من الدين [بالفارسية]، المؤلف ،القسم الأول، الفصل الخامس، منهج البحث في القضية، ص 135-87 .

وشتى الحاجات الصغرى والكبرى، وأمّا التوقعات المعتدلة فهي ترى وفقاً لهدى الوحي ونصوصه وما يمليه العقل البشري أنّ الدور المركزي الذي يجب أن يضطلع به الدين هو هداية الإنسان، وتأمين سعادته. وعليه، فلا يقوم الدين بدور حيوي على الصعيد الأخروي وحسب، بل ينشط أيضاً فيما يرتبط بازدهار الدنيا كمقدمة لحياة أخروية مزدهرة أيضاً.

وبناءً على ما تقدّم فإننا إجمالاً أمام ثلاث نظريّات أساسية في بحث توقعات الإنسان من الدين حسب رؤى المفكرين المسلمين نفصل فيها على النحو التالي:

التوقعات المعتدلة من الدين:

تذهب هذه النظرية إلى أنّ النصوص الدینیّة لا تقف عند حد الاهتمام بشؤون الحياة الأخروية، بل تسعى أيضاً لتأمين بعض الاحتياجات الدنيوية أيضاً، منها حاجات سياسية وحقوقية واقتصادية وإدارية وثقافية وأخلاقية وعبادية وغيرها، لم يغفل الكتاب أو السنة عن الاهتمام بها. وبطبيعة الحال فإن تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية رهين بالتزام الطبقة الحاكمة للمجتمع وسائر الأفراد فيه عقائدياً وعملياً.

وتذهب هذه الرؤية الشهيرة بنظريّة التوقعات المعتدلة إلى أن توظيف العقل والتجربة والتاريخ والشهود القلبي مؤثر وفعّال في عمارة الدنيا وازدهارها، وهي نظرية تستمد أسسها من نظرية الإسلام الشامل الجامع التي يؤمن بها جمع غفير من الفلاسفة والمتکلّمین القدامى والمعاصرين.

وتتبلور نظرية التوقعات المعتدلة من خلال البتّ في إثبات وجود الله وصفاته الكمالية، لا سيّما علمه وقدرته وحكمته وعدله، وضرورة الحياة بعد الموت، والعلقة الحقيقية بين الدنيا والآخرة وفق المنهج العقلي، ثمّ إثبات ضرورة الوحي الإلهي من خلال الوصول إلى ضرورة كشف العلقة بين الفكر والعمل الدنيوي من جهة،

ص: 287

والسعادة الأخروية من جهة أخرى إلى جانب العجز المطلق الذي تعانيه السبل والأدوات الاعتيادية التي يملكها الإنسان في مسيرة الكشف هذه.

ومما تثبته ضرورة الوحي الإلهيّة أنّ الدين يجب أن ينطلق من منطلق إلهي سماوي، كما يتحتم أن يكون مصوناً ومعصوماً عن شتّى ألوان التحريف. وبالتالي: لا يمكن لأي دين غير سماوي وغير إلهيّ، أو أي دين سماوي محرَّف أن يتم مهمته، ويجلب الهداية والسعادة لبني البشر .

2/6/9 .توقعات الحد الأقصى من الدين:

قرّرت هذه النظرية بتقريرات متنوعة نعرض جانباً منها فيما يلي :

التقرير الأوّل: أنّ الدين يلبي جميع الاحتياجات الدنيوية والأخروية، ويجيب على المسائل العلمية، ويحلّ القضايا العلمية كافةً وأنّ الدين ونصوصه يردّ على مختلف المسائل الدنيوية والأخروية صغيرها وكبيرها من دون أي حاجة تدعو للرجوع إلى العقل أو التجربة؛ وذلك فيما لو استعنا بالقرآن الكريم ظاهره وباطنه(1).

هذه الرؤية مردودة بالدليل العقلي والنقليّ؛ لأنّ الكتاب والسنة حدّدا مهمة الدين في كونه المصدر لهداية الإنسان وسعادته، وليس رافعاً لجميع احتياجاته على نحو الإطلاق، كما أنهما شدّدا على توظيف العقل والتجربة والاستفادة منها.

أما التقرير الثاني لهذه النظرية فيذهب إلى أنّ الدين ونصوصه يلبّي جميع الاحتياجات الأخروية، وشتّى المتطلبات الدنيوية والأخروية على مختلف الصعد الفردية والاجتماعية، وطالما أنّ العقل يشكّل أحد مصادر الدين، فلا ضير في توظيفه بسد الاحتياجات الدنيوية الجزئية عن طريق إعمال الاجتهاد في العموميات. على سبيل المثال يمكن من خلال التأمل في الآيات القرآنية الواردة بشأن الطبيعيات

ص: 288


1- راجع: إحياء علوم الدين الغزالي، ج 1، ص 289؛ جواهر ،القرآن الغزالي، الفصل الرابع، ص 18 .

(مثل): علوم الفلك ومعرفة الإنسان والزراعة والعلوم البحرية والطب) وعبر الإفادة من قواعد الاجتهاد أن يصل المجتهد إلى استنباط القضايا الجزئية في العلوم الطبيعية. وهو أمر مشابه لما صنعه محققو علم أصول الفقه في بحوثهم حول الحديث الشريف لا تنقض اليقين بالشكّ؛ حيث استنبطوا قضايا جزئية عديدة، بل كتبوا على أساسه مصنّفات كثيرة، تناولت إحدى أهم القواعد الأصولية والفقهية؛ ألا وهي الاستصحاب(1).

هذه الرؤية يمكن استعراضها والتعامل معها على أنها إحدى المدعيات والفرضيات في هذا الصدد، لكنّ إثباتها بالدليل العقلي والنقلي ليس بالأمر الهين، والمقارنة بين الآيات القرآنية الواردة في موضوعات العلوم الطبيعية والحديث الشريف الوارد في شأن الاستصحاب لا يعدو كونه استدلالاً تمثيلياً، لا يقوى على إثبات ذلك المدعى.

أمّا التقرير الثالث لنظرية توقعات الحد الأقصى من الدين فيعود إلى بعض المفكّرين المسلمين الذين اتخذوا منحى أيدولوجياً متطرّفاً يميل إلى النزعة الدنيوية؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الدين ليس مطالباً بالعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وحسب، بل تحدّثوا عن واجبه ودوره في سدّ متطلبات الرفاهية المادية، وتحسين الأوضاع المعيشية ، وازدهار الحياة الدنيوية، واستثمار الطاقات الطبيعية.

وقد سوّق لهذه الرؤية بعض الحداثويين والمصلحين الاجتماعيين المسلمين المعاصرين في القرن المنصرم وعلى رأسهم الدكتور شريعتي، والمهندس بازركان؛ فقد ذهبت هذه الشخصيات إلى أنّ الإسلام لم يكتفِ بدعوته للتنمية واستثمار العقل والطبيعة، بل قدّم أنموذجاً أيدولوجياً وتخطيطاً معيناً يستهدف التنمية والإعمار في الدين؛ بما يشمل القوانين العلمية أيضاً، مثل: قانون الديناميكا الحرارية (الثرموديناميك).

ص: 289


1- لاحظ: الشريعة في مرآة المعرفة الجوادي الأملي .

لقد تبنّى أنصار حركة التنوير المعاصر هذه الرؤية من أجل بثّ الروح والحيوية في الدين الإسلامي، وضمان حضوره العلمي والاجتماعي، لكنّ مدّعياتهم المذكورة بدل أن تركّز على عناصر التبرير والتدليل التي تدعمها وتعزّز موقفها، مالت إلى الانخراط في دوّامة الفرضيات المتخذة كأصول موضوعة، معتمدةً على الأحكام المسبقة، والتفسير بالرأي. وهذا يعني أن نصير حركة التنوير الذي لا يُخفي توجهاته السوسيولوجية أو الهندسية، لا يتردّد أبداً في استدعاء الرؤى والنظريات التي عرفها في تلك العلوم الاجتماعية أو الهندسية ليطبّقها على آيات القرآن الكريم بلا انتظام أو تقيّد بالضوابط التي يمليها المنهج التفسيري، ليقرّر ختاماً إسناد اجتهادات علماء تلك العلوم إلى الدين! ولعلّ أخطر التداعيات المترتبة على هذه الرؤية هو فقدان الثقة بآيات القرآن الكريم عند طروء أي تطوّرات وتقلبات علمية تؤدّي إلى ظهور فرضيّات ونظريات جديدة. ناهيك عن الخلل المنهجيّ الذي تعانيه هذه الانطباعات الدنيوية من الدين.

3/6/9 .توقعات الحدّ الأدنى من الدين :

ذهب البعض إلى حصر دائرة الدين والتوقعات منه في حدود القضايا العبادية، وتنظيم العلاقات بين الإنسان وربّه، والانشغال بالآخرة وشؤونها، رافضين في رؤيتهم هذه ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الأيدولوجي الدنيوي. وهذا ما نلحظه عند المهندس بازركان في فترة ما بعد الثورة الإسلامیّة في إيران، والأحداث التي أفرزتها التجاذبات بين القوميين والإسلاميين. وفي معرض إثباته لما ذهب إليه حاول بازركان كما صنع في منحاه السابق - أن يتشبث ببعض الآيات القرآنية ، والشواهد التاريخية (1).

وهذا الرأي أيضاً يفتقر للمنهجية، ولا يعتمد على المبادئ أو المناهج الهرمنيوطيقية (التفسيرية)، كما أنّ تأثره بالقراءات الشخصية والأحكام المسبقة والتداعيات الاجتماعيّة لتلك الحقبة التاريخية واضحة للعيان. ولهذا، تجده يتبنى هذه الرؤية بعيداً

ص: 290


1- راجع: الله والآخرة غاية ابتعاث الأنبياء، مصدر سابق.

عن الالتفات إلى سيادة المنهج النبوي والعلويّ، وما دلّت عليه الآيات والأحاديث في شؤون المعاملات والعلاقات الاجتماعية .

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ بعض الكتاب الآخرين حاولوا أيضاً أن يبرهنوا على هذا المدعى باستدعائهم لأصول ومناهج بعيدة عن النصوص الشرعية والدینیّة، متخذين نظرية الذاتيات والعَرَضيّات في الإسلام أساساً ومنطلقاً لما ب«دین الحد الأدنى». ووفقاً لهذه النظريّة فإنّ ذاتي الإسلام وهدفه الأساسي هو العناية بالآخرة وإعمارها ، أما ما ورد في الكتاب والسنة من أوامر وتعاليم أخرى مثل: التوصيات الصحية والنفسية، وما يرتبط بالقضايا الاقتصادية والسياسية والثقافية فهي عرضيات هذا الدين، ولا تُعدّ جزءاً من هدفه الأساسي(1).

وهذا المنحى الفكري أيضاً يعاني من الاضطراب واللا انسجام حسبما تنص الأدلّة العقلية والنقلية؛ فعلى الرغم من أنّ الغاية القصوى التي يتوخاها الإسلام والغرض المركزي الذي يهتم به المشرع هو الكمال والسعادة للإنسان، لكنّ تعاليم الدنيا وأوامره على صعيد الشؤون الفردية والاجتماعية مقدّمة أساسية لا محيص عنها في سبيل بلوغ هذا الهدف. وبناءً على ذلك، إذا أذعنا بكون بعض هذه التعاليم الإسلامیّة مقدمات و ممهدات، فلا يمكن المصير إلى دين الحد الأدنى؛ لأنّ طريقيّة هذه الطائفة من الأوامر الإلهية وكونها وسيلة لنيل أهداف المشرع وغايته أمر له موضوعيته، وهو يتحلّى بالضرورة أيضاً.

وتأسيساً على ما تقدّم من أبحاث، يتضح بطلان ما ذهب إليه بعض التنويريين الدينيّين مثل إقبال اللاهوري ومحمد مبارك؛ حيث مالوا إلى نفي أي لون من ألوان التخطيط أو التنظير لبرنامج يتناول الحياة الدنيوية في الإسلام. لقد ذهبت هذه الفئة من الكتاب والمفكرين إلى أنّ الإسلام قد حثّ الناس وشجعهم على استثمار الطاقات

ص: 291


1- انظر: بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش .

والثروات الطبيعية، وشدّد أيضاً على دفع عجلة التنمية في الدينا بما ينسجم مع العقل، لكنّه لم يقدّم توصيات خاصة وأساليب معيّنة في هذا الصدد.

لا شكّ في أنّ بطلان هذه الرؤية يتضح بمجرّد الرجوع إلى آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة الشريفة وتصفّح الأحكام الاجتماعية المتنوعة؛ بما يعم الشأن الاقتصادي السياسي والتربوي وهلم جرا.

وعليه فإن النصوص الدینیّة في الإسلام ليس أنها تؤكّد على توظيف العقل والتجربة وحسب بل عمدت إلى تبيين سلسلة من الأحكام الاجتماعية والدنيوية، ولم تسمح بتعطيل العقل والتجربة.

7/9 . رؤى المفكرين الغربيين في القضية :

مرّت قضيّة توقعات الإنسان من الدين في الفضاء الغربي بثلاث حقب تاريخية ابتداءً من مرحلة ما قبل القرون الوسطى، ومروراً بعصر النهضة والعصر الجديد، ووصولاً إلى وقتنا الراهن.

لم تكن هذه القضية مطروحة بشدّة في مرحلة ما قبل القرون الوسطى ( في اليونان القديم أو الروم القديمة)، أمّا في القرون الوسطى فقد أبدى المسيحيون توقعات واسعة النطاق من الدين المسيحي، متقبلين سيطرة الدين واستحواذه على جميع مفاصل الحياة الفردية والاجتماعية. لقد عمدوا إلى توليف الفلسفة واللاهوت وحاولوا المواءمة بين العقل والوحي، وخلصوا إلى ادعاء نطاق رحب للدين، حتى ذهبوا إلى رؤية حد أقصائيّة» لكتابهم المقدس بعيداً عن سلطة العقل والفلسفة. يقول الفيلسوف الفرنسي جيلسون (1979م) في هذا الصدد:

لقد استعاضت طائفة من اللاهوتيين المسيحيين بالوحي بدلاً عن جميع العلوم والمعارف البشرية؛ بما فيها العلوم التجريبية والأخلاقية والميتافيزيقية، معتقدين بأنّ

ص: 292

الله قد تحدث إلينا، وقد سجّل لنا في الكتاب المقدّس كلّ ما هو ضروري للفلاح. ،ولهذا، يتحتم تعلم الشريعة وحسب، ولا حاجة لغيرها ؛ بما فيها الفلسفة (1).

أما عصر النهضة والعصر الجديد فهو الحقبة التاريخية التي شهدت تقلبات علمية ورؤى جديدة حيال الإنسان والطبيعة والله عَزَّ وَجَلَّ. وقد أدّت سلوكيات أرباب الكنيسة والتعارضات والتضاربات التي طفت على السطح بين العلوم الجديدة التي بشر بها أمثال غاليليو (1642م) ونيوتن (1727م) وداروين (1882م) ومن لفّ لفهم من جهة، والتعاليم الكنيسية في موضوعات «التثليث» «والخطيئة الأصلية»(2) من جهة أخرى أدّى جميع ذلك إلى هبوط مستوى التوقعات من الدين المسيحي من حده الأقصى إلى مستويات متدنّية آلت به إلى توقعات الحد الأدنى.

لقد ذهب لوثر (3) (1546م) في قراءته للكتاب المقدّس إلى توقع التغيير في الإنسان؛ وليس الحصول على حفنة من المعلومات. وقد شدّدت على هذه الصيحات المنادية بالحدّ الأدنى مطالبات دعت إلى استبدال العقل الكلّيّ الفلسفي بالعقل الجزئي(4)، واستبدال العلاقات الكيفية والتفسيرات الغائية إلى علاقات كمية ورياضياتية في العلوم.

وعلى سبيل المثال: عندما واجه غاليليو تعارضاً واضحاً بين مركزية الأرض في المسيحية مع الأرض التي توصل العلم إلى أنها تدور، مضى في إطلاق حكمه بالفصل

ص: 293


1- العقل والوحي في القرون الوسطى إتيان جيلسون ص 2 و 5 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
2- الخطيئة الأصلية Original sim عقيدة مسيحية تشير إلى وضع الإنسان الآثم الناتج من سقوط آدم. ويتصف هذا الوضع بأشكال عديدة، ما يتراوح من القصور البسيط أو النزعة تجاه الخطيئة بدون الذنب الجماعي ( ما يدعى الطبيعة الخاطئة) إلى شدة الفساد التام من خلال الذنب الجماعي [م]
3- مارتن لوثر (1483 Martin Luther-1546) مؤسس المذهب البروتستانتي، هو راهب ألماني، وقسّيس وأستاذ للاهوت، ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا، [1] بعد اعتراضه على صكوك الغفران. نشر في عام 1517 رسالته الشهيرة المؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من «العقاب الزمني للخطيئة»؛ رفضه التراجع عن نقاطه الخمس والتسعين بناءً على طلب البابا ليون العاشر .[م]
4- يُطلق عليها أيضاً العقل الأداتي Instrumental Reason . [م]

بين العلم والدين، وآمن بأنّ النصوص الدینیّة لا تتحدّث عن الحقائق العلمية، بل تنطق بالمعارف الروحية التي يتوقف عليها فلاح الإنسان.

ولا يخفى أنّ تديّن غاليليو دفعه إلى القول بأنّ العقل والطبيعة على حد سواء يقفان إلى جانب النصّ المقدّس في الدلالة على الله والهداية إليه.

وعلى صعيد متّصل، فقد أفضى التفسير الميكانيكي الذي أدلى به نيوتن في النصف الثاني من القرن السابع عشر ، وكذلك بعض النظريات - مثل: حساب التفاضل والتكامل(1) وقوانين نيوتن الثلاثة(2)- أفضى جميع ذلك إلى تحويل العالم إلى ماكنة معقدة، وانتهى به المطاف إلى تقزيم الدور الإلهي في الطبيعة، ليتحوّل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى إلى صانع ساعة (أي : صانع الساعة الذي يقتصر دوره على صناعته للساعة فقط دون تدخله في أي إدارة مستقبلية لشؤونها) ، مهمته الحصرية هي إعمار عالم الطبيعة فقط؛ وليس ممارسة الدور الربوبي فيها . وعلى الرغم من ذلك لم يُنكر دوره وفاعليته في خلق العالم وفي دخوله على خط المجهولات العلمية بصفته «إله الفجوات»(3)، لكنّ التحليل الرياضياتي لميكانيكية حركة الكواكب الذي قدّمه لابلاتس أبطل إله الفَجَوات، وتدخله في دائرة المجهولات أيضاً، مما أدّى إلى تقلّص مستوى التوقعات من الدين عند بعض المفكرين الغربيين. هذا، ناهيك عن بقاء حدّة هذه التوقعات

ص: 294


1- حساب التفاضل والتكامل Calculus فرع من فروع الرياضيات يدرس النهايات والاشتقاق والتكامل والمتسلسلات اللانهائية وهو علم يستخدم لدراسة التغير في الدوال وتحليلها. ويدخل علم التفاضل والتكامل في العديد من التطبيقات في الهندسة والعلوم المختلفة حيث كثيراً ما يحتاج لدراسة سلوك الدالة والتغير فيها وحل المشاكل التي يعجز علم الجبر عن حلها بسهولة. [م]
2- قوانين نيوتن للحركة Newton's laws of motion ثلاثة قوانين فيزيائية تأسس الميكانيكا الكلاسيكية وتربط هذه القوانين القوى المؤثرة على الجسم بحركته أول من جمعها هو إسحاق نيوتن، وقد استخدم هذه القوانين في تفسير العديد من الأنظمة والظواهر الفيزيائية. [م]
3- إله الفَجوات (سدّ الفَجَوات) أو : إله الفراغات أو الثغرات God of the gapse مصطلح يشير في الأبحاث الدارسة للإلهيات إلى نظرية ترى أنّ كل ما يمكن تفسيره بعلم الإنسان ليس من اختصاص الإله، وهو يعني أن دور الإله يتحدد في الفجوات التي يجدها الإنسان في التفسيرات العلمية للطبيعة. وتتضمن هذه الفكرة دمجاً بين التفسيرات الدینیّة مع التفسيرات العلمية [م]

في أدنى مستوياتها عند بعض أنصار التنوير والنهضة الرومنطيقية، كما ذهب إليه الألمانيّ كانط (1804م) الذي اختزل دور الدين في نطاقات أخلاقية، وكما ذهب إليه شلاير ماخر (1834م) في نظرية التجربة الدینیّة، وتعريفه للدين بأنه الشعور بالاعتماد على موجود مطلق.

هذا، وقد انطوت نظريّة «تبدّل الأنواع» أو «تطوّر الأنواع» التي أطلقها داروين وبعض المبادئ المرتبطة مثل: الصراع من أجل البقاء»، و«الاصطفاء الطبيعي» على تأثيرات كلامية واضحة؛ منها : التعارض مع حكمة الخلق، والتعارض مع أشرفية الإنسان، ومطارحات حول علاقة الاخلاق التكاملية بالأخلاق الدنيئة، وعدم الانسجام مع مضمون الكتاب المقدس عند المسيحية، وهي أمور ساهمت في اضمحلال بريق الدين المسيحي، وأكسبت حركات الإلحاد والفلسفات المادية زخماً ودفعاً معنوياً إلى الأمام، وهو ما أدى أيضاً إلى إنكار شتّى ألوان التوقعات من الدين.

ولا ننسى في هذا المقام أن شكوكيّة هيوم (1776م)، والفصل بين الواقع الموضوعي والإدراكات الذهنية عند كانط (1804م) في القرن الثامن عشر، وكذلك النسبية والتحليل النفسي عند فرويد(1) (1939م) في القرن التاسع عشر، وأيضاً ما ذهب إليه الوضعيون والتجريبيون المتطرّفون، وفلاسفة التحليل اللغوي في القرن التاسع عشر والعشرين بخصوص مزاعمهم في فراغ القضايا الدینیّة من المعاني وتخرّصاتهم في فقدانها لأيّ مدلول مهدت إلى ظهور توقعات سلبية من الدين.

ولا يفوتنا التنويه هنا بأنّ المفكرين الغربيين مع كل ما تقدّم لهم من مواقف وآراء، وبسبب مسلكهم ومنهجهم الوظائفي، لم يتجاهلوا الدور والأثر النفساني والاجتماعي الذي يتحلّى به الدين ولهذا تجد عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم

ص: 295


1- سيغموند شلومو فرويد (1856 (Sigmund Schlomo Freud-1939م): طبيب أعصاب نمساوي من أصل يهودي. يعدّ مؤسس مدرسة التحليل النفسي اشتهر بنظريات العقل الباطن (اللاواعي)، وآلية الدفاع عن القمع وخلق الممارسة السريرية في التحليل النفسي لعلاج الأمراض النفسية عن طريق الحوار بين المريض والمحلل النفسي. اشتهر عنه إعادة تحديد الرغبة الجنسية والطاقة التحفيزية الأولية للحياة البشرية [م]

(1917م) يعزو حالة «الوفاء بأفراد المجتمع » عند الإنسان إلى الدين، كما يذهب الألمانيّ فونت(1) (1920م) إلى إسناد أخلاقية الإيثار إلى الدين أيضاً، علاوةً على ما ذهب إليه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1920م) من الدور المؤثر الذي لعبته الأخلاق البروتستانتية (أي: الأخلاق التي نص عليها المذهب البروتستانتي) في إيجاد تنمية واسعة للرأسمالية الحديثة. وعلى الرغم من جميع الإجحافات التي ارتكبها فروید بحق الدين فهو يقول:

إنني أرى ضرورة التربية الدینیّة بصفتها أساساً للنظام في الحياة الاجتماعية عند الإنسان. وبالطبع، ليس عليكم أن تظنّوا بأنّي مؤمن بهذه المبادئ، وأنني مؤمن بالدين لا؛ ليس في أي إيمان أو تعصب كما يوجد عند المؤمنين بالدين، لكنّني من أجل ما أجده في مصالح ومقتضيات أرى صحتها، وأعمل بها(2).

ويقول العالم النفساني يونغ (1961م) وهو من زملاء فرويد وناقديه: ولهذا السبب اقتنعت بشكل كامل أنّ المعتقدات والطقوس الدینیّة لها أهمية خارقة للعادة؛ ولو على مستوى المنهج في الصحة النفسية. فإذا كان هناك مريض له وضع مثل هذا؛ أي أنه شخص كاثوليكي عامل بالتكاليف الدينيّة، فإنّني لن أتردد في أن أوصيه بممارسة طقوس الاعتراف بالذنب، والأفخارستيا(3)؛ ليقي نفسه من الاصطدام بتجربة مباشرة لا يطيقها (4).

ص: 296


1- فيلهلم فونت (1832 Wilhelm Wundt-1920م): عالم نفس ألماني، عُد مؤسس علم النفس التجريبي. أصدر مجلة دورية ينشر فيها بحوثه وتلاميذه أطلق عليها اسم «الدراسات الفلسفية»؛ فقد كان يعد نفسه فيلسوفاً، وله الفلسفة والمنطق والأخلاق عدة مصنّفات. [م]
2- مستقبل وهم ،فرويد ص 468 [ النسخة المترجمة إلى الفارسية].
3- الأفخارستيا - أو سر التناول أو القربان المقدس Eucharist : هو أحد الأسرار السبعة المقدسة في الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية أو أحد السرين المقدسين في الكنيسة البروتستانتية. وهو تذكير بالعشاء الذي تذكر الكنيسة أنّ المسيح 7 تناوله بصحبة تلاميذه عشيّة آلامه. ويُحتفل بها في جماعة المؤمنين لأنها التعبير المرئي للكنيسة. الاحتفال يكون بصيغة تناول قطعة صغيرة ورقيقة من الخبز (تعرف بالبرشان التي تمثل جسد يسوع وأحياناً تذوق أو غمس قطعة الخبز في القليل من الخمر الذي يمثل دم المسيح .[م]
4- الدين وعلم النفس، كارل يونغ، ص 85 .[ النسخة المترجمة إلى الفارسية].

وعلى خطى هذا النهج سار إريك فروم (1980م) وجمع غفير من الفلاسفة واللاهوتيين المنتمين للمذهب الوجودي، وبعض فلاسفة التحليل اللغوي (مثل: فيتغنشتاين)، فاعترفوا بتوقعات وظائفية من الدين، لكنّهم جميعاً تمسكوا بموقفهم الذاهب إلى نظرية توقعات الحد الأدنى من الدين.

8/9 .نظريّة التوقعات المعتدلة من الدين:

أسلفنا سابقاً أنّ نظريّة التوقعات المعتدلة من الدين هي نظرية يمكن إثباتها بالمناهج الدینیّة والمناهج الخارجة عن الأطر الدینیّة على حد سواء، سواء، وهي النظرية المختارة عندنا وبناءً على هذه النظرية فإن رسالة الأنبياء لا تنحصر في الاهتمام بشؤون الآخرة، أو في بيان العلاقة بين الإنسان وربه، بل تتناول علاوةً على ذلك قضايا وجوانب إنسانيّة أخرى بنحو مباشر أو غير مباشر. ومع أنّ الإسلام يرفض العلمانية، بيد أنه لا ينكر العلوم التجريبية أو الإنسانية أو الطبيعية أو العقلية، ونظرية التوقعات المعتدلة لا تتجاهل دور الدين في العلوم المشار إليها .

أمّا مراحل إثبات هذه النظرية فتبدأ من إثبات أصل الحاجة إلى الدين باستخدام مناهج خارجة عن الأطر الدینیّة؛ إذ يمكن مثلاً من خلال توظيف المنهج التجريبي إثبات عدد من وظائف الدين وآثاره؛ مثل تلبية نداء الشعور بالوحدة، أو تخفيف حدّة الخوف من الموت أو الآلام والمتاعب، أو منحه معنى جديداً لحياة الإنسان، أو حلّه لمنازعات الناس واختلافاتهم، أو السيطرة على أفراد المجتمع، أو الوقاية من الأزمات النفسية، أو تقديم المصالح العليا للآخرين على المصالح الشخصية، أو دوره في التلاحم الاجتماعي، وأثره في دعم الأخلاق، وهلم جرا(1).

أو من خلال المنهج العقلي تقوم بإثبات ضرورة الحياة الاجتماعية، والمشاركة في العمل، وتوزيع الأدوار بين الناس، وضرورة وجود قانون شامل ومقنّن عادل إلهي،

ص: 297


1- للاستزادة راجع: الكلام الجديد للمؤلف، بحث وظائف الدين وأدواره.

ومن ثَمّ يُستنبط لزوم وجود قوانين إلهيّة، وانبعاث أنبياء إلهيين يأخذون على عواتقهم مهمة تطبيق القانون الإلهي على الأرض(1).

وبعد إثبات حاجة الإنسان إلى القوانين الإلهيّة، ودور الدين وأثره، يصل الدور إلى تحديد المصداق للدين الحقيقي؛ أي: وضع اليد على دين واحد من بين مجموعة الأديان المتنوعة، يكون باستطاعته تقديم القوانين الإلهية، وتوفير الفوائد والآثار المترتبة على الدين. ومن الواضح أن الدين إذا لم يستند إلى الله جَلّ وَعَلا كما في الأديان الوضعيّة البشريّة، أو الأديان المحرّفة فلن يتسنّى له توفير السعادة الحقيقية أو القوانين الإلهية؛ حتى لو استطاع تأمين جزء من فوائد الدين وآثاره كتلبية نداء الشعور بالوحدة؛ وذلك لأنه يفتقد استناده إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى .

ومن هنا، فإنّ حقانية الدين الحقيقي يجب أن تُستلهم من الإعجاز، كما يجب أن نضمن حقانية الإسلام وأرجحيّته على سائر الأديان الأخرى واستناده إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من نافذة الإعجاز أيضاً، ومن ثَمّ نتحوّل للمنهج النصوصي الديني - أي: إلى الكتاب والسنّة - لاستكشاف باقي توقعات الإنسان من الدين والأمر مشابه لحالة الإنسان المريض الذي يشعر بدايةً بالألم، فيُدرك الحاجة إلى الطبيب، ثمّ يختار طبيباً حاذقاً يسهّل عليه تشخيص المرض فيراجعه ويتغلّب بمساعدته على المرض الذي ابتلي به.

إنّ هذا المنهج المشار إليه هنا والنتائج التي توصل إليها ليس أنها تُثبت التوقعات المعتدلة من الدين الحقيقي والسماوي وحسب، بل تُثبت أيضاً اضطرار الإنسان وحاجته الماسة إلى الدين الإلهي.

وبعبارة أخرى يمكن للإنسان الوقوف على مدى حاجته إلى الدين على صعيد الأمن الفرديّ ( مثل تلبية نداء الشعور بالوحدة والسكينة إلى معنى يملء فراغ

ص: 298


1- راجع: الإلهيات من الشفاء، ابن سينا المقالة العاشرة، الفصل: 2 و 3 ؛ الإشارات والتنبيهات ابن سينا، ج 3، النمط التاسع، ص 371-373.

الحياة، وحلول للشرور والمتاعب)، وكذا حاجته إلى الدين على صعيد الأمن الاجتماعي (كما في حالات استتباب النظام والأخلاق والحقوق الاجتماعية) من خلال سلوك المنهج التجريبي السيكولوجي أو السوسيولوجي، ومن ثَمّ يتسنّى له توظيف المنهج العقلي لإثبات حاجة الإنسان إلى الدين على صعيد الأمن الأخروي. ومن هناك، يمكن استكشاف الحاجات الأكثر جزئية في مجالات الأمن الفردي والاجتماعي من خلال الوصول إلى الدين الحقيقي الثابت عن طريق المصادر الإلهية كالقرآن والسنة. وهذه المراحل لا توصلنا إلى الحاجة للدين وحسب، بل وتثبت لنا اضطرار الإنسان وحاجته الماسة إليه.

وفي المحصلة نقول: تجري عمليات المراحل المذكورة آنفاً حسب الترتيب التالي: اكتشاف الحاجة إلى الدين على صعيد الأمن الفردي والاجتماعي بواسطة توظيف المنهج التجريبي - الحاجة إلى الدين على صعيد الأمن الأخروي بالمنهج العقلي- اكتشاف مصداق الدين الحقيقي من خلال الإعجاز – الرجوع إلى القرآن والسنة لاكتشاف حاجات كثيرة أخرى يعجز الإنسان عن معرفتها من تلقاء نفسه.

وبيان ذلك أنّ البرهان العقلي يثبت لنا وجود الله وصفاته الكمالية؛ ومنها: حكمته تبَارَكَ وَتَعَالَى، ثمّ تأتي فلسفة خلق الإنسان والغائية الإلهية لتوجب الضرورة التي تستدعي حصول الإنسان على الهداية والكمال من الله جَلَّ وَعَلا. وطالما أنَّ العقل والتجربة البشريّة لا يمكن لها بمفردها أن تميط اللثام بشكل كامل عن ترابط الفعل البشري بالكمال الإنساني، يتوصل العقل البشري عبر تحليله للحكمة الإلهية إلى ضرورة نزول مصدر معرفي آخر يؤمن الهداية والكمال؛ وهو ما نسميه بالدين. والحكمة الإلهية تقتضي إرسال دين يأخذ على عاتقه بيان المآل الملكوتي لما تقترفه جوارح الإنسان وجوانحه.

وإلى هنا، أثبت العقل البشري على نحو الإجمال توقعات الإنسان المنطقية من الدين، أو الاضطرار له والحاجة الماسة إليه، أو قل : ضرورة كشف العلقة والارتباط

ص: 299

بين الملك والملكوت. أمّا إظهار مصداق الدين الحقيقى فأمره متروك لما تُثبته المعجزة التي يأتي بها الأنبياء وأمّا قضايا الدين الحقيقي فتتناول بنحو جزئي وتفصيلي الحقائق الكفيلة بهداية الإنسان على صعيد الرؤى والمنهج والسلوكيات.

ومن هذا كله نستنتج أن منهج العقل والنقل الديني مؤهّل لإثبات التوقعات المعتدلة من الدين بلا إنكار أي دور أو أثر آخر للعقل أو التجربة.

9/9 .توقعات الحد الأقصى والنصوص الدینیّة:

تمسّك بعض المحققين والمفسّرين لإثبات توقعات الحد الأقصى بطائفة من الآيات القرآنية الكريمة ؛ ومنها قوله تعالى :

(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لَّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(1) .

وهذه الآية حسب ما ذهب إليه أنصار توقعات الحد الأقصى تدل على أن الكتاب هنا هو القرآن الكريم، وهو بالتالي مبيّن لجميع الحقائق دون استثناء. يقول العلامة الطباطبائي (1402ه) حول هذه الآية المباركة ما نصه:

إذ كان كتاب هداية لعامة الناس - وذلك شأنه - كان الظاهر أنّ المراد بكل شيء كل ما يرجع إلى أمر الهداية مما يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدإ والمعاد والأخلاق الفاضلة والشرائع الإلهيّة والقصص والمواعظ فهو تبيان لذلك كله. ومن صفته الخاصة أي المتعلّقة بالمسلمين الذين يسلّمون للحق أنه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط ورحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا والآخرة وينالون به ثواب الله ورضوانه، وبشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم . هذا ما ذكروه وهو مبني على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام وهو إظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا

ص: 300


1- سورة النحل: 89 .

لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلا على كليات ما تقدم، لكن في الروايات ما يدل على أن القرآن فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو صحت الروايات لكان من اللازم أن يكون المراد بالتبيان الأعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك إشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن أسرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها . والظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الآيات المسوقة للاحتجاج على الأصول الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد، والكلام فيها ينعطف مرة بعد أخرى عليها أن قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ) .. ليس باستئناف، بل حال عن ضمير الخطاب في جِئْنَا بِكَ بتقدير «قد»، أو بدون تقديرها - على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل الماضي. والمعنى: وجئنا بك شهيدا على هؤلاء، والحال أنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب وهو بيان لكلّ شيء من أمر الهداية يعلم به الحق من الباطل ، فيتحمل شهادة ، أعمالهم، فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا، وعلى المسلمين بما أسلموا؛ لأنّ الكتاب كان هدى ورحمة وبشرى لهم، وكنت أنت بذلك هادياً ورحمة ومبشّراً لهم(1).

ويقول الفخر الرازي (606ه) في تفسيره لهذه الآية:

من الناس من قال: القرآن تبيان لكل شيء؛ وذلك لأنّ العلوم إمّا دينيّة أو غير دينية، أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلّق لها بهذه الآية؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين، فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه، وأمّا علوم الدين فإما الأصول، وإما الفروع(2).

النقطة الأخرى تتعلّق ببيان سلسلة من الأحاديث الكثيرة التي رويت عن الأئمة المعصومين (علیهم السّلام): ذيل الآية المذكورة أعلاه والتي دلّت على العلم الغزير عند الأئمة،

ص: 301


1- الميزان في تفسير القرآن العلامة الطباطبائي، ج 12، ص 324-325 .
2- التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، ج 20 ص 99 .

ومعرفتهم بما كان ويكون وما هو كائن وعلمهم بالسماوات والأرض والجنّة والنار، وهي علوم أخذوها من القرآن الكريم، وقد استشهدوا بهذه الآية حينما راموا إثبات ذلك للغير (1).

وفيما يلي نستعرض جانباً من تحليل هذه الأحاديث الشريفة وتفسيرها :

استخدم القرآن الكريم الدلالة اللفظية لبيان الأمور الدخيلة في هداية الإنسان بنحو مباشر، أما الأمور الأخرى التي لها دخل بنحو غير مباشر فقد تركها تبين في خضمّ الإشارات والأسرار المكنونة والمداليل الالتزامية وبواطن القرآن الكريم. وهذه الإشارات والأسرار والبواطن لا يفقهها إلا المعصومون (علیهم السّلام)(2)؛ دون غيرهم من بني البشر. وبعبارة أخرى نقول : لقد بيّن القرآن الكريم المضامين المرتبطة ببعض ما يحتاجه الإنسان في موضوعات الإلهيات ومعرفة الإنسان والأحكام والأخلاق والمعاد وما إلى ذلك بألفاظ صريحة، لكنّه شاء أن يُبيّن سائر الاحتياجات الأخرى من خلال مناهج أخرى مشدّداً على سلوك طريق العقل والحس والتجربة والشهود القلبي، وقد تحصل الأئمة المعصومون (علیهم السّلام) على حقائق السماوات والأرض والجنة والنار وغيرها من خلال توظيفهم لتلك المناهج. فإذا كان أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) قد استطاعوا أن يستنبطوا جميع تلك العلوم من القرآن الكريم، فهذا لا يعني قدرة غيرهم على القيام بذلك.

ومن نافلة القول هنا أن نشير إلى أنّ سيرة الأئمة من أهل البيت (علیهم السّلام) لا سيّما ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) تدلّ على أنهم رغم امتلاكهم لهذه المعارف والقابليات، كانوا يستخدمون العلوم المتداولة، والتجارب البشرية الاعتيادية. وما مقاومة الإمام الحسين (علیه السّلام) لساعات أمام العدوّ الغاشم يوم عاشوراء، ونجاحه في هداية جمع من

ص: 302


1- راجع تفسير نور الثقلين الحويزي ج 3 ص 73؛ تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 936؛ البرهان في تفسير القرآن البحراني، ج 2، ص 380 .
2- لاحظ قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أَوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ سورة النساء: 83 (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ سورة الواقعة 79 ؛ (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ سورة النحل: 43. [م]

الجهلة المغرَّر بهم إلا خير دليل على ذلك؛ إذ كان بمقدوره اللجوء إلى ما أودعه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنده من قدرات تكوينية ما ورائية لكنه لم يفعل.

بناءً على ما تقدّم، فإنّ القرآن الكريم جامع وشامل للعلوم،وفي هذا الكتاب السماوي تبيان كل شيء، لكنّ الإنسان الاعتيادي لايملك القدرة على اكتناه كل الحقائق واستخراجها من القرآن الكريم، وهذا هو الذي اختص به الله عَزَّ وَجَلَّ الأئمة المعصومين . أما الإنسان الاعتيادي فهو لم يُحرم من إدراك الهداية القرآنية بشكل كامل؛ لأن نافذة السنة الشريفة المروية عن النبي وآله : مفتوحة أمامه، ويمكن له الاستنارة بنورها.

وفي هذا المقام، يمكن الإشارة إلى آيات قرآنية أخرى؛ منها: الآيات 38 و 59 من سورة الأنعام (1)، والآية 3 من سورة المائدة(2)، وجميعها يدلّ على التوقعات المعتدلة من الدين، أو يشير بعضها إلى العلم الإلهي اللامحدود في اللوح المحفوظ؛ وهي إشارات لا ارتباط لها بجامعية القرآن الكريم ، وقضية توقعات الإنسان من الدين.

لقد أشارت آيات قرآنية عديدة إلى علوّ كعب العلم والعلماء، والدعوة إلى التأمل في نظام الخلق، وعجائب المخلوقات وأحوالها، والمعرفة الآفاقية والأنفسية، وصفات بعض أجزاء عالم الطبيعة. والبعض من هذه الآيات يمكن لها أن تكون مبينةً لأسس نظرية علميّة، وهي بذلك تعقد علقةً بين الطبيعة وعالم الملكوت، كما توجد في القرآن الكريم آيات مبينة لبعض الرؤى والنظريات العلمية، لكن هذا لا يعني أنّ جميع القضايا العلمية في مجالات الصحة والزراعة والأحياء والفيزياء وغيرها يمكن للإنسان العادي أن يستخرجها من القرآن أو السنة (3).

ص: 303


1- قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ) ، وقال عزّ من قائل: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مبين) . [م]
2- قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمَّمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا). [م]
3- راجع: توقعات الإنسان من الدين للمؤلف ص 464-474 . [بالفارسية].

نعم يمكن القول بأن التعاليم الاقتصادية والسياسية وما يرتبط بالتربية والتعليم والإدارة والاجتماع والعرفان والفلسفة موجودة بوفرة في أكثر من باقي الحقول الأخرى في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبطبيعة الحال فإنّ العلوم الإنسانيّة والاجتماعية تنطوي على قضايا و معارف رحبة واسعة النطاق، بنحو يصعب معه به القول بأنّ نصوص الكتاب والسنة قد غطت جميع مفرداتها . ومع ذلك، فإنّ تعاليم الإسلام في هذه المجالات معارف تمكننا من أن نُطلق عليها عنوان الاقتصاد الإسلامي، والسياسة الإسلامیّة، والتربية الإسلامیّة، والإدارة الإسلاميّة، وعلم الاجتماع الإسلامي، والعرفان الإسلامي، والفلسفة الإسلامیّة (1).

اتضح إلى هنا أنّ بالإمكان العثور على أحكام اقتصادية وجزائية وحقوقية وقوانين مدنية علاوة على قضايا سياسية واجتماعية وتربوية وغيرها في الكتاب والسنة، لكنّ السؤال المطروح هنا هو : ما الدليل على أبديتها وسرمديتها؟ وما الذي يمنحها أفقاً زمنياً رحباً يبلغ مرحلة الحد الأقصى الذي يتجاوز التاريخ؟ وهل إنّ صفتي العصمة والعلم بالغيب اللتين يتحلّى بهما المعصومون (علیهم السّلام) يمكن لهما أن تعطي الزخم الأبدیّ لها ؟

الجواب هو أنّ الأفق الزمني لكلمات القرآن الكريم والسنة المطهرة، وموضوع كونها محكومة ومقيّدة بالتاريخ أو متفوّقة عليه متحرّرة منه يجب أن يُدرس في مختبرات البحوث اللغوية. وعلى هذا الأساس، إذا تعلّق حكم المشرع بموضوع ما انقضى أجله، أو كان موضوعاً شخصياً معيناً لاحظه المشرع ، أو كان التحقق الخارجي لذلك الموضوع قد انتفى من اصله، فعلى هذه الافتراضات سينتفي الحكم أيضاً، ويفقد بذلك استمراريته. وإن موضوعات مثل: النسخ والتخصيص والتقييد وأشباهها، تُستكشف من خلال القواعد اللغوية؛ فعلى سبيل المثال : نجد الإمام الصادق (علیه السّلام) قد

ص: 304


1- سنأتي على ذكر هذا البحث في الفصل المرتبط بالدين والعلوم الإنسانية.

دعا بعد وفاة ابنه إسماعيل بكفنه، فكتب في حاشية الكفن كما في الرواية:

«إِسْمَاعِيلُ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله »(1).

ولأنّ علماء الأخبارية (2) لم يلتفتوا إلى أنّ الحكم هنا يدور مدار شخص إسماعيل ابن الإمام الصادق (علیه السّلام)، فقد أفتوا بأن يُكتب في حاشية أكفان المسلمين عين تلك الجملة المرويّة عنه (علیه السّلام) في حين أنّ موضوع الحكم شخص ما بعينه!

أمّا الأحكام الاجتماعية في الإسلام فهي محمولة على موضوعات عامة، وليس هناك ما يقيدها بزمن معيّن؛ فالعقلاء جميعاً يُقرّون بمبدأ مفاده أنّ الحكم إذا صدر من المشرع دون أن يتقيّد فعلاً بقيد زمنيّ أو غير زمني، فيجب أن يُفهم منه الإطلاق والعمومية الزمانية، وهو شامل لجميع الأزمنة والأمكنة. هذا، ناهيك عن الأدلة النقلية والعقلية المتعددة التي دلّت على الاستمرارية الزمنية للأحكام والتعاليم الدینیّة؛ مثل الحديث المروي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) :

«حَلَالُ مُحمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَدَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، لَايَكُونُ غَيْرُهُ وَلَا يَجِيءُ غَيْرُه »(3).

ص: 305


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 47، ص 248. [م]
2- انتهت هذه المدرسة إلى أنّ الحجّة منحصرة في الحديث ولا مجال لإعمال الرأي فيها، والناس مضطرون للرجوع إلى النصوص مباشرة، والعمل بها، وألا يوسطوا مجتهداً أو مرجعاً للتقليد في ذلك. راجع الأعمال الكاملة، المطهري ج 20، ص 169؛ ظهور الأخبارية في الشيعة ص 168 .
3- الكافي، الكليني، ج 1، ص 58.

10 .منشأ الدين

1/10. تمهيد :

قد يبدو البحث عن منشأ الدين غريباً عند السماع بالعنوان لأول وهلة، فيتساءل المرؤ : لماذا الاستفهام عن منشأ الدين وأصله؟ وهل للدين أصل آخر غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالى؟ هل يمكن لغير الله أن يُنشئ ديناً؟ لكننا إذا علمنا بوجود نظريات ترفض إلهية الدين، وتلجأ في تفسيرها لظاهرة التديّن عند الإنسان إلى عوامل نفسيّة أو اجتماعيّة مثل العقد النفسيّة مثلاً، أو آليات الإنتاج، فإنّ السؤال عن هذا الموضوع سيكون مبرراً عندئذ. ويمكن تتبع خيوط هذا البحث في كتاب «الفطرة» للعلامة الشهيد المطهّري (1399ه)؛ حيث استعرض هناك النظريات المختلفة بهذا الشأن، وما يرد عليها من مناقشات.

2/10. معنى منشأ الدين :

يُعدّ البحث عن منشأ الدين وأصله واحداً من أهم الأبحاث المدروسة في الكلام الجديد وفلسفة الدين، وقد استخدم هذا المصطلح في معان مختلفة؛ أهمها :

* أنه قد يعني: منشأ ظهور الدين وتحققه الخارجيّ.

* وقد يُراد به أسباب النزوع إلى الدين والعوامل النفسية أو الاجتماعية التي دعت الإنسان للميل نحو الدين والمعتقدات الدینیّة.

أما السؤال الأول فهو سؤال فلسفي وكلامي ناظر إلى حقيقة الدين، وأما السؤال

ص: 306

الثاني فهو سؤال نفساني وعلم اجتماعي ناظر إلى ظاهرة «التدين». وللأسف فقد اختلط الأمر على الباحثين الغربيين، فلم يفرّقوا بين المسألتين، وعمدوا إلى الإجابة على السؤال بنحو مشترك.

ومن المؤسف أيضاً أنهم قرّروا منذ البداية أنّ ظاهرة «الدين» وحقيقته لا يمكن لها أن تتسم بأي خلفيّة منطقيّة، لكنّهم بعدما واجهوا سيلاً عارماً من الإقبال على الدين، ونزوع الناس إلى عبادة الله عبر التاريخ حاولوا رفع التناقض الذي وقعوا فيه، فأعلنوا أنّ للدين خلفيّاتٍ غير منطقية! والسؤال هنا: ما هي تلك الخلفيات اللامنطقية ؟ ! لقد ذهبوا لما يحملونه مسبقاً من نزعات إلحادية إلى أنّ الدين أمر اختلقته الأميال النفسية ومختلف المؤسسات الاجتماعية البشرية، فقرّوا انعدام أيّ واقعية خلف جدار المعتقدات التي يؤمن بها المتدينون . وبعبارة أخرى يرى بعض الرافضين لإلهيّة الدين أن المنشأ والمنطلق للتديّن ما هو إلّا مجموعة من العقد النفسية، أو الآليات الإنتاجية، أو أمور أخرى ، ثمّ استنتجوا من هذا البحث في منشأ الدين عدم وجود أيّ أصل إلهي للدين(1).

وفيما يلي نستغرض بعض آراء المفكرين الغربيين في هذا الصدد:

3/10 . أضواء على نظرية الاغتراب :

«الاغتراب(2) لغةً: النزوح عن الوطن والزواج في غير الأقارب(3). وفي اللغة الإنجليزية تعود المفردة «Alienation» إلى الجذر اللاتيني «Alius»، وهي تعني:

ص: 307


1- راجع الأعمال الكاملة، المطهّري، ج 3، ص 539 [بالفارسية].
2- الاغتراب Alienation : مفردة استخدمها كارل ماركس في كتاباته الاقتصادية الفلسفية عام 1844م، واشتهرت على الألسن منذ ذلك الحين. استخدم هذا المصطلح وقتئذ بمعنى الإنسان الذي يغترب عن ذاته وينسلخ عن طبيعته الإنسانية. وقد اقتبس ماركس مصطلحه هذا من مفردتين ألمانيتين جرتا على لسان هيغل؛ هما Entäusserung و Entfremdung. [م]
3- راجع: الموسوعة العربية، ج 2، العلوم الإنسانية مفردة «الاغتراب»، حيدر حاج إسماعيل، ص 820.

«الآخر» وقد أضيفت إليه اللاحقي« en»(1). ويدلّ هذا المصطلح في الفلسفة الغربية على معانٍ إيجابية يمكن اختصارها في الخروج من الذات واستحصال الحقيقة»، كما يمكن أن يُراد به معنى سلبياً يتمحور حول ما يُطلق عليه بالعربية عنوان «الاغتراب»؛ وقد استخدم بالمعنى الأخير عند بعض أتباع هيغل؛ مثل: فوير باخ، وهيس(2). وفي هذا الاستخدام افترض للإنسان هويّة حقيقية، تُفضي الحركة في مسير آخر يخالفها إلى الغفلة عن تلك الحقيقة ونسيانها، والغفلة عن تلك الهوية الواقعية تضع الإنسان تحت تصرّف قوى غير ذاتية، حتى يبلغ الأمر عند الإنسان مبلغاً يجد فيه موجوداً أسمى منه وكأنه هو نفسه، فيصيّر جميع أعماله ونشاطاته متناسبة مع ذلك الموجود الأم الأسمى(3).

أوّل من تناول هذا المصطلح وأسبغ عليه الصبغة الفلسفية هو الفيلسوف المثالي الألماني الشهير هيغل (1831م) . وقد زعم بعض الكتاب أن إحدى التعاليم المسيحية التي تؤكّد على المذنبية الذاتية للإنسان (مفهوم الخطيئة الأصلية) هي التقرير البدائي لمفهوم الاغتراب عند هيغل لكنّ آخرين رفضوا هذه النقطة معتبرين أنّ الخيوط الأولى لهذا المفهوم في الفكر الغربي جاءت من انطباعات العهد القديم عن عبادة الأصنام، ورأت طائفة أخرى أنّ جذور نظريّة هيغل فيما يخص الطبيعة بصفة الأمر المغترب في الذهن المطلق، يمكن اقتفاء أثرها في نظرية افلاطون الذي ذهب إلى أنّ عالم الطبيعة هو صورة ناقصة عمّا يوجد في عالم المثل والمجرّدات. وعلى أي حال، فإنّ أوّل المفكّرين الذين نُسلّم بأنهم تناولوا شرحاً وافياً عن مفهوم الاغتراب هم هيغل وفوير باخ وماركس. وتُعدّ تفسيراتهم له نقطة انطلاق جميع الباحثين المعاصرين الذين خاضوا بحثاً فلسفيّاً أو اجتماعيّاً أو نفسيّاً في هذا الصدد (4).

ص: 308


1- راجع آلام اللاانتمائية [بالفارسية: درد بي خويشتني] نجف دريابندري، ص 1.
2- راجع مقالة: الاغتراب [بالفارسية از خود بيگانگي] أبو القاسم بشيري مجلة معرفت، العدد 91، ص 72.
3- انظر: معرفة الإنسان محمود رجبي ص 55-54 .
4- G. Patrovic, “Alienation”. The Enculopedia of Philosophy, Paul Edwards (ed), Vol. 1, p. 76

لقد طُرحت نظرية الاغتراب فيما يخص البحث الدائر عن الله جَلَّ وَعَلا في القرن التاسع عشر الميلادي على يد الألماني فويرباخ أحد زعماء التيار المادي. وقد ذهب في نظريته تلك إلى أنّ الدين ناشئ من حالة الاغتراب التي اعترت الإنسان فسلخته عن ذاته. وقد صوّر في فكرته حول الدين وعلاقته بالإنسان حيّزين أو وجودين؛ أحدهما وجود سام، والثاني وجود دانٍ أو قل : جانب عُلويّ (هو بُعد إنسانية الإنسان)، وجانب سفليّ (هو بعد حيوانية الإنسان، فأعطى الأصالة للجانب العلوي من الإنسان، واصفاً إياه بسلسلة من الفضائل؛ مثل: الشرف والكرامة والرحمة والخير والإحسان. وحسب رؤيته فإنّ الإنسان حينما ينزع إلى الأمور المنحطة فهو يتبع بذلك ما يجده في وجوده السفليّ، فيلاحظ لوناً من ألوان التضارب بين جانبه السفلي وجانبه العُلويّ. وفي هذه الأثناء، يبدأ بالمكابرة ، ويظنّ أنّ هذه الصفات العلوية والفضائل السامية موجودة في عالم يقع فيما وراء وجوده، مُطلقاً عليه اسم «الربّ» أو «الإله»، وهذا ما يدخله في فضاءات الاغتراب.

وفي معرض الردّ على هذه النظرية نقول: إنّ أساس هذه الرؤية التي ترتكز على فكرة الاغتراب مقبول مبدئياً عند المتدينين، لكنّ تطبيقها على التدين ومعرفة الله غير تام لما يلي من نقاط :

1 . أغلب هذه النظريات ترى في وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وجوداً اختلقته أوهام الذهن البشري الواعي أو اللاواعي في حين أنّ هذا الزعم لا ينسجم مع البراهين العقلية المسلمة التي أثبتت وجود الله عَزَّ وَجَلَّ بصفته موجوداً واقعياً، نسبة عالم الكون إليه - بما يعمّ الإنسان - أنه مخلوقه وعين الربط به(1). وإنّ الذي جرّ الكتاب الغربيين إلى الوقوع في هذا الخطأ هو وهن الفلسفة الغربية في أبحاث الوجود، وإثبات وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى .

ص: 309


1- راجع مقالة: الاغتراب، مصدر سابق، ص 74.

2 . طالما أننا نتناول في هذا البحث الحديث عن حالة الاغتراب عند الإنسان ونتدارس سُبل التصدّي لها، فعلينا إذن أن نكوّن تصوّراً واضحاً عن «الذات» أو «الأنا» الواقعية للإنسان أوّلاً، حتى يتسنى لنا أن ندعي ابتعاد هذا الإنسان عن ذاته، وتخليه عنها ، ثمّ لجوئه إلى الغير) في ظروف معينة وبنحو ما. وللأسف، فإن تعريف أصحاب هذه النظريات للإنسان بعيد عن الهوية الواقعية له؛ فالأعمّ الأغلب من الرؤى الغربية تختزل البشر في أبعاده المادية، وتقتصر في نظرتها للحياة على عالم الدنيا؛ في حين أنّ الهوية الواقعية للإنسان تكمن في روحه الإلهية المجرّدة، والحياة الدنيا ليست إلا مقدّمة ممهدة لحياة أبدية تنطلق في عالم آخر.

3 . حينما يقف الإنسان على حقيقته الإلهية فإنه يصبح عندئذٍ مؤهّلاً لمعرفة الله جَلَّ وَعَلا كما ينص عليه الحديث الشريف من عرف نفسه فقد عرف ربه»؛ فعند معرفة الإنسان بحقيقة ذاته يُدرك وجوده الفقري الذي يصفه الفلاسفة بأنه «عين الربط»، وقد كشف القرآن الكريم النقاب عن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(1)، فنسيان الله يجر الإنسان إلى نسيان ذاته، ﴾ والتورّط في وحل الإلحاد لن يعود إليه إلا بالاغتراب والانفصال عن الذات.

4. يشير العلامة المطهري (1399ه) في معرض مناقشته وتحليله لهذه النظرية إلى تهافت الأساس الذي ارتكزت عليه الفلسفة المادية المؤمنة بأصالة المادة، وثنائية الجانب العلوي والسفليّ، أو البعد السامي والبعد الداني في الإنسان، متسائلاً عن كيفية رضوخ الفكر المادّي المحض إلى القول بوجود جانب عُلويّ ملكوتي عند الإنسان، وهو ما يُفترض به أن يكون ماورائيّاً مفارقاً للمادة ! أليس في هذا تناقض واضح؟!

والإشكالية الأخرى التي تعاني منها هذه النظرية أنّ جميع البشر وفقاً لرؤيتها هم أناس ساقطون في أوحال الحيوانية، وهم أناس متدينون في الوقت نفسه؛ في حين أنّ

ص: 310


1- سورة الحشر : 19.

أفراد البشر كانوا على الدوام منقسمين إلى ضربين مختلفين: أولهما: أناس حافظوا على كرامتهم الإنسانية، وهم موجودون في كل عصر، وثانيهما: أناس انحطت مستوياتهم، وسقطوا في هاوية الحيوانية. والسؤال المطروح هنا هو : هل يجب أن نعدّ الناس الذين نزعوا إلى الدين ضمن الشرفاء الذين التزموا القيم الإنسانية النبيلة، وحافظوا على الصفات السامية، أم من الأفراد الساقطين في أوحال الحيوانية؟ لقد شهد التاريخ أنّ أتباع الأديان كانوا على الدوام أناساً كراماً ميالين للشرف ومنحازين للفضيلة(1).

4/10 . أضواء على نظرية الجهل :

ذهب كونت(2) (1859م) و سبنسر (3) (1903م) في موضوع منشأ الدين وأصله إلى أنّ الدين وليد الجهل؛ فحاول كونت أن يبرّر الدين والتدين نظرياً بالقول:

بعد الإذعان بمبدأ السببية والجهل حيال العلل الطبيعية للحوادث، آمن الإنسان بوجود كائنات غيبية وآلهة، فنسب الحوادث إليها .

وقد أشار سبنسر إلى جذور العبادة مستخدماً معتقدات الإنسان البدائي التي ارتكزت على ثنائية الروح والبدن معمّماً هذه الحالة على جميع الكائنات، ليبين في المحصلة واقع الإيمان الديني حسب رؤيته؛ حيث ذهب إلى أنّ البشر الأوائل كانوا يؤمنون بوجود روح تسكن الطوفان والريح والمطر ، وقد كانوا يحاولون دفع بليّاتها وأخطارها الطبيعية من خلال تقديم الهدايا والقرابين والتذلل لها، مما مهد الطريق أمامهم للمصير إلى عبادة قوى الطبيعة .

ووفقاً لهذه النظرية يجب أن يزول الدين والنزوع إليه إذا ما زال الجهل، وحلّ محلّه العلم بالعلل الطبيعية؛ في حين أن التجربة تتناقض وتتضارب مع مفاد هذه الرؤية، فإنّنا

ص: 311


1- راجع الأعمال الكاملة المطهري، ج 3، ص 553-336 .
2- أوغست كونت Auguste Comte. [م]
3- هربرت سبنسر Herbert Spencer. [م]

شهدنا في عالمنا شخصيّات علميّة مرموقة آمنت بالدين؛ مثل : أينشتاين (1955م)، وبلانك (1) (1947م)، وجيمس (2) (1910م) ، وبرغسون(3)، وداروين(4) (1882م)، وأمثالهم؛ إذ لا يشكّ أحد في أنهم كانوا من الطراز العلمي الأوّل، وأنهم كانوا في الوقت ذاته مؤمنين بالدين.

5/10. أضواء على نظريّة التوالد الاجتماعي:

طرح دور کایم (5) (1917م) نظريته المسماة بالتوالد الاجتماعي للدين مؤسساً ذلك على مبدأ أصالة المجتمع. لم يكن يؤمن بأصالة الفرد، بل قرّر أنّ المجتمع مركب حقيقي مكوّن من الأفراد؛ وليس بتركيب اعتباري، وذهب أيضاً إلى أنّ «الأنا» الاجتماعية هي تجلّي الروح الاجتماعيّة للإنسان. وقد أفضت رؤى دوركايم الاجتماعية إلى الحديث عن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بصفته كائناً خيالياً اخترعه المجتمع ليستخدمه كوسيلة في بعض الشؤون.

بيان ذلك : أنّ الناس رجالاً ونساءً يشعرون بحسّ ديني معيّن تجاه قوّة متعالية تقبع في عالم ماورائي يتجاوزه حياتهم الفردية، وهي قوّة تفرض سلطتها وإرادتها عليهم في هيئة أوامر أخلاقية، وأنهم يقفون في حضرة واقع رحب عظيم مترامي الأطراف، لكنّ هذا الواقع ليس بالكائن الماورائي ، بل هو الواقع الطبيعي للمجتمع ليس إلا. وذهب في رؤيته هذه إلى أنّ المجتمع الإنساني يطلق الصفات الإلهية على أفراده فيخلق في أذهانهم صورة عن الإله، فتتحوّل هذه الصورة في نهاية المطاف إلى

رمز للمجتمع (6).

ص: 312


1- ماكس بلانك Max Planck. [م]
2- ویلیام جیمس William James. [م]
3- هنري برغسون Auguste Comte. [م]
4- تشارلز روبرت داروین Charles Robert Darwin . [م]
5- إميل دوركايم Emile Durkheim . [م]
6- فلسفة الدين جون هيك، مصدر سابق، ص 73-74 .

وقد شرح الفيلسوف وعالم النفس الألماني فونت(1) (1920م) ذلك بالقول:

إنّنا نعيش حاجة اجتماعيّة واحدة فقط تؤدّي بنا إلى النزوع نحو الدين؛ وهي أنّ الإنسان عاجز عن الجمع بين حبّه لذاته والحفاظ على علاقات اجتماعيّة سليمة، فإذا أراد الفرد أن يستمر وجوده فلن يتسنّى للمجتمع أن يبقى مستمراً، وإذا شاء المجتمع أن يستمرّ في وجوده احتاج إلى تضحيات أفراده، والتضحية تتنافى مع حبّ الذات، ولهذا جاء الدين ليوائم بين حب الذات والتضحية(2).

يقول دوركايم في هذا الخصوص :

عندما يكون المجتمع في حالةٍ من الغليان يصبح -ولّداً للدين، فتكون طبيعة الدين موجدة لنمطيّة من الانتماء المتعصّب إلى طوائف جزئية في الأفراد، فيرتبط كلا منهم بمجتمع معيّن، وتؤدّي في المحصلة إلى إيجاد خصومة في كلّ مجتمع نسبةً إلى المجتمع الآخر (3).

وقد حاول في كتابه الثالث الكبير - أي: الأشكال الأولية للحياة الدینیّة (4) - أن يشيّد نظريّة عامة حول الدين على أساس تحليل أبسط المؤسسات الدینیّة وأكثرها بدائيّة. وفي اعتقاده فإنّ اليد الطولى على ساحة الأخلاق والفكر في المجتمعات الفردانية والعقلانية المعاصرة تعود للعلم. وفي جانب آخر، فإنّ كل مجتمع يفتقر إلى مجموعة من المعتقدات المشتركة، والدين التقليدي لا يسعه تلبية متطلبات الروح العلمية، ولم يعد بإمكانه أن يؤمن المعتقدات المشتركة الضرورية. وقد أوجد العلم الثقة اللازمة التي تمكّن المجتمع في كل عصر من بلورة الآلهة التي يحتاج إليها. وليست التعلقات الدینیّة سوى صور تمثيلية للتعلقات الاجتماعية والأخلاقية.

ص: 313


1- فيلهلم فونت Wilhelm Wundt. [م]
2- تاريخ الفلسفة كابلستون، ج ،7 ص 373-374؛ ما بعد الطبيعة جون فول John (Voll)، ص 604 و 676 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
3- المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ريمون ،آرون ج 2 ص 39 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
4- وقد يُترجم العنوان للعربية أحياناً إلى الصور الأولية للحياة الدینیّة [م]

لقد أراد دوركايم أن يبرهن على أنّ موضوع الدين ليس إلا تجسيداً آخر للمجتمع. وقد رفض أن يكون جوهر الدين هو الإيمان بإله قابع في ما وراء العالم، بل ذهب إلى أنّ ذات الدين وطبيعته ليست إلا تصنيف العالم إلى ظواهر مقدّسة وأخرى غير مقدّسة، وأنّ القسم المقدّس فيه مركّب من مجموعة معتقدات وطقوس. فإذا كانت الأمور المقدّسة تنطوي على علاقات معينة فيما بينها - مثل : «الانسجام»، أو «التبعية» - بحيث تكوّن بذلك نظاماً يتحلّى بوحدة داخلية، ويستقلّ عن أي نظام آخر، فإنّ تلك المجموعة من المعتقدات والطقوس ستبلور ديناً معيناً. وبناءً على ذلك فإنّ «الدين» - حسب هذه الرؤية - هو : منظومة منسجمة من المعتقدات والأفعال المتعلقة بأمور مقدّسة.

لقد حاول دوركايم أن يثبت أوّلاً: أنّ الأديان التقليدية مدانة بعد الانتشار الواسع للعقلانية العلمية، وثانياً : أنّ البحوث والدراسات العلمية خلصت إلى أنّ الإنسان لم يكن يعبد شيئاً مغايراً لمجتمعه.

أما فيما يخص السؤال عن سبب تحوّل المجتمع إلى موضوع للعبادة فيجيب دوركايم بأنّ المجتمع حائز على القداسة من تلقاء نفسه (1). وفي اعتقاده، فإنّ منشأ الدين هو المتطلبات العلمية للحياة في المجتمع والدين عنده هو مصدر الرؤى الإيثارية والمحبّة للجنس البشري، وهي التي تفضي إلى الإحجام عن الأنانية المفرطة، وتدعو إلى التضحية وعدم اللهاث وراء الانتفاع الفردي والمصالح الشخصية (2).

وقد وجّه المفكّرون والاجتماعيون الدينيون عدداً من الملاحظات والمناقشات على هذه النظرية، نشير إلى بعضها فيما يلي:

1 . يقول ريمون آرون: «في تقديري ليس من المعقول أن نذهب إلى أنّ "جوهر الدين هو عبادة الفرد لطائفته أو مجتمعه"؛ فعلى أقلّ التقادير - حسب رأيي - عبادة

ص: 314


1- راجع: المصدر السابق ص 389-373 .
2- راجع: دوركايم، أنطوني غيدنز السابق، ص 70 [ النسخة المترجمة إلى الفارسية].

النظام الاجتماعي بنفسها هي تلك الذات الفاقدة للطّهر . وإنّ تناول هذه القضية التي تزعم أنّ "موضوع الشعور الديني هو المجتمع نفسه، غير أنه اتخذ صورة جديدة" لا يمثل إنقاذاً للتجربة البشرية التي هي موضوع الدراسات الاجتماعية، بل يمثل تحطيماً لها؛ بمعنى أنّ صورةً مثل هذه عن الدين لا تُلبّي ذلك التوقع من الدين (1).

2 . اعتاد الأنبياء عند ظهورهم على رفض النظام الموجود والسائد في مجتمعاتهم، وعملوا جاهدين على إزاحة القوانين الظالمة المتجذرة فيه، وهي حركة تؤدّي بطبيعة الحال إلى بروز تجاذبات دينية وغير دينية. وبناءً على نظرية دوركايم الذي انتهى إلى أنّ الإله هو المجتمع ، يجب أن يكون الأنبياء الذين عارضوا النظم الاجتماعية حفنةً من المتمرّدين ! في حين أنّ الأنبياء الذين تبوؤوا مقام التبليغ الديني ينبغي أن يلتزموا بسيادة المجتمع؛ حتى يتسنّى لهم دعوة الآخرين إلى الانصياع لحاكميته، لكنّ الأنبياء كانوا يقارعون الأحكام السائدة في مجتمعاتهم، وكانوا يحملون هموم ديانة وشريعة جديدتين.

3 . لو افترضنا إمكانية تبرير الإيمان بوجود الله من خلال قضية الإلزام الاجتماعي فإننا نتساءل هنا : كيف يمكن إذن تبرير قضايا مثل: خلود النفس»، و«هدفية عالم الخلق»، و«الأخلاق الدینیّة»، وما شاكل ذلك؟ وبناءً على ذلك، لن تكون الأديان التي تناولت بحوثاً أخرى غير الإلهيات مقتبسة من الإلزام الاجتماعي.

4 . ليس صحيحاً أنّ جميع المتدينين يميلون إلى الدين من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع، فعلاوةً على وجود احتياجات أخرى أثرت في تمايلات الإنسان نحو الدين، هناك في كثير من الأحيان متدينون تحرّكوا ضدّ وحدة المجتمع باسم حفظ الدين، وأدّى إصرارهم على الدين إلى تشتيت صفوف المجتمع ؛ في حين أنّ «الإلزام الاجتماعي» يجب أن يوائم بين أفراد المجتمع، ويزرع في نفوسهم روح التفاهم والانسجام. وعليه، لا يمكن تبرير التدين الذي يتحرّك في مسارات تخالف جهة المجتمع بنظرية دوركايم.

ص: 315


1- المصدر السابق، ص 390-391.

5 . لا يمكن التصديق بأنّ منظومات فكرية مثل الدين والتي تبوّأت مكانة رفيعة على مرّ التاريخ، واستمدّ الناس من منهلها قوى ساعدتهم على الحياة لم تكن سوى تخيّلات خالية وأوهام بالية. لقد اتفق الجميع اليوم على أنّ القانون والأخلاق، بل وحتى الفكر العلمي نفسه قد تبلور في بوتقة الدين، وكان إلى فترات زمنية طويلة ممتزجاً به، ومنضوياً تحت طائلة تأثيره(1).

6 . أبرز الأخطاء التي ارتكبها دوركايم هو عدم التمييز بين الدين وعبادة الطوطم(2)، لا سيما تلك التي كانت منتشرة في أستراليا، فأسرى - بغير حق - أحكام علم الاجتماع المتعلقة بتلك المناطق على شتى المجتمعات. من هنا، فإنّ هذه النظرية ناتجة عن منهجية مختلة وغير صائبة من الأساس، وهي تُعرف في علم المنطق ب-«التمثيل» ، ولا تتمتّع بأي اعتبار أو مصداقية منطقية.

7. الإشكالية الأخرى التي نشير إليها هنا هي اعتراف دوركايم بعدم واقعية العناصر الماورائية التي تفوق الطبيعة، وأنه ذهب إلى توقعات معينة من دين وهمي وخرافي، لكنّ هذه النظرية عاجزة عن الردّ على السؤال التالي: إذا حذفنا العنصر الماورائي الميتافيزيقي من معادلة الدين، فهل سيبقى لهذا الدين المزعوم من باقية؟ أو قل : هل يمكن لنا أن نتصوّر واقعيّة لهذا الدين من الأساس؟!

ومع انتفاء واقعية الدين هل يمكن القبول بفوائد الدين ومكتسباته الاجتماعية ؟! بل نتساءل أصلاً كيف أمكن لهذه الخدعة المذهلة المدهشة أن تقاوم وتبقى فاعلة على مرّ التاريخ؟! وعلى أي حال، فإنّ تعريف دوركايم للدين يستلزم انتفاء كلّ أنواع التوقعات منه، والاكتفاء بما لدينا من توقعات اجتماعية يجب أن تنسب للدين أيضاً.

ص: 316


1- المصدر نفسه، ص 377-378 .
2- عبادة الطوطم أو الطوطمية Totemism - هو تقديس بعض مظاهر الطبيعة أو الحيوانات والإيمان بأنه يقوم بدور أساسي في حماية وتوفير احتياجات القبيلة، أو الاعتقاد بوجود علاقة خاصة تربط هذا الطوطم بافراد القبيلة، وغالباً ما يكون الطوطم الذي يتم تقديسه شيء من بيئة تلك القبيلة ومرتبط بحاجاتها ومخاوفها.[م]
6/10. أضواء على نظرية الطبقات الاجتماعية :

كارل ماركس هو أحد علماء الاجتماع الذين خاضوا بنحو أو بآخر في قضية منشأ الدين، أو المنطلقات الداعية إلى ميول الإنسان نحو الدين وحاجته إلى المعتقدات والتعاليم الدینیّة. وقد تأثرت نظريته التكاملية الاجتماعية والطبقاتية، وكذلك تحليله الاجتماعي للدين بالفلسفة الجدلية الديالكتيكية عند هيغل مرتكزاً على فلسفة التاريخ ومنطق الطريحة والنقيضة (1) من جهة، كما تأثرت رؤيته أيضاً بنظريات داروين ولامارك، وكذلك بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها إنجلترا في القرن التاسع عشر من جهة أخرى.

لقد تضمّن أهمّ بيان شيوعيّ له التضادّ الاجتماعي الناشئ من صراع الطبقات الاجتماعيّة؛ تضادّ مستمرّ ومباشر نَشَب بين الأسياد والعبيد، النبلاء والعامة، الإقطاعيين والفلاحين المعلّمين والطلاب المستبدين والمضطهدين، وظهرت معالمه في التاريخ الاجتماعي للإنسان (2).

وقد يتشكل المجتمع عند ماركس من عنصرين هما: البنية التحتية، والبنية الفوقية. أما القوى المنتجة التي هي أساس الاقتصاد في المجتمع فتمثل البنية التحتية فيه وأمّا العلاقات الإنتاجية التي تشتمل على أمور ؛ مثل: القيم والأيدولوجيات والفنون والفلسفات فهي تمثل البنية الفوقية، وتتأثّر بالبنية التحتية بشكل مباشر (3).

والمناط في التحوّلات التاريخية للمجتمع البشري عند ماركس مبني على أساس المنهج في الأنظمة الإنتاجية، وهو ينشعب إلى ثلاث مراحل انتقالية؛ هي:

1. مرحلة الاشتراكية الأولى، أو البدائيّة (انعدام الملكية الخاصة).

ص: 317


1- أي: القضيّة أو الفكرة Thesis ، ونقيضها Anti-Thesis. [م]
2- نظريات علم الاجتماع غلام حسین ،توسّلي ص 164 .[بالفارسية]
3- المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ، مصدر سابق، ص 164.

2 . مرحلة الطبقات الاجتماعية ( عصر تنامي الملكية الخاصة).

3 . مرحلة الاشتراكية النهائيّة، أو : الطور الشيوعي الأعلى (عصر العودة إلى الملكيّة العامة)(1).

يقول ريمون آرون في هذا الصدد:

على نحو العموم، تخضع تنمية الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية لسيطرة أنماط الإنتاج في الحياة المادية. أما معارف بني البشر فلا يمكن لها أن تحدّد وجودهم، بل على العكس، فإنّ الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدّد معارفهم (2).

الدين عند ماركس هو ثمرة لمجتمع طبقي اخترعته الطبقة الحاكمة (3). وبناءً على ذلك، فغنّ للدين جذور ضاربة في أعماق القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك في حالة الاغتراب عند الإنسان؛ لأنّ الناس في المجتمع الطبقي مغتربون عن أنفسهم ومنسلخون عن ذواتهم.

ولا يخفى أنّ ماركس أحياناً قد عد الدين صنيعة أيدي أصحاب السلطة والسطوة لأجل نهب الفقراء والمعدمين، كما عدّه في مواضع أخرى ضرباً من ضروب السلوك الدفاعي الذي تمارسه الطبقة الفقيرة لأجل تبرير أوضاعها البائسة، ورفع مستوى تحمّلها لها، عسى أن تحظى بالجنة الموعدة يوماً ما. وفي رأيه، فإنّ الدين أفيون الشعوب، كما وصفه في أيضاً بأنه ثمرة جهل الإنسان حيال الطبيعة (4).

وفي المحصّلة فإنّ الإنسان هو من يصنع الدين؛ بغية أن يبرّر وضعه المأساوي الذي يعيشه بنحو غير واقعي أو من أجل تسخير الدين في سبيل نهب ممتلكات الفقراء

ص: 318


1- مدخل إلى المدارس والنظريات في علم الاجتماع حسين ،تنهايي ج 2، ص 248 بالفارسية.
2- المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ، مصدر سابق، ص 163.
3- علم الاجتماع الديني هاميلتون، مصدر سابق، ص 139.
4- راجع: اقتصادنا الشهيد محمد باقر الصدر، ص 913.

والمساكين، أو ليوظف في أنشطة دفاعية يمارسها الفقراء، أو لأجل أن يبدد ظلمات الجهل ولو بنحو مؤقت. وحسب ما تقدّم، فإنّ جميع الآثار المترتبة على الدين سلبية وضارّة.

وحول تعريف الدين يقول إنغلس (1) (1895م):

ليس الدين سوى انعكاس تخيّليّ لقوى خارجية تتحكّم في حياتنا اليومية تجري مجرياته في الذهن ، وتتلبّس فيه القوى الأرضية بلباس قوى ما وراء الطبيعة (2).

ومن هنا قال ماركس (1883م) عند استعراضه لثمرات نقد الدين إنّ نقد الدين يُخرج الإنسان من ظلمات الأوهام، ويرغمه على أن يُفكّر ويعمل ويبلور واقع حياته كإنسان متعقل طارد للأوهام، فيدور في فلك ذاته، أو بالأحرى في فلك شمس الإنسان(3).

وفي اعتقاده، فإنّ الدين ليس بميل فطري بشري، بل هو نتيجة لمقتضيات اجتماعية معيّنة(4). وملخص الكلام أنّ ماركس لا يرى أي حاجة حقيقية للدين عند الإنسان، رافضاً أيّ توقعات صحيحة منه ؛ لأنه يرى أنّ الدين فاقد للواقعية، ولأنه لا يعدو الأوهام، فلا يترتب عليه سوى بعض الآثار السلبية.

هذا، وتعاني نظرية الطبقات الاجتماعية أو التكامل الاجتماعي لماركس من أخطاء ونقاط ضعفٍ تجعلُها حَرِيَّةً بالنقد والمناقشة في أكثر من زاوية؛ نكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها كما يلي:

ص: 319


1- فريدريش إنغلس (1820) Friedrich Engels-1895م): فيلسوف ألماني عُرف بأنه «أبو النظرية الماركسية» إلى جانب كارل ماركس. اشتغل بالتنظير في الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع. نشر كتابه «حالة الطبقة العاملة» في إنجلترا اعتماداً على ملاحظاته وأبحاثه الشخصية. وأصدر مع زميله ماركس بيانهما المشهور والمعروف ببيان الحزب الشيوعي والذي يسمى اختصارًا البيان الشيوعيّ. [م] .
2- علم الاجتماع الديني هاميلتون، مصدر سابق، ص 143.
3- المصدر السابق .
4- المصدر نفسه، ص 145 .

1. لا يتمتع الرأي القائل بأنّ الاقتصاد هو البنية التحتية والأساس الوحيد للتطوّرات والتقلبات الفكرية والاجتماعية بأي دليل محكم يدعمه؛ فعلى أقل التقادير، يتحصّل الإنسان على مجموعة من المعارف البشرية من دون أي ارتكاز على عجلة الإنتاج، بل من خلال لجوئه إلى عمليات التفكير وإيجاد الجسور بين النظريات والبديهيات عنده، كما أننا نشهد عدداً من الحالات التي تجري فيها التطوّرات والتقلبات الاقتصادية والإنتاجية من دون أن تتبعها أيّ تحوّلات معرفية ترتبط بها.

2. لم يُكلّف ماركس نفسه أبداً عناء دراسة الدين بنحو شامل، وانطباعاته عن الدين ليست مبنيّة على نصوص دينية أصيلة، وليست مستوحاة من رسالة الدين الواقعي وأهدافه الحقيقية، بل اعتمدت معرفته الإجمالية عن الدين على مطالعاته لمؤلفات بعض أرباب اللاهوت والفلسفة في القرن التاسع عشر. وكما قال غيدنز فإنّ ماركس لم يوفّق أبداً لدراسة الدين بنحو تفصيلي، فاقتصرت أفكاره في الأغلب على ما سطره جمع من اللاهوتيين والفلاسفة في بدايات القرن التاسع عشر(1).

3 . يقول العلامة المطهّريّ (1399ه) في نقده على نظرية ماركس ما نصه: تاريخ الأديان يشير إلى وجود آثار العبادة منذ أقدم أيام وجود البشر على الأرض، بما فيها المرحلة التي يطلق عليها هؤلاء اسم مرحلة الاشتراكية الابتدائية. بل إن ماكس مولر يرى خلاف النظرية القائلة بأن الدين بدأ أولاً بعبادة الطبيعة والأشياء والأصنام، ثمّ انتقل إلى عبادة إله واحد، فيقول: إنّ علم الأزمنة القديمة قد أثبت أن عبادة الإله الواحد كانت موجودة منذ أقدم الأزمنة، وهو ما يزال يثبت ذلك. نقطة الضعف الأخرى هي أنه في المراحل الطبقية والإقطاعية، لا بد أن نتقبل بالضرورة أن أتباع جميع الأديان وموجديها كانوا من الطبقة الحاكمة، وهذا يتنافى مع ما أثبته تاريخ الأديان بما لا يقبل الشك، ولا حتى مع تاريخ الديانة اليهودية والديانة المسيحية. إنه لا يتفق مع اليهودية؛ لأنّ موسى (علیه السّلام) ينتمي إلى الطبقة المستغلة المحرومة من حيث دمه و عنصره، ولكنه من حيث طبقته ينتمي إلى الطبقة الحاكمة المستغلة؛ لأنه كان بمثابة

ص: 320


1- مبادئ علم الاجتماع، منوتشهر صبوري، ج 1، ص 491 . [بالفارسية]

ابن لفرعون، بعد أن عاش في كنف عزّه، وتربّى في نعمته، فكان أميراً من الطراز الأوّل. فيثور موسى على فرعون في بيت ،فرعون لمصلحة طبقة بني إسرائيل المستغَلّة . هنا، لا تنفع التفسيرات الماركسية؛ لأننا إذا اعتبرنا هذا تابعاً للقومية والعنصر والدم، فإنه لا يتفق مع النظرية الماركسية؛ لأن الماركسيين لا يعترفون بصراع الدم والعنصر، بل بالصراع الطبقي وعليه فإما أن يكون التعصب العنصري هو الذي حمل موسى على الثورة، أو أن تكون هناك أشياء أخرى، وهذه أيضاً لا تأتلف على كل حال مع حياة فرعون وعليه فإن ثورة موسى في بيت فرعون على فرعون تكون لمصلحة الطبقة المحرومة، بني إسرائيل ، الطبقة المحكومة فالثورة إذن ليست ثورة الفراعنة بل هي ضدّ الفراعنة ؛ أي ثورة بني إسرائيل. إذن، فهي مئة بالمئة بخلاف هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء من أنّ الدين قد وضعته الطبقة الحاكمة . إننا - حسب نظريتهم - يجب أن نقول : إنّ اليهودية قد وضعتها أجهزة فرعون لكي تحمل قوم بني إسرائيل على حسن التسليم والاستسلام، مع أنّ دين اليهود قد جاء لتهييج بني إسرائيل وحملهم على الثورة. يقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمتُهَا عَلَى أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (1)، ويقول أيضاً:( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىَ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (2)، فكلّها إثارة: لا تخافوا! اثبتوا! اصبروا! توكلوا على 4(2)، الله ! إنّ الله يفعل كذا وكذا. والإسلام نفسه دين يقول: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾(3)، ويقول : ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ هُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى هُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(4)؛ فالله يعد الناس

ص: 321


1- سورة الشعراء: 22 .
2- سورة المائدة: 21 .
3- سورة القصص: 5 .
4- سورة النور: 55 .

بأنه سيمنحهم الخلافة التي اغتصبها منهم الآخرون. ويقول أيضاً: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ الله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )(1)، وأيضاً: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(2)(3). فإذا كان التفاضل الطبقي في المجتمع هو المنشأ والمنطلق للدين فهذا يعني أنّ زوال هذا التفاضل والتمايز سيؤدّي إلى زوال الدين لا محالة، ولا داعي أصلاً للدخول في صراع معه لمحوه من المجتمع. ويسترسل المطهري (1399ه) بالقول: «يقولون: اقضوا على الامتيازات الطبقية، فيزول الدين تلقائياً، إنّ كذب هذا القول أوضح ما يكون في الدول الاشتراكية . قرأتُ أيضاً أنّ الدعاية ضد الدين على أشدّها في الاتحاد السوفيتي، فلماذا ؟ هناك لا توجد امتيازات طبقية، ومع ذلك يقولون بين حين وآخر: إنّ الدين قد ترسّخ في المجتمع، فحاربوه! أيها الناس، إذا زالت العلة زال المعلول تلقائياً. أنتم تقولون : إنّ العلة هي الامتيازات الطبقية، ولما لم تكن ثمة امتيازات هناك، فكيف ترسّخ الدين هناك؟ إذن لا بد أن تكون العلة شيئاً آخر .. ويل ديورانت (1981م) وهو غير متديّن يقول في كتابه دروس التاريخ بأسلوب يظهر عليه الغضب والقلق : "إنّ كل هذه التعليلات بشأن الدين لا صحة لها"، وأخيراً يقول بحنق: "إنّ للدين مئة روح فكلما قتلته انبعث حياً مرّةً أخرى". كلا أيها السيّد! إنّ الأمر لا يستلزم مئة ،روح، فللدين روح واحدة، بل فيه روح، ويكفي أن نقول: فيه روح، وأرح نفسك، فهذه هي الفطرة، ولن يقدر أحد على قتل الفطرة في الإنسان. إنه ليس عادة من العادات من الممكن أن تزيل العادة إذا حاربتها فترة من الزمن، أمّا الدين فلن يزول؛ لأنه ليس عادة، بل فطرة»(4).

4 . النقد الآخر الموجّه لنظرية ماركس أنه خلط بين الدين والتدين؛ في حين أنّ

ص: 322


1- سورة الأعراف: 128.
2- سورة الأنبياء: 105 .
3- الفطرة، مرتضى المطهري، ص 168-171 .[النسخة المترجة للعربية ]
4- الفطرة، مرتضى المطهري، ص 168-171.

تقييم حالة المتدينين لا يمكن له أن يُفضي إلى نفي الدين أو إثباته. ناهيك عن أنه تجاهل الجوانب والمميزات الإيجابية التي يتحلى بها المتدينون ونظر إلى الدين بعين سياسية وغايات أيدولوجية. وأسرى حكماً يعود لمنطقة جغرافية معينة أو عصر ما إلى غيرهما من الأزمة والأمكنة. يقول زيتلن في هذا الصدد: «إنّ ماركس وإنغلس يصنعان مراحل تكاملها من خلال التقاط نماذج تتعلّق بأزمنة وأمكنة مختلفة مثلما صنع التطوّريون(1) في عصرهم»(2). وبعبارة أخرى: لا يمكن تسرية حكم كلّي عامّ [1] على جميع البلدان والمناطق في العالم لأجل وقوع بعض الأحداث في أوروبا أو الغرب.

5 . لقد دلّت شواهد تاريخية عديدة على معارضة الأديان السماوية لشتى أشكال الظلم والظالمين ، كما أنّ أغلبية أتباع الأديان الحقة هم من المعدمين والمستضعفين الذين لم يفتأوا في صراع مع الظلمة والمستغلين، وإنّ الأنظمة العقائدية والقيمية لهذه الأديان تضمّ في طياتها خطاباً ثورياً مقاوماً للظلم والسبب الرئيس الذي أدى بالكافرين والمشركين إلى رفض الدين هو حرصهم على صيانة مواقعهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الرفيعة. ولهذا، فإنّ فرضية اختراع الدين بأيدي المستغلين لأجل الحفاظ على مصادر القوّة والسلطة، وكذلك فرضية اختراع الدين بأيدي الفقراء والمساكين لأجل تبرير أوضاعهم السيئة منتفية وغير واردة.

نعم؛ لا مراء في أنّ التاريخ زاخر بالظلمة والمستبدين الذين لم يألوا جهداً في تحریف بعض الحقائق الدینیّة، وإسباغ مسحة إلهية وسماوية على سلطانهم ومواقعهم من أجل إسكات صرخات المعدمين، وهو ما يمكن مشاهدته بوضوح في تاريخ الديانة المسيحية، لكنّ هذا الواقع التاريخي لا يجب أن يشكل مانعاً من تكوين معرفة حقيقية عن طبيعة الأديان الحقة.

ص: 323


1- [م] . Evolutionists
2- مستقبل مؤسسي علم الاجتماع، إيرفينغ زيتلن ( Irving Zeitlin) ج 1 ص 18 .[النسخة المترجمة للفارسية]

6 . لعلنا نجد الكثير من الناس الذين لم يذوقوا حرّ الأوضاع الاقتصادية اللاذعة، أو لم يتصدّوا للدفاع عن نشاطات اقتصادية معينة، أو لم يكونوا من ضحايا الجهل أبداً، لكنّهم من الناشطين والمثابرين في سبيل إعلاء راية العقيدة الدینیّة، وصيانتها، وتدعيم أسسها، بل ومن المضحين بأنفسهم في هذا السبيل، وهذا يكشف لنا أن الفكر والأيدولوجيا ليست دائماً وليدة المذهب الاقتصادي(1).

7/10 .أضواء على نظرية العقل الباطن :

أضواء على نظرية العقل الباطن (2):

طُرحت نظرية العقل الباطن في بحث منشأ الدين من قبل عالم النفس الشهير فرويد(3) (1939م) الذي تناول بحكم تخصصه دراسة السلوك العبادي عند المتعبدين وقدّم أبحاثاً تخص منشأ الدين، ودوافع الإنسان نحو النزوع إلى المعتقدات الدینیّة.

لقد كان علماء النفس والفلاسفة إلى ما قبل فرويد يعدّون الظواهر الفكرية إرادية وناتجة عن العقل الواعي، وأساساً لم يكونوا يؤمنون بوجود عقل غير العقل الواعي. لقد كانوا يرون أنّ أيّ فعل أو ظاهرة تصدر من الإنسان هي أمر ناتج عن قوة الإرادة و منبعث عن وعي الإنسان.

ص: 324


1- الفطرة، مصدر سابق .
2- العقل الباطن - ويسمى أيضاً: العقل اللاواعي و اللاشعور Unconscious mind - : مصطلح يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزء من تكوينه، والبعض الآخر يبقى بمنأى كلّي عن الوعي. وهناك اختلاف بين المدارس الفكرية بشأن تحديد هذا المفهوم على وجه الدقة والقطعية إلا أن العقل الباطن على الإجمال هو كناية عن مخزن للاختبارات المترسبة بفعل القمع النفسي، فهي لا تصل إلى الذاكرة. [م]
3- ولد سيغموند فرويد في 6 مايو 1856م في بلدة فريبورغ كما تُنطق بالألمانية Freiberg وهي باللغة التشيكية : Pribor) بمنطقة مورافيا التابعة آنذاك للإمبراطورية النمساوية، والتي هي الآن جزء من جمهورية التشيك. كان والده (جاكوب) تاجراً يهودياً يمتهن بيع الصوف. وفي عام 1859 هاجر مع عائلته إلى فيينا وهو ابن ثلاثة أعوام، وبقي فيها إلى سن التاسعة والسبعين اضطرّ إى الهروب من هناك إلى إنجلترا عام 1938 إثر الهجمات النازية. كان يرى أن نجاحاته تعود إلى خلفيته اليهودية؛ وإن لم يكن يمارس طقوس هذا الدين وآدابه على الإطلاق، بل كان يعدّ جميع الأديان أموراً وهمية لا حقيقة لها.

أمّا فرويد فهو يقسّم النفس الإنسانية إلى عقل واع وعقل باطن، مؤكداً على أنّ الإنسان يجهل بعضاً من تفاعلات عقله وضميره. وقد ذهب فرويد إلى أنّ الإنسان كلّما قمعت حاجته لأسباب وقيود أخلاقية أو اجتماعية أو دينية فإنها تنتقل إلى عقله الباطن وضميره الخفيّ، وتتحوّل هناك إلى عُقدةٍ نفسيّة يجعل صاحبها الأسباب والمناشئ التي أدّت إليها. وقد قال فرويد إنّ الأطفال يمتلكون تجاه أقربائهم ميولاً عاطفيّة عاشقة، فسّرها بالجنس، وسماها ب«عقدة أوديب»(1).

وقد استنتج فرويد أنّ هذه العقدة هي سبب جميع الأمراض النفسية، والمؤسسات الاجتماعية، والإبداعات الفنيّة، وأنّ «الطوطم» و «الطابو»(2) كلّه ناشئ من عقدة أوديب. يقول في أحد كلماته:

كانت القبيلة في بدايتها تتكوّن من عائلة يسيطر فيها الأب، ويحتفظ بالنساء له وحده من دون الأبناء، فهو السيّد الذي يملك كلّ الإناث في القبيلة ويحرمها على ذكورها، ولا يكاد أبناؤه يشبون عن الطوق حتى يطردهم خارج العشيرة. فالتأم شمل الإخوة المطرودين فقتلوا أباهم، وحصلوا على النساء، لكنّهم تنازعوا الأمر فيما بينهم، وانتهى بهم المطاف إلى الندم والشعور بالذنب وتأنيب الضمير. وبعد

ص: 325


1- «أوديب» وفقاً للأساطير الإغريقية هو بطل مدينة ثيفا، وهو ابن الملك «لايوس»، وأمه هي «جوكاست». وملخص هذه الأسطورة: أنّ العرّاف قال لملك ثيفا آنذاك بأنه سيقتل بيد ابنه، وأن ابنه سيتزوج من الأم، وفي ذلك الوقت كانت زوجته حاملاً ، فلما ولدت صبيها أمر الملك بأن تُشدّ أقدام الوليد بالحبال، ويُرمى فوق الجبل، ولهذا السبب سمّي بأوديب التي تعني باللغة اليونانية صاحب الأقدام المتورّمة. وهكذا كُبّل الطفل ورمي فوق الجبل، فوجده الرعاة على تلك الحالة فأخذوه إلى ملك (كورنثيا) الذي تولى تربيته كما يُربى الأمراء. وفي نهاية المطاف، عاد إلى مملكته، وقتل أباه، وتزوج من أمه الملكة راجع الطوطم والمحرّم فرويد، ص 7 [النسخة المترجمة إلى الفارسية].
2- «الطوطم»: حيوان مأكول مسالم أو خطير ومخيف. ومن النادر أن يكون الطوطم نباتاً، أو قوّة طبيعية؛ مثل: المطر أو الماء. وهو يكوّن علاقات متميزة مع المجموعة. يمثل الطوطم بداية حدود المجموعة، ثم يكون الملك الموكل بحفظهم وصيانتهم، وهو يرسل لهم رسائل غيبية، أو في الوقت الذي يكون فيه خطيراً على الغير فهو يعرف أبناءه ويحافظ عليهم. ويقع على عاتق الذي يمتلكون طوطماً واحداً واجب مقدّس يُحتّم عليهم ألا يتقلوا طوطمهم، وألا يقضوا عليه، أو يأكلوا من لحمه. ويفرض قانون آخر لهم ألا يقيم أعضاء الطوطم الواحد فيما بينهم أية علاقات جنسية، وان يجتنبوا الزواج فيما بينهم . أما «الطابو» فيعني الممنوع والمحظور والمحرَّم راجع المصدر السابق، ص 19-24، و44.

فترة، صار هذا الأب موضع تبجيل وتقدير، ومن ثمّ اختاروا حيواناً لينقلوا إليه هذا التبجيل، فكان الحيوان بمثابة الطوطم، فقاموا بتقديسه وتقديم القرابين له تعويضاً عن فعلتهم وقتلهم أباهم، فكبّلوا أنفسهم بقيود ومحظورات شاقة تسمّى بالطابو، جعلوها كفّارةً لما اقترفت أيديهم(1).

ويستعرض فرويد بعد توظيفه لمبادئ التحليل النفسي المذكورة آنفاً أربع اتجاهات مختلفة في موضوع منشأ نزوع الإنسان نحو الدين:

1/7/10. الاتجاه الفرويدي الأوّل:

وهو أنّ الخوف والجهل هما من العوامل الطبيعية لميول الناس نحو الدين. وقد برزت هذه النظرية في أوّل ظهور لها على يد الشاعر الروماني تيتوس (2) (99م) ضمن أحد أبياته؛ حيث شدّد على أنّ الخوف هو الشرارة الأولى التي خلقت الآلهة (3). ويقول مؤلف كتاب «أديان الإنسان» جون نوس مؤيّداً لهذه النظرية :

الدين هو الثمرة الأولى لجهود الفكر الإنساني الساعي إلى الحصول على قسط من الشعور بالأمن في هذا العالم(4).

وقد حاول فرويد أيضاً في كتابه مستقبل وهم أن يوظف مبادئ التحليل النفسي ليثبت من خلال ذلك أن الخوف من العوامل الطبيعية أدى بالإنسان إلى اختلاق سبب مشترك سُمّي بالإله، ثمّ اللجوء إليه والاحتماء به (5). ولا يخفى أنه أشار في

ص: 326


1- راجع الطوطم ،والمحرّم فرويد ص 270 [ من النسخة المترجمة إلى الفارسية].
2- تيتوس لوكريتيوس كاروس (حوالي 599 ق م فيلسوف وشاعر روماني عمله الشهير هو القصيدة الفلسفية الملحمية De rerum natura وتعني «على طبيعة الأشياء»، أو «على طبيعة الكون»؛ وهي عن معتقدات الإبيقورية [م]
3- راجع: مباهج الفلسفة، ويل ديورانت، ص 383 .[من النسخة المترجمة إلى الفارسية].
4- راجع: أديان الإنسان (Man's Religions)، جون بي نوس، ص 7 .[من النسخة المترجمة إلى الفارسية].
5- راجع: فلسفة الدين، جون هيك، مصدر سابق، ص 79.

هذا الكتاب إلى عوامل العجز والجهل والخوف باعتبارها منطلقات ومناشئ لظهور الدين، مستعرضاً بعض القراءات المتنوّعة عن ذلك. يقول في هذا الصدد:

على أي حال، فإنّ عجز الإنسان وإخفاقه أمام قوى الطبيعة العمياء، وفشله في حلّ أسرار الخلق وألغازه على طول التاريخ، أوجد سلسلة من الأوهام والمعتقدات والأفكار التي تتسم بالمحدودية وبالتهدئة والمطلوب من هذه المعتقدات وهذه السلسلة من الأفكار أن تقوم بدور الآلهة لترفع من مستوى تحمل الإنسان وتجلّده في عجزه وفشله أمام قوى الطبيعة، وقد اتخذت هذه الأوامر والقوانين وكأنها منزلة من السماء، وأسندت إلى الآلهة(1).

وقد شرح إريك فروم هذه النظرية قائلاً:

يرى فرويد أن الدين ينبع من عجز الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة في الخارج، والقوى الغريزية داخل نفسه. وينشأ الدين في مرحلة مبكرة من التطوّر الإنساني عندما لم يكن الإنسان يستطيع أن يستخدم عقله بعد في التصدّي لهذه القوى الخارجية والداخلية، ولا يجد مفرّاً من كبتها، أو التحايل عليها مستعيناً بقوى عاطفية أخرى. وهكذا، بدلاً من التعامل مع هذه القوى عن طريق العقل، يتعامل معها بعواطف مضادة، بقوى وجدانية أخرى تكون وظيفتها هي الكبت أو التحكم فيما يعجز عن التعامل معه عقلانياً ... فإذا تخلى الإنسان عن وهمه في إله أبوي، وإذا واجه وحدته وتفاهته في الكون، فسيكون أشبه بالطفل الذي ترك بيت أبيه. غير أن غاية التطوّر الإنساني أن يتغلب على هذا التثبيت الطفولي. وعلى الإنسان أن يعلّم نفسه لمواجهة الواقع، فإذا علم أنه لا يستطيع الاعتماد على شيء إلا على قواه الخاصة، فسيتعلّم كيف يستخدمها استخداماً صحيحاً. والإنسان الحرّ الذي حرّر نفسه من نير السلطة السلطة التي تهدّد وتحمي - هو وحده الذي يستطيع استخدام قوّة عقله، وإدراك

ص: 327


1- مستقبل ،وهم فرويد ص 180-181 [من النسخة المترجمة إلى الفارسية].

الكون ودوره فيه إدراكاً موضوعياً، دون وهم، وبقدرة على التطوّر، وعلى استخدام القدرات الكامنة فيه . ولن نجرؤ على التفكير تفكيراً مستقلاً إلا إذا ،نمونا، وكففنا عن أن نكون أطفالاً نعتمد على السطلة ،ونَهابها، والعكس صحيح، فلن نحرّر أنفسنا من قهر السلطة إلا إذا تجاسرنا على التفكير (1).

ومع هذا الشرح، يتضح أن فرويد يُلغي بكلامه أي ضرب من ضروب الارتباط بالله عَزَّ وَجَلَّ، ويذهب إلى اكتفاء الإنسان بقوّة التعقل التي يملكها في سدّ جميع احتياجاته ومتطلباته. وقد أشار في خضم حديثه عن منشأ ظهور الأديان وعامل الخوف إلى ثلاثة مصاديق للخوف؛ هي : الخوف من الله ، والخوف من قوى الطبيعة، والخوف من الموت. وقال في شرحه لرؤيته تلك:

لقد حوصر الفرد في المجتمع من قبل ثلاث قوى جلبت له الأذى والهلع؛ والقوى الثلاثة هي الحضارة بتنظيماتها ومؤسساتها، ثمّ ضغوط أفراد المجتمع والطبيعة على الإنسان، وما يصبّانه عليه من عذاب وهلع وفزع. أما ردود فعل الإنسان على القوّتين الأوليتين فتظهر في هيئة أحقاد وعداوات تتلاءم مع حالات الأذى والنَّصَب والتقيّد التي يعيشها(2) . أمّا الإنسان البدائي في مواجهته للقوّة الثالثة فقد بحث عن أسباب هذه الحوادث، وتعجّل في حكمه بأنها مسببة عن الأشباح والأرواح المنتشرة واللامرئيّة، ففتح على نفسه نافذةً إلى ما وراء الطبيعة؛ لينجو من الخوف والهلع (3).

وقد شدّد فرويد على أنّ جماح العوامل الطبيعية لم تُكبح ، وقد استمرت في مسيرتها الطبيعية، ومضت البراكين والزلازل والرعد والبرق والطوفان العارم في الظهور والحدوث غير آبهة بما يقدّم الإنسان بين يديها من صلوات وتبجيل وعبادة وأضاحي،

ص: 328


1- الدين والتحليل النفسي إريك فروم نقله إلى العربية فوائد كامل، ص 15-18 .
2- مستقبل ،وهم ،فرويد مصدر سابق، ص 166-167 .
3- المصدر السابق، ص 171.

لكن لا ينبغي أن نتناسى الدور الذي يلعبه العامل النفسي والروحي، وما يشعر به الإنسان جراء ذلك من سكينة وطمأنينة (1).

2/7/10. الاتجاه الفرويدي الثاني :

وهو أنّ الآلهة أو الأوامر الدینیّة تدخل على الخطّ من أجل مساعدة الحضارة والقانون في الحدّ من القيود التي تفرضها الحضارة ومحظوراتها، وذلك من خلال استخدام العامل النفسي، فتقوم بتعبيد الطريق لفرض تطبيق مبادئ الحضارة والقانون على الناس، وكذلك لدعمها وتنفيذها، وهي أمور لا ينصاع المجتمع ولا ينقاد لها بسهولة. ومن هذا المنطلق، تُصاغ لمقتضيات الحضارة وما يرتبط بها أسس ومناشئ إلهيّة بنحو تدريجي (2). وبناءً على ذلك، عمد الإنسان إلى صياغة قانون العقوبات الذي يعاقب على إزهاق الأرواح، والقتل الفردي والجماعي، ثم نسبه إلى ،الآلهة، وعده من ضمن الأوامر الدینیّة السماوية والمقدّسة (3). ويرى فرويد أنّ أساس الحضارة ونجاحها رهين بالانتظام الاجتماعي، وهذا الانتظام يستلزم الرقابة على الغرائز والأميال الفردية، وفرض طوق من القيود عليها؛ لأنّ هذه القيود هي التي تضمن تبلور الحضارة واستمراريتها، وهو ما يؤدي إلى اشتعال حالة الحقد والغضب عند الفئة المقيَّدة بذلك. ولهذا، لا يمكن للحضارة أن تحظى بدعم شعبي صادق (4). وهذا الأمر هو الذي يستدعي اللجوء إلى الإيمان والدين طمعاً في توظيفه لاستتباب الحضارة. وبناءً على ذلك، فإنّ الاتجاه الفرويدي الثاني يحصر الدين في دائرة الحفاظ

على استقرار الحضارة واستتباب أمرها .

ص: 329


1- المصدر نفسه.
2- مستقبل ،وهم ،فرويد مصدر سابق، ص 180.
3- المصدر السابق، ص 420 -421 .
4- المصدر السابق، ص 159.

3/7/10. الاتجاه الفرويدي الثالث:

وهو يتمثل في التركيز على قضية كبت الغريزة الجنسية ، والسعي في قمعها؛ حيث يرى فرويد أنّ الشهوة الجنسية أساس جميع الغرائز، بل هي عنده كل الغرائز في الإنسان. وحسب فرويد فإنّ الرغبة الجنسية التي أسماها ب- «الليبيدو»(1) هي الممثل عن القوّة التى تظهر بفعلها الغريزة الجنسيّة، وإنّ الاقتضاء الأوّلي لهذه الغريزة هو التحرّر من كلّ قيد أو حدّ أو ضابط ؛ في حين أنّ الاستلزامات الاجتماعية والأخلاقية والحقوقية في المجتمع تقمع هذه الحاجة، فتنكفئ الغريزة الجنسية إلى باطن الإنسان، وتنتقل الرغبة الجنسية من العقل الواعي إلى العقل الباطن. وبعد اجتماعها هناك، وعدم عثورها على منفذ تخرج منه ، تتبلور لها هيئة معينة . وبهذا، يُفسّر ظهور الشعراء والفنانين والأنبياء(2). وكتب فرويد في أحد مؤلفاته :

عندما يعجز المرؤ عن إشباع ميوله وغرائزه في الواقع الموضوعي، فإنّه يُباشر عملية التخيل، ليعقد بذلك عُلقة بين العالم الخارجي وعالمه الداخلي. وبنحو عام، فإنّ الفنّان يحاول أن يعرض ميوله المكبوتة بأسمى وأثمن أسلوب فني ممكن(3).

4/7/10. الاتجاه الفرويدي الرابع :

وهو ما يسمّى بعقدة «أوديب» ، أو : الميل إلى «الأم». وعقدة «إلكترا»، أو «الميل إلى الأب». وقد مرّ الحديث عنه آنفاً. لقد طبّق فرويد في كتاب الطوطم والمحظور منشأ الدين والمعتقدات الدینیّة على أنموذج الأسرة والعُقدة الأسرية، أو عقدة أوديب

ص: 330


1- الليبيدو (libido) مفردة لاتينية معناها: التلذذ استناداً إلى شهوة حسّيّة. والكلمة أصبحت مصطلحاً يستخدم غالباً في التحليل النفسي، ويشير إلى السلوك الممتع للوصول إلى إثارة الغرائز الطبيعية. أوّل من استخدم هذا المصطلح هو فرويد [م]
2- فرويد والفرويدية النسخة المترجمة إلى الفارسيّة فيلسيان سالاي، ترجمة: إسحاق وكيلي ص 29، 106، 150-148 فكر فرويد [النسخة المترجمة إلى الفارسية] إدغار بيش ترجمة غلام علي توسلي ص 86-90.
3- التحليل النفسي للجميع [النسخة المترجمة إلى الفارسية] فرويد، ص 86-90.

وإلكترا. وفي خضم آرائه حول الإيمان الديني الذي عدّه وهماً منبعثاً من قمع الحاجة الجنسية (1)، وأن أساس الدين قائم على الشعور بالخوف والهلع والحيرة من الحوادث الطبيعية، يُقدّم فرويد تعريفاً معيناً للوهم والخيلاء، ولا يتناسى أيضاً الدور الإيجابي الذي يضطلع به الدين على المستوى الفردي والاجتماعي، فيلتفت إلى الفوائد والآثار الفردية والاجتماعيّة المترتبة على الدين (2)

وقد كتب في شرحه للوهم قائلاً: «ليس من الضروري أن يكون الوهم أو الخيلاء أمراً خاطئاً مجانباً للصواب في حين أن الخطأ يعني على الدوام مجانبة الصواب»(3).

وبعد الوقوف على الاتجاهات الفرويديّة الأربعة في تفسير منشأ الدين تصل النوبة إلى تحليلها ومناقشتها على النحو التالي:

1 . من المستغرب جداً أن يبني فرويد أسس منهجه البحثي في التحليل النفسي - وهو يتبوأ مقعد رجل العلم - على حفنة من الأساطير التاريخية، والأقاصيص الملفّقة التي سطرها رهط من الأنثروبولوجيين الأسطوريين؛ فأقصوصة أوديب، أو عبادة الطوطم والمحظور، وما شاكل ذلك فاقدة لأيّ أصل أو ثيقة تاريخية . نعم؛ يَعُدّ فرويد كتابه المسمّى ب- «الطوطم والمحظور في إحدى تصريحاته إنجازاً عظيماً، ويقول عنه في موضع آخر: «لا تأخذوا على محمل الجد؛ إنّني ألفته ونسقته مساء سبتِ ماطر»(4).

والأمر الغريب الآخر في تنظير فرويد: كيف أمكن له أن يعمم ما اكتشفه في حال عدد من المرضى الذين كانوا يعانون من معضلاتٍ جنسيّة على جميع المرضى النفسيين،

ص: 331


1- فرويد [النسخة المترجمة إلى الفارسية]، أنطوني ستور ( Anthony Store)، ترجمة: حسن مرندي ص 122.
2- المصدر السابق، ص 123 .
3- مستقبل ،وهم ،فرويد مصدر سابق، ص 322 .
4- فرويد، أنطوني ستور، مصدر سابق، ص 119 حوار مع يونغ یونز ص 15 مدارس علم النفس ومناقشاتها مكتب التعاون بين الحوزة والجامعة، ج 1، ص 386 387 ترجمة نهج البلاغة وتفسيره، محمّد تقي جعفري، ج 6، ص 252-253 [المصادر جميعاً باللغة الفارسية ] .

بل وجميع مؤسسات المجتمع البشريّ قاطبةً؟! وقد كان صديقه الحميم جوزيف بروير(1) (1925م) يُشكل عليه بهذه المناقشة على الدوام(2).

هذا، علاوةً على ما اعتمده من العادات والتقاليد القَبَليّة وغيرها من بعض الفئات الاجتماعية التي اتخذت طابع الخرافة، أو تبلورت على أسس خرافية، واكتست حُلّة دينية؛ منها على سبيل المثال: الخوف من الجن والعفاريت، أو الخوف من الشيطان أو «أهريمن» كما يسمى في بلاد فارس القديمة، أو غيرها من الانحرافات الأخرى عند الإغريق.

ومن الواضح أنّ هذه الخرافات والأساطير لا يجوز لها أن تتمخض عن قاعدة عامة تُفسّر لنا ظهور جميع الأديان الحقة والباطلة.

2 .المناقشة الأخرى التي نسجّلها هنا أنّ الخوف ليس هو العامل الذي أفضى إلى اختلاق فكرة الإله؛ وإن جاز أن يكون داعياً حقيقياً للنزوع إليه. وقد أشرنا في بحثنا عن الآثار والفوائد المترتبة على الدين (3) إلى أنّ الإيمان بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وغيره من المعتقدات الدینیّة يتحلّى بتأثير تطميني يُهدّئ من روع النفوس، ويدعو الإنسان عند تعرضه لعوامل الخوف والهلع الطبيعية وغير الطبيعية إلى الاستعاذة بالقدرة الإلهية اللامتناهية، واللجوء إليها. يقول تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(4). وبتعبير آخر : ليس هناك في منطلقات الإيمان بالله ما يستلزم - من جهة العقد أو النقائص النفسية - إنكار الوجود الحقيقي له جَلَّ وَعَلا، ولا يجوز الخلط بين منشأ الدين ومنشأ التديّن، أو بين الدوافع والنتائج، أو الإيمان بوجود اتحاد أو تلازم بين صدق القضيّة المثبتة لوجود الله وكذبها من جهة، والصحة والسقم الأخلاقيين اللذين قد تتصف بهما عوامل الإيمان بتلك القضية من جهة أخرى(5).

ص: 332


1- Joseph Breuer. [م]
2- التحليل النفسي للجميع ، مصدر سابق، ص 270.
3- الكلام الجديد، عبدالحسین خسروبناه مقال: «الآثار والفوائد المترتبة على الدين».
4- سورة العنكبوت: 65 .
5- فلسفة الدين، جون هيك، مصدر سابق، ص 81-82 .

وحسب رؤيتنا، فإنّ فرويد فشل في الجمع بين فكرتين؛ الأولى: «شعور التعلّق بالقدرة اللامتناهية، وفهم الفقر الوجودي بصفته حقيقة فلسفية»، والثانية: «الجرأة على التفكير في القوى الفطرية، والمواهب المودعة في وجود الإنسان، ومحاولة تنميتها وتطويرها»؛ في حين أنهما ليستا على تنافر وتضاد، وهما قابلتان للاجتماع.

3 . كان فرويد يزعم أنّ الربّ القدير عاجز عن علاج الأوجاع وشفاء الأمراض، وهذا ما أسفر عن زعزعة التديّن عند الناس. ومناقشتنا له في هذا أوّلاً: أنّ دعوى تزعزع التدين عند الناس أمر يفتقر إلى دليل، بل الإحصائيات الدقيقة والتقارير المنشورة تدلّ على ارتفاع وتيرة التديّن واتّساع مطّرد في رقعته حول العالم(1). وثانياً : حرمان فرويد من الشعور بالكرامات الإلهية، والاحتكاك بمعاجز شفاء الأمراض المستعصية التي أكرم الله بها أولياءه المعصومين(علیهم السّلام) الذين جعلهم وسطاء فيضه ورحمته هو الذي أفضى إلى حكم عقيم كهذا. وثالثاً : أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى شاء أن يجري عالم الطبيعة ويُدار وفقاً لسنن ونواميس طبيعية.

4. فلفترض مجتمعاً يتحلّى بحرّيات لا تُعدّ ولا تُحصى، وأن أفراد هذا المجتمع لا يجدون ما يمنعهم أو يصدّهم عن إرضاء غرائزهم الشخصية وإشباع نزواتهم الجنسية، وأنهم يسمحون لأنفسهم بالتصرف في أي شيء يجلب انتباههم، ويثير رغبتهم، ولا يتردّدون في تصفية من يخالفهم؛ فهل يا تُرى يمكن لهذا المجتمع أن يداوي عِلله، ويحلّ معضلاته النفسيّة؟! وعندئذ، كيف يمكن لهذا المجتمع أن يُصلح حاله، وهل سيبلغ أفراده الحياة السعيدة الرغيدة الهانئة؟! الطريف في القضيّة أنّ فرويد بنفسه يزعم قائلاً: «إذا ارتفعت قيود التحضّر ، ومهد الطريق لبيئة حُرّة تُبيح إشباع الغرائز فلن يُتاح لأي فرد أن ينعم بالفوائد واللذات الناجمة عن ذلك إلا شخصاً واحداً؛وهو ذلك الفرد الأناني المستبد الذي أخذ بجميع مقاليد السلطة والقمع، واستأثر بكلّ ذلك لنفسه»(2) .

ص: 333


1- الثقافة والدين [النسخة المترجمة للفارسيّة] ميرتشا إلياده ،مقالة «الدين والدنيا».
2- مستقبل وهم فرويد، مصدر سابق، ص 160 .

5. تأثر فرويد بمصطلحي الأب الأرضيّ»، و«الأب السماوي» الرائجين في الديانة المسيحيّة، في حين أن عقيدة الربّ المماثل للإنسان وفكرة «الأب السماوي» ليست حاضرة في جميع الأديان وبالرغم من ذلك، فإنّ التبرير الذي يجوز في قضيّة الأب السماويّ هو أن يُقال : لما كان الأطفال غير قادرين على استيعاب فكرة الأب السماويّ، لجأوا إلى الأب الأرضيّ؛ لا أنّ الأب السماوي أمر اختلقته نزعات الأطفال نحو الأب الأرضي!

6 . لا نطعن في وجود بعض القرائن والشواهد التي تدلّ على وجود أنماط من عبادة الطوطم والحيوانات وتحريم قتل الحيوان الطوطمي، أو أكله في الماضي السحيق، أو في وقتنا الراهن، لكنّ اختلاق شيء من الربط والعلقة بين الطوطمية والأديان الحقة كما صنع فرويد ليس إلا مصداقاً بارزاً من مصاديق التمثيل (حسب التعبير المنطقي)، أو القياس مع الفارق (كما يُعبّر في العلوم الشرعية). وهذا التهافت خطأ منهجيّ واضح يُؤخَذ على فرويد الذي أدار ظهره لجميع البحوث الفلسفية والكلاميّة متهماً جميع الأديان بالخرافة والوهم الذي اصطنعه الإنسان! في حين أنّ خطر جرائم القتل وتحريم الزنا بالمحارم التي وصفها فرويد بأنها مبادئ اتفقت عليها الأديان والحضارات، وضمنها في استدلاله، إنّما هي أمور أفرزتها الفطرة والجبلة الإنسانيّة إلى جانب العقل الذي يتحلّى به بنو البشر .

7. من المزاعم الباطلة الأخرى التي أطلقها فرويد في دراساته حول الدين أنّ المعتقدات الدینیّة حفنة من القضايا التعبّديّة التقليدية التي يجب على الناس أن يؤمنوا بها، وأن يطئطئوا لها رؤوسهم من دون مناقشة أو سؤال (1)؛ وهذه الدعوى غير صائبة بخصوص الإسلام؛ فإنّ تعاليم هذا الدين تدعو المؤمنين دوماً إلى بناء معتقداتهم الدینیّة على أسس مبرهنة، وترغبهم في إيمان مُشيَّد على الدليل. نعم؛ لم يخطئ فرويد في مدّعاه إذا لاحظنا الكتب المقدّسة عند الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة؛ فهي تنطوي

ص: 334


1- الفطرة [النسخة الفارسية] مرتضى المطهري، ص 254 .

على آيات متضادّة ومتناقضة بنحو مذهل، وتروي أقوالاً أسطورية، لكن أين هذه من الدين الإسلامي الحنيف (1)؟!

8/10 .أضواء على نظرية الخوف :

ترتكز إحدى النظريات المتعلّقة بمنشأ الدين على الدعوى التي تزعم أنه ناشئ ومنبثق من الضعف والهوان والخوف الذي يعانيه الإنسان. وقد بشّر بهذه النظرية برتراند راسل (1970م) ذاهباً إلى أنّ الإيمان بالدين يسوقنا إلى مزيد من الجبن والتخاذل ! وحسب هذه الرؤية، فإنّ عدداً ضخماً من حديثي السنّ يفقد الإيمان بالقضايا الدینیّة في الفترات الزمنية التي تستولي فيها حالة اليأس(2).

ويرى راسل أننا إذا قارنا هؤلاء بالأفراد الذين لم يسبق لهم أن ترعرعوا في أجواء التهذيب الديني، لوجدنا أنّ عليهم مواجهة تعاسة متزايدة هي أشدّ بأساً من غيرهم (3).

ويضيف راسل أنّ أنصار العقيدة والراغبين في الإيمان يذهبون إلى التقليل من شأن بعض ألوان الخوف، ويميلون إلى حذفه من حساباتهم. ويقول معلقاً على ذلك: «وهم مخطئون - برأيي - في السماح لأنفسهم بالترحيب باعتقادات غير مريحة من أجل تجنّب حالة الخوف»(4). ثمّ يختم هذا المقطع بأنّ حياة الإنسان الذي يلجأ إلى التشبث بمعتقدات تؤمله وتناغيه ليست بالطريقة المثلى للحياة، وطالما أنّ الدين يلجأ إلى الخوف، فإنّه ينتقص من قيمة الإنسان ومكانته (5).

ص: 335


1- المصدر السابق، ص 263 .
2- التربية والنظام الاجتماعي راسل، نقله للعربية سمير عبده، ص 105. [م]
3- التربية والنظام الاجتماعي راسل، نقله للعربية سمير عبده، ص 105. [م]
4- المصدر نفسه بتصرف في الترجمة؛ نظراً للتشويش الكبير الذي يلفّها. [م]
5- المصدر نفسه. [م]

ويقول راسل في موضع آخر:

«أعتقد أنّ الإنسان الذي يعجز عن تحمّل صعاب الحياة بدون الإذعان بأساطير تسلّي خاطره هو كائن ضعيف ومعرّض للمخاطر. لا ريب في أنّ هذا الإنسان يعترف في قرارة نفسه بحقيقة مفادها أنّ ما أذعن به ليس أكثر من خرافة، أو أسطورة، وأنّ الدافع الوحيد الذي دعاه لهذا الإيمان هي الراحة والسكينة التي حصل عليها منه، لكنّه لا يجرؤ أبداً على الوقوف عند هذه الأفكار، أو مواجهتها. بل يمكن القول بأنه إنّما يتعصب ويتزمّت لأفكاره تلك، ويحاول الهروب من أي نقاش يدور حولها لمعرفته بأنها غير منطقية»(1).

يقول العلامة المطهري (1399ه) في معرض نقده لهذه الرؤية:

«يستخدم علماء أصول الفقه مصطلحي الحكومة والورود، فيقولون أنّ دليل كذا حاكم أو وارد على دليل كذا، ويقصدون بذلك أنه يحدث - أحياناً - أن دليلين اثنين لا يمكن أن يتعارضا؛ وذلك عندما يكون أحد الدليلين مشروطاً بشرط معيّن يزول بظهور الدليل الآخر. وبزوال الشرط يزول الدليل تلقائياً أيضاً، ولا يعني هذا المصطلح أن الدليلين متناقضان ومتحاربان.

لقد قال هؤلاء - منذ البداية - بفرضيّتهم على أن المنطق الواحد لا يمكن أن يكون ظهوراً لمنشأ فكر ديني فإذا لم يكن المنطق قادراً على ذلك، فلنبحث عن شيء غير المنطق. وبحثوا فعثروا على الخوف والجهل وأمثالهما، واعتبروها منشأ الدين. لا بد أن يقال لهؤلاء: إنّ فكر البشر وإن يكن باطلاً ومهما يكن تعلق البشر به، فإنه يرجع إلى منطقة ، لا إلى شيء ما وراء منطقة.

فالإنسان مثلاً ظلّ آلاف السنين يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض، وأن

ص: 336


1- المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة ، راسل. [م]

الأرض ثابتة، فهل نبحث عما دعا البشر إلى الاعتقاد بأن الأرض هي المركز، وأن الشمس والكواكب الأخرى تدور حول الأرض؟ هل كان السبب خوف الناس من الأموات أو مما يشبه ذلك؟ كلا؛ نقول كان الأمر فكرياً ومنطقياً ولا عامل آخر وراءه. حتى لو كان على خطأ. كان الإنسان يعني بما يرى، فبدا له أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وكان يحكم بما يرى. إن الدليل على ذلك هو الرؤية وتفكير الإنسان. ولا حاجة للبحث عن دليل من الخارج. إنه ليس مثل النحس الذي يلازم الرقم 13 كي نقول : إن في ذلك عاملاً خارجياً .

ينبغي أن نسأل هؤلاء: إن الآثار والدلائل الكثيرة التي تدل على أنّ الإنسان القديم قبل آلاف السنين كان متقدماً في الفن والصنعة وكانت له أفكار فلسفية رفيعة ودقيقة محيرة ألم يكن ذلك المقدار من التفكير هو الذي يقوده إلى الدين؟ أولم يكن الإنسان البدائي يرى انتظام الطبيعة؟ ألم يكن يغرس الأشجار؟ ألم يكن يرى البذرة كيف تخرج من تحت التراب فترتفع إلى الأعلى، وتمدّ جذورها، وتورق، وتثمر؟ ألم ير وجوده هو، وما فيه من أعضاء وتناسب وانتظام ؟ أو لم يكن كل هذا يثير في الإنسان البدائي الحيرة والتفكير في الله ؟ كيف يمكننا أن نغضّ الطرف عن هذا مع وجود البناء المنطقي والفكري عند الإنسان؛ لنبحث عن أسباب أخرى؛ كأن نقول مثلاً: انّ الخوف هو الذي أدى إلى أن يفكر الإنسان في الله، أو أنه الجهل، أو ما كان يشاهده في الأحلام من أرواح الموتى، وما استتبعه من نتائج أوصلته إلى ازدواجية الروح؟! لماذا يريدوننا أن ندخل من النافذة والباب مفتوح على مصراعيه؟ ما الذي يدعونا للتفكير في أسباب غير منطقية مع وجود التفكير المنطقي؟ إن مجرّد إدراك وجود الله يكفي الإنسان البدائي.

ثمّ إنّ التاريخ نفسه يدلّنا على أنه في أدوار ما قبل التاريخ كان هناك أشخاص مفكرون قادرون على تذكير الناس بالله . الخطوة الأولى هى أنه كلّما صادف الإنسان حدثاً أسرع يبحث عن العلة ،والسبب، فالإنسان البدائي - إذن - كان دائم البحث

ص: 337

عن العلل. أمّا الخطوة الثانية فإنها خطوة بسيطة لا تستوجب بالضرورة إنساناً من القرن العشرين ليخطوها ، فالإنسان البدائي كان أيضاً بإمكانه أن يدرك أن هناك علة لكل ظاهرة؛ فهل يمكن أن تكون للظواهر كلها علة واحدة؟ ظهر هذا السؤال أمام الإنسان في وقت مبكر جداً وهذا هو القول الذي يقوله القرآن الكريم. فالإنسان عندما يرى تغير الأشياء، وأنها تأتي وتروح بغير إرادتها، يشرع بالبحث عن عامل التغيير، وحينما يشرع في البحث عن عامل التغيير يتضح له أن جميع تلك العوامل هي نفسها مربوبة ومقهورة ومحكومة، فيكون من الطبيعي أن يخطر للإنسان فوراً هذا السؤال: هل هناك قوة تكون حاكمة فقط وغير محكومة؟»(1).

9/10 .أضواء على نظرية الفطرة:

النقطة الجوهرية الجديرة بالالتفات هنا أنّ جميع الرؤى المشار إليها آنفاً قد تورّطت في ارتكاب مغالطة الخلط بين المنطلقات والنتائج؛ فلو افترضنا أن الدافع والمنطلق الذي أدى ببعض الناس إلى الإيمان بالدين هو «الخوف»، أو «الجهل»، أو أي سب- آخر؛ فهل هذا يدل على سقم النتيجة؛ ألا وهي الإيمان بدين ما؟!

بعد الفراغ من تبيين الفرضيّات المختلفة في بحث نشأة الدين، واستعراض المناقشات الواردة عليها، يصل الدور الآن إلى تسليط بعض الضوء على النظرية القرآنية في هذا الصدد.

يقول العلامة المطهري (1399ه) في حديثه عن هذه النظرية:

إذا كانت نظرتنا إلى الدين تشمل ما يعرضه الأنبياء على الناس، فمنشأ الدين هنا يكون الوحي، ولكن هل لهذا الوحي الذي يقدّم لنا ما نطلق عليه اسم المعارف الدینیّة أو التربوية أو القانونية، وكذا الشرائع التي تضع أسس فكر الإنسان وعمله، هل لهذا الوحي جذور عميقة في داخل الإنسان؟

ص: 338


1- الفطرة ، مرتضى المطهري، نقله إلى العربية: جعفر صادق الخليلي ص 148-155 (بتصرف) . [م]

ربّ قائل يقول : إنّ الدين هو هذا الذي يرسله الله إلى الناس عن طريق ما يوحيه إلى رسله، وإنّ الإنسان ما كان ليعنى بالدين لولا ذلك، إذ إنّ الإنسان مثل الحائط أو الورق الأبيض، نسبةً إلى الخطوط التي ترسم عليه، ولا يهمها إن رسم عليها شيء أم لم ،يرسم، فكلاهما عند الورقة سيّان، وسواء رسمت عليها آية قرآنية أم نقيضها. وهكذا يمكن أن يقال: إن الإنسان من حيث طبيعته لا يبالي بالدين، إنما أرسل الله الرسل يعلمون الدين للإنسان، وإنّ الذي يقول هذا القول لا يكون منكراً للأديان.

وعلى الضفّة الأخرى، هناك نظرية مختلفة تقول : إنّ ما يعرضه الأنبياء لا يمكن أن تكون نظرة الإنسان إليه نظرة لامبالاة، بل هو مما يريده الإنسان ويبحث عنه بطبيعته، وفي أعماقه وفي هذه الحالة، يغدو عمل الأنبياء عمل المزارع الذي يرعى الزهور والنباتات والأشجار؛ أي إنّ في هذه الشجرة أو الزهرة استعداداً لشيء ما، أو رغبة في شيء معين. إنّ زرع نوى التمر أو المشمش لا يعني أن هذا النوى لا يبالي إن نبتت نخيلاً أو أشجار مشمش، وإن المزارع هو الذي عليه أن يجعل هذه النواة تنبت نخلة، وتلك تنبت شجرة مشمش، وبالعكس. كلا؛ ففي الإنسان فطرة، وإنّ ما أتى به الأنبياء كان استجابةً لنداء هذه الفطرة، وللرغبة الكامنة في أعماق الإنسان في الحقيقة إنّ ما يبحث عنه الإنسان بفطرته، ويسعى إليه، جاء به الأنبياء إليه»(1).

والمفردة «فطرة» مصدر نوعيّ على وزن فعلة»، يدلّ على نوع خلقة الإنسان؛ فإن خلق الإنسان قد حدث على نحو تعبّأ فيه باطنه وضميره بمجموعة من الرؤى والتمايلات بصورة إلهيّة غير اكتسابية ؛ فروح الإنسان ليست بصفحة بيضاء فارغة تملؤها التجارب تدريجياً؛ كما ذهب جون لوك (1704م) ، أو ديفيد هيوم (1776م)، بل إنّ بعضاً من أفكار الإنسان وتمايلاته حاضرة في أعماق بني البشر على نحو عام؛ وإن اختلفوا في ذلك من جهة الشدّة والضعف. كما أنها ليست اكتسابية. أما البعض

ص: 339


1- الفطرة ، مرتضى المطهري، نقله إلى العربية: جعفر صادق الخليلي ص 148-155 (بتصرف) . [م]

الآخر منها فهي الرؤى والمناهج والسلوكيات الاكتسابية؛ وإن كانت هذه المجالات أيضاً جزء لا يتجزأ من فطرة الإنسان وجبلّته.

وعلى أساس من ذلك، لا ينبغي أن نفسّر الفطرة الإنسانية بالأمور غير الاكتسابية وحسب، بل إنها تشمل شتى المجالات الأنطولوجية الإنسانية كذلك.

وقد صرّحت الأحاديث الشريفة المرويّة عن الأئمّة (علیهم السّلام) في ما يخص الفطرة بفطرة الحس، وفطرة الخيال، وفطرة العقل، أو فطرة الإذعان بولاية أمير المؤمنين (علیه السّلام) مع أن غالبية هذه الأمور اكتسابيّة.

وفيما يلي نشير إلى ما تناولته المعارف الإسلاميّة في بحث الفطرة:

ما من شكّ في أنّ الإسلام استعرض قضية الفطرة بنحو تفصيلي ومبسوط، ولا يوجد بين علماء المذاهب الإسلامیّة من الفريقين أي اختلاف في هذا الصدد.

ويمكن تنويع الآيات القرآنية التي تطرّقت لموضوع الفطرة إلى ما يلي:

*الطائفة الأولى: الآيات التي عدّت الرسالة النبوية «ذكرى»؛ مثل قوله تعالى: (إِنَّما أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَیطِرٍ)(1) .

*الطائفة الثانية : الآيات التي أشارت إلى موضوع العهد والميثاق؛ مثل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) (2).

*الطائفة الثالثة: الآيات التي أشارت إلى نزوع الإنسان إلى الله عَزَّ وَجَل عند تعرّضه للأخطار والمخاوف مثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )(3).

ص: 340


1- سورة الغاشية: 21-22 .
2- سورة يس: 60.
3- سورة العنكبوت: 65 .

*الطائفة الرابعة : الآيات التي أخبرت عن فطرية الدين بشكل صريح أكثر ؛ مثل قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيْمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (1).

*الطائفة الخامسة : الآيات التي عدّت هداية الناس أمراً فطرياً؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَهْمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ (2) .

*الطائفة السادسة : الآيات التي أشارت لعالم الذرّ والعهد الإلهيّ؛ مثل قوله :تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾(3).

وقد دلّت أحاديث شريفة عديدة على فطرية الدين؛ منها على سبيل المثال: الحديث الشهير المروي عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»(4) ، وقد روى هذا الحديث من العامة البخاري في صحيحه، ومن الخاصة الكليني في الكافي(5).

ص: 341


1- سورة الروم: 30 .
2- سورة الشمس: 7-8 .
3- سورة الأعراف: 172-173 .
4- صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب 80 وباب 93 .
5- الفطرة [النسخة الفارسية]، مرتضى المطهّري، ص 600-606؛ مفاهيم القرآن [النسخة الفارسية]: منشور جاويد جعفر السبحاني، ج 1؛ نفحات القرآن [النسخة الفارسيّة پیام ،قرآن مكارم الشيرازي، ج2.

11 .الإيمان الديني

1/11. تمهيد:

يُعدّ مفهوم «الإيمان»، ومفهوم «الأمل»، أو مفهوم «الحبّ»، ومثيلاتها من أكثر المقولات الإنسانية أصالة، وهي من المعاني التي تُضفي على حياة الإنسان حلاوة ورونقاً. موضوع «الإيمان» في جوهره يرتبط بمجال دراسة الدين ومجال توظيفه واستخداماته أو مقامه ومنزلته في الأدب والتعاليم الدینیّة غير خافٍ على أحد. وقد أدّت إلى انطلاقة البحث عن الإيمان) ودراسته بعض التطوّرات والتقلبات السياسية والاجتماعية بعد حرب صفين، لا سيّما من ناحية «الخوارج» - وهي فرقة اشترطت في الإيمان الطاعة العملية الله جلّ وعلا - ومن ناحية المرجئة» - وهي فرقة اقتصرت في الإيمان على معرفة الله سبحانه - فقد تسبّبت هذه الأحداث في إحداث استفهامات عديدة عن حقيقة «الإيمان»، وما يرتبط به طرحت على أئمة الدين، وقدمت لها ردود وإجابات(1).

والإيمان - لغةً - مصدر باب الإفعال من «الأمن»، يُقال : آمَنَ يُؤْمِنُ إِيمَاناً؛ وهو قد يعني: «التأمين»(2) (ضد التخويف)، أو «التصديق»(3) (ضد التكذيب).

ص: 342


1- راجع بحار الأنوار العلامة المجلسي ، ج ،66، باب 30 شرح المقاصد التفتازاني، ج 5، ص 183.
2- أي إعطاء الأمان، يقول ابن منظور : فأما آمنته (المتعدّي) فهو ضدّ أخفته. وفي التنزيل العزيز: آمنهم من خوف لاحظ لسان العرب 13 21 [م]
3- یُقال: آمنتُ بكذا، أي صدقتُ به. قال الخليل والايمان: التصديق نفسه، وقوله تعالى: (وَما أَنْتَ بُمُؤْمِنٍ لَنا بمصدق لنا. وقال ابن منظور: يُقال آمن به قوم وكذَّب به قوم لاحظ ترتيب العين 56 لسان العرب: 13: 21. فالمقرون بالباء أو اللام يأتي بمعنى: «التصديق»؛ كقوله سبحانه:« آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ ) سورة البقرة: 285، وقوله عزّ من قائل: (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) سورة يوسف: 17. [م]

والإيمان في القرآن الكريم بمعنى : فعل الإيمان، أو معناه المضموني، وقد يُستخدم في كلا المعنيين (1).

وقد أبدى المتكلمون والحكماء المسلمون في أبحاثهم آراء متنوّعة حول حقيقة «الإيمان)) ، وأركانه وشروطه؛ فهل الإيمان إقرار باللسان؟ أو تصديق بالقلب؟ أو هو العمل الصالح؟ أو مزيج من كلّ هذه الأمور؟

ذهب المتكلمون من الإمامية إلى أنّ الإيمان تصديق قلبي بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وبرسالته.

عليه فإنّ الإقرار اللساني والعمل الجوارحي ليس ركناً في الإيمان، ولا شرطاً فيه(2) .

وعلى الرغم من أن الشيخ المفيد (413ه) عرّف الإيمان بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح(3) ، لكن نصير الدين الطوسي (672ه) فسره تارةً بالتصديق القلبي، وتارةً بتفسير مركّب من التصديق القلبي والإقرار اللساني(4).

وقد استبعد الخوراج جميع العصاة من دائرة «المؤمنين»، وعدوهم في زمرة «الكفار»؛ ولهذا اشترطوا «العمل الصالح» كركن من أركان الإيمان(5).

ولم تختلف الأشاعرة - أكبر الفرق العقائدية عند أهل السنة - في الأعمّ الأغلب

ص: 343


1- لاحظ دائرة معارف التشيع (بالفارسية)، ج2 ، مدخل الإيمان»؛ مقال «الإيمان في الموروث الإسلامي»، لوي ،غاردییه ترجمه إلى الفارسية كامران فاني مجلة ،كيان العدد 52، ص 18 .
2- لاحظ: تصحيح الاعتقاد الشيخ المفيد الأعمال الكاملة، ج 5، ص 119 ؛الذخيرة في علم الكلام السيد المرتضى، ص 536؛ الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد الشيخ الطوسي، ص 227 .
3- قال سديد الدين الحمّصي: «وشيخنا السعيد المفيد رضي الله عنه، ذهب إلى أنّ الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح» المنقذ من التقليد، الحمصي، ج2، ص 163.
4- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلامة الحلّي؛ كشف الفوائد في شرح القواعد، العلامة الحلّي، ص 93.
5- الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي، ص 42 .(الترجمة الفارسية).

حول هذا الموضوع مع ما ذهبت إليه الإمامية، لكنّ أبا الحسن الأشعري (324ه) - مؤسس هذا المذهب - قدّم تفسيرين للإيمان أحدهما: التصديق القلبي، والآخر الإقرار القولي والعمليّ (1).

أما المرجئة فهي على طرف النقيض من الخوارج؛ فقد عدّوا العمل في مرتبة متأخرة عن الإيمان، وفسّروا الإيمان بالمعرفة (2) .

وكان أبو حنيفة (150ه) قد فسّر الإيمان بالمعرفة الإلهية والتصديق القلبي، والإقرار اللساني(3).

أمّا المعتزلة فقد شدّدت في نظرتها للإيمان على العمل الجوارحي إلى جانب التصديق القلبي (4).

وقد ورد في الحديث الشريف المروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) : «الإيمَانُ تَصدِيقٌ بِالجَنَانِ وَإقرَارُ بِاللَّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالأَركَانِ، وَهُوَ عَمَلٌ كُلُّهُ »(5).

وقد استدلّ نصير الدين الطوسي (672ه) في «تجريد الاعتقاد» على عدم كفاية التصديق القلبي من دون الإقرار اللساني بقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوَّا) (6)، وقوله: ﴿فَلَماً جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ )(7) ، كما استدلّ على أنّ الإقرار اللساني من دون التصديق القلبي غير كافٍ

ص: 344


1- مقالات الإسلاميين، عبد القاهر البغدادي، ص 297 الإبانة عن أصول الديانة الأشعري، ص 39؛ أصول الدين، عبد القاهر البغدادي، ص 250-280 .
2- الملل والنحل الشهرستاني، ج 1، ص 125.
3- شرح المقاصد التفتازاني، ج 5، ص 178.
4- شرح الأصول الخمسة، عبد الجبار المعتزلي ص 701689؛ ضحى الإسلام، أحمد أمين، ج 3، ص 64.
5- بحار الأنوار المجلسي، ج 66، ص 74.
6- سورة النمل: 14 .
7- سورة البقرة: 89.

أيضاً بقوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا)(1).

أما الكرامية فقد ذهبت إلى أن حقيقة الإيمان هي الإقرار اللساني بحقانية أصول الدين، ولا دخل للتصديق القلبيّ أو العمل الصالح فيه (2).

وقد ميّزت الاسماعيلية بين الإيمان الظاهري والباطني فاكتفت في الظاهري بالإقرار اللساني، وعدّت التجربة العقلية أو القلبية عنصراً ضرورياً في الإيمان الباطني والحقيقي(3).

ويرى العرفاء المسلمون أنّ الإيمان أمر اختياري؛ لأنّ الله جَلَّ وَعَلا أمر به، وأقام لذلك الحجّة التامة البالغة على خلقه، ويظهر من بعض التعابير أن الإيمان حقيقة قلبية، فلعل قوماً بلغوا في إيمانهم مراتب معرفيّة معيّنة، وأظهرت لهم المعجزات حقائق دينية عديدة، لكنّهم لا يعترفون بما أيقنت به قلوبهم ظلماً وعدواناً وحسداً من عند أنفسهم، فتبقى قلوبهم كدرةً مدلهمّة لا يسطع فيها نور الإيمان.

وقد قسّم العرفاء الإيمان إلى إيمان ،عملي، وإيمان عيني، وعدّوا الإيمان العيني من ثمار التجلّي الشهودي، كما أنهم عدّوا الإيمان والعقل رفيقين حميمين للسالكين على الطريقة، مذعنين بأنّ الإنسان الفاقد للإيمان بالشرائع لا يمكن له أن ينعتق ويتخلّص من العيش في الأوهام، والتخبّط في ظلماتها(4).

وعلى الضفّة الأخرى، ساهم الفلاسفة واللاهوتيون المسيحيون والغربيون في الإدلاء بآرائهم في البحث عن «الإيمان»؛ فعرّف توماس أكويناس (1274م) الإيمان بأنه «تصديق يعتنقه المؤمن بعد وقوفه على شواهد ناقصة على أساس من إرادته واختياره، وهو يتعلق بالأمور الغيبية.

ص: 345


1- سورة الحجرات: 14 .
2- دائرة معارف التشيع، مصدر سابق، مدخل «الإيمان».
3- مقال «الإيمان في الموروث الإسلامي»، مصدر سابق، ص 19.
4- انظر: شرح فصوص الحكم، الفص اللوطي، تاج الدين الخوارزمي ص 461، 464، 670 ، 723.

وقد أورد مفردة «الشواهد الناقصة» احترازاً من أن يظهر عنصر الإيمان بمظهر فاقد للدليل ومضاد للعقل. ولكنه لا يتجاوز مرتبة «العلم» ودرجة «اليقين»، ولا يتعلق بالمشهودات(1). واللافت للنظر هنا أن أكويناس - وبالرغم من رؤيته هذه عن الإيمان - يتوغل في سرده للأدلة والبراهين الخمسة لإثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وهي: البراهين الوجودية (2)، والكونية (3)، وبرهان إتقان الصنع (4)، والإجماع العام(5) ودرجات الكمال(6).

وعلى صعيد آخر، يُفسّر مؤسّس النهضة الإصلاحية للكنيسة مارتن لوثر (1546م) الإيمان ب-«الثقة بالله»(7). ويذهب شلايرماخر (1834م) إلى أنه شعور بالتعلّق والارتباط(8).

ویری بول تیلیخ(9) (1965م أنّ الإيمان هو : حالة الانشغال المطلق»، أو الاهتمام الأسمى(10) بالغاية القصوى مسنداً حيوية الإيمان ونضارته بحيوية هذا النمط مما أسماه بالانشغال المطلق، أو الاهتمام الأسمى(11).

وحول العلاقة بين الإيمان والتعقل ذهب كيركغارد (12) (1855م) إلى أنها ضدان

ص: 346


1- نظرية الإيمان في رحاب القرآن الكريم وعلم الكلام ص25 .
2- [م] . Ontological arguments
3- [م] . Cosmological arguments
4- [م] . from intelligent design :أو ، argument from design
5- [م] .Common consent arguments
6- [م] .Degrees of perfection arguments
7- نظرية الإيمان في رحاب القرآن الكريم وعلم الكلام، ص 28 .
8- المصدر السابق ص 30.
9- [م] . Paul Tillich
10- [م] . Ultimate Concern
11- حيوية الإيمان، بول تيليخ، ص 16 (النسخة المترجمة إلى الفارسية).
12- [م] .Soren Kierkegaard

بنحو تام، ورأى فيتغنشتاين (1951م) أنهما موضوعان أجنبيان عن بعضهما، ولا تربط بينهما رابطة، في حين أن أكويناس (1274م) قد أقر - من ذي قبل - بوجود الصلة بينهما .

وهنا، يمكن لنا أن نشير إلى وجود ثلاث نظريات غربية حيال «الإيمان)؛ هي :

*أوّلاً: النظرية التي انتهت إلى أنّ الله شيء اختلقه الإنسان، وأنّ الدين أمر عديم الفائدة؛ وهي رؤية الملحدين.

* ثانياً : النظرية التي آمنت باختلاق الإنسان للإله، لكنّها لم تذهب إلى عبثية الدين، بل أقرّت بفائدته ؛ وهي الرؤية التي تبنّاها اللاهوتي الأوروبي المعاصر دون كوبيت(1) (مواليد 1934م) الذي عرّف الإيمان وفقاً لرؤيته هذه بأنه التزام ابتكاري واختياري بالقيم الروحية، وبنمط معيّن في الحياة، وأن يتفطن إلى أنّ هذه الرؤية تحمل من العناصر ما يكفي لإبطال ذاتها، وهدم مرتكزاتها.

*ثالثاً: النظرية التي أذعنت بأنّ الله عَزَّ وَجَلَّ هو خالق الإنسان، وأن أعظم الواجبات الملقاة على عاتق هذا الإنسان هو حمد الله وتسبيحه؛ وهذا هو مذهب المتدينين الواقعيين(2).

2/11. الإيمان في القرآن الكريم :

استخدم القرآن الكريم مفردة «الإيمان» تارةً في ما يقابل «النفاق»، وتارةً أخرى في مقابل «الفسق»، ولا تعدّ الآيات القرآنية الإقرار اللساني والقولي المحض أمراً يعبر عن حقيقة الإيمان(3). ولا يصح حسب الاستعمالات القرآنية تفسير الإيمان بالعمل

ص: 347


1- [م] .Don Cupitt
2- مقالة عكس تيّار الإيمان اللاواقعي (النسخة المترجمة للفارسيّة)، ستيفين ديفيس، مجلّة كيان، العدد 52، ص 45.
3- ورد في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم يُمِؤْمِنِين ) سورة البقرة: 8، وقوله - تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) سورة العنكبوت: 3- 2

الصالح نظراً إلى عطفه على الإيمان، أو بالنظر إلى البشارة القرآنية للمؤمنين ومن يعمل عملاً صالحاً (1)؛ فإنّ تعريف الإيمان بالعمل الصالح سوف يستلزم التكرار غير المبرر في هذه الآيات المباركات .

ويُستفاد من آيات قرآنية عديدة أنّ حقيقة الإيمان أمر قلبي وليس بالقولي، أو الفعليّ (2) . وأنه نور يهدي به الله عباده (3)، وعطيّة إلهيّة تفضي إلى البركة، وتمنح الإنسان حالة من التضرع إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالى (4).

هذا، ويمكن عدّ بعض مواصفات الإيمان حسب الرؤية القرآنية على النحو التالي:

* أوّلاً: أنّ الإيمان أمر اختياري للأسباب التالية: أحدها: الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر(5). وثانيها : ذمّ الكفّار ووعيدهم بالعذاب الأخروي. وثالثها: نفي الإكراه في الدين والإيمان(6). ورابعها حسرة الكفّار (7).

*ثانياً : أنه قابل للمعرفة، وأن المعرفة شرط الإيمان(8).

* ثالثاً : أنه قابل لتعلّق اليقين به (9)، وذمّ اتخاذ الظنّ واتباعه (10). وقد شدّد المتكلّمون المسلمون في تفسيرهم للإيمان على كونه تصديقاً قلبياً، وأنه تصديق ويقين جازم(11).

ص: 348


1- راجع قوله تعالى في المواضع التالية سورة الإسراء: 9 البقرة: 25 ،62 ، النساء: 126 يونس: 9، القصص: 67، التغابن: 9 طه: 82 ؛ مریم :60 .
2- قال تعالى: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِّنْهُ﴾ سورة المجادلة: 22.
3- سورة الشورى: 52 .
4- سورة المائدة: 83 .
5- سورة البقرة: 41، 86، 186 .
6- سورة البقرة: 256 .
7- سورة الزمر: 55-56 .
8- سورة الروم: 29 .سورة الحجرات: 15 .
9- سورة سبأ :21 ؛ التوبة: 45 ؛ الحجرات: 15 .
10- سورة يونس : 36 سورة الأنعام: 116 .
11- لاحظ: حقائق الإيمان، زين الدين العاملي، ص 59-56 .

وبطبيعة الحال، فليس الأمر منحصراً باليقين المعرفي، بل بما يشمل اليقين التصديقي المقترن بالخضوع والإذعان القلبي(1).

*رابعاً: عدم ركنيّة «العمل» بالنسبة إلى الإيمان»، على الرغم من كونه لازماً وضرورياً(2).

وأمّا فيما يخص الفوائد والآثار المترتبة على الإيمان فالآيات القرآنية كثيرة في ذلك؛ منها - على سبيل المثال - ما يشير إلى الفلاح(3)، والتقوى(4) ، والاستقرار الروحي (5)، والبركات الدنيوية (6)، والعمل الصالح (7) ، والمعرفة الباطنية (8) ، والحبّ المتعاظم الله جَل وَعَلا (9)، والطمأنينة والتوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى (10)، والهداية القلبية(11)، وزوال الخوف والهلع والحزن (12) والثبات والصمود لدى المؤمن (13)، والأمن والسكينة(14).

وغيرها من الآيات والأحاديث العديدة الواردة في أنّ الإيمان له درجات ومراتب (15).

ص: 349


1- المصدر السابق ص 77-78 .
2- سورة النساء : 124 السجدة: 18-20، المجادلة: 22.
3- سورة الصف: 10-11 .
4- سورة التوبة: 10.
5- سورة يونس: 62-63 .
6- سورة الأعراف: 95 .
7- سورة الكهف: 11.
8- سورة الأنفال: 29 .
9- سورة البقرة: 165 .
10- سورة الأنفال: 2.
11- سورة التغابن: 11 .
12- سورة الجن: 13.
13- سورة إبراهيم: 27.
14- سورة الفتح: 4.
15- سورة آل عمران: 173 الأنفال :2 ؛ التوبة: 124 ؛ الأحزاب :22 ، الفتح: 4 المدثر: 31 .

وقد ورد في «أصول الكافي» ما يدل على أنّ الإيمان ينطوي على سبع درجات، أو سبع أسهم(1).

والسؤال المهمّ المطروح هنا : إذا ذهبنا إلى أنّ الإيمان تصديق قلبي، أو إقرار لسانيّ، أو أمر مركب منهما معاً ، فهل يمكن لنا أن نعترف بقابلية الإيمان للزيادة والنقصان؟ أم لا يمكن الحديث عن مراتب الإيمان إلا إذا فسرناه بما يجعله من جنس السلوك والعمل الصالح؟ ذهب بعض المؤلّفين إلى الاتجاه الثاني، رغم إمكانية القول بأنّ التصديق القلبي ذو مراتب(2). ومهما يكن من أمر، فإنّ جميع المتکلّمین أقروا بأنّ الإيمان قابل للزيادة والنقصان (3).

والأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هنا أنّ متعلّق الإيمان في القرآن الكريم يمكن له أن يكون أمراً حقاً، كما يمكن له أن يكون أمراً باطلاً . يقول تعالى :

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِل وَكَفَرُوا بالله أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)(4) .

وقد ذهب المتكلّمون في الأعم الأغلب إلى أنّ ما يسمّى ب«ضروريات الدين»، أو «أصول الدين الخمسة» - وهي: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد هي متعلّق الإيمان(5).

3/11 .العوامل والموانع في الإيمان الديني :
1/3/11 .عوامل الإيمان الديني:

يُعدّ البحث عن العوامل المؤدّية للإيمان الديني والموانع التي تعترض طريقه أهمّ الأبحاث الكلامية التي لم تحظَ بالاهتمام الواسع عند الباحثين. وفيما يلي، سنحاول تسليط بعض الضوء على هذا الموضوع.

ص: 350


1- روى الكليني عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ الْإِيمَانَ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُم؛ عَلَى الْبِرِّ وَالصِّدْقِ، والْيَقِينِ، والرِّضَا، والْوَفَاءِ والْعِلْمِ والحِلْمِ». الكافي، الكليني، ج 2، ص 42.
2- لاحظ: دائرة معارف التشيع، مصدر سابق.
3- لاحظ: حق اليقين السيّد عبدالله شبر، ص 546 .
4- سورة العنكبوت: 52 .
5- حق اليقين، مصدر سابق، ص 559.

عوامل الإيمان الديني:

يتحقق الإيمان الديني ويشتدّ وثاقه بفعل مجموعة من العوامل التي سنلمح فيما يلي إلى أبرزها:

1 . العوامل المؤثرة في تدعيم التدين الفطري: يشهد التاريخ البشري بفطرية التدين والإيمان الديني عند الإنسان، ولعلّ السبب الذي يقف وراء هذا الالتزام الديني المستمرّ وجود الشعور العبادي والنزوع نحو الدين باعتباره أحد ألوان الحواس الباطنية، إلى جانب مثيلاته الأخرى؛ كحب الاستطلاع وكشف الحقيقة، أو النزوع نحو الجمال، وما إلى ذلك. ومن أهم العوامل المؤثرة في تدعيم هذا اللون من التدين: «اليقظة»، أو قل : حالة «الذكر» ؛ أي: ما يقابل حالة «الذهول»، أو «الغفلة»؛ فإنّ الأحداث والوقائع الجارية في حياة الإنسان بما يشمل ما يواجهه من نعمة أو نقمة، ومن خير أو شرّ، ومن لذة أو ألم، ومن انتصارات أو إخفاقات، لها أهميتها البالغة عند أهل المعرفة؛ لما تحمله من إرشادات وتعاليم، فكم من ثري متمكّن أحفاه الدهر، وأجلسه على بساط الفقر، وكم من فقير مسكين اعتلا سلّم الثراء، وتربّع على عرشه بعد حين. وإنّ هذه الأحداث وعشرات الأمور الأخرى غيرها مثل المرض والهرم، والموت، وما شاكل ذلك، لكفيلة بقرع ناقوس الحذر والانتباه عند الإنسان، وإن عنصر اليقظة والذكر هذا هو من أبرز العوامل المؤثرة في تقوية الإيمان الديني وتدعيمه.

2 . المعرفة المبرهنة والمنطقية : يُسهم التديّن الناشئ من منطلقات فلسفية وعقلية في تقوية عُرى الإيمان الديني أيضاً؛ فما من شكٍّ في أنّ الإنسان الذي يمارس التعاطي مع أدلّة وبراهين عقليّة؛ مثل: برهان الوجوب والإمكان أو برهان الصدّيقين، أو برهان الوجود الفقري، وما شاكلها، يحصل - في نهاية المطاف - على ما يبتغيه من قناعة ويقين في سعيه لإثبات وجود الله، وعلى ما يوفّر له إيماناً دينياً قوياً متيناً.

ص: 351

3. العمل بالواجبات الشرعية والأخلاقية: رغم أن التطبيق العملي للواجبات والمندوبات الشرعية لا تدخل في نطاق حقيقة الإيمان وماهيته، لكنّها تؤدّي دوراً بالغ التأثير في تدعيم أسسه. وقد صرّح القرآن الكريم في آيات عديدة بدور العمل الصالح وتأثيره على الإيمان الديني. وقد أكّد أمير المؤمنين (علیه السّلام) في بعض كلماته على دور بعض الأعمال (مثل: التصدّق، أو الجهاد في سبيل الله في تحكيم عُرى الإيمان عند الإنسان. فقد روي عنه (علیه السّلام) أنه قال: «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْناءَنا وَإِخْوانَنا وَأَعْمامَنا، ما يَزيدُنا ذلِكَ إلا إيماناً وَتَسلياً»(1)، ورُوي عنه أيضاً أنه قال: «سُوسُوا إيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصَّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ»(2)، ورُوي عنه كذلك: «الإيمانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ : عَلَى الصَّبْرِ، وَالْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجِهَادِ» (3)، وروي عنه أيضاً: «سَبِيلٌ أَبْلَجُ المَنْهَاج، أنوَرُ السِّرَاج، فَبِالإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ، وَبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الإِيمَانِ» (4)، ورُوي عنه في نهج البلاغة أَيضاً: «وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - : لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْد حَتَّى يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ » (5)، وقال أيضاً: «وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبِرْ، فَإِنَّ الصَّبَرُ، مِنَ الإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ فِي جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ، وَلَا فِي إِيمَان لَا صَبْرَ مَعَهُ»(6).

4 . البيئة والثقافة الدینیّة الملائمة : يجب على المؤمنين أن يسعوا في بناء بيئة دينية ملائمة لأنفسهم وأهليهم، وأن يبتعدوا ما استطاعوا عن الثقافات العلمانية والمضادّة للدين، وعن الأصدقاء والندماء الفاقدين للإيمان؛ حذراً من الآثار السلبية المترتبة على ذلك.

ص: 352


1- نهج البلاغة الخطبة: 56 .
2- المصدر السابق، الكلمة: 146 .
3- المصدر السابق، الكلمة: 31 .
4- المصدر السابق، الخطبة: 156 .
5- المصدر السابق، الخطبة: 176 .
6- المصدر السابق، الكلمة: 83 .
2/3/11 .موانع الإيمان الديني:

تتسبب بعض العناصر والعوامل في قطع الطريق على الدين، وتتحوّل - في نهاية المطاف - إلى حجر عثرة أمام الإنسان في حركته نحو الإيمان والتدين، وهذا ما يدعوه لاجتنابها والاحتراز منها. من بين تلك الموانع : الشكّ المزاجي، والشك الاستدلالي أو الاستفهاميّ، وكذا النزوع إلى النسبية، والضعف أمام المعاصي والذنوب.

وعلى سبيل المثال : قد يؤدّي سلوك منافٍ للأخلاق يصدر من عالم ديني إلى حدوث شكّ مزاجي عند المتدينين، أو قد يُفضي التصادم والتعارض الظاهري المزعوم بين العلم والدين، أو البرهنة الشكليّة المزعومة على إنكار وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى حدوث شك استدلالي، وقد تنتهي بعض الأحداث المرّة والأليمة أو الويلات التي تجرّها الحوادث الطبيعية وما يستتبعها من شرور إلى الشكّ الاستفهامي عند الإنسان.

وللخروج من هذه الدوّامات والمستنقعات: يجب على المؤمنين - بادئ ذي بدء - أن يُميزوا بين الأدعياء المتدثرين بجلباب العلم الديني، وبين الحقيقة الدینیّة الناصعة، وألا يسمحوا لأنفسهم بالانجرار النفسي بسبب ذلك إلى هاوية الشكّ الديني، ويجب عليهم ثانياً أن يضعوا الأدلّة والبراهين الشكليّة المزعومة والأسئلة الدینیّة التي تؤرقهم بين يدي العلماء الصالحين والأستاذة المختصين الكفوئين في هذا الشأن؛ للعثور على إجابات شافية وردود سريعة وصحيحة، وألا يتركوا تلك الاستفهامات لتتحوّل بمرور الزمن إلى شبهات خطيرة، تزعزع تدينهم، وأسس إيمانهم.

هذا، وإنّ النزوع نحو النسبية يُشكّل ظاهرةً سيئة تهدد إيمان الكثيرين من الناس، وتجرّهم في كثير من الأحيان نحو الانحراف، وفقدان معتقداتهم.

ولعلّ المنطلق الذي تنبع منه هذه الحالة هو ما يجده الناس من اختلاف في وجهات النظر بين علماء الدين؛ كما حصل - على سبيل المثال - مع بروتاغوراس (420 ق.م) في اليونان القديمة؛ حيث أخذت به الاختلافات الواقعة بين علماء زمانه لاعتناق

ص: 353

مذهب النسبية في كلّ شيء، ولم يقصر المعاصرون من أنصار ما بعد الحداثة في امتطاء هذا الدليل، والترويج للنسبية؛ دون الالتفات إلى أن وجود نقاط مشتركة يتفق عليها العلماء - على مختلف مذاهبهم ومشاربهم وعلومهم - دليل واضح على وجود معيار علمي في البين لا يسعنا إنكاره. ناهيك عن أنّ اختلافهم إنما هو اختلاف ممنهج ،وعلمي وليس الحال بأن يختلف فرد غير مختص مع عالم مختص، فيكون كلام الأوّل مسموعاً .

وبناءً على ذلك، فإنّ علماء الدين يمارسون دورهم في الإدلاء بآرائهم سواء في نقاط الاختلاف أو الاشتراك بنحو منهجيّ وعلمي، فلا يجوز بعد ذلك أن يستنتج أحدهم النسبية من هذا بأي نحو من الأنحاء.

ومن بين الموانع والعقبات التي تعترض طريق الإيمان الديني أن يقع الإنسان في شباك الذنوب والمعاصي، فهي حجاب عملي يحول دونه ودون الإيمان الديني، وكم من مؤمن أوقع به تقاعسه عن أداء الواجب الشرعي، وتوغله في ارتكاب المعاصي إلى مستنقع الكفر والإلحاد، أو إلى بؤرة من بؤر الضلال والانحراف.

ص: 354

12. التعددية الدینیّة

1/12. تمهید:

يلحظ أي زائر أو رحالة يزور بلدان جنوب شرق آسیا، لا سيّما بلاد الهند أدياناً ومذاهب وطقوس عديدة ومتلوّنة تعايش في ربوعها المسلمون بمحاذاة البوذيين والمسيحيون بجوار البرهمائيين واليهود إلى جانب الهندوس. كما يلحظ أيضاً أن وفرة المعتقدات والطقوس تفوق عدد الألوان واللغات بشكل أكبر، فيتساءل شعوره الفطري الباحث مستفسراً عن بعض الأمور المرتبطة بذلك؛ ماذا عن حقانيتها أو بطلانها؟ أي منها ينتهي إلى السعادة، وأي منها إلى الشقاء؟ لأيّ منها الثواب، ولأيّ منها العقاب؟ وهل يمكن عدّ جميع تلك الأديان على باطل، والقول بأنّ جميع المؤمنين بها في نار جهنم؟

البحث عن «التعددية الدینیّة» يقع في هذا السياق. وبعبارة أخرى: بعد الفراغ من الحديث عن طبيعة الدين، وما يميّزه عن التجربة الدینیّة، واتضاح ذلك، وبعد أن انتهينا من بيان الضرورة العقلية لحاجة الإنسان إلى الدين وإثبات نظرية التوقعات المعتدلة من الدين، والمصير إلى أنّ الفطرة هي المنشأ والمنطلق في ميول الإنسان نحو الدين واستبانة حقيقة الإيمان والتديّن تصل النوبة في البحث إلى موضوع «تعدّد الأديان»، والتساؤل عن إمكانية القول بأنّ الأديان الموجودة في مجتمعاتنا حقةً بأسرها، وأن المؤمنين بها ناجون جميعاً، أو لا؟

ص: 355

2/12 .مناحي البحث في تعدّد الأديان :

يتمحور السؤال الأساسي فيما يخص تعدّد الأديان حول زاوية الرؤية التي يجب أن تُتخذ في البحث عن تكثر الأديان ووفرتها، وما هي النظرة التي يجب أن تسود بين أتباع هذه الأديان فيما بينهم؟ يمكن تبيين هذه الرؤية ضمن ثلاث زوايا رئيسية تدرس الجانب المعرفي والكلامي والحقوقي الأخلاقي:

1 . السؤال المعرفي (الإبستمولوجي): وهو استفهام يحوم حول حقانية الأديان الكثيرة، أو بطلانها في واقع الأمر، ويتولّى الإجابة على السؤال القائل: هل إن جميع الأديان الحاضرة في الساحة حقة ؟ أم أنّها تمثل مزيجاً من الحق والباطل؟ أم أنها باطلة برمتها؟ والبحث في هذا السؤال منصبّ على الصدق المنطقي والمعرفي، وهو ما يعني أنه ناظر إلى «التطابق مع الواقع»؛ لا الصدق الأخلاقي، فمن الطبيعي أن كل ذي دين یری أنّ دينه هو الحق، فكلّ الأديان عند أتباعها تتحلّى بالصدق الأخلاقي، كما أنّ المقصود من حقانية الأديان الإلهيّة في هذا البحث ليست الأديان في طول بعضها؛ فمن الواضح أنّ كلّ دين إلهي سماوي هو دين حق في زمنه، ولا شبهة في ذلك.

2 .السؤال الكلامي الأخروي : يتناول هذا الاستفهام المآل الأخروي الذي سوف يؤول إليه أمر أتباع الأديان المتعدّدة، والإجابة على السؤال القائل: هل إنّ جميع المؤمنين بهذه الأديان السماوية (الإلهية) والأرضيّة (البشرية) هم من أهل الفلاح والنجاة؟ أم من الممكن أن يكون بعضهم من أصحاب النار وعذاب جهنّم؟

3 . السؤال الحقوقي الأخلاقي: يتمحور هذا الاستفهام حول حقوق المؤمنين بالأديان، ويتناول نوعية السلوك الذي يجب على أتباع الأديان المتعددة أن يمارسوه نسبةً إلى بعضهم البعض، وهل هناك حقوق يتحلّى بها أتباع الأديان الأخرى يتوجّب عليهم مراعاتها، أم لا؟ وهل يتحتم عليهم أن يكونوا من أهل التسامح والتساهل مع الآخر، أم يجوز لهم أن يمارسوا العنف ضدّهم. وهل ينبغي الاعتراف بالآخر رسمياً، أم لا؟

ص: 356

ونذكر هنا بأنّ الأبحاث المرتبطة بمصطلح «التسامح»(1) وعلاقته ب«العنف»(2) تنتمي إلى السؤال الثالث، ولا يصح الخلط بين التسامح والتعددية الدینیّة كما صنع بعض الكتاب المعاصرين(3).

أما السؤالان السابقان المتعلّقان بالجانب المعرفي والأخروي، فينطويان على أربع إجابات مختلفة، والإجابات الأربع التي قدّمها فلاسفة الدين في هذا الصدد هي ما عُرفت ب: «التعدّديّة الدینیّة»(4) ، و«الانحصارية الدینیّة» (5)، و«الشمولية الدینیّة»(6)، و «الطبيعية الدینیّة»(7) .

ولأجل الإشارة إلى هذه الرؤى، وتمييز الجانب المعرفي عن الجانب الأخروي فيها، نميز بينهما بمصطلحي «الصدق»، و«النجاة»:

1 .مسلك الطبيعية الدینیّة: وهي رؤية تذهب إلى أنّ جميع الأديان والمعتقدات الدینیّة أمور باطلة وغير صحيحة. وقد شدّد أرباب هذه النزعة - مثل: فوير باخ، و ماركس، وفرويد، ودوركايم - على أن نظريات أهل الأديان حول الوجود الأسمى ليست إلا منتجاً صاغته يد الاسقاطات (8) المحضة التي يمارسها الإنسان.

2 مسلك الشمولية الدينيّة: وهي رؤية آمنت بحقانية دين واحد لكنّها حكمت بأنّ الأديان الأخرى لها حطّ من الحقانية بالقدر الذي تقترب به من الدين الحق.

ص: 357


1- [م] .Tolerance
2- [م] .Violence
3- لاحظ: الصراطات المستقيمة [النسخة الفارسية]، عبد الكريم سروش، ص 71.
4- Religion pluralism.
5- Religion exclusism.
6- Religion inclusivism.
7- Religion naturalism.
8- [م] .Projections

وبالتالي: فإنّ الأديان الأخرى لا تُحرم من النجاة بعد نزول الرحمة والبركة والمغفرة الإلهيّة عليها (1).

3 .مسلك التعدّديّة الدینیّة : وهي رؤية تنقسم إلى قسمين: أولاً: التعددية الدینیّة في الصدق؛ وهي تفتي بحقانية جميع الأديان الموجودة، وثانياً: التعددية الدینیّة في النجاة؛ وهي تحكم بأنّ جميع أتباع الأديان من أهل السعادة والنجاة.

4. مسلك الانحصارية الدینیّة: وهي رؤية تنقسم إلى القسمين المذكورين آنفاً؛ فالانحصارية في الصدق تعني أنها تُفتي بصدقيّة دين واحد له الحقانية الحصرية، وترى بطلان سائر الأديان الأخرى. أما الانحصارية في النجاة، فهي تحكم بسعادة أتباع الدين الحق ونجاتهم وحدهم؛ دون سائر المؤمنين بالأديان الأخرى، فهم - حسب هذه الرؤية - خارجون من دائرة الفلاح والنجاة.

وقد ربطت الانحصارية قضيّة النجاة والخلاص عند الإنسان بتقليد ديني خاص تنحصر فيه، وقد آمن أصحاب الاتجاه الانحصاري في رؤيتهم تجاه العقائد الدینیّة والأبحاث المرتبطة بالإيمان بأنّ النجاة منحصر في مذهب معيّن، وأنّ سائر الناس خارجه غير معنيين بذلك، وأنهم مستثنون من دائرة الفوز والفلاح. ولعلّ أبرز الخطابات حماسيّةً وأشدّها تأثيراً في الكشف عما يدور في أروقة الانحصارية هو المقولة التي عبّرت عن عقيدة كاثوليكية دوغماتية مفادها: «لا وجود للنجاة والفلاح خارج إطار الكنيسة». وإلى جانب ذلك، أطلقت الحركة التبشيرية البروتستانتية في القرن التاسع عشر مقولتها: «لا تُتصوّر أي نجاة خارج المسيحيّة»(2).

وتوضيح ذلك: أنّ الانحصارية ترتبط بمجالين؛ هما الصدق والنجاة. أمّا

ص: 358


1- Routledge, encyclopedia of philosophy, religious pluralism, genral editor: Edward Cralg, London and New York, 1998, Vol. 8.
2- مباحث التعدّدية الدینیّة [النسخة المترجمة للفارسية] جون هيك، ص 64-65.

الانحصارية في الصدق فهي الرؤية التي تذهب إلى أن تعاليم دين واحد فقط هي التعاليم الصادقة برمتها، وتعاليم جميع الأديان الأخرى غير صحيحة بنحو تام، هذا عند بروز أي لون من ألوان التعارض. وأمّا الانحصاريّة في النجاة فهي رؤية تذهب إلى أنّ ديناً واحداً هو الذي يعرض منهجاً مؤثراً في النجاة والخلاص(1).

وبعبارة أخرى: يرى الانحصاريون أنّ الفلاح والخلاص والكمال أو أي أمر يُعدّ هدفاً نهائيّاً ( غايةً) للدين لا يوجد إلا في دين معيّن ،واحد ، أو يمكن الحصول عليه من خلال دين معيّن واحد والدين الحق ينحصر في دين واحد، هو الدين الوحيد الذي يفتح آفاق الفلاح والخلاص أمامنا (2).

وبناءً على ما تقدّم فإنّ التعدّديّة الدینیّة لا تعني الاعتراف الرسمي بالأديان المتعدّدة (3)، بل هي قضيّة اجتماعية وحقوقية؛ فالتعددية الدینیّة أمر معرفي وكلامي، والتعدّديّة الدینیّة إلى جانب اتجاهين آخرين هما الشمولية والانحصارية ليست في معرض شرح الأسباب التي أدّت إلى كثرة الأديان وتعدّدها؛ لأنها عندئذ ستكون قضيّة أنطولوجيّة؛ بمعنى أنها ستتحدّت عن وجود التكثر والتعدّد في الأديان. وقد ظنّ بعض الكتاب المعاصرين أن بحث التعددية الدینیّة لا يصبو إلى تمييز الحق عن الباطل، ولا يدّعي حقانية جميع الأديان، وإنّما ينصب البحث على بيان الكثرة والتعدّد في الأديان؛ سواء كانت هذه الكثرة مشتملةً على حقائق، أو كانت مزيجاً من الحق والباطل(4). وهو تفسير غير تام للتعدّدية الدینیّة؛ فهي - كما نقلناها من لسان مؤسسها جون هيك (5) (2012م) - تدّعي حقانية جميع الأديان، وتسعى لإثبات الفلاح والنجاة الجميع أتباع الأديان بنحو عام.

ص: 359


1- Routledge, religious pluralism.
2- العقل والإيمان الديني، مايكل بطرسون وآخرون ص 402 [المصدر بالفارسية].
3- مقالة الصراطات المستقيمة (بالفارسية)، عبدالكريم سروش مجلّة كيان العدد 36، ص 9.
4- الصراطات المستقيمة، عبد الكريم ،سروش ص 72 91 [المصدر بالفارسية].
5- John Hick. [م]
3/12. حقيقة التعددية الدینیّة:

تمثل التعدّديّة الدينيّة أحد أبحاث فلسفة الدين والكلام الجديد، وهي - كغيرها من منتوجات المدارس الغربية - مفهوم مستورد من العالم الغربي.

ومصطلح «التعددية الدینیّة» - في لغته الأصلية (البلوراليزم) - مشتق من المفردة اللاتينية (plural) التي تعني الكثرة، وهو يدلّ على النزوع نحو الكثرة والتعدّد والزيادة الكمّيّة. والتعدّديّة الدینیّة بصفتها رؤية كلامية ومعرفية هي إجابة على استفهامات تخص الأسباب التي أدّت إلى التنوع والتكثر في الأديان والمذاهب المتعدّدة في عالمنا المعاصر. وإنّ كثرة الأديان وتنوّعها في وقتنا الراهن - بما يشمل الأديان الإلهية والبشرية، المحرّفة وغير المحرّفة - واقع لا يمكن إنكاره. وهي كثرة تتماثل مع الكثرة التي نجدها في اللغات والثقافات والأفكار والمذاقات في كونها غير قابلة للمحو والإزالة. ولهذا فإنّك لا تجد الأديان المتعددة في أي من الأزمنة الغابرة منزويةً بنحو كامل، بل كان كلّ منها يترك بصماته على الآخر حتى على مستوى الحياة الاجتماعية عند الإنسان.

ويشهد التاريخ أيضاً بوجوه شبه بين الأديان؛ حيث يتشابه أتباع الأديان المتعددة في طقوسهم ومناسكهم الدينيّة في العديد من معتقداتهم. وعلى الرغم من ذلك، فإن اختلافات مهمة تفصل بينها ؛ فالتوحيد عند المسلمين والثنوية عند الزرادشتية، والتثليث عند المسيحية، وتعاليم تعدد الآلهة عند الهندوس، ما هي إلا نماذج واضحة لمجموعة من الاختلافات والتمايزات القائمة بين هذه الأديان.

4/12 .خلفيات التعددية الدینیّة:

ما من شكّ في أنّ التنوع والتعدد في الأديان ليس بالأمر الجديد والحديث في المجتمعات البشرية، السؤال عن حقانية جميع الأديان أو بعضها كان مطروحاً على بساط البحث في الماضي أيضاً. والأمر المستحدث هنا هو محاولات فكرية قام بها

ص: 360

بعض فلاسفة الدين المعاصرين مثل : كانتويل سميث (1) (2000م)، وجون هيك (2012م) ، لإثبات حقانية الأديان المتعددة قاطبةً.

والمهم اللافت في الموضوع هو الانتباه إلى أنّ التعددية الدینیّة فكرة أولدها التاريخ المسيحي، تلك المسيحية التي يعجّ تاريخها بالثبات والصمود على موقف (الانحصاريّة» ! والسر الذي يكمن في اعتناق فكرة الانحصارية عند المسيحيين هو ما تعرّضت له المسيحية في أواخر عهد القديم من موجات التعذيب وهجمات الانتقاد، ناهيك عن التأثير الذي تركته الكلمات المنسوبة للسيد المسيح(علیه السّلام) التي توحي بمضامين داعمة لمزاعم الانحصاريّة؛ منها على سبيل المثال المقولة التي تنص على ما يلي: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الأب إلا بي»(2).

لقد ظهرت الانحصارية بصيغتها المتطرّفة في القرن الثالث الميلادي؛ حتى بات السواد الأعظم من أتباع الديانة المسيحية يؤمن بأنّ الخلاص والفلاح غير موجود خارج كنيستهم وقد أدّى هذا الفكر المتطرّف إلى اشتباكات وقعت بين المسيحيين الأوروبيين في القرون الوسطى من جهة، وأتباع الأديان غير التوحيدية وكذا اليهود والمسلمين - الذين كانوا يعيشون ذروة حضارتهم الإسلامیّة - في الجهة الأخرى. وقد أفضى هذا الفكر وما استتبعه من ممارسات إلى تضاؤل حجم التعاطي المتبادل بين المسيحيين والمسلمين واليهود وغيرهم.

وفي تلك الحقبة التاريخية لم يستفد من أمثال ابن ميمون (1204م)، أو ابن سينا (428ه) إلا شرذمة قليلون من مفكّري المسيحيين؛ مثل: توماس أكويناس (1274م).

وبعد أن استولى المسيحيون على السلطة في عصر التنوير الأوروبي، أو ما يسمّى

ص: 361


1- John Hick. [م]
2- إنجيل يوحنا 14: 6 .

بعصر النهضة، ساقتهم نزعاتهم الانحصارية المتطرفة إلى الميل نحو التمدّد الاستعماري، فانتشرت قوافل المبشرين المسيحيين في شتى أرجاء العالم، هادفين في الأساس إلى تغيير الأديان. وعلى الرغم من ذلك، اضطر بعض المسيحيين في القرن العشرين لنفض اليد عن الانحصارية، والنزوع إلى الشمولية أولاً، ثم التعددية من بعد ذلك.

وقد دخلت قضية التعدّديّة الدينيّة دائرة الضوء بصفتها إجابة على التساؤل عن حقانية الأديان المتعددة أو بطلانها، وذلك من خلال تناولها في الصحافة من قبل بعض التنويريين المسلمين المعاصرين، تبعاً لأسلافهم من روّاد التنوير في الغرب. وقد طرق هذا الباب في إيران لأوّل مرّة في العدد الأوّل الصادر من فصلية «حوزه و دانشگاه» في مقال لم يُذكر اسم كاتبه يحمل عنوان كتاب في مقالة؛ حيث حاول الكاتب في مقاله هذا أن يُعرّف بكتاب رئيس قسم الدراسات الدینیّة في جامعة ستريلنغ البروفسور غلين ريتشاردز الموسوم ب- «نحو لاهوت ناظر إلى جميع الأديان»، ثم قامت مجلة «كيان» في عددها رقم 28 بنشر ندوة دافعت عن التعدد الدینیّة.

وقد قام كاتب هذه السطور بكتابة مقال يناقش تلك المقالة، وما تضمنته الندوة المشار إليها ، نُشر في فصلية «حوزه و دانشگاه» تحت عنوان «التعددية الدینیّة في رؤية خارجة عن النطاق الديني» .

وقد أدّى نشر مقالة «الصراطات المستقيمة» لكاتبها عبدالكريم سروش (مواليد 1945م) في العدد رقم 36 من مجلة «كيان» إلى لفت أنظار المهتمّين والقرّاء بنحو أكبر إلى هذه القضية، مما أدى إلى تبلور معسكرين مختلفين حيالها؛ أحدهما يوالي، والآخر يعارضها . ثم توالت بعد ذلك المقالات والمؤلفات الموافقة والمخالفة لها .

ص: 362

5/12. أدلّة التعددية الدینیّة:
1/5/12. أساس حوار الأديان:

تمسّك أنصار التعدّديّة الدينيّة في إثبات مزاعمهم بأدلة دينية داخلية، وأخرى خارجة عن الأطر الدینیّة وسنحاول هنا أن نستعرض الأدلة، ثم نحلّلها ونقيمها. وإليك فيما يلي مجموعة من الأدلة والأسس التي ابتنت عليها فكرة التعددية الدینیّة في مجالي الصدق والنجاة :

أساس حوار الأديان:

تشبّث البعض من أنصار التعدّديّة الدینیّة في استدلالهم على مزاعمهم بضرورة إيجاد حوار مفتوح بين الأديان؛ فالمجتمع البشري يزخر بعدد كبير من الأديان والمذاهب المتنوعة التي يجب أن تعيش مع بعضها بأمن وسلام، ولا يمكن الوصول إلى هذا المبتغى من دون حوار بين الأديان، شرطه انشراح الصدر ورحابته؛ لمزيد من التناغم والانسجام؛ بما يُفضي إلى رفض الانحصارية ومدّعياتها.

والحق أننا لا نشكّ في وجود ضرورة اجتماعيّة معاصرة مفادها حوار بين الأديان، تسوده رحابة الصدر ، وروح التناغم والانسجام، لكنّ هذا لا يدلّ على التعدّديّة الدینیّة، ولا حقانية جميع الأديان الموجودة على الساحة برمتها، ولا يؤدّي إلى إبطال الانحصاريّة الدینیّة أو إلى إثبات الإلهية العالمية؛ لأنّ هذا لو تم لانتقض أساس الحوار الديني، ولأصبح أمراً عبثياً(1).

2/5/12 أساس التمييز بين النومن والفنومن :

أساس التمييز بين النومن(2) والفنومن (3) :

يبتني أحد الأسس المعرفية للتعدّديّة الدینیّة على مرتكز مستورد من فلسفة

ص: 363


1- للاستزادة: الكلام الجديد عبدالحسین خسروبناه، ص 170-174 .[بالفارسية ]
2- [م] . Noumen
3- Phenomenon. [م]

كانط (1804م) ، ومفاده : التمييز بين النومن الواقع في نفسه)، والفنومن (الواقع الظاهر). وهو مرتكز ينتهي بمن يتبنّاه في نهاية المطاف إلى السقوط في أحضان الشكاكية والنسبية؛ فهو يقرّ بمبدأ وجود «الواقع في نفسه» رافضاً لوجد أي معيار، فيضع التعددية الدینیّة ونظرية المعرفة الكانطية في بوتقة الشكاكية، فلا يبقى عندئذٍ ما يميز بين الكفر والإيمان، أو الدين واللادينية، أو الإلحاد والتدين.

وعلى أساس من هذه الرؤية فإنّ التعددية الدینیّة والانحصارية والشمولية ليست إلا ثلاث ظهورات وتجليات لواقع واحد؛ فلا معنى للإصرار على حقانية التعدّديّة الدینیّة بعد ذلك !

أما التمثيل الذي ورد على لسان جلال الدين الرومي (672ه) المتعلّق بقصة الفيل في الغرفة المظلمة فهو لا يُسمن ولا يغني من جوع، كما أنه أجنبي عن بحث التعدّديّة الدینیّة من الأساس. لقد ذكر الشاعر في قصيدته قصة رهط من الناس اجتمعوا في الظلام الدامس حول فيل، فظنّ الذي لمس قدم الفيل أنه أمام عمود ضخم، وزعم الذي اقترب من الخرطوم أنه بجانب ميزاب تجري فيه المياه، وذهب الآخرون إلى مذاهب أخرى لا صلة لها بالفيل، فأطلق القوم تفسيرات متعددة ومتنوعة عن واقع واحد. وقد حاول جون هيك (2012م) أن يستفيد من هذه القصة لإثبات صحة التعدّديّة الدينيّة؛ في حين أنّ هذا التمثيل لا ارتباط له بحقانية الأديان؛ لأن التعدّديّة الدينيّة تدل على حقّانيّة جميع الأديان، وتطابقها مع الواقع، في حين أن هؤلاء القوم لم يبلغوا واقع الفيل كما هو ؛ بل ذهب الجميع إلى خلاف ذلك!

3/5/12. أساس الهرمنيوطيقيا الفلسفية :

أساس الهرمنيوطيقيا (1) الفلسفية :

يعتمد أحد الاستدلالات التي لجأ إليها أنصار التعددية الدینیّة على نظرية الهرمنيوطيقيا الفلسفية، وما يكتنف النصوص الدینیّة من حالة صامتة، علاوةً على

ص: 364


1- [م] .Hermeneutics

ما تتركه الافتراضات المسبقة والتوقعات التي يحملها المفسّر تجاه النصوص الدینیّة من آثار .

وهنا نقول: حتى وإن آمنا بأنّ هذا الاستدلال يجدي نفعاً في بيان تعدّد الفهم والتفاسير والتجارب الدینیّة، فإنّه غير كافٍ لإثبات حقانية هذا التعدد، وما تدعو إليه فكرة التعدّديّة الدینیّة، ناهيك عما تعانيه الهرمنيوطيقيا الفلسفية عند غادامر من إشكاليات ألسنية عديدة في موضوع تعدد التفاسير؛ فليس كل نص يعاني من الغموض حتى يتطلّب منا تفسيراً، أو إقحاماً لافتراضات مسبقة! بل المطلوب من المفسّر أن يبتعد عن لي عنق النص لكي يتناسب مع افتراضاته، وأن يكتفي في محاولاته البلوغ المعنى بمعلوماته المسبقة؛ سواء كانت معلومات استخراجية، أو استفهامية.

ولا يخفى أنّ انطواء القرآن الكريم على بطون» ومعانٍ توصف بأنها باطنية لا يدلّ - بأي نحو من الأنحاء - على نظرية القبض والبسط في المعرفة الدینیّة»، ولا على التعددية الدینیّة، بل إنّ الكتاب والسنة لا يتفقان مع فرضية «صمت النصوص الدینیّة»، ويصرّحان بأنّ القرآن الكريم تبيان لكلّ شيء»، ويصفانه ب- «المبين»، وما شاكل ذلك من الصفات(1).

4/5/12. أساس تكافؤ الأدلّة:

استدلّ بعض أنصار التعددية الدینیّة لإثبات حقانية جميع الأديان بما يسمّى ب«تكافؤ الأدلّة»؛ أي: تساوي أدلة القضيّتين المتعارضتين. والردّ على ذلك:

.1 أنّ تكافؤ الأدلّة لا يحصل إلا بعد نظرة معرفية من الدرجة الثانية؛ في حين أنّ حقانية الأديان أو بطلانها هي معرفة من الدرجة الأولى، وهي أمر يجب حسمه بمنهج فلسفي.

ص: 365


1- للاستزادة : أسس المعرفة الدینیّة، محمد حسین زاده ص 159-172 . [ بالفارسية ]

2 . لا يمكن الوصول إلى حقانية أمر ما أو إلى بطلانه من خلال تكافؤ الأدلة، بل الذي يمكن أن يُصار إليه من ذلك هو الطعن في الطرفين معاً.

3 . لا تجوز دعوى تكافؤ الأدلّة من خلال نظرية معرفية من الدرجة الثانية؛ فإنّ غاية ما يصل إليه صاحب هذه النظرة عند البتّ في حقانية الأديان أو بطلانها هو التوقف. هذا ناهيك عن أنّ الاستدلال من خلال تكافؤ الأدلّة يستلزم اجتماع النقيضين.

5/5/12. الأساس الديني الداخلي:

تمسّك أتباع التعدّديّة الدینیّة لإثبات مدعياتهم بأدلة دينية داخلية، فذكروا - على سبيل المثال - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (1)، فاستنتجوا من هذه الآية الشريفة التعدّدية الدینیّة؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى اشترك في فلاح الإنسان ونجاته من العذاب الأخروي، وتنعمه بالأجر والثواب أموراً ثلاثة هي: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. وبناءً على ذك فإن المسلمين واليهود والنصارى والصابئين إذا توافروا على هذه الشروط فقد حازوا الخلاص. وبالتالي: فإنّ اتباع دين معيّن بعينه ليس هو الشرط الذي يؤكّد عليه القرآن الكريم، بل هو يعلّمنا أنّ جميع الأديان سواء في سيرها إلى إسعاد الإنسان، وسوقه نحو الفلاح والنجاة!

استدلّ بهذا الدليل - لأوّل مرّة - بعض المستشرقين، واستبشر به المتغربون. ولكنّه يعاني من خلل توضحه المناقشات التالية:

1 . لا تدلّ هذه الآية على التعددية الدینیّة التي تعني حقانية جميع الأديان وتطابقها

ص: 366


1- سورة البقرة : 62 .

مع الواقع، بل تنحصر دلالتها في الحكم على المؤمنين بالله، وباليوم الآخر، والعاملين صالحاً بأنهم من أهل الفوز والنجاة. وعليه كيف يمكن أن تستنبط منها التعددية الدینیّة في الصدق والحقانية؟

2. لا يدلّ مفاد الآية الكريمة أنّ مجرّد انتماء الإنسان إلى الإسلام أو اليهودية أو النصرانية أو دين الصابئة يُفضي إلى الفلاح والنجاة، بل صرحت بأنّ شرط النجاة هو الإيمان الحقيقي والعمل الصالح . وبطبيعة الحال، فإنّ العمل الصالح لا يتحقق من دون معرفة واتباع الشريعة الحقة. وبالطبع، فإنّ المؤمنين بالشرائع المحرّفة إذا تخلّفوا عن اتباع الشريعة الحقة، لكنّ تخلّفهم هذا لم يكن عن عناد وعدوان، بل نشأ من الجهل والغفلة، فإنّ أعمالهم الصالحة تُجزى عند الله عَزَّ وَجَلَّ بالخير. وبعبارة أخرى: سوف يؤثر الحسن الفاعلي إيجابياً في نجاة جهلة المؤمنين الذين لم يعملوا عملاً صالحاً.

3. الإيمان بالله يستلزم إيماناً بما تضمنه الوحي الإلهي، فلايمكن للمؤمنين بالأديان المتعدّدة أن يفوزوا بالسعادة والفلاح من دون أن يؤمنوا بمضامين الوحي الإلهي، وهذا يعني ضرورة إيمانهم بالإسلام، وأن يسلموا وجهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيؤمنوا في عصر إبراهيم (علیه السّلام) بشريعة إبراهيم، وفي عصر نوح (علیه السّلام) بشريعة نوح، وفي عصر موسی بشريعة موسى، وفي عصر عيسى بشريعة عيسى، وفي عصر النبي الخاتم محمّد (علیه السّلام) بشريعته الخاتمة. وعليه فإنّ الإنسان لن ينال الفلاح من دون إيمانه بالوحي الإلهي. وبناءً على ذلك، فإنّ مفاد هذه الآية الكريمة هو أن الانتماء الديني إلى الإسلام أو اليهودية أو النصرانية - أو قل: التدين بالهوية - لا يكفي لبلوغ مرتبة الفلاح والسعادة، بل يلزم لذلك الوصول إلى إيمان واقعي بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ، وباليوم الآخر، وإلى عمل صالح، أو قل إلى الإيمان بما أنزل الله جَلّ وَعَلا . ولهذا، نجد أنّ إبليس رغم اعترافه وإيمانه بوجود الله وباليوم الآخر ، ورغم ذلك الكم الهائل من العمل الصالح - الذي تمثل بعبادة استمرت آلاف السنين - قد خرج عن الرحمة الإلهية؛ لمخالفته أمراً من أوامر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

ص: 367

4 . لو ادّعى أحدهم أنّ ظاهر هذه الآية يدلّنا على أنّ الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ وباليوم الآخر ، مضافاً إلى العمل الصالح كافٍ في إيصال الإنسان إلى الفلاح والسعادة، ولا أثر للإيمان بما أنزل الله في ذلك. نقول : يتعارض هذا الفهم مع آيات قرآنية أخرى صُرّح فيها بكفر أصحاب العقائد الباطلة من أهل الكتاب، وبيّن فيها أنهم معذبون. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَه إِلا إِلَهُ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1) .

5. العمل الصالح شرط ثالث للفلاح والسعادة، وتحققه من دون فهم يقيني وشريعة سماوية حقة غير ممكن ؛ فإذا أراد المرؤ أن يُسجّل لنفسه عملاً صالحاً، لا بدّ له من أن يتمسّك بشريعة إلهيّة حقة غير محرّفة .

6/12 .معايير التقييم عند جون هيك:

تشبّث جون هيك (2012م) للخلاص من شراك النسبية بمعايير أخلاقية وتجريبية وبراغماتية وما سُمّي بالانسجام الداخليّ. ورغم أنه بعد تناوله لهذه المعايير يستنتج - في نهاية المطاف - أن تقييم الموروث الديني الضخم في هذا العالم أمر غير ممكن ، لكنّه على أي حال يأتي على ذكرها.

وهنا نقول: إضافةً إلى أنّ هذه المعايير لا تنسجم مع المتبنيات المعرفية التي يؤمن بها جون هيك فإنّ التمييز بين النومن والفنومن، وكذا ما ذكر من الانسجام الداخلي أو البراغماتية أو غيرها من المعايير الأخلاقية والتجربة الدینیّة لا يمكن لها أن تكون معياراً صائباً للكشف عن وجه المعرفة الحقيقية وتمييزها عن المعرفة الزائفة؛ فالانسجام الداخلي يتلاءم أيضاً مع المنظومة الكاذبة المنسجمة، والنفع العمليّ لا يدلّ على حقانيّة المدعى أو بطلانه؛ لأنه أعمّ منه، وتوضيح ذلك: أن الانسجام إذا صح كونه معياراً للصدق، فهذا يعني أن منظومتين منسجمتين فيما

ص: 368


1- سورة المائدة: 73 .

بينها يجب أن تكونا صادقتين؛ وإن لم تكونا منسجمتين داخلياً؛ في حين أنّ هذا الفرضيّة تؤدّي إلى اجتماع النقيضين.

ومن جهة أخرى، فإنّ النزعة النفعية البراغماتية لا يمكن لها أن تصدر حكماً بحقانية الأديان المختلفة؛ لأنّ الأديان وغيرها من المدراس البشرية كلها مفيدة نافعة، ولهذا فهي جميعاً حقة! بغض النظر عن كونها ديناً ، أو مدرسة فكرية بشرية؛ وهي نتيجة لا يرتضيها جون هيك (2012م).

وأما المعايير الأخلاقية فهي حاضرة أيضاً في بعض الشخصيات التي تنتمي إلى مدارس فكرية باطلة ومنحرفة .

وفي كلمة واحدة نقول : كان من المفترض بجون هيك (2012م) أن يقوم - بدايةً بمراجعة نظامه المعرفي، وأن ينال فهم الحقيقة من خلال سلوك المنهج البنيوي، والارتكاز على الأمور البديهية للكشف عن الأمور النظريّة.

7/12 .تحليل التعدّدية الدینیّة:

يمكن تقييم التعدّدية الدینیّة من زاويتين؛ هما :

1. من خلال المضمون الذي تنطوي عليه هذه النظرية؛ لنعرف هل إنّ مزاعم التعددية الدینیّة صائبة أم خاطئة، بغضّ النظر عما عرضته من أدلّة؟

2. هل إنّ الأدلّة التي أقامها أرباب هذه النظرية لإثبات مدعياتهم تامة أم غير تامة ؟

وحسب رؤيتنا فإنّ مزاعم التعدّديّة الدینیّة - مع غضّ الطرف عن أدلتها التي ساقتها، وأسسها التي ابتنت عليها - غير معقولة، وهي تستلزم التناقض؛ لأنّ الأديان إذا كانت جميعها حقة ومطابقة للواقع، فهذا يعني أن نظرية التناسخ والمعاد في موضوع

ص: 369

«الحياة بعد الموت» ، وكذلك التوحيد والثنوية والتثليث في باب «الإلهيات» يجب أن تكون صحيحة برمتها ! وهذا ما يستلزم اجتماع النقيضين، واجتماع النقيضين باطل؛ فلا يصح إذن أن تكون جميع الأديان حقة.

إن قلت: كل من هذه الأديان حق عند المؤمنين به؛ فلا يجري التناقض.

قلنا : إنّ الحقانية التي تثبت في هذه الحالة هي ما قد يُعبّر عنها بالحقانية الأخلاقية، أو الحقانيّة الثابتة للأشخاص، وهذا يعني : تطابق القضية مع المعتقد الشخصي؛ وليس مع الواقع. وهذا لا علاقة له بالحقانية الواقعية المعبّر عنها ب- «نفس الأمرية»، وهذا هو ما يدعيه جون هيك (2012م) وأنصار التعددية الدینیّة.

وبناءً على ما تقدّم، فإننا إذا لاحظنا بطلان أساس المدّعى الذي تنادي به التعدّديّة الدینیّة، فلا يبقى بعد ذلك مجال للقبول بأي دليل يُقام لصالحها في مقام الإثبات. ومع ذلك، فإنّ مراجعة الأدلة والأسس التي تقوم عليها التعددية الدینیّة يُظهر لنا أنّ هذه النظرية عاجزة عن إثبات ما زعمته من حقانية جميع جميع الأديان.

وعلاوةً على الدليل العقلي، من الممكن أن يُستدلّ أيضاً بالدليل النقلي لإبطال التعدّديّة الدینیّة، ومنه: آيات قرآنية عديدة، وأحاديث شريفة كثيرة رفضت التعدّديّة الدینیّة بدلالاتها الالتزامية منها على سبيل المثال: الآيات 137 من سورة البقرة، و 8 و 19-22 من سورة آل عمران والآية 65 من سورة المائدة؛ حيث أكّدت على ، ضرورة الإيمان بنبوّة الرسول الخاتم محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في عصر الخاتمية

وفيما يلي نشير إلى الأدلة النقلية بشيء من التفصيل:

1/7/12. آيات عالمية الإسلام :

وردت في القرآن الكريم آيات دلّت على عالمية الدين الإسلامي، ولهذا فقد خاطب

ص: 370

القرآنُ الناسَ بشكل عام، داعياً إياهم إلى الإسلام، معبراً عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله و سلّم)بأنه رسول الله إلى جميع الناس. قال تعالى :

1. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)(1) .

2. (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِالله شَهِيداً) (2).

3 . ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمَيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(3).

4. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )(4).

5 .﴿وَمَا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمينَ )(5).

6 . (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (6).

2/7/12 .آيات عالمية القرآن:

عبّرت بعض الآيات الشريفة عن القرآن الكريم بتعابير دالّة على عالميته وعموميته للناس أجميعن. قال تعالى:

1. (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ (7).

ص: 371


1- سورة الحج: 49 .
2- سورة النساء: 79.
3- سورة الأعراف: 158 .
4- سورة سبأ: 28.
5- سورة الأنبياء: 107.
6- سورة الفرقان: 1.
7- سورة إبراهيم: 1.

2. (هَذَا بَيَانُ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) (1).

3 . (هَذَا بَلَاغُ لِّلنَّاسِ) (2).

4 . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (3).

5 .(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾(4).

3/7/12. بطلان معتقدات الأديان المحرّفة :

توجد بين أيدينا آيات قرآنية متعدّدة أنكرت على أهل الكتاب بعض معتقداتهم، ووجّهت إليهم نقداً لاذعاً؛ منها قوله تعالى:

1 . ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتْ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّه ذَلِكَ قَوْهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ )(5).

2 . ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى الله إِلا الحَقِّ إِنَّمَا المُسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةُ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهُ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي

السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً) (6).

4/7/12 .بطلان اتباع الأديان الأخرى:

ص: 372


1- سورة آل عمران: 138 .
2- سورة إبراهيم: 52 .
3- سورة النساء: 174 .
4- سورة الفرقان: 1.
5- سورة التوبة: 30 .
6- سورة النساء: 171.

دلت آيات القرآن الكريم على ضرورة اتباع الإسلام ديناً، ونهت عن اتباع غيره من الأديان المحرّفة. قال تعالى:

(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(1) .

وفي معرض بيانه لدلالات هذه الآية، قال العلامة المطهري (1399ه) :

«إذا قيل أن مراد الإسلام ليس هو خصوص ديننا، بل المقصود به التسليم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإن الإجابة على هذا هي أن الإسلام هو التسليم من دون شك، والدين الإسلامي هو دين التسليم لكن حقيقة التسليم تتمظهر بنحو ما في كلّ زمن، وفي زماننا هذا ظهرت على هيئة ذلك الدين الحنيف الذي دعا له خاتم الأنبياء والمرسلين (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، ومفردة الإسلام تنطبق عليه لا محالة.

وبعبارة أخرى : يستلزم التسليم الله عَزَّ وَجَلَّ الانصياع لأوامره، ومن الواضح أن الاستجابة إلى آخر أوامره أمر واجب، وآخر أو امره هو ذلك الشيء الذي جاء به آخر الرسل»(2).

5/7/12. الآيات التي دعت أهل الكتاب للإسلام:

دعت بعض الآيات القرآنية أهل الكتاب إلى الإيمان بالإسلام، موبِّخة الذين ابتعدوا عن تعاليمه قال تعالى :

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا ما كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَاب وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مَّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )(3).

ص: 373


1- سورة آل عمران: 85 .
2- العدل الإلهي، مرتضى المطهّري ، المطبوع ضمن الأعمال الكاملة، ج2، ص 278 [النسخة الفارسية].
3- سورة المائدة: 15-16 .

2 .(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(1).

3 . (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لما مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرِ بِهِ )(2).

4 . ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (3) .

ص: 374


1- سورة المائدة: 19 .
2- سورة البقرة: 41.
3- سورة آل عمران: 71 .

هذا الكتاب

شغلت فصول "الكلام الإسلامي المعاصر" لعدّة سنوات حيّزاً من اهتمامي ، وتمنيت أن أوفق - يوماً ما - لجمع شتات الأبحاث الكلاميّة التقليدية والجديدة في كتاب واحد بنسق وترتيب منطقي - لقد اعتاد - وللأسف أساتذة علم الكلام في الجامعات والحوزات العلميّة وغيرها على الفصل في محاضراتهم بين مادة تتناول قضايا الكلام التقليدي كما في كتاب "كشف المراد " مثلاً، ومادة أخرى تستعرض قضايا "الكلام الجديد " ، فتُدرس كلّ من المادتين في وحدات دراسيّة مستقلة دون أي حلقة وصل بينهما ..

المرکز الاسلامي للدراسات الاستراتحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 375

المجلد 2

هوية الکتاب

الكلام الإسلامي المعاصر

الجزء الثاني

تأليف:د.الشیخ عبد الحسين خُسروپناه

ترجمة:محمّد حسين الواسطي

ص: 1

الکلام الإسلامی المعاصر

الجزء الثانی

تألیف :عبد الحسین خسروپناه

ترجمة:محمَّد حسین الواسطیّ

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحیم

خسروبناه عبد الحسين، مؤلف.

الكلام الإسلامي المعاصر.الجزء الثاني / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3مجلد ؛ 24 سم. -(سلسلة دراسات كلامية ؛14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

1 .علم الكلام. أ. الواسطي، محمد حسين،مترجم .ب. الكعبي، اسعد ، مترجم،ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 3

الفهرس

تصدير...6

الباب الرابع: النبوّة...9

13. النبوّة العامة ... 12

1/13.تمهید...12

2/13. بيان حقيقة النبوّة في المعارف الإسلامية...13

3/13. أسباب ضرورة بعثة الأنبياء ...39

4/13 .شبهات حول ضرورة ابتعاث الأنبياء:...81

5/13 .سُبُل إثبات النبوة:...92

14. خصائص الأنبياء...100

1/14. تمهید: ...100

2/14.أوّلاً: حقيقة الوحي...100

3/14. ثانياً: عصمة الأنبياء:... 116

4/14 .ثالثاً : العلم والحكمة ...138

5/14. رابعاً: حسن خلق الأنبياء:...143

6/14. خامساً: القول الصادق:...144

7/14. سادساً: الاستعداد للابتلاء الإلهيّ ...145

8/14. سابعاً: الأمانة:... 145

9/14. ثامناً: البرّ:...146

10/14. تاسعاً: توحيد الخشية من اللّه...146

11/14. عاشراً: الإخلاص للّه ...146

ص: 4

12/14.حادي عشر : التوكل على اللّه ...147

13/14.ثاني عشر : النصيحة والشفقة...147

14/14.ثالث عشر : القدرة والبصيرة...148

15/14.رابع عشر : الصبر والتجلّد...148

15.نبوّة رسول الإسلام...149

1/15.تمهید...151

2/15.سُبُل إثبات نبوّة رسول اللّه...166

16 .تحدّيات النبوّة ...166

1/16.تمهيد...166

2/16.تحدّيات الوحى التفسيريّة:...176

3/16.تحدّيات عصمة الأنبياء:...193

4/16.تحدّي صيانة القرآن:...208

5/16.تحدّيات المستشرقين...229

6/16.استنتاج...231

17.ختم النبوّة...231

1/17.تمهید...231

2/17.معنى ختم النبوّة :...231

3/17.تاريخ عقيدة ختم النبوّة ...234

4/17.الأدلّة على ختم النبوّة...236

5/17.تبيين معنى ختم النبوّة ...237

6/17.الشبهات على ختم النبوّة:...263

ص: 5

تصدیر

لا تتوقّف شآبيب الرحمة والعناية الربانيّة عن الهطول على كلّ الخليقة؛ لا سيّما على عباد اللّه الباحثين عنه، والتائقين إلى معرفته.وها هو اللطف الإلهیّ يغمرني مرّة أخرى؛ حيث وفقّني اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لإتمام كتابة الجزء الثاني من«الكلام الإسلامي المعاصر» ؛ لأضعه بين أيدي القرّاء والمهتمّين.

من المعلوم عند القارئ الكريم أنّ«الكلام الإسلامي المعاصر» يسعى لعرض الأبحاث القديمة والجديدة لعلم الكلام الإسلامیّ بمنهج معاصر،وشاكلة حديثة،هادفاً إلى الحدّ من ظاهرة التفكيك بين الكلام القديم (التقليديّ)والكلام الجديد،و إلى إعادة صياغة جميع الأبحاث الكلاميّة القديمة والجديدة في مكانة وقولبة منطقيّة،وفي ضمن منظومة ممنهجة ومنضبطة.

لقد عرض الجزء الأول من الكتاب أبحاث مبادئ علم الكلام (ماهيّة علم الكلام، وقابليّة الإثبات للقضايا الدينيّة ومعقوليتها)،والإلهيات(معرفة اللّه وإثبات وجوده، إثبات وحدانيّة اللّه،ومراتب التوحيد،الصفات الإلهية، والأفعال الإلهية)، ومعرفة الدين (حقيقة الدين، وحقيقة التجربة الدينيّة،والمطلوب من الدين،ومنشأ الدين،والإيمان الدينیّ،والتعدّديّة الدينية).أمّا في الجزء الثاني فقد تطرّقت الدراسات إلى أبحاث النبوّة ( النبوّة العامة ، وصفات الأنبياء، ونبوّة رسول الإسلام،وتحدّيات النبوّة، وختم النبوّة)، وأبحاث الإمامة(الإمامة العامّة، والإمامة الخاصّة، والدراسات المهدويّة)بياناً وإثباتاً.

ص: 6

وقد أُوكل الحديث عن أبحاث المعاد(المعاد الجسمانيّ والروحانيّ،وتحدّيات منكري المعاد،ومنازل الآخرة، والرجعة)،وأبحاث دراسة الإسلام (القضايا المتعلّقة بلغة الإسلام،ومنطق فهمه،وشموليّته،وجوهر الإسلام وصدفه، والصلة بين الإسلام والعلم والعقل والحداثة وما بعد الحداثة والبحث عن العلم الديني)إلى الجزء الثالث من الكتاب إن شاء اللّه تعالى(1).

ص: 7


1- ننوّه للقارئ الكريم بأنّنا حذفنا من الترجمة الباب السادس من الكتاب المتعلّق بالحضارة الإسلامية، وعليه تمّ تغيير هيكلية الكتاب،فالجزء الثالث بتقسيمنا يحتوي على كتاب الإمامة والمعاد.[المركز الإسلامي].

ص: 8

الباب الرابع النبوّة

-النبوّة العامة

- خصائص الأنبياء

- نبوّة رسول الإسلام

- تحدّيات النبوة

- ختم النبوّة

ص: 9

يراود الباحثين والمطّلعين على الكتب المقدّسة عند الأديان الإبراهيميّة والشرقيّة وغيرها شعور ونداء باطنيّ يتساءل:لو كان هؤلاء القوم يعرفون الرسول الخاتم،ويعرفون أهل بيته الأطهار:،ولو كانوا قد آمنوا بهم، لفُتحت عليهم أبواب الهداية،ولكانت السعادة الحقيقيّة قد غمرتهم،ولكن وا أسفاه عليهم،وعلى بُعد شُقّتهم من الحقيقة،وانغماسهم في ظلمات الوهم والضلال.

ويزداد هذا الشعور عمقاً إذا ما سافر المرءُ إلى الدول التي تكثر فيها الأديان والمذاهب المختلفة؛مثل:الهند، والصين،وما تنطوي عليه أقاليم هذه البلدان ومدنها وقراها من معابد يرتادها أتباع الديانات البوذيّةوالهندوسيّة والسيخيّة، وغيرهم من أبناء الفِرق والطوائف الأخرى؛ لا سيّما إذا تحدّث المرءُ مع علمائهم وكبرائهم، ووقف على ما عقدوا قلوبهم عليه، والسبيل الذي اختاروه للوصول إلى الخير والسعادة.

إنّ التشعّبات والانقسامات التي يجدها الباحث في البوذيّة والهندوسيّة كثيرة إلى حدّ يجعلك تحسب كأنّ كلّ فرقة منها دين برأسه،وإنّ هذا التشظّي الوسيع الذي تعاني منه الأديان الشرقيّة يُجيبك على استفهامات عديدة أخرى ما تفتأ تنقدح في أذهان الباحثين على الدوام؛منها على سبيل المثال:التساؤل عن العوامل التي ساعدت إنجلترا على استعمار بلاد مثل الهند،والأسباب التي ألقت الصينيّين في أحضان العالم الغربيّ رغم الحضارة العريقة والثقافة القوميّة المستقلّة التي امتلكتها الصين على مرّ العصور.

نعم؛ الانقسامات التي تفتك بالشعوب والأمم والخلافات أو الصراعات والتحزّبات التي تحوّل الطقوس والمناسك الدينيّة إلى أفيون بشريّ مهلك هي العامل الرئيس الذي يودي بالمجتمع في شباك الاستعمار.

ص: 10

لقد بعث اللّه عَزَّ وَجَلَّ بدينه ليستنقذ الناس من وبال القيود والأغلال التي أطبقت على أعناقهم،ويفكّ أسرهم من السجون الظاهرة والباطنة التي حاصرتهم وأحاطت بهم؛حتّى تتفتّح عقولهم، ويتسنّى لهم استخدامها في العثور على سبيل السعادة الحقيقيّة، ومعرفة أنّ المجتمعات الإنسانية الرافضة للدين الإلهیّ لم تنجُ من السقوط في وحل التبعيّة للغرب، أو الغرق في مستنقع الاستعمار،فما إن تخلّصت تلك المجتمعات من براثن الاستعمار السياسيّ بعد اللتيا والتي حتّى التفّت حول رقابها حبال الاستعمار الثقافي.

نعم؛ إنّ إنسان القرن الحادي عشر يفتقر إلى الدين الإلهیّ السماويّ البعيد عن التحريف أكثر من أيّ وقت مضى، وإنّ الإنسان المعاصر متوغّل في الأهواء،ومتورّط في الشهوات والضغائن أكثر من ذي قبل، وهو يشكو من الاستعمار الخارجيّ أكثر ممّا سبق،ويشعر بالوحدة والانعزال أكثر بكثير ممّا مضى،وهو لا يألو جهداً في تدمير الطبيعة والإنسانيّة بيديه.

يعاني الإنسان اليوم من أزمات عديدة ألّمت به على مستوى الهويّة والبيئة والأخلاق والإنسانية والروحانية، وعليه أن يتوقّع الموت والفناء في أيّة لحظة؛لأنّ خطر الانفجارات التي تُحدثها القنابل النووية لا ولن يستثنيه. ومن هنا،فإنّ الإنسان المعاصر يحتاج إلى الدين الإلهیّ السماويّ للخروج من أزماته الخانقة أكثر من أيّ وقت مضى.

ص: 11

13. النبوّة العامّة

1/13. تمهيد:

قبل الولوج في خضمّ أبحاث هذا الباب نمهّد هنا بمقدّمات:

1. الكلام الإسلاميّ المعاصر علمٌ يمارس وظائفه التبيينية والإثباتية والدفاعية حيال العقيدة الدينية من خلال تأسيسه لمنظومة منسجمة ومتراصّة تجمع في طيّاتها القضايا الكلامية التقليدية القديمة إلى جانب القضايا الكلامية الجديدة والمستحدثة.وأغلب القضايا التقليدية مستخرجة من الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة وما تمخّضت عنه مطارحات الملل والنحل التقليدية. أمّا القضايا الكلامية الجديدة فهي وليدة مناقشات العلوم الحديثة والمدارس الفلسفية المحدثة إلى جانب المدارس الاجتماعية المعاصرة. لقد أدّى هذا المنحى في علم الكلام الإسلامي إلى ظهور نظام جديد في علم الكلام، وعلى هذا الأساس انطلقنا في هذا الكتاب من البحوث التمهيدية ومعقولية القضايا الدينية،مروراً بأبحاث الإلهيّات،ودراسة الدين،ووصولاً إلى باب النبوّة والإمامة والمعاد،ومن ثمّ الأبحاث المرتبطة بدراسة الإسلام.

2 . تتمحور أبرز الاستفهامات الفطرية التي تراود الإنسان على مرّ التاريخ لا سيّما في العالم الراهن حول معرفة المبدأ (الخالق)،والوقوف على غاية الخلق،ومعنى الحياة،وكيفية بلوغ غايتها. ولا يتسنّى الكشف عن الأسلوب الأنجع في الحياة من دون امتلاك إجابات شافية على ما يطرحه الذهن البشريّ من تساؤلات تخصّ «النبوّة»؛ وهي إجابات تناولها الدين الإلهيّ مسلّطاً عليها مزيداً من الأضواء.والنبوّة قضيّة متداولة في الأديان الإبراهيميّة، وليس الأديان الشرقيّة؛ لأنّ الهاجس الأساس في

ص: 12

الأديان الشرقية يتمثّل في استجلاب الأمن والطمأنينة،وما ينتهي إلى الفوز والنجاة في الدنيا،وليس السعادة الأخروية،وهو الذي يحصل-بزعمهم-من خلال الكشف الصوفیّ والشهود العرفانيّ. لقد عرض الدين الإسلاميّ وكذلك اليهوديّ ما يرتبط بموضوع النبوّة على العكس من الدين المسيحیّ الذي خلُص إلى أنّ«مسيحه» هو الوحي الإلهي، والربّ المتجسّد، فلم يبقَ بعد ذلك ما يدعو للبحث عن النبوّة. وعليه فإنّ أبحاث النبوّة في الإسلام وعند المفكّرين الإسلاميّين تحظى بمكانة رفيعة،وبأهميّة بالغة.

3.عرض الفلاسفة والمتكلّمون والعرفاء المسلمون القضايا المرتبطة بالنبوّة بنحو تفصيليّ وموسّع في دراساتهم الفلسفية والكلامية والعرفانيّة؛فدرسوا على سبيل المثال أبعاد التعريف بحقيقة النبوّة،وإثبات ضرورة النبوّة العامة والخاصة والوظائف التي يضطلع بها الأنبياء في الحياة الفردية والاجتماعية وما يرتبط بموضوع إعجاز القرآن الكريم وختم النبوّة وغير ذلك. وقد قسّم المتكلمون أبحاث النبوّة إلى قسمين رئيسين: أبحاث النبوّة العامة، وأبحاث النبوّة الخاصة. أمّا العامّة فهي التي تبحث في ضرورة ابتعاث الأنبياء،وصفاتهم،وضرورة الإعجاز،وما شاكل ذلك.وأمّا الخاصّة فهي التي تعرض الموضوعات المختصّة بالرسول الخاتم .وقد تحدّث العرفاء أيضاً عن النبوّة التشريعيّة والنبوّة التبليغيّة. أمّا الفلاسفة المسلمون فقد اكتفوا بتسليط الضوء على النبوّة العامة نظراً إلى اقتصارهم على الدليل العقلیّ في أبحاثهم الفلسفيّة.

وبعد هذه المقدّمات، يصل الدور إلى تفصيل القول في أبحاث النبوّة على النحو الآتي ذكره إنّ شاء اللّه تعالى.

2/13. بيان حقيقة النبوّة في المعارف الإسلامية:

تناول المتكلّمون والفلاسفة والعرفاء بيان ماهية النبوّة بثلاثة أنماط مختلفة. أمّا المتكلّمون فقد استعرضوا حقيقة النبوّة من زاوية البحث عن الإلهيات والصفات

ص: 13

الإلهيّة،وأمّا الفلاسفة فقد تناولوها من نافذة أبحاث معرفة اللّه ومعرفة الإنسان عن طريق الإفادة من الصفات الإلهيّة وكمال القوى الإنسانيّة. وأمّا العرفاء فقد كشفوا الستار عن واقعها من زاوية أبحاث معرفة الوجود ومعرفة الإنسان. وقد تطرّقت النصوص القرآنيّة والحديثيّة أيضاً لحقيقة النبوّة، وبيان رسالتها.من هنا ،يمكن استعراض هذا البحث - باختصار-من خلال أربعة اتجاهات رئيسيّة:البيان الوحيانيّ،والبيان الكلاميّ، والبيان الفلسفيّ، والبيان العرفانيّ.

1/2/13. البيان الوحياني للنبوّة:

القضيّة الأولى في بحث النبوّة تتناول التعريف بمعناها اللغويّ،وحقيقة معناها الاصطلاحيّ.أمّا مفردة «النبوّة» فهي في كتب اللغة على أربعة معانٍ:

1 .«الخبر»: فالجذر اللغويّ للنبوّة هو النون والباء والهمزة (نبأ)،غير أنّهم تركوا الهمز في النبيّ وعُدّ لغةً رديئة؛ لقلّة استعمالها بالهمز(1).

2.«الارتفاع»:لأنّه قد يكون مشتقّاً من النباوة؛وهي الشيء المرتفع؛أيّ إنَّه شُرِّفَ على.سائر الخلق فترقّى في السماء،وعلا شأنه،فهو كالأرض التي هي أعلى وأرفع من غيرها(2).

3 . «الطريق»:فقد ورد أيضاً أنه بمعنى الطريق الواضح،أو طريق الهداية(3).

ص: 14


1- قال ابن منظور:«ويجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه؛يُقال نبأ ونبأ وأنبأ.قال سيبويه:ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز،غير أنّهم تركوا الهمز في النبي؛كما تركوه في الذرية والبرية والخابية ... قال: والهمز فی النبيّء لغة رديئة ؛ يعني لقلّة استعمالها؛لا لأنّ القياس يمنع من ذلك ... قال الفرَّاءُ: النبيّ:هو من أَنْبَأَ عن اللّه، فَتُرِك هَمزه». لسان العرب مادة نبأ.
2- قال ابن فارس : «نبو بتسكين الباء أصل صحيح يدلّ على ارتفاع الشيء عن غيره».معجم مقاييس اللغة ، ج 5، ص 385 .وقال الجوهري: «النبوّة والنباوة:ما ارتفع من الأرض،فإن جعلت النبيّ مأخوذاً منه أي إنَّه شرّف على سائر الخلق،فأصله غير الهمز». الصحاح ، ج6، ص 2500 . وقال ابن منظور: «وقيل النبيّ : مشتق من النباوة وهي الشيء المرتفع».لسان العرب ، ج 1، ص 163 . وقال الراغب الأصفهانيّ:«وقال بعض العلماء هو من النبوّة أي الرفعة،وسُمّي نبياً لرفعة محله عن سائر الناس».المفردات في غريب القرآن ، ص482. [م].
3- قال ابن منظور:«قال الكسائي:النبيّ:الطريق،والأنبياء:طرق الهدى،قال أبو معاذ النحوي:سمعت أعرابياً يقول: من يدلني على النبيّ،أي على الطريق»،وقال أيضاً: «والنبيّء : الطريق الواضح » . لسان العرب ، ج 1، ص 163.

4.«الصوت الخفيّ »:ذلك لأنّ ما يتلقّاه الأنبياء لا يسمعه الآخرون(1).

يقول الشيخ الطوسي في المعاني اللغويّة لمفردة «النبيّ»:

«النبيّ» في العرف هو:المؤدّي عن اللّه تعالى بلا واسطة من البشر. ومعنى النبي في اللغة يحتمل أمرين: أحدهما: المخبر ، واشتقاقه يكون من«الإنباء» الذي هو الإخبار،ويكون على هذا مهموزاً.والثاني: أن يكون مفيدا للرفعة وعلوّ المنزلة،واشتقاقه يكون من«النباوة»التي هي الارتفاع.ومتى أريد بهذا اللفظ علو المنزلة فلا يجوز إلا بالتشديد بلا همز(2).

وبناءً على ما تقدمّ،فإنّ«الإنباء»التي تعني الإخبار،أو «النباوة» التي تعني الارتفاع هي مصدر مفردة «النبيّ» التي هي صفة مشبَّهة بالفعل على وزن فعيل،وتعني:الشخص الذي نال درجة رفيعة ومنزلة عظيمة،والمخبر عن الحقائق الهادية إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛فقد أخبر الأنبياء عن حال من سبقهم من الأنبياء وما جرى على أممهم من عذاب أو هلاك،وأخبروا الناس بالأمور الغيبيّة،وبالأسماء والصفات الإلهيّة، والقيامة،وما إلى ذلك.قال جَلَّ وَعَلا :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾(3).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا)(4).

و«النبوّة»في معناها الاصطلاحيّ هي المكانة والمنزلة التي يتحلّى بها بعض الخلق ممّن يمكن وصفهم ب«الإنسان الكامل».وهم طائفة من الناس بعثهم اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى هداةً للخلق؛لما فيهم من علوّ الشأن، ورفعة المقام.

ص: 15


1- قال ابن منظور: «والنبأة : الصوت الخفيّ». المصدر السابق.
2- الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد،الشيخ الطوسيّ، ص 244.
3- سورة الكهف: 13.
4- سورة المائدة: 27.

و ممّا يرتبط بمفردتي «النبوّة» و«النبيّ» مصطلحا «الرسالة» و«الرسول»،وهما مشتقّان من مادّة«رسل» التي تعني الحركة مع من الطمأنينة.وتطلق مفردة الرسول في المصطلح القرآنيّ على من يرسله اللّه عَزَّ وَجَلَّ لإبلاغ رسالته للناس. وقد استخدمت للأنبياء وللملائكة على حدّ سواء. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(1).

(الَّذِينَ يُبلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾(2).

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ )(3).

(فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ)(4).

(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا )(5).

وبناءً على ذلك، فإنّ مفردة «الرسول» - وفقاً لهذه الآيات-أعمّ من النبيّ مصد مصداقاً؛ لأنّها تشمل الملائكة أيضاً.

والسؤال المهمّ الذي يطرح نفسه هنا هو : ما الفرق بين النبيّ والرسول البشريّ؟

أورد المفكّرون المسلمون للتفريق بين هذين المصطلحين أنظاراً وآراءً مختلفة.

وفي الحديث الشريف المنقول عن الأئمة الأطهار: نجد أنّ النبيّ هو من يرى ملك الوحي الإلهيّ في المنام،ويسمع صوت الملائكة في اليقظة،من دون أن يراها.

ص: 16


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة الأحزاب: 39.
3- سورة يس: 13.
4- سورة العنكبوت :40.
5- سورة مريم: 19.

أمّا الرسول فهو يرى الملائكة ويسمع صوتها في النوم واليقظة بما فيها ملك الوحي(1).

وعليه:فإنّ تعريف كلّ من النبیّ والرسول مختلفان،ولا يجتمعان(2).

ومن جهة أخرى،فإنّ القرآن الكريم قد خاطب من أوحي إليه هذا الكتاب بالنبيّ وبالرسول؛حيث قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى :

ص: 17


1- لاحظ:الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 176.وفي الكافي باب عنوانه الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدث، ورد فيه على سبيل المثال:«عدة من أصحابنا،عن أحمد بن محمّد،أحمد عن بن محمّد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون،عن زرارة قال:سألت أبا جعفر .عن قول اللّه عزّ وجلّ(وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)ما الرسول وما النبيّ؟قال:النبیّ الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك،قلت:الامام ما منزلته ؟ قال : يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيِّ ) ولا محدَّث». وروى الكليني أيضاً: عن«عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار قال:كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا : جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبيّ والامام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبيّ والامام أنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم،والنبیّ ربّما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع والامام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».ونقل أيضاً:عن«محمّد بن يحيى،عن أحمد بن محمّد،عن الحسن بن محبوب،عن الأحول قال سألت أبا جعفر عن الرسول والنبيّ والمحدث = =قال:الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا،فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان رأى رسول اللّه .من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل .من عند اللّه بالرسالة وكان محمد .حين جمع له النبوّة وجاءته الرسالة من عند اللّه يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها قبلا ،ومن الأنبياء من جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة،وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع،ولا يعاين ولا يرى في منامه».وروى كذلك:عن «أحمد بن محمّد ومحمّد بن يحيى،عن محمّد بن الحسين، عن علي بن حسان عن ابن فضال، عن علي بن يعقوب الهاشمي،عن مروان بن مسلم،عن بريد،عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه 8 في قوله عزوجل:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٌّ )ولا محدَّث، قلتُ: جعلت فداك!ليست هذه قراءتنا!فما الرسول والنبيّ والمحدَّث ؟ قال : الرسول الذي يظهر له الملك فيكلمه،والنبيّ هو الذي يرى في منامه وربما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة،قال:قلت:أصلحك اللّه كيف يعلم أن الذي رأى في النوم حق،وأنه من الملك؟قال:يوفق لذلك حتى يعرفه،لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء».
2- والقول بعدم الاجتماع بينهما مبنيّ على أنّ الرسول إذا كان من يرى ملك الوحي في اليقظة فضلًا عن رؤيته في المنام وسماع صوته،فهذا لا يجتمع مع النبيّ؛لأنّ تعريف الأخير لا يسمح برؤية ملك الوحي في اليقظة؛ فكيف يقال رسول ونبيّ في آن واحد،وتعريف هذا يناقض تعريف ذاك؛ لأنك تقول يرى ولا يرى ؟! ولعلّ من الصحيح أيضاً القول بأن الاجتماع قد يُقصد منه أنّ «الرسول » عنوان جامع لما يتضمنه «النبیّ» وزيادة، وهو من باب «كلُّ الصَّيدِ فِي جَوْفِ الفَرا» (مثلٌ يُضرب لما يغني عن غيره)، وبهذا المعنى يجوز الاجتماع،[م]

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 64 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرَّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ)(1).

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾(2).

وغيرها من الآيات القرآنية، وقد وصف البعض أيضاً بقوله:

(وَكَانَ رَسُولًا نبيا)(3).

وهذا كلّه يدلّ على جواز اجتماع«النبوّة» و«الرسالة» في بعضهم؛وعلى رأسهم الرسول الأعظم . وبناءً على ذلك، فإنّ النبيّ والرسول في بعض الأدلة النقلية يتحلّيان بمقامين مختلفين، ولا يجتمعان في مصداق واحد، في حين أنّ بعض الأدلة النقلية الأخرى تجوّز هذا الاجتماع في مصداق واحد.

والمشهور أنّ بعضهم ذهب إلى أنّ النبي أعمّ من الرسول،وأنّ الرسول أخصّ من النبيّ.وعلى هذا الأساس، فإنّ النبي هو الذي يوحى إليه، سواء كان مبلِّغاً لكلام اللّه جَلَّ وَعَلا ، أم لم يكن كذلك. لكنّ هذا المعنى غير تامّ؛ فقد قال عَزَّ وَجَلَّ:

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النبيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)(4).

وهذا يعني أنّ على كل نبيّ أن يكون مبشِّراً ونذيراً، ومن ثَمَّ: فإنّ عليه إبلاغ الرسالة الإلهيّة للناس.

والحقّ أنّ هناك فرقاً في المعنى بين «النبيّ» و «الرسول»،وهو ما تدلّنا عليه الآيات التالية ؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا )(5).

ص: 18


1- سورة الأنفال: 64-65.
2- سورة المائدة: 41.
3- سورة مريم 51.
4- سورة البقرة: 213.
5- سورة مريم :51.

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَيَّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾(1).

والأحاديث الشريفة التي عدّت 313 رسولاً ، و 124 ألف نبيّ(2).

فهي تشير بذلك إلى أنّ الرسالة والنبوّة مقامان؛وليسا بمقام واحد.هذا،ويشترك النبيّ والرسول البشريّ في تلقّي الوحي الإلهيّ،وإبلاغه للناس،لكنّهما يختلفان في نوعيّة الشهود الحاصل لهما للملائكة،وفي الوظائف الملقاة على عاتقيهما.

وهذه الأدلّة تهدينا إلى أنّ النبي أعمّ دائرةً من الرسول البشريّ بأحد المعاني،كما أفادتنا طائفة أخرى من الأدلّة النقلية بأنّهما مقامان مستقلّان،فيكون بعض مصاديق النبوّة حائز على مقام النبوّة،والبعض الآخر حائز على مقام الرسالة.

وبناءً على ذلك، النسبة بين النبيّ والرسول البشريّ في بعض الأدلة هي التباين ،وفي البعض الآخر : العموم والخصوالمطلق(كلّ نبيٍّ رسولٌ، وليس كلّ رسولٍ نبيّاً)،فيكون عدد الأنبياء من حيث المصاديق أكثر من الرسل. وهذا الاختلاف في الكمّ عائد إلى التمايز بينهما على مستوى الكيف والوظائف والتكاليف الاجتماعية التي هي أكبر عدداً عند الرسل.

ص: 19


1- سورة الحج : 52.
2- روى الشيخ الصدوق في «الخصال » و « معاني الأخبار»:عن علي بن عبداللّه بن أحمد الأسواريّ، قال:«حدّثنا أبو يوسف أحمد بن القيس السّجزي المذكّر، قال حدّثنا أبو الحسن عمرو بن حفصٍ، قال حدّثني أبو محمّد عبيد اللّه بن محمّد بن أسدٍ ببغداد،قال حدثنا الحسين بن إبراهيم أبو عليٍّ قال حدّثنا يحيى بن سعيدٍ البصريّ قال حدّثنا ابن جريح [جريجٍ]عن عطاءٍ عن عبيد بن عميرٍ الليثيّ عن أبي ذزٍّ رحمة اللّه عليه قال:[...]قلت:يا رسول اللّه!كم النبيون؟ قال: مائة ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألف نبيٍّ. قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلاث مائةٍ وثلاثة عشر جمّاً غفيراً. قلت: من كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم.قلت: وكان من الأنبياء مرسلًا؟قال:نعم؛خلقه اللّه بيده ونفخ فيه من روحه.ثمّ قال: يا أبا ذرٍّ!أربعةٌ من الأنبياء سريانيّون آدم= = وشيتٌ وأخنوخ - وهو إدريس وهو أوّل من خطّ بالقلم-ونوحٌ، وأربعةٌ من العرب هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ ونبيك محمّد، وأوّل نبيٍّ من بني إسرائيل موسى،وآخرهم عیسی وست مائة نبيٍّ. قلت: يا رسول اللّه! كم أنزل اللّه تعالى من كتابٍ؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتبٍ؛ أنزل اللّه تعالى على شيثٍ خمسين صحيفةً، وعلى إدريس ثلاثين صحيفةً، وعلى إبراهيم عشرين صحيفةً، وأنزل التّوراة،والإنجيل،والزّبور،والفرقان». بحار الأنوار، ج 11، ص 32.

ولعلّ وجه الجمع بين هاتين الطائفتين من الأدلّة أن يُقال: يشترك النبيّ والرسول البشريّ - رغم كونها مقامين إلهيّين - في تلقّي الأخبار والأنباء من السماء، وإبلاغها للناس لأجل هدايتهم، لكنّ المخاطب بالوحي إذا كان في مرتبة «النبوّة»، فهو يرى الملائكة في منامه،ويسمع صوتها في يقظته؛من دون أن يُبصرها في اليقظة، أمّا إذا علا مقامه، وبلغ مرتبة «الرسالة»،وأُثقل كاهله بوظائف أكبر،فهو عندئذٍ يسمع صوت الملائكة ويراها في النوم واليقظة.

ومن ثَمَّ: فإنّ بين النبيّ والرسول البشريّ علاقة التباين على مستوى الاتصال بالملائكة،وهما في ذلك مقامان مستقلّان، أما على مستوى تلقّي الوحي وإبلاغ الرسالة فهما مشتركان،ويفترقان في الواجبات والتكاليف الاجتماعية المناطة بهما، فتكون نسبتهما العموم والخصوص المطلق. فتكون الحصيلة - في نهاية المطاف - أنّ هناك نسباً مختلفةً بينهما باختلاف الاعتبار واللحاظ.

لقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى أنّ جميع الرسل هم حجج اللّه على الخلق،وأنهم يقطعون العذر على الناس بما يقومون به من تبشير وإنذار،فلا يبقى بعد ذلك حجّة لأحد على اللّه . قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

(رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاً يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(1).

وعليه:فإنّ الوقوف في وجه الرسل الذين يحملون الرسالات الإلهيّة الخاصة يستلزم الهلاك والعذاب الإلهيّ(2).

وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الرسول - علاوةً على ما أنيط به من واجب إبلاغ الرسالة الإلهيّة - مطالب بوظيفة اجتماعية مهمّة في تحقيق العدل والقسط في المجتمع. يقول جَلَّ وَعَلا: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولُ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)(3).

ص: 20


1- سورة النساء: 165.
2- راجع:الميزان،العلامة الطباطبائي، ج 2، ص 140.
3- سورة يونس: 47 .

1/1/2/13. تقسيم النبوّة إلى تشريعية وتبليغيّة:

تنقسم النبوّة في أحد تصنيفاتها إلى نبوّة تشريعيّة، ونبوّة تبليغيّة:

أمّا الأنبياء التشريعيّون فهم الذين يتلقّون من اللّه عَزَّ وَجَلَّ الشريعة - وهي القوانين والبرامج والتعاليم - من أجل إبلاغها إلى الناس؛ كما في شريعة نوح،أو شريعة موسی .وأمّا الأنبياء التبليغيون فهم الذين يدعون الناس إلى شريعة الأنبياء الذين سبقوهم،من خلال ما يتلقونه من الوحي، وما يظهرونه من المعجزات.ومن ثَمَّ:يطبّقون التعاليم الشرعية والدينية(1).

وممّا تجدر الإشارة إليه هنا أنّ لفظ «النبيّ» في القرآن الكريم قد استُخدم أحياناً للرسول الخاتمّ،و المقصود به - من دون شكّ - النبوّة التي تتحلّى بمقام الرسالة وأولي العزم من الرسل. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(2).

2/1/2/13. الأنبياء من أولي العزم:

«أولو العزم»هم الأنبياء الذين امتلكوا صفة العزم والإرادة لحمل الشريعة المنزلة إليهم من اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى، وإيصالها بحكمة إلى الجماهير. وقد أسدل القرآن الكريم الستار عن هذا العنوان والمقام الإلهيّ، وأطلقه على بعض الرسل؛حيث قال جَلَّ وَعَلا :

(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَك إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ )(3).

ص: 21


1- راجع:الخاتمية،الشهيد المطهّري،ص ،29، 40 (النسخة الفارسيّة)؛ المعارف الإسلامية في مصنفات الشهيد المطهريّ، ص 370 ،ختم النبوّة، ص 34،الخاتمية على ضوء العقل والقرآن الكريم، رضا الأستادي، ص 179-180.
2- سورة التوبة: 73.
3- سورة الأحقاف: 35.

يقول العلامة الطبرسيّ في تفسيره لهذه الآية :

أي:فاصبر يا محمّد على أذى هؤلاء الكفار،وعلى ترك إجابتهم لك؛ كما صبر الرسل.و(من)هاهنا لتبيين الجنس؛كما في قوله:﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾.وعلى هذا القول، فيكون جميع الأنبياء هم أولو العزم؛لأنهم عزموا على أداء الرسالة،وتحمل أعبائها.عن ابن زيد والجبائيّ وجماعة:وقيل إنّ(من)هاهنا للتبعيض؛ وهو قول أكثر المفسّرين، والظاهر في روايات أصحابنا،ثمّ اختلفوا،فقيل: أولو العزم من الرسل من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدّمه؛وهم خمسة:أوّلهم نوح،ثم إبراهيم،ثمّ موسى،ثمّ عيسى، ثم محمّد.عن ابن عباس وقتادة - وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبداللّه-:قال:وهم سادة النبيّين وعليهم دارت رحا المرسلين. وقيل:هم ستّة؛نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف صبر في البئر والسجن، وأيوب صبر على الضُّر والبلوى.عن مقاتل: وقيل : هم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين.عن السديّ والكلبيّ:وقيل:هم إبراهيم،وهود،ونوح، ورابعهم محمّد .عن أبي العالية :والعزم هو الوجوب والحتم،وأولو العزم من الرسل هم الذين شرعوا الشرائع،وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها(1).

وقد أشارت الأحاديث المروية عن المعصومين:إلى خمسة من الأنبياء اتّصفوا بأولي العزم؛هم:نوح، وإبراهيم، وموسى،وعيسى، والرسول الأعظم محمّد.

يقول الإمام الرضا. في حديث مرويّ عنه(2):

«إِنَّما سُمِّيَ أُولُو الْعَزْمِ أُولِي الْعَزْمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ الشَّرَائِعِ وَالْعَزَائِمِ وَذَلِكَ

ص: 22


1- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج 9، ص 143.
2- سند الرواية:حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي اللّه عنه)قال:حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيدٍ الكوفيّ الهمدانيّ؛ قال:حدّثنا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضالٍ، عن أبيه، عن أبي الحسن الرّضا.

أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بَعْدَ نُوحٍ .كَانَ عَلَى شَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الخليل .وكُلُّ نَبِيٍّ كَانَ فِي أَيَّامٍ إِبْرَاهِيمَ وبَعْدَهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ مُوسَى .وَكُلُّ نَبِيٍّ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى وَبَعْدَهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى ومِنْهَا جِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى أَيَّامٍ عِيسَى .وكُلُّ نَبِيٍّ كَانَ فِي أَيَّامٍ عِيسَى .وَبَعْدَهُ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى وشَرِيعَتِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ نَبِيِّنَا محمّد ص فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ أُولُو الْعَزْمِ فَهُمْ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ .و شَرِيعَةُ محمّد ص لَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنِ ادَّعَى بَعْدَهُ نبوّة أَوْ أَتَى بَعْدَ الْقُرْآنِ بِكِتَابِ فَدَمُهُ مُبَاحٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ»(1).

وهذا يعني أنّ سبب تسميتهم بأولي العزم هو اتصاف هذه الطائفة من الأنبياء بكونهم أصحاب شرائع؛ أوّلهم:النبيّ نوح .الذي تابعه كلّ الأنبياء الذي جاؤوا من بعده على شريعته ومنهاجه وكتابه السماويّ إلى زمان الخليل إبراهيم.،فتابع إبراهيمَ الأنبياءُ من بعده في شريعته وكتابه السماويّ إلى زمان الكليم موسى.، ثمّ اتبع موسى جميع الأنبياء من بعده في كتابه وشريعته ومنهاجه إلى زمان المسيح عيسى .، ثمّ تابع عيسى كلُّ نبيّ جاء في زمنه أو ما بعده إلى حين ظهو رسالة النبيّ الخاتم محمّد.

أما شريعة نبيّنا محمّد .فلا ولن تُنسخ حتى قيام الساعة، وهو النبيّ إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها . وإنّ هؤلاء الأنبياء الخمسة من أولي العزم هم أفضل الأنبياء والرسل على الإطلاق.

وفي المحصّلة نقول : إنّ مجموع النصوص الدينية علّمتنا ما يأتي:

1. «النبيّ» بأحد معانيه أعمّ من «الرسول»، و«الرسول» أعمّ من «أولي العزم».

2. العناصر العامة للنبوّة كما نستلهمها من مجموع النصوص الدينية هي: بشريّة

ص: 23


1- عيون أخبار الرضا .،الصدوق، ج 2، 80؛مسند الإمام الرضا .،ابن سليمان الغازي، ج 1، ص 48.

النبيّ، واستقباله للوحي ومن اللّه عَزَّ وَجَلَّ،وارتباطه المباشر مع عالم الغيب،والإعجاز في إثبات النبوّة، وأنّ الهدف في هذه المسيرة هو الهداية(التبشير والإنذار)من أجل إقامة الحجّة الإلهية على الخلق،وأنّ جميع المكلّفين من الجنّ والإنس هم المخاطبون بالبلاغ الإلهيّ.

2/2/13. البيان الكلامي للنبوّة:

يتوزّع المتكلّمون المسلمون إلى خمس مدارس شهيرة؛هي الإمامية،والمعتزلة،والأشاعرة،والماتريديّة، وأهل الحديث(1).وقد عرض غالبية المتكلمين المسلمين بحث النبوّة في ضوء الصفات الكمالية اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،ولم يركّزوا اهتمامهم على الدراسة الأنطولوجيّة للعالم، أو على ما يرتبط ببحوث دراسة الإنسان المنصبّة على الأنبياء.

1/2/2/13 . الرؤية الكلامية الإمامية:

درس المتكلّمون الإماميّون من الشيعة الاثني عشريّة تعريف النبوّة وضرورة ابتعاث الأنبياء من خلال خوضهم في مباحث الحسن و القبح الذاتيين والعقليين((2))،مستعينين ببعض الصفات الإلهيّة؛من قبيل : العدل والحكمة واللطف التي يتصف بها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى.ولم يصرّح كثير من المتكلمين بما يُفهم منه أنّ هذا المقام الإلهيّ اكتسابيّ أم تفضّليّ؟ ولم يحدّدوا أيضاً هل حاز الأنبياء مقام النبوّة من خلال مسيرةٍ دارسةٍ للعالم أو دارسةٍ للإنسان مكّنتهم من إيجاد الأرضية المطلوبة لذلك،أم أنّ هذا المقام الربانيّ قد وُهِب لهم بتفضّل إلهيّ؟

ص: 24


1- عندما يتطرّق الباحثون في علم الكلام الإسلاميّ إلى مدرسة«أهل الحديث» فهم يقصدون بهم عادة «الحنابلة»ومن تبعهم في منهجهم الدارس لأصول الدين. ومن الجليّ لكلّ متابع لتاريخ هذا العلم ومدارسه أنّ منهج اهل الحديث قائم على نبذ علم الكلام ورفضه؛ إذ يرون فيه زيغاً وضلالاً عن منهج السلف في التعامل مع العقيدة، وهم لا يذكرون المتكلمين إلا بسوء أو توجّس. ولهذا،لا يمكن عدّهم من المتكلّمين إلا مسامحةً.وعليه:فإنّ المقصود هنا من«المتكلمين»:كلّ باحث أو دارس للعقيدة الإسلاميّة؛ سواء كان مؤمناً بعلم الكلام،أو ناقماً عليه. [م]
2- تقدّم تعريف الحسن والقبح الذاتيين والعقليين عند البحث عن العدل الإلهيّ في الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد عرض المتكلّمون الإماميّون تعريف النبوّة بتعابير متنوّعة،ذهبوا فيها إلى أنها وظيفة إلهيّة يكون فيها المبعوث من قبل اللّه جَلَّ وَعَلا قد أرسل من أجل هداية الناس،وإصلاح أمرهم.من بين هذه التعاريف التي رامت كشف النقاب عن حقيقة النبوّة ما يأتي:

يقول الفاضل المقداد:«النبيّ»هو:الإنسان المأمور من السماء بإصلاح الناس في معاشهم ومعادهم، العالم بكيفية ذلك،المستغني في علمه وأمره عن واسطة البشر،المقترنة دعواه بظهور المعجز.(1).

ويقول المحقق الطوسيّ:«النبيّ»: إنسان مبعوث من اللّه تعالى إلى عباده؛ ليكملّهم بأن يعرّفهم ما يحتاجون إليه في طاعته، وفي الاحتراز عن معصيته(2).

وعند بقيّة متكلّمي الإماميّة: «النبيّ»هو:الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بغير واسطة أحد من البشر(3).

ومحصّل هذه التعاريف الثلاثة التنويه بثلاثة عناصر رئيسة فيها؛هي :

1.انبعاث الأنبياء من جانب اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

2.اضطلاعهم بمهمة هداية الخلق، وإصلاح أمورهم.

3.تمسّكهم بوسيلة الإعجاز في حركتهم نحو إثبات مصداقيّتهم.ومن الملاحظ هنا أنّ أيّاً من التعاريف المذكورة لم يتّخذ أيّ منحى دارسٍ للإنسان أو العالم في تبيينه لمقام النبوّة.

ص: 25


1- اللوامع الإلهيّة المقداد، ص 239
2- قواعد العقائد، الطوسي، ص 87.
3- مناهج اليقين،العلامة الحلي، ص263؛ الباب الحادي العشر، ص 58؛المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصّي، ص371؛ قواعد المرام،ابن ميثم البحراني، ص122.

2/2/2/13. الرؤية الكلامية الاعتزالية:

المدرسة الاعتزالية هي إحدى الفرق الكلامية التي تنضوي تحت اللواء السنّيّ،وقد كانت لها صولات وجولات في القرون الأولى من تاريخ الإسلام،وروّج لأفكارها جمع من كبار المفكّرين المسلمين؛مثل : النظّام، والقاضي عبد الجبّار المعتزليّ،والزمخشري.

لم تعرض المعتزلة بحث النبوّة بوصفه أصلاً مستقلًّا، بل تطرّقوا له عند دراستهم للعدل،وهكذا ذهبوا إلى أنّ ابتعاث الأنبياء وإرسالهم من قبل اللّه العادل جَلَّ وَعَلا - لهداية الإنسان وإرشاده إلى السعادة - كان ضروريّاً على ضوء معطيات بحث الحسن والقبح الذاتيين والعقليين(1). وهذه الرؤية في تبيين النبوّة كصاحبتها الإماميّة تنطلق من منحى دارس للإلهيات؛ وذلك نظراً لإفادتها في عملية الشرح والتوضيح من صفة العدل الإلهي ، ومن الغرض الإلهي الذي يستهدف الهداية.

3/2/2/13. الرؤية الكلامية الأشعرية

تمثّل المدرسة الأشعريّة إحدى الفرق الكلاميّة الحيّة في العالم الإسلامیّ.وقد تصدّى المتكلمون الأشعريون لفكرة العدل الإلهي المبتني على أساس الحسن والقبح الذاتيين والعقليين، رافضين ذلك، ورافعين راية الحسن والقبح الشرعيين.وعصارة ما ذهبوا إليه في هذا الشأن أن يُقال:«كلّ ما يصنعه الحبيب فهو حلو زبيب»؛لا أن يُقال :«الحلو الزبيب ما يصنعه الحبيب»(2).

وعلى هذا الأساس،فإنّ الأنبياء الذين اصطفاهم اللّه عَزَّ وَجَلَّ قد لا يتحلّون بأَيِّ مرجّح يدعو لاصطفائهم، كما أنّ ابتعاثهم أو عدم ابتعاثهم سيّان في فقدان الضرورة.

ص: 26


1- راجع:شرح الأصول الخمسة ،القاضي عبد الجبار ، ص 563.
2- هذه العبارة - وكذا حال سابقتها - ليس إلا كناية عماً يدور في خلد الأشاعرة في المقام، وهي معادل منحوت لمقابلة المقولة الفارسيّة: «آنچه را شیرین بُوَد،خُسرو كند»، والذي يعادل العبارة السابقة هو البيت الشعريّ الفارسيّ الذي يقول: «آنچه آن خُسرو ،کند شیرین بُوَد». [م].

يقول إمام الحرمين الجوينيّ:فليست النبوءة راجعة إلى جسم النبيّ،ولا إلى عرض من أعراضه(1).

ويقول القاضي الإيجي:

فهو عند أهل الحقّ من قال له اللّه:«أرسلتُك»، أو: «بلّغهم عنّي»، ونحوه من الألفاظ. ولا يُشترط فيه شرط الاستعداد، بل اللّه يختصّ برحمته من يشاء من عباده(2).

وقد ذهب الشهرستاني إلى القول:

قال أهل الحقّ : النبوّة ليست صفة راجعة إلى نفس النبيّ،ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه، ولا كسبه، ولا استعداد نفسه يستحق به اتصالاً بالروحانيّات، بل رحمة من اللّه تعالى، ونعمة يمنّ بها على من يشاء من عباده(3).

وقيل في هذا الخصوص أيضاً:

إنّ شكر نعمة المنعم واجب عقلاً وشرعاً، والعقل لا يهتدي لمعرفة ذلك بطريق التفصيل إلا بالسمع(4).

تشير جميع هذه النصوص إلى انعدام أي دليل أو مرجّح أو لياقة واستعداد ذاتيّ تتحلّى به شخصيّة النبيّ، ويكون السبب في بلوغه مرتبة النبوّة. ومن ثُمَّ : فليس هناك من عامل يغاير الرحمة الإلهية التي اقتضت - حسب هذه الرؤية - أن يبلغ المرء هذا المقام.

وهنا، يتّضح أنّ البيان الأشعريّ للنبوّة يتناسب مع المنحى المرتبط بمباحث الإلهيات أكثر من بقيّة الفِرق المشار إليها .

ص: 27


1- الإرشاد،الجوينيّ، ص 143.
2- شرح المواقف،الجرجانيّ، ج 8،ص 218 ،والنصّ من المواقف للإيجي (الماتن).
3- نهاية الأقدام، الشهرستاني، ص 258.
4- أصول الدين جمال الدين الغزنويّ، ص 119.

4/2/2/13. الرؤية الكلامية الماتريدية:

تقترب المدرسة الماتريديّة في منظومتها الكلاميّة من الأشاعرة في بعض الجهات،وتختلف معها في أخرى. وفي موضوع النبوّة، ذهب أعلام الماتريديّة إلى أنّ اصطفاء الأنبياء وابتعاثهم ينطويان - من دون شكّ - على حكمة إلهية، واستعداد ذاتيّ في الأنبياء،مكّنهم من تلقّي الحقيقة الناصعة.

يقول أبو منصور الماتريديّ-وهو مؤسّس هذه المدرسة - :

إثبات النبوّة من حكمة اللّه(1).

5/2/2/13. حصيلة البيان الكلامي للنبوة:

هل الحكمة تعود إلى الناس، أم إلى النبيّ؟

هل السبب الذي استدعى نزول الوحي هو هداية الناس،أم السبب عائد إلى القابلية التي يتمتّع بها ذلك النبيّ؛فلأجلها نزل الوحي؟

أم أنّ كليهما مطلوب في ذلك؟

هذه تساؤلات لم تجب عليها تلك المدارس.

وإلى هنا، يتّضح أنّ بيان المتكلمين المسلمين للنبوّة مبنيّ ومرتكز على أسلوب البحث في الإلهيات، وقد اختلفوا في الإجمال والتفصيل،فاكتفت المدارس السنيّة بذلك على نحو الإجمال، وعرضه متكلمو الإمامية بنحو أكثر تفصيلاً.

3/2/13. البيان الفلسفي للنبوة:

تحدّث الفلاسفة المسلمون عن حقيقة النبوّة وضرورتها بنحو تفصيليّ،وقد ذهبوا

ص: 28


1- التوحيد، أبو منصور الماتريدي، ص 177.

في آرائهم إلى نظريّة تكامل الإنسان؛ بمعنى أنه كائن مركّب من روح وبدن، وهو قابل للرقيّ والتعالي، فإذا نمت جميع قواه الحسية والخيالية والعقلية،فإنه يبلغ مرحلة يتمكن فيها من التواصل مع الملائكة، والارتباط بعالم العقول،ويتسنّى له عندئٍذ تلقّي الوحي الإلهيّ،وتظهر على يديه المعجزات.

ویری الفلاسفة أنّ القوّة الحسّيّة عند النبيّ عندما تصل إلى حدّ الكمال فإنّ قوّتّه التحريكية تزداد قدرةً، فيتمكن عندها من التصرّف في عالم التكوين،وهذا ما يُفسّر قدرته على فعل المعاجز والأفعال الخارقة للعادة(1).

وإذا نمت القوة الخيالية عند النبيّ،أمكن له الارتباط بعالم المثال،ومشاهدة تمثّل المَلَك،وسماع الوحي. أمّا إذا تجاوز العقل الهيولانيّ والعقل بالملكة(وهما متربتان أوّليّتان من القوّة العاقلة،ترتبطان بحدّ الاستعداد القابليّة الضئيلة)،وبلغ مرحلة العقل بالفعل(هو العقل القادر على استنتاج المجهولات من المعلومات)، ومرحلة العقل المستفاد(وهو العقل المتّصل والمرتبط بالملائكة والعقل الفعّال)،فإنّه وقتئذٍ قادر على معرفة جميع الحقائق على واقعها.

ولم يقصد الفلاسفة في مقولاتهم تلك أنّ الأنبياء اكتفوا في حصولهم على مقام النبوّة بمجرّد ما بلغوه من تطوّر اختياري،أو بوصول قواهم الثلاثة (الحسّ، والخيال،والعقل)إلى مرحلة الفعليّة؛من دون أن يكون هناك دور للتفضّل والكمال الإلهيين،كما أنّهم لم يريدوا القول بأنّ الأنبياء قد باشروا إنتاج «الوحي»، وتصنيع «النصّ»من عند أنفسهم،بعدما بلغوه من رقيّ على مستوى الحسّ والخيال والعقل،بل آمنوا بأنّ الوحى الإلهىّ هو لهيّ هو أحد أفعال اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،وهو يُفاض على الأنبياء تفضلاً وكرماً، وهو منحصر بالإنسان

ص: 29


1- يقول الفاراتي في هذا الصدد:«النبوّة تختصّ في روحها بقوّة قدسيّة تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر [أي الطبيعة]،كما يذعن لروحها غريزة الخلق الأصغر [أي:البدن]،فتأتي بالمعجزات».فصوص الحكم، الفارابي، الفصّ 32.

الكامل الذي تهيّأت في وجوده الأرضيّة اللازمة لتلقّيه بعدما مرّ به من رقيّ و تكامل معرفيّ إنساني وعالميّ(1).

يقول الفيلسوف الأرسطيّ ابن رُشد :

والذي يقول به القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنّما هو عن اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى(2).

وقد قصد هنا الإشارة إلى أنّ تلقّي الوحي عند الأنبياء أمر قادم من جانب اللّه جَلَّ وَعَلا.

وبناءً على ذلك،فإنّ بيان الفلاسفة للنبوّة بيان ينتهج المنحى المرتبط بدراسات الإلهيّات،ومعرفة الإنسان، وقد التفتوا في شرحهم لحقيقة النبوّة إلى القدرة الإلهية،مستفيدين في الآن ذاته من مجالات الحسّ والخيال والعقل.

4/2/13 البيان العرفاني للنبوة:

«العرفان»علم انطوى - في صفحات تاريخه الطويل-على سعة كبيرة وتنوّعات عديدة(3).وقد عرضت فصول هذا العلم أبحاث النبوّة بشكل مفصّل وموسّع.

ص: 30


1- راجع:جوهر المراد(بالفارسية گوهر مراد)،الفياض اللاهيجّي، ص 366؛الشواهد الربوبية،صدر الدين الشيرازيّ،ص 1 و 241؛الحكمة المتعالية،صدر الدين الشيرازيّ،ج 7،ص 24 و 358؛ مفاتيح الغيب،صدر الدين الشيرازيّ،ص 33،المبدأ والمعاد،ابن سينا،ص 116؛مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق،ج 3، ص 245؛ آراء أهل المدينة الفاضلة، الفارابي.
2- تهافت التهافت،ابن رشد، ص 516.
3- الهاجس الأكبر الذي اهتمّ العرفان الإسلاميّ بأمره في الأدوار الأولى من تاريخ الإسلام هو السلوك والرياضة العملية،وبعض من ألوان النشاطات الاجتماعية.وقد انطلق تدوين بعض المكتوبات العرفانيّة من القرن الرابع الهجري، فصُنّفت بعض الرسائل في هذا الصدد؛منها:«اللمع في التصوّف»و«القشيرية». استخدم أهل العرفان مفردة «تصوّف» في القرن الثاني الهجريّ،ثم انضمّت إليها مفردة «عرفان» في القرن الرابع.وقد انصبّت نشاطات التصوف والعرفان إلى القرن السادس في دائرة«العرفان العملي»بنحو اجتماعي.بعد ذلك،عمد محيي الدين بن عربّي إلى تأسيس«العرفان النظري»لأوّل مرّة،فقام ببيان الأبحاث العرفانيّة التي كان أهل المعرفة يشاهدونها بالكشف والشهود في سياق منظّم ومعقلن، واستطاع ابن عربي بمساعدة القونوي-وهو تلميذه وابنه بالتبنّي-أن يقدّم أنموذجاً جديداً في الأبحاث الأنطولوجية الدارسة للوجد.وفي هذا العصر،اصطفت الأنطولوجيا العرفانية إلى جانب الأنطولوجيا الفلسفية والكلامية. وأهمّ ما قام به ابن عربي هو تدوينه لمنظومة عرفانيّة سعت إلى تنظيم الكشف والشهود عند العارف بنحو معقلن،ممّا سهّل على الأجيال التي أعقبته من العرفان عمليّة التدليل على العرفان النظريّ ببراهين عقلية.وهنا،يُذكر ابن تركة بوصفه أحد أعلام العرفان النظري الذين برهنوا بالأدلة العقلية على نظرية «وحدة الوجود»التي أطلقها ابن عربي.بعد ذلك، تمكّن صدر الدين الشيرازيّ من إقامة الحجج والبراهين العقلية على بعض قضايا المنظومة العرفانيّة عند ابن عربي،فتطرّق مثلاً:لأصالة الوجود، واتحاد العاقل والمعقول،والحركة الجوهرية،فضلاً عن وحدة الوجود.وهذا ما أدّى إلى اتساع رقعة العرفان النظري وتمدّد أبحاثه.لقد ركب ابن عربيّ نظامه العرفانيّ على ثلاثة محاور رئيسية؛هي:قضيّة «وحدة الوجود»،وقضية«تجليات الوجود وتنزلاته»،وقضية«الإنسان الكامل بصفته أكمل التجليات الإلهية». وتُعدّ وحدة الوجود إحدى أهمّ أحكام الهوية الغيبية.والهوية الغيبية في العرفان النظري هي مقام الهوية على نحو اللابشرط المقسميّ التي لا يُحمل عليها أيّ حكم تعييني، أي اسم==ووصف متعيّن،وهو ما يسميّه العرفاء ب«اللاتعيّن»،فيقولون:هو مقام لا اسم له،ولا وصف.هذا،ويقوم العرفاء في منظومتهم الأنطولوجية ببيان التعيّنات بعد تجاوزهم للهوية الغيبية التي هي مقام «اللاتعيّن»،فيقسمون التعيّنات إلى طائفتين:تعيّنات ربوبية،وتعيّنات خلقية.أمّا الربوبية فهي متعلقة بصقع العالم الربوبي،وهو يتقدم على عالم الخلق والإيجاد،وينطوي على مرتبتين:التعيّن الأول،ثم التعيّن الثاني.فالتعيّن الأول:هو مقام الأحدية، ومقام الحقيقة المحمّدية، وهو مقام لا يبلغه في قوس الصعود إلّا النبي المصطفى محمّد.وخلفاؤه بالحق:.وهذه المرتبة في المنظومة الأنطولوجية هي مقام الأسماء والصفات الإلهية بنحوها الاندماجيّ واللاتفصيليّ. والحديث الشريف الذي يروي أنّ«أوّل ما خلق اللّه نوري»ناظر إلى هذا المقام،وهذه المرتبة.أمّا المرتبة الثانية من تعيّنات الصقع الربوبيّ فهو التعيّن الثاني،أو مقام الواحدية، وهو مقام الأسماء والصفات الإلهية بنحوها التفصيلي.وتقع الأعيان الثابتة أو مقام العلم الإلهي وصور عالم الخلق في هذه المرتبة. وبعد التعينات الربوبية تقع التعينات الخلقية، وفيها تتموضع عوالم الأرواح(المجردات التامة)، والمثال،والطبيعة.هذا،وتمهّد أبحاث الأنطولوجيا العرفانيّة الأرضية اللازمة لأبحاث معرفة الإنسان العرفانيّة. وإنّ الإنسان الكامل في العرفان النظريّ جامع لجميع تعيّنات الصقع الربوبي، والتعينات الخلقية. وفي هذه المرتبة تقع جميع والتعيّنات والأسماء والصفات الإلهية، ويتموضع مقام النبوّة ومقام الولاية - التي هي باطن النبوة - في هاتين المنظومتين؛ أي: الأنطولوجيا العرفانية،ومعرفة الإنسان العرفانية.

وقد استُخدمت في العرفان بعض المصطلحات التي تساعدنا معرفتها على تبيين النبوّة؛منها:«النبوّة»،و«الرسالة»، و«الولاية»، و«الإنسان الكامل»،وهي مفردات سوف نسلّط الضوء عليها هنا في هذا البحث.

يقول الإمام الخميني (1409ه) قُدَّسَ سِرُّه:

إنّ النبوّة الحقيقية المطلقة هي إظهار ما في غيب الغيوب في الحضرة الواحديّة حسب استعدادات المظاهر بحسب التعليم الحقيقیّ والإنباء الذاتي، فالنبوة مقام ظهور الخلافة والولاية، وهما مقام بطونها(1).

ص: 31


1- مصباح الهداية الإمام الخمينيّ، ص 38 .وراجع أيضاً:تقريرات الأسفار،الإمام الخميني، ص 351، تعليقات على شرح الفصوص،الإمام الخميني، ص 96.

وهو يرى أنّ«النبوّة الحقيقيّة»تنبثق من مقام«الواحديّة»؛لأنّ مقام«الأسماء والصفات»ينبئ عن مقام«غيب الغيوب»و«الأحديّة»،وبعد ذلك فإنّ وجود الصادر الأوّل(العقل)ينبئ بكمالاته الشاملة عن مقام الواحدية؛وهي تجلّي وظهور الخلافة والولاية الإلهية(1).

إنّ مقام النبوّة هو إخبار وإعلان عن الحقائق الإلهية والمعارف الربّانية من حيثيات الذات والصفة والاسم.وينقسم هذا المقام إلى قسمين:نبوّة التعريف، ونبوّة التشريع:

أمّا«نبوّة التعريف»فهي:معرفة الذات،والصفات،والأسماء،والأفعال.

وأمّا«نبوّة التشريع»فهي:نبوّة التعريف بزيادة تبليغ الأحكام،والتأديب بالأخلاق،وتعليم الحكمة،والقيام بأمر السياسة.وهذا القسم من النبوّة هو المسمّى ب«الرسالة».

والمراد من «النبيّ»:الإنسان الكامل الذي بُعث من قِبل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليدلّ العباد على حاجاتهم ، ولكي يُبعدهم عن الذنوب والمعاصي. قال عَزَّ وَجَلَّ:

(لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(2).

(وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾(3).

وقد قسّم العرفاء المسلمون النبوّة-بنحو آخر-إلى قسمين آخرين؛هما:النبوّة المطلقة، والنبوّة المقيدة:

أمّا«النبوّة المطلقة»فهي:الوقوف على الحقائق الإلهيّة،والدقائق الربانيّة كما هي

ص: 32


1- راجع المصادر السابقة.
2- سورة آل عمران 164.
3- سورة النور: 21. لاحظ : المقدّمات من نصّ النصوص، سيّد حيدر الآملي، ص167، 271.

متحقّقة.ولهذا،فإنّ النبوّة تستلزم معرفة حقائق الممكنات الموجودة وغير الموجودة،علاوةً على الماهيات المعدومة،وكذلك الأعيان الثابتة.

وأمّا«النبوّة المقيَّدة»فهي: الإخبار عن الحقائق الإلهية؛أي:معرفة ذات الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى، والأسماء والصفات،والأحكام الإلهية.

وإنّ النبوّة المطلقة والمقيّدة لا تتيسّر لأيّ أحد إلا لمن يستحقّ مقام«الخلافة الإلهية»،ومن اللازم أن يكون هذا الفرد خليفةً بالفعل وعلى أرض الواقع. وبناءً على ذلك، تعود النبوّة المطلقة والمقيّدة إلى «الحقيقة المحمّديّة».

ولا يتلقّى الأنبياء علومهم الإلهية إلا من خلال الوحي الإلهيّ الخاصّ؛ لأنّهم يعلمون بعجز العقل وتصوّراته عن إدراك تلك الأمور(1).

وتنقسم«الولاية»بلحاظ الأولياء إلى ثلاثة أقسام؛هي:الولاية الإلهيّة،والولاية البشريّة،والولاية المُلكيّة. أمّا الولاية البشريّة فهي منقسمة إلى قسمين:ولاية عامّة،وولاية خاصّة،ثمّ تنقسم الولاية الخاصّة إلى مطلقة ومقيَّدة .

أمّا«الولاية العامّة»في العرفان فهي على ثلاثة معانٍ:

أوّلاً:ما يعني التولّي والتصدّي؛ حيث يتولّى بعض من الناس أمر بعض آخر.

ثانياً: ما يعني ولاية عموم المؤمنين الصالحين على حسب مراتبهم.

ثالثاً: تعني الولاية العامة البشرية الولاية المطلقة.

وأمّا«الولاية الخاصّة»فهي مقام يحصل عليه العرفاء بعد سيرهم وسلوكهم المعنويّ الروحيّ ،وتجاوزهم السفر من الخلق إلى الحقّ،وفنائهم في الحقّ. فعندئذٍ

ص: 33


1- راجع:شرح فصوص الحكم،داوود القيصريّ، ج 1، ص 132-133؛شرح فصوص الحكم،تاج الدين الخوارزميّ،ص 32 ؛المقدّمات من نصّ النصوص،سيد حيدر الآمليّ،ص 174 ؛أسرار الشريعة،سيّد حيدر الأملي، ص 90.

يتركون الصفات البشرية،ويتجلّى فيهم الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى بصفاته وتعيّناته الربّانية،وتكون قلوبهم طاهرة من دنس الرذائل والخبائث النفسانية،وينعمون بتوجّه وانشداد كامل إلى الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى،فينقطعون عن الأغيار،وتطمئنّ نفوسهم على أعتاب الحبيب،فيطّلعون حسب درجة قربهم من الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ على الحقائق الحضوريّة الشهوديّة، وعلى العلوم الغيبيّة.

وفي هذه المرحلة،يتّصل وليّ اللّه بربّه تَبَارَكَ وَتَعَالى من خلال الإلهام والإرشاد الغيبّي والوحي الإلهيّ اتصالاً شديداً،فيتحلّى بالكرامات،وخرق العادات،ويصبح مبدءاً للأفعال الإلهية،فيكون عين اللّه التي يرى بها،وأذنه التي يسمع بها،ويده التي يصنع بها.وهذا هو المقام المعروف ب«قرب النوافل»الذي لا ينقطع أبداً،ويبقى على الدوام خالداً؛لأنّ الولاية هي باطن النبوّة،والنبوّة ظاهر الولاية،والولاية فوق النبوّة والرسالة.

والمقصود من«ختم الولاية»العامة والخاصّة ليس الختم الزمانيّ،بل الختم الإحاطي؛أي إنّ«خاتم الأولياء»من حيث الإطلاق والإحاطة محيط بجميع الولايات،وهو أقرب السالكين إلى الحقِّ جَلَّ وَعَلا؛ وليس بمعنى أنّ وليّاً آخر لن يتحقّق بعده.وعند الشيعة الإماميّة فإنّ خاتم الولاية المطلقة هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب .،وخاتم الولاية الخاصة هو الإمام المهدي.(1)

يقول السيد حيدر الآمليّ في تفسيره لمفردة«الوليّ»:

الوليّ هو من تولّى الحقّ أمره،وحفظه من العصيان، ولم يخله ونفسه بالخذلان،

ص: 34


1- راجع:شرح فصوص الحكم،داوود القيصريّ،الفصل الثاني عشر من المقدمة في النبوّة والرسالة والولاية، ص 148-146؛ شرح منازل السائرين،عبد اللّه الأنصاري، باب الغرق،ص 492-495؛جامع الأسرار ومنبع الأنوار، عبداللّه الأنصاريّ، ص 386-387 ؛المقدّمات من نصّ النصوص،الأملي،ص 167-169 أسرار الشريعة، الأملي،ص 101؛الفتوحات المكيّة، ابن عربي،الباب الثاني والخمسون ومئة،ج 14، ص ؛التجلّيات الإلهية، ابن عربي،ص 299- 301 ؛مصباح الهداية،الإمام الخميني،ص 50 فما بعد.

حتى يبلغ في الكمال مبلغ الرجال. قال اللّه تعالى:﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾(1)،وقوله جلّ ذكره:(رِجالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةً وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ﴾(2)،إشارة إليهم،وكذلك قوله:﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ ﴾(3)،والولّي هو المحبوب تارةً،والمحبّ تارةً؛فإذا كان في المقام المحبوبيّ،فلا تكون ولايته كسبيّة،ولا موقوفة على شيء،بل تكون أزلية ذاتية وهبية إلهية،كما كانت لخاتم الأولياء-وأتباعه الحقيقيين-الذي قال:«كنت ولياً وآدم بين الماء والطين»،وأمّا إذا كان الوليّ في المقام المحبّیّ، فلابدّ له من الاتصاف بصفات اللّه والتخلّق بأخلاقه؛ ليصدق عليه أنه وليّ، وإلّا فلا(4).

والفرق بين «النبیّ» و«الرسول» و «الوليّ» أنّ النبيّ والرسول لهما حقّ التصرّف في الخلق على حسب الظاهر والشريعة،أمّا الوليّ فهو يتصرّف في الخلق على حسب الباطن والحقيقة؛ولهذا فإنّ الولاية أعظم من النبوّة(5).

ولم يختلف العرفاء في أنّ نيل مقام الولاية الخاصة يعني الإفادة من الدين والشريعة،وأنّ بلوغ مقام قرب النوافل والتعيّنات الربّانية وتطهير النفس من الخبائث لا يتيسّر من دون الانخراط في سبيل الدين والتديّن والسير والسلوك المقتبس من الشريعة.

أمّا المصطلح الآخر الذي يمكن أن يعيننا في فهم النبوّة فهو«الإنسان الكامل»،وقد تناول العرفاء هذا البحث في العرفان النظريّ عند حديثهم عن أنواع المظاهر والظهورات وأبحاث الأسماء والتجلّيات والأعيان الثابتة والحضرات الخمسة،كما أنهم تطرّقوا له في العرفان العملى أيضاً.

ص: 35


1- سورة الأعراف: 196.
2- سورة النور: 37
3- سورة النور: 37.
4- المقدّمات من نصّ النصوص،السيد حيدر الآملي، ص 270.
5- راجع:المصدر السابق،ص 169-168.

وقد ذهب أهل المعرفة في العرفان النظريّ إلى أنّ حاجة عالم التكوين والبشرية إلى«الإنسان الكامل»هي حاجة تكوينية؛ لأنّ ظهور حقيقة الوجود المطلق وتجلّيها أمر ضروريّ،والتجلّيات تتحقّق بنحو المراتب التشكيكيّة على أساس من قابليات الموجودات في الأعيان الثابتة،ولأجل تكميل حلقات هذه السلسلة، يتحتّم وجود حلقة ومرتبة هي«الإنسان الكامل»،وهي مرتبة تجتمع فيها جميع المراتب الإلهيّة والكونية بما يشمل العقول والنفوس الكلية والجزئية والمراتب الطبيعية. وبناءً على ذلك،لا يقتصر الأمر على حاجة البشرية،بل إنّ جميع مراتب تجلّيات الكون تفتقر تكوينيّاً إلى الإنسان الكامل.

أمّا حاجة السالكين إلى الإنسان الكامل في دائرة العرفان العمليّ فأمر مشهود أيضاً؛فالإنسان الذي ينوي الحركة صوب الكمال مضطر إلى طيّ المراحل والمنازل والمقامات،وهو في سيره وسلوكه هذا محتاج إلى الإرشاد والهداية،والإنسان الكامل يمثل أعلى مراتب الهادين المرشدين(1).

ولا ينحصر مقام «الإنسان الكامل»و«الخلافة الإلهية»في الرجال - كما يرى محيي الدين بن عربيّ في كتابه «عقلة المستوفز» - بل يمكن للنساء أيضاً أن يبلغن هذا المقام؛ لأنّ مناط الكمال هو الإنسانية؛ وليست الحيوانية والذكورية. وعليه:فإنّ الكمال قد يظهر في النساء كما يظهر في الرجال(2).

ولا يخفى أنّ سعة دائرة الخلافة في عالم المُلك أو ضيقها مرهون بإحاطة الخليفة بالأسماء الحاكمة، ويظهر سرّ الاختلاف بين الأنبياء في خلافتهم أو نبوّتهم إذا ما التفتنا إلى موضوع «الإحاطة» هذا(3).

ص: 36


1- الفتوحات المكية، ابن عربي، ج 1،ص 118 ،153،389 ؛نقد النصوص، عبدالرحمن الجاميّ، ص 30-61 ؛شرح فصوص الحكم، داوود القيصريّ، ج 2، ص 409 .
2- راجع كتاب «محيي الدين» لمؤلّفه: محسن جهانگيري، ص 328 [بالفارسية].
3- مصباح الهداية،الإمام الخميني، ص 83.

وإنّ مرتبة«الحقيقة المحمّدية»هي مرتبة«الإنسان الكامل»بعينها،وهو المقام الذي يكون الإنسان فيه محيطاً بجميع الأسماء الإلهية، والمراتب الكلّيّة.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الإنسان الكامل عند العرفاء إنما هو كونٌ(وجود)جامعٌ يشتمل على جميع المراحل المنضوية تحت لواء الفيض المقدّس(عالم الأرواح، وعالم المثال،وعالم الأجسام)،والفيض الأقدس (التعيّن الأوّل،والتعيّن الثاني)(1).

ويجمع الإنسان الكامل-حسب رؤية أهل العرفان-بين المظهرية المطلقة،ومظهرية الأسماء والصفات والأفعال،كما أنّه يجمع بين الحقائق الوجوبية،والحقائق الإمكانية،ونِسَب الأسماء والصفات الخلقية.هذا، وإنّ الإنسان الكامل يمتلك مقاماً لا يجاريه فيه أيّ كائن من موجودات عالم الإمكان؛فليس له من المخلوقات أيّ ندّ أو كفو.وكما يقول الإمام الرضا .في حديث مرويّ عنه :

«الإمَامُ وَاحِدُ دَهرِهِ،لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ،وَلَا يُعَادِلُهُ عَالِمٌ،وَلَا يُوجَدُ مِنْهُ بَدَل وَلَا لَهُ مَثَل وَلَا نَظِيرُ،...وَهُوَ بِحَيث النَّجم مِن يَدِ المُتَناوِلِينَ،وَوَصْفِ الْوَاصِفِينَ؛فَأَينَ الاخْتِيَارُ مِنْ هَذَا؟ وَأينَ العُقُولُ عَن هَذَا؟»(2).

فالإنسان الكامل قطب تدور حوله أفلاك الوجود من البداية وإلى النهاية(3).

وعلى العموم،فإنّ الإنسان الكامل نسخة تجمع في طيّاتها كلّ ما في العالم الكبيرة والحضرة الإلهيّة. وبناءً على ذلك، فإنّ الحادث والقديم، والحقّ والخلق، والكون الجامع والأكمل هي بأسرها مظاهر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،وهي تمثّل مظهر الاسم الأعظم.وبطبيعة الحال،فإنّه بلحاظ البدن العنصريّ يتأخّر عن كثير من الموجودات،

ص: 37


1- أشرنا في الهوامش السابقة إلى الاختلاف بين هذين التعينين. [المؤلّف]
2- الكافي، الكليني، ج 1، ص 201.
3- لاحظ:تحرير تمهيد القواعد،الجواديّ الآملي،ص 47، 547، 561؛ الإنسان الكامل،عبدالكريم الجيلي، ج2، 75 ؛مصباح الهداية،الإمام الخميني، ص 35،مصباح الأنس،الفناري،ص 622؛نقد النصوص،الجاميّ، ص 61-62.

وجميع الأنبياء، لكنّه بلحاظ وجوده الكلّيّ السعيّ والانبساطيّ مقدَّم على الكلّ،وإنّ جميع الأنبياء ورثته في الشريعة والولاية.

إنّ الإنسان الكامل خليفة الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ،وتظهر فيه كلّ الحقائق، ولهذا فإنّ عينه الثابتة هي أوّل ظهور تشهده نشأة الأعيان الثابتة.

أمّا فيما يخصّ العلاقة بين«النبوّة»و«الولاية»و«الإنسان الكامل»في رؤية أهل العرفان، فيُستحسن أن نقف عليها من خلال ما قاله العالم الربّانيّ والعارف الصمدانيّ عبد الصمد الهمداني في كتابه«بحر المعارف»؛حيث قال:

الولاية باطن النبوّة،والنبوّة ظاهرها،...الإنسان الكامل إمّا نبيّ أو وليّ.والنبوّة إمّا مطلقة أو مقيّدة؛ فالنبوّة المطلقة هي النبوّة الحقيقية الحاصلة في الأزل، الباقية إلى الأبد، وهو اطلاع النبيّ المخصوص بها على استعداد جميع الموجودات بحسب ذواتها وماهياتها، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه الذي يطلبه بلسان استعداده،من حيث أنه الإنباء الذاتيّ والتعليم الحقيقيّ الأزليّ المسمّى بالربوبيّة العظيمة والسلطنة الكبرى، وصاحب هذا المقام هو الموسوم بالخليفة الأعظم، وقطب الأقطاب، والإنسان الكبير، وآدم الحقيقيّ، المعبَّر عنه بالقلم الأعلى،والعقل الأوّل،والروح الأعظم،...وتستند جميع العلوم والأعمال إلى هذا الإنسان، وكذلك تنتهي إليه جميع المقامات والمراتب؛سواء كان هذا الإنسان الكامل رسولاً أم وصيّاً، أو كان نبياً أم وليّاً. وباطن هذه النبوّة هي الولاية المطلقة، وهي عبارة عن حصول هذه الكمالات بحسب الباطن(1).

أما ابن عربي فيعبّر عن النبوّة والرسالة بقوله:

كانت النبوّة والرسالة اختصاصاً إلهياً ليس فيها شيء من الاكتساب(2).

ص: 38


1- راجع:بحر المعارف، الهمدانّي، الفصل 64:في النبوّة والولاية. ولا يخفى أنّ أصل هذه العبارة موجود في كلمات السيد حيدر الآملي (787ه)، فالأولى الإحالة إلى كتابه جامع الأسرار ص 380-382 بدلاً عمّا قرّره عبدالصمد الهمداني (1216ه) في بحر المعارف؛ وهو متأخّر عنه بقرون. [م]
2- راجع:فصوص الحكم،ابن عربي، ص 221(الفص الداوودي)؛ شرح فصوص الحكم ،القيصري، ص 946. [م]

وهذا البيان العرفانيّ يدلّنا إلى أنّ العرفاء حاولوا تقديم تعريف شامل عن النبوّة والرسالة والولاية والإنسان الكامل من زاوية مباحث الإلهيات، ومعرفة الإنسان، والجانب الأنطولوجيّ الدارس للكون والوجود.

3/13 .أسباب ضرورة بعثة الأنبياء:

بعد الفراغ من تبيين الجانب المفهومي لمفردتي«النبوّة»و«الرسالة»يقع البحث عن«ضرورة ابتعاث الأنبياء»على رأس قائمة المباحث الدارسة للنبوّة.

والبحث هنا يدور حول الأدلّة المثبتة لضرورة وجود النبيّ؛فضلاً عن كون وجوده أمراً غير ممتنع عقلاً .

وعلى هذا الأساس فقد تناول الفلاسفة والمتكلمون والعرفاء المسلمون هذا الموضوع،وأقاموا الحجج والبراهين على إثبات ضرورة بعثة الأنبياء.

وقبل البدء بسرد تلك الأدلّة،تتحتّم الإشارة إلى منهجيّة البحث في تناول هذه المسألة؛فقد انتهج المفكّرون الإسلاميّون لإثبات ضرورة ابتعاث الأنبياء جملةً من المناهج المتنوّعة؛منها:المنهج العقليّ النظريّ،والمنهج العقليّ العمليّ، والمنهج الوظيفيّ. وقد تطرّق الفلاسفة من خلال بيانهم لحاجات الإنسان، والمتكلّمون من زاوية تناولهم لبحث الحسن والقبح العقليين وقاعدة اللطف، وكلاهما من نافذة استعراضهم لوظائف البعثة، تطرّقوا إلى ضرورة وجود الأنبياء ومدى حاجة الإنسان إليهم. وفيما يأتي نشير بتفصيل إلى الضرورة الوحيانية والكلامية والفلسفية والعرفانية التي تكتنف بعثة الأنبياء.

1/3/13.الضرورة الوحيانية لابتعاث الأنبياء:

تناول القرآن الكريم والحديث الشريف المرويّ عن أئمّة الدين: ضرورة وجود

ص: 39

الأنبياء الإلهيين وحاجة البشرية إليهم بسلوك المنهج الوظيفيّ الشارح لوظائفهم والمنافع المترتبة على وجودهم؛نشير إلى بعضها فيما يأتي:

1/1/3/13.الوظيفة الأولى:

بعث الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى الأنبياء لهداية الإنسان نحو عبادة اللّه واجتناب الطاغوت؛يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(1).

(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ)(2).

فالأنبياء - علاوةً على قيامهم بترغيب الناس في عبادة اللّه واجتناب الطاغوت والأصنام التي صنعتها أيديهم - كانوا يوصون بمجابهة طاغوت النفس وأصنامها، وإنّ شرّ الأصنام لهي الأصنام التي في النفوس،وإنّ اتباع الإنسان لهواه وما تشتهيه نفسه وتميل إليه لأمر ينتهي بالمرء إلى الوقوع في هاوية الانحراف والاعوجاج والابتعاد عن الصراط المستقيم وجادّة القرب الإلهي .

لقد ابتلي الإنسان في العصر الراهن بعد ما كنز من ثروات،وما اكتسبه من سلطة وأمور دنيوية وصلت معه إلى حدّ الذروة، وما اقترفه بانغماسه في أوحال الشهوة والغضب،لقد ابتلي بمزيد من التخبّط وهو يرزح تحت وطأة عبادة النفس والصنم.والتاريخ شاهد على أنّ المجتمع كلّما ابتعد عن الأنبياء زادت معاناته من ويلات الشرك والطاغوت.

2/1/3/13. الوظيفة الثانية:

رهي الحكم والقضاء بين الناس بالحقّ،ومخالفة الهوى والنفس. يقول تعالى:

ص: 40


1- سورة النحل: 36.
2- سورة الأعراف: 65.

(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(1).

وإذا قيل إنّ الإنسان قادر على تمييز الحقّ من الباطل بما يعرفه من الحسن والقبح العقليين؛ من دون الحاجة إلى الشريعة، فإنّنا نقول :

أوّلاً: إنّ كثيراً من القوانين لا يُدركها العقل البشري، ولا يُتوصّل إليها باتّباع الأذواق والمشارب العرفية المتلوّنة.

وثانياً: لعلّ الأحكام التي يتوصّل الإنسان إلى حُسنها أو قبحها بسلوكه طريق العقل والتجربة قد تؤدّي به إلى نتائج ضارّة، لا يمكن له تفاديها،وهي حقائق قابلة للتجربة،لكنّها غير قابلة للاستدراك والتعويض، ويكفي للإنسان أن يخوض غمار تجربتها ليقضي بذلك على جوهر وجوده،ويعرّضه للدمار و الاضمحلال؛ كما في موضوع العلاقات الجنسية مثلاً؛ فلو لم تؤطّر بإطار الشريعة الإسلامية التي أمرت بوضع حدود لها، وتُرك أمرها بيد التجربة البشريّة، لعاثت هذه التجربة في أرض الوجود الإنساني وكيانه فساداً، ولمرّغت أنف الإنسان في التراب، ولما نفعه أيّ شيء بعد إزاحة الستار عن الأضرار التي لحقت بالبشرية من جراء إطلاق العنان لحرّيّة جنسيّة مطلقة، وعندئذٍ ليس هناك ما يجبر خسائر هذا الإنسان أو ما يعوّض له مصيباته. ولهذا، فليس من محيص عن التمسّک بالشريعة التي ضمنت تطابق قوانينها مع مسيرة الإنسان التكاملية؛ من دون دفع أيّ ضريبة، أو الوقوع في رهانات خاسرة غير قابلة للتعويض.

3/1/3/13. الوظيفة الثالثة:

وهي إقامة القسط وإرساء العدالة الاجتماعية بين الناس.يقول تعالی:﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(2).

ص: 41


1- سورة ص: 26.
2- سورة الحديد: 25.

فإنّ الأنبياء موظفون بتبليغ حقائق الشريعة والمعارف والقوانين الإلهية الحقّة حتى يتحقّق العدل الذي أمر الناس بتحقيقه والقيام بأمره.

4/1/3/13. الوظيفة الرابعة:

وهي تعليم الكتاب والحكمة والأوامر الإلهية وما لا يعرفه الإنسان، وتهذيب المجتمع على مختلف الصعد. يقول تعالى:

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾(1).

فالأنبياء الإلهيون مأمورون بتعليم الحكمة وتزكية النفوس؛فضلاً عن واجبهم بشأن تلاوة الآيات الإلهية، وتعليم الكتاب السماويّ،والرقيّ بمعلومات البشر التي لا يستغني فيها الإنسان عن الغيب.

والحكمة هنا بمعنى إدراك الحقائق التي إن عمل الإنسان على وفقها لأخذت به إلى طريق الفلاح،وهي علم قرين بالعمل،نتيجته تهذيب النفس،وتطهير الباطن.

5/1/3/13. الوظيفة الخامسة:

وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور.يقول تعالى:﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(2).

فالناس قد ابتلوا في حياتهم بظلمات الدنيا وحُجُبها،ولا سبيل لهم للخلاص من دون التشبّث بأذيال الفطرة النيّرة التي أودعها اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى لانتشال الإنسان من ظلمات الضياع،وقد نزل الكتاب السماوي الإلهي على الأنبياء ليُخرج الناس من الظلمات ويُنقذهم من الحُجُب الظلمانية.

ص: 42


1- سورة البقرة: 151 .
2- سورة إبراهيم: 1.

6/1/3/13. الوظيفة السادسة:

وهي إتمام الحجّة وإلقائها على الناس يقول تعالى:(رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةً بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهِ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1).

ليس في وسع الإنسان أن يجد طريق سعادته على نحو تامّ إذا ما اكتفى بما يملك من أدوات ومصادر معرفيّة أو دعتها السماء في خلقته؛مثل:الحسّ والتجربة والعقل والضمير،ولهذا فلن يصل إلى جادّة الهداية.وإذن لأمكن لهذا الإنسان أن يقف بين يدي ربّه محاججاً ومبرهناً بالدليل العقليّ حقّه في الدفاع عن نفسه بوجود نقص وخلل معرفيّ كان بالإمكان تفاديه؛ بأن يمنحه اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى مصدراً معرفياً آخر يهتدي به إلى سواء السبيل. فلأجل أن يقطع الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الحجة من الأساس،بعث إلى الناس رسله وأنبياءه هداةً، يحملون لهم البشرى والنُّذُر. ولهذا، عُدّ موضوع إتمام الحجّة وإلقائها على الناس واحداً من الأسباب الداعية لابتعاث الأنبياء.

7/1/3/13. الوظيفة السابعة:

وهي إعادة الروح والحياة إلى الإنسان. يقول تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾(2).

وهذه الآية تشير إلى أنّ الإنسان يمتلك حياة أخرى غير حياته النباتية والحيوانية؛ ألا وهي الحياة الروحانية الإنسانية، ولا يتيسّر له تأمين متطلّبات هذه الحياة الروحانية من دون بعثة الأنبياء، وطاعة الناس لهم.

8/1/3/13 الوظيفة الثامنة:

وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الأحکام الإلهية،والحلال والحرام،

ص: 43


1- سورة النساء: 165.
2- سورة الأنفال: 24.

والتحرّر من أغلال الأسر والقهر. يقول تعالى:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبي الأمي الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1).

ما من شكّ في أنّ التعاليم والأحكام السماوية التي يُظهرها الأنبياء الإلهيون للناس كفيلة بإنقاذ البشرية من قيود الأسر الداخليّ والخارجيّ؛ فإنّ الإنسان قد يقع بتمرّده على الأحكام الإلهية في شباك شياطينه الداخليّة(النفس الأمارة بالسوء)، وشياطينه الخارجيّة (الطاغوت)، وهو أمرٌ يُسفر - في نهاية المطاف - عن تكبيله بقيود الأسر الروحيّ والاجتماعيّ.وليس هناك من منقذٍ يقوده إلى الحرّية الروحيّة والاجتماعيّة وإلى الفلاح والسعادة غير اتّباع الرسل الإلهيين وطاعة أمرهم.

9/1/3/13. الوظيفة التاسعة:

وهي رفع الاختلاف والانشقاق في صفوف الأمة. يقول تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهِ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(2).

إحدى الوظائف الأخرى المناطة بالأنبياء هي رفع الاختلاف في المجتمع الإنساني قبل أن يأتيه العلم أو يدعى للهداية والصراط المستقيم.

يقول العلامة الطباطبائيّ في تفسيره لهذه الآية الكريمة:

ص: 44


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة البقرة: 213 .

إنّ الإنسان - وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون - كان في أوّل اجتماعه أمة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية،فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين،وشفعت بالتبشير والانذار:بالثواب والعقاب،وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين،وإرسال المرسلين،ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدأ والمعاد،فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية،وظهرت الشعوب والأحزاب،وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة،فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين، ثم هدى اللّه سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فالدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني، والمصلح الأمر حياته(1).

ثمّ يتابع في بيانه للاختلاف الثاني قائلاً:

ومن هنا، يُعلم أنّ قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك،وإنتاج ذلك للاختلاف الضروريّ من حيث القوّة والضعف يؤدّي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعيّ، ...فكان بروز الاختلاف مؤدياً إلى الهرج والمرج،وداعياً إلى هلاك الإنسانيّة،وفناء الفطرة،وبطلان السعادة. وهذا الاختلاف-كما عرفت-ضروريّ الوقوع بين أفراد المجتمعين من

ص: 45


1- راجع:بحر المعارف،الهمدانيّ، الفصل 64 :في النبوّة والولاية.ولا يخفى أنّ أصل هذه العبارة موجود في كلمات السيد حيدر الآمليّ (787ه)، فالأولى الإحالة إلى كتابه جامع الأسرار ص 380-382 بدلاً عمّا قرّره عبدالصمد الهمداني (1216ه) في بحر المعارف؛ وهو متأخّر عنه بقرون. [م].

الإنسان؛ لاختلاف الخلقة باختلاف المواد،وإن كان الجميع إنساناً بحسب الصورة الإنسانيّة الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار والأفعال بوجه،واختلاف الموادّ يؤدّي إلى اختلاف الإحساسات والإدراكات والأحوال - في عين أنها متحدة بنحو - أو اختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأغراض والمقاصد والآمال،واختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأفعال،وهو المؤدّي إلى اختلال نظام الاجتماع. وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع،وهو جعل قوانين كلّيّة يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كلّ ذي حقّ حقّه(1).

وهنا، يمكن الإشارة إلى بعض النقاط التي يمكن لنا أن نستفيدها من هذه الآية الكريمة على النحو الآتي:

أوّلاً: الدين هو نهج معيّن في الحياة الدنيا يضمن للإنسان مصالحه في الدنيا،كما يضمن له كماله الأخروي وحياته الحقيقية الخالدة عند المليك المقتدر.

ثانياً: نزل الدين منذ فجر ظهوره لحلّ الاختلاف الفطريّ بين البشر.

ثالثاً: الدين الإلهيّ متّجه دائماً نحو الكمال حتّى يضمن للإنسان تلبيته لجميع التشريعات التي يحتاجها على مختلف الصعد، وهنا يبلغ الدين كماله.

رابعاً: كلّ شريعة لاحقة أكمل من الشريعة السابقة لها.

خامساً: السبب الذي دعا لإرسال الرسل وإنزال الكتب هو المسار الطبيعي والفطري الذي يسير فيه البشر نحو الاختلاف، ولهذا فإنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى قاد المجتمع البشري صوب الكمال المطلوب وإلى جهة الصلاح والفلاح في الحياة من خلال إرساله الأنبياء وتشريعه للشرائع، وبدّد بذلك الفرقة والاختلاف؛ فإنّ إحدى

ص: 46


1- راجع:بحر المعارف، الهمداني، الفصل 64 :في النبوّة والولاية. ولا يخفى أنّ أصل هذه العبارة موجود في كلمات السيد حيدر الآملي (787ه)، فالأولى الإحالة إلى كتابه جامع الأسرار ص 380-382 بدلاً عمّا قرّره عبدالصمد الهمداني (1216ه) في بحر المعارف؛ وهو متأخّر عنه بقرون. [م]

الشؤون الربوبية للّه جَلَّ وَعَلا هو أن يهدي كل مخلوق من مخلوقاته إلى درجة الكمال في خلقته.

سادساً : يُستفاد من انتساب البعثة إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن الكريم الاختلاف أن بين الناس لا يُحلّ إلا من جانبه عَزَّوَجَلَّ.

سابعاً: المجتمع الإنساني ينزع نحو الاختلاف كما ينزع نحو التمدّن والتحضّر.

ثامناً: الاختلاف على السبيل المؤدّي إلى السعادة يمكن له أن يؤدّي إلى استئصال البشرية واقتلاعها من جذورها.

تاسعاً: لا يمكن للمعادلات العقلية والفكرية عند البشر أن تقضي على الاختلاف في المجتمع الإنساني.

عاشراً: نستنتج أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى هو الوحيد القادر على رفع هذه الاختلافات بإرساله الرسل، وبما يُفيضه على عباده من الوحي والشريعة.

10/1/3/13 .الوظيفة العاشرة:

وهي الجامعيّة والشموليّة. يروي الشيخ الكليني خمسة أحاديث عن ضرورة ابتعاث الأنبياء والحجج الإلهية في كتابه«الكافي» ؛ أحدها: رواية هشام بن الحكم ؛ حيث ورد فيها أنّ الإمام الصادق .عندما سأله زنديق عن الأنبياء والرسل؛ كيف السبيل إلى إثباتهم ؟ قال :

«لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقاً، صَائِعاً، مُتَعَالِياً عَنَّا وَعَنْ جَميع مَا خَلَقَ، وَكَانَ ذلِكَ الصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً ، لَمْ يَجْرُ أَنْ يُشَاهِدَهُ خَلْقُهُ وَلاَ يُلاَ مِسُوهُ؛ فَيُبَاشِرَهُمْ وَيُبَاشِرُوهُ، وَيُجَاجهُمْ وَيُحَاجُوهُ، ثَبَتَ أَنَّ لَهُ سُفَرَاءَ فِي خَلْقِهِ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ إِلى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَاحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَا بِهِ بَقَاوِهُهُمْ وَفِي تَرْكِهِ فَنَاوِهُهُمْ، فَثَبَتَ الْآمِرُونَ وَالنَّاهُونَ عَن

ص: 47

الحكيم الْعَلِيم في خَلْقِهِ، وَالمُعَبِّرُونَ عَنْهُ جَلَّ وَعَزَّ، وَهُمُ الأنبياء: وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، حُكَماءَ مُوءَ ذَبِينَ بِالحِكْمَةِ، مَبْعُوثِينَ بِهَا، غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ - عَلى مُشَارَكَتِهِمْ هُمْ فِي الخَلْقِ وَالتَّرْكِيب - في شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الحكيم العليم بالحِكْمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وَزَمَانِ مِمَّا أَنتُ بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلائِل وَالْبَرَاهِينِ؛ لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ اللَّهُ مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ»(1).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ تحقّق الهدف من خلق الإنسان - وهو معرفة المبدأ والمعاد وسائر المجهولات - مرتهن بابتعاث الأنبياء، وغير ممكن من دونه. وقد بعث اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى الأنبياء على أساس من حكمته البالغة واستعداد الإنسان في تحمّل الدعوة؛ ليعلّموا الناس التوحيد وعبادة اللّه الواحد الأحد؛ رجاء مثوبة الآخرة،وقدموا إليهم ليضعوا عنهم أغلال الاختلاف والخصومة، وليتمّوا الحجة عليهم بالتبشير والإنذار، وتأسيس الحكومة الدينية، وتعليم الكتاب والحكمة.

2/3/13 . الضرورة الكلامية لابتعاث الأنبياء:

تناول المتكلّمون المسلمون قضية ضرورة ابتعاث الأنبياء،وأقاموا الحجة عليها من خلال دراستهم لصفتي «الكمال»و«اللطف»الإلهيين، أو من خلال«قاعدة اللطف»، أو «مبدأ الحسن والقبلح العقليين».

يبيّن المحقّق اللاهيجي آراء المتكلمين المسلمين فيما يخصّ إثبات النبوّة على النحو الآتي:

اعلم أنّ الأشاعرة لا سبيل لهم لإثبات النبوّة عقلاً، بل طريقهم إلى ذلك منحصر بالسمع، وبتصديق النبوّة من خلال مشاهدة المعجزة. ولهذا، فإنّ أمرهم عسير؛ لأنّه يلزم من اتباع طريقتهم إلزام الأنبياء؛ فهم لا يؤمنون بحكم العقل، ولا يقبلون بأن يكون العقل قد أوجب شيئاً، فلا يجب إذن النظر في المعجزة إلا عن طريق السمع،

ص: 48


1- الكافي،الكليني، ج 1، كتاب الحجة،باب الاضطرار.

والسمع الموقوف على النبوّة لا يثبت إلا بالنظر في المعجزة،وللأمة أن تمتنع عن النظرة في المعجزة قائلةً: لا أنظر حتى يجب عليّ النظر،وإذا لم أنظر لم يجب عليّ قبول الدعوى،ولا تصديق النبوّة؛فلا طريق إذن للنبيّ لكي يثبت به نبوّته،ويُلزم الآخرين بها.

أمّا المعتزلة القائلين بوجوب النظر عقلاً،فيرون أنّ دفع الخوف عن النفس واجب بضرورة العقل، وإهمال النظر في المعجزة موجب للخوف لا محالة، وجب للخوف لا محالة، وطالما أنّ قول مدّعي المعجزة يُحتمل فيه الصدق، وعلى تقدير الصدق وعدم الاتباع يرد الضرر، فلا يمكن بعد وجوب دفع الضرر المتوقّع أن يمتنع المرء من النظر في المعجزة. وبهذا، يكتفي المعتزليّ بوجوب النظر في المعجزة؛ لأنها تُثبت نبوّة الشحص المدّعي لها، لكنّ وجوب النظر في المعجزة مرتهن باحتمال الصدق كما أشير إليه، واحتمال الصدق يتحقق عندما يكون أصل النبوّة أمراً مكن الوقوع بالإمكان العامّ؛فلابدّ أوّلاً من إثبات صحّة النبوّة وحسن بعثة الأنبياء(1).

وفيما يلي نورد بإيجاز بعض الأدلّة الكلامية الدالة على ضرورة ابتعاث الأنبياء:

1/2/3/13 .دليل اللطف:

يرى المتكلّمون المسلمون أنّ ابتعاث الأنبياء لطفٌ؛ لأنه بيان لقبح الأفعال والأحوال في القيامة،أو هو بيان لحُسنها ؛ أي إنّه يقرب الناس من طاعة اللّه، ويبعدعم عن معصيته مع المحافظة على اختيارهم، واللطف يتحلّى بالحسن العقلي، وكلّ ما هو حسن عقلاً،فهو واجب على اللّه.ولهذا،فإنّ بعثة الأنبياء واجبة عليه عَزَّ وَجَلَّ عقلاً .

وقد ذهب الشيخ المفيد - وهو أحد كبار المتكلّمين من الإمامية - في جوابه على مسألة الدليل على وجوب نصب الأنبياء والرسل إلى أنّ دليلنا هو اللطف الواجب على اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وقال معرَّفاً اللطف:

ص: 49


1- جوهر المراد(بالفارسية:گوهر مراد)، الفياض اللاهيجيّ، ص 358.

اللطف هو ما يقرب المكلّف معه من الطاعة،ويبعد عن المعصية،ولا حظّ له في التمكين،ولم يبلغ الإلجاء(1).

بيّن توقف غرض اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى المتمثّل بهداية الناس عليه قائلاً:

الدليل على وجوبه توقف غرض المكلّف عليه، فيكون واجباً في الحكمة؛وهو المطلوب(2).

وكتب السيّد المرتضى - وهو أحد أعلام المتكلّمين الشيعة - في موضوع ضرورة ابتعاث الأنبياء مستفيداً من قاعدة اللطف ما نصّه :

اعلم أنه غير ممتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّ في أفعال المكلّف ما إذا فعله اختار عنده فعل الواجبات العقليّة، أو الامتناع عن القبائح العقليّة، وفيها ما إذا فعله اختار فعل القبيح أو الإخلال بالواجب، وإذا علم اللّه تعالى ذلك فلا بدَّ من اعلام المكلَّف به ليفعل ما يدعوه إلى فعل الواجب ويعدل ما يدعوه إلى فعل القبيح، لأن اعلامه بذلك من جملة ازاحة علّته في التكليف. وإذا كان تمييز ما يدعو من أفعاله أو يصرف لا سبيل إليه باستدلال عقلي، ولم يحسن أن يفعل اللّه تعالى له العلم الضروري به؛ فتجب بعثة من يُعلِمه بذلك(3).

وقرّر المحقق الطوسي في «التجريد» يقول:

البعثة واجبة؛لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقليّة(4).

وهذا يعني أنّ بعثة الأنبياء طالما أنها لطف في التكاليف العقلية، واللطف فعل

ص: 50


1- النكت الاعتقادية،الشيخ المفيد، ص 35.
2- المصدر نفسه.
3- الذخيرة في علم الكلام،السيّد المرتضى، ص 323 .
4- تجريد العقائد،نصير الدين الطوسي، المقصد الرابع،البعثة.

إلهيّ، وواجب على اللّه جَلَّ وَعَلا ، فإنّ ابتعاث الأنبياء واجب على الحقّ عَزّ وَجَلَّ . وكما تقدّم فإنّ تعريف اللطف أن يقال:

ما يقرب المكلّف معه من الطاعة، ويبعد عن المعصية، ولا حظّ له في التمكين،ولم يبلغ الإلجاء(1).

وقد قالوا في تعريفه أيضاً:

اللطف هو كلّ ما يختار عنده المرء الواجبَ،ويتجنّب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار الواجب، أو ترك القبيح(2).

ولمزيد من الأضواء على ذلك نقول : اللطف صفة فعلية من صفات اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى تتعلق بالمكلّفين، وهي أمر يوجد في انفسهم الداعي لإيجاد التكليف،أو التقرّب منه، ولهذا قسّموا اللطف إلى قسمين: مُقرّب، ومحصِّل.

وشروط اللطف هي:أوّلاً: ألا تكون القدرة على فعل التكاليف مرتهنة بذلك اللطف؛ لأنّ اللطف فرع التكليف،والتكليف فرع القدرة على فعل المكلَّف به.

وثانياً : ألا يؤدّي اللطف بالمكلّف إلى الدخول في دائرة الإجبار وسلب الاختيار.

والدليل على وجوب اللطف هو «الحكمة الإلهية»؛فاللطف هو أحد التدابير الحكيمة التي يقرّرها المولى تَبَارَكَ وَتَعَالى ليتحقق بها هدف خلق الإنسان؛ ألا وهو الهداية. ولهذا قال المحقق الطوسي :

اللطف واجب؛ ليحصل الغرض به(3).

وهذا يعني أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى إذا علم بأنّ الطاعة أو التقرب إلى الطاعة لا

ص: 51


1- النكت الاعتقادية،الشيخ المفيد، ص 35.
2- شرح الأصول الخمسة،القاضي عبدالجبار، ص 351.
3- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد،ص350.

يحصل من دون تحقق فعل أو أمر ما ، فمن الواجب على اللّه عَزَّ وَجَلَّ أن يفعله؛ كي لا يؤدّي ذلك إلى نقض الغرض. وقد أشار المتكلمون أيضاً إلى نقطة أخرى تتعلق بفاعل اللطف ؛ فقالوا إنّه إما اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى كما في إرسال الرسل، أو إنه المكلّف نسبةً إلى نفسه، ومثاله: التأمل في معجزات الأنبياء، أو إنّه المكلّف نسبةً إلى الغير، ومثاله : تبليغ الأحكام الإلهية إلى الناس. وحصيلة القول : تُعدّ بعثة الأنبياء لبيان الأحكام التي هي مؤكّدة لأحكام العقل لُطفاً، أمّا بعثتهم لبيان الأحكام التي لا يستقلّ العقل في إدراكها، فليست من مصاديق اللطف؛ لأنّ الأحكام التي يُبيّنها الأنبياء في هذه الحالة أحكام صانعة للتكليف، وقد ذكرنا أنّ الشرط في قاعدة اللطف أن يكون هذا اللطف متفرّعاً عن التكليف. وعلى هذا الافتراض، فإنّ ضرورة بعثة الأنبياء مبنيّة على الحكمة الإلهية.

وبناءً على ما تقدّم،تدلّ قاعد اللطف على ضرورة البعثة حينما تكون أحكام الأنبياء أحكاماً مؤكّدة لأحكام العقل، وتدلّ قاعدة الحكمة على ضرورة البعثة حينما يكون بيان الأحكام من قبل الأنبياء خارجاً عن دائرة أحكام العقل البشريّ.

2/2/3/13 برهان الحكمة:

استخدم المتكلّمون من الإمامية والمعتزلة والماتريدية برهان الحكمة في إثبات ضرورة بعثة الأنبياء ؛ ومنهم: القاضي عبد الجبار المعتزليّ (1)، وأبو منصور الماتريديّ.(2)أمّا المتكلّمون من الأشاعرة فقد أقصوا هذا البرهان عن أبحاثهم لأجل موقفهم المانع من استخدام معطيات العقل العملي في إثبات ضرورة بعثة الأنبياء. وقد أعلنوا معارضتهم لذلك صراحةً؛ومنهم:الشهرستانيّ بصفته أحد أعلام المتكلمين الأشاعرة؛ حيث قال: لا يجب على اللّه شيء ما بالعقل(3).

ص: 52


1- شرح الأصول الخمسة،القاضي عبد الجبّار، ص 564.
2- كتاب التوحيد،الماتريدي، ص 177.
3- الملل والنحل،الشهرستاني، ج 1، ص 93.

وهذا يعني أنّ إثبات ضرورة البعثة لا يقوم عليه أيّ دليل عقلي.

ويرى العلامة الحليّ أنّ النبوّة أمر حسن؛خلافاً لما ذهبت إليه البراهمة،وأمر واجب في الحكمة؛خلافاً للأشاعرة؛ فإنّ غاية اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى من خلق الإنسان أن ينال المصلحة،ومعرفة المصلحة، وكذا طرد المفسدة واجب في الحكمة الإلهية. وهذا الوجوب جارٍ في أحوال المعاش، وأحوال المعاد.

وقد ذهب العلّامة إلى أنّ الحكمة الإلهية تقتضي في بيان أحوال المعاش أن يسلم الجنس البشري في حياته الاجتماعية.(1)أمّا الحكمة الإلهية في بيان أحوال المعاد فهي مبنيّة على أساس السعادة الأخروية التي لا تنال إلا من خلال المعارف الحقّة والأعمال الصالحة. وإنّ بيان هذه الحقائق والأعمال لا يتيسّر إلا عن طريق الأنبياء الإلهيين(2).

ومن المعاصرين،استخدم العلامة الشيخ مصباح اليزدي في كتابه «دروس في العقيدة الإسلامية»برهان الحكمة لإثبات ضرورة بعثة الأنبياء، وقد جعله متشكّلاً من ثلاث مقدّمات؛ هي:

أوّلاً: هدف خلق الإنسان هو التكامل بالاختيار.

ثانياً:التكامل الاختياري للإنسان رهين بالأفعال الاختيارية.

ثالثاً: المعارف العقلية والحسية عند الإنسان غير كافية للوقوف على طريق الكمال والسعادة.

والنتيجة : يلزم على اللّه جَلَّ وَعَلا أن يدلّ الإنسان على طريق آخر غير الحسّ والعقل ؛ ليوصله به إلى الكمال(3).

ص: 53


1- تجد تفصيلًا لهذا الدليل في براهين الحكماء. [المؤلّف]
2- الباب الحادي عشر مع شرحيه النافع يوم الحشر ومفتاح الباب،العلامة الحلي،ص 34-35
3- دروس في العقيدة الإسلامية، مصباح اليزدي، درس النبوّة.

وبتعبير آخر:اللّه سبحانه وتعالى حكيم في خلقه للإنسان، وهو يريد له الكمال والسعادة الحقيقية. وإنّ القوى الإدراكية عند الإنسان غير كافية لتعريفه بنحو تامّ على السعادة الحقيقية. إذن، فإنّ بعثة الأنبياء أمر ضروري لهداية الإنسان وسعادته، فإذا لم يُبعث الأنبياء الإلهيون من قِبل اللّه عَزَّ وَجَلَّ لهداية الإنسان، لانتقضت بذلك الحكمة الإلهية، لكن الحكمة الإلهية ضرورية، فبعثة الأنبياء إذن لازمة.

ويقول العلامة اليزدي في موضع آخر:

تقتضي الحكمة الإلهية أن يكوّن الإنسان ذا معرفة وافية بطريق الكمال. وأنّ صفة الحكمة - في واقع الأمر - يُدركها العقل،كما أنه يدرك أيضاً لوازم هذه الصفة. وإذا كان الحكيم حكيماً فإنّ من لوازم حكمته أن تكون أفعاله بنحو يوصله إلى المقصود.. وليس هذا اللزوم يعني أن يأمر العقل، أو أن يُصدر حكماً يوجبه على اللّه؛ حتى يقول القائل : كيف يجرؤ المخلوق على إصدار أمر يوجّهه إلى خالقه؟! ليست القضية قضية «أوامر»، بل هي اكتشاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية، وهذا الحكم باللزوم ليس إلا كشف للضرورة القائمة بين العلّة والمعلول(1).

3/2/3/13. أدلّة المصالح المترتبة على النبوّة:

يُعدّ البحث عن الفوائد والمصالح المترتبة على النبوّة أحد الأدلّة النافعة في إثبات النبوّة في مدرسة المتكلمين.وقد تناول شيخ الطائفة الطوسي وهو من أعاظم الفقهاء وأعلام المتكلمين الإماميين في «كتابيه الاقتصاد فيما يجب على العباد»، و«تمهيد الأصول»قضية ضرورة ابتعاث الأنبياء والمصالح المترتبة على ذلك؛ حيث قال:

فأما الذي يدلّ على حسن بعثة الرسل فهو ما يؤدّونه إلينا من المصالح والألطاف؛ لأنّه لا يمتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّ في أفعال المكلّف ما إذا فعله دعاه إلى فعل الواجب

ص: 54


1- معارف القرآن، مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5، ص 115-116.

العقليّ، أو صرفه عن فعل القبيح العقليّ، أو ما إذا فعله دعاه إلى فعل القبيح والإخلال بالواجب، فيجب إعلامه ذلك؛ لأنّ الأوّل لطف له، والثاني مفسدة، ويجب عليه تعالى إزاحة علته في التكليف في فعل اللطف على ما بيّناه فيما مضى، ولا يمكن إعلام المكلّف ذلك إلا بأن يبعث إليه نبياً يعلمه ذلك، وإنّما قلنا ذلك لأنه لا يمكن الوصول إلى ذلك باستدلال عقليّ، ولا يحسن خلق العلم ضرورة بذلك؛ لأنّ التكليف يمنع منه،فلم يبق بعد ذلك إلّا بعثة الرسول؛ ليعرّفه ذلك.وهذا الوجه الذي نقول إنّه متى حسنت بعثة الانبياء وجبت،فلا ينفصل الحسن من الوجوب(1).

ويسرد الشيخ سديد الدين الحمصيّ الرازيّ - وهو من كبار علماء الإمامية في القرن السابع - فوائد البعثة وحاجة الإنسان إلى النبوّة في كتابه«المنقذ من التقليد»شارحاً ذلك في نقاط ستّ؛هي:

أوّلاً : تعريف المكلّفين بالمصالح والمفاسد.

ثانياً : بيان الثواب والعقاب الإلهيّين.

ثالثاً: معرفة التوحيد الإلهيّ.

رابعاً : التأكيد على أحكام العقل.

خامساً: بيان الأطعمة والأشربة المفيدة والضارّة.

سادساً: معرفة اللغات.

ثمّ يتناولها بالنقد، فيقول:

لم لا يجوز أن يتوصّل إلى معرفة هذه المصالح والمفاسد من جهة اخرى غير جهة الأنبياء؟ فأمّا استحقاق العقاب ودوامه ودوام الثواب، فلم لا يجوز أن يتوصّل إلى معرفتها من جهة العقل؟

ص: 55


1- تمهيد الأصول، الطوسّي، ص 685-685.

ثمّ يكتب مجيباً :

لا يمكن التوصّل إلى معرفة هذه المصالح إلّا من جهة الأنبياء: ... لا يمكننا معرفتها ضرورةً، من حيث أنّا كلّفنا أداء هذه العبادات الشرعيّة التي هي مصالح لنا على وجه القربة إلى اللّه تعالى والعبادة له؛فلو عرفناها ضرورةً، لكنّا عارفين باللّه تعالى ضرورةً، والتكليف يمنع منها،ولا شيء من أدلّة العقل يدلّ على هذه المصالح،وأنّها تدعونا إلى الطاعات، وتصرفنا عن المعاصي، فعلمنا بهذا أنّه لا يمكننا التوصّل إلی معرفة هذه المصالح إلّا من جهة الأنبياء ... وأمّا الفرق بين الطعوم المغذية وبين السموم المتلفة، فإنّه وإن أمكن التوصّل إليه بالتجربة، إلّا أن الزمان يطول فيها، وربما يهلك كثير من الناس فيها ... الشرعيّات تتضمّن التذلّل والتضرّع والخشوع إلى اللّه تعالى،كما أنّ في العقليّات نوع تذلّل وتضرّع وخشوع إذا أديت لوجوبها وطلبا لمرضاة اللّه تعالى في هذا الوجه تناسب الشرعيّات والعقليات(1).

وقد قام المحقّق الطوسيّ - علاوةً على إقامته الحجج الفلسفية وبرهان العدالة الاجتماعية - بسرد الفوائد والمصالح المترتبة على بعثة الأنبياء، مشيراً في أبحاثه إلى عشر نقاط في هذا الصدد؛ وهي:

أوّلاً: أنّ فوائد البعثة تظهر في الحالات التي يأتي الشرع فيها مناصراً للعقل، فيدعم فيها الأحكام العقلية في دائرة المستقلات أو غير المستقلات العقلية؛ مثل: إثبات وجود اللّه وصفاته.

ثانياً: يحتاج العقل إلى الشرع في بعض الحالات التي يعجز فيها عن الإدراك والحكم؛ مثل : التعريف بدرجات الجنّة والنار، ومراحل القيامة، أو القضايا المرتبطة بفروع الدين.

ص: 56


1- المنقذ من التقليد،الحمصي، ج 1، ص 373-382.

ثالثاً: شريعة الأنبياء هي المصدر الذي يُبدّد خوف الإنسان وقلقه بشأن كلّ ما يقوم به من أفعال وتصرّفات حينما يطبّق هذا الإنسان أعماله وفقاً للأوامر والنواهي الشرعية.

رابعاً: العقل محتاج للشرع في إدراكه للأفعال الحسنة والسيئة.

خامساً: الشرع مفيد أيضاً في تعريف الإنسان بالأدوية والمأكولات النافعة والضارّة،وكلّ ما من شأنه أن يجلب للإنسان النفع والضرر من الأمور التي تتطلّب تجربتها تجاوز أزمنة طويلة.

سادساً: المحافظة على الجنس البشريّ من خلال إرساء أسس الانتظام الاجتماعي وقواعد السنن والتشريعات الإلهية.

سابعاً: تتميم القضايا الأخلاقية والتربوية والروحية عند الإنسان على حسب القابليات المتنوّعة.

ثامناً: تعليم الصناعات والفنون الخفيّة على الناس.

تاسعاً: تعليم الأخلاق والسياسات الاجتماعية.

عاشراً: التعريف بالثواب والعقاب الأخرويّين(1).

وقد استعرض المحقق الطوسي هذه الفوائد والمصالح أيضاً في كتابه «تحصيل المحصّل»(2).

أمّا العلامة الحليّ - وهو من أكابر الفقهاء وأعاظم المتكلّمين الشيعة - فقد عرض

ص: 57


1- راجع:كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، الحلّي ص 271؛ الحاشية على الإلهيات الشرح الجديد للتجريد،أحمد الأردبيلي،ص 292.
2- راجع: نقد المحصل،الطوسي، ص 361-364.

موضوع ضرورة ابتعاث الأنبياء كغيره من المفكّرين الإسلاميين، ورتّب على النبوّة مجموعة من الفوائد والأدلّة، متمسّكاً بقاعدة اللطف التي عدّ فيها بعثة الأنبياء لطفاً في التكليف العقلي والسمعي والشرعي، فذهب إلى أنّ هذا اللطف الإلهي إذا ما قورن بالتكاليف العقلية عُدّ لطفاً مقرّباً ، وإذا ما قورن بالتكاليف السمعية والشرعية كان لطفاً محصّلاً؛ لأنّ في التكاليف السمعية أمور (مثل: العلم باستمرار الثواب والعقاب) لا تتحصّل إلا من ناحية بعثة الأنبياء(1).

وقد تناول العلامة الحليّ شرح مسلك الحكماء، وما ذهبت إليه العدلية في هذا الصدد قائلاً:

الإنسان لا يمكن أن يستقل وحده بأمور معاشه لاحتياجه الى الغذاء والملبوس والمسكن وغير ذلك من ضرورياته الّتي تخصه ويشاركه غيره من اتباعه فيها، وهي صناعية لا يمكن أن يعيش الإنسان مدة يصنعها ويستعملها، فلابد من إجماع على تلك الأفعال بحيث يحصل التعاون الموجب لتسهيل الفعل، فيكون كل واحد منهم يعمل لصاحبه عملا يستعيض منه أحد ... الطبائع البشرية مجبولة بالشهوة والغضب والتحاسد والتنازع والإجماع مظنة ذلك، فيقع بسبب الإجماع الهرج والمرج ويختل أمر النظام، فلا بد من معاملة وعدل يجمعها قوانين كلية هي الشرع، فلا بد من شريعة ناظمة لأمور نوع الإنسان ... الشريعة لا بدّ لها من واضع يمتاز عن بني نوعه بخاصة من اللّه تعالى هي المعجزة، لأن الشريعة لو فوّضت الى بني آدم لوقع منهم النزاع في وضعها وكيفيته ومن يستقل به، وتلك المعجزات قد يكون قوله وقد يكون فعله(2).

وفي سرده للفوائد والمصالح المترتبة على بعثة الأنبياء يذكر النقاط الآتية :

أوّلاً: الأخبار القطعية بوقوع العقاب على المذنبين؛ لأنّ العقل لا يحكم بأكثر من

ص: 58


1- المصدر السابق، ص 217 و 226.
2- مناهج اليقين، العلامة الحلّي، ص276؛ الباب الحادي عشر،العلامة الحلي، ص35.

استحقاقهم للعقوبة، أمّا وقوعها عليهم، فليس له حكم يخصّ ذلك، وما من شكّ في تأثير هذه الأخبار للحدّ من ارتكاب المعاصي.

ثانياً: التعريف بالمصالح والمفاسد.

ثالثاً: تأكيد الشرع على المعارف العقلية؛ مثل: التوحيد والصفات الإلهية.

رابعاً : بيان وجوب التكاليف التي يستعصي على العقول النفوذ إلى كنهها وسبر أغوارها.

خامساً: قد تُبتلى العقول البشرية ببعض الأضداد؛ مثل: الشهوة والكراهية والوهم وما إلى ذلك، والتي قد تدعو الإنسان في بعض الأحيان إلى القيام بأمور تتعارض مع العقل، ولا سبيل للوقوف في وجه هذه القوى ومنعها أو زجرها سوى الأنبياء.

سادساً:التعريف ببعض الصفات الإلهية التي لا سبيل للعقل إلى كشفها؛مثل:الكلام الإلهي،أو السمع والبصر الإلهيين.

سابعاً: تطبيقات الحسن و القبح التي يقوم الأنبياء بكشف الستار عنها.

ثامناً:ما يقوم به الأنبياء من تبديد الخوف الذي يستولي على الإنسان،وإخراجه من الحيرة التي تسيطر على كيانه.

تاسعاً: الكشف عن المنافع والمضارّ التي في النباتات ولا يعرفها العقل البشريّ.

عاشراً: ما ينعم به الإنسان من اختفاء المظاهر الناع في الحياة الاجتماعية.

حادي عشر : الكشف عن الصناعات الغائبة والخفية عن عقول البشر(1).

وقد كتب المحقق اللاهيجي مجموعة من الفوائد المترتبة على النبوّة،واستدل بها على ضرورة ابتعاث الأنبياء قائلاً:

ص: 59


1- مناهج اليقين، العلامة الحلّي، ص 264 -265 كشف المراد، العلامة الحلي، ص216.

الدليل على ذلك [إثبات النبوّة]أنّ النبوّة تنطوي على فوائد عديدة؛مثل:تقوية العقل في الأحكام التي يستقلّ بإدراكها،ودلالتها على الأحكام التي لا يستقلّ بإدراكها،وإيقاظ العقل من هجعة الغفلة بتحصيل المعرفة الإلهية، والحصول على السعادة الأبدية-كما بيّن في مقدمة الكتاب - وإرشاد الناس إلى الضار والنافع من الأدوية والأطعمة التي يضطر الإنسان إلى استعمالها،ولا سبيل للعقل إلى معرفتها من دون تجربة،والتجربة تتطلب وقتاً،والوقت هذا لا يمكن له أن يكون خالياً عن استعمال الأطعمة والأدوية،فإنّ هذا يؤدّي إلى الهلاك، كما أنّ التجربة بذاتها قد تُفضى أحياناً إلى الهلاك، وغير ذلك من الفوائد التي لا تحصى. وما من شكّ في إمكانية وجود شخص كهذا في الجملة.وعليه:فإنّ ترك إيجاد النبيّ وإرسال الرسول يوجب إهمال الجنس البشري، وهو أفضل أجناس الكائنات،والإهمال يؤدّي إلى هلاك الجنس، ويلزم منه انتقاض الغرض.

ولهذا،فإنّ بعثة الأنبياء وإرسال الرسل واجب في الجملة.وقد ثبت أيضاً وجوب التكليف، وما من شكّ في أنّ تلقي الوحي الإلهي وتحمل الإتيان بالأوامر والنواهي الربانية ليس متاحاً لأيّ شخص، فيلزم إذن وجود شخص ممتاز يتحلّى بقابليات تؤهّله للأمور المذكورة، ويكون ذا جهتين؛ حتّى يقوم في جهة بتلقّي الوحي الإلهي،ويقوم في الجهة الأخرى بتبليغ الأوامر والنواهي للمكلّفين(1).

وقد استهوى بعض علماء أهل السنة هذا الدليل (المصالح المترتبة على النبوّة)، فأخذوا يستخدمونه في أبحاثهم،ومنهم الفخر الرازي الذي ذكر من فوائد ابتعاث الأنبياء اثنتي عشر فائدة؛منها-على سبيل المثال-:التعريف بالأحكام العقلية المستقلة وغير المستقلة،وبيان المنافع والمضار للمواد الغذائية،وقيام نظام المجتمع على أساس من القوانين العادلة،وتكامل الإنسان وفقاً لاختلافهم في القابليات،والتعرف على الصناعات النافعة،والعلم بالأحكام الدنيوية والسياسات الاجتماعية،وغير ذلك(2).

ص: 60


1- جوهر المراد(بالفارسية:گوهرمراد)،اللاهيجي، ص 359.
2- محصل أفكار المتقدّمين والمتأخرين،الفخر الرازي، ص 165-166.

4/2/3/13 .دليل الحاجة:

اختار العلامة المطهري في إثباته لضرورة ابتعاث الأنبياء أن يسلك طريق الحاجة إلى الرسالة؛فقال في هذا الصدد:

إذا ما آمنا بالآخرة وأن حياة الإنسان لا تنتهي بالموت في هذه الدنيا،بل هناك نشأة أخرى، وحياة أخرى، ونحو آخر من الرزق والسعادة والشقاء؛حيث يقول اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 169 فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ)،إِذا ما آمنا بذلك فلا شكّ في انّ العلم والعقل الإنسانيّين غير كافيين للبحث في مسألة الآخرة،وتحديد الأشياء النافعة والضارة للسعادة الأخروية.والأكثر من ذلك أن البشرية لم تستطع أن تبلغ بعلها وعقلها وجود نشأة أخرى؛فمع كل التقدم الذي أحرزه العلم البشري،ما يزال عالم ما بعد الموت يتجلّى مجهولاً أمام البشرية. والحقيقة أنه إذا ما أردنا أن ننظر إلى المسألة بشكل عام بغضّ النظر عن أي فكرة،فعالم ما بعد الموت لم يزل مجهولاً لا يمكن للعلم أن يبتّ بأمر وجوده أو عدمه بنحو قاطع،ومن ثمّ ظلّت المسألة هذه جزءاً من مجهولات البشرية.

فإذا أخذنا إذن مسألة الآخرة التي أخبر الأنبياء أنفسهم عن أصل وجودها وأوضحوا فيها نهج السعادة ونهج الشقاء فإنّ الحاجة إلى النبوات تصير ثابتة قطعية لا مجال في للنقاش. أما الجهة التي تحتاج إلى بحث أكثر فهي تلك التي تتعلق بالحياة الاجتماعية؛ فهل تحتاج الحياة الدنيوية للبشر إلى الأنبياء حقاً أم لا؟ وهل عني القرآن بهذا الجانب أيضاً أم اقتصرت رسالته على النشأة الآخرة وحسب؟

عندما نرجع إلى القرآن نرى أن اهتمامه لم يقتصر على الآخرة وحدها، بل كانت الحياة الدنيا من أهداف الأنبياء أيضاً؛ إذ تشير لذلك الآية المعروفة : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

ص: 61

وفي حديث القرآن دلالة على وجود هذه الحاجة وإيمانه بأصالتها، حتى أنه لم يذكر الهدف الآخر (أي معرفة اللّه)أبداً، بعكس المواضع الأخرى،ربما ليؤكد أن لهذا الجانب أصالته،وأنه يعكس حاجة لابدّ منها.فالقرآن يؤكّد أن العدالة من ضرورات الحياة البشرية،وأن وجود الأنبياء ضروري لازم لبسط العدالة.

ولكن ما هو موقف العلم؟وما هي نظرة الدراسات الاجتماعية؟فهل تذعن هي الأخرى لوجود ضرورة مثل هذه أم لا؟هناك بحوث وافرة يمكن سوقها حيال هذا الجانب،بيد أني سأشير إلى بحث موجز،وإذا ما كانت هناك حاجة فيمكن الاستطراد بالمزيد.

يعد الإنسان موجوداً خاصاً ينبغي لحياته أن تكون اجتماعية؛إذ لا يمكن لبني البشر إلا أن يعيشوا بعضهم مع بعض،وأن يكون بينهم ضرب من الترابط والتعاون.بيد أن الإنسان يختلف عن بقية الكائنات الاجتماعية التي تمارس حياتها بدافع الغريزة،وتلجأ إلى الحياة الاجتماعية بالإجبار.فالإنسان مدفوع للحياة الاجتماعية، ولكن ليس بحكم الغريزة،وبدافع الإجبار. وما أريد أن أقوله إن الحيوانات الاجتماعية مدفوعة لأن تعيش اجتماعياً من قبل نظام التكوين، ومسخّرة لهذا النمط من العيش بقانون الطبيعة. فالطبيعة هي التي قسّمت الاعمال فيما بينها،ونظام الخلق هو الذي وضع قانون حياتها الاجتماعية بدافع الضرورة والجبر.

والحيوانات الاجتماعية مضطرة لهذا النمط من الحياة تلقائياً من دون تعليم وتربية. أمامنا مثلاً:نحل العسل وتجربته الحياتية، فكل صنف من أصنافه يعرف وظيفته بالضرورة دونما حاجة إلى التعليم وبذل السعي لكي يعرف مسؤوليته وواجباته. فهو يعرف الطريق الذي يسلكه، والمواقع لا تتبدل. فالعاملة تمارس وظيفتها في إطار موقعها وحسب، والملكة تمارس دورها انطلاقاً من هذه المسؤولية والموقع، بل تختلف أصناف نحل العسل فيما بينها حتى في الأبنية التي تستقر فيها.

أما الإنسان فهو على عكس ذلك، فمع أنه مضطر لأن يعيش حياةً اجتماعية،

ص: 62

ولكنه يمارس كل شيء بنفسه وبإرادته لأنه موجود مختار،حر وعاقل.فعليه أن يفكّر،ثم يلجأ للاختيار على وفق إرادته. وهذا نقص في البشر من حيث الغريزة، بمعنى أنه لم يزوّد بالغريزة التي تضطرّه لذلك اضطراراً.

أما لماذا لم يزوّد الإنسان بمثل هذه الغريزة، فلذلك شأن آخر.

وما دام الإنسان قد خلق مختاراً حراً، فهو يستطيع إذن أن يتخلف عن وظيفته دائماً.وما دام يتمتع بغريزة الحياة، ويريد أن يعيش، فقد خُلق مجبولاً على طلب النفع لنفسه. فأوّل ما يفكّر به كل إنسان هو أن يسعى في المجتمع وراء أهدافه الشخصية والفردية، وليس وراء مصلحة المجمع . فأول ما يفكّر به الإنسان هو منفعته الخاصة، وليس المصلحة الاجتماعية، وهو لا يشخّص مصلحة المجتمع على نحو حسن، وإذا افترضنا أنه يفعل ذلك فهو لا يرعاها .

أما الحيوان الاجتماعي فهو يشخص المصلحة الاجتماعية بحكم الغريزة، ويسير بهذا الاتجاه، وينفذ مطلباته بدافع الغريزة أيضاً. أما الإنسان فهو محتاج من هاتين الحيثيتين كلتيهما؛محتاج إلى نحو من الهداية والتوجيه يسوقه صوب مصالحه الاجتماعية،كما هو بحاجة إلى قوة تكون مهيمنة على وجوده تسوقه وراء المصالح الاجتماعية.

وما يقال هنا هو أن الأنبياء بعثوا كي ينهضوا بالمهمتين معاً؛ فهم يهدون الإنسان ویر شدونه نحو المصالح الاجتماعية، وفي الوقت ذاته يجعلونه - وربما كانت هذه هی الوظيفة الأهم - مسؤولاً في أن يمكّن قوّة معينة باسم «الإيمان» للهيمنة على وجوده، بحيث يستطيع بحكم هذه القوة أو القدرة أن ينفّذ المصالح الاجتماعية، وأن يسعى وراء كل ما يشخّص أنه مصلحة اجتماعية؛ لا فرق بين أن يكون هذا التشخيص للمصالح بحكم الوحي أو العقل أو العلم.

ص: 63

ولو لم تكن هذه السلطة للدين والأنبياء موجودة بين بني البشر في الماضي والحاضر،فإنّ أصحاب هذا الرأي يذهبون إلى اندثار البشرية وعدم وجودها على الأرض بالأساس؛ إذ كانت البشرية قد أكلت نفسها ، ودمرّت وجودها بذاتها.

إن البشرية والحضارة الموجودتين الآن على سطح الأرض مدينتان للأنبياء؛فالأنبياء نهضوا بهداية البشرية، كما حموها من شرّ نفسه في الوقت ذاته. بل مع كل تقدم أحرزته الإنسانية على خط رقيها العلمي وتكاملها العقلي،فإنّ دور الأنبياء ما يزال محفوظاً.فما تملكه الإنسانية المعاصرة من إرث تربوي يعود منشؤه إلى الأنبياء، والقدر الذي تحظى به من الإنسانية يعود هو الآخر إلى تأثير الكتب السماوية.

وإذا ما قُدّر لنا أن نسلب بقوة وكيفية ما هذه البقايا وذلك الموروث من البشرية على نحو تامّ، فإن ذلك سيعني اضمحلال الروح الإنسانية، وسيتساوى ذلك مع فناء البشرية بالضرورة. فمن دون تلك الروح ستتحول البشرية إلى موجودات وحشية لا حظّ لها من الحياة الاجتماعية. ومن ثمّ سيكون الجميع مضطرين للعيش بعضهم مع بعض، ولكن ليس كما تعيش مجموعة من الأسود والسباع الضارية .

ومردّ الاختلاف يعود إلى التفاوت الموجود بين أفراد البشر؛ إذ ستتحول حياتهم إلى غابة يعيش فيها قطيع من الغنم، ومجموعة من الذئاب والثعالب والنمور، وعدد من الجمال والخيول يفترس بعضها بعضاً، ويسحق القوي فيها الضعيف.

هذه خلاصة وددت أن أبدأ بها،ولا أدري إذا كان من الضروري أن أستفيض بهذا البحث أكثر أم لا. إنّ ما مرّ يعكس بعبارة أخرى بحث «الحاجة إلى الدين»، ولماذا تحتاج الإنسانية إلى الدين في حياتها الاجتماعية. لقد عرضت جوهر الفكرة، وإذا ما كانت ثمة ضرورة فسأزيد. وهكذا يتضح من العرض بأن علل الحاجة إلى النبوّة تمثلت بأمرين؛هما:الآخرة، والحياة الاجتماعية والفردية(1).

ص: 64


1- النبوّة(النسخة المعرّبة)،المطهّريّ، ص 49-54.

3/3/13 .الضرورة الفلسفية لابتعاث الأنبياء:

استدلّ الفلاسفة المسلمون - ومنهم الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر الدين الشيرازي - على لزوم بعثة الأنبياء مستهلّين بذكر مقدمات تناولت الجانب الاجتماعي في الإنسان، وفيما يأتي نستعرض بعضاً من تقريرات الفلاسفة لضرورة ابتعاث الأنبياء:

1/3/3/13 .بيان الفارابيّ:

تطرّق الفارابي لتقسيم المدينة إلى فاضلة وغير فاضلة، ثمّ لأنواع المدن غير الفاضلة، ومبدأ ضرورة الحياة الاجتماعية عند الإنسان ليصل من خلال ذلك إلى ضرورة وجود النبيّ (1).

وحسب رؤية الفارابي فإنّ وجود الرئيس الفاضل والنبيّ ضروريّ؛ لأنّ حسن المعاش وصلاح المعاد مرهون بمشاركة مجموعة من الناس في المدينة، ولأنّ علاقات هؤلاء الناس وتعاملاتهم تستوجب الحاجة إلى العدل، ولا يتحقق العدل من دون وجود القانون والسياسة المدنية، فإنّ الحاجة إلى واضع النواميس أمر مسلّم وطبيعي، وواضع النواميس هو الشخص الذي يُحدّد صلاح معاش الناس ومعادهم، وهو صاحب النفس القدسيّة، وهو بعد هذه الصفات شخص يمتاز عن جميع الناس. وللنبي أن يتصرف في مواد الكائنات، وذلك بمعنى أنه يمتلك نفساً ناطقةً بلغت حدّاً من القوّة جعلته تتشابه مع عالم العقول، وأصبحت بعد ذلك النقوش الثابتة في اللوح المحفوظ منتقشة في روحه القدسية. وقد أمسى جسم العالم الكبير بقواه الطبيعية محكوماً لما تمليه روحه القدسية. ولهذا، فهو قادر على فعل المعجزات وخوارق العادات، ولأجل ما يتحلّى به من صفاء ونقاوة، ولأنه منزّه عن جميع مكدِّرات عالم الطبيعة، فهو عالم بالأسرار والصفات والغيبيات من دون الحاجة لكسب العلم عند

ص: 65


1- أفكار أهل المدينة الفاضلة، الفارابي،ص280-293.

أقرانه من البشر ، وعلمه مأخوذ من عالم الملكوت والملائكة، وهو يُبلّغه إلى عامّة الخلق حيث يهديهم إلى جادّة السعادة الدنيوية والأخرويّة(1).

وعند تطرّقه لبيان السمات والشروط التي يتحلّى بها رئيس الأمّة الفاضلة والمدينة الفاضلة يذكر الفارابي أنه تامّ الأعضاء، فطن، ذو ذاكرة ثاقبة، وذكاء حادّ، وذو بيان فصيح،محبّ للعلم،ومنقاد للحكمة،ومنزّه عن الحرص والولع في الأكل والشرب والنكاح،مجتنب للهو واللعب،محبّ للصدق والصادقين،عدوّ للكذب والكاذبين، كريم النفس،توّاق للعدل والعادلين،وخصم للظلم والظالمين، راسخ في قراره وعزمه،محتقر للدرهم ،والدينار معرض عن الدنيا، ومقترن بالوحي الإلهيّ (2).

وقد أضاف الفارابي إلى مواصفات رئيس المدينة الفاضلة سمةً أخرى هي معرفته بعلم الفقه؛ لأنّ الفقه ضروري في إدارة المجتمع، وفي الأحكام العملية للأمّة(3).

وقد عرّفه الفارابي بأنه الفقيه الحكيم الحافظ للآثار المتبقية من الرئيس الأوّل،وقد أسماه ب«ملك السنّة»، وقال:

والثالث أن لا يوجد [هؤلاء أيضا ] فيكون رئيس المدينة حينئذ هو الذي اجتمع فيه إن كان عارفاً بالشرائع والسنن المتقدّمة التي أتى بها الأوّلون من الأئمّة ودبّروا بها المدن. ثمّ أن يكون له[جودة تمييز الأمكنة والأحوال التي ينبغي أن تستعمل فيها تلك السنن على حسب مقصود الأوّلين بها،ثم أن يكون له] قدرة على استنباط ما ليس يوجد مصرّحابه في المحفوظة والمكتوبة من السنن القديمة محتذيا بما يستنبط منها حذو ما تقدّم عن السنن.ثم أن تكون له جودة رأي وتعقّل في الحوادث الواردة شيئاً شيئاً ممّا ليس سبيلها أن تكون في السير المتقدّمة ممّا يحفظ به عمارة المدينة، وأن يكون

ص: 66


1- الفارابيّ ،رضا داوري (مصدر بالفارسيّة)، ص 244-245.
2- الملّة ونصوص أخرى، الفارابي، البند 1، ص 44.
3- المصدر السابق، ص 50-52 .

له جودة إقناع وتخييل ويكون له مع ذلك قدرة على الجهاد. فهذا يسمّى ملك السنّة، ورئاسته تسمّى مُلكاً سنيّاً.والرابع الّا يوجد إنسان واحد تجتمع فيه هذه كلّها ولكن تكون هذه متفرّقة في جماعة،فيكونون بأجمعهم يقومون مقام ملك السنّة، وهؤلاء الجماعة يسمّون رؤساء السنّة(1).

وحسبما بيّن فإنّ سمات الملك السنيّ أو السلطان القانوني على النحو الآتي:

أوّلاً : أن يكون عارفاً بالشرائع والسنن المتقدمة التي وضعها الرئيس الأول وخلفاؤه، وأن يدير دفّة المدينة على أساس من ذلك.

ثانياً: أن يتحلّى بفضيلة الإلمام بمقتضيات الزمان والمكان.

ثالثاً :أن يكون قادراً على استنباط السنن، وقادراً على الاجتهاد واتخاذ الآراء الجديدة مستفيداً من التراث المحفوظ الذي وصل مكتوباً عن الرؤساء السابقين.

رابعاً: أن يكون حائزاً على فضيلة امتلاك الرأي،والتعقّل في الأمور المستحدثة،يجتهد فيها،ويستخرج الإجابة التي تلبّي حاجة المدينة في ذلك العصر.

خامساً: أن يمتلك الفضيلة والمقدرة والأهلية التي تمكّنه من إقناع أهل المدينة والنفوذ إلى قلوبهم عن طريق قواهم المتخيلة .

سادساً: أن يكون قادراً على الجهاد.

2/3/3/13 .بيان ابن سينا:

تطرّق الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيات الشفاء بنحو تفصيلي إلى ضرورة ابتعاث الأنبياء من خلال استخدامه لدليل العدالة الاجتماعية(2).

ص: 67


1- فصول منتزعة،الفارابي، فصل 58، ص 67.
2- الشفاء (الإلهيات)، ابن سين،المقدمة العاشرة،الفصل الثاني والثالث.

وقد تناول بحث ضرورة بعثة الأنبياء وحاجة الإنسان إلى الدين بأدلة أوضح،وبتنسيق أجود في كتاب«الإشارات والتنبيهات»؛ حيث قال:

لما لم يكن الإنسان بحيث يستقلّ وحده بأمر نفسه لا بمشاركة آخر من بني جنسه، وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير ، وكان مما يتعسر إن أمكن وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة لاختصاصه بآيات تدل على أنها من عند ربه، ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير. فوجب معرفة المجازي والشارع. ومع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكرة للمعبود،وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير حتى استمرت الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع ، ثم زيد المستعمليها بعد النفع العظيم في الدنيا الأجر الجزيل في الأخرى، ثم زيد للعارفين من مستعمليها المنفعة التي خصوا بها فيما هم مولون وجوههم شطره(1).

ويمكن استخلاص هذا الاستدلال في ما يأتي:

أوّلاً : لا يستقلّ الإنسان في أمور حياته؛ فهو مفتقر للغير في مأكله وملبسه ومسكنه و في غير ذلك؛ لأنّ كلّ هذه الاحتياجات لا تُسدّ على يد رجل واحد، ومن دون هذه الأمور تكون الحياة مستحيلة أو تكون مقرونة بالعسر والحرج الشديدين.

ثانياً: يلزم من أجل رفع هذه الاحتياجات وتسهيل أمرها أن يتعاون الناس ويتشاركوا فيما بينهم في الأخذ والعطاء، وعليه فإنّ الإنسان يحتاج في حياته ومعيشته طبيعياً للمجتمع والحضارة.

ثالثاً: ليس من الممكن أن تجد المجتمع والحضارة من دون وجود العدالة.وذلك لأنّ الشهوة والغضب يجرّان الإنسان إلى هاوية الظلم والهرج والمرج.

ص: 68


1- الإشارات والتنبيهات ابن سينا،ج 3،ص 371-373.

رابعاً: نستنتج أننا محتاجون للشريعة من أجل أن تتحقق العدالة.

خامساً: تتطلّب الشريعة مُشرِّعاً ومُقنِّناً يضع فيها الشرائع ويسنّ القوانين.

سادساً: يجب أن يتّصف المشرِّع والمقنِّن بمجموعة من الصفات والمؤهِّلات التي تجعله مستحقّاً للطاعة عند نشوب الهرج والمرج وبروز النزاعات في المجتمع، فيلجأ الناس إلى طاعته فزعاً من الهرج والمرج.وعليه: يجب أن يكون منصوباً من قِبل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

سابعاً: لأجل أن يكون المشرِّع مستحقّاً للطاعة، يجب أن يمتلك من الآيات والمعجزات ما يدلّ على ارتباطه باللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،وانتساب شريعته إلى اللّه عَزَّ وَجَلَّ. ويمكن لهذه المعجزات أن تكون قولية أو فعلية، فمن الضروري إذن أن يتحلى المشرۀع بالمعجزة.

ثامناً:لأجل أن يُضمن تنفيذ القوانين والتشريعات الإلهية، ويُضمن تطبيقها على الأرض - لا سيّما لزمرة من ضعفاء العقول الذين لا يتردّدون في الإخلال بالنظام الاجتماعي لأجل مصالحهم الخاصّة - يتوجّب تثبيت نظام الثواب والعقاب للمطيعين والعاصين؛حتّى يتأكّد التزامهم بالأوامر والنواهي الإلهية،ويتحتّم تشريع عبادات وأفعال تحقّق الاتصال الخاصّ والمباشر بين الإنسان وربّه، تضمن حالة الذكر المستمرّ للإنسان.

تاسعاً : بعد أن احتاج العباد إلى هذه الأمور، وتوقّف انتفاع الناس على تحقّقها،اقتضت العناية الربّانية أن تلبّي هذه الحاجة.

عاشراً: الحصيلة التي نخرج بها أن الحفاظ على الحياة الاجتماعية وحاجة الإنسان إلى التشريعات الإلهية يستلزم وجود الأنبياء والشرائع والدين بالضرورة.

ولكنّ برهنة الشيخ الرئيس التي اختصّها بحاجة الإنسان الاجتماعية إلى الدين لا تخلو من إشكال؛ لما يأتي:

ص: 69

أوّلاً: أن لازم قوله أن تكون الآخرة لأجل الدنيا؛ وليس العكس! توضيح ذلك: أن الدنيا والآخرة وفقاً للأدلة العقلية والنقلية هما الظاهر والباطن لحقيقة واحدة،وأن الجنة والنار إنما هي باطن أعمالنا الدنيوية، أو قل:هي نتيجة هذه الأعمال. أما الدنيا فهي ظاهر الآخرة، أو قل:مقدّمتها.

يقول الرسول الأعظم:«الدنيا مزرعة الآخرة»،فالآخرة هي الأصل، والدنيا فرعٌ لذلك؛ في حين أنّ بيان ابن سينا يُشير إلى أنّ الدنيا والحاجات الدنيوية والقوانين الاجتماعية هي الأصل، وكأنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى قد أتى بقضايا الذكر الإلهي والمعاد والأفعال العبادية من أجل أن يضمن بها تنفيذ تلك القوانين، ولكي لا تُنسى أو يُمحى ذكرها. وهذا يعني أنّ الآخرة وسيلة يُتوسّل بها لإعمار الدنيا؛ وهو أمر لا يتماشى مع التعاليم الدينية، ولا مع العقل.

ثانياً : هذا الاستدلال يعاني من مشكلة الدور؛ لأنّ ضرورة ابتعاث الأنبياء وحاجة الإنسان إلى الدين في برهان ابن سينا مرتهن بضرورة المعاد والإيمان بالحياة في الآخرة، فإذا احتجنا لإثبات المعاد والحياة الأخروية إلى الدليل النقلي (مثل: الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة)فقد وقعنا في الدور؛ لأنّ حجية الآيات والأحاديث متوقّفة على ضرورة بعثة الأنبياء. اللهم إلا أن يُقال بأنّ المعاد يثبت بالدليل العقلي الصرف؛ وهو متوقف على مقدّمات أبحاث الإلهيات،وليس أبحاث النبوّة، فعندئذٍ يرتفع الدور.

3/3/3/13. بيان السهرورديّ:

أوضح شهاب الدين السهروردي - الشهير بشيخ الإشراق - برهان العدالة الاجتماعية في أكثر من رسالة ألفها؛ منها على سبيل المثال: «التلويحات» التي اختطّ فيها نهج الفلاسفة المشّائين في التعاطي مع ضرورة بعثة الأنبياء، متبعاً في ذلك منحاهم الحقوقيّ الجانح إلى مسلك العدليّة(1).

ص: 70


1- مجموعة مصنّفات السهرورديّ (التلويحات)، ج 1، ص 95-96.

وقد أورد شيخ الإشراق هذا التقرير وإيضاحاته في رسالته الموسومة ب«پرتونامه»(1)، وفي رسالة أخرى عُرفت ب«یزدان شناخت»،بيّن فيهما برهان العدالة الاجتماعية بالقول:

بعد أن خلق اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإنسان وميّزه عن الحيوانات، جعل كلّ فرد في الصناعات البدنية بحاجة إلى غيره من الأفراد في الجنس البشريّ؛فإذا أراد أحدهم أن ينفرد بجميع الأشغال التي هي ضرورية في هذا العالم ويكتفي بذاته ما أمكنه ذلك لوحده إلا بمعونة الآخرين من بني جنسه ومؤازرتهم.ومثاله: الفرد الذي يخبز الخبز لغيره، والآخر الذي يُعدّ آلة الخبز للأوّل،والآخر الذي يُعدّ غيرها من الوسائل حتّى يقيموا باجتماعهم وتآزرهم وتشاركهم النظام بأسره، فكانوا محتاجين بسبب اجتماعهم لتنظيم مدنهم وتأسيس بلدانهم والقيام بأمر مصالحهم، والظروف الملائمة للمدن والبلاد، وهكذا يتحقّق نظام العالم، ولأجل الحفاظ على وجود الإنسان وبقاء جنسه لا محيص عن التعاون فيما بين بني البشر، ولا يتمّ أمر التعاون من دون المعاملة، ولا يتمّ أمر المعاملة من دون قانون وعدالة، ولا يتمّ أمر القانون والعدالة إلا بما تُسنّ به القوانين،وتُبسط به العدالة، ومن الواجب بطبيعة الحال أن يكون القانون والعدل مستمرّين ومستقيمين، فكانت الحاجة لحضور شخص النبيّ والوليّ، وأن يكونا من جنس البشر؛ حتّى تُبسط القوانين بين الناس، ويُقضى على الظلم والجور والباطل، فكانت الحاجة لوجود هذه الشخصية أكثر إلحاحاً من وجود رموش العين، أو شعر الحاجب، أو تقعّر أسفل القدم، أو حمرة الشفاه،أو اختلاف شكل الأصابع، وما إلى ذلك ممّا هو زائد على أمر الخلق وما يتبعه من مصلحة للإنسان، وطالما أنّ الحكمة الإلهية اقتضت وجود هذه الزيادات في الخلق ممّا لا ينطوي على حاجة ما، فإنّ اقتضاء وجود هذه الشخصيّة التي تستجلب هذه المصالح العامّة وتبسطها بين الخلق أولى، وإنّ العناية الأزليّة التي اقتضت خلق مخلوقات غير ضروريّة لهي أكبر وأكمل من أن تُفرّط في مصلحة

ص: 71


1- مجموعة مصنّفات السهرورديّ(پرتونامه)، ج 3، ص 75 .

بهذه العظمة. وهنا نقول: إنّ وجود شخص مثل هذا في العالم ضروريّ، ويحظى بعدد من الفضائل(1).

4/3/3/13 .بيان صدر الدين الشيرازيّ:

لم يتطرّق صدر الدين الشيرازي في مصنّفاته الفلسفية والتفسيرية كثيراً للأبحاث المرتبطة بالنبوّة، وقد أفاد في أغلب الأحيان من المقاربات المتنوعة التي جاء بها الحكماء من أمثال ابن سينا في«إلهيات الشفاء»و«النجاة»، وما أورده الفارابي في«آراء أهل المدينة الفاضلة».يقول في معرض بيانه لبرهان العدالة الاجتماعية :

[1]:الإنسان مدني بالطبع لا ينتظم حياته إلا بتمدن واجتماع وتعاون، لأن نوعه لم ينحصر في شخص، ولا يمكن وجوده بالانفراد،فافترقت الأعداد،واختلفت الأحزاب، وانعقدت ضياع وبلاد.

[2] :فاضطروا في معاملاتهم ومناكحاتهم وجناياتهم إلى قانون مطبوع مرجوع إليه بين كافة الخلق،يحكمون به بالعدل، وإلا تغالبوا وفسد الجميع واختل النظام،لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي لما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه. وذلك القانون هو الشرع.

[3] :ولا بدّ من شارع يعين لهم منهجاً يسلكونه لانتظام معيشتهم في الدنيا، ويسنّ لهم طريقاً يصلون به إلى اللّه، ويذكرهم أمر الآخرة والرحيل إلى ربهم وينذرهم بيوم (يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾(2)،و(وتَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سَرِاعاً)(3)،(ويَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِیمٍ)(4).

ص: 72


1- المصدر السابق (يزدان شناخت)،ج 3 ،السهرورديّ، ص 453-455.
2- سورة فصّلت: 44.
3- سورة ق: 44.
4- سورة فصّلت: 44.

[4]:ولا بدّ أن يكون إنساناً؛ لأنّ مباشرة الملك لتعليم الإنسان وتصرّفه فيهم على هذا الوجه فيهم،ممتنع ودرجة باقي الحيوانات أنزل من هذا.

[5]:ولا بدّ من تخصصه بآيات من اللّه دالة على أن شريعته من عند ربّه العالم القادر الغافر المنتقم،ليخضع له النوع ويوجب لمن وقف لها أن يقرّ بنبوّته وهي المعجزة...

[6] :فهذا النبيّ يجب أن يفرض على الناس في شرعه العبادات. منها، وجوديّة يخصهم نفعها؛ كالأذكار والصلوات، فيحرّكهم بالشوق إلى اللّه تعالى، أو نافعة لهم ولغيرهم؛كالقرابين،والزكوات،والصدقات، وعدميّة يخصّهم أيضاً، ويزكّيهم؛ كالصوم(1).

وفي المحصّلة فإنّ ابتعاث الأنبياء من وجهة نظر صدر الدين الشيرازيّ هي صمّام الأمان للحياة الاجتماعية وحاجة المجتمع إلى القانون الشرعي الصادر من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى المقترن بالعدالة الاجتماعية. ويجب التنويه هنا بأنّ الحكيم الشيرازيّ يؤمن بوظائف وفوائد أخرى لجميع الأحكام الشرعية سواء الفردية منها أو الاجتماعية، وكذا الإيجابية أو السلبية علاوةً على ما ذكره من موضوع العدالة. وقد أورد هذا الاستدلال أيضاً في كتابه «الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية»(2).

وقد تابع سلفه الفارابي في نصّ آخر، وتطرّق لضرورة بعثة الأنبياء بقوله:

[1]: الإنسان لم يمكن أن ينال الكمال الذي لأجله خلقت إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين كلّ واحد منهم لكلّ واحد ببعض ما يحتاج إليه، فيجتمع مما يقوم به جملة الجماعة جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي بلوغه إلى كماله.

[2]:ولهذا كثرت الاجتماعات الإنسانية:فمنها الكاملة، ومنها غير الكاملة؛

ص: 73


1- المبدأ والمعاد،صدر الدين الشيرازي، ص 488-489 .
2- الشواهد الربوبية، صدر الدين الشيرازي، ص 359-361.

فالأولى:ثلث عظمى كاجتماعات أفراد الإنسان كلها في المعمورة من الأرض، ووسطى كاجتماع أمة في جزء من المعمورة،وصغرى كاجتماع أهل مدينة في جزء من أمة.والثانية:كاجتماع أهل القرية،وأهل المحلة، والسكّة، والبيت...

[3]:فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال بالمدينة الفاضلة والأمة الفاضلة التي يتعاون مدنها كلها على ما ينال بها الغاية الحقيقية،والخير الحقيقي دون المدينة الناقصة، والأمّة الجاهلة التي يتعاونون على بلوغ بعض الغايات التي هي الشرور ...

[4]: كذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطر، والطبائع متفاضلة الهيئات بحسب عناية اللّه على عباده، ووقع ظلال من نور صفاته العليا وأسماء الحسنى على خلقه وبلاده، كوقوع ظلال من صفات النفس الناطقة وأخلاقها على خلائق البدن، وبلادها من القوى والأعضاء.

[5]: ففيها إنسان واحد هو رئيس مطاع، وآخرون يقرب مراتبها من الرئيس...

[6]:ويكون ذلك الإنسان إنساناً قد استكملت نفسه، وصارت عقلاً بالفعل، وقد استكملت قوّته المتخيّلة بالطبع غاية الكمال،وكذا قوّته الحسّاسة والمحركة في غاية الكمال ... فبقوّته الحساسة والمحركة يباشر السلطنة، ويجري الأحكام الإلهية، ويحارب أعداء اللّه، ويذبّ عن المدينة الفاضلة، وتقاتل المشركين والفاسقين من أهل المدينة الجاهلية والظالمة والفاسقة، ليفيئوا إلى أمر اللّه . وبقوّته المتخيلة معداً بالطبع ليقبل إما في اليقظة، أو في وقت النوم عن العقل الفعال، أما الجزئيات بأنفسها، وأما الكليات بحاكيها. وبقوته العاقلة يكون بحيث قد استكمل عقله المنفعل بالمعقولات حتى لا يكون بقي عليه منها شيء وصار عقلاً بالفعل.

[7]: فأيّ إنسان استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلّها وصار عقلاً بالفعل ومعقولاً بالفعل وصار المعقول منه هو الذي يعقل حصل له عقل بالفعل، فيصير عقلاً مستفاداً ...

ص: 74

[8]:وهذا إذا حصل للجزء النظريّ من قوته الناطقة هذا الإنسان حكيماً يسمى وفيلسوفاً. وإذا حصل ذلك في كلا جزأي قوته الناطقة، وهما النظرية والعملية، وفي قوته المتخيلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه، فيكون اللّه عز وجل يوحي إليه بتوسط الملك الذي هو العقل الفعال، فيكون بما يفيض عن اللّه تبارك وتعالى إلى العقل الفعال، ولفيضه العقل الفعال إلى عقله يفيضه منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً وولياً، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيّاً منذراً(1).

وقد أشار الحكيم الشيرازيّ-في حديثه عن درجات الإنسان - إلى درجة النبوّة وصفات النبيّ وصرح قائلاً:

للإنسان مقامات ودرجات متفاوتة بعضها حسّيّة، وبعضها خياليّة، وبعضها فكريّة، وبعضها شهوديّة.وهي بإزاء عوالم مرتبة بعضها فوق بعض:فأوّل منازل النفس الإنسانية درجة المحسوسات...وبعد ذلك درجة المتخيّلات...وبعد ذلك وهو منزلة الثالث درجة الموهومات ... وبعد هذا يترقى إلى عالم الإنسانية فيدرك الأشياء التي لا يدخل في حس ولا تخيل ولا وهم ... ويدرك الأشياء الغائبة عن الحسّ والخيال والوهم، ويطلب الآخرة والبقاء الأبديّ. ومن هاهنا، يقع عليه اسم الإنسانية بالحقيقة؛وهذه الحقيقة هي الروح ... الإنسان البالغ حدّ الكمال ملتئم من عوالم ثلاثة من جهة مبادي إدراكاته الثلاثة:قوّة الإحساس،وقوّة التخيّل، وقوّة التعقّل...جوهر النبوّة كأنه مجمع الأنوار العقليّة والنفسيّة والحسّية(2).

وله مقاربة أخرى بشأن ضرورة بعثة الأنبياء، وهي ترتكز على استعراض منافع العبادات والالتزام العملي بالأعمال المحلّلة والمحرّمة والمكروهة والمندوبة والمباحة؛حيث يقول في هذا الصدد:

ص: 75


1- المبدأ والمعاد،صدر الدين الشيرازي، ص 490-493.
2- الشواهد الربوبية،صدر الدين الشيرازي،ص 337-345.

أمّا سرّ الصلاة فخشوع الجوارح،وخضوع البدن بعد تنظيفه وتطهيره...وأمّا الصوم فيكسر به قوّة الشهوة الغالبة،ويضعف صورة أعداء اللّه فيك،ويسدّ مجاري جنود إبليس؛وهو جُنّة من النار...(1)

وقد أورد فوائد أخرى لإرسال الرسل وإنزال الكتب؛منها :تكميل النفوس الإنسانية الضعيفة(2).وبمقاربة معرفيّة إبستمولوجية يقول صدر الدين الشيرازي:

قد علم أن فهم رموز القرآن وأغواره وأسراره مما لا يمكن حصوله بدقة الفكر وكثرة البحث والنظر من غير طريق التصفية والمراجعة إلى أهل بيت الولاية واقتباس أنوار الحكمة من مشكاة علوم النبوّة(3).

وهذه المعارف الإلهية سيما ما يتعلق بأحوال المعاد مما لا يستقل بإدراكه العقول البشرية على طريقة النظر البحثي بل يحتاج إلى اقتباس النور من مشكاة خاتم النبوّة.(4).

ولأجل أن يبرهن على حاجة العقل إلى الشريعة والطريقة في الإدراك يعمد الحكيم الشيرازي إلى الردّ على شبهات بعضهم من أمثال فخر الدين الرازي وابن أبي الحديد(5)،مستشهداً بالأحاديث الشريفة المرويّة عن أئمة الدين: الواردة في زوال العقل بطول الأمل والشهوات وهوى النفس(6).

وبعد اتضاح أنّ قدرة العقل على المعرفة الصحيحة مشروطة ببعض الشروط المعيّنة - ومنها: الإفادة من الدين والنبوّة - يُطرح السؤال الآتي: هل إنّ العقل قادر

ص: 76


1- الشواهد الربوبية، صدر الدين الشيرازي، ص 368-369.
2- الأسفار الأربعة، صدر الدين الشيرازي، ج 7، ص 19-22.
3- مفاتيح الغيب،صدر الدين الشيرازي، ص 81.
4- مفاتيح الغيب، ص 679. راجع أيضاً:متشابهات القرآن،ص 86؛تفسير القرآن الكريم، ج 2، ص 79-80 وكلّها لصدر الدين الشيرازيّ.
5- متشابهات القرآن، ص 79-78.
6- شرح أصول الكافي، ج 1، ص 366.

على فهم الشريعة والقضايا الدينية أيضاً؟ يجيب الحكيم الشيرازي على هذا السؤال بالإيجاب، لكنّه يلاحظ أيضاً الفوارق الثابتة بين العقول(1)؛ فعلى سبيل المثال: علماء الدنيا الذين يمتلكون مرتبةً عقليةً متدنّية ليسوا قادرين على تفسير الشريعة، وهذا الأمر منحصر في علماء الآخرة، والراسخين في العلم بأسرار الدين وحِكَم الشريعة(2).

ويعترف صدر الدين الشيرازي بإمكانية قدرة الإنسان على فهم الشريعة التي أتت لهدايته كما يرى أنّ خلاف ذلك ليس إلا نقضاً لغرض المُشرِّع(3).

هذا، ويختلف أنموذج المقاربة التي يوظّفها صدر المتألّهين عن نظائرها عند المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث؛ فهو لا يعتمد على العقل بنحو مفرط ومتطرِّف، كما أنه لا يُعطّل العقل بنحو تامّ، وليس من منهجه أيضاً أن يسير شطراً من الطريق بمؤازرة العقل، وشطراً آخر منه متكئاً على الشرع كما صنع الأشاعرة، بل يسلك سبيل الراسخين في العلم حينما يختار الطريقة الوسطى، فيمارس تهذيب النفس وتنوير العقل من أجل تمهيد الطريق لتفسير القضايا الدينية ومتشابهات القرآن الكريم، فيمضي في هذا الدرب مستنيراً بنور المكاشفة، ومستر شداً ببصيرة العقل(4).

يمكن لنا من خلال هذا الأنموذج استنتاج أن دائرة العقل والدين مندكّتان و ممزوجتان بحيث لا يمكن الفصل بينهما بحال؛ فالدين يمهّد الطريق لحصول المعرفة بما يقدّمه من أعمال وأحوال ، كما أنّه منتج للمعرفة في بعض الجوانب الأخرى(5).

4/3/13 .الضرورة العرفانية لابتعاث الأنبياء:

يوظّف العرفاء في فهمهم للحقائق المنهج الشهوديّ، ولم يكونوا في وارد البرهنة

ص: 77


1- شرح أصول الكافي، ج 1، ص 227 و 240.
2- متشابهات القرآن، ص 76.
3- تفسير القرآن الكريم، ج 1، ص 205-206.
4- مفاتيح الغيب،ص 73-74 ؛متشابهات القرآن، ص 6-7 و 90-93.
5- شرح أصول،الكافي، ج 1، ص 237 و 240 - 241.

على مكاشفاتهم العرفانية. ولعلّ أوّل عارف إسلاميّ مارس عقلنة القضايا العرفانية وشرحها هو محيي الدين بن عربيّ، ثمّ أتباعه الذين انتهجوا نهجه في البرهنة وإلقاء الضوء على المشاهدات العرفانية.

لقد أطبق العرفاء المسلمون على ضرورة الشريعة ووجوب وجودها.

يقول السيد حيدر الآملي: الشرع وضع إلهيّ وترتيب ربّانيّ، واجب على الأنبياء والأولياء. القيام به، والأمر بإقامته؛ أعني : واجب عليهم تكميل مراتبه الثلاثة الجامعة لجميع المراتب(1).

وقد ذهب العرفاء إلى أنّ طريق الوصول إلى مقام الحبّ والمعرفة هي الشريعة:

واعلم أنّ الطريق الحقّ الذي طلب اللّه سبحانه بمثل قوله: «أحببت»، أو «أردت أن أعرف فخلقت الخلق»، أن يعرفوه به هو ما جاءت به ألسنة الشرائع المنّزلة على الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين(2).

وبناءً على ذلك، يُقام الدين من خلال الانقياد إلى الأوامر والأحكام الواردة في الشريعة، وبهذا يحصل الإنسان على الكمال، ويُكتب في السعداء(3). أما منصب التشريع والتقنين، وكذلك نسخ بعضٍ من أحكام الشريعة التي وُضعت من ذي قبل فلا يجري إلا للنبيّ والرسول(4).

إنّ سرّ انقطاع نبوّة التشريع والرسالة بالنبيّ الخاتم يكمن في أنه .امتلك مقاماً جامعاً لم يُبقِ مجالاً لأحد من الخلق بعده. ولهذا، كانت شريعته خالدة ومهيمنة على ما

ص: 78


1- جامع الأسرار،حيدر الآملي، ص 359.
2- المقدّمات من كتاب نص النصوص في شرح فصوص الحكم ، حيدر الآملي، ص129.
3- راجع:شرح فصوص الحكم،الخوارزمي، ج 1، ص 318 .
4- راجع:نقد النصوص في شرح نقش الفصوص،الجاميّ، ج 1، ص 213؛ الفتوحات المكّية، ابن عربي، ج 14، ص 616،ج13،ص77،ج2،ص331،356.

سواها من الشرائع(1). وإنّ صاحب الشريعة الإسلامية كان مستجمعاً لكلّ الكلمات الإلهية، ولهذا كانت شريعة الإسلام أكمل الشرائع(2)؛فإنّ حكمة جعل الشريعة تابعة لكمال الأنبياء، ومدى صفاء بواطنهم، ومستوى ظهور تجليات الحقّ لهم، ممّا يؤهّلهم لإدراك المَلَك، وتلقّي الأحكام الإلهية، وكشف الأعيان الثابتة(3).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشريعة والرسالة على الرغم من كونها قد خُتمتا وانقطعتا لكنّ باب اكتساب المعارف والحقائق الربانية من دون تشريع ما زال مفتوحاً لعباد اللّه الصالحين، كما أنّ باب الاجتهاد في الأحكام الفرعية أيضاً لم يؤصد أمام أهله(4).ولهذا السبب،انقسمت النبوّة والرسالة عند العرفاء إلى شُعبتين: إحداهما تتعلّق بالتشريع،والأخرى بالإخبار عن الحقائق الإلهية، وأسرار الغيوب،والإرشاد الباطني للعباد. فالذي انقطع وخُتم هو القسم الأوّل من النبوّة والرسالة(5).

وقد ذهب محيي الدين بن عربي إلى أنّ سبب اختصاص الشريعة بالأنبياء هو كون النبوّات والشرائع أموراً لدنّيّة وغير اكتسابيّة(6)، وأوضح أن امتداد الشريعة يشمل إرشاد الناس لطرق إعمار قلوبهم، مشيراً إلى تفريق الخواطر المحمودة والمذمومة،و بیان مقاصد الشريعة(7).

وقد اعترف بالحسن والقبح الذاتيين،واتصاف الأشياء بهما، مذعناً بمقدرة الإنسان على إدراك شطرٍ من الأمور الحسنة والقبيحة من حيث الكمال والنقص، أو

ص: 79


1- راجع:مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية،الإمام الخميني، ص 90.
2- راجع:الفتوحات المكيّة، ابن عربي ج 2، ص 309، ج 3، ص 357.
3- راجع:شرح فصوص الحكم،الخوارزمي، ج 1، ص 589.
4- المصدر السابق، ص 483.
5- راجع:شرح فصوص الحكم، القيصري، ج 1، ص 243؛ الفتوحات المكيّة، ابن عربي، ج 3، ص 391.
6- راجع:الفتوحات المكيّة،ابن عربي، ج 4، ص 121.
7- المصدر السابق، ص 204.

الغرض،أو ملاءمة الطبع أو منافرته،وكذا عجزه عن إدراك شطر آخر من الأمور الحسنة والقبيحة،وأنّ الشرعية ضرورية لمعرفة هذا النوع الثاني(1).

وعلاوةً على ضرورة الشريعة في مقام الثبوت،يُشير ابن عربي إلى لزومها في مقام الإثبات أيضاً، مصرِّحاً بكفاية شريعة الإسلام وغنائها، وأنّ الناس بحاجة إلى الرجوع للفقهاء والعلماء من أجل معرفتها، وأنّ المرء إذا فارق الحياة من دون أن يكون عارفاً بمصطلحاتٍ؛ مثل: الجوهر والعرض، والجسم والجسمانيّ، والروح والروحانيّ، فإنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ لن يحاسبه على ذلك، لكنه سوف يُسأل عن تكاليفه الشرعية لا محالة(2).

و ممّن أشار إلى طريقة التصوّف في إثبات النبوّات المحقّق اللاهيجيّ عند استعراضه لمطالب الفصل الرابع من الباب الثاني من المقالة الثالثة في كتابه «جوهر المراد»؛ حيث قال:

إنّ غاية وجود الإنسان هي سيره وسلوكه نحو اللّه عَزَّ وَجَلَّ،وإِن مراتب سير السالك أربعة : الأولى : سيره من الخلق إلى اللّه بنفي ما سواه عن النفس، بل بنفي النفس عن النفس - كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في مقدّمة الكتاب - ومشاهدة الذات الأحدية المطلقة من دون ملاحظة التعيّنات والشؤون والاعتبارات.المرتبة الثانية: سيره في اللّه بمشاهدة الذات الأحدية باعتبار تعيّن من تعيّنات الصفات،والترقّي من تعيّن صفة إلى تعيّن صفة أخرى إلى آخر التعيّنات الصفاتية. المرتبة الثالثة: السير مع اللّه بمشاهدة الهوية المطلقة مع تعيّن من التعيّنات الخلقية الكونية حتّى لا يبقى تعيّن إمكانيّ وماهيّة اعتبارية إلا وقد شاهد فيه الهوية المطلقة حقيقة متأصلة، والماهية الإمكانية اعتبارية محضة. المرتبة الرابعة:سير من اللّه إلى الخلق، وهو عود إلى عالم الوجود الإمكاني بعد التحقّق بالحقيقة الوجوبية،بحمل الأوامر والنواهي الإلهية، والقوانين والسنن الناموسية؛ لأجل الأخذ بيد عطاشى بادية عالم الإمكان إلى واحة

ص: 80


1- المصدر السابق، ج 1، ص 206.
2- الفتوحات المكيّة،ابن عربي، ج 4، ص 161.

الحياة الخالدة، ولا يمكن إعادة التشرذم في وادي الكثرة الاعتبارية إلى جموع الوحدة الحقيقية - وهي الغاية الأصلية والغرض الحقيقي من بعثة الأنبياء والرسل - إلا من خلال ذلك . وما من شكّ في أنّ كلاً من هذه الأسفار الأربعة يترتب بعضه على بعض. والمراد من النبيّ هو المسافر بالسفر الرابع بعد طيّه للأسفار الثلاثة السابقة. ولابدّ من وجود مسافر بهذه الصفة؛ ليتزعّم قافلة السلوك من عالم الإمكان إلى مدينة الوجوب. وإنّ تزعّم هذا المسافر القائد توفيق لا يُحالف أيّ سالك إلا بعد تناسبه. ولا يخفى أنّ هذه الطريقة المذكورة من أبي عبد اللّه .مشتملة لطريقة الحكماء والمتكلمين، وهذا ظاهر غاية الظهور، أمّا اشتمالها لطريقة الصوفية فلا يخلو من خفاء. وهو ما يظهر من قوله : «مؤيَّدين عند الحكيم العليم بالحكمة»؛ فإنّ لفظ «عند» قد يومي إلى السفر الثاني والثالث:«في اللّه»و«مع اللّه»،وكلاهما متوقّف على السفر الأول؛ أي «إلى اللّه». وإنّ لفظ «المبعوثين» المذكور قبل هذا الكلام، بل لفظ«الرسول»،بل معنى«الرسالة»و«النبوّة» مُشعر بالسفر الرابع؛ كما لا يخفى(1).

4/13.شبهات حول ضرورة ابتعاث الأنبياء:

ناقش المنكرون لضرورة ابتعاث الأنبياء أو لزوم ذلك حسبما أفاده الفلاسفة والمتكلمون، وخلصوا في بعض مناقشاتهم إلى إنكار حاجة الإنسان إلى الأنبياء الإلهيين، وعمدوا إلى الطعن في الأدلّة العقلية الدالة على هذه الحقيقة. وفيما يأتي إشارات إلى جانب من تلك المناقشات:

1/4/13 .شبهة الحاجة إلى البعثة:

ذهبت جماعة من«البراهمة» إلى استحالة ابتعاث الأنبياء أو إلى لغويّة ذلك وانتفاء أيّ طائل منه؛ فقالوا: لا يخرج ما جاء به الأنبياء عن حالتين : إما أن يوافق العقل؛

ص: 81


1- جوهر المراد (بالفارسية:گوهر مراد)، الفياض اللاهيجيّ، ص 362-363.

فابتعاثهم عندئذٍ لغو لا طائل منه، أو يكون مخالفاً للعقل؛ فتكون أوامرهم حينئذ غير مقبولة.

والجواب على ذلك : أنّ ما جاء به الأنبياء على ضربين:

الأوّل: التعاليم المنسجمة مع العقل بنحو تامّ، وهي التي حكم العقل وفقاً لها؛ مثل:«حسن العدل» و«قبح الظلم».

والثاني: ما سكت عنه العقل، ولم يتطرّق له نفياً أو إثباتاً. قال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ لكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(1).

وهذا يدلّنا إلى أنّ قسطاً من تعاليم الأنبياء يتناول أموراً خارجةً عن دائرة العلم الاعتياديّ عند البشر .

2/4/13 . شبهة انتفاء ضرورة البعثة:

ناقش الفخر الرازي في شرحه للإشارات بعد استعراضه لدليل ابن سينا وتلخيصه في خمس مقدّمات؛ ومنها - حسب تقريره وتلخيصه - :

وأما الثانية: وهي أن الاجتماع لا يكمل إلا عند شريعة ضابطة، فلأنّ كلّ أحد يريد تحصيل جميع الخيرات والسعادات لنفسه، وذلك لأنّ الخير مطلوب لذاته، وحصول المطالب الجسمانية لواحد يقتضى فواتها عن الآخر، وذلك يقتضى وقوع العداوة في قلب ذلك الآخر، فظاهر أنّ الاجتماع سبب لظهور الخصومات والمنازعات، فلولا شريعة ضابطة، وإلّا لتأدّى الأمر الى إثارة الفتن العظيمة(2).

فقال مستشكلاً على الحكم بالتلازم في هذا البرهان بما نصّه:

ص: 82


1- سورة البقرة: 151 .
2- شرح الإشارات، فخر الدين الرازي، ج 2، ص 106 .

لقائل أن يقول : ما المعنى بقولكم: «لمّا احتاج أهل العالم إلى الشارع، وجب وجوده»؟[1]:إن عنيتم به «كونه موجوداً واجباً لذاته»، فهو ظاهر الفساد. [2]:وإن عنيتم به«أنّه يجب على اللّه تكوينه وايجاده»كما يقوله المعتزلة ان العوض واجب على اللّه تعالى أي لو لم يفعله لاستحقّ الذمّ، فذلك مما لا يقول به الفلاسفة أصلاً ! [4]:وإن عنيتم به أنّ وجود النبي لمّا كان سبباً لنظام هذا العالم وثبت أنه تعالى مبدأ لكلّ كمال وخير، وجب أن يكون تعالى علة لهذا الشخص،فهذا باطل أيضاً؛لأنّا نقول:ليس كلّ ما كان أصلح لهذا العالم، وجب حصوله في هذا العالم(1).

وهذه المناقشات مرتكزة على إنكار «قاعدة اللطف» و«قاعدة الأصلح»؛ فإذا فرضنا عدم اعتماد دليل ابن سينا على أيّ منهما - بنحو من الأنحاء - بطلت هذه المناقشات من الأساس.

بيان ذلك أن يُقال: من الممكن استبدال مفهوم«الوجوب على اللّه» وهو وجوب أخلاقي وحقوقي بمفهوم «الوجوب عن اللّه» وهو وجوب فلسفي؛ وهو يستتبع القول بأنّ العلاقة بين تلبية احتياجات الإنسان الأساسية والمصيرية من جهة، والفيض الإلهيّ أو إرادة الخير من اللّه وكمالاته اللامتناهية من جهة أخرى هي الضرورة بالقياس.ومن هنا،تتلبّس تلبية هذه الاحتياجات من خلال الفيض الإلهي اللامحدود وصدور الكمالات الربانية بلباس الوجوب الفلسفي؛ وليس الأخلاقي أو الحقوقي . يقول العلامة الشيخ مصباح اليزدي في مناقشته لهذا الاستدلال:

لم يلتفت الفلاسفة في هذا البرهان إلى الكمال الإنساني أو إلى حياة الإنسان الأبدية، والجوانب الأخروية لسلوكه، مكتفين بالتركيز على حياته الدنيوية، وحاجته إلى القوانين والمصالح الاجتماعية(2).

ص: 83


1- شرح الإشارات، فخر الدين الرازي، ج 2، ص 106.
2- معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمد تقي مصباح، ج4و5،ص38-39.

ومن هنا،اهتمّ في بحوثه حول«معرفة الدليل»و«برهان ضرورة ابتعاث الأنبياء»بالحياة الخالدة والسعادة والكمال الأبديين والأخرويين بصفتها مقصداً رئيسياً. أمّا مصالح الحياة الدنيوية فقد عدّها مقدّمةً لبلوغ ذلك.

وعلى هذا، فإنّ الحكماء - من أمثال ابن سينا - لم يتناسوا في استدلالهم هذا الحياة الأبدية والأخروية للإنسان، وأنّ المناقشة الوحيدة التي تعترضهم - حسبما نرى - منصبّة على أن «الآخرة» في دليلهم هذا مأخوذة من أجل «الدنيا»؛ في حين أنّ التعاليم الإسلامية ما فتئت تؤكّد على نظريّة«الدنيا من أجل الآخرة».

3/4/13.شبهة الأنظمة غير الدينية:

تطرّق ابن خلدون - وهو أحد المستشكلين على منهج الحكماء - إلى الأنظمة الاجتماعية المنافسة، وأتى على ذكر الأنظمة الاجتماعية الأخرى التي من شأنها أن تقدّم العمران والازدهار في الدنيا من دون الحاجة إلى الشريعة(1).

وقد ألمح المحقّق الطوسي إلى هذه المناقشة في شرحه للإشارات بقوله:

اعلم أنّ جميع ما ذكره الشيخ[ابن سينا ] من أمور الشريعة والنبوّة، ليست ممّا لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا به، إنّما هي أمور لا يكمل النظام المؤدّي إلى صلاح حال العموم في المعاش والمعاد إلّا بها، والإنسان يكفيه في أن يعيش نوعاً من السياسة؛ لحفظ اجتماعهم الضروريّ؛ وإن كان ذلك النوع مناطاً يتغلّب، أو ما يجري مجراه. والدليل على ذلك تعيش سكان أطراف العمارة بالسياسات الضرورية(2).

وهنا يمكن أن نعلّق على كلام ابن خلدون والمحقق الطوسي بالقول:

إذا كنّا حقّاً محتاجين إلى الشريعة في حياتنا الاجتماعية فهل كلّ قانون يمكن له أن

ص: 84


1- المقدمة،ابن خلدون.
2- شرح الإشارات، نصير الدين الطوسي، ج3، ص 374.

يوفّر السعادة الدنيوية ؟ إنّ شمولية القانون و جامعيته تتطلّب - من دون شكٍّ - اهتمامه بجميع الأبعاد والجوانب الروحية والجسمية،وكذا الفردية والاجتماعية، وتستلزم أيضاً تصدّيه للاستعمار والعبودية والتسلّط على رقاب الشعوب، واقتلاعه لجذور الظلم والاستبداد، وهي تستدعي كذلك أن يكون القانون منسجماً مع الحاجة الحقيقية والطبيعية للإنسان؛ بما يضمن له تغطية شاملة لشؤونه الاجتماعية والسياسية والقانونية والأخلاقية. ومن اللازم أيضاً أن يوفّر هذا القانون لجميع الناس صمّام الأمان لتطبيقه على أرض الواقع بما يرعى مصالح مختلف الطبقات الاجتماعية ومنافعها بنحو كامل و دقيق وشامل؛ من دون استثناء أو إقصاء لطبقة معيّنة لصالح طبقة أخرى.

وهنا نتساءل: هل من الممكن للإنسان الاعتيادي الذي لا يُؤمَن عليه من مزالق العواطف والأحاسيس ودوّامات المصالح الشخصية والفئوية أن يُبلور قانوناً وضعياً يحمل جميع المواصفات المذكورة أعلاه ؟ وهل تتّصف طاعة الناس لهذا الإنسان الاعتيادي بأيّ معقوليّة أو مشروعيّة عقليّة أو شرعيّة؟ من الواضح أن الجواب على ذلك سلبيّ.

وهنا نضيف أيضاً: لم يكتفِ ابن سينا في برهانه بالتركيز على تبلور المدنية ونشأة المجتمع البشريّ من دون أن يلحظ مكانة إرساء العدل، وما يضمن تطبيق القانون، وما شاكل ذلك؛ فإنّ المذاهب الاقتصادية والسياسية والإدارية ومثيلاتها أمور لا تنفكّ عن شؤون الإنسان الدنيوية، غير أنّ الإنسان - وفي ظلّ تضارب العقل والعواطف والأحاسيس وعشرات القضايا الروحية والنفسية الأخرى – عاجز عن توحيد الرؤية ورأب الصدع والبون الشاسع الذي يُرى في بعض الأحيان بين النظريات المختلفة؛ بما لا يُبقي أيّ فرصة للعثور على نقاط التقاء واشتراك.

وعلى أيّ حال، فإننا نرى ضرورةً وحاجةً ماسّةً وملحّةً للشريعة في الحياة الدنيويّة؛ بغضّ النظر عن الموقف بإزاء الحاجة الأخرويّة.

ص: 85

4/4/13 .شبهة برهان الحكمة الإلهية:

كتب بعضهم في مناقشاته لضرورة ابتعاث الأنبياء مجموعة من النقاط(1)؛نستعرضها فيما يأتي:

1/4/4/13. المناقشة الأولى:

أحد أهمّ الأدلّة التي اعتمدها العلامة الشيخ مصباح اليزديّ في أبحاثه عن النبوّة والإمامة أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى خلقنا مختارين، وأنّ حكمته تقتضي إيصالنا لمرتبة الكمال، وطالما أنّ وسائل المعرفة البشرية الاعتيادية ليست كافية للوصول إلى الكمال، فإنّنا إذن محتاجون للوحي.

والإشكال هنا أن يُقال: لو فرضنا ثبوت الحكمة الإلهية فإننا لا نُسلّم اقتضاءها إيصالنا للكمال؛ إذ لا دليل على ذلك ! وبعبارة أخرى:ما هو التلازم المنطقيّ المزعوم بين الحكمة الإلهية والكمال الإنساني؟ وبتعبير مختلف:الحكيم هو من تتصف أفعاله بالهدفية، والفرض أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى حكيم، وأنّ له غايةً تقف خلف خلقه للإنسان، لكن ما الدليل على أنّ هدفه يكمن في إيصال الإنسان إلى درجة الكمال؟

والجواب على ذلك:يكفي أن تتبلور لدينا صورة صحيحة عن معنى الحكمة الإلهية أو اتصاف اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى بالحكيم من أجل أن يتّضح التلازم بين الحكمة الإلهية والكمال الإنساني. لقد استفاد نصير الدين الطوسي من صفة «وجوب الوجود» ليستنبط منها بعض صفات الكمال الإلهي .

وعلى هذا الأساس، يستتبع الفهم الصحيح لمعنى«واجب الوجوب» الوصول إلى أنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ مستجمع الجميع صفات الكمال ، ومنزّه عن كلّ نقيصة. أما معنى الحكمة الإلهية فهو استهداف هدف فعليّ - علاوةً على استهداف هدف فاعليّ؛ وهو ذاته

ص: 86


1- نظرية الإمامة في ميزان النقد[بالفارسية: تئوري امامت در ترازوي نقد]،حجة اللّه نيكويي.

سُبحَانَهُ وَتَعَالى - والمراد بالهدف الفعليّ: رفع النقص الذي يعاني منه الفعل (المخلوق)، وهذا يعني أنّ اللّه كامل، والذي يريده متعلّق بفعله، فإمّا أن يُقال بأنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يريد نقص فعله، أو أنه يريد كماله. فإذا أراد نقص الفعل عاد هذا النقص إلى ذاته جَلَّ وَعَلا ؛ لأنّ الكامل المحض فيّاض بالكمال؛ لا بالنقص ! فهو إذن يريد الكمال.

وبناءً على ذلك لا محيص عن وجود تلازم منطقيّ بين حكمة اللّه وكمال الفعل الإلهيّ؛ وهو في مثالنا هذا:الإنسان.

2/4/4/13. المناقشة الثانية:

لو فرضنا ثبوت الهدفية لفعل اللّه عَزَّ وَجَلَّ ، وأن هدفه هو الكمال الإنساني، وأن عقل الإنسان غير كافٍ للوصول إلى هذه الغاية، لكن ما الدليل على أنّ تحقّق كمال الإنسان وسعادته مرهون بالوحي؛ حتى يستتبع ذلك الحاجة إلى النبيّ؟ وهل أنكم توصلتم لذلك بعد إجراء استقراء تامّ أو مسح شامل لوسائل المعرفة الإنسانية؟ فلعلّ هناك طرقاً ووسائط مغايرة أخرى يتخذها اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى لإيصال الإنسان لدرجة الكمال ؛ منها على سبيل المثال: «الهداية الباطنية» ! فما الضرورة التي تستلزم انحصار تحقق الكمال الإنساني في الطريق المذكور؟

الجواب على ذلك : هذا الاستشكال ناشئ من عدم الالتفات إلى الأدلة والبراهين التي أقيمت لإثبات ضرورة ابتعاث الأنبياء. فإذا آمنا بأنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى حكيم، وأنّ الإنسان يجب أن يبلغ مرتبة الكمال، يتلو ذلك أن نقول : أودع اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى الإِنسان عدداً من الوسائل العامة المعينة؛ كالحسّ والعقل والضمير، لكنّ هذه الوسائل ليست كافية لإيصال الإنسان إلى الكمال والسعادة. وهنا، لسنا ندعي أن طرق الهداية منحصرة في هذه الوسائل التي نملكها؛ فلعلّ هناك عشرات الطرق والوسائط الأخرى التي لم تُمنح للبشر، ولسنا هنا في صدد اكتشاف سبب حرمانه منها؛ فلربّما لم يكن البشر قابلاً لأكثر مما قد أعطي، مَثَله في ذلك مَثَل الكأس الذي له حدّ محدود؛ لا يسمح له بتقبّل مقدار زائد عليه من الماء.

ص: 87

وبناءً على ذلك، فإنّ الوسائل التي نملكها غير كافية للهداية، ولا نشكّ في أنّ هداية الإنسان أمر لازم وضروري. ومن ثَمَّ : تثبت ضرورة الوحي والنبوة.

ويمكن هنا أن نضيف مقدّمة أخرى لهذا الاستدلال؛ مفادها أن الإنسان راحل لا محالة إلى المعاد وعالم الآخرة، وأنه مفتقر لسعادة دنيوية تضمن له السعادة الأخروية، وأنّ هذه الوسائل الاعتيادية التي بين يديه لا تكفيه المؤونة لمعرفة تلك السعادة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تُرسل للإنسان وسيلةً أخرى لهدايته، عنوانها «الوحي»، وهدفها انتشال البشرية من الضياع، وتوفير الهداية له.وعليه : يلزم وجود واسطة أخرى بين الإنسان والوحي،وهي النبوّة.

3/4/4/13. المناقشة الثالثة:

مع فرض تماميّة برهان ضرورة الوحي، يبقى تساؤل مهمّ لم يُجب عنه لحد الآن؛ وهو : هل أرسل اللّه عَزَّ وَجَلَّ رسلاً لجميع المجتمعات البشريّة؟ إذ إنّ أكثر الرسل الذين وردت أسماؤهم في القرآن الكريم بُعثوا إلى منطقة الشرق الأوسط، وعليه إلى ماذا سيؤول أمر الشعوب التي لم يبعث اللّه لها رسلاً؟

والرد على ذلك أن يقال:لقد أورد بعض المستشرقين هذا الإشكال،وقد أجيب عليهم بعدّة ردود؛ أحدها: أنّ القرآن الكريم - ومن حيث كونه كتاب هداية لا كتاب تاريخ - قد أورد أسماء بعض الأنبياء؛ لا كلّهم، وقد ورد فيه ذكر أسماء أربعة وعشرين منهم فقط، كما أنّ القرآن الكريم قد تطرّق إلى هذا الأمر صراحة؛ حيث قال اللّه تعالى فيه مخاطباً نبيه :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(1).

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾(2).

ص: 88


1- سورة غافر، الآية 78.
2- سورة فاطر، الآية 24.

فضلاً عن أنّ الدليل العقليّ قد بيّن ضرورة النبوّة.وبناءً على ذلك:لا يمكن أن ينقض عليه بمثال تاريخي، بل يتعيّن النقض عليه بدليل عقليّ.

4/4/4/13. المناقشة الرابعة:

لا يرتاب أصحاب هذه المناقشة في كون النبيّ محمّد خاتم الأنبياء، ومن المقبول عندهم عدم وجود أيّ نبيّ آخر في زمان بعثته ، وكذا لن يُبعث أي نبيّ من بعده إلى الأبد. وهنا يُقال: يجب أن تمضي عدّة أجيال حتّى تصل رسالة النبيّ الخاتم إلى درجة من الانتشار تمكّنها من الوصول إلى جميع سكّان العالم، ومن المعلوم أنّ النبي .استطاع أن يوصل صوته إلى الناس في زمانه؛ أي في العصر الأوّل من تاريخ الإسلام؛ وإلى أن تنتشر دعوته لتصل للمجتمعات الأخرى سيكون هناك عدد كبير من الناس - في هذه المدّة - قد فارق الحياة وهو محروم من نيل السعادة، لا سيّما أنّ كتب الأنبياء السابقين قد امتدّت إليها يد التحريف، فلو كانت بعثة الأنبياء أمراً ضرورياً؛ فكيف يمكن تبرير حرمان بعض البشر من الهداية في هذه الفترة؟

الردّ على هذه المناقشة:من الممكن أن يجاب عن هذه الإشكالية على نحوين:

أوّلاً: أنّ البرهان العقليّ لا يمكن النقض عليه بمثال واستقراء تاريخي؛ بل يجب على المستشكل أن يحلّل استقراءه؛ فالبرهان المنطقيّ لا يتسنّى إبطاله إلا من خلال نقض كبراه أو صغراه. على سبيل المثال : فلنفرض أنّ البرهان العقليّ قد قام على أنّ«كلّ إنسان حيوان ناطق» ، فلو وجدنا كائناً يشبه الإنسان؛ لكنّه لم يكن حيواناً ناطقاً، فإنّ هذا لا يؤدّي لانخرام البرهان العقليّ؛ فلعلّ ذلك الكائن لم يكن إنساناً، بل هو شيء يشبه الإنسان.

وكذا هو الحال في مقام بحثنا الذي نصبو فيه إلى إقامة برهان عقليّ على ضرورة بعثة الأنبياء، فبعد أن قام البرهان على هذا الأمر، يدرك العقل بأنّ الضرورة تقتضي

ص: 89

أن يبعث اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى نبياً، فهل عدم علمنا بإرساله لهذا النبيّ في بعض الأماكن كالصين أو غيرها - مثلاً - يصلح دليلاً على عدم ضرورة بعثة الرسل؟ إنّ الدليل العقليّ يُثبت لزوم بعثة نبيّ في تلك المناطق أيضاً، لكن ما هو الواقع؟ هل أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى لم يُبعث نبياً في ذلك المكان؟ أم أنّه جَلَّ وَعَلا قد بعث نبياً ولم يصل خبره للناس؟ وما السبب الذي اقتضى عدم ابتعاث النبيّ فيما لو أنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ لم يرسله؟ حاصل الكلام:أنّ الاستدلال على قضيّة ما قد يكون في بعض الأحيان استقرائياً، فإذا عثرنا على مثال نقض واحد فإنّ هذا كافٍ لانخرام الاستدلال . أمّا في الحالات التي يكون فيها الاستدلال على دعوى ما مبنيّاً على البرهان العقليّ ، فإنّ مثال النقض التجريبيّ لن يجدي نفعاً، وليس من صلاحيتّه أن يخدش هذا البرهان.

ثانياً : ثبت وفقاً للأدلّة النقليّة القطعية الواردة في هذا الصدد أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قد بعث الأنبياء إلى جميع الأقوام والملل، لكنّ الإرادة السيئة لبعض الناس قد تؤدّي إلى إضلالهم، وعدم نيلهم الهداية والسعادة. وقد يعرف الإنسان طريق الهداية لكنّه يتبع طريق الضلال بدلاً عنه، وقد يتسبّب الآخر أحياناً في منعه عن نيل الهداية؛ كأن يطوّقه في دوّامة من الشبهات العويصة المضلّة، أو أن يحول بينه وبين وصول صوت الهداية إليه، وهذه الأنحاء من وقوع الضلالة لا تؤدّي إلى انتقاض براهين ضرورة بعثة الأنبياء؛ ذلك لأنّ الأدلّة على ضرورة البعثة لا تتنافى مع اختياريّة الإنسان، بل إنّ مقدّمات تلك الأدلّة لا تُساق إلا بعد افتراض الإنسان مختاراً.

وعلى هذا الأساس، يثبت أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى قد أرسل لكلّ قوم نبيّاً، لكن من الممكن أن يُحرم بعض الناس من الهداية بسبب ما يقوم به أصحاب الضلالة، ولكن - بالرغم ممّا تقدّم - فإنّ الناس جميعاً يستفيدون من نعمة هداية الأنبياء مع اختلافهم في درجات تلك الاستفادة. وعليه، فإنّ حرمان بعض الناس من بلوغ الدرجات العليا من الهداية بسبب منع الآخرين لهم لا ينقض أصل برهان ضرورة ابتعاث الأنبياء.

ص: 90

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ البرهان لم يدّع ابتعاث الأنبياء لحظة بلحظة، كما أنّه لم يقطع بتخليص البشر من شرّ المعاندین، بل حاصل برهان ضرورة بعثة الأنبياء هو أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى يرسل أنبياءه بقصد هداية البشر لا محالة،وأما الحديث عن مصير هذه البعثة ونتيجتها في مجتمع بشريّ يتمتّع بإرادة واختيار، وبيان أن غالبية البشر سوف يكونون من المهتدين أم لا،فهي أمور سكت عنها الدليل.

وبالإضافة إلى ما تقدّم، نجد أنّ المعاندين الذين يريدون الوقوف في وجه الهداية وصدّها لا يهتمون فيما لو كان عدد الأنبياء المبعوثين قليلاً أم كثيراً، والأمر سواء عندهم أكان المبعوث واحداً أم آلافاً مؤلّفةً.

بناءً على ما تقدّم، فإنّ الدليل العقليّ قائم على ضرورة بعثة الأنبياء؛ فإن ثبت أن اللّه عَزَّ وَجَلَّ لم يبعث نبياً في مكان أو زمان ما، وجب أن نبحث عن سبب ذلك؛ فهل كان المقتضي معدوماً، أم كان هناك مانع ما ؟ أم أنّ النبي قد بعث إليهم لكنّهم لم يرغبوا في الوصول إلى الكمال، أو أنّ المعاندين من منعوهم من الوصول إلى الكمال. فما ذكر على أنّه إشكال لا يتمّ إلا إذا ثبت حرمان بعض البشر القاصرين - لا المقصّرين - إثر منع الآخرين لهم. وهنا، يجيء الكلام عن مبحث الأعواض ومبحث عالم البرزخ؛ فعالم البرزخ ليس عالماً نهائياً، واستمرار رقيّ الإنسان لدرجات الكمال ممكن فيه أيضاً.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الهداية والسعادة أمر ذو مراتب ودرجات،ولهذا فإنّ المجال لأولئك الناس الذين عاشوا في عصر رسول اللّه .لكنّهم لم يسمعوا بدعوته غير أنهم التزموا بدعوة الرسول السابق بالعقل والفطرة السليمين متاح في أن ينالوا قسطاً من السعادة والهداية، وهذا المقدار من الهداية كافٍ لإبطال هذه الشبهة والردّ على هذا الإشكال.

ويمكن أن نضيف هنا أيضاً أنّ بعض الناس لمّا فقدوا الدليل الكافي لنفي ضرورة بعثة الرسل عمدوا إلى اصطناع الأسباب الواهية غافلين عن كون هذا الأمر في نفسه

ص: 91

هو امتحان إلهيّ لهم. وقد ذكر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى حقيقة الامتحان الإلهيّ وحذّر الناس منه في عددٍ من الآيات؛ إذ قال في بعضها مثلاً:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.(1)

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.(2)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرّ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.(3)

وقد أجاب الإمام علي في خطبته القاصعة في رده على منكري النبوّة:

«وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ .عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزْهِ فَقَالَ أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لي دَوَامَ الْعِزَّ وَبَقَاءَ الْمُلْكِ وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ هُمْ كُنُوزَ الذَّهْبَانِ وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُبُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَبَطَلَ الْجَزَاءُ وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَلَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ»(4).

5/13.سُبُل إثبات النبوّة:

من بحوث النبوّة العامة - بعد ماهيّة النبوّة وإثبات ضرورتها وصفات النبيّ - سُبُل عرفة النبيّ الحقيقيّ وإثباته. لا ريب في أنّ الفطرة الإنسانيّة تقتضي رفض الدعوى التي تفتقد دليلاً يثبتها، ودعوى النبوّة أيضاً هي ممّا يحتاج إلى دليل.

ص: 92


1- سورة هود، الآية: 7.
2- سورة الملك،الآية :2.
3- سورة الأنبياء، الآية :35.
4- نهج البلاغة،الخطبة: 192.

يقول المحقّق اللاهيجيّ في هذا المضمار :

اعلم أنّه من السهل جدّاً تحصيل العلم بصدق دعوى النبوّة بالنسبة إلى الحكماء والعقلاء الناظرين في حقائق الموجودات، ممّن أعملوا النظر وتكميل القوّة النظريّة وعرفوا المبدأ الأوّل والمبادئ الأوليّة والثانوية، وعلموا بصحّة النبوّة، ووجوب وجود النبيّ؛ فإنّ معرفة الخواصّ الثلاث عندهم غايةٌ في السهولة، ويمدّهم في ذلك التأمّلُ في مجاري أحوال صاحب الدعوى وأفعاله وأقواله والتنبيه بنيّاته وأغراضه، ويفيد الحصول على صدق الجزم الصادق وكذب الكاذب بسهولة. أمّا على الجمهور وعامّة الناس، فذلك صعب للغاية، وهو يفتقر - لا محالة-إلى النظر والتأمّل في المعجزات، وإنّ إصابة النظر في

المعجزة أيضاً تحتاج إلى العقل التامّ وتمييز ما لا كلام،حيث يفتقد إليهما أكثر العامّة.

فلا بدّ لهم أوّلاً من تقليد عقلائهم حتّى يستقرّ بالتدريج نور التصديق التقليديّ في قلوبهم، فتورث بالخاصّيّة،الإيمانَ الإجماليّ. وبعد حصول الإيمان الإجماليّ، إن وُفّقوا لتعلّم أصول التوحيد وإعمال النظر في الكلام المنزّل على النبيّ والأقوال الصادرة عن معدن النبوّة، يكتمل إيمانهم فيبلغون مرتبة التصديق اليقينيّ التفصيليّ؛ وإلّا فإن قصّروا عن إعمال النظر وقبول التعلّم، اكتفوا بالإيمان الإجماليّ، واشتغلوا بالمواظبة على الأفعال والأعمال التي وردت فيها الشريعة، واقتدوا بالانقياد للأوامر والنواهي الإلهيّة، وطمحوا إلى التأسّي بأفعال النبيّ وسننه؛ حتّى يؤدّي ذلك إلى صلاح المعاش ونجاة المعاد، ورُبّ معجزة تُشتبه على الجمهور بأفعال السَحَرة والمشعوذين والكهنة وأمثالهم، ويمكن تمييزها مقترنةً بالدعوة إلى الحقّ والدعوة إلى الباطل، لكن يتوقف ذلك على عقل يستطيع التمييز بين الحقّ والباطل وفي النهاية سوف يحتاجون إلى تقليد العلماء(1).

لقد قدّم المفكّرون المسلمون ثلاثة سُبُل لإثبات«النبيّ الحقيقيّ»، ومعرفته وتمييزه من «النبيّ الكاذب»(المتنبّي):

ص: 93


1- جوهر المراد (بالفارسية:گوهر مراد )،الفياض اللاهيجيّ، ص 382.

الأوّل: سبيل الإعجاز.

والثاني : تصديق النبيّ السابق للنبيّ اللاحق.

والثالث: جمع القرائن والشواهد على دعوى النبوّة.

1/5/13. المعجزة:

يعتقد جميع المتكلّمين بأنّ الإعجاز دليل حاسم على صدق دعوى النبوّة وعلاقة النبيّ بخالق الكون. وقد عرّف المتكلّمون، المعجزة بقولهم:

ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة ومطابقته الدعوى(1).

أو بقولهم:

أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي، مع عدم المعارضة(2).

فالمعجزة تعني إتيان أعمال غريبة وخارقة للعادة،لا يقدر عليها الآخرون،سواء كانت في الأمور الإيجابيّة، كتبديل عصا خشبيّة إلى ثعبان،أو في الأمور السلبيّة؛ كعجز بطل ما عن حمل سيف، شرط أن تتماشى المعجزة مع دعوى النبوّة وتقترن بالتحدّي ولا يكون لها أيّ معارض(3).

فإنّ مقوّمات المعجزة إذن هي: القيام بعمل خارق للعادة؛ وليس الأعمال الاعتيادية واليوميّة للناس، وعجز أمة النبيّ عن القيام بمثلها، واقتران إظهار المعجزة بدعوى النبوّة، وتطابق العمل الخارق للعادة مع دعوى مدّعى النبوّة ذلك؛ مثل: مسيلمة الكذّاب الذي كان يزعم أنّ في لعاب فمه شفاء؛ ولكن حين ألقى لعاب

ص: 94


1- کشف المراد،ص 218.
2- شرح التجريد،نظام الدين القوشجيّ، ص 465.
3- شرح كشف المراد، ص 363.

فمه في بئر قليلة الماء، جنّت مياه البئر تماماً، أو أنّه مسح بيده تبرّكاً على وجوه بعض الأطفال ورؤوسهم في قبيلة بني حنيفة فأصبحوا معيبين وقُرْعاً!

تشترك معجزات الأنبياء مع بعض الأمور الأخرى (مثل: كرامات الأولياء الإلهيّين والأعمال الخارقة للعادة التي يقوم بها المرتاضون والسَّحَرة) في خرقها للعادة، وتختلف عنها في نقاط أخرى؛ إذ تمتاز المعجزة عن الكرامة في أنّ الكرامة عمل خارق للعادة يُقدِم عليه الأولياء الإلهيّون من أجل إثبات فضيلتهم؛ من دون أن تصحبها دعوى للنبوّة؛ مثل: كرامة السيّدة مريم .في سورة العمران في الآيات 35-37 ، وكرامة آصف بن برخيا في سورة النمل في الآيات 39 و40، وكرامات أميرالمؤمنين وأهل بيت العصمة والطهارة. أما المعجزة فهي عمل خارق للعادة يظهر على يد الأنبياء الإلهيين لإثبات نبوّتهم مشفوعاً بدعوى النبوّة . وتمتاز المعجزة والكرامة عن العمل الخارق للعادة الذي يمارسه المرتاضون والسحرة في أنّ المعجزة والكرامة أمر يمكن تحدّيه ولا معارض له؛ غير أنّ للأعمال الخارقة للعادة لدى المرتاضين معارضاً ومشابهاً. أضف إلى ذلك، أنّ الأعمال الخارقة للعادة لدى المرتاضين والسحرة يمكن تعليمها ونقلها إلى الآخرين. وقد أنكر بعض المعتزلة كرامة الأولياء الإلهيّين، وتناولوا الأعمال الخارقة للعادة للسيدة مريم 3 على أنّها إرهاصات وتمهيدات لنبوّة عيسى المسيح، واعتبروا كرامة آصف بن برخيا تمهيداً لنبوّة سليمان النبي، وكرامات الأئمة الأطهار تتمياً لمعجزات النبي الأعظم. أمّا الإماميّة فهم يرون أنّ كرامة الأولياء الإلهيين ليست ممكنة فحسب، بل يمكن أيضاً صدور أعمال خارقة للعادة عن مدّعي النبوّة كذباً من أجل فضحهم من قِبَل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى(1).ومن الجدير بالذكر هنا:

أوّلاً : أنّ المعجزة عمل خارق للعادة؛ وليس خارقاً للعقل، فلا تتعارض المعجزات مع الأحكام العقليّة؛ مثل استحالة الاجتماع وارتفاع النقيضين؛ فليس شفاء الأعمى وتبديل العصا إلى ثعبان ونقل عرش بلقيس في لمحة بصر ، ممّا يخالف البديهيات العقلية.

ص: 95


1- کشف المراد،قسم النبوّة.

وثانياً: لا يتعارض الإعجاز مع مبدأ العلّيّة (قانون السببيّة)؛ فإنّ العقل البديهيّ يحكم بأنّ تحقُّق كل ظاهرة من الظواهر بحاجة إلى علّة. والعلّة القريبة لظاهرة ما، ماديّة تارةً ومجرّدة وغير مادّيّة تارة أخرى. وتعود نشأة ظاهرة ما تارة إلى العلّة المادّيّة الظاهرة، وإلى العلّة الخفيّة تارة أخرى. ولا شك في أنّ معجزات موسى وعيسى تسري عليها قاعدة العليّة، وهي منبثقة من علة لكن ليس العلة المادية الاعتيادية التي هي واضحة عند الجميع.

وثالثاً: ما هي علّة تحقّق المعجزة ؟ هل هو اللّه جَلَّ وَعَلا أم العلّة المادّيّة غير المألوفة؟ أم المخلوقات المجرّدة والملائكة أم الروح والنفس المتعاليتان للنبيّ؟ تُسنِد الآيات القرآنيّة حدوث المعجزات إلى الأنبياء؛ كتبيين معجزات عيسى المسيح في الآيات:

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطَّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾(1).

﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطَّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَة وَالأَبْرَصَ بإذني وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوقَى بِإِذْنِي)(2).

وتُسنِد الآيات الأخرى جميع الأفعال إلى اللّه سبحانه وتقول:(اللّهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فيمكن إذن أن نعتبر علّة معجزات الأنبياء هي النفس النبوية من جهة، والحق تعالى من جهة أخرى. ما من شكّ في أنّ أيّ نبي باستطاعته الإقدام على معجزة من خلال علمه بالعلل الطبيعيّة غير المعروفة.

ورابعاً: ليس ثمة تعارض أيضاً بين حقيقة الإعجاز ودليل النظام؛ فإنّ هذا الدليل يؤدّي إلى إثبات اللّه ويكشف عن مصداق النظام عن طريق التجربة. وتمثل المعجزة مصداقاً للنظام غير المألوف الذي يكتشفه الأنبياء، وهو يدلّ على الناظم المتعالي.

ص: 96


1- سورة آل عمران: 49.
2- سورة المائدة : 110.

وخامساً: يشير إعجاز الأنبياء إلى صدق دعوى النبوّة؛ فقد استدلّت الآيات القرآنية أيضاً على صدق دعوى النبوّة بالمعجزة النبوية :

(ما أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مثلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(1).

(حَقِيقُ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(2).

ولكن ما وجه دلالة الإعجاز على صدق دعوى النبوّة؟ هل يوجد دليل برهانيّ أو علاقة منطقيّة بين المعجزة وصدق الدعوى أو أنّ الدليل إقناعيّ فحسب؟

الحقيقة هي أنّ العلاقة بين المعجزة وصدق دعوى النبوّة وارتباط النبيّ بالحقّ تعالى،علاقة برهانيّة.

توضيح ذلك : أنّ اللّه العادل والحكيم لا يفعل فعلاً ظالماً وغير حكيم، بل يريد الهداية للبشر ويأبى لهم الضلالة؛ فإن منح اللّه العادل والحكيم المدّعيَ الكاذب القدرة على عمل خارق للعادة - لا معارض له وتصحبه دعوى النبوّة - فإن هذا يتعارض مع الحكمة والعدالة الإلهيتين، وهو مناف للهداية التي يريدها عَزّ وَجَلَّ(3).

ویری العلّامة الشعرانيّ عند تبيينه دلالة المعجزة أنّ المعجزة تعني تصديق اللّه لدعوى النبي والرسالة، وانطلاقاً من ذلك، يُستبعد إتيانها من قبل مدعي النبوة كذباً.

ويبرهن العقل على هذا الأمر على النحو الآتي:

أوّلاً: المعجزة هي تصديق اللّه تعالى لدعوى النبوّة.

ثانياً : تصديق الكذاب للدعوى الكاذبة أمر قبيح.

ص: 97


1- سورة الشعراء: 154.
2- سورة الأعراف : 105 و 106.
3- البيان في تفسير القرآن الخوئي، ص 36.

ثالثاً: صدور القبيح من اللّه قبيح. فإذن:

رابعاً: يستحيل صدور المعجزة عن مدّعي النبوة كذباً. فإذن:

خامساً: تدلّ المعجزة على صدق دعوى النبيّ.

وبتعبير آخر:

أوّلاً: تقتضي قاعدة اللطف أن يفضح اللّه مدعي النبوة كذباً.

ثانياً :يفضح الكذَّابَ منعُه من القيام بعمل خارق للعادة.

ثالثاً : اللّه قادر على منع الكذّاب من خرق العادة. فإذن:

رابعاً: يمنع اللّه الكاذبين من خرق العادة. فإذن:

خامساً: يتساوى وقوع المعجزة مع تصديق اللّه للنبوّة(1).

2/5/13. نصّ النبيّ السابق:

إحدى السُّبُل الأخرى الكفيلة بإثبات النبوّة ما يصرّح به النبيّ السابق بخصوص النبيّ اللاحق؛ فإذا ثبتت

نبوّة النبيّ السابق من خلال الأدلّة والمعجزة، تثبت جميع ادّعاءاته ؛ ومنها : ادّعاء نبوّة النبي اللاحق. فعلى سبيل المثال: شهد النبيّ عيسى على نبوّة رسول اللّه محمد ؛حيث يقول اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في ذلك :

﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(2).

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبي الأمي الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَر)(3).

ص: 98


1- طريق السعادة(بالفارسية : راه سعادت)، ص 243.
2- سورة الصف: 6 .
3- سورة الأعراف: 157.

3/5/13.جمع القرائن والشواهد:

يتمثّل الدليل الآخر على إثبات نبوّة الأنبياء في جمع القرائن والشواهد؛ فإنّ النبي الصادق، صادق في أعماله وأفعاله أيضاً. وتتمتّع روح النبي بالكمالات السامية والأخلاق الفاضلة، ويقود النبيّ الإلهي الناسَ بطريقة يقيم بها مجتمعاً حضارياً يتميز بمظاهر التقدّم والنموّ ومن شأن مجموع المعارف والقوانين والأحكام والشريعة النبوية أن تكون قرينة أخرى على حقانية النبوّة. وقد تدلّ على حقانية النبي أيضاً الوسائل والآليات التي يلجأ إليها النبي من أجل هداية البشر، وكذلك المؤمنون وأتباع النبي وطريقة تصرفاتهم وسلوكيّاتهم(1).

ص: 99


1- الإلهيّات على هدي الكتاب والسنّة ،والعقل السبحاني، ص 66-122.

14.خصائص الأنبياء

1/14.تمهيد:

من البحوث الأخرى التي نتناولها في الأبحاث الدارسة للنبوّة بعد الفراغ من ضرورة بعثة الأنبياء وشبهات المنكرين، خصائص الأنبياء ومميزاتهم؛ فإنّ الأنبياء الإلهيين - وانطلاقاً من مهامهم المتمثلة في الإرشاد والحثّ على تبيان سعادة البشر - يتمتعون بخصائص وسمات خاصة مثل العصمة، والعلم اللدنّي، وتلقي الوحي النبوي، والمعجزات. وقد قدّم القرآن الكريم تعريفاً بالخصائص التي يتحلّى بها الأنبياء بصورة عامة مما يترك تأثيره على تحقيق مهام الهداية، والتهذيب، والتربية، والتعليم، وتنفيذ العدالة والتعالي والنموّ، والتكامل المادّيّ والمعنوي تجاه البشر. وإنّ هذه الصفات والسمات ضرورية لجميع الأنبياء، وقد أُودعت في الأنبياء الإلهيين على شكل مراتب متنوّعة تختلف شدة وضعفاً. ويحظى الأنبياء أولو العزم من هذه الصفات الكمالية بنصيب أكثر، بينما يتحلّى سائر الأنبياء بنصيب أقل. وفيما يأتي نعرض هذه الصفات والخصائص بنحو من التفصيل.

2/14.أوّلاً:حقيقة الوحي:

إحدى النقاط التي يتميّز بها الأنبياء عن غيرهم هي المصدر المعرفي لهم؛ فالأناس الاعتياديون يدركون الحقائق عن طريق الوسائل والمصادر الاعتيادية لاكتساب المعرفة؛ ألا وهي ،الحس والعقل والشهود. أما الأناس الإلهيون الذين يرتبطون بالله تعالى ويتولّون مهمّة هداية البشر، فلا بدّ لهم من الإفادة من مصدر معرفيّ آخر يفوق المصادر المعرفيّة المألوفة. وهذا المصدر المعرفي هو الوحي الإلهيّ.

وعلى هذا الأساس، فإنّ تبيين الوحي وماهيّته يُعدّان من بحوث النبوّة العامة.

ص: 100

1/2/14. معاني الوحي لغةً:

«الوحي»لغةً يحمل معاني متنوّعة؛ منها : الإشارة، والكتابة، والرسالة، والنداء، والكلام الخفيّ، والتسارع والعجلة، والإعلان خفية، وإلقاء كلام أو رسالة أو كتابة على الآخرين. وقد عدّ بعضهم الوحيَ من قبيل الكلام الشفهيّ، ورأى آخرون أنه ينطوي على الكلام الكتابيّ والشفهيّ. وقد ذهبت جماعة إلى أنّ معناه إعلان الخبر وإلقائه خُفيةً على الغير(1).وقد أخذ أبو إسحاق بالمعنى الثالث(2).وقام آخرون بتفسير الوحي في معنى أوسع فكتبوا: «الإشارة، والكتابة،والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك.. وما يكتب في الحجارة وينقش عليها»(3)،وفسرّ بعضهم الوحيَ بمعنى السرعة،كما فسّروه بالإعلان السريع الخفيّ .

وبناءً على ذلك، فإنّ إرسال أيّ نوع من الرسالة والخبر، من أيّ طرف وإلى أيّ أحد، بشرط كونهما سريعين وخفيّين هو المقصود بالوحي(4).

2/2/14. معاني الوحي في القرآن:

استُعملت مفردة الوحي في القرآن بأربعة معانٍ؛ وهي على النحو الآتي:

أوّلاً: الإشارة الخفيّة والسرّيّة:قال تعالى:(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)؛ (5)ولعلّ الوحي هنا بمعنى الإعلان أيضاً.

ثانياً: الأمر الغريزيّ والتكوينيّ ونوع من الإعلان التكوينيّ: قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً )(6).

ص: 101


1- أقرب الموارد ، سعيد الخوريّ الشرتونيّ، ج 2، الوحي.
2- لسان العرب، ج 15، ص 280.
3- مجمع البحرين ولسان العرب، ج 15، ص 280.
4- المفردات في غريب القرآن،الراغب الأصفهانيّ، ص 515 ؛وابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 380.
5- سورة مريم: 11.
6- سورة النحل: 68-69.

ثالثاً :الإلهام النفسيّ والشعور والإحساس في باطن الإنسان:فقد ينشأ هذا الإلهام من خاطرة ذهنيّة أو إيحاء نفسيّ من العالم الأعلى أو وسوسة شيطانيّة؛ مثل:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(1)؛﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ فِي عَدُوّاً شَيَاطِين الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾(2)؛(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾(3)؛الوحي في الآية الأولى يعني الإلهام النفسيّ والروحيّ الذي أعطاه اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلى أمّ موسى، وأمّا الإلهام في الآيتين الأخريين ، فهو ما يصل إلى الإنسان من الشياطين.

رابعاً: الإلهام الرساليّ للأنبياء: وهو الإلهام الغيبيّ والرساليّ الإلهيّ الذي يُبلغه اللّه تعالى عن طريق الملائكة أو بدون واسطة أو بواسطة أمر آخر، إلى الأنبياء، من أجل تبليغ الرسالة الإلهيّة وهداية الناس.

لقد استُخدمت مفردة «الوحي» في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرّة بالمعنى نفسه؛كما في قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)(4).

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾(5).

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ)(6).

(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ)(7).

ص: 102


1- سورة القصص: 7.
2- سورة الأنعام: 112.
3- سورة الأنعام: 121.
4- سورة يوسف: 3 .
5- سورة الشورى: 7.
6- سورة العنكبوت: 45.
7- سورة يونس: 2.

(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾(1).

إنّ الفطرة السليمة للإنسان والعقل البشريّ السليم يدلّان على أنّ للبشر قدرة كامنة على نيل الكمال والسعادة الأبديّين، وتبيّن البراهين العقليّة أنّ الهدف من خلق البشر وحياتهم في هذه الدنيا هو إيصالهم إلى الكمال؛ كما أن القرآن الكريم يشير إلى ذلك بقوله:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(2).

والسؤال المطروح هنا هو : كيف يمكن الوصول إلى الكمال، والسير في صراط مستقيم نحوه؟ لا شكّ في أنّ العقل والحسّ والشهود تمثّل وسائل مفيدة لبلوغ تلك الحقيقة؛ لكنّها ليست كافية؛ لأنّ أسباب الانحراف عن الطريق القويم في هذا المسير ليست قليلة، وبالتالي فإنّ الوسائل الاعتيادية للمعرفة معرّضة للخلل على الدوام. ناهيك عن وجود ميدان معرفي لا تناله يد هذه الوسيلة؛ بمعنى أنه خارج عن نطاق العقل والحسّ. من هنا، تتجلّى ضرورة الاعتماد على وسيلة أخرى يطلق عليها مسمّى الوحي.

وفي المحصلة نقول : تتمثل حقيقة الوحي في كونه وسيلة أخرى لاكتساب المعرفة، لا يتيسّر لنا إدراك واقعها وكنهها .

يقول العلّامة الطباطبائيّ في هذا الشأن:

إنّ حقيقة الوحي خفيّة علينا؛لأنّنا محرومون من هذه العطيّة،أو قل:لأنّنا لم نسعد بتذوّقه..وليس في وسعنا سوى معرفة بعض آثاره؛وهي القرآن والصفات النبويّة(3).

وبناءً على ذلك،يمكننا أن نقف على حقيقة الوحي من خلال مطالعة آثاره وملاحظة علاماته، والتدبّر في مضمونه؛ أي في القرآن الكريم.

ص: 103


1- سورة النساء: 163.
2- سورة الذاريات: 56.
3- القرآن في الإسلام (بالفارسیة:قرآن در اسلام)،العلامة الطباطبائي، ص 149.

3/2/14. الوحي والإلهام:

الإلهام حقيقة تماثل الوحي الإلهيّ، وتختلف عنه في نقاط وتختلف عنه في نقاط عدّة. ويلزم معرفة التمييز

بين هاتين الحقيقتين في البحوث الدارسة للنبوّة.

يقول بعضهم في تبيان الاختلاف بين هاتين الظاهرتين:

المعرفة التي تحصل للإنسان بالواسطة أو بدون واسطة، إن علم بأنها من جانب اللّه تعالى، فهي الوحي، وإن لم يعلم، سُمّي بالإلهام. فالإلهام إذن، ضربٌ من ضروب الشعور؛ كالحزن والفرح، أو الجوع والعطش(1).

ويكتب ابن عربيّ عند تفريقه بين الوحي والإلهام:

إنّ الإلهام قد يحصل من الحقّ تعالى بغير واسطة الملك بالوجه الخاصّ الذي له مع كل موجود، والوحي يحصل بواسطته؛ لذلك لا تُسمّى الأحاديث القدسية بالوحي والقرآن؛وإن كانت كلام اللّه تعالى.

وأيضاً: قد مرّ أنّ الوحي قد يحصل بشهود الملك وسماع كلامه، فهو من الكشف الشهوديّ المتضمّن للكشف المعنويّ، والإلهام من المعنويّ فقط. وأيضاً،الوحي من خواصّ النبوّة لتعلّقه بالظاهر والإلهام من خواصّ الولاية. وأيضاً هو مشروط بالتبليغ دون الإلهام(2).

نستخلص ممّا تقدّم أنّ الوحي والإلهام يحملان معاني شتّى، وينطويان على نِسَب مختلفة على ضوء كلّ من هذه المعاني؛ فإذا كان المقصود بالوحي: «الوحي النبويّ»، ومن الإلهام: «الإلهام الإلهيّ»، ففي هذه الحالة، تتوحّد كلتا الحقيقتين باعتبار كونهما إلهيّتين، وجريانهما من عالم الغيب، وقدرتهما على كشف الحقائق الملكوتيّة؛ وإن تختلف الواحدة

ص: 104


1- الوحي والنبوّة (بالفارسية:وحي و نبوّت)محمّد تقي شريعتي، ص 4.
2- شرح مقدّمة القيصريّ، ص 590.

عن الأخرى في جوانب عدّة؛ يشتمل الوحي الإلهيّ على الشريعة والدين الإلهيّين؛ أي يحتوي على طبيعة ووظيفة دنيويّتين تدلّان على الملكوت والسعادة الإنسانيّة. والإلهام الإلهيّ أعمّ من الوحي؛ أي إنّه قد لا يشتمل على الشريعة؛ كالإلهامات التي تنزله الملائكة على الأئمّة وتطلعهم بها على حقائق العالم. وإذا اعتُبر الإلهام أعمّ من نوعيه الحقيقيّ والمزيّف وشمل المكاشفات الشيطانيّة والواردات النفسانيّة أيضاً، فعندئذٍ، يصبح الإنهام أعمّ من الوحي أيضاً؛ لأنّ الوحي إلهام إلهيّ وحقيقيّ، ولأنّ الإلهام أعمّ من الواردات الإلهيّة والشيطانيّة.

4/2/14. الوحي في الحكمة الإسلامية:

لطالما كانت حقيقة الوحي وماهيّته تؤرّق الفلاسفة الإسلامييّن وتشكّل أحد الهواجس عندهم.الفارابيّ (339-258) هو أوّل حكيم مسلم تحدّث عن ماهيّة الوحي من منطلق فلسفيّ، وبالرغم من أنّ الكنديّ تطرّق قبله إلى مسألة الخيال التي تولّد صوراً جزئيّة فاقدة للمادّة؛ غير أنه لم يعرض لتبيين الوحي. وقد اتّبع المشربَ الفلسفيّ للفارابيّ في باب حقيقة الوحي والنبوّة، حكماءُ آخرون؛ من أمثال:ابنسينا،وشيخ الإشراق، وصدر الدين الشيرازيّ.

يشير الفارابيّ - بغية تبيين الفرق بين النبيّ والفيلسوف - إلى نقطة مفادها أن بإمكان الأنبياء - علاوةً على ما يتمتّعون به من بالعقل المستفاد والاتّصال بالعقل الفعّال لتلقّي الوحي - أن يتلقّوا الحقائق الوحيانيّة بواسطة القوّة المتخيّلة أيضاً. ويرى الفارابي أنّ القوّة المتخيّلة تتوسّط الحاسّة والناطقة(1).

وبعبارة أخرى، فإنّ العقل يمدّ الأنبياء في إدراك الوحي الكلّيّ وتمدّهم قوّةً الخيال في إدراك الوحي الجزئي ومشاهدة ملائكة الوحي وسماع كلامهم. ولهذا، فإنّ استخدام كلّ من القوّة العاقلة والقوّة المتخيّلة يلعب دوراً فعالاً في اكتشاف أقسام

ص: 105


1- آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 108.

الوحي المختلفة. ويتحقّق إدراك المعقولات والكلّيّات الوحيانيّة بواسطة العقل المستفاد ومشاهدة الجزئيات، ومنها ملك الوحي وسماع كلامه عن طريق اتصال القوّة المتخيّلة للنبي بالعقل الفعّال.

وعلى هذا الأساس، لا يتميز النبي عن الحكيم في كمال القوّة العاقلة والعقل النظري والعقل المستفاد؛ فإنّ كلتا الشخصيّتين تشارك إحداهما الأخرى في هذه المرحلة ، بل الفرق بين هاتين الاثنتين يكمن في كمال القوّة المتخيّلة؛ أي الفصل المميّز للنبي عن الحكيم عبارة عن القوّة المتخيّلة(1).

ويبيّن الشيخ الرئيس عقلانيّاً ضرورة الوحي النبوي عن طريق مراتب العقل وخاصة العقل المستفاد و ضرورة قوّة الحدس وارتباط العقل البشري بالعقل الفعّال،ويذهب إلى أنّ الناس مختلفون فيما بينهم في قوّة الحدس كيفاً وكماً، ويفتقد بعضهم إلى هذه القوّة، في حين يمتلك آخرون درجات عالية منها . ولا يوجد على وجه البسيطة إلا أشخاص قلائل يحتلون الرتبة العليا لهذه القوّة، وذلك من جراء اتصالهم التام بالحقيقة، ومن دون تعليم من الخارج، وهم يحصلون على البصيرة النبوية من خلال الربط بين العقل المستفاد والعقل الفعّال.

ويذكر ابنسينا في الفصل السادس من المقالة الخامسة لكتاب الشفاء، مراتب العقل، ويصف هنالك العقل القدسيّ بأعلى مراتب العقل(2).وفي باب إمكان الوجود

ص: 106


1- تحصيل السعادة،الفارابیّ،ص 61-63 ،وكتاب العلّة ونصوص أخرى، ص 49-50 ؛وآراء أهل المدينة الفاضلة، الفصلان 24 و 25.
2- يقول ابن سينا بشأن العقل المستفاد: «أمّا العقل المستفاد ، فهو العقل بالفعل من حيث هو كمال.. فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل الفعّال تمام الاتصال.. فجائز إذن أن يقع الإنسان بنفسه الحدس وأن ينعقد في ذهنه القياس بلا معلّم، وهذا ممّا يتفاوت بالكم والكيف؛ أمّا في الكمّ، فلأنّ بعض الناس يكون أكثر عدد حدس للحدود الوسطى، وأمّا في الكيف، فلأنّ بعض الناس أسرع زمان حدس ولأنّ هذا التفاوت ليس منحصراً في حد، بل يقبل الزيادة والنقصان دائماً وينتهي في طرف النقصان إلى من لا حدس له البتة، فيجب أن ينتهي أيضاً في طرف الزيادة إلى من له حدس في كلّ المطلوب أو أكثرها، وإلى من له حدس في أسرع وقت وأقصره، فيمكن إذن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس لشدّة الصفاء وشدّة الاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتغل حاسّاً أعني قبولاً لها من العقل الفعّال في كل شيء وترتسم فيه الصور التي في العقل الفعّال، إما دفعة وإمّا قريباً من دفعة،ارتساماً لا تقليدياً بل بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى. فإنّ التقليديّات في الأمور التي إنّما تُعرف بأسبابها،ليست يقينية عقلية، وهذا ضرب من النبوّة، بل أعلى قوة النبوّة، والأولى أن نسمّى هذه القوّة، قوّة حدسية وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية». انظر: الشفاء الطبيعيّات،كتاب النفس،المقالة الخامسة، الفصل السادس، ص 220.

من كتابه «الإشارات والتنبيهات»وضع كلاً من القوّة القدسيّة والحدس القويّ واشتمال النفوس القويّة - ومنها : النفسَ النبويّة - في ضمن هذه المرتبة(1).

ويوضّح الوحي بعد تقسيم العقل النظريّ، فيقول ما ترجمته:

وأمّا النفس التي تُسمّى بالنفس الناطقة، فإنّ قواها على قسمين: أحدهما القوّة العاملة والآخر القوّة العالمة ويوصَف كلاهما بالعقل على سبيل الاشتراك. أما القوّة العاملة، فهي التي تُسمّى بالعقل العمليّ، وأما القوة العالمة، فهي التي تُسمّى بالعقل النظريّ ويمكنه إدراك المعاني والصور العقلية وفهم الكليات. وله مراتب من حيث إدراكه هذه المعاني:إحداها حين يخلو من المعقولات كلّها ويُسمّى بالعقل الهيولانیّ، وإذا أدرك الأوّليّات يُسمّى بالعقل بالملكة.. والثالثة تكون حين يدرك المعقولات كلّها، فينقلب حينئذ ملكةً كي يطالع تلك المعقولات فيُسمّى بالعقل بالفعل،والرابعة هي حين يطالع ويشاهد المعقولات ويُسمّى بالعقل المستفاد، وإذا نالت نفوس الناس هذه الغاية في العلم والأخلاق، تتجه نحو الفضيلة وهذه الغاية هي كمال الناس ولهذه الجوهرة وجهان: أحدهما متّجه إلى العقل الفعّال وهو العقل النظريّ ومن هنا، يقتبس العلم، والوجه الآخر متجه إلى الجسم وهو العقل العملیّ(2).

وبطبيعة الحال، يستخدم ابنسينا أحياناً مصطلح العقول الفعّالة بدلاً عن مصطلح العقل الفعّال(3).

ص: 107


1- الإشارات والتنبيهات،ابن سينا،ج 2،النمط الثالث،ص 360-365 ؛المبدأ والمعاد، ابن سينا،ص 115.
2- رسالة النفس، ابن سينا،ص23-26.
3- يقول في هذا الصدد: العلم البسيط الذي ليس من شأنه أن يكون له في نفسه صورة ولكن هو واحد تفيض عنه الصور في قابل الصور، فذلك علم فاعل للشيء الذي نسمّيه علماً فكرياً ومبدأ له وذلك هو للقوة العقلية المطلقة من النفوس المشاكلة للعقول الفعّالة. انظر: النفس من الكتاب الشفاء، ص 333.

ويصل ابن سينا في نهاية المطاف إلى قناعة مفادها أنّ النبي .يتلقّى علم الغيب والحقائق وصورة الحروف والأشكال المختلفة والعبارات الوحيانيّة من خلال الملائكة، أو بمساعدة القوّة المتخيّلة، ويسمع الكلام الإلهيّ، ويشاهد الملك على هيئة شخص بشريّ(1).وتبلغ القوّة المتخيّلة النبوية حدّاً من القدرة والطاقة، لا تستطيع معه الحواسّ الظاهريّة أن تستولي عليها(2).

ويتمسّك الشيخ الرئيس من أجل تبيان الوحي في الأمور الجزئية بالنفوس الفلكيّة وعلمها بجزئيّات الطبيعة، مبيّناً أنّ النفس النبويّة تتّصل بالنفوس الفلكيّة، وتطّلع على جزئيّات عالم الطبيعة(3).

ويتّفق شهاب الدين السهرورديّ مع الفارابيّ وابن سينا في إنكار أي دور فاعليّ للنبوّة في تلقّي الوحي؛ إذ عمد إلى استعراض دورها القابليّ من خلال ارتقاء العقلانيّة من مرحلة العقل بالقوّة وبالملكة إلى العقل بالفعل، والعقل المستفاد،والاتّصال بالعقل الفعّال، وتلقّي الصور العقليّة والكلّيّة من ذلك العالم.

وحسبما يزعم شيخ الإشراق، فإنّ الحجاب الوحيد الحاجز بين الأنوار الإسفهبديّة أو النفوس والأنوار المجرّدة هو الشواغل الجسمانيّة والعالم الظلمانيّ(4).

ويقسّم السهرورديّ - كغيره من الحكماء المتقدّمين - الوحي إلى كلّيّ وجزئي، ويبيّن تلقّي الوحي الكلّيّ بواسطة النبيّ من خلال علاقة العقل المستفاد بالعقل الفعّال،ويوضح علم الوجود الخاصۀ بالوحي الكلّيّ عبر العقول العرضيّة؛ ولكن في باب

ص: 108


1- الرسالة العرشيّة، ص 12.
2- راجع: الإشارات والتنبيهات،النمط العاشر،الفصلان 21 و 22 ، ص 142-145؛ وكذلك لبحث مراتب العقل،راجع:التجريد، شرح نمط هفتم،ص 40؛ وكذلك راجع: قطب الدین محمّد بن محمّد الرازي، الإلهيّات من المحاكمات بين شرحي الإشارات، ص 393-398 .
3- رسالة في النفس وبقائها ومعادها، ص 114-115.
4- الأعمال الكاملة،شهاب الدين السهروردي ، ج 2، ص 236 وج 3 ص 445.

كيفيّة تلقّي الوحي الجزئيّ، وإبصار الملك، وسماع الألفاظ الوحيانيّة، لا يمكنه مسايرة الفلاسفة الماضين، وحلّ ذلك عن طريق ارتباط النبوّة بالنفوس الملکیّة.

وبطبيعة الحال، يشير في بعض مصنّفاته إلى مكانة المتخيّلة، متابعاً في ذلك المشرب المشّائيّ، غير أنّه يميل في«المطارحات» إلى اعتناق رأي آخر؛ فلا يعدّ إبصار الملك من إبداعات المتخيّلة في قوّة الخيال، بل يتحدّث عن عالم آخر، يتوسّط عالم الحسّ وعالم العقل يسمّى بعالم المُثُل المعلّقة. وقد حذّر الحكماء المشّائيّين من الغفلة عن عالم المُثُل المعلّقة، أو عالم الخيال المنفصل، بأنّ هذا العالم يقع بين العالم المحسوس والعالم المعقول. فإنّ صور الملائكة وسائر الحقائق التي يبصرها النبيّ عبارة عن واقعيّات تقع في الخيال المنفصل وعالم المُثُل المعلّقة، ولا دور للقوّة المتخيّلة أو الخيال المتّصل للنبوّة في إيجادها وإنتاجها(1).

أمّا صدر الدين الشيرازيّ فهو يستند في تفسيره للوحي الجزئيّ إلى كمال القوّة المتخيّلة كما تمسّك في تفسيره للوحي الكلّيّ بكمال القوّة النظرية؛ أي العقل المستفاد والاتّصال أو الاتّحاد بالعقل الفعّال أو العقول الفعّالة.

ولهذا فهو يرى أنّ القوّة المتخيّلة ينبغي أن تملك من القدرة ما تبصر به عالم الغيب عند اليقظة، وتشعر بالصور الجميلة والأصوات الحسنة المنظومة على وجه جزئي في مقام هورقليا (العالم غير المادّيّ) أو غيره من العوالم الباطنية، وتبصرها أو تحكي ما تبصره النفس في عوالم الجواهر المجرّدة العقليّة. فعليها أن تبصر وتسمع ما تبصر وتسمع في المنام(2).

وفي رؤية صدر المتألهين، فإنّ جميع العقول المجرّدة والحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى هي من القسم الفعّال؛غير أنّ أقرب المخلوقات المجرّدة منّا على لسان الشريعة، هو روح

ص: 109


1- الأعمال الكاملة،شهاب الدين السهرورديّ ، ج 1 ص 495 و 496 وص 230-245.
2- المبدأ والمعاد في الحكمة المتعالية، ص 547 و548.

القدس الذي يصفه بالقول:

المعلّم الشديد القويّ والمؤيّد بإلقاء الوحي للأنبياء، وهو الذي إذا اتّصلنا به،أيّدنا، وكتب في قلوبنا الإيمان، والعلوم الحقّة(1).

وبناءً على ذلك، فقد قَبِل صدر المتألهين بنظريّتين مختلفتين؛ هما المشَائيّة والإشراقيّة؛ فهو يرى أنّ الإدراك الكلّيّ اتّحاد النفس الإنسانيّة مع العقل الفعّال (أي العقل العاشر الواحد في سلسلة العقول الطوليّة) وفي الوقت نفسه، يقبل وجهة النظر الرامية إلى أنّ الإدراك العقليّ إبصار للمُثُل الأفلاطونية (أي: العقول العرضيّة المتكثّرة). وهنا يجب إيضاح أنّه هل يمكن اعتبار حصول الإدراك الكلّيّ عن طريق اتّحاد النفس مع العقل الفعّال، وعن طريق إبصار المُثُل المفارقة العرضيّة ؟ وجه الجمع هو أنّ مراد صدر الدين الشيرازي من العقول العرضيّة والمثل الأفلاطونية مع العقل الفعّال حقيقة واحدة؛ لكن يجب أن يجريالحديث - بعد الآن - عن عدّة عقول فعّالة بدلاً من عقل فعّال واحد، كما أنّه استعمل في بعض كتاباته تعبير العقول الفعّالة(2).

يقول صدر المتألهين في كيفيّة إنزال الوحي على الأنبياء: بعد اعترافه بوجوب الإيمان بالكتب الإلهيّة المنزَلة على الأنبياء ومحتواها وخدمة العلماء الذين يقومون بتأويل القرآن، يقول في باب ماهيّة إنزال الوحي:

فمن الدائر على ألسنة جماعة من المفسّرين وغيرهم من المتكلّمين، أنّ المراد من إنزال الوحي أن جبرئيل .سمع في السماء كلام اللّه تعالى فنزل به على الرسول . وربّما استشكل بعضهم هذا أي سماع جبرئيل كلام اللّه سيّما القائل بأنّ كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف فأجابوا عنه : أمّا المعتزلة، فبأنّه يخلق اللّه أصواتاً وحروفاً

ص: 110


1- المصدر السابق، ص 449.
2- تفسير فلسفة الوحي من الفارابّي إلى صدر الدين الشيرازيّ (بالفارسية : تبيين فلسفه وحی از فارابي تا ملاصدرا) موسى ملايري، ص158،159.

على لسان جبرئيل وهذا معنى الكلام عندهم. وأمّا الأشاعرة، فتارةً بأنه يحتمل أن يخلق اللّه له سماعاً لكلامه ثمّ أقدره على عبارة يعبّر بها عن ذلك الكلام. وتارة بأنه يجوز أن يخلق اللّه في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبرئيل .فحفظه، وتارة بتجويز أن يخلق أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فتلقّفه جبرئيل، ويخلق له علماً ضرورياً بأنّه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام القديم.. وطائفة استدلّوا على كون الملائكة أجساماً متحيّزة.. وأمّا على مسلك هؤلاء وممشاهم من القول بما هو صريح الحقّ وما عليه كافّة الحكماء الإلهيّين والربّانيّون من الإسلامييّن وهو أنّ الملائكة - كما مرّ - تُطلَق على قبائل علويّات وسفليّات سماويّات وأرضيّات، قدسيّات وجسمانيّات .. وقد مرّ منا القول بأنّ كلام اللّه ليس مقصوراً على ما هو من قبيل الأصوات أو الحروف، ولا على ما هو من قبيل الأعراض مطلقاً ألفاظاً كانت أو معاني، بل كلامه ومتكلّميّته يرجع إلى ضرب من قدرته وقادريّته، وله في كلّ عالم من العوالم العلويّة والسفليّة صورة مخصوصة. وطائفة أخرى اقتصروا على القول بالتلاقي الروحانيّ والظهور العقلانيّ بين النبي .والملك الحامل للوحي. فسمّوا ظهوره العقلانيّ لنفوس الأنبياء: نزولاً تشبيهاً للهبوط العقليّ بالنزول الحسّيّ وللاعتلاق الروحانيّ بالاتّصال المكانيّ، فيكون قولنا : نزل الملك استعارة تبعية(1).

لقد عدّ الشيرازيّ هذه الرؤية إسرافاً في التنزيه، كما يقدّم الرؤية الأولى بوصفه إسرافاً في التشبيه، ويستبعد كلا القولين عن طريق الصواب، ويعدّهما باطلين ومخالفين للهداية والأحاديث النبويّة المتواترة والقوانين العقليّة.

فضلاً عن أنّ الأمّة الإسلاميّة تجمع على أنّ النبيّ. يبصر جبرئيل والملائكة المقرّبين بالبصر الجسمانيّ، ويسمع الكلام الإلهيّ جارياً على ألسنتهم القدسيّة بالسمع الجسمانیّ، فإنّ العقل يبرهن على ذلك بأنّ المعوّل عليه في السماع والإبصار الحسّيّين لدى الإنسان هو وجود الصور البصريّة؛كالألوان،والأشكال، والصور المسموعة؛

ص: 111


1- تفسير القرآن الكريم، ص147-144.

كالأصوات،والحروف والكلمات؛فالمبصَر والمسموع الحقيقيّان-إذن-هما الصورة الحاصلة في النفس ؛ لا الصورة الخارجيّة، والمادة الوضعيّة التي هي مدرَكة بالعرض(1).

حاصل الكلام أنّ الحكماء الإسلاميين قاموا عند تبيينهم الوحي بالفصل بين مقامي الوحي الكلّيّ، والوحي الجزئي. وقد استفادوا من أجل تبيين الوحي الكلّي وتبريره عقليّاً من اتصال النفس الإنسانية أو اتحادها في مرتبة العقل المستفاد مع العقل الفعّال أو العقول الفعّالة أو إبصار العقول العرضيّة والمثل الأفلاطونية، وأفادوا في تبيين الوحي الجزئي وتبريره عقليّاً من اتصال العقل العملي للنبي بالنفوس الفلكية أو المثال المنفصل والاطلاع على الصور العلمية الجزئية فيها. فيحصل النبي كذلك على الوحي والعلم بالكليات والوحي والعلم بالجزئيات، من مصادرهما الحقيقية والأصلية. وقد اكتفى الفارابي في تحليل الوحي بهذا القدر من تبيين مراتب العقل النظري، ووصف العقل المستفاد بالعقل النبوي، وقدّم الصورة المعقولة النازلة عن طريق العقل الفعّال، على أنه وحي، ولكن صدر الدين الشيرازي يرى أنه بالرغم من أنّ غاية الوجود الإنساني تتلخص في الوصول إلى العقل المستفاد والاتصال بالعقل الفعال؛ غير أنّ هذه المزية يمكن تحققها في غير الأنبياء أيضاً. ولذلك، مع أنّ للنبوّة دوراً أساسياً في قابلية الوحي وتلقيه من وجهة نظر الحكماء الإسلاميين، وتوفق النبوّة لتلقي الوحي بالارتقاء والوصول إلى العقل المستفاد والحدس القوي والقوة المتخيّلة المتعالية؛ غير أنّ أيّاً من الحكماء الإسلاميّين لم يذعن لها بالدور الفاعليّ، ولم يتقبلوا تأثير ثقافة العصر على إيجاد الوحي(2).

5/2/14 أقسام الوحي النبوي:

عرض القرآن الكريم - إضافة إلى تبيان معاني الوحي المختلفة - لتبيين أقسام الوحي النبويّ ؛ فالأقسام الثلاثة للوحي النبويّ هي:الوحي الإلهيّ المباشر إلى النبيّ،

ص: 112


1- المصدر نفسه.
2- راجع:مقالة ماهية الوحي في الحكمة الإسلامية،للمؤلّف، مجلّة قبسات.

والوحي المباشر عن طريق الملك الإلهيّ، والوحي عن طريق الحجاب أو أيّ شيء آخر. يقول اللّه سبحانه في هذا المجال:

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلَّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلى حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا )(1).

ويشير في آيات أخرى إلى الوحي في المنام والوحي المباشر وبواسطة الروح الأمين والوحي المباشر:

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ ﴾(2)؛

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ )؛(3)

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )؛(4)

ينقسم الوحي في تقسيم آخر، إلى تكويني وتشريعيّ:

أمّا الوحي التشريعيّ فهو مجموعة التعاليم والأحكام التي أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء دفعة أو تدريجيّاً تحت تسمية الشريعة والدين. وأما الوحي التكوينيّ فهو استعداد وغريزة في المخلوقات، وكذلك القوانين العامّة الحاكمة على نظام الكون والتي تسير بأهداف محدّدة. وعلى هذا الأساس، يمكن عدّ الوحي حقيقة تتحقّق في جميع المخلوقات وتضمن هدايتها. وتوجد هذه الحقيقة الإلهية بمراتب طوليّة شتّى في المخلوقات. ويتمتع الأنبياء الإلهيون بالمرتبة العالية من هذه الحقيقة، وتتمتع سائر المخلوقات بالمراتب اللاحقة للوحي؛ كالرؤى الصادقة التي تحصل للأناس الاعتياديين.

ص: 113


1- سورة الشورى: 51 .
2- سورة الفتح: 27.
3- سورة الشعراء: 193.
4- سورة المزمل: 5.

6/2/14. خصائص الوحي النبويّ:

للوحي النبويّ والإلهيّ خصائص مختلفة؛وقد ذكر العلامة المطهّري في كتابه«النبوّة»،أربع سمات تخصّ وحي الأنبياء. وفيما يأتي نقدّم شرحاً لهذه الخصائص الأربع بمزيد من الإيضاح:

أوّلاً: علاقة الوحي بالباطن : ويعني ذلك أنّ الوحي ذلك أنّ الوحي الإلهيّ يُتلقّى من الباطن؛ لا عن طريق الحواسّ الظاهريّة. ولهذا، كانت حواسّ النبيّ الأعظم .في أغلب الأحيان التي ينزل فيها الوحي عليه تتثاقل، ثمّ يتصبّب عرقاً. وقد أشار القرآن إلى ذلك بالقول:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ)(1). و من المصاديق الأخرى للوحي: الإلهام،والرؤى الصادقة، وهي أمور تنكشف للإنسان باطنياً.

ثانياً مصاحبة الوحي للتعليم الإلهيّ : حينما لا يكون هناك وحي إلهيّ خارجيّ ،ولا يحصل هذا الوحي عن طريق الحواسّ الظاهريّة أيضاً ، فلن يكون له معلّم طبيعيّ وإنسانيّ، ولا يمكن اكتشافه بالاختبار والتجربة؛ لكنّه لا يشبه غرائز الحيوانات التي لا تعليم لها، بل هو التعليم في ذاته ومعلّمه هو اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى. وقد أشارت إلى ذلك الآيات الكريمة التي تقول:

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالَّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾(2).

﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾(3).

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(4).

ص: 114


1- سورة الشعراء: 193.
2- سورة الضحى: 6-8.
3- سورة النساء: 113.
4- سورة النجم: 5.

ثالثاً:استشعار الوحي النبويّ : يعي ويستشعر الأنبياء أحوالهم المعنويّة والملكوتيّة، وهم يدركون الطابع الوحياني للتعاليم الدينيّة. وبعبارة أخرى، كيف عرف الأنبياء أنّ الوحي قد نزل عليهم ، وأنهم بُعثوا، وأن جبرئيل هو الوسيط؟

يجب أن نعلم بأنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يوفّر على أساس قاعدة اللطف والحكمة جميع الطرق والوسائل الكفيلة بهداية العباد وإطاعتهم وسعادتهم، ولو لم يكن الأمر على هذا النحو،للزم نقض الغرض. ولهذا، يمهّد اللّه بنفسه الأرضيّة لعلم الأنبياء.

يقول الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى بهذا الشأن:(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾(1).

(يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(2).

(يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾(3).

وقال الإمام الصادق .ردّاً عن سؤال زرارة بن أعين عن كيفيّة علم النبي:

«إنّ اللّه إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان [الذي] يأتيه من قبل اللّه مثل الذي يراه بعينه»(4).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الوحي لا ينزل على الأنبياء إلّا بعد اجتيازهم المراحل المتدنّية،وبلوغهم المنازل السامية. وفي هذه الحالة، يقف الإنسان بالعلم الحضوريّ على المنزل والمقام الذي تبوّأه.

رابعاً:وساطة الوحي: اعتاد الأنبياء على تلقّي الوحي النبويّ عن طريق مخلوق آخر يُدعى الروح الأمين وجبرئيل. ويُعدّ جبرئيل وسيطاً للوحي الإلهيّ(5).

ص: 115


1- سورة الأنعام: 75.
2- سورة النمل: 9.
3- سورة النمل: 10 .
4- تفسير العياشي، ج 2، ص 201 .
5- لاحظ:النبوّة،مرتضى المطهري، ص 81-84(النسخة الفارسية).

3/14.ثانياً: عصمة الأنبياء:

من صفات الأنبياء الإلهيين عصمتهم من الذنوب والأخطاء، وهي سمة بادر المتكلمون المسلمون إلى تبيينها وإثباتها. ويحتل مقام النبوّة في رأي علماء الإسلام مكانة مهمة تعارض إتيان الصغائر أو الكبائر والأخطاء على سبيل السهو أو العمد.

وقبل الولوج في ماهيّة العصمة وأدلتها المثبتة، هناك سؤال مهمّ يطرح نفسه حول نشأة العصمة؛ مفاده: ما هو المنبع والمنشأ لنظريّة العصمة بين المسلمين؟ ومتى تبلورت هذه الفكرة عندهم ؟

لا ريب في أنّ هذه النظرية الإسلاميّة تنبع من القرآن الكريم، وقد ظهرت معالمها منذ صدر الإسلام؛ فقد أشار اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في آيات عديدة إلى مسألة العصمة؛ حيث يقول بخصوص عصمة الملائكة:(لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ )(1).

وفيما يخصّ عصمة القرآن الكريم قال تعالى:(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ )(2).

كما ورد أيضاً في بيان عصمة بعض الناس على لسان الشيطان قوله تعالى: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾(3).

من هنا، فإنّ الشبهة القائلة بأنّ نظريّة العصمة قضيّة روّج له بعض حديثي العهد بالإسلام ممن كانوا على دين اليهوديّة، ليست على صواب؛ فاليهود لم يكونوا يؤمنون بعصمة أنبياء بنيإسرائيل، وكان من ديدنهم الافتراء على أنبيائهم وقذفهم بارتكاب المعاصي الكثيرة.

ص: 116


1- سورة التحريم: 6 .
2- سورة فصلت: 42.
3- سورة ص : 82 .

ومن جهة أخرى، فإنّ المتكلّمين من الإماميّة والمعتزلة ليسوا هم أوّل مَن جاء بهذه النظريّة؛ فقبل نشوب الخلاف بين المسلمين حول قضيّة الإمامة، كانت نظرية العصمة شائعة بين أتباع رسول اللّه .مستفيدةً من الآيات القرآنية(1).

1/3/14. مناحي العصمة:

ترتبط مفردة «العصمة» بمادّة «عَصَمَ»، وهي تعني المنع والإمساك. وتُسمّى العصمة بهذا الاسم؛ لأنّ الشخص المعصوم يُمنع من ارتكاب المعصية والخطأ. يقول اللغويّ الشهير الخليل الفراهيدي في هذا الخصوص:أن يعصمك اللّه من الشرّ ؛ أي: يدفع عنك، واعتصمت باللّه؛ أي: امتنعت به من الشرّ(2).

وقد عرّف ابنفارس، العصمة بالصيانة الإلهية من كل سوء يقع العباد فيه(3). وفسرّ الراغب الأصفهاني كلمة «العصمة» بالإمساك.(4)

وأشار كلّ من الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي إلى المعنى اللغوي للعصمة(5).

ص: 117


1- لاحظ:مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحانيّ، ج 5، ص 6؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني ص 10؛الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل،السبحاني،ج2 ، ص 154؛أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم،السبحاني،ص 289؛رسائل ومقالات،السبحاني،ص 294؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم (بالفارسية: سيره رسول اکرم در قرآن)الجوادي الآملي، ج 5،ص 6؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، الجوادي الآملي، ص 10.
2- كتاب العين،الخليل بن أحمد الفراهيدي، ج 1، ص 313 .
3- معجم مقاييس اللغة،ابن فارس، ج 4 ، ص 331.
4- المفردات،الراغب الأصفهاني، ص 336. وقال ما نصّه: «العصم الإمساك والاعتصام الاستمساك، قال: لا عاصم اليوم من أمر اللّه؛ أي: لا شيء يعصم منه».
5- إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنه امتنع به عن الوقوع فيما يكره.. ومنه قولهم:«اعتصم فلان بالجبل» إذا امتنع به ومنه.سُمّيت «العصم» وهي وعول الجبال لامتناعها بها. والعصمة في اللّه تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم فهو إذا أمسكه واعتصم به سُمّي ذلك الشيء عصمة له لما تشبث به وسلم به من الغرق ولو لم يعتصم به، لم يُسمَّ عصمة. وكذلك سبيل اللطف، أنّ الإنسان إذا أطاع سُمّي توفيقاً وعصمة وإن لم يطع لم يُسم توفيقاً ولا عصمة ...(أوائل المقالات،الشيخ المفيد، ص 66 )وأصل العصمة في وضع اللغة المنع، يقال: فلاناً من السوء إذا منعت من فعله ،به غير أنّ المتكلمين أجروا هذه اللفظة على من امتنع باختياره عند اللطف الذي يفعله اللّه تعالى به؛ لأنّه إذا فعل به ما يعلم أن يمتنع عنده من فعل القبيح، فقد منعه منه، فأجروا عليه لفظ المانع قسراً أو قهراً. (رسائل السيّد المرتضى، ج 3، ص 326.) و«العصمة المنع من الآفة والمعصوم في الدين؛ الممنوع باللطف من فعل القبيح، لا على وجه الحيلولة» (التبيان،الشيخ الطوسيّ، ج 5، ص 490).

وفيما يخصّ المعنى الاصطلاحيّ للعصمة، نوقشت مناحٍ وتوجّهات مختلفة من قِبَل المتكلّمين والحكماء الإسلاميّين(1)؛فأدرج بعضهم العصمة تحت لواء اللطف والفضل الإلهيّين، وعدّه آخرون القوّة العاقلة، ووصفته جماعة بالكلمة النفسانية، وفسّرته أخرى بالحيثية الخاصة.

أما الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والمحقّق الطوسي والعلّامة الحلّيّ، فذهبوا إلى أنّ اللطف يمثل حقيقة العصمة(2).ومن متكلّمي الأشاعرة والمعتزلة الذين عدّوا العصمة لطفاً إلهياً البياضيّ (3)الأشعريّ، والقاضي عبدالجبّار المعتزليّ(4).

ومع أنّ هذا الانطباع عن العصمة الذي يصنّفها في ضمن اللطف أو الفضل الإلهيّين صحيح لا غبار عليه؛ إلّا أنّ ذلك لا يحدّد القوة المؤثرة في مصونيّة أئمة الدين من المعصية والخطأ.

وقد ذهب الحكماء المسلمون إلى أنّ حقيقة العصمة في أئمة الدين كمال القوة

ص: 118


1- راجع : الكلام الفلسفي (بالفارسية: كلام فلسفي)، محمد حسن قدردان قراملكي، ص 364-377.
2- النكت الاعتقادية،37: «العصمة لطف يفعله اللّه بالمكلف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما.» ؛ والسيّد المرتضى، مسائل المرتضى،مؤسسة البلاغ،الطبعة الأولى، بيروت، 1422، ص 188: «إنّ اللطف الذي يفعله تعالى.» وكذلك السيّد المرتضى، علم الهدى، رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 325 و 326:«فيختار العبد عنده الامتناع العدول عن القبيح، ويقال: إنّ العبد معتصم، لأنّه اختار عند هذا الداعي الذي فعل الامتناع عن القبيح». وتلخيص المحصّل، ص 369: «إنّ اللّه في حق صاحبها لطفاً لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك.» والباب الحادي عشر، ص 37: «العصمة لطف خفي يفعل اللّه تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك.»؛جامع الأسرار ومنبع الأنوار، ص 242: «العصمة من اللّه هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان فيما يكره إذا أتى الطاعة».
3- الصراط المستقيم، ج 1، ص 50 و116.
4- راجع المغني، ج 13، ص 15.

العاقلة للإنسان إزاء القوّة الغضبيّة والشهويّة. فإنّ الإنسان الكامل من خلال هذا التوجّه يسيطر بعد تقوية القوّة العاقلة على القوى الأخرى للنفس ؛ أي القوى الغضبية والشهويّة، ويجعلها مطيعة للقوّة العاقلة. وتبلغ نفس النبي والولي بعد اجتياز مراحل التكامل والارتباط والاتصال بالعقل الفعّال(المَلَك الإلهي) مقاماً لايتوفّر فيه المجال لتحقق المعصية في وجوده(1).

ومع أنّنا لا نشكّ في أنّ تكامل القوّة العاقلة يلعب دوراً فعالاً في حقيقة العصمة؛ لكن هل يكفي هذا النوع من التكامل للوصول إلى مقام النبوّة؟ وهل يبلغ كلّ حكيم يملك فعليّة القوّة العاقلة ، مقام عصمة النبي أو الولي؛ أمّ أنّه يصل إلى مرتبة من مراتب العصمة وحسب؟

يرى كاتب هذه السطور أنّ الأنبياء المعصومين: لا يستغنون في نيل العصمة وهداية الناس عن الفضل واللطف الإلهيين حتى بعد ما بلغوه من الرقي العقلي.

إنّ فعليّة القوّة العاقلة لا تقوم إلا بتوفير الأرضية اللازمة لحصول الإنسان العاقل على العقل المستفاد، ويرتبط عن طريق ذلك بالعقل الفعّال، ويتلقّى

ص: 119


1- راجع:الإشارات،ابن سينا،النمط العاشر ، ج3، ص130. يقول المحقق اللاهيجي لدى تبيينه هذا المنحى،في كتابه «گوهر مراد» في الصفحة 379 ؛«اعلم أنّ ثبوت هذا الأمر في طريقة الحكماء،في كمال الظهور؛ لأنه وبناء على الخاصّيّة الثالثة،تكون جميع القوى النفسانية مطيعة ومنقادة للعقل، والعقل من حيث هو عقل يمتنع فيه إرادة المعصية وصدور الفعل القبيح عنه. المراد بالعصمة هو الغريزة التي لا يمكن معها صدور الداعي إلى المعصية مع القدرة عليها؛ وهذه الغريزة عبارة عن قوّة العقل، بحيث توجب قهر القوى النفسانية». ويقول العلامة النراقي في «أنيس الموحّدين»، ص 99 :«قابل مرتبة النبوّة هو الذي أصبحت جميع قواه الطبيعية والحيوانية والنفسانية مطيعة منقادة مقهورة له،ومن تتبع جميع قواه العقل،فمن المحال أن تصدر عنه معصية؛ لأنّ جميع الذنوب قبيحة في نظر العقل، وكل من تصدر عنه معصية، فمن المحال أن يرتكب معصية مالم تغلب عقله إحدى قواه؛ كالقوة الغضبيّة أو القوّة الشهويّة أو غيرهما.»؛ ويقول المقداد السيوري في اللوامع الإلهيّة، ص 242:«وقال بعض الحكماء: إنّ المعصوم خلقه اللّه جبلة صافية وطينة نقية ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة،فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات والالتفات إلى ملكوت السموات والأرض عن عالم الجهات،فتصير النفس الأمارة مأسورة مقهورة في حيّز النفس العاقلة».

الوحي الإلهيّ بشكل صحيح؛ ولكن هل له أن يحفظ الوحي الإلهيّ ويبلغه ويبيّنه بالقوّة العاقلة فقط ؛ وهو متمتّع بالعصمة؟ يبدو أنّ ذلك يستلزم الفيض واللطف الإلهيّين أيضاً، وإن يُعدّ الوصول إلى فعليّة القوّة العاقلة كذلك، فيضاً اهياً .

يقول العلامة الجواديّ في شرحه لكلمات ابنسينا(1)في حقيقة العصمة :

العصمة على قسمين: أحدهما يعود إلى العلم،والآخر إلى العمل. أمّا القسم الأوّل؛ أي العصمة التي تعود إلى العلم،فهو أن يكون النبيّ معصوماً في جميع شؤونه وأموره العلميّة وأبعاده الإدراكيّة، واتّضح عند تشريحه كمال القوّة النظريّة أنّ النبيّ يتلقّى الوحي بواسطة العقل المستفاد من حضرة الحكيم العليم وتتجسّم وتتمثّل تلك المعارف والمعلومات والعلوم المتلقّاة، في حسّه المشترك ؛ بحيث لا يداخله الوهم ولا تتلاعب سائر القوة المهجورة.فلا يرى سوى الحقّ ولا يفكّر في سوى الحقّ؛ لأنّه نال مقاماً يدور حول مدار الحقّ وقد تلقّى المعارف والعلوم من عند حكيم عليم لا مجال للخطأ في حضرته.فإن تمّ حدّ العصمة ونصابها العلميّان في هذه المرحلة من التلقّي والأخذ، يأتي الدور على العصمة في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الحفظ والضبط، بحيث يكون النبي محفوظاً ومصوناً من السهو والخطأ أيضاً؛ لأنّ القانون الكامل الوحيد لسعادة الإنسان هو الوحي ولو لم يكن الوحي النازل من حضرة المعلّم الإلهي الذي هو العقل الفعّال، مصوناً من الزوال وسهو المعصوم وخطئه، فلن يكون له جدوى البتة .. ومن هنا، يتّضح لزوم العصمة في مرحلة الإبلاغ والبيان؛ بحيث لا يبلّغ سوى عين ما أُوحي إليه منذ البدء ولا يملي عن هوى، فلا يخطئ ولا يعتريه النسيان، كما أنه لا يخطئ في الحفظ والضبط. هذه مقولة

ص: 120


1- راجع: الشفاء،الإلهيات، ابن سينا،الفصل التاسع من المقالة الأولى؛ وكذلك:اشارات،الفصل العشرون من النمط العاشر والفصل الرابع من النمط التاسع والفصل السادس والعشرون من النمط العاشر.

حول العصمة العلميّة. وأمّا القسم الثاني؛أي العصمة العمليّة،فهي أن يكون النبيّ في جميع الشؤون والأمور العمليّة وأبعاد فعليّته معصوماً بحيث يقوم بكلّ ما يستحقّ القيام به ويترك ما يستحقّ الترك حتّى يكون الجذب والدفع؛أي حبّه وبغضه في سبيل اللّه تعالى وخالصَينِ له(1).

وقد عدّ بعض المتكلّمين وطائفة من الحكماء المسلمين حقيقة العصمة امتلاكَ ملكة نفسانيّة تصون الإنسان من ارتكاب الذنوب(2):

يقول الفاضل المقداد في كتابه اللوامع الإلهيّة : العصمة ملكة نفسانية تمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه(3).

ويكتب العلامة النراقيّ في هذا الشأن:العصمة ملكة لا يكون معها داع إلى المعصية مع القدرة عليها(4).

وقد أذعن بهذا المنحى بعضُ المتكلّمين من أهل السنّة؛مثل:المحقق الجرجاني(5)،والقاضي الإيجّي(6)، والتفتازانّي(7).

وصوّر عدد من المتكلّمين المسلمين - بدلاً من تصريحهم بكون العصمة

ص: 121


1- راجع:المبدأ والمعاد،الجوادي الأملي، ص 267-269.
2- يقول المحقق الطوسي في «نقد المحصّل»ص 369: «إنّها ملكة لا تصدر عن صاحبها معها الذنوب وهذا على رأي الحكماء.»يقول ميثم بن ميثم البحرانيّ في«النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة»؛ مجّمع الفكر الإسلاميّ، ج 1، قم 1417؛ ص 55 :«العصمة ملكة نفسانيّة يمتنع معها المكلّف من فعل المعصية».ويقول الفاضل المقداد في الباب الحادي عشر ص 37: «ملكة نفسانية لطف يفعله اللّه بحيث لا يختار معه ترك طاعة ولا فعل معصية مع قدرته على ذلك».
3- اللوامع الإلهية، ص 244.
4- أنيس الموحدين، ص 97.
5- التعريفات، ص 65.
6- شرح المواقف، ج 8، ص 281.
7- شرح المقاصد، ج 5، ص 313.

من اللطف - أنّها صفة وحالة معيّنة، أو قوّة توجب مصونيّة المتصف بها من المعصية(1).

إنّ ما يؤخذ على هذا التعريف من أساسه: إبهام الحيثيّة والقوّة والأمر، وكذا غموضها الذي لا يسمح بظهور حقيقة العصمة.

أمّا المسلك الذي تعتنقه غالبيّة الأشاعرة في قضيّة العصمة فهو أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يخلق في الإنسان المعصوم أي فعل قبيح أو معصية، لكنّ قدرة ارتكاب المعصية - في الوقت ذاته - غير منتفية عنه(2).

ويبتني تحليل الأشاعرة هذا للعصمة على أساس نفي فاعليّة الإنسان؛ فهم يعدّون كلّ ضرب من الأفعال الإنسانيّة فعلاً إلهيّاً، ولا يقولون بأيّ دور للإنسان في ارتكاب فعله. وتتعارض هذه النظريّة - إضافة إلى ما يُعاب عليها من القول بالجبر - مع معنى الاختيار والقدرة اللازمة في حقيقة تعريف العصمة.

وقد انبرت طائفة من المتكلّمين السنّة والشيعة من أمثال : الفخر الرازي والمحقّق الطوسيّ إلى التبيين التركيبيّ لحقيقة العصمة؛ فحسبما يراه الفخر الرازي تمثّل العصمة

ص: 122


1- يعبر المحقق الطوسي في «قواعد العقائد» ص 93، عن العصمة بنوع من الحيثية فيقول: «العصمة هي كون المكلّف بحيث لا يمكن أن تصدر عنها الذنوب من غير إجبار له عن ذلك.»وابن ميثم البحرانيّ يعبّر في «قواعد المرام» ص 125،عن العصمة بالصفة قائلاً:«العصمة صفة للإنسان يمتنع بسببها من فعل الذنوب ولا يمتنع منه بدونها.»ويقرّر السيّد حيدر الآملي في «جامع الأسرار ومنبع الأنوار» ص 243 آراء المتأخرين على النحو الآتي: «وأما على رأي متأخّريهم، فالعصمة صفة للإنسان يمتنع بسببها من فعل الذنوب ولا يمتنع منها بدونها.» ويعرّف العلامة حسن زاده الأمليّ في«شرح كلمة عصميّة في كلمة فاطميّة » ص 151 العصمة ب«القوّة» فيقول: «وحقيقة العصمة أنّها قوّة نورية ملكوتية تعصم صاحبها عن كلّ ما يشينه من رجس الذنوب والأدناس والسهو والنسيان ونحوها من الرذائل النفسانية».
2- راجع:فخرالدين الرازي،المحصّل، ص 365 ؛إنّه يكتب نقلًا عن أبي الحسن الأشعري: «العصمة القدرة على الطاعة وبعدم القدرة على المعصية». وذكر القاضي الإيجيّ في «المواقف»ج 4 ،ص 280 عند تعريفه للعصمة:«وهي عندنا أن لا يخلق اللّه فيهم ذنباً.» ويقول في كتابه«كشّاف اصطلاحات الفنون» ج 3، ص 1047:«وهي عند الأشاعرة أن لا يخلق اللّه في العبد ذنباً بناء على ما ذهبوا إليه من استناد الأشياء كلّها إلى الفاعل المختار ابتداء».ويكتب التفتازاني في «شرح المقاصد»ج 4 ص 312: «العصمة خلق قدرة الطاعة».

خاصّيّة في الجسم أو النفس تمنع من ارتكاب المعصية، أو أنّ المعصية هي القدرة على الطاعة التي تستلزم سلب الاختيار. أما العصمة في رؤية الإمامية فهي أمر يوجِده اللّه في المعصوم،يبعث على ترك المعصية، ولا يؤدّي إلى سلب الاختيار.

وأسباب العصمة عند الرازي هي:

أولاً: هناك في النفس أو الجسم خاصّيّة وملكة تمنعان من المعصية

ثانياً: يوجد لدى المعصوم، العلم بشرّ المعصية وقبحها، وبخير الطاعة.

ثالثاً: تصل هذه العلوم عن طريق الوحي والكلام الإلهيّ إلى المعصوم.

رابعاً: إذا صدر عن المعصوم خطأ يكون من باب ترك الأولى أو النسيان، ولا يوكَل إلى نفسه، بل يتعرّض للمعاقبة والتنبيه ويصعب الأمر عليه. فيجعل العوامل الأربعة صدور المعصية عن المعصوم معدوماً ومحالاً(1).

فالعصمة من المعصية عند الفخر الرازي إذن، نتيجة لعمليّة محدّدة تبدأ من الملكة النفسانيّة المتمثّلة في العلم بحقيقة الطاعة والذنوب وإلقاء الوحي الإلهيّ وتنتهي إلى الخوف من المؤاخذة والعقاب الإلهيّين مع إتيان أصغر خطا أو معصية. ورغم أنّ المحقق الطوسي لم يقدّم في أيّ موضع،تعريفاً تركيبيّاً؛ غير أنّه يمكن الحصول على تعريف تركيبيّ من تعاريفه المتنوّعة في باب العصمة.فهو يعرّف العصمة بالملكة النفسانيّة(2)، وإيجاد حيثيّة خاصة (ملكة) في المعصوم(3)، واللطف والتفضّل

ص: 123


1- يقول في هذا الصدد: «منهم من زعم أنّ المعصوم هو المختص في بدنه أو في نفسه بخاصيّة تقتضي امتناع إقدامه على الذنوب، ومنهم من ساعد على كونه مساوياً لغيره في الخواصّ البدنية، لكن فسّر العصمة بالقدرة على الطاعة وهو قول أبي الحسن الأشعريّ، والذين لم يسلبوا الاختيار فسروها بأنّه الأمر الذي يفعله اللّه تعالى بالعبد،وعلم أنه لا يقدم مع ذلك الأمر على المعصية بشرط أن لا ينتهي فعل ذلك الأمر إلى حدّ الإلجاء..»، محصل أفكار المتقدمين، ص 167.
2- نقد المحصّل،ص 369.
3- قواعد العقائد، ص 93.

الموهوبين(1)من اللّه تعالى .(2)كما يؤكّد العلّامة الطباطبائي في تعريفه للعصمة، على عاملين هما الملكة النفسانية والعلم(3).

وملخّص القول: إنّ في تحقّق ملكة العصمة،يؤثّر الاستعداد والقابليّة للقوّة العاقلة لدى المعصوم ( توجّه الفلاسفة)واللطف والعناية الإلهيّان(توجّه المتكلّمين)، يؤثّر على منح هذا المقام.ويجعل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى العصمة في المعصومين عن طريق الملكة النفسانيّة والقوّة العقلائية ؛ فالعصمة - إذن - لها حيثيّة اكتسابيّة، وحيثيّة إعطائية معاً. ويرى كاتب هذه السطور أنّ الأئمّة المعصومين تلقّوا قابليّة الاتصاف بالعصمة المعطاة من قبل اللّه تعالى في عهد عالم الذر؛ فطبقاً للآيات والأحاديث، كان قبل العالم الدنيوي، عالم اسمه عالم الذرّ، ولأرواح البشر فيه الاختيار والتعقل والقدرة على التصرّف. فبلغت بعض الأرواح (أرواح أئمة الدين)هناك درجات باختيارهم، تُمكِّنهم من الاتّصاف بالعصمة. وهذا البيان يساعدنا في إثبات عصمة الأنبياء: قبل البعثة ،والإمامة، بل قبل العالم الدنيوي.

2/3/14. نطاق عصمة الأنبياء:

للعصمة في الكلام الإسلاميّ مراتب. وقد اكتفى بعضهم بثلاث مراتب منها :

أوّلاً: العصمة من ارتكاب الذنوب ومخالفة الأوامر الإلهيّة (الواجبات والمحرّمات).

ثانياً: العصمة من الخطأ والنسيان في تلقّي الوحي، وإبلاغه، وتبليغ الرسالة.

ص: 124


1- تلخيص المحصّل، ص 369.
2- راجع:الباب الحادي عشر، ص 37.
3- يقول في هذا الصدد: «الأفعال الصادرة عن النبي .على وتيرة واحدة صواباً وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبي .وفي نفسه وهي القوّة الرادعة.. وفي النبيّ ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد». الميزان،ج 2، ص 138 و 139. «إنّ الأمر الذي تحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ، وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال».المصدر نفسه، ج 5، ص 78 وكذلك، ج 11، ص 162.

وثالثاً: العصمة من الخطأ والنسيان في تنفيذ الأحكام الإلهيّة، والمطابقة بينها وبين الشريعة، والمصونيّة من الخطأ في القيام بالشؤون الفرديّة والاجتماعيّة(1).

إنّ الاهتمام بالتحليل المفهوميّ والإثبات التصديقيّ للعصمة،يدلّ على المراتب الأخرى لها؛ ومنها:العصمة في تلقي الوحي والإلهام، والعصمة في إبلاغ الوحي والإلهام بشكل صحيح، والعصمة في المعتقدات الدينيّة، والعصمة في العمل وتنفيذ الأحكام الإلهيّة بشكل صحيح، والعصمة في المعرفة الدقيقة لمواضيع الأحكام الشرعيّة، والعصمة في معرفة المصالح والمفاسد الفرديّة والاجتماعيّة، والعصمة في شؤون الحياة الاعتياديّة. سُمّيت العصمة في العقيدة الدينيّة والعمل بالشريعة، بالعصمة من الذنوب والذنوب وذلك باعتبار أنواع الصغائر والكبائر والذنوب العمدية والسهويّة والنسيانية. وتنقسم العصمة من حيث مراتبها قبل مقام النبوّة والإمام وبعده، إلى عدة أقسام(2).

وهنا يمكن استعراض مراتب العصمة في ثلاثة مجالات:

أوّلاً: العصمة في البصيرة (المعرفة والمعتقدات).

ثانياً: العصمة فى الأخلاق (الملكات).

ثالثاً: العصمة في السلوك الفردي والاجتماعي).

وقد قام العلّامة الحلّيّ في شرح التجريد بتبيين الآراء المختلفة للعلماء المسلمين حول نطاق العصمة على النحو الآتي:

فجماعة المعتزلة جوّزوا الصغائر على الأنبياء إمّا على سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم أو على سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم منهم أو لأنها تقع محبطة بكثرة ثوابهم.

ص: 125


1- راجع: الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل، جعفر السبحاني، ج 3، ص 155.
2- إيضاح المراد في شرح كشف المراد،علي ربّاني گلبايگاني،ص 353.

وذهبت الأشعريّة والحشويّة إلى أنّه يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلّا الكفر والكذب وقالت الإماميّة أنّه تجب عصمتهم عن الذنوب كلّها صغيرها وكبيرها والدليل عليه وجوه : أحدها أنّ الغرض من بعثة الأنبياء: إنّما يحصل بالعصمة(1).

يتّضح مما سبق وجود الاختلاف بين علماء المسلمين حول مراتب العصمة وأقسامها؛ فمشهور الإماميّة يرون عصمة أئمة أهل البيت:من جميع الأخطاء والذنوب، سواء كبيرة منها أو صغيرة، عمديّة أو سهويّة، قبل النبوّة والإمامة أو بعدهما، وهذا ما لا يذهب إليه أهل السنة(2).

وتثبت عصمة الأنبياء عند علماء الإمامية ومتكلّميهم في جميع المجالات المذكورة آنفاً (العصمة في المعتقدات،والأفعال والأعمال الفرديّة، ومعرفة مصالح الناس و مفاسدهم، والتبيين والتفسير لأجل تنفيذ الأحكام الإلهيّة بشكل صحيح، سواء العثرات والذنوب العمديّة أو السهويّة، الكبيرة أو الصغيرة، قبل الإمامة أو بعدها)، ولم يقل أيّ من علماء المذاهب الإسلامية الأخرى بمعنى كهذا للعصمة بالنسبة إلى الأنبياء الإلهيّين.

وقد اختلف متكلّمو الأشاعرة والمعتزلة اختلافاً شديداً في المجالات المختلفة لعصمة الأنبياء؛ فحسَب رأي القاضي الإيجيّ ترى غالبيّة الأشاعرة جواز صدور الكبائر عن الأنبياء سهواً(3).ويعزو الفاضل القوشجيّ منْعَ نسبة الكبائر والصغائر الدنيئة إلى الأنبياء بعد البعثة إلى محقّقي الأشاعرة؛ وإن أجاز إمام الحرمين الجوينيّ،على غرار أبيهاشم المعتزليّ نسبةَ الصغائر العمديّة إلى الأنبياء(4).

ص: 126


1- کشف المراد، ص 349.
2- راجع:السيّد المرتضى،تنزيه الأنبياء، ص 34 و 35؛ الذخيرة، ص 337 و 338؛ أوائل المقالات، ص 18 .
3- المواقف، ج 5؛ وشرح المقاصد، ج 5، ص 50.
4- شرح التجريد، ص 359؛ وكذلك شرح المقاصد، ج 5، ص 51.

ويرى التفتازانيّ أنّ الأشاعرة والمعتزلة قاطبةً قد أجازوا ارتكاب جميع الصغائر على الأنبياء سهواً، سوى ما يوجب انتقاص شأنهم.(1)ولكن، خطّأ صاحب النبراس هذه الدعوى، ونسَب ذلك إلى أكثر الأشاعرة والمعتزلة؛ وليس إلى كلّهم(2).

ويذهب الفخر الرازي إلى أنّ جميع ما في أقوال العلماء المسلمين من اختلاف في مسألة العصمة، يتلخّص في أربعة أقسام عامّة : وفي البداية، يقدّم عصمة الأنبياء في هذه المجالات:

أوّلاً: العصمة في المعتقدات.

وثانياً: العصمة في التبليغ.

وثالثاً: العصمة في الأحكام.

ورابعاً: العصمة في الأفعال والأعمال.

أمّا بخصوص القسم الأوّل، فينبغي للأنبياء أن يتنزّهوا من الكفر والضلال،ويرى الفخر الرازي ضرورة ذلك عند أكثر العلماء؛ بخلاف طائفة من الخوارج تُدعى الفضيليّة، فقد آمنوا بإمكان صدور المعصية عن الأنبياء ، وفسّروا ارتكاب المعصية بنوع من الكفر والشرك، فقبلوا بوقوع الكفر من الأنبياء.(3)وقد ردّ الرازي قولهم بأنّ الإمام هو من يؤتمّ به،فأوجب على كلّ الناس أن يأتمّوا به، فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب!وذلك يفضي إلى التناقض. وقد نسب الرازي مخطئاً، تجويز إظهار الكفر من الأنبياء بناءً على التقية إلى علماء الإمامية(4).

ص: 127


1- شرح العقائد النسفية، ص 102.
2- راجع:النبراس، ص 452 و 453 ،نقلًا عن إيضاح المراد، ص 356.
3- مفاتيح الغيب،فخرالدين الرازي، ج 1، ص 455 ؛وكتاب الأربعين،ص 329؛ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، ص 167 و 168.
4- مفاتيح الغيب،ج 1 ،ص 455 ؛وكذلك كتاب الأربعين، ص 329.

أما بخصوص القسم الثاني من العصمة والذي يرتبط بتبليغ الوحي وتشريعه، فيُجمع - حسب رأيه - كلّ علماء الأمة على العصمة من الكذب والتحريف؛ لأنه في غير هذه الحالة، لا يعود يمكن الوثوق بأفعالهم وأقوالهم والاعتماد عليها. وكذلك يتفق العلماء على أنّ الخطأ والكذب لا يصدران عمداً عن الأنبياء؛ كما أنه لا يجوز وقوع الخطأ السهويّ منهم غير أن جماعة أخرى أجازت الخطأ والكذب سهواً ودلّلت على ذلك بأنّ الاحتراز عنهما غير ممكن إطلاقاً ولا طاقة للإنسان بذلك.

وأما بخصوص القسم الثالث الذي يتعلّق بالعصمة في مجال الإفتاء وتبيين الأحكام وتشريعها، فقد اتفق العلماء على أنّه لا يُقبل الخطأ العمدي منهم؛ لكن بعضهم يجيز الخطأ السهويّ(1).

وأما القسم الرابع من العصمة والمرتبط بأفعالهم، ففيه اختلاف بين العلماء المسلمين، وسيقت بشأنه خمسة أقوال(2).

وبناء على رؤية الفخر الرازي،تختصّ عصمة الأنبياء من الذنب والمعصية، كبيرة كانت أو صغيرة،بزمن النبوّة فقط، ولا يقولون بلزومها قبل مقام الرسالة والنبوّة،وبالإضافة إلى ذلك، لا يجيز هؤلاء الذنوب العمدية للأنبياء فحسب، بل الذنوب التي تصدر عنهم سهواً(3).

بناءً على ما تقدّم، يعتمد رأي الأشاعرة والمعتزلة في عدم اشتراط العصمة في الإمام على أنّ ملكة العصمة تخصّ من يتبوّأ مقام الحجّة من جانب اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهم من يأخذ الناس عنهم المسائل الدينيّة؛ كالأنبياء، وهذا - حسب زعمهم - لا ينطبق على الإمام؛ لأنّ الناس لا يتلقّون معارف دينهم من الإمام(4).

ص: 128


1- المصدر نفسه، ص 455 ؛وكتاب الأربعين، ص 329.
2- مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، ج 1، ص 455؛ وكذلك البراهين في علم الکلام، ج 2، ص 45-47.
3- راجع:شرح الأصول الخمسة،عبد الجبّار المعتزلي،ص 510 و 511 ؛راجع: مقدّمة ابن خلدون، ص 193؛ ،والمواقف، ج 3، ص 585 و 586؛ والماورديّ، الأحكام السلطانية، ص 6.
4- المغني،عبد الجبّار المعتزلي، ج 20، ص 75.

ويرى المتكلّمون الشيعة أنّ المعصوم هو الذي لا تصدر عنه - من أوّل حياته إلى آخرها - أيّ معصية؛ كبيرة كانت أو صغيرة، على سبيل العمد أو السهو . أمّا أهل السنّة فيرون أنّ المعصية أو الخطأ السهويّ لا ينافي العصمة؛ كما أنّ مِن علماء أهل السنّة مَن يقول : الصغائر لا تضرّ العصمة. وقد ذهب بعض علماء العامّة إلى أنّ العصمة تشترط أن يكون الأنبياء معصومين في زمن بعثتهم ودعوتهم، وليس قبلهما. وحصر آخرون العصمة في زمن تبيين الوحي وإبلاغه إلى الناس؛ أي أن يكون صادقاً في مقام دعوة الناس إلى الرسالة، ولا يكذب عمداً أو سهواً أو عن نسيان،ولكن لا يلزم أن يكون معصوماً في غير ذلك من الحالات، بل يجوز صدور الخطأ والمعصية عنه(1).

يقول الشيخ الصدوق:

اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة (صلوات اللّه عليهم) أنهم معصومون مطهّرون من كلّ دنس ،وأنهم لا يذنبون ذنباً، لا صغيراً ولا كبيراً، ولا يعصون اللّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم(2).

هذا، ويشمل نطاق عصمة الأنبياء،السهو والنسيان أيضاً.

وما رُوي من أنّ النبي .سها في صلاته، ثمّ أدّى سجدتي السهو، غير تامّ للأسباب الآتية:

ص: 129


1- قواعد العقائد،ص 94-97 ،يقول الشيخ المفيد في«أوائل المقالات» ص18: «إنّ جميع الأنبياء (صلوات اللّه عليهم)معصومون من الكبائر قبل النبوّة وبعدها وممّا يستخفّ من الصغائر كلّها وأما ما كان من الصغيرة لا يستخفّ فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة وعلى غير تعمّد وممتنع منهم بعدها على كل حال،وهذا مذهب جمهور الإمامية،والمعتزلة بأسرها تخالف فيه.» يقول السيّد المرتضى في كتابه «تنزيه الأنبياء» ص 34، وفي كتابه «الناصريات» ص 255، وفي «الشافي في الإمامة» في ج1، ص97: «قالت الشيعة الإمامية: لا يجوز عليهم شيء من الذنوب والذنوب كبيراً كان أو صغيراً، لا قبل النبوّة ولا بعدها ويقولون في الأئمة مثل ذلك».
2- الاعتقادات،الصدوق، ص 128.

أوّلاً: أنّ في هذا الحديث ضعف من ناحية السند، وفيه اضطراب من ناحية المتن.

وثانياً : أنّه يتناقض مع ظاهر الكتاب والأحاديث العديدة التي تدلّ على مصونية النبي من السهو والنسيان.

وثالثاً: أنه يتنافى مع الأدلّة العقليّة المبنية على عصمة الأنبياء(1).

وقد ناقش في الاستدلال بهذا الحديث علماء كبار من أمثال:الشيخ المفيد، والشيخ الطوسيّ، والمحقّق الحلّيّ، والخواجة الطوسيّ، والعلّامة الحلّيّ، والشهيد الأوّل، والفاضل المقداد.

3/3/14. أدلّة عصمة الأنبياء:

إنّ الأدلّة التي سيقت لضرورة بعثة الأنبياء تشير أيضاً إلى عصمتهم. وقد استفاد المحقّق اللاهيجيّ في تبيانه لأدلّة العصمة من طريقة الحكماء والمتكلّمين فقال:

اعلم أنّ ثبوت هذا الأمر في طريقة الحكماء، في كمال الظهور؛ لأنّه وبناء على الخاصّيّة الثالثة، تكون جميع القوى النفسانيّة مطيعة ومنقادة للعقل،والعقل من حيث هو عقل يمتنع فيه إرادة المعصية وصدور الفعل القبيح منه. المراد بالعصمة هو الغريزة التي لا يمكن معها صدور الداعي إلى المعصية مع القدرة عليها؛ وهذه الغريزة عبارة عن قوّة العقل، بحيث توجب قهر القوى النفسانيّة. أمّا بطريقة المتكلّمين، فإنّ الدليل على هذا الأمر هو أنه لا شكّ في أنّ عصمة الأنبياء لطف نظراً إلى المكلّفين؛ لأنه إذا كانت عصمة النبيّ ،واجبة، يحصل الوثوق التامّ بأفعاله وأقواله ويقترب المكلّف -بسبب هذا المعنى - من الانقياد له ويبعد عن مخالفته، وإنّ اللطف واجب على اللّه تعالى، فتجب عصمة الأنبياء. وإذا ثبتت العصمة، وجب اعتبارها بالنسبة إلى جميع الصغائر

ص: 130


1- الإلهيّات على هدي الكتاب والسنّة والعقل، جعفر السبحاني، ج 2، ص 188-196 ؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي،ج 9،ص 48؛الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 3، ص 241، ص 287، و292، و289.

والكبائر بعد البعثة؛ وقبل البعثة، إذ يكون اللطف لا محالة أتمّ في هذه الحالة، بل تتحقّق حقيقة اللطف بأن لا يتحقّق موجب الكراهة في أيّ حال وفي أيّ وقت(1).

وبعد أن ذكرنا عبارة المحقّق اللاهيجيّ في ضرورة العصمة من منظور الحكماء والمتكلّمين، نتطرّق إلى تبيين أهمّ الأدلّة القائمة على عصمة الأنبياء:

أحد الأدلّة على عصمة الأنبياء هو دليل الحكمة واللطف الإلهيّين؛ فإذا أثبت الحكمة واللطف من اللّه تعالى،ضرورةَ بعثة الأنبياء وكان رمز هذه الضرورة يتمثّل في لزوم هداية البشر؛ حينئذ يجب أن يكون الأنبياء الإلهيّون معصومين من الخطأ والمعصية في تلقّي الوحي وإبلاغه والعمل به حتّى يأخذوا المعارف والأوامر الإلهيّة بشكل صحيح، وينقلونها للناس بشكل سليم؛ ليتوفّر طريق الهداية أمام البشر.

والدليل الآخر على ضرورة عصمة الأنبياء هو أنّ على الناس ومن أجل الهداية عن طريق المعارف والأوامر التي يصدرها الأنبياء الإلهيون، أن يثقوا بكلامهم، وإنّ ثقة الناس تتفرع من عصمة الأنبياء؛ فإذا كان الأنبياء معصومين، وثق الناس بهم وعملوا بأقوالهم، وتحققت أسباب هدايتهم، والغرض من البعثة.

يقول المحقّق الطوسيّ في استعراضه لهذا الاستدلال:

ويجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض(2).

إن قلت:تكفي المصونيّة من الكذب لوثوق الناس بالأنبياء، ولا يضر بالنبوّة ارتكاب سائر الذنوب، قلنا:

أوّلاً: رؤية كلّ نوع من الذنب من الأنبياء، تسلب الثقة بهم، ولا فرق في ذلك بين الكذب وغيره. فكلّ خطا يصدر عن النبيّ، يؤدّي بالناس إلى التشكيك بهم، فلا ينالون الهداية بعد ذلك.

ص: 131


1- جوهر المراد :(بالفارسية گوهر مراد)،الفياض اللاهيجيّ، ص 379.
2- كشف المراد،المقصد الرابع.

وثانياً: ارتكاب الذنب من كلّ إنسان وليد ضعفه الوجوديّ؛ فإذا كان الأنبياء يتمتّعون بمقامات سامية ودرجات عالية وهبها اللّه لهم، فمن المستحيل إذن صدور الذنوب منهم مع وجود الاختيار والإرادة. ولا ينسجم انتساب الذنوب إلى النبيّ ونفي الكذب عنه مع النبوّة.

والدليل الآخر على عصمة الأنبياء هو أنّ مسؤوليّة الأنبياء ليست تلقّي الوحي الإلهيّ وإبلاغه للناس فحسب، بل إنّهم يتولّون أيضاً مهمّة تربية الناس وتزكيتهم. يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسان النبيّ إبراهيم :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )(1).

(لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ )(2).

كما يأخذ اللّه سبحانه،المؤمنين بالأقوال غير المشفوعة بالأعمال ويقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )(3).

ولو لم يتمتّع الأنبياء الإلهيّون بالعصمة في العمل، وتورّطوا في أوحال الذنوب والمعاصي، فلا شكّ في أنّ تربية الناس وتزكيتهم لا تتحقّقان، ولا تتمّ بذلك مهمّتهم(4). فلا يمكن - إذن - تربية البشر وتزكيتهم حتّى البلوغ بهم إلى الكمال الحقيقيّ من دون معلّمين صالحين ومحصنين من دنس المعاصي والأخطاء(5).

يقول القاضي عبد الجبّار :

ص: 132


1- سورة البقرة: 129.
2- سورة العمران: 164 .
3- سورة الصفّ: 2 و 3 .
4- المغني القاضي عبد الجبار ، ج 15، ص 303.
5- الفقرتان «أ» و «ب» وردتا في دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص 67؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج5، ص32.

إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممّن يخالف فعله قوله سكونها إلى من كان منزّهاً عن ذلك، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء: إلّا ما نقوله من أنهم منزّهون عما يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.

يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخويف، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك، لأنّ المعلوم أنّ المقدم على شيء، لا يقبل منه الغير بالنهي والزجر والنكير، وأنّ هذه الأحوال منه لا تؤثر .. ولو أنّ واعظاً انتصب يخوّف من المعاصي من يشاهده مقدماً على مثلها، لاستخف به و بوعظه(1).

والدليل الآخر على ضرورة عصمة الأنبياء هو وجوب طاعة الأنبياء الإلهيين واتباعهم؛ فإن لم يكن الأنبياء معصومين، وارتكبوا الخطأ والمعصية، فالناس أمام احتمالين :

إمّا عليهم أن يطيعوهم؛ فيكونون بذلك مخطئين وعاصين، ولا تتحقق الهداية، أو ألّا يتبعوا أخطاء الأنبياء؛ فينتقض حينئذ الغرض من البعثة؛ لأنّ الحق تعالى بعث الأنبياء حتى يقتدي بهم الناس، وينالوا بذلك الهداية. فلا تتحقق هداية البشر في كلا الفرضين وتعود الهداية على غرضها بالنقض بابتعاث أنبياء غير معصومين(2). فيستلزم ابتعاث أنبياء عاصين (غير معصومين)، عدم قبول شهاداتهم !

ومن ثَمَّ: تعود الرسالة على غرضها بالنقض. وكذلك، فإنّ الأنبياء العاصين يستحقون العذاب واللعن الإلهيّين؛ في حين أنّ الأنبياء الإلهيين جديرون بالمدح والثناء، ووفقاً للآية الكريمة :(لَا يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ)(3)، لا تشمل الإمامة والرسالة الأنبياء المذنبين(4).

ص: 133


1- المغني، القاضي عبد الجبار ، ج 15، ص 303 الإلهيات على هدي الكتاب والسنّة والعقل، جعفر السبحاني، ج 2، ص 157.
2- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج 3، ص 231.
3- سورة البقرة : 124.
4- الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 3، ص 231 و 232؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 10، ص152.

من الضروريّ هنا الالتفات إلى نقاط مهمّة حول عصمة الأنبياء الإلهيّين:

أوّلاً: يتّضح من تبيين حقيقة العصمة في البحث السابق أنّ الأدلّة على إثبات عصمة الأنبياء لا تشمل عصمتهم في أثناء البعثة وبعدها فقط، بل تتجاوز ذلك إلى قبل البعثة أيضاً؛ لأنّ اللطف والحكمة كذلك يجريان في عهد ما قبل البعثة .

ثانياً: عصمة المعصومين مقام نفسي يصاحب اختيار الإنسان، ولا يفضي إلى نفي إرادة الإنسان في ترك المعصية؛ مثل: الطبيب الذي لا يُدخن لعلمه وباختياره؛ فإنّ الإنسان المعصوم هو الآخر لا يقدم على الذنب مستعيناً بتقواه واختياره(1).

والعصمة ملكة ومنزلة يمنحهما اللّه سبحانه للأشخاص اللائقين. وتوجد ملكة العصمة في الإنسان مجالاً يتمكّن به الإنسان من القيام بالواجبات الإلهية واجتناب المحرّمات إرادياً واختيارياً؛ كما أن الإنسان السليم يحترز بإرادته من شرب السائل السام(2).

فالآية ﴿ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(3)تدلّ على أنّ الشرك من قبل الأنبياء أمر ممكن ؛ غير أن أصفياء اللّه لاهتدائهم بالهدي الإلهي، يتجنبون هذا الذنب الكبير.

وكذلك يُستفاد من الآية﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾(4)تحقّق اختيار نبيّ الإسلام في إمكان عدم إبلاغ الرسالة الإلهيّة للناس؛ وإن لم يقصّر النبي الأعظم بإرادته إطلاقاً في إنجاز المهمّة الإلهيّة(5).

ص: 134


1- أمالي السيّد المرتضى، ج 2، ص 347 ؛والميزان، ج 11، ص 179.
2- الميزان،ج 11 ،ص 163 ؛دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ص 152؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، جعفر السبحاني، ص 36 ؛مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحانيّ، ج 5 ص 28؛ الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة ،والعقل جعفر السبحاني، ج 2، ص 162.
3- سورة الأنعام: 88.
4- سورة المائدة: 67.
5- الميزان،ج 11 ،ص 163 ؛مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج 5، ص 29؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،جعفر السبحاني، ص39.

فالعصمة ملكة علميّة في نفس الإنسان المعصوم وتنشأ منها أعماله الصالحة ولا تتنافى مع اختيار الإنسان المعصوم وإرادته؛ مثل الإنسان الذي يوفقه الله تعالى للقيام بعمل صالح.(1)نستنتج مما سبق أن العصمة لا تتعارض مع القدرة على الذنب والعصيان أيضاً؛ فإنّ الإنسان المعصوم يليق بالمدح والمكافأة على عمله الصالح.(2)كما لا ينافي مقام العصمة ومنزلتها التكليف المولوي والإرشادي. فالشارع المقدّس ليس له أن يأمر وينهى الإنسان المعصوم ويجبره على إتيان التكاليف الشرعية وينهاه عن المنكرات فحسب، بل إنّ الإنسان المعصوم أحوج ما يكون إلى التكاليف الشرعية لمسيرته التكاملية .(3)

ثالثاً: تدلّ بعض الآيات القرآنية على عصمة الأنبياء؛ منها على سبيل المثال:

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهُ )(4).

(وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلَّ )(5).

فلا يضلّ الأنبياء الإلهيّون الذين ينعمون بالهداية الإلهية ولا تدبّ إلى ساحتهم المعصية. وتشير آيات الإطاعة للنبي الأعظم والأنبياء الإلهيّين - من دون قيد أو شرط-إلى عصمتهم؛ منها قوله تعالى:

ص: 135


1- الميزان، ج 2، ص 138.
2- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي،ج 3 ،ص 238؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 9، ص 22؛ عصمة الأنبياء، جعفر السبحاني، ص 38؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية : آموزش عقايد)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص 165؛معارف القرآن، مباحث السبيل والدليل (بالفارسية:معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5 ، ص 161؛شرح وتفسير مثنوي،محمّدتقي جعفري، ج2، ص 599؛الوحي والنبوّة (بالفارسية:وحي ونبوت)،مرتضى المطهري، ص 145؛ ميثاق معتقدات الإمامية (بالفارسية: منشور عقاید امامیه)جعفر السبحاني، ص 116.
3- تفسير تسنيم،الجوادي الآملي، ج 3، ص 291 ؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 9، ص 25 ؛الميزان،الطباطبائي، ج 17، ص 290.
4- سورة الأنعام: 90.
5- سورة الزمر: 36.

(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )(1).

(منْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه)(2).

(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )(3).

كما تدلّ الآيات المتعلقة بالإخلاص ومقام المخلصين للأنبياء على عصمتهم؛ حيث يقول تعالى :

﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾(4).

(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلَّ مَنْ الْأَخْيَارِ)(5).

فالأنبياء جميعاً متصفون بالعصمة الإلهية؛ بوصفهم عباداً مخصلين(6).

يقول الحق تعالى في آية أخرى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ﴾(7)؛(صَرِاطَ الذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )(8).

ص: 136


1- سورة العمران: 31.
2- سورة النساء: 80.
3- سورة النور: 52.
4- سورة ص : 82.
5- سورة ص: 45-48.
6- راجع: مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 41-48؛ والميزان، ج 2، ص 134؛عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، جعفر السبحاني،ص 59؛ الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل، جعفر السبحاني،ج 2 ،ص 167؛ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 7، ص 117 ؛ميثاق معتقدات الإمامية (بالفارسية: منشور عقاید اماميه)، جعفر السبحاني،ص 168 ؛معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل(بالفارسية:معارف قرآن،راه وراهنما شناسي)،محمّد تقي مصباح، ج 4 و5، ص 158؛ دروس في العقيدة الإسلامية(بالفارسية:آموزش عقاید)، محمّد تقي مصباح، ج2، ص 68.
7- سورة النساء: 69.
8- سورة الحمد:7.

إنّ ما نستنتج من هاتين الآيتين هو عصمة الأنبياء؛ لأنّ الأنبياء تشملهم النعم الإلهية، ومن شملته النعم الإلهية، فليس مغضوباً ولا ضالًا، فالأنبياء إذن، ليسوا من المغضوبين والضالين؛ أي إنّهم معصومون.

يقول اللّه سبحانه في آيات أخرى مشيراً إلى تبيان العصمة في التبليغ :

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(1).

ومن الآيات التي تصرّح بعصمة النبي الأعظم .قوله تعالى :

(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً)(2).

(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(3).

رابعاً: ثمة أحاديث كثيرة في مصادر السنّة والشيعة تدلّ على عصمة الأنبياء؛(4)منها : قال الإمام الباقر :«إنّ الأنبياء لا يذنبون لأنهم معصومون، مطهرون، لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً.»(5)ويصف أمير المؤمنين علّي بن أبي طالب:في نهج البلاغة عصمة النبي الأعظم .بالقول: «لقد قَرَنَ الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق

ص: 137


1- سورة البقرة: 213.
2- سورة النساء: 105.
3- سورة النجم:3 و 4 .
4- الوحي والنبوة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج3، ص239.
5- المصدر السابق، ص 227 و 228.

العالم ليله ونهاره.»(1)وقد برهن الإمام الرضا .في مجلس المأمون العبّاسّي على عصمة الأنبياء لأحد المعارضين.(2)

خامساً:أجاز بعض من أنكر العصمة،الخطأ على الأنبياء مستفيدين من الآيات القرآنية؛ فعلى سبيل المثال، الآية: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذَّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾(3)ويُردّ على هؤلاء بأنّ الآية نزلت في مقام تربية الأمة ومعرفتها بوظائفها وواجباتها.

4/14. ثالثاً: العلم والحكمة:

من الضروريّ بالنسبة إلى الأنبياء الإلهيين الاطلاع على التشريع، وأحكامه، ومعاييره، وكذلك الوقوف على بعض الأمور التكوينية لهداية الناس وقيادتهم. ولهذا، استعرض القرآن الكريم صفتي العلم والحكمة بوصفها خصيصتين للأنبياء.

وفي هذا الخصوص ورد قوله تعالى:

﴿ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء)(4).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً )(5).

(وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾(6).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)(7).

ص: 138


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 9.
2- المصدر السابق، ص 10.
3- سورة الأنعام: 68.
4- سورة البقرة:251.
5- سورة يوسف : 22.
6- سورة الأنبياء: 74.
7- سورة القصص: 14.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(1).

(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلَّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ )(2).

(وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾(3).

1/4/14. نطاق العلم النبوي:

لا شكّ في أنّ الضرورة تقتضي أن يكون الأنبياء على علم تام بجميع الأهداف الإلهية النهائية والمتوسطة والابتدائية وطريق الوصول إلى هذه الأهداف، وكذلك كيفية السلوك في هذا الطريق. ولهذا السبب، لا بدّ للأنبياء من أن يطلعوا على أصول الشريعة وفروعها، والأحكام، والأخلاق، والمعارف الدينية، وكذلك أسباب السعادة والشقاء، ووسائل نجاة البشر وهدايتهم ؛ ومنها : إدارة المجتمع، وإقامة الحكومة، والإمامة، والقيادة، وغير ذلك. وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض متعلقات علم الأنبياء؛ كما في الآيات الآتية:

1/1/4/14 .العلم بجميع الكتب السماوية والحكمة:

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾(4)؛

(وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عظيماً)(5).

ص: 139


1- سورة النمل: 15 .
2- سورة النمل: 16.
3- سورة النساء: 113 .
4- سورة المائدة: 110.
5- سورة النساء: 113.

2/1/4/14. العلم بالأسماء الإلهية والأمور التكوينية:

(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِتْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾(1).

3/1/4/14. اطّلاع الأنبياء على العلوم الأخرى:

يقول اللّه تعالى عن النبي داوود :(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾(2).

ويقول في آية أخرى:

(وَأَلَنَا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدَّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً )(3)؛

وقد ورد بشأن النبي سليمان :

(وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلَّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلَّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾(4).

ويسند اللّه تعالى في آية أخرى العلم بتأويل الأحاديث، إلى يوسف فيقول:

(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ )(5).

(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلتَعَلَّمَهُ مِن تأويل الأحاديث)(6).

ص: 140


1- سورة البقرة: 31-33.
2- سورة الأنبياء: 80.
3- سورة سبأ: 10 و 11.
4- سورة النمل: 16.
5- سورة يوسف 6.
6- سورة يوسف : 21.

2/4/14. الأنبياء وعلم الغيب:

يقابل علمَ الغيب العلم الشهوديّ، وهو علم يخفى على حواسّ الإنسان، ولا يمكن رؤيته والإحساس به. وقد جرى بين المتكلّمين المسلمين سجال حادّ يتمحور حول السؤال الآتي : هل يختصّ علم الغيب باللّه تعالى،أم يمكن أن يمتلكه غيره؟

الآيات القرآنية في هذا المجال على طائفتين :

الأولى: آيات خصّت اللّه سبحانه بعلم الغيب دون غيره؛ مثل قوله تعالى:

(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)(1).

(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ )(2).

(قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللّه)(3).

والثانية: آيات أثبتت للأنبياء العلم بالغيب، ومن ثَمَّ فقد خصّصت ذلك الحكم العامّ الوارد في الطائفة الأولى؛ كما في قوله تعالى:

(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾(4).

(وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء..)(5).

و محصّل هاتين الطائفتين من الآيات أن يقال: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يستقل في

ص: 141


1- سورة الأنعام: 59.
2- سورة يونس: 20.
3- سورة النمل: 65.
4- سورة الجنّ: 26-28.
5- سورة العمران: 179.

امتلاك العلم بالغيب بذاته، وليس علمه بالغيب مقيّداً أو مشروطاً؛ لكن هذا لا يمنع من أن يُتاح لغيره (من الأنبياء والأئمة والملائكة)الاطلّاع على أسرار الغيب عن طريق التعليم الإلهي.

3/4/14. مصادر علم الأنبياء:

يذكر القرآن الكريم طرقاً وقنوات متعدّدة لاكتساب العلوم عند الأنبياء؛ وهي:

أوّلاً :الوحي:وهو أحد أهمّ الطرق المؤدّية إلى المعرفة بالنسبة إلى الأنبياء:

(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبيَّ مُّبِين)(1).

فإنّ حقيقة الوحي إلهيّة، ولا دور للنبوّة في تغييره ، ومنزل الوحي الإلهيّ هو قلب النبي.فكما يقول القرآن:

﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدَّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً من قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(2).

ثانياً: السير والسلوك عند الأنبياء وصعودهم إلى العوالم الأخرى: يرتقي الأنبياء الإلهيّون بالسير والسلوك إلى المراتب السامية، والعوالم العليا، ويتلقون بعض الحقائق.

يقول تعالى :

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)(3).

ص: 142


1- سورة الشعراء: 192-195.
2- سورة يونس: 15 و 16.
3- سورة الإسراء: 1.

ثالثاً:روح القدس:وهو أحد المصادر والطرق التي يكتسب بها الأنبياء المعرفة.

قال تعالى:﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(1).

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)(2).

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ)(3).

وقد قدّم المفسّرون تفسيرين لروح القدس؛ فعبّر بعضهم عنه بجبرئيل (ملك الوحي الإلهيّ)، وذهب بعض آخر إلى أنّه مرتبة من مراتب روح الأنبياء، والقوّة النبويّة الخاصّة.

5/14. رابعاً: حسن خلق الأنبياء:

من خصائص الأنبياء الإلهيّين حسن خلقهم؛ فقد اتصفت شخصيّات الأنبياء باللطف والعطف ورحابة الصدر؛ فتنزّهت دعوتهم إلى الهداية عن العنف والفظاظة، فسعوا إلى أن يتعانق الإيمان والقلب تحت مظلة الإرادة والاختيار؛ فلم يوظفوا في تحقيق أهدافهم أي ضرب من ضروب العنف؛ ظاهرياً كان أو باطنيّاً وقلبياً.

وبطبيعة الحال، فإنّهم لم يدّخروا جهداً في التصدّي للعدو، واستخدام العنف معه إذاما دخلوا في حرب أو صراع مع الأعداء، لكنهم لم يخرجوا يوماً عن إطار الشريعة والأوامر الإلهية.

ونجد في القرآن الكريم إشارات لطيفة يصوّر فيها اللّه سبحانه وتعالى الرحمة واللين التي كان يتصف بهما الرسول؛حيث يقول:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )(4).

ص: 143


1- سورة البقرة: 87.
2- سورة النحل: 102.
3- سورة الشعراء: 193.
4- سورة العمران: 159.

ويجمع المؤرّخون - مسلمين وغير مسلمين - على أنّ هذه المزية كان لها دور أساسي في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام؛ فمع أنّ نبي الإسلام كان يتعرّض للأذى والظلم والإهانة واللوم من قبل المشركين أكثر مما تعرّض له سائر الأنبياء،؛ غير أنه لم يبادر إطلاقاً إلى لعنهم، بل قابلهم بالاستغفار وطلب الرحمة لهم على الدوام.

وفيما يخصّ الخلق النبويّ الرفيع أشارت آيات القرآن الكريم قائلة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(1).

(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمُ)(2).

6/14.خامساً: القول الصادق:

اتسم الأنبياء الإلهيون بالصدق؛ فتتطابق أقوالهم مع الحقيقة، وأثبتت الوقائع التزامهم بوعودهم. وكانت هذه الصفة تؤثر كثيراً على مهامهم المتجلّية في الهداية، وجلب السعادة للناس.

من هنا،تجد القرآن الكريم يصف النبي إبراهيم .بالصدّيق؛فيقول:﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾(3).

ويشيد بالنبي إسماعيل .مشيراً إلى سمة صدق الوعد قائلاً:

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيَا)(4).

ص: 144


1- سورة القلم: 4.
2- سورة التوبة : 128.
3- سورة مريم: 41.
4- سورة مريم: 54.

7/14. سادساً: الاستعداد للابتلاء الإلهي:

يُبتلى الأولياء الإلهيون بمحن ومصائب من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى من أجل مسيرتهم التكاملية التي تمثل دوراً مهماً في هداية الناس. ولا ينبغي أن نظنّ أن الابتلاء الإلهي يختص بمجموعة من الأناس الاعتياديين، ولا ينطبق على الأنبياء والأولياء الإلهيين؛ فإنّ العالم دار الاختبار والابتلاء الإلهيين. وجميع الناس، ليلاً ونهاراً، وفي حركاتهم وسكناتهم كافّةً، وفي المنام واليقظة، وفي السفر والحضر، وفي الفقر والغنى، وفي الصحة ،والمرض، وأمثالها معرَّضون للابتلاء الإلهيّ.

وفي هذا الصدد، يحدّثنا اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن المحن والاختبارات المضنية التي مرّ بها النبي إبراهيم .قائلاً:﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾(1).

8/14.سابعاً: الأمانة:

اتصف الأنبياء بالأمانة في جميع شؤونهم الشخصيّة والاجتماعيّة، والإلهيّة والجماعيّة، والماديّة والمعنويّة؛ فكانوا يحفظون الأسرار والآيات الإلهية، وينقلونها كاملةً للناس. وقد اشتهر رسول الإسلام .بسبب التزامه بالأمانة، بلقب «محمد الأمين».

وقد أسند اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى هذه الصفة إلى النبي نوح .في سورة الشعراء في الآية 107 ، وإلى النبيّ هود .في الآية 125 من السورة نفسها، وإلى النبي صالح .في الآية 143 من السورة ذاتها، وإلى النبيّ لوط .في الآية 162 من السورة نفسها، وإلى النبيّ شعيب .في الآية 178 من هذه السورة أيضاً، وإلى النبيّ موسى .في سورة الدخان في الآية 18 ؛ وكما يعبّر عنه القرآن،كان الأنبياء الإلهيّون جميعاً يخاطبون أقوامهم بقولهم:(إنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ).

ص: 145


1- سورة البقرة: 124.

9/14. ثامناً: البر:

درج الأنبياء في تعاملهم مع الناس على الإحسان للصديق والعدوّ، فجسّدوا بذلك أسمى مظاهر العفو والسماحة والصبر على أذى الأعداء. يقول اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:

(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(1).

10/14. تاسعاً: توحيد الخشية من اللّه:

أهمّ دوافع الأنبياء تحقيق الأهداف الإلهيّة. ولهذا، لم يكونوا يهابون أو يخافون شيئاً سوى اللّه، فوطنوا أنفسهم على حصر الخوف والخشية في نقطة واحدة؛ لا تتعادّاها؛ ألا وهي ربّ العالمين. وكما جاء في القرآن الكريم:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا)(2).

11/14.عاشراً: الإخلاص للّه:

الإخلاص أعلى مراتب التوحيد،وهو يعني تصفية النفس من دنس الشرك والهوى، وطرد كلّ دافع غير الهيّ؛ بمعنى أن تفرَّغ ساحة القلب من كلّ شيء سوى اللّه؛حتّى لا يتّسع لأحد غيره.لقد وصف اللّه سبحانه وتعالى أنبياءه بهذه الصفة في مواطن عديدة؛ إذ قال على سبيل المثال:

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخلَصاً وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيّاً)(3).

ص: 146


1- سورة الأنعام: 84.
2- سورة الأحزاب: 39.
3- سورة مريم:51.

ويستفاد من الآيات القرآنية التي نقلت حواريات الشيطان أنّ القلب إذا تسرّبت إليه الشوائب - ولو بمقدار ذرّة - فقد تهيأ ليكون منفذاً ومرتعاً للشيطان، وإغواءاته؛ باستثناء عباد اللّه الذين أخلصوا اللّه، فلا سبيل للشيطان عليهم:﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(1).

وقد نقل القرآن الكريم لنا خطاب النبي الأعظم .حيث يقول: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(2).

12/14.حادي عشر: التوكل على اللّه:

لم يركن الأنبياء الإلهيّون الذين كذّبوا وأُحبطت مساعيهم بسبب عصبية المشركين و عنادهم إلى زاوية الضعف والانكسار أو إلى التراجع والانحسار، بل كان ديدنهم التوكّل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وطلب العون منه .

قال تعالى:(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)(3).

13/14. ثاني عشر: النصيحة والشفقة:

اعتاد الأنبياء في مسيرتهم من أجل هداية الناس على توظيف النصح والشفقة، فحملوا هموم الناس وتعاملوا معهم بلسان الحبّ والانفتاح؛ لا بلسان الإجبار والإكراه.

يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحُ أَمِينُ)(4).

ص: 147


1- سورة الحجر: 40.
2- سورة الشعراء: 109 .
3- سورة هود:56.
4- سورة الأعراف: 68.

14/14.ثالث عشر: القدرة والبصيرة:

تتطلّب مسيرة الأنبياء الإلهيّين الذين عقدوا هممهم لهداية الناس، ومواجهة المعاندين والمشركين أن يتحلّوا بدرجة عالية من القدرة والبصيرة. ولهذا، تجد القرآن الكريم يصف إبراهيم وابنه وحفيده (إسحاق ويعقوب)بأنهم أصحاب قدرة وبصيرة؛ حيث يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)(1).

15/14. رابع عشر: الصبر والتجلّد:

ما من شكّ في أنّ مسيرة الهداية مسيرة طويلة محفوفة بالمشاق والصعاب. وليس للإنسان الهادي أن يدبر أمر هذه المسيرة من دون أن يتخلّق بالصبر والحلم والتجلّد.

من هنا تحلّى الأنبياء الإلهيون التوّاقون لتحقيق الهداية والسعادة للناس بالصبر، فأبلغوا رسالات اللّه وأوصلوا صوت الحق للناس تحت وطأة مصائب ومصاعب جمة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الصفة عند حديثه عن إسماعيل وإدريس.حيث قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ )(2).

من هنا، كان الأنبياء الإلهيّون يضربون أروع الأمثلة في صبرهم وتجلّدهم في سبيل إبلاغ الرسالة الإلهية، وهداية الناس، وتغيير ما بأنفسهم، والأخذ بأيديهم إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

ص: 148


1- سورة ص: 45.
2- سورة الأنبياء: 85.

15.نبوّة رسول الإسلام

1/15. تمهید:

وُلد محمّد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد بن هاشم بن عبد مناف من قبيلة قريش سنة 570 للميلاد في مكة. وكانت قبيلة بني هاشم تشتهر بالكرم والسخاء والعفّة والفتوة. ولهذا، أُوكلت إلى هذه القبيلة سدانة الكعبة. وبدأت دعوة النبي.عام 610م؛ أي في أوائل القرن السابع الميلاديّ، وعمره آنذاك أربعون عاماً؛ حين كانت عبادة الأوثان بمختلف ألوانها شائعة ودارجة في شبه الجزيرة العربيّة، وكانت عمائم الظلم والتمييز بشتّى أنواعها تخيّم على المجتمعات في الروم وبلاد فارس.

انطلقت حركة الرسول الأعظم .في بداية أمرها بدعوة الأقربين من بنيهاشم إلى الإسلام،وإلى خير الدنيا والآخرة،فعرّفهم على رسالته،ثمّ وسّع من هذه الدائرة فعرض دعوته على الناس على المستوى العالميّ ؛قائلاً:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)(1).

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )(2).

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ)(3).

وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون رسالة هذا النبيّ خاتمة للرسالات، وأن يكون

ص: 149


1- سورة الأعراف: 158.
2- سورة الأنبياء: 107.
3- سورة الأنعام: 19.

القرآنُ خاتماً للكتب السماوية؛ حيث قال تعالى:

﴿مَا كَانَ محمّد أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(1).

وقد اشتملت هذه الرسالة وانطوت على جميع ما جاءت به الأنبياء والرسل من ذي قبل، فكانت أكملها وأشملها؛ قال تعالى:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الأُتيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجيل)(2).

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(3).

(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدَّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(4).

واحتوت رسالة هذا الرسول الكريم كلّ ما من شأنه أن يحرّر البشريّة من أغلال الجهل وقيود الظلم والشرك؛ قال تعالى :

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(5).

وعلى هذا الأساس، انطلقت آيات القرآن الكريم في دعوتها للاهتمام بالدنيا والآخرة معاً؛ فقال عز من قائل:

(يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِت﴾(6).

ص: 150


1- سورة الأحزاب: 40.
2- سورة الأعراف: 157.
3- سورة البقرة: 146.
4- سورة المائدة: 48.
5- سورة الأعراف: 157.
6- سورة الأعراف: 157.

كما نوّهت أيضاً بألا يصاحب هذا الاهتمام أيّ عسر أو حرج؛ فقال تعالى:

(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1).

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(2).

وقد استطاع هذا النداء المخلّص والخطاب الشامل أن يعمّ أنحاء المعمورة في أقلّ فترة زمنيّة ممكنة، وتمكّن من تشييد حضارة رصينة في شتّى المجتمعات الإسلاميّة المختلفة(3).

2/15.سُبُل إثبات نبوّة رسول اللّه:

عمد المفكّرون المسلمون في الكتب الكلاميّة إلى إثبات النبوّة الخاصّة من خلال سلوك ثلاثة طرق. وقد فصّل العلّامة الشعراني في كتابه «طريق السعادة» البحث، فاستعرض أربعة أدلّة؛ هي:

أوّلاً : التأمل في شخصية الرسول الأعظم .

ثانياً: برهان الإعجاز.

ثالثاً : بشائر الأنبياء الماضين.

رابعاً: البرهنة عن طريق المؤمنين(4).

ص: 151


1- سورة الحج : 78.
2- سورة البقرة: 185.
3- راجع:محمّد حسن قدردان قراملكي،آيين خاتم،معهد الثقافة والفكر الإسلامي.
4- اقتُبست فكرة هذه الأدلّة الأربعة وشروحها من مقال لحميدرضا شاكرين،عنوانه: إثبات نبوّة النبي الأكرم (بالفارسية: اثبات نبوّت پیامبر اکرم)،مدرج في مجلّة أفكار العلّامة الشعراني،إعداد: عبد الحسین خسروبناه، معهد الثقافة والفكر الإسلامي.

1/2/15. الدليل الأوّل: التأمل في شخصية الرسول الأعظم :

تدلّ الدراسات التاريخية على ظهور سمات أساسيّة في شخصية الرسول .منها: الصدق،والأمانة، وطهارة الروح، والابتعاد عن طلب الدنيا، ومجانبة المكر والخديعة، والإيمان الراسخ بالرسالة والثبات والتضحية في سبيل الواجب الإلهي، وهلمّ جرّاً. وليست هذه القضايا مما ينفرد المسلمون بالإيمان بها، بل المثير أنّ شدّة بروزها وظهورها على مسرح التاريخ ترك أثراً بالغاً على كثير من الكتاب والمفكرين غير المسلمين، بل وعلى المستشرقين الغربيين أيضاً.

يقول مؤلّف كتاب«إخلاص محمّد»(1)بعد تطرّقه للإيمان الراسخ للنبي .بنبوّته ورسالته:

مثل الأحوال التي كانت تعتري أنبياء بنيإسرائيل،أي الفناء والانقطاع عن عالم الطبيعة، والانفتاح على عالم الباطن، وحال مشابه للإغماء، تصيبه هو أيضاً. وتتمثل له الملائكة أيضاً، نفسها التي تتجسّم لأنبياء بنيإسرائيل؛ ويسمع الأصوات التي يسمعونها هم(2).

فالنظرة المنصفة إلى صدق النبي .وإيمانه ،وإخلاصه، تزيل أي ترديد في صدق النبي في دعواه.

2/2/15 .الدليل الثاني: بشائر الأنبياء الماضين:

إحدى الطرق التي تثبت النبوّة الخاصة بشائر الأنبياء الماضين؛ فهناك في كتب الأمم الغابرة بشائر عديدة عن رسالة خاتم الأنبياء. وقد تحدث القرآن الكريم عن وعد مجيئه في التوراة والإنجيل(3).

وقد ذكر العلّامة الشعراني في كتابه«طريق السعادة» بالتفصيل بشائر للأنبياء

ص: 152


1- Sincerite de Mohamet.
2- طريق السعادة (بالفارسية: راه سعادت)، الشعراني، 38.
3- راجع: سورة البقرة: 146 ؛سورة العمران: 75 ؛سورة الأعراف :156؛ سورة الصف: 6.

موسى، وإشعياء، وحيقوق:، وقصّة بحيراء الراهب،ودانيال النبيّ، والسيد المسيح، وقد سَبَر أغوار التساؤلات والشبهات التي تحوم حولها.

جاء في الإصحاح الثاني والأربعين من سفر إشعياء:

هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُختَارِي(1)(الْمُصْطَفَى) الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلْأُمَمِ. لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّاَرِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةٌ خَامِدَةً لَا يُطْفِيُ .إِلَى الْأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ.(2)لا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ،وَتَنتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ(3). هَكَذَا يَقُولُ اللهُ الرَّبُّ، خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَنَاشِرُهَا، بَاسِطُ الْأَرْضِ وَنَتَائِجِهَا، مُعْطِي الشَّعْبِ عَلَيْهَا نَسَمَةٌ، وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا رُوحاً. أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأَمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلْأَمَمِ،(4)لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الخَبْسِ المأسورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ.(5)أَنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمِي، وَمُجَدِي لاَ أُعْطِيهِ لِآخَرَ، وَلَا تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ. هُوَذَا الْأَوَّلِيَّاتُ قَدْ أَتَتْ، وَالْحَدِيثَاتُ أَنَا مُخَبِرُ بِهَا. قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ أُعْلِمُكُمْ بِهَا . غَنُّوا لِلرَّبِّ أُغْنِيةٌ جَدِيدَةَ، تَسْبِيحَهُ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ. أَيُّهَا المَنْحَدِرُونَ فِي الْبَحْرِ وَمِلْؤُهُ وَاجْزَائِرُ وَسُكَّانُهَا، لِتَرْفَع الْبَرِّيَّةُ وَمُدُتُها صَوْتَهَا، الدِّيَارُ الَّتِي سَكَنَهَا قِيدَارُ(6).لِتَتَرَنَّمْ سُكَّانُ سَالِعَ(7).مِنْ رُؤُوسِ الْجِبَالِ لِيَهْتِفُوا. لِيُعْطُوا الرَّبَّ

ص: 153


1- المختار بمعنى المصطفى وهو لقب خاتم الأنبياء.
2- كناية عن أن شريعته تنتشر قريباً؛ فالمصباح الذي يوشك على الانطفاء، لم ينطفئ بعد وسوف يعمّ دينه العالم.
3- إشارة إلى أنّ له شريعته وأحكامه الخاصة، وليس مثل النبي عيسى .وينتشر دينه إلى أقصى أنحاء العالم؛ كجزيرة جاوة والفيليبين.
4- الأمم في اصطلاح التوراة،هي الأمم الأخرى غير بنيإسرائيل؛أي ينتشر دينه بين غير بنيإسرائيل.
5- كان الناس قبل الإسلام يعيشون في طبقات مختلفة؛ لاتزال هذه الطبقات شائعة بين الوثنيين في الهند. ولا يحق للطبقات الدنيا أن ترتقي إلى الطبقات العليا. وهذا الاستعلاء العرقيّ موجود في المسيحية أيضاً ولا عرق يساوي بينه وبين عرق آخر، فألغى الإسلام هذا التقليد.
6- قيدار بن النبيّ إسماعيل وجد خاتم الأنبياء .والديار التي سكنها قيدار هي مكّة والمدينة والطائف والمناطق التي سكنتها الأعراب من أبناء إسماعيل. ومدبار بمعنى الصحراء وهو اسم علم والمراد به هو العربية السعودية ولا معنى لأن يقال البرّيّة ومدنها؛ ولكن يمكن أن يقال العربية السعودية ومدنها. ولسكّان الشام الحقِّ في أن يقولوا البرّية ويريدوا بها السعودية.
7- هي يثرب أي المدينة المنوّرة. راجع:طريق السعادة (بالفارسية: راه سعادت) الشعراني.

جداً وَيُخْبِرُوا بِتَسْبِيحِهِ فِي الْجُزَائِرِ.الرَّبُّ كَالجُبَّارِ يَخْرُجُ .كَرَجُلٍ حُرُوبِ يُنْهِضُ غَيْرَتَهُ. يَهْتِفُ وَيَصْرُخُ وَيَقْوَى عَلَى أَعْدَائِهِ. قَدْ صَمَتُ مُنْذُ الدَّهْرِ. سَكَتُ. تَجَلَّدْتُ. كَالْوَالِدَةِ أَصِيحُ.أَنْفُخُ وَأَنْخُرُ مَعاً. أَخْرِبُ الْجِبَالَ وَالْآکامَ وَأَجَفِّفُ كُلَّ عُشْبَهَا، وَأَجْعَلُ الْأَنْهَارَ يَبَساً يساً وَأَنشِّفُ الآجَامَ، وَأُسَيْرُ الْعُمْيَ في طريق لَمْ يَعْرِفُوهَا.في مَسَالِكَ لَمْ يَدْرُوهَا طَرِيقٍ أُمَشِّيهِمْ . أَجْعَلُ الظُّلْمَةَ أَمَامَهُمْ نُوراً، وَالْمُعْوَجَاتِ مُسْتَقِيمَةٌ. هَذِهِ الْأُمُورُ أَفْعَلُهَا وَلَا أَتْرُكُهُمْ. قَدِ ارْتَدُّوا إِلَى الْوَرَاءِ. یَجْزَى خِزْياً المُتَّكِلُونَ عَلَى المُنحُونَاتِ،الْقَائِلُونَ لِلْمَسْبُوكَاتِ: أَنْتُنَّ آهِتُنَا!أَيُّهَا الصُّمُّ اسْمَعُوا.أَيُّهَا الْعُمْيُّ انْظُرُوا لِتُبْصِرُوا.مَنْ هُوَ أَعْمَى إِلَّا عَبْدِي، وَأَصَمُّ كَرَسُولِي الَّذِي أُرْسِلُهُ؟ مَنْ هُوَ أَعْمَى كَالْكَامِلِ، وَأَعْمَى كَعَبْدِ الرَّبِّ؟ نَاظِرٌ كَثِيراً وَلَا تُلَاحِظُ.مَفْتُوحُ الْأُذُنَيْنِ وَلَا يَسْمَعُ.الرَّبُّ قَدْ شَرَّ مِنْ أَجْلِ بِرِّهِ. يُعَظَّمُ الشَّرِيعَةَ وَيُكْرمُهَا.وَلَكِنَّهُ شَعْبٌ مَنْهُوبٌ(1)وَمَسْلُوبٌ. قَدِ اصْطِيدَ في الحَفَرَ كُلُّهُ، وَفِي بُيُوتِ الحُبُوسِ اخْتِبَلُّوا.صَارُوا نَهْباً وَلَا مُنْقِذَ، وَسَلَبَاً وَلَيْسَ مَنْ يَقُولُ: رُدَّ! مَنْ مِنْكُمْ يَسْمَعُ هَذَا؟ يَصْغَى وَيَسْمَعُ مَا بَعْدُ؟ مَنْ دَفَعَ يَعْقُوبَ إِلَى السَّلَبِ وَإِسْرَائِيلَ إِلَى النَّاهِبِينَ؟ أَلَيْسَ الرَّبُّ الَّذِي أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَشَاؤُوا أَنْ يَسْلُكُوا فِي طَرَقِهِ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِشَرِيعَتِهِ. فَسَكَبَ عَلَيْهِ هُوَ غَضَبِهِ وَشِدَّةِ الحَرْبِ، فَأَوْقَدَتْهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَلَمْ يَعْرِفُ، وَأَحْرَقَتْهُ وَلَمْ يَضَعْ فِي قَلْبِهِ.

وقد بشّر النبي عيسى .بمجيء «الفارقليط»، وهذه المفردة لفظة يونانيّة، يعود أصلها إلى كلمة «بركليتوس» (بكسر الباء والراء)، فعرّبت وتحوّلت إلى«فارقليط». والفارقليط هو الذي يجري اسمه على الألسن، ويمدحه الجميع، وهذا هو الذي يعنيه الاسم «أحمد» . ويستطرد العلّامة الشعراني قائلاً:

عندي قاموس يوناني-إنكليزي، فأريت الكلمة لأحد الملمين باللغة الإنكليزية، فقال : لقد ترجم «الفارقليط»بالمعنى نفسه، بل إنّ المعنى التفضيلي الذي يوجد في

ص: 154


1- هذا الشعب المنهوب هو بنو إسرائيل ويمكن أن نعرف من هذه الآيات أنّ المراد بهذا النبي الموعود ليس ذلك المسيح الذي ينتظره بنو إسرائيل؛ لأنّهم يعتقدون بأنّ المسيح سوف يجيء لإعزاز بني إسرائيل، في حين تدلّ هذه الآيات على إذلالهم وكذلك ليس المراد بهم عيسى كما تدلّ عليه أكثر الفقرات .

«أحمد»، ولا يوجد في «محمّد» ، يُفهم من كلمة«فارقليط » اليونانيّة، وهذا القاموس مطبوع في بريطانيا(1).

نعم؛ ينطق المسيحيون اليوم كلمة«بركليتوس» بفتح الباء والراء، ويقولون: إنّ الكلمة لو كانت بكسر هذين الحرفين، لكان معناها «أحمد»؛ لكنّ تحريكها بالفتح، فيكون المعنى: «المعزّي» ؛ والمراد بها هنا :«روح القدس»!

نحن نرى أنّ الترجمة الأولى ( أحمد ) هي الصحيحة؛ لأنّ «بركليتوس» كُتبت في نسخ الإنجيل بهذا التحريك (بالكسر)؛ وهي بمعنى «أحمد»؛ وليست بالفتح؛ حتى تعني «المعزّي». وقد كتب الكتاب النسخ بالتصحيف، ويتّضح ممّا جاء في تحريفات الإنجيل أنّه لا عبرة بخصوصيّات خطّ الإنجيل الحاليّ (2).

أضف إلى ذلك أننا لو افترضنا - جدلاً - أنّ الكلمة هي بَرَكليتوس (بالفتح)، وأنّها تعني المعزّي، فهناك قرائن عديدة من الخارج، ومن الإنجيل نفسه تشير إلى أنّ المراد به نبيّ بشريّ؛ وليس روح القدس الذي يصوّره المسيحيّون في هذه الأزمنة !

وقد ورد في إنجيل يوحّنا (21:14 ..):

أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآب فَيُعْطِيكُمْ مُعَزّياً (الفارقليط) آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِتٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.لا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إنِّی آتِي إِلَيْكُمْ.بَعْدَ قَلِيل لَا يَرَانِي الْعَالَم أَيْضاً ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي.إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ.فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ.. وَأَمَّا المُعَنِّي (الفارقليط)، الرُّوحُ الْقُدُسِ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.

ص: 155


1- طريق السعادة(بالفارسية : راه سعادت)، الشعراني، ص 314.
2- راجع المصدر السابق.

وجاء في الإنجيل (26:15) نفسه:

وَمَتَى جَاءَ المُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلْهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبيَّقُ ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي وَتَشْهَدُونَ أَنتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاء.

وفيه (16 : 15-7) أيضاً :

لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقِّ:إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقُ لَا يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي (الفارقليط)، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلْهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٌ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ : أَمَّا عَلَى خَطِيَّة فَلاتَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٌ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أبي وَلا تَرَوْنَنِي أَيْضًا وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمَ قَدْ دِينَ. إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ.وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورِ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَلِي. لهِذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ.

وهنا نقول:يعتقد النصارى بأنّ الفارقليط هو روح القدس،ووعد المسيح.بأن ينزل هو على الحواريّين. ولنا عدّة أدلة تثبت أنّ المراد بالفارقليط رجل معيّن يظهر بعد المسيح ؛ وليس روح القدس كما زعموا منها :

أوّلاً: أنّ المترجمين القدماء اعتبروا«الفارقليط» علماً إنسانياً، فجاؤوا باللفظة نفسها في الترجمة، ولو فهموا منها«المعزّي» لذكروا ترجمتها؛ على سبيل المثال، فقد ذكروا في الترجمة السريانية القديمة والعبريّة والعربيّة القديمة، لفظة الفارقليط نفسها. وفي العبريّة حيث لديّ ( العلّامة الشعرانيّ) نسخة مطبوعة منها، اللفظة هي بكسر الفاء (الفرقليط ) وبدون ألف. ووردت في الترجمة العربيّة المطبوعة في السنوات 1821 و 1831 و 1844 نقلاً عن«إظهار الحقّ»على شكل«الفارقليط».

ص: 156

ثانياً: أنّ التواريخ المختلفة التي يؤيّد بعضها بعضاً تدلّ على أنّ النصارى قبل الإسلام كانوا يطبّقونه على رجل معيّن؛ ولهذا،ادّعى أحد الزهاد النصارى في القرن الثاني الميلاديّ والذي يُدعى«منتس» في آسيا الصغرى،بأنه الفارقليط، فآمنت به جماعة. وينقل إظهار الحقّ عن لبّ التواريخ الذي ألفه مسيحيّ:كان اليهود والنصارى في عهد محمّد .يتوقّعون ظهور نبيّ. أرسل مقوقس - كبير الأقباط - إلى رسول اللّه رسالة يردّ عليه فيها :«عرفت أنه لا بدّ من أن يُبعث نبي وظننت أنّ ذلك يكون في الشام».

ثالثاً: يقول في الفصل 14 والآية 16: «أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَنِّياً (الفارقليط) آخَرَ». يؤدّي هذا الكلام أنّني الفارقليط ويجيء بعدي فارقليط آخر؛ إذا كان الفارقليط بمعنى أحمد ومن يجري اسمه على الألسن ويذكره الجميع بالخير، يمكن ترجمة هذه العبارة هكذا:إنّني رجل حسن السمعة وأطلب من الآب أن يعطيكم رجلاً حسن السمعة آخر. أما إذا كان الفارقليط بمعنى المعزّي، لا يمكن القول بأنّ عيسى هو المعزّي، وأنّ محمّداً أو روح القدس معزّ آخر؛ لأنّ الحواريين كانوا حزناء من صعود السيد المسيح .ولم يكن السيد المسيح بعد صعوده موجوداً حتى يعزّيهم ويكون روح القدس معزياً آخر. فكان عليه أن يقول إذن: لا تحزنوا من رحيلي فيجيء معز بدون أن يذكر كلمة«آخر».

رابعاً: يقول في الآية 26 : «فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ». تدلّ هذه العبارة على أنّ السيّد المسيح يخاطب الأمة كلها إلى نهاية العالم؛ ويقول بأنكم أمتي تنسون كلامي فيذكركم به الفارقلیط، فلا يخاطب الحواريين دون غيرهم، لأنّهم ما كانوا قد نسوا كلامه ولكن بما أنه مرّ زمن طويل وامتزجت معتقدات الوثنيين مع كلام السيد المسيح .ونسوا أقواله، فاعتبروه اللّه وابن اللّه واعتنقوا التثليث، فأرسل اللّه الفارقليط؛ أي محمّد بن عبد الله .ليذكّرهم بكلام المسيح، فإنّه كان عبداً اللّه.

ص: 157

خامساً: يقول في الآية 30 : «وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ». فنقول: حينما ينزل روح القدس على قلب أحد، لا يشكّ الحواريّون خاصّة في ذلك وإلّا فلابد للأنبياء أيضاً من أن يشكّوا بعد نزول الوحي في صحّته، والأمر ليس كذلك ، فلم يكن الحواريون بحاجة إلى أن يخبرهم النبي عيسى بروح القدس حتّى يصدّقوه عند نزوله، فالمراد بالفارقليط هو النبيّ الذي يشكّ الناس في صدقه وقد أخبرهم النبي عيسى .من قبل حتّى لا يعتريهم أيّ شكّ. كما يقول في الإصحاح 15 وفي الآية 26 : «فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ.»يُفهم من هذا الكلام بصراحة أن منكري كلام النبي عيسى .،أثاروا سخطه، فيقول: سيجيء الفارقليط ويشهد على حقّانيّتي وتشهدون أنتم أيضاً إذ رأيتم معجزاتي، وتؤيد هاتان الشهادتان إحداهما الأخرى فتتم الحجة على المنكرين. إنّ ما قيل لا يتناسب مع نزول روح القدس على الحواريين، لأنه أي ضرورة تدعو إلى شهادة روح القدس على حقانية السيد المسيح .بالنسبة للحوارييّن الذي كانوا معه منذ البداية ورأوا معجزاته؟ وقوله: «فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا»؛ أي: يؤيد بعضكم بعضاً وهو إزاء المنكرين وإلا لا يسمع شهادة روح القدس غير الحواريين ولا تؤيد إحدى الشهادتين الأخرى. كما يقول في الآية 7 من الإصحاح 16 : «إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ المُعَزِّي».فلا تنطبق هذه العبارة على روح القدس الذي نزل على الحواريين؛ لأنه وفقاً لنص الإنجيل، فقد نزل روح القدس عليهم في عهد النبي عيسى أيضاً، حين أرسلهم السيد المسيح إلى مدن إسرائيل. يقول في الآية 8 :«وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٌ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ .» وهذا يصدق على نبينا ؛ لأنه كانت تربطه أمور بالعالمين؛ لكن روح القدس كان في الباطن ونزل على قلوب الحواريين ولم تكن له صلة بالعالمين. ويقول في الآية 13 : «لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورِ آتِيَةِ. » فتنطبق هذه الفقرة أيضاً على شخص إنسانيّ؛ ولكن فيما يتعلق بروح القدس الذي هو اللّه في اعتقاد النصارى، فلا معنى ل«كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ».كذلك يقول في الآيتين 14 و 15 :«اذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي

ص: 158

وَيُخْبِرُكُمْ كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. هِذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ.» فلا تنطبق هذه الأمور على روح القدس.

وينتقل العلّامة الشعراني بعد نقله العبارات المذكورة من الإنجيل وإيضاحها إلى استعراض الشهادات المتعلّقة بالعبارات الآنفة الذكر ويردّ عليها(1).

3/2/15. الدليل الثالث: البرهان عن طريق المؤمنين:

أحد الطرق المبتكرة التي أشار إليه العلّامة الشعراني لدى إثباته نبوّة النبي الأعظم.،هو إثبات النبوّة عن طريق بعض المؤمنين بالنبي ؛ ففي بعض الأحيان، تتميز شخصيات بعض من يتبعون نبياً ما بخصائص تورث اليقين بصحتها، ولا يبقى مع معرفتها أي ترديد في صدق دعوى النبوّة. وهنا، تتميز شخصيّة أمير المؤمنين .بمكانة خاصة . يقول العلّامة الشعراني في هذا الخصوص:

إن إيمان أمير المؤمنين بنبيّه يُعدّ بدوره دليلاً عظيماً على نبوّته؛لأنه من درس عهد أمير المؤمنين واطّلع على أحواله - مسلماً كان أو غير مسلم - آمن بأنه كان عالماً فطناً أميناً،لا يقبل المداهنة،وإنّ إعجاز خطَبه التوحيديّة أكبر من معجزة تكلّم الشجرة. فمن المحال - إذن - أن يكون قد آمن مداهناً، أو أنه أخطأ في معرفة دلائل النبوة، ولم يرَ آيةً أو دليلاً على صدق نبيّه(2).

وعلى أساس هذه النظرة ، هناك ثلاثة عناصر أساسيّة في شخصية أمير المؤمنين.تجعل إيمانه حجّة دامغة على حقانية رسالة خاتم الأنبياء؛ وهي:

أوّلاً:قمّة العلم،والفطانة، ومعرفة الدين، ومعرفة اللّه بما يفوق الطاقة البشريّة .

ثانياً:قمّة الأمانة،والصدق،والإخلاص.

ص: 159


1- راجع المصدر السابق، ص 322-325 .
2- المصدر نفسه، ص 215.

ثالثاً :الحزم،وعدم المساومة في الإذعان بالحقّ، ومقارعة الباطل.

وإنّ شخصاً كهذا يُستنار به في الهداية ويُعدُّ رفضه وقبوله برهاناً نيراً وقاطعاً على كشف الحقيقة ويمكن عن طريق معرفة عليّ ، الاهتداء إلى معرفة النبي.

4/2/15 . الدليل الرابع:برهان الإعجاز:

من أمتن البراهين العقليّة على إثبات النبوّة لأيّ نبي صدور المعجزة عنه . وقد أتينا على ذكر ماهيّة النبوّة وشروطها في بحث النبوّة العامة.

يقول العلّامة الشعراني عن ماهية المعجزة:

المعجزة تُطلق على أمر خارق للعادة؛ بمعنى أنها لا تطابق السير الاعتيادي للطبيعة، وليس في وسع الآخرين الإتيان بمثلها. وفي اصطلاح المتكلمين، لا تُطلق المعجزة على كلّ أمر نادر أو خارق للعادة، بل المعجزة هي التي ترتبط بدعوى النبي ويظهرها اللّه لتصديقه،فتقترن المعجزة بالدعوى ؛ وذلك ليس بالصدفة، بل بحيث يدرك الآخرون دلالتها على تصديق النبي(1).

كانت لرسول الإسلام معجزات مختلفة وعديدة؛ بحيث لم تُنقل عن أيّ نبيّ آخر كلّ هذه الأمور الخارقة للعادة؛ فالمعجزات الموثقة التي نقلتها الكتب المعتبرة عن النبي تفوق الألف!في حين لا تتجاوز مجموعة المعجزات التي نقلتها الأناجيل عن السيد المسيح .سبعاً وعشرين معجزة، أو ثلاثين على أكثر التقادير. علاوةً على ذلك، فقد حدثت معجزات النبي - في معظمها - عند اجتماع الناس، ونقلت بأسانيد لا يتطرّق إليها احتمال التزوير أو الكذب، في حين نَقَل معجزات النبي عيسى.أربعة مجهولين، يلفّ الضباب والغموض تاريخ حياتهم.

ص: 160


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (بالفارسية)، أبوالحسن الشعراني، ص 488 و 489.

ويذكر العلّامة الشعراني من بين مئات الرواة الذين نقلوا معجزات النبيّ أسماء ستين منهم قائلاً:

المعجزات التي رواها جابر بن عبداللّه الأنصاري تشكّل - لوحدها - بضعة أضعاف معجزات النبي عيسى، ويتضح من ذلك كلّه أنّ جميع الناس كانوا يعتقدون بصدور المعجزة عن رسول اللّه .، وإنّ تواطؤ كلّ هذه الجماهير على أمر باطل كاذب يستحيل عادة(1).

ويمكن تقسيم معجزات النبي الأعظم .وتصنيفها في أربعة أقسام :

أوّلاً: الإخبار عن الغيب.

ثانياً: الإعجاز العملي الصادر عن النبيّ.

ثالثاً: الأحداث المحيّرة.

رابعاً: الكتاب السماوي(2).

1/4/2/15. الإخبار عن الغيب

نقل العلّامة الشعراني سبعة وعشرين إخباراً غيبيّاً تكثر القرائن على صحّتها ودرأ عنها الشبهات. وبعضها كما يأتي:

أوّلاً: الإخبار عن موت النجاشي ملك الحبشة،وعن إقامة الصلاة عليه برفقة حشد كبير من الصحابة.

ثانياً: الإخبار عن فتح العراق،والشام،وبيت المقدس، ومصر، وإيران، وغيرهنّ،

ص: 161


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (بالفارسيّة)، أبو الحسن الشعراني،ص 222.
2- المصدر نفسه، ص 221.

وتوصيات في كيفية مواجهة سكانها حين لم يكن يتصوّر قط إنجاز فتوحات على هذا النطاق.

ثالثاً: الإخبار عن هزيمة الدولة العربية من هولاكو حيث وقعت في القرن الثالث للهجرة.

رابعاً: الإخبار عن اندلاع النار من أرض الحجاز في سنة 654.

خامساً: الإخبار عن خروج عائشة على أمير المؤمنين علي ، وإيصاء النبي للإمام علي بمداراتها.

سادساً: الإخبار عن حرب أمير المؤمنين .مع المارقين،والناكثين،والقاسطين.

سابعاً :الإخبار عن انحراف ذي الخويصرة، وقتاله مع أمير المؤمنين .

ثامناً: الإخبار عن مقتل كسرى على يد ابنه شيرويه مما أدى إلى إسلام باذان ملك اليمن بعد ثبوت صدقه(1).

تاسعاً: الإخبار عن أكل صحيفة قريش بواسطة الأرضة، وبقاء اسم اللّه فيه؛ وهو ما أسفر عن رفع الحصار في شعب أبي طالب(2).

2/4/2/15. الإعجاز العملي:

ذكر العلّامة الشعراني ما يقارب عشرين معجزة عمليّة في كتابه «طريق السعادة»ودرأ عنها الشبهات(3)؛ من بين هذه المعجزات:

ص: 162


1- طريق السعادة (بالفارسية : راه سعادت) الشعراني، ص 86-113.
2- المصدر نفسه، ص 202-205.
3- المصدر نفسه، ص 182-221.

أوّلاً شق القمر.

ثانياً : إنارة سوط الطفيل بن عمرو الدوسيّ بدعاء من النبي من أجل دعوة قومه إلى الإسلام وتلقبه ب«ذيالنور».

ثالثاً :ردّ العينين المفقوءتين لقتادة بن النعمان في معركة أحد، وشفاؤه.

رابعاً: شفاء كثير من الأفراد بلعاب فمه ؛ ومن ذلك : شفاء عيني أمير المؤمنينفي غزوة خيبر .

خامساً: سير الشجرة باتجاه النبي، وانتصافها، وتحرّك كلّ من النصفين في الاتجاه المعاكس للآخر، والتحامهما من جديد، واستقرار الشجرة في مكانها.

سادساً: تدفق الماء من بين أصابع النبيّ .

3/4/2/15. الأحداث المحيّرة:

بعض الأمور الخارقة للعادة هي الأحداث التي رغم عدم صدورها مباشرة عن النبيّ ، إلّا أنها تستدعي وتوجب تصديقه. وقد حدثت هذه المعجزات في زمن نبوّة النبيّ ، وقبل الرسالة. وإليك نماذج للمعجزات في زمن نبوّة النبي:

أوّلاً: الأسطوانة الحنّانة جذع نخل كان النبي .يتكئ عليه عند وعظه في المسجد. وعندما صنعوا منبراً واعتلاه النبي،سُمع من الشجرة حنين جعل الجميع يقولون بأنّه كان أنيناً يشكو فراق النبي .ويُنقل أنّ النبي اقترب من الشجرة، ومسح بيده المباركة عليها، فهدأ حنينها(1).

ثانياً :كان هناك صحابيّ من صحابة النبي يُدعى وهب بن أوس، ويعرفه

ص: 163


1- المصدر نفسه، ص 219 و 220.

الناس ب«مكلّم الذئب»؛ لأنه كان يرعى الغنم - ذات يوم - فأغار ذئب على القطيع، فأخذ شاةً منها، فسعى نحوه، فقال له الذئب:أتعجب من أخذي شاة؟ هذا محمّد يدعو إلى الحقّ فلا تجيبونه! فجاء إلى النبي ،وأسلم(1).

وفيما يأتي نماذج للمعجزات التي وقعت قبل الرسالة، وهي ما تعارفوا على تسميتها ب«الإرهاصات»، وهي قضايا تمهّد الأرضيّة لقبول الناس بالأنبياء:

أولاً : إبادة جيش أبرهة، وفيه من يقود قطيعاً من الفيلة. وقد تمّ ذلك، بهجوم شنّته أعداد من الطيور التي رشقت الجيش بحجارة قضت عليه. جرى ذلك في السنة التي وُلد فيها النبي ، وذكر خبره القرآن الكريم حين كان كثير من شهوده أحياءً، يذكرون الحادثة. ويدلّ وقوع هذا الحادث على قدرة الربّ وعنايته بتعظيم الكعبة، وهو أمر يمهّد لقبول دعوة الإسلام التوحيدية(2).

ثانياً: استقرار سحابة فوق النبي محمّد ، حيث كان الحضور يشهدونها، وتصاحبه أينما يذهب(3).

ثالثاً: شقّ طاق كسرى الذي تنبّؤوا به بزوال الدولة الإيرانية، وصار توالي هذا الحادث والأحداث المماثلة له،ممهّداً لقبول الدين الإسلاميّ (4).

4/4/2/15 .الكتاب السماوي:

القرآن وحي بجميع أجزائه، وقد نزل لفظاً ومعنى من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ خلافاً للكتب السماوية الأخرى التي نزلت معانيها على الأنبياء، وبادر الأنبياء بأنفسهم إلى

ص: 164


1- شرح التجريد،ترجمة:العلامة الشعراني، ص 496.
2- المصدر نفسه، ص 491.
3- شرح التجريد،ترجمة:العلامة الشعراني،ص 492.
4- المصدر نفسه.

وضع التعابير والألفاظ لها. لكنّ الوصايا العشر التي نزلت على موسى،وتلقّاها منقوشة على الألواح، قد تكون هي الأخرى منزلة بألفاظ الوحي بعينها(1).

ثمّ إنّ ما وصل إلينا من التوراة والإنجيل ليس سوى سيرة للنبي موسى والنبي عیسی؛ بينما يجمع القرآن في ثناياه معارف وتعاليم في غاية العمق والشمول والسعة،لا نرى أثراً لها في كتب السلف(2).

إنّ ما جاء في كتب الشرائع الماضية ممّا وصل إلينا، كتبه الإنسان، وطرأ عليه تحريف فاحش، ونشهد فيه كثيراً من المفارقات. أما القرآن الكريم فهو كتاب لم ولن يطاله أيّ تحريف.(3)ويُعدّ القرآن - في حدّ ذاته - معجزةً ودليلًا على إثبات حقّانيّته، وصدق دعوى النبوّة؛خلافاً لغيره من الكتب السماويّة.كما أنّ معجزات الأنبياء كانت تحدث على مرأى ومسمع الناس ممن يشهدها ويحضرها ويخاطَب بها، ولا فائدة تُرجى منها للخلف غير سماعها؛ إلّا أنّ القرآن الكريم معجزة مرئيّة أمام الجميع. فتحمل ميزة القرآن هذه وظيفتين :

أوّلاً: أنّها تسدّ على الملحدين السبيل إلى إنكار الإعجاز؛ لأنهم إن استطاعوا إنكار معجزات الأنبياء المختلفة، فلن يُتاح لهم أبداً أن ينكروا أو يفنّدوا وجود القرآن، أو إعجازه.

ثانياً: أنه حجّة مستمرّة حاضرة ودامغة على إلهيّته هو، وعلى حقّانية رسول الإسلام ،ولم يخلّف أي نبي حجّة كهذه.

ص: 165


1- المصدر نفسه، ص 58.
2- المصدر نفسه، ص 57.
3- المصدر نفسه، ص 57 و 64.

16.تحدّيات النبوّة

1/16. تمهيد:

طالما كان بحث النبوّة عرضة لنقد المخالفين منذ قديم الأيام. فبعض الشبهات تعترض أدلّة ضرورة بعثة الأنبياء مما أجبنا عليه في بحث النبوّة العامة. ويتعلّق بعضها الآخر من الشبهات بالنبوّة الخاصة مما سنتعرّض إليه في هذا المجال.

2/16. تحدّيات الوحي التفسيرية:

قدّم الغربيّون والتنويريّون المتأثّرون بالغرب - نتيجةً لانطباعاتهم عن الفلسفات النسبيّة والماديّة - تفاسير غير واقعيّة عن الوحي النبويّ. وتعتمد هذه الرؤية الماديّة على افتراضات؛ من قبيل:إنكار ما وراء العالم، وإنكار وجود اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والإيمان بانحصار الوجود في عالم المادّة، والأطر المنهجية الحسيّة والتجربيّة.

وطبيعيّ أن ينتج عن هذه الافتراضات عدّ الوحي ظاهرة خياليّة ووهميّة، وإنكار استنادها إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وقد دعا الاعتقاد بالافتراضات المتقدّمة المنكرين لحقيقة الوحي العينيّة إلى تقديم تفسير نفسيّ واجتماعيّ لهذه الحقيقة، وتجاهل كون الوحي أمراً إلهيّاً. وفيما يأتي سرد لأهمّ الآراء الجديدة التي تناولت الوحي النبويّ(1):

1/2/16 .شخصية النبي الباطنية:

توقّدت نظريّة الشخصيّة الباطنة والخفيّة في أذهان علماء النفس والأطباء النفسيّين

ص: 166


1- اقتُبست فكرة هذه الآراء ونقدها من ملزمة دراسية تحمل عنوان:معرفة الوحي (بالفارسية:وحي شناسي)،لمؤلّفها علي الرباني الكلبايكاني،تُدرّس في المركز التخصصي لعلم الكلام.

من خلال الدراسات النفسيّة الحديثة. وقد توصّلوا من خلال دراسات واختبارات كثيرة إلى أنّ لكلّ إنسان شخصيّتين ظاهرة وباطنة ، وروح الإنسان كذلك لها بُعدان داخليّ وخارجيّ : أمّا الشخصيّة الظاهرة أو البعد الخارجي لروح الإنسان (عقله الواعي) فتعمل في الأحوال الاعتياديّة، وأمّا شخصيّته الباطنة أو البُعد الداخليّ لروحه(عقله غير الواعي) فتعمل في الأحوال والظروف غير الاعتيادية (مثل: النوم، أو شدّة الإرهاق، أو الحزن والهم البالغين، أو فقدان الوعي).

وقد انجرّ علماء النفس إلى الاعتقاد بوجود مثل هذه الشخصيّة في الإنسان بسبب وقوفهم على نماذج عديدة من أشخاص قادرين على حلّ مسائل رياضيّة صعبة من دون تفكر وتأمل،وكذلك حلّ المجهولات المعقّدة بلا تأنٍّ. ولم يكن يعرف أيّ من هؤلاء الأشخاص المصدر الذي يرفد مثل هذا الوعي على الرغم من سلامتهم وصحّتهم، وكأنّ شخصاً ما يكلّمهم من وراء الستار، ويلقنهم بعض الأمور، فلا يصدر هذا الوعي عن عقلهم الواعي،وشخصيّتهم الظاهرة والاعتيادية،وإنّما هو ناشئ عن عقلهم اللاواعي، وشخصيّتهم الباطنة.

والشاهد الآخر على هذه المعطيات اكتشاف أنّ الشخص المنَّوم مغناطيسيّاً يجيب في حال نومه على بعض الأسئلة، وينبئ فيها عن حقائق لا يعيها هو في حالة اليقظة. فاستنتجوا أنّ مصدر وعيه ليس شخصيّته أو عقله الواعي؛ بل توجد فيه شخصيّة باطنة، تتفعّل عند توقف شخصيّته الظاهرة الواعية، وتخبره عن أحداث غيبية.

وقام هؤلاء العلماء استناداً إلى هذه النظرية حول الشخصية الباطنة بتفسير الوحي الذي يُلقى إلى الأنبياء، وعمدوا إلى تحليله، فقالوا: إنّ ما يَنفخ في روع الأنبياء، ويُلقي إليهم بعض المطالب هو شخصيّتهم الباطنة. وربّما تتجسّد هذه الشخصية الباطنة وتبدو واقعيّة في أعينهم وربّما تصوّروا أنّها ملك أرسل إليهم من قبل اللّه، وهبط إليهم من السماء؛ وأنه هو من يوحي إليهم تلك الحقائق .

ص: 167

وأراد هؤلاء بواسطة هذا التفسير أن يحلّوا مشكلة التعارض المزعوم بين النصوص الوحيانية والنظريات العلميّة؛فالوحي - بناءً على تلك النظريات - ليس إلا تجليّاً لشخصية النبي الباطنة، تتجلى هذه الشخصية تناسباً مع الظروف التي يعيشها النبي واستعداداته، وربّما تمتزج المعارف النابعة عن شخصيته الباطنة مع ما يتعلق بشخصيته الاعتيادية؛ وهذا هو مصدر الخطأ في الوحي(1).

لكنّ هذا التفسير لا يتطابق مع حقيقة النبي العينية؛ فكما قال علماء النفس: إنّ الشخصية الباطنة والعقل اللاواعي يتفعّل في الظروف غير الاعتيادية؛ مثل: النوم الطبيعيّ، أو المصطنع، أو حالة المرض، أو الإرهاق الشديد، أو ما شاكل ذلك؛ وليس في الظروف الاعتياديّة للحياة؛ والحال أنّ الأنبياء لم يتلقوا في حالة النوم إلا القليل من المعارف الوحيانية والوحي في غالب الأحيان كان في حال اليقظة؛ حيث كانوا يتمتعون بسلامة جسمية ونفسية تامّة، وكانت شخصيّتهم الظاهرة وعقلهم الواعي في أتم الاستعداد والنشاط.

كما لا تتناسب آراء علماء النفس والأطباء النفسيّين مع ما ورد في الروايات من أحوال النبي الأكرم.حين تلقّي الوحي. وقد ورد فيها أن النبيّ كان يفقد وعيه عند نزول الوحي، وكان يدهش، وتعرض عليه حالة كحالة النوم، وعند نزول الوحي المباشر كان يشعر بثقل، ويسخن جسده الشريف من ثقل ما ألقي عليه، ويعرق. روي عن الإمام علي أنّه قال :

لقد نزلت (سورة المائدة)عليه وهو على بغلة الشهباء، وثقل عليه الوحي؛حتّى وقفت، وتدلّى بطنها، حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، وأغمي على رسول اللّه؛حتّى وضع يده على ذؤابة (أحد الصحابة)(2).

ص: 168


1- دائرة معارف القرآن العشرين،فريد وجدي، ج 10، ص 712-720.
2- تفسير العياشي، ج1: ص 388.

وروي عن عبادة بن الصامت أنّه قال :

كان إذا نزل الوحي على النبي ك رب له(1)،وتربّد وجهه(2).

وفي رواية أخرى عنه أيضاً:

نکّس رأسه،ونكس أصحابه رؤوسهم(3).

ومن الصعب فهم هذه الحقيقة لمن يعجز عن معرفة الوحي(4).

وعلى أية حال، فإنّه لا تجتمع هذه الأحاديث مع فرضية الشخصيّة الباطنة للرسول و اعتبار الوحي أمراً غير واقعيّ:

* فأوّلاً: كانت تعرض هذه الحالة على النبي .عندما كان يتلقى الوحي من دون توسّط جبرئيل ؛ فلم تكن حالة عامة.

وثانياً : إنّ حالة الدهشة التي كانت تعرض على الرسول عن نزول الوحي مباشرةً، كانت نتيجة نزول الوحي؛ وليس سبباً له. بينما نجد في تجلّي الشخصيّة الباطنة والعقل اللاواعي أنّ الأحوال غير الاعتيادية هي السبب والداعي؛ بمعنى أنّ الشخص يستقر أوّلاً في الظروف والأحوال غير الاعتيادية، ثم تتفعّل شخصيّته الباطنة، في حين نرى بالنسبة إلى النبي.أنه كان ينزل عليه الوحي أولاً،ثمّ تعرض عليه تلك الأحوال غير الاعتيادية.

وثالثاً: الوعي هو من خصائص الوحي النبويّ؛ أي إنّ الأنبياء كانوا على وعي كامل باتّصالهم بمصدر سامٍ، وإنّ المعارف التي يتلقّونها تأتي من ذلك المصدر، وأحياناً

ص: 169


1- قيل في شرح ذلك:كرُب له:أي انقبضت نفسه وتغيرت حالته، وتربّد : أي تغير لون وجهه إلى الغبرة. [م]
2- طبقات ابن سعد، ج 1، ص 131.
3- صحیح مسلم، ج 15، ص 89.
4- يراجع:التمهيد في علوم القرآن،محمد هادي معرفة، ج1، ص 66 وما بعدها.

كان التلقي بشكل مباشر، وأخرى بواسطة ملك الوحي. ولكن ما تذكره تقارير علماء النفس من تجلّي الشخصيّة الباطنة هو أنّ أصحاب هذه الحالة لا يعرفون بالضبط مصدر ما يلهمون به، والشيء الوحيد الذي يعرفونه أنه لم يصدر عن عقلهم الواعي، وجهاز التفكير عندهم.

ورابعاً: تدلّ روايات متواترة قطعية على حضور ملائكة الوحي، وتوسّط جبرئيل في الوحي؛ وهذا يعني أنّ مصدر الوحي النبوي كان خارجيّاً، ولم يكن ينبع من داخلهم.

هذا، وتتلازم نظريّة التخيّل والشخصيّة الباطنة أن يكون الأنبياء أناساً متوهّمين وبعيدين عن الواقعية؛ وهو يتناقض مع الأدلّة العقليّة على ضرورة النبوّة، كما يتعارض مع التقارير التأريخية القطعية حول شخصيّة الأنبياء الإلهيين، وطريقة تعاملهم مع الصديق والعدوّ، فالتاريخ يشهد لهم بأنهم أعقل أناس عصرهم.

2/2/16 .الوحي النفسيّ :

قدّم بعض فلاسفة الغرب تفسيراً آخر للوحي النبوي باسم «الوحي النفسي». وعليه : فإنّ الوحي النبوي ناشئ عن عقل النبي وروحه؛ وليس له منشأ خارجيّ وغيبيّ ! فالنبيّ - عندهم - إنسان طاهر يتمتّع بهمّة عالية، وإيمان ثابت وراسخ باللّه، يبغض عبادة الأوثان والشرك وتقليد العقائد والآداب والتقاليد الجاهلية المشحونة بالشرك، ويشعر بالمسؤولية تجاه مصير المجتمع البشري. فتقوى فيه هذه الفكرة، وهذا الشعور؛ حتى يتجسّم ويتمثل في فكره ووجدانه، وكأنّ رسولاً جاءه من قبل اللّه وعالم الغيب، فأوحى إليه تلك المعارف والأوامر، وبعثه لهداية المجتمع البشري وإنقاذه(1).

وهذا التفسير والتحليل ليس بجديد؛ فقد تناوله المناوئون للأنبياء في عصورهم

ص: 170


1- الوحي المحمدي، رشيد رضا،ص 71 ،تفسير المنار، ج11، ص 163-164.

على مرّ التاريخ ؛ إذ عدّوا أقوال الأنبياء«أضغاث أحلام»(1)،أو«ثمرة الجنون»(2).نعم؛لا تخلو مراحل التاريخ من مصلحين،كانوا يتمتّعون بهمم عالية، ونيّات بارّة، سعوا لإنقاذ الناس؛ لكنّهم لم يقدّموا معارف وبرامج شاملة وعالمية مثل الأنبياء. ولم تكن أطروحاتهم بشمولية تعم الجسد والروح، والظاهر والباطن، والمادة والمعنى، والدنيا والآخرة، والملك والملكوت؛ والحال أنّ برامج الأنبياء كانت تتمتع بمثل هذه الشمولية. ومن البيّن أنّ هذه الخصوصية تدلّ على هذا النوع من البرامج لا يمكن أن يصدر إلا عن العلم الإلهي وحكمته؛ فلو لم يكن الوحي الإلهي واقعياً، وكان مجرد أوهام اعترت الأنبياء، لكان لابد لهم من الخروج من تلك الأوهام ومعرفتهم بالخطأ يوماً ما.

وقد بيّن اللّه عَزَّ وَجَلَّ في القرآن الكريم كون الكلام النبوي وحيانياً وإلهيّاً وقال:

مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى 2 وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(3).

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رَأَى 11 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(4).

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى 17 لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(5).

وهذه الآيات تنفي - بصراحة - أيّ ضرب من ضروب احتمال الخطأ في المقال والمعرفة النبويّة ، وتفنّد فرضيّة«الوحي النفسي».

3/2/16. عبقرية بشرية:

ذهب بعضهم إلى أنّ الوحي النبويّ من سنخ العبقريّة، فعدّوا الأنبياء من زمرة

ص: 171


1- (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ﴾ سورة الأنبياء: 5.
2- (كَذَلِكَ مَا أَتيَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) سورة الذاريات: 52.
3- سورة النجم : 52.
4- سورة النجم : 11-12.
5- سورة النجم : 17-18.

عباقرة البشر الذين تألقوا في الإدارة ومجالات الحياة الاجتماعية والتربوية؛فلم يكن لوحيهم مصدر خارجيّ، بل كان وليد عبقريتهم الذاتية. أما «جبرئيل» فهو روحهم الطاهرة، وأمّا الكتب السماويّة فهي تشريعات و معارف جادت بها قريحتهم الفكرية ودهائهم الذاتيّ.

وعلى سبيل المثال:كان عالم الدين والمصلح الهندي السيد أحمد خان الهندي (1898م) يرى أنّ النبوّة قوّة طبيعية خاصة كسائر قوى الإنسان ومواهبه التي تزدهر في الوقت المناسب، ويتفق أحياناً بأن يتمتع شخص ما بقوّة ومواهب كاملة بحيث يعده الناس عبقريّاً في ذلك المجال الخاصّ. فمن كانت له هذه القدرات الطبيعيّة الخارقة في معالجة الأمراض الروحيّة واستطاع بثّ روح جديدة في الجسد الأخلاقيّ للبشريّة سمّي نبيّاً. وعندما نضجت ثمرة هذه الموهبة الطبيعية، شعر النبي أنه قد بعث، ليكشف للناس عن رسالته الجديدة لتهذيب الأخلاق والروح. وإنّ الاختلاف بين الأنبياء وسائر العباقرة هو نتاج الاختلاف بين المجالات التي يعملون فيها. فالأنبياء شفاء للأرواح، وينحصر واجبهم في تقديم توجيه جديد لحياة الناس الروحية والأخلاقية(1).

هذه النظريّة أيضاً غير تامّة؛ لأنّ العباقرة على الرغم من شبههم بالأنبياء من حيث الامتياز والتفوّق على سائر أفراد البشر ، إلا أنّ بينهم وبين الأنبياء اختلافات أساسيّة تنتقض بها فرضيّة تحليل الوحي النبوي على أنه نوع من العبقرية ! فالأنبياء يمتازون بخصوصيّة العصمة العلميّة والعمليّة؛ في حين يفتقدها عباقرة البشر؛ فهؤلاء ليسوا مبرئين عن الخطأ العلميّ والعمليّ.

لقد صرّح الأنبياء - بوعي كامل - أنّ ما قدّموه من معارف وأوامر لهداية البشر ليس نابعاً من أفكارهم وعبقريّتهم؛ وإنّما صادر عن عالم الغيب والمشيئة والعلم الإلهيّين. كما لا يتطابق تفسير الوحي النبوي بالعبقرية مع مسألة ختم النبوّة؛ فلا معنى للخاتمية

ص: 172


1- تاريخ الفلسفة في الإسلام (بالفارسیة:تاریخ فلسفه در اسلام)،شریف، ج4، ص206-207، نقلًا عن تفسير القرآن، تأليف: السيد أحمد خان، ج1، ص32-35.

فی العبقريّة. ولا يمكن تفسير عمق ونطاق المعارف والمفاهيم الوحيانية مع العبقریّةالبشريّة؛ فالتنبؤ بأحداث المستقبل والتقارير التفصيليّة والدقيقة عن أحداث الماضي وأحداث عالم ما بعد الموت ( عالم البرزخ والقيامة)، والقوانين الأخلاقية والمدنية والعبادية والجنائية الشاملة - كما ورد في القرآن الكريم والروايات الإسلامية - لا يمكن تفسيره بالعبقرية البشريّة بأية حال(1).

4/2/16.التجربة الدينية:

استخدم فلاسفة غربيون مثل : شلاير ماخر (1834م) وبول تيليخ (1965م) وويليم جيمس تعبير «التجربة الدينيّة»، وذهبوا إلى أنّ الدين يعني تحقّق التجربة الدينيّة، وفسّروا هذه التجربة بأنها علاقة مع الموجود المطلق. وكما تقدّم في أبحاث معرفة الدين، فقد فسّرت التجربة الدينية بمعانٍ مختلفة من الإدراك والشعور والحقيقة غير القابلة للتفسير. وعدّ بعض التنويرييّن الإيرانيّين المعاصرين حقيقة الوحي النبويّ بأنها نوع من التجربة الدينية، ونسبوا للوحي النبويّ خصائص التجربة الدينيّة. وخلصوا إلى القول: كما أنّ التجربة الدينية ليست خالصة، وتتكوّن من دوافع باطنية ونفسية للإنسان، وعوامل خارجية من المجتمع تتوفّر مضامينها منها، فإنّ الوحي النبوي - كذلك - متأثر بثقافة عصره، والحالات الشخصية للنبي !

لكنّ إدراج الدين تحت مسمّى التجربة الدينية لا يتلاءم مع حقيقة الوحي؛ لأنّ الوحي من سنخ العلم الحضوري، وهو أكمل صوره؛ فهو عبارة عن مشاهدة الحقيقة التي يتقوّم بها وجود الإنسان، والإنسان يجد بالعلم الحضوري الخالص مقوّم وجوده (أي: اللّه وكلامه)كما يجد نفسه.والوحي هو الوجدان؛ لأنّ النبي عندما كان يتلقى الوحي بوجدانه، كان موقناً بأنّ ما وجده هو الوحی.ولذلک،فانّ الوحی ليس من سنخ التجربة الدينية؛ ليحتاج إلى مشاهدات متكرّرة.

ص: 173


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج10، ص 223.

قال الإمام الصادق في جواب من سأله عن كيفية معرفة الأنبياء بأنّ ما يجدونه وحي:«يُوفُقُ لذلك حَتَّى يَعْرِفَهُ»(1).

وهذا يعني أن التوفيق الإلهي يرافق الأنبياء؛ فكما أنّ الإنسان يجد نفسه في نشأة الشهود بحيث لا يحتمل الخطأ، فإنّه يجد الكلام الإلهي كذلك، بحيث لا يشكّ فيه أبداً؛ لأنّ إدراك الإنسان للوحي أسمى وأعلى من إدراكه لنفسه. فالرسول الأكرم يتلقّى الوحي من موطن «لدن» كما ورد في قوله تعالى:

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(2).

وهو موطن لا يقبل الشكّ و لا الريب؛ لأنّ الشكّ والخطأ يكون حيث يوجد حق وباطل، وعندما لا يعرف الإنسان الحق من الباطل في ما يجده، ولكن حيث لا مجال للباطل، لن يكون مجال للشك ولا للخطأ والاشتباه.

وعدم احتمال الباطل في أمر الوحي، صادق في ثلاث مراحل:

أوّلاً: التلقي؛ قال تعا الى : وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(3).

ثانياً: الحفظ؛ قال تعالى : سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى(4).

ثالثاً: الإبلاغ قال تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(5)»(6).

فالوحي النبويّ نوع من المقابلة مع اللّه تعالى؛ لا من سنخ التجربة الدينية؛لأنّ الوحي النبوي مرئي ومسموع. فمعارف الدين ألقيت من قبل اللّه إلى الرسول -

ص: 174


1- أصول الكافي، ج2، ص 177.
2- سورة النمل: 6.
3- سورة النمل: 6.
4- سورة الأعلى: 6.
5- سورة النجم : 3و4.
6- معرفة الدين (بالفارسية:دين شناسي)، ص 241-243.

بتوسط ملك الوحي، أو بنحو مباشر - وسمعها الرسول بمسامع باطنه، وقد شاهد النبي الملك بعين باطنه؛ فعند تلقّي الوحي والأحكام والمعارف، يوجد تواصل كلاميّ ولساني بين اللّه ورسوله .ورسوله والوحي النبوي ترافقه العصمة، فهو لا يحتمل الخطأ،في حين لا تكون التجربة الدينيّة بريئة من الخطأ؛ لأنّ الافتراضات والعقائد والخلفيات الفكريّة الخاصة لصاحب التجربة تؤثر فيها، وتعرقل مصداقيتها. كما أنّ الكشف العرفاني للعرفاء كذلك ليس معصوماً من الخطأ، وتدخّلات الشيطان، وهو محتاج إلى ميزان و معيار مثله في ذلك مثل العقل القطعي، أو النقل المعصوم.

والنبيّ في مسألة الوحي ليس إلا قابلاً ومتلقياً للوحي؛ وليس فاعلاً وخالقاً له، ودعوى أنّ الوحي نابع من باطن الرسول، وأنّ جبرئيل هو عقله، الرسول وليس شخصيّة خارجة عن وجوده؛ ليست فقط تواجه مشكلة عقليّة في جهة اتحاد القابل والفاعل؛ بل تتناقض مع صريح الآيات القرآنية أيضاً؛ لأنّها تدلّ على أنّ النبي قابل لمضمون الوحى وألفاظه، وأنّ هناك كائناً يستقل وجوده عن وجود الرسول بعنوان ملك الوحي المأمور بإبلاغ مضمون الوحي ولفظه من قبل اللّه إلى الرسول(1).

ولأجل رفع الاستغراب والوهم الباطل حول بعثة الله للأنبياء، يقول سبحانه:

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 163 وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا 164 رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاً يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

ص: 175


1- الآيات الدالة على دور القابل بالنسبة إلى الرسول في تلقّي الوحي ودور الفاعل بالنسبة إلى اللّه سبحانه في إنزال الوحي هي: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٌّ مُبِينٍ (الشعراء -192-195)؛ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (يوسف 2-1) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا .(الشورى 7)؛قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.(النحل 102)؛.قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ . (البقرة 97)؛ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (مريم 64).

165 لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا 166 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالًا بَعِيدًا(1).

3/16. تحدّيات عصمة الأنبياء:

لقد أثبتت الأدلّة القرآنية والروائية عصمة الأنبياء بنحو لا غبار عليه. وينبغي هنا الإجابة والردّ على الأسئلة والشبهات التي أوردوها على عصمة بعض الأنبياء.

وقد قام علماء مسلمون؛ مثل : السيّد المرتضى (436ه) والفخر الرازي (606ه) في مواجهة تحدّيات عصمة الأنبياء بتأليف كتب مثل :«تنزيه الأنبياء وعصمة الأنبياء»،دافعوا بها عن ساحة الأنبياء الإلهيّين.

وهنا نقدّم موجزاً عن أهمّ تحدّيات عصمة الأنبياء بعد بحث النبوّة العامة والخاصة(2).

1/3/16 .شبهة عصمة آدم:

أحد الشبهات التي ترد على عصمة الأنبياء اقتراب نبي الله آدم من الشجرة الممنوعة على الرغم من النهي الإلهي؛ حيث قال تعالى:

وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(3).

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ(4).

ص: 176


1- سورة نساء 163-167.
2- استفدنا في استعراض تحدّيات عصمة الأنبياء من كتابات محمد امین صادقي ارزگاني،بعنوان: أسئلة وردود حول العصمة (بالفارسیة:پرسشها و پاسخهايي درباره عصمت)،بإشراف عبدالحسین خسروبناه.
3- سورة البقرة 35،سورة الأعراف 19.
4- سورة البقرة 36.

فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ(1).

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ(2).

قَالاً رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(3).

وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(4).

والجواب:

أولاً : أنّ النهي الوارد في هذه الآيات نهي إرشادي؛ لا مولوي نسبة إلى تداعيات الحياة لآدم وحوّاء؛ مثل: الجوع،والعطش، والعريّ، وغيرها؛ لأنّ اللّه سبحانه يقول: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى *إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَطْمَقُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى(5).

ثانياً: العالم الذي كان يعيش فيه آدم وحوّاء لم يكن عالم التكليف ليشتمل على تشريع إلهيّ ،ثمّ تنتفي عصمة الرسول بمخالفة ذلك التشريع(6).

ثالثاً: أنّ وسوسة الشيطان كانت تختلف بالنسبة إلى آدم عن سائر وساوسه؛ لأنّ وساوس الشيطان بالنسبة إلى الناس هي الرسوخ في أنفسهم؛ كما قال تعالى: (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)(7).

ص: 177


1- سورة الأعراف 22.
2- سورة طه 120.
3- سورة الأعراف 23.
4- سورة طه 121.
5- سورة طه 117.
6- مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 73 و 75. عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 91 ؛الميزان، ج 14، ص 220، ج 1، ص 145.
7- سورة الناس 5.

في حين نجد القرآن الكريم قد عبّر عن وسوسته لآدم ب«إلى»؛ أي إنّ الشيطان اقترب إلى آدم ؛ لكنّه لم ينفذ في قلبه ليتناقض ذلك مع عصمته.

* رابعاً: أن آدم اعترف بظلمه؛ ولكن ليس كلّ ظلم ذنب؛ لأنّ الظلم يعني العمل غير العادل، وما وضع في غير موضعه؛ سواء أكان ذنباً أم لم يكن.

*خامساً : أنّ مفردتي«عصى» و«غوى» وإن كانتا تستعملان في العربية المعاصرة بمعنى الذنب؛ لكن معناهما في عصر نزول القرآن الكريم كان أوسع مما هو عليه الآن؛ فمفردة «عصى» تعني خلاف الطاعة، ولا تنحصر بالذنب ومفردة «غوى»كذلك تعني في العربيّة الخسارة والضياع والضلالة وما شاكل ذلك، ولا تتلازم أي من هذه المعاني مع الذنب. كما أنّ مفردة الغفران تعني الستر؛ وطلب الستر لا يعني دائماً طلب الستر على الذنب. فآدم إنّما طلب من اللّه سبحانه ستر النقص الذي عرض له بسبب عدم امتثال الأمر الإرشادي(1)؛ فلا ينافي إذن تخلّف آدم عن أمر اللّه الإرشادي مع عصمته.

2/3/16. شبهة عصمة نوح.

الشبهة الأخرى تتعلّق بطلب نبيّ اللّه نوح لنجاة ابنه المذنب.

قال نوح للّه سبحانه: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)(2).

فردّ اللّه عليه بالقول: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )(3).

ص: 178


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج5، ص 67-89.والمصدر نفسه، ج11، ص 89. شرح وتفسير مثنوي،محمّدتقي جعفري، ج13، ص191. وكذلك يمكن مراجعة المصادر التالية:معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج4 و5، دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقايد)،محمد تقي مصباح ،ج2، ص 175 ؛دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية آموزش عقايد)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص 87؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني، ص94؛ شرح نهج البلاغة،محمّد تقي جعفري، ج2، ص172؛ الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص 246 ؛الميزان،ج 14، ص 220، وج6، ص264.
2- سورة هود 45.
3- سورة هود 46.

وقال تعالى:فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ»(1).

هذه الشبهة أيضاً لا تنفي عصمة نوح.والحوار الذي دار بين اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبين نوح،كالحوار الذي دار بينه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبين الملائكة حول خلقة آدم هو نوع من الاستفسار حول مصير ابن نوح. فنوح لما أخذ أهله معه في السفينة خاطب ابنه قائلاً:

يا بُنَيَّ اركب مَعَنَا ولا تَكُن مَعَ الكَافِرِينَ(2).

وهذا يبيّن أنّ ابنه لم يظهر كفره حتى ذلك الحين، وأنّ اللّه يخبر نوحاً بعدم صلاح ابنه بالتعبير المتقدّم. وبناءً على ذلك، لا يتنافى طلب نوح مع عصمته(3)؛ فدعاء نوح لا يعني الزلل؛ لأنّ التوبة وطلب الغفران في كلام المعصومين لا تعني الاعتذار من الذنب، وإنّما نوع من السلوك إلى اللّه تعالى(4).

3/3/16. شبهة عصمة إبراهيم :

من ضمن الشبهات المطروحة في هذا السياق قضيّة نبي اللّه إبراهيم، ومناظرته للكفّار؛ حيث قال اللّه تعالى نقلاً عن إبراهيم :

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِعًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(5).

ص: 179


1- سورة هود 46.
2- سورة هود 42.
3- الأنبياء في القرآن الكريم،سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج6، ص 274،الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج 3، ص 250.
4- مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص90. وكذلك يراجع المصدر نفسه، ج11، ص 147؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، الجوادي الآملي، ص 114؛الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص 247؛ الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص232؛ شرح وتفسير مثنوي،محمدتقي جعفري،ج 7، ص 147؛ المیزان، ج 6، ص 266.
5- سورة الأنعام 76-78

والجواب أنّ نبي اللّه إبراهيم قام في هذه القضيّة في مقام المناظرة والجدل ببيان الفروض المختلفة ونقدها. قال السيّد المرتضى (436ه):إنّه لم يقل ذلك مخبراً، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمل.

وقد قال الإمام الصادق:«لم يكن من إبراهيم شرك، وانما كان في طلب ربه وهو من غيره شرك»، كما قال الإمام الباقر :«(وعندما قال إبراهيم (هذا ربيّ) إنّما كان طالباً لربّه (كما إذا أكمل أحد علمه ومعرفته بواسطة التأمل والتفكر في الآيات الإلهية وتحليلها).

وأضاف السيد المرتضى (436ه) : ان ابراهيم .لم يقل ما تضمنته الآيات على طريق الشكّ، ... وإنّما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه، والتنبيه لهم على أنّ ما يغيب ويأفل لا يجوز أن يكون إلهاً معبوداً(1).

بمعنى أنه كان بصدد هداية قومه، وفكهم من عبادة الأجرام السماوية، فجاراهم في منطقهم، وناظرهم من خلال تعظيم نقاط الضعف في آلهتهم؛ فلا ينبغي عدّ كلام إبراهيم حيث قال :

بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْتَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُون(2).

من توهّم الكذب؛ لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه. وغاية إبراهيم هي بيان حقيقة أخرى وكشف خطأ الناس. وكلام إبراهيم مشروط، فينتفي المشروط بانتفاء الشرط(3). لكنّ تعبيره ب إني سَقِيمٌ(4)جاء فی جواب طلب الكفّار منه الخروج من المدينة، وهو لا يتنافى مع عصمته ؛فربّما كان سقيماً حقاً(5).

ص: 180


1- عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني، ص 125-128.
2- سورة الأنبياء 55.
3- عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،جعفر سبحاني، ص129.
4- سورة الصافات 85.
5- المصدر نفسه، ص 132 ، المیزان، ج 17، ص 148.

4/3/16.شبهة عصمة يونس:

الشبهة الأخرى تتعلّق بنبيّ اللّه يونس؛حيث قال تعالى :

وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(1).

فتوهّم بعضهم أنّ بعض التعابير-مثل:(مغاضباً)،و( فظنّ أن لن نقدر عليه)،و(إنّي كنت من الظالمين)- لا تتلاءم مع عصمة النبي.

والجواب:

*أوّلاً: أنّ غضب يونس كان على قومه؛ وليس على اللّه سبحانه، ليتنافى ذلك مع عصمته .

*ثانياً: أنّ تركه لقومه لم يكن خلاف التشريع الإلهيّ؛ وإن كان الأجدر به أن يصبر على الصعوبات، وأن يتحمل تبعاتها. فإذن ما فعله يونس هو ترك الأولى الذي لا يتنافى مع عصمته.

ثالثاً : أنّ مفردة الظلم التي ورد على لسانه تعني العمل الذي ليس في محلّه؛ وليس بمعنى الذنب(2).

5/3/16.شبهة عصمة موسى:

الشبهة الأخرى تخص قضية قتل القبطي على يد النبي موسى . قال تعالى: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلُّ مُّبِينٌ(3).فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّين(4).

ص: 181


1- سورة الأنبياء 87.
2- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 150 ؛ج 12، ص326؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص193؛ الميزان،ج 17، ص165؛ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 7، ص 300و302.
3- سورة القصص 15.
4- سورة الشعراء 20.

والجواب:

أوّلاً: أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وصف موسى:وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(1).

فأفعال موسى تقوم على أساس من العلم والحكمة(2).

ثانياً : أن عبارة ( هذا من عمل الشيطان)إمّا ناظرة إلى النزاع بين القبطيّ وشخص من بني إسرائيل ؛ ولا علاقة له بقتل موسى للقبطي(3). وإما ناظرة إلى تداعيات قتله؛ لأنه عبّر عن النزاع وقتل القبطيّ بأنّه في غير محلّه،وعمل متسرّع يؤدّي إلى تأجيل غاية موسى ورسالته الرئيسيّة في إزالة الطاغوت(4).وعليه:فإنّ موسى اعتذر من اللّه سبحانه بقوله :رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي(5).

6/3/16 .شبهة عصمة يوسف:

وردت شبهة أخرى بالنسبة إلى نبي اللّه يوسف.وقد ورد في القرآن الكريم إشارات تخصّ دعوة زليخا يوسف إلى نفسها؛ حيث قال تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(6).

وقد توهّم بعضهم نتيجة تعبير (وهمّ بها)أن نبي اللّه يوسف همّ بالذنب كماهمّت به زلیخا؛ لكنّ برهان الربّ صرفه عن ذلك!

ص: 182


1- سورة القصص 20.
2- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج5، ص114.
3- المصدر نفسه ص 116.
4- الميزان، ج16، ص18.
5- منشور جاوید، ج 5، ص 117؛ الميزان ج 16 ، ص 19؛ القصص 16.
6- سورة يوسف 24.

والجواب:

أنّ (لولا) حرف امتناع وجود، ومحتاج إلى جواب لم يأت في ظاهر الآية وهو مقدّر، وبما أنّ جملة (همّ بها ) مقدّمة على حرف ( لولا ) فلا يمكن اعتبارها جواباً؛ فلا يمكن تقديم جواب لولا عليه بناء على قواعد اللغة العربية . والجملة تكون في الحقيقة هكذا : لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا ، وبما أنه رأى دليل ربّه وبرهانه لم يذهب بل حتى لم يعزم على الذنب ولم يفكّر به. وقد تجلّى هذا البرهان في ضوء عصمة يوسف . قال الإمام الرضا .في تفسير هذه الآية :

«إنّ يوسف كان معصوماً والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه».

وإنّ سورة يوسف المباركة تؤكّد على طهارة يوسف وعصمته ونزاهته وعفّته البالغة وصدقه وصبره وصفحه وإيثاره وعظمته، وتعرّفه قدوة لأفضل الناس ومن جملة عباد اللّه المخلصين الذين لا يجرؤ الشيطان على الدنو منهم أبداً(1).

7/3/16. شبهة عصمة سليمان :

هناك شبهة تحوم حول فوات صلاة نبي اللّه سليمان؛فالقصة تقول: عندما كان سليمان منشغلاً باستعراض جياده وغفل عن الصلاة، أمر الملائكة بإرجاع الشمس، وصلّى، وضرب عنق جياده. وقد ورد ذكر لهذه الحادثة في بعض كتب قصص الأنبياء؛ وهي بعيدة عن الواقع؛ لأنّ القرآن يحكي هذه القضيّة كما يأتي: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ 32 فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ 33 رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ(2).

ص: 183


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج5، ص99؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،جعفر سبحاني، ص 136؛112؛ الميزان، ج 11، ص 131 و 127؛ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 7، ص 64؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ص18؛ معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمد تقي مصباح، ج 4 و5، ص 169.
2- سورة ص 31 و 32 و 33.

والملاحظات التي نسجّلها هنا :

أولاً : لا يوجد في هذه الآية أي دلالة على القصّة المحرّفة المتقدمة في فوات صلاة نبي اللّه سليمان.

ثانياً: تتنافى تلك القصّة مع الصفة التي ذكرها القرآن الكريم لسليمان ؛

حيث نصّ على أنّه «أوّاب». قال اللّه تعالى:

(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(1).

ثالثاً : إنّ سليمان قال : أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي(2)بمعنى أنّ حبّي للجياد هو في الواقع حبّ الخير ؛ لأنّ الجياد وسيلة لمجاهدة أعداء الدين وخدمة الخلق.

رابعاً: إنّ الفتنة الإلهية لسليمان كانت حين ألقى على كرسيه جسداً، فأناب سليمان إلى ربّه(3). وهذا الاختبار - أيضاً - لا ينافي عصمة سليمان. كما أنّ طلبه من بأن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد في الآية : وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي .(4)لا يعني البخل ؛ وإنّما المعنى هو إعطاء سليمان ملكاً لا ينبغي لغير المعصوم في بلاده(5).

8/3/16. شبهة عصمة داوود:

وردت شبهة أخرى تتعلّق بما أطلق عليه «القضاء غير العادل لنبي اللّه داوود »؛ فقد استمع إلى أحد المتخاصمين دون الآخر، ثمّ قضى. قال اللّه سبحانه:

ص: 184


1- سورة ص 30.
2- سورة ص 32.
3- سورة ص 34(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ).
4- سورة ص 35.
5- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 125 وج11، ص274؛ وج 12، ص 269؛عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني، ص234 و172 ؛ الميزان، ج 17، ص202 ؛سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 7، ص 268؛ الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 3، ص 266.

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ 21 إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصَّرَاطِ 22 إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ يَسْعُ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلي نَعْجَةٌ وَاحِدَةً فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّني في الخطاب 23 قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ(1).

والجواب:

أوّلاً: أنّ حكم داوود كان معلقاً؛ وليس منجزاً و قطعياً؛ أي إنّه لو كان كما قال، فقد ظلمك أخوك.

ثانياً : أنّ بعض الروايات عدّت القضيّة تخاصماً ظاهرياً بين الملائكة؛ وهذا ليس له واقع خارجي.

ثالثاً : أَنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يثني على نبيه داوود قائلاً:

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(2).

وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(3).

وبناءً على ذلك، فإنّ داوود لا يقضي ظلماً بما له من مقام إلهي رفيع(4).

9/3/16.شبهة عصمة أيوب:

الشبهة الأخرى هي مس الشيطان لأيوب النبيّ. قال اللّه سبحانه: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ.

ص: 185


1- سورة ص 21-24.
2- سورة ص17.
3- سورة ص 25.
4- سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي،ج 7 ؛ الوحي والنبوة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص 262؛ص 240 ؛ص 243؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص167 ،ص 167؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)،السبحاني، ج 12، ص 256؛ الميزان، ج 17، ص 189 و 201؛ معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسیة:معارف قرآن، راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5 ، ص 175؛ مجموعة آثار،مرتضى المطهري، ج16، ص124.

وهذا أيضاً لا يتعارض مع العصمة؛ لأنه :

أوّلاً:كان مراد أيوب من مسّ الشيطان،وسوسته للناس؛لابتعادهم عن أيوب ممّا أدى إلى الطعن فيه والاستهانة والاستهزاء به(1).

ثانياً: لا مجال لولوج الشيطان في عقل الأنبياء النظري والعمليّ؛ ولكن بإمكانه التصرف في أجسادهم، فنسبة بعض الأمراض الجسديّة إلى الشيطان لا ينافي عصمة الأنبياء(2).

ثالثاً: ليس المراد من مسّ الشيطان هو اقتراف الذنب من قبل أيوب؛ بل إن معنى عبارة (مسّني الشيطان) هو (مسني الضرّ ) الوارد في سورة أنبياء حول أيوب. والمقصود من العذاب ليس العقاب الإلهيّ؛ وإنّما هو النصب الذي عاناه أيوب من قومه(3).

10/3/16 .شبهة عصمة زكريا :

الشبهة الأخرى تحوم حول طلب نبي اللّه زكريا آية من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ حين بشّره اللّه بالذرية؛ فطلب هذه الآية يعني الشكّ في الوعد الإلهي ! قال الله سبحانه:

قَالَ رَبِّ اجْعَل لَّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلَّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْرًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ .(4)

والجواب:

ما أراده زكريّا من طلب الآية هو تحقق بشارة الذريّة على كبر سنّه، وأن يزيل اللّه قلقه حول ذلك(5).

ص: 186


1- الميزان، ج 17، ص 220.
2- الميزان، ج 17، ص221 ؛سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 7، ص75.
3- عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني،ص 187؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج12، ص313.
4- سورة آل عمران 41.
5- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 3،ص 273؛المرأة في مرآة الجلال والجمال (بالفارسیة: زن در آیینه جلال و جمال)،الجوادي الآملي،ص148،مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج12، ص 340.

11/3/16.شبهة عصمة النبي الخاتم:

استعرض بعضهم شبهة أخرى حول عصمة النبي الأكرم ؛وهي ترتبط بما ورد في قوله تعالى بخصوص الرسول الأعظم :لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا(1).

والجواب:

أنّ الآية المباركة ليست في صدد إثبات ذنب للنبي ؛ لأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ في الآية السابقة:إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا(2).

والعلاقة بين الفتح المبين ومغفرة الذنب تهدينا إلى أنّ المراد من الذنب في الآية المباركة هو الذنب من وجهة نظر المشركين الذين كانوا يعدّون الرسول مذنباً.

قال الإمام الرضا:

«لأَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ وَ خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَكَّةَ وَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَمْ يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ عَلَيْهِ إِذَا دَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ فَصَارَ ذَنْبُهُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَغْفُوراً بظهوره عَلَيْهِمْ»(3).

والآية الأخرى قوله تعالى:عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(4).

فظاهر الآية هو مخاطبة النبيّ ومعاتبته؛ ولكن حسب تعبير الإمام الرضا فالآية من باب(إيّاك أعني واسمعي يا جارة)؛ فخطاب الآية موجّه لأمة الرسول.

ص: 187


1- سورة الفتح 2.
2- سورة الفتح 1.
3- الميزان،ج 18، ص 273 ؛الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي،ج 3، ص274؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني ص 220؛ معارف القرآن مباحث السبيل والدليل (بالفارسية: معارف قرآن راه وراهنما شناسي)، محمد تقي مصباح، ج 4 و 5 ، ص180؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)، محمّد تقي مصباح، ج2، ص 187.
4- سورة التوبة 43.

وهناك آيات قرآنية أخرى تخاطب النبي في الظاهر؛ ولكن المقصود منها هو الأمة، فلا تناقض هذه الآيات عصمة النبي(1).

أضف إلى ذلك أنّ الآية تشتمل على مدح لطيف؛ وليس عتاباً حقيقياً فهي تبيّن مدى الرأفة النبوية ، فلا تنافي العصمة إذن(2).

أما الآية الكريمة التي تقول:وَوَجَدَكَ ضَالَّا فَهَدَى(3)،فهي لاتعني ضلال النبيّ في فترة صباه؛ وإنما(الضالّ) - حسب ما نقل من كلام الإمام الرضا - : أنّك كنت مجهولاً بين الناس، ولم يعرف منزلتك وعظمتك أحد، فهدى الله الناس إليك، فعرفك الجميع، وعرفوا عظيم قدرك(4).

والآية الأخرى في هذا السياق قوله تعالى :

عَبَسَ وَتَوَلَّى 1 أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى 2 وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزكَى 3 أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى 4 أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى 5 فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى 6 وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَكَى 7 وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى 8 وَهُوَ يَخْشَى 9 فَأَنتَ عَنْهُ تَلَقَّى(5).

قيل: إنّها نزلت في قضيّة ابن أم مكتوم ؛ الرجل الأعمى الذي حضر عند النبيّ عندما كان في حوار مع كبار قريش، فأهمله النبي حسب هذه الرواية .

والجواب:

أنّ الآية لا تعاتب النبي ؛ فهو خير مطلق، ولم يعبس وجهه لصديق أو عدوّ ،

ص: 188


1- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 3، ص276 ؛ الميزان، ج 9، ص 300، ج 6، ص 363.
2- معارف القرآن، مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمّدتقي مصباح، ج4 و5، ص182؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية : آموزش عقايد)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص182.
3- سورة الضحى 7.
4- الوحى والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي،ج 3 ،ص 278؛مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج6، ص 90 الميزان، ج 20، ص 310.
5- سورة عبس 1-10.

قط، وكان يعاشر الناس معاشرة حسنة، وكما عبّر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنه :وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(1).

قال الإمام الصادق :«نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ ، فَجَاءَ ابْنُ أُمَّ مَكْتُوم، فَلَمَّا رَآهُ تَقَذَرَ مِنْهُ وَ جَمَعَ نَفْسَهُ وَ عَبَسَ وَ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْهُ، فَحَكَى اللهُسُبْحَانَهُ ذَلِكَ وَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ»(2).

أما فيما يخص قوله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَيَّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(3).

فالشبهة التي قد تخطر بالبال تحوم حول كيفية إمكان تدخل للشيطان في أمنية الأنبياء الخلّص؛ فالقرآن الكريم يصرح بانعدام أي سلطان أو نفوذ له على المخلصين، ومعلوم أنّ الأنبياء الإلهيّين هم المخلصون؛ فيكون المقصود - إذن - محاولة الشيطان لوسوسة الناس لعدم استجابة دعوة الأنبياء كي لا تتحقق أمنية الأنبياء في هداية الناس.

ويجدر بالذكر أنّ بعض مؤلّفي أهل السنّة اعتبروا بأنّ الآية نزلت في أسطورة الغرانيق وأسطورة الغرانيق أو الآيات الشيطانية أقصوصة كاذبة من نسج خيال القصاصين؛ مفادها أنهم قالوا:

إنّ رسول اللّه لما رأى من قومه ما شق عليه من مباعدة ما جاءهم به من اللّه تمنى في نفسه أن يأتيه من اللّه ما يقارب بينه وبين قومه،...حتى حدثت بذلك نفسه وتمناه وأحبه ، فانزل اللّه عليه :

ص: 189


1- سورة القلم 4.
2- الميزان،العلّامة الطباطبائي، ج20، ص 203؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص229.
3- سورة الحج 53.

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى 1 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى 2 وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيَّ يُوحَى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ... .

فلما انتهى إلى قوله :

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19 وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ....

ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدّث به نفسه ويتمنّى أن يأتي به قومه : (تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ ترتجي)وتابع السورة ، فلمّا سمعت ذلك قريش فرحوا وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، ومدوا له يد الأخوّة. وبلغ خبر السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول اللّه وعادوا إلى مكة، وعاشوا مع المشركين إخواناً. فلما أمسى أتاه جبرائيل فطلب من أن عرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال جبرائيل أسكت، ما هذا الذي جرى على لسانك، فعرف رسول اللّه بخطئه وأنّه انخدع بإبليس، فاشتدّ حزنه وملّ الحياة وقال : «عجباً، افتريت على اللّه وقلت على اللّه ما لم يقل، آه ما أعظم الخطب»(1).

وحسب بعض الروايات، فإنّ رسول اللّه قال لجبرئيل :

«إنّه أتاني آتٍ على صورتك فألقاها على لساني»، فقال جبرئيل: «معاذ اللّه أن أكون أقرأتك هذا». فاشتدّ حزن النبي . وقيل : فنزلت فيه هذه الآية: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لا تَخَذُوكَ خَلِيلًا 73 وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.(2)وقد زادت هذه على حزن الرسول أكثر من قبل، فما زال مغموماً محزوناً حتى شملته العناية الإلهية وأنزل الله يطيب نفسه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيَّ إِلَّا

ص: 190


1- وهذا مما يدلّ على اصطناع الأسطورة وكذبها؛ فكيف يمكن إيصال النبأ إلى مسلمي حبشة ورجوعهم إلى مكة في مدة يوم على الرغم من بعد المسير وأسباب السفر حينئذ.
2- سورة الإسراء 73-75.

إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(1)؛ فطابت نفسه وزال غمّه .(2)

وقد تناول العلامة الشيخ محمد هادي معرفة (2007م) دراسة أسانيد قصّة الغرانيق ومضمونها بعد نقلها، وقال:

«رفض جلّ المحققيّن المسلمين هذه الأسطورة واعتبروها خرافة». قال القاضي عياض: «هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنّما أولع به وبمثله المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كلّ صحيح وسقيم. وقال أبو بكر بن العربي:(كلّ ما يرويه الطبري في ذلك باطل لا أصل له).وصنّف محمّد بن إسحاق بن خزيمة رسالة، فنّد فيها هذا الحديث المفتعل ونسبه إلى وضع الزنادقة. كما أن تهافت الأسطورة وتشتتها يدلّان على اختلاقها، وإنّ الواضع لم يكن محترفاً لأنّ السورة تبدأ ب(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.فاللّه سبحانه أكّد في هذه الآيات على عدم ضلال النبيّ وغوائه ونطقه عن الهوى. كما صرح بأنّ ما يقوله الرسول وحي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. ولو قدر إبليس على التلبيس للزم منه تكذيب كلام الله وهذا مرفوض، كما أنّ الشيطان لن يغلب إرادة الله أبداً ف (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(3)و كَتَبَ الله لَأَغْلِبنَّ أَنَا وَرُسُلِ إِنَّ اللَّهِ قَوِيٌّ عَزِيزٌ .(4)والعزيز هو الذي لا يغلبه أحد . فكيف تكون الغلبة مع إبليس وهو الضعيف؟ يقول سبحانه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(5)وكذلك إِنَّ عِبَادِي

ص: 191


1- سورة الحج 52.
2- تفسير الطبري، ج 17، ص1313-134؛تاريخ الطبري، ج2، ص 75-78 ، الدرّ المنثور،جلال الدين السيوطي، ج4، ص 194، 366-368؛فتح الباري في شرح البخاري،ابن حجر العسقلاني، ج8،ص333.
3- سورة النساء 76.
4- سورة المجادلة 21.
5- سورة النحل 99 .

لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان.(1)فكما يقول الشيطان: وَمَا كَانَ لَي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي(2)؛ فكيف يكون له التسلّط على مشاعر النبيّ الأكرم ؟

والأمر الآخر هو أنّ اللّه قد ضمن صيانة القرآن فقال:إِنَّا نَحْنُ نَزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(3)وأنّ القرآن لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَين يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(4)فالقرآن سيكون مصاناً من الأحداث على مرّ الزمان ولن يتمكّن أحد من التدخل فيه بزيادة أو نقصان.

وأضاف العلامة معرفة (2007م):

والآيتان المتقدّمتان لا علاقة لها بقصّة الغرانيق. فإنّ آية (فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ(5)بعد أن كانت تشير إلى أنّ أمنية صاحب كلّ شريعة أن تثمر جهوده وتتحقق أهدافه ومطالبه وتستقرّ كلمة اللّه في أرجاء المعمورة؛ ولكن الشيطان يسعى دائماً في الحؤول دون ذلك أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ(6)؛ولكن اللّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ(7)و إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(8)؛فمهما قام الشيطان بالدسائس وعرقل الطريق، أدمغه اللّه بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(9)،فَيَنسَخُ اللَّهِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ؛(10)وإنّ الآيات التالية وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا 73 وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدةً

ص: 192


1- سورة الإسراء 65.
2- سورة إبراهيم 22.
3- سورة الحجر 9.
4- سورة فصلت 42.
5- سورة الحج 52.
6- سورة الحج 52.
7- سورة المجادلة 21.
8- سورة النساء 76.
9- سورة الأنبياء 18 .
10- سورة الحج 52.

تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(1). باستخدامها حرف (لولا) لامتناع الوجود تبيّن مقام عصمة الأنبياء. ولو لم تشمل العصمة أنبياء الله كعناية إلهيّة لإنارة سبيلهم؛ لأمكن الزلل والانحراف إلى المبطلين. والعناية الإلهية هي التي تعمّ عباده الصالحين وتؤمنهم وساوس الشيطان ومكائده(2).

4/16. تحدّي صيانة القرآن:

يتّفق جميع العلماء المسلمين على أنّ القرآن الكريم مصان عن التحريف، وقد قدّموا إثباتات تدعم هذه الدعوى. وقد تبادر إلى الأذهان شبهة التحريف بواسطة بعض الروايات غير المعتبرة أو القابلة للتأويل من مصادر الشيعة وأهل السنة(3).

1/4/16. معاني التحريف:

التحريف - لغةً - يعود إلى الجذر (حرف)؛ وهو يعني الطرف والجانب. وتحريف الكلام صرفه عن مسير الطبيعي. والمسير الطبيعي لكل عبارة هو إفادتها لمعناها الحقيقي والمراد الواقعي، ويتحقق التحريف بانحرافها عن معناها الحقيقي.

فسّر الطبرسي آية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ (4)بمعنى خلاف ما أراده اللّه سبحانه(5).

ص: 193


1- سورة الإسراء 73-75.
2- محمد هادي معرفة،علوم القرآن،ص 27-31 ؛وكذلك يراجع:معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5، ص194؛ الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص282؛ سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم (بالفارسیة:سیره رسول اکرم در قرآن)،الجوادي الأملي، ج 9، ص 37؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج7، ص277؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني،ص203؛الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 14، ص 390 وج 19، ص 267؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمد تقی مصباح، ص 177؛ شرح وتفسير مثنوي،محمّدتقي جعفري، ج 2، ص 255؛ الأعمال الكاملة (بالفارسية)، مرتضى المطهري، ج16، و 129.
3- استفدنا في ترتيب مباحث تحدّي صيانة القرآن من كتاب علوم القرآن للعلامة محمد هادي معرفة.
4- سورة المائدة 13 ،سورة النساء 46.
5- يراجع تفسير الطبرسي، ج 2، ص 173؛(وقال الزمخشري أيضاً في تفسير هذه الآية: (أي يميلونها عن مواضعها)الكشاف، ج1، ص 516).

قال الإمام الباقر:«من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده»(1).

وقد عدّد العلامة معرفة سبعة معانٍ للتحريف المصطلح كما يأتي:

أوّلاً: التحريف في مدلول الكلام:أي التأويل الباطل والتفسير بالرأي؛ قال رسول اللّه:«من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(2).

ثانياً : تسجيل الآية أو السورة في المصحف على غير ترتيب النزول.

ثالثاً: اختلاف القراءات:بأن يخالف القراءة المشهورة.

رابعاً: اختلاف اللحن:أجاز النبيّ اختلاف الألحان وقال: «نزل القرآن على سبعة أحرف».

خامساً: استبدال المفردات: أي استبدال مفردة من القرآن بغيرها.

سادساً : الزيادة على القرآن:كما أنّ ابن مسعود كان يذكر بعض الكلمات تفسيراً للآية في خلالها ليبيّن المراد من الآية بنحو أفضل، كما أضاف في آية التبليغ عبارة «إنّ عليّاً مولى المؤمنين»وقرأ الآية هكذا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ - إن عليّا مولى المؤمنين - وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ(3).

سابعاً: التحريف بالنقص : اعتبر بعض«الحشوية»و«الأخبارية»(4)بأن القرآن كان أكثر مما هو عليه الآن وقد انتقص عن سهو أو خطأ أو عمد. ولكن أجمعت الأمة الإسلامية على صيانة القرآن من النقص(5).

ص: 194


1- الكافي، ج 8، ص53، الرقم 16.
2- غوالي اللئالي ،ج 4، ص 104، الرقم 154.
3- سورة المائدة 67.
4- الأخباريون في الماضي هم من اهتم بجمع الأخبار التأريخيّة؛ ولكنه يطلق منذ القرن الحادي عشر حتى الآن على جماعة من المحدثين المتساهلين في جمع الأحاديث الراوين لأي حديث عن أي أحد.
5- علوم قرآني،محمد هادي معرفة، ص 369-371.

2/4/16. آراء علماء الإمامية:

أكّد علماء الإماميّة في مكتوباتهم الفقهيّة والتفسيرية والكلامية على سلامة القرآن من التحريف. وصرّح بعض هذه الشخصيّات على ذلك؛ مثل: شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي(1)(460ه)،وأمين الإسلام الطبرسّي(2)(القرن السادس الهجريّ)،وأبي الفتوح الرازي(3)(القرن السادس الهجريّ)، والشيخ محمّد بن إدريس الحليّ (4)(598ه)، ومحمد بن الحسن الشيباني(5)(من علماء الشيعة في القرن السابع)،و كمال الدين الكاشفي(6)(القرن التاسع الهجريّ)،ومحمّد بن علّي النقيّ الشيبانيّ (7)(ق994ه)،والملّا فتح اللّه الكاشاني(8)(988ه) ،والشيخ أبي الفيض الناكوري(9)(1004ه)،والشيخ محمّد بن حسن الحارثي(10)المعروف بالشيخ البهائي (1030ه)،و محمّد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بصدر الدين الشيرازيّ(11)(1050ه)، والملّا عبداللّه الشبرونيّ الشهير بالفاضل التوني(12)(1071ه)، ومحمّد محسن المعروف بالفيض الكاشاني(13)(1091ه)،والشريف اللاهيجي(14)(حوالي 1097ه)،

ص: 195


1- البيان في تفسير القرآن،محمّد بن حسن الطوسي، ج6، ص320.
2- مجمع البيان في علوم القرآن،فضل بن حسن الطبرسي، ج 6، ص 509؛ وجوامع الجامع، ص236.
3- روض الجنان وروح الجنان،حسين بن علي الخزاعي (أبو الفتوح الرازي)، ج 1، ص 31.
4- المنتخب من تفسير القرآن والنكت المستخرجة من كتاب التبيان،ابن إدريس الحلّي، ج2، ص246.
5- نهج البيان عن كشف معاني القرآن،محمّد بن الحسن الشيباني، ج3، ص182.
6- المواهب العليّة، كمال الدين حسين الكاشفي، ج2، ص 336.
7- مختصر نهج البيان عن كشف معاني القرآن،محمّد بن علي نقي الشيباني، ص262.
8- منهج الصادقين في إلزام المخالفين،فتح اللّه الكاشاني، ج 5، ص154 ؛ وخلاصة منهج الصادقين، ج4، ص59.
9- سواطع الإلهام، أبو الفيض الناكوري، ج3، ص214.
10- يراجع: رسالة العروة الوثقى (تفسير سورة الحمد) محمد بن حسن الحارثي(الشيخ البهائي)، ص16، وآلاء الرحمن في تفسير القرآن،محمدجود البلاغي، ج1، ص26.
11- يراجع:تفسير القرآن الكريم، محمّد بن إبراهيم، ج5، ص 19.
12- يراجع:الوافية عن الأصول، عبدالله الشبروني، ص 148.
13- يراجع: تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 3، ص102؛ والأصفى في تفسير القرآن، ج1 ص626.
14- تفسير الشريف اللاهيجي، ج2، ص 658.

ونورالدين محمّد بن مرتضى الكاشاني(1)(1115ه)، ومحمّد بن محمّدرضا القمّي(2)(القرن الثاني عشر الهجري)،والشيخ جعفر الكبير(3)المعروف بكاشف الغطاء (1228ه)، والسيّد عبداللّه شبّر(4)(1242ه)،والسيّد حسين الكوهكمري(5)(1299ه)،والسيّد شرف الدين العاملي(6)(1381ه)،والسيد محسن أمين العاملي(7)(1371ه) ، والعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني(8)(1390ه، والعلّامة الطباطبائي(9)(1402ه)، والإمام الخميني،(10)وآية اللّه السيد أبو القاسم الخوئي،(11)وكثير من الباحثين القرآنيين من الإمامية في القرنين الماضيين(12).

كما نقل العلامة الشيخ محمد هادي معرفة (2007م) طرفاً من كلمات علماء الشيعة في مجال صيانة القرآن:

قال أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه الصدوق (381ه) في رسالة الاعتقادات :

«اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمّد هومابين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند

ص: 196


1- تفسير المعين، محمد بن مرتضى الكاشاني، ج 2، ص 650.
2- كنز الدقائق وبحر الغرائب محمّد بن محمّدرضا القمي، ج 7، ص104.
3- كشف الغطاء (كتاب القرآن)،الشيخ جعفر الكبير، ص229.
4- تفسير القرآن الكريم،السيد عبداللّه شبر، ص714.
5- التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف،السيّد على الحسيني الميلاني، ص 27.
6- الفصول المهمّة، السيد شرف الدين العاملي، ص163.
7- أعيان الشيعة، ج1، ص41.
8- الغدير،العلامة الأميني، ج 3، ص 101.
9- الميزان،العلامة الطباطبائي، ج12، ص 106-137.
10- كتاب تهذيب الأصول،الإمام الخميني، ج 2، ص 165 ؛ وأنوار الهداية في شرح كفاية الأصول، ج 1، ص 245.
11- البيان الخوئي، ص215-258.
12- يراجع:سلامة القرآن عن التحريف، فتح اللّه محمدي، ص 21.

الناس مائة وأربع عشرة سورة... ومن نسب إلينا أنا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب»(1).

قال محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد (413ه) في كتاب «أوائل المقالات»:

«وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة (إلّا) حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين من تأويله وتفسير معانيه».ثمّ قال:«وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان کَلِمٍ من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميلُ ... وأمّا الزيادة فيه فمقطوع على فسادها (وقد أجمع العلماء على ذلك)، ... فالوجه الذي أقطع على فساده أن يمكن لأحدٍ من الخلق زيادة مقدار سورة فيه ( ممّا يتنافى مع الإعجاز)، وأما زيادة الكلمة والكلمتين والحرف والحرفين وما أشبه ذلك (فهو مردود لعدم رجحانه)، (فالقرآن بريء عن أي زيادة) ومعي بذلك حديث عن الصادق جعفر بن محمّد»(2).

قال شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (460ه)في مقدمة تفسيره النفيس «التبيان»:

«أمّا الكلام في زيادته ونقصانه ( فمنتفي تماماً)،لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها.والنقصان منه،فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه،وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى،وهو الظاهر في الروايات»(3).

قال جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر العلّامة الحلّي (726ه) في «أجوبة المسائل المهنائية»في جواب السيد المهنا :

«الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه وانه لم يزد ولم ينقص. ومن نعوذ

ص: 197


1- يراجع:اعتقادات الإمامية مع شرح الباب الحادي عشر،للشيخ الصدوق، ص 93.
2- أوائل المقالات، ص54-56.
3- التبيان، ج1، المقدّمة، ص 3.

باللّه تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنه يوجب التطرق الى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر»(1).

قال العلامة الطباطبائي (1402ه) في هذا الشأن:

«ويدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي 9 من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن وفي حلّ عقد المشكلات. وكذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين... وكذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي وأئمّة أهل البيت الآمرة بعرض الأخبار(على الكتاب على نحو الإطلاق دون تخصيص الحكم بحديث دون آخر ومعلوم أنه لو كان الكتاب الإلهي محرّفاً، لم يعد لهذه الأحاديث معنى ... وكذلك أخبار أخرى ...)»(2).

وقام عدد من كبار أهل السنّة مثل أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (324ه) رئيس الأشاعرة والعلّامة الشيخ رحمة الله الهندي الدهلوي (1308ه) في كتاب«إظهار الحق»وكذا الشيخ محمد المدنيّ (1968ه) رئيس كلية الشريعة بجامعة الأزهر في رسالة «الإسلام بتنزيه»الشيعة من عقيدة تحريف القرآن، ونسبوا فكرة التحريف إلى عقليّات تكتفي بالظاهر وتفتقر إلى العمق في المعرفة الدينية(3).

وما أحدث شبهة التحريف عند بعض هؤلاء الظاهريين هو عدد من روايات المصادر الشيعية والسنية.

قال العلّامة الشيخ محمد جواد البلاغي (1352ه) في مقدمة تفسير «آلاء الرحمن»:

ص: 198


1- أجوبة المسائل المهناويّة، ص121، مسألة 13.
2- الميزان في تفسير القرآن،محمد حسين الطباطبائي، ج12، ص 107-108.
3- ر.ك: مقالات الإسلاميين،أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ج 1، ص 119-120؛ وإظهار الحق، ج2، ص206۔ 209؛ ورسالة الإسلام، شماره ،44، ص 382-385؛ وصيانة القرآن من التحريف، ص 79-81.

«وفي جملة ما أورده القاضي نور اللّه من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها. ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤوّل به إلى التنافي والتعارض. هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار وقد وصف علماء الرجال كلا منهم إما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية. وإما بأنّه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء. وإما بأنه كذاب متهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً وأنه معروف بالوقف في الأئمة وأشدّ الناس عداوة لهم. و ( تكفي هذه الأوصاف لعدم الوثوق في هؤلاء»(1).

وقال العلامة المعرفة (2007ه) بعد نقل عبارات العلامة البلاغيّ :

وقد وجدت في مراجعتي الجميع تلك الروايات سواء المرويّة في كتب أهل السنة و في كتب الشيعة، أنّ غالب هذه الروايات الداعية إلى الطعن في الشريعة ، موضوعة ومصطنعة على أيدي أعداء الدين، أو يمكن تأويلها بوجوه أخرى فلا علاقة لها بدعوى التحريف(2).

وإنّ أمثال محمّد محمّد عبد اللطيف المعروف بابن الخطيب (1402ه) الكاتب المصري في كتابه «الفرقان» من بين أهل السنّة وبعضاً من الشيعة الأخباريين مثل : السيّد نعمة اللّه الجزائري (1112ه) في «منبع الحياة»والمحدّث النوري (1320ه) في«فصل الخطاب»قد وقعوا في شرك شبهة التحريف نتيجة لغفلتهم عن أسانيد بعض الروايات فوقفوا في وجه إجماع علماء المسلمين.

وفيما ذكره ثقة الإسلام الكليني (329ه) في الكافي من عبارة:«باب أنّه لم يجمع القرآن كلَّه إلا الأئمة: وأنهم يعلمون علمه كلَّه».

فإنّ مراده من ذلك نظراً إلى الجزء الثاني من التعبير هو أن جمع كامل التفسير

ص: 199


1- تفسير آلاء الرحمن، ج 1، ص 25.
2- علوم القرآن، ص 383-385.

والتأويل القرآني وظاهره وباطنه وعلم القرآن بأكمله إنّما يكون في يد الأئمة الأطهار. فلا علاقة إذن بين الأحاديث التي أوردها ثقة الإسلام الكليني في هذا الباب بفكرة التحريف الباطلة.

وقد قسم العلامة معرفة (2007م) الروايات التي تدلّ على التحريف ظاهراً إلى عدة أقسام:

القسم الأوّل: أحاديث تفسيرية، تحدّث بها الإمام إما توضيحاً للآية باختصار، ولكنّ أمثال المحدّث النوري (1320ه)عدّوا هذه التفاسير المرافقة للتلاوة جزءاً من القرآن واستنتجوا التحريف منها(1). وللمثال إليك ما ورد في الكافي عن الإمام أمير المؤمنين أنه حين قرأ آية: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ...(2)أضاف قائلًا: «بظلمه وسوء سريرته».

* القسم الثاني : أحاديث جاء فيها لفظ «التحريف»، والمراد منه تحريف بالمعنى وتفسير على غير الوجه، ولكنّ أمثال المحدّث النوري (1320ه) حسبها التحريف اللفظي المصطلح(3).فعلى سبيل المثال روي عن النبي الأكرم أنه قال: «جيء يوم القيامة ثلاثة يشكون:المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف : يا ربّ حرّفوني ومزّقوني. ويقول المسجد:يا ربّ عطّلوني وضيّعوني. وتقول العترة:يا ربّ قتلونا وطردونا ...»(4).

* القسم الثالث : روايات زعموا دلالتها على سقط بعض الآيات. ومثاله: ما ورد في«الكافي» عن الإمام الصادق :«إنّ القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمّد سبعة عشر ألف آية»، في حين ورد في كتاب «الوافي» - الجامع للكتب الأربعة - بلفظ

ص: 200


1- فصل الخطاب، ص275.
2- البقرة 205.
3- فصل الخطاب، ص 23-24.
4- خصال الصدوق،باب الثلاثة،برقم 232 ،ص174.

«سبعة آلاف آية»(1)من غير ترديد وهذا يتطابق مع الواقع نوعاً ما علما بأنّ الفيض الكاشاني (1091ه) من أهل الضبط في النقل. ولا يخفى ما يعاني منه سند الحديث من الترديد وعدم إمكانية الاستناد إليه(2).

القسم الرابع: روايات متعلّقة بظهور الإمام الحجة 7 تتكلّم عن إتيانه بقرآن جديد غير القرآن الموجود. وهذه الروايات إنّما تعتبر الاختلاف بين القرآنين في ترتيب السور، وبعض الإضافات التفسيرية، وليس في أصل نصّه. فعلى سبيل المثال: ورد في رواية الشيخ المفيد (413ه) :«عن الباقر قال: إذا قام قائم آل محمّد : ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن،على ما أنزل اللّه.فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف»(3).

القسم الخامس:الروايات الواردة بشأن فضائل أهل البيت: المخبوءة طيّ آيات الذكر الحكيم،أن لو قرئت كما هي على ما أنزلها اللّه لدلّت على شرف منزل أهل البيت وفضائلهم.وللمثال:روي عن الإمام الصادق أنّه قال:«من لم يعرف أمرنا من القرآن،لم يتنكب الفتن»(4).فظنّ أهل التحريف بأنّ مراد الإمام الصادق هو تصريح القرآن بشؤون ولاية أهل البيت وأنّ ذلك قد أسقط، في حين لم يقصد الإمام.

ذلك، بل إنّ التدبّر والتعمّق في هذا القرآن الموجود بين أيدينا تستجلي به شؤون ولايتهم:،كما يتبيّن من خلال التدقيق المنصف في آيات أولي الأمر وذوي القربى وغيرهما من الآيات، رفيع مقام ولاية أهل البيت وإن جهله المخالفون أو تجاهلوه(5).

الأمر الآخر هو مصحف أمير المؤمنين عليّ الذي تمسّك به بعضهم لنسبة

ص: 201


1- الوافي (الطبعة الحجرية)، الفيض الكاشاني، ج2 (الجزء الخامس)، ص274 و 232(الهامش)؛ ج 5، ص 1781.
2- يراجع:صيانة القرآن من التحريف ص263-267.
3- الإرشاد، ص 365.
4- تفسير العياشي، ج 1، ص 13.
5- علوم القرآن، ج1، ص13.

فكرة التحريف إلى الشيعة؛ والحال أنّ مصحف أمير المؤمنين يختلف مع المصحف الموجود في ترتيب السور حسب نزولها ويبيّن شأن نزولها وتفسيرها وهذا الاختلاف لا يدل على التحريف.

ويتفق على ما تقدم جميع المفكرين من أهل السنة ومن الشيعة مثل الشيخ المفيد(1)وابن شهر آشوب(2) والعلامة الطباطبائي(3).

3/4/16 .أدلّة صيانة القرآن:

تمسّك المفكّرون الإسلامييون بأدلّة على صيانة القرآن من التحريف.

وفيما يأتي نستعرض بعض هذه الدلائل:

1/3/4/16. شهادة التأريخ:

قال العلامة معرفة (2007م) في بيان دليل شهادة التأريخ:

إنّ القرآن وقع موضع اهتمام الجميع خصوصاً المسلمين من أوّل يومه. فالنبي الأكرم كان بنفسه حافظاً للقرآن وكان يأمر بحفظه وثبته وضبطه،وكان على المسلمين ثبته وحفظه ولذلك كانوا يعدّون منه نسخاً متعدّدة ويحفظونها في بيوتهم أو خزانتهم أو أكياس خاصّة. وقد راجت مسألة حفظ القرآن منذ عصره ونال جماعة لا تعدّ من المسلمين منزلة رفيعة في المجتمعات الإسلاميّة تحت عنوان «حفظة القرآن» ممّن اهتمّ بثبت القرآن وضبطه في المصاحف وإعداد نسخ عديدة منه ونشرها في البلاد الإسلاميّة... ولم يزل لهذا الكتاب الدور الأهم في مختلف شؤون المسلمين المصيريّة، كما كان يعد أساساً للعلوم الإسلامية المختلفة. فكان القرآن المرشد لكلّ عالم باحث

ص: 202


1- المسائل السرويّة، الشيخ المفيد،المسألة التاسعة، ص79.
2- المناقب،ابن شهر آشوب، ج2، ص 51.
3- الميزان،محمّد حسين الطباطبائي، ج12، ص 119.

في فرع من فروع العلوم الإسلامية(1). واستدل الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء (1227ه) بالطريقة ذاتها فقال: «لا ريب في أنه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان كما دلّ عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهية من العمل بظاهرها، ولا سيما ما فيه من نقص ثلث القرآن أو كثير منه، فإنّه لو كان ذلك لتواتر نقله لتوفّر الدواعي عليه، ولاتخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله. ثمّ كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه ؟»(2).

وشهادة التأريخ من شأنها أن تدلّ على ضرورة تواتر القرآن أيضاً، فإنّ جميع المسلمين تناقلوا القرآن صدراً عن صدر ويداً عن يد.

وقال العلامة الحلي (726ه):

«اتفقوا (العلماء) على أنّ ما نقل إلينا متواتراً من القرآن فهو حجّة لأنه سند النبوّة ومعجزتها الخالدة فما لم يبلغ حد التواتر لم يمكن حصول القطع بالنبوة، وحينئذ لا يمكن التوافق على نقل ما سمعوه منه - على فرض الصحّة - بغير تواتر، والراوي الواحد (وإن كان صادقاً) فإن ذكره على أنّه قرآن فهو خطأ، وإن لم يذكره على أنه قرآن كان متردّداً بين أن يكون خبراً عن النبي أو مذهباً له(أي للراوي)،فلا يكونحجّة»(3).

وبذلك استدلّ السيّد المجاهد الطباطبائي (1242ه) في كتاب «وسائل الأصول»والمحقق الأردبيلي (993ه) في«شرح الإرشاد»والسيد محمد جواد العاملي (1226ه) في كتاب «مفتاح الكرامة»(4).

ص: 203


1- علوم القرآن،ص 372.
2- علوم القرآن،ص 373 نقلًا عن:كشف الغطاء،الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كتاب القرآن،المبحث 8و7،ص 298 و 299.
3- علوم القرآن،ص 373 نقلًا عن:كشف الغطاء،الشيخ جعفر كاشف الغطاء،كتاب القرآن،المبحث 8و7،ص 298 و 299.
4- يراجع:صيانة القرآن من التحريف، ص 38-39.

قام العلامة معرفة ببيان دلالة ضرورة تواتر القرآن على صيانته بنحو مستقل ونقل المطالب المتقدّمة(1).

2/3/4/16. البرهان العقلي:

يدلّ العقل الاستدلاليّ البشريّ أيضاً على صيانة القرآن من التحريف، ويمكن على أساس الحكمة الإلهية نفي التحريف بزيادة أو نقص.

وبيان البرهان العقليّ أن يقال :

أوّلاً: إنّ الربّ الحكيم أرسل القرآن لهداية البشر.

ثانياً : هذا الكتاب هو آخر الكتب السماويّة، والذي جاء به آخر رسل اللّه .

ثالثاً: لو كان هذا الكتاب محرّفاً، فلن يكون هناك كتاب سماوي آخر، أو رسول آخر، يهدي الناس إلى الصراط السوي، ولضلّ الناس من دون أن يكون السبب من جانبهم .

رابعاً: لا يتناسب هذا الضلال مع الساحة القدسيّة لربّ العالمين، وهو أمر يتعارض مع حكمته في هداية البشر .

النتيجة : القرآن مصان من شتّى ألوان التغيير والتحريف.

3/3/4/16 .دليل إعجاز القرآن:

الدليل الآخر على صيانة القرآن من التحريف هو كونه معجزة؛ لأنّ اللّه سبحانه يقول في القرآن الكريم:

ص: 204


1- علوم القرآن،محمد هادي معرفة، ص374.

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا .(1)

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مَّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.(2)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مَّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ .(3)

وقد تحدّى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى المخالفين في هذه الآيات، وكان لهؤلاء الدافع اللازم لتحدّي القرآن، وقد حاولوا أن يلجوا هذا المعترك إلا أنهم عجزوا عن مجاراة القرآن الكريم، فلم يتمكنوا من الإتيان بمثل القرآن أو الزيادة على آياته أو النقص منها، أو زعزعة نظامه وأسلوبه المعجز. فتحدّي القرآن وعجز المخالفين عن المجاراة دليل على صيانة القرآن عن التحريف.

وقد ضمن سبحانه في القرآن أنّه يحفظه فقال :إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.(4)

وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدِ(5).

وهو يقول من جهة أخرى:إِنَّ اللّه لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(6).

ص: 205


1- سورة الإسراء 88.
2- سورة البقرة 23.
3- سورة يونس 38.
4- سورة الحجر 9.
5- سورة فصلت 41-42.
6- سورة آل عمران 9.

4/3/4/16. الدليل الروائي:

تدلّ كثير من الروايات والأحاديث الشريفة المتواترة والمستفيضة على صيانة القرآن من التحريف، وهذا ما ينفي دعوى بعض الحشوية والأخباريين.

ويمكن تنويع هذه الروايات ضمن الطوائف الآتية:

الطائفة الأولى: أحاديث الثقلين المتواترة عند الشيعة وأهل السنة(1)التي توجب التمسّك بالقرآن وعترة الرسول .والسؤال هو : لو كان القرآن محرّفاً فهل يجوز التمسك به، وهل سيهتدي البشر به؟ لا شكّ في أنّ الإجابة سلبية، فتكون فكرة التحريف باطلة أيضاً.

الطائفة الثانية: وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت: تصرّح على سلامة القرآن من التحريف؛ فقد روى حسين بن عثمان عن الإمام الصادق .أنه قال: «ما بين الدفتين قرآن» لا أقلّ من ذلك ولا أكثر. وكتب الإمام الباقر .إلى أحد أصحابه المسمّى ب«سعد الخير»: «... وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده»(2).

وقال العلامة معرفة (2007م) في شرح هذا الحديث:

«وهذا(تعبير الإمام)تصريح بأنّ الكتاب العزيز لم ينله تحريف فينصه «أقاموا حروفه»(كناية عن حفظهم له) وإن كانوا قد غيّروا من أحكامه (وضيّعوا أوامره)»(3).

الطائفة الثالثة: الأحاديث التي تعد القرآن مقياساً لمعرفة الصحيح من السقيم

ص: 206


1- عبقات الأنوار، مير حامد حسين،ج 1 و 3 ، وكذلك يراجع:الهوامش التحقيقية لكتاب المراجعات، حسين راضي وعبد الحسين شرف الدين،ص 327.
2- الكافي، الكليني، ج8، ص 53، ح 16. روي هذا الحديث بسند صحيح.وكذلك يراجع:فضائل القرآن، محمّد بن أيوب الضريس ( من علماء أهل السنّة ت 294ه)، تحقيق غزوة بدير ، ص 26-27. وهو يروي عن ابن مسعود بطريقين أنه قال: «... وسيكون قوم بعدكم بزمان تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع فيه حدوده».
3- صيانة القرآن من التحريف،محمد هادي معرفة،ص 50.

في الروايات، وتعدّ ما خالف القرآن باطلاً(1)؛إذ روي مثلًا: «إنّ على كلّ حق حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه»(2). فكيف يحتمل تحريف القرآن على الرغم من وجود أمثال هذه الرواية، وكيف يمكن قياس صحة الروايات على قرآن محرّف؟!

الطائفة الرابعة : أحاديث كثيرة في الأبواب الفقهية؛ مثل: (باب الاستشفاء بالقرآن) و (باب التوسّل بالقرآن) و(باب حفظ القرآن عن ظهر القلب) و (باب آداب تلاوة القرآن) و (باب الحلف بالقرآن)وعشرات الأبواب الأخرى التي تدلّ بمجموعها على صيانة القرآن من التحريف(3). فلو كان القرآن محرّفاً لم يعد لتوصية أئمّة الدين في العمل بأحاديث هذه الأبواب أي معنى.

الطائفة الخامسة : أحاديث صحيحة تصرح بعدم ذكر اسم أمير المؤمنين علي في القرآن الكريم عن أبي بصير أنّه:

«سألت الإمام الصادق عن قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ... )(4). وما يقوله الناس : ما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته ؟ قال : إنّ رسول اللّه نزلت عليه الصلاة ولم يسم اللّه لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول اللّه هو الذي فسّر ذلك لهم ...»(5).

وهذه الرواية الشريفة تحكي أصلاً عاماً هو أنّ القرآن مجال بيان الأصول وأمهات مسائل الفرائض والأحكام، ويتكفّل النبي بيان فروعها والمسائل الجزئية؛ فلا يتوقع ذكر أسماء الأئمة الأطهار في القرآن الكريم.

ص: 207


1- يراجع:المصدر نفسه، محمّد بن مسعود العياشي، ج1، ص8.
2- أصول الكافي، ج 1، ص 69.
3- يراجع: بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي، ج 92 ، كتاب القرآن، ص 133-43 و 175-37 وكذلك ج 93 ، كتاب القرآن؛والحياة، محمد رضا حكيمي،الباب السادس، ص41.
4- سورة النساء 59.
5- أصول الكافي، ج 1، ص 286.

وقد روى المفيد بإسناده عن جابر الجعفي عن الإمام أبي جعفر الباقر قال:«إذا قام قائم آل محمّد ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن، على ما أنزل اللّه. فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف»(1).

فالاختلاف إذن في ترتيب السور.

5/16.تحديات المستشرقين:

حاول المستشرقون الغربيون والمسيحيون في مساعيهم لتسقيط القرآن الكريم - كما صنعوا مع العهدين - من خلال الزجّ بمجموعة من التحدّيات حوله.

من هنا، نرى ضرورة بيان أهم التحدّيات المذكورة، ثمّ الردّ عليها فيما يأتي:

1/5/16.شبهة ورقة بن نوفل:

طرح بعض المستشرقين شبهة حديث ورقة بن نوفل (ابن عمّ السيّدة خديجة)الذي قرأ الكتب المقدّسة عند الأديان الأخرى. وتحدّث هؤلاء استناداً إلى كلمات بعض المؤلّفين من أهل السنة عن أن قلق النبي في بداية بعثته زال بواسطة ورقة؛ فقد روى البخاري ومسلم وابن هشام والطبري:

«بينما كان النبي مختلياً بنفسه في غار حراء إذ سمع هاتفا يدعوه، فأخذه الروع ورفع رأسه وإذا صورة رهيبة هي التي تناديه، فزاد به الفزع وأوقفه الرعب مكانه، وجعل يصرف وجهه عما يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعا ويتقدّم ويتأخر فلا تنصرف الصورة من كلّ وجه يتجه إليه. وأقام على ذلك زمنا، ذاهلاً عن نفسه، وكاد أن يطرح بنفسه من حالق من جبل، من شدّة ما ألم به من روعة المنظر الرهيب. وكانت خديجة قد بعثت أثناءه من يلتمس النبي في الغار فلا يجده، حتى إذا انصرفت

ص: 208


1- الإرشاد، ص 365.

الصورة، عاد هو راجعا،وقلبه مضطرب ممتلئا رعبا وهلعا،حتى دخل على خديجة وهو يرتعد فرقا كأنّ به الحمّى ، فنظر إلى زوجه نظرة العائد المستنجد، قائلا: يا خديجة: ما لي ؟ ! وحدّثها بما رأى، وأفضى إليها بمخاوفه أن خدعه بصيرته. قال : لقد اشفقت على نفسي،وما أراني إلا قد عرض لي،فقالت:خديجة كلا واللّه،ما يخزيك اللّه أبداً. أنت رَجُل اللّه، ولن يدعك اللّه ونفسك وإن هذه هي بشرى مستقبل مضيء. وكان متنصرا قارئا للكتب، فقصت عليه خبر ابن عمّها محمّد فقال ورقة : قدّوس قدّوس لئن كنت صدقتني يا خديجة، فقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وهاهو نزل عليك وبشّرك بالنبوّة فعند ذلك اطمأن باله وذهبت روعته وأيقن أنه نبيّ»(1).

وردّ العلامة محمّد هادي معرفة (2007م) على هذه الشبهة فقال:

«هذه الأساطير المصطنعة قد طرحها المستسلمون ليلتهي بها المسلمون في صدر الإسلام وفي العصر الذي ابتعد المسلمون فيه عن الولاية، فصارت اليوم مستمسكاً في أيدي ضعاف الناس. في حين خالف علماء مدرسة أهل البيت هذه القصص المختلقة وعدّوها غير لائقة بشأن النبي الأكرم المعنوي وما بلغه من درجات الكمال وكذلك مع آيات القرآن وروايات المعصومين»(2).

قال أمين الإسلام الطبرسي (548ه)بلزوم صيانة الوحي عن كل خطأ والتباس ليتمكّن الرسول بذلك من هداية الآخرين. وقال في تفسيره لسورة المدثر:

«لأنّ اللّه تعالى لا يوحي إلى رسوله إلّا بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق»(3).

ص: 209


1- صحیح مسلم،ج1، ص 97-99؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 4-3،سيرة ابن هشام، ج 1، ص 252-255؛ تاریخ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، ج2، ص 298-300 ،جامع البيان (تفسير الطبري)، محمد بن جرير الطبري، ج 30، ص 161.
2- علوم القرآن،محمّد هادي معرفة،ص 22-26.
3- مجمع البيان، الطبرسي، ج10، ص

ثمّ إنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ بيّن في القرآن الكريم في مثل سورة طه الآيات 11-14 وسورة الأنعام الآية 75 أنّ الأنبياء يملكون رؤية ناصعة واضحة عن الساحة الربوبية،ونظرة ثاقبة لا يعتريها الشكّ ولا الريب، وقد كشف لهم عن ملكوت السماوات والأرض وكانوا من الموقنين. قال أمير المؤمنين علي عن النبي الأكرم

«ولقد قرن اللّه به من لدن أن كان فطيماً أعظمَ مَلَكِ من ملائكته، يَسلُكُ به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره»(1).

أمّا أسطورة ورقة هذه فهى مرسلة من حيث السند، ومضطربة من حيث المضمون؛ فهناك من النقل ما ينصّ على أنّ السيّدة خديجة ذهبت بنفسها إلى ورقة، أو أنها أخذت النبيّ معها، أو قيل إنّ ورقة رأى النبيّ حال الطواف،وتكلّم معه، أو أنّ أبا بكر دخل على خديجة، وقال لها خذي محمّداً إلى ورقة.

والأمر الآخر أنّه - على فرض صحة هذه القضيّة - لماذا لم يؤمن به ورقة حين ذاك؛ وقد علم أنه نبي مبعوث ! فقد صح أنه مات كافراً، لم يؤمن به(2)!!

بناءً على ذلك:إنّ نقد أسانيد قضيّة ورقة بن نوفل ومضمونها والأدلة المتقدّمة تثبت أن معرفة الرسل بالوحي الإلهي معرفة مستندة إلى العلم الحضوري، ولا حاجة إلى إعلام الآخرين أو تعليمهم(3).

2/5/16. تحدّي مصادر القرآن:

من جملة المباحث القرآنيّة والكلاميّة الأساسيّة البحث عن مصادر القرآن(4).

ص: 210


1- نهج البلاغة،الخطبة القاصعة، الرقم 192، ص 300.
2- يراجع: السيرة الحلبية، ج1، ص250-252؛ وج،ص634.
3- علوم القرآن،محمد هادي معرفة، ص 22-26.
4- تمّ الاعتماد في هذا البحث على مقال نقد شبهات الوحي في رؤية العلامة معرفة » لفضيلة الشيخ حسين علوي مهر، من إصدار مؤتمر آية اللّه معرفة.

وإنّ صراحة آيات،مثل قوله تعالى: (إن هُوَ إِلّا وَحيَّ يُوحَى ) ، وأدلّة الإعجاز تدلّنا على أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو المصدر الوحيد للمعارف القرآنية، وأن دعوى المستشرقين بالنسبة إلى استفادة الرسول الأكرم من علماء اليهود أو النصارى أو كتابي التوراة والإنجيل لا تمت إلى الواقع بصلة(1).

لقد ادعى المستشرق البريطاني ريتشارد بل (1952م) أن كثيراً من الآيات متأثرة من المصادر المسيحية؛ ومن جملتها: آية البعثة(2). ونجد المستشرق المجري برنارد هلر (1943م) في بحثه تحت عنوان (العناصر اليهوديّة في المصطلحات القرآنية)الصادر سنة 1928م يحاول إثبات تأثر القرآن من اليهود(3).

أمّا المستشرق المعاصر جون ونسبرو (2002م) فإضافة إلى تأكيده على تكوّن القرآن في قرنين بالتدريج فإنّه يعدّه متأثراً بالسنة اليهوديّة(4).

والمستشرق الآخر جويدي (1935م) يعدّ قصص القرآن متطابقة مع التوراة تقريباً، ويذهب إلى أنّ بعض الحقائق المتعلّقة بالأنبياء قد شوّهت في القرآن الكريم واحتمل أن السبب في ذلك هو تصوّر النبي الأكرم بأنه أفضل الأنبياء وآخرهم! وقصّته تشمل بعض أنبياء بني إسرائيل مثل قصة نوح وسفينته وإبراهيم وزوجته وموسى ومعجزاته، وداوود وسليمان وما منحها اللّه من الملك والحكمة(5).

هذا، وقد قام العلامة معرفة (2007م) ببيان وتحليل آراء ثلاثة من المستشرقين: درّة الحدّاد (1979م) ، ونولدكه (1930م)، وويل ديورانت (1981م).

وفيما يأتي إشارات لذلك :

ص: 211


1- يراجع:التمهيد،ج 4 و 5 و 6 وشبهات وردود.
2- المصدر نفسه، ج 1، ص104.
3- المصدر نفسه، ص 72.
4- بولتن مرجع،ش6، ص 126.
5- يراجع:الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده،محمود ماضي، ص135-139.

1/2/5/16. آراء الأسقف يوسف درّة الحدّاد:

أكّد الحداد(1)على تأثر القرآن بمصادر مختلفة ومن جملتها الكتاب المقدس وخصوصاً التوراة وقد تمسّك في دعواه بآيات مثل قوله تعالى:إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى 18 صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(2).

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى 36 وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى 37 أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(3).

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ 196 أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ(4).

وقال في هذا الصدد:

آية محمّد الأولى تبرز تطابقاً لقرآنه مع زبر الأولين (للكتب السابقة عليه)،وآيته الثانية استشهاده بعلماء بني إسرائيل وشهادتهم له بصحة هذه المطابقة، ولكن ما الصلة بين القرآن وكونه في زُبر الأوّلين ؟! هذا هو سرّ محمّد ! فيكون من هو سر محمد! فيكون من ثَمَّ أَنه نزل في زُبُر الأوّلين بلغة أعجميّة يجهلونها ، ثُمَّ وَصَلَ إلى محمّد بواسطة علماء بني إسرائيل، فأنذر به محمّد بلسان عربي مبين . فأصل القرآن منزل في زُبُر الأوّلين، وهذا يُوحي بصلة القرآن بمصدره الكتابي زُبر الأوّلين، أي: صحفهم وكتبهم(5).

2/2/5/16. آراء ثيودور نولدکه:

عد نولدكه(6)القرآن مقتبساً من النصوص القديمة، ودليله الوحيد على ذلك هو

ص: 212


1- نال يوسف درّة الحدّاد سنة 1939 رتبة الكاهن في كنيسة لبنان، وتفرّغ عشرين سنة بالمنحى ذاته بدراسات قرآنية وإسلاميّة وعمد في محاولاته هذه إلى التقريب بين القرآن والعهدين ليعرّف العهدين بأنّهما مصدر ما نسبه القرآن إلى الوحي. توفي سنة 1979م.
2- سورة الأعلى 18-19.
3- سورة النجم 36-38.
4- سورة الشعراء 196-197.
5- يراجع:دروس قرآنيّة، يوسف درّة الحدّاد ،2 ، 173-188،فصل:القرآن والكتاب بيئة القرآن الكتابية.
6- آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره،عمر رضوان، ج 1، ص 272-290 و 335؛ كذلك يراجع:تاريخ قرآن، نولدكه،ترجمة جورج تامر ، فصل أوّل(نبوت محمّد ومنابع تعاليم وي)، ص 3 وما بعدها.

تماثل المعارف القرآنية مع معارف سائر الكتب؛ لأنّ القصص والحكم القرآنية هي ذاتها التي وردت في كتب اليهود والأناجيل وحتى في تعاليم زرادشت وبراهما، ومن جملتها قضيّة المعراج، والنعم الأخروية، وجهنّم ، والصراط، والبسملة، عند البدء، والصلوات الخمسة، وسائر الأحكام العبادية، وكذلك شهادة كل نبي على من يتلوه وكلّها متخذة من النصوص القدية المعروفة لدى العرب.

قال العلامة معرفة في نقدها بشكل عام :

«زعموا أنّ القرآن صورة تلموديّة وصلت إلى نبي الإسلام عن طريق علماء اليهود وسائر أهل الكتاب ممن كانت لهم صلة قريبة بجزيرة العرب، فكان محمد يلتقي بهم قبل أن يُعلن نبوّته»(1).

3/2/5/16.آراء ویل دیورانت:

يذكر ديورانت في تاريخه:

«وجديرٌ بالذكر أنّ الشريعة الإسلاميّة لها شبه بشريعة اليهود...والقرآن يمدح دين اليهود تارة وأخرى يذمه، ولكنه متأثر بتعاليم موسى في مضامين مثل التوحيد والنبوّة والإنابة والتوبة ويوم الحساب والجنة والنار... ومنسك ديني عند اليهود باسم شمايسرائل (ألا فاسمع يا إسرائيل) وهو تأكيد على التوحيد مما ظهر في الإسلام على صورة ( لا إله إلا اللّه). والبسملة مأخوذة أيضا من عبادة متكرّرة في تلمود. ولفظة«الرحمان» المختصّة باللّه معرّبة من«رحمانا»العبريّة ... إلى غيرها من تعابير جاءت في الإسلام منحدرة عن أصل يهودي. الأمر الذي جعل البعض يتصوّر أنّ محمّداً كان عارفاً بمصادر يهودية ...»(2).

ص: 213


1- شبهات وردود،محمد هادي معرفة، ص7.
2- ویل دیورانت،قصّة الحضارة، ج4، ص 236-238 ، عصر الإيمان،الفصل التاسع.

وقد عدّ العلامة معرفة مستشرقین آخرین؛ مثل: «تسدال»(1)و «ماسیه»(2)و«أندريه»(3)و «لامنس»(4)و «جولد تسيهر»(5)على غرار العقيدة ذاتها. لكن نظريّة تأثر القرآن بالكتب السماوية السابقة باطلة؛ لعدة دلائل :

أوّلاً: أنّ جميع الأديان الإلهية تعود إلى مصدر واحد، وغاية واحدة، ومضامينها منبثقة عن أصل واحد قال العلامة معرفة (2007م):

«نحن المسلمون نعتقد في الشرائع الإلهية أجمع أنّها منحدرة عن أصل واحد ومنبعثة من منهل عذب فارد، تهدف جميعاً إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. والإخلاص في العمل الصالح والتحلّي بمكارم الأخلاق، من غير اختلاف في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة.شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدين ما وَصَى بِهِ نُوحا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى وعيسى أنْ أقِيمُوا الدّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيه...(6)ونظراً إلى آية إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّه الإسلام(7)والآيات 85 من سورة آل عمران و 135 و 136 من سورة البقرة فإنّ دين اللّه واحد وهو الإسلام أي التسليم لله والإخلاص في عبادته محضاً»(8).

ثانياً:التحدّي الذي طرحه القرآن الكريم هو من جملة أهم علامات إعجازه؛إذ هو معجزة الرسول الأكرم الخالدة ولا يختلف في ذلك أحد علماء المسلمين. والقرآن يدعو العالمين بأن لو كنتم في ريب من كون القرآن من قبل الله؛ فأتوا بمثله ولو بمقدار سورة، ولكن لم يتمكن حتى اليوم أحد من إنشاء سورة مثل سور القرآن

ص: 214


1- ت1928م.
2- ت 1969م.
3- ت 1947م.
4- ت 1937م.
5- ت 1921م.
6- سورة الشورى 13.
7- سورة آل عمران 19.
8- شبهات وردود،محمد هادي معرفة، ص 11 و 12.

ليعارضها. والآيات التي تتحدّى هي: الآية 88 من سورة الإسراء، و 13 من سورة هود، و 23 و 24 من سورة البقرة و 38 و 39 من سورة يونس. وإن تحدّي هذه الآيات عام شامل لكافة طبقات الأمم عبر الخلود مما يشمل العصر الحاضر أيضاً(1)؛ فلو كان القرآن الكريم من عند غير اللّه لاستطاع الآخرون بإتيان غيره أيضاً.

ثالثاً: النبي الأكرم كان أمياً غير متعلّم، ويشهد تاريخه وقومه على أنه لم يتعلّم أي شيء من معلّم لا في حله ولا ترحاله، لا قبل بعثته، ولا بعدها، ولم يتعلّم مضامين القرآن من أحد، ولم يتعرّف على كتاب أو قرطاس.

قال ويل ديورانت:

والعرب في ذلك العصر بشكل عام كانوا أميين ولم يبلغ عدد المجيدين للقراءة والكتابة عدد الأصابع وكانوا معروفين(2).

ولم يُعرف محمد من جملة هؤلاء كما صرح القرآن الكريم بأن النبي أمي في سورة الأعراف الآية 157 وسورة العنكبوت الآية 48 .

رابعاً: لم يترجم العهد القديم إلى العربية حتى عصر الرسول الأكرم ، وذلك باعتراف المستشرقين أنفسهم، ومصادر التوراة الموجودة لدى الرهبان كان بغير العربية وإنّ أوّل ترجمة لأسفار التوراة إلى العربيّة إنما كان في بدايات الخلافة العباسية(3).

خامساً: لو وجد من اليهود والنصارى من يتعلّم العرب عنده في هذه الأمور، فلابد من وجود نخب و متفكّرين بين العرب وقريش ممن يأتي بمثل ما أتى به محمّد فيعرضه على العالم ويثير بذلك الإعجاب. في حين نجد أنّ الذين طرحهم

ص: 215


1- يراجع:التمهيد:ج4، ص21-24.
2- قصة الحضارة، ويل ديورانت، ج 7، ص 21.
3- الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده،محمود ماضي، ص148؛ نقلًا عن موسوعة بريتانيا، ص26و27، مقال سهيل ويب.

المخالفون تحت عنوان المعلّمين ، هم أمثال«بلعام» و «عايش»و«سلمان الفارسي»(1)(طبقاً لشأن النزول الوارد ذيل آية 103 من سورة النحل في تفاسير:مجمع البيان،ابن كثير، الأمثل و...) ممّن لا يجيد حتى النطق بالعربية، فكيف بالتكلّم بأفصح وأعلى كلمات العرب.

سادساً : أنه لو كان الرسول محمّد قد اتخذ قرآنه من أهل الكتاب؛ لكانوا أذاعوا بذلك نتيجة لعداوتهم إيَّاه وقالوا: بأنّه تعلّم هذا القرآن منا أو أنه اتخذه من كتبنا وقرأه عليكم؛ في حين لا نجد هذه الدعوى في الكمّ الهائل مما روي عنهم، ولو كان لبان؛ مثل غيره ممّا نقل.

سابعاً: على الرغم من القصص القرآنية قد وردت في التوراة والإنجيل أيضاً؛ ولكن هناك اختلافاً جوهرياً وأساسياً بين قصص القرآن وقصص سائر الكتب السماويّة؛ ومن جملتها : قصّة خلقة آدم وطوفان نوح وغرق فرعون ونجاة قوم موسى وعدد من سائر القصص. يقول العلامة معرفة في نقد عام عند مقارنة القصص القرآنية مع التوراة:«لاتتجانس تعاليم راقية عرضها القرآن مع ضآلة الأساطير المسطّرة في كتب العهدين، وهل يكون ذاك الرفيع مستقى من هذا الوضيع »(2).

ثامناً: لا يوجد أثر لكثير من القصص القرآنية في التوراة والإنجيل ومن جملتها قصص هود وصالح وشعيب ، ولو كان النبي قد تعلّم قرآنه من أهل الكتاب لما طرح فيه هذه الزيادة(3).

3/5/16.تحدّي القرآن وثقافة العصر:

إحدى التحدّيات التي أثارها المستشرقون والتنويريون المتأثرون بالغرب في العالم

ص: 216


1- يراجع:ذيل آية 103 من سورة النحل في تفاسير:مجمع البيان، والتفسير العظيم لابن كثير، والتفسير الأمثل.
2- شبهات وردود،ص 14.
3- الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي، ص148.

الإسلاميّ شبهة تأثر الوحي الإلهيّ والقرآن الكريم بثقافة العصر وعصر الجاهلية (1). ثقافة عصر الجاهلية وعصر نزول القرآن التي تتمظهر بحلّة المعتقدات والسلوكيات من المظاهر العقيدية في الثقافة الجاهلية: عبادة الأصنام، وعبادة أمور أخرى؛ مثل: الملائكة، والجنّ، والشياطين،والأجرام السماوية، ناهيك عن النزعات المادية والجبرية والإيمان بالخرافات والأساطير.

ومن سلوكيات عصر الجاهلية ونمطيّاته يمكن الإشارة إلى ازدراء شخصية المرأة، وممارسة القسوة والعنف تجاه الأطفال، والتفاخر، وأكل الربا، والخمر،والميسر، والسفاح، واغتصاب حقوق الورثة.

ومن الاستفهامات التي تدور بشأن القرآن وثقافة العصر أن يُقال : طالما أنّ اللّه عَزّ وَجَلَّ ليس مختصاً بلغة معيّنة، فلماذا نزل القرآن الكريم بالعربية؟ ومنها ما يتعلّق ببعض الحوادث التاريخية التي وقعت في عصر النبي مثل: قصة الإفك التي حصلت لعائشة، أو قصة أبي لهب، أو الحروب التي دارت في وقتها، وكذا الأسئلة التي وُجهت للنبي ، وأشارت إليها الآيات القرآنية بالقول:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾(2).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾(3).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)(4).

وعدد كبير من الأحكام الشرعية؛ مثل : أحكام العبيد والإماء التي توجد آثارها

ص: 217


1- يعتمد هذا البحث على رسالة المرحوم فضيلة الشيخ سعيد مسعودي تحت عنوان (قرآن و فرهنگ زمانه) بإشراف عبد الحسين خسروبناه.
2- سورة البقرة: 189.
3- سورة الكهف: 83.
4- سورة الإسراء: 85.

القرآن، والسؤال الذي يقول: هل كان الوحي النازل على النبي متناغماً مع الظروف الثقافية لتلك المجتمعات في ذلك العصر؟ وهل كان الوحي المتأثر بتلك الظروف مؤهّلاً لتلبية احتياجات الإنسان الحقيقية؟

1/3/5/16. تأثر القرآن الكريم لغوياً بالثقافة المعاصرة له:

الشاهد الأوّل على تأثر القرآن بثقافة عصره تأثر آياته باللغة العربية بناءً على ذلك، ينبغي أن يُقال : إن فعل اللّه قد قيّد وخُصّص - كما يُعبّر الفلاسفة - واصطبغ بلون البيئة التي من حوله؛ فعندما نزل الوحي لم ينزل فاقداً لأي لون أو قيد أو نمط، بل قدر بقدر المجتمع الذي كان يعيش فيه النبي .

الشاهد الثاني يُشير إلى الآية الكريمة التي يقول فيها عَزَّ وَجَلَّ:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾(1).

وإنّ اتحاد الوحي بلغة القوم الأوائل الذين خاطبهم، واستخدام القرآن للثقافة العربية في استعراض المفاهيم بما ينسجم مع عباراتهم والأحكام والقوانين المتداولة بينهم، وكذا المصاعب والحاجات وأساليب التعامل معها يعني أنّ القرآن كان متأثراً بثقافة الجاهلية.

والشاهد الآخر تأثر القرآن بثقافة التجارة التي كانت طاغية على أوضاع الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي بما تنطوي عليه من متاعب، وأضرار، ومعاملات تجارية، وبيع وشراء، وكنز، ووزن، وميزان، وما إلى ذلك. هذا إلى جانب مفاهيم أساسية؛ مثل: «اللّه»، و«النبي»، و«القيامة»، و«الجنّة»، و«النار»، و«الملك»، و«الجنّ»، و«الشفاعة»،و«التقوى»، و«الكرامة»، و«الكفر»، و«الإسلام»، و«الإيمان»، و«العبادة»، و«التقرّب بالأضحية»، و«الوحي»، و«الغيب»، و«الشهادة»، و«الدنيا»، و«الآخرة»، و«يوم الحساب»، و«صحيفة الأعمال»، و«النشر»، و«البعث»، وكلّ المفردات التي وردت في الفقه الإسلامي، كلّ ذلك كان معهوداً عند العرب في تلك الأيام.

ص: 218


1- سورة إبراهيم: 4 .

والشاهد الآخر القَسَم القرآني الذي تناول الظواهر الطبيعية.

والشاهد الآخر توظيف القرآن لأسلوب التشبيه والتمثيل الذي درج عليه العرب في لغتهم؛ كقوله تعالى:

(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾(1).

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾(2).

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ)(3).

(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾(4).

واستخدام كثيف لتعابير أخرى؛ مثل: «السراب»، و«النهر»، و«السقي»، و «السحاب» التي كانت رائجة في عصر نزول القرآن.

هذا، علاوةً على استخدام القرآن لمفردات أخرى استعارها من لغات أعجمية كانت متداولة في صدر الإسلام؛ مثل: «الزنجبيل وهي مفردة هندية، و«البلد» والقلم وهما من لغة الإغريق.

والجواب على هذا الشبهة أن يُقال : كان من الواجب أن يستعمل الله عَزَّ وَجَلَّ في

سبيل هداية الإنسان الوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها التواصل مع البشر وأجود هذه الوسائل: الألفاظ والكلمات. وإنّ اللغة التي وقعت في موقع المخاطب للقرآن الكريم هي العربية؛ فاستخدام هذه اللغة لا يعني تقييد الإله أو تخصيص هذه اللغة به؛ لأنّ القرآن باستخدامه لغة العرب لم يتأثر بثقافة الجاهلية، وإنّما وظّف هذا اللسان ليكون جسراً تُنقل من خلاله القيم والمعارف.

ص: 219


1- سورة الصافات: 65
2- سورة يونس: 24 .
3- سورة الرعد 14.
4- سورة الرعد: 17.

وكما أنّ القرآن الكريم اختار من نِعَم الجنّة الإشارة إلى الأنهر الجارية قوله:(جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) (1)،والمياه العذبة(مَاءٍ غَيرْ آسنٍ)(2)، وأنهار الألبان اللذيذة ﴿وَأَنْهَارُ مِن لَّبَنِ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ )(3)، والظلال الممتدة ﴿وَظِلٌّ مَّمْدُودٍ ﴾(4)،والجلوس على الأسرة في وضع يعل الجالسين في تقابل(عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)(5)والطواف بكؤوس الشراب(يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ)(6)، وما إلى ذلك، اختار الإشارة إلى هذه الأمور ليرسم صورةً من الجنّة يمكن للمتلقي أن يُدركها، لكنّ الجنّة ليست منحصرةً في هذه الدائرة من النِعم.

وعليه فإنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ قد تناول ذكر الحقائق وفقاً لحاجة المخاطبين وسعة إدراكهم. وهذا اللون من تأثر الكلام الإلهي على مستوى الفعل الإلهي لا غبار عليه، ولا يناله النقض، وإنّما الإشكال في ما إذا تأثر القرآن بالعقائد الباطلة التي كانت الجاهلية تعتنقها أو أفعالها وسلوكيّاتها الفاسدة التي لا تتماشى مع المشروع الإلهي لهداية الإنسان. يقول العلامة الطباطبائي في هذا الصدد:

اللسان هو اللغة،...والمراد بإرسال الرسول بلسان قومه إرساله بلسان القوم الذين كان يعيش فيهم ويخالطهم ويعاشرهم ... فالمراد بقوله: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم»و-اللّه أعلم - أن اللّه لم يبن إرسال الرسل والدعوة الدينية على أساس معجز خارق للعادة الجارية، ولا فوض إلى رسله من الأمر شيئاً، بل أرسلهم باللسان الاعتيادي الذي كانوا يكالمون قومهم ويحاورونهم به؛ ليبينوا لهم مقاصد الوحى(7).

ص: 220


1- سورة البقرة: 25.
2- سورة محمد : 15.
3- السورة والآية نفسها.
4- سورة الواقعة: 30.
5- سورة الحجر: 47.
6- سورة الصافات: 45 .
7- الميزان،الطباطبائي، ج 12، ص 16.

وبناءً على ذلك، فإنّ هذا اللون من التناغم والانسجام لا يعني التأثر أو الخضوع لمفردات ثقافة الجاهلية.

2/3/5/16. تأثر القرآن الكريم علميّاً بالثقافة المعاصرة له:

لقد ادّعى بعضهم أنّ القرآن الكريم قد تأثر علميّاً بما شاع من معلومات في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت؛من قبيل : نظرية وجود سماوات سبعة(1)ونظرية وجود أراض سبعة(2)وخلقة السماء والأرض في ستة أيام (3)وحركة الشمس وثبات الأرض (4)وغروب الشمس في عين من الماء(5)وإمكانية وقوع السماء على الأرض(6)والتصديق بالهيئة البطليموسية وكون السماوات مكوّنة من طبقات (7)والتصديق بالطبّ الجالينوسي وبأنّ المني يخرج من ظهر الإنسان وثدييه(8). فتلك عينة من الشبهات التي ترمي القرآن الكريم بالتأثر علميّاً بالثقافة المعاصرة له(9).وقد سبق المؤرّخ الإنجليزي سير جون مالكوم المستشرقين المعاصرين في هذا المجال؛ إذ قال في كتابه التاريخي: «لقد صدّق نبي المسلمين رأي بطلميوس صاحب كتاب المجسطي في آرائه المتعلقة بهيئة العالم، وقد ألف بطلميوس اليوناني المولود في حوالي 140 سنة قبل الميلاد كتاباً في الهيئة سماه المجسطي وترجم هذا الكتاب فيما بعد إلى اللغة العربية

ص: 221


1- حيث جاء ذلك صريحاً في:الآية 29 من سورة البقرة،الآية 44 من سورة الإسراء، الآية 12 من سورة الطلاق،الآيتين 17 و 86 من سورة المؤمنين، الآية 12 من سورة فصّلت،الآية 15 من سورة نوح، والآية 12 من سورة النبأ.
2- حيث جاء ذلك صريحاً في:الآية 44 من سورة الإسراء والآية 12 من سورة الطلاق.
3- حيث جاء ذلك صريحاً في:الآية 54 من سورة الأعراف والآية 3 من سورة يونس.
4- حيث جاء ذلك في الآية 258 من سورة البقرة.
5- حيث جاء ذلك في الآية 86 من سورة الكهف.
6- حيث جاء ذلك في الآية 65 من سورة الحج.
7- حيث جاء ذلك في:الآية 3 من سورة الملك والآية 15 من سورة نوح.
8- حيث جاء ذلك في الآية 6 من سورة الطارق.
9- راجع:مجلة بينات، العدد رقم 5 ، ص 76،77 و 95.مجلة دانشگاه انقلاب (جامعة الثورة)، العدد رقم 110 ،ص 132، مجلة كيان العدد رقم 23 (السنة الرابعة).

وسادت الآراء المطروحة فيه على آراء عامة الناس في أغلب مدن قارة آسيا لمدة 700 سنة»،كما أنه استعرض التعاليم الإسلامية على أنّها على خلاف قضايا هيئة نيكولاس كوبرنيكوس عالم النجوم البولندي(1).

بالنسبة لهذه الشبهات يجب أن نلحظ أوّلاً ما هو المقصود من«السماوات السبعة» في القرآن الكريم؛ وما هو معنى«فسواهنّ سبع سماوات»(2)؟ فلقد أشارت الآية الشريفة «إنّا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب»(3)إلى أن جميع الأجرام السماوية والنجوم التي يمكن رؤيتها جميعها موجودة في السماء الأولى، كما أنّ السماوات السبعة قد جاء بيان آخر لها في قوله تعالى: «ألم تروا كيف خلق اللّه سبع سماوات طباقاً»(4)، وهنا يتضح من وصف (طباقاً) أنها متداخلة وعلى شكل طبقات؛ لا أنها سبع قطع متجاورات كما ادعى بطلميوس. وعلى هذا الأساس يتضح لنا أنّ الفهم المغلوط الذي استقاه المستشرقون هو الذي أدى إلى أن يروا المباحث الدقيقة التي ذكرها القرآن الكريم في ما يتعلّق بالسماوات السبعة متأثرة بالهيئة البطليموسية. كما أن كلام سيّدنا إبراهيم الذي نقله القرآن الكريم في الآية 258 من سورة البقرة لا يدلّ على تبنّي القرآن الكريم لنظرية حركة الشمس وثبات الأرض؛ بل إنّ سيّدنا إبراهيم عليه السلام كان في مقام الجدل والاحتجاج على الخصم قد قال هذا الكلام، كما أن القرآن الكريم قد أشار في آية أخرى إلى حركة الأرض حيث قال:«وترى الجبال وتحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب»(5).

وأما ما يتعلّق بخروج المني من بين الظهر والثديين والذي ادعوه مستفيدين

ص: 222


1- راجع:سيرجون مالكوم خان،التاريخ، ترجمه إلى الفارسيّة مير اسماعيل حيرت ، ج2 2، ص 172، نقلًا عن الشهرستاني. وأيضاً:سيد هبة الدين،الإسلام الهيئة، ترجمه اسماعيل فردوس فراهاني.
2- سورة البقرة الآية: 29.
3- سورة الصافات، الآية 6.
4- سورة نوح، الآية: 15.
5- سورة النمل،الآية: 88.

من قوله تعالى:«فلينظر الإنسان ممّ خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب»(1)فإنّه ناتج من التفسير المغلوط للمستشرقين المتأثرين بالغرب. فكلمة (الترائب) مشتقة من أصل (ترب) وتعني الشيئين المتساويين في بدن الإنسان؛ من قبيل: الثديين، أو الكتفين، أو عظمي الرجلين وغيرها(2).

وعليه فإنّ القرآن الكريم قد استخدم هذا النحو من البيان تجنّباً لذكر اسم الآلة التناسلية حيث قصد بالترائب العظمتين في مقدمة وسط جسم الرجل، وبذا يكون معنى الآية هو: ماء دافق يخرج من بين الظهر والرجلين(3)،كما يمكن أيضاً إرجاع الضمير في كلمة (يخرج) إلى نفس الإنسان، وبذا يون المقصود هو أنّ الإنسان يخرج من بين ظهر المرأة وثدييها؛ أي من بطنها؛ وبناء على هذا فإنّ ادّعاءهم بأن القرآن الكريم يعتقد بخروج المني من بين الظهر والثديين كلام غير صحيح.

3/3/5/16. تأثر القرآن الكريم معرفياً بالثقافة المعاصرة له:

كان في عصر الجاهلية عدد من المعتقدات المغلوطة وغير الصحيحة بيد أن القرآن الكريم رفضها جملة وتفصيلاً؛ فمثلاً رفض القرآن الكريم أموراً من قبيل: إشعال النيران طلباً لهطول المطر، أو ضرب الثيران إذا ما رفضت الأبقار شرب الماء، أو غيرها من الأفعال غير ذات الصلة التي كانوا يقومون بها للتخلّص من الخوف، أو الأفعال التي يقومون بها بقصد شفاء المرضى من قبيل تعليق حلي الذهب والفضة على عنق من لدغته حيّة أو عقرب، إذ كانوا يعتقدون أن وجود الرصاص والنحاس بقربه يؤدّي إلى موته. ولكن هناك بعض المسلمات القرآنية من قبيل: تصديقه بتأثير السحر على الإنسان (سورة البقرة، الآية : 102 )تحكي تصديقه بواقعية تأثير السحر.

ص: 223


1- راجع:قرشي، سيد علي أكبر ، قاموس القرآن الكريم، ذيل مادة (وفق).
2- راجع:معرفت،محمد هادي،التمهيد في علوم القرآن، ج 6، ص 64.
3- راجع:معرفت،محمد هادي،التمهيد في علوم القرآن، ج 6 ،ص 64 ،وأيضاً:دكتور عبد الحميد دياب ودكتور أحمد قرقوز ، الطب في القرآن، ص 32.

وقد ذكر العلامة المجلسيّ عدّة أقسام للسحر :

1-سحر المنجمين الذين يسعون إلى التنبؤ بالمستقبل أو الطلاسم من خلال علم النجوم والأفلاك.

2 - سحر الأشخاص ذوي النفوس القويّة الذين بإمكانهم الإتيان بأعمال خارقة للعادة من خلال قدراتهم الروحية وإرادتهم القويّة.

3 - السحر من خلال الاستعانة بالجن أو تسخير الجنّ.

4- الشعوذة؛ وهي خفّة اليد والخداع البصري.

5 - تنميق الكلام.

6-جذب الناس وأسر قلوبهم من خلال خداع عوام الناس كأن يدعي الإلمام باسم اللّه الأعظم أو تسخير الجن.

7- استعمال الخواص الكيمائية للتأثير على الأشياء؛ بعضها على بعض(1).

كما أن مسألة إصابة العين والتي ورد الحديث عنها في القرآن الكريم مرة في سورة يوسف، الآيتين: 67 و 68 ومرة في سورة القلم الآيتين: 51 و 52 ، هي أيضاً من المسائل الواقعيّة التي ورثتها ثقافة عصر الجاهليّة من الأديان السماوية السابقة، وجاء ذكرها في القرآن على نحو حكاية للحقائق ولم يكن فيها متأثراً بالثقافة الجاهلية. وقد ذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان:

«المعنى: أنّه قارب الذين كفروا أن يصر عوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر. والمراد بإزلاقه بالأبصار و صرعه بها - على ما عليه عامة المفسرين - الإصابة بالأعين، و هو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلاً و ربما شوهد من الموارد ما يقبل

ص: 224


1- العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 63، ص9.

الانطباق عليه، وقد وردت في الروايات فلا موجب لإنكاره»(1).

كما أنّ القرآن الكريم قد ذكر مسألة تأثير الجن والشياطين بالرغم من أن العلم ما زال غافلاً عنها؛ وهي واقعية بينها الأنبياء السابقون للناس وجاء القرآن الكريم وأيّد بيانهم، فلا صلة لذلك بالتأثر بالثقافة المعاصرة. وقد اعتقد بعضهم أن تصديق القرآن الكريم بالروح هو ضرب من ضروب تأثر القرآن الكريم بالثقافة المعاصرة(2)، والروح في القرآن الكريم هي حقيقة ملكوتية وقد تكون مجردة كما هي الملائكة أو أنّها تتركب مع الجسم لتشكّل حقيقة الإنسان، وهي واقعية لا يمكن إنكارها بيد أن العلم الحديث ما زال غافلاً عنها. كما أنّ هناك من يعتقد بأنّ تصوير القرآن الكريم للجنة ونعمائها من قبيل المياه الجارية والظلال الممتدّة والأشجار الخضراء اليانعة والبساتين المملوءة بالثمار تموراً وأعناباً ورماناً، والحور العين والولدان جميعها عبارة عن آمال أهل عصر الجاهليّة أو شخص رسول اللّه،إذ إنّ القرآن الكريم قال:(،مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٌّ حِسَانٍ)(3)، (مُتَّكِئِين عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبَرْقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَينْ دَانٍ)(4)،(عالَيهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُفِّرْ وَإِسْتَبَرْقُ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)(5)،(وَبَشِرِّ الذَّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تُجَرِي مِن تُحَتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأْتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(6)،(فِيهِنَّ قَاصَرِاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسَ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ 56 فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ 57 كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ 58 )(7)،(وَحُورٌ عِين 22 كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُو

ص: 225


1- الطباطبائي، السيد محمد حسين،الميزان في تفسير القرآن، ذيل تفسير الآية 51 من سورة القلم.
2- فراستخواه،مقصود،مقالة (قرآن،آراء،انتظارات گوناگون)القرآن،الآراء والتوقعات المختلفة. مجلة (دانشگاه انقلاب) جامعة الثورة، العدد 110، ص 137.
3- سورة الرحمن،الآية:76.
4- سورة الرحمن،الآية: 54.
5- سورة الإنسان،الآية: 21.
6- سورة البقرة،الآية: 25.
7- سورة الرحمن،الآيات 56 - 58.

الْمَكْنُونِ)(1)،(مُتَّكِئِين عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم يُحِورٍ عِين)(2)، أي إنّ القرآن الكريم قد ذكر النعم التي يستأنس بها العرب في العصر الجاهلي.

والجواب عليه أنّ صرف تطابق آمال وأماني أمّة مع النعم التي أعدها اللّه سبحانه وتعالى في جنة الخلد لا يعني إنّ لقرآن الكريم قد استفاد من آمال أفراد تلك الأمة؛ بل إنّ هذا التطابق هو شاهد على أنّ القرآن الكريم قد جاء بما يتطابق مع فطرة البشر؛ فجميع الأمثلة التي يذكرونها لتأثر القرآن الكريم في صياغة آمال عرب عصر الجاهلية وجعلها نعماً في الجنّة الموعودة لا يدلّ على شيء سوى توافق القرآن الكريم وتطابقه مع فطرة العرب في عصر الجاهلية لا غير، ولا يصل دليلاً على أنّ القرآن الكريم قد تأثر بآمالهم وأمانيهم. ذلك لأنّ جميع هذه النعم ليس منحصرة بأمة عرب عصر الجاهلية أو مجتمع الجزيرة العربية بل إنّ تلك النعم خالدة وجامعة لجميع البشر، علاوة على أنّ القرآن الكريم قد بيّن أنّ تلك النعم تشمل جميع آمال وأماني البشر بمختلف أذواقهم في قوله تعالى: (وَفِيْها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(3)(وَلَكُم فيها ما تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فيها ما تَدعونَ )(4).

4/3/5/16. تأثر القرآن الكريم قانونياً بالثقافة المعاصرة له:

وقد ادعى بعضهم أنّ إحدى شواهد تأثر القرآن الكريم بالثقافة المعاصرة له هي آيات الأحكام ذاتها، إذ وجّه الخطاب فيها إلى الرجال دون النساء فقد كانت عادة العرب جارية على الخطاب بالتذكير من باب التغليب. كما أنّ الآية الشريفة:(لِلْذَكَرِ مُثْل حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) تحكي دعم الشريعة للمجتمع الرجالي في نظام الإرث وأنّ

ص: 226


1- سورة الواقعة، الآيات: 22 و 23 .
2- سورة الطور،الآية : 20.
3- سورة الزخرف،الآية:71.
4- سورة فصلت،الآية:31.

الإسلام قد حسب شخصيّة الأنثى نصف شخصية الرجل(1)وهذا جميعه نابع من التأثر بالمجتمع الرجالي. والجواب عليه أنّ الإسلام من وجهة نظر القيم الإنسانية لم يجعل أبداً الجنسيّة معياراً، بل جعل الشخصية الإنسانيّة هي معيار التقنين في جميع الأحكام الشرعية، فمثلاً وضع الإسلام أحكاماً سواء لكل من الرجل والمرأة في كلّ من: الحرية في الإيمان(2)، الثواب والعقاب (3)الملكية والتصرفات المالية (4)التعليم والتربية والشغل والزواج (5)وغيرها، فضلا عن أن مقدار سهم الإرث زيادة وقلة لا يمكن أن يصلح دليلاً على ارتفاع القيمة الإنسانية أو انحطاطها؛ فلو كان الشرف والقيم الإنسانيّة معياراً لمقدار سهم الإرث لوجب أن يكون سهم إرث المعصومين عليهم السلام أكثر من غيرهم من بين إخوتهم، بيد أنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّنا نجد أنّ أحكام الشريعة تقتضي أن ترث السيدة فاطمة الزهراء نصف سهم أخيها إن كان لها أخ وإن لم يتجاوز عمره الأشهر.

وعليه لا يمكن الاستدلال على انخفاض القيمة الإنسانيّة للمرأة من خلال كون سهمها من الإرث في بعض الأحيان نصف سهم الرجل، فقوانين الإرث قد صيغت على أساس الموقع الاجتماعيّ والأسري للمرأة والرجل لا على أساس جنسيّتهما، وأمّا الاعتقاد المغلوط بأنّ سهم المرأة من الإرث دائما يعادل نصف سهم الرجل فإنّه ناشئ من عدم إعمال الدقّة في ملاحظة أحكام الإرث؛ ذلك لأنّ سهم المرأة قد يساوي سهم الرجل بل قد يزداد سهم المرأة عن سهم الرجل في حالات أخرى، كما أنّ هناك حالات يكون سهم المرأة فيها نصف سهم الرجل.

ص: 227


1- مخاش ، سلوى،المرأة العربية والمجتمع التقليدي المتخلف، ص 31.
2- سورة البروج، الآية:10،وسورة الأحزاب،الآيتين: 36 و 58،وسورة الممتحنة، الآية: 10.
3- سورة النساء،الآية: 124.
4- سورة النساء، الآية: 32.
5- العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، كتب الاجتماع، ج 10 ،ص212،والحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 17، ص 436 و 437.

ويجب ألّا ننسی أنّ هناك واجبات اجتماعية واقتصادية قد فرضها الشرع على الرجال دون النساء من قبيل : الذهاب إلى الجهاد، ودفع المهر ، دفع الدية على العاقلة والتكفّل بنفقات الأسرة.

والشبهة الأخرى هي التفاوت بين دية الرجل ودية المرأة، وقد جاء تشريع الديّة في القرآن الكريم في الآية الشريفة (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَا... )(1)ولم يتطرّق القرآن الكريم إلى بيان مقدار الدية بل أن الروايات هي التي حدّدتها وبذا لا يكون للقرآن الكريم أي صلة بهذه الشبهة، كما أنّ الديّة ومقدارها قضيّة اقتصادية ولا علاقة لها بالقيمة الإنسانيّة، فضلاً عن أنّ ازدياد دية الرجل عن دية المرأة أمر يصبّ في مصلحة المرأة، إذ إنّ ورثة الرجل الذين يستحقون ديته هم المرأة والأولاد كما أن ورثة المرأة الذين يستحقون ديتها هم الرجل والأولاد.

الشبهة الأخرى في هذا المجال هي قوامة الرجال على النساء،والتي وردت في الآية الشريفة: (الرَّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتُ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ)(2).ويجب في مقام الجواب عليها البدء ببيان معنى القوامة؛ فهل تشمل الظلم والاجحاف بحقهنّ والاعتداد بالنفس في مقابلهنّ وتجاهل حقوقهنّ؟ فالقوّام هو الشخص الذي يسعى بكلّ جدّ وصدق إلى القيام بعمل ما ، وعليه يكون للمرأة هذا الحق على الرجل في إطار الأسرة، فالقوامة تكليف ومسؤولية لا تشريف ومنزلة. بل أنّ كلّا من الزوجين يبتدران حياتهما المشتركة بعقد مقدّس .

وفضلاً عن المشتركات التي يقتسمها الرجل والمرأة؛ نجد أنّ لكلّ واحد منهما خصائص ومميزات روحية وجسمانية مختصة به. ولذا وضع اللّه عزّ وجلّ لكلّ منهما تكاليف تتناسب مع خصائصه الروحية والجسمانية كما عيّن له حقوقاً

ص: 228


1- سورة النساء،الآية 92 .
2- سورة النساء، الآية: 34.

كذلك، وقد بين القرآن الكريم توصيته الأخلاقية للرجال بقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(1).

وهناك أيضاً شبهات أخرى في هذا المجال ترتبط بجواز تعدد الزوجات للرجال وإعطائهم حق الطلاق والتفاوت في الشهادة بين الرجل والمرأة؛ وقد تطرّقنا لها في كتابات أخرى(2).

5/3/5/16 .تأثر القرآن الكريم فقهيّاً بالثقافة المعاصرة له:

لقد كان في عصر الجاهلية أحكام عديدة؛ ولما نزل القرآن الكريم أقرها بعد أن أجرى عليها بعض التعديلات؛ ومثال تلك الأحكام:الحج وهو من شعائر ديانة النبي إبراهيم:بل وكان من العبادات الرائجة في عصر الجاهلية أيضاً، وكذلك أمضى القرآن الكريم العمل بأحكام الظهار وأحكام الموالي. والجواب عن هذه الشبهة هو أنّ القرآن الكريم يقبل العناصر الثقافية الإيجابية في كلّ عصر؛ لا سيّما إذا ما كانت تلك العناصر الثقافية متجذرة في أديان وشرائع توحيدية(3).

6/16. استنتاج:

يمكن الإشارة إلى حصيلة ما تقدّم من خلال النقاط الآتية:

أوّلاً: لا يمكن حصر الأحكام والتعاليم الإسلامية في خصوص دائرة الأحكام الإمضائيّة؛ إذ يوجد في الإسلام - علاوةً على ذلك - مجموعة من الأحكام التأسيسية والإصلاحية.

ص: 229


1- سورة النساء، الآية: 19.
2- عبدالحسین خسرو ،پناه التعرف على التيارات المضادة للثقافات، مقولة النسوية.
3- مقال:القرآن والثقافة المعاصرة (بالفارسية: قرآن و فرهنگ زمانه)،محمّد علي رضائي الأصفهاني، مجلة (معرفت)، العدد 26، ص 49.

ثانياً : الأحكام الإمضائيّة - في واقع الأمر - ما هي إلا تقرير وإمضاء للأحكام والتعاليم الموروثة من الأنبياء السابقين - أي:من الشريعة الإبراهيمية واليهودية والنصرانية والزرادشتية والصابئة، وما سوى ذلك - وليست تقريراً أو إمضاء لعصر الجاهلية؛ إذ لو كان الأمر كذلك لاستلزم أن يُقرّ الإسلام ما تعارف عليه أهل الجاهلية من آداب ومناسك، ولاستلزم ألّا يثور ضدّ القضايا العرفية وثقافة العصر الجاهليّ، وألّا يدعو لإصلاحها وتعديلها. ومن المعلوم أنّ هذه الشرائع التي كانت تتحلّى بكتب سماوية ومنظومات تشريعية ابتُليت على مرّ الزمن بالتحريف الذي نال منها بالزيادة أو النقصان، لكن مجموعة من مفرداتها بقيت سالمة دون المساس بها، وقد أمضت الشريعة الإسلامية هذه المجموعة، وأقرّتها. والسبب الذي يقف خلف تأييد الأحكام الإمضائيّة اتساقها مع الفطرة والجبلة الإنسانية، وتناغمها مع الشرائع السابقة.

ثالثاً: يصدر الإمضاء والتقرير النبوي انطلاقاً من أمر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى العليم بالمصالح والمفاسد الحقيقية للأشياء. إذا كان الأمر كذلك، فما بال هؤلاء التنويريين المنبهرين بالغرب، وماذا يُبرّر لهم حذف الأحكام الإلهية وإبعادها؛ من دون أيّ إلمام بالمصالح والمفاسد الحقيقيّة،ساعين لإمضاء وتقرير ما بشرت به قوانین عصر الحداثة ؟!

ص: 230

17.ختم النبوّة

1/17. تمهيد:

يمثل بحث ختم النبوّة أحد المباحث التفسيريّة التي أضحت في الآونة الأخيرة في ضمن مباحث علم الكلام الإسلامي، فحظيت بعدد كبير من عمليات التحليل والتوضيح. وفي هذا الفصل،سوف نعرض توضیح موضوعات؛من قبيل: حقيقة الختم،وختم النبوّة،وسوابق البحث في هذا الموضوع، وأسباب ختم النبوّة، وشروحات كلّ من المفسّرين والمتكلمين والحكماء والعرفاء، وتبيين آراء بعض المفكرين المعاصرين؛ من أمثال : إقبال اللاهوري، وشريعتي، والمطهري، ثمّ نستعرض الردود على الشبهات المطروحة في هذا الموضوع؛ قديماً وحديثاً(1).

2/17. معنى ختم النبوة:

ورد الختم في اللغة بمعنى: «الطبع»(2)، و«تغطية الشيء»(3)،«ونهاية الشيء»(4).والمراد به هنا آخر الشيء ونهايته.

ص: 231


1- أتقدم بالشكر الجزيل لجهود سماحة الشيخ الفاضل حجّة الإسلام حسن بناهي آزاد لما قدمه من عون في تدوين الملاحظات في مبحث الخاتمية.
2- قال ابن سيده:«ختمه،يختمه،ختماً:طبعه»المحكم، ج 5، ص 26 . وقد ذكر هذا ابن منظور في لسان العرب،ج 12، ص 163،وصاحب القاموس المحيط، ج 2، ص15. ويقول الزبيدي:«معنى ختم و طبع واحد في اللغة»تاج العروس، ج 8، ص266. [م]
3- ورد الختم في اللغة بمعنى تغطية الشيء والاستيثاق منه بحيث لا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء؛ فقد قال ابن سيده:«والختم على القلب ألا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء » المحكم، ج 5، ص 26. وقد ذكر هذا ابن منظور في لسان العرب ،ج12، ص 163،والزبيدي في تاج العروس، ج 8، ص 266. [م]
4- قال صاحب المحكم:«وختم الشيء يختمه:ختما بلغ آخره،وخاتم كل شيء: عاقبته وآخرته»المحكم، ج 5، ص26. وقال الراغب الإصفهانيّ - عند حديثه عن الصور التي يرد بها لفظ الختم-:«وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر، ومنه قيل: ختمت القرآن أي انتهيت إلى آخره» إلى أن قال: «وخاتم النبيين؛ لأنّه ختم النبوّة، أي تممها بمجيئه» المفردات،ص 142-143. وقال صاحب القاموس ،ج 2، ص15:«والخاتم من كل،شيء: عاقبته وآخرته، وآخر القوم كالخاتم». [م]

وأما ما يكون الجزء الأخير من شيء ما؛ فيسمى «الخاتم»(1).و«خاتم الأنبياء» هو الفرد الذي يمثل نهاية الأنبياء. ويُطلق لفظ «الخاتم» أيضاً على الشيء الذي يكون بمنزلة العلامة الدالة على تمام شيء واكتماله، أو وسم انتهاء الشيء - الذي يُوضع بقصد منع دخول شيء من الخارج إليه، أو تداخل الأغيار معه.

بناءً على ذلك، نحن أمام معنيين لكلمة«خاتم»: الأول مأخوذ من مصدر الفعل المفتوح (خَتَم) ، والذي تقدّم أنّه يعني إنهاء الشيء.والثاني بمعنى الأثر الواضح الموضوع على الشيء للدلالة على انتهائه. ففي المعنى الأوّل: المقصود هو ذات أثر الشيء الذي هو من قبيل نقش الخاتم والطابع الموضوع للدلالة على الانتهاء، وفي المعنى الثاني المقصود هو الأثر المترتب على الفرد الذي يمثل نهاية الشيء وتمامه؛ من قبيل امتناع وقوع التغيير والتبديل في الشيء الذي وسم بالختم وطابع الانتهاء(2).

وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعنى«ختم النبوّة» على نحو صريح في الآية 40 من سورة الأحزاب، كما وردت معان أخرى لها في القرآن الكريم من قبيل : الختم على قلوب الكفّار وإغلاقها، حيث وردت في سورة البقرة الآية رقم 7 و في سورة الأنعام الآية رقم 46. وكذا وردت بمعنى الختم على الأفواه بالإسكات في يوم القيامة، ثمّ أخذ الشهادة من الأيدي والأرجل، في سورة يس الآية رقم 65 . وكذا وردت في تهديد النبي بالختم على القلب إذا ما تخلّف عن الحق، في سورة الشورى الآية رقم 24 ووردت كذلك في الختم على قلوب متبعى الأهواء والضالين وآذانهم، في سورة الجاثية لآية رقم 23 ، وفي بيان علامة شراب أهل الجنة؛ بمعنى أنه لم تتناوله يد أحد قبلهم، في سورة المطففين الآية رقم 25 و 26 .

وعلى هذا الأساس، فإنّ معنى الختم هو انتهاء الشيء - وهو المعنى المقابل للابتداء

ص: 232


1- مفردات الراغب الأصفهاني؛ ختم ..
2- عمدة الحفاظ، أحمد بن يوسف عبدالدائم، ج 1، ص 489.

والشروع - وهذا المعنى هو نتيجة لنهاية الشيء وكماله(1).

من هنا، فإنّ إطلاق لقب«خاتم الأنبياء»على نبيّ الإسلام يعني أنه يتصف بأنه النبي الذي تمت على يده سلسلة أنبياء اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛حيث وصلت النبوة إلى أوج كمالها ببعثته(2).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المعنى عند نطق كلمة «الخاتِم»(بكسر التاء) يختلف عنه عند نطق كلمة «الخاتَم» (بفتح التاء)، فالكلمة بالكسر تعني الشخص الذي حقق نهاية الشيء (النبوّة) ، والكلمة بالفتح تعني الشخص الذي انتهت معه النبوّة، واكتملت بإرساله(3). وعلى هذا الأساس فلن يأتي نبي بعده بل ستكون شريعته نافذة وباقية إلى يوم القيامة(4). وهذا هو المعنى الذي ورد في الآية الأربعين من سورة الأحزاب.

ويرتبط بحث ختم النبوّة في الإسلام بمباحث أخرى مهمّة؛ من جملتها: ضرورة أن يهدي اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى الناس ، وأن يرسل إليهم الرسل، وتعميم إرسال الرسل على جميع البشر(5)،واحتياج البشر الفطري للدين(6)،كمال دين الإسلام والقرآن

ص: 233


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، سيد حسن مصطفوي، ج 3؛ مادة (ختم).
2- كشف الأسرار وعدة الأبرار، عبداللّه الأنصاري، ج8، ص 62 و 63.
3- التبيان الطوسي، ج8، ص 346.
4- مجمع البيان، الطبرسي ج4، ص 437 وج8، ص 567؛ الميزان،الطباطبائي، ج16، ص 325.
5- كشف المراد،الحسن بن يوسف الحلي، ص 359؛ قواعد المرام،القاعدة 6،الركن 3،البحث 6 .الآيات التي صرحت بهذا المعنى هي: الآية 107 من سورة الأنبياء، الآية 1 من سورة الأنبياء، الآية 108 من سورة سبأ وغيرها. كما أن هناك العديد من الروايات أيضاً من قبيل هذه الرواية المرويّة عن النبي :«بعثت إلى الأسود والأبيض والأحمر».محمّد بن شهر آشوب المازندراني؛ مناقب آل أبي طالب، قم، العلامة، 1379ق، ج2، ص 25؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 5 (20 مجلّد في 10 مجلدات)،ص 55 ، وقد دلّت العديد من الآيات الشريفة على هذا المعنى؛ منها على سبيل المثال: الآية1 من سورة إبراهيم،الآيات 110 و 138 و 185 من سورة البقرة،الآية 79 من سورة النساء، الآية 185 من سورة الأعراف،الآية 2 من سورة يونس والآية 54 من سورة الحج، والتي ورد فيها الخطاب بلفظ (الناس) بعنوانهم مخاطبي القرآن الكريم والإسلام، وأيضاً يمكن الإشارة إلى الآية 52 من سورة القلم، الآية 87 من سورة ص والآية 90 من سورة الأنعام، والتي ورد في الخطاب بلفظ (العالمين) جاعلاً إياهم الهدف والمخاطب للقرآن الكريم والإسلام.
6- الآية 30 من سورة الروم ، شرح الأربعين حديثاً، الإمام الخميني، ص 86 و 152.الدين شمس لا تغرب (بالفارسية: خورشید دین هرگز غروب نمي كند)الأعمال الكاملة (بالفارسية)، ج3، ص384 - 388.

الكريم وخلودهما(1)،وأوصاف نبي الإسلام(2).

ويجدر بنا في هذا المقام التذكير إجمالاً بأن لا دين مقبول سوى دين الإسلام:

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(3).

ولازم هذا القول الإيمان بكمال دين الإسلام وجامعيّته القصوى؛ وإلا لما صح القول بأنه الدين الوحيد المقبول. هذا من ذات المنطلق القاضي بأنّ الهدف النهائي من إرسال الرسل ونزول الكتب السماويّة هو هداية البشر إلى سبيل الكمال والسعادة الحقيقية، وما كان لدين أن يختص بهذه الميزة الفذة لو لم يكن مشتملا على هذه الصفة؛ لاسيما وقد صرّح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بارتضائه الإسلام ديناً للمسلمين:

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(4).

3/17.تاريخ عقيدة ختم النبوّة:

يمثل القرآن الكريم أهم وأوّل المصادر التي صرّحت بكون نبي الإسلام هو خاتم الأنبياء:

(ما كانَ محمد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )(5).

ص: 234


1- محاضرات في الإلهيّات،السبحاني،تلخيص:الربّاني الكلبايكاني،ص 488. سورة فصلت 42.
2- سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم (بالفارسیة:سیره رسول اکرم در قرآن)،الجوادي الآملي،ج8، ص 59 و 60 و144 و145.
3- الآية 85 من سورة آل عمران.
4- الآية 3 من سورة المائدة.
5- الآية 20 من سورة الأحزاب.

وتمثل هذه القضية إحدى المسلّمات والقطعيات الاعتقادية في دين الإسلام، كما أنها وردت صراحةً في روايات المعصومين؛ حيث صرح رسول اللّه وأمير المؤمنين بهذا الأمر؛ من ذلك ما روي عن رسول اللّه:

«أرسلت إلى الناس كافة، بي خُتِم النبيّیون»(1).

وما ورد في خطابه للإمام علي:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلى أنه لا نبي بعدي»(2).

وقد تطرّق الإمام علي إلى بيان انقطاع النبوّة واصفاً الرسول بأنه الذي طوى صحيفة الوحي وختمها؛ حيث قال:

«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النبوّة وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءٌ ...»(3).

وروي عنه أنّه قال: «قفّى به الرسل وختم به الوحي»(4).

كما كان يصف رسول اللّه بعبارات تدلّ على خاتميته، من قبيل:

«الخاتم لما سبق الفاتح لما انغلق».

«أمين وحيه وخاتم رسله» و «خاتم النبيين »(5).

ص: 235


1- صحیح مسلم، ج 8، ص89. الطبقات الكبرى، ج 1، ص 65 .مسند أحمد بن حنبل، ج4، ص 81 و 84. جعفر سبحاني، الإلهيّات، ج 3، ص 500.
2- الكافي، ج 8، ص 106.
3- نهج البلاغة،خطبة 235.
4- نهج البلاغة،خطبة 133.
5- المصدر السابق، خطبة 72 وخطبة 87 وخطبة 173.

4/17. الأدلّة على ختم النبوّة

ليس من الممكن إقامة دليل وبرهان عقليّ لإثبات ختم النبوّة؛ ذلك لأنّ ختم النبوّة يُعدّ من البحوث الدينية المحضة، فإثباتها يتم من خلال الآية الأربعين من سورة الأحزاب ؛ فضلاً عن مجموعة من الروايات.

وقد ذكر المتكلمون المسلمون - منهم: العلامة الحلّي (726 ه) في «واجب الاعتقاد»، والفاضل المقداد (826ه) في شرح كلام العلامة ثلاثة أدلّة نقليّة :

أولاها: الآية المذكورة آنفاً.

وثانيها : هو خطاب الرسول ل أمير المؤمنين؛ حيث قال:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلى أنه لا نبي بعدي».

* وثالثها: هو الإجماع(1).

كما ذكر أيضاً دليل الإجماع الملا صالح المازندراني في شرحه لأصول الكافي(2).

وكتب ابن الميثم البحرانيّ في شرحه لنهج البلاغة :

«وقوله (وختم به الوحي) كقوله ( خاتم النبييّن) وهذا الختام مستفاد من الشريعة وليس للعقل في الحكم بانقطاع الرسل فيه مجال بل ذلك من الأمور الممكنة عنده...»(3).

ويرى بعض المفكرين المعاصرين أن معايير ختم النبوّة أمر أعمق من قدراتنا،

ص: 236


1- صحيح البخاري، البخاري، ج 5، ص 42؛ كنز العمال في سنن الأقوال،المتقي الهندي، ج11، ص 599؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،الهيثمي، ج 9، ص 109 ؛الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد،الفاضل المقداد.
2- الملا صالح المازندراني؛ شرح أصول الكافي، ج ، باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث، ص 120.
3- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج1، ص572.

ومدى معرفتنا وعلمنا؛ حيث إنّ ختم النبوّة بنبي الإسلام وجعله آخر مبعوث من قبل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو مقتضى الحكمة الإلهية.

ولا شكّ في كون اتصاف الإسلام بالكمال والخلود بنفسه يدلّ على خاتمية نبي الإسلام ، ذلك لانتفاء احتمال بعثة نبي آخر. فختم النبوّة والكمال أمران متلازمان؛ أي:لا يمكن أن يتصف دين بخاتميّة الأديان من دون اشتماله على دواعي الكمال، أو أن يشتمل على دواعي الكمال النهائي، ولا يكون هو الدين الخاتم (1).

5/17. تبيين معنى ختم النبوّة :

تناول عدد من علماء المسلمين في مؤلّفاتهم التفسيرية والكلامية والعرفانية وغيرها،موضوع ختم النبوّة وعملوا على تبيينها ونقض ما أورد عليها من شبهات.

1/5/17. رؤية المفسّرين:

تناول عدد من علماء المسلمين - سنّة وشيعة - في تفاسيرهم في ذيل الآية الأربعين من سورة الأحزاب تبيين معنى ختم النبوّة وتوضيحها. ونجد أن معظم مفسّري أهل السنّة قد ذكروا - في ضمن توضيحهم معنى ختم النبوة - ما روي في كتبهم عن النبي أنّه قال :

«مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا، وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ لَمْ يَضَعْهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبُنْيَانِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، فَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تِلْكَ اللبنة»(2).

ص: 237


1- معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمد تقي مصباح، ج 5، ص184.دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية:آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ص 286.
2- تفسير القرآن العظيم،إسماعيل بن كثير، ج 3، ص 501،تفسير روح المعاني، ج 12، الجزء 22، ص 46. صحيح مسلم،کتاب الفضائل، ج 8، ص 21 و 32 ، الباب : باب ذكر كونه خاتم النبيين،حديث 2286 و 2287. راجع:مسند أحمد بن حنبل، ج 3، حدیث 3534 و 3535.

وقد جاء هذا المعنى في كتب الشيعة؛ فقد ذكر الحويزي في ذيل تفسير الآية الأربعين من سورة الأحزاب المعنى الذي بيناه سابقاً من ختم النبوة(1).

أمّا العلامة الطباطبائي فقد ذكر في تفسيره للآية الأربعين من سورة الأحزاب-علاوة على بيان شأن نزولها - المراد من ختم النبوّة في الآية الشريفة؛ حيث قال:

وقد عرفت فيما مرّ معنى الرسالة والنبوّة وأنّ الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه ولازم ذلك أن ترتفع الرسالة بارتفاع النبوّة فإن الرسالة أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة. ومن هنا يظهر أنّ كونه خاتم النبيين يستلزم كونه خاتماً للرسل. وفي الآية إيماء إلى أن ارتباطه وتعلقه بكم تعلق الرسالة والنبوة وأن ما فعله كان بأمر من الله سبحانه(2).

كما أن إدعاء ظهور نبي بعد رسول الإسلام وتصديق من يدعيه في عصر الإسلام يعني إنكار ضرورة الدين ونقض صريح كلام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى(3).

وكتب محمّد جواد مغنية بعد أن بيّن اتفاق نظر المسلمين في القول بخاتميّة رسول الإسلام ما يأتي:

«اتفق المسلمون قولاً واحداً على أنه لا وحي إلى أحد بعد محمد، ومن أنكر ذلك فما هو بمسلم ، ومن ادعى النبوّة بعد محمّد وجب قتله»،كما أنّه ذكر دليلاً آخر على ختم النبوّة إضافة إلى مجرّد ذكر الآيات الروايات؛ حيث قال: «إنّ الغاية

ص: 238


1- عبد العلي جمعة العروسي الحويزي، تفسير نور الثقلين، ج4، ص 284.
2- محمد حسين الطباطبائي، الميزان، ج16، ص 325.
3- أبو منصور عبد القاهر التميمي،أصول الدين، ص 162 و 163.ميمون بن محمد النسفي،بحر الكلام، ص 274.

الأولى والأخيرة من بعثة النبي هي أن يبلغ قوله تعالى إلى عباده، وما من شيء يريد اللّه سبحانه أن يبلغه إلى عباده إلا وهو موجود في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَنَزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ )(1)وقال :(ما فَرَّطْنا في الْكِتابِ مِنْ شيَ )(2)... وقد خصّ الله محمداً ،بأسمى المراتب وأكمل صفات الكمال بحيث لا شيء فوقها إلا الله وصفات اللّه . ومن ذلك إكمال الوحي الذي أنزل إليه، إكماله من جميع الجهات... [إنّ] محمّداً ودين محمد قد استوفيا جميع صفات الكمال، وبلغا الغاية منها والنهاية، تماماً كما بلغت الشمس الحدّ الأعلى من النور ، فلا كوكب ولا كهرباء يمتلئ الكون بنورهما بعد كوكب الشمس .. كذلك لا نبي يأتي بجديد الخير الإنسانية بعد محمد»(3).

وقد تناول القرآن الكريم موضوع ختم النبوّة من جهات أخرى أيضاً؛ حيث صرّح بأنّ رسول الإسلام قد بعث رسولاً لكافة البشر: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا )(4).

وأنّه منذر البشر كافّة : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )(5).

ووصف القرآن رسول الإسلام أيضاً بأنه مظهر رحمة الله تعالى على العالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(6).

ولم يكن بين الأنبياء من نال هذه الخصائص.

ص: 239


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- سورة الأنعام، الآية: 38.
3- تفسير الكاشف، ج6، ص 225 و 226،وأيضاً راجع:الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة، محمد صادقي، سورة الأحزاب، ج 22، ص 153 إلى 158.
4- سورة سبأ، الآية: 28 .
5- سورة الفرقان،الآية: 1.
6- سورة الأنبياء، الآية: 107.

ومن أهمّ العلامات الدالة على شمولية الإسلام وعالميته والقرآن الكريم، وخلودهما وأبديتها - وهما من لوازم ختم النبوة - التحدّي العام الذي صرح به القرآن الكريم؛ حيث تحدّى - بكل صراحة - الجن والإنس مظهراً عجزهم عن الإتيان بمثيل للقرآن، وجاء هذا التحدّي بيّناً في الآيتين 32 و 24 من سورة البقرة:

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).

وقد قام بعض المفسّرين ببيان ختم النبوّة وتحليلها على النحو الآتي:

يتواصل نزول الوحي الإلهي على أهل البيت:؛ولكن لا بنزول شرع ابتدائيّ بل تفصيلاً للإجمال الذي نزل في القرآن الكريم على النبي ، وذلك ما تعهد اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بحفظه :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(1).

ويمكن تحليل خاتميّة رسول الإسلام إلى ركائز ثلاثة : خاتمية نفس الرسول للأنبياء والرسل الآخرين، وخاتميّة الكتاب الساوي النازل عليه للكتب السماوية الأخرى، وخاتميّة شريعته لبقية الشرائع الإلهية(2).

وقد سرد المفسّرون مجموعة من الأدلّة في ختم النبوة بنبي الإسلام ؛من جملتها : أنّ النبي الذي لا يكون بعده نبي هو أرأف الأنبياء وأرحمهم وأفضلهم في

ص: 240


1- سورة الحجر،الآية:9.
2- الفرقان، ج22، ص 154 إلى 158.

هداية الأمة وإرشادها. وبعبارة أخرى:لكلّ واحد من الأنبياء نصيبه من الإشفاق على أمته والنصح إليها والهداية والإرشاد،غير أنّ أفضل الأنبياء قد اختُصّ بأسمى الدرجات الممكنة من الإشفاق على أمته والنصح إليها، وهو نفسه خاتم الأنبياء؛ وذلك لعدم بقاء أي نصيب من الإشفاق والرأفة ليُتمّمه من سيأتي بعده من الأنبياء؛ إذ لا نبي بعده. وقد اختُص رسول الإسلام بأوفر قدر من الإشفاق والرأفة والرحمة، وإننا لنرى هذا المعنى جليّاً في الآية الكريمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(1).

ومن هذا المنطلق كان خاتم الرسل(2)وقد سدّ باب بعثة الأنبياء به(3).

وكذلك نشاهد الدليل الآتي في آراء المفسّرين :

وصل رسول الإسلام إلى أسمى درجات الكمال والفضيلة؛ تلك الدرجة التي لا يعلوها إلا درجة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وصفاته، ولا يمكن لأحد من المخلوقات أن ينال درجة أعلى منه أبداً، لذا كان الوحي النازل عليه متصفاً بكونه أكمل وحي ومشتملاً على أسمى الحقائق والمعارف.

وبناءً على هذا،لن يأتي نبي برسالة جديدة بعد رسالة رسول الإسلام الأكرم،ولن تحدث بعثة النبي بعد بعثته(4).

ويظهر هذا المعنى جليّاً في (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) في قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمَّةٍ

ص: 241


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- التفسير الكبير،الفخر الرازي، ج 25، ص 214. تفسير روح المعاني،الجزء 22، ص 46.
3- روض الجنان، ج 15، ص 432.
4- تفسير الكاشف، ج 6، ص 225 و 226.

شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(1).

2/5/17. رؤية المتكلمين:

يرى الشيخ المفيد - المتكلّم الإمامي المشهور - في بيانه أدلّة خاتمية نبي الإسلام بأنّ الدليل على ختم النبوة هو الآيات والروايات.

وقد أشار إلى الآية الأربعين من سورة الأحزاب وإلى الرواية التي سبق ذكرها من خطاب الرسول الإمام عليّاً(2). غير أنه يضيف في مكان آخر من كتبه:

يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء(3).

وكأنّ الشيخ المفيد كان ناظراً للحديث النبوي الشريف: «أرسلت إلى الناس كافة »(4).

وقد تناول المتكلّمون في آثارهم هذا الدليل :

لقد بعث رسول الإسلام بأفضل كتاب وأتمّ شريعة وملة وأكمل دين وجاء بشريعة تضمن قضاء جميع حوائج جميع المخلوقات في كل زمان وكل مكان وتحت أي

ص: 242


1- سورة النحل،الآية :89.
2- النكت الاعتقاديّة، مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد، ج 10، ص 37.
3- أوائل المقالات، ص 175.
4- صحیح مسلم، ج 8، ص 89 ،مسند أحمد، ج 4، ص 81 و 84 .الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل، السبحاني، ج 3، ص 500.

ظروف. وبناءً على هذا، لن يُبعث رسول بعده(1).

3/5/17 . رؤية الحكماء:

من الممكن تبيين خاتمية نبي الإسلام فلسفياً، غير أنه أمر يتطلب بعض التفصيل الخارج عن مجال هذا المختصر .

وعلى سبيل المثال نجد أن صدر المتألهين يقول:

فالنبوّة والرسالة من حيث ماهيتهما وحكمهما ما انقطعت وما نسخت وإنما انقطع الوحي الخاص(2).

وهذا يعني أن ختم النبوّة تعني انقطاع الوحي.

وقد تناول المحقق اللاهيجي معنى ختم النبوّة والدليل العقائدي عليها مبيناً إياه ببيان فلسفيّ ممزوج بمصطلحات الحكمة المتعالية؛ حيث قال:

المراد من ختم النبوّة هو الصادر الأوّل الذي يحيط بدائرتي القوس صعوداً ونزولاً.وإن أرقى مراتب الكمالات الإنسانية هي النبوّة التي تنطوي بدورها على مراتب شتى.

ص: 243


1- صالح الفوزان،الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد. كذلك يمكن الرجوع إلى : حاج سلطان محمد جنابذي،بيان السعادة، ج 3، ص 249.«هذه الكلمة للترقي عن كونه أباً لأمته فكأنّه قال بل هو أب لجميع المرسلين وأممهم لأنه خاتمهم والخاتم ينبغي أن يكون محيطاً بالكلّ ومنسوباً إلى الكل نسبة الأب إلى الأولاد...» وواضح أن لفظة (أب) قد وردت في هذه العبارة على نحو من الكناية عن الإحاطة الوجودية له بجميع الممكنات والمخلوقات الإلهيّة. وجدير بالذكر أن رسول اللّه نفسه قد ذكر هذه اللفظة بالنسبة إلى أمّته؛ حيث ورد في المجامع الروائية الشيعية: «أنا وعلي أبوا هذه الأمة» راجع: بحار الأنوار، ج16، ص 95؛ج 23، ص 128 ؛ج 26، ص 263؛ ج 36، ص 11. أمالي الصدوق، ص 14 و 331.عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 85 .كمال الدين، ج 1، ص 26. غير أنّ العبارة الأولى قد أوردت لفة (أب) مثبتة إحاطته بالنسبة إلى جميع البشر حتى الأنبياء الآخرين أيضاً.
2- صدر المتألهين الشيرازي،الشواهد الربوبيّة، قم، بوستان کتاب، 1382 شمسي، ص 436.

وهذه هي مرتبة العقل الأوّل التي هي الصادر الأوّل من الواجب تعالى؛ أي لا يمكن تصوّر أعلى منها في الممكنات.وهذه هي مرتبة وجود خاتم الأنبياء؛ حيث تختتم النبوّة بهم. وتتوازى مرتبة الصادر الأوّل في السلسلة البدوية (قوس النزول) مع مرتبة خاتم الأنبياء في سلسلة قوس الصعود. وقد تشابكت تانك القوسان في تلك المرتبة. وبذلك، تنتهي دائرة الوجود الموجود الأوّل الذي يصدر عن الواجب تعالى، هو أشرف الموجودات الممكنة ؛ لأنّه لو كان هناك أشرف منه، لوجب أن يصدر هو أولاً».

ويضيف قائلاً:

«انتهت دائرة الوجود بوجود خاتم الأنبياء، ويتصل المبدأ والمعاد الإضافيان أحدهما بالآخر، ويتحد المبدأ والمعاد الحقيقيّان أحدهما مع الآخر؛ فإنّ مرتبة وجود خاتم الأنبياء - إذن - تقع إزاء مرتبة وجود العقل الأوّل، ويظهر سرّ«أوّل خلق اللّه روحي» و«لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل»(1).

وعلى هذا الأساس، ومن خلال الاعتماد على الآية التي ذكرناها سابقاً: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )(2).

فإنّ رسول الإسلام هو واسطة فيض الوجود والرحمة الإلهية على جميع الكائنات؛ وهذا هو الشأن ذاته المنحصر به هو فقط .

ص: 244


1- جوهر المراد(بالفارسية:گوهر مراد)،الفياض اللاهيجي،ص 370-372.شرح أصول الكافي، صدر المتألهين، كتاب العقل والجهل،الحديث الأول.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.

4/5/17. رؤية العرفاء:

ما من شكّ في أنّ من في أن ختم النبوّة وانطواء صفحة ابتعاث النبيين بإرسال نبي الإسلام أمر قطعي تسالم عليه العرفاء. وقد تناول العرفاء توضيح معنى ختم النبوّة، وبيان أدلّتها، مستفيدين من بعض الآيات، وبعض المصطلحات العرفانية.

يقول عبد الرزاق الكاشاني في بيان المعنى العرفاني لختم النبوّة:

«الخاتم هو الذي قطع المقامات بأسرها، وبلغ نهاية الكمال، وبهذا المعنى يتعدّد ويتكثّر. خاتم النبوّة هو الذي ختم الله به النبوّة؛ فلا يكون إلا واحداً وهو نبينا»(1).

وتوضيح هذا القول يمكن استفادته من قول عزيز الدين النسفي؛ إذ عدّ المراتب الوجودية على النحو الآتي:

إنّ الإنسان وبعد تصديقه للأنبياء إيماناً ومع ذلك التصديق والتقليد، يصرف معظم وقته على العبادة ويصبح عابداً، وإن تورّع بامتلاكه لذلك المقام، عن حبّ الجاه وأعرض عن الملذات والشهوات، فهو زاهد وإن نال مع حصوله على المراتب السابقة مشاهدة الملك والملكوت والجبروت، فقد بلغ مقام المعرفة ويُسمّى حينئذ عارفاً، وهذا هو حدّ الولاية. وإن استأثره الله مع وجود مرتبة المعرفة لديه،بمودّته وإلهامه، فقد نال الولاية وأصبح ولياً، وإن أعطاه الله الوحي، فقد نال مقام النبوّة، و إن أعطاه كتاباً إلى جانب الوحي والمعجزة، فقد نال مقام الرسالة، وإن كانت شريعته ناسخة لما قبلها من الشرائع وأتى هو نفسه بشريعة أخرى، فقد نال مقام ختم النبوّة، وبالطبع، فهذا مقام معطى من الحق سبحانه وتعالى(2).

ص: 245


1- اصطلاحات الصوفية،لكاشاني، ص178.
2- عزيز الدين النسفي؛ الإنسان الكامل، ص 93 .

وفي هذه الدرجة، ينال الإنسان أعلى مراتب العلم بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولا يوجد في ما بين الموجودات الممكنة من يضاهيه في درجة العلم. وهذه الدرجة ليست إلّا رجة خاتم الرسل؛ ذلك لأنه الوحيد المحيط بجميع المقامات والدرجات الكلية منها والجزئية، الكبيرة منها والصغيرة كما أنه ملمّ بالفروقات بينها، وهذه المرتبة لا تثبت إلا لمن أضحى عالماً بالاسم الأعظم.

وقد نال نبي الإسلام درجة ختم النبوّة وكان خاتم الرسل؛ لأنه هو واسطة مشاهدة سائر الأنبياء لمراتب الحق تعالى:

«فلكون غيره من الأنبياء لا يشاهدون الحقّ ومراتبه إلا من مشكاته الممهدة له من الباطن»(1).

ومن هذا المنطلق، كان نبي الإسلام هو المبعوث للناس كافةً،وكان الدين الذي بعث به كافياً وافياً لجميع البشر :

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ... )(2).

وقد أشار ابن عربي إلى عمومية رسالة النبي الخاتم إلى كل البشر قائلاً:

فكان من ذلك أن بعث وحده إلى الناس كافةً، فعمّت رسالته(3).

ص: 246


1- محمّد داوود ،قيصري شرح الفصوص، ص 436. ويقول ابن تركة في هذا الموضوع: «وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأوليا، فإنّهما يوصلان في الحقائق والمعارف إلى أقصى كمالها بجزئياتها وكلياتها وصورها ومعانيها وهي حضرة متعانق الأطراف ومجتمع الأضداد» إبن تركة ؛ شرح الفصوص، ج 1، ص 191.
2- سورة سبأ، الآية: 28.
3- الفتوحات المكيّة، ابن عربي،ص 431.

وبعبارة أخرى: (ختم النبوّة) تعني عمومية الرسالة على جميع الخلائق.

يقول تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)(1).

وهذا يشير إلى المعنى ذاته، فلفظ (نزّل) يتضمّن معنى التزايد؛ ذلك لأنّ إنزال الفرقان هو إظهار العقل الفرقاني المختص بواحد خاص من عبيد اللّه تعالى، والذي اختصّ به اللّه تعالى نبي الإسلام، ولم ينل غيره هذه الخاصية والاستعداد.

ولهذا، فإنّ عقله الفرقانيّ هو ذات العقل المحيط، والذي يُطلق عليه أيضاً اسم العقل الكلّ، والذي هو جامع لكمالات جميع العقول. وسبب هذا ظهور الحق تعالى بجميع صفاته المفيض على جميع الخلائق في المظهر المحمدي، غير أنّ هذا الظهور ذات التكثّر والتزايد في الخير؛ ولا يوجد بين الخلائق من يستفيض من هذا الخير أكثر من النبي. لذا قال تعالى: (... لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )، أي إِنْ كُلَّ نبي يُبعث برسالة خاصة إلى أناس تتناسب معهم استعدادات ذلك النبي وقدراته؛ وأما رسالة نبي الإسلام فقد شملت العالمين جميعاً، وهذا هو عين معنى ختم النبوة ومن ذات المنطلق كانت أمته خير الأمم(2).

وهذا ما جاءت به آیات القرآن الكريم:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...)(3).

كما أنّ ابن عربي قد قال في مكان آخر من كتابه:

ص: 247


1- سورة الفرقان، الآية:1.
2- تفسير القرآن،ابن عربي، ج 2، ص 151 و 152.
3- سورة آل عمران،الآية:110.

«قيل في رسول اللّه أنّه خاتم النبيين فبطن بهور ختمه كونه نبياً وآدم بين الماء والطين ولما ظهر كونه نبياً وآدم بين الماء والطين واستفتح به الحق مراتب البشر كان كونه باطناً في ذلك الظهور ... فإن قلت ما سبب الختم ومعناه؟ فلنقل في الجواب: كمال المقام سببه والمنع والحجر معناه، وذلك أن الدنيا لما كان لها بدء ونهاية وهو ختمها قضى اللّه سبحانه أن يكون جميع ما فيها بحسب نعتها له بدء وختام وكان من جملة ما فيها تنزيل الشرايع. فختم الله التنزيل بشرع محمّد 9 فكان خاتم النبيين وكان الله بكلّ شيء عليماً»(1).

وقد ذهب الإمام الخميني : إلى رؤية خاصة؛ إذ عدّ وجود نبي الإسلام مظهراً وتجلّياً للحق تعالى وعلى هذا الأساس كان النبي فضل البشر على الإطلاق ودينه وشريعته أفضل الأديان والشرائع؛ حيث قال: من

ولما كانت النبوّة الخاتمة والقرآن الكريم وشريعة ذلك القائد العظيم مظاهر ومجالي أو تجلّيات وظهورات المقام الأحديّ الجامع، وحضرة الاسم الأعظم، لذا كانت أكثر النبوات والكتب والشرائع إحاطة وجامعية، فلا يتصوّر وجود نبوّة أو شريعة أكمل وأشرف منها(2).

5/5/17 . رؤية إقبال اللاهوري:

فضلا عن آراء المفسرين والمتكلمين والعرفاء السابقين وأقوالهم، نجد أيضاً مجموعة أخرى من الشخصيات التي عرضت معنى ختم النبوّة والأدلة عليها، وعملت على توضيحها وبيانها.

وقبل أن نشرع في بيان هذه الآراء، لا بد من ذكر أن الحديث عن ختم النبوّة -

ص: 248


1- الفتوحات المكية،ابن عربي،ج 12، ص 126.
2- آداب الصلاة،الإمام الخميني،ص 439(النص العربي).

على طول التاريخ - لم يكن محفوفاً بالبحوث المعقدة ومليئاً بالتحديات؛ فالمفكرون السابقون كانوا يقولون بختم النبوّة، ويعتبرون الحديث تاماً في أمرها معتمدين في ذلك على ما ورد في الدين من أدلّة، وكانوا يكتفون في أقصى حالات الاستدلال بعض البراهين العرفانية، أو التحليلات المستندة إلى الوحي. أما في العصور المتأخرة فقد ولّدت الأقوال المختلفة وآراء النقد الوارد من خارج الإطار الإسلامي في هذا الموضوع بحوثاً عميقة وممتدّة جديرة بالأخذ بعين الاعتبار.

وفي ما يأتي نعرض أقوال بعض المفكّرين المعاصرين في ما يتعلق بمعيار ختم النبوّة، والأدلّة عليها من الأدلّة والمعايير التي استعرضت لإثبات ختم النبوة ما يأتي:

إن عقل الإنسان في ما يلي عصر الرسول الأكرم قد وصل إلى مرتبة من الرشد تكفي لهدايته ونيله السعادة والكمال؛ حيث يستطيع الإنسان من خلال ذات هذا الأداة (العقل) أن يواصل ما بقي من مسير. وبناء على هذا، لا يلزم إرسال الرسل ولا استدامة النبوة.

وقد ساق هذا الدليل العالم المعاصر محمّد إقبال اللاهوري؛ حيث ابتدر برهانه ببيان طبيعة الوحي، والذي يعتقد بكونه تجربة دينية كما أنه يعتبر أنّ النبي كالعارف الذي وصل إلى مرحلة الوعي الباطنيّ ، وأنّ أقواله حاصلة تعمّقه في باطنه(1).

ويتمثّل الفارق الوحيد بين الوعي النبوي ووعي العارف - عنده - في كون العارف وبعد أن تذوّق طعم الاطمئنان الحاصل من التجربة الاتحادية لا يقبل الرجوع إلى حياة هذا العالم،في حين نجد أنّ أهم اهتمامات النبي هي العمل على إصلاح هذا العالم.

ص: 249


1- تجديد الفكر الديني،محمد إقبال اللاهوري، ص 44.

وتناول اللاهوري مراحل تطوّر الإنسان التاريخية مستعرضاً نظرية أوغست كونت؛ حيث ادعى كونت أنّ الفكر البشريّ قد مر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى هي مرحلة معرفة اللّه (وهي المرحلة الدينية)، يتعرّف فيها الإنسان على العالم من خلال سلطة الدين والإله.

والمرحلة الثانية هي مرحلة ما وراء الطبيعة (وهي المرحلة الفلسفية)؛ حيث يتنازل الدين عن مكانته للقوى فوق الطبيعية والفكر الفلسفي في ما يتعلق بماهية الكائنات؛ ليصبح المنطق والرياضيات هما محور التفكّر.

والمرحلة الثالثة هي المرحلة العلميّة، التي تصبح فيها مشاهدة الوقائع التجربيّة واختبار النظريات هما الأسلوب الوحيد الذي يمكنه تحقيق المعرفة(1).

وادّعى إقبال اللاهوري أنّ الإنسان في مرحلة الطفولة (مرحلة الحياة الدينية) يكون تحت سلطة الغريزة والشهوات، وأمّا في مرحلة النضوج يكون قد وصل إلى مرحلة من النمو العقلي، ويتوجب عليه - عندئذٍ - أن يشتغل بكسب المعرفة مستفيداً من ذلك النموّ، وهذا هو الشيء الذي جعل الإنسان قادراً على التصرف في الطبيعة.

قال ما نصّه:

نبيّ الإسلام يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث ومولد الإسلام ... هو مولد العقل الاستدلالي. إنّ النبوّة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء

ص: 250


1- مفاهيم علم الاجتماع واستعمالاته،جوناثان اتش تيرنر،(الترجمه الفارسيّة، ص 28)؛علم الاجتماع الديني، مالكوم هاميلتون،(الترجمة الفارسية،ص 38)؛الفكر الديني في القرن العشرين،جون مك كويري،(الترجمة الفارسية، ص 196).

الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان، لكي يحصل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو(1).

ولم يُخفِ إقبال تمايله إلى اعتبار النبوّة تجربةً باطنية؛ حيث قال:

قد يُقال في تعريف النبوّة: إنّها ضرب من الوعي الصوفي ينزع ما حصله النبي في مقام الشهود إلى مجاوزة حدوده، وتلمس كل سانحة لتوجيه قوى الحياة الجمعية توجيهاً جديداً، وتشكيلها في صورة مستحدثة، فالمركز المتناهي من شخصية النبي يغوص أغواراً لا نهائية ليطفو ثانية مفعماً بقوة جديدة تقضي على التقديم، وتكشف عن توجيهات للحياة جديدة(2).

وقد قوبلت رؤية إقبال اللاهوري بأربعة اتقادات أصلية؛ استعرضها الشهيد المطهّري. فالعرض الذي اقترحه اللاهوري لطبيعة الوحي مخالف للوحي الذي عرّفت المصادر الإسلامية؛ فقد ذهب إقبال إلى عدّ الوحي أمراً غريزياً طبيعياً، وذا مرتبة أدنى من العقل؛ في حين أنّ الوحي هو هداية تسمو على الحس والعقل !

وبناءً على ذلك، لا يمكن أن يُعدّ الوحي من سنخ الغريزة أو التجربة الدينية. والوحي ذو طبيعة لغوية خطابية، ولا يمكن اعتباره محدوداً بمواجهة النبي أو متحداً مع الغريزة. ولهذا نجد الشهيد المطهري يقول:

الغريزة... هي خاصية طبيعية مرتبطة باللاوعي بنسبة مئة بالمئة وهي أدنى من الحس والعقل ... كما أنّها تضمر وتتضعف بنمو أدوات الهداية الأسمى-أعني الحسّ والعقل- وأمّا الوحي فهو على عكسها تماماً، فهو هداية ومعرفة أعلى درجة من الحسّ

ص: 251


1- تجديد الفكر الديني،محمد إقبال اللاهوري، ص 149 (الترجمة العربية).
2- المصدر السابق، ص 148.

والعقل و... كما أنه في أسمى درجات الوعي،فجانب الوعي في الوحي بدرجة تفوق الحسّ والعقل على نحو لا يمكن وصفه»(1).

ومن جهة أخرى قد يحمل كلام إقبال اللاهوري على القول بأنّ وجود العقل كافٍ، فلا يحتاج معه لا لوحي جديد، ولا لنبي جديد؛ بل لا حاجة لجميع توصيات وإرشادات الوحي مطلقاً، وهذا يعني أنّ البشر من الأساس لا أنهم لا يحتاجون إلى الدين وإرشاداته، بل أنّهم لا يحتاجون إلى التدين في نفسه، فجل وظيفة الوحي كانت إعلان انقضاء عصر الدين وبداية عصر العقل والعلم .

«وهذا الأمر ليس مخالفاً لتعاليم الدين الإسلامي وحسب؛ بل إنّه مخالف لنفس نظرية إقبال اللاهوري. فقد دارت كلّ مساعي اللاهوري حول إثبات أن العقل والعلم هما أمران ضروريان للبشرية غير أنهما غير كافيين، فالإنسان يحتاج إلى إلى الدين والاعتقاد الديني بذات قدر احتياجه للأصول ثابتة والفروع المتغيّرة وعملية (الاجتهاد الإسلامي) هو عبارة عن تطبيق الفروع على الأصول»(2).

وبحسب أقوال العلامة المطهري فإنّ إقبال قد وقع في التناقض مع آرائه؛ وذلك لأنه - من جهة - يرى أنّ الوحي معرفة مأخوذة من الغريزة والتجربة الباطنية، وأنه مختص بفترة طفولة المجتمع البشري، كما أنّه يرى من الجهة الأخرى أنّ الاجتهاد هو عنصر تطوّر الإسلام، وهذا القول يستلزم كون الوحي ضرورياً في جميع فترات الحياة البشريّة؛ حتى الفترة الجديدة. ومجموع هذين القولين ليس إلا كاشفاً عن عدم الانسجام الداخلي لنظريّة إقبال اللاهوري.

ص: 252


1- الوحي والنبوّة.المطهري،ص 192.
2- الوحي والنبوّة،المطهري، ص 198.

ويقول إقبال اللاهوري بعدم قبول دعوى كلّ من يدعي الارتباط بعالم ما فوق الطبيعة؛ فقد ولّى - بحسب رأيه - زمان التجارب الباطنية والعرفانية والوحي، وانتهى عصرها. ولو كانت نظرية إقبال صحيحة لوجب أن ينتفي - بعد نشأة العقل التجربي جميع ما أسماه اللاهوري بالتجربة الباطنية وللزم أن تنقضي «مكاشفات الأولياء» أيضاً ؛ ذلك لأنّ الفرض قائم على أنّ جميع هذه الأمور هي - في الحقيقة - نوع من أنواع الغريزة وبنشأة العقل التجربي تنكمش ،الغريزة، وتخبو جذوتها، هذا في حين أنّ إقبال اللاهوري نفسه يعتقد ببقاء التجربة الباطنيّة؛ بل ويذكر أنّها (أي التجربة الباطنية) إحدى المصادر الثلاثة(للمعرفة الطبيعة، والتاريخ، والتجربة الباطنية)(1).

6/5/17. رؤية الدكتور شريعتي:

إحدى النظريّات الأخرى التي عرضت موضوع ختم النبوّة هي نظرية تعيين الفترة الزمانية لختم النبوّة. وقد تقبّل الدكتور علي شريعتي تبيين إقبال اللاهوري للخاتميّة بنحو كامل، مضيفاً إلى ذلك نقطة أخرى؛ إذ ذهب إلى أن زمن اختتام القيادة الخارجية للبشرية قد تأخّر مئتين وخمسين عاماً (250 عاماً بعد نبي الإسلام)، فأعرب عن رأيه بالقول:

من بعد هذا، فإنّ الإنسان على أساس طراز تربيته،سوف يكون قادراً على مواصلة طريقه في الحياة، وإكمال المسيرة من دون وحي،وبدون نبوّة جديدة.ولذا،اختتمت النبوّة ههنا،ووجب عليكم إكمالالمسير بأنفسكم.(2)

وقد شدّد شريعتي تارةً على ضرورة الاستفادة من الوحي في فترة ختم النبوّة،

ص: 253


1- الوحي والنبوّة،المطهري،ص190.
2- الأعمال الكاملة (بالفارسية) ، علي شريعتي، ج 30، ص 63.

مؤكّداً على ضرورة الحذر من مضارّ العلم الحديث وأخطاره، كما أنه تحدّث عن غنى البشر عن الوحي الجديد تارةً أخرى، وتحدّث - كإقبال اللاهوري- عن عدم افتقار البشر للوحي في هذا العصر على نحو مطلق تارةً ثالثةً، ذاهباً إلى أنّ العقل كافٍ لمواصلة الطريق!

فمن ناحية يقدّم شريعتي المفكّرين على أنّهم ورثة الأنبياء، ومن ناحية أخرى نجده يعتقد أيضاً بنظرية الإمامة وولاية الفقيه؛ فهل المقصود عنده وجوب اشتمال أئمة زمان الغيبة وفقهائها بخاصية الانفتاح الفكري، وبذا يكونون قد ضموا هذين المنصبين مع بعضهما، أم أنّ له مراداً آخر ؟ اللّه العالم.

إن قضية ختم النبوّة - بحسب رؤية شريعتي - تعني تخرج الإنسان من مرحلة الوحي، وطيّه إياها. وهذا يعني أن البشرية بعد اختتام النبوّة لا تفتقر إلى وحي جديد؛ أي إنّ الإنسان - من خلال اتكائه على تعاليم هذا الدين، وتعرّفه على ما تعلّمه في هذه المرحلة - أضحى قادراً على شق طريقه لوحده، وإيجاد الأجوبة المناسبة من دون افتقار لنبي جديد يُبعث ليأخذ بيده؛فالإنسان قادر على أن يخطو خطاه في طريقه نحو الكمال من خلال تعلّم ما جاء في الوحي الخاتم،والعمل بتعاليمه، والاجتهاد فيها(1).

ومن جانب آخر نفي شريعتي حاجة الإنسان إلى نبوّة جديدة قائلاً:

ختم النبوة تريد أن تبين أن الإنسان قد كان - إلى زمان بعث النبي الخاتم- محتاجاً إلى تلقّي الهداية من ما دون تعقله وتربيته، ففي ذاك الوقت (القرن السابع الميلادي) ونلاحظ أن مسيرة التربية البشرية في عصر ما بعد نهضة الحضارات المختلفة من قبيل الحضارة اليونانيّة والحضارة الرومانية والحضارة الإسلامية ونزول الكتب السماوية

ص: 254


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية) ، علي شريعتي، ج 14، ص 327.

من قبيل الإنجيل والقرآن الكريم، قد بلغت المستوى اللازم. وبعد ارتقاء الإنسان إلى هذا المستوى من التربية، نجد أن الإنسان قد أصبح قادراً على أن يقف على قدميه، وأن يواصل حياته ومسيرته نحو الكمال بنفسه، من دون الحاجة إلى وحي ونبوّة جديدين یر شدانه، وعلى هذا الأساس كان ختم النبوّة والوحي».

وبعد هذا القول، نجده يتحدّث كأنّ الإنسان غنيّ عن الوحي؛ إذ كتب:

ومن بعد هذه المرحلة، يملأ العقل مكان الوحي، ولا شكّ في أنّ المقصود هو العقل الذي تربّى طوال القرون السابقة على يد الوحي، ووصل إلى مرحلة البلوغ(1).

وهذا يدلّ على أنه لم يلتفت إلى النقطة المهمّة في الموضوع؛فإنّ البشر الذين عاصروا حقبة نزول الوحي أيضاً كان من واجبهم أن يُفيدوا من العقل الذي تربّى على يدي الوحي؛فكما أنّ الوحي يمثل ضرورة للعقل في عصر ختم النبوّة، فإنّ العقل الذي تربى على يد الوحي في عصر النزول وإدراك الوحي ضروري أيضاً.

يقول شريعتي:

إنّني استوعب ختم النبوّة بهذا المعنى ؛ وهو أنّ الرسالة التي كان الأنبياء مكلّفين بها أصبحت على عاتق المفكرين،فأصبح من واجبهم أن يقوموا بأعبائها، أولئك المفكرون الذين لم يتحدّد بفرع معيّن من العلوم،بل إنّهم استقوا من حسّ النبوّة(2).

وهنا،نلاحظ أنّ كلام شريعتي عن ختم النبوّة يتناقض مع بعض التعاليم الدينية، بل لا يتوافق مع بعض أقواله وآرائه هو:

ص: 255


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)،علي شريعتي، ج 3، ص 63 - 64.
2- المصدر السابق، ج 4، ص 151.

فأوّلاً: يتنافى قوله هذا الإمامة؛ إذ إنّها هي المكمّلة للنبوّة والاستمرار لنهجها،وهي المسؤولة عن هداية الأمم من بعد النبوة.

وثانياً: برز مصطلح التنوير - بمعناه الحديث - في فرنسا، ومن ثمّ كان أتباع هذا المصطلح في سعي حثيث ومستديم من أجل زحزحة الوحي عن مكانته، ومحاولة تهمیشه؛ فهل يمكن للمفكّرين من هذا الطراز أن يصبحوا هداة للأمة وورثة للأنبياء ؟!

وثالثاً : تثمّل الاشتراكية - بحسب رؤية شريعتي - أكبر إبداعات البشر في العصر الحديث، ويمثل ماركس أحد مصاديق التنويريين.(1)وعلى هذا الأساس، من الواجب أن يُعد ماركس من زمرة ورثة الأنبياء وأن تُعدّ الاشتراكية استدامة لحركة النبوة! وهنا يظهر ما في تفسير شريعتي من تهافت.

إنّ دعوى إقبال وشريعتي القائمة على القول بكفاية العقل في مسيرة رشد الإنسان تؤدّي - لا محالة - إلى تقابل العقل والدين. وهذا النحو من التفكير ناشئ من إخراج العقل من دائرة حكومة الدين؛ أي إنّ هذه النظرية تجعل من العقل خصماً للدين. ومن هذا المنطلق، فكما أن التفريط يجعل من هذين الاثنين (العقل والدين)خصيمين، نلاحظ أنّ الإفراط يطرد العقل عن دائرة نفوذ الدين.

وأما على أساس الاعتقاد بتعاضد النقل والعقل، وتكاتفهما في إعمال تعاليم الدين،نجد أن مسؤولية معرفة أحكام الدين تقع على كاهلهما معاً؛ فالعقل بمعونة النقل هو الذي يمارس تحصيل تعاليم الدين والتعريف بها.

بناءً على ما تقدّم، ختم النبوّة يعني أنّ جميع أصول الدين والعقائد والضوابط

ص: 256


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)،علي شريعتي، ج 30، ص 161.

والقوانين الاعتقاديّة والعمليّة والأخلاقية والفقهيّة والحقوقيّة قد جاءت على نحو تامّ وكامل في النصوص الدينية، وأن العقول التي استنارت دفائنها بنور الوحي ستقوم باستخراج جواهرها .وإذكائها. ولهذا لن يأتي للبشرية إمداد جديد من المصادر الوحيانية والنقليّة، بل إنّ الدين الذي جعل من العقل المستعين بالنقل مصدراً في التعرّف إلى الأحكام الإلهية سيكتفي - دائماً و أبداً - في هداية البشر بهذين المصدرين؛ لا أنّ نمو العقل ورشده سوف يؤدّي إلى اضمحلال دور الدين، وتقلّص ساحة نفوذه؛ فالعقل ليس خصماً للدين، بل هو موجود في صميمه(1).

7/5/17. رؤية العلامة المطهري:

يتطلّب تقديم رأي نهائي في ما يتعلّق بختم النبوّة إجراء عملية تحليلية شاملة، وملاحظة الأبعاد المختلفة لهذه المسألة. ولقد لاحظنا قسماً من رؤية العلامة المطهري وتفسيره لما يتعلّق بختم النبوّة عندما طالعنا ردّه وانتقاداته لرؤية إقبال اللاهوري.

ولكن من أجل التعرّف على رؤيته كاملة يلزمنا - فضلاً عما طالعناه - أن نقوم بمراجعة لبقية مؤلّفاته ومكتوباته؛ فقد عرض المطهّريّ قضية فلسفة ختم النبوّة في جملة منها؛ مثل: «الخاتميّة»، و«ختم النبوّة»، و«الوحي والنبوّة»التي تضمنتها سلسلة«المدخل إلى الرؤية الكونية الإسلامية»، كما توجد أيضاً في كتبه الأخرى تلميحات بخصوص هذه المسألة؛ مثل: «الإسلام ومقتضيات الزمان» و «التعرّف على القرآن»، و«نقد الماركسية».

يتساءل العلامة المطهّري - في البداية - عن فلسفة ختم النبوّة، ويستعرض في هذا المجال ثلاثة حلول أي إنّه يرجع استمرار وتكرار إرسال الرسل وتشريع الشرائع في

ص: 257


1- منزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية، الجوادي الأملي، ص 180.

ما قبل زمان الإسلام إلى أحد هذه الأمور الثلاثة،فمع انتفاء هذه العلل تُختتم النبوّة.وهذه الأمور الثلاثة هي:

أوّلاً: وجود احتمال وقوع التحريف في الدين.

ثانياً: وجود النقص في درجة إدراك البشر.

ثالثاً : وجود الحاجة إلى تفسير الدين وتبيينه وتبليغه.

فالسبب الذي دعا إلى إرسال الرسل في عصر ما قبل الإسلام هو تعرّض الأديان والشرائع للتحريف والتغيير من جانب البشر، وهذا الأمر يؤدّي - لا محالة - إلى فقدان المصداقيّة فيها . أما الإسلام فقد اختصه الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بصيانته من هذه المشكلة، وضمن عدم وقوع التحريف فيه(1).

وإنّ البشر الذين عاشوا في العصور التي سبقت الإسلام كانوا عاجزين عن الوقوف على خارطة شاملة كاملة عن مسير حياتهم، ذلك لقصور نموّ إدراكهم العقلي، غير أنّهم في العصر الجديد الذي ظهر فيه دين الإسلام، أصبحوا قادرين على تلقي هذه الخارطة المتكاملة؛ إذ إنّ استخدام أصول هذه الخارطة الكلية وقواعدها أمكن البشريّة من تحصيل الحلول الفرعية والمؤقتة(2).

وأضاف المطهّريّ يقول:

ص: 258


1- ختم النبوّة، الأعمال الكاملة (بالفارسية)،مرتضى المطهري ، ج 3،ص 156؛الإسلام ومقتضيات الزمان، الأعمال الكاملة(بالفارسية)، مرتضى المطهري، ج21، ص 21. الوحي والنبوّة، نفس المصدر السابق، ص 184.
2- الوحي والنبوّة،المصدر السابق،ص 184. راجع: التعامل المتقابل بين الإسلام وإيران، مرتضى المطهري، ص 241 - 240.

إنّ تلقّي الوحي من جانب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو النبوّة التكوينية، وأما تبليغه بين البشر وإيصاله إليهم فهو النبوّة التشريعية. فبعض الرسل كانوا يتمتعون بالنبوّة التكوينيّة فقط؛ إذ كانت مهمة تلبيغ الدين واقعة في عهدة نبي آخر، وهناك أيضاً بعض الأنبياء كانوا حاصلين على كلا نحوي النبوّة. كما أن الأعمّ الأغلب من الأنبياء كانوا أنبياء تبليغيّين؛ لا تشريعيّين. وقد ختم دين الإسلام النبوّة التكوينية والنبوّة التشريعية. وقد ختم الإسلام النبوّة التشريعيّة؛ لأنّ البشريّة إنّما تحتاج إلى الوحي التبليغي عندما تكون ذات درجة من العقل والعلم والحضارة لم تصل إلى مستوى يمكنها من أن تمسك هي بنفسها بزمام أمور الدعوة والتعليم والتبليغ والتغيير والاجتهاد في أمور الدين. فظهور العلم والعقل-وبعبارة أخرى : رشد الإنسانية وبلوغها-هو بفسه كافٍ لختم النبوّة التبليغيّة؛ حيث يصبح العلماء ورثة الأنبياء في هذا المجال... في عصر القرآن انتقلت مهمة تعليم الآيات السماوية وحفظها إلى العلماء، حيث أصبح العلماء من هذه الجهة ورثة للأنبياء»(1).

بناءً على هذا نجد أن مفهوم الاجتهاد - بحسب رؤية العلامة المطهّريّ - يلعب دوراً مهماً في فلسفة ختم النبوّة. فعلماء الأمة في عصر ختم النبوّة الذي هو عصر العلم - ومن خلال إلمامهم بالأصول الكلية لدين الإسلام، ومعرفتهم الظروف الزمانية والمكانية - قادرون على تطبيق تلك الكليّات على ظروف الزمان والمكان ومقتضياتها،ومن ثَمَّ استنباط الحكم الإلهي واستخراجه. وبهذا الترتيب سيمكن لهم الإتيان بكثير من مهام الأنبياء التبليغيين من خلال الاجتهاد.

ومن هذا المنطلق، نرى أنّه في عين كون حاجة البشريّة للتعاليم الإلهية والبلاغ

ص: 259


1- ختم النبوّة، ص 173 - 174.

الذي جاء من طريق الوحي أبديةً، تنتفي حاجتهم إلى تجدد النبوّة ونزول كتاب سماوي وبعثة نبي جديد إلى الأبد، وبذا تختتم النبوة(1).

وقد أيّد العلامة الجواديّ رؤية العلامة المطهّريّ فقال في بيان دور الاجتهاد في خلود الديانة الإسلاميّة :

يوجد في الدين الإسلاميّ نوعان من الاجتهاد؛ أحدهما/ديناميكيّ متغيّر، والآخر مستقرّ ثابت. فالأوّل هو الاجتهاد العلمي الذي يتحمّل مسؤولية استنباط الأحكام والقوانين واللوائح الفقهية والحقوقية. والثاني:هو الاجتهاد الإداري الذي يتكفّل بسنّ السنن الثابتة والمستقرّة. وتتضح خاتميّة الإسلام من خلال بيان هذين البندين على نحو كامل(2).

ويرى العلامة المطهّري أيضاً بأنّ خاتميّة الإسلام وأبديته قائمة على كون الدين أمراً فطريّاً؛ ذلك لأنّ معارف الدين الإسلامي وتعاليمه إما فطرية، وإما قائمة على الفطرة. ومن هنا، ستكون هذه التعاليم أبديّة غير قابلة للتغيير.

يقول في هذا الصدد:

والدليل الآخر على خاتميّة هذا الدين وأبديّته نابع من توافقه وتناسقه مع القوانين الفطريّة؛ حيث وضع لاحتياجات البشر الثابتة غير القابلة للتغيير قوانين ثابتة غير قابلة التغيير، كما توقع لأوضاع البشريّة وأحوالها المتغيّرة ما يوافقها(3).

ص: 260


1- الوحي والنبوّة،ص 185.
2- منزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية،الجوادي الأملي، ص 180.
3- ختم النبوّة، ص 191.

ويذهب المطهّريّ إلى أنّ أبديّة الإسلام وخلوده قائم على أربعة أركان رئيسية:

أوّلاً: الإنسان والمجتمع : فللإنسان بعدان؛ بعد ثابت لا يتغيّر، وآخر متغيّر متبدّل. ولهذا السبب، كان من الضروري أن يلزم في بعض الأمور أصولاً ثابتة لا يحيد عنها، بينما في بقية الأمور يجب أن يتبع أوضاعاً متغيّرة.

ثانياً: الوضع المميز للتقنين في الدين الإسلامي: للإسلام أصول ثابتة لا تتبدل، كما أنّ له فروعاً متغيّرة ناشئة من تلك الأصول نفسها؛أي إنّ الإسلام هو أيضاً له - في إزاء بعدي الإنسان المذكورين - قوانين ثابتة، وأخرى متغيّرة.

ثالثاً: العلم والاجتهاد: عندما يتعرّف العالم على روح الإسلام، ويدرك أيضاً غاياته ووسائله،فيصبح باستطاعته أن يرجع الفروع إلى الأصول؛ يكون في واقع الأمر قد عمل بوظيفته الواقعيّة.

رابعاً: الاستعداد غير المتناهي الموجود في الكتاب والسنة:الدين مَثَله مَثَل الطبيعة في كونه غير متناه التفسير؛ وفي كل آن وأوان نجد أنّ الإنسان مكلّف بالتفكّر فيه والتدبّر لكي يحصل ما فيه من فوائد(1).

8/5/17 . حصيلة البحث:

كلّ ما مرّ من معانٍ وتفسيرات لختم النبوّة كان ناظراً إلى المحاور الآتية:

الأوّل:يمثل ختم النبوّة في الإسلام أمراً أصليّاً وقطعيّاً. وأهم الأدلّة عليه نص القرآن الكريم؛أي الآية الأربعون من سورة الأحزاب. ولا يوجد دليل عقلي على ختم النبوّة؛ ولكن من الممكن تعقلها.

ص: 261


1- الخاتميّة، ص 122 - 134.

الثاني: يمثّل الاعتقاد بخاتمية نبي الإسلام أحد ضروريات الدين؛ فإنكاره بمنزلة إنكار الإسلام.

الثالث: الدليل على معقولية ختم النبوّة - بحسب رؤية العلماء وأصحاب الآراء السابقين - هو الكمال النهائي للإسلام وشموليته؛ أي إنّ نبي الإسلام قد بيّن واستعرض جميع ما يحتاجه البشر في مسيرة هدايتهم ورشدهم، فجامعيّة الإسلام التامة وأبدية بقائه هما العاملان الأساسيان في خاتمية نبي الإسلام . وقد ورد هذا المعنى في بيان العرفاء عندما وصفوا المرتبة الوجودية لنبي الإسلام وإشرافه على جميع حقائق عالم الإمكان.

الرابع: عد بعض العلماء المعاصرين(إقبال اللاهوري وشريعتي)أنّ سرّ ختم النبوّة يكمن في التكامل العقلي للإنسان، ورشد فهمه وإدراكه، واعتقدوا أن الإسلام قد جاء في حقبة من التاريخ أصبح الإنسان فيها مستغنياً - بما تحصل عليه من معارف الدين الإسلامي وتعاليمه - عن ابتعاث نبي جديد، أو إرسال رسالة جديدة، بل وأصبح قادراً على مواصلة المسير معتمداً على عقله وفهمه ليصل إلى السعادة.

الخامس : أشكل بعض العلماء الآخرين (العلامة المطهّري) على الدليل السابق،وأوضحوا عدم تماميته؛ إذ رأوا أنّ العقل، بالرغم من كونه قائداً فذاً، إلا أن جوهر خاتمية الإسلام يكمن في :

[1]:بقاء الإسلام في مأمن من التحريف. [2]:غنى الإسلام وعدم احتياجه للتبليغ على أيدي أنبياء مبلّغين. [3]: وجود العنصر المهمّ والمصيريّ المسمىّ بالاجتهاد في منظومة الإسلام الإسلام المعرفية.

ومجموع هذه الأمور الثلاثة هو السرّ من وراء ختم النبوة.

ص: 262

6/17. الشبهات على ختم النبوّة:

ترتكز قضيّة ختم النبوّة على أسس استدلاليّة قرآنية وروائية؛ فهي أمر قطعي نابع من صميم الدين. ومن الممكن تعقلها من خلال تشييد أدلّة عقليّة عليها أيضاً؛ غير أنّ هذا ليس محلّ وفاقٍ أو إجماع.

وقد قام بعضهم بمحاولات استدلالية ساعين إلى نقض ختم النبوة من الأساس، فعمدت جماعة منهم إلى وضع بعض العراقيل أمام إثبات هذه القضيّة من خلال إثارة بعض الإشكالات والمناقشات التي سنأتي على ذكر بعضها في ما يأتي:

1/6/17.الأولى : بقاء بعض الأنبياء على قيد الحياة:

استعرض البعض هذه الشبهة على النحو التالي:

كيف يمكن أن نتقبّل ختم النبوّة بالنبي محمّد ؛في حين أن بعض الأنبياء من أمثال الخضر وإلياس وعيسى: ما زالوا على قيد الحياة؟ ألا يخدش هذا الأمر الإيمان بخاتمیته؟

منشأ هذه الشبهة : عدم فهم معنى ختم النبوّة؛ فالمقصود من ذلك انقطاع حدوث وصف ختم النبوّة، وابتدائها لشخص بعد نبي الإسلام؛ أي أنّ بعده لم يبعث شخص بالنبوة، ولن يبعث أبداً. أما الأنبياء المذكورون فقد بعثوا بالنبوة قبل نبي الإسلام(1).

ص: 263


1- تفسير روح المعاني،الآلوسي، ج 3، ص 49.

ويمكن الإجابة على ذلك بالقول:المقصود من ختم النبوّة انقطاع الوحي التشريعي،وخاتم الأنبياء هو المبعوث خاتماً للتشريع(1)بعبارة أخرى:من الممكن أيضاً أنّ يقع الوحي التكويني (العامّ) من بعد نبي الإسلام ، لكنّ الوحي التشريعيّ (الخاصّ) الذي يقارن بداية دين أو شريعة أو رسالة جديدة، فقد انتهى وانقطع ببعثته.

2/6/17 . الثانية : الاستدلال بالقرآن الكريم:

ادّعى بعض المنكرين لختم النبوّة أنّ القرآن الكريم قد صرّح باستمرار النبوّة، وعدم انقطاع بعثة الرسل الإلهيين على البشر؛ مستدلّين في هذه الدعوى على ظاهر الآية الخامسة والثلاثين من سورة الأعراف : (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلُ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) . فقالوا : إنّ مفاد هذه الآية يتنافى مع القول بختم النبوّة، وانسداد باب الوحي

والردّ على هذا أن يُقال: تحكي هذه الآية حال بني آدم،وذلك في بدايات مراحل الخلقة والهبوط إلى الأرض ، ولا ارتباط لها بجميع البشر . فهذا الخطاب الذي ورد في الآية ليس موجهاً إلى عصر رسالة نبي الإسلام عصر رسالة نبي الإسلام حتّى يقع التعارض بينها وبين القول بخاتميته!

والشاهد على أنّ هذه الآية تتعلّق بعصر آدم وهبوطه إلى الأرض مجموعةٌ من الآيات التي يتناسق نصّها ومفادها مع هذه الآية، تقع معها في ذات السياق؛ فقد ورد في الآية الثالثة والعشرين بعد المئة من سورة طه قوله تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ).

ص: 264


1- سعد السعود،ابن طاووس ص 323؛رحمة من الرحمن،ابن عربي، ج 3، ص398.

وبناءً على ما تقدّم، يتضح جلياً أنّ الآية التي استدلوا بها ليست ناظرة إلى عصر رسالة نبي الإسلام ، بل الخطاب موجّه لأبناء آدم في ذلك الزمن(1).

3/6/17. الثالثة: شبهة البهائية:

أنكرت فرقة البهائية ختم النبوّة ببعثة نبي الإسلام ؛ ذلك بادعائهم نبوّة«علي محمّد الشيرازيّ» الملقّب ب «الباب»؛ فبحسب زعمهم يتمتّع «الباب» بمقامين؛ الأوّل: كونه نبيّاً مستقلاً، وصاحب كتاب سماويّ ! والثاني : كونه مبشّراً بظهور نبي آخر؛ والمقصود هنا: «ميرزا حسين عليّ »الملقّب ب«بهاء اللّه». بل ادّعوا أنّ «الباب» من الأنبياء أولي العزم وأصحاب الشرائع؛ مَثَله في ذلك مَثَل نوح، وموسى، ومحمّد ، كما تعاملوا مع شخصيّته بصفته «الموعود المقدس» الذي سوف يتحقق بظهوره وعد الأنبياء.

وبالرغم من أن عمر دعوة «الباب» لم يزد عن التسع سنوات؛ إلا أن أتباع هذه الفرقة يزعمون أنّ إرادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى منعقدة على إرسال رسول جديد كلّما احتاج أهل العالم إلى تعاليم جديدة.(2)، بل ادّعوا أنّ «الباب» أفضل من نبيّ الإسلام ، وأنّ أوّل من سجد للباب هو محمّد ، ومن بعده الإمام علي!(3)

ويؤمن بعض منظري هذه الفرقة بأنّ الاعتقاد بختم النبوّة يمثّل مانعاً عن وصول المسلمين إلى مرتبة العرفان واليقين، وينكرون أن تكون آيات القرآن الكريم وروايات المعصومين: دالّة على المعنى المذكور من ختم النبوّة؛ فهم يزعمون أنّ كلمة «نبيّ» لا تعني«حامل النبأ الإلهيّ»، بل إن معناها هو «المحدّث بالغيب»، ويقول أحد المدافعين

ص: 265


1- الإلهيّات، جعفر السبحاني، ص 487 و488.
2- البيان، الوحدة الأولى، الباب الخامس عشر.والوحدة الثانية،الباب الأول.والوحدة الثالثة، الباب الرابع عشر.
3- نصائح الهدى، ص 16.

عن هذه الفرقة: «لم يُختم ابتعاث نبي صاحب شريعة؛ بل الذي خُتم هو ظهور الأنبياء التابعين وغير المستقلين ممن يأتيهم الإلهام في المنام... ولا يدلّ مصطلح خاتم النبيين على اختتام ابتعاث الأنبياء أو انقطاعه؛ لأنّ الرسل ليسوا كلّهم أنبياء حتى يلزم من ختم الأنبياء ختم الرسل أيضاً»(1).

وعلى هذا الأساس،يتشعب مدّعى هذه الفرقة إلى طريقين: طريق يحرّف معنى «الختم»، والآخر يفصّل بين معنى «النبي» ومعنى«الرسول».

وتجدر الإشارة - عند تحليل هذا المدّعى - إلى أنّ النظرة الفاحصة في ما أوردته معاجم اللغة في باب معنى كلمة «خاتم» يؤكّد المعنى المتعارف بين المسلمين، والمستند إلى انتهاء النبوّة ببعثة رسول الإسلام.(2)وأما إذا ادعوا - بعد هذا - أنّ المراد من مفردة «خاتم»في الآية الأربعين من سورة الأحزاب ليس هو المعنى الأصلي، وجب القول: إنّ استعمال الكلمة في غير معناها الحقيقي يحتاج إلى شاهد أو قرينة؛ غير أنّ هذه الآية لم تتضمن أي قرينة تدلّ على استعمال هذه الكلمة في غير معناها الحقيقي.

أما بخصوص ما يتعلّق بمدّعى التفصيل بين معنى «النبي» ومعنى«الرسول» فيجب الالتفات إلى أنّ كلمة «النبي» في عبارة «خاتم النبيّين» قد جاءت بمعنى الشخص المرسل بخبر من عند اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ؛ سواء كان هذا الشخص ممن له شريعة مستقلة أم لا، كما أنّ هذه الصفة مختصة بالأنبياء دون غيرهم، وأمّا كلمة «رسول» فقد أطلقت

ص: 266


1- الخاتمية،روحي روشني،الفصل الأول، ص33. فرائد،أبو الفضل كلبايكاني،ص 35.درج لآلئ الهداية، إشراق خاوري،تبيان وبرهان،أحمد أحمدي.
2- مقاييس اللغة، ج 2، ص 245.راجع أيضاً: لسان العرب، ج 4 ،ص 25.قد جاء في مقاييس اللغة: «فأما الختم وهو الطبع على الشيء فذلك من الباب أيضاً؛ لأنّ الطبع لا يكون إلا بعد بلوغ آخره في الإحراز، والخاتم مشتق منه [الختم] لأنّ به يختم ويقال: الخاتم [بالكسر]والخاتام والخيتام...».

أيضاً على الملائكة حاملي الوحي من قبيل جبرائيل(1)،أي إنهم مكلّفون بإبلاغ الوحي فقط، وليسوا مرسلين بخبر من عند اللّه تعالى. كما ورد في القرآن الكريم إطلاق كلمة«رسول»على عدد من الأنبياء الإلهيين ممن لم يكن لهم شريعة مستقلة(2).

بناءً على هذا، لا يتمّ ما تشبّث به البهائيون وعدّوه دليلاً، ولا يكفي لإثبات مدّعاهم؛ فعبارة «خاتم النبيين» لا تعني شيئاً غير المعنى المعتمد في دين الإسلام؛ ولا يرد على القول بذلك المعنى أيّ نقد أو إشكال؛ فلا فرق بين ختم النبوة وانقطاع ابتعاث الرسل.

4/6/17. الرابعة: التقليل من قدر الوحي وجعله في مصاف التجربة الدينية:

الوحي حقيقة لا يفقه كنهها العينيّ إلا الأنبياء الإلهيون؛ فهي من مدركات العلم الحضوري بالنسبة لهم. أما الآخرون فيصلون إلى إدراك الوحي بتوسط تبيين الأنبياء، فيسعون إلى الوقوف على حقيقته من خلال العلم الحصولي مستعينين في ذلك بالمعايير العقلانية الدقيقة.

وقد عمد بعض الكتّاب - من خلال استعراضهم نظرية التجربة الدينية -إلى الحطّ من مكانة الوحي إلى أنّ جرّوه إلى مقام التجربة الباطنية والحالات النفسية التي تعرض للمرء، وادعوا أن من الممكن أن تعرض مثل هذه الحالات للناس الاعتياديين من غير الأنبياء.

وبناءً على ما تقدّم، استنتجوا خطئية المعنى الذي يُفسّر ختم النبوّة بانقطاع الوحي لإمكان أن يصل بعض الناس - بعد بعثة رسول الإسلام - إلى هذه الحالة، وأن يقدموا للبشريّة أموراً يصدق عليها أنها من التجربة الدينية.

ص: 267


1- سورة التكوير،الآية: 19.
2- سورة الصافات،الآيات: 123 و 133 و 139. وسورة مريم، الآية: 54.

وعلى أساس هذه الدعوى، يكون الفارق الوحيد بين رسول الإسلام وغيره من الناس أنهم ممنوعون عن التشريع للآخرين؛ وإلا فإنّ طريق التجربة الدينية ما زال مفتوحاً.

وهذه النظرية التي هي التي آمن بها شلاير ماخر،وبرغسون، وجون هيك، وآخرون غيرهم(1).تقول هذه النظرية:

الفارق الوحيد بين نبي الإسلام وسائر الأنبياء يكمن في أنه قد قدّم لمن أرسل لهم بالدعوة كلّ تجربته الباطنية، وأنّ الأمم التي جاءت بعد عصره واجهت تلك التجربة الباطنية التي أودعها رسول الإسلام في أمته من دون أن تمسها يد التفسير والتأويل؛ لأنّ تلك الأمم حصلت على القرآن الكريم. فالسر الذي يقف وراء خاتميّة نبي الإسلام -حسب هذه الرؤية - هو أن وحيه قد وضع بين أيدي الناس بلا تفسير، وأن مهام تفسيره قد أوكلت للناس!(2)ويصرح أصحاب هذه النظريّة أنّ استدامة الوحى من خلال تفسيره وبيانه هو حجر الزاوية في خاتميّة نبی الإسلام(3).

وبعبارة أخرى: ذهب بعض أصحاب هذه النظرية إلى أن ختم النبوّة وصف للنبيّ ؛ لا للدين. فالدين - منذ أوّل الأمر - كان دين النبي الخاتم، وقد جاء التصريح بهذا في القرآن الكريم في الآية الثالثة عشر من سورة الشورى،وفي الآية السابعة والستين من سورة آل عمران(4).

ص: 268


1- راجع: نقد نظرية بسط التجربة النبوية،علي الرباني الكلبايكاني،ص 9 - 14؛العقل والاعتقاد الديني، ص 41- 42 ؛فلسفه دين،جون هيك،ص 288 - 289( النسخة الفارسية).
2- أرحب من الإيديولوجيا،عبد الكريم سروش،ص 77 .
3- أرحب من الإيديولوجيا، عبد الكريم سروش،ص 78.
4- بسط التجربة النبوية،عبد الكريم سروش، ص 118.

وبناءً على ما ذهبت إليه هذه النظرية، فالوحي نتاج التجربة الشخصية للرسول،وأما وضعه في متناول يد الآخرين فهو نابع من شجاعة الرسول، وقدرته الهائلة.

وقد ادّعى صاحب هذه الرؤية تعدّد التجارب الدينية وتنوّعها، وضربوا لذلك بعض الأمثلة؛ منها : المعراج، ورؤية الحور العين وتلقي اللطف المعنوي . أما تجارب الأنبياء فهي أكثر من ذلك. ومن ثَمَّ: فإنّ الفارق الأساس بين التجارب الدينية عند الأنبياء والتجارب الدينية عند من دونهم يكمن في كون تجارب الأنبياء متعدّية؛ بمعنى أنها تتسبب في حصول التكليف، كما أنها تحثّ على العمل(1).

وأضاف قائلاً: «إن مفهوم الولاية التشريعيّة - التي هي في الحقيقة جوهر النبوّة التقنينية - أمر مشابه لما ذكرنا ؛ فالنبي ولي اللّه والولاية تعني كونه هو بنفسه حجّة لأوامره وأقواله ولا شكّ في كون اعتبار فرد ما تجربته الشخصية محصلة للتكليف لغيره ؛ ليقوم من خلال هذا الطريق وبواسطة هذا المستند بإعمال التصرف في أرواح غيره ،واعتقاداتهم وأموالهم وسعادتهم أمراً في غاية الصعوبة. ويتطلب صلابة وشجاعة كبرى ؛ فهذه هي الشهادة على النبوّة، والنبوّة بهذا المعنى قد ختمت»(2).

ويواصل حديثه قائلاً: «ولن يظهر من بعد رسول الإسلام أي شخص يتمتّع بشخصيّة تتضمّن من الجانب الدينيّ صحّة كلامه وحسن سلوكه، ويمكنه أن يأتي بالتكليف للآخرين. لكن - وبكل تأكيد - ما زال إمكان حصول التجارب الدينية موجوداً و القدرة على سبر الأسرار لن تختم قط ؛ فالعالم دائماً و أبداً في ضيافة أولياء اللّه»(3).

ويجب أن نلتفت هنا إلى أنّ التقليل من قدر الوحي وجعله في مصاف التجربة

ص: 269


1- المصدر نفسه، ص 133.
2- بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش،ص 133.
3- المصدر نفسه، ص 133.

الدينيّة أمر لا يمكن قبوله تحت أيّ عنوان؛ فالمعيار في التجربة الدينيّة هو التجربة والحالات النفسيّة للفرد، ومن ثمّ كلماته، والأشخاص الآخرون لا يستطيعون إدراك المفاهيم إلا من خلال كلمات الشخص الذي جرّبها نفسه. كما أنّ بيان معنى الوحي - بحسب رؤية القرآن الكريم - يختلف تماماً مع ما ذكرته هذه

النظرية؛ لما يأتي:

أوّلاً: أنّ الفيض الإلهي هو محور الوحي، ومنبعه، ومعياره؛ لا نفس الشخص صاحب التجربة !

ثانياً: أن الشخص المتلقي للوحي هو فقط مستقبل للوحي؛ وليس سبباً في طروء حالات تؤدّي إلى التجربة الدينية.

فنظريّة التجربة الدينية - إذن - تتعارض بوضوح مع آيات القرآن الكريم؛ لأنّ نصّ القرآن الكريم قد صرّح بعدم تأدية شخص الرسول أيّ دو أساسيّ في نفس حصول الوحي؛ بل ورد في القرآن التهديد والوعيد له في حالة تغيير محتوى الوحي والآيات الآتية من سورة الحاقة تبين هذا التهديد بكلّ وضوح:

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ 44 لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ 45 ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ 46 فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ 47 وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةً لِلْمُتَّقِينَ 48 ).

والآيات الآتية من سورة النجم تصرح أيضاً بحقيقة كون جميع ما يقوله رسول اللّه هو الوحى بعينه ؛ لا أنّه حاصل تجربته النفسيّة؛ يقول تعالى :

( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى 1 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى 2 وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ

ص: 270

إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى 5 ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى 6 وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَ 7 ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى : فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى 9 فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى 10 مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى 11 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى 12 ... مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى 17 لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى 18 ).

وبهذا، يتضح أنّ نظريّة التجربة الدينيّة لا تمثّل أكثر من شبهة تُضاف إلى مجموعة شبهات أخرى ترد في نطاق البحث والتحقيق الديني هذا، فضلاً عن كونها مستوردة من الغرب، وأنها تتعارض مع مفاد القرآن الكريم.

ص: 271

هذا الكتاب

لا تتوقف شآبيب الرحمة والعناية الربانية عن الهطول عن كل الخليقة ، لا سيّما على عباد الله الباحثين عنه

،والتائقين إلى معرفته ، وما هو اللطف الإلاهي يغمرني مرّة أخرى، حيث وفقني اللّه عز وجل لإتمام كتابة الجزء الثاني من الكلام الإسلامي المعاصر ن لأضعه بين أيدي القراء والمهتمين .

من المعلوم عند القارئ الكريم أنّ الكلام الإسلامي المعاصر يسعى لعرض الأبحاث القديمة والجديدة

لعلم الكلام الإسلامي بمنهج معاصر، وشاكلة حديثة هادفاً إلى الحدّ من ظاهرة التفكيك بين الكلام القديم

( التقليدي ) والكلام الجديد، وإلى إعادة صيغة جميع الأبحاث الكلاميّة القديمة والجديدة في مكانة وقولبة

منطقيّة، وفي ضمن منظومة ممنهجة ومنضبطة.

المركز الهام للرامات الا الحين

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 272

المجلد 3

هوية الکتاب

خسروبناه، عبد الحسين مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر الجزء الثالث / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3 مجلد ؛ 24سم – (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

.1 علم الكلام أ. الواسطي، محمد حسين مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

جمعیَّةٌ خیریة رقمیة : مرکز خدمة مدرسة إصفهان

ویراستار:هادی میرزائی

الكلام الإسلامي المعاصر

الجزء الثالث

تأليف: عبد الحسين خسرويناه

ترجمة: محمّد حسين الواسطىّ - أسعد الكعبيّ

ص: 1

بسم الله الرّحمن الرّحیم

ص: 2

خسروبناه، عبد الحسين مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر الجزء الثالث / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3 مجلد ؛ 24سم – (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

.1 علم الكلام أ. الواسطي، محمد حسين مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 3

الفهرس

الباب الخامس: الإمامة ...9

الإمامة العامّة ...10

.18 /1تمهيد : 10

18 /2. حقيقة الإمامة: ...16

1/ /3. العناصر المشتركة في الإمامة :...18

18 /4. عناصر الإمامة التي انفردت بها الإماميّة ...20

شرعيّة الإمامة ...24

18 /5 .ثلاثة تساؤلات رئيسية ...32

19 /1.تقرير عبدالجبّار المعتزليّ ...32

19/ 2.تقرير العلّامة الحلّي: ...33

19 /3.وجوب الإمامة على الله أو على الأمّة :...34

19 /4 .استدلال أهل الحديث ...36

19 /5.استدلال المعتزلة ...37

19 /6 .أدلّة الأشاعرة ...38

19 /7.أدلّة الإماميّة :...45

20 .عصمة الإمام...54

ص: 4

الفهرس

20 /1. تمهید:...54

20 /2.تحليل العصمة :...55

20 /3 .مجال العصمة وسعة مفهومها :...58

20 /4. الأدلّة على عصمة الأئمة: ...60

21.علم الإمام. ..69

21 /1.تمهيد :...69

21 /2. براهين علم الإمام :...71

21 /3. سعة نطاق علم الإمام :...75

21 /4 .مصادر علم الإمام: ...86

أفضلية الإمام...96

22 /1. تمهید:...96

22 /2.أفضلية الإمام ضرورة : ...97

22 /3. الأدلّة العقليّة على الأفضلية. ..99

التعيين والنصّ على الإمام...100

23 /1.تمهيد :...100

الإمامة الخاصة ...106

ص: 5

24 /1. تمهید :...106

24 /2. أفضلية أمير المؤمنين (علیه السلام) :...107

24 /3. نقد أفضليّة أبي بكر :...122

24 /4.آية التطهير: ...131

24 /5.شبهات العامّة على آية التطهير: ...135

24 /6. آية الولاية :...137

24 /7.حديث الغدير :...140

24 /8. حديث الثقلين :...141

24/ 9. حديث الولاية :...142

24 /10.حديث اللوح :...145

24/ 5. أحاديث الأئمة الاثني عشر: ...150

.25 المهدويّة ...162

25 /1. تمهید:...162

25 /2.الإيمان بمخلّص البشريّة في الديانات الأخرى: ...162

25 /3.المهدوية في رؤية الفريقين :...164

25/ 4.سمات أصحاب المهديّ :...171

25 /5. أحداث ما قبل الظهور :...173

ص: 6

25 /6. فلسفة الغيبة :...177

الباب السابع: المعاد: ...181

37. المعاد الجسماني والروحاني ...182

- نمطية تصنيف المعتقدات: ...182

- أهميّة دراسة المعاد :...183

- حقيقة الخلود :...184

-النزعة إلى الخلود :...185

- حقيقة الشخصية الإنسانية:...186

-تأثير الاعتقاد بالمعاد على الحياة:...190

-آثار الاعتقاد بالمعاد من زاويةٍ قرآنيةٍ :...191

- نظريات المعاد الجسماني :...196

-براهين إثبات المعاد :...200

-البراهين التجريبية على إمكانية المعاد:...206

- الأدلّة العقليّة لإثبات المعاد :...210

38. منكرو المعاد في مواجهة تحدّياتٍ تفنّد آراءهم :...227

39 .منازل الآخرة :...240

المنزل الأوّل: الموت:...240

ص: 7

المنزل الثاني: القبر والبرزخ :...246

المنزل الثالث: القيامة :...249

المنزل الرابع: النَّفخ في الصور:...251

المنزل الخامس :الحساب :...252

المنزل السادس: الصّراط: ...262

المنزل السابع: الجنّة وجهنّم والأعراف :...263

40. الرجعة :...277

-معنى الرجعة :...277

- معارضو الرجعة:...278

- إمكانية تحقّق الرجعة :...280

- إثبات تحققّ الرجعة :...281

-أهل الرجعة :...285

-الهدف من الرجعة :...287

- الشبهات التي اُثيرت حول الرجعة :...288

- نتيجة البحث :...293

المصادر والمراجع ...294

ص: 8

الباب الخامس :الإمامة

إشارة

-الإمامة العامّة

- شرعيّة الإمامة

- عصمة الإمام

- علم الإمام

- أفضلية الإمام

- الإمامة الخاصة

المهدوية

ص: 9

18.الإمامة العامّة

18/ 1.تمهید
إشارة

قبل الولوج في خضمّ أبحاث الإمامة وصفاتها نمهّد هنا بمقدّمات:

18 /1 /1.المقدّمة الأولى:

«الإمامة» قضيّة مطروحة على بساط البحث منذ القرون الإسلامية الأولى، وهي نقطة الخلاف المركزية بين الفريقين؛ من الشيعة وأهل السنّة. وقد ألّف في القرون الأولى المخالفون لنظرية الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية كتباً في الردّ على الإمامة، وكتب علماء الإماميّة أيضاً مصنّفات تدافع عن هذه النظرية.

وقد عمد ابن النديم (438ه) في الفنّ الرابع من كتاب «الفهرست» إلى التعريف ببعض ما كتبه أتباع أهل البيت (1) في موضوع الإمامة، وعدّ في الفنّ الرابع من

ص: 10


1- يقول ابن النديم: «علي بن إسماعيل بن ميثم التمار أوّل من تكلّم في مذهب الإماميّة عليّ بن إسماعيل بن ميثم التمار... ولعليّ من الكتب: كتاب الإمامة. هشام بن الحكم وهو أبو محمد هشام بن الحكم... من متكلمي الشيعة ممّن فتق الكلام في الإمامة... وله من الكتب: كتاب الإمامة... كتاب اختلف الناس في الإمامة. شيطان الطاق :أبو جعفر محمّد بن النعمان الأحول... تلقّبه العامّة بشيطان الطاق والخاصة تعرفه بمؤمن الطاق وهو من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (علیهما السلام) وله من الكتاب كتاب الإمامة... كتاب الردّ على المعتزلة في إمامة المفضول. ابن قبة وهو أبو جعفر بن محمد بن قبة من متكلّمي الشيعة وحذاقهم وله من الكتب كتاب الإنصاف في الإمامة، كتاب الإمامة. أبو سهل النوبختي: أبو سهل إسماعيل بن عليّ بن نوبخت من كبار الشيعة وله من الكتب كتاب الاستيفاء في الإمامة كتاب التنبيه في الإمامة، كتاب الردّ على الغلاة، كتاب الردّ على الطاطري في الإمامة الحسن بن موسى النوبختي: وهو أبو محمد الحسن بن موسى بن أخت أبي سهل بن نوبخت متكلّم فيلسوف... وله من الكتب كتاب الإمامة» الفهرست ابن النديم، ص 217-220.

كتابه هذا «الخوارج» أوّل من خالف الإماميّة، وأوّل من ألّف في هذا المجال(1) وفضلاً عن الخوارج في صدر الإسلام، فإنّ سائر متكلّمي المذهب السنّي في العصور الغابرة مثل: القاضي عبد الجبار المعتزلي (415ه) في «المغني» في أبواب التوحيد والعدل، والفخر الرازيّ (606ه )في الأربعين ، وابن تيمية (728ه) في «منهاج السنة»، والقوشجيّ (879ه) في« شرح تجريد العقائد» - قد تصدّوا لنظرية الإمامة حسب ما يؤمن بها الشيعة الاثناعشرية، وقد بالغ أعلام الوهّابيّة أكثر من غيرهم في محاربة عقيدة الإمامة ونقدها بشتى الأساليب.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ التحدّيات التي تكتنف بحث الإمامة لا تنحصر على شبهات أهل السنّة، بل يمكن أن يضاف إليها المبادئ التي دعت إليها بعض التيارات الفكريّة المعاصرة ؛ ومنها - على سبيل المثال - : التيار الفارسي المسمّى ب«الكسرويّة » (2) وهو تیّار رُوّج له إبان حكم النظام البهلوي البائد في إيران، والتيار الفكري الذي يطلق على نفسه مسمّى «التنوير الديني»، الذي اشتدّ عوده بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران وشهر سيفه لنقد نظريّة الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية. وهذا يدلّنا إلى ضرورة تناول بحث الإمامة وسبر أغواره حسب الرؤية التي يتبنّاها مذهب أهل البيت :.

ص: 11


1- قال ابن النديم (438ه) : اليمان بن رباب :من جلة الخوارج ورؤساءهم... وكان نظاراً متكلّما مصنفاً للكتب وله في ذلك: كتاب إثبات إمامة أبي بكر. يحيي بن كامل .... له من الكتب .... كتاب التوحيد والردّ على الغلاة وطوائف الشيعة عبدالله يزيد.... له من الكتب... كتاب الردّ على الرافضة إبراهيم بن اسحاق الأباضيّ وله من الكتب كتاب الإمامة ،الهيثم بن الهيثم وله من الكتب كتاب الإمامة. المصدر السابق، ص 228 -227.
2- تيّار فكري يُعرف بالفارسيّة باسم «كسروي گرائي» منسوب إلى أحمد كسروي (1890 -1946م)، وهو باحث ومؤرّخ مناصر للإصلاحات الاجتماعية والدينيّة. تمركز نشاطه في الأعوام بين سنة 1930- 1945م. كما نجد ذلك في آثاره. وقد هاجم الإسلام بحجة الدفاع عن القومية والأمة الفارسية هجمة واسعة. وأعرب عن أفكاره الانتقادية - الإصلاحيّة والمذهبيّة - الاجتماعية الحادّة بلغة أشدّ حدّة وعنفاً ولذلك واجه ردّة فعل حادة من قبل المخالفين. ومؤلّفات كسروي وعقائده وأعماله كانت جميعها في مسار نوايا رضاشاه تماماً، وحسب رأي بعضهم فإنّه استطاع في هذه الفترة بالذات أن ينشر آثاره برعاية الدولة مباشرة ممّا اكتسب جمهوراً كبيراً. وكان يعتقد كسروي بأنّ السلسلة البهلوية هي استمرار وإحياء لمجد الملوك الأخمينيّين والساسانيين وعظمتهم ورضا شاه هو الذي سيستعيد جميع فتوحات تلك المرحلة من أيدي الغاصبين. ولكنّه عدّل في نظرته بعد أغسطس 1941م واعتبر بأنّ نتيجة القوّة الظاهرية لحكومة رضا شاه هي عبرة هزيمة أغسطس 1941م ولذلك لام رضاشاه بعد انهيار حكومته المستبدة. [م]
18 /1 /2.المقدّمة الثانية:

تُطرح مباحث الإمامة على ساحتي «الإمامة العامّة» و«الإمامة الخاصّة» على ثلاثة مستويات؛ هي : العرض (التبيين)، والإثبات، والدفاع .

ويمكن أن نتناول مباحث الدفاع عن الإمامة في أربعة فروع؛ هي:

أوّلاً: الردّ على الشبهات التقليدية ذات البيان التقليديّ المتداول؛ حيث تُستعرض هناك الشبهات الدارجة في كتب أهل السنّة على سبيل المثال، ويُردّ عليها.

ثانياً: الردّ على الشبهات التقليديّة ذات البيان الجديد الذي وُظّفت فيه المناهج والمبادئ التقليدية؛ ومثالها : شُبهة «نظرية العلماء الأبرار» التي عرضها حسين المدرّسيّ (مواليد 1941م) في حُلّة حديثة، مستخدماً فيها المصادر الرجالية، والتاريخية، والكلاميّة التقليدية.

ثالثاً: الردّ على الشبهات التقليدية ذات البيان الجديد الذي وُظّفت فيه المناهج والمبادئ والمصادر الحديثة؛ كما في شبهة «اللاانسجام بين الخاتميّة والإمامة »التي أطلقها عبدالكريم سروش (مواليد 1945م) مستخدماً فيها المناهج والمبادئ المتبنّاة في الهرمينوطيقا، والإبستمولوجيا ( نظرية المعرفة)، واللسانيّات الحديثة.

رابعاً: الردّ على الشبهات الجديدة المبتنية على المناهج والمبادئ المتداولة في عصر الحداثة؛ كما في شبهة «تعارض الإمامة مع الديموقراطية»، أو شبهة «تعارض المهدويّة مع الحداثة والتعدديّة الدينيّة».

هذا، وتنطوي كلّ ساحة من ساحات الإمامة العامّة والخاصّة على قضايا ومباحث خاصّة بها. وقد ذهب القاضي عبد الجبار المعتزليّ (415ه) إلى أنّ مباحث الإمامة العامّة تنحصر في ثلاثة حقول ؛ هي : وظائف الإمامة، وصفاتها، وطرق تعيينها(1).

ص: 12


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبدالجبار، ج 1، ص 11.

أمّا المحقّق الطوسيّ (672ه) فذهب إلى أنّ مباحث الإمامة تنشعب إلى خمس شعب: مطلب ما؟ (التعريف بالإمامة)، ومطلب هل؟ (إثبات ضرورة الإمامة)، و مطلب لِمَ ؟ ( غاية الإمامة ووظائفها وآثارها)، ومطلب كيف؟ (صفات الإمامة)، ومطلب من ؟ (مصدايق الإمامة)(1).

والذي يجدر عرضه في مباحث الإمامة العامّة خمسة فروع؛ هي:

أوّلاً: تعريف الإمامة، وتبيين حقيقتها.

ثانياً: أدلّة وجوب الإمامة.

ثالثاً : وظائف الإمامة، والفوائد المترتبة عليها.

رابعاً: الشروط العامّة والخاصّة للإمامة.

خامساً: طرق نصب الإمام.

أمّا في مباحث الإمامة الخاصة فيجدر التطرّق لثلاثة فروع؛ هي :

أوّلاً: إثبات إمامة الإمام علي بن أبي طالب .

ثانياً: إثبات إمامة الأئمّة والخلفاء الاثني عشر .

ثالثاً: مباحث المهدويّة.

18 /1 /3.المقدّمة الثالثة:

هل تُعدّ «الإمامة» من أصول الدين أم من فروعه؟ وهل هي قضيّة كلاميّة، أم فقهيّة ؟ طرح المفكّرون المسلمون ثلاث نظريات في هذا الشأن:

ص: 13


1- تلخيص المحصّل (المعروف بنقد المحصّل) المحقّق الطوسيّ، ص 426.

أوّلاً: الرؤية التي ذهبت إلى أنّ الإمامة أصل من «أصول الدين».

ثانياً: الرؤية التي عدّتها من «فروع الدين».

ثالثاً: الرؤية التي نعتتها بأنّها من «أصول المذهب ».

عرض المتكلّمون المنتمون للمدرسة السنيّة - لا سيّما الأشاعرة منهم - موضوع «الإمامة» في كتبهم الكلاميّة؛ لما تتحلّى به من أهمّيّة، لكنّهم عدّوها في ضمن المباحث الفقهيّة، وفروع الدين وقد ابتنت هذه الرؤية على أساس فكرتهم وانطباعهم عن واقع الإمامة؛ إذ أوّلوها إلى نظريّة سياسيّة؛ فقد كتب إمام الحرمين الجويني (478ه):

الكلام في هذا الباب [أي: الإمامة] ليس من أصول الاعتقاد، والخطر على من يزلّ فيه يربى على الخطر على من يجهل أصله (1).

وقال أبو حامد الغزالي (505ه) :

النظر في «الإمامة» أيضاً ليس من المهمّات، وليس أيضاً من فن المعقولات فيها من الفقهيات ... ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد(2).

وقد سار الشهرستانيّ(3) (548ه)، والتفتازانيّ(4) (792ه)، وابن خلدون(5) (808ه)، وسائر الأشاعرة على هذا النهج، في حين لم يذكر المعتزلة كلاماً صريحاً في هذا الباب.

ص: 14


1- الإرشاد الجويني، ص 245.
2- الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، ص 234.
3- نهاية الإقدام في علم الكلام الشهرستانيّ، ص 559.
4- شرح المقاصد التفتازانيّ، ج5، ص 232.
5- المقدّمة ،ابن خلدون، ص 193.

وذهب مفكرو الإماميّة - ومعهم بعض الأشاعرة (1)- إلى أنّ الإمامة أصل من «أصول الدين»، وأنّ منكرها «كافر»؛ فقد قال الشيخ الصدوق (381ه) :

يجب أن يعتقد أنّه يلزمنا من طاعة الإمام ما يلزمنا من طاعة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ،... و یعتقد أنّ المنكر للإمامة كالمنكر للنبوّة، والمنكر للنبوّة كالمنكر للتوحيد(2).

وقال الشيخ المفيد (413ه) :

واتّفقت الإماميّة على أنّ من أنكر إمامة أحد الأئمة، وجحد ما أوجب الله من فرض الطاعات، فهو كافر ضالّ، مستحقّ للخلود في النار(3).

وكان السيّد المرتضى (436ه) يرى أنّ الإمامة تشترك مع النبوّة في كونها من أعظم أصول الدين (4)، وقد صرّح في كتابه الذي عرض فيه الإمامة بقوله: فقد أجبت الى ما سألنيه الأستاذ - أدام الله تأييده - من إملاء مختصر محيط بما يجب اعتقاده من جميع أصول الدين(5).

والذي ينتهي إليه النظر أنّ الإمامة - باعتبار ضرورة التنصيب فيها من قبل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - قضيّة كلاميّة تنتمي لأصول الدين أو لأصول المذهب والإيمان، هي -وباعتبار الوجوب الشرعيّ الذي يطال طاعة الناس للإمامة وشخص الإمام - فهي بحث فقهي ينتمي لفروع الدين؛ فإنّ المناط في كون المسألة كلاميّة أو فقهيّة هو علاقته

ص: 15


1- مثل الأسروشنيّ الحنفيّ (632ه)، والقاضي البيضاوي الأشعري (685ه) . قال في «إحقاق الحقّ»: «صرّح القاضي البيضاويّ في مبحث الأخبار من كتاب المنهاج ، وجمع من شارحي كلامه بأنّ مسألة الإمامة من أعظم مسائل اصول الدين الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة، وقال الأسروشنيّ من الحنفيّة في كتابه المشهور بينهم بالفصول الأسروشنيّ بتكفير من لا يقول بإمامة أبي بكر» إحقاق الحقّ ،القاضي نور الله، ج 2، 307. [م]
2- الهداية في الأصول والفرع الصدوق، ص 27-28.
3- أوائل المقالات المفيد، ص 7 .
4- رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 165- 166.
5- رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 9.

بالبحث عن وجود الله وصفاته وأفعاله، أو علاقته بفعل الإنسان؛ فإذا كان الأول، فهو بحث كلاميّ، و إلّا فهو بحث فقهيّ.

وفي المحصّلة نقول كما تناول المتكّلمون الإماميّون بحث الإمامة في كتبهم الكلاميّة وأثبتوا فيها ضرورة الإمامة وصفات العلم والعصمة والولاية التكوينيّة والتشريعيّة والسياسية الاجتماعيّة للأئمة الاثني عشر، فعلى فقهاء الإماميّة أن يطرحوا بحثاً تحت عنوان «فقه الإمامة»، يتطرّقون فيه إلى الوظائف الشرعيّة المناطة بالإمام؛ ومنها مراعاة حقوق الناس، وإلى الوظائف الشرعيّة الملقاة على عاتق الناس في طاعة الإمام. فالإمامة - إذن - بحث كلاميّ باعتبار أنّ تنصيب الإمام واجب على الله جَلَّ وَعَلا ، كما أنّها بحث فقهي أيضاً باعتبار أنّ هناك وظائف شرعيّة ملقاة على عاتق الإمام والمأموم .

18/ 2.حقيقة الإمامة:
إشارة

أوّل أبحاث قضيّة «الإمامة» هو الوقوف على تعريفها، وماهيّتها، وبيان عناصرها فتصوّر المفهوم مقدّم على تصديقه منطقيّاً، وإذا لم يتّضح مفهوم «الإمام» بشكل جليّ، فلا سبيل إلى أيّ بحث تصديقي بشأنه.

وفي ما يلي إطلالة على أبرز تعاريف «الإمام» و«الإمامة»:

18 /2 /1.تعريف الإمامة:

أوّلاً : تعريف الشيخ المفيد (413ه) :

«الإمام» هو :الإنسان الذي له رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبيّ(1).

ص: 16


1- النكت الاعتقاديّة المفيد، ص 39.

و قد كتب في« أوائل المقالات »:

«إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود [وهذا منصب القضاء]، وحفظ الشرائع [ أي من التحريف بزيادة أو نقصان]، وتأديب الأنام [أي: في الشؤون الثقافيّة]، معصومون كعصمة الأنبياء»(1).

وقد أدرج الشيخ المفيد في تعريفه هذا قضايا - منها : التربية الثقافيّة - عدّها من وظائف الإمام؛ خلافاً لما ذهب إليه العلمانيوّن الرافضون لأيّ تدخّل تمارسه الحكومة الدينيّة في الشؤون التربوية والأخلاقيّة.

ثانياً : تعريف القاضي عبد الجبار المعتزلي (415ه) في «شرح الأصول الخمسة»:

«الإمام» : اسم لمن له الولاية على الأمة، والتصرف في أمورهم على وجه لا يكون فوق يده يد(2).

ثالثاً : تعريف الماورديّ (450ه) في «الأحكام السلطانية»:

«الإمامة»: رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا خلافةً عن النبيّ... «الإمامة» موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا (3).

ويتبيّن من خلال مراجعة التعاريف المتقدّمة أنّ طائفة من التعاريف تعاريف عامّة تشمل النبيّ والإمام؛ كما هو ملاحظ في مثل تعريف ابن ميثم البحراني (679ه) ؛ حيث ذهب إلى أنّ الإمامة رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا بالأصالة »(4)، وبعض آخر من التعاريف يختصّ وينحصر في الإمامة؛

ص: 17


1- أوائل المقالات المفيد، ص 19.
2- شرح الأصول الخمسة ،القاضي عبد الجبار ص 509.
3- لأحكام السلطانية، الماورديّ، ص 5 .
4- واعد المرام ابن ميثم البحراني، ص 174.

كما في تعريف الشيخ المفيد (413ه) ال /ذي عرّفها بأنّها رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبيّ» (1).

18/ 3.العناصر المشتركة في الإمامة

يمكن استنتاج العناصر المشتركة في الإمامة عند الفريقين من التعاريف التي أوردوها للإمامة؛ وهي على النحو الآتي:

أوّلاً: «الولاية والرئاسة»: وردت خصوصيّة «الرئاسة» أو «القيادة» العامّة للناس في شؤون الدين والدنيا في جميع التعاريف، واستخدمت مفردة «الولاية» في بعضها؛ وإن اختلف في تفسير الولاية أو معناها. والولاية التي تعني تولّي الإمام زمام الرئاسة الحكومية والدنيوية مشتركة بين الإماميّة وأهل السنّة، لكنّ الولاية التي تعني الولاية التكوينيّة والتشريعيّة والاجتماعية منحصرة بالإمامية، ولا يعتقد أهل السنّة بهذا النطاق الواسع من الولاية.

ثانياً: «خلافة رسول الله و نيابته »يتّفق الفريقان على هذه الخصوصية؛ ف«الخلافة »منضوية في معنى «الإمامة»؛ كما أشار اللغويّون إلى ذلك، وألمح إليه ابن خلدون (808ه) أيضاً. أمّا فيما يخصّ مفهوم الخلافة والإمامة؛ هل هما مفهومان أم مفهوم واحد؟ فالحقّ أنّ الخلافة تختلف عن الإمامة من حيث المفهوم. وعلى الرغم

من أنّ الخلفاء بعد الرسول الأعظم هم خلفاء وأئمّة في الآن ذاته، لكنّ الأمر ليس على هذا النحو دائماً، فقد نجد من يتّصف بالإمامة ولا يكون خليفةً لأحد؛ كما في مثل إبراهيم الذي كان إماماً ؛ ولم يكن خليفة لأحد. فالخلافة - إذن - من مشتركات الفريقين؛ ولا خلاف فيها. وقد أورد الكلينيّ (329ه) في «الكافي» عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنّه قال :

«إِنَّ الْإِمَامَةَ خِلَافَةُ الله وَخِلَافَةُ الرَّسُولِ »(2).

ص: 18


1- النكت الاعتقادية، المفيد، ص 39.
2- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 198.

ثالثاً : « وجوب طاعة الإمام على الجميع »تُستفاد هذه الخصوصية أيضاً من تعاريف العامّة والخاصّة بوجوب طاعة الإمام على الجميع؛ فالفارق بين النظرية الإماميّة ورؤية أهل السنّة في هذا الخصوص لا يتمحور حول وجوب اتباع إمام محدّد؛ وإنّما الاختلاف يعود إلى مسألتين: الأولى: هل الولاية أمر مقتصر على الحكومة فقط، أم أنّها تشمل في طيّاتها الولاية التكوينيّة والتشريعيّة أيضاً؟ والثانية: ما أورد بعض علماء الإماميّة من قيد الأصالة والنيابة في التعاريف، فالسؤال المطروح هنا هو : هل يتسلّم الإمام مقاليد الإمامة نيابةً عن الناس أم أنّ إمامته أصيلة؛ وليست بالنيابة عنهم؟ ومن المعلوم أنّ الإماميّة ترى في الإمامة نيابةً عن النبوّة.

رابعاً : «القيادة الشرعيّة »علاوةً على النقاط المتقدّمة، فقد دلّت تعاريف الفريقين على قيادة الإمام؛ فالذي يذهب إلى أنّ الإمامة نيابة عن النبوّة فهو يُقرّ لها بقدسيّة وشرعيّة إلهيّة. وكما عبّر ابن خلدون (808ه) فإن «الإمامة خلافة عن صاحب الشرع »(1).

خامساً: «الإمام شخص ؛ وليس حزباً، أو فئةً، أو شورى بعينها»: تدلّ تعاريف الإمامة على أنّ الإمام شخص؛ وليس حزباً، أو شورى محدّدة، أو طائفة بعينها، وقد حقّقت سيرة المتشرّعين هذا المفهوم على مرّ التاريخ.

سادساً: نطاق هذه الزعامّة والقيادة هي شؤون الدين والدنيا وردت مفردة «الدين »في بعض هذه التعاريف منفردةً، وفي البعض الآخر مقرونةً مع الدنيا. والمقصود ب «الدين» في الطائفة الأولى من التعاريف : «الإسلام»، لكنّ مفردة «الدين» إذا استخدمت بمفردها دلّت على الآخرة ، فكما تقدّم ،إذن، في كلا الصورتين تكون الشؤون الدنيويّة والأخرويّة بمجموعها منضوية تحت مفهوم «الإمامة». والنتيجة هنا: انعدام أيّ خلاف في هذا العنصر أيضاً؛ فالإمام - حسب عقيدة الفريقين - يتولّى

ص: 19


1- المقدّمة ابن خلدون، ص 191، [م].

أمر سعادة الناس في الدنيا والآخرة. ومن هذا المنطلق، قسم أهل السنة الخلفاء إلى الراشدين وغير الراشدين، وآمنوا بأنّ الخلفاء الراشدين (أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً (علیه السلام)) كانوا معنيّين بجميع شؤون الأمّة الدنيويّة والأخرويّة. أمّا معاوية وغيره فلا يطلق عليهم هذا اللقب - رغم كونهم موضع احترام بسبب كونهم من كونهم من الصحابة - لعدم اهتمامهم بأمور الناس الدنيويّة والأخرويّة.

18/ 4.عناصر الإمامة التي انفردت بها الإماميّة
إشارة

تقدّم الحديث عن العناصر المشتركة للإمامة بين الفريقين. أما العناصر الأخرى التي تنفرد بها النظريّة الإماميّة فهي تضمّ ما يلي:

أوّلاً: «الولاية المطلقة»: ومعناها اشتمال الولاية التي يتحلى بها الإمام على شتّى ألوان الولاية التكوينيّة، والتشريعية، والقيادية.

ثانياً: «العصمة»: وهي تعني شمولية نطاق العصمة لجميع دوائر المعرفة، والتبليغ، والعمل بالدين والشريعة.

ثالثاً: «الرئاسة الأصيلة» : بمعنى نفي النيابة عن الأمّة؛ فليست الأمّة هي من يختار الإمام - على الرغم من كون بيعتهم ضرورية -، وليست البيعة هي العامل الذي يمنح الشرعيّة للإمام، خلافاً لما تذهب إليه رؤى الديموقراطيّة اللبراليّة؛ فمشاركة الشعب عندهم هو مصدر الشرعيّة. نعم؛ البيعة - في واقع أمرها - عامل يساهم في فعليّة وجوب طاعة الإمام، وتحقّق ذلك على الأرض. وفي الجهة المقابلة، يرى أهل السنّة أنّ الإمام نائب عن الأمّة، وأنّ شرعيّته الفلسفيّة منوطة باختيار الأمّة له بشروط إلهيّة.

18 /4 /1.عنصران آخران :

ألمح الشيخ الطوسيّ (460ه) إلى عنصرين خاصّين آخرین؛ هما :

ص: 20

أوّلاً: أن يكون قدوة الأمّة قولاً وفعلاً». بمعنى أنّ الإمام قدوة للنّاس في القول والعمل. ومن الجليّ ألّا فرق بين الإمام والنبيّ من هذه الجهة.

ثانياً: «الزعامة والحكومة» : وهي تعني أنّ الإمام يتولّى تدبير أمر المجتمع، ويدير دفّة السياسة فيه. ولا يخفى أنّ هذه الخصوصية منحصرة في الإمام؛ فلا يمكن القول بأنّ «كلّ نبيّ إمام» ، كما لا يمكن القول بأنّ كلّ إمام نبيّ . نعم؛ من الممكن أن يكون بعض الأنبياء أئمّة في الوقت ذاته؛ كما في الأنبياء من أولي العزم؛ فقد كانوا أئمّة بأسرهم، أو كما في بعض الأنبياء الآخرين من غير أولي العزم؛ كما في مثل سليمان وداوود(علیهما السلام) اللذين تولّيا منصب «الإمامة»؛ بمعنى «الزعامة السياسيّة الاجتماعيّة». لكنّ مثل هذه النماذج تتطلّب دليلاً يدلّ عليها بخصوصها. ومن ثَمَّ : لا دليل على إثبات أنّ كلّ نبيّ إمام. ومن جهة أخرى، لا يمتنع أن يوجد إمامٌ ليس بنبيّ؛ أي أن يتولّى الإمام الزعامة والقيادة والهداية الدينيّة والدنيويّة؛ من دون أن يكون نبيّاً. وحسب رأي الشيخ الطوسيّ تتمثل حقيقة النبوّة وجوهرها في تلقّي الوحي من دون واسطة بشريّة»، أمّا حقيقة الإمامة وجوهرها فتتمثّل في «تعليم الأمّة، وتدبير أمرها، وإدارة دفّة السياسة فيها». وبناءً على ذلك، النسبة بين الإمام والنبيّ هي نسبة العموم والخصوص من وجه(1)؛ فليس كلّ نبيّ مأمور بالتدبير والسياسة؛ وإن كان قد نُصب ليكون قدوةً وأسوةً للناس. ولهذا، من الممكن أن يبعث الله نبياًّ يتلقى الوحي، لكنّه لا يكون مأموراً بالحكم، فيدعو الناس - بإذن الله وأمره - إلى حاكم غيره ؛ كما في مثل طالوت(2).

وقد أشار العلّامة المطهّري (1979م) إلى فارق آخر بين النبوّة والإمامة ممّا يكمل نظرية الشيخ الطوسيّ؛ إذ قال ببيان آخر :

ص: 21


1- الرسائل العشر، الطوسيّ، ص 109-111.
2- وقد روي في مصادرنا أنّ طالوت لما حضرته المنيّة أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن يسلّم ما في يده من المواريث والعلوم إلى داوود (علیه السلام) الذي جُمعت في النبوة والإمامة، فسلّم طالوت نور الله وحكمته وجميع ما في يديه إليه كما أمره ربّه. يقول المسعودي (346ه) : «واجتمعت بنو اسرائيل على داوود (علیه السلام)، وأنزل الله - جلّ ذكره - عليه الزبور.... وأعطي النور والحكمة والتوراة». إثبات الوصيّة ،المسعوديّ، ص 69. [م].

«النبوّة» هداية، لكنّ «الإمامة» قيادة؛ فواجب الهادي أن يري الطريق، لكنّ البشريّة تحتاج القيادة فضلاً عن حاجتها إلى الهداية؛ بمعنى أنّها محتاجة إلى أشخاص، أو فئات، أو نظام يستجمع قوى الإنسان وطاقاته، ويحرّكها (1).

وبناءً على ذلك، فإنّ «القائد» هو من يتولّى مهمّة «الإيصال إلى المطلوب» و «تفعيل المواهب والطاقات»، أمّا «الهادي» فمهمّته هي «إراءة الطريق». وعليه: فإنّ «ختم النبوّة» يعني ختام الهداية التي تنير درب الإنسان بتقديم الأطروحة الإلهيّة، أمّا الإمام فهو الموكَّل بتطبيق هذه الأطروحة عمليّاً على أرض الواقع.

18 /4 /2.محصّلة القول :

يمكن أن نختصر الوظائف الإلهيّة التي أُنيطت بالأنبياء التشريعيين (أولي العزم من الرسل) - وعلى رأسهم الرسول الأعظم - في أربع وظائف رئيسيّة؛ هي:

أوّلاً: «تلقّي الوحي وإبلاغه»: وهذا يعني نشر الأطروحة الدينيّة التي تشمل القرآن الكريم والبيان القرآني.

ثانياً: «المرجعيّة الدينيّة» : بما يعني الولاية التشريعيّة، أو بيان الوحي وتفسيره.

ثالثاً: «الولاية التكوينية»: وهي تعني القدرة على فعل المعجزات، والولاية المعنويّة والعرفانية.

رابعاً: «الزعامة» : ومعناها الولاية السياسية والاجتماعية والقضائيّة.

أمّا النبوّة التبليغيّة فلا تنطوي إلّا على ثلاث من هذه الوظائف؛ باستثناء بعض الأنبياء المبلغين الذين ورد فيهم نصّ خاص يستثنيهم من هذه القاعدة؛ فعلى الرغم من وجود وجوه الاشتراك بين «النبوّة التبليغية» و«النبوّة التشريعيّة »في تلقّي الوحي

ص: 22


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)، المطهريّ، ج3، ص 318-321.

وإبلاغه إلّا أنّ الفارق بينهما يكمن في أنّ« النبيّ المبلّغ »قد يبيّن أحكاماً جديدةً لم یرد لها ذكر في ما سبق - كما حصل في زبور داوود الذي وردت فيه أحكام لم تذكرها التوراة - إلّا أنّ ظهور هذه الأحكام لا يستوجب حدوث تجديد في الشريعة، بل هو مجرّد تكميل وتتميم للشريعة السابقة؛ لا سيّما في النبوّة التبليغيّة التي يتولّى نبيّها منصب الإمامة أيضاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المناط في كون النبيّ من أولي العزم هو امتلاكه لكتاب يشتمل على شريعة مستقلّة وجديدة.

نستنتج ممّا تقدّم أنّ النبوّة التبليغيّة تنطوي على خصوصيّتين:

أولاً: العلاقة المباشرة مع الله عَزَّ وَجَلَّ، وتلقّي الوحي التشريعيّ منه؛ من دون أيّ وسيط بشريّ.

ثانياً: عدم تلقّي النبيّ التبليغيّ شريعة مغايرة لما عند النبيّ الذي سبقه من أولي العزم؛ وإن تلقّى أحكاماً جديدةً؛ إذ لا يستلزم نزول بعض الأحكام الجديدة تجديداً في الشريعة، فعندئذٍ يكون هذا النبيّ والنبيّ الذي سبقه قد بلّغ كلّ منهما جزءاً من الوحي الإلهيّ إلى الناس.

وفي خصوص «الإمامة» - التي هي خلافة النبيّ (صلّی لله علیه وآله و سلّم) حسب تعريف الفريقين - اختلف المسلمون على تحديد وظائفها؛ فذهب أهل السنّة إلى أنّها منحصرة في الوظيفة الرابعة فقط ( الولاية السياسية والاجتماعيّة)، وأثبتت الإماميّة للإمام الوظيفة الثانية والثالثة والرابعة، متمسكين ببعض الأدلّة ؛ ومنها : حديث المنزلة؛ إذ قال فيه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لعليّ (علیه السلام) :

«أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي »(1).

وهو دليل يُستنبط منه أنّ جوهر النبوّة يتمثّل في تلقّي الوحي المباشر من الله عَزَّ

ص: 23


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، الصدوق، ج2، ص 10. [م].

وَجَلَّ، وهي خصوصيّة لم تتوافر في عليّ (علیه السلام). أمّا بيان الوحي وتفسيره فهو من شؤون الولاية التشريعيّة للنبيّ.

18 /5.ثلاثة تساؤلات رئيسيّة :
18 /5 /1.السؤال الأوّل:

إذا كانت خصوصية الإمام أن يتلقّى الحقائق من النبيّ مباشرةً، فما هو الفارق بينه وبين راوي الحديث في تلقّي الحقائق الدينيّة؟

الجواب: يكمن الفارق بين الإمام وراوي الحديث في ثلاث جهات؛ هي:

أوّلاً: يتمتع الإمام بولاية سياسية واجتماعيّة، والرواة ليسوا كذلك.

ثانياً : غاية ما يمكن للراوي أن يقوم به هو تلقّي الحقائق الدينيّة من النبيّ من خلال أدوات المعرفة الاعتياديّة ( السمع والبصر ) ؛ فهو يجالس النبيّ، ويسمع المعارف الدينيّة منه، ولعلّه يدوّنها، ويسجّلها، ثمّ ينشرها بين الناس حسب طاقته. ولهذا، فإنّ الرواة عاجزون عن نيل جميع الحقائق الدينيّة، أمّا الإمام المعصوم فهو مطلع على الحقائق الدينيّة بأسرها، وبإمكانه أن يقوم بدور الهداية الإلهيّة للناس.

ثالثاً: لا يمكن نفي الخطأ في أداء الرواة؛ فهو أمر محتمل و وارد؛ في حين أنّ هذا الاحتمال منتفٍ بالنسبة إلى الأئمة الأطهار (علیهم السلام) بسبب العصمة. ولذلك، يتحتّم على عالم الدين أن يطبّق قواعد علمي الدراية والرجال؛ ليعرف الرواية الصحيحة سنداً ودلالةً، بينما لا يحتاج الإمام المعصوم إلى شيء من ذلك. فهو يتلقّى الحقائق الدينيّة من طرق غير اعتياديّة. يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) :

«عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهَ أَلْفَ بَابٍ كُلُّ بَابٍ يَفتَحُ أَلْفَ بَاب »(1).

ص: 24


1- الاختصاص المفيد، ج2، ص 283. [م].

وبطبيعة الحال، فإنّنا لا ندرك حقيقة هذا التلقّي؛ أهو من سنخ العلم الحضوريّ، أم الحصوليّ؟ كما أنّنا لا نعرف حقيقة الوحي. وعلى أيّ حال، فإنّنا نعلم من الأدلّة أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نقل الحقائق الدينيّة إلى الإمام المعصوم بواسطة ما، وأنّ الإمام قد تلقّى من النبیّ تلك الحقائق كاملةً بنهج معيّن، وهو يعرضها على الناس حين الحاجة وعلى مرّ الزمان. يقول العلّامة المطهّريّ (1979م) في هذا الشأن:

هل كان بعد النّبیّ من يكون مرجعاً حقيقياًّ للأحكام الدينيّة، كما كان النبيّ مرجعاً ومبيّناً ومفسّراً؟ هل كان هناك إنسان كامل يتمتّع بهذه الصفات، أم لا؟ قلنا: إنّ هذا كان متحقّقاً؛ ولكن بفارق أنّ ما كان يقوله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذه القضايا كان مستنداً إلى الوحي مباشرةً، أمّا ما يقوله الأئمة (علیهم السلام) فهو مستند إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا بمعنى أنّ النبيّ قد درّسهم ذلك، بل بالطريقة التي أفصح عنها عليّ (علیه السلام) ؛ حينما قال: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهَ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أَلْفَ بَابِ كُلُّ بَابٍ يَفْتَحُ أَلْفَ بَاب». إنّنا لا نستطيع تفسير كيفیّة تلقّى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) العلم من الله، لا يمكننا تفسير كيفية العلاقة المعنويّة بين النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعليّ (علیه السلام) والتي أفضت إلى تعليم النبيّ له جميع الحقائق حقّ التعليم، من دون أن يعلّمها لغيره(1).

وفي المحصّلة نقول: حديث الإمام هو الدين بعينه. ومن ثَمَّ: فإنّ للإمام ولاية تشريعيّة، لكن حديث عالم الدين ليس إلّا تفسيراً للدين والمعرفة الدينيّة. ولذلك، فهو فاقد للولاية التشريعيّة؛ وإن كانت معرفته الدينيّة حجّة بالدليل العقلي والنقلي .

من جهة أخرى، فإنّ طريقة تلقّي الإمام من النبيّ تختلف عن طريقة تلقي الرواة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كمّاً ونوعاً؛ فالإمام من حيث نوعيّة التلقّي، يأخذ الحقائق من خلال الأداة الإلهيّة عن النبيّ دفعةً واحدةً، ومن جهة الكميّة فهو يجد كلّ الحقائق الدينيّة عنده؛ بينما يفتقر رواة الحديث إلى كلا الجهتين كمّاً ونوعاً.

لاحظ التخطيط الآتي:

ص: 25


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)، المطهري، ج4، ص 859.

الصورة

26.jpg

18 /5 /2.السؤال الثاني:

بالنظر إلى ما تقدّم ، ألا يمكن القول بأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد قصّر في إبلاغ رسالته؟ فقد يتصوّر بعضهم بأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد قصّر في تلقّي الوحي أو في إبلاغه، فلم يحدّث الناس بجميع الحقائق الدينيّة !

الجواب: لم يحدث أيّ تقصير في رسالة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ لأنّه وإن لم يبلغ الناس بكل ما جاء به الوحي لبعض الأسباب (بلغ الناس بتمام الوحي القرآنيّ، وبعض الوحي التبيينيّ)، لكنّه أودع جميع الحقائق الدينيّة - سواء من الوحي القرآنيّ والتبيينيّ - إلى الأئمة المعصومين (علیهم السلام) بشكل مباشر أو غير مباشر، ليبيّنوه للناس في الوقت المناسب.

وفي الحقيقة، فإنّ قضيّتي «الإمامة» و «الخاتميّة» وجهان لعملة واحدة؛ وهي «كمال الدين». لقد أبلغ الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه بجميع الحقائق، لكنّ كمال الدين لا يتحقّق إلّا بعد أن يُبلغ النبيُّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الأمّة بأنّ قسطاً من الحقائق الدينيّة - وهي بعض بيان القرآن وتفسيره -

ص: 26

لم يُفصَح عنه بعد، وأنّه قد أودع علمه إلى الإمام؛ فإن كان الناس طالبين لكمال الدين، فعليهم إذن بالإمام؛ فهو بيان الدين وتفسيره . ومن هنا كان كمال الدين بالإمامة؛ لأنّ بيان الوحي بنحو كامل في قبضة الإمام، وحسب.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ جميع الحقائق الدينيّة موجودة في القرآن الكريم، وتمام تفسيره وبيانه متوافر في سنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) التي أورثت إلى الأئمة (علیهم السلام) فما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو تفسير للقرآن الكريم، وما قاله الأئمّة (علیهم السلام) فهو بيان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتفسيره للقرآن. ويتبيّن بذلك، أنّ أهل البيت هم من خوطب بالقرآن؛ كما ورد في بعض الأحاديث الشريفة(1).

وبطبيعة الحال، ليس المقصود مما تقدّم أنّ «الإسلام ليس مكتملاً»! أو أنّ «الدين ناقص طالما أنّنا نعيش عصر الغيبة، وأنّ الإمام المهديّ (علیه السلام) لم يأتِ لنا ببقية الحقائق الدينيّة»! فالدين كامل من دون شك. ولهذا، لو رحل أحد من المؤمنين عن دار الدنيا قبل وفاة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو قبل إمامة الإمام عليّ (علیه السلام)، أو قبل ظهور الإمام المهدي (علیه السلام)، فإنّ دينه ومعتقده مكتمل بالنسبة إليه . لقد أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الدين مكتملاً؛ غاية الأمر أنّ الآيات القرآنيّة والأحكام الإلهيّة - مثل : حرمة شرب الخمر، وما إلى ذلك من المحرّمات - قد نزلت بنحو تدريجيّ، وعلى مراحل زمنيّة، وقد أبلغ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمّة (علیه السلام) : الناس ببيان الوحي وتفسيره بنحو تدريجيّ، حسب مقتضيات العصر، وسوف يُعرض بظهور الإمام المهديّ (علیه السلام) أيضاً تفسير وبيان جديدين لم يرد في كلام النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو الأئمة السابقين (علیهم السلام)؛ لعدم وجود ما يقتضيه.

توضيح ذلك : أنّ المعارف التي وصلتنا عن الأئمة (علیهم السلام) على ثلاثة أنواع:

أولاً :« تفسير الآيات القرآنية »ببيان الحديث النبويّ وشرحه.

ثانياً: «تطبيق الكلّي على مصداقه»، أو قل: تطبيق الكبرى على الصغرى؛ مثل ما

ص: 27


1- ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه قال: «إنّما يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ». بحار الأنوار، ج24، ص 238. [م]

يفعله المجتهدون، لكن من دون أخطاء. فمثلاً : لو سئل الإمام ( علیه السلام)عن معاملة لم تكن موجودة على عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ هل هي حلال أم حرام؟ قد يجيب الإمام بأنّها محلَّلة؛ بناءً على قوله عَزَّ وَجَلَّ: «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبا» (1).

ثالثاً: «الإبداع الظاهريّ»؛ فإنّ بعض كلمات الأئمّة (علیهم السلام) على الظاهر هي مطالب جديدة؛ ليست بتطبيق ولا تفسير ومن أمثلتها بعض الأحكام الواصلة حول «الإرث» أو «الدية». وهذه - من حيث الظاهر - لا هي تفسير لآية، ولا تعدّ تطبيقاً للكلّيّ على الجزئيّ. وقد يبدو للملاحظ أنّها حكم جديد، وأنّ الإمام جاء بشريعة جديدة؛ في حين أنّها بأسرها بيان للقرآن الكريم؛ فإنّ جميع حقائق الدين موجودة في القرآن، وإنّ سنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو أهل بيته (علیهم السلام) : هي تفسير القرآن؛ وإن كنّا لا نفقه بعض الحقائق التفسيرية.

إنّ ما استعرضناه من تحليل يحلّ مشكلة النوع الثالث من هذه المعارف. وبناء على ذلك، فإنّ النوع الثالث من معارف الأئمّة (علیهم السلام) ليس« تشريعاً جديداً» لكي يتعارض مع الخاتمية»؛ بل قد بلغ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حقيقة الدين للأمة، والإمام هو من يقوم بهذا المرحلة من الأطروحة الإلهيّة بصفته «القائد» و «القائم على الأمر» ؛ وليس بصفته «الهادي للأمة». فالإمامة - إذن - لا تتناقض مع الخاتميّة، بل هي تبيان وتكميل لها. وختم النبوّة يعني ختام أطروحة الشريعة التي لم يبلّغ بعضها للناس، ولمّا ينفّذ بعد، وسوف يقوم الإمام المعصوم بإبلاغ هذا البعض، وتنفيذه.

ومما تقدّم يتبيّن أنّ المرجعيّة الدينيّة للإمام إثباتيّة؛ وليست ثبوتيّة، أنّ مرجعيّة النبيّ الدينيّة ثبوتيّة؛ لأنّ الوحي التشريعي يُلقى إلى النبيّ؛ وليس إلى الإمام. وكون مرجعيّة الإمام إثباتيّة يعني أنّ المعارف الدينيّة موجودة لدى الإمام، والإمام يبينها عندما تقتضي الظروف ذلك. وبناءً على ما تقدّم: فإنّ هناك اختلافاً بين مضمون الولاية

ص: 28


1- سورة البقرة: 275 .

التشريعيّة عند النبيّ وعند الإمام أمّا مضمون الولاية التشريعيّة النبويّة فهو من عند الله جَلَّ وَعَلا مباشرةً ، وأمّا المحتوى التشريعي عند الإمام فهو قادم من قبل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ على الرغم من أنّ أصل الولاية التشريعيّة للإمام ثابتة من قبل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى. من هنا ، تكون الولاية التشريعيّة للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مقام الثبوت والولاية التشريعيّة للإمام في مقام الإثبات. وعليه فإنّ ما قاله الإمام الباقر (علیه السلام) هو ما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وعندما يُقال: «قال الباقر (علیه السلام) »، فهذا يعني وجود عبارات مقدّرة في المقام؛ فكأنّ الإمام يروي: «عن أبي عن جدّي، عن... أمير المؤمنين (علیهم السلام): قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كذا وكذا ».

وقد روى الكلينيّ (329ه) في «الكافي» عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وفِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّة » (1).

وهذا يعني أنّ سنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - بأجمعها - موجودة لدى الإمام المعصوم (علیه السلام) ، وأنّ الإمام يبيّنها حسب ما تقتضيه الظروف.

18 /5 /3.السؤال الثالث :

قيل في الفرق بين النبيّ والإمام أنّ النبيّ يتلقى الوحي من الله عَزَّ وَجَلَّ من دون واسطة بشريّة، لكنّ الإمام يتلقّى الحقائق الدينيّة بواسطة النبيّ؛ فكيف يمكن الجمع بين هذا القول وبين الروايات التي أوردت نزول الملائكة على الأئمة (علیهم السلام)، بل ونزول ملك أعظم من جبرئيل على فاطمة الزهراء (علیها السلام) لبيان بعض الحقائق؟

الجواب: وجه الجمع بينهما أنّ الذي أوحي إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنّما هو حقيقة دينيّة تنزّلت عليه، فأودع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تلك الحقائق إلى أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ليبلّغها للناس حسب ما تقتضيه الظروف. وهذا يعني أنّ مرجعيّة الإمام الدينيّة مرجعيّة وولاية تشريعيّة

ص: 29


1- وسند الرواية: عن «عليّ ، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن أبي عبدالله (علیه السلام)». وهذه الرواية مع مثيلاتها مذكورة في باب عقده الكلينيّ بعنوان: «باب الرّدّ إلى الكتاب والسنة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج النّاس إليه إلّا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة». الكافي، الكلينيّ، ج1، ص59. [م].

إثباتيّة وليست ثبوتيّة. وقد كان الأئمّة (علیهم السلام) يعملون على وفق هذه الحقائق الدينيّة، ويرتقون درجات القرب الإلهيّ من خلال العمل بذلك؛ فإنّ تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى توصل الإنسان إلى مقام «الفرقان».

قال عَزَّ مِن قَائِل « إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا» (1)

لقد كان الأئمّة (علیهم السلام) يبلغون في سيرهم وسلوكم نحو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى مقام يؤهّلهم ليكونوا معه مهبطاً للملائكة، فيتواصلون مع جبرئيل (علیه السلام)، أو مع من هو أعظم منه ، غير أنّ السماء لم تشأ أن تُنزّل على الإنسان وحياً جديداً، أو أطروحة إلهيّة جديدةً تتخلّل هذا التواصل، بل كان تلقّي المعصومين منحصراً بالحقائق غير الدينيّة، وحسب.

وبناءً على ما تقدّم ، ينبغي الجمع بين مطالب عدّة؛ هي :

أوّلاً: ختم النبوّة.

ثانياً: كمال الدين.

ثالثاً: الإمامة حسب الرؤية الشيعيّة الإثني عشريّة؛ وهي تعني : امتلاك الولاية التكوينيّة والتشريعيّة والقياديّة، علاوةً على التواصل مع الملائكة .

وعدم الجمع بين هذه النقاط قد أدّى ببعض الكتاب إلى استنتاج خاطئ مفاده: أنّ هذه من عقائد غلاة الشيعة! مشكلتهم في هذا البحث أنّهم يضعون الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) في مصاف المجتهدين؛ لأنّهم وجدوا أنفسهم محاصرين بين فرضيتين: إمّا أن يذهبوا إلى نبوّة هؤلاء الأئمة (علیهم السلام)؛ وهو أمر لا يتلاءم مع «ختم النبوّة»، وإمّا أن ينتهوا إلى أنّهم مجتهدون، لا يمتنع صدور الخطأ منهم ، و المجتهد المعصوم مفهوم متناقض .

ص: 30


1- سورة الأنفال:29.

هذا، وقد تبين - فيما مضى من أبحاث - أنّ الإمامة لا تضاهي مقام النبوّة، ولا تساوي الاجتهاد، بل هي حقيقة مستقلّة، يتلقّى معها الإمام الحقائق الدينيّة مباشرة بالعلم اللدنّيّ القادم من النبيّ، ويتمكّن معها الإمام من التواصل مع الملائكة لتلقّي أمور غير دينيّة.

***

ص: 31

19.شرعيّة الإمامة

19 /1 .تقرير عبد الجبار المعتزليّ:

يقول القاضي عبد الجبّار (415ه) في كتابه «المغني»:

اختلف الناس في ذلك [ أي : فيما يتعلّق بوجوب الإمامة ] على وجوه ثلاثة : فمنهم من لم يوجبها أصلاً؛ وهم الأقلّ. ومنهم من أوجبها عقلاً. ومنهم من أوجبها سمعاً(1).

وعلى ضوء ذلك يمكن القول بأنّ الشرعيّة الفلسفيّة والكلاميّة للإمامة تنقسم إلى نظريّتين رئيستين: الأولى : نظريّة عدم وجوب الإمامة؛ وهذا يعني: أنّ الإمامة لا تمتلك شرعيّة فلسفيّة كلاميّة. والثانية: نظريّة وجوب الإمامة؛ بمعنى أنّ للإمامة شرعيّة فلسفيّة كلاميّة. وحول وجوب الإمامة وضرورتها هنالك ثلاثة مدّعيات:

أولاً : الوجوب العقلي (الشرعيّة الفلسفيّة).

ثانياً: الوجوب النقليّ السمعيّ.

ثالثاً: الوجوب العقليّ السمعيّ (الشرعيّة الكلامية).

وبعبارة أخرى، السؤال الذي نواجهه في الإمامة هو: هل الإمامة واجبة أم لا؟

يقول القاضي عبدالجبار في بحث الإمامة:

وقد اعتمدا وغيرهما على ما ثبت من إجماع الصحابة ... وممّا يبيّن صحّة الإجماع في

ص: 32


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل ، القاضي عبدالجبار، ج20، ص 16.

ذلك أنّ كلّ من خالف فيه لا يُعدّ في الإجماع؛ لأنّه إنّما خالف في ذلك بعض الخوارج، وقد ثبت أنّهم لا يُعدّون في الإجماع. وأمّا ضرار فأبعدُ من أن يُعدّ في الإجماع. وأمّا الأصمّ فقد سبقه الإجماع؛ وإن كان شيخنا أبو عليّ حكى عنه ما يدلّ على أنّه غير مخالف في ذلك، وأنّه إنّما قال: لو أنصف الناس بعضهم بعضاً، وزال التظالم، وما يوجب إقامة الحدّ، لاستغنى الناس عن إمام(1).

وحسب هذا النصّ فإنّ القائلين بعدم الوجوب (إنكار الشرعيّة الفلسفيّة للإمامة) هم الخوارج، وشخص من المعتزلة هو أبو بكر الأصمّ (279ه) . لكنّه يستدرك قائلاً بأنّه سمع من أستاذه أبي علي الجبائيّ (303ه) تفسيراً مغايراً لنظرية الأصمّ؛ فهو لم یكن ينكر الإمامة، بل أراد القول بأنّ الناس لو عاشوا بالعدل والإنصاف، ولم يظلموا أنفسهم، لاستغنوا عن وجود الإمام.

وعليه، فإنّ مدّعاه في قضيّة إنكار وجوب الإمام مأخوذ على نحو القضيّة الشرطيّة. وصدق القضية الشرطيّة متوقف على صدق التلازم بين المقدم والتالي، أو قل: صدق التلازم بين الشرط والجزاء، وليس مرتهناً بصدق المقدّم والتالي نفسيهما. وطالما أنّ المقدّم - وبتبعه التالي - في هذه القضية الشرطيّة لا يتحقّق خارجياًّ، فلنا أن ندعي بأنّ هذه النظرية لا تستلزم إنكار وجوب الإمام في عالم الواقع، ولا تدلّ على استغناء الناس عن الإمام. ومن هنا، فإنّ القاضي عبد الجبار يستثني أبابكر الأصمّ عن الخوارج؛ لأنّه من المعتزلة، فيبقى الخوارج - في نهاية المطاف - الطائفة المسلمة الوحيدة التي تؤمن بنظريّة عدم وجوب الإمامة(2).

19/ 2.تقرير العلّامة الحلّي:

يقول العلّامة الحلّي (726ه) في موضوع وجوب الإمامة أو عدم الوجوب شارحاً كلام المحقّق الطوسيّ (672ه) :

ص: 33


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل ،القاضي عبد الجبار، ج20، ص 27- 28.
2- المصدر السابق، ص 27- 28.

اختلف الناس هنا؛ فذهب الأصمّ من المعتزلة وجماعة من الخوارج إلى نفي وجوب نصب الإمام، وذهب الباقون [أي باقي المسلمين] إلى الوجوب [أي: إلى ضرورة الإمام]، لكن اختلفوا فالجبائيّان وأصحاب الحديث، والأشعريّة قالوا: إنّه واجب سمعاً؛ لا عقلاً. وقال أبو الحسين البصري، والبغداديّون [من المعتزلة] والإماميّة : إنّه واجب عقلاً. ثمّ اختلفوا [على أنّ نصب الإمام واجب على الله تعالى، أم على الناس؟ في نظريّتين]؛ فقالت الإماميّة : إنّ نصبه واجب على الله تعالى. وقال أبوالحسين والبغداديّون: إنّه واجب على العقلاء(1).

19/ 3.وجوب الإمامة على الله أو على الأمّة:

أحد الأسئلة المهمّة التي يجب أن تُعالج في هذه البحوث هي: هل إنّ الإمامة واجبة على الناس؟ أم أنّ وجوبها متوجّه لله جَلَّ وَعَلا ؟

يصنّف القاضي عبدالجبار (415ه) القائلين بوجوب الإمامة إلى فريقين؛ فأهل السنّة يرون وجوبها على الأمّة؛ بمعنى أنّ نصب الإمام أمر واجب على النّاس، بينما ترى الإماميّة أنّ الوجوب متوجّه لله تَبَارَكَ وَتَعَالى؛ أي إنّ نصب الإمام واجب على الله عَزَّ وَجَلَّ.

ومن أهمّ الأسباب التي أدّت إلى بروز هذين الاتجاهين أنّ الشروط اللازمة في الإمامة لو كانت تدور حول صفات حدّها: «الاجتهاد»، و«امتلاك الرأي»، و«التحلّي بالشجاعة»، و«العدالة»، و«العقل»، و«البلوغ»، وما إلى ذلك مما ورد في كتب العامّة - مثل: «شرح المواقف»(2)، و «شرح الأصول الخمسة »(3)- فمن الطبيعيّ أنّ الأمّة ستكون قادرة على تشخيص مصاديق الإمامة واختيار الإمام، أما لو ذهبنا إلى

ص: 34


1- كشف المراد، ص362. يُراجع أيضاً: محصّل أفكار المحصّلين، الرازيّ، ص 183؛ كتاب الأربعين، ص426 و 427؛ البراهين في علم الكلام، ج2، ص199؛ إبكار الأفكار، ج 3، ص 416 و417؛ كشف الفوائد، ص297.
2- شرح المواقف، ج8، ص 349.
3- کشف المراد، ص 751.

اشتراط «العصمة» و«الأعلميّة » و «الأفضليّة» في الإمامة، فلا ريب بضرورة الرجوع إلى النصّ الإلهيّ. وكما يعبّر المحقّق الطوسيّ (672ه) فإنّ «العصمة تقتضي النصّ»(1). بمعنى أنّ اشتراط العصمة يستلزم وجود النصّ الإلهيّ، وتشريع الشارع المقدّس(2).

وعلماء الإماميّة مجمعون على نظرية الوجوب على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأنّ نصب الإمام فعل إلهيّ، وكون القضيّة كلاميّة، وأنّها من فعل الله يتلازم مع الوجوب على الله جَلَّ وَعَلا؛ مثل أصل التكليف؛ فإنّه يجب على الله تَبَارَكَ وَتَعَالى من حيث أنّه فعل إلهيّ.

وبطبيعة الحال، فإنّ المقصود من الوجوب على الله ليس فرض تكليف على الله عَزّ وَجَلَّ، بل المراد أنّ الوجوب الإلهيّ يُستكشف من خلال الضرورة العقليّة أو النقليّة، مثله في ذلك مثل قاعدة ضرورة العليّة التي مفادها : إذا تحقّقت العلّة التامّة فالمعلول يتحقّق بالضرورة العقليّة، والوجوب - في الحقيقة - يعني هنا : الضرورة الفلسفيّة.

قال العلّامة الحلّي (726ه) في «كشف المراد»:

قال أبو الحسين البصري، والبغداديّون [من المعتزلة]، والإماميّة: إنّه واجب عقلاً، ثمّ اختلفوا؛ فقالت الإماميّة : إنّ نصبه واجب على الله تعالى. وقال أبوالحسين والبغداديّون: إنّه واجب على العقلاء(3).

فعلى الرغم من أنّ المعتزلة أذعنوا بالوجوب العقليّ، إلّا أنّهم ذهبوا إلى وجوب النصب على الناس؛ لا على الله . أمّا الإماميّة فقد رأوا أنّ الوجوب متوجّه إلى الله جَلَّ وَعَلا.

وحسب تقرير المحقّق الطوسيّ في «تلخيص المحصّل» فإنّ الإسماعيليّة - وهي فرقة تُصنّف في ضمن الفرق الشيعيّة - تنكر الوجوب على الله جَلَّ وَعَلا (4).

ص: 35


1- كشف المراد، العلّامة الحلي، ص495.
2- وذلك لأنّ العصمة إنّما تعرف بإخبار الله جلّ وعلا الذي يعلم السّرّ وأخفى، ويعلم حقائق الناس، ولا سبيل إلى ذلك من دون وجود نصّ إلهيّ قرآني أو بيانيّ يحدّثنا به الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . [م]
3- کشف المراد، ص 362.
4- تلخيص المحصّل (المعروف بنقد المحصّل)، المحقّق الطوسيّ، ص407.

قال في «قواعد العقائد» أمّا القائلون بوجوبه من الله [تعالى] فهم الغلاة والإسماعيليّة، وأمّا القائلون بوجوبه على الله [ تعالى ] فهم الشيعة (1).

وبناءً على ذلك، يمكن استنتاج أنّ الإماميّة تعتقد بالوجوب الإلهيّ للإمامة.

هذا، ومن الممكن إثبات الشرعيّة الفلسفيّة والكلاميّة للإمامة بالأدلّة العقليّة المحضة، والأدلّة النقليّة المحضة، والأدلّة العقليّة النقليّة :

أمّا الأدلّة النقليّة فهي الآيات والأحاديث الشريفة المروية عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهي تستلزم وجود الإمام في المجتمع الإسلامي وتحقّقه.

وأمّا الأدلّة العقليّة فهي المقدّمات التي تنتهي إمّا إلى نتائج عقليّة أو إلى فوائد عقلانيّة؛ فالمرابطة على حدود المجتمع ، وتجهيز القوات الدفاعية، وتنفيذ الإجراءات الاقتصاديّة، وقمع المشاغبين، وإقامة صلوات الأعياد والجمعات، وفصل الخصومات، وتقسيم الغنائم، وحفظ النظام الاجتماعيّ الإسلاميّ، واستقرار العدل، وما إلى ذلك، من شأنه أي يُعدّ من أدلّة وجوب الإمامة.

وفي ما يأتي إلماحة إلى بعض الأدلّة النقليّة والعقليّة لشرعيّة الإمامة فلسفياًّ وكلاميّاً :

19 /4.استدلال أهل الحديث :

استدلّ أحمد بن حنبل (241ه) - وهو إمام الحنابلة والظاهريّين، ومن أبرز ناقدي المنهج العقليّ - بدليل عقليّ أراد منه إثبات وجوب الإمامة نقليّاً؛ فقال: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس(2).

أراد بذلك أنّ الناس إن لم يكن لهم إمام يدير شؤونهم، فستحلّ الفتنة في مجتمعهم. ومن هنا، فإنّ وجود الإمام ضروريّ لاجتناب وقوع الفتن.

ص: 36


1- قواعد العقائد في خاتمة تلخيص المحصّل ص 458 .
2- الأحكام السلطانيّة، أبو يعلى الفرّاء، ص 23 .
19 /5.استدلال المعتزلة :

أقام الجاحظ (255 ه) - وهو من متكلّمي المعتزلة في القرن الثاني - في «الرسالة الكلاميّة »بعض الأدلّة على الوجوب العقليّ للإمامة. قال في بيان أحدها:

لمّا أن كان لا بدّ للعباد من أن يكونوا مأمورين منهيين بين عدوّ عاص ومطيع وليّ، علمنا أنّ الناس لا يستطيعون مدافعة طبائعهم ومخالفة أهوائهم إلّا بالزجر الشديد والتوعّد بالعقاب الأليم... وإذا كانت عقول الناس لا تبلغ جميع مصالحهم في دنياهم فهم عن مصالح دينهم أعجز ؛ إذ كان علم الدين مستنبطاً من علم الدنيا، وإذا كان العلم مباشرةً، أو سبباً بالمباشرة، وعلم الدين غامض لا يتخلّص إلى معرفته إلّا بالطبيعة الفائقة والعناية الشديدة مع تلقين الأئمّة(1).

أراد بذلك أنّ المجتمع الإنساني عاجز عن تحديد الصديق والعدوّ الحقيقيين، كما أنّه عاجز عن التفريق بين طاعة الله وطاعة الشيطان، وبين العمل بالدين وتركه وليس هناك شيء يمكن له ضبط الناس وتوجيههم نحو الصلاح والفلاح غير الأوامر والنواهي الإلهيّة (المبنيّة وفقاً للمصالح والمفاسد الحقيقيّة للناس)، وغير العقاب الإلهيّ الأليم، فلا بدّ من الأمر والنهي من قبل الإمام. ومن ثَمَّ: فإنّ العقل يحكم بأنّ الإمام هو من يحقّق ضبط المجتمع، وهو الضمان لتحقّق القوانين الجنائيّة؛ ليستبين الصديق من العدوّ. وهذا الدليل إنّما يثبت «الإمامة» بمعنى: «الولاية السياسيّة والاجتماعيّة».

أمّا الدليل الثاني الذي أقامه الجاحظ إثباتاً للإمامة، فقد قال فيه:

ولأنّ الناس لو كانوا يبلغون بأنفسهم غاية مصالحهم في دينهم ودنياهم لكان إرسال الرسل قليل النفع، يسير الفضل. وإذا كان الناس... لا يبلغون بأنفسهم

ص: 37


1- رسائل الجاحظ، ص184-185.

معرفة ذلك وإصلاحه... فهم عن التعديل والتجوير وتفصيل التأويل والكلام في مجيءالأخبار وأصول الأديان أعجز ، وأجدر أن لا يبلغوا منه الغاية، ولا ينالوا منه الحاجة (1).

أراد بذلك أنّ عقول الناس ليست فقط عاجزة عن فهم المصالح الدنيويّة، بل هي عاجزة بنحو أكبر في معرفة المصالح الأخرويّة . و نستنتج من ذلك أنّهم محتاجون لأئمّة يعرفونهم بجميع المصالح الدنيويّة والأخرويّة.

والأمر المهمّ الذي غاب عن الجاحظ هو أنّ دليله هذا، يثبت الإمامة بمعناها الذي يتبنّاه مذهب أهل البيت (علیهم السلام) أي: الإمامة المتّصفة بالولاية التكوينيّة والتشريعيّة والاجتماعيّة والعصمة؛ لأنّ وجود الإمام العالم بمصالح الدنيا والآخرة يستلزم امتلاكه المرجعيّة الدينيّة، والولاية التشريعيّة، علاوةً على ما له من المرجعيّة السياسيّة. وهذا لا يتناسب مع الإمامة التي ذهبت إليها فرق أهل السنّة.

19 /6.أدلّة الأشاعرة:
إشارة:

تمسّك المتكلّمون الأشاعرة لإثبات ضرورة الإمامة ببعض الأدلّة؛ نأتي على ذكرها فيما يأتي:

19 /6 /1.أوّلاً: دليل مقدّمة الواجب :

ذكر الفخر الرازيّ (606ه) في بعض كتبه عند الحديث عن ضرورة الإمام أنّ نصب الإمام مقدّمة للواجبات المطلقة (صغرى القياس)، وطالما أنّ مقدّمات الواجبات المطلقة واجبة (كبرى القياس )، فنصب الإمام واجب إذن.

وقد بيّن المقدمة الأولى: بأنّ الشارع المقدس أمر بتنفيذ الحدود، وتجهيز الجيش، والمرابطة على حدود البلاد الإسلاميّة، وحفظ الكيان الإسلاميّ، وهذه الأمور -

ص: 38


1- رسائل الجاحظ، ص184-185.

التي تُعدّ من الواجبات المطلقة - لا يمكن تنفيذها من دون إمام؛ فنصب الإمام إذن مقدّمة للواجبات المطلقة. وذهب إلى أنّ المقدّمة الثانية التي تنصّ على «وجوب توفير مقدمات الواجبات المطلقة حالة الإمكان» ثابتة في علم أصول الفقه؛ فيكون نصب الإمام واجباً شرعيّاً(1).

لكنّ هذا البرهان لا يتطابق مع المبادئ التي آمن بها الأشاعرة؛ لأنّ وجوب المقدّمة إنّما يثبت بواسطة الملازمة بين الأحكام الشرعيّة والعقليّة؛ وهذا لا ينسجم مع عقيدة من أنكر الحسن و القبح العقليّين(2).

19 /6 /2.ثانياً: دليل ضرورة دفع الضرر:

أورد المتكلّمون الأشاعرة والمعتزلة هذا الدليل بتعابير مختلفة. وفيما يأتي نستعرض تقرير الفخر الرازيّ (606ه) ؛ إذ استدلّ على الوجوب الشرعيّ للإمامة بقوله:

لنا أنّ نصب الإمام يتضمّن دفع الضرر عن النفس، فيكون واجباً. أما الأوّل فلأنّا نعلم أنّ الخلق إذا كان لهم رئيس قاهر يخافون بطشه، ويرجون ثوابه، كان حالهم في الاحتراز عن المفاسد أتمّ مما إذا لم يكن لهم هذا الرئيس. وأمّا أن دفع الضرر عن النفس واجب، فبالإجماع عند من لا يقول بالوجوب العقليّ، وبضرورة العقل عند من يقول به(3).

وترتيبه أن يُقال: نصب الإمام يوجب دفع الضرر عن النفس، ودفع الضرر عن النفس ،واجب، فنصب الإمام واجب(4).

ص: 39


1- أصول الدين ،الفخر الرازيّ، ص143؛ التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، الفخر الرازيّ ، ج 4، ص 356، ج8، ص313 شرح التجريد القوشجيّ، ص365؛ غاية المرام في علم الكلام ص 366 شرح المقاصد، ج 5، ص 236 و 237؛ الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة، الهيثميّ، ص5 .
2- دراسات في الإمامة [بالفارسية : امامت پژوهي]، ص 131و132 .
3- محصّل الأفكار ،الفخر الرازيّ، ص184.
4- یُراجع تلخيص المحصّل، ص407؛ المسائل في أصول الدين ،الفخر الرازيّ، ص 70 و 71 ؛ البراهين ،الفخر الرازيّ، ج 2، ص 199؛ شرح المقاصد، ج 5، ص 237؛ شرح التجريد ،القوشجيّ، ص365و366.

وبعد أن ادّعى أنّ المقدّمة الأولى (نصب الإمام يتضمّن دفع الضرر عن النفس) ضروريّة، أشار في هذا النصّ إلى أنّ المقدّمة الثانية هي موضع وفاق جميع عقلاء العالم؛ سواء عند من آمن بالحسن والقبح في الأشياء، أو عند من أنكر ذلك؛ لأنّ المنكر للحسن و القبح في الأشياء يقول: وجوب دفع الضرر عن النفس ثابت بإجماع الأنبياء والرسل وجميع الأمم والأديان، ومن يقول بالحسن والقبح في الأشياء يقول: إنّ وجوب دفع الضرر عن النفس من البديهيات العقليّة، فيكون وجوب دفع الضرر عن النفس - على كل حال - موضع اتفاق عقلاء العالم، فيثبت أن نصب الإمام واجب.

وقد ناقش المحقّق الطوسيّ (672ه) هذا الاستدلال بقوله :

الدليل الذي جاء به المصنّف على وجوب الإمامة سمعاً: فصغراه عقليّ من باب الحسن والقبح؛ وهو ليس من مذهبه، وكبراه التي أحالها إلى الاجماع أوضح عقلاً من الصغرى(1).

أراد بذلك أنّ المقدّمة الأولى التي جاء بها في القياس مبنيّة على القول بالحسن والقبح العقليّين؛ وهو ما لا يقبل به الرازيّ، أما المقدّمة الثانية فهي أوضح من الأولى عقلاً، ولا حاجة لدعوى الإجماع عليها .

ويجدر الاستفهام هنا بالقول: بعد أن آمن الأشاعرة والفخر الرازيّ بوجوب نصب الإمام شرعاً ونقلاً، فما حاجتهم إلى الأدلّة العقلية؟! ونظراً إلى هذا الإشكال، أشار المحقّق الطوسيّ في النصّ المتقدّم بأنّ صغرى هذا الدليل عقليّة.

من هنا كان الأجدر بهم أن يستشهدوا بقوله تعالى:

« أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (2).

ص: 40


1- تلخيص المحصّل ،المحقّق الطوسيّ، ص407.
2- سورة النساء: 59 .

أو بالحديث النبوي الشريف:

«مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةٌ »(1).

وما شاكل ذلك من أدلّة.

19 /6 /3.ثالثاً: الأدلّة النقليّة :

من الأدلّة النقليّة الدلّة على ضرورة الإمامة الحديث الشريف المذكور أعلاه:

«مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِينَةٌ جَاهِلِيَّة »(2).

وبيان الحديث: أنّ معرفة الإمام واجبة شرعاً، وطالما أنّ المعرفة فرع الحصول والتعيين، فينبغي القول بأنّ تعيين الإمام واختياره واجب على الناس شرعاً(3).

وقد استدلّ الأشاعرة بمثل ذلك في الآية الكريمة المشار إليها :

« أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (4).

فقالوا بأنّ الطاعة فرع المعرفة والمعرفة فرع النصب والتعيين، فبمقتضى الآية الكريمة يجب نصب الإمام وتعيينه على الناس(5).

يقول صدرالدين الشيرازي (1050ه) في «شرح أصول الكافي» ناقداً هذا الدليل:

ص: 41


1- مسند أحمد، ج 3، ص96؛ مسند أبي داوود، ص 259؛ مسند أبي يعلى، ج 13، ص 336؛ كنز العمال ، المتقي الهنديّ ج6، ص 65؛ درر الأحاديث النبويّة بالأسانيد اليحيويّة، يحيى بن الحسين بن القاسم، ص 177؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثميّ، ج5، ص 225 .
2- المصادر السابقة.
3- لاحظ: المسائل الخمسون، الفخر الرازيّ، ص 71؛ شرح المقاصد، ج 5، ص 239؛ تلخيص المحصّل، المحقّق الطوسيّ، ص 407.
4- سورة النساء: 59 .
5- شرح المقاصد ،التفتازانيّ، ج5، ص239؛ تلخيص المحصّل، المحقّق الطوسيّ، ص407.

أما استدلالهم بقوله تعالى: « أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» وبقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةٌ»، فذلك لا يدلّ أصلاً على مذهبهم من وجوب نصب الإمام عليهم ، بل يدلّ على وجوب الطاعة له، والمعرفة به، كما دلّ على وجوب طاعة الرسول، وعرفانه؛ لا على وجوب نصبهم إياه(1).

أرى أنّ من الممكن في الآية المباركة - فهم الملازمة العقليّة بين وجوب طاعة الرسول و أولي الأمر من جهة، وضرورة وجود الرسول وأولي الأمر من جهة أخرى، وكذلك الملازمة العقليّة - في الحديث الشريف - بين ضرورة معرفة إمام الزمان من جهة، وضرورة وجوده من جهة أخرى. وهذا يختلف عن عدم ملازمة الوجوب الشرعيّ للحج وضرورة تحصيل الاستطاعة؛ فالاستطاعة في مسألة الحج شرط للوجوب، في حين وجوب الإمام شرط للواجب في مسألة لزوم طاعة الإمام ومعرفته.

19 /6 /4.رابعاً دليل الإجماع وسيرة المتشرّعين :

أهمّ دليل تمسّك به الأشاعرة على ضرورة الإمامة هو ما يُعبّر عنه تارةً ب- «السيرة» أو ب- «الإجماع» تارةً أخرى؛ فبعد رحيل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى الرفيق الأعلى، زهد الصحابة في أهمّ الواجبات الإلهيّة وقتئذٍ - ألا وهي دفن جثمانه الشريف - وباشروا معالجة قضية خلافته، وقد نادى أبو بكر فيهم:

أيّها الناس! إنّه من كان يعبد الله، فإنّ الله حيّ لا يموت، ومن كان يعبد محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فإنّ محمّداً قد مات ... ألا وإنّ محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد مضى لسبيله، ولا بدّ لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبّروا وانظروا وهاتوا رأيكم؛ رحمكم الله (2).

فبادر الكلّ إلى قبول قوله، ولم يقل أحد: لا حاجة لنا بالإمام.

ص: 42


1- شرح أصول الكافي، صدر الدين الشيرازيّ، ج2، ص473و474.
2- الفتوح الأعثم ،الكوفي، ج 1، ص 6. [م].

هذا، وإن اختلف القوم في تعيين شخص الخليفة، لكنّهم أيّدوا بأجمعهم ضرورة الخلافة. وقد أمضت الأمّة الإسلاميّة بعد الصحابة عملهم. وإنّ ما يؤيّده الصحابة والأمّة الإسلامية يكون واجباً؛ لما روي عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

«إنَّ اللهَ لَا يَجمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَة »(1).

ولما كان الإجماع من مصادر التشريع، فالإمامة واجبة شرعاً (2).

ويمكن مناقشة هذا الإجماع الذي تمسّك به علماء أهل السنّة بالأدلّة الآتية :

*أوّلاً: أنّ هذا الإجماع - وهو اتفاق جماعة من الصحابة في سقيفة بني ساعدة - قد تحقّق في غياب جمع غفير من كبار الصحابة. ولهذا، فهو لا يتفّق مع أيّ من معاني الإجماع، ولا تجتمع فيه الشروط المعتبرة عند أهل السنة. فالإجماع يحصل حسب مذهبهم في إحدى الحالات الآتية: أوّلاً: أن يُطبق الجميع بالاتفاق، وثانياً: أن يتّفق أهل الحلّ والعقد وثالثاً: أن يتّفق أهل المدينة المنوّرة، ورابعاً: أن يتّفق أغلب علماء المسلمين. وحسب القرائن والشواهد التاريخية المسلّم بها، ما من شك في أنّ الإجماع لم يحصل بأيّ من المعاني المتقدّمة في السقيفة؛ فلم يحضر فيها كبار الصحابة؛ كعليّ (علیه السلام)، والسيّدة الزهراء (علیها السلام) وغيرهما من بني هاشم، ولا سعد بن عبادة، ولا قيس بن سعد، و لا طائفة أخرى من كبار الصحابة؛ مثل: سلمان، وأبي ذر الغفاريّ، ومقداد، وعمّار، وخالد بن سعيد، والحذيفة بن اليمان ،وبريدة وغيرهم ممّن يُعدّون من كبار أهل الحلّ والعقد، ومن أجلّاء علماء المسلمين، وأعلام أهل المدينة. فدعوى الإجماع في

ص: 43


1- أخرجه الترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة، ح: 2168.[م] [
2- الإبانة عن أصول الديانة ،الأشعري ص 77 ؛ المقدّمة ،ابن خلدون، ص191؛ نهاية الإقدام في علم الكلام ،الشهرستاني ص 479 شرح الأصول الخمسة ،القاضي عبد الجبّار، ص510 المغني ،القاضي عبدالجبّار، ج 1، ص 47؛ غاية المرام في علم كلام ،الآمدي، ص364 و365؛ إبكار الأفكار، الآمدي، ج 3، ص 417 ؛شرح تجريد الاعتقاد ،القوشجيّ ص 365؛ شرح المقاصد، ج 5، ص236؛ شرح المواقف، ج8، ص346؛ الاقتصاد في الاعتقاد، الغزاليّ، ص254؛ دراسات في الإمامة [بالفارسيّة : امامت پژوهي]، ص 127 .

هذا المقام ليست فقط بعيدة عن الحقيقة، بل لا تتناسب مع أيّ معنى من معاني الإجماع المقبولة عند أهل السنة(1).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ بعض كبار الأشاعرة مثل الفخر الرازيّ (606ه) تفطّنوا لهذا الإشكال حسب مبادئهم، فلم يعرضوا هذا الدليل في استدلالهم على ضرورة الإمامة ؛ قال في «المحصول»: «الإجماع لا يتمّ مع مخالفة الواحد والاثنين»(2)ثمّ قال ردّاً على مخالفي هذه النظرية: «أنّ المسلمين اعتمدوا في خلافة أبي بكر على الإجماع مع مخالفة سعد وعليّ بن أبي طالب(علیه السلام)»(3). وأجاب: «أنّ الإمامة لا يعتبر في انعقادها حصول الإجماع، بل البيعة كافية»(4). ولهذا لم يتناوله، وأقام دليلًا مختلفاً لإثبات ضرورة الإمامة.

*ثانياً : ينطوي الاستدلال بالإجماع المذكور على مغالطة «أخذ ما ليس بعلّة علّة»؛ لأنّ هذا الإجماع - على فرض تحقّقه - أخصّ من المدّعى؛ فالمدّعى هو أصل الوجوب الشرعيّ في نصب الإمام بشكل عامّ، لكنّ الدليل هو الإجماع الحاصل على إمامة أبي بكر؛ وهذا أحد مصاديق المدّعى، فيكون أخصّ منه(5).

*ثالثاً: الإجماع المشار إليه - على فرض تحقّقه - إنّما يدلّ على الوجوب الشرعيّ لنصب الإمام لو كان مستنداً إلى مستمسك ودليل شرعيّ آخر، بينما لا يوجد أيّ دليل أو مستمسك آخر على ذلك؛ لا من الكتاب ولا من السنّة، ولا من القياس المقبول عند العامّة، حتّى أنّ أهل السنّة أنفسهم لم يدّعوا وجود دليل أو مستمسك شرعيّ على حجية إجماع الصحابة(6).

ص: 44


1- يُراجع :دراسات في الإمامة [ بالفارسية :امامت پژوهي]، ص 138.
2- المحصول ،الفخر الرازيّ، ج4، ص181.
3- المصدر السابق، ج4، ص 183.
4- المصدر نفسه، ج4، ص 185.
5- توضيح المراد (تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد )، الحسينيّ الطهرانيّ، ص 679.
6- يراجع :رأسمال الإيمان[ بالفارسية: سرمايه ايمان] ، اللاهيجيّ، ص112؛ أنيس الموحدين، النراقي، ص 135.

غاية الأمر، دعوى بعض المحقّقين منهم بوجود ما يثبت ذلك، بيد أنّه لم يصلنا (1).

19 /7.أدلّة الإمامية:
إشارة

تمسّك علماء الإماميّة بأدلّة عقليّة ونقليّة تثبت ضرورة الإمامة بتفسيرها ومعناها الذي يتبنّاه مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ، وسنستعرض أهمّها فيما يأتي على نحو الإجمال:

19 /7 /1.الدليل الأوّل: قاعدة اللطف :

يستند علماء الإماميّة على قاعدة اللطف لإثبات وجوب نصب الإمام على الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فهم يرون أنّ نصب الإمام لطف، واللطف واجب عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فنستنتج أنّ نصب الإمام واجب على الله(2).

وهنا، ينبغي إلقاء بعض الأضواء على قاعدة اللطف؛ لتوضيح هذا الاستدلال.

قال المتكلّمون في تعريف اللطف الإلهيّ: «اللطف» هو: ما يقرّب المكلّفُ معه من الطاعة، ويبعد عن المعصية، ولا حظّ له في التمكين، ولم يبلغ الإلجاء(3).

وقيل في تعريفه أيضاً: «اللطف »هو: كلّ ما يختار عنده المرء الواجب، ويتجنّبُ القبيح، أو ما يكون عنده أقرب؛ إما إلى اختيار، أو إلى ترك القبيح(4).

توضیح ذلك : أنّ اللطف من الصفات الفعليّة (5) لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهو يتعلّق بالمكلّفين، ويُحدث فيهم حافزاً نحو تحقيق التكليف، أو التقرّب منه. وشرائط وجوب

ص: 45


1- شرح المواقف، ج3، ص 757.
2- رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 309 و ج 3 ، ص20 الذخيرة ،السيّد المرتضى، ص410؛ تلخيص المحصّل، ص407؛ منهاج اليقين، ص 430 كشف المراد ؛العلّامة الحلّي، ص362؛ قواعد المرام ،البحراني ص 175؛ الياقوت في علم الكلام ،نوبخت ص75؛ اللوامع الإلهيّة، ص 325 و 326 .
3- النكت الاعتقادية، المفيد، ص 31.
4- شرح الأصول الخمسة ،عبد الجبّار المعتزليّ، ص351.
5- تبيّن في مباحث معرفة الله الاختلاف بين تعريف الصفات الفعليّة الإلهيّة والصفات الذاتيّة الإلهيّة.

اللطف هي أوّلاً: عدم توقّف القدرة على أداء التكليف على اللطف؛ لأنّ اللطف فرع التكليف، والتكليف فرع القدرة . وثانياً: عدم إيصال اللطف المكلّف إلى حدود الإلجاء (الإجبار) السالب للإرادة.

والدليل على وجوب اللطف هو الحكمة الإلهيّة؛ لأنّ اللطف تدبير من التدابير الإلهيّة الحكيمة في سبيل تحقيق الغاية من خلق الإنسان (الهداية) ؛ ولذلك قال المحقّق الطوسيّ (672ه) في المقام: «اللطف واجب؛ لتحصيل الغرض به»(1). وهذا يعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لو علم بأنّ العبد لن يختار الطاعة - أو التقرّب من الطاعة - من دون تحقّق فعل ما بعينه، وجب عليه القيام بذلك الفعل؛ كيلا يستلزم نقض الغرض.

والقضيّة الأخرى التي ألمح إليها المتكلّمون في هذا الشأن حديثهم عن فاعل اللطف ؛ فهو إمّا الله جَلَّ وَعَلا كما هو الحال في قضيّة إرسال الرسل أو هو المكلّف لنفسه (مثل: التأمّل في معجزات الرسل)، أو هو المكلّف للآخرين (مثل: إبلاغ الأحكام الإلهيّة للناس).

فإذا اتّضح تعريف اللطف وشروطه والدليل على وجوبه، تبيّن حينئذ معنى العبارات التي ساقها العلماء - ومنهم : المحقّق الطوسيّ (672ه) - إذ عدّوا الإمامة مصداقاً من اللطف الإلهيّ. يقول في «تجريد الاعتقاد»: الإمام لطف؛ فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض (2).

وقال في بيان كون الإمام لطفاً:

الإمام الذي حدّدناه إذا كان منصوباً ممكناً، يُقرّب المكلّفين إلى القيام بالواجبات، والانتهاء من المقبّحات ويبعدهم عن الإخلال بالواجبات وارتكاب المقبّحات وإذا لم يكن كذلك، كان الأمر بالعكس. وهذا الحكم ممّا قد ظهر لكلّ عاقل بالتجربة، وصار ضرورياً له؛ بحيث لا يمكنه أن يدفعه. وكلّ ما يقرّب المكلّفين إلى الطاعات،

ص: 46


1- كشف المراد ،العلّامة الحلّي، ص351.
2- تجريد الاعتقاد، المحقّق الطوسيّ، ص362.

ويبعّدهم عن المعاصي، فقد يُسمّى لطفاً اصطلاحاً(1).

ويتبيّن كون الإمامة لطفاً بمقدّمات؛ هي:

أوّلاً: تعبيد الطريق للناس نحو طاعة الحقّ، والحدّ من دواعي الضلالة بواسطة حضور الإمام.

ثانياً : إبعاد الناس عن الفساد، وتقريبهم إلى الصلاح.

ثالثاً : إرادة الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وغرضه الذي تعلّق بطاعة العباد لأوامره، وبتركهم لنواهيه وتوقّف تحقّق هذا الغرض على نصب الإمام(2).

فإذا نصب الله عَزَّ وَجَلَّ حاكماً جديراً، تحقّق الغرض واللطف الإلهيّان؛ بمعنى تحقّق العبادة، والطاعة، واجتناب المعاصي، وترك مثل هذا اللطف، مخلّ بهذا الغرض (3).

ومن القضايا المهمّة اكتشاف مصاديق اللطف في الإمامة؛ فإنّ منصب الإمام يتولّى مسؤوليّتين:

*المسؤولية الأولى: أن يعرض الإمام على الناس ما أخذه عن النبيّ من بيان جديد للقرآن الكريم والسنّة النبويّة، وضرورة الإمامة في مثل هذه الشؤون تكون من باب الحكمة الإلهيّة؛ وليس من باب اللطف فمن خلال معرفة القضايا الدينيّة الجديدة يتعرّف الناس على تكاليفهم الدينيّة، وتحصل لهم القدرة على الامتثال. أمّا لو لم يرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإمام لبيان القضايا الدينيّة الجديدة، فلن يحصل للناس علم بالدين ولن يسلكوا سبل الهداية. ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهيّة وجوب الإمامة.

ص: 47


1- رسائل المحقّق الطوسيّ، ص 426.
2- لاحظ :رسائل المحقّق الطوسيّ، ص 426 الفصول، الطوسيّ، ص38؛ كشف المراد، الحلي، ص 2و 3 أنوار الملكوت في شرح الياقوت ،العلّامة الحلّي، ص403 كشف الفوائد ،العلّامة الحلّي، ص298؛ الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الشيخ الطوسيّ، ص183؛ إرشاد الطالبين، الفاضل المقداد، ص 326 و 327؛ كفاية الموحدين، الطبرسيّ، ج 2، ص 2و3.
3- دلائل الصدق، المظفر، ج 2، ص 41.

*المسؤوليّة الثانية: أن يذكّر الإمام بالتكاليف العقليّة أو الشرعيّة التي يعرفها الناس؛ لإيجاد الحافز فيهم على تحقّق التكليف أو التقرّب من التكليف. وضرورة الإمامة في هذه المقام من باب اللطف الإلهيّ . ولذلك ذهب السيّد المرتضى (436ه) إلى وجوب كون الإمامة لطفاً بالنسبة إلى التكاليف العقليّة، وذهب ابن ميثم البحراني (679ه) إلى وجوب كونها لطفاً بالنسبة إلى التكاليف الشرعيّة (1). أمّا الشيخ الطوسيّ (460ه) فقد عدّ وجود إمام لهداية الناس بعد رحيل الرسول لطفاً (2).

وقد ناقش الأشاعرة والمعتزلة الاستدلال بقاعدة اللطف من جهات مختلفة؛ أمّا الأشاعرة فقد أنكروا القاعدة من الأساس لابتنائها على الحسن والقبح العقليّين، وأما المعتزلة فعلى الرغم من قبولهم بها، لكنّهم ذهبوا إلى أنّ كون الإمامة لطفاً، ووجوبها على الله جَلَّ وَعَلا أمر مشكل(3).

وأبرز المناقشات الكبرويّة التي أوردها الأشاعرة على قاعدة اللطف تساؤلهم عن حدود اللطف الإلهيّ؛ إلى أين يكون؟ فلو كان اللطف واجباً على الله، لوجب عليه فعل كلّما وجد الحافز عند المكلّف، والحال أنّه ليس كذلك.

والجواب : أنّ كلّ ما كان مصداقاً للطف الإلهيّ فإنّ الله يفعله بالضرورة العقليّة، فإذا لم يصنع فعلاً، عُلم من ذلك أنّه ليس مصداقاً للطف، وعدم اتّصاف بعض الأفعال باللطف عائد إلى أنّها تسلب الإنسان اختياره، أو أنّها من الأفعال التي توجد القدرة، أو لأنّ المكلّف لم يقم بواجبه تجاه الألطاف الإلهيّة السابقة، وقد تمّت الحجّة عليه، فصدور سائر الأفعال الإلهيّة يجعلها من اللغو الذي لا جدوى منه، وهذا ما يتنافى مع الحكمة. فإذا حاز فعل ما على جميع شرائط اللطف، وجب صدوره عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالى.

ص: 48


1- الذخيرة، ص 409- 410 ؛ قواعد المرام، ص175.
2- فصول العقائد ،الشيخ الطوسيّ، ص 36؛ تمهيد الأصول، ص 446.
3- دراسات في الإمامة [بالفارسية : امامت پژوهي]، ص 139.

ولمّا كان الله عَزَّ وَجَلَّ عالماً بجميع الأمور علماً أزليّاً، وله الحكمة البالغة، والقدرة المطلقة عليها، فهذا يعني أنّ عدم تحقّق بعض الأفعال التي قد نخالها لطفاً لا يمثّل إلّا نقصاً معرفيّاً أصابنا، ومنعنا من الوقوف على أنّها ليست بلطف .

وقد ناقش بعض المتكلّمين من المعتزلة القائلين بقاعدة اللطف بمناقشات صغروية حاولت إخراج الإمامة من دائرة اللطف لكنّ المتكلّمين من الإماميّة فنّدوها وردّوا عليها(1)؛ من أهمّ هذه المناقشات ما يأتي:

*المناقشة الأولى: أنّ المصالح المترتّبة على الإمامة مصالح دنيوية (مثل: الأمن والعدالة)، في حين أنّ قاعدة اللطف لا تتعلّق إلّا بالمصالح الدينيّة؛ أي: بطاعة الله، و اجتناب معصيته.

والجواب: أنّ العدالة بمعناها الأتمّ هي من أبرز المصالح الدنيويّة والأخرويّة التي لا يمكن تحقيقها من دون وجود الإمام المعصوم.

*المناقشة الثانية: ليست الإمامة لطفاً بالنسبة إلى جميع أفراد البشر؛ فبعضهم ينقلب على الإمام، ويشقّ عصا الطاعة الإلهيّة؛ فحين تفضي الإمامة إلى تقرّب الناس من الله تكون لطفاً في حق المكلّفين؛ والحال أنّ المكلّفين يعملون بتكاليفهم خوفاً من الإمام، ورهبةً منه.

والجواب: أوّلاً : أنّ هذه المناقشة إذا كانت واردةً، فهي ترد أيضاً على كون النبوّة لطفاً؛ فإذا لم يتسبّب كون الإمامة لطفاً بتقرّب بعض الناس من الله، أو كان ذلك منطلقاً للطغيان عند بعضهم، فإنّ هذا لا يختصّ بالإمامة، بل يعرض أيضاً على كون النبوّة لطفاً. وثانياً: أنّ النبوّة والإمامة تمهّدان لهداية الجنس البشري؛ وإن خالف بعضهم جهلاً أو عناداً . وثالثاً : أنّ عمل المكلّفين خوفاً من الإمام أو رهبةً منه لا ينافي

ص: 49


1- المغني، عبد الجبار المعتزليّ، ج 1، ص 30 فما بعدها؛ الشافي في الإمامة ،السيّد المرتضى؛ الإمامة في الرؤية الإسلامية [بالفارسية امامت در بینش اسلامي]، الربانيّ الگلپايگانيّ.

إيمانهم بالآخرة، ولا ضير من عدّ هذا من سنخ« تحقّق الداعي على الداعي»؛ بمعنى أنّ مخافة الإمام تكون محفزاً على محفّز آخر؛ هو الإيمان بالآخرة.

*المناقشة الثالثة : إذا كانت الإمامة لطفاً، لزم التسلسل؛ لأنّ الألطاف لو كانت عامّة لشملت الإمام نفسه، ولاحتاج كل إمام إلى إمام آخر، ولاستمرّت الحاجة إلى ما لا نهاية.

والجواب : أوّلاً: أنّ هذه المناقشة إذا كانت واردةً، فهي ترد أيضاً على كون النبوّة لطفاً في حين أنّ المعتزلة لا يوجّهون هذه المناقشة إلى النبوّة

وثانياً: أنّ وجوب اللطف على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يتبلور إلّا بعد أن يحتاج المكلّفون إلى حافز إضافيّ، والنبيّ أو الإمام المعصوم غنيّان عن أي حافز إضافيّ.

*المناقشة الرابعة : لو افترضنا أنّ وجود الإمام لطف، فلم لا نذهب إلى وجوب هذا اللطف على الناس؟

والجواب: أنّ الغاية من تعيين الإمام المعصوم تقريب الناس إلى الطاعة، وتجنيبهم الوقوع في المعصية؛ وهذا لا يتأتى إلّا عن طريق الله عَزَّ وَجَلَّ.

*المناقشة الخامسة : لو افترضنا أنّ اللطف واجب على الله جَلَّ وَعَلا، فهذا يعني ضرورة أن يعيش الإمام حالة الحضور والظهور على الدوام؛ لكنّ الإماميّة لا تؤمن بوجوب ما عدّته لطفاً، وما آمنت بوجوبه لا يصلح أن يكون لطفاً.

والجواب: كما ردّ المحقّق الطوسيّ (672ه) على ذلك بأنّ: «وجوده لطف؛ وتصرّفه لطف آخر، وعدمه مِنّا» (1) ؛ أي: إنّ أصل وجود الإمام لطف من الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وتصرّف الإمام لطف آخر يقوم به الإمام نفسه، وحضوره لطف ثالث يجب أن يتحقّق من خلالنا، ولم تحصل غيبة الإمام إلّا بسببنا، وبسبب المعاصي التي

ص: 50


1- تجريد الاعتقاد ،ص 221 ؛كشف المراد، ص362.

جنتها يد الإنسان. وقد ألمح العلّامة الحلّي (726ه) في شرحه لهذه العبارة بأنّ لطف الإمامة إنّما يتمّ بأمور ثلاثة أوّلها بخلق الإمام، وتمكينه بالقدرة، والعلم، والنصّ عليه باسمه ونسبه. وثانيها : بتحمّل الإمامة، وقبولها . وثالثها : بمساعدة الإمام، والنصرة له، والانقياد إلى أوامره ونواهيه. أمّا الأمر الأوّل فهو واجب على الله ؛ وقد تحقّق. وأما الأمر الثاني فهو واجب على الإمام ؛ وقد قام به. وأما الثالث فوجوبه متوجّه إلى الرعيّة؛ لكنّهم قصّروا فيه، ولم يتحقّق؛ فلم يكن عدم تمكن الإمام من الإمامة، والتصرف في الأمور من جانب الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا من قِبل الإمام، بل كان لتقصير الرعيّة(1).

وقد أشار المحقّق الطوسيّ (672ه) في« الفصول النصيريّة »إلى أنّ سبب حرمان الخلق عن إمام العصر ليس هو الله تَبَارَكَ وَتَعَالى؛ فهو لا يخالف مقتضى الحكمة، ولا هو الإمام؛ لأنّه معصوم، فيكون السبب هو الرعيّة(2).

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ غيبة الإمام لا تعني حرمان الناس من جميع كمالاته؛ فالإماميّة لا تذهب إلى انتفاء القدرة التكوينيّة أو التشريعيّة للإمام الغائب؛ لأنّ الإمام المعصوم المستتر ظاهراً عن الأنظار ، مصدر لآثار وبركات كثيرة، ويجري لطفه وفيضه للناس كالشمس؛ فقد روي عن أمير المؤمنين علىّ (علیه السلام) أنّه قال:

«لَا تَخلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِم لله بِحُجَّةٍ؛ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً»(3).

19 /7 /2.الدليل الثاني: ضرورة البيان المعصوم للشريعة ووجوب صيانتها :

ينتهي بنا التأمل في خاتميّة الإسلام (نبوّة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) )، وأبديّة القرآن الكريم

ص: 51


1- المغني، ج 1، ص 30؛ الشافي في الإمامة؛ كشف المراد، العلّامة الحلّي، ص363؛ الألفين، العلّامة الحلّي، ص48و49؛ المنقذ من التقليد ،الحمصيّ، ج2، ص254؛ إرشاد الطالبين ،الفاضل المقداد، ص 331 المواقف، ج 3، ص 583 و 584؛ شرح المقاصد، ج5، ص 241 كتاب الأربعين ،الفخر الرازيّ، ص430 شرح الأصول الخمسة، ص 509و510؛ شرح التجريد ،القوشجيّ، ص 366.
2- الأدلّة الجليّة في شرح الفصول النصيريّة، ص165.
3- نهج البلاغة، الحكمة 147؛ الاحتجاج، ج 1، ص 69؛ الأمالي، الطوسيّ، ص20؛ عوالي اللآلي، ج4، ص124؛ الإرشاد، ج 1، ص 121؛ تحف العقول، ص 169.

-من جهة - ثمّ في ضرورة الحفاظ على الشريعة وحاجة الأمّة إلى البيان المعصوم ،والعرض التفصيليّ للشريعة بغية هداية المجتمع - من جهة أخرى - إلى ثبوت ضرورة الإمامة بمعناها المقرّر في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام).

وعلى هذا الأساس، لا يجوز عدّ الإسلام خاتماً للدين الإلهيّ، ونعته بالأبديّة والشموليّة لجميع الأعصار والأمصار والنفوس، ثمّ يُكتفى - بعد ذلك - بالنصوص القرآنيّة والنبويّة؛ فهل يتسنّى لهذا الكمّ من النصوص الدينيّة الردّ على جميع الاستفهامات التي يطلقها الإنسان في مسيرته نحو الهداية إلى يوم القيامة؟ وهل سوف يبقى هذا الكمّ من النصوص الدينيّة محفوظاً مصوناً إلى يوم القيامة؛ من دون الإمام المعصوم؟ ما من شكّ في أنّ الإجابة سلبيّة؛ فالمؤمنون محتاجون إلى الإمام المعصوم للحفاظ على الشريعة الواصلة من النبيّ الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، كما أنّهم بحاجة ماسّة إلى الإمام المعصوم؛ لمعرفة تفاصيل الشريعة(1).

وبعبارة أخرى : فلسفة ضرورة الإمامة لا تختلف عن الفلسفة التي تُذكر لضرورة ابتعاث الأنبياء؛ فالهداية الإلهيّة العامّة من خلال التشريع تثبت ضرورة النبوّة والإمامة، باختلاف أنّ النبيّ يتلقّى الشريعة بواسطة الوحي الإلهيّ، ويبلّغه للناس، في حين يتولّى الإمام المعصوم هذه المسؤوليّة بواسطة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2).

نعم؛ ذهب بعض المتكلمين من العامّة إلى أنّ مجرد وجود القرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة بين ظهرانينا (من دون وجود الإمام) كافٍ لهداية الإنسان، ولعلّهم تمسّكوا بالوعد الإلهيّ بحفظ الدين والشريعة(3).

والجواب على ذلك : أنّ وجود كلّ هذه الفرق المختلفة وقراءاتها المختلفة للإسلام

ص: 52


1- يراجع: الشافي، ج 1، ص 179؛ الذخيرة، ص 424؛ تلخيص الشافي، ج 1، ص 123 المنقذ من التقليد، ج2، ص 262 -265 قواعد المرام ،ابن ميثم البحراني ص 178؛ إرشاد الطالبين، الفاضل المقداد، ص333.
2- حقّ اليقين، العلّامة المجلسيّ، ص28؛ علم اليقين ،الفيض الكاشاني، ص375. [
3- كما في قوله تعالى: « وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ» سورة الفصّلت: 41- 42، وقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »سورة الحجر: 9. [م].

خير دليل على عدم كفاية المصدرين المتقدّمين لوحدهما، وضرورة وجود مصدر معرفيّ آخر مكمّل ؛ هو سنّة الأئمة المعصومين من أهل البيت (علیهم السلام).

أضف إلى ذلك أنّ الحفاظ على الشريعة لا يتسنّى إلّا من نافذة الحفاظ على مصادر الشريعة. نعم؛ لقد وعد الله عَزَّ وَجَلَّ الأمّة بحفظ القرآن الكريم؛ ولكن كيف يتحقّق هذا الوعد؟ لا شكّ في أنّ أحد أهمّ السبيل الكفيلة بصيانة القرآن وجود حفظة حقيقيّين، وأئمة معصومين من الخطأ والزلل ، يصونون القرآن الكريم من أيّ تحريف بالزيادة أو النقيصة، وهم أهل الثغور وحماتها المرابطين على حفظ الدين والشريعة .

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الحفاظ على النصوص القرآنية بمفردها لا يكفي لهداية الناس، بل ينبغي صيانة النصوص النبويّة أيضاً، لوجود كمّ هائل من التحريف الذي طال أحاديث النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من قبل أمثال سمرة بن جندب، وابن أبي العوجاء، وكعب الأحبار ، وهذا ما أحدث كثرة الفرق المنشعبة على الإسلام.

و إنّ ما أودعه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من بيان تفصيليّ وتكميليّ للشريعة إلى الإمام أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) هو صمّام الأمان لسعادة الناس، وإنّ تحقّق جميع هذه المتطلّبات الضروريّة لا تتأتّى إلّا بواسطة الإمام المعصوم؛ فاجتهاد أبناء العامّة، وتوظيفهم للقياس، وسدّ الذرائع والاستحسان، وما إلى ذلك، ليس ببديل مناسب للإمام المعصوم؛ لأنّ مناهج الاجتهاد هذه مناهج ظنّيّة، مختلف فيها؛ ولا تمثّل أيّ حجّة قطعيّة، ولا تضمن سعادة الإنسان وفلاحه .

أمّا لو قيل : إذا كان الأمر كذلك، فلم ابتليت الشيعة بالاختلاف والتمذهب؛ حتى صاروا فرقاً؟ فالجواب : أنّ هذا الانحراف - كغيره - ناشئ أيضاً من عدم التمسك بالإمام المعصوم؛ فالذين توقفوا عند أحد الأئمة المعصومين ، ولم يؤمنوا بالإمام المعصوم الشرعيّ الذي يليه هم المسؤولون عن إحداث الشرخ، واختلاق الفِرَق والمذاهب المنحرفة.

***

ص: 53

20.عصمة الإمام

20/ 1.تمهيد

يُعدّ البحث عن صفات الأئمّة (علیهم السلام) أحد أبحاث الإمامة العامّة المهمّة وهو يعالج صفات يتحلّى بها الإمام من قبيل: «العصمة»، و«العلم اللدنّي»، و«الولاية التكوينيّة»، و«الولاية التشريعيّة»، و«الولاية السياسيّة الاجتماعيّة»، و«التنصيب»، و«الأفضليّة»(1). ويجري البحث عن صفات الأئمة في كل من مقامي «الإمامة العامّة»، و«الإمامة الخاصّة». ويتطرّق المتكلّمون عند حديثهم عن صفات الأئمة إلى إثبات عصمة الإمام، وعلمه، والنصّ عليه، والولاية؛ وذلك لما لهذه الموضوعات من أهميّة. أما في مبحث الإمامة الخاصّة فعادةً ما تقام الأدلّة على إثبات وجود أشخاص معيّنين، يتمتّعون بصفات العصمة، والعلم والنصّ، والولاية التكوينيّة والتشريعيّة؛ مثل : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام).

هذا، وتمثّل العصمة إحدى صفات الإمام البارزة، وقد تطرّق إلى بيانها وإثباتها متكلّمو الإماميّة. ويحظى منصب الإمامة عند علماء الشيعة الإثني عشرية بمكانة مرموقة، تتنافى مع ارتكاب صاحبه (الإمام) للذنوب - كبيرةً كانت، أو صغيرة - كما يتنافى أيضاً مع صدور الخطأ منه - سواءً كان ذلك عن عمد، أم عن سهو -.

أمّا متكلّمو العامّة فقد اكتفوا في هذا الخصوص بإثبات صفة «العدالة» فقط ؛ ولم يعدّوا العصمة من لوازم الإمامة.

ص: 54


1- أتقدّم بالشكر الجزيل لجهود سماحة الشيخ الفاضل حجّة الإسلام والمسلمين الدكتور محمد رضا بهدار لما قام به من جمع مستندات صفات الأئمة (علیهم السلام).

وعلى الرغم من أنّنا قد عرضنا هذا الموضوع مفصّلاً في باب النبوّة، فإنّنا سنتطرّق هنا - من باب التمهيد للبحث - إلى موجز عن ماهيّة «العصمة»، وسعة هذا المفهوم.

20 /2.تحليل العصمة
إشارة

تعود مفردة «عصمة» إلى الجذر «ع.ص. م» الذي يعني في اللغة العربية: المنع، والإمساك عن الشيء. وسُمّيت العصمة بهذا الاسم لأنّ صاحبها - أي الشخص المعصوم - قد مُنع عن ارتكاب المعصية، وعن الوقوع في الخطأ(1). وقد عرّف اللغوي الشهير ابن فارس هذه المفردة بأنّها الحفظ الإلهيّ للعباد من الأمور القبيحة والحوادث(2). واعتمد كلّ من الشيخ المفيد (413ه)، والسيّد المرتضى (436ه)، والشيخ الطوسيّ (460ه) هذا المعنى اللغوي للعصمة بعينه(3).

وفي ما يتعلّق بالمعنى الاصطلاحي للعصمة، نجد أنّ المتكلمين والحكماء الإسلاميّين قد ساروا في اتجاهات ومناهج مختلفة (4)؛ فقد عدّ بعضهم حقيقة العصمة لطفاً وتفضّلاً إلهيّاً، وارتأى طائفة منهم أنّها قوّة عاقلة، واختار آخرون أنّها ملكة نفسانيّة، كما ذهب آخرون إلى أنّها حيثيّة خاصّة .

ص: 55


1- كتاب العين ،الخليل الفراهيدي، ج1، ص313.
2- معجم مقاييس اللغة ،ابن فارس، ج4، ص331 .
3- إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره... ومنه قولهم «اعتصم فلان بالجبل» إذا امتنع به ومنه سميت «العِصَم»؛ وهي وُعُول الجبال ؛ لامتناعها بها، والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سُمّي ذلك الشيء عصمة له لمّا تشبّث وسلم به من الغرق ولو لم يعتصم به لم يُسمّ عصمة، وكذلك سبيل اللطف إنّ الإنسان إذا أطاع سُمّي توفيقاً وعصمة، وإن لم يطع لم يُسمّ توفيقاً ولا عصمة ... أوائل المقالات ،الشيخ المفيد، ص 66. وأصل العصمة في موضوع اللغة المنع؛ يُقال عصمتُ فلاناً من السوء إذا منعت من حلوله به ،غير أنّ المتكلّمين أجروا هذه اللفظة على من امتنع باختياره عند اللطف الذي يفعله الله تعالى به عنده من فعل القبيح، فقد منعه من القبيح، فأجروا عليه لفظة المانع قهراً وقسراً .الأمالي ،المرتضى، ج 3، ص336. العصمة المنع من الافة والمعصوم في الدين الممنوع باللطف من فعل القبيح، لا على وجه الحيلولة. التبيان الطوسيّ، ج5، ص490.
4- راجع :الكلام الفلسفي [بالفارسية: كلام فلسفي ]محمد حسن قدردان قراملكي.
20 /2 /1.تفسير العصمة باللطف :

و ممّن رأى أنّ حقيقة العصمة لطف الهيّ الشيخ المفيد (413ه)، والسيّد المرتضى (436ه)، والمحقّق الطوسيّ (672ه)، والعلّامة الحلّي (726ه) (1). وهذا الفهم للعصمة وما فيها من اللطف والتفضّل الإلهيّ، صحيح ؛ إلّا أنّه لا يضع يده على القوّة المؤثّرة في صيانة أئمّة الدين من الذنب والخطأ.

20 /2 /2.تفسير العصمة بكمال القوة العقليّة :

أمّا الحكماء المسلمون فذهبوا إلى أنّ حقيقة عصمة الأئمة (علیهم السلام) تكمن في كونها كمالاً للقوّة العاقلة الإنسانيّة في مقابل القوّة الغضبيّة والشهوانيّة. فعلى أساسٍ من ذلك، يُسخّر الإنسان الكامل من خلال تدعيمه للقوّة العاقلة، قواه النفسيّة الأخرى (القوى الغضبيّة والشهوانيّة) ، ويجعلها طوعاً للقوّة العاقلة؛ فبعد أن تتجاوز نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والوليّ جميع مراحل التكامل والاتصال والارتباط الوثيق بالعقل الفعّال، والملائكة، تبلغ مكانةً سامية، تزول معها جميع الظروف المؤدّية للوقوع في وحل المعصية(2).

وما من شكّ في أنّ تكامل القوّة العاقلة له دور فاعل في حقيقة العصمة، لكنّ التساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو : هل يكفي هذا النوع من التكامل لوصول الإنسان إلى مقام النبوّة والإمامة؟ وهل يصل كلّ حكيم تمكّن من تحصيل فعليّة القوّة العاقلة إلى مقام العصمة النبويّة والولائيّة ؟

أرى أنّ الأنبياء والأئمة المعصومين لا يكتفون بما حصلوا عليه من نموّ ورقيّ عقلانيّ، بل إنّهم محتاجون أيضاً إلى فضل ولطف إلهيّين يتنزّل عليهم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لكي ينالوا مقام العصمة الخاصّة ، ولتُفتح لهم أبواب هداية البشر.

ص: 56


1- النكت الاعتقاديّة، ص 37؛ مسائل المرتضى، ص 188؛ رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 325 و 326 . وقد كتب الشيخ المفيد في هذا الخصوص ما يأتي: «العصمة لطف يفعله الله بالمكلّف؛ بحيث يمنع من وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما»، أمّا السيّد المرتضى فقد قال : « العصمة هي لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل القبيح، ويُقال: إنّ العبد معصوم لأنّهُ اختار عند هذا الداعي الذي فعل له الامتناع من القبيح».
2- راجع: الإشارات ابن سينا ،النمط العاشر، ج 3، ص 130 .

ولنا أن نتساءل هنا :هل يمكن لفعليّة القوّة العاقلة أن تعمل على تعبيد الطريق للإنسان العاقل حتى يتمكّن من تحصيل العقل المستفاد الذي يعينه على الارتباط بالعقل الفعّال، فينال بذلك القدرة على تلقّي الوحي الإلهيّ على النحو الصحيح؟

يبدو أنّ تحقّق الفيض واللطف الإلهيّين لازم أيضاً لتحقّق هذا الأمر لا محالة. بالرغم من أنّ نفس الوصول إلى تحقيق فعليّة القوّة العاقلة بحدّ ذاته يُعدّ فيضاً ولطفاً إلهيّاً.

20 /2 /3.تفسير العصمة بالملكة الإنسانيّة :

ذهب بعض المتكلّمين وثلّة من الحكماء الإسلاميين في حقيقة العصمة إلى أنّها ملكة إنسانيّة تصون صاحبها من ارتكاب الذنوب (1). ونجد أنّ بعض المتكلّمين - بدلاً من التصريح بكون العصمة لطفاً - قد عدّها نوعاً من الصفات والحالات التي تؤدّي بصاحبها إلى الأمن من ارتكاب الذنوب(2).

20 /2 /4.المختار في تفسير العصمة :

الصحيح في هذا المجال أن تحقّق ملكة العصمة عند الإمام يستلزم كلّاً من قابلية القوّة العاقلة للمعصوم واستعداده (منهج الفلاسفة) ، وكذلك اللطف والعناية الإلهيّين (منهج المتكلّمين)؛ فلكلّ منهما تأثيره الخاصّ في نيل هذا المقام. لقد أودع الله جَلَّ وَعَلا العصمة في أولئك المنتجبين من عباده من خلال ملكة نفسانيّة، وقوّة عقلانيّة. وبناءً على هذا، فإنّ للعصمة حيثيّة اكتسابيّة، كما أنّ لها حيثيّة إعطائيّة.

والذي ينتهي إليه النظر أنّ الأئمة المعصومين (علیهم السلام) قد حازوا على قابليّة تلقّي

ص: 57


1- قال المحقّق الطوسيّ : «إنّها ملكة لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي وهذا على رأي الحكماء». نقد المحصّل ص 369. وقال ابن ميثم البحرانيّ: «العصمة ملكة نفسانيّة يمتنع معها المكلّف من فعل المعصية». النجاة في القيامة ابن ميثم البحراني، ص55.
2- وقد عبّر المحقّق الطوسيّ عن العصمة بنوع من الحيثيّة؛ إذ قال: «العصمة هي كون المكلّف بحيث لا يمكن أن يصدر عنه المعاصي من غير إجبار له عن ذلك» قواعد العقائد ،ص 93 .

العصمة الإعطائيّة من جانب الله تَبَارَكَ وَتَعَالى منذ عالم الذرّ الذي سبق عالم الدنيا؛ وهو عالم أشارت إليه النصوص الشريفة من الكتاب والسنّة، كانت لأرواح البشر فيه الاختيار والتعقّل والقدرة على التصرّف. وقد تمكّنت بعض الأرواح (أرواح الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)) بمحض اختيارها من أن تبلغ فيه درجات سامية أتاحت لهم نيل القابليّة اللازمة لتلقّي العصمة ولا يخفى أنّ هذا البيان يعيننا على إثبات العصمة للأنبياء (علیهم السلام) قبل مبعثهم، وللأئمة (علیهم السلام) قبل إمامتهم، بل ويثبت أيضاً تلقّيهم إيّاها قبل نشأة عالم الدنيا.

20 /3.مجال العصمة وسعة مفهومها :

للعصمة في الكلام الإسلامي مراتب و درجات اكتفى بعضهم بذكر ثلاث منها؛ وهي:

*العصمة عن ارتكاب المعصية، ومخالفة الأوامر الإلهيّة (الواجبات والمحرّمات).

*العصمة عن الخطأ والنسيان في تلقّى الوحي والرسالة وتبليغها.

*العصمة عن الخطأ والنسيان في تنفيذ الأحكام الإلهيّة، وتطبيقها مع الشرع، والأمن من الخطأ في القيام بالأمور الفردية والاجتماعية(1).

هذا، لكنّ الالتفات إلى التحليل المفهومي للعصمة وإثباتها التصديقي، يبيّن وجود درجات أخرى من العصمة؛ منها ما يأتي:

العصمة في تلقّي الوحي والإلهام.

العصمة في الإبلاغ الصحيح للوحي والإلهام.

ص: 58


1- راجع :الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل ،السبحاني، ج 3، ص 155.

*العصمة في المعتقدات الدينيّة.

*العصمة في العمل وتنفيذ الأحكام الإلهيّة على النحو الصحيح.

*العصمة في التعرّف على موضوعات الأحكام الشرعيّة بدقة.

*العصمة في معرفة المصالح والمفاسد الفرديّة والاجتماعيّة.

*العصمة في الأمور العاديّة وشؤون الحياة اليوميّة.

ويُطلق على العصمة في المعتقد الدينيّ والعمل بالشريعة عنوان «العصمة من ارتكاب الذنوب والمعاصي»؛ وهي تنقسم بدورها إلى عددٍ من الأقسام، وذلك باعتبار كون المعاصي على أنواع؛ صغيرة وكبيرة، وكون الآثام عمديّة وسهويّة ونسيانيّة، وكذلك بلحاظ مراتب العصمة؛ من حيث كونها قبل منصب النبوّة والإمامة، وبعده(1).

وبناءً على ما تقدّم، يمكن بيان تقسيم مراتب العصمة في ثلاثة مجالات:

أوّلاً: العصمة النظريّة (في المعرفة والمعتقدات).

ثانياً : العصمة السلوكية (في الملكات).

ثالثاً: العصمة العمليّة ( فرديّة واجتماعيّة ) .

وقد اختلف علماء الإسلام في ما يتعلّق بمراتب العصمة وأقسامها؛ فذهب مشهور علماء الإماميّة - خلافاً للعامّة - إلى عصمة الأئمّة من أهل البيت (علیهم السلام) من جميع أنواع الذنوب وشتّى ألوان الخطأ؛ سواء كانت تلك الذنوب أو الأخطاء كبيرة أو صغيرة، وسواء كانت عمديّة أو سهويّة، وسواء كانت قبل التصدّي للنبوّة والإمامة أم بعد ذلك(2).

ص: 59


1- إيضاح المراد في شرح كشف المراد ،الربّاني الگلپايگاني ص 353 .
2- راجع: تنزيه الأنبياء، السيّد المرتضى، ص 34-35 ؛الذخيرة، ص 337 - 338؛ أوائل المقالات، ص 18.

وعصمة الأئمة (علیهم السلام) بحسب مذهب الإماميّة ومتكلّميهم - التي تعني : عصمتهم على مستوى الاعتقاد، والعمل والسلوك الشخصيّ، ومعرفة مصالح الناس ومفاسدهم، وفي تبيين الأحكام الإلهيّة وتفسيرها وتنفيذها على النحو الصحيح، وسواء في عصمتهم من الأخطاء والمعاصي العمديّة أو السهويّة والكبيرة أم الصغيرة، وسواء كانت قبل الإمامة أم بعدها - لا تختلف عن عصمة الأنبياء بأيّ نحو من الأنحاء.

أمّا علماء العامّة فلا يقولون بالعصمة بهكذا كيفية، بل اكتفوا بالقول بعدالتهم(1).

20 /4.الأدلّة على عصمة الأئمة (علیهم السلام):
إشارة

تمسّك متكلّمو الإماميّة في إثبات العصمة بمجموعة من الأدلّة والبراهين العقليّة والنقليّة؛ نكتفي فيما يأتي - حرصاً على مراعاة الاختصار - بذكر دليلين؛ أحدهما : برهان التسلسل، والآخر دليل حافظ الدين والشريعة :

20 / 4 /1.برهان التسلسل :

أحد البراهين التي تثبت ضرورة عصمة الإمام من وجهة نظر الإماميّة هو برهان التسلسل؛ وبيانه كالآتي:

السبب الداعي لحاجة الأمّة إلى إمام هو التصدّي لظلم الظالم، ومعصية الفاسق، ومنع وقوعهما. لكن، إذا كان صدور الظلم والمعصية من الإمام نفسه أمراً ممكناً ومتصوّراً، لاستلزم ذلك وجود إمام آخر؛ لمنع صدورهما منه. وإذا تكرّر الأمر على هذا المنوال من دون أن ينتهي إلى إمام معصوم؛ للزم من ذلك التسلسل، والتسلسل باطل(2).

ص: 60


1- قواعد العقائد، ص 94-97 .
2- راجع: الشافي في الإمامة، ج 1، ص 320 ؛مسائل المرتضى، ص 243 ؛الياقوت في علم الكلام، ابن نوبخت ص 75 ؛أسرار الإمامة ،الطبرسي، ص 123 و 124؛ الرسالة السعدية، العلّامة الحلّي، ص 82 ؛ أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 204. الباب الحادي عشر، ص 41. المسالك في أصول الدين ،ص 198. نهج المسترشدين، ص 63. اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة ص 320 . إرشاد الطالبين، ص 332 و 333 . قواعد المرام في علم الكلام ص 177 و 178. وقد ذكر السيّد المرتضى في تقرير هذا الدليل قوله: «واجب في الإمام عصمته، لأنّه لو لم يكن كذلك لكانت علّة الحاجة إليه فيه أيضاً، وهذا يؤدّي إلى وجوب ما لا يتناهى من الرؤساء أو الانتهاء إلى رئيس معصوم». شرح جمل العلم والعمل ص 193. قال المحقّق الطوسيّ في لزوم ثبوت العصمة بأقصر عبارة : «وامتناع التسلسل يُوجب عصمته» تجريد الاعتقاد، ص 222. وقد شرح العلّامة الحليّ ذلك بأنّ الإمام لو لم يكن معصوماً لزم التسلسل، ومن ثَمَّ باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية أنّ المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الرعيّة، فلو كان هذا المقتضي ثابتاً في حقّ الإمام وجب أن يكون له إمام آخر ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي. کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص492.

يقول السيّد المرتضى (436ه) في شرح هذا البرهان:

الذي يدلّ على عصمة الإمام أنّ علّة الحاجة إليه هي جواز الخطأ وفعل القبيح من الأمة. قال : فليس يخلو الامام من أن يكون يجوز عليه ما جاز على رعيته، أو لا يجوز ذلك عليه. قال: وفي الأوّل وجوب إثبات إمام له؛ لأنّ علّة الحاجة إليه موجودة فيه؛ وإلّا كان ذلك نقصاً للعلّة، وهذا يؤدّي إلى إثبات ما لا يتناهى من الأئمة، أو الانتهاء الى إمام معصوم؛ وهو المطلوب(1).

وأورد الشيخ الطوسيّ (460ه) في توضيح هذا البرهان قوله:

يجب أن يكون الإمام معصوماً من القبائح والإخلال بالواجبات؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لكانت علّة الحاجة [أي: عدم العصمة] قائمة فيه إلى آخر؛ لأنّ الناس إنّما احتاجوا إلى الإمام لكونهم غير معصومين ومحال أن تكون العلّة حاصلة، والحاجة مرتفعة؛ لأنّ ذلك نقض للعلّة [ ونقض العلّة ممتنع]، ومتى احتاج إلى إمام لكان الكلام فيه كالكلام في الإمام الأوّل، وذلك يؤدّي إلى وجود أئمة لا نهاية لهم [أي: يؤدّي إلى التسلسل ]، أو الانتهاء إلى إمام معصوم؛ ليس من ورائه إمام؛ وهو المطلوب(2).

أمّا المتكلّمون الأشعريّون - ومنهم الفخر الرازيّ (606ه) - ممّن تطرّق لبرهان التسلسل فقد حاولوا مناقشة ذلك، لكن المتكلّمين من الإماميّة ردّوا تلك المناقشات

ص: 61


1- رسائل الشريف، المرتضى، ج 1، ص 324.
2- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 189؛ يُراجع :أيضاً تلخيص الشافي، ج 1، ص 198.

بأسلوب منطقيّ وعلميّ حصيف.

وكتب الفخر الرازيّ في نقد هذا الاستدلال :

والجواب عن الشبهة الأولى: أنّها مبنيّة على المسألة الأولى [أي: وجوب الإمامة]؛ وهي أنّ الخلق لمّا كان الخطأ عليهم جائزاً، احتاجوا إلى نصب الإمام(1).

أمّا سعد الدين التفتازاني (792ه) فقد ذكر أنّ احتياج الأمّة إلى الإمام ليس من باب وجود قابليّة الوقوع في الخطأ فيها؛ حتى يؤدّي عدم عصمة الإمام إلى التسلسل، معتمداً في ذلك على تبيين أنّ وجوب نصب الإمام في منظور أهل السنّة شرعيّ؛ لا عقليّ.

وعلى فرض كون وجوب نصب الإمام أمراً عقليّاً، فما الدليل على أنّ علّة هذا الوجوب العقليّ لنصب الإمام هي وجود قابليّة الخطأ في الأمّة؟ فلعلّ منشأ هذا الوجوب العقليّ المفترض هو وجود مصالح أخرى. وبالرغم من هذا، لو فرض أنّ علة وجوب نصب الإمام هي وجود إمكان وقوع الأمّة في الخطأ؛ فلا يصلح هذا أن يكون برهاناً على عصمة الإمام؛ ذلك لأنّ تدارك خطأ الأمّة متاح من خلال العلم والعدالة والاستعانة بالكتاب والسنّة(2).

والجواب على الإشكال الأول هو كالآتي:

يرى علماء الإماميّة أنّ براهين ضرورة نصب الإمام لا تنحصر بالأدلّة الشرعيّة فقط ؛ بل إنّ وجوب نصبه ثابت أيضاً بالأدلّة العقليّة ؛ ومنها: برهان اللطف، وبرهان الحكمة. بناء على ذلك، يكون وجود الإمام المعصوم أمراً ضروريّاً من أجل تحقّق العدالة والهداية الإسلامية للبشر، وفقدانه في المجتمع يستلزم نقض الغرض، ويصبح المجتمع البشريّ محتاجاً لوجود عدد غير متناه من الأئمّة غير المعصومين؛ فتحقّق

ص: 62


1- كتاب الأربعين ،436-437؛ أصول الدين، ص 143.
2- شرح المقاصد، ج 5، ص 248.

العدالة والهداية للمجتمع الإسلاميّ تمثّل تكامل الفرد والمجتمع، ووصوله إلى أسمى درجات الكمال. وإنّ اللطف والحكمة الإلهيّان يقتضيان أن يقوم الله عَزَّ وَجَلَّ بإظهار سبيل الهداية للبشر على نحو كامل. وبحسب مقتضى العقل، يجب على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - من حيث كونه الهادي إلى سبيل الرشاد - أن يتمّ نوره الكاشف عن سبيل الهداية، وبما أنّ العقل ليس كافياً لهداية البشر ممّا تسبّب في ضرورة نزول القرآن الكريم والسنّة النبويّة؛ ولذات هذا السبب أيضاً، كانت ضرورة تعيين الإمام المعصوم.

والدليل الذي يشهد على ضرورة إكمال تبيين سبيل الهداية من خلال تعيين إمام معصوم هو أنّ علماء العامّة استعانوا -من بعد اعتمادهم على الكتاب والسنة - بأصول ظنيّة؛ منها الاستحسان والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع وما شاكلها كما أنّهم اضطرّوا إلى إعمال الاجتهاد في الأصول والمبادئ، فوقعوا في فخّ الأخطاء والأهواء. أما علماء الإماميّة فقد اعتصموا بحبل الهداية الإلهيّة الكاملة - من خلال تمسّكهم بالإمامة المعصومة - ولم يتجرّؤوا على إطلاق يد الاجتهاد لتنال الأصول أيضاً؛ بل اكتفوا باتّخاذ الاجتهاد وسيلةً لتطبيق الأصول على الفروع.

بالرغم من أنّهم قد حُرموا الهداية الإلهيّة في تطبيق الأصول على الفروع لما كان من غيبة إمام الزمان (علیه السلام). ولهذا، قد تزلّ الأقدام أحياناً عن إصابة الحكم الواقعيّ في هذا الصدد؛ غير أنّ اللوم في هذا الزلل لا يُوجَّه لله جَلَّ وَعَلا؛ فالله تَبَارَكَ وَتَعَالى - وبوصفها ضرورة عقليّة - قد قدّر كلّ ما هو لازم لتحقيق هداية البشر؛ وحاشاه التقصير في ذلك. كما أنّه جَلَّ وَعَلا قد أرسل الأنبياء - مراراً وتكراراً- ليبلغوا أسباب الهداية إلى بني إسرائيل الذين كان ردّهم على ذلك قتل الأنبياء، والتمسّك بالضلالات، والإعراض عن الهداية. فكان عاقبة أمرهم أن حرمهم الله من الرسل مدة من الزمن. وما حرمان البشر في زماننا الحاضر عن رؤية الإمام المهدي المنتظر (علیه السلام)، وابتلائهم بالوقوع في أخطاء التطبيق إلّا أمر مشابه لحرمان بني إسرائيل من بعثة الأنبياء؛ فهو أيضاً وليد إرادة البشر.

ص: 63

بناءً على ما تقدّم نقول : لقد وضع الله عَزَّ وَجَلَّ نظام التكوين والتشريع على أحسن صورة، وأتمّ هيئة، وقد قدّر تحقّق الكمال. وإذا لاحظنا خطأ في موضع ما، فهو عائد إلى أفعال البشر ، وتقصيرهم. ولهذا، فإنّ لازم هذه المطالب هو ضرورة وجود إمام معصوم في هذا العالم . ووجود الإمام المعصوم يضمن تحقّق الهداية المعرفيّة؛ وذلك من خلال تبيينه الدين على نحو منزّه عن شتّى ألوان الخطأ والنسيان، كما أنّه يعمل على تحقيق الهداية على أرض الواقع من خلال تحقّق المعرفة الدينيّة، وإدارة أمور المجتمع على النحو الصحيح؛ إذ إنّ الدور الذي يؤديه الإمام - سواء في الفكر، أو في السلوك، أو في الأفعال؛ على الصعيدين الفرديّ والاجتماعيّ - هو دور فعال ومصيريّ.

والإمام ومن خلال ما يتمتّع به من معرفة معصومة، وأسلوب إدارة منزّه عن الخطأ؛ ملمّ بحقيقة خير الأمة الإسلاميّة ،وصلاحها، كما أنّه محيط بالمعنى الحقيقيّ للعدالة والظلم. أضف إلى ذلك أنّه يعلم مواضع الحقّ وأهله من خلال معرفته الصحيحة لحقوق أصحاب الحقّ؛ فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه، ويقف في وجه الظالمين، ويتصدّى لهم. وهذا، لأنّ الإمام المعصوم ملمّ بمصداق العدالة والحقوق والواجبات، كما أنّ لديه القدرة على إدارة المجتمع.

20 / 4/ 2.برهان حافظ الدين والشريعة :

يمثّل حفظ الدين والشريعة أحد أهمّ أدلّة الإماميّة على عصمة الإمام؛ وذلك لأنّ حفظ الدين والشريعة في المجتمع الإسلاميّ هو أعظم المهامّ المناطة بالإمام بعد النبيّ الاكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأكثرها حساسيّة ومركزيّة. من هذا المنطلق، يلزم أن يكون الإمام مصوناً من ارتكاب جميع المعاصي والذنوب، ومحصّناً منها؛ اللّهمّ إلّا أن يزعم أحدهم أنّ مهمّة الحفاظ على الدين ليست منحصرةً بالإمام. وعلى هذا الأساس، يمكن فرض عوامل أخرى تتكفّل بالحفاظ على الدين، لكن يتوجّب ههنا النظر في إمكانيّة تحقّق هذه العوامل، ومدى جدارتها بالحفاظ على الدين بالرغم من عدم وجود إمام معصوم، وهل ستكون تلك العوامل صالحة لأداء هذه المهمّة أم لا؟

ص: 64

أمّا الأمور التي قد يُتوقّع منها أن تصون الدين والشرع فهي: القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، والإجماع، والقياس، وأصل البراءة. لكنّنا إذا أمعنا النظر فيها، سنجد بقول لا ريب فيه أنّ هذه العوامل - سواء كانت بمفردها، أو مع انضمام الأخريات إليها - لن تفضي إلى حفظ الشريعة من دون وجود إمام معصوم.

وبناء على هذا، نجزم بأنّ حفظ الدين والشريعة وصيانتهما أمر لا يتحقّق إلى بوجود إمام، بل ويجب أن يكون ذلك الإمام معصوماً عن ارتكاب المعاصي، وعن الوقوع في الخطأ والنسيان. وبانعدامه، لن يأمن الدين والشريعة من خطر السقوط والانحراف؛ وذلك لوجود احتمال أن تتسبّب الأهواء النفسانيّة، أو الخطأ والنسيان في نقصان حكم أو زيادته؛ وهذا يتنافى مع مقام الحفظ(1).

وفي هذا الصدد، أورد العلّامة الحلّي (726ه) في شرحه لعبارة المحقّق الطوسيّ (672ه) التي قال فيها: «ولأنّه حافظ للشرع» ما يأتي:

الثاني: أنّ الإمام حافظ للشرع، فيجب أن يكون معصوماً، أمّا المقدّمة الأولى فلأنّ الحافظ للشرع ليس هو الكتاب؛ لعدم إحاطته بجميع الأحكام التفصيليّة، ولا السنّة ؛ لذلك أيضاً، ولا إجماع الأمّة؛ لأنّ كلّ واحد منهم - على تقدير عدم المعصوم فيهم - يجوز عليه الخطأ؛ فالمجموع كذلك، ولأنّ إجماعهم ليس لدلالة وإلّا لاشتهرت، ولا لإمارة؛ إذ يمتنع اتفاق الناس في سائر البقاع على الإمارة الواحدة ... ولا القياس؛ لبطلان القول به على ما ظهر في أصول الفقه وعلى تقدير تسليمه فليس بحافظ للشرع بالإجماع، ولا البراءة الأصليّة؛ لأنّه لو وجب المصير إليها، لما وجب بعثة الأنبياء، وللاجماع على عدم حفظها للشرع . فلم يبق إلّا الإمام ؛ فلو جاز الخطأ عليه، لم يبق وثوق بما تعبّدنا الله

ص: 65


1- راجع: الياقوت في علم الكلام، ص 76 .تمهيد الأصول، ص 778. النكت الاعتقادية ،ص 40 .إرشاد الطالبين، ص 333 و334 . اللوامع الإلهيّة، ص 331- 332. قواعد المرام، ص 178 و 179. الصراط المستقيم ،ج 1 ،ص 113 .نهج الإيمان، ص 55 و 56. جوهر المراد (بالفارسية گوهر مراد )، الفياض اللاهيجيّ، ص 475 .حق اليقين ،ص 39. أنيس الموحّدين، ص 139. علاقه التجرید در شرح تجرید الاعتقاد، ج 2، ص 957.

تعالی به، و ما كلّفناه، وذلك مناقض للغرض من التكليف؛ وهو الانقياد إلى مراد الله تعالى (1).

وكتب السيّد المرتضى (436ه) في توضيح هذا البرهان يقول : قد ثبت أنّه [أي: الإمام] حافظ الشرع، وحجّةٌ فيه، وأنّ الأمر ربّما انتهى في الشريعة أو بعضها إلى أن يكون هو المؤدّي لها عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومن كان بهذه الصفة، فلابدّ عندنا - وعند محصّلي خصومنا - من وجوب عصمته وكيف يُحفَظ الشرع بمن ليس بمعصوم، أو يوثق بأداء من ليس بمأمون ؟! (2).

وقد اكتفى الفخر الرازيّ (606ه) بالإشارة إلى ثلاثة عوامل أو احتمالات لحفظ الشرع؛ وهي: الإجماع، والتواتر، والإمام المعصوم ولم يعرض العوامل الأخرى؛ مثل : القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، والقياس، والاستحسان. وهي أمور تطرّق إلى ذكرها أكثر الإماميّة عند إقامتهم لهذا البرهان(3).

وبحسب مذهب الإماميّة، فإنّ الإمام المعصوم هو المصداق الأوحد لمن يمكنه أن يتولّى مقام حفظ شريعة النبيّ الخاتم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . لكنّ أبناء العامّة من المسلمين دأبوا على تسمية مصاديق أخرى في محاولة منهم لإنكار ضرورة وجود الإمام المعصوم. ومن البيّن أنّ الكتاب المجيد، والسنّة القطعية (الأخبار المتواترة)، والإجماع، وأخبار الآحاد، والقياس، والبراءة، بأجمعها غير كافية لضمان هذا الأمر؛ فالقرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة لا يسعهما أن يكونا حافظين للشرع؛ لبداهة أنهما يشتملان على المجمل والمفصل، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، ويلزمهما وجود مفسّر ومبيّن معصوم و منزّه عن جميع أشكال الخطأ واللبس؛ من أجل القيام بمهمّة حفظهما وصيانتهما(4).

ص: 66


1- کشف المراد، ص 493.
2- الذخيرة في علم الكلام، ص 433 .يُراجع: أيضاً الشافي في الإمامة، ج 1 ص 179.
3- كتاب الأربعين ،ص 437 . البراهين في علم كلام ، ج 2، ص 270 و 271.
4- راجع: كشف المراد، ص 364 .الألفين، ج 1، ص 109 .نهج المسترشدين، ص63. اللوامع الإلهيّة، ص 327. علم اليقين، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 500 و501. الحاشية على إلهيّات شرح التجريد، ص 202 و203.

وبناءً على ذلك، لا يتأتّى لنا اتّخاذ القرآن الكريم والسنّة النبويّة بمثابة حافظين للشريعة؛ بل إنّ مهمّة حفظهما وتبيينهما في نفسها موكولة إلى الإمام المعصوم.

ومن جهة أخرى، نجد أنّ السنّة النبويّة إمّا أن تكون من قبيل الخبر المتواتر، أو أن تكون من قبيل خبر الواحد؛ والأخبار المتواترة في مجال الأحكام نادرة جداً، ولا يمكنها أن تكون حافظة للشريعة. كما أنّ خبر الواحد ظنّيّ، وهو ممتزج بالروايات الموضوعة؛ فضلاً عن كونه في نطاق تفصيل الأحكام محدوداً وعاجزاً عن حفظ الشريعة(1).

أمّا إجماع الأمّة فهو فاقد للحجيّة، طالما أنّه لم يشمل قول الإمام المعصوم لا سيّما إذا لاحظنا أنّ الإجماع قاصر عن تبيين الشرع بتمامه؛ فإنّ موارد الإجماع قليلة جداً. هذا، فضلاً عن أنّ الإجماع يعتمد إمّا على الكتاب أو على السنّة، ولا يوجد من البشر من بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من له إلمام تامّ ودقيق بهذين المصدرين سوى الإمام المعصوم المصون من ارتكاب المعاصي، والوقوع في الخطأ(2).

وأمّا القياس الفقهيّ، فهو أيضاً لا يُمثّل إلّا ظنّاً هزيلاً، وهو - بعد ذلك - فاقد للحجيّة في مجال استنباط الأحكام الشرعيّة.

وأما أصل البراءة فلا يمكنه أن يكون حافظاً للشرع أيضاً؛ لأنّ جريان هذا الأصل في صورة الشكّ يُفضي إلى انتفاء الحاجة إلى بعثة الأنبياء(3).

ناهيك عن أنّ جميع الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجتهدين غيرُ

ص: 67


1- راجع: النافع يوم الحشر ، ص 87، المنقذ من التقليد ،ج 2 ،ص 262 -261 الإمامة والقيادة [بالفارسيّة : امامت ورهبرى ]، المطهّريّ، ص 53 -51. الألفين، ج 1، ص 52- 53 .حياة القلوب ص 19 .الحاشية على إلهيّات شرح التجريد ص 202 و 203.
2- راجع :الذخيرة في علم الكلام ص 425. الشافي في الإمامة، ج 1، ص 180- 179 .كشف المراد، ص 364. اللوامع الإلهيّة ص 327 .المنقذ من التقليد، ج2، ص261.
3- کشف المراد، ص 364 .الألفين، ج 1، ص 109. إرشاد الطالبين ،ص 335 .نهج المسترشدين، ص63.

معصومين، وهم معرّضون لاحتمال الوقوع في الخطأ واللبس أيضاً؛ فلا يمكنهم - والحال هذه - أن يقوموا بمهمّة حفظ الشريعة النبويّة، وصيانتها .

وفي المحصّلة نقول : لو لم يكن وجود الحافظ المعصوم للشريعة ضروريّاً، لاستلزم ذلك إهمال المولى عَزَّ وَجَلَّ أمر الشريعة، وتكليفه لعباده ما لا يطيقون (تكليف غير المعصوم بحفظ الشريعة)، ومخالفة إجماع الأمّة؛ لأنّه يلزم منه أن يعمل الناس بجزء من الشريعة، وألّا يتسنّى لهم نيل الهداية الكاملة(1).

ص: 68


1- راجع: الذخيرة في علم الكلام ،ص 424. الشافي في الإمامة، ج 1، ص 179 . قواعد المرام، ص 178. المنقذ من التقليد، ج2، ص 261.

21.علم الإمام

21 /1.تمهید:

تمثّل صفة «العلم» إحدى صفات الإمام الحائزة على قدر كبير من الأهمّية. وقد اعترف بأصل وجودها قاطبة متكلّمي المسلمين، بيد أنّهم اختلفوا في كيفية تحقّقها، وسعة نطاقها؛ فقد ذهب القاضي أبوبكر الباقلانيّ (403ه) - وهو أحد الأعلام البارزين من متكلّمي الأشاعرة - عند حديثه عن إحراز منصب الخلافة إلى وجوب تحقّق ثلاثة شروط؛ منها : أن يتحلّى بالعلم الذي يتيح له القدرة على القضاء؛ غير أنّه لم يقل بلزوم اتّصافه بالعلم بالغيب(1).

أمّا القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ (415ه) - وهو أحد علماء المعتزلة - فقد قرّر ثلاثة شروط أصليّة لمنصب الإمام ؛ وهي «العلم الاجتهادي»، و«العدالة والتقوى»، و«الشجاعة». فاتّصاف الإمام بالعلم بحدّ يتيح له الاجتهاد، وحلّ مشاكل الناس والتمكّن من تمييز القول الضعيف، هو من لوازم منصب الإمام (2).

وبناءً على ذلك، ترتهن رؤية علماء العامّة من المسلمين - في ما يتعلّق بعلم الإمام - بما قدّموه من تبيين وشرح الحقيقة الإمامة نفسها؛ فقد أصرّوا فيها على عدم الاعتراف بأنّ الإمامة امتداد للنبوّة، واستمرار لهديها، وذهبوا إلى أنّ منصب الإمام مقام يتساوى مع منصب تنفيذ الأحكام على نحو اجتهاديّ. وبالطبع، لا يلزم الإمام - والحال هذه - سوى مرتبة متدنّية من العلم، يكفي فيها أن يكون بمستوى القاضي، والمفتي، والمجتهد.

ص: 69


1- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، ص 471.
2- شرح الأصول الخمسة ،ص 510.

والسؤال المطروح هنا هو : كيف يمكن لإمام لا يملك من العلم إلّا ما هو بحدود العلم الاجتهاديّ الذي يتحلّى به القاضي أن يمسك بزمام قيادة المجتمع، وأن يغدو أسوة الناس ومثلهم الأعلى؟! وكيف يمكن له - والحال هذه - أن يمهّد الطريق لضمان سعادتهم، وتحقّق هدايتهم؟

والحقّ أنّ الإمام ليس فقط يجب أن يكون واجداً للعلم بالفعل في جميع الأمور التي تتعلّق بمصالح الناس - دنيويةً كانت، أم أخروية - بل يتحتّم أيضاً أن يكون أعلم ممّن سواه. والعلم على هذا المستوى لا يتأتّى بالعلم الاجتهاديّ، كما أنّه لا يتحصّل بالاكتساب والتعلّم الاعتياديين. ولهذا، يلزم ههنا تحقّق العلم اللدنيّ الإلهيّ(1).

لقد قطع علماء الإماميّة بضرورة ثبوت العلم اللدنيّ والأعلميّة المطلقة للإمام؛ من أجل أن تتوافر أسباب السعادة والهداية الدينيّة والدنيويّة، وقد عملوا على تبيين مختلف مجالاته، وأكّدوا ويؤكّدون على ثبوت هذا النوع من العلم للإمام، وعلى تحقّق الأعلميّة له .غاية الأمر ، أنّ بعضهم تطرّقوا إلى شرط الأعلميّة في مبحث أفضليّة الإمام (2).

يرى السيّد المرتضى (436ه) أنّ صفات الإمام تنقسم إلى طائفتين؛ الأولى : تثبت للإمام من خلال العقل، والأخرى: تثبت له بحكم الشرع. فالعقل يثبت أعلميّة الإمام في جميع مسائل الشريعة وأحكامها، وفي الأبعاد السياسيّة، وتدبير الأمور؛ ذلك من خلال «قبح تقديم المفضول على الفاضل »(3). وقد تناول أيضاً إثبات الأعلميّة في الأحكام الشرعيّة على أنّه أمر تعبّدي؛ لا عقليّ (4).

ص: 70


1- للمزيد من المعلومات في هذا المجال؛ راجع: موسوعة الإمام عليّ (علیه السلام) [بالفارسية :دانشنامه امام عليّ (علیه السلام)] ،ج 3، ص 346- 352.
2- نهج المسترشدين ،العلّامة الحليّ، ص 63 .أنوار الملكوت، ص 206 .نهج الحق وكشف الصدق، ص 168 .اللوامع الإلهيّة، ص 333 .المسلك في أصول الدين ص 205 و 206. تجريد الاعتقاد ص 266- 263 .كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ،ص .383
3- الذخيرة في علم الكلام ،ص 429. شرح جمل العلم والعمل، ص 194 و 195.
4- المصدر السابق، ص 429 و 430.

أمّا الشيخ الطوسيّ (460ه) فقد استعرض علم الإمام على أنّه واحد من سبعة شروط لازمة لتحقّق مقام الإمامة؛ فقال :

ويجب أن يكون الإمام عالماً بتدبير ما هو إمام فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل ويجب أن يكون أيضاً بعد الشرع عالماً بجميع الشريعة؛ لكونه حاكماً في جميعها (1).

وقد اشترط المحقّق الطوسيّ (672ه) في تلخيص المحصّل» أعلميّة الإمام أيضاً(2).

21 /2.براهين علم الإمام (علیه السلام):

تمسّكت الإماميّة في إثبات ضرورة علم الإمام بأدلّة عديدة؛ منها ما نُقل عن المحقّق الطوسيّ (672ه) : لمّا كان الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) تحتاج إليهم الأمّة، للتعليم والتأديب وجب أن يكونوا أعلم وأشجع (3).

وعلّق الفاضل المقداد (876ه) شارحاً ذلك بقوله :

يجب كون الأنبياء والأئمة أفضل من كلّ واحد من الأمّة. والمراد بالأفضليّة: أن يكون أجمع الخصائص الكمال كمّاً وكيفاً، وإنّما قلنا بوجوب ذلك؛ لأنّ العلة في وجوب رئاستهم نقص الرعيّة، واحتياجهم إلى التعليم والتأديب؛ فلو لم يكن المحتاج إليهم أفضل، لما تحقّق معنى حيثية الاحتياج إليهم، لكنّ الفرض خلاف ذلك ، فيدخل في وجوب كونهم أفضل من رعاياهم أن يكونوا أعلم وأشجع وأكرم إلى غير ذلك من الخصائص(4).

ص: 71


1- الاقتصاد إلى طريق الرشاد ،الشيخ الطوسيّ، ص192. ويُراجع :تلخيص الشافي، ج 1 ص 245.
2- تلخيص المحصّل، ص 417.
3- الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة ،الفاضل المقداد، ص 167. يُراجع: أيضاً : رسالة الإمامة (طبعت في تلخيص المحصّل )، ص .430
4- الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة ،الفاضل المقداد، ص 167.

وفي الرواية عن أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) أنّه قال في بيانه لمقام الأئمة (علیهم السلام):

«هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِهِ، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ »(1).

وقد كتب الشيخ الطوسيّ (460ه) في بيان إثبات علم الإمام يقول : ويدلّ أيضاً على كونه عالماً . الشرع، أنّا قد دلّلنا على كونه حافظاً للشرع، فلو لم يكن عالماً بجميعه لجوّزنا أن يكون وقع فيه خلل من الناقلين أو تركوا بعض ما ليس الإمام عالماً به، فيؤدّي إلى أن لا يتّصل بنا ما هو مصلحة، ولا تنزاح علّتنا في التكليف لذلك، وذلك باطل بالاتّفاق(2).

وقال ابن ميثم البحراني (679ه) في ضرورة علم الإمام:

فأمّا العلم فلابدّ من أن يكون عالماً بما يحتاج إليه في الإمامة من العلوم الدينيّة والدنيويّة كالشرعيّات، والسياسات والآداب، وفصل الحكومات والخصومات؛ إذ لو جاز أن يكون جاهلاً بشيء منها مع حاجة إمامته إلى ذلك، لكان مخلّاً ببعض ما يجب عليه تعلّمه ، والإخلال بالواجب ينافي العصمة(3).

فالإمامة في مفهومها الصحيح وبالنظر إلى المهامّ المناطة بها، وفقاً لرؤية الإسلام والعقل، أمر لا يمكن له أن يتحقّق من دون شرط العلم، ومن دون هذا الشرط، فهو أمر غير مقبول، وليس حقيقاً بالمجتمع الإسلاميّ.

وإذا ما ألقينا نظرة على آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لوجدنا اشتراط العلم في تحقّق الأهليّة لتسنّم المسؤوليّات التنفيذيّة والاجتماعيّة، بل ولكلّ شكل من

ص: 72


1- نهج البلاغة ،الخطبة 2، ص 9 .
2- الاقتصاد إلى طريق الرشاد، ص 193.
3- قواعد المرام في علم كلام، ص 179.

أشكال التطوّر والتقدم(1)؛ يقول تعالى:

«قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ »(2).

«أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»(3).

يقول السيّد المرتضى (436ه) :

أمّا الذي يدلّ على أنّه أعلم الخلق بأحكام الشريعة، فهو أنّه إمام فيها، ورئيس في الشرع، وقبيح في العقل أن يُجعل المفضول رئيساً لمن هو أفضل فيه فيما كان رئيساً فيه (4).

وقد كتب الشيخ الطوسيّ (460ه) في هذا الصدد:

ضرورة من قبح تقديم المفضول على الفاضل؛ ألا ترى إنّه يقبح من ملك حكيم أن يجعل رئيساً في الخطّ على مثل ابن مقلة(5)، ونظرائه من يكتب خطوط الصبيان والبقّالين ويجعل رئيساً في الفقه على مثل :أبي حنيفة، والشافعيّ، وغيرهما(6).

وأكمل يقول أيضاً:

ص: 73


1- ومن قبيل المثال نورد قول النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه؛ فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين. سنن البيهقي، ج 10، ص 118، كتاب آداب القاضي باب لا يولي الوالي امرأة ولا فاسقاً ولا جاهلاً أمر القضاء.
2- سورة يونس :35.
3- سورة الزمر: 9 .
4- الذخيرة في علم الكلام، ص 432 و 433.
5- الذخيرة في علم الكلام، ص 432 و 433.
6- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 191.

ويجب أن يكون أيضاً بعد الشرع عالماً بجميع الشريعة؛ لكونه حاكماً في جميعها. يدلّ على ذلك أنّه لا يَحسُن من حكيم من حكماء الملوك أن يولّي وزارته والنظر في مملكته من لا يُحسِنها، أو لا يُحسّن أكثر من ذلك، ومتى فعل ذلك كان مضيّعاً لمملكته، واستحقّ الذم من العقلاء(1).

وقد أشار بعض أعلام الإماميّة؛ مثل : الشيخ الحمصيّ الرازيّ(2) (حوالي 585ه)، والسيّد إسماعيل الطبرسي النوري(3) (1321ه)، والشيخ محمد حسين المظفر(4) (1381ه)، إلى ضرورة علم الإمام.

ومن هنا نقول: طالما أنّ القرآن الكريم قد بيّن الأحكام وقوانين الشرع الإسلاميّ على نحو كلّي، وطالما أنّ رسول الإسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي لم يعمِّر طويلاً - لم يبيّين جميع تفاصيل الدين للناس، وطالما أنّ الناس متماثلون في قدرتهم على اكتشاف أحكام الدين ومعارفه واستشفافها من مصادرها، ولا يمكن ترجيح أحدهم على الآخر؛ لأنّهم كلّهم عاجزون عن التمييز بين الناسخ والمنسوخ، والتأويل والتشبيه، والعامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن من الدين فإنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي وجود أئمّة عالمين؛ بل وأعلم من غيرهم وتقتضي أن يقوم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بتعيينهم؛ ليصون بذلك الناس من الضلال، ويضمن تحقّق الهداية لهم. فلو لم يكن الإمام أعلم من غيره للزم رجوعه في فهم بعض المسائل إلى إمام آخر، ولو لم يكن الإمام الآخر هو الأعلم، فإنّ وجود إمام أعلم من غيره ضروري، وعدمه يستلزم التسلسل، أو الدور، أو تقدّم المفضول على الفاضل.

وليس خفيّاً أنّ العقل البشريّ غير قادر على اكتشاف القضايا الدينيّة كشفاً قطعيّاً

ص: 74


1- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد ،ص 192؛ تلخيص الشافي، ج2، ص 245- 246 ؛تمهيد الأصول، ص 811.
2- المنقذ من التقليد، ج 2، ص 290.
3- كفاية الموحدين، ج 2، ص 211.
4- الشيعة والإمامة، ص 14 و 15.

يقينيّاً. ولهذا، فإنّ عدم وجود إمام يتحلّى بصفة الأعلميّة في المجتمع، ليقوم بمهمّة الكشف عن أحكام الدين ومعارفه على نحو قطعيّ، والعمل على تبيينها من بعد ذلك، سوف يستلزم اعتماد الأساليب الظنّية في الوصول إلى أحكام الدين والمعارف الإسلاميّة؛ وهو ما لا يُقرّه صاحب الشريعة؛ فالأحكام والمعارف التي تحصل بهذه الطريقة ليست لا تحمل الصفة الدينيّة وحسب، بل هي فاقدة لأيّ حجيّة إلهيّة أو شرعيّة أيضاً.

21 /3.سعة نطاق علم الإمام (علیه السلام):
إشارة

بعد أن ثبتت لنا ضرورة تحقّق العلم لإمام المجتمع وقائده، نبحث الآن عن نطاق ذلك العلم وحدوده؛ فهل يجب أن يشتمل منصب الإمامة على كلّ أمر مرتبط بالإنسان والكون، فضلاً عن الإلمام بالأحكام والمعارف الدينيّة؟ وهل الإمام محيط بجميع العلوم والصنائع والفنون المختلفة في سائر العصور والدهور؟ وهل يتصوّر في الإمام أنّه يعلم الغيب ، فيكون عالماً بمستقبل الإنسان والكون والأمور الغيبية؟ وهل إنّ علم الأئمة (علیهم السلام) علم حضوريّ وفعليّ، أم أنّه حصوليّ واكتسابيّ؟ وهل علمهم مقيّد و مشروط، أم أنّه مطلق وعامّ ؟

21 /3 /1.معنى علم الإمام بالغيب :

تعني كلمة «الغيب» و«الغياب» و«الغيبوبة» ومشتقّاتها - بنحو عامّ- : الاختفاء، والبُعد عن النظر(1). ولهذا، فإنّ «الغيب» يقابل «الشهادة»، ويشمل جميع الأمور الواقعيّة غير المحسوسة(2). ويُطلق «الغيب» في الاصطلاح على الحقائق التي لا سبيل لحواسّ البشر وأعضائه الإدراكيّة إلى نيلها»(3).

ص: 75


1- راجع: لسان العرب ج 1 ،ص 654 .تاج العروس، ج 2، ص 295.
2- ترجمة وتفسير نهج البلاغة (بالفارسيّة)، محمّد تقي الجعفري، ج 8، ص 53.
3- المصدر السابق، ج 10، ص 243.

وبناءً على هذا، فإنّ علم البشر المحدود - لا العلم الأزليّ الإلهيّ - هو السبب من وراء تقسيم الأشياء إلى غيب وشهادة؛ فالله جَلَّ وَعَلا محيط بجميع الموجودات وعالم الوجود إحاطة وجوديّة (1)؛ فلا يوجد شيء يغيب عن الحقّ تعالى (2).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام):

«قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وخَبَرَ الضَّمَائِرَ، لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيءٍ، وَالْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيء »(3).

ولم يستعرض بعض أهل السنّة من أمثال الفخر الرازيّ (606ه) كثيراً من البحوث في ما يتعلّق بإحاطة الإمام بعلم الغيب؛ ولكن اعتماداً على اعتقادهم بأنّ مكانة مقام الإمام والخليفة ومنزلتها دنيويّة حكوميّة ؛ يمكننا أن ننسب له القول بنفي كلّ أشكال ثبوت علم الغيب وسائر العلوم غير الدينيّة للإمام.

ويكتفي الفخر الرازيّ في تفسير علم الأنبياء بالغيب بأنّه مجرّد إلمام بالأمور الوحيانيّة وحسب. فقد قال في تفسير قوله عَزَّ وَجَلَّ: «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ»(4):

إشارة إلى أنّ ما عند النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من علم الغيب علم بالوحي - أموراً وأسراراً وأحكاماً و أخباراً كثيرة - كلّها هو جازم بها (5).

وهذا التفسير ناقص ؛ فكيف من الممكن أن يحمل لفظ «الغيب» الذي يعني: الشیء المستتر عن الحسّ - وهو معنى عامّ، يُقابل معنى «الشهادة» - على مصداق واحد فقط ؛ وهو «الوحى» ؟ ! (6).

ص: 76


1- سورة فصلت، الآية 54 .
2- الإدراك الثالث أو علم الغيب [بالفارسية: آگاهي سوم يا علم غيب]، السبحانيّ، ص 26- 25.
3- نهج البلاغة ،الخطبة 82 .
4- سورة الطور: 41.
5- مفاتيح الغيب، ج 10، ص 221.
6- لسان العرب، ج 1، ص 654 .تاج العروس، ج 2، ص 295.

إن قلت: على الرغم من أنّ مفردة «الغيب» تُستخدم بالمعنى العامّ، لكنّ «الوحي الإلهيّ »هو السبيل الوحيد والأوحد لتلقّى العلم بالأمور الغيبيّة.

قلنا: إنّ الآيات والروايات لم تحصر سبل تحصيل العلم بالأمور والحقائق الغيبيّة بالوحي، بل ذكرت طرقاً أخرى لاكتساب المعرفة بالأمور الغيبيّة؛ منها على سبيل المثال الإلهام والرؤيا الصادقة والتعلّم والتلقّي من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

يقول العلّامة الطباطبائي (1402ه) في تفسير قوله عَزَّ وَجَلَّ: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا »(1):

والمعنى هو عالم كلّ غيب علماً يختصّ به؛ فلا يطّلع على الغيب - وهو مختصّ به أحداً من الناس. فالمفاد سلب كلّي؛ وإن أصرّ بعضهم على كونه سلباً جزئياًّ محصّل معناه : لا يُظهر على كلّ غيبه أحداً . ويؤيّد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات. قوله تعالى: «إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ» استثناء من قوله : « أَحَدًا »، و« مِنْ رَسُولٍ» بيان لقوله : « مَنِ ارْتَضَى »، فيُفيد أنّ الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختصّ به؛ فالآية إذا انضمّت إلى الآيات التي تخصّ علم الغيب به تعالى؛ كقوله: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ »(2)، وقوله : « «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(3)، وقوله : «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ »(4)، أفاد ذلك معنى الأصالة والتبعيّة؛ فهو تعالى يعلم الغيب لذاته، وغيره يعلمه بتعليم من الله »(5).

وهناك عدد من الروايات التي تؤيّد هذا التفسير (6) ؛ فأمير المؤمنين (علیه السلام) ومن خلال

ص: 77


1- سورة الجن: 26 .
2- سورة الأنعام: 59.
3- سورة النحل: 77.
4- سورة النمل: 65 .
5- تفسير الميزان ،ج 20 ،ص52- 53.
6- الكافي، ج 1، ص 256 .بحار الانوار ، ج 26، ص 101 -99 وص 165 .بصائر الدرجات، ص 113.

سيره في العوالم الملكوتيّة كان باستطاعته نيل الحقائق الغيبيّة؛ ولهذا قال:

«لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً »(1).

هذا، ولم نعثر بين مصنّفات المحقّق الطوسيّ (672ه) في علم الكلام على بحث موسّع يتناول علم الغيب. نعم؛ تطرّق في كتاب تجريد الاعتقاد إلى أفضلية الإمام عليّ (علیه السلام) على جميع الخلفاء؛ لما ظهر منه من تنبّوءات وإخبارات غيبيّة (2).

21 /3 /2.المنقولات التاريخيّة عن إخبار الأئمة (علیهم السلام) بالغيب:

نقل التاريخ لنا أمثلة عديدة من تنبّؤات الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام)، وإخبارهم بالغيب. وهي تدلّ بأسرها على ما خصّهم الله به من علم لدنّيّ؛ منها على سبيل المثال:

*أوّلاً: الأخبار الغيبيّة المرويّة عن الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) :

«أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَم أَسِيراً يَوْمَ الْجَمَلِ ، فَاسْتَشْفَعَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (علیهما السلام) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فَكَلَّمَاه فِيهِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَالَا لَهُ: يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ (علیه السلام) : أَولَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثمانَ؟! لَا حَاجَةَ لی فِي بَيْعَتِهِ؛ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ، لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّه لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ ، أَمَا إِنَّ لَه إِمْرَةً کَلَعقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَه، وهُوَ أَبو الأَكْبُشِ الأَرْبَعَةِ، وسَتَلْقَى الأُمَّةُ مِنْه ومِنْ وَلَدِه يَوْماً أَحمَرَ »(3).

والتاريخ يشهد على وقوع ذلك كلّه؛ فقد ولي مروان الملك بعد أن شاب صدغاه في عمر يناهز الخمس وستّين سنة، واستمرّت مدة ملكه تسعة أشهر فقط، وولي الرياسة أربعة من أولاده وهم: عبدالملك - حيث صار ملكاً - وعبدالعزيز وبشر ومحمد حيث

ص: 78


1- بحار الأنوار، ج 65، ص 382 ؛ ارشاد القلوب الديلمي، ج 1، ص 124.
2- تجريد الاعتقاد، ص 282 ؛ كشف المراد ، ص .390
3- نهج البلاغة الخطبة ،73 ، وكذا الخطب: 13؛ 15؛ 57 ؛ 58؛ 89؛ 138؛ 176. ويُراجع أيضاً: الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 1، ص 332 -315.

أصبحوا ولاة. وقد قاست الأمّة الإسلاميّة في أيّام ملك مروان وولده عبدالملك ورياسة الثلاثة الباقين من أبناء مروان أيّاماً عصيبّة ودامية(1).

*ثانياً : أخبر الإمام الحسن (علیه السلام) بكيفيّة استشهاده؛ فقال:

«إِنِّي أَمُوتُ بِالسَّمَّ كَما مَاتَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . قَالُوا: وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: امْرَأَتِی جَعْدَةُ بِنْتُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَدُسُّ إِلَيْهَا، وَيَأْمُرُهَا بِذَلِكَ »(2).

وقال (علیه السلام) وهو على فراش الموت لأخيه الحسين (علیه السلام) :

«مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ؟ قَالَ : أَبْكِي لِمَا يُصْنَعُ بِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ (علیه السلام) : إِنَّ الَّذِي يُؤْتَى إِلَيَّ سَمٌ، يُدَسُّ إِلَىَّ، فَأُقتَلُ بِهِ؛ وَلَكِنْ لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله يَزْدَلِفَ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ جَدِّنَا مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وَ یَنتَحِلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِكَ وَسَفْكِ دَمِكَ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّكَ وَنِسَائِكَ »(3).

*ثالثاً : ورد في الرواية أنّ عمر بن سعد قال للإمام الحسين (علیه السلام):

«يَا أَبَا عَبْدِ الله! إِنَّ قِبَلَنا نَاساً سُفَهَاءَ يَزْعُمُونَ أَنِّي أقتُلُکَ . فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ (علیه السلام): إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِسُفَهَاءَ؛ وَلَكِنَّهُمْ حُلَمَاءُ أَمَا إِنَّهُ يُقِرُّ عَيْنِي أَلَّا تَأْكُلَ بُرَّ الْعِرَاقِ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا »(4).

*رابعاً: روى أبو بصير عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه قال :

«كَانَ فِيمَا أَوْصَى أَبي إِلَيَّ أَنْ قَالَ: يَا بُنَيَّ! إِذَا أَنَا مِتُّ، فَلَا يَلِي غُسْلِي أَحَدٌ غَيْرُكَ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَغْسِلُهُ إِلَّا إِمَامٌ ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ الله أَخَاكَ سَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، فَدَعْهُ؛ فَإِنَّ

ص: 79


1- راجع شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 6، ص 146- 148.
2- الخرائج والجرائح، الراونديّ، ج 1، ص 241 ؛ إثبات الهداة ،الحرّ العاملي، ج 5، ص147 و 150.
3- الأمالي الصدوق، ص 116 .
4- الإرشاد ،الشيخ المفيد ،ج 2 ،ص 132 .إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج5، ص 199.

عُمُرَهُ قَصِيرٌ. فَلَمَّا مَضَى أَبِي وَ غَسَلتُهُ كَمَا أَمَرَنِي، وَادَّعَى عَبْدُ اللَّهِ الْإِمَامَةَ مَكَانَهُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ أَبي وَمَا لَبِثَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَّا يَسِيراً؛ حَتَّى مَاتَ »(1).

خامساً : روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه: «دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْماً فَرَأَى شَابّاً يَضْحَكُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ: تَضْحَكُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْتَ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ ؟ فَمَاتَ الرَّجُلُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَدُفِنَ فِي آخِرِه »(2).

وروي أيضاً أنّه (علیه السلام) قال لأبي بصير: «إذَا رَجَعْتَ إِلَى الْكُوفَةِ، يُولَدُ لَكَ وَلَدٌ، وَ تُسَمِّیهِ عِيسَى، وَيُولَدُ لَكَ وَلَدٌ، وَتُسَمِّيهِ مُحَمَّداً؛ وَهُمَا مِنْ شِيعَتِنَا »(3).

وهناك روايات عديدة أُخرى نقلت لنا تنبّؤات الأئمة (علیهم السلام) وإخبارهم بالغيب(4).

21 /3 /3.علم الأئمة (علیهم السلام) بكيفيّة موتهم:

من الأسئلة المهمّة التي تُطرح في نطاق مبحث علم الإمام بالغيب السؤال عن علمه بكيفيّة موته، واطّلاعه على توقيت ذلك؛ فهل إنّ الأئمة المعصومين - كالإمام عليّ، والإمام الحسن، والإمام الحسين (علیهم السلام)، كانوا محيطين بأحداث المستقبل ؛ ومنها مكان استشهادهم، ووقته، والكيفيّة التي يكون عليها ذلك؟ وهل كانوا يعرفون قاتليهم؟ وفي معرض الردّ على هذا السؤال، ذهب علماء الإماميّة إلى رأيين مختلفين ؛ هما :

أولاً: ما أجاب به الشيخ المفيد (413ه) حينما قال:

وما أجمعت الشيعة قطّ على هذا القول ؛ وإنّما إجماعهم ثابت على أنّ الإمام يعلم

ص: 80


1- كشف الغمّة، الأربلي، ج 2 ،ص 381 .مناقب آل ابي طالب ،ابن شهر آشوب، ج4، ص 224.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج 5، ص 305 ؛ بحار الأنوار ،المجلسيّ، ج46، ص 274.
3- المصدر السابق.
4- راجع: الاحتجاج ،ج 2 ،ص 366 .الإرشاد ،الشيخ المفيد ،ج 2 ،ص 198 .بحار الأنوار، ج 23 ،ص 13 .إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج 5، ص 336 و 508 . وج 6، ص 77 و 181 وص 266 و 322 .عيون أخبار الرضا ،الشيخ الصدوق، ج 1، ص 26 وج 2، ص 216.

الحكم في كلّ ما يكون؛ من دون أن يكون عالماً بأعيان ما يحدث ويكون، على التفصيل والتمييز. وهذا يُسقِط الأصل الذي بنيت عليه الأسئلة بأجمعها. ولسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان الحوادث تكون بإعلام الله تعالى له ذلك. فأمّا القول بأنّه يعلم كلّ ما يكون، فلسنا نطلقه ولا نصوّب قائله؛ لدعواه فيه من غير حجّة، ولا بيان والقول بأنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يعلم قاتله، والوقت الذي يقتل فيه، فقد جاء الخبر متظاهراً أنّه كان يعلم في الجملة أنّه مقتول. وجاء أيضاً بأنّه كان يعلم قاتله على التفصيل؛ فأمّا علمه في وقت قتله، فلم يأتِ فيه أثر على التفصيل، ولو جاء فيه أثر، لم يلزم ما ظنّه المستضعفون؛ إذ كان لا يمتنع أن يتعبّده الله بالصبر على الشهادة والاستلام للقتل ؛ ليبلّغه الله بذلك من علوّ الدرجة ما لا يبلّغه إلّا به، ولعلمه تعالى بأنّه يطيعه في ذلك طاعةً لو كُلّفها سواه لم يؤدّها ، ويكون في المعلوم من اللطف بهذا التكليف لخلق من الناس ما لا يقوم مقامه غيره ؛ فلا يكون بذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) ملقياً بيده إلى التهلكة، ولا مُعيناً على نفسه معونة مستقبحة في العقول(1).

أما السيّد المرتضى (436ه) فقد استعرض ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) قائلاً:

وسيدنا أبو عبد الله (علیه السلام) لم يسر طالباً للكوفة إلّا بعد توثّق من القوم، وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه (علیه السلام) طائعين غير مكرهين ومبتدئين غير مجيبين . وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها ... ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق بما اتّفق من الأمور الغريبة (2).

وقد تطرّق الشيخ الطوسيّ (460ه) أيضاً إلى اختلاف علماء الإماميّة في هذه المسألة، مختاراً في الجواب عنها رأي أستاذه السيّد المرتضى (3).

ص: 81


1- المسائل العكبريّة ،المسألة 20، ص 70.
2- تنزيه الانبياء، ص 227 و 228.
3- تلخيص الشافي، ج 4، ص 189و 182.

وكتب الشيخ الطبرسيّ (548ه) في تفسير الآية الكريمة:

«وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (1).

فإن عورضنا بأنّ الحسين (علیه السلام) قاتل وحده؟ فالجواب: إنّ فعله يحتمل وجهين أحدهما إنّه ظَنّ أنّهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والآخر: إنّه غلب على ظنّه : أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً، كما فعل بابن عمّه مسلم، فكان القتل مع عزّ النفس والجهاد أهون عليه(2).

لكنّ العلّامة الطباطبائيّ (1402ه) ردّ ناقداً هذه الرؤية بالقول:

كلّ موجود ما لم يجب لم يوجد ومن ثَمَّ : ليس كلّ فعل واجباً بالنسبة لفاعله، بل يجب بالنسبة إلى علّته التامّة (وإرادة الله منها). تحقّق الفعل وانضواؤه تحت راية التكليف لا يتنافى مع كونه واجباً؛ فإنّ أفعال الإنسان الإراديّة من هذا النوع؛ أي إنّ أفعاله واجبة الوجود مع أنّه مكلّف بفعلها.

وعلى هذا الأساس، كان الأئمّة (علیهم السلام) يقدمون على العمل رغم معرفتهم بأنّه سوف يستشهد. يذهب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى المحراب، ويتناول الإمام الحسن والإمام الرضا (علیهما السلام) شراب الرمّان أو العنب المسموم ، ويدخل سيّد الشهداء (علیه السلام) أرض كربلاء. قد يعلم الإنسان أحياناً علماً قطعيّاً أنّه بفعله الاختياريّ سوف يشرب السمّ في الساعة الحادية عشر، وسوف يذهب صريع حادث مروريّ في ساحة كذا وشارع كذا، كما أنّه قد يعلم بالعلم القطعيّ أنّه بفعله الاختياريّ والإراديّ سوف يحصل له - مثلاً - حادث مروريّ في الساعة الحادية عشر في ساحة كذا، وشارع كذا، أو أنّه سوف يصاب بطلق ناريّ؛ لكنّ هذه الواقعة مشروطة بوقوع شرط أو شروط. وفي موضوعنا الأمر مشروط بالذهاب؛ بحيث إذا ذهب المرؤ قُتل، وإذا لم يذهب لم

ص: 82


1- سورة البقرة: 195.
2- تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 35.

يُقتل. ففي الصورة الأولى لا معنى للعثور على مخرج وحلّ ؛ لأنّ الإنسان يرى نفسه واقعاً في الهلاك؛ وليس أنّه يوقع نفسه فيه، فيصدق أنّه ألقى بنفسه في التهلكة. ولهذا، لا يتوجّه إليه الخطاب القائل : «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (1)، ولا يُعدّ أنّه ألقى نفسه بيده إلى التهلكة لكن في الصورة الثانية هنالك معنى للتشبّث والتمسّك بالأسباب، والعثور على مخرج وحلّ، والامتناع عن الذهاب صوب الهلاك، ويتوجّه للمرء خطاب «وَلَا تُلْقُوا». وإنّ حركة الأئمة (علیهم السلام) كان من قبيل الأوّل؛ فهم كانوا يعلمون أنّ الفعل واقع بالحتم لا محالة - شاؤوا أم أبوا -؛ فانتفى بذلك أيّ معنى للبحث عن طريق خلاص أو للامتناع عن الفعل؛ فكلّ هذا يخالف العلم القطعيّ المفترض. وفي واقع الأمر، فإنّ الآية الشريفة تنهى عن «الإلقاء» في التهلكة؛ لكنّ قضايا الأئمة (علیهم السلام) «وقوع» في التهلكة؛ وليس «إيقاعاً» ولا «إلقاءاً» فيها (2).

وقد روي عن الإمام عليّ (علیه السلام) في اللة التي قتل في صبيحتها أنّه:

«لَمْ يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ ابْتَتُه أُمّ كلثوم رَحْمَةُ الله عَلَيْهَا : مَا هَذَا الَّذِي قَدْ أَسْهَرَكَ؟ فَقَالَ : إِنِّي مَقْتُولٌ لَوْ قَدْ أَصْبَحْتُ. وَأَنَاهُ ابْنُ النَّبّاحِ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَمَشَى غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتَهُ أُمُّ كُلْتُوم: مُرْ جَعْدَةَ؛ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. قَالَ : نَعَمْ؛ مُرُوا جَعْدَةَ؛ فَلْيُصَلِّ. ثُمَّ قَالَ: لَا مَفَرَّ مِنَ الْأَجَلِ، فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِد »(3).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشيخ المفيد (413ه) قد أشار إلى هذا الجواب أيضاً(4).

ثانياً : ما أورده البعض الآخر من كبار علماء الإماميّة ومنهم : ابن طاووس(5)

ص: 83


1- سورة البقرة: 195.
2- في حضرة العلّامة الطباطائي [بالفارسیة در محضر علامه طباطبايي]، ص 205 و 206.
3- الإرشاد، ج 1، ص 16 ،إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسيّ، ص 155. المناقب، ج 3، ص 310.
4- المسائل العكبرية، مسألة 20 ،ص .70
5- اللهوف في قتلى الطفوف، ص 11 .والذي تحقّقناه أنّ الحسين (علیه السلام) كان عالماً بما انتهت حاله إليه وكان تكليفه ما اعتمد عليه.

( 664ه)، والفيّاض اللاهيجيّ(1) (1051ه)، والعلّامة المجلسيّ (2)(1110ه)، والمحدّث البحراني(3) (1186ه) ؛ فقد ذهبوا إلى أنّ الأئمة (علیهم السلام) كانوا على علم بزمان استشهادهم، وكيفيّة ذلك؛ ولا محلّ لإلقاء شبهة في هذا الصدد.

يقول الشيخ جعفر التستريّ (1303ه) :

ولكنّه (علیه السلام) قد علم بأنّه يقتل ؛ فقال لأصحابه : أشهد أنّكم تقتلون جميعاً، ولا ينجو أحد منكم إلّا ولدي عليّ (4).

وكتب فضل الله الكمبانيّ (1414ه) يقول:

لقد كان الإمام (علیه السلام) قبل انطلاقته من مكّة ، بل حتّى من حين خروجه من المدينة عالماً بجميع أحداث كربلاء؛ حتى الوقائع التي بعد استشهاده - مثل : وقوع أهل بیته في الأسر - ولأجل ذلك أخذ معه عائلته (5).

وأمّا العلّامة الطباطبائي (1402ه) فقد أشار إلى هذه النقطة قائلاً:

يملك الإمام - حسب ما أفادته أحاديث كثيرة - مقاماً من القرب الإلهيّ يمكّنه من العلم بأيّ شيء يريده بإذن الله؛ ومن ذلك علمه بملابسات موته واستشهاده بجميع التفاصيل (6).

ومن هنا، نجد أن المشيئة الإلهيّة اقتضت أن ينماز الأئمة الأطهار عن باقي الخلائق بأن اختصّهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بعلم واسع النطاق، وأطلعهم على علوم غيبيّة تلقّوها من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فوصلوا إلى حقائق الكون وأسراره.

ص: 84


1- جوهر المراد [بالفارسية :گوهر مراد ]، الفياض اللاهيجيّ، ص 594.
2- مرآة العقول، ج 3، ص 124 بحار الأنوار، ج 45، ص 98.
3- أحكام القرآن، ج 1، ص 319 منقولًا عن: مقتل الحسين، عبد الرزاق المقرم، ص44.
4- الخصائص الحسينية، ص 30 و 42.
5- من الحسين؟ [بالفارسية: حسین کیست؟ ] ، فضل الله الكمباني ،ص 325 .
6- بحث مقتضب عن علم الإمام [بالفارسية بحثي كوتاه درباره علم امام ]ص34.

وقد عرض الفخر الرازيّ (606ه) حديث أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي قال فيه :

«عَلَّمَنِي رَسُولُ الله أَلْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ، فَفَتَحَ (فَانفَتَحَ) لِيْ مِنْ كُلُّ بَابٍ أَلْف بابٍ»(1).

وقال في معرض ردّه على أنّ عليّاً (علیه السلام) كان الأعلم بين الصحابة :

أمّا الحجّة الثالثة - وهي أنّ عليّاً كان أعلم -قلنا : لِمَ لا يجوز أن يُقال: إنّه حصل له هذه العلوم الكثيرة، بعد أبي بكر ؛ وذلك لأنّه عاش بعده زماناً طويلاً، فلعلّه حصلها في هذه المدّة (2).

وهو بهذا النصّ يتجاهل حقيقة أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد تعلّم هذه العلوم في عصر النبوّة، ونهلها من شخص النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وقد كان الخلفاء - باعترافهم هم - يلجؤون لحلّ ما يستعصي عليهم إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفخر الرازيّ (606ه) روى في كتابه بعض الوقائع التي تؤيّد أعلميّة الإمام عليّ (علیه السلام)؛ إذ أورد ما روي عن عمر بأنّه أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فنبّهه علىّ (علیه السلام):

وقال له: الآية: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا »(3)، مع قوله: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ » (4)، على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر. فقال عمر: «لولا علىّ

ص: 85


1- الأربعين في أصول الدين ،الفخر الرازيّ ،ص 475. لاحظ أيضاً: ينابيع المودة القندوزي، ص 72؛ كنز العمال، المتّقي الهنديّ، ج6، ص392. وروى ابن عساکر : قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مرضه: «ادعوا إليّ أخي، فدعي له عثمان، فأعرض عنه، ثمّ قال: ادعوا إليّ أخي، فدعي له عليّ بن أبي طالب فستره بثوب، وأنكبّ عليه، فلمّا خرج من عنده قيل له: ما قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ قال : علّمني ألف باب يفتح كلّ باب ألف باب». تاریخ دمشق، ج 42 ،ص 385 الرقم : 8992 .[م]
2- المصدر السابق، ص 477.
3- سورة الأحقاف: 15 .
4- سورة البقرة : 233 .

لهلك عُمر». ورُوي أنّ امرأةً أقرّت بالزنا، وكانت حاملاً، فأمر عمر برجمها. فقال عليّ (علیه السلام): إن كان لك سلطان عليها ، فما سلطانك على ما في بطنها؟»، فترك عُمر رجمها، وقال: «لولا عليّ، لهلك عُمر »(1).

ثمّ روى بعد ذلك أيضاً :

أنّ عُمر قال يوماً على المنبر: «ألا لا تغالوا في مهور النساء، فمن غالى في مهر امرأةٍ، جعلته في بيت المال»، فقامت عجوز وقالت يا أمير المؤمنين! أتمنع عنّا ما أحلّه الله لنا؟ قال تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا »(2)، فقال عمر : كلّ الناس أفقه من عُمر؛ حتى المخدَّرات في البيوت»(3).

21 /4.مصادر علم الإمام (علیه السلام):
إشارة

تمثّل الأبحاث المرتبطة بمصادر علم الأئمة المعصومين (علیهم السلام): إحدى أهمّ البحوث المتعلّقة بعلم الإمام، فدائماً ما يُطرح هذا السؤال: كيف تمكّن الأئمة المعصومون (علیهم السلام) من الوصول إلى درجة الإلمام بالحقائق الدينيّة وغير الدينيّة ؟

وقد استعرض العلماء مصادر مختلفة لعلومهم، سنتطرّق لبيان بعضها بإيجاز :

21 /4/ 1.القرآن الكريم:

القرآن الكريم هو أهمّ مصادر علم الإمام (علیه السلام) ؛ فهناك عدد من الآيات والروايات الدالّة على قيام الأئمّة (علیهم السلام): باستنباط الأحكام والمعارف الإلهيّة من القرآن الكريم.

ص: 86


1- الأربعين في أصول الدين الرازيّ، ص 477؛ المناقب، الخوارزمي ،ص 81.
2- سورة النساء: 20 .
3- الأربعين في أصول الدين، ص 466 و 467. وقد أذعن الفخر الرازيّ في كتابه هذا بأعلميّة الإمام عليّ (علیه السلام) ؛ حيث قال: فثبت بما ذكرنا أنّه رضوان الله عليه كان أستاذ العالمين بعد محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في جميع الخصال المرضيّة والمقامات الحميدة الشريفة».

يقول تعالى :

«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ »(1).

وقد دلّت طائفة من الأحاديث الشريفة على أنّ الأئمة الأطهار (علیهم السلام) هم مصداق « مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ». وقد سُئل الإمام الباقر (علیه السلام) عن الآية فأجاب:

«إيَّانَا عَنَى وَعَلِيٌّ أَوَّلُنَا، وَأَفضَلُنَا، وَخَيْرُنَا بَعدَ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(2).

وروي عنه (علیه السلام) أيضاً أنّه قال : «نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ بنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) ، إِنَّهُ عَالِمٌ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعدَ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(3).

وقد روى أهل السنّة عدداً من الروايات في هذا المجال؛ منها :

«سَأَلتُ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عَنْ قَولِ الله تَعَالَى: « وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ » قَالَ: ذَاكَ أَخِي عَلِيُّ بنِ أَبِي طَالِب »(4).

ورووا في كتبهم أيضاً :

«عَن أبِي صَالِحٍ [في قوله تعالى]: « وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ »قَالَ: عَلِيُّ بنِ أَبِي طَالِب [ كَانَ عَالِماً بِالتَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَالنَّاسِخِ وَالمَنسُوخِ وَالحَلَالِ وَالحَرَامِ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ :سَمِعتُ ابنَ عَبَّاسِ ... يَقُولُ : لَا - والله - مَا هُوَ إِلَّا عَلِيُّ بن أبي طالب »(5).

ومن المواضع التي استنبط فيها الأئمة الأطهار (علیهم السلام)أحكاماً من القرآن : استنباط الإمام

ص: 87


1- سورة الرعد :43.
2- نور الثقلين ،الحويزيّ، ج 2، ص 521، ح 207.
3- المصدر السابق ،ص 523 .
4- شواهد التنزيل ،الحسكانيّ، ج 1، ص 400، ح 422؛ وكذلك: ح 423، 424 و425.
5- المصدر السابق ،ص 405، ح 427. ولاحظ أيضاً: ينابيع المودة ،القندوزي، ج 1 ، باب 30، ح 11، والأحاديث، 1، من 1 إلى 13 .

الجواد(علیه السلام) ؛ وهو ما رووه عن زرقان صاحب ابن أبي دواد وصديقه الحميم قال:

«رجع ابن أبي دواد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال وددت اليوم أنّي قدمت منذ عشرين سنة، قال قلت له : ولم ذاك؟ قال : لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمد بن عليّ بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له : وكيف كان ذلك؟ قال : إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره

بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه ؛ وقد أحضر محمد بن عليّ فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت من الكرسوع. قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: قلت لأنّ اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع، لقول الله في التيمّم :

« فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ »واتّفق معي في ذلك قوم. وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأنّ الله لما قال: « وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» في الغسل دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق. قال: فالتفت إلى محمّد بن عليّ فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين، قال: دعني ممّا تكلّموا به ! أيّ شيء عندك ؟ قال : اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله ما أخبرت بما عندك فيه . فقال : أما إذ أقسمت عليّ بالله، إنّي أقول إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكفّ، قال : وما الحجّة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) « السجود على سبعة أعضاء؛ الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها؛ وقال الله تبارك وتعالى: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ »(1)؛ يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها: «فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا »(2) ،وما كان الله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ. قال ابن أبي دواد قامت قيامتي وتمنّيت أنّي لم أك حياً»(3).

ص: 88


1- سورة الجن: 18.
2- سورة الجن: 18.
3- تفسير العياشيّ، ج 1، ص 319، ح 109.
21 /4 /2.العلم النبويّ:

المصدر الثاني من مصادر علم الأئمّة (علیهم السلام) هو: تعلّمهم السنّة النبويّة من النبيّ الأکرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ووصاياه، وما أورثه لهم؛ فقد أودع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أوّل أوصيائه الإمام عليّاً (علیه السلام) جميع معارفه وعلومه، كما علّم الإمام عليّ (علیه السلام) أبناءه تلك العلوم والمعارف، وتوارثوها إماماً عن إمام إلى أن وصلت إلى الإمام المهدي (علیه السلام).

وقد رويت كثير من الأحاديث من طرق العامّة والخاصّة تدلّ على أنّ الإمام عليّاً (علیه السلام)، قد تعلّم علوم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مباشرةً من ذاته المقدسة؛ من دون واسطة؛ منها:

«عَنْ مَكْحُولٍ فِي قَوْلِهِ :« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»(1) ، قَالَ: قَالَ : رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سَأَلْتُ رَبِّی أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَ عَلِيٍّ (علیه السلام)»(2).

وروي في «الدرّ المنثور» بشأن هذه الآية:

«أخرج أبو نَعِيم في الحليةِ عَن عَلىّ (علیه السلام)؛ قَالَ: قَالَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : يَا عَلىّ إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أنْ أُدْنِيَكَ وأَعَلَّمَكَ لِتَعِيَ ، فَأَنزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: :« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»، فَأَنْتَ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ لعلمي»(3).

وروي فيه أيضاً عن سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن مكحولٍ ؛ قال :

«لَمّا نَزَلَتْ : :« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»، قَالَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَ

ص: 89


1- سورة الحاقة: 12. «تعيها» من مادة «وعى» في الأصل بمعنى: الاحتفاظ بشيء معين في القلب، ومن هنا قيل للإناء «وعاء»؛ لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه، وقد ذكرت هذه الصفة «الوعي» للآذان في الآيات مورد البحث ،وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها. التفسير الأمثل، ج 24، ص 444».
2- ينابيع المودة ،القندوزي ، ج 1 ، باب 39، ص 360، ح 240 ؛مناقب آل أبي طالب ،ابن شهر آشوب، ج 2، ص 61. تأويل الآيات، شرف الدين الحسيني، ص 715.
3- الدرّ المنثور ،عبد الرحمن جلال الدين السيوطي ، ج 6، ص 260 .

عَليٍّ. قَالَ مَكحُولٌ : فَكَانَ عَلِيٌّ (علیه السلام) يَقُولُ : مَا سَمِعْتُ مِنْ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شَيْئاً فَنَسِيتُهُ »(1).

ومن المرويات في هذا الباب أيضاً:

«عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ ؛ قَالَ : قَالَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أَتَانِي جَبْرَئِيلَ (علیه السلام) بِدُرْنُوكِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا صِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّی، كَلَّمَنِي، وَنَاجَانِی، فَمَا عُلِّمْتُ شَيْئًا إِلَّا عَلَّمْتُهُ عَلِيّاً، فَهُوَ بَابُ مَدِينَةِ عِلْمِي»(2).

21 /4 /3.الصحيفة الجامعة للإمام عليّ (علیه السلام):

«الكتاب» - أو «الجامعة»، أو «صحيفة عليّ (علیه السلام)» - هو أحد مصادر العلم لدى الأئمة الأطهار (علیهم السلام) وقد نُقلت مجموعة من الروايات من طرق الفريقين تفيد بأنّ الإمام عليّ (علیه السلام) قد كتب كتاباً أملاه عليه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ومن ذلك :

ما روي عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (علیه السلام) ؛ قال :

«يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَإِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ، وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَامِعَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ وَمَا الْجَامِعَةُ ؟ قَالَ : صَحِيفَةٌ طُولُها سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعٍ رَسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وَإِمْلَائِهِ، مِنْ فَلْقِ فِيهِ، وَخَطِّ عَلِيٌّ بِيَمِينِهِ، فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَحَرَامِ، وَكُل شیء يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ؛ حَتَّى الْأَرْشُ فِي الْخَدْشِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَىّ، فَقَالَ: تَأْذَنُ لِي يَا أَبَا مُحَمَّدِ؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنَّمَا أَنَا لَكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. قَالَ: فَغَمَزَنِي بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَتَّى أَرْشُ هَذَا، كَأَنَّهُ مُغْضَبٌ، قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَالله الْعِلْمُ قَالَ: إِنَّهُ لَعِلْمٌ، وَلَيْسَ بِذَاكَ »(3).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه قال:

ص: 90


1- المصدر السابق. وراجع أيضاً : الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي، ج 19، ص: 264 .يُراجع: سعد السعود، ابن طاووس، ص 108 ينابيع المودة، القندوزيّ ، ج 1 ، باب 39 ،ص 360، ح 24.
2- بحار الانوار، المجلسيّ، ج 3، ص 149 وج 40، ص 190. الصراط المستقيم ،عليّ بن يونس، ج 2، ص 20. مستدرك سفينة البحار ،علي النمازيّ، ج 8 ،ص 48 .ينابيع المودة ،القندوزي، ج 1، ص 217 .
3- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ح 1، ص 239.

«في كِتاب علىّ (علیه السلام) ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يَمُوتُ صَاحِبُهُنَّ أَبَداً حَتَّى يَرَى وَبَالَهُنَّ الْبَغْيُّ وقَطِيعَةُ الرَّحِمِ والْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ يُبَارِزُ اللَّهَ بِهَا »(1).

ويقول الشريف الجرجاني (816ه) في« شرح المواقف» عن الجفر والجامعة:

وهما كتابان لعليّ رضي الله تعالى عنه (2).

وعن معلّى بن خنيس أنّه قال:

«كُنْتُ عِنْدَ أَبي عَبْدِ اللَّهَ (علیه السلام) إِذْ أَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله [يقصد: النفس الزكيّة] فَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَهَبَ ، فَرَقَّ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السلام)، ودَمَعَتْ عَيْنَاهُ. فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ رَأَيْتُكَ صَنَعْتَ بِهِ مَا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُ ! فَقَالَ: رَفَقْتُ لَهُ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ، لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابٍ عليّ (علیه السلام) مِنْ خُلَفَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا مِنْ مُلُوكِهَا »(3).

21 /4 /4.الجفر :

«الجفر» هو أحد مصادر علم الأئمة الأطهار (علیهم السلام)؛ وتعني مفردة «الجفر»: الوعاء من الجلد. وقد كان يحوي علم الأنبياء (علیهم السلام)، والأوصياء، والماضين من بني إسرائيل (4).

وهناك مجموعة من الرويات التي تخبر عن وجود الجفر، وكونه لدى الأئمة (علیهم السلام):

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

«وَإِنَّ عِنْدَنَا الْجَفْرَ، وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَفْرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْجَفْرُ؟ قَالَ: وِعَاءٌ مِنْ أَدَمٍ، فِيهِ عِلْمُ النَّبِيِّينَ، وَالْوَصِيِّينَ، وَعِلْمُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ »(5).

ص: 91


1- الخصال، الصدوق، ص 124 . معالم المدرستين ،العسكريّ، ج 2، ص 346.
2- شرح المواقف ،الجرجاني، ص 276 .الذريعة، الطهراني، ج 5، ص 119 .أعيان الشيعة، الأمين، ج 1، ص 81.
3- الكافي، الكلينيّ، ج8، ص395. بصائر الدرجات، الصفّار، ج 4 ،ص 229، ح 1.
4- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 239، ح 1.
5- الكافي، الكلينيّ، ج 1 ص 239، ح 1. ولاحظ :بصائر الدرجات ،الصفّار، ج 3، ص 210، ح 3.

وقد قرّر الإمام الرضا (علیه السلام) أنّ من جمله شروط الإمام والقائد أن يكون كلّ من كتابي الجفر الأكبر والأصغر (الأصفر) بحوزته(1).

وروي عن أبي مريم أنّه قال:

«قَالَ لِي أَبُو جَعْفَر(علیه السلام) ....وعِنْدَنَا الْجُفْرُ؛ وهُوَ أَدِيمٌ عُكَاظِيٌّ، قَدْ كُتِبَ فِيهِ حَتَّى مُلِئَتْ أَكَارِعُهُ، فِيهِ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2).

وقد تمسّك الأئمة الأطهار (علیهم السلام) في موارد عديدة بكتاب الجفر، واستشهدوا بما جاء فيه؛ فحينما كتب المأمون كتاباً إلى الإمام الرضا ،(علیه السلام) ، وأوكل ولاية عهده إليه؛ كتب الإمام (علیه السلام) في ظهر ذلك الكتاب:

«وَالْجامِعَةُ وَالجُفْرُ يَدُلَّانِ عَلَى ضِدَّ ذَلِكَ ... لَكِنِّي امْتَثَلْتُ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآثَرْتُ رضاه »(3).

ونجد أنّ الإمام الصادق (علیه السلام) قد قال في شأن أصحاب زيد:

«إِنَّ فِي الجُفْر الَّذِي يَذْكُرُونَهُ لَمَا يَسُوؤُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ، والْحَقُّ فيه، فَلْيُخْرِجُوا قَضَايَا عليّ (علیه السلام) وفَرَائِضَهُ؛ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ! وَسَلُوهُمْ عَنِ الْخَالَاتِ والْعَمَّاتِ »(4).

21 /4 /5.مصحف فاطمة (علیها السلام):

«مصحف فاطمة (علیها السلام) »- أو صحيفتها - أحد المصادر المعرفيّة لأهل البيت (علیهم السلام):

ص: 92


1- كشف الغمّة، الأربلّي، ج 3، ص 121 .الاحتجاج، الطبرسيّ، ج 2 ،ص 448 .الخصال ،الصدوق، أبواب الثلاثين، ص 527 ، ح 1. بحار الأنوار ،المجلسيّ ، ج 25 ، ص 117 [ وردت في كتاب بحار الأنوار كلمة «الأصفر» بدلاً من «الأصغر»].
2- بصائر الدرجات ،الصفّار، ج 3، ص 218، ح 3 .بحار الأنوار ،المجلسيّ، ج 26، ص 48، ح 90. [
3- كشف الغمّة، الأربلي، ج 3، ص 172-179. معالم المدرستين ،العسكريّ، ج 2، ص 427.
4- بصائر الدرجات، ج 3، ص 214، ح 16 ، وص 216 ،ح21 ؛الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 241، ح 4.

وهو يشتمل على أخبار غيبيّة ، وأحداث سوف تحدث في المستقبل؛ نزل به جبرئيل الأمين (علیه السلام) على السيّدة الزهراء (علیها السلام) بعد وفاة النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وخطّه الإمام عليّ (علیه السلام)(1). وقد استشهد الإمام الخميني (1409ه) بها قائلاً :

والصحيفة الفاطمية؛ وهي الكتاب الملهم من قِبَل الله تعالى إلى الزهراء المرضيّة(علیها السلام) (2).

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال عندما سئل عن هذا المصحف:

«إِنَّ فَاطِمَةَ (علیها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً، وَكَانَ دَخَلَهَا حُزْنُ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وَكَانَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) يَأْتِيهَا، فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا ، ويُطيِّبُ نَفْسَهَا، ويُخبرُهَا عَنْ أَبِيهَا، وَمَكَانِهِ ، ويُخبرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وَكَانَ عليّ (علیه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (علیها السلام)»(3).

وروي عن حمّاد بن عثمان أنّه قال :

«سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السلام) يَقُولُ : تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ أَنِّی نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ (علیها السلام)»(4).

وعن فضيل بن سُكَّرة؛ قال:

«دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهَ (علیه السلام)، فَقَالَ : يَا فُضَيْلُ أَتَدْرِي فِي أَيَّ شَيْءٍ كُنْتُ أَنْظُرُ قُبَيْلُ؟! :قالَ: قُلْتُ: لَا ، قَالَ: كُنْتُ أَنْظُرُ فِي كِتَابٍ فَاطِمَةَ (علیها السلام)؛ لَيْسَ مِنْ مَلِكٍ يَمْلِكُ الْأَرْضَ إِلَّا وهُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ بِاسْمِهِ، واسم أبيه »(5).

ص: 93


1- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 241، ح 5 وص 458، ح 2 .
2- الوصيّة السياسية الإلهيّة الإمام الخميني، ص 3 .
3- بصائر الدرجاتّ، ج 1، ص 154.
4- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 240 ،ح 2 .بصائر الدرجات ،الصفّار ،جزء 3 باب 14، ص 215، ح 18 .
5- الكافي، الكلينيّ، ج 1 ،ص 242، ح 8.

وروى سليمان بن خالد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

«وَلْيُخْرِجُوا مُصْحَفَ فَاطِمَةَ (علیها السلام)؛ فَإِنَّ فِيهِ وَصِيَّةَ فاطمة (علیها السلام) »(1).

ولمّا سُئل الإمام الباقر (علیه السلام) عمّا آل إليه أمر هذا المصحف بعد رحيلها (علیها السلام)، قال:

«دَفَعَتْهُ إِلَى أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فَلَمَّا مَضَى صَارَ إِلَى الْحَسَنِ (علیه السلام)، ثُمَّ إِلَى الْحُسَيْنِ (علیه السلام)، ثُمَّ عِنْدَ أَهْلِهِ؛ حَتَّى يَدْفَعُوهُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ [أي: الإمام المهدي (علیه السلام)]»(2).

وقد روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنّه قال:

«للْإِمَامِ عَلَامَاتٌ يَكُونُ أَعْلَمَ النَّاسِ وأَحْكَمَ النَّاس... ويَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (علیها السلام)»(3).

ويقول العلّامة الطهرانيّ (1389ه) : مصحف فاطمة (علیها السلام) من ودائع الإمامة، عند مولانا وإمامنا صاحب الزمان (علیه السلام) ، كما روي في عدة أحاديث من طرق الأئمة (علیهم السلام)(4).

21 /4 /6.التحديث :

تحديث الملائكة لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) ممّا يجعلهم من «المحدّثين» هو أحد مصادر علومهم؛ فإنّ بعض تلك العلوم انتقل إليهم من خلال التحديث وإلقاء الملائكة عليهم. و«المحدَّث» هو من تتحدّث الملائكة معه من غير أن يكون نبيّاً؛ أو الذي يرى الملائكة، أو الذي يحضر لديه العلم بأمور من خلال الإلهام والمكاشفة، أو تُلقى في روعه حقائق تخفى على الآخرين(5).

ص: 94


1- المصدر السابق، ص 241، ح 4.
2- دلائل الإمامة ،الطبريّ، ص 28 .مسند السيّدة الزهراء ،العطارديّ، ص 292.
3- الخصال ،الصدوق ،أبواب الثلاثين، ص 527.
4- لذريعة ،الطهرانيّ، ج 12، ص 126، رقم 4248.
5- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 271، ح 4. الغدير، الأمينيّ، ج 5، ص 42.

وهناك عدد من أمثلة تحديث الملائكة لبعض البشر من غير أن يكونوا من الأنبياء؛ فقد تحدّثت الملائكة مع السيّدة مريم (علیها السلام)(1)، كما تحدّثت مع سارة زوج نبيّ الله إبراهيم (علیه السلام) (2). وتحدّثت مع الزهراء (علیها السلام)ابنة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (3).

ويرى علماء العامّة أنّ عمر كان محدّثاً (4).

وقد استعرض الباحثون الإسلاميّون مجموعة من المصادر الأخرى لعلم الإمام؛ منها: روح القدس، والاسم الأعظم، والرؤيا الصادقة، وكتب الأنبياء، وعالم الملكوت، والعقل.

***

ص: 95


1- سورة آل عمران الآيات: 42-45.
2- سورة هود: 71.
3- علل الشرايع ،الصدوق، ج 1، ص 216 ، باب 146 ، ح 1. بحار الأنوار ،المجلسيّ، ج 43، ص 78، ح 65. دلائل الإمامة، محمّد بن جرير بن رستم الطبريّ، ص 28 .
4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،ابن حجر العسقلانيّ ، كتاب فضائل الصحابة ،باب مناقب عمر، ج 7، ص 52، ح 3689 .غريب الحديث ،عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ، ج 1، ص 9 ش 34 .لسان العرب، ابن منظور ،ج 2، ص 134.

22.أفضلية الإمام

22 /1.تمهيد :

تمثّل صفة أفضليّة الإمام على من سواه إحدى الصفات المهمّة له؛ وهي من الصفات التي اتّفق جميع علماء الإماميّة في ثبوتها للإمام فعلى سبيل المثال يرى الشيخ الطوسيّ (460ه) أنّ وجوب أفضليّة الإمام (علیه السلام) تؤسس لتحقّق معنيين:

أوّلاً: أنّ الإمام أكثر الناس ثواباً عند الله تعالى.

ثانياً: أنّ الإمام أفضل من غيره في جميع الأمور الظاهرية، وفي كلّ ما هو متعلّق بأمر الإمامة(1).

ويرى السيّد المرتضى (436ه) أنّ أحد الشروط الواجبة في الإمام (علیه السلام) أن يكون الأفضل ؛ بمعنى أن يكون من جهة الثواب أفضل من غيره(2).

وقد نسب العلّامة الحلّي (726ه) إلى بعض المعتزلة أنّهم يوافقون الإماميّة في رؤيتهم لهذا الأمر؛ في حين يخالفهم في ذلك الأشاعرة وباقي المعتزلة(3).

وقرّر الفيّاض اللاهيجيّ (1051ه) أنّ كلّ القائلين بالحسن والقبح العقليّين يذهبون - لا محالة - إلى وجوب أفضليّة الإمام، أمّا غيرهم وهم الرافضون لهذا المبدأ فينكرون شرطيّة هذا للإمام. ومع ذلك، فقد نقل عن أبي الحسن الأشعريّ (324ه)

ص: 96


1- تلخيص الشافي ،ج 1 ،ص 209 ؛ تمهيد الأصول، ص 803 .
2- الذخيرة في علم الكلام ،السيّد المرتضى، ص 429.
3- مناهج اليقين، ص 454.

وسعد الدين التفتازانيّ (792ه) أنّهما أذعنا بوجوب الأفضليّة في الإمام، بالرغم من أنّهما لم يقولا بالحسن و القبح العقليّين (1).

22 /2.أفضليّة الإمام ضرورة :

أكّد منّظرو الإماميّة على وجوب أفضليّة الإمام، وكونها من ضروريّات الإمامة؛ ومنهم: أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت(2) (310ه)، وأبو الصلاح الحلبيّ (3) (447ه)، والحمصيّ الرازيّ (4)(حوالي 585ه )، وابن ميثم البحرانيّ (5) (679ه)، والفاضل المقداد(6) (876ه)، والعلّامة المجلسيّ (7) ( 1110ه)، والسيّد عبدالله شَبّر (8) (1242ه)، والسيّد إسماعيل الطبرسيّ النوريّ (9) (1321ه)، والشيخ محمّد حسين المظفّر (10) (1381ه)

بناءً على ما تقدّم ،الإمام - حسب الرؤية الإماميّة - هو الأفضل من جميع أمّته فرداً فرداً في جميع الأبعاد الشخصيّة والسلوكيّة؛ بما يعمّ القضايا الدنيويّة الظاهريّة، والأخرويّة الروحانيّة؛ فالإمام هو الشخص الذي يتفوّق على الآخرين في جميع الفضائل الإنسانية، والسجايا الأخلاقيّة، ويفضلهم في العبادة والإيمان والعمل الصالح؛ فالإمام هو أعلم وأتقى وأزهد وأشجع وأكرم وأكيس و... أفراد زمانه.

ص: 97


1- جوهر المراد [بالفارسيّة گوهر مراد] ،الفيّاض اللاهيجيّ، ص 269 و 270.
2- الياقوت في علم الكلام ،ص 76 .«و واجب في الإمام أنّه أفضل بالعلم والشجاعة والزهد».
3- تقريب المعارف، ص 150 .
4- المنقذ من التقليد ،ص 286 .قال فيه: «أمّا كونه أفضل الرعية فيدخل تحته معنيان: أحدهما كونه أفضلهم بمعنى كونه أكثرهم ثواباً عند الله ، وثانيهما كونه أفضل منهم في الظاهر وفيما هو متقدّم عليهم فيه».
5- النجاة في القيامة، ص 65 و 72-71؛ قواعد المرام، ص 180 .
6- اللوامع الإلهيّة، ص 333 .
7- الحقّ اليقين، ص 38.
8- حقّ اليقين، ص 187.
9- كفاية الموحّدين، ص 238 .
10- الشيعة والإمامة ص 238.

وقد أوضح العلّامة الأمينيّ (1390ه) المقصود من «الأفضل» بقوله:

إنّا لا نريد بالأفضل إلّا الجامع لجميع صفات الكمال التي يمكن اجتماعها في البشر؛ لا الأفضلية في صفة دون أخرى، فيكون حينئذ الأفقه مثلاً هو الأبصر بشؤون السياسة، والأعرف بمصالح الأمور ومفاسدها، والأثبت في إدارة الصالح العامّ، والأبسل في مواقف الحروب، والأقضى في المحاكمات والأخشن في ذات الله، والأرأف بضعفاء الأمّة، والأسمح على محاويج الملأ الدينيّ، إلى أمثالها من الشرائط والأوصاف، إذن فلا تصوير لما حسبوه من أنّ المفضول قد يكون أقدر وأعرف وأقوم(1).

وخالف بعض الأشاعرة والمعتزلة ممّن يقول باشتراط الأفضليّة للإمام قول الإماميّة في معيار الأفضلية، فقالوا إنّ أفضلية الإمام هي «كثرة الثواب في الأجر» لا غير.

أمّا المنظّرون من غير الإماميّة فقد انقسموا في هذه القضيّة إلى طائفتين: فأكّدت الأولى على وجوب اشتراط الأفضليّة للإمام بوضوح وصراحة، لكنّ الأكثريّة لم يعتمدوا أفضليّة الإمام في ضمن شروط الإمام، بيد أنّهم لمّا رأوا الاستدلالات العقليّة والنقليّة التي أقامتها الإماميّة في مبحث ضرورة أفضليّة الإمام، ووقفوا على الحقائق التاريخيّة التي لا يمكن إنكارها، والتي تؤكّد أنّ أئمة الشيعة كانوا أفضل الأمّة على الإطلاق، وجودوا أنفسهم مضطرّين إلى الولوج في هذا الباب، وطفقوا ينحتون لخلفائهم فضائل مختلقة(2). وعلى أيّ حال لا يمكن التغاضي عن إشكال يرد عليهم، و مفاده :أنكم بذلتم قصارى الجهد لإثبات حقانيّة حُكّامكم من خلال أبحاثكم في قضيّة الأفضليّة، وتلفيقكم للقرائن والشواهد، لكن ما السبب الذي دعاكم لإقصاء الأفضليّة من شروط الإمامة؟ ومع أنّكم تلاحظون الفضائل الجمّة لأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) فلماذا يتغيّر موقفكم، وترفعون الراية البيضاء ؛ وأنتم تقولون: لا إشكال في تقديم المفضول على الفاضل ؛ لحفظ المصالح ودرء الفتن ! فإذا كان أبناء العامّة

ص: 98


1- الغدير، الأميني، ج 7، ص 149.
2- راجع: شرح المواقف ،ج 3 ،ص 624 -622 و 631_629 .

ينكرون شرط أفضليّة الإمام، ويخالفون رؤية الإماميّة في هذا المجال، فلماذا يجهدون أنفسهم إذن في استعراض أفضليّة أبي بكر وعمر ؟!

22 /3.الأدلّة العقليّة على الأفضلية :

استدلّ علماء الإماميّة على أفضليّة الإمام من خلال الأدلّة العقليّة المثبتة للعصمة، والأعلميّة (1)؛ فقال الشيخ الطوسيّ (460ه) :

وإذا ثبتت عصمته فكل من أوجب له العصمة قطع على أنّه أكثر ثواباً؛ لأنّ أحداً لا يُفرّق بين المسألتين (2).

وأردف المحقّق الحلّيّ (676ه) يقول:

الإمام أعلم الأمّة؛ فيكون أفضل... ولأنّ العلم فضيلة موجبة للثواب؛ فيكون تزايدها موجباً لازدياده(3).

والدليل الآخر على وجوب أفضليّة الإمام هو برهان اللطف؛ فإنّ تعيين الإمام - لما أثبتناه سابقاً - من اللطف الإلهيّ، واللطف يؤدّي بالعبد إلى التزام الطاعات، واجتناب المعاصي وعليه فإنّ الإمام الذي يجد ويجتهد في استقطاب الناس، وسوقهم صوب الطاعات، وصرفهم عن المعاصي، وتجنيبهم إيّاها، لابدّ من أن يكون هو في نفسه أفضل من الآخرين - سواء على صعيد العمل بالتكاليف الإلهيّة والطاعات والعبادات، أم في الاتّصاف بالفضائل الأخلاقيّة والكمالات النفسانيّة - حتى تتسنّى له أسباب أداء هذا الدور المهمّ والخطير، وينجح في هداية الآخرين إلى سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والسعادة الأبديّة (4).

***

ص: 99


1- راجع: الذخيرة في علم الكلام ،المرتضى، ص 435 .المسلك في أصول الدين ،المحقّق الحلي، ص 205. النجاة في القيامة ،ابن ميثم البحرانيۀ، ص 65 .
2- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 191؛ تمهيد الأصول، ص 803؛ تلخيص الشافي، ج 1، ص 214.
3- راجح: المسلك في أصول الدين، ص 205.
4- راجع: المصدر السابق، ص 205.

23.التعيين والنصّ على الإمام :

23 /1.تمهيد

تمثّل مسألة تعيين الإمام من خلال النصّ الإلهيّ، أو بواسطة اختيار الناس وانتخابهم أهمّ مواضع الاختلاف بين الإماميّة ومخالفيهم؛ فهل يجب تعيين مصداق الإمام بنصّ من عند الله جَلَّ وَعَلا، أم أنّ هذا الأمر موكول لاختيار البشر؟ وهل يوجد نصّ جليّ أو خفيّ يُثبت الإمامة؟

يرى علماء الإماميّة - ومنهم : الشيخ الطوسيّ (460ه) (1)، والعلّامة الحلي (726 ه) (2) ، والفاضل المقداد(3) (876ه) ؛ - أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ ونبيّه الأكرم(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد بيّنا إثبات إمامة أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) من خلال مجموعة كبيرة من النصوص. لكنّ علماء أهل السنّة تعرّضوا لهذه النصوص بالنقد والتأويل، وأنكروا شرط النصّ الإلهيّ على الإمام.

وقد دفعت أهميّة هذا البحث بعلماء الفريقين إلى أن يُفردوا فصلاً مستقلّاً يدرس طرق تعيين الإمام؛ منهم من علماء الإماميّة : المحقّق الطوسيّ(4) (672ه)، والسيّد المرتضى (436ه)(5) والمحقّق الحلي(6) (676ه) ، وابن ميثم البحرانيّ(7) (679ه)، وأبو الصلاح الحلبيّ (8) (447ه) .

ص: 100


1- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 194-193.
2- نهج المسترشدين، ص 64-63 .مناهج اليقين، ص 452 .
3- النافع يوم الحشر، ص 100 .
4- رسالة الإمامة.
5- الذخيرة في علم الكلام ،المرتضى، ص 429.
6- المسلك في أصول الدين، ص 198.
7- النجاة في القيامة ،ص 69.
8- تقريب المعارف، ص 170 .

وينقسم مصطلح «النصّ» في كلام العلماء بعدة لحاظات؛ أهمّها درجة صراحة النصّ، فقُسّم النصّ بهذا اللحاظ إلى «نصّ جليّ»، و«نصّ خفيّ»:

فالنصّ الجليّ: هو «ما علم سامعوه من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مراده منه باضطرار»، وهو «النصّ الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالامامة والخلافة»، وينتفي فيه احتمال الخلاف(1) . ومن أمثلة النصّ الجلّي على إمامة الإمام عليّ (علیه السلام) قوله :

«سَلَّمُوا عَلَى عَلِيّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنين »(2).

«هَذَا خَلِيفَتِي فِيكُمْ مِنْ بَعْدِي فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوهُ »(3).

وأمّا النصّ الخفيّ فهو : ما «لا نقطع على أنّ سامعيه من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علموا النصّ بالإمامة منه اضطراراً، ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالاً من حيث اعتبار دلالة اللّفظ. ومن أمثلته عند البعض (4)قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

«مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلىٌّ مَوْلاه »(5).

«أَنْتَ مِنِّى بمَنْزلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى »(6).

وذهب بعض الإماميّة الاثني عشريّة والكيسانيّة إلى أنّ المثبت للإمامة هو النصّ الجليّ فقط (7) ، وعدّوا كلاً من حديث الغدير ( من كنت مولاه)، وحديث المنزلة (أنت منّي بمنزلة هارون .. ) من زمرة النصوص الجليّة (8).

ص: 101


1- راجع :الشافي ج 2 ،ص 67 .نهج الإيمان ،ابن جبر، ص 68 -67 .اللوامع الإلهيّة، ص 335 .
2- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 292.
3- الشافي ،ج 2 ،ص 67 .مسائل ،المرتضى، ص 262 .
4- راجع :الشافي ،ج 2 ،ص 68- 67 ؛ أنوار الملكوت ،ص 219 ؛ الذخيرة في علم الكلام ،المرتضى، ص 463؛ مسائل ،المرتضى، ص 262 .
5- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 287 .
6- الكافي، الكلينيّ، ج 8، ص 107.
7- قواعد العقائد ،ص 110 . قال فيه: «فقالت الإماميّة الاثنا عشريّة والكيسانيّة : إنّه إنّما يحصل بالنصّ الجليّ لا غير».
8- راجع :تلخيص المحصّل ،ص 412 .كشف المراد، ص 370-367 .

أما أهل السنّة فقد تأسّى قلّة منهم بما ذهب إليه الحسن البصريّ (110ه) ؛ فزعموا صدور نصّ خفيّ من الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ينصّ على إمامة أبي بكر (1) . ورأى الفخر الرازيّ (606ه) في مبحث طرق تعيين الإمام أنّ نظريّة «كفاية وجود النصّ لتعيين الإمام» ممّا انعقد عليه إجماع المسلمين، بخلاف غيرها من الطرق؛ فكلّها مختلف عليها.

وذهبت الزيديّة بقطعيّة إمامة كلّ فرد فاطميّ ، عالم، زاهد، يخرج بالسيف، ويدعو الناس إلى إمامته.

أمّا الأشاعرة والمعتزلة فقد عدّوا البيعة سبباً في تعيين الإمام في حين أنكر الشيعة الاثناعشريّة هذا الطريق(2). وكتب المحقّق الطوسيّ (672ه) :

و من الظاهر أنّ أصحاب النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد وفاته أجمعوا على طاعة إمام بعده، فذهب بعضهم إلى أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نصّ على عليّ (علیه السلام). وبعضهم قالوا إنّا ننصب إماماً، ونصبوا أبا بكر ، وبايعوه جميعاً... ولو لم يكن نصب إمام واجباً لخالفهم من الأمّة أحد في ذلك. ثمّ أجمعوا على عمر بنصّ أبي بكر، ثمّ على عثمان بسبب الشورى، ثمّ على عليّ (علیه السلام) لإجماع أكثر أهل الحلّ والعقد عليه. وعرف من ذلك أنّ الإمام يُنصب إمّا بنصّ من الذي قبله، وإمّا باختيار أهل الحلّ والعقد إيَّاه، وهذا هو العمدة عند أهل السنة(3).

وقال المحقّق الطوسيّ بخصوص نصب الإمام في موضع آخر :

وأما القائلون بوجوبه من الله [تعالى] فهم الشيعة القائلون بإمامة عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واختلفوا في طريق معرفة الإمام (علیه السلام) بعد أن اتّفقوا على أنّه نصّ من الله تعالى أو ممّن هو منصوص [عليه] من قبل الله تعالى لا غير، فقالت الاثناعشريّة والكيسانيّة أنّه إنّما يحصل بالنصّ الجليّ؛ لا غير. وقالت الزيديّة أنّه يحصل بالنصّ الخفىّ أيضاً»(4).

ص: 102


1- لاحظ :أبكار الأفكار ،التفتازانيّ ، ج 3 ،ص 434 .شرح المقاصد، ج 52، ص283. النجاة في القيامة، ص 79.
2- الأربعين ص 438 -437 .البراهين في علم الكلام، ج 2، ص 202 -201.
3- تلخيص المحصّل ،ص 438 -437 .قواعد العقائد ،ص 130.
4- قواعد العقائد ، ص110.

هذا، وقد عدّ الفخر الرازيّ (606ه) البيعة سبباً في حصول الإمامة(1).

وقد ذكر كلّ من الإيجيّ (756ه) و الجرجانيّ (816ه) أنّ تعيين مصداق الإمام يتمّ بأحد ثلاثة طرق: إمّا بنصّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وإمّا بنصّ الإمام السابق، وإمّا من خلال بيعة أهل الحلّ والعقد (2). والدليل على الطريق الثالث عندهم هو إمامة أبي بكر (3). وأمّا سعد الدين التفتازاني (792ه) فقد أضاف إلى الطرق الثلاثة السابقة طريقاً رابعاً ؛ وهو الغلبة والقهر بالسيف؛ فقال:

والثالث(4): القهر والاستيلاء؛ فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكته؛ انعقدت الخلافة له، وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر، إلّا أنّه يعصى بما فعل ولا يُعتبر الشخص إماماً بتفرده بشروط الإمامة، ويجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع؛ سواء كان عادلاً أو جابراً ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد على الأظهر وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة ثمّ جاء آخر فقهره؛ انعزل وصار القاهر إماماً(5).

والملاحظ هنا أنّ نظريّات أهل السنة فيما يتعلّق بطرق تعيين الإمام تعاني بأسرها مشكلة «المصادرة على المطلوب »(6)؛ فهي تبيّن طرقاً لتعيين الإمام على أساس تبرير من الوضع الموجود، وإضفاء حالة من الشرعيّة على خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم من الحكّام.

ص: 103


1- الأربعين في أصول الدين، ص 438 .وقد كتب الفخر الرازيّ في الصفحة 144 منه؛ ما يلي: «إنّ الدليل دلّ على إمامة أبي بكر رضي الله عنه وما كان لتلك الإمامة سبب إلّا البيعة إذ لو كان منصوصاً عليه لكان توقيفه الأمر على البيعة خطأ عظيماً يقدح في إمامته وذلك باطل، فوجب كون البيعة طريقاً صحيحاً».
2- راجع: المواقف، ج 6، ص 589 .
3- المواقف، ج 6، ص 593 -594.
4- قال الثالث - ولم يقل الرابع - لأنّه جمع الأوّل والثاني في طريق واحد.
5- شرح المقاصد، ج 5، ص 233.
6- المصادرة على المطلوب يعني أن يُجعل المدّعى عين الدليل أو جزئه [م] .

ويكمن أحد أهمّ الإشكالات التي ترد على نظرية البيعة في ارتكازها على الإجماع؛ وليس السبب في ذلك اختلاف الرأي الواقع بين أهل السنّة أنفسهم في تحقّق هذا الإجماع، وعدد الأشخاص الذين انعقد بهم وحسب؛ بل إنّ هذا الإجماع فاقد للحجيّة والمشروعيّة، ولن يكتسبهما مطلقاً. ذلك لأنّهم إذا سُئلوا عن إثبات حقّانيّة إمامة أبي بكر، لأجابوا بأنّها ثبتت ببيعة واحد، أو مجموعة من أهل الحلّ والعقد، ثمّ إذا سُئلوا عن مشروعيّة البيعة في نفسها، لأجابوا بأنّ خليفتهم الأوّل عُيّن بهذه الطريقة، فيصبح من المعلوم أنّ هذه الطريقة مشروعة !

وهذا الاستدلال ليس إلّا دوراً صريحاً؛ والدور باطل(1).

وقد اتّفق منظّرو الإماميّة قاطبة على أنّ العصمة هي إحدى الشروط الواجبة في حقّ الإمام. وعلى هذا الأساس - وكما أشرنا في البحوث السابقة - نجد علماء الإماميّة قد أقاموا لإثباتها عدداً من الأدلّة العقليّة والنقليّة.

وبناءً على هذا، فإنّ الإذعان بضرورة إثبات العصمة للإمام يمحو إمكانيّة الإجابة على السؤال الآتي: بما أنّ معرفة الإمام الواجد للعصمة أمر مشكل - بل قل إنّه مستحيل - فما هو الطريق الذي يجب أن ننتهجه كي نتمكّن من تعيين الإمام المعصوم؟

فههنا تقف البشريّة منتظرة العلم الغيبي الذي اختصّ به المولى من دون غيره؛ وذلك من حيث كونه عَزَّ وَجَلَّ الوحيد العالم بخفايا الأمور، والمحيط بما في صدور الناس من أسرار. ومن هذا المنطلق، فإنّ الجهة الوحيدة القادرة على تعيين الإمام واختياره، وتقديمه للبشريّة هي الله، وليس لأحد دونه القدرة على التدخّل في هذا الأمر الخطير (2).

ص: 104


1- راجع المسلك في أصول الدين، ص 213.
2- لاحظ شرح جمل العلم والعمل، ص 199 . الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 194 .تلخيص الشافي، ج 1، ص 276 . المصابيح في إثبات الامامة، ص 103 .قواعد المرام، 181 .اللوامع الإلهيّة، ص 334 -333. أنوار الملكوت، ص 208. نهج المسترشدين، ص 64 .مناهج اليقين، ص 452 .النافع يوم الحشر ، ص 100 .المنقذ من التقليد، ج 2، ص 296 ،ص 210 .أنيس الموحّدين، ص 145 .جوهر المراد( بالفارسية : گوهر مراد)، الفيّاض اللاهيجيّ، ص 465.

يقول المحقّق الطوسيّ (672ه) في تبيين ضرورة النصّ وإثباتها من خلال العصمة: «العصمة تقتضي النصّ»(1) ؛ أي إنّ ثبوت العصمة للإمام يقتضي وجود النصّ على تعيينه. ويقول العلّامة الحلّي (726ه) في شرحها :

قد بيّنّا أنّه يجب أن يكون الإمام معصوماً؛ والعصمة أمر خفيّ لا يعلمها إلّا الله تعالى، فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى؛ لأنّه العالم بالشرط دون غيره (2).

وقد تمسّك بهذا الدليل بعض علماء الإماميّة ؛ ومنهم : الفاضل المقداد (3)( 876ه)، والفيّاض اللاهيجيّ (4) (1051ه)، ومحمّد مهديّ النراقيّ (5) (1209ه) .

***

ص: 105


1- کشف المراد، ص 366.
2- كشف المراد ،ص 366 .قال العلّامة الحليّ موضّحاً هذا الاستدلال: «إنّ النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان أشفق على الناس من الوالد على ولده؛ حتى أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده ،كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى أمور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقائع وكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذا سافر عن المدينة يوماً أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين، ومن هذه حاله كيف يُنسَب إليه إهمال أمّته وعدم إرشادهم في أجلّ الأشياء وأسناها وأعظمها قدراً وأكثرها فائدة وأشدّهم حاجة إليها، وهو المتولي لأمورهم بعده فوجب من سيرته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نصب إمام بعده والنصّ عليه وتعريفهم إياه، وهذا برهان لمّي» . كشف المراد، ص 367- 366.
3- اللوامع الإلهيّة، ص 334 .
4- جوهر المراد (بالفارسية گوهر مراد)، الفيّاض اللاهيجيّ، ص 483.
5- أنيس الموحّدين، ص 146-145.

24.الإمامة الخاصّة

24 /1.تمهيد

بعد أن فرغنا من بيان حقيقة الإمامة ومشروعيّتها، وأوضحنا ثبوت صفات «العصمة»، و«العلم»، و«الأفضليّة»، و«النصّ »في تعيينه، تثبت إلى درجة كبيرة الإمامة الخاصّة لأمير المؤمنين والأئمة المعصومين (علیهم السلام)؛ وبتعيين كبرى مسألة الإمامة يتّجه طالب العلم إلى تعيين مصداق الإمامة.

أصل البحث في هذا الموضوع منصبّ على تحديد خليفة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وقد ذهب أبناء العامّة من المسلمين إلى أنّ خليفة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو أبو بكر بن أبي قحافة؛ وذلك لانعدام وجود نصّ نبويّ صريح يحدّد الإمام والخليفة من بعده، ولأنّ المسلمين قد أجمعوا عليه، وما تميّز به من فضائل أمّا أتباع المذهب الإماميّ فذهبوا إلى أنّ الإمام والخليفة المباشر بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)؛ وذلك لما ورد من نصوص شريفة جليّة، ولما قام من دلائل عقليّة على ذلك، ناهيك عما تميّز به الإمام (علیه السلام) من فضائل فريدة ومناقب جليلة.

وقد استدلّ علماء الإماميّة ببراهين عديدة من جملتها أدلّة عقليّة، وأخرى استُشهد فيها بالآيات القرآنية والأحاديث القدسيّة والنبويّة وما روي عن أمير المؤمنين وولده المعصومين (علیهم السلام) في إثبات الإمامة الخاصّة للأئمة الأطهار(علیهم السلام).

وقد تناول العلّامة الأمينيّ (1390ه) في كتابه «الغدير» ومن قبله العلّامة السيّد حامد حسين الموسويّ (1306ه) الشهير بالمير حامد حسين الهنديّ في كتابه «عبقات الأنوار»؛ الأحاديث الدالّة على هذا الأمر في مصادر أهل السنّة.

ص: 106

وتنقسم أدلّة إثبات الإمامة الخاصّة إلى طائفتين: أدلّة عقليّة، وأخرى نقليّة.

أما الأدلّة النقليّة فهي منقسمة بدورها إلى عامّة، وخاصة.

الأدلّة النقليّة العامّة هي الأدلّة التي عرضت إثبات إمامة مجموع الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام)؛ منها : «حديث اللوح» ، و «أحاديث الأئمة الاثني عشر»، و«حديث السفينة».

والأدلّة النقليّة الخاصّة هي الأدلّة تناولت الكرامات الخاصّة لكلّ واحد من الأئمّة (علیهم السلام)، أو الروايات الخاصّة بأهل البيت (علیهم السلام) الناظرة إلى إثبات إمامة الأئمّة الاثني عشر فرداً فرداً.

وفيما يأتي نستعرض كوكبة من الأدلّة المثبتة للإمامة الخاصّة؛ نقليّة وعقليّة.

24 /2. أفضليّة أمير المؤمنين (علیه السلام) :
إشارة

تمثل أفضليّة الإمام - بحسب معتقد الإماميّة - شرطاً لإمامته، وباعتراف كلّ من الشيعة والسنّة؛ لم يكن بين أصحاب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شخص يضاهي أمير المؤمنين (علیه السلام) في الأفضليّة. وقد أورد كلّ من المحقّق الطوسيّ (672ه) في كتابه «تجريد الاعتقاد» والعلّامة الحلّي (726ه) في «كشف المراد »خمسة وعشرين نموذجاً لأفضليّة الإمام عليّ (علیه السلام) (1). ويلازم بيان الأمثلة والنماذج التي تظهر أفضليّة الإمام عليّ (علیه السلام) الإثبات العقليّ على إمامته؛ إذ من الواجب أن يكون خليفة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والقائم مقامه من بعده هو الأفضل بين صحابته، وطالما أنّ علياً (علیه السلام) هو الأفضل بينهم جميعاً، فقد وجب أن يكون هو الخليفة.

ص: 107


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحليّ، ص 212 -238؛ شرح كشف المراد ،عليّ محمديّ، ص 457 -494. إثبات الوصيّة للإمام عليّ بن ابي طالب ،(علیه السلام)، أبو الحسن المسعودي، ص: 239. تجدر الإشارة إلى أنّ جميع القضايا المذكورة هنا في خصوص فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) وأفضليّته وردت في تعليقات العلّامة السبحانيّ على كشف المراد مسندةً لمصادر أهل السنّة.

ويمكن استعراض فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) في أربعة عهود من حياته الشريفة؛ امتدّت لثلاثة وستّين عاماً؛ وهي على التفصيل الآتي:

العهد الأوّل: الفترة التي قضاها في كنف الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، يتربّى في أحضانه، وينهل من نمير علومه؛ وهي فترة امتدّت لعشرة أعوام.

العهد الثاني : الفترة التي أمضاها بعد إعلان نبوّة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سعى فيها جاهداً لخدمة الدين وتثبيت أركان الشريعة؛ وهي فترة امتدّت ثلاثة وعشرين عاماً.

العهد الثالث : الفترة التي حافظ فيها أمير المؤمنين (علیه السلام) على شوكة الإسلام ووحدة المسلمين بعد أن لم تُنفّذ الأمّة وصيّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيه، فقعد عن المطالبة بحقّه؛ وهي فترة امتدّت خمسة وعشرين عاماً.

العهد الرابع: الفترة التي عاد فيها العدل إلى نصابه، وتولّى فيها الإمام سدّة الحكم، وهي فترة لم تتجاوز الأربعة أعوام وتسعة أشهر طبق خلالها معالم العدالة في حكومته الراشدة.

وقد عرض كلّ من المحقّق الطوسيّ (672ه) في كتابه «تجريد الاعتقاد» والعلّامة الحلّي (726ه) في «كشف المراد »فضائل الإمام عليّ (علیه السلام) في العهود الأربعة من حياته، ضمن خمسة وعشرين نقطة نستعرضها فيما يأتي:

24 /2 /1. الفضيلة الأولى:

أنّ عليّاً (علیه السلام) كان أكثر جهاداً وأعظم بلاء في غزوات النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأجمعها، ولم يبلغ أحد درجته في ذلك؛ منها :

أوّلاً: في غزوة بدر؛ وهي أوّل حرب امتحن بها المؤمنون لقلّتهم وكثرة المشركين، فقتل عليّ (علیه السلام) الوليد بن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، ثمّ العاص بن سعيد بن

ص: 108

العاص، ثمّ حنظلة بن أبي سفيان ثمّ طعيمة بن عدي، ثم نوفل بن خويلد - وكان شجاعاً - وسأل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يكفيه أمره فقتله عليّ (علیه السلام)، ولم يزل يقاتل حتى قتل نصف المشركين المقتولين والباقي من المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة مسوّمين قتلوا النصف الآخر، ومع ذلك كانت الراية في يد عليّ (علیه السلام) .

ثانياً: في غزوة أحد؛ حيث جمع له الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بين اللواء والراية، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة ؛ وكان يسمّى كبش الكتيبة، فقتله عليّ (علیه السلام) ، فأخذ الراية غيره فقتله (علیه السلام)، ولم يزل يقتل واحداً بعد واحد حتى قتل تسعة نفر، فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتى غشي عليه فانهزم الناس عنه سوى عليّ (علیه السلام) فنظر إليه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد إفاقته، فقال له : «اكفني هؤلاء»، فهزمهم عنه، وكان أكثر المقتولين بسيفه (علیه السلام).

ثالثاً: يوم الأحزاب، وقد بالغ في قتل المشركين ، وقتل عمرو بن عبدود الذي كان بطل المشركين، ودعا إلى البراز مراراً، فامتنع عنه المسلمون، وعليّ (علیه السلام) يروم مبارزته، والنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يمنعه من ذلك لينظر صنع المسلمين، فلمّا رأى امتناعهم أذن له، وعمّمه بعمامته، ودعا له. قال حذيفة: لمّا دعا عَمْراً إلى المبارزة أحجم المسلمون عنه كافّة، ما خلا عليّاً (علیه السلام) ؛ فإنّه برز إليه، فقتله الله على يديه والذي نفس حذيفة بيده لعمله في ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمّد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى يوم القيامة، وكان الفتح في ذلك اليوم على يدي عليّ (علیه السلام) ، وقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين».

رابعاً: في غزوة خيبر، وصيت جهاده فيها غير خفيّ، وقد نصر الله الإسلام على يديه، فإنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حصر حصنهم بضعة عشر يوماً، وكانت الراية بيد علىّ (علیه السلام) فأصابه الرمد، فسلّم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الراية إلى أبي بكر ومعه جماعة، فرجعوا منهزمين خائفين، فدفعها في الغد إلى عمر بن الخطّاب، فصنع كالذي سبقه، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «لأُسلّمنّ الراية

ص: 109

غداً إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبُّ الله ورسوله كرّارٍ غير فرّار، لا يرجع حتى يُفتَح على يده»، فلمّا أصبح قال : ايتوني بعليّ (علیه السلام) فقيل: به رمد، فتفل في عينه، (علیه السلام) ودفع الراية إليه، فقتل مرحباً، فانهزم أصحابه وغلقوا الأبواب، ففتح عليّ (علیه السلام) الباب ،واقتلعه وجعله جسراً على الخندق وعبروا وظفروا، فلمّا انصرفوا أخذه بيمينه ودحاه أذرعاً، وكان يغلقه عشرون وعجز المسلمون عن نقله حتى نقله سبعون رجلاً. وقد روي عنه أنّه قال (علیه السلام): «والله ما قلعتُ باب خيبر ورميت بها خلف ظهري أربعين ذراعاً بقوّة جسديّة، ولا حركة غذائيّة، لكنّي أيّدتُ بقوّة ملكوتيّة »(1).

24 /2 /2. الفضيلة الثانية:

أنّ عليّاً (علیه السلام) كان أعلم هذه الأمّة؛ فقد أطبق المسلمون على أنّه (علیه السلام) كان في أعلى مراتب الذكاء وقوّة الفكر والحدس، وقد نشأ في حجر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ملازماً له، مستفيداً منه ؛ قال (علیه السلام):

«عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهَ أَلْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ، فَفَتَحَ (فَانفَتَحَ) لِيْ مِنْ كُلُّ بَابٍ أَلْف تبب»(2).

والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان أكمل الناس وأفضلهم، ومع حصول القبول التام والمؤثر الكامل يكون الفعل أقوى وأتمّ، وهذا برهان لمّي. أضف إلى ذلك أنّ الأحكام الشرعيّة كانت تشتبه أحياناً على الصحابة، وربّما أفتى بعضهم خطأ، وقد كانوا يراجعونه في ذلك، ولم يُنقَل أنّه (علیه السلام) راجع أحداً منهم في شيء البتة، وذلك يدلّ على أنّه أفضل من غيره.

و ممّا روي من ذلك أنّ رجلاً من اليهود لقي أبا بكر، فقال له: أين الله تعالى؟

ص: 110


1- الأمالي الشيخ الصدوق، ص 604. [م]
2- الأربعين في أصول الدين ،الفخر الرازيّ، ص 475. لاحظ أيضاً: ينابيع المودة، القندوزي، ص 72؛ كنز العمال، المتّقيّ الهنديّ، ج6، ص 392. [م]

فقال: على العرش فقال اليهوديّ : خلت الأرض منه حيث اختصّ ببعض الأمكنة، فانصرف اليهودي متهكّماً بالإسلام، فلقيه عليّ (علیه السلام)، فقال له: «إنّ الله جلّ وعزّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ عن أن يحويه مكان، وهو في كلّ مكان بغير مماسّة ولا مجاورة ،يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها»، فأسلم على يده.

وسئل أبو بكر عن «الكلالة» (1)، و«الأبّ»(2)فحار جواباً، حتّى فسرّهما الإمام له.

وسُئل عمر بن الخطّاب عن أحكام كثيرة فحكم فيها بغير الصواب، فاعترضه عليّ (علیه السلام) فيها، فرجع عمّا قال.

وقد روي عنه أيضاً إسقاط حدّ الشرب عن قدامة بن مظعون لما تلا عليه قوله عَزَّ وَجَلَّ: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا »(3)، فقال عليّ (علیه السلام)« الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلّون محرّماً»، وأمره بردّه، واستتابته؛ فإن تاب فاجلده وإلّا فاقتله، فتاب ولم يدرِ عمر كم يحدّه، فأمره (علیه السلام) بحدّه ثمانين جلدة.

وفي واقعة أخرى أمر عمر برجم مجنونة زنت، فردّه (علیه السلام) بقوله: «رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق»، فقال الخليفة الثاني: «لولا عليّ لهلك عمر».

وروي أيضاً أنّ امرأةً ولدت لستّة أشهر، فأمر عمر برجمها، فقال (علیه السلام) له: «إنّ أقلّ الحمل ستة أشهر بقوله تعالى: «وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ، »(4) وقوله: « وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا»(5).

وقد أمر الخليفة الثاني أيضاً برجم امرأة حامل فقال (علیه السلام) له : «إن كان لك سبيل عليها فليس لك على ما في بطنها سبيل» فامتنع.

ص: 111


1- في قوله تعالى: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ » سورة النساء: 176.[م]
2- في قوله تعالى: «وَفَاكِهَةً وَأَبًّا »سورة عبس: 31. [م]
3- سورة المائدة: 93 .
4- سورة لقمان: 14.
5- سورة الأحقاف: 15 .

وغير ذلك من الوقائع الشهيرة.

هذا، وقد اتّفق المسلمون في رواية أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد قال في حقّه (علیه السلام): «أقضاكم علیّ (علیه السلام)»، والقضاء يستلزم العلم، فيكون أفضل منهم.

أضف إلى ذلك استناد العلماء بأسرهم إليه ؛ فإنّ علم النحو مستند إليه، وكذا« أصول المعارف الإلهيّة» و«علم الأصول»؛ فإنّ أبا الحسن الأشعريّ تلميذ أبي علي الجبائيّ من المعتزلة وجميع المعتزلة ينتسبون إليه، ويدعون أخذ معارفهم منه، وأهل التفسير رجعوا إلى ابن عباس فيه وهو تلميذ عليّ (علیه السلام)، والفقهاء ينتسبون إليه، والخوارج مع بعدهم عنه ينتسبون إلى أكابرهم؛ وهم تلامذة عليّ (علیه السلام).

24 /2 /3. الفضيلة الثالثة:

أنّ علياًّ (علیه السلام) كان نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فقد قال عَزَّ وَجَلَّ: « فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(1).

وأطبق المفسّرون على أنّ «الأبناء» إشارة إلى الحسن والحسين (علیهما السلام) ، و«النساء» إشارة إلى فاطمة (علیها السلام) ، و«الأنفس» إشارة إلى عليّ (علیه السلام) ولا يمكن أن يقال: إنّ نفسيهما واحدة؛ فلم يبق المراد من ذلك إلّا المساوي. ولا شكّ في أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أفضل الناس، فمساويه كذلك أيضاً.

24 /2 /4. الفضيلة الرابعة :

أنّ عليّاً (علیه السلام) كان كثير السخاء على غيره، فقد روي أنّه كان (علیه السلام) أسخى الناس بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ حتى أنّه جاد بقوته وقوت عياله، وبات طاوياً هو وإيّاهم ثلاثة أيام؛ حتى أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في حقّهم : «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا »(2).

ص: 112


1- سورة آل عمران: 61.
2- سورة الإنسان (الدهر) : 8 .

وتصدّق مرّة أخرى بجميع ما يملكه، وقد كان حينئذ لا يملك أكثر من أربعة دراهم؛ فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى في حقه:

«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً »(1).

وكان يعمل بالأجرة ويتصدّق بها، ويشدّ على بطنه الحجر من شدّة الجوع، وشهد له بذلك أعداؤه فضلاً عن أوليائه ؛ قال معاوية : «لو ملك علىّ (علیه السلام) بيتاً من تبر وبيتاً من تبن؛ لأنفد تبره قبل تبنه، ولم يخلف شيئاً أصلاً».

24 /2 /5.الفضيلة الخامسة:

كان (علیه السلام) أزهد الناس بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ وبيانه أنّه كان سيّد الأبدال، وإليه تُشدّ الرحال في معرفة الزهد والتسليك فيه وترتيب أحوال الرياضات، وذكر مقامات العارفين. وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً، ولم يشبع من طعام قطّ، قال عبيد الله بن أبي رافع : دخلت عليه يوماً فقدّم جراباً مختوماً فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فأكل منه، فقلت: يا أمير المؤمنين كيف تختمه؟ فقال: «خفت هذين الولدين يلتّانه بزيت أو سمن»، وهذا شيء اختصّ به عليّ (علیه السلام) لم يشاركه فيه غيره، ولم ينل أحد بعض درجته. وكان نعلاه من ليف، ويرقع قميصه بجلد تارة، وبليف أخرى. وقلّ أن يأتدّم، فإن فعل فبالملح أو بالخلّ، فإن ترقّى فبنبات الأرض، فإن ترقّى فبلبن، وكان لا يأكل اللحم إلّا قليلاً ويقول: « لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان».

24 /2 /6.الفضيلة السادسة :

كان (علیه السلام) أعبد الناس بعد النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، واستفادوا منه ترتيب النوافل والدعوات وكانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده، وكان يحافظ

ص: 113


1- سورة البقرة: 274 .

على النافلة؛ حتى إنّه بسط له بين الصفين نطع ليلة الهرير؛ فصلّى (علیه السلام) النافلة والسهام تقع بين يديه وإلى جوانبه وكانوا يستخرجون النصول من جسده وقت الصلاة لالتفاته بالكليّة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتى لا يبقى له التفات إلى غيره.

24 /2 /7.الفضيلة السابعة :

كان (علیه السلام) أحلم الناس بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فلم يقابل أحداً بإساءته. فعفا عن مروان بن الحكم يوم الجمل وكان شديد العداوة له (علیه السلام) وعفا عن عبد الله بن الزبير لما استأسره يوم الجمل، وكان يشتمه (علیه السلام) ظاهراً، وقال :(علیه السلام): «لم يزل الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتى شبّ عبد الله »، وعفا عن سعيد بن العاص وكان عدوّاً له (علیه السلام) ، وأكرم عائشة، وبعثها إلى المدينة مع عشرين امرأة عقيب حربها له. وصفح عن أهل البصرة مع محاربتهم له، ولما حارب معاوية سبق أصحاب معاوية إلى الشريعة فمنعوه من الماء، فلما اشتدّ العطش بأصحابه حمل عليهم، وفرّقهم، وملك الشريعة، فأراد أصحابه أن يفعلوا بهم كذلك، فنهاهم عن ذلك، وقال: «أفسحوا بعض الشريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك».

24 /2 /8.الفضيلة الثامنة:

كان (علیه السلام) أشرف الناس خلقاً، وأطلقهم وجهاً ؛ قال صعصعة بن صوحان: «كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدّة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه». وقال معاوية لقيس بن سعد رحم الله أبا حسن؛ فلقد كان هشّاً بشّاً ذا فكاهة، فقال قيس: «أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسّه الطوى، تلك هيبة التقوى ليس كما يهابك طغام الشام .

24 /2 /9.الفضيلة التاسعة

أنّه (علیه السلام) كان أقدم الناس إيماناً. وقد روى سلمان الفارسي عن النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «أوّلكم وروداً علىَّ الحوض أوّلكم إسلاماً عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)». وقال أنس:

ص: 114

بعث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يوم الاثنين، وأسلم عليّ (علیه السلام) يوم الثلاثاء. وقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لفاطمة (علیها السلام) «زوجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً».

ولا يُقال : إنّ إسلامه (علیه السلام) كان قبل البلوغ، فلا اعتبار به؛ فلأنّ سنّ عليّ (علیه السلام) كان ستّاً وستين سنة أو خمساً وستّين، والنبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بقي بعد الوحي ثلاثاً وعشرين سنة، و علیّ (علیه السلام) بقي بعد النبيّ نحواً من ثلاثين سنة، فيكون سنّ علي (علیه السلام) وقت نزول الوحي فيما بين اثنتي عشرة سنة وبين ثلاث عشرة سنة، والبلوغ في هذا الوقت ممكن، فيكون واقعاً لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «زوّجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً».

24 /2 /10.الفضيلة العاشرة

أنّه (علیه السلام) كان أبلغ الناس في الفصاحة، وأعظمهم منزلة فيها بعد رسول الله ؛ حتى قال البلغاء كافّة: «إنّ كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق»، ومنه تعلّم الناس أصناف البلاغة ، حتى قال معاوية : «ما سنّ الفصاحة لقريش غيره»، وقال ابن نباتة حفظت من خطبه مئة خطبة». وقال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين

خطبة من خطبه .

24 /2 /11. الفضيلة الحادية عشر:

أنّه (علیه السلام) كان أسدّ الناس رأياً بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأجودهم تدبيراً، وأعرفهم بمزايا الأمور ومواقعها؛ وهو الذي أشار على عمر بالتخلف عن حرب الروم والفرس، وبَعْث نوّابه، ففي وجود الخليفة في الجيش وعلم العدوّ بذلك مدعاة لهم للاستبسال في القتال، ساعين في ذلك إلى قتله، وكسر شوكة الإسلام، وتفريق كلمة المسلمين. وأمّا بالبقاء في مركز الدولة الإسلاميّة، فيبقى دائماً إمكان إرسال جيش آخر إن هُزم الأول. وأشار على عثمان بما فيه صلاحه وصلاح المسلمين، فخالفه حتّى قُتِل.

ص: 115

24 /2 /12.الفضيلة الثانية عشر:

أنّه (علیه السلام) كان أكثر الناس حرصاً على إقامة حدود الله تعالى، لم يراقب في ذلك أحداً، ولم يلتفت إلى قرابة؛ بل كان شديد السياسة، خشناً في ذات الله جَلَّ وَعَلا، لم يراقب ابن عمّه ولا أخاه، ولم يساوه في ذلك أحد من الصحابة.

24 /2 /13. الفضيلة الثالثة عشر:

أنّه (علیه السلام) كان أوّلهم وأتقنهم حفظاً لكتاب الله ؛ فقد كان يحفظ كتاب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولم يكن أحد يحفظه. وهو أوّل من جمعه، ونقل الجمهور أنّه تأخّر عن البيعة بسبب اشتغاله بجمع القرآن العظيم ، وأئمّة القرّاء يسندون قراءاتهم إليه ؛ كأبي عمرو بن أبي العلاء، وعاصم، وغيرهما؛ لأنّهم يرجعون إلى أبي عبدالرحمن السلمي؛ وهو تلميذه (علیه السلام).

24 /2 /14. الفضيلة الرابعة عشر:

أنّه (علیه السلام) كان يُخبر بالغيب، وقد روي عنه ذلك في مواضع كثيرة، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعاً. ذلك كإخباره بقتل ذي الثدية، ولما لم يجده أصحابه بين القتلى ؛ قال : «والله ما كَذَبت ولا كُذّبت»، فاعتبرهم (علیه السلام) حتى وجده وشقّ قميصه ووجد على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات تنحدر كتفه مع جذبها وترجع مع تركها. وقال له أصحابه: إنّ أهل النهروان قد عبروا، فقال (علیه السلام) : لم يعبروا، فأخبروه مرّة ثانية فقال : لم يعبروا، فقال جندب بن عبدالله الأزدي في نفسه: إن وجدت القوم قد عبروا كنت أوّل من يقاتله، فلمّا وصلنا النهر لم نجدهم عبروا ، فقال (علیه السلام): «يا أخا الأزد ! أتبيّن لك الأمر؟»، وذلك يدلّ على اطلاعه على ما في ضميره.

وأخبر (علیه السلام) بقتل نفسه في شهر رمضان وبولاية الحجّاج وانتقامه، وبقطع يد جويرية بن مسهر ورجله وصلبه على جذع ؛ ففعل به ذلك في أيام معاوية، وبصلب

ص: 116

ميثم التمار على باب عمرو بن حريث؛ عاشر عشرة وأراه النخلة التي يُصلَب على جذعها فكان كما قال وبذبح قنبر، فذبحه الحجّاج.

وقيل له : قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرى، فقال: «لم يمت ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة صاحب رايته حبیب بن جماز»، فقام رجل من تحت المنبر فقال: والله إنِّي لك لمحبّ وأنا حبيب، قال: «إيَّاك أن تحملها ولتحملنّها فتدخل بها من هذا الباب»، وأومأ إلى باب الفيل . فلمّا بعث ابن زياد عمر بن سعد إلى قتال الحسين (علیه السلام) جعل على مقدّمته خالداً وحبيب صاحب رايته، فسار بها حتى دخل المسجد من باب الفيل.

وقال (علیه السلام) يوماً على المنبر : «سلوني قبل أن تفقدوني؛ فوالله لاتسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة»، فقام إليه رجل فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟! فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لقد حدّثني خليلي بما سألت عنه؛ وأنّ على كلّ طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك وعلى كلّ طاقة شعر في لحيتك شيطاناً يستفزّك وأنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »فلما كان من أمر الحسين (علیه السلام) ما كان؛ تولّى قتله.

والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى؛ نقلها المخالف والمؤالف.

24 /2 /15. الفضيلة الخامسة عشر:

أنّه (علیه السلام) كان مستجاب الدعوة سريعاً؛ دون غيره من الصحابة؛ ومنها أنّه (علیه السلام) دعا على بسر بن أرطأة فقال: «اللّهمّ إنّ بسراً باع دينه بالدنيا فاسلبه عقله ولا تبق له من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك »؛ فاختلط عقله. واتُّهِم العيزار برفع أخباره (علیه السلام) إلى معاوية؛ فأنكر فقال (علیه السلام) له: «إن كنت كاذباً فأعمى الله بصرك»، فعمي قبل أسبوع.

واستشهد (علیه السلام) جماعة من الصحابة عن حديث الغدير ؛ فشهد له اثنا عشر رجلاً من الأنصار وسكت أنس بن مالك ؛ فقال له : يا أنس ما يمنعك أن تشهد وقد سمعت ما

ص: 117

سمعوا؟» فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت، فقال: «اللّهمّ إن كان كاذباً فاضربه ببياض الوضح لا تواريه العمامة »فصار أبرص وكتم زيد بن أرقم فذهب بصره، وغير ذلك من الوقائع المشهورة.

24 /2 /16. الفضيلة السادسة عشر:

کرامته (علیه السلام) وظهور المعجزات عنه ؛ وهي كثيرة منها: حديثه مع الحيّة، وخلعه باب خيبر، وردّ الشمس، والحرب مع الجنّ.

24/ 2 /17. الفضيلة السابعة عشر:

اختصاصه (علیه السلام) بالقرابة؛ فقد كان (علیه السلام) أقرب الناس نسباً إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فيكون أفضل من غيره، ولأنّه كان هاشمياًّ فيكون أفضل لقوله (علیه السلام): «إنّ الله اصطفى من ولد إسماعيل قريشاً ومن قريش هاشماً».

24/ 2/ 18. الفضيلة الثامنة عشر:

أُخوته (علیه السلام) مع النبيّ وبيانه أنّ النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا واخى بين الصحابة وقرن كل شخص إلى مماثله في الشرف والفضيلة، رأى عليّاً (علیه السلام) متكدّراً، فسأله عن سبب ذلک فقال: «إنّك آخيت بين الصحابة وجعلتني منفرداً»، فقال له رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «ما أخّرتك إلّا لنفسي ألا ترضى أن تكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي؟» فقال: «بلی یا رسول الله »فواخاه من دون الصحابة.

24/ 2/ 19. الفضيلة التاسعة عشر:

وجوب المحبّة له (علیه السلام) على الآخرين ؛ فقد كان محبّته (علیه السلام) ومودّته واجبة دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعاً، وذلك أنّه (علیه السلام) كان من أولي القربى؛ فتكون

ص: 118

مودّته واجبة لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (1).

24/ 2/ 20.الفضيلة العشرون :

النصرة للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فقد اختصّ بهذه الفضيلة دون غيره من الصحابة؛ فيكون أفضل منهم، وبيانه هو قوله عَزَّ وَجَلَّ: « فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ »(2). وقد اتّفق المفسرون على أنّ المراد بصالح المؤمنين هو عليّ (علیه السلام)، و«المولى» هنا هو الناصر؛ لأنّه القدر المشترك بين الله جَلَّ وَعَلا وجبرئيل (علیه السلام)، وجعله ثالثهم، وحصر المولى في الثلاثة بلفظة «هو» في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:« فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ».

24 /2 21.الفضيلة الحادية والعشرون :

مساواته (علیه السلام) الأنبياء (علیهم السلام) ؛ وبيانه أنّه كان مساوياً للأنبياء المتقدّمين؛ فيكون أفضل من غيره من الصحابة بالضرورة؛ لأنّ المساوي للأفضل أفضل، ودليله ما رواه البيهقي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: من أحبّ أن ينظر إلى آدم في علمه [««وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»] ، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه [«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» ]، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب ».

لذا فإنّ عليّاً (علیه السلام) واجد لعلم آدم (علیه السلام)، وتقوى نوح (علیه السلام)، وحلم إبراهيم (علیه السلام)، وهيبة موسى (علیه السلام) ، وعبادة عيسى (علیه السلام)؛ وليس لأحد من الصحابة مثل هذا الفضل.

24/ 2 /22.الفضيلة الثانية والعشرون :

تحديث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بفضائله (علیه السلام)؛ فقد أخبر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مواضع كثيرة ببيان فضله وزيادة كماله على غيره ونصّ على إمامته ؛ منها على سبيل المثال :

ص: 119


1- سورة الشورى: 23 .
2- سورة التحريم: 4 .

ما ورد في خبر الطائر؛ وهو أنّه (علیه السلام) قال: «اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء علىّ بن أبي طالب (علیه السلام) فأكل معه، وفي رواية: «اللّهمّ أدخل إليّ أحبّ أهل الأرض إليك»، رواه أنس وسعد بن أبي وقاص وأبو رافع مولى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وابن عبّاس، وعوّل أبو جعفر الإسكافيّ وأبو عبدالله البصري على هذا الحديث في أنّه (علیه السلام) أفضل من غيره، وادّعى أبو عبد الله شهرة هذا الحديث، وظهوره بين الصحابة، ولم ينكره أحد منهم؛ فيكون متواتراً.

وخبر المنزلة؛ وهو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى؛ إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»، وقد كان هارون أفضل أهل زمانه عند أخيه، فكذا عليّ (علیه السلام) عند محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

وخبر الغدير؛ وهو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا خطب الناس بغدير خم في عوده من حجة الوداع: معاشر المسلمين ألست أولى منكم بأنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله»، فأخذ بيد عليّ (علیه السلام) وقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحقّ مع عليّ كيف ما دار». والمراد بالمولى هاهنا: الأولى بالتصرّف، وإذا كان عليّ (علیه السلام) أولى من كل أحد بالتصرف في نفس المؤمنين ومالهم، فهو أفضل منهم قطعاً، ووجب أن يكونوا جميعاً تحت إمرته وولايته.

24 /2 /23. الفضيلة الثالثة والعشرون :

انتفاء سبق الكفر عنه (علیه السلام) ؛ وبيانه أنّه (علیه السلام) لم يكفر بالله عَزَّ وَجَلَّ أصلاً؛ بل من حين بلوغه كان مؤمناً موحّداً؛ بخلاف باقي الصحابة، فإنّهم كانوا في زمن الجاهليّة كفرة، ولا ريب في فضل من لم يزل موحّداً على من سبق كفره على إيمانه.

24 /2 /24. الفضيلة الرابعة والعشرون :

كثرة انتفاع الإسلام به والمسلمين؛ فقد انتفع به (علیه السلام) المسلمون أكثر من نفعهم بغيره؛ فيكون ثوابه أكثر، وفضله أعظم، وقد تقدّم من كثرة حروبه، وشدّة بلائه في

ص: 120

الإسلام، وفتح الله البلاد على يديه، وقوة شوكة الاسلام به ؛ لذا فإنّه (علیه السلام) الأفضل عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وعند رسوله وعند الناس والشاهد على هذا المدعى ما كان منه (علیه السلام) من تضحيات جسيمة في العهود الأربعة من حياته الشريفة.

24/ 2 /25.الفضيلة الخامسة والعشرون :

تميّزه (علیه السلام) بالكمالات جميعها. وبيانه أنّ الكمالات إمّا نفسانية وإما بدنيّة وإما خارجيّة : أمّا الكمالات النفسانية والبدنيّة فقد بينّا بلوغه فيها إلى حدّ الذروة والغاية؛ فقد كان العلم والزهد والشجاعة والسخاء وحسن الخلق والعفّة فيه أبلغ من غيره، بل لا يجاريه في واحد منها أحد بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . وبلغ في القوّة البدنية والشدّة مبلغاً لا يساويه أحد حتى قيل : إنّه (علیه السلام) كان يقطّ الهام قط الأقلام، لم يخط في ضربه قط ولم يحتج إلى المعاودة، وقلع باب خيبر وقد عجز عن نقلها سبعون رجلاً من أشدّ الناس قوّة مع أنّه (علیه السلام) كان قليل الغذاء جداً بأخشن مأكل وملبس كثير الصوم مداوم العبادة.

وأمّا الخارجيّة فمنها : النسب الشريف الذي لا يساويه أحد في القرب من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فإنّه كان أقرب الناس إليه ؛ فإنّ العبّاس كان عمّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الأب خاصّة، وعليّ (علیه السلام) كان ابن عمّه من الأب والأمّ، ومع ذلك فإنّه كان هاشمياً من الأب والأمّ؛ لأنّه عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم.

ومنها : المصاهرة ولم يحصل لأحد ما حصل له منها؛ فإنّه زوج سيدة نساء العالمين (علیها السلام)،وعثمان وإن شاركه في كونه ختناً لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلّا أنّ فاطمة أشرف بناته، وكان لها من المنزلة والقرب من قلب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مبلغ عظيم وكان يعظّمها حتى أنّه كان إذا جاءت إليه نهض لها قائماً ولم يفعل ذلك بأحد من النساء، وقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : سيّدة نساء العالمين في الجنّة أربع وعدّ منهنّ فاطمة (علیها السلام).

ومنها: الأولاد؛ ولم يحصل لأحد من المسلمين مثل أولاده في الشرف والكمال؛ فإنّ

ص: 121

الحسن والحسين (علیها السلام) إمامان سيّدا شباب أهل الجنّة، وكان حبّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لهما في الغاية حتّى أنّه (علیه السلام) كان يتطأطأ لهما ليركباه ويبعبع لهما . ثمّ أولد كل واحد منهما أولاداً بلغوا في الشرف إلى الغاية ؛ فالحسن (علیه السلام) أولد مثل الحسن المثنى والمثلّث وعبد الله بن الحسن المثنّى والنفس الزكية وغيرهم ، وأولد الحسين (علیه السلام) مثل زين العابدين، والباقر، والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي، والعسكريّ، والمهديّ (علیهم السلام)، وقد نشروا من العلم والفضل والزهد والانقطاع والترك شيئاً عظيماً(1)..

24 /3. نقد أفضليّة أبي بكر :
إشارة

تناول أبناء العامّة من أهل السنة في كتبهم الكلاميّة تبيين مصداق الأفضل بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقدّموا أبا بكر على أنّه هو المصداق؛ حتى يتمكّنوا من إثبات الإمامة له مستعينين في ذلك بدليل الإجماع.

ولا نجد لدى أولئك أيّ حديث صريح يدلّ على إمامة أبي بكر(2)، أمّا ما أوردوه وأستدلّوا به على أفضليّته فسنتناول تبيينه ونقده مستندين في ذلك إلى كتاب «إبطال ما استدلّ به لإمامة أبي بكر» لآية الله السيّد علي الميلانيّ؛ وهو على النحو التالي(3) :

24 /3 /1. الدليل الأوّل:

استدلّوا في هذا الدليل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى »(4).

ص: 122


1- لاحظ: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلي، ص 212 -238؛ شرح كشف المراد ،علي محمديّ ، ص 457 -494.
2- شرح المواقف، ج 8، ص 365.
3- الموضوعات المتعلّقة بنفي فضيلة أبي بكر وتفنيد القول بالإجماع عليه مقتبسة من كتاب: إبطال ما استدل به لإمامة أبي بكر ، لآية الله السيّد علي الميلانيّ.
4- سورة الليل: الآية 17 -19.

ثمّ قالوا: قال أكثر المفسرين وقد اعتمد عليه العلماء: إنّها نزلت في أبي بكر، أتقى، ومن هو أتقى فهو أكرم عند الله ؛ لقوله جَلَّ وَعَلا : « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(1).

فيكون أبوبكر هو الأفضل عند الله عَزَّ وَجَلَّ. ولا ريب في أنّ من كان الأفضل والأكرم عند الله فهو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهذا لا إشكال فيه، من كان الأكرم والأفضل عند الله فهو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فيكون أبوبكر هو الأفضل، الأفضل من الأمّة كلّها بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فهو المتعيّن للخلافة بعده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2).

ويرد عليه أنّ الاستدلال بهذا الدليل يتوقّف على إثبات مقدمات، ومن دونها لا تتمّ دلالة الآية على إمامة أبي بكر ؛ ومن تلك المقدّمات:

أولاً: أنّ هذا يتوقف على سقوط جميع الأدلّة التي أقامها الإماميّة على عصمة عليّ (علیه السلام)، وإلّا فالمعصوم أكرم عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ممن يؤتي ماله يتزكّى. ومن يتوقّف الاستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر - لو كانت نازلة فيه - على عدم تماميّة تلك الأدلّة التي وردت في المصادر السنيّة والشيعيّة الدالّة على فضائل عليّ (علیه السلام) وأفضليته وعصمته، وإلّا فلو تمّ شيء من تلك الأدلّة لكان عليّ (علیه السلام) أكرم عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وحينئذٍ يبطل هذا الاستدلال. ثمّ إنّ هناك جمع غفير من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يرون أنّ علیّاً (علیه السلام) أفضل من أبي بكر ؛ وقد ورد هذا في كلّ من كتاب الاستيعاب وكتاب الفصل في الملل والنحل (3).

ثانياً : أنّ الاستدلال بهذه الآية المباركة يتوقّف في المقام الأوّل على نزول الآية في أبي بكر، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال:

ص: 123


1- سورة الحجرات: 13 .
2- شرح المواقف، ج 8 ،ص 365 .
3- الاستيعاب ،ج 3 ،ص 1090 ؛ الفصل في الملل والنحل، ج 4، ص 181.

*القول الأوّل: أنّ الآية عامّة للمؤمنين؛ ولا اختصاص لها بأحد منهم.

*القول الثاني: بناءً على تفسير الدرّ المنثور للسيوطي نزلت الآية في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة. وعلى هذا، فإنّ الآية لا علاقة لها بأبي بكر.

*القول الثالث: بناءً على رواية الطبرانيّ فإنّ الآية نازلة في أبي بكر.

فالقول بنزول الآية المباركة في أبي بكر أحد الأقوال الثلاثة عندهم.

لكنّ القول الأخير القاضي بكونها نزلت في أبي بكر يتوقّف على صحة سند الخبر به، وإذا لم يتمّ الخبر الدالّ على نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول. والرواية يرويها الطبرانيّ، ويرويها عنه الحافظ الهيثميّ في مجمع الزوائد، ثمّ يقول : فيه - أي في سنده - مصعب بن ثابت وفيه ضعف (1). كما ضعّفه يحيى بن معين، وضعّفه أحمد بن حنبل، وضعّفه أبو حاتم قال : لا يحتجّ به، وقال النسائيّ : ليس بالقويّ، وهكذا قال غير هؤ لاء (2).

24 /3 /2. الدليل الثاني:

استدلّوا في هذا الدليل بما يُنسب إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّه قال: «اقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكر، وعمر»(3).

والمشكلة الأساسيّة في دليلهم هذا ضعف الرواة؛ فقد قال المناويّ في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير : أعلّه أبو حاتم [ أي قال: هذا الحديث عليل ] ، وقال البزار كابن حزم: لا يصحّ (4)، والترمذيّ حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه، يضعفه بصراحة (5)، وورد في كتاب الضعفاء الكبير لأبي جعفر

ص: 124


1- مجمع الزوائد، ج 9، ص 50.
2- تهذيب التهذيب، ج 10، ص 144.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 382، 385 ؛ صحيح الترمذي ، ج 5 ص 572 ؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 75.
4- فيض القدير، ج 2، ص 56.
5- صحيح الترمذي، ج 5، ص 572 .

العقيليّ أنّه منكر لا أصل له (1)، وأمّا الحافظ الذهبيّ الذي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من كتابه فيردّه، ويكذّبه، ويبطله، كما يستند إلى قول أبي بكر النقاش : وهذا الحديث واهٍ (2)، وجاء تلخيص المستدرك أنّ سنده واهٍ جداً (3) ، وأمّا الهيثميّ في مجمع الزوائد فيروي هذا الحديث عن طريق الطبرانيّ، يقول: وفيه من لم أعرفهم(4)، وأمّا ابن حجر العسقلانيّ الحافظ شيخ الإسلام فيذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوطه(5). وللحافظ ابن حزم الأندلسيّ في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمّة جداً، حيث يقول ما نصّه : «ولو أنّنا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً؛ لاحتججنا بما روي: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر ،وعمر، ولكنّه لم يصحّ، ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصحّ »(6).

24 /3 /3. الدليل الثالث :

استدلّوا في هذا الدليل بما رووه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنّه قال لأبي الدرداء:

«والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيّين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر »(7).

وهذا الحديث مضعّف عندهم للغاية؛ فقد رواه الطبرانيّ في الأوسط بسند، قال الهيثميّ : فيه إسماعيل بن يحيى التيميّ؛ وهو كذّاب. وورد أيضاً في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبرانيّ، ويقول : فيه بقية بن الوليد؛ وهو مدلّس، وهو ضعيف، وهو ساقط عند علماء الرجال (8).

ص: 125


1- الضعفاء الكبير، ج 4، ص 95 .
2- میزان الاعتدال ،ج 1 ،ص 142، ص 105 ،141، و43/ 610.
3- تلخيص المستدرك، ج 3، ص 75.
4- مجمع الزوائد، ج 9، ص 53 .
5- لسان الميزان ،ج 1 ،ص 188، 272 و 5/ 237 .
6- الفصل في الأهواء والملل والنحل، ج 4 ،ص 88 .
7- كنز العمال ،ج 11 ،ص 557؛ تاریخ بغداد ،ج 12 ،ص 433 ؛ تاريخ مدينة دمشق ،ج 30 ، ص 208.
8- مجمع الزوائد، ج 9، ص 44.
24 /3 /4.الدليل الرابع :

استدلّوا في هذا الدليل بما رووه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال عن أبي بكر وعمر: «هما سيّدا كهول أهل الجنّة ؛ ما خلا النبيّين والمرسلين»(1).

روى هذه الرواية الهيثميّ في مجمع الزوائد عن البزار وعن الطبرانيّ، وكلاهما روياه عن أبي سعيد وعن عبيد الله بن عمر. وقال الهيثميّ حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد فيه عليّ بن عابس وهو ضعيف(2).

هذا بالإضافة إلى أنّ الجنّة - بحسب ما ورد في الأحاديث الشريفة المعتبرة - ليس بها كهول؛ فكلّ أهل الجنة شباب!

24/ 3 /5.الدليل الخامس :

استدلّوا في هذا الدليل بما ينسبونه إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنّه قال في أفضليّة أبي بكر: «ما ينبغي لقوم فيهم أبوبكر أن يتقدّم عليه غيره »(3).

ومن حسن الحظ أنّ الحافظ ابن الجوزيّ أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات؛ وقال ما نصّه : هذا حديث موضوع على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (4).

24 /3 /6.الدليل السادس:

استدلوا في هذا الدليل بحديث رواه البخاريّ ومسلم عن عائشة أنّ النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حين مرضه قدّم أبا بكر للصلاة.

ص: 126


1- تاريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 171 ؛ سنن الترمذي، ج 5، ص 272 و 273 ؛ المصنّف، ج 7، ص 473.
2- مجمع الزوائد، ج 9، ص 53.
3- سنن الترمذي، ج 5، ص 276 ؛ الكامل، ج 5، ص 240.
4- الموضوعات، ج 1، ص 318.

لكن هذا الدليل ليس بتامّ ؛ ويرد عليه جملة أمور منها:

أولاً: تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا؛ لسببين هما: مخالفتها لعليّ (علیه السلام) ، وكونها ابنة أبي بكر .

ثانياً: تدلّ الشواهد التاريخيّة على أنّ تقديم أبي بكر للصلاة بالناس لم يكن من جانب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، بل بإيعاز من عائشة نفسها؛ فهي من أرسلت أباها ليصلّي بالناس؛ حيث إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد بعث بكبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر في سرية أسامة، وشدّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على خروجهم من المدينة حتّى اللحظات الأخيرة من عمره الشريف ؛ وهذا لا يقبل الإنكار فهو ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ؛ حيث قال الحافظ ابن حجر العسقلانيّ في كتاب فتح الباري بشرح البخاري: قد روى ذلك - أي كون أبي بكر في بعث أسامة - الواقديّ، وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزيّ، وابن عساكر ، وغيرهم(1) ولذا، لمّا توفي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان أسامة بجيشه في خارج المدينة، ولذا لمّا ولي أبو بكر اعترض أسامة ولم يبايع أبا بكر، وقال: «أنا أمير على أبي بكر؛ وكيف أبايعه».

ثالثاً: لو سلّمنا بذلك، فكم من صحابيّ أمره رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابيّ الذي صلّى في مكانه.

رابعاً: لو كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الآمر، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خرج بنفسه الشريفة - معتمداً على رَجُلين، ورجلاه تخطّان على الأرض - ونحّى أبا بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه ؛ ثمّ خطب خطبة ذكر فيها القرآن الكريم وأهل البيت (علیهم السلام) وحثّ الناس على اتّباعهم.

ص: 127


1- فتح الباري ،ج 8 ،ص 124 .
24 /3 /7.الدليل السابع:

استدلّوا في هذا الدليل بما ينسبونه إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنّه قال في حقّ أبي بكر وعمر: «خير أمّتي أبو بكر ثمّ عمر »(1).

ويرد على هذا الاستدلال :

أوّلاً :أنّ هذا الحديث ضعيف من ناحية السند.

ثانياً: ورد هذا الحديث في المواقف وشرح المواقف ناقصاً؛ فقد اكتفوا بنقل هذا المقطع من الحديث؛ حيث رووا عن عائشة:

«قلتُ: يا رسول الله ! من خير الناس بعدك ؟ قال : أبو بكر، قلت: : ثمّ من؟ قال : عمر».

هذا هو الموضع الذي استدلّوا به. لكن بالمجلس فاطمة (علیها السلام)، وللحديث ذيل، ،أسقطوه ليتمّ لهم الاستدلال وتكملته:

«قالت فاطمة : يا رسول الله ! لم تقل في عليّ شيئاً؟ قال: يا فاطمة عليّ نفسي، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً؟»(2).

24 /3 /8. الدليل الثامن :

استدلّوا في هذا الدليل بما ما رووه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال واصفاً قربه من أبي بكر: « لو كنت متخذاً خليلاً دون ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلاً»(3).

ص: 128


1- تاريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 376.
2- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، ج 1، ص 376.
3- مسند أحمد ،ج 1 ،ص 412 ،432، 439 وج4، ص 4 و 5 ؛ صحيح البخاريّ، ج4، ص 191؛ صحیح مسلم، ج 7، ص 108 و 109 .

وهذه الرواية تتعارض مع رواية أخرى رواها أبناء العامّة من أهل السنّة أنفسهم؛ حيث زعموا أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد اتّخذ عثمان خليلاً وقال:

«إنّ لكلّ نبيّ خليلاً من أمّته، وإنّ خليلي عثمان بن عفان».

واستناداً على هذه الرواية يكون عثمان أفضل من أبي بكر ؛ حيث اتّخذه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خليلاً ولم يتّخذ أبا بكر ؛ والجدير بالذكر أنّ كلا الحديثين ضعيفان(1).

24 /3 /9. الدليل التاسع :

ما ينسبونه لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال وقد ذُكر أبو بكر عنده :

«وأين مثل أبي بكر ؟! كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف(2).

وقد أدرج هذا الحديث - من ناحية السند - الحافظ السيوطي في كتابه اللآلي المصنوعة بالأحاديث الموضوعة (3)، وأدرجه أيضاً الحافظ ابن عراق صاحب کتاب تنزيه الشريعة (4) ، وقد ألّف كتابه هذا في خصوص الروايات الموضوعة.

وأمّا من ناحية دلالته على أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بحاجة إلى مال أبي بكر وإنفاقه عليه، فهو من القضايا الكاذبة، وقد وصل كذب هذا الخبر إلى حدّ ألجأ ابن تيمية نفسه إلى التصريح بكذبه(5).

ص: 129


1- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، ج 1، ص 392.
2- تاریخ مدينة دمشق، ج 3، ص 110 و 155.
3- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 295.
4- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، ج 1، ص 344.
5- منهاج السنة، ج 4، ص 289 .
24 /3 /10.الدليل العاشر:

ما رووه عن عليّ (علیه السلام) أنّه قال :

«خير النّاس بعد النبيّين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ الله أعلم»(1).

وقد وردت هذه الرواية بعدّة ألفاظ ؛ ويرد عليها أنّ أبا بكر نفسه يعترف بأنّه لم يكن خير الناس؛ فقد صرّح بقوله :

«وليتكم ولست بخيركم»

وهذا مثبَّت في طبقات ابن سعد(2)، وقال أيضاً:

«أقيلوني فلست بخيركم»(3).

وعليه فلا يمكن الاعتماد على الدليل العاشر .

24 /3 /11.الدليل الحادي عشر:

من أدلّتهم على إمامة أبي بكر : إجماع الصحابة في سقيفة بني ساعدة على خلافته.

والجدير بالذكر هنا أنّ صاحب شرح المقاصد وغيره من كبار علماء الكلام يقولون بأنّا عندما ندّعي الإجماع، فإنّنا لا ندّعي وقوع الإجماع حقيقة. فعندما نقول: قام الإجماع على خلافة أبي بكر ، فليس المعنى أنّ القوم كلّهم كانوا مجمعين وموافقين على إمامته، بل إنّ إمامته قد وقعت في الحقيقة ببيعة عمر فقط، وفي السقيفة، وذلك بعد وقوع النزاع بين المهاجرين والأنصار ، ونقله إلى نزاع بين الأنصار الأوس والخزرج(4).

ص: 130


1- كنز العمال، ج 13، ص 8 ؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 351.
2- الطبقات الكبرى، ج 3، ص 139.
3- مجمع الزوائد، ج 5 ،ص 183 ؛ سيرة ابن هشام، ج 2، ص 661؛ تاریخ الخلفاء، ص .71
4- شرح المقاصد، ج 2، ص 298 .

وبناء على هذا الاختلاف بين المسلمين، لا تتمتّع خلافة أبي بكر بأيّ درجة من درجات الإجماع. ناهيك عن مخالفة علماء الشيعة لإمامة أبي بكر؛ فقد استندوا في ذلك على أدلّة عقليّة ونقليّة معتبرة.

24 /4.آية التطهير:
إشارة

تمثّل آية التطهير إحدى أهمّ الأدلّة التي يُعتمد عليها في إثبات عصمة أهل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، والتي يمكن أن يُدلَّل من خلالها على حقانيّة إمامتهم؛ فقد قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في محكم كتابه: « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1).

وبيان الاستدلال بهذه الآية أن يُقال : تدلّ مفردات الآية ومجموع التفاسير التي أدلى بها علماء الفريقين، وما أوردوه في تفنيد الشبهات الملقاة في هذا المجال (2)على ثبوت عصمة أهل البيت (علیهم السلام).

أمّا نصّ الآية الكريمة فينطوي على مجموعة من المفردات المفتاحيّة التي يجب التطرّق إلى بيانها؛ وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: «إنّما»، و«يريد»، و«الرجس»، و«تطهيراً» و«أهل البيت». وإليك فيما يأتي إضاءات دقيقة على معانيها:

24 /4 /1. مفردة «إنّما»:

تدلّ هذه المفردة لغةً على الحصر؛ فعندما يُقال: «إنّما لك عندي درهم»، أو يُقال: «إنّما في الدار زيد» يتبادر إلى الذهن من الجملة الأولى: أنّ لك عندي درهم فقط ؛ ولا غير، ومن الجملة الثانية: أنّ الموجود في الدار هو زيد؛ ولا أحد غيره(3).

ص: 131


1- سورة الأحزاب: 33 .
2- استعنتُ في جمع المباحث التفسيرية لآية التطهير وتنظيمها بجهود الأخ الباحث السيّد عادل هاشمي فخر؛ مماً استدعى التنويه بذلك، فالشكر موصول له، وأسأل الله أن يجزيه عنّي خيراً.
3- لاحظ مجمع مجمع البيان، ج 11، ص 479.

ومن ثمّ : تدلّ مفردة «إنّما » في الآية الكريمة على حصر إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ في إعطائه العصمة لأهل البيت (علیهم السلام) ، واستبعاده الرجس والإثم عنهم؛ دون غيرهم(1).

24/ 4/ 2. مفردة «يريد»:

تدلّ هذه المفردة على الإرادة التكوينيّة لله جَلَّ وَعَلا؛ ذلك لأنّ الإرادة الإلهيّة التشريعيّة في ترك الآثام وتجنّب المعاصي ليست منحصرة بأهل البيت (علیهم السلام) ؛ بل تشمل جميع البشر . والمقصود من الإرادة الإلهيّة التكوينيّة في نفي الإثم والرجس عن أهل البيت (علیهم السلام) ليس هو الجبر التكوينيّ؛ بل هو نوع من اللياقة الذاتيّة والموهبة الإلهيّة والجدارة الاكتسابيّة النابعة من إرادة الشخص نفسه؛ ذلك لأجل أن يكون أسوة وقدوة لكل الناس، والحال هنا مشابه لما يقوم به الإنسان من اجتناب الاحتراق بالنار ؛ فهي حالة نابعة من أعماق وجود الإنسان، ومعارفه، وسائر المنطلقات الفطريّة والطبيعيّة المحيطة به ؛ من دون أن يكون هناك أيّ لون من ألوان الجبر(2).

24 /4 /3. مفردة «الرجس»:

تدلّ هذه المفردة على الآثام والقاذورات. ويوحي هذا اللفظ بهيئة تبعث نفس الإنسان إلى التنفّر والاجتناب(3).

أمّا الألف واللام في هذه الكلمة في ضمن سياق الآية الكريمة فهي ما يُعرف بلام الجنس ؛ أي إنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يريد أن يُبعد جميع ضروب الآثام والرذائل والهيئات الخبيثة عن نفوس أهل البيت (علیهم السلام)، ويزيلها عنهم. ومثل هذه الإزالة لا تجري إلّا مع افتراض العصمة الإلهيّة التي ترعى الإنسان من كلّ ما هو باطل؛ سواء كان

ص: 132


1- لاحظ: التبيان في تفسير القرآن، ج 8 ،ص 340 ؛ الميزان، ج 16، ص 483 .
2- تفسير الأمثل، ج 17، ص 315.
3- المصدر السابق، ص 316 .

على مستوى العقيدة أو العمل . ويرى ابن عباس أنّ مفردة «الرجس» تعني العمل الشيطانيّ القبيح الذي لا يلازمه رضا الله جَلَّ وَعَلا (1).

24 /4/ 4. مفردة «تطهيراً»:

تدلّ هذه المفردة على جعل الشيء طاهراً، وهي - في واقع الأمر - تأكيد لقضية إذهاب الرجس، ونفي الآثام. ويُعدّ ورودها هنا بصيغة المفعول المطلق دالّا على تأكيد آخر على ذات المعنى(2).

24 /4 /5. مفردة «أهل البيت»:

تشير هذه المفردة - باتّفاق علماء الإسلام؛ لا سيّما المفسّرين - إلى أهل بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد ذهب بعضهم إلى اختصاصها بنساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ورأى آخرون أنّها تشمل الرجال والنساء من بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لكن بعضهم جزم بأنّ مفردة «أهل البيت» منحصرة في الخمسة من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ؛ دون غيرهم (3).

أمّا انحصار هذه المفردة في نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهو غير وارد قطعاً؛ فإنّ الضمير في قوله عنكم ضمير مذكّر لا يتناسب مع نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولا يتّجه إرجاعه إليهنّ (4).

ولم تتفق آراء علماء أهل السنّة في هذه النقطة تحديداً؛ فقد ذهب ابن كثير الدمشقيّ مستنداً إلى رواية عكرمة إلى أنّ الآية تنصّ على دخول نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مفهوم أهل البيت؛ لأنّهنّ سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل لا محالة في معنى الآية (5).

ص: 133


1- تفسير الميزان ،ج 16 ،ص 488 ؛ مجمع البيان، ج 11، ص 473؛ تفسير المراغي، ج 22 ، ص 7؛ تفسير السمرقندي، ج 3، ص 50.
2- التفسير الأمثل، ج 17، ص 316.
3- المصدر السابق، ص 317 .
4- تفسير الميزان، ج 16، ص 484 .
5- تفسير القرآن العظيم، ج 3، ص 450.

ورأى آخرون أنّ هذه المفردة لا تنحصر بنساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بل تشمل أيضاً: عليّاً، وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)(1).

لكنّنا نجد في بعض الأحاديث المرويّة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما يخالف ذلك؛ فقد روت أمّ سلمة عنه -(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - وهي من نسائه - أنّها سألته قائلةً:

«فأدخلت رأسي البيت، وقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنَّك إلى خير »(2).

أمّا علماء الإماميّة فذهبوا إلى أنّ أهل البيت لفظ مختصّ بالخمسة من أهل الكساء ، ومنحصر بهم. وقد استند الشيخ الطوسيّ (460ه) إلى حديث رواه أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأمّ سلمة ورد فيه أنّ الآية قد نزلت في شأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)، مفنّداً بذلك رواية عكرمة (3).

وكتب الشيخ الطبرسيّ (548ه) ناقلاً عن ابن عباس:

«الرجس عمل الشيطان، وما ليس لله فيه رضى. والبيت التعريف فيه للعهد، و المراد به بيت النبوّة والرسالة... وقال أبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع، وعائشة، وأمّ سلمة: إنّ الآية مختصّة برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين (علیهم السلام)»(4).

̧ وقد أجمع مفسّرو الإماميّة على هذا الرأي(5).

ص: 134


1- الجامع لأحكام القرآن، ج 14، ص 183.
2- مجمع البیان، ج 21 -22، ص 476 .
3- التبيان في تفسير القرآن، ج 8، ص 339.
4- مجمع البیان، ج 21 -22 ، ص 473 .
5- زبدة التفاسير، ج 5، ص372؛ تفسير القرآن العظيم ،ص 400 ؛ تفسير كنز الدقائق، ج8، ص 155؛ تفسير نور الثقلين، ج4، ص 270؛ تفسير الصافي، ج4، ص 187.
24/ 5.شبهات العامّة على آية التطهير :
إشارة

استعرض أبناء العامّة من أهل السنّة بعض الشبهات على آراء علماء الإمامية؛ نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:

24 /5 /1. الشبهة الأولى:

المقصود من مفردة «أهل البيت »في آية التطهير نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ ذلك لأنّ هذا اللفظ ورد في وسط الآية التي تحدّثت عنهنّ.

وقد أجابوا على ذلك بنقاط :

أوّلاً: إنّ آية التطهير - استناداً على ما صرّحت به بعض الروايات المعتبرة - ليست من جملة آيات نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولم تنزل في شأنهنّ، فمن بين سبعين رواية تحدّثت عن هذه الآية لا وجود لرواية واحدة تنصّ على أنّ الآية نزلت في ذيل آيات نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ بل إنّ نفس عكرمة الذي قال باختصاص آية التطهير بنساء النبیّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ لم يقل أنّ هذه الآية قد نزلت ضمن آيات نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ! بل على العكس تماماً؛ فقد دلّت الروايات المعتبرة على اختصاص هذه الآية بالخمسة من أصحاب الكساء (علیهم السلام)، وأنّها نزلت في شأنهم(1).

ثانياً: يُستخدم ضمير «كم» للجمع المذكّر، ومعلوم أنّ «نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) » جمع مؤنث. بناءً على ذلك، إن كان مراد الآية نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لوجب أن تكون الكلمات ذات الضمائر على نحو «عليكنّ» و «يطهّركنّ»؛ وليس بصيغة المذكّر .

ثالثاً: تدلّ الروايات التاريخيّة على امتلاك كل واحدة من نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بيتاً خاصّاً بها؛ فلو كنّ هنّ المقصودات بالآية لوجب أن تأتي كلمة «البيت» جمعاً؛ لا مفرداً، ولكانت بصيغة «أهل البيوت »؛ وليس «أهل البيت».

ص: 135


1- الميزان ،ج 16، صفحه 487.
24 /5 /2.الشبهة الثانية :

روى واثلة بن أسقع أنّه كان حاضراً في بيت أمّ سلمة عندما نزلت آية التطهير على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيتها، فسأل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : هل أنا من أهلك ؟ فأجابه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «وأنت من أهلي »(1).

وبناءً على ذلك، إن كان ابن أسقع من أهل بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فمن الأولويّة بمكان أن تكون نساؤه من أهل بيته أيضاً.

وقد أجابوا على ذلك بقولهم:

أوّلاً: استبدلت جملة ردّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في طريق آخر لهذه الرواية بجملة أخرى لم ترد في هذا الطريق؛ حيث ورد في الطريق الآخر أنّ جواب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على سؤال واثلة أن غطّى علياًّ وفاطمة الحسن والحسين (علیهم السلام) بكسائه، وقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، أهل بيتي أحقّ»(2).

ثانياً: لو سلّمنا بالرواية من هذا الطريق؛ فإنّها أيضاً غير وافية بما يرجونه منها، فإنّ المعنى عندئذٍ أنّ واثلة من أهل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ لا من أهل بيته، و«أهل النبيّ» مفهوم عام يُطلق على الزوجة والولد والقوم والعشيرة، بل ويُطلق على الأتباع أيضاً(3). .

24 /5 /3. الشبهة الثالثة:

لو كانت آية التطهير تدلّ على عصمة أهل البيت (علیهم السلام) فإنّ آية نفي الحرج تدلّ أيضاً على عصمة المسلمين الذين شاركوا في غزوة بدر ؛ قال عَزَّ وَجَلَّ: «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(4).

ص: 136


1- تفسير الطبريّ، ج 22، ص 12.
2- تفسير ابن كثير، ج 5، ص 453 .
3- المصباح المنير، ج 1، ص 37.
4- سورة المائدة: 6.

فإنّ إتمام النعمة الإلهيّة عليهم لا يحصل من دون أن يكونوا محفوظين من شرّ الشيطان، وارتكاب المعاصي(1).

وقد أجابوا على هذه الشبهة بعدم اختصاص هذه الآية بأصحاب بدر؛ دون غيرهم، فالآية مرتبطة بتشريع الوضوء والغسل والتيمم. ولهذا، فهي تشمل جميع المسلمين بالإرادة التشريعيّة؛ إذ أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يُذهب عن المسلمين الحرج وعن قلوبهم الهمّ؛ وذلك حينما يستفيقوا من نومهم مجنبين؛ فأنزل عليهم الغيث ليتطهّروا من جنابتهم، وكما تسبّب هطول الغيث في إزالة العناء الروحي عن كاهل المسلمين فاستطاعوا أن يتطهّروا ويقيموا صلاتهم، تسبّب أيضاً في تثبيت رمال المعسكر ، فأضحت خطواتهم أكثر ثباتاً(2).

24 /6.آية الولاية
إشارة

تمثل آية الولاية دليلاً محكماً في إثبات إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) وإثبات ولايته وخلافته المباشرة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فقد قال الله عزّ وجلّ في هذه الآية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(3).

أما مفردة «إنّما» فهي أداة تدلّ على الحصر، وأمّا مفردة «وليّكم» فهي تدلّ على التكفّل بشيء والأخذ بزمام أمره؛ كما ورد في حديث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «عليّ منّي وأنا من عليّ؛ وهو وليّكم بعدي»(4).

وهنا، يرد السؤال : تنطوي مفردة «الوليّ» أو «الولاية» على معانٍ متعدّدة، لكنّ تعدّد المعاني فيها هل هو من باب الاشتراك اللفظيّ، أم الاشتراك المعنوي؟

ص: 137


1- تفسير روح المعاني، ج 22 ،ص 26 .
2- تفسير الطبريّ، ج 9 ،ص 229.
3- سورة المائدة: 55 .
4- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 89 ؛ مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ص 171 ؛ كنز العمال، ج 11، ص 603 ح32913.

والجواب:

إذا كانت هذه المفردة من المشترك المعنويّ فهذا يعني أنّها تستخدم في معنى واحد على الدوام ؛ وهو معنى القيموميّة وتدبير أمور الآخرين.

فعندما يُقال مثلاً: «زيد وليّ عمرو»؛ فهذا يعني أنّ زيداً هو القيّم على عمرو، : وهو المدبّر لأمره. ويُطلق على السلطان أنّه ((وليّ»؛ لأنّه تكفّل أمور المملكة، وأخذ بزمام إدارتها ومسؤولياتها.

أما إذا كانت مفردة «الولاية »من المشترك اللفظي فهذا يعني أنّ اللفظ ينطوي على معان كثيرة مختلفة. وفي هذه الحالة نقول : أحد هذه المعاني هو التقدّم والأولويّة على الجميع فيه، وهذا هو الذي يمكن الوصول إليه من خلال أخذ قرينة أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من عليّ (علیه السلام) وأنّ عليّاً (علیه السلام) من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وتوجد في الآية المباركة مجموعة من القرائن والشواهد التي تُثبت أنّ مفردة «الولاية» وردت بالمعنى الذي ذكرته الإماميّة؛ أي: الأولويّة والأفضليّة والأهليّة لتولّي أمور المسلمين والأخذ بزمامها ؛ لا ما ذهب إليه الفضل بن روزبهان في ردّه على العلّامة الحلّي (726ه) عند الاستدلال بهذه الآية؛ إذ ادّعى أنّها بمعنى النصرة والعون(1).

وقد ورد في شأن نزول الآية : أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا علم بتصدّق عليّ (علیه السلام) بخاتمه على الفقير؛ رفع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، طرفه إلى السماء، وقال: «اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: «قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا »، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا» ، وإنّي محمّد نبيّك وصفيّك؛ اللّهمّ فاشرح

ص: 138


1- إحقاق الحقّ، ج 2، ص 408 .

لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً، أشدد به ظهري. قال أبو ذر (رضی الله عنه) : فما استتم دعاءه، حتى نزل جبريل (علیه السلام) من عند الله عزّ وجلّ ، قال : يا محمّد إقرأ :

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1).

24 /6 /1. شبهة صيغة الجمع:

استعرض أهل السنّة إشكالاً على ما ذهبت إليه الإماميّة من الاستدلال بالآية الكريمة على الإمام عليّ (علیه السلام) ؛ وهو أنّ المخاطب في آية الولاية جمع، وعليّ (علیه السلام) فرد.

والجواب على ذلك أن يُقال:

ورد في آيات أخرى أيضاً إطلاق لفظ الجمع وإرادة المفرد؛ منها - على سبيل المثال: آية المباهلة؛ فقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيها :

«وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ»(2).

وقد برّر الزمخشريّ استخدام الجمع مكان المفرد؛ فكتب يقول :

«جيء به على لفظ الجمع ؛ وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ،ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ، والإحسان، وتفقد الفقراء»(3).

هذا، وقد ذهب العلّامة السيّد شرف الدين إلى أنّ استعمال الجمع وإرادة المفرد في هذه الآية ضرب من ضروب الخطّة الإلهيّة للحفاظ على القرآن الكريم وصيانته من التحريف على يد المنافقين وأعداء الدين وأعداء الإمام عليّ (علیه السلام)(4).

ص: 139


1- سورة المائدة: 55. تفسير الفخر الرازيّ، ج 11، ص 25.
2- سورة آل عمران: 61 .
3- تفسير الكشّاف ،الزمخشريّ، ج1، ص 649.
4- آية الولاية، السيّد عليّ الميلانيّ، ص: 35.
24/ 7. حديث الغدير :

روى أحمد بن حنبل في مسنده بسند صحيح عن زيد بن أرقم أنّه قال:

نزلنا مع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بواد يقال له: وادي خم. فأمر بالصلاة فصلّاها بهجير .قال فخطبنا وظُلّل لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بثوب على شجرة سمر من الشمس، فقال: ألستم تعلمون - أو : ألستم تشهدون - أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه قالوا: بلى قال: «فمن كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه ،اللّهمّ عاد من عاداه ووال من والاه»(1).

وروى النسائي في سننه بسند صحيح عن أبي الطّفيل عن ابن أرقم أنّه قال:

«لّما رجع النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حجّة الوداع، ونزل غدير خم أمر بدوحات فأقمن، ثمّ قال: «كأنّي دعيت فأجبت ، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، ثمّ قال: إنّ الله مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن، ثمّ أخذ بيد عليّ (علیه السلام) ، فقال : من كنت وليّه فهذا وليّه اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه »فقلت لزيد: سمعته من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأنّه ما كان في الدرجات أحد ، إلّا رآه بعينه، وسمعه بأذنيه»(2).

وهنا تجدر الإشارة إلى بعض النقاط المهمة؛ وأبرزها:

أوّلاً: :ورد حديث الغدير في صحيح مسلم، ومسند أحمد، وكثير من المصادر الحديثية لأهل السنّة.

ثانياً: قبل حادثة الغدير نزلت الآية الشريفة التي يقول فيها عَزّ وَجَلَّ:

«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ »(3).

ص: 140


1- مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ص 1 -5 حديث 18838.
2- فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل الشيباني ،ص 15، الحديث 45 ؛ خصائص أمير المؤمنين (علیه السلام)، عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ،ص 96، حديث 79.
3- سورة المائدة: 67 .

ومن بعد أن أتمّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الخطبة أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى قوله :

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1).

ثالثاً: عندما انتهت خطبة الغدير وبدأ الناس يبايعون أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) جاء أعرابيّ وسأل أن يُنزِّل الله عليه العذاب؛ فنزل قوله عَزَّ وَجَلَّ: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ»(2)؛ وحلّ به العذاب عاجلًا في حينه (3).

رابعاً: أكثر من مئة وعشرين صحابيّاً بين رجل وامرأة رووا حديث الغدير؛ وقد نقل محدّثو أهل السنّة في كتبهم هذا الحديث بسلاسل من السند المعتبر عندهم. وبلغ عدد رواة الحديث من التابعين أضعاف عدد رواته من الصحابة. وعليه، فإنّ هذا الحديث متواتر. وقد أذعن لتواتره كوكبة من علماء أهل السنّة؛ نذكر منهم: جلال الدين السيوطيّ، والكتّاني، والشيخ علي المتقي الهندي، وشمس الدين الذهبي، والحافظ الكبير شمس الدين الجَزَري، وغيرهم(4).

24/ 8.حديث الثقلين :

يمثّل حديث الثقلين أحد أبرز الأدلّة على إمامة أهل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد

ص: 141


1- سورة المائدة: 3 .
2- سورة المعارج: 1 .
3- شأن نزول الآيات المباركات هو أنّه لما شاع ما قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في يوم غدير خم في عليّ (علیه السلام) وطار في البلاد وبلغ الحارث بن النعمان الفهري أتى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على ناقة له فنزل بالأبطح عن ناقته، وأناخها، فقال: «يا محمّد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله، فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمس فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة، فقبلنا منك وأمرتنا أن نصوم شهر فقبلنا منك وأمرتنا بالحجّ، فقبلنا منك، ثمّ لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمّك تفضله علينا وقلت من كنت مولاه فعليّ مولاه فهذا منك أم من الله؟» فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «والذي لا إله إلّا هو إن هذا من الله». فولّى الحارث بن النعمان وهو يريد راحلته ويقول: اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله تعالى بحجر، فسقط على هامته، وخرج من دبره، وأنزل الله: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ *«لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ».
4- حديث الغدير ،السيّد عليّ الميلانيّ.

نقله محدّثو أهل السنّة بأسانيد صحيحة؛ فقد روى الترمذيّ في صحيحه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضی الله عنه) عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«يا أيها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(1).

وروى أيضاً في صحيحه بسند آخر عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال :

«إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2).

وقد نقل حديث الثقلين المئات من أئمّة الحديث وحفظته؛ من جملتهم: مسلم بن الحجّاج، وأحمد بن حنبل، والترمذيّ وأبو داوود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم النيسابوريّ، والطبريّ، والطبرانيّ، كما رواه ما يقارب الأربعين بين رجل وامرأة من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

ويدلّ حديث الثقلين بوضوح على أعلميّة الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) ، كما يدلّ أيضاً على وجوب اتّباع الأمة لهم في جميع الشؤون الدينيّة والدنيويّة(3).

24/ 9.حديث الولاية

روى علماء الفريقين عن بعض أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ وهم: الإمام عليّ (علیه السلام) والإمام الحسن (علیه السلام)، وعبدالله بن عبّاس وأبو ذر الغفاري، وأبوسعيد الخدري، والبرّاء بن عازب، وعمران بن حصين ،وأبوليلى الأنصاري، وبريدة بن حصيب،

ص: 142


1- صحيح الترمذيّ، ج 6، ص 124 ،حديث 3786.
2- المصدر السابق ،ص 125، حدیث 3788 .
3- حديث الثقلين ،السيّد علي الميلانيّ.

وعبدالله بن عمر، وعمرو بن العاص، ووهب بن حمزة، عن النبيّ الأکرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال مخاطباً أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام): «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1).

وقد روى عبدالله بن عباس وبريدة بن حصيب ،وعمران بن حصين حديث الولاية أكثر من غيرهم.

كما نقل حديث الغدير؛ كبار أئمة الحديث وحفّاظه وجهابذته من أهل السنّة في كتبهم ؛ من بينهم : أبو داؤد الطيالسي؛ صاحب المسند ، أبوبكر بن أبي شيبة؛ صاحب المصنّف، أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة وصاحب المسند ،أبوعيسى الترمذي؛ صاحب الصحيح، والنسائي؛ صاحب السنن ،أبو يعلي الموصلي؛ صاحب المسند، أبوجعفر الطبري؛ صاحب كتابي تاريخ الطبري وتفسير الطبري، أبوحاتم بن حبّان؛ صاحي الصّحيح، أبو القاسم الطبرانيّ؛ صاحب المعجم الكبير والأوسط والصغير، الحاكم النيسابوريّ، صاحب المستدرك، أبوبكر بن مردويه؛ صاحب التفسير، أبو نعيم الأصبهاني؛ صاحب حلية الأولياء وغيرها من الكتب الخطيب البغداديّ؛ صاحب تاریخ بغداد ابن عبدالبرّ ؛ صاحب الاستيعاب ،ابن عساكر ؛ صاحب تاريخ مدينة دمشق، ابن الأثير الجُزُري ،صاحب أسد الغابة، وضياء المقدسي؛ صاحب المختارة، البغوي؛ صاحب مصابيح السّنّة وتفسير معالم التّنزيل ،الحافظ شمس الدين الذهبي؛ صاحب الكتب المشهورة كتهذيب التهذيب ،ابن حجر العسقلاني؛ صاحب فتح الباري في شرح صحيح البخاري والإصابة في معرفة الصحابة وغيرها من الكتب المشهورة، القسطلانيّ؛ صاحب كتاب إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري، المتّقي الهندي ،صاحب كنز العمّال، الحافظ محمّد بن يوسف الصالحي؛ صاحب السّير الشّاميّة، ابن حجر الهيثميّ المكي؛ صاحب الصواعق المحرقة، الملّا علي قاري الهروي؛ صاحب مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ،عبدالرؤوف المنّاوي؛ صاحب فيض القدير في شرح الجامع الصغير، علّامة بلاد الهند والمحدّث الكبير شاه وليّ الله

ص: 143


1- مسند أبي داوود ،ص 360، حديث 2752.

الدهلوي؛ صاحب الكتب الكثيرة ومؤسّس المدرسة المعروفة في دهلي بالهند.

والنصّ الكامل للرواية بأسنادها المختلفة هو على النحو الآتي:

أوّلاً: روى أبو داؤد الطيالسي في كتابه المسند عن ابن عباس أنّ نبيّ الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال مخاطباً عليّاً (علیه السلام): أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1).

ثانياً: روى الحاكم النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عبّاس، عن نبيّ الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

«أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة »(2).

ثالثاً: روى أحمد بن حنبل في كتابه المسند عن ابن عبّاس، عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «أنت وليّي في كلِّ مؤمن بعدي »(3).

رابعاً: روى ابن أبي شيبة وأبو جعفر الطبريّ؛ بسند عن عمران بن حصين؛ أنّه قال :بعث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سرية (السرية قطعة من الجيش) واستعمل عليها علياً، فغنموا، فصنع علي شيئاً فأنكروه، وفي لفظ : فأخذ عليّ من الغنيمة جارية - فتعاقد أربعة من الجيش إذا قدموا على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنْ يُعلموه، وكانوا إذا قدموا من سفر بدأوا برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فسلّموا عليه ونظروا إليه ثمّ ينصرفون إلى رحالهم، فلمّا قدمت السريّة سلّموا على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله؛ ألم تر أنّ عليّاً (علیه السلام) قد أخذ من الغنيمة جارية، فأعرض عنه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ثمّ قام الثاني فقال مثل ذلك، فأعرض عنه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ثمّ قام الثالث فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ قام الرابع فأقبل إليه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يُعرَف الغضب في وجهه؛ فقال: «ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ عليّ منّي وأنا من عليّ، وعليّ وليّ كلّ مؤمن بعدي»، وكذا الحديث في المسند لأحمد بن حنبل وفي آخره: «فأقبل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على

ص: 144


1- مسند أبي داوود ص 360، شماره 2752 .
2- المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 134.
3- مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 545، ذیل حدیث 3052 .

الرابع وقد تغيّر وجهه فقال : «دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي »(1).

24 /10. حديث اللوح :

يمثّل حديث اللوح أحد الأدلّة النقليّة لإثبات الإمامة الخاصّة؛ واللوح عطية إلهية للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمناسبة ميلاد سبطه الحسين (علیه السلام)، أخذها فأعطاها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لابنته فاطمة (علیها السلام) .ويدلّ هذا الحديث على إمامة الأئمة الإثني عشر. وقد ورد في الحديث:

عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) (علیه السلام) قال : قال أبي الجابر بن عبد الله الأنصاري «إنّ لي إليك حاجة فمتى يخفّ عليك أن أخلو بك فأسألك عنها»، فقال له جابر: «أيّ الأوقات أحببته فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمّي فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وما أخبرتك به أمّي أنّه في ذلك اللوح مكتوب؟» فقال جابر: «أشهد بالله أنّي دخلت على أمّك فاطمة (علیها السلام) في حياة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهنيتها بولادة الحسين (علیه السلام) ورأيت في يديها لوحاً أخضر، ظننت أنّه من زمرّد ورأيت فيه كتاباً أبيض، شبه لون الشمس فقلت لها بأبي وأمّي يا بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما هذا اللوح؟» فقالت: «هذا لوح أهداه الله إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي؛ وأعطانيه أبي ليبشّرني بذلك»، قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة (علیها السلام) فقرأته واستنسخته »، فقال له أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي» قال : نعم فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج صحيفة من رق، فقال: يا جابر انظر في كتابك لأقرأ [أنا] عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه أبي فما خالف حرف حرفاً، فقال جابر: «فأشهد بالله أنّي هكذا رأيته في اللوح مكتوباً: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمّد نبيّه ونوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظّم يا محمّد أسمائي واشكر

ص: 145


1- مسند أحمد، ج 4، ص 438.

نعمائي ولا تجحد آلائي، إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا ،قاصم الجبارين ومديل المظلومين وديّان الدين ،إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا، فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي، عذّبته عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين، فإيَّاي فاعبد وعليّ فتوكَّل إنّي لم أبعث نبيّاً فأكملت أيامه وانقضت مدّته إلّا جعلت له وصيّاً وإنّي فضّلتك على الأنبياء وفضّلت وصيّك على الأوصياء وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين ،فجعلت حسناً معدن علمي، بعد انقضاء مدّة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامّة معه وحجّتي البالغة عنده ،بعترته أثيب وأعاقب، أولهم عليّ سيد العابدين وزين أوليائي الماضين، وابنه شبه جده المحمود؛ محمّد الباقر علمي والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر ،الرادّ عليه كالرادّ عليّ، حقّ القول مني لأكرمنّ مثوى جعفر ولأسرّنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، أتيحت بعده موسى فتنة عمياء حندس لأنّ خيط فرضي لا ينقطع وحجّتي لا تخفى وأنّ أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي ومن غير آية من كتابي فقد افترى عليّ، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى ،عبدي وحبيبي وخيرتي في عليّ وليّي وناصري ومن أضع عليه أعباء النبوّة وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي حق القول منّي لأسرنّه بمحمّد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه فهو معدن علمي وموضع سرّي وحجّتي على خلقي لا يؤمن عبد به إلّا جعلت الجنّة مثواه وشفّعته في سبعين من أهل بيته كلّهم قد استوجبوا النار ، وأختم بالسعادة لابنه علي وليّي وناصري والشاهد في خلقي وأميني علي وحیي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن وأكمل ذلك بابنه «م ح م د » رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيّوب؛ فيُذَلّ أوليائي في زمانه و تتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوسُهم الترك والديلم، فيُقتَلون ويُحرّقون ويكونون خائفين، مرعوبين، وجلين تصبغ الأرض بدمائهم ويفشو الويل والزنا في نسائهم. أولئك أوليائي حقاً، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس وبهم أكشف

ص: 146

الزلازل وأدفع الآصار والأغلال أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. قال عبد الرحمن بن سالم : قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلّا هذا الحديث لكفاك، فصنه إلّا عن أهله»(1).

وراوي حديث اللوح هو جابر بن عبدالله الأنصاري (رضی الله عنه) ؛ وهو آخر صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفاةً؛ حيث توفّي (رضی الله عنه) عن أربع وتسعين سنة من العمر؛ وكان ذلك بين عامي 74 و 78 للهجرة، قبل استشهاد الإمام الباقر (علیه السلام)؛ وقد نال (رضی الله عنه) شرف رواية هذا الحديث إلى الإمام الباقر (علیه السلام) ، على الرغم من أنّ الإمام الباقر (علیه السلام) كان عالماً به بل إنّ اللوح نفسه في يده.

وحديث اللوح هو أحد الأحاديث المعتبرة والمعتمدة التي رواها الرواة الثقات، كما أنّه ورد في كتب الإماميّة المعتبرة. وقد أورد الكلينيّ في أصول الكافي مجموعة روايات تحكي سؤال أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) إيّاه عن مصحف فاطمة (علیها السلام) فأجابهم وأكّد لهم وجوده(2).

وقد قال الطبرسي في «إعلام الورى »أنّ بعض علماء أهل السنّة قد أشاروا إلى حديث اللوح إشارات طفيفة(3). وقد وردت هذه الرواية في مصادر عديدة؛ ورواه عدد من أساطين الحديث؛ منهم:

أوّلاً: رواه الشيخ الكلينيّ (329ه) في «الكافي» في باب : «ما جاءَ في الاثني عشر والنصّ عليهم (علیهم السلام)» : بسنده إلى محمّد بن يحيى ومحمد بن عبد الله عن عبدالله بن جعفر عن الحسن بن ظريف وعليّ بن محمّد عن صالح بن أبي حماد عن بكر بن صالح عن عبدالرحمن بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبدالله»(4).

ص: 147


1- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 527 و 528 ،حديث 3؛ الاحتجاج على أهل اللجاج، الطبرسيّ، ج 1، ص 67.
2- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 241.
3- إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسيّ، ص 258.
4- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 527.

ثانياً: رواه الشيخ الصدوق في «كمال الدين وتمام النعمة» تحت عنوان «باب ذكر النصّ على القائم (علیه السلام) في اللوح الذي أهداه الله عزّ وجل إلى رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ودفعه إلى فاطمة (علیها السلام) فعرضته على جابر بن عبدالله الأنصاري حتى قرأه وانتسخه واخبر به أبا جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السلام)»(1) ، كما رواه أيضاً في «عيون أخبار الرضا»، تحت عنوان «باب النصوص على الرضا (علیه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام) »(2).

ثالثاً : رواه الشيخ المفيد في «الاختصاص»(3).

رابعاً : رواه النجاشي (450ه) في رجاله(4).

خامساً: رواه الشيخ الطوسيّ في كتابه «الغيبة»(5).

سادساً : رواه الطبرسيّ (المتوفى في القرن السادس) في «الاحتجاج» في باب : «ذكر تعيين الأئمة الطاهرة (علیهم السلام) بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واحتجاج الله تعالى بمكانهم على كافة الخلق »(6).

سابعاً: رواه تاج الدين الشعيري ( من أعلام القرن السادس) في «جامع الأخبار» في الفصل السابع تحت عنوان «الفصل السابع في فضائل الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام)»(7).

ثامناً : رواه الشيخ الديلمي (841ه) في «إرشاد القلوب»، في باب «خبر اللوح الذي كان عند جابر »(8).

ص: 148


1- كمال الدين وتمام النعمة الصدوق، 308- 311.
2- عيون أخبار الرضا ،الصدوق، ج اول ص 42 -45.
3- الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 210 .
4- رجال النجاشي، ص 360 .
5- الغيبة ، الطوسیّ ،ص 62.
6- الاحتجاج على أهل اللجاج، الطبرسي، ج، ص 67.
7- جامع الأخبار، تاج الدين الشعيري، ص 17.
8- إرشاد القلوب، ص 290 - 292.

تاسعاً :كما تناول ذكره على نحو مجمل ثلّة آخرين من كبار العلماء في مصنّفاتهم الروائيّة؛ من قبيل: تأويل الآيات، وتقريب المعارف، والفضائل للفضل بن شاذان، و مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب، وكشف الغمّة، والفصول المختارة، والصراط المستقيم؛ فقد ذكرو هذه الرواية الشريفة مسندة في بعضها وغير مسندة في الآخر(1).

ودلالة هذا الحديث في إثبات إمامة الأئمة الإثني عشر (علیهم السلام)واضحة وبيّنة.

قال الإمام الصادق (علیه السلام) في روايته لهذا الحديث :

«فنظر جابر في نسخته؛ فقرأه عليه أبي (علیه السلام) فوالله ما خالف حرف حرفاً». وقال أبو بصير لعبد الرحمن بن مسلم وبعد أن روى له حديث الإمام الصادق (علیه السلام) : «لو لم تسمع في دهرك إلّا هذا الحديث لكفاك فصنه إلّا عن أهله»(2).

وهذا الحديث الشريف يخبرنا بجملة من القضايا ،منها على سبيل المثال: وصاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وإمامته المباشرة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وشهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، وبعض الأحداث المعاصرة لحياة الأئمّة (علیهم السلام)؛ من قبيل: علم الإمام، كيفية استشهاد الإمام، محلّ استشهاد الإمام وشكل تعامل المخالفين والمعاندين مع إمام زمانهم، وكون الإمام الباقر (علیه السلام) باقراً لعلوم الأوّلين والآخرين، وهلاك المرتابين في إمامة الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) وقيام فتنة عمياء حندس بعد الإمام الكاظم (علیه السلام) ، وإمامة الإمام عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) واستشهاده (علیه السلام) على يد ظالم مستكبر (المأمون)، والإشارة إلى محلّ دفنه في مدينة طوس في جنب هارون الملعون، وسرور الإمام الرضا (علیه السلام) وقرّة عينه بابنه محمّد الجواد (علیه السلام) والبشرى بالوجود المبارك للإمام المهدي (علیه السلام).

وقد تطرّق الحديث أيضاً إلى بيان اشتمال الإمام صاحب العصر والزمان (علیه السلام) علی أوصاف الأنبياء، كما استعرض خصوصيّاته الظاهريّة والمعنويّة له (علیه السلام)، وعرض أيضاً

ص: 149


1- جامع الأخبار ،الشعيريّ ، ص 18 ؛ بحار الأنوار ،المجلسيّ ، ج ،36، ص 195؛ الغيبة، الطوسيّ، ص 143.
2- كمال الدين ،الصدوق، ج 1، ص 311.

الوضع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ لعصر ظهور صاحب العصر (علیه السلام) واستعرض الحوادث والإصلاحات الاجتماعيّة التي ستقع بعد ظهور الإمام الغائب (علیه السلام)(1).

24 /11. أحاديث الأئمة الاثني عشر(علیهم السلام):
إشارة

رُويت مجموعة من الأحاديث عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تتحدّث عن الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام)؛ وهي أحاديث وصفت بأنّها معتبرة من جهة السند، وتامّة من ناحية الدلالة على إمامة الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام). وقد وردت بعض هذه الأحاديث في الصحاح الستة لأهل السنّة ومسانيدهم(2).

فقد روى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن سمرة أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «يكون اثني عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: كلّهم من قريش »(3).

وروى مسلم في صحيحه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حديث الأئمّة الاثني عشر (علیهم السلام) بثمانية طرق وبألفاظ مختلفة؛ غير أنّها متفقة جميعاً في «اثني عشر» و «كلّهم من قريش»؛ منها: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً ... كلّهم من قريش »(4).

«إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي له منهم اثنا عشر خليفة... كلّهم من قریش »(5).

«لايزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش »(6).

ص: 150


1- أتقدّم بالشكر الجزيل إلى الأخ الباحث السيّد صادق الموسويّ الجزائريّ لما قدّمه لي من معونة في جمع بعض المعلومات المرتبطة بهذا الحديث الشريف.
2- أشكر الأخ الباحث سعيد لفته پور لما قام به من جمع لأحاديث وأخبار الأئمّة الاثني عشر فجزاه الله خيراً.
3- صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، حدیث 1148؛ سنن الترمذي، ج 4، ح 2223؛ مستدرك الحاكم ،ج 3، ص 715، ح .6586
4- صحیح مسلم ،كتاب الإمارة، باب 1.
5- صحیح مسلم ،كتاب الإمارة، باب 1.
6- المصدر السابق.

«لا يزال هذا الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(1).

وروى أبو داوود السجستانيّ في سننه عن جابر بن سمرة أنّه قال:

سمعت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول : لا يزال هذا الدين قائماً حتّى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم تجتمع عليه الأمة، فسمعت كلاماً من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم أفهمه؛ قلت لأبي ما يقول؟ قال كلّهم من قريش»(2).

كما روى الترمذي في سننه، بسند عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«يكون من بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش »(3).

وروى أحمد بن حنبل أيضاً في سند عن جابر بن سمرة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال:

«يكون لهذه الأمّة اثنا عشر خليفة»(4).

وروي الحاكم النيسابوري في مستدركه على الصحيحين عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفه كلّهم من قريش »(5).

وروى السيوطيّ في تاريخ الخلفاء عن جابر بن سمرة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لا يزال هذا الأمر عزيزاً يُنصرون على من ناوأهم عليه اثنا عشر خليفة كلّهم من قریش»(6).

ص: 151


1- المصدر نفسه.
2- سنن أبي داوود ،كتاب المهدي، ج، حديث 4279 .
3- سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223 .
4- مسند أحمد بن حنبل، ج 5 ،ص 90 ،والرواية عن جابر بن سمرة في الحديث رقم 33 .
5- المستدرك على الصحيحين ،الحاكم، ج 3، ص 68.
6- تاريخ الخلفاء ،جلال الدين السيوطي، ص 10 .

كما روى الخطيب البغداديّ في كتابه تاريخ بغداد بسند عن طريق جابر بن سمرة عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»(1).

وروي المتقي الهندي في كتابه كنز العمّال عن أنس عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال:

«لايزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها »(2).

وقد ذكر الشيخ الحرّ العاملي في كتابه إثبات الهداة مئتين وثمانية وسبعين حديثاً يستعرض الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام) منقولاً عن طرق أهل السنّة.

وبناء على هذا، فإنّ وجود هذا الكمّ الهائل من طرق السند لهذا الحديث في المصادر الحديثيّة لأهل السنّة يؤكّد صحة هذا الحديث، ويشيّد تواتراً، أو استفاضة له؛ بلا أدنى شكّ. فعندما يُخبر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالغيب عن إمامة اثني عشر أميراً بهذا النحو؛ فهذا يدلّ على إمامة أهل بيته (علیهم السلام)؛ لأنّ الأمراء الذين تعاقبوا على كرسيّ السلطة على طول التاريخ الإسلاميّ قد فاق عددهم الاثني عشر، فيصبح من الواضح حينها أنّ المقصود من الأمراء هاهنا خلفاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالحقّ .

وإنّ هذا الخبر يتحدّث عن الأمة الإسلاميّة من بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإلى يوم القيامة؛ لذا وجب أن يكون عمر أحدهم أطول من المعتاد حتى يتحقّق مفاد الحديث وتستطيل مدّة الأمراء إلى يوم القيامة.

24/ 11 /1. تفسير علماء العامّة لأحاديث الاثني عشر:

تورّط علماء أهل السنة في بيان مصداق الأمراء الاثني عشر المذكورين في الرواية،

ص: 152


1- تاریخ بغداد ،الخطيب البغداديّ، ج 14، ص 353 .
2- كنز العمال ،المتّقي الهنديّ، ج 12، ص 34 .

مما أدّى إلى تفسيرهم هذا الحديث بطرق غريبة وعجيبة؛ فقد نقل ابن حجر العسقلاني شيئاً من أقوال علمائهم فيه؛ حيث قال:

«قال ابن بطال عن المهلب: لم ألقَ أحَداً يقطع في هذا الحديث؛ يعني بشيء معيّن»(1).

ونقل أيضاً قول أبي الحسين بن المنادي (336ه) في الجزء الذي جمعه في المهدي، حيث يحتمل في معنى حديث «يكون اثنا عشر خليفة » أن يكون هذا بعد المهديّ(علیه السلام) الذي يخرج في آخر الزمان(2) . ونقل ابن حجر العسقلاني قول ابن الجوزي والخطابي (388ه) في هذا الحديث، حيث قالا:

«فإنّه أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه وأنّ حكم أصحابه مرتبط بحكمه. فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنّه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية ... ثمّ ينتقل إلى صفة أخرى أشدّ من الأولى، وأوّل بني أمية يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدّتهم ثلاثة عشر ، ولا يُعدّ عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لكونهم صحابة فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته، أو لأنّه كان متغلّباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير ؛ صحّت العدّة، وعند خروج الخلافة من بني أميّة وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة»(3).

وذكر العسقلاني قول القاضي عياض (544ه) حيث قال :

«ويحتمل أن يكون المراد أن يكون (الاثنا عشر) في مدّة عزّة الخلافة وقوة الإسلام و استقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة، ويؤيّده قوله في بعض الطرق (كلّهم تجتمع عليه الأمة) ؛ وهذا قد وُجد فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسيّة فاستأصلوا أمرهم»(4).

ص: 153


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج 13، ص 180.
2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج13، ص181.
3- المصدر السابق.
4- فتح الباري ،العسقلاني، ج 13، ص 180 ؛ شرح صحيح مسلم، النووي، ج 12، ص 203.

أمّا ابن تيميّة (728ه) فيقول :

وأما قوله [ أي: العلّامة الحلّي]: «ولم يجعلوا الأئمّة محصورين في عدد معيّن» فهذا حقّ؛ ذلك أنّ الله تعالى قال«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1)، ولم يوقّتهم بعدد معيّن »(2).

ومن اللافت أنّه يقول - بالرغم من وجود كلّ هذه الأحاديث النبويّة - : «وكذلك النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقّت ولاة الأمور في عدد معيّن»(3).

ثمّ يقول في موضع آخر محاولاً تحديد مصاديق الأمراء الاثني عشر:

«وهكذا كان؛ فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، ثمّ تولّى من اجتمع الناس عليه، وصار له عزّ ومنعه: معاوية، وابنه يزيد ، ثمّ عبد الملك، وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبدالعزيز»(4).

في حين أنّ روايات العامّة أنفسهم قد وردت بأنّ معاوية وبني أمية كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء (5) . ناهيك عن أنّهم لم يعدّوا الإمام الحسن بن عليّ (علیهما السلام) من مصاديق الحديث؛ في حين أنّ عدداً من كبراء علمائهم - مثل : ابن كثير في كتاب البداية والنهاية، والسيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء والقندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودة - قد عدّوه (علیه السلام) من بينهم. بل وبالرغم من وجود الأحاديث المتواترة التي تناولت موضوع

ص: 154


1- سورة النساء: 59 .
2- منهاج السنة ،ابن تيمية، ج 3، ص 381.
3- المصدر السابق.
4- منهاج السنة ،ابن تيمية، ج 8، ص 243.
5- البداية والنهاية ،ابن كثير، ج 6، ص 279؛ التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، منصور علي ناصف، ج 3، ص 40، كتاب الإمارة والقضاء؛ سنن الترمذيّ، باب ماجاء في الخلافة، حديث 2226. والرواية عن سعيد بن جمهان، قال: حدّثني سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثمّ ملك بعد ذلك» ثمّ قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر ، وخلافة عثمان، ثمّ قال لي : أمسك خلافة عليّ قال : فوجدناها ثلاثين سنة، قال سعيد فقلت له: إنّ بني أميّة يزعمون أنّ الخلافة فيهم؟ قال: كذبوا بنو الزرقاء بل هم ملوك من شرّ الملوك.

الإمام المهديّ (علیه السلام)؛ إلّا أنّه لم يذكر شيئاً عنه أبداً وتجاهل كلّ ذاك الكمّ الهائل من الأحاديث !

والسؤال الكبير الذي يعترض طريق ابن تيميّة وأتباعه هو :

هل يمكن أن يكون ملوك بني أميّة - من أمثال يزيد بن معاوية؛ بعد كل ما ارتكبه من جنايات فظيعة في حقّ الإسلام والمسلمين من قبيل قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وما صحبه من فجائع، هدم الكعبة ورميها بالمنجنيق قتل أهل المدينة المنورة واستباحته إيّاها - جديرين بخلافة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في أمته ؟ !

وأما ابن كثير (728ه) فقد ذكر في كل من تاريخه الموسوم بالبداية والنهاية وفي تفسيره في ذيل الآية الشريفة : «وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا»(1).

وبعد أن أورد نصّ حديث جابر بن سمرة قال:

«معنى هذا الحديث؛ البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وُجد منهم أربعة على نسق، وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ... ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شكّ عند الأئمة، وبعض بني العباس. ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أنّ منهم المهدي المبشّر به في الأحاديث الواردة بذكره أنّه يواطئ اسمه اسم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلتَت جوراً وظلماً،... وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشريّة من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم»(2).

ومن الجليّ أنّ ابن كثير - مثله مثل غيره - قد عجز عن عدّ الأمراء الاثني عشر؛ فاكتفى بزعمه خمسة منهم، ثمّ شغل نفسه بعبارات عامّة لا تسمن ولا تغني من جوع؛

ص: 155


1- سورة المائدة: 12.
2- تفسير ابن كثير، ج 2، ص 34.

غير أنّ ابن كثير - على خلاف أستاذه ابن تيميّة المتيّم بالأمويّين - ينحت لهم من الفضل ما تهواه نفسه، فحسب ملوكهم هم الأمراء الاثنا عشر- ولم يعدّ أحداً من ملوك بني أميّة من مصاديق الأمراء الاثني عشر ؛ غير عمر بن عبد العزيز !

والمناقشة الأساسيّة التي ترد على ابن كثير هي أن يقال:

إذا كان من الممكن أن نعدّ كل من تقلّد زمام السلطة - بغض النظر عن كيفية وصوله سدّة الحكم - خليفة لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فلم أخرج معاوية ويزيد وسائر خلفاء بني أميّة وبني العباس من زمرة خلفائه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟! فإن قال : الشرط هو إفشاء العدل، عاجلناه بالسؤال عن إسقاطه للإمام الحسن (علیه السلام)، وعدم عدّه من زمرة الاثني عشر ؛ فإن قال: الشرط هو اجتماع الناس عليه، دحضناه بالسؤال عن عدّه بني أميّة من الأمراء الاثني عشر بالرغم من أنّ الناس لم يجمعوا عليهم.

وقد نقل ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري، أقوالاً متعدّدة في بيان حديث (الأئمة الاثني عشر) وتوضيحه؛ أشار بعضها إلى المصاديق في حين عرض الآخر أموراً عامّة لا تفيد شيئاً. إلّا أنّه قد رجّح رأي القاضي عياض؛ ولم يتقبّل بقية الآراء؛ ثمّ ذكر مجموعتين من الأمراء ورجّح جدارة المجموعة الثانية على الأولى؛ مدعياً كونها مصاديق هذه الرواية. المجموعة الأولى هي :

1- أبو بكر . 2 عمر. 3 عثمان. 4 الإمام عليّ (علیه السلام) . 5- معاوية . 6- يزيد. 7- عبدالملك بن مروان. 8 - وليد بن عبد الملك . 9- سليمان بن عبد الملك . 10 - يزيد بن عبدالملك . 11 - هشام بن عبد الملك . 12 . وليد بن يزيد بن عبدالملك. والمجموعة الثانية هي: 1- أبو بكر . 2 عمر. 3- عثمان. 4- الإمام عليّ (علیه السلام) 5 -الإمام الحسن (علیه السلام) 6-معاوية. 7- يزيد بن معاوية . 8 - عبدالله بن الزبير. 9- عبدالملك بن مروان .10 وليد بن عبد الملك. 11- سليمان بن عبدالملك 12 -عمر بن عبدالعزيز.

ص: 156

ويقول ابن حجر فيهم: «كلّهم يجتمع عليه الناس».

وكلامه هذا من عجائب الدهر؛ فإنّ الناس من بعد الخلفاء الأربعة لم يجمعوا على أحد أبداً، وقد كان هناك إجماع نسبي على الإمام الحسن (علیه السلام)، وعلى عبدالله بن الزبير .

أما السيوطي (911ه) في كتابه تاريخ الخلفاء فقد تطرّق - من بعد أن روى الأحاديث في هذا المجال وعرض آراء أهل السنّة المختلفة في تعريف مصاديق الأمراء الاثني عشر - إلى استعراض رأيه في الموضوع؛ وزعم أنّ الأمراء الاثني عشر هم:

1 - أبو بكر. 2- عمر. 3- عثمان. 4- الإمام عليّ (علیه السلام) 5-الإمام الحسن (علیه السلام). 6- معاوية. 7- عبد الله بن الزبير 8- عمر بن عبدالعزيز 9 - المهتدي العبّاسي. 10 - الطاهر عبّاسي ( مبقياً إياه في حد الاحتمال) 11- المهدي. 12- المهدي(1).

ومن الواضح أنّ جلال الدين السيوطي لما لم يستطع بيان مصاديق الاثنى عشر؛ اضطُرّ إلى ذكر مهديّين !

والجدير بالذكر أنّ بعض كبار علماء العامّة أذعنوا لرأي الشيعة في بيان مصاديق الأمراء الاثني عشر ؛ فقد روى الإمام الجويني عن عبد الله بن عبّاس قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أنا سيّد النبيّين وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيين وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر ؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم المهديّ »(2) ؛

وروى أيضاً بسند آخر؛ أنّ الرواي قال:

«أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين؛ مطهّرون ومعصومون »(3).

ص: 157


1- تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطيّ، ص 12.
2- فرائد السمطين، الجويني، ج 2 ب 61 ح 564 .وفيه ذات السند لكنّه ورد بهذه الصيغة: «أنا سيّد المرسلين وعليّ ابن أبي طالب سيّد الوصيّين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر أوّلهم: عليّ بن ابي طالب وآخرهم: القائم».
3- المصدر السابق حديث 563.

وروى الطبرسي عن ابن مثنّى، عن أبيه، عن عائشة، قال:

«سألتها كم خليفة يكون لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ فقالت : أخبرني رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أنّه يكون بعده اثنا عشر خليفة. قال : فقلت لها : من هم؟ فقالت: أسماؤهم عندي مكتوبة بإملاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . فقلت لها : فاعرضيه، فأبت»(1).

وروى أيضاً عن ابن عبّاس أنّه قال :

«سألت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حين حضرته وفاته فقلت يا رسول الله ! إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى عليّ (علیه السلام) فقال : إلى هذا؛ فإنّه مع الحقّ، والحقّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته »(2).

وروى القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودة عن عباية بن ربعي عن جابر أنّه قال:

قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أنا سيّد النبيّين وعليّ سيّد الوصيّين، وإنّ الأوصياء بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم عليّ وآخرهم القائم المهديّ »(3).

كما روى أيضاً في ينابيع المودة عن بعض المحقّقين:

إنّ الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة ... فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان ،عُلم أنّ مراد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حديثه هذا؛ الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأمويّة لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم من غير بني هاشم، لأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «كلّهم من بني هاشم»(4).

ص: 158


1- كشف الغمّة، ج 2، ص 504 ؛ إعلام الورى، ص 379 .
2- المصدر السابق.
3- ينابيع المودة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77 ، وراجع أيضاً: الأبواب : 93،94،76، 98.
4- ينابيع المودّة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77، وراجع أيضاً : الأبواب: 76، 98،93،94 .

وروى ابن عساكر عن ابن عليّ الهلالي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال لابنته الزهراء (علیها السلام)

«أما علمت أنّ الله أطلع على الأرض اطلاعة فاختار منها أباك يبعثه برسالته، ثمّ اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك... أنا خاتم النبيّين وأكرم النبيّين على الله، وأحبّ المخلوقين إلى الله، وأنا أبوك، ووصيّي خير الأوصياء، وأحبّهم إلى الله؛ وهو بعلك... ومنّا سبطا هذه الأمة؛ وهما ابناك الحسن الحسين، وهما سيدا شباب أهل الجنة... يا فاطمة! والذي بعثني بالحقّ إنّ منهما مهديّ هذه الأمة»(1).

وقال عماد الدين الحنفي في كتابه تناقضات البخاري :

«إنّ الأئمّة اثنا عشر؛ علىّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين(علیهم السلام)»(2).

24 /11 /2.تفسير علماء الإماميّة لأحاديث الاثني عشر:

روى الصدوق في كتابه کمال الدین بسند عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال:

سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: «لما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(3) قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ؟ فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : هم خلفائي يا جابر، وأئمة المسلمين [من] بعدي؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمد، ثمّ الحسن بن عليّ، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيته في عباده ابن الحسن بن عليّ، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ...»(4).

ص: 159


1- تاریخ دمشق ،ابن عساكر، ج 17، ص 340.
2- منتخب الأثر ، الصافي، ج 1، ح 203، ص 140.
3- سورة النساء: 59 .
4- كمال الدين وتمام النعمة ،الصدوق، ج 1، ص 253.

وقد روي عن الصحابيّ زيد بن أرقم أنّه سمع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول لعليّ (علیه السلام) :

«أنت الإمام والخليفة بعدي ،وابناك هذان إمامان ،وسيدا شباب أهل الجنة، وتسعة من صلب الحسين أئمة معصومون، ومنهم قائمنا أهل البيت ...»(1).

وروي أيضاً عن أبي ذر الغفاري قال:

قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الأئمّة بعدي اثنا عشر ،تسعة من صلب الحسين (علیه السلام) ، تاسعهم قائمهم، إلّا إنّ مثلهم فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ومثل باب حطة في بني إسرائيل »(2).

كما روي أيضاً عن سلمان الفارسي (رضی الله عنه) أنّه قال:

خطبنا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال: «معاشر الناس إنّي راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيراً .... ثمّ قال: إنّهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي، أئمة أبرار، عدد أسباط يعقوب وحواري عيسى. :قلت فسمّهم لي يا رسول الله. قال: أوّلهم وسيّدهم عليّ بن أبي طالب، وسبطاي وبعدهما زين العابدين عليّ بن الحسين، وبعده محمد بن عليّ باقر علم النبيّين، والصادق جعفر بن محمّد، وابنه الكاظم سمّي موسى، والذي يُقتل بأرض الغربة ابنه عليّ، ثمّ ابنه محمّد والصادقان عليّ والحسن، ثمّ الحجّة القائم المنتظر في غيبه، فإنّهم عترتي، من دمي ولحمي، علمهم علمي، وحكمهم حكمي، من آذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي»(3).

من هنا، ومع وجود الروايات الصحيحة والنصوص الصريحة الدالّة على الخلفاء الاثني عشر من أئمة أهل البيت (علیهم السلام) لا يبقى مجال للشكّ والترديد في الرؤية التي استعرضها علماء الشيعة عن الإمامة.

ص: 160


1- كفاية الأثر ،القمّي الرازيّ، ح 64، ص 177 .
2- المصدر السابق، ح 22، ص 96 .
3- كفاية الأثر، القمّي الرازيّ، ح 24، ص 101 .

وقد أورد بعض أهل السنّة إشكالاً في مقام النقد على رؤية الإمامة لدى الشيعة؛ فقالوا : بحسب روايات الأئمة الاثني عشر وعبارة «يجتمع عليه الناس» الواردة فيها؛ يجب أن يكون الأئمة الاثني عشر جميعهم محلّ اتفاق الأمّة وأن تجتمع الأمة عليهم؛ غير أنّ الأمّة لم تجتمع على أئمة أهل البيت (علیهم السلام).

والجواب على هذا أن يُقال:

إن كان المقصود من اجتماع الأمّة عليهم وتقبّلها إيّاهم هو ما فهمه علماء أهل السنة من اتّفاق في البيعة، فإنّ هذا المعنى لم يتحقّق في حقّ أيّ من الأشخاص الذين تولّوا زمام السلطة في الدولة الإسلاميّة، بما في ذلك أبي بكر وعمر.

أما إن كان المقصود من اجتماع الأمّة اتفاق جميع الناس على حسن سيرتهم وتفرّد فضائلهم، فإنّ هذا النوع من الإجماع قد تحقّق في حقّ أهل البيت (علیهم السلام) ، وهذا من المسلّمات عند جميع المسلمين - شيعة وسنة - إذ أذعن المسلمون جميعاً بما لأهل البيت (علیهم السلام) من الفضائل والمناقب الفاخرة التي لم تجتمع لأحد من الناس.

وإنّ أحد الأسباب التي تقف خلف الأحداث المريرة التي مرّت بهم - ومنها إيذاؤهم، بل وقتلهم (علیهم السلام)- وكذلك خضوعم لرقابة الملوك الأمويّين والعباسيّين على نحو دائم ،هو الذعر الذي دبّ في أركان السلطة الحاكمة من سلاطين الجور على أثر اجتماع الناس والتفافهم حولهم يقول الدهلويّ في هذا الشأن:

«وقد عُلم أيضاً من التواريخ وغيرها أنّ أهل البيت ولا سيّما الأئمة الأطهار؛ من خيار خلق الله تعالى بعد النبيّين، وأفضل سائر عباده المخلصين والمقتفين لآثار جدّهم سيّد المرسلين»(1).

ص: 161


1- مختصر التحفة الاثني عشريّة، شاه عبد العزيز غلام حكيم الدهلويّ؛ منقول عن مسائل خلافيّة حار فيها أهل السنّة، الشيخ علي آل محسن، ص 41.

25. المهدوية

25 /1.تمهید

تشمل الدراسات المهدويّة عدداً من الموضوعات الشاملة والمهمّة. وسنتطرّق في هذا الباب إلى بيان بعض هذه البحوث مراعين في ذلك الاختصار؛ وهي على الترتيب الآتي:

أوّلاً: الإيمان بوجود مخلّص البشريّة في الديانات الأخرى.

ثانياً: المهدويّة في رؤية الفريقين.

ثالثاً: سمات أصحاب المهديّ (علیهم السلام).

رابعاً: أحداث ما قبل الظهور.

خامساً : فلسفة الغيبة(1).

25 /2.الإيمان بمخلّص البشريّة في الديانات الأخرى:

تمثّل قضيّة الاعتقاد بوجود مخلّص للبشريّة إحدى القضايا المشتركة التي يؤمن بها أبناء الديانات المختلفة فالزرادشتيّون على سبيل المثال يؤمنون بوجود صراع مستمر بين قوى الشرّ وجنوده من جهة، وقوى الخير وجنوده من جهة أخرى، وأنّ

ص: 162


1- استفدتُ في تبيين الأبحاث المرتبطة بالمهدويّة وفقاً لعقيدة أهل السنّة، وكذا في استعراض سمات أصحاب المهديّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأحداث الظهور من أطروحة جامعية أشرفتُ عليها، وعنوانها: الإمام المهديّ (علیه السلام) في رؤية المفسّرين من أهل السنّة بالفارسية [ امام مهدیّ (علیه السلام) از دیدگاه مفسران اهل سنّت] ، تأليف مصطفى ورمبزيار .

هذه الصراع الدائم سوف يختفي يوماً بانتصار قوى الخير التي سوف تحقّق السعادة للبشريّة، وتمهّد الطريق للازدهار والرقيّ.

ويقول شاكموني - وهو أحد أعلام الدين الهندوسيّ - :

«سوف يؤول أمر المُلك والسلطنة في دار الدنيا إلى ولد آدم (علیه السلام)؛ وإنّ ابن آدم هو من سيحكم جبال المشرق والمغرب، وهو من سيركب أعالي السُّحب، وسيجعل دين الله ديناً واحداً»(1).

وقد نُقل عن زبور النبيّ داوود (علیه السلام) :

«سوف يُقطع دابر قوى الشرّ. أمّا المتوكّلون على الربّ فسوف يرثون الأرض، وسوف تكون عاقبة الأشرار الفناء على يديهم، وسوف يرث الأرض أولئك الذين باركهم الربّ»(2).

وورد في العهد القديم [ التوراة المنسوبة للنبيّ موسى (علیه السلام)]:

«ويخرج قضيب من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله. ويحلّ عليه روح الربّ؛ روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الربّ. ولذّته تكون في مخافة الربّ، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض»(3).

وجاء أيضاً في العهد الجديد في إنجيل متّى، في الإصحاح 25 ، الآية 31 :

«ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القدّيسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده ».

ص: 163


1- أنيس الأعلام في نصرة الإسلام ،محمّد صادق فخر الاسلام، ج 2، ص 199.
2- سوشيانت أو موعود آخر الزمان، علي أصغر مصطفوي، ص 9.
3- توراة النبيّ أشعياء، الإصحاح 11 الآية 1- 5 .أسئلة وردود حول الإمام المهديّ(علیه السلام)[ بالفارسيّة: پرسش و پاسخ پیرامون امام زمان]، عليرضا رجالي، ص22.

كما ورد أيضاً في وصايا المسيح (علیه السلام) إلى شمعون بطرس (شمعون الصفا):

«یا شمعون ! لقد أخبرني الربّ أن أوصيك بسيّد الأنبياء، والذي هو كبير أبناء آدم؛ وهو النبيّ الأمّيّ العربيّ. وستأتي ساعة يقوى فيها الفرج، وتتبلور فيها النبوّة، وتملأ العالم عدلاً وإنصافاً؛ كما يفعل السيل»(1).

أمّا القرآن الكريم فقد تحدّث في هذا الموضوع بكل صراحة؛ فقد ورد فيه:

«وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»(2).

«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ »(3).

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ»(4).

25/ 3.المهدوية في رؤية الفريقين :
إشارة

روى كبار المحدّثين المسلمين من الشيعة وأهل السنّة أخباراً متعدّدة في ما يتعلّق بموعود آخر الزمان عن النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأهل بيته الأطهار(علیهم السلام) ، وقد صُنّفت مئات من الكتب في هذا الإطار(5). وقد أخبر الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن ظهور الحجة المنتظر (علیه السلام) بنحو لا يترك مجالاً للشكّ؛ فالأحاديث التي تناولت هذا الموضوع متواترة عند الفريقين. وفيما يأتي نماذج منها :

ص: 164


1- أسئلة وردود حول الإمام المهديّ، عليرضا رجالي، ص 22 .
2- سورة الأنبياء: 105 .
3- سورة القصص: الآية 5 .
4- سورة النور : الآية 55.
5- مجلّة دروس من مدرسة الإسلام الشهرية ،الصافي الگلپايگاني، العدد الثالث.
25/ 3/ 1. المهدويّة عند علماء العامّة:

يمكن أن نشير فيما يأتي إلى بعض المحدّثين الذين رووا في كتبهم شيئاً من الأحاديث المرتبطة بالإمام المهديّ (علیه السلام) ؛ ويقع على رأس القائمة : أبو داوود، والترمذي، وابن ماجه والطبرانيّ ، وأبويعلى البزّاز، وأحمد بن حنبل ، والحاكم النيسابوري، وقد نقلوها إلى الأجيال التي تليهم(1).

ومن روى هذه الأحاديث من علماء أهل السنة: الگنجيّ الشافعيّ (658ه) في كتابه «البيان في أخبار صاحب الزمان»(2) ، وابن حجر العسقلانيّ (852ه) في كتابه «فتح الباري»(3)، ومؤمن الشبلنجي في كتابه «نور الأبصار» (4)، والشيخ محمد الصبّان في كتابه «إسعاف الراغبين» (5) ، والشيخ منصور علي ناصف في كتابه «التاج الجامع للأصول »(6)، والعلّامة الشوكاني في كتابه « التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح»، وقد اعترف جميعهم بتواتر هذه الأحاديث(7).

وادّعى ابن أبي الحديد أنّ الفرق الإسلاميّة قد أجمعت وأطبقت بأسرها على أنّ أجل الدنيا لن ينقضي إلّا بعد ظهور المهديّ المنتظر(علیه السلام)(8).

وروى ابن ماجة في صحيحه عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«المهديّ منّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة»(9).

ص: 165


1- التاج الجامع للأصول، منصور علي ناصف ج 5، ص 310- 327؛ صحیح ابن داوود، ج 2، ص 207.
2- البيان في أخبار صاحب الزمان (علیه السلام)،الكنجي الشافعي ،باب 11 ؛ منتخب الأثر الصافي الگلپايگاني، ص 5
3- فتح الباري في شرح صحيح البخاري ،ابن حجر العسقلاني، ج ص 393- 394.
4- نور الأبصار، مؤمن الشبلنجي، ص 171 .
5- إسعاف الراغبين ،الشيخ محمد الصبّان (على هامش نور الأبصار)، ص 140.
6- التاج الجامع للأصول، الشيخ منصور علي ناصف، ج 5، ص 310.
7- غاية المأمول في شرح التاج الجامع للأصول، محمد البطاشي، ج 5، ص 327.
8- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 10، ص 96.
9- صحیح ابن ماجة، ج 6، ص 30.

وروى أبو داوود في صحيحه بسند عن عليّ (علیه السلام) عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً منّي أو من أهل بيتي ... يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(1).

وورد في صحيح الترمذي عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال:

«لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمي»(2).

وروي عن أبي هريرة عن النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من آل محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(3).

وقد ذهب القرطبيّ في تفسيره - وتابعه في ذلك صاحب تفسير المنار - إلى صحّة الأخبار المخبرة بالإمام المهديّ (علیه السلام)، وتواترها (4)، والأحاديث التي أثبتت أنّه من ذريّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومن نسل فاطمة الزهراء (علیها السلام) (5)؛ فقد ورد في تفسير روح المعاني قوله:

«ذهب معظم أهل العلم إلى أنّه حين ينزل، يصلّي وراء المهديّ (علیه السلام) صلاة الفجر »(6).

ص: 166


1- صحيح أبي داوود، ج 2، ص 207.
2- صحيح الترمذي، ج 2، ص 46 .
3- المصدر السابق، ص 46.
4- صحيح الترمذي، ج 2، ص 46 .
5- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي، ج 8، ص 121- 122 (الأخبار الصحاح قد تواترت على أنّ المهديّ (علیه السلام) من عترة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ) ؛ تفسير المنار، ج 9، ص 480 (نقلاً عن كتاب الإشاعة للسيّد محمد البرزنجي المدني). (وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الشهيرة التي بلغت التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي أوّلها خروج المهدي وأنّه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة (علیها السلام) الجامع الاحكام القرآن القرطبيّ، ج 8، ص 122،( والأحاديث التي قبله في التنصيص على خروج المهديّ (علیه السلام))، وفيها بيان كون المهديّ (علیه السلام) من عترة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أصحّ إسناداً).
6- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، الآلوسي، ج 22، ص 35.

ويذكر في مكان آخر ما نصّه:

«والمشهور نزوله (علیه السلام) بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخّر الإمام وهو المهديّ (علیه السلام) فيقدّمه عيسى (علیه السلام) ويصلّي خلفه ويقول: إنّما أقيمت لك، وقيل بل يتقدم هو ويؤمّ الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهديّ (علیه السلام) في تلك الصلاة دفعاً لتوهّم نزوله ناسخاً»(1).

ويقول الفخر الرازيّ في تفسيره:

«قال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهديّ المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر؛ أمّا القرآن فقوله«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(2). وأما الخبر فقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). واعلم أنّ تخصيص المطلق من غير الدليل باطل »(3).

أما ابن كثير فيقول في تفسيره :

«والظاهر أنّ منهم [الأمراء الإثني عشر] المهديّ المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره»(4).

وقد صرّح كلّ من محمّد طه درّة الحمصي و محمد رشيد رضا أنّ المسلمين ينتظرون ظهور المهديّ (علیه السلام) ، وعيسى (علیه السلام)(5).

ص: 167


1- المصدر السابق ج 25، ص 95 - 96 .
2- سورة النور: 55 .
3- مفاتيح الغيب، الفخر الرازيّ، ج 2، ص 28 .
4- تفسير القرآن العظيم ،ابن كثير ، ج 2 ص 34 ؛ذيل الآيه 12 من سورة المائدة.
5- تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه ،محمد علي طه الدرة ،الحمصيّ ، ج 12 ،جزء 23- 4 ص 591: ( ينظر المسلمون المهديّ وعيسى على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام». تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج 9 ص 489 .في ذيل الآية 187 من سورة الأعراف «فالمسلمون المنتظرون لها [الساعة] يعلمون أنّ لها أشراطاً تقع بالتدريج فهم آمنون من مجيئها بغتة في كل زمان وإنّما ينتظرون قبلها ظهور الدجّال والمهديّ والمسيح (علیهما السلام) .

وقال صاحب تفسير بيان المعاني واصفاً المهدي (علیه السلام) :

«وقد جاء في فضله ما لم يحصره القلم »(1).

ويبيّن الطنطاويّ في تفسير الجواهر، عموم فكرة المهدويّة بين الناس جاهلهم وعالمهم؛ حيث قال:

«فأصبحت فكرة المهدي عامّة في المسلمين العلماء والجهّال، فلمّا قرأت الكتب وجدت لهذا المهدي أحاديث كثيرة ... فأيقنت بأنّ الأمّة الإسلاميّة تغلغلت فيها هذه الفكرة وثبّتت»(2).

ويوافقه في ذلك محمد رشيد رضا حيث ذكر في تفسير المنار ما يأتي:

«يعلم الخاصّ والعامّ أنّه ورد في علامات الساعة من الأخبار أنّه يخرج رجل من آل بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يُقال له المهديّ (علیه السلام)»(3).

25/ 3/ 2. المهدويّة عند علماء الإماميّة:

تبيّن لنا مما تقدّم أنّ علماء الفريقين متفقون على وجود مخلّص يظهر في آخر الزمان؛ غير أنّ أهل السنّة ذهبوا إلى أنّ هذا المهديّ المنتظر لم يولد بعد، وأنّه سوف يولد في آخر الزمان، وسوف يؤسس دولة تشمل العالم بأسره.

أمّا الإماميّة فيرون أنّ المهدي المنتظر هو الإمام محمد بن الحسن العسكريّ (علیه السلام) وأمّه السيّدة نرجس (علیه السلام) (4)، وأنّه ولد (علیه السلام) في القرن الثالث الهجري، ثمّ

ص: 168


1- تفسير بيان المعاني ،ملا حويش ،ج2، ص 197، ذيل الآيات 21- 30 من سورة طه.
2- الجواهر في تفسير القرآن الكريم، الطنطاوي، ج 6، ج 12،11، ص 12- 16 ذيل الآية 1 من سورة الحج.
3- تفسير المنار ،محمد رشید رضا، ج 6، ص 57 ، ذيل الآية 157 من سورة النساء.
4- من الملاحظ أنّ الروايات قد جاءت مختلفة في ما يتعلّق باسم السيّدة أمّ الإمام المهديّ (علیه السلام)؛ إذ جاء اسمها في بعض الروايات، منها: نرجس وفي رواية أخرى :صقيل وفي ثالثة: ريحانة، وفي رواية رابعة: سوسن وفي رواية خامسة :حكيمة، وفي رواية سادسة :خمط وفي رواية سابعة: مليكة، وفي رواية ثامنة : مريم بنت زيد علويّة؛ وذلك لأنّ تلك السيّدة جليلة القدر كان لها في كلّ يوم اسم راجع: الغيبة ،الطوسيّ: ص 142، 143، 164، 147، 241؛ الإرشاد، ص 346؛ عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، ص 24؛ بحار الأنوار، ج 36، ص 194، و ج 51، ص 2، 5، 13 ، 15، 17 ، 19، 23 ، 24، 28، 121 ،293، 36 ، و ج 52، ص16 إثبات الهداة ج 1، ص 469 ، وج 3، ص 365 ، وج 3 ، ص 490 ،410 ،414 ؛ إعلام الورى بأعلام الهدى، ص 394 ؛ وسائل الشيعة، ج 16، ص 244؛ جامع الروايات ج 2 ص 467؛ دلائل الإمامة ص 264 منتخب الأثر، ص 320، 321 .

غاب غيبة صغرى، وهو اليوم في غيبة كبرى بإذن وأمر من الله، وأنّه سوف يظهر في آخر الزمان، ويحقّق حكومة العدل الإلهيّة .

ويروي محدّثو الشيعة أنّ حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام)؛ قالت: «بعث إليّ أبو محمد الحسن بن عليّ (علیهما السلام) فقال : يا عمةّ اجعلي إفطارك الليلة عندنا فإنّها ليلة النصف من شعبان فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة وهو حجّته في أرضه قالت: فقلت له ومن أمّه؟ قال لي: نرجس .. قلت له : والله جعلني الله فداك ما بها أثر ؟ فقال : هو ما أقول لك »وجاء في رواية أخرى: «قالت: فوثبت إلى نرجس فقلّبتها ظهر البطن فلم أر بها أثراً من حبل فعدت إليه فأخبرته بما فعلت فتبسّم ثمّ قال لي : إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل»(1).

وروي عن السيّدة حكيمة أيضاً في خبر آخر أنّها قالت:

«ثم استيقظت فلم أزل مفكّرة فيما وعدني أبو محمد (علیه السلام) من أمر ولي الله (علیه السلام) فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم في كل ليلة للصلاة، فصلّيت صلاة الليل حتى بلغت إلى الوتر، فوثبت سوسن فزعة وخرجت وأسبغت الوضوء ثمّ عادت فصلّت صلاة الليل وبلغت إلى الوتر، فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب فقمت لأنظر فإذا بالفجر الأوّل قد طلع فتداخل قلبي الشكّ من وعد أبي محمد (علیه السلام) فناداني من حجرته: لا تشكّي وكأنّك بالأمر الساعة قد رأيته إن شاء الله قالت حكيمة: فاستحييت من أبي محمّد (علیه السلام) و مما وقع في قلبي، ورجعت إلى البيت وأنا خجلة فإذا هي قد قطعت الصلاة وخرجت فزعة فلقيتها على باب البيت فقلت: بأبي أنت وأمي هل تحسّين شيئا؟ قالت نعم يا عمة إنّي لأجد أمراً شديداً قلت: لا خوف عليك إن شاء الله وأخذت وسادة فألقيتها في وسط البيت وأجلستها عليها وجلست منها حيث تقعد

ص: 169


1- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص390 ،393 ؛ بحار الأنوار، ج 51 ص 2 ،13، 17 26؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 409 ،414 ؛ إعلام الورى بأعلام الهدى، ص 394 ؛ دلائل الإمامة، ص 264.

المرأة من المرأة للولادة فقبضت على كفّي وغمزت غمزة شديدة ثمّ أنت أنّة وتشهّدت ونظرت تحتها فإذا أنا بولي الله صلوات الله عليه متلقّياً الأرض بمساجده فأخذت بكتفيه فأجلسته في حجري وإذا هو نظيف مفروغ منه فناداني أبو محمد (علیه السلام) يا عمّة هلمّي فأتيني بابني »(1).

وروي في خبر عن أبي الأديان أنّه قال: خرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (علیه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن عليّ أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزّونه ويهنّونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الامام فقد بطلت الإمامة، لأنّي كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدّمت فعزّيت وهنّيت فلم يسألني عن شيء، ثمّ خرج عقيد فقال : يا سيّدي قد كُفّن أخوك فقم وصلّ عليه فدخل جعفر بن عليّ والشيعة من حوله يقدّمهم السمان والحسن بن عليّ (علیهما السلام) قتيل المعتصم المعروف بسلمة. فلمّا صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفّناً فتقدّم جعفر بن علي ليصلّي على أخيه، فلمّا همَّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج فجبذ برداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عمّ فأنا أحقّ بالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر، وقد أربد وجهه واصفرّ فتقدّم الصبيّ وصلّى عليه ودفن إلى جانب قبر أبيه (علیه السلام) ثمّ قال : يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي : هذه بينتان بقي الهميان ثمّ خرجت إلى جعفر بن عليّ وهو يزفر ، فقال له حاجز الوشاء: يا سيّدي من الصبيّ لنقيم الحجّة عليه ؟ فقال : والله ما رأيته قطّ ولا أعرفه فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن عليّ (علیهما السلام) فعرفوا موته فقالوا : فمن ( نعزّي ) ؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليّ فسلّموا عليه وعزّوه وهنّوه وقالوا : إنّ معنا كُتباً ومالاً، فتقول ممّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منّا أن نعلم الغيب ، قال : فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان

ص: 170


1- كمال الدين وتمام النعمة ،الصدوق، ص 390، 393 .

وفلان وفلان وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجه بك لاخذ ذلك هو الإمام، فدخل جعفر بن عليّ على المعتمد وكشف له ذلك (1).

وهناك عدد من الشواهد الروائية الدالة على ولادة الإمام المهديّ (علیه السلام)؛ والتي كانت منذ اللحظة الأولى لميلاده. كما أنّ الإمام الحسن العسكريّ (علیه السلام) كان يخرجه ويريه للخواص من أصحابه في طوال الخمس سنوات التي عاشها الإمام المهديّ (علیه السلام) في كنف أبيه. ومع تقبّل ما وقع من معجزات في أمر ولادته (علیه السلام) وكيف تمّت المحافظة عليه طوال مدة تلك السنوات الخمسة؛ يتّضح أنّ الإمام (علیه السلام) كانت تذهب به الملائكة إلى السماء ولا تعود به إلى الإمام العسكريّ (علیه السلام) ليراه إلّا مرة كل أربعين يوم(2).

24/ 4. سمات أصحاب المهدي (علیه السلام) :

وردت في المصادر الإسلامية بحوث تتعلّق بعدد أصحاب الإمام المهدي (علیه السلام)وأسماء بعضهم، وأوطانهم. وأكثر هذه الشخصيّات بروزاً هو نبيّ الله عيسى المسيح (علیه السلام) الذي سوف يكون له دور مهمّ ومفصليّ في عصر مفصليّ في عصر ما بعد الظهور، وسوف يقدّم عوناً كبيراً لقيام المهدي (علیه السلام)(3).

وقد وردت بعض الأحاديث في كتب أهل السنّة أيضاً عن أصحاب الكهف ودورهم آخر الزمان، وأنّهم سوف يكونون من أصحاب المهديّ المنتظر (علیه السلام) أيضاً(4).

ص: 171


1- كمال الدين وتمام النعمة ،الصدوق، ص 390، 393 .
2- كمال الدين وتمام النعمة ،،الصدوق، ص390، 393.
3- تفسير سور ،آبادي، ج 1، ص 288 و 504 وج 3، ص 1719، وج 4 ص 2235 ؛تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسوي، ج 3، ص 416 :«و في الحديث... (... لا مهديّ إلّا بعيسى بن مريم) ؛ ومعناه لا يكون أحد صاحب المهديّ إلّا عيسى بن مريم؛ فإنّه ينزل لنصرته وصحبته». وج 8، ص 385 :يجتمع عيسى والمهديّ فيقوم عيسى بالشريعة والإمامة والمهدي بالسيف والخلافة؛ فعيسى خاتم الولاية المطلقة كما أنّ المهدي خاتم الخلافة المطلقة».
4- تفسير ابن عربي، ج 1، ص 420 :وفي المأوي إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يُفهم من دخول المهديّ في الغار اذا خرج ونزل عيسى. والله أعلم»؛ الدرّ المنثور في تفسير المأثور، جلال الدين السيوطي ، ج 4، ص 215: «قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام)»؛ تفسير روح البيان إسماعيل حقّي البروسوي، ج 1، ص 217: «وورد أنّ أصحاب الكهف يُبعثون في آخر الزمان ويحجّون ويكونون من هذه الأمة تشريفاً لهم بذلك وورود مرفوعاً (أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام))»؛ تفسير روح البيان ،إسماعيل حقّي البروسوي، ج 2، ص 319: «ويجدّد الله تعالی به [عیسی (علیه السلام)] عهد النبوّة على الملة ويخدمه المهديّ وأصحاب الكهف»؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسوي، ج 5، ص 269 :وذكر الشيخ الأكبر (رضی الله عنه) في بعض كتبه أنّه [إلياس [(علیه السلام)] يظهر مع أصحاب الكهف في آخر الزمان عند ظهور المهديّ (علیه السلام)، ويستشهد ويكون من أفضل شهداء عساكر المهديّ (علیه السلام)». وفي ص 381: «وهذه الوزارة ممتدّة إلى زمن المهديّ (علیه السلام) والوزراء السبعة هم أصحاب الكهف؛ يحييهم الله في آخر الزمان يختم بهم رتبة الوزارة المهديّة». وفي ج 9، ص :117: «المهديّ إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمّل هذه الأمة».

وقد أشار الآلوسي إلى الخضر (علیه السلام)، وعدّه أيضاً من بين أصحاب المهديّ المنتظر (علیه السلام) الذين سوف يرافقونه في قيامه (1). ونقل إسماعيل حقّي البروسويّ عن الشيخ الأكبر أنّ نبيّ الله إلياس (علیه السلام) سوف يظهر مع أهل الكهف في عصر ظهور الإمام المهديّ (علیه السلام) وسوف يستشهد بين يديه، ويكون من أفضل شهداء جيشه(2).

كما ورد في مصادر العامّة أيضاً أن أكثر أصحاب الإمام المهديّ (علیه السلام) من أمّة الإسلام (3)، وأنّهم ممّن يتّصفون بخصائص الكمّل من المؤمنين (4).

ص: 172


1- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، الآلوسي، ج 8، ص 308: «بل قد يجتمع [الخضر] الكامل بمن لم يولد بعد كالمهديّ (علیه السلام)».
2- تفسير روح البيان إسماعيل حقّي البروسوي، ج 1، ص 217 :« وذكر الشيخ الأكبر في بعض كتبه أنّه [إلياس(علیه السلام)]» يظهر مع أصحاب الكهف في آخر الزمان عند ظهور المهديّ ويستشهد ويكون من أفضل شهداء عساكر المهديّ (علیه السلام)».
3- تفسير القرآن العظيم ،ابن كثير، ج 6، ص 74 عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحقّ لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة - وفي رواية حتّى يأتي أمر الله وهم كذلك - وفي رواية - حتّى يقاتلوا الدجال - وفي رواية - حتّى ينزل عيسى بن مريم وهم ظاهرون». تفسير سور آبادي، ج 3، ص 1792 -1791: «مهدي بيرون آيد جمعي از مسلمانان یار وي گردند با دجال حرب کنند؛ أي: سيظهر المهديّ (علیه السلام) وسينصره جمع من المسلمين وسيحاربون الدجّال . وورد في تفسير في ظلال القرآن ،سیّد قطب، ج 5، ص 3199 :« وعن جابر (رضی الله عنه) قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة؛ فينزل عيسى بن مريم (علیه السلام) فيقول أميرهم :تعال صلّ بنا. فيقول: لا؛ إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم».
4- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، الآلوسي، ج 8، ص 308: «بل قد يجتمع [الخضر] الكامل بمن لم يولد بعد كالمهديّ تفسير روح البيان إسماعيل حقّي البروسوي، ج 9، ص 117: «المهديّ إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمّل هذه الأمة».

[3]

وورد أيضاً أنّهم من أهل الصدق (1)، مجاهدون ، لا يكلّون ولا يفترون (2)، يحبّون الله تَبَارَكَ وَتَعَالى ويحبّهم (3) ، وأنّهم من زمرة وصفهم الله بقوله السابقون السابقون، علاوةً على كونهم من أصحاب القيامة الكبرى، وأهل الكشف والظهور(4).

25 /5. أحداث ما قبل الظهور :

ترتبط البحوث الأخرى بأحداث عصر الظهور التي جاء بيانها على نحو مفصّل في الكتب التي تناولت موضوع المهدويّة.

وفيما يأتي سنستعرض بعض تلك الأحداث :

أوّلاً عندما يصل الإمام المهديّ(علیه السلام) يأخذ حليّ جميع بيت المقدس - التي كان قيصر الروم قد أخذها، واحتملها على سبعين ألفاً ومئة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن - ويردّها إلى بيت المقدس، حيث يرسي بها على يافا، ويمضي بها حتى يدخل بها بيت المقدس، وبها يجمع الله الأولين والآخرين، وذلك: أنّها معجزة تثبت حقانية دعوتها(5)، وقد ورد في وصف هذه الحلّي أنّه (علیه السلام)

ص: 173


1- تفسير روح البيان ،إسماعيل حقّي البروسوي، ج 9، ص 263: «كلّ أهل الصدق من مقدمات المهديّ (علیه السلام)».
2- تفسير القرآن العظيم ،ابن كثير، ج 6، ص 74 :«عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحقّ لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة - وفي رواية حتّى يأتي أمر الله وهم كذلك - وفي رواية - حتّى يقاتلوا الدجال - وفي رواية - حتّى ينزل عيسى بن مريم وهم ظاهرون تفسير سور آبادي،ج 3، ص 1792- 1791 : مهدي بيرون آيد جمعي از مسلمانان یار وي گردند با دجال حرب کنند»؛ أي: سيظهر المهديّ وسينصره جمع من المسلمين وسيحاربون الدجّال. وورد في تفسير في ظلال القرآن، سيّد قطب، ج 5، ص 3199: «وعن جابر (رضی الله عنه) قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة؛ فينزل عيسى بن مريم (علیه السلام) فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا. فيقول: لا؛ إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم».
3- التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، ج 9، ص 160: «عن الطبرسيّ روايتاً عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم أنّ الآية الأولى فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه نزلت في مهديّ الأمة وأصحابه».
4- تفسير ابن عربي، ج 2 ،ص 293: «والآخرون هم الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم في آخر دور الدعوة وقرب زمان خروج المهديّ (علیه السلام) لا الذين هم في زمانه فإنّ السابقين في زمانه أكثر لكونهم أصحاب القيامة الكبرى وأهل الكشف والظهور»>
5- جامع البيان في تفسير القرآن، ج11، ص 223- 222. وج 15، ص 17 - 18 ؛الدر المنثور في تفسير المأثور، ج 4، ص 165 ؛الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي، ج 6، ص70؛ معالم التزيل في تفسير القرآن ،البغوي، ج 3، ص 113؛ مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج1، ص618 ؛ الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 10، ص 22 -223 تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه، محمد عليّ طه الدرة الحمصيّ، ج 8، جزء 15 -16، ص 20 ... جميع حلي بيت المقدس... فهو فيها الآن حتّى يأخذه المهديّ (علیه السلام) فيردّه إلى بيت المقدس... وبها يجمع الله الأوّلين والآخرين».

يرسي بألف سفينة وسبعمئة سفينة محمّلة بها(1).

ثانياً ومن الحوادث الإعجازيّة التي تقع في عصر الظهور سلام الإمام المهديّ (علیه السلام) على أصحاب الكهف؛ حيث جعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى سبباً في بعثهم إلى الحياة مرّة أخرى (2)؛ لينصروا الإمام المهديّ (علیه السلام) في حركته (3) . وبحسب نقل آخر فإنّهم سوف يثبتون في مكانهم إلى حين قيام القيامة(4).

ص: 174


1- جامع البيان في تفسير القرآن ،ج 11 ص 223- 222 ؛الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، ج 10، ص 222- 223 تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه ،محمد عليّ طه الدرة الحمصيّ، ج 8، جز 15- 16 ، ص 20 :«وأخذ حلي جميع بيت المقدس ...و احتمله علي سبعين ألفاً و- مائة ألف عجلة حيث أودعه في كنيسة الذهب... = و- هو ألف سفينة و- سبعمائة سفينة يرسي بها علي يافا». وج15، ص 17 - 18 ؛الدر المنثور في تفسير المأثور، ج 4، ص 165؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي، ج6، ص 70؛ معالم التزيل في تفسير القرآن، البغوي، ج 3، ص 113؛ مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج1، ص618: «وهو ألف سفينة وسبع مئة سفينة»(علیها السلام).
2- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 10، ص 389 - 390: «فيقال: إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم فيحييهم الله». الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 6 ،ص 157 :«ويُقال: إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم فيحييهم الله عزّوجلّ»؛ تاج التراجم في تفسير القرآن للأعاجم ،الإسفرايينيّ، ج 3، ص 1307؛ تفسير روح البيان، ج5، ص232.
3- الدر المنثور في تفسير المأثور، السيوطي ، ج 4 ص 215 :« قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام)»؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسويّ، ج 1، ص 217: « وورد أنّ أصحاب الكهف يبعثون في آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمّة تشريفاً لهم بذلك، وورد مرفوعاً (أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام))؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسوي، ج 2، ص :319 :«ويجدّد الله تعالى به [عيسى (علیه السلام)] عهد النبوّة على الملة ويخدمه المهدي وأصحاب الكهف»؛ الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 5، ص 269:« وذكر الشيخ الأكبر (رضی الله عنه) في بعض كتبه أنّه [الياس] يظهر مع أصحاب الكهف في آخر الزمان عند ظهور المهديّ(علیه السلام) ويستشهد ويكون من أفضل شهداء عساكر المهديّ(علیه السلام)». وفي ص 381 :«وهذه الوزارة ممتدّة إلى زمن المهديّ (علیه السلام) ووزراؤه سبعة هم أصحاب الكهف يحييهم الله في آخر الزمان يختم بهم رتبة الوزارة المهدية». وفي ج 9، ص :117: «المهديّ (علیه السلام) إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمّل هذه الأمة».
4- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 10، ص 389- 390: «إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم فيحييهم الله ثمّ يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة»؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 6، ص 157: «إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم، فيحييهم الله عزّوجلّ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة»؛ تاج التراجم في تفسير القرآن للأعاجم الإسفرايينيّ، ج 3، ص 1307؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسويّ، ج 5، ص 232.

ثالثاً : من جملة من يعودون إلى الدنيا إضافة إلى أصحاب الكهف هو الإمام عليّ (علیه السلام) ومجموعة أخرى من الأخيار؛ حيث يعودون لنصرة الإمام المهديّ(علیه السلام).

رابعاً: يخوض الإمام المهديّ (علیه السلام) بعد ظهوره حروباً عديدة بعضها على الكفار وبعضها على منكريه، وأهمّ هذه الحروب :

حربه على الدجّال، وعلى السفيانيّ؛ ومن خلال هذه الحروب تصبح جميع الأرض تحت سيطرته، وتنعم جميع المخلوقات برغد حكومته العادلة؛ وقد وردت الإشارة في الأحاديث المرويّة إلى بعض هذه الفتوحات - ولعلّ السبب في ذلك أهمّيتها وما لها من خصوصية - من بينها عمورية، وروميّة، والقسطنطينيّة(1)، وببيان هذه المدن واهتمام الروايات بها يتّضح لنا أهميّة الحروب التي سوف يخوضها الإمام المهديّ (علیه السلام) على البلاد الغربيّة (2).

خامساً: استعرض مفسّرو أهل السنة في ضمن تفسيرهم الآيات التي تناولت الحديث عن إظهار الدين من قبيل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (3).

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى

ص: 175


1- تفسير الل،باب ،ابن عادل، ج 2، ص 53 ،«وقال السدّي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهديّ وفتح عَمورِيّة ورُومِيَّة وقسطنيطينيّة، وغير ذلك من مدنهم». لاحظ أيضاً :جامع البيان، الطبريّ، ج 1، ص 699 ؛ الدر المنثور في تفسير المأثور، السيوطيّ ، ج1، ص 108 ؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 1، ص 261 ؛= =فتح القدير، الشوكانيّ، ج 1، ص 132 ؛ فتح البيان القنوجي، ج 1، ص 183 البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج 1، ص 523؛ كشف الاسرار، رشيد الدين الميبدي، ج 1، ص 325 -326 ؛ تفسير ابن أبي حاتم، ج 1، ص 211 و ج4، ص 1132: «أما خزيهم في الدنيا فإنّه إذا قام المهديّ (علیه السلام) فتح القسطنطينيّة وقتلهم فذلك الخزي».
2- تفسير المنار، ج 9، ص 480 :«وقال في الإشاعة... وغاية ما ثبت بالأخبار الصّحيحة الكثيرة الشّهيرة التي بلغت التواتر المعنوي... وأنّه يقاتل الروم في المللحمة ويفتح القسطنطينيّة، ويخرج الدجّال في زمنه وينزل عيسى (علیه السلام) ويصلّي خلفه، وما سوى ذلك كلّه أمور مظنونة أو مشكوكة والله أعلم. انتهى».
3- سورة التوبة :33 .

بِاللَّهِ شَهِيدًا»(1)، وغيرها ؛ أنّ زمان ظهور الإمام المهديّ (علیه السلام) هو الزمان الذي يتحقّق فيه علوّ الدين الإسلاميّ وانتصاره، بحيث لا يبقى على وجه البسيطة مشرك؛ وذلك عندما يكون كلّ البشر قد اعتنقوا الإسلام (2).

سادساً : نقلت بعض كتب التفسير في ما يتعلّق بتفسير الآية الشريفة :« لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(3) مجموعة من الأحاديث التي تطرّقت الكفار والظالمين في الدنيا، وتعرّضهم للذلّ في الدنيا قبل الآخرة، ويتحقّق ذلك بقيام المهديّ (علیه السلام) وحينها تتخلّص البشريّة من أذاهم وليس لهم مفرّ آخر إلّا أن يتقبّلوا بالدين الحقّ (4).

وهكذا الحال في تفسير الآية الشريفة : «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(5)؛ حيث نُقلت أحاديث أخرى أيضاً تشير إلى أنّ المقصود من العذاب الأكبر المذكور في الآية الشريفة هو قيام الإمام المهديّ (علیه السلام) بالسيف(6)، وحينها سوف يميّز المؤمن من الكافر.

ص: 176


1- سورة الفتح: 28 .
2- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي، ج 8 ص ،121 ؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 3، ص 352، وأيضاً ج 5، ص 34- 35؛ البحر المحيط، أبو حيان الأندلسيّ، ج 5، ص 34؛ مفاتيح الغيب، الفخر الرازيّ، ج 16، 40 ؛ تفسير سور آبادي، ج 1، ص 504 ؛ غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج 3، ص 458؛ تفسير السراج المنير، الخطيب الشربينيّ، ج 1، ص 1312؛ جامع لطائف التفسير، ج 25، ص 196 ج 26، ص 262 ؛ تفسير اللّباب ،ابن عادل، ج 8، ص 266.
3- سورة المائدة : 33 .
4- جامع البيان، الطبريّ، ج 1، ص 699 ؛ الدر المنثور في تفسير المأثور، السيوطي ، ج 1، ص 108؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي ، ج 1 ص 261 ؛ فتح القدير ،الشوكانيّ ،ج 1 ، ص 132 ؛ فتح البيان ،القنوجيّ، ج 1، ص 183 ؛ البحر المحيط، أبو حيان الأندلسيّ ، ج 1 ، ص 529 ؛ تفسير اللّباب، ابن عادل، ج 2، ص 53 .كشف الأسرار، رشيد الدين الميبدي، ج 1، ص 325- 326 ؛ تفسير ابن أبي حاتم، ج 1، ص 211 وكذلك ج 4، ص 1132 .
5- سورة السجدة: 21 .
6- البحر المحيط، أبو حيان الأندلسيّ، ج 7، ص 198: «العذاب الأكبر... وعن جعفر بن محمّد أنّه خروج المهديّ (علیه السلام) بالسيف»؛ تفسير عز بن عبد السلام ،ج2، ص553 ؛ تفسير ابن عربيّ، ج 2، ص 214 :«وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعةُ بمحشر الأجساد أو ظهور المهديّ (علیه السلام)... وقهر المهديّ (علیه السلام) إيّاهم وتعذيبه لهم لكفرهم به وبعدهم عنه»؛ تفسير القرآن ،السمعاني، ج 4.
25 /6. فلسفة الغيبة :

تقتضي فلسفة ضرورة وجود الإمام تواجد الإمام المعصوم بين الناس؛ ليكون له عليهم ولاية تشريعيّة وسياسيّة اجتماعيّة؛ علاوةً على ما يتمتّع به من الولاية التكوينيّة على عالم الممكنات لكنّ إمام العصر يعيش حالة الغيبة لبعض الأسباب، ومع أنّ اللطف الإلهيّ التكوينيّ المفاض على الناس وعالم الممكنات بواسطته غير منقطع، لكنّ العالم محروم من ولايته التشريعيّة والسياسيّة.

والسؤال المركزيّ الذي يطرح نفسه هنا هو : لم اختفى الإمام (علیه السلام) عن الأنظار؟ وما الحكمة التي تقف وراء حدوث هذه الغيبة؟ وما هي فلسفتها؟

يرى جماعة أنّ سبب الغيبة سرّ خفيّ، وقد تمسّكوا لإثبات هذه الدعوى إلى بعض الأحاديث؛ منها على سبيل المثال:

«فأغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم ولا تتكلّفوا علم ما قد كفيتم وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج »(1).

«عن الفضيل الهاشمي أنّه قال: سمعت الصادق (علیه السلام) يقول : إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل. فقلت : ولم جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم... إنّ هذا الأمر، أمر من أمر الله وسرّ من الله، وغيب من غيب الله »(2).

«عن حنان بن سدير عن أبيه ... إنّ للقائم (علیه السلام) منّا غيبة يطول أمدها. فقلت له: ولم ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ أبى إلّا أن يجري فيه سنن الأنبياء في غيباتهم وإنّه لا بدّ له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم»(3).

ص: 177


1- كمال الدين ،ج 2 ، ص 162 ؛ الاحتجاج ،ص 263 ؛ الغيبة ،الطوسيّ، ص 177؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 92، ج 53، ص 181.
2- بحار الأنوار، ج 52 ،ص 91 ؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 388 .
3- علل الشرائع، ج 1، ص234؛ كمال الدين ص 437؛ بحار الأنوار، ج 51، ص142، ج 52، ص 90.

وقدّم غيرهم تصوّراً آخر عن أسباب غيبة الإمام المهديّ (علیه السلام) والحكمة التي تقف خلف ذلك، مستفيدين من أحاديث شريفة أخرى صدرت لخواص أصحاب الأئمة (علیهم السلام) ولعلّ ضرورة استمرار الإمامة وحياة الإمام على الرغم من جميع التحدّيات والتهديدات التي واجهت ذلك يمكن عدّها في ضمن أهمّ دواعي الغيبة.

ومما روي عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «لا بدّ للغلام [ المهديّ (علیه السلام)] من غيبة، فقيل له: و لِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل»(1).

وروي عن زرارة أنّه قال :

«سمعت أبا جعفر (علیه السلام) : يقول : إنّ للغلام [ المهديّ (علیه السلام)] غيبة قبل ظهوره. قلتُ: ولِمَ؟ قال: يخاف؛ وأومأ بيده إلى بطنه. قال زرارة: يعني القتل»(2). وورد في رواية أخرى أنّه «يخاف على نفسه الذبح»(3).

وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام): يقول قائمنا - قائم آل البيت (علیهم السلام) - ما يظهر: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ»(4)»(5).

وذهب بعضهم في هذا السياق أيضاً إلى أنّ سبب الغيبة هو ألّا يكون حين الغيبة في عنق الإمام بيعة لأحد.

روي عن إسحاق بن يعقوب أنّ المهدي (علیه السلام) قال :

«وأمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ

ص: 178


1- علل الشرائح، ج 1، ص234؛ بحار الأنوار ج 52، ص 90، 97 ؛ إثباة الهداة، ج 3، ص 498.
2- علل الشرائع ،ج 1 ،ص 246؛ بحار الأنوار، ج 52 ص 98،97،95،91، 146 ؛ إثباة الهداة، ج 3، ص 443، 444، 472، 784 ،571 ؛ کمال الدین ،ص 321، 325 ؛ غيبة النعمانيّ ، ص 118 ؛ غيبة ،الطوسيّ، ص 202. ،
3- کمال الدين ،ص 437؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 97؛ إثباة الهداة، ج 3، ص 487.
4- سورة الشعراء: 21 .
5- كمال الدين ،ص 308 ؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 157، 281 ،292، 385؛ غيبة ،النعماني، ص 116؛ نور الثقلين، ج 4، ص 49؛ تأويل الآيات، ج 1، ص 388 ؛ البرهان، ج 3، ص 183 إثبات الهداة ، ج 3، ص 468، 535، 561، 583.

أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » (1)؛ إنّه لم يكن أحدٌ من آبائى إلّا وقعت في عنقه بيعةٌ لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعةَ لأحدٍ من الطواغيت في عنقي »(2).

وروي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أنّه قال :

«صاحب هذا الأمر تعمى ولادته على هذا الخلق، لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج»(3).

والحكمة الأخرى من وراء الغيبة هي سوء أعمال العباد، ولا يرضى الله سبحانه بأن يرافق الإمام أمثال هؤلاء العباد، كما ورد في الرواية:

«ما هو محجوب عنكم ، ولكن حجبه سوء أعمالكم »(4).

قال الشيخ الطوسيّ (460ه) :

«وفيه إشارة إلى أنّ من ليس له عمل سوء فلا فلا شيء يحجبه عن إمامه (علیه السلام)»(5).

وروي عن مروان الأنباريّ أنّه قال:

«خرج من أبي جعفر (علیه السلام) : إنّ الله إذا كره لنا جوار قوم، نزعنا من بين أظهرهم»(6).

ص: 179


1- سورة المائدة: 101 .
2- كمال الدين ،ص 436 ؛ الاحتجاج ،ص 263؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 92، 279 ، ج 53، ص 181 ج 78، ص 380؛ غيبة الطوسيّ، ص 177.
3- کمال الدين، ص 53؛ بحار الأنوار، ج 51، ص 132، ج 52، ص 95، 96 ،289.
4- بحار الأنوار، ج 53، ص 321 .
5- بحار الأنوار، ج 53، ص 321.
6- بحار الأنوار، ج 52 ،ص 90 ؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 447.

ص: 180

الباب السابع -المعاد

إشارة

المعاد الجسماني والروحاني

-منكرو المعاد في مواجهة تحدّيات تفنّد آراءهم

- منازل الآخرة

-الرجعة

-المصادر والمراجع

ص: 181

37.المعاد الجسماني والروحاني

إشارة

-مباحث عامّة حول المعاد

يتمحور البحث في هذا الفصل حول المواضيع الآتية:

1 ) إمكانية تحقّق المعاد.

2 ) كيفية تحقّق المعاد الجسماني والروحاني.

3 ) عالم البرزخ

4 ) عالم القيامة ومواقفه

قبل الخوض في تفاصيل هذه المباحث، نتطرّق أوّلاً إلى الحديث عن بعض المواضيع المرتبطة بها فيما يأتي:

- نمطية تصنيف المعتقدات.

المواضيع العقائديّة تصنف في ثلاثة أقسامٍ، هي:

القسم الأوّل: قضايا لا يمكن إثباتها إلّا عن طريق العقل وبالاعتماد على النصوص الدينيّة بحيث تستتبع حدوث الدور الذي يعني توقّف وجود الشيء على نفسه، مثل إثبات أنّ الله تعالى موجود لكون حجّيّة كلامه متوقفةً على وجوده.

القسم الثاني: قضايا لا يمكن إثباتها إلّا اعتماداً على النصوص الدينيّة (القرآن والحديث) نظراً لكونها جزئيةً، مثل درجات الجنّة وطبقات جهنّم.

ص: 182

القسم الثالث قضايا يمكن إثباتها عن طريق الدليلين العقليّ والنقليّ، مثل التوحيد والمعاد الروحاني.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أهمّ المسائل المرتبطة بالمعاد تندرج في ضمن القسم الثالث من قبيل أهمّية الاعتقاد بالحياة بعد الممات وإثبات تحقّقها والردّ على شبهات منكريها ومعرفة نمط العلاقة بين الدنيا والآخرة وبيان طبيعة عالم البرزخ ويوم القيامة وكيفية الثواب والعقاب.

- أهمّية دراسة المعاد :

ثلث آيات القرآن المجيد تتمحور مواضيعها حول العوالم الأخرى والحياة بعد الممات، فالبارئ سبحانه وتعالى يروم من ذلك بيان أهمّية عقيدة المعاد لعباده، ويمكن تصنيف هذه الآيات كما يأتي:

أوّلاً: آياتٌ تؤكّد على وجوب الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة في آنٍ واحدٍ، ومنها قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ»(1).

ثانياً: آيات تؤكّد على ضرورة الإيمان بالآخرة وتعتبره من ميزات خير العباد، ومنها قوله تعالى«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(2).

ثالثاً: آيات تحذّر من عواقب إنكار المعاد، ومنها قوله تعالى: «وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا »(3).

[3]

رابعاً : آيات تخبر عن النعيم الذي يناله المؤمنون والعذاب الذي يطال الكافرين في

ص: 183


1- سورة البقرة، الآية 8.
2- سورة لقمان، الآيتان 4 و 5 .
3- سورة الإسراء، الآية 10 .

يوم القيامة، ومنها قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ *فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ *ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ *وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ *عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ *مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ *يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ.»(1). وقوله تعالى: «وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ *فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ *وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ *لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ *إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ *وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ *وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ »(2).

خامساً: آياتٌ تدلّ على ارتباط الأعمال الحسنة والقبيحة بمصير الإنسان في يوم القيامة والحساب، ومنها قوله تعالى: «فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ *يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ »(3).

- حقيقة الخلود :

(خلود) يعادلها في اللغة الإنجليزية مصطلح (immortality) وهي تعني الحياة التي لا يكتنفها موتٌ، ولا فرق في ذلك بين كون المخلّد منعّماً أو معذّباً، إلّا أنّ المصطلح الإنجليزي فيه دلالة على المعنى السلبي لاستمرار الحياة.

ليس هناك اختلاف بين معنى الخلود ومفهوم الحياة بعد الموت، إذ كلاهما يدلّان على استمرار الحياة إلى الأبد ؛ ولكن هناك بعض التوجّهات الفكريّة لا تؤيّد هذا الأمر، كالبوذية التي يعتقد أتباعها بأنّ الإنسان يفنى بعد موته، حيث يقولون بأنّ الميّت بعد خروجه من دورة التناسخ سوف يلتحق بالنيرفانا (nirvana) ومن ثُمَ تنتهي حياته الشخصيّة.

ص: 184


1- سورة الواقعة، الآيات 10 إلى 18.
2- سورة الواقعة، الآيات 41 إلى 50.
3- سورة ص، الآيتان 25 و 26.

الخلود في الإسلام يعني بقاء شخصيّة الإنسان على حالها بعد الموت وفق مبدأ الهوهويّة، فالإنسان في الحياة الأخرويّة يُبعث بنفس شخصيّته الدنيويّة وخصالها التي تمتاز بها عن غيرها، إذ من المؤكّد أنّه لا يبقى مسوّغ للخلود بعد زوال الشخصيّة. إذن، هناك هوهويّةٌ ( عينيّةٌ) بين إنسان الحياة الدنيا وإنسان الحياة الآخرة.

- النزعة إلى الخلود :
إشارة

الإنسان بطبيعته تكتنفه نزعةٌ باطنيّة إلى الخلود من منطلق فطرته المستودعة في ذاته منذ لحظة خلقته في عالم التكوين، والنزعات الفطرية بدورها تتأرجح بين الشدّة والضعف على مرّ الأيام إثر مختلف الظروف الاجتماعيّة والنفسيّة والجغرافيّة.

هذه الرغبة الجامحة والشاملة تثير في نفس الإنسان إرادة البقاء وعدم الفناء، ومن جانبٍ آخر فإنّ الموت بدوره ينتاب الذهن البشري ويثير هواجسه أيضاً، إذ كلّ إنسانٍ على يقينٍ بأنّ حياته الدنيويّة ستصل إلى نهايتها وسيلاقي مصيره المحتوم يوماً ما بعد أن تطرق بابه المنّية التي لا مفرّ منها، وحينما تتبادر في ذهنه هذه الحقيقة يتساءل قائلاً: هل أنّ الموت نهاية للحياة وبداية لعدمٍ مطلقٍ ؟ من المؤكّد أنّ معتنقي الأديان السماويّة يؤمنون بحتميّة المعاد والحياة الأخرويّة، وهذه الأديان لها الريادة في ترويج فكرة الخلود بعد الموت.

من الجدير بالذكر هنا أنّ كثيراً من علماء النفس المعتقدين بالمسائل النفسيّة الميتافيزيقيّة في عصرنا الراهن يطرحون قضيّة ارتباط الروح الإنسانيّة بالقضايا الماورائيّة، وهو ما يطلق عليه (ADS) حيث يقولون إنّ أرواح الموتى من شأنها الارتباط مع الأحياء وإخبارهم بما يجري في ذلك العالم الغيبي. من المؤكّد أنّ الأديان التوحيديّة وعلى رأسها الإسلام، تتضمّن تعاليم أكثر شموليةً وتفصيلاً حول الحياة بعد الممات، وقد أخبرت أتباعها بوجود ارتباطٍ وطيدٍ بين الحياتين الدنيويّة والأخرويّة.

ص: 185

- حقيقة الشخصيّة الإنسانيّة:
إشارة

لا ريب في أنّ شخصية الإنسان هي الدعامة الأساسيّة وقوام الخلود في الحياة الآخرة، وعلى هذا الأساس فلا بدّ من معرفة كُنهها وماهيتها.

كلمة (شخصيّة) واحدةٌ من الألفاظ المشتركة التي لها أكثر من دلالةٍ، فأحياناً يراد منها طبيعة الإنسان النفسية ومشاربه الفكريّة، وهذا المعنى خارجٌ عن نطاق بحثنا. وأحياناً أخرى يقصد منها الهوية الفردية المشخّصة للإنسان بذاته والتي تعدّ محور دلالة الضمير ( أنا ) ، أي إنّها حقيقة الأنا؛ وهذا المعنى هو محور بحثنا .

الإنسان طوال حياته الدنيويّة ومن خلال مختلف تجاربه، يواجه تغييراتٍ عديدةً تسفر عن حدوث تحوّلاتٍ في شخصيّته، ومن الممكن أن تطرأ هذه التحوّلات في الحياة الأخرويّة أيضاً؛ إلّا أنّ هويته تبقى على حالها دونما أيّ تغيير وفق مبدأ الهوهوية.

هناك أربع نظريات أساسية طرحت لبيان معيار هوهويّة الشخصيّة، هي(1):

النظرية الأولى: انعدام شخصية الإنسان

نحا بعض العلماء المادّيين منحىً متطرّفاً بالنسبة إلى مصير شخصيّة الإنسان بعد الموت، كالفيلسوف ديفيد هيوم الذي ادّعى زوالها واضمحلال الهويّة الفرديّة بعد الموت مشبّهاً ابن آدم بالآلة التي تتلاشى بتلاشي أجزائها، إذ عدّ وحدته وحدة اعتباريّة وليست حقيقيّة، وقال إنّ ذهن الإنسان ليس سوى سلسلة من الإدراكات المتوالية.

وللفيلسوف ديكارت عبارة شهيرة بهذا الخصوص، وهي: «أنا أُفكّر، إذن أنا موجودٌ»، لكنّها في الواقع استنتاج خاطئ وعارٍ من الصواب، لأنّ التفكير هو عين وجود الإنسان ولا يمكن القول بأنّ الإنسان موجودٌ ويفكّر، فهو موجودٌ مفكّرٌ ؛ وشخصيّته على هذا الأساس ليست سلسلة اعتباريّة من الأفكار والتصوّرات المتوالية.

ص: 186


1- مرتضى مطهّري، معاد (باللغة الفارسية)؛ رضا أكبري ،جاودانگي (باللغة الفارسيّة)، ص 76.

المزاعم الواهية التي بدرت من بعض الفلاسفة والمفكرين من أمثال هيوم و ديكارت، تتعارض مع الوجدان الذي يدرك مفهوم الشخصيّة بعلمه الحضوريّ، إذ كلّ إنسان يعرف نفسه معرفةً حضوريّةً، وهذه المعرفة عبارة عن إدراكٍ واحدٍ بسيطٍ وبديهيٍّ لايمكن إنكاره بتاتاً.

وأما بالنسبة إلى الأفكار والتصوّرات التي تراود ذهن الإنسان، فهي ليست مطلقة لكونها متعلقات ترتبط بشخصيته؛ لذا لو فرضنا أن شخصين اجتمعا في مكانٍ واحدٍ وطلب منهما تصوّر الكعبة المشرّفة في آنٍ واحد، فلا يمكن ادّعاء أنّ تصوّرهما واحد، بل ما حدث هو في الواقع تصوّران في وعاءين ذهنيين مختلفين، إذ إنّ تصوّر كلّ واحدٍ منهما متعلّق بذاته وشخصيته. إذن ،هذان التصوّران ليسا مطلقين لكون كل واحدٍ منهما يرتبط بشخصيةٍ وهويّةٍ بالتحديد، ودواليك سائر الأفكار والتصوّرات الذهنية.

إذا ذهبنا إلى القول باعتبارية الشخصية الإنسانية، يترتّب عليه أنّ شخصية الإنسان مركبة من تصوّراتٍ وأفكارٍ متواليةٍ؛ لكنّ الواقع على خلاف ذلك تماماً.

النظرية الثانية: البدن هو شخصيّة الإنسان :

برأي العلماء المادّين فإنّ بدن الإنسان هو المناط لهويّته الشخصيّة، واستدلّوا على رأيهم بالمثال الآتي: زيدٌ قبل شهر هو زيد بذاته اليوم، وبعد شهرٍ أيضاً سيبقى هو هو، ولكن هذا البقاء مشروط ببقاء بدنه على أرض الواقع ؛ لذا بما أنّ بدنه موجود على أرض الواقع فهو عين شخصيّته (هوهويّته) في كلّ زمانٍ.

إذن، حسب رأي هؤلاء فإنّ شخصيّة الإنسان هي ذات بدنه الذي نلاقيه في الخارج، وهذا الرأي يدلّ بوضوح على نفي الوجود الإنساني المجرّد ويؤكّد على كون حقيقته مادّيةً محضةً، ومن ثَمَّ تكون شخصيته متعلّقة ببدنه فقط؛ ومن المؤكّد أنّ هذه الرؤية المادّية البحتة منبثقةٌ من النزعة الوضعية .

ص: 187

أمّا الفلسفة الدينيّة - ولا سيّما الإسلاميّة - فهي من خلال استدلالاتها العقليّة أثبتت وجود النفس المجرّدة المتعلّقة بالبدن، ومن ثَمَّ فنّدت نظرية الشخصيّة المادّية.

لذا، رأي المادّيين الذي ذهبوا على أساسه إلى تقييد الشخصيّة الإنسانيّة بالبدن، يمكن نقضه حسب تعاليم الحكمة الإسلاميّة كما يأتي: إذا ادّعيتم أنّ البدن المادّي في الحياة الدنيا هو الشخصيّة الحقيقيّة للإنسان، فكيف تبرّرون قوانينكم وأحكامكم التي تنصّ على وجوب معاقبة المجرمين بعد ارتكابهم الجرائم حتّى وإن اعتقلوا بعد فترةٍ طويلةٍ قد تدوم عشرات السنين ؟! من المؤكّد أنّ هذه المدّة الزمنية شهدت اضمحلال الخلايا البدنية التي كانت في جسم المجرم أثناء ارتكاب الجريمة، وحسب القوانين الطبيعيّة ومبادئ علم الأحياء فقد استبدلت بالكامل وحلّت محلّها خلايا جديدة لم تكن موجودةً آنذاك بحيث يمكن القول إنّ أعضاء جسمه قد استبدلت بأعضاء جديدة. فيا ترى كيف تُعاقب أعضاء لم ترتكب أية جنحةٍ؟!

حتّى وإن لم تتغيّر الجينات الوراثية للبدن وبقيت البُنية العامّة المكوّنة لأعضائه الداخلية على حالها، إلّا أنّ حقيقة خلاياها قد تغيّرت بعد أن استقرّت في زمانين مختلفين داخل جسمين مادّيين متشابهين من حيث الهيئة ، وعلى هذا الأساس انتفت هوهويتها .

بناءً على ما ذكر لا يمكن مطلقاً إثبات شخصيّة الإنسان وهوهويته الثابتة طبقاً لمكوّنات بدنه المادّي من خلايا وجينات وراثية.

النظرية الثالثة : الذهن هو شخصية الإنسان :

استدلّ أصحاب هذه النظرية على رأيهم كما يأتي: لو أنّ زيداً قبل شهرٍ امتلك أحاسيس وتصوّرات ورغبات وارتكازات ذهنية خاصة بحيث بقيت راسخةً في ذهنه اليوم وبعد شهر من الآن، فهذا دليل على كون ذهنه هو شخصيته وهويته، أي إنّ هوهويّة الذهن وخصائصه هي ذات هوهوية الشخصيّة وخصائصها(1).

ص: 188


1- جون لوك ،رساله در باب فاهمه بشر (باللغة الفارسية)، الفصل 27 .

هذه النظرية هي الأخرى لا تصمد أمام الأدلّة الدامغة التي تنقض متبنّياتها، فالإنسان غالباً ما ينسى كثيراً من أفعاله وذكرياته ، وبعضها الآخر يمحى بالكامل من ذهنه، لكن مع ذلك فهو يدرك هوهويّته الشخصيّة، ناهيك عن أنّ المعيار الذهنيّ هو نفس المعيار البدني المذكور في النظريّة الثانية لكونه لا يدلّ إلّا على التشابه والانطباق بين الأعضاء طوال حياة الإنسان.

لنفترض أنّ شخصين أحدهما زيد تطابقت تصوّراتهما، وهذه التصوّرات تناظر أيضاً ما في أذهان عددٍ آخر من الناس؛ فهل يمكن القول حينئذ إنّ زيداً وذلك الشخص وكلّ أولئك الذي اتسقت تصوّراتهم معهما، يمتلكون شخصيةً واحدةً؟! أي هل من الممكن القول بأنّ هوهويّة هؤلاء هي عين هوهويّة زيد؟!

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ البعض ذهبوا إلى القول بكون الذهن والبدن معاً يكونان شخصيّة الإنسان (1)، وهذا الرأي يرد عليه ما ورد على الرأيين السابقين، وغاية ما يمكن أن يثبته هو وجود تشابه بين إنسانين أو أكثر في بعض الخصال النفسيّة، وهذا بمعنى أنّ التصوّرات يمكن أن تكون واحدةً لكنّ الذهن ليس واحداً، والأعضاء أيضاً تكون متشابهةً من حيث الهيئة فقط ؛ فكلّ إنسان له ذهنه الخاصّ وأعضاؤه التي يمتاز بها عن غيره.

إذن، الذهن البشري والأعضاء البشريّة المادّية، ليس من شأنها الحفاظ على وحدة شخصيّة الإنسان في الدنيا والآخرة.

النظرية الرابعة : النفس هي شخصية الإنسان :

هذه النظرية هى الأكثر شيوعاً من بين سائر النظريات التي طرحت على صعيد بيان حقيقة الشخصيّة الإنسانيّة وهوهويّتها، والاستدلال فيها كما يأتي : زيد قبل شهر

ص: 189


1- للاطلاع أكثر ،راجع :مهدي بازركان ،راه طي نشده (باللغة الفارسية).

هو نفسه الآن، وبعد شهر سيبقى كذلك شريطة أن تكون نفسه واحدةً، والمراد من النفس هنا الجوهر المجرّد المتّحد مع البدن على نحو ما؛ وبناءً على هذا تكون النفس هی الهوية الحقيقة للإنسان والمناط الأساسي لشخصيّته وهوهويّته.

تأثير الاعتقاد بالمعاد على الحياة :

الاعتقاد بالمعاد له دور كبير في شتّى الشؤون الحياتيّة للإنسان، ولا سيّما على صعيد تعيين مصيره فهو نظير الاعتقاد بالتوحيد والنبوّة وتأثيره يبدو جليّاً فى مجال الأنثروبولوجيا، فالاعتقاد به يجعل الإنسان مؤمناً بهدفٍ نبيلٍ غير محدود بإطار المادّة وهويةٍ خالدةٍ تفوق أُطر الحياة الدنيا الفانية، كما أنّه ذو تأثير لا ينكر على القيم والأصول المثلى.

لا ريب في أنّ الإنسان الذي لا يؤمن بالحياة الخالدة، يعجز عن بلوغ الدرجة المطلوبة من الفضل مهما كان نزيهاً ومثالياً وعادلاً ومؤثّراً على نفسه ومحسناً للآخرين، بل حتى لو دافع عن العدل وقارع الظلم فسوف يبقى يعاني من نقص في شخصيّته؛ فهو وإن امتلك درجةً من الفضل، لكنّ فضله هذا يظلّ محدوداً في نطاق حياته الدنيويّة فحسب. وهو كذلك عاجز عن ذكر جواب للسؤال الآتي : ما السبب الذي يدعو الإنسان لمراعاة الأخلاق الحميدة والسعي لأن يصبح فاضلاً كريماً في هذه الحياة الفانية؟

ومن المؤكّد أنّ الفضيلة لا معنى لها إلّا في ظلّ اعتقاد الإنسان بالحياة بعد الممات.

ومن الآثار الأخرى التي تترتب على الاعتقاد بالمعاد في الحياة الآخرة، أنّ الإنسان ينزع إلى الدفاع عن كافّة القوانين الاجتماعيّة والحقوقيّة والأخلاقيّة والثقافيّة، إذ إنّ الإيمان بالبعث والحساب في العالم الآخر يحفّزه على الامتثال لهذه القوانين ومن ثمّ تطبيقها بأحسن وجهٍ وفي الحين ذاته يمنحه القدرة اللازمة لمقارعة الباطل ومواجهة الهجمات الثقافيّة المحمومة.

ص: 190

-آثار الاعتقاد بالمعاد من زاويةٍ قرآنيةٍ :

هناك عدد من الآيات المباركة التي تطرقت إلى مسألة المعاد في الكتاب الحكيم في ضمن مباحث عديدة، ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثال لا الحصر:

*اجتناب الشرك وأداء الأعمال الصالحة «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»(1).

*تقديم العون المادّي للمحرومين وخشية الله تعالى: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا »(2).

*عبادة الله تعالى وحده وعدم الشرك به : «وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ»(3).

*إقامة الصلاة وأداء الطاعات وعدم التكذيب بالمعاد: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ *فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)»»(4).

*عدم إجحاف الناس حقوقهم الاقتصادية : «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ *أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *لِيَوْمٍ عَظِيمٍ *يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ »(5).

ص: 191


1- سورة الكهف، الآية 110 .
2- سورة الإنسان ،الآيات 8 إلى 10.
3- سورة يس ،الآيتان 22 و 23 .
4- سورة المدثر، الآيات 38 إلى 47.
5- سورة المطففين، الآيات 1 إلى 6.

*رقّة القلب والرحمة بالعالمين ولا سيّما الأيتام والمساكين: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ *فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ »(1).

*عدم التبجّح في إنكار يوم القيامة بذريعة استحالة إحياء البدن بعد الممات : «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ *أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ *بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ»(2).

* الدور النفسي للمعاد: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ »(3).

الدور التعبوي للمعاد: «لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ *إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.»(4). « ... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(5).

- ماهية الحياة بعد الموت :

طرحت مجموعة من الآراء حول طبيعة الإنسان في الحياة الأخرى من قبل المعتقدين بعدم فنائه بعد الممات، وأكثرها شهرةً وشيوعاً الآراء الثلاثة الآتية: التناسخ، انبعاث الروح (المعاد الروحاني) ، انبعاث الجسم (المعاد الجسماني).

ص: 192


1- سورة الماعون، الآيات، 1 إلى 3 .
2- سورة القيامة، الآيات 1 إلى 6.
3- سورة النمل الآيات ،3 إلى 5 .
4- سورة التوبة، الآيتان 44 و 45.
5- سورة البقرة، الآية 249 .

وفيما يأتي نتطرّق إلى بيانها بشكلٍ إجماليٍّ :

أولاً : التناسخ:

كلمة (تناسخ)(1) مشتقّةٌ من مادّة (نسخ)، وتعني الانتقال لغةً؛ وأمّا اصطلاحاً فهي تدلّ على انتقال النفس من بدن إلى بدنٍ آخر .

عقيدة التناسخ شائعةٌ بين بعض الأديان والمذاهب الشرقية وبما فيها البراهماتية والهندوسية والبوذية، فأتباع هذه الأديان يعتقدون بصور عديدة لهذا الأمر، منها بقاء الروح تدور في فلك التناسخ إلى الأبد منتقلة من بدن إلى آخر، ومنها حلولها في بدن حيوان وبعد ذلك استقرارها في نباتٍ ومن ثَمَّ انتقالها إلى أحد الجمادات، في حين يرى آخرون أنّ هذه العلمية تتم معكوسةً.

حسب المعتقدات البوذية لا بدّ للإنسان من البقاء في عناء آلام التناسخ المضنية ما لم يطهّر نفسه من الآثام ويجرّدها من الرغبات والطموحات التي لا تتناسب مع تعاليم البوذا، وعلى هذا الأساس فالروح الطاهرة فقط تلتحق بالنيرفانا بعد الموت لتنال الطمأنينة الأبدية (2). أمّا الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمون والغربيون فقد رفضوا عقيدة التناسخ وساقوا براهين عديدة لتفنيدها.

-المعاد الروحاني:

يرى الباحثون أنّ الحكيم أفلاطون هو الرائد في طرح عقيدة المعاد الروحاني، (3)إذ كان يعتقد بأنّ الروح ترتقي إلى حضرة القدس بعد الموت فتنعم بحياة أبدية هناك(4).

ص: 193


1- transformation.
2- فريد وجدي ،دائرة المعارف، ج 2، ص 388.
3- Disem boclieds soul.
4- فايدون ،مجموعة آثار أفلاطون (باللغة الفارسية)، ص 499 - 515 .

هذه الرؤية شهدت تغييراً من قبل الرئيس ابن سينا الذي كان يعتقد بأنّ القوة العقليّة (العاقلة) للإنسان هي الوجود المجرّد الوحيد بين سائر القوى النفسانية وهي التي تبقى بعد الموت.

يؤكّد أتباع المعاد الروحاني على أن النفس الناطقة حينما تأنس بكمالاتها المعنوية في حياتها الدنيوية فسوف تحظى بلذّةٍ ونعيمٍ في الحياة الآخرة، لكنّها إن انهمكت في الملذّات المادّية ستواجه آلاماً وهموماً فور نهاية الحياة المادّية ومن ثمّ تفقد كلّ تلك الكمالات المادّية التي كانت تنعم بها في الحياة الدنيا (1).

وقد أيّد ابن سينا المعاد الجسماني على أساس القول الصادق المصدّق، أي كلام النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2) ، في حين أنّ الفيلسوف الغربي ديكارت أكّد على ثلاث حقائق في منظومته الفلسفيّة، وهي الله والنفس والجسم، حيث استنتج أنّ النفس تمتلك شعوراً لكنّها مجرّدةٌ عن الأبعاد ، لكنّ الجسم مفتقدٌ لخصائص الروح، لذا تكون النفس غير مادّيةٍ ولا يمكن أن تفنى بعد فناء الجسد.

يمكن القول إنّ نظرية ديكارت تعود في أساسها إلى نظريّة أفلاطون التي اعتبرت الجسم والنفس جوهرين مستقلّين عن بعضهما(3).

- المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني هو حياة الإنسان الأخروية بهيئةٍ جسمانيةٍ مادّيةٍ أو جسمانيةٍ مثاليةٍ.

أصحاب الحكمة المتعالية رجّحوا الجسم المثالي على الجسم المادّي واعتبروه أكثر احتمالاً وأقرب إلى الحقيقة ومن ثَمَّ فهو أنسب للاتّصاف بالجسمية من المادّي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ نظرية المعاد الجسماني تعدّ إحدى أقدم النظريات التي

ص: 194


1- ابن سينا ،الشفاء، كتاب النفس، المقالة الأولى، الفصل الأوّل، ص 6 - 10.
2- المصدر السابق ،الإلهيّات ،الفصل السابع، ص 423 .
3- دیکارت ،تأملات در فلسفة أوّلي (باللغة الفارسية)، التأمّل السادس.

تمحورت حول خلود الإنسان، وهناك شواهد عديدة على هذا الأمر ومنها الآثار المكتشفة في مختلف بقاع العالم، إذ عثر على أدوات حربية وموادّ غذائية في القبور التي دفن فيها إنسان النياندرتال وسائر الأمم التي تضرب بجذورها في عهود ما قبل التأريخ، كذلك المومياءات التي تعجّ بها مقابر الفراعنة في مصر والتي دفن معظمها في الأهرامات المزوّدة بشتّى الوسائل المادّية التي اعتقد المصريون القدماء بأنّها ستكون مفيدةً لهم في حياتهم الأخروية، وكذا هو الحال بالنسبة إلى حضارة ما بين النهرين التي عثر فيها على عددٍ من الوسائل المادّية في المقابر ؛ فهذه الأمور صوّرت في ذهن الإنسان المعاصر وجود حياةٍ مادّيةٍ أخرى بعد الحياة الدنيوية.

ولو ألقينا نظرةً إجماليةً على الأديان التوحيدية المعروفة كالإسلام والمسيحية، نجد أتباعها قد انقسموا إلى فئتين، فمنهم من ذهب إلى القول بمبدأ المعاد الروحاني ومنهم من قال بالمعاد الجسماني؛ وأحد الأسباب التي دعت بعض المسلمين للقول بالمعاد الجسماني ما جاء في القرآن المجيد على لسان النبيّ موسى (علیه السلام): «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا *ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا»(1).

تعاليم الديانة المسيحية أعارت أهميةً كبيرةً لمسألة الحياة بعد الممات، ومن جملة ذلك ما ورد في رسالة القديس بولس إلى نصارى مدينة فيلبي الواقعة شمالي بلاد الإغريق حيث جاء فيها: «فَإِنَّ سِیرَتَنا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ الَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنتَظِرُ مُخَلّصًا هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ المَسِيحُ ، * الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مُجدِه، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلََ شَيْءٍ »(2).

الديانة اليهودية هي الأخرى أكّدت على مبدأ المعاد الجسماني، إذ ذكر في العهد القديم وفي كتاب دانيال بالتحديد أنّ الموتى سيبعثون في فئتين، فبعضهم سيبعث للخلود والبعض الآخر للذلّة والتوبيخ (3).

ص: 195


1- سورة نوح، الآيتان 17 و 18.
2- رسالة القدّيس بولس إلى أهل فيلبي ،الإصحاح الثالث، الفقرتان 20 و 21.
3- العهد القديم ،كتاب دانیال 12 / 20.

إذن، النصوص المقدّسة لمختلف الأديان لها دورٌ كبيرٌ في طرح مسألة المعاد الجسماني بين أتباعها.

-نظريات المعاد الجسماني :
إشارة

طرحت مجموعة من النظريات والآراء حول كيفية تحقّق المعاد الجسماني في الحیاة الآخرة، ونشير إلى بعضها فيما يأتي:

1) نظرية إعادة المعدوم :

بعض علماء الكلام الأشاعرة من أمثال أبي الحسن الأشعري والباقلاني وعبد القاهر البغدادي، وعدد من متكلّمي المعتزلة من أمثال الضراء بن عمرو والكعبي وأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم؛ ذهبوا إلى أنّ النفس عبارةٌ عن كائن مادّي أو عرضي من أعراض الجسم بحيث يزول مع زواله، لأنّ العرض متقوّم بوجوده على الجسم الذي يحلّ فيه وبطبيعة الحال فإنّه سيفنى لمجرّد فناء هذا الجسم، ولكنّه سيخلق مرّةً أخرى في القيامة من قبل الله تعالى.

باعتقاد أتباع هذه النظرية فإنّ المعدوم يمكن أن يخلق مرّةً أخرى وقد أقاموا أدلّة تدعم رأيهم هذا.

أهمّ مؤاخذةٍ تذكر على هذه النظرية هي استحالة إعادة المعدوم من جديد، فبعض الفلاسفة من أمثال ابن سينا اعتبروا استحالة إعادة المعدوم من البديهيات، ومع ذلك فقد استشهد ببراهين عدّة لإثبات بداهة هذه الاستحالة(1).

ص: 196


1- من البراهين التي استشهد بها العلماء لتفنيد مسألة إعادة المعدوم ما يأتي: «لو جاز للمعدوم في زمان أن يعاد بعينه في زمان آخر، لزم من ذلك تخلّل العدم بين الشيء ونفسه؛ وهو محالٌ لأنّه حينئذٍ يكون موجوداً بعينه في زمانين تخلّل بينهما عدم، أي إنّه في الحقيقة تقدّم زمانياً على وجوده، وحسب القاعدة فإنّ تقدّم الشيء على نفسه محالٌ».
2)نظرية النسخة البديلة.

نظرية النسخة البديلة (1).

نظرية النسخة البديلة (طبق الأصل) قريبة في دلالتها إلى نظرية إعادة المعدوم، وقد طرحها اللاهوتي البريطاني المعاصر جون هيك (2) ، ونظريته هي : الصورة الوحيدة التي يمكننا ادّعاء أنّ الإنسان (ب) نسخةٌ طبق الأصل للإنسان (أ) مشروطةٌ بأن يتصف (ب) بثلاث خصائص، هي:

الأولى: أن يكون شبيهاً ل (أ) من حيث الصفات البدنية والذهنية بالكامل، من قبيل الذكريات والمعتقدات ولون الشعر والطول والبصمات والأحشاء الداخلية، وما إلى ذلك .

الثانية : أن يكون النسخة الوحيدة ل (أ) لا غير.

الثالثة: أن لا يكون موجوداً مع (أ) في آنٍ واحدٍ.

وقد وضّح هذا الفيلسوف نظريته على النحو الآتي: «الإنسان (أ) يموت وتظهر نسخته الأخرى بنفس خصائصه في عالمٍ آخر يختلف بالكامل عن هذا العالم المادّي وفي مكان آخر بعيد عن كلّ مكانٍ في هذا العالم.

حينما نريد أن نحكي الكلام التالي على لسان (أ) نقول : (إنّني انتبهت من نومةٍ كتلك النومة التي كانت تسلب منّي الشعور بما حولي في عالم الدنيا، فقد انتبهت من عدم الشعور .عندما استيقظت من موتي تذكّرت أنّني كنت راقداً في فراش الموت وقد صحوت الآن في عالم مختلف بالكامل عمّا سبقه) »(3).

المؤاخذة الأساسية التي تطرح على هذه النظرية هي أنّها تنفي الهوهوية الشخصية،

ص: 197


1- Replica.
2- John Hick.
3- رضا أكبري ،جاودانگی (باللغة الفارسية)، ص 240 - 245.

إذ تؤكّد على كون النسخة البديلة (ب) هي نسخة مطابقة للنسخة الأصيلة (أ) فقط وليست بذاتها، لذا لا يمكن على أساسها إثبات الهوية الفردية للنسخة الأصيلة، وتوضيح ذلك كما يأتي :

النسخة البديلة لا يمكنها أن تتحمّل مسؤولية أعمال النسخة الأصيلة، إذ إنّ الإنسان حسب التعاليم والمقرّرات الدينيّة سوف ينال جزاء أعماله الدنيوية الحسنة والقبيحة في حياته الأخروية، لذا إمّا أن ينال حُسن العقبى أو يطاله عذابٌ أليمٌ تجاه تلك الأعمال الشنيعة التي ارتكبها في حياته؛ في حين أنّ نظرية جون هيك تؤكّد على أنّ المعذّب والمنعّم في يوم القيامة هو شخص آخر شبيهٌ ( بديلٌ ) عمّن بدرت منه الأعمال الدنيوية.

إذن، الذي يحشر في الحياة الآخرة لم يرتكب أيّ ذنبٍ كي يستحقّ العذاب ولم يفعل أيّ حُسنٍ كي يستحقّ الثواب، أي إنّه ليس الفاعل.

3) نظرية الجسم المثالي :

الحكيم المسلم صدر الدين الشيرازي المعروف ب (صدرالمتألّهين) بعد أن أثبت أصالة الوجود وأكّد على أنّه من الحقائق المشكّكة ، طرح نظرية الحركة الجوهرية التي تدلّ على وجود حركةٍ باطنيةٍ غير محسوسةٍ في جواهر الأشياء فضلاً عن الحركات الظاهرية والمحسوسة .فهي حركةٌ تكامليةٌ مصدرها استعداد الأجسام لامتلاكها، أي إنّ المتحرّك يسير نحو التكامل على أساس هذه الحركة.

من المباحث الأخرى التي تطرّق هذا الحكيم المتألّه إلى شرحها وتحليلها، هي العلاقة الموجودة بين النفس والبدن، إذ استنتج أنّهما ليسا جوهرين متمايزين عن بعضهما، فالنفس برأيه ثمرةٌ للحركة الاشتدادية والتكاملية المكنونة في البدن، والبدن بدوره هو أحد مراتب النفس، وهذه النفس خلال مسيرتها التكاملية تصبح في غنىً عنه شيئاً فشيئاً ومن ثمّ تنفصل عنه بالكامل.

ص: 198

يرى هذا الفيلسوف أنّ تصوّر جسم بلا مادّةٍ لا يمسّ بجسميّته، كما يعتقد بأنّ النفس هي الهوهوية الشخصية للإنسان، وعلى هذا الأساس إن تعلّقت ببدن مثاليٍّ فلا يحدث خلل في الهوهوية الشخصية؛ فهي التي توجد البدن عبر حركتها الجوهرية والاشتدادية، ومن ثمّ تبدأ بالانفصال عنه تدريجياً إلى أن تنقطع عنه بالكامل.

ويرى هذا الحكيم المتألّه أنّ قوّة التصوّر لدى الإنسان هي عبارة عن جوهرٍ مجرّدٍ ومرتبةٍ من مراتب النفس، وبعد انفصال النفس عن البدن تتزايد قدرتها على التصوّر ممّا يعني تزايد هذه القوّة الجوهرية.

وقد أكّد على أنّ النفس الإنسانية تتجلّى في يوم القيامة على أساس الإدراكات والملكات التي اكتسبتها في الحياة الدنيا فينشأ إثر ذلك جسمٌ مثاليٌّ.

إذن، نظرية الجسم المثالي تؤكّد على أنّ البدن مرآة للنفس وانعكاسٌ لها (1).

هناك تفسيرٌ آخر للمعاد الجسماني في الحكمة المتعالية، وهو: الجسم المثالي ينشأ إثر الحركة الجوهرية والتكاملية للجسم المادّي، أي إنّ الإنسان يمتلك جسمين أحدهما مادّي والآخر مثالي، وهما موجودان في آنٍ واحدٍ في الحياة الدنيا، ولكن بعد الموت يفنى الجسم المادّي ويبقى المثالي ؛ وعلى الرغم من أنّ الثاني ينشأ من جوهر الأوّل، لكنّ هيئته تتكوّن تدريجياً من أفعال الإنسان وملكاته النفسية.

الجسم المادّي حسب هذه الرؤية يفقد ارتباطه بالنفس عندما ينفصل عنها إثر الموت(2).

النصوص الدينيّة تصوّر عالم الآخرة بشكلٍ مختلف عن عالم الدنيا، ومن هذا المنطلق فالأحكام والمقرّرات التي تتّخذ في ذلك العالم متقوّمةٌ على أعمال الإنسان في

ص: 199


1- للاطلاع أكثر، راجع :صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 9، ص 35.
2- للاطلاع أكثر ،راجع :روح الله الموسوي الخميني، معاد (باللغة الفارسية).

هذا العالم، فالقرآن الكريم يعتبر الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، لذا ليس هناك مجال للتوبة من المعاصي إلّا في هذه الحياة فقط إذ لا وجود لها في الحياة الآخرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الدنيا عبارة عن نظام مرتكز على الحركة والتكامل، في حين أنّ الآخرة نظام مرتكز على الأعمال والملكات النفسانية الدنيوية.

وحسب التعاليم الدينيّة فإنّ جميع الكائنات الحيّة في الدنيا العالم ستنبعث فيها الحياة في الآخرة لدرجة أنّ أعضاء الإنسان وجوارحه ستشهد له أو عليه جرّاء ما فعل في حياته الدنيوية، وعلى هذا الأساس لا يمكن لبدن الإنسان أن يتواجد في القيامة بنفس خصائص حياته الأولى التي تطغى عليها الميزة الدنيوية(1).

براهين إثبات المعاد :

يمكن إثبات تحقّق المعاد والحياة الأخروية ببراهين عقليّة ونقليّة على حدٍ سواء، لذا ليس من الحريّ غضّ النظر عن الأدلّة العقليّة والاكتفاء بما جاء في النصوص الدينيّة ولا سيّما القرآن الكريم لكونه كلام الله تعالى؛ إذ من المؤكّد أنّ الكتاب الحكيم يؤيد القضايا التي تثبت بالبراهين العقليّة القاطعة.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ القرآن الكريم تضمّن عدداً من الآيات التي أثبتت تحقّق المعاد بالأدلّة العقلية، إذ أكّدت على ضرورة وجود حياةٍ آخرة تلي الحياة الدنيا وأثبتت عدم استحالة البعث والمعاد بحكم العقل والبرهان.

قبل أن نتطرّق إلى بسط الأدلّة العقليّة والتجريبية التي تثبت وقوع المعاد بعد الممات، سنسلّط الضوء على بعض جوانبه ونبيّن طبيعته ومفاهيمه وبعض أدلّته وشواهده التأريخية في رحاب القرآن الكريم في ضمن خمس نقاطٍ في المبحث الآتي:

ص: 200


1- للاطلاع أكثر ، راجع :جلال الدين آشتياني مقالة تحت عنوان :تحقیق در معاد جسماني (باللغة الفارسية)، مجلة (الهيات)، جامعة مشهد العدد 6 .
المعاد فی القرآن الکریم:
إشارة

كتاب الله الحكيم أعار أهميةً بالغةً لمسألة المعاد وتحدّث عنها من عدّة زوايا، وفيما يأتي نذكر جانباً منها :

1) ألفاظ المعاد في القرآن الكريم :

كلمة (معاد) لغةً مصدر ميمي مشتقّة من جذر (عود)، وتعني الرجوع.

بعض العلماء عدّها اسم مكانٍ يدلّ على محلّ العودة، فيما ذهب آخرون إلى أنّها اسم زمانٍ يدلّ على وقت تحقّقها .

أمّا اصطلاحاً فهي تعني الانتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، بمعنى تحوّل الحياة الدنيوية إلى أخروية عن طريق عودة الحقيقة الإنسانية الدنيوية في عالم الآخرة.

هناك عدد من التعابير والمصطلحات القرآنية التي تدلّ على البعث والحياة بعد الممات، ومنها ما يأتي:

قيام الساعة (الروم / (12) ، إحياء الموتى (الحج / 7) ، النشر (فاطر / 9 ) ، المعاد (الأعراف / 29 )، لقاء الله (يونس / 45 )، الرجوع (العنكبوت / 57 ) ، يوم القيامة (الأنبياء / 47 ) ، اليوم الآخر (البقرة / 177) ، يوم الحساب (غافر / 27)، يوم الدين (الحمد /4 )يوم الجمع (التغابين / 9) ، يوم الفصل (النبأ / 17)، يوم الخروج (ق / 42)، اليوم الموعود (البروج / 2 )، يوم أليم (هود / 26) ، يوم عسير (الفرقان / 26) ،اليوم الحق (النبأ / 39) ، يوم ابتلاء السرائر (الطارق / 9)، يوم لا ريب فيه (آل عمران / 9) ، يوم يقال لجهنّم هل امتلأت ؟( ق / 30) ، يوم عضّ الظالم على يديه (الفرقان / 27) ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ( غافر / 52) يوم صيرورة الولدان شيباً (المزمّل / 1) ، يوم فرار المرء من كلّ ما حوله (عبس / 34) ، يوم الشرّ المستطير

ص: 201

(الإنسان / 7 ) ،يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئاً (البقرة / 48)، يومٌ لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً (الانفطار / 19) ، يوم ابيضاض وجوه واسوداد أخرى (آل عمران / 106)، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون (الشعراء / 88)، يوم تذكّر الإنسان سعيه (النازعات / 35)، يوم إحضار كلّ عمل بدر من النفس (النبأ / 40 )، يومٌ مقداره ألف سنة (المعارج / (4) ، يوم النفخ في الصور (الأنعام / 73 )، يوم تبدّل الأرض والسماء (إبراهيم / 48).

2) القدرة الإلهيّة المطلقة :

بعد إثبات أنّ الله عزّ وجلّ ذو قدرةٍ مطلقة وغير متناهية على أساس أسمائه الحسنى وصفاته الجلالية بحيث تعمّ قدرته عالم الممكنات بمادّياته ومجرّداته، بطبيعة الحال يمكن إثبات كلّ ما يترتّب على هذه العمومية من قضايا، لذا بما أنّ عالم الحشر والحياة بعد الممات جزء من عالم الممكنات فهو مشمول أيضاً بهذه القاعدة ومن ثَمَّ ليس هناك أيّ مانعٍ من تعلّق القدرة الإلهيّة به وتحقّقه على أرض الواقع لكون هذه القدرة المطلقة تتعلّق بجميع العوالم من دون استثناء في كلّ آنٍ ومكانٍ بما في ذلك الحياة الأخروية.

ومن الآيات التي تثبت هذه الحقيقة الثابتة قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ»(1).

وفي بعض الآيات استخدم الكتاب الحكيم تعابير بسيطة لإثبات تحقّق المعاد بعد الممات، كقوله عزّ شأنه : «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ *وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »(2).

ص: 202


1- سورة الأحقاف، الآيتان 33 و 34 .
2- سورة الروم، الآيات 25 إلى 27 .

ومن جملة الاستدلالات القرآنية على هذا الصعيد التمثيل بإحياء الأرض وازدهارها بنعمة الماء بعد جدبها وجفافها؛ فهذا الإحياء آيةٌ جليّةٌ على القدرة الإلهيّة المطلقة التي من شأنها إحياء كلّ شيء، وبما في ذلك إحياء الناس بعد الممات، فقد قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ *فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(1).

3)العلم الإلهيّ بالخلقة الأولى:

العلم المطلق واللامحدود هو أحد صفات الذات الإلهيّة المباركة، فقد خلق الله تعالى الإنسان من العدم بمحض إرادته وعلمه، ومن المؤكّد أنّ هذا الخالق المبدع من العدم له القدرة على إحياء العظام وهي رميم، فكما خلقها أوّل مرّةٍ من البديهيّ أنّه غير عاجز عن إعادتها من جديدٍ؛ وهو ما أكّد عليه الكتاب الكريم: «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ »(2).

4)خلقة الإنسان :

لمّا كان الإنسان مستعدّاً للظهور من العدم إلى الوجود في الحياة الدنيوية في مراحل عدّة عبر التحوّل من ترابٍ إلى نطفةٍ ثمّ علقةٍ ثمّ مضغةٍ ثمّ عظامٍ يكتسي بلحمٍ وجلدٍ مع أحشاءٍ ومكوّناتٍ أخرى لا شعور لها، فهو بكلّ تأكيد مستعدٌّ لأن ينشأ من جديد في حياةٍ أخرويةٍ على وفق مراحل محدّدة؛ وهذه المراحل التي تكتنف الحياتين لا تحدث عبثاً، بل هي من تخطيط ربٍّ مدبّرٍ ذي قدرةٍ مطلقة لا

ص: 203


1- سورة الروم، الآيات 48 إلى 50.
2- سورة يس ،الآيات 77 إلى 79.

حدّ لها، فقد جاء في الكتاب الحكيم قوله تعالى :

«أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ»(1).

5)الشواهد التأريخية :
إشارة

القرآن الكريم إلى جانب تأكيده على إمكانية تحقّق المعاد بعد الممات، ذكر براهين تثبت عدم استحالته، إذ اشتملت بعض آیاته مضامین تدلّ على وجود هذه الحقيقة في إطار نمطين استدلاليين، أحدهما استدلالٌ تأريخيٌّ تجريبيٌّ، والآخر عقليٌّ.

هناك شواهد تأريخية ساقها الكتاب الحكيم تدلّ على إمكانيّة الحياة بعد الممات، منها قصّة عزير الذي توفّي مع حماره لمدّة مئة عام، وإبراهيم الخليل الذي تضمّنت قصّه إحياء أربعةٍ من الطير، وأصحاب الكهف الذين مكثوا في الكهف مع كلبهم لأكثر من ثلاثمئة عام، وبقرة بني إسرائيل التي اعتمد عليها لإحياء أحد موتاهم الذي لقي حتفه قتلاً.

أ - عُزير (علیه السلام) :

عزیر (علیه السلام) هو أحد صلحاء بني إسرائيل، وقيل إنّه كان نبياً. ذات يومٍ مرّ مع حماره على قرية مندرسة فتساءل مع نفسه عن كيفية خلقتها وخلقة الموتى بعد أن تبلى عظامهم ولا يبقى منهم شيء؛ فأماته الله سبحانه وتعالى مئة عام ثمّ أحياه وأحيا حماره وأعاد طعامه طازجاً طرياً وكأن لم يمض عليه قرنٌ من الزمن بحيث تصوّر أنّ النوم غلبه، فرأى من ربّه معجزةً أمست عبرةً لكلّ معتبرٍ ، فقد قال تعالى في الذكر الحكيم:

ص: 204


1- سورة المؤمنون، الآيات 10 إلى 16.

«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

ب - إبراهيم الخليل (علیه السلام) :

ذكر القرآن الكريم قصصاً عدّة حول خليل الله إبراهيم (علیه السلام) ومن جملتها قصّة الطير، فعلى الرغم من أنّه آمن بالمعاد والحياة بعد الممات إلّا أنّه رغب بأن تترسّخ في نفسه معرفةٌ شهوديةٌ حول هذا الأمر عن طريق مشاهدة كيفية إحياء الموتى، فأمره الله تعالى بأن يأخذ أربعةً من الطير فيقطّعهنّ ثمّ يلقي كلّ قطعة على جبل ثمّ يدعوهنّ فيرجعن إليه على حالهنّ الأوّل بإذن الله وقدرته؛ فقد قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »(2).

ج - الفتية أصحاب الكهف :

قصّة أصحاب الكهف هي إحدى الشواهد القرآنية التأريخية على إمكانية إحياء الموتى، ومن ثَمَّ فهي دليل على عدم استحالة وقوع المعاد في الحياة الآخرة. صحيحٌ أنّهم ناموا في كهفهم ما يقارب 309 سنوات، حيث جاء في الذكر الحكيم: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا»(3).، لكنّ النوم في الحقيقة هو سنخّ للموت، ولا سيّما هذه الرقدة التي دامت كلّ هذه الفترة المتمادية، حيث مكثوا في الكهف لأكثر من ثلاثة قرون مع كلبهم بإعجاز من الله العزيز القدير. قال تعالى: «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا

ص: 205


1- سورة البقرة، الآية 259 .
2- سورة البقرة، الآية 260 .
3- سورة الكهف ،الآية 25 .

َعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا *وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا *وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا *وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا»(1).

د - قتيل بني إسرائيل :

ذكر الله تعالى في كتابه الكريم عدداً من القصص والأحداث التأريخية حول بني إسرائيل، ومن جملتها قصّة شاب قتل ولم يُعرف قاتله، لذلك أراد سبحانه أن يريهم قدرته المطلقة وإعجازه على صعيد إحياء الموتى، فأمر نبيّهم موسى (علیه السلام) بأن يطلب منهم ذبح بقرةٍ ويضربوا القتيل ببعضٍ منها كي يعود إلى الحياة ويخبرهم عمّن قتله؛ فقد قال عزّ من قال: «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ *فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »(2).

-البراهين التجريبية على إمكانية المعاد :
إشارة

لقد أثبتت بعض الشواهد التجريبية في علم النفس الغيبي (الباراسيكولوجي) (3) وجود الظواهر الماورائية وأكّدت على إمكانية الحياة بعد الممات، ونكتفي هنا بذكر الموارد الآتية منها :

ص: 206


1- سورة الكهف، الآيات 17 إلى 19.
2- سورة البقرة، الآيتان 72 و 73.
3- Parapsychology.
1) الوسائط الروحانية :

الوسائط الروحانية (1)هي إحدى الشواهد التجريبية على إمكانية تحقّق الحياة بعد الممات، فهناك أشخاص يدّعون أنّهم قادرون على الارتباط بالأرواح ونقل كلامهم إلى الأحياء؛ وهناك نوعان من هذا الارتباط، أحدهما يتمّ عن طريق القوّة الذهنية والآخر عبر التنصّت (استراق السمع ) ؛ وهو ما يعبّر عنه بإحضار الأرواح.

الوسيط الذي يقوم بالارتباط الذهني يجلس بسكينة على كرسيٍّ ويغلق عينيه، وبعد مدّةٍ يبدأ بالشخير أو إخراج أصواتٍ غير مفهومة فتكتنفه حالةٌ وكأنّه في نوم عميق لكنّه غير مستقرّ بحيث يتصوّر من يشاهده بأنّه يرى في المنام كابوساً مزعجاً. بعد دقائق عدّة يهدأ مرّةً أخرى ويبدأ بالهمس والتلفّظ بكلماتٍ بصوتٍ منخفضٍ، ثمّ شيئاً فشيئاً ينطلق لسانه ويرتفع صوته بالكلام بحيث تتغيّر حالته ونبرة صوته وتبدو في كلامه أحياناً عبارات غير متعارفةٍ عنه وكأنّ شخصاً آخر قد حلّ في بدنه.

هذه الشخصية الجديدة بإمكانها التحدّث مع من حولها طوال ساعةٍ كاملةٍ أو أكثر، ومن ثمّ تبدأ بالاضمحلال تدريجياً فتطوي المراحل السابقة نفسها ليعود الوسيط إلى وضعه الطبيعي مرّةً أخرى، ولكنّه ينسى كلّ ما جرى عليه ولا يعرف كيف حدث ذلك وكأنّما رأى طيفاً في المنام فحسب ثمّ نسيه بالكامل.

هناك وسائط روحانية بإمكانها التنصّت إلى الأرواح مرّاتٍ عدّة، وفي كلّ مرّةٍ تتلبّس بها نفس الشخصيّة الغيبيّة التي سيطرت عليها ، وهذه الشخصيّة تتّصف بذات الصفات من حيث السلوك ونبرة الصوت والاسم المفترض في جميع الأحيان، ويطلق عليها (المسيطرة ) لكونها تسيطر على الوسيط الذي أحضرها، وهذا الوسيط في معظم الأحيان عبارة عن جسرِ رابط بين الحاضرين في المجلس والروح التي يتمّ إحضارها(2).

ص: 207


1- Mediumistic.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد رضا غفّاري ،روح ودانش جديد (باللغة الفارسية)، ص 307 - 310.

إن افترضنا صدق هذه الشواهد التجريبية وأذعنّا بأنّها ليست من أفعال المحتالين والنصّابين، لكن مع ذلك يحتمل أنّها تبدر من أولئك الذين يمتلكون شخصيات مزدوجة، لذا من الطبيعيّ بمكان اعتبار أنّ الشخصية المسيطرة على الوسيط هي شخصيته النفسية الثانية في الحقيقة. فضلاً عن ذلك، يمكننا اعتبار بعض هذه التصرفات نمطاً من أنماط تداعي الخواطر (التخاطر)، (1)وهو بمعنى تبادل الأفكار والمشاعر، أو تعرّف شخص إلى آخر من دون استخدام أيٍّ من المدارك التقليديّة المتعارفة كالسمع والبصر والشم والتذوق واللمس ؛ ويسمّى أحياناً قراءة الأذهان أو قراءة الأفكار، وهذا الأمر برأي علماء النفس ممكن حسب القوانين الطبيعية لكونه عملاً غير مرتبط بإحضار الأرواح ولا صلة له بعالم الماورائيات، بل كما قلنا فهو عبارةٌ عن قراءة أفكار الآخرين(2).

2)تجربة الموت والعودة إلى الحياة :

هناك كثير من الحالات التي يتجرع الناس فيها الموت مؤقّتاً ثمّ تنبعث في أجسادهم الحياة من جديد، (3)وهذه الظاهرة هي شاهد آخر من شواهد علم النفس الغيبي على إمكانية الحياة بعد الممات.

كثيراً ما نسمع أنّ شخصاً حلّ به الموت من الناحية الطبّية، إذ يتوقّف قلبه عن الخفقان ويسكن مخّه عن النشاط الفكري، لكنّه بعد ذلك يسترجع قواه وتسري الحياة في بدنه.

بعض الذين خاضوا هذه التجربة الفريدة من نوعها ذكروا حقائق تختلف بالكامل عن الحقائق المادية التي يدركها الأحياء، ويمكن بيانها بشكل إجمالي بغضّ النظر عن التفاصيل كما يأتي:

ص: 208


1- telepathy.
2- للاطلاع أكثر ، راجع :رضا أكبري، جاودانگی (باللغة الفارسية).
3- near - death experience.

-الشعور بخروج الروح من البدن.

-تحليق الروح في الأفق الذي يعلو البدن.

-سماع أصواتٍ عاليةٍ.

-الشعور بقوّة تدفع الروح للدخول في نفقٍ مظلمٍ.

-الولوج في عالمٍ نورانيٍّ.

- لقاء الأهل والأصدقاء الذين وافتهم المنية سابقاً.

- رؤية كائنٍ نورانيٍّ يدخل السرور في النفس.

بعد طيّ هذه المراحل، تشعر الروح باقترابها من الحياة الدنيوية مرّةً أخرى، فتعود إلى البدن الذي تتنشّط أعضاؤه المادية من جديد، فيخفق القلب وتجري الدماء في العروق والشرايين ويعود النشاط للمخّ ليستعيد إدراكه ومشاعره. أصحاب هذه التجربة يطرحون تفسيراً آخر للموت يختلف عمّا يتصوّره من لم يخوضها، كما أنّهم لا يخشونه بعد ذلك.

أمّا الاستدلال على إمكانية الحياة بعد الممات على أساس هذه الظاهرة الفريدة فيمكن تقريره كالآتي : الذين خاضوا هذه التجربة ذكروا أموراً منطبقةً مع بعضها رغم أنّهم من أماكن شتّى وواجهوا الموت في أزمنة مختلفة، وهذا الانطباق بذاته دليل على حقيقة خروج الروح من البدن وولوجها في عالمٍ آخر.

وأكّد بعض العلماء على أنّ التجارب الإدراكيّة لهذا الموت المؤقت قد تحصّلت للميّت عن طريقٍ آخر يختلف عن معلوماته التي يحصل عليها بواسطة مدركاته العقليّة والحسّية، وهذه الظاهرة الإدراكيّة تدلّ بوضوح على عدم تدخّل أيّ عضو من أعضاء البدن في تحقّقها، وبما في ذلك العقل؛ ويمكن القول إنّ الروح قد واصلت إدراكها الذاتي بعد انفصالها عن البدن؛ مما يعني بقاءها بعد زوال البدن(1).

ص: 209


1- للاطلاع أكثر، راجع: جون هيك، فلسفه دين (باللغة الفارسية)، ص 265.
3) التجارب الخارجة عن البدن (الخلع):

التجارب الخارجة عن البدن(1) يعبّر عنها في الفكر الإسلامي ب(الخلع)، وهي تضرب بجذورها في العهود السالفة حيث طرحت من قبل الفلاسفة والعلماء القدامى ومن جملتهم أفلوطين (2) وشيخ الإشراق(3).

علماء الباراسيكولوجيا وبعض العرفاء والفلاسفة يعتقدون بأنّ ما يخرج من البدن عن طريق الخلع ويواصل الحياة، هو أمر ليس مادّياً .

وتجدر الإشارة هنا إلى الشواهد التجريبية البحتة عاجزةٌ عن إثبات الحياة بعد الموت بالبرهان القاطع نظراً لعدم اكتمال مقوّماتها المعرفية، ولكن يمكن الاعتماد عليها بوصفها قرائن تفيد الظنّ.

- الأدلّة العقليّة لإثبات المعاد :
إشارة

كما ذكرنا آنفاً فالقرآن الكريم إضافةً إلى أنّه ساق شواهد تأريخيةً لإثبات المعاد وإمكانية الحياة بعد الموت، فقد استدلّ بأساليب منطقية مبرهنة على هذه الحقيقة، ومن ضمنها برهان بقاء الروح والحكمة والعدل والرحمة، وفيما يأتي نتطرّق إلى بيانها :

* البرهان الأوّل: بقاء الروح وتجرّدها:

إضافةً إلى أنّ الإنسان يمتلك جسماً مادّياً مكوّناً من أنسجة وخلايا لا تنفكّ عن التغيير والتحوّل، فهو يمتلك روحاً مجرّدةً ثابتةً لا يطرأ عليها التغيير والتحوّل، لذا فهي معيار هويته ووحدته الشخصية.

ص: 210


1- out of body experience.
2- للاطلاع أكثر، راجع: أفلوطين، دوره آثار (باللغة الفارسية)، ج 1، الرسالة الثامنة، ص 639.
3- للاطلاع أكثر ، راجع :شهاب الدين السهروردي ،حكمة الإشراق، ج 2، ص 213.

بما أنّ الروح المجرّدة هي الميزة الأساسية التي يتصف بها كلّ كائن غير مادّيٍّ، لذا يتمّ على أساسها تفسير واقع الحياة بعد الممات بالنسبة إلى البشر، وقد ذكر علماء الفلسفة عدداً من البراهين لإثبات تجرّد الروح وخلودها، وأحد هذه البراهين أنّ الإنسان ذا البدن المادّيّ له حقيقةٌ باطنيةٌ يدركها بنفسه وهي التي تتمثّل في قوله (أنا) .

يتحقّق ثبوت (أنا) ويطرأ التغيير الكمّي والنوعي على الأعضاء والجوارح وسائر خلايا البدن المادّي من خلال التجارب الباطنيّة أو الخارجيّة، ولو افترضنا أنّ وجود الإنسان ليس سوى أعضائه المادّية، فلا بدّ من افتراض أنّ وجود زيدٍ قبل سنواتٍ يختلف عن وجوده اليوم، وبالطبع سوف يكون مختلفاً في مستقبل حياته؛ في حين أنّ الواقع غير هذا التصوّر تماماً، فزيد هو هو منذ أن ولدته أمّه حتّى مماته رغم كلّ التغييرات البدنيّة التي طرأت عليه طوال فترة حياته، أي إنّ هويته الشخصية (هوهويته) تبقى بذاتها من دون أن يكتنفها أيّ تغيير، وهو يدرك بالوجدان هذا الأمر.

إذن، هذا الثبوت النفسي الشخصي دليل على وجود حقيقةٍ في ماوراء الوجود المادّي، وهي ليست سوى الروح المجرّدة التي لا يكتنفها التغيير والتحوّل.

استدلّ صاحب كتاب (الميزان في تفسير القرآن) العلّامة محمد حسين الطباطبائي على ما ذكر في إطار بحث فلسفيٍّ كما يأتي : هل النفس مجرّدة عن المادّة؟ ونعني بالنفس ما يحكي عنه كلّ واحد منا بقوله (أنا)، وبتجرّدها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسامٍ و زمانٍ ومكانٍ.

إنّا لا نشكّ في أنّا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه ب (أنا)، و لا نشكّ أنّ كلّ إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحسّ أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواسّ الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك؛ وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحسّ و التجربة.

ص: 211

فإنّا ربّما نغفل عن كل واحدٍ منها وعن كل مجموعٍ منها حتى عن مجموعها التامّ الذي نسمّيه بالبدن، ولا نغفل قطّ عن المشهود الذي نعبّر عنه (بأنا)، فهو غير البدن وغير أجزائه وأيضاً لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه، أو خاصّةً من الخواصّ الموجود فيها - وهي جميعاً مادّية ومن حكم المادة التغيّر التدريجي وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّياً متغيّراً وقابلاً للانقسام؛ وليس كذلك، فإنّ كلّ أحدٍ إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه، وجده معنى مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّدٍ وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه والخواصّ الموجودة معها متغيّرةً متبدلةً من كلّ جهة في مادّتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن وأجزاءه وخواصه - وكلّ مادةٍ وأمرٍ مادّي كذلك فليست النفس هي البدن، ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصّةً من خواصّه، سواء أدركناه بشيءٍ من الحواسّ أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك؛ فإنّها جميعاً مادّية كيفما فرضت ومن حكم المادّة التغيّر وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الأحكام، فليست النفس بمادّيةٍ بوجهٍ.

وأيضاً هذا الذي نشاهده نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليس فيه كثرة من الأجزاء ولا خليطٌ من خارج، بل هو واحدٌ صرفٌ، فكلّ إنسان يشاهد ذلك من نفسه ویری أنّه هو وليس بغيره ؛ فهذا المشهود أمرٌ مستقلٌّ في نفسه لا ينطبق عليه حدّ المادة ولا يوجد فيه شيءٌ من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرّد عن المادة متعلّق بالبدن نحو تعلّقٍ يوجب اتّحاداً ما له بالبدن، وهو التعلّق التدبيري؛ وهو المطلوب»(1).

وإليك برهان آخر على تجرّد الروح وعدم فنائها: الحالات النفسية التي تكتنف الإنسان، كالعلم والشعور والإرادة، لا تتّصف بميزاتٍ مادّيةٍ كالتقسيم والتوسّع في الحجم؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الروح التي هي أساس الحالات

ص: 212


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 211.

النفسية، فهي في الحقيقة عاريةٌ عن كلّ ميزةٍ مادّيةٍ؛ لذا يكون وجودها مجرّداً عن المادّة بالكامل(1).

وفيما يأتي نذكر برهاناً ثالثاً في هذا الصدد: حينما نتأمّل في باطننا فنحن نتمعّن في حقيقة الأنا، وإثر ذلك ندرك أنّها أمرٌ بسيطٌ غير قابل للتقسيم لجزئين أو أكثر؛ في حين أنّ أهمّ ميزةٍ تختصّ بها الأجسام هي قابليتها للتقسيم إلى أجزاء، بل وحتّى أجزاؤها يمكن أن تنقسم أيضاً.

إذن ،الروح التي هي أخصّ الخصوصيات للبدن لا يمكن تقسيمها بوجه، وعلى هذا الأساس فهي لا بدّ من أن تكون مجرّدةً (2).

وأخيراً نسوق برهاناً رابعاً حول الموضوع وهو ما يعرف ببرهان الهواء الطلق الذي طرحه الحكيم ابن سينا في كتاب (الإشارات): لو تواجد شخصٌ في مكانٍ منعزل عن العالم الخارجي بالكامل بحيث ليس هناك ما يجذب انتباهه من الأشياء في الخارج بحيث نتصوّره وهو في وضعٍ خاصٍّ ولا يتأمّل بأيّ عضو من أعضاء بدنه المادّي ولا يكتنفه شعورٌ خاص من قبيل الجوع أو العطش أو الحرّ أو البرد أو الألم، وفي الوقت ذاته يكون الهواء هادئاً تماماً كي لا يثير هواجسه؛ فما يدركه في هذه الحالة هو عين (أنا) فيشعر بنفسه من دون أن يلتفت إلى أيّ عضو من أعضائه أو جارحةٍ من جوارحه أي إنّ ما يدركه هنا يختلف عمّا لا يدركه. وعلى هذا الأساس نقول إنّ النفس غير البدن المادّي.

وعبارة ابن سينا هي : «.... بماذا تدرك حينئذٍ وقبله وبعده ذاتك؟ وما المدرك من ذاتك؟ أترى المدرك منك أحد مشاعرك مشاهدةً أم عقلك وقوّة غير مشاعرك وما يناسبها ؟ فإن كان عقلك وقوّة مشاعرك بها تدرك ، أفبوسطٍ تدرك أم بغير وسط ؟ ما

ص: 213


1- عبد الحسين خسروبناه ،قلمرو دين (باللغة الفارسية)، ص 145.
2- للاطلاع أكثر، راجع :محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفة (باللغة الفارسية)، ج 2.

أظنّك تفتقر في ذلك حينئذ إلى وسط، فإنّه لا وسط. فبقي أن تدرك ذاتك من غير افتقار إلى قوّةٍ أخرى وإلى وسط، فبقي أن يكون بمشاعرك أو بباطنك بلا وسط ؛ ثمّ انظر»(1).

القرآن الكريم بدوره أكّد على استقرار الروح وثبوتها، وأشار إلى أنّ البدن مخلوق من تراب بحيث يبلى ويندرس في الحياة الدنيا؛ لذلك اعتبر الموت انتقالاً من عالم إلى آخر وليس فناءً للوجود.

إذن، الإنسان من وجهة نظر الكتاب الحكيم حقيقة باقية بعد فناء البدن المادّي، والآيات الآتية تصرح بذلك:

-«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ *وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»(2).

-«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »(3).

- «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ»(4).

- «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ»(5).

ص: 214


1- للاطلاع أكثر، راجع: ابن سينا ،الإشارات والتنبيهات ،النمط الثالث؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2.
2- سورة السجدة، الآيات 7 إلى 11 .
3- سورة الزمر، الآية 42.
4- سورة آل عمران، الآيات 169 إلى 171.
5- سورة البقرة، الآية 154.
* البرهان الثاني: الحكمة:

من المسائل التي تمّ إثباتها في مباحث علم اللاهوت وأفعال الله تعالى، أنّ الخلقة بشكل عام ولا سيّما خلقة الإنسان ذات هدفٍ معيّنٍ؛ ولمّا كانت ذات البارئ سبحانه وتعالى عين الخير والكمال، فعالم الخلقة لابدّ من أن يكون قد أوجد على هذا الأساس بغية بلوغ هاتين الخصلتين الساميتين بصفتها غايةً للخلقة؛ ناهيك عن أنّ مقتضى الحكمة الإلهيّة هو بلوغ الكائنات هذه الغاية كلٌّ حسب شأنه ومنزلته.

روح الإنسان لها الاستعداد لنيل الكمال الأبدي، لكنّ هذه القابلية لا يمكن أن تتجلّى بشكلها الحقيقي في البدن المادّي الكائن في عالم الطبيعة الزاخر بالتعارض والاختلاف؛ وبما أنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي بلوغه الكمال، فلا بدّ من تحقّق هذا الكمال في عالمٍ آخر غير عالم المادّة ، ألا وهو عالم الحياة بعد الممات.

إذن، برهان الحكمة يثبت لنا أنّ العالم المادّي المؤقّت ليس وعاءً لتحقّق الكمال، بل العالم الأخروي المجرّد الأبدي هو الذي يفسح المجال لتحقّق هذه الغاية الإلهيّة.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الفعل الحكيم حقاًّ هو ما كانت نتيجته أكثر قيمةً منه، فبناء معملٍ إنتاجيٍّ على سبيل المثال إنّما يتمّ بالاعتماد على رؤوس الأموال والأيدي العاملة وبإشراف مهندسين مختصّين، والهدف منه بطبيعة الحال هو تحقيق نفع مادّيّ، أي إنّ نتيجة هذه الجهود أهمّ وأكثر قيمةً منها. إن كانت العائدات التي تكتسب هذا المشروع الصناعي أقلّ نسبةً من رؤوس الأموال التي أُنفقت لبنائه، فمن المؤكّد أنّه عبثيٌّ ولا نفع فيه لكونه إتلافاً للمال والجهود، فهو نظير سائر الأفعال الحمقاء التي يمجّها العقل السليم ولا فرق بينه وبين الخبير الذي يطوّر جهاز الحاسوب ويزوّده بتقنيةٍ تفوق التقنية المعاصرة ومن ثمّ يحرقه ولا يبقي منه شيئاً ؛ فما فائدة اختراعه إذن؟! إنّه بكلّ تأكيد ارتكب عملاً غير عقلاني.

الله الحكيم العليم خلق الكون بحكمته وعلمه وأودع في نفس أفضل خلقه

ص: 215

الإنسان - أسراراً عظيمةً وجعل له غايةً ساميةً، لذا فهو منزّه من العبثية وليس من الصواب بمكان تصوّر أنّه خلق الكائنات كي تفنى وتنعدم، فحكمته على خلاف هذا الزعم الواهي (1). وقد أشار القرآن الكريم إلى الحكمة من المعاد والحياة الأخروية ،ومن ذلك ما تضمّنته الآيات الآتية:

- «قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ *قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ *قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(2).

- «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ»(3).

- «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ *مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ *يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ»(4).

* البرهان الثالث :العدل :

يمكن تقسيم الناس من حيث الأفعال الإرادية إلى فئتين :

الفئة الأولى: يسخّرون حياتهم في عبادة الله تعالى وخدمة بني جلدتهم بصدقٍ وإخلاص ويمتثلون لأداء كلّ عمٍل صالحٍ، وفي الحين ذاته يجتنبون ارتكاب المعاصي والأفعال القبيحة.

ص: 216


1- محمّد تقي مصباح اليزدي، معارف قرآن (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 409.
2- سورة المؤمنون، الآيات 112 إلى 115 .
3- سورة ص، الآية 27.
4- سورة الدخان ،الآيات 38 إلى 41 .

الفئة الثانية: يسخّرون حياتهم في الملذّات الدنيوية والأعمال الشيطانية ولا يتورّعون عن فعل أيّ قبيحٍ وعملٍ منكرٍ .

وكما هو معلومٌ فالحياة الدنيا ليست دار حسابٍ عادلٍ، حيث لا ينال فيها المحسنون ثواب أعمالهم ولا يطال المسيئين جزاء أفعالهم ، فالإنسان في هذه الدنيا غير مستعدٍّ لأن يحاسب بعدلٍ عن جميع حركاته وسكناته، كما أنّ الدنيا نفسها ليست مقرّاً توزن فيه الأعمال؛ لذا فإنّ مقتضى العدل الإلهيّ في حساب الناس على ما بدر منهم لا بدّ وأن يتحقّق في الحياة الآخرة التي هي وعاءٌ مناسبٌ لإقامة العدل عبر إثابة الصالحين ومعاقبة المجرمين في كلّ ما بدر منهم طوال حياتهم الأولى.

إذن، مبدأ العدل الإلهيّ يثبت ضرورة وجود حياةٍ بعد الممات في عالمٍ آخر تتجلّى فيه جميع الحقائق بكلّ صورها، ولا يختلف اثنان في أنّ الله العزيز الحكيم لا يمكن وأن يظلم أحداً بتاتاً، لذا يكون مصير الإنسان في حياته الأخروية منوطاً بأعماله الدنيويّة التي يؤدّيها بمحض اختياره ، فهو لا يفعل الخير ولا يرتكب الشرّ إلّا برغبته وإرادته.

الاختيار هو السبب الأساسي الذي يجعل بعض الناس يلهثون وراء الملذّات الفانية والأهواء النفسانيّة، وفي الحين ذاته يكون وازعاً للبعض الآخر في السيطرة على جموح النفس وشهواتها والقيام بالأعمال الصالحة التي يرتضيها الشرع والعقل لكونهم سلكوا سبيل الرحمن بمحض إرادتهم.

الذين سلكوا سبيل الشيطان بإرادتهم واختيارهم، لا يتورّعون عن فعل أيّ قبيحٍ ومنكرٍ، بل لا تأبى أنفسهم ظلم الآخرين وسلب حقوقهم، ومعظم هؤلاء عادةً ما يعيشون حياةً مرفّهةً ملؤها الفجور والمجون والقليل النادر منهم يصحو من غفلته ويتوب إلى ربّه؛ لكن أكثرهم لا ينفكّون عن الآثام والمعاصي حتّى يحلّ أجلهم دون أن يطالهم أيّ عقاب دنيويٍّ جرّاء ما ارتكبوا، وحتّى الذين يحاكمون ويعاقبون في الحياة الدنيا فإنّهم لا ينالون جزاءهم العادل مطلقاً، إذ إنّ مجرم الحرب الذي أزهق أرواح

ص: 217

آلافٍ مؤلّفةٍ ولربّما فتك بالملايين من البشر وأحرق الحرث والنسل، لا يمكن أن ينال جزاءه العادل بمجرّد سجنه أو إعدامه.

بناءً على ما ذكر، نقول إنّ العدل الإلهيّ في الثواب والعقاب لا يمكن أن يتحقّق إلّا في رحاب عالم آخر غير العالم الدنيوي المادي، ذلك كي ينال كلّ إنسانٍ جزاء أعماله بالتمام والكمال، وحتى تُعوّض الحقوق الضائعة وتُشفى الصدور الغليلة(1).

وفيما يأتي نوضح البرهان بأسلوب آخر: لا شكّ في أنّ الإنسان له كمالٌ حاله حال سائر الكائنات، وكماله يعني انتقال علمه وعمله من مرحلة الاستعداد إلى الفعلية عبر تبنّيه المعتقدات الحقّة وقيامه بالأعمال الصالحة؛ وهذا الامتثال للخير إنّما يتحقّق في ظلّ الفطرة السليمة التي لم تدنّسها أدران الذنوب. على هذا الأساس فالمتّقون هم أصحاب الكمال، بينما المفسدون الذين يعتنقون معتقداتٍ منحرفةً ويرتكبون قبائح الأعمال، لا يتمتّعون بروحٍ إنسانيةٍ كاملةٍ، وهذا النقص هو الذي حرمهم من الكمال المنشود.

مقتضى الكمال المذكور هو أن ينعم الإنسان بحياةٍ طيّبةٍ مطمئنّةٍ ملؤها الراحة والهناء، ومقتضى النقص المشار إليه هو أن يحرم من هذه الحياة المنعمة ويعيش في كنف حياة يشوبها شقاءٌ وعذابٌ شديدٌ.

كما هو معلوم فالحياة التي تدار شؤونها في ظلّ الأسباب والمؤثّرات المادّية، تعمّ الإنسان الكامل والناقص (المؤمن والكافر) على حدٍّ سواء، إذ إنّ سمومها تفتك بالاثنين معاً ونارها تحرقهما وخيرها يعمّهما بصفتهما إنسانين؛ لذا فمن تعينه الأسباب المادية سوف ينعم بحياةٍ مرفّهةٍ لا عناء فيها، في حين أنّ نظيره الذي حُرم من القابليات المادّية لأيّ سببٍ كان، تصبح حياته ضنكى ومريرة.

إذن، حتّى وإن افترضنا تنزّلاً - وفرض المحال ليس بمحال - أنّ حياة ابن آدم

ص: 218


1- محمّد تقي مصباح اليزدي، معارف قرآن (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 493 .

مقيّدةٌ بعالم المادّة والدنيا فقط، فالعدل الإلهيّ في منح كلّ ذي حقٍّ حقّه لا يمكن أن يتحقّق فيها . وهو ما أكّد عليه العلّامة محمّد حسين الطباطبائي بقوله: «ومن المعلوم أنّ هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها [المؤمن والكافر] هي تحت سيطرة الأسباب والعوامل المادّية ونسبتها إلى الكامل والناقص والمؤمن والكافر على السّواء؛ فمن أجاد العمل ووافقته الأسباب المادّية فاز بطيب العيش ومن كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء وضنك المعيشة.

فلو كانت الحياة مقصورةً على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء ولم تكن هناك حياةٌ تختصّ بكلّ منهما وتناسب حاله، كان ذلك منافياً للعناية الإلهيّة بإيصال كلّ ذي حقٍّ حقّه وإعطاء المقتضيات ما تقتضيه. وإن شئت فقل: تسويةٌ بين الفريقين وإلغاء ما يقتضيه صلاح هذا وفساد ذلك، خلاف عدله تعالى »(1).

هناك آيات في الكتاب الحكيم يمكن اعتبارها من سنخ برهان العدل في إثبات المعاد، منها:

- «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»(2).

- «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»(3).

- «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ

ص: 219


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 100.
2- سورة ص، الآيتان 27 و 28.
3- سورة الجاثية، الآيتان 21 و 22 .

الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ »(1).

- - «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ *قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ *عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ *كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ *أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(2).

* البرهان الرابع برهان الرحمة

الرحمة هي إحدى صفات الله سبحانه وتعالى، وحسب تعاليمنا الدينيّة فالمعاد هو أحد تجلّيات الرحمة الإلهيّة حيث ينال المحسنون فيه نعماً عظيمةً لا حصر لها.

لولا الحياة الأخروية لما تمكّن الصالحون من جني ثمار أعمالهم الصالحة التي بدرت منهم في الحياة الدنيا بإرادتهم واختيارهم، لذا إن انتفت الحياة الآخرة سوف يُقدح برحمة الله التي وسعت كلّ شيءٍ والتي هي من الصفات الكمالية؛ لذا يمكن إثبات تحقّق المعاد على أساس مقتضى الرحمة الإلهيّة.

وقد برهن العلّامة محمد حسين الطباطبائي على هذه الحقيقة كما يأتي : قوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» إلخ ، أشير به إلى حجّتين من الحجج المستعملة في القرآن لإثبات المعاد، أمّا قوله: « إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ » فلأنّ الجاري من سنّة الله سبحانه أنّه يفيض الوجود على ما يخلقه من شيءٍ ويمدّه من رحمته بما تتمّ له به الخلقة، فيوجد ويعيش ويتنعّم برحمة منه تعالى ما دام موجوداً حتى ينتهي إلى أجلٍ معدودٍ؛ وليس انتهاؤه إلى أجله

ص: 220


1- سورة يونس ،الآيتان 3 و 4 .
2- سورة القلم، الآيات 30 إلى 36.

المعدود المضروب له فناءً منه وبطلاناً للرحمة الإلهيّة التي كان بها وجوده وبقاؤه وسائر ما يلحق بذلك من حياةٍ وقدرةٍ وعلمٍ، ونحو ذلك، بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة، فإنّ ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى. ولن يهلك وجهه.

فنفاد وجود الأشياء وانتهائها إلى أجلها ليس فناءً منها وبطلاناً لها على ما نتوهّمه، بل رجوعاً وعوداً منها إلى عنده، وقد كانت نزلت من عنده، وما عند الله باقٍ، فلم يكن إلّا بسطاً ثمّ قبضاً ، فالله سبحانه يبدأ الأشياء ببسط الرحمة ويعيدها إليه بقبضها، وهو المعاد الموعود.

وأما قوله« لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ »إلخ، فإنّ الحجّة فيه أنّ العدل والقسط الإلهيّ - وهو من صفات فعله - يأبى أن يستوي عنده من خضع له بالإيمان به وعمل صالحاً ومن استكبر عليه وكفر به وبآياته؛ والطائفتان لا يُحسّ بينهما بفرقٍ في الدنيا، فإنّما السيطرة فيها للأسباب الكونية بحسب ما تنفع و تضرّ بإذن الله.

فلا يبقى إلّا أن يُفرّق الله بينهما بعدله بعد إرجاعها إليه، فيجزي المؤمنين المحسنين جزاءً حسناً والكفّار المسيئين جزاءً سيّئاً من جهة ما يتلذّذون به أو يتألّمون»(1).

والآيتان الآتيتان من جملة الآيات التي تضمّنت برهان الرحمة لإثبات تحقّق المعاد:

- «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»(2).

-«فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(3).

ص: 221


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 4 .
2- سورة الأنعام، الآيتان 11 و 12.
3- سورة الروم، الآية 50.
* البرهان الخامس: الأخلاق :

طرح الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط نظرية مثالية الأخلاق على أساس استقلال العقل البشري وتبنّى مبدأي العينية والوظائفية، وقد ذكر أدلّة لإثبات وجود النفس وخلودها.

الأدلّة التي ساقها حول مسألة خلود النفس متفرّعةٌ على الأدلّة التي اعتمد عليها لإثبات وجود الله عزّ وجلّ والأدلّة التي تثبت كون الإنسان مخيّراً في أفعاله.

يعتقد هذا الفيلسوف بأنّ إرادة الخير تعدّ شرطاً ضروريّاً وكافياً لتحقّق الأخلاق المثالية، ومن هذا المنطلق فالعمل الأخلاقی هو ما كان منبثقاً من إرادة الخير من دون أن تشوبه أيّة مقاصد أخرى.

إذن، يمكن القول بأنّ إرادة الخير هي الدعامة الأساسية للنظام الأخلاقي الذي طرحه إيمانوئيل كانط، لذا يمكن اعتباره واحداً من المفكرين الذين يتّبعون النزعة البنيوية.

من المؤكّد أنّ الشعور بالمسؤولية هو الذي يجعلنا نعتقد بوجوب فعل الخير والمعروف ،ولكن كيف يمكننا البتّ بأنّ الفعل الذي يبدر منّا منبثق من شعورنا بالمسؤولية؟ إحدى مزايا العمل الناشئ من هذا الشعور السامي هي أنّه يسفر عن بلوغ السعادة المنشودة، لذا فالعلاقة بين أداء الواجب ونيل السعادة هي من سنخ العلاقات العينية الحقيقية، وهذا الامتثال بطبيعة الحال ناشئ من قانون كلّيٍّ، ومعنى ذلك أنّ الإرادة هي الأخرى لابدّ من أن تكون منبثقةً من قانون كلّيٍّ أيضاً؛ لذا ينبغي للإنسان أن يتصرّف بشكل يجعله يشعر وكأنّه هو الذي وضع القانون الأخلاقي العامّ.

الانطباق الكامل بين الإرادة والقانون الأخلاقي إنّما يتحقّق في رحاب العصمة الكمالية التي لا يمكن لأيّ كائنٍ عاقلٍ اكتسابها في عالم المادة ولو للحظةٍ واحدةٍ، فهي من الأمور الضرورية التي لا يمكن أن تتحقّق إلّا بسلوك غير متناهٍ في ظلّ هذا

ص: 222

الانطباق الكامل؛ وبطبيعة الحال لا يمكن تصوّر هكذا سلوك متكامل إلّا في ظلّ شخصيةٍ غير متناهيةٍ للكائن العاقل .

القانون المشار إليه يدلّ على أنّنا نمتلك القدرة لفعل أفضل الأعمال وأكثرها خيراً بمحض اختيارنا وإرادتنا، وبالطبع فإنّ تحقّق فعلٍ من هذا القبيل مرهون باتّباعنا للمقرّرات والقوانين الأخلاقية المثالية بحذافيرها؛ وهذا ما يطلق عليه كانط بكونه عصمةً.

إذن، ما لم تتعلّق إرادتنا الشخصية بالقوانين الأخلاقية، فلا يمكننا نيل العصمة ولا الخير المحض في الحياة الآخرة، لأنّ الخير الأمثل يمكن تحصيله في الحياة الدنيا. ومن ناحية أخرى، فإنّ نفس تكليفنا بالعمل على وفق القوانين والأصول الأخلاقية بحدّ ذاته دليل على إمكانية تحقيق الخير الأمثل والتحلّي بالعصمة، ولكن لا يمكن تحصيل ذلك في الحياة الدنيا، ومن ثَمَّ لابدّ من وجود عالمٍ آخر نتمكّن فيه من تحصيلها، وهذا العالم بكلّ تأكيد لا يمكننا أن نلجه إلّا بعد الموت؛ ولمّا كان الخير الأمثل أمراً غير متناهٍ فنتيجة ذلك أنّ الحياة الأخروية خالدةٌ والإنسان فيها سينعم بالخلود أيضاً(1).

*البرهان السادس : الفطرة (المحبّة الفطرية للحياة):

فحوى هذا البرهان أن النفس الإنسانية تكتنفها رغبةٌ فطريةٌ في الحياة الخالدة ،وهذه الرغبة بذاتها تعدّ دليلاً على وجود حياةٍ أخرويةٍ.

ويمكن تقرير البرهان بالقول: كلّ إنسانٍ تنتابه محبّةٌ فطريةٌ عارمةٌ للحياة الخالدة حيث يشعر برسوخ هذه الرغبة الشديدة في باطنه، وفي الحين ذاته يشعر بالأسى عند التفكير بالزوال والانعدام، لذلك ينأى عن التفكير بهما.

الإنسان الذي يبادر إلى الانتحار هو في الواقع يروم الخلاص من معاناته وآلامه

ص: 223


1- للاطلاع أكثر ،راجع :ستيفان كورنر، فلسفه كانت (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عزت الله فولادوند، ص 318 رضا اكبري، جاودانگي (باللغة الفارسية)، ص 340.

في الحياة الدنيا بهدف الولوج في عالمٍ يصونه من جميع أشكال المعاناة والآلام، وليس هناك فرقٌ بين علمه ببقاء روحه حيّةً بعد الموت أو عدم علمه بذلك، فلربما يتصوّر بأنّه سيتحوّل إلى كائن جامد عديم الشعور ومن ثمّ ينجو من مآسيه. إذن، هذا الشخص ليس مستاءً من الوجود بذاته بل يشعر بالضجر من مصاعب الحياة ومشاكلها المحتدمة التي أصبحت عقبةً في طريقه ومعضلةً ليس بإمكانه تخليص وجوده منها؛ وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ محبّة الحياة الخالدة راسخةٌ في نفسه وكأنّها هدفٌ له.

هذه المحبّة لا تقتصر على عصر من العصور، وإنّما تراود الذهن البشري منذ عهده الأوّل وستظلّ راسخةً فيه حتّى آخر لحظة من الحياة الدنيا، وكلّنا يعلم بأنّ الحياة الدنيوية الفانية ليست وعاءً يتحقّق الخلود فيه، لذا لابدّ من أن يوجد مكان آخر يتحقّق فيه، أي إنّه مكانٌ لا معنى للزوال فيه ولا وجود للموت بين أطرافه، وهو بكلّ تأكيد عالم البعث والحساب.

ولمّا كان عالم الآخرة مفعماً بالحياة كما قال تعالى في كتابه الكريم: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ »(1)، فإِنّ محبّة الحياة الخالدة يعدّ أمراً وجودياً رابطاً بين المحبّ (الإنسان) والمحبوب (الحياة الخالدة)؛ ومن البديهي أنّ هذه المحبّة لا يمكن أن تترسّخ في باطن الإنسان بتاتاً ما لم تكن أمراً واقعياً، ولو لم تكن موجودةً حقاً لما عُدّت واحدةً من النزعات الفطرية لدى بني آدم. ويمكننا القول بأنّ رسوخ هكذا محبّة في النفس الإنسانية قد نشأ على أساس غايةٍ ساميةٍ، وهذه الغاية بطبيعة الحال لا بدّ وأن تكون موجودةً حقاً(2).

استناداً إلى ما ذكر، فالقياس المنطقي للبرهان المذكور يتمحور حول أنّ محبّة الحياة

ص: 224


1- سورة العنكبوت ،الآية 64 .
2- عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن (باللغة الفارسية)، ج 4، ص 151.

الخالدة عبارةٌ عن أمرٍ فطريٍّ متأصّلٍ في النفس الإنسانية، لذا ليس من الممكن أن يزول إثر فناء الحياة الدنيوية؛ ومن الثابت أنّ كلّ أمرٍ فطريٍّ لابدّ من أن يكون منطبقاً مع واقعٍ خارجيٍّ لكون الفطرة أثرٌ من آثار الحكيم المتعال بحيث لا يشوبها اللغو والعبث. وكما أنّ غريزة الأكل والشرب تتعلّق في تناول ما له صلاحية أن يكون مأكولاً ومشروباً، فالمحبة الفطرية تشهد أيضاً بوجود عالم آخر له صلاحية البقاء والخلود(1).

* البرهان السابع: الوفاء بالوعد :

الوفاء بالوعد هو أحد البراهين التي تثبت تحقّق المعاد بعد الممات، وله مقدّمتان إحداهما قرآنية والأخرى عقليّة ،هما:

المقدّمة الأولى: القرآن الكريم تضمّن عدّة آياتٍ وعد الله تعالى فيها عباده الصالحين بحسن العاقبة وتوعّد المسيئين بسوء العاقبة، ومنها الآيتان التاليتان :

«إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ »(2).

«وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ *وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ *قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ *النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ *إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ *وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ *وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ »(3).

المقدّمة الثانية : الله تعالى لا يمكن أن يخلف وعده أبداً، لأنّه ليس بحاجةٍ إلى ذلك،

ص: 225


1- محسن ،خرّازي ،بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإمامية، ج 2، ص 270.
2- سورة يونس، الآية 4 .
3- سورة البروج ،الآيات 2 إلى 11 .

فهذا الأمر لا يحدث إلّا إثر وجود نقص فيمن يخلفه أو وجود أمر يضطرّه لذلك؛ ومن البديهي أنّه تبارك شأنه لا يكتنفه النقص ولا يمكن أن يضطرّ لفعل شيء يرغمه على مخالفة وعده .

إذن، نستنتج من هاتين المقدمتين أنّ الله عزّ وجلّ وعد المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب في الحياة الآخرة، وكلّ وعدٍ يصدر منه فهو متحقّق قطعاً؛ لذا فإنّ الثواب والعقاب والجنّة والنار هي أمورٌ حتمية التحقّق في عالم الآخرة، أي إنّ المعاد متحقّق لا محالة(1).

***

ص: 226


1- محسن خرّازي، بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإمامية، ج 2، ص 269.

38.منكرو المعاد في مواجهة تحدّيات تفنّد آراءهم

إشارة

شهدت المجتمعات البشرية على مرّ العصور ظهور مرجفين وعصاة يناهضون الأنبياء والأولياء الصالحين من دون أن يتوانوا عن أيّة ذريعةٍ لمواجهتهم والتشكيك بتعاليم السماء التي جاؤوا بها لأسباب ودواعي عديدة، إذ اتّبعوا أساليب ملتويةً وطرحوا شبهاتٍ بأنماط مختلفة، ومن جملة ذلك إنكار المعاد والحياة الأخرويّة من الأساس أو تصوير هذه الحقيقة بشكلٍ يختلف عمّا جاءت به الأديان السماوية الأصيلة.

القرآن الكريم بدوره تصدّى لهؤلاء ودحض شبهاتهم كما أشار إلى دوافعهم وأهدافهم من وراء عنادهم ومعارضتهم حقيقة المصير المحتوم بعد مفارقة الروح للجسد الأمر الذي جعلهم أمام تحدٍّ جادٍّ لا محيص لهم منه، وفيما يأتي نذكر بعض آرائهم وشبهاتهم في رحاب آي الذكر الحكيم:

* الشبهة الأولى : استحالة إحياء العظام وهي رميم :

تصوّر بعض المعاندين من منكري المعاد والحياة بعد الممات استحالة جمع العظام وإعادتها إلى حالتها الأولى بعد أن تتلاشى في الأرض وتصبح رميماً.

تحليل الشبهة ونقضها

فنّد القرآن الكريم هذه الشبهة مؤكّداً على القدرة المطلقة للبارئ سبحانه الذي أنشأها النشأة الأولى، فهو الذي أوجدها من العدم؛ لذا كيف لا يمكنه أن يعيدها سيرتها الأولى بعد موتها؟! و من البديهي أنّ الخلقة أصعب مرتبةً من إعادة تركيب الأجزاء بعد تلاشيها .

ص: 227

فيما يأتي نذكر الشواهد القرآنية على الموضوع :

-«أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ »(1).

-«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ *وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ »(2).

- «أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(3).

-«وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ *يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ *إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ *يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ »(4).

- «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(5).

- «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(6).

ص: 228


1- سورة القيامة، الآيتان 3 و 4 .
2- سورة العنكبوت، الآيات 7 إلى 11.
3- سورة العنكبوت، الآيتان 19 و 20 .
4- سورة ق ،الآيات 41 إلى 44.
5- سورة التغابن ،الآيات 7 إلى 9.
6- سورة النحل، الآيات 77 إلى 78 .

منكرو المعاد في مواجهة تحديات تفند آراءهم

*الشبهة الثانية: إنكار المعاد من منطلق اتِّباع الهوى وحبّ الدنيا :

هناك من أنكر المعاد والحياة بعد الممات من منطلق تعلّقه بالدنيا واتّباع هوى النفس وفقاً لما تمليه عليه غرائزه الحيوانية الزائلة زاعماً أنّ الملذّات ينعم بها الإنسان في الحياة الدنيا فقط .

- تحليل الشبهة ونقضها :

لقد ذمّ الله تعالى هذا التوجّه المنحرف في كتابه الكريم وفضح مآربهم النفسية من وراء طغيانهم في غيّهم وضلالهم، ومن ذلك قوله : «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ»(1).

*الشبهة الثالثة: إنكار المعاد من منطلق اللّهث وراء المال والشهوة والمقام:

لم ينفكّ بنو آدم عن السعي وراء مغريات الدنيا وملذّاتها على مرّ العصور، ذلك لأهداف ودواعي نفسانية طغت عليهم، حيث تعلّقت قلوبهم بحبّ الثروات والشهوات والمناصب السلطوية مما حجب عقولهم عن رؤية الحقيقة وجعلهم ينكرون الحياة بعد الممات زاعمين أنّ الدنيا هي المقصد والمآل للحياة.

- تحليل الشبهة ونقضها :

القرآن الكريم بدوره وبّخ هؤلاء وفنّد استدلالاتهم الواهية، من ذلك ما جاء في الآيات الآتية: «وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ *وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ *أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ *هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ *إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ *إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ »(2).

ص: 229


1- سورة القيامة، الآيتان 5 و 6.
2- سورة المؤمنون، الآيات 33 إلى 38.
*الشبهة الرابعة: عدم حتمية المعاد :

من الشبهات التي طرحها معارضو الأديان السماوية أنّ المعاد مجرد أمرٍ ظنّيٍّ وليس هناك برهان قاطع يثبت تحقّقه.

-تحليل الشبهة ونقضها :

هذه الشبهة في الواقع عاريةٌ عن الصواب لسببين، هما:

الأوّل: لا يمكن نفي أمرٍ من أساسه وإنكاره من داعي عدم الاعتقاد به فقط ،فعندما لا يؤمن شخص بإحدى القضايا لا يمكنه ادّعاء عدم وجودها.

الثاني: هناك عدد من البراهين الدامغة التي تثبت تحقّق المعاد والحياة بعد الممات، بما فيها تلك التي ذكرناها في المباحث الآنفة كبرهان الحكمة والعدل والرحمة.

وقد دحض الكتاب الحكيم هذه الشبهة في عدة آياتٍ، ومنها قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ *وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ »(1).

* الشبهة الخامسة : اشتراط الإقرار بالمعاد بتلبية طلباتٍ غير معقولةٍ:

بعض المعاندين الذين أنكروا المعاد وإحياء الموتى، تشبّثوا بطلباتٍ لا مسوّغ لها كي يقرّوا بهذه العقيدة، من ذلك طلب إحياء آبائهم الموتى.

- تحليل الشبهة ونقضها :

تطرّق الكتاب الحكيم إلى هذه الظاهرة مؤكّداً على أنّ آياته براهين ساطعة تدلّ على حتمية البعث والحساب بعد الممات من ذلك قوله تعالى: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ *وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ

ص: 230


1- سورة الجاثية، الآية 32 إلى 34.

آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* »(1).

*الشبهة السادسة : إحياء الموتى ضربٌ من السحر :

بعد أن دحضت استدلالات منكري المعاد والحياة بعد الممات، لم يجدوا بدّاً من تبرير هذا الأمر الواقع إلّا بزعم أنّه ضرب من السحر والشعوذة.

- تحليل الشبهة ونقضها

هذه الشبهة أشار إليها القرآن الكريم وفنّدها في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ »(2).

*الشبهة السابعة: استحالة جمع أعضاء البدن ومكوناته المتناثرة :

قصور عقل الإنسان يقيّده بالفكر المادّي البحت ويحجبه عن تلك القدرة الماورائية التي لا حدّ لها ولا نطاق، لذلك عجز بعض منكري المعاد عن تصوّر وجود هكذا قدرة عظيمة زاعمين استحالة جمع أعضاء بدن الإنسان ومكوّناته الدقيقة بعد تناثرها وتلاشيها في التراب ولا سيّما بعد أن تمضي قرون طويلة بحيث لا يبقى منها شيءٌ يذكر.

- تحليل الشبهة ونقضها :

الله العزيز القدير تحدّى هؤلاء وأكّد لهم في كتابه الكريم بأنّه على كلّ شيءٍ قديرٍ ولا تعزب عنه ذرّةٌ إلّا أحصاها، فهو الذي أوجدها من العدم في خلقتها الأولى، إذ قال:

ص: 231


1- سورة الجاثية ،الآيات 24 إلى 26 .
2- سورة هود، الآية 7 .

-«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ »(1).

- «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(2).

*الشبهة الثامنة : امتزاج خلايا البدن بعد موته مع أبدان حيّة أخرى (شبهة الآكل والمأكول ):

إحدى الشبهات الشائعة والمعقدة التي تشبّث بها منكرو المعاد هي شبهة (الآكل والمأكول) التي فحواها تداخل وامتزاج خلايا الكائن الحيّ بعد موته مع خلايا ومكوّنات كائن حىّ آخر.

وتقريرها بالتفصيل كما يأتي : هناك شواهد تأريخية تدلّ على وجود أكلة لحوم البشر فضلاً عن أنّ بعض الناس حين الجفاف والجدب المدقع قد يبادرون إلى أكل لحوم بني جلدتهم ممّا يترتّب عليه حدوث تداخل وامتزاج مباشر في الخلايا المكوّنة لأبدانهم، ومن الممكن أن يحدث هذا الأمر بشكل غير مباشر كما لو تلاشى بدن المتوفى في التراب وامتصّته جذور النباتات التي يتغذى منها الإنسان أو الحيوان مأكول اللحم. في كلتا الحالتين المذكوريتين تنتقل خلايا بدن الميّت إلى بدن الحيّ وتختلط معها.

ص: 232


1- سورة سبأ، ،الآيتان 3 و 4 .
2- سورة يس ،الآيات 77 إلى 82 .

على أساس ما ذكر، تساءل بعضهم قائلين: كيف ستحشر الخلايا التي انتقلت من بدن الميّت إلى بدن الحيّ في يوم القيامة؟ فهل ستحشر في إطار بدن الآكل أو المأكول؟ وبما أنّ بني آدم سيحشرون من دون أيّ نقصٍ في هيئتهم البنيوية، فكيف يتمّ تعويض هذا النقص في الخلايا المشتركة بين البدنين، إذ لو حشرت في البدن الأوّل كيف يتمّ تعويضها في البدن الثاني، والعكس صحيح؟(1).

- تحليل الشبهة ونقضها :

علماء الكلام فنّدوا هذه الشبهة بقولهم: جسم الإنسان مكوّنٌ من أجزاء أصلية وأخرى فرعية، أمّا الأصلية فهي مصونة من أيّ زيادة أو نقصانٍ ولا يمكن أن يطرأ عليها التغيير والتحوّل، في حين الفرعية من شأنها أن تتغيّر وتنتقل من بدنٍ إلى آخر.

علماء الفلسفة بدورهم تطرّقوا إلى نقض هذه الشبهة في ضمن بيانهم لحقيقة الوجود الإنساني، إذ قالوا: شخصية الإنسان متقوّمة على الروح التي هي عبارةٌ عن حقيقةٍ تتعلّق بالبدن المادّي فتدبّر شؤونه ومن ثمّ تجعله تابعاً لها، لذا ليس من الممكن أن تتغيّر أو تنتقل إلى بدنٍ آخر إثر التغييرات التي تطرأ على البدن الذي تحلّ فيه، فهي واقع شخصية الإنسان الثابتة.

لقد أكّد الفلاسفة على أنّ الإنسان طوال حياته المادية يواجه تغييراتٍ جذريةً في بدنه من الناحيتين الكمّية والنوعية، لكنّ روحه تبقى على حالها من دون أن يطالها أيّ تغيير ذاتيٍّ، فهي واحدة غير قابلةٍ للتقسيم ولا الزوال، وتبعاً لذلك يظلّ الإنسان بما هو إنسان، واحداً لا ثاني له.

ص: 233


1- هذه الشبهة قديمة حيث ذكرها أفلاطون وغيره من الفلاسفة المتقدّمين والمتأخرين من المسلمين وغيرهم بتعابير وتقريرات مختلفة، أهمّها: لو أنّ إنساناً تغذّى على إنسان آخر وأكل جميع أعضائه، فالمحشور لا يكون إلّا أحدهما لأنّه لا تبقى للآخر أجزاء تخلق منها أعضاؤه، وعليه يطرح سؤال فحواه :البدن المحشور بأيّ الروحين سوف يتعلّق ؟ فلو تعلّق بروح الآكل وكان كافراً، والمأكول مؤمناً؛ للزم عقاب المؤمن، ولو عكس الأمر للزم ثواب الكافر؛ وهو ممتنع . للاطلاع أكثر، راجع :العلّامة الحلّي، تجريد الاعتقاد، ص 406.

من البديهي أنّ هذه التغييرات دنيويّة مادّية تحدث في عالم الطبيعة، لكن من الممكن أن تسري إلى عالم الآخرة بنحوٍ آخر ، فقد ذكر الكتاب الحكيم أنّ الكفّار المعذّبين في جهنّم تصطلي جلودهم بالنار وإثر ذلك يبدلهم الله العزيز القهّار جلوداً أخرى، كما في الآية المباركة : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا»(1).

استناداً إلى ما ذكر في النقاط الثمانية نستنتج أنّ المشكّكين بالحياة الأخروية لم يطرحوا أية شبهةٍ حقةٍّ مدعومةٍ ببرهانٍ جليّ يمكن الاعتماد عليه لإنكار البعث بعد الممات، وإنّما ذكروا مزاعم وتخمينات منبثقة من نزعات نفسية وتصوّرات عارية عن الصحة، وكلّ ما جاؤوا به قد تمّ تفنيده في كتاب الله العزيز الذي أكّد على قدرة البارئ اللامتناهية وحقيقة الروح الإنسانية المجرّدة.

فضلاً عن كلّ ما ذكر، فهؤلاء حتّى وإن لجؤوا إلى بعض العلوم الإنسانية لإنكار حقيقة المعاد، إلّا أنّ أطروحاتهم لا تسمن ولا تغني من جوع، إذ لا يمكن لعلم النفس أو الاجتماع أو أيّ علم تجريبي آخر نفي حقيقة البعث والحياة بعد الممات والأكثر وهناً من ذلك ما يدّعيه أصحاب النزعات المادية البحتة من المتعطّشين لملذّات الدنيا والثروات والمناصب السياسية، إذ يرفضون مبدأ المعاد من منطلق أهواء نفسية وبالاستناد إلى شبهاتٍ عقيمةٍ.

* الشبهة التاسعة التناسخ :

التناسخ هو اعتقاد مشتركٌ بين أتباع المذهب العرفاني الشرقي وعلماء الباراسيكولوجيا (علم النفس الغيبي) الذي شاعت فيه ظاهرة التنويم المغناطيسي.

محور الموضوع الذي يدور حوله البحث في هذه العقيدة يمكن تلخيصه في السؤالين الآتيين:

ص: 234


1- سورة النساء، الآية 56 .

- هل أنّ الروح الإنسانية أو الحيوانية تتعلّق ببدنٍ واحدٍ وبعد الموت تلج في عالمٍ آخر غير الدنيا؟

- هل تحلّ الروح الإنسانية أو الحيوانية بعد الموت في بدن آخر لتواصل حياتها الدنيوية؟

المعتقدون بالتناسخ يذهبون إلى أنّ الروح تحلّ في بدن آخر بعد موت البدن الأوّل، إذ قالوا: بعد أن تفارق الروح جسد الكائن الحيّ إثر الموت، تنتقل إلى جسد آخر إنسانيٍّ أو حيوانيٍّ أو نباتيٍّ، بل من الممكن أن تتلبّس في أحد الجمادات؛ حيث تتوالى هذه العملية فتسري من جسدٍ إلى غيره.

- تحليل الشبهة ونقضها

من البديهي أنّ هذه العقيدة تتعارض بالكامل مع حكم العقل ودلالات القرآن الكريم، فقد قال العزيز العليم : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(1).

كلمة (وفاة) ومشتقّاتها في القرآن الكريم تدلّ على عودة الروح إلى الله عزّ وجلّ بعد موت البدن المادّي، قال تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »(2).

هذه العقيدة باطلة أيضاً من الناحية العقلية، إذ يتّرتب عليها اجتماع روحين في بدنٍ واحدٍ، إحداهما تحلّ في البدن بعد أن يصبح وعاءً مستعدّاً لتلقّي الفيض الإلهيّ ولائقاً للاتّصاف بالحياة، والأخرى هي التي تنتقل إليه من بدنٍ آخر .

ص: 235


1- سورة الزمر، الآية 42.
2- سورة المؤمنون، الآيتان 99 و 100.

العقل يدرك بالبداهة استحالة حلول روحين في بدنٍ واحدٍ من منطلق مبدأ الوحدة الشخصية، وهذا الأمر مدعوم بمبدأ الحركة الجوهرية، لأنّ البدن يطوي مسيرته التكاملية على أساس هذه الحركة فيصل إلى مرحلة تجعله متصفاً بقابلية ولوج الروح فيه، ولو تعلّقت فيه روح أخرى في هذه الحالة فهذا يعني اجتماع روحين في بدنِ واحدٍ ؛ وهو محالٌ (1).

ولصاحب تفسير الميزان العلّامة محمد حسين الطباطبائي استدلال مبسوط حول تفنيد عقيدة التناسخ، قال: «إنّ المحصّل من الحسّ والبرهان أنّ الجوهر النباتي المادّي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني، فإنّه يتحرّك إلى الحيوانية، فيتصوّر بالصورة الحيوانية، وهي صورةً مجرّدة بالتجرّد البرزخي ،وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئيٍّ خياليٍّ؛ وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوّة تلبّس بها (2) بالحركة الجوهرية، ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادّي فتصير إيَّاه إلّا أن تفارق مادّتها فتبقى المادّة مع صورة مادّية كالحيوان تموت فيصير جسداً لا حراك به. ثمّ إنّ الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها وأحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكلّ واحدٍ من تلك الأحوال بصدورها منها، ولا يزال نقشٌ عن نقشٍ، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلةٌ متشابهةٌ، تحصّل نقشٌ واحدٌ وصار صورةً ثابتةً غير قابلةٍ للزوال وملكةً راسخةً؛ وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوّع بها نفسٌ حيوانيٌّ فتصير حيواناً خاصّاً ذا صورةٍ خاصةٍ منوّعةٍ كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس، وغير ذلك؛ وإذا لم تحصل ملكةٌ بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، ولو أنّ النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعةً، لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها، لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية

ص: 236


1- صدر المتألهين ،الأسفار الأربعة، ج 9، ص 1 و 2 ؛ الرازيّ المباحث المشرقية، ج 2 ص 396 - 398 .
2- هكذا في نصّ الكتاب والمقصود أنّ فعلية هذه القوّة تتحقّق عبر تلبّسها بالحركة الجوهرية.

المتعلقة بالمادّة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصّاً إن عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتدّاً به، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتدّ به مانعٌ كالموت الاخترامي، بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية . ثمّ إنّ الحيوان إذا وقعت في صراط الإنسانية -وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرّداً عن المادّة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما - خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرّد العقلي، وتحقّقت له صورة الإنسان بالفعل ، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوّتها التي هي التجرّد المثالي على حدّ ما ذكر في الحيوان.

ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورةٌ خاصّةٌ جديدةٌ توجب تنوّع النوعية الإنسانية على حدّ ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدّد لنفسه التعلّق بالمادة - وخاصّةً المادّة التي كانت متعلّقة نفسه من قبل - لم يبطل بذلك أصل تجرّد نفسه، فقد كانت مجرّدةً قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً، وهي مع التعلّق ثانياً حافظةٌ لتجرّدها، والذي كان لها بالموت أنّ الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودةً لها، فلا تقدر على فعل مادّي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها، فإذا عادت النفس إلى تعلّقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرةً وحاصلةً لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منه رجوعاً قهقرى وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص ومن الفعل إلى القوّة.

فإن قلت: هذا يوجب القول بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإنّ النفس المجرّدة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة الأفعال المادية بالتعلّق بالمادّة ثانياً، كان بقاؤها على الحرمان من الكمال إلى الأبد حرماناً عمّا تستدعيه بطباعها، فما كلّ نفسٍ براجعةٍ إلى الدنيا بإعجازٍ أو خرق عادةٍ، والحرمان المستمرّ قسرٌ دائمٌ.

ص: 237

قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوّة إلى الفعل في الدنيا واتصلت إلى حدّ وماتت عندها ،لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائماً، بل يستقرّ على فعليّتها الحاضرة بعد حينٍ أو تخرج إلى الصورة العقليّة المناسبة لذلك وتبقى على ذلك وتزول الإمكان المذكور بعد ذلك، فالإنسان الذي مات وله نفس ساذجةً غير أنّه فعل أفعالاً وخلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، لو عاش حيناً أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورةً سعيدةً أو شقيةً؛ وكذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا وعاش، أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورةً خاصةً جديدةً، وإذا لم يعد فهو في البرزخ مثابٌ أو معذّبٌ بما كسبته من الأفعال حتى يتصوّر بصورةٍ عقليّةٍ مناسبةٍ لصورته السابقة المثالية، وعند ذلك يبطل الإمكان المذكور ويبقى إمكانات الاستكمالات العقلية، فإن عاد إلى الدنيا كالأنبياء والأولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم، أمكن أن يحصل صورةً أخرى عقليّة من ناحية المادّة والأفعال المتعلّقة بها، ولو لم يعد فليس له إلّا ما كسب من الكمال والصعود في مدارجه والسير في صراطه هذا .

ومن المعلوم أنّ هذا ليس قسراً دائماً، ولو كان مجرد حرمانٍ موجودٍ عن كماله الممكن له بواسطة عمل عواملٍ وتأثير عللٍ مؤثّرةٍ قسراً دائماً، لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم وموطن التضادّ أو جميعها قسراً دائماً، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرةٌ في الجميع، وإنّما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الأنواع اقتضاء كمالٍ من الكمالات أو استعداد، ثمّ لا يظهر أثر ذلك دائماً إمّا لأمر في داخل ذاته أو لأمر من خارج ذاته متوجّه إلى إبطاله بحسب الغريزة، فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعدّ للكمال تغريزاً باطلاً وتجبيلاً هباءً لغواً؛ فافهم ذلك.

وكذا لو فرضنا إنساناً تغيرت صورته إلى صورة نوعٍ آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير، فإنّما هي صورةٌ على صورةٍ، فهو إنسانٌ خنزيرٌ أو إنسانٌ قردةٌ، لا إنسان بطلت إنسانيته وحلّت الصورة الخنزيرية أو القردية محلّها، فالإنسان إذا كسب صورةً من صور الملكات تصوّرت نفسه بها؛ ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا

ص: 238

من الكمون إلى البروز على حدّ ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، وقد مرّ أنّ النفس الإنسانيّة في أوّل حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوّع بصورة خاصّة تخصّصها بعد الإبهام و تقيّدها بعد الإطلاق والقبول، فالممسوخ من الإنسان إنسانٌ ممسوخٌ لا أنّه ممسوخ فاقد للإنسانية هذا ، ونحن نقرأ في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا وأمريكا ما يؤخذ جواز الحياة بعد الموت وتبدّل صورة الإنسان بصورة المسخ، وإن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الأخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصّلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالأمس.

فإن قلت : فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ .

قلت كلا فإنّ التناسخ - وهو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر - محال، فإنّ هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلّق نفسين ببدنٍ واحد، وهو وحدة الكثير وكثرة الواحد؛ وإن لم تكن ذا نفس، استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوّة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، وكذلك يستحيل تعلّق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نباتي أو حيواني بما مرّ من البيان»(1).

***

ص: 239


1- محمد حسين الطباطبائي ،الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 117 و 118.

39. منازل الآخرة

إشارة

موضوع (منازل الآخرة) يعدّ واحداً من المباحث الهامة المطروحة في مجال المعاد والحياة بعد الممات والمراد منه تلك المواقف التي يمرّ بها الإنسان بعد أن يفارق الحياة الدنيا حتى يلاقي مصيره المحتوم في جنة النعيم أو عذاب السعير، ولا تتسنّى لنا معرفتها إلّا في رحاب النصوص القرآنية والروائية؛ لذا يمكن تصنيفها بالترتيب الآتي:

1)الموت.

2) القبر والبرزخ.

3) القيامة.

4) النفخ في الصور.

5) الحساب.

6) الصراط

7) الجنّة والنار والأعراف.

وفيما يأتي نتطرّق إلى شرحها وتفصيلها من زاويةٍ قرآنيةٍ حسب الترتيب أعلاه:

المنزل الأوّل: الموت :

عندما تفارق الروحُ الجسدَ لحظة الموت فهي تلج في عالمٍ جديدٍ، لذا يمكن اعتبار هذه اللحظة نهايةً للحياة الأولى وبدايةً لحياةٍ أخرى، حيث قال خاتم الأنبياء

ص: 240

محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الموت أوّل منزلٍ من منازل الآخرة، وآخر منزلٍ من منازل الدنيا، فطوبى لمن أكرم عند النزول بأوّلها، وطوبى لمن أحسن مشايعته في آخرها»(1).

عدد من الآيات القرآنية تحدّثت عن الموت، منها:

-«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »(2).

-«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ»(3).

نستلهم من هذه الآيات أنّ الموت لا يعني فناء الإنسان، فقد عبّر الله تعالى عنه في بالوفاة التي تعني قبض الروح واستلالها من البدن بواسطة الله تعالى أو ملائكته، ومن ذلك قوله : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.»(4). وكما هو واضحٌ في الآية المباركة، فإنّ قبض روح الإنسان لا يقتصر على الموت فحسب، فالمنام أيضاً يعدّ ضرباً من ضروب الموت.

وقد وصف الإمام علي (علیه السلام) الموت بأنّه انتقال من دارٍ إلى أخرى وعدّه بقاءً وليس فناء، فقال: «أشهد بالله ما تنالون من الدنيا نعمةً تفرحون بها إلّا بفراق أُخرى تكرمونها، أيها الناس إنّا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء، لكنّكم من دارٍ إلى دارٍ تُنقلون؛ فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه»(5).

ص: 241


1- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 6، ص 133.
2- سورة البقرة ،الآية 28 .
3- سورة المؤمنون، الآيات 14 إلى 16.
4- سورة الزمر، الآية 42.
5- الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ص 127.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الموت سنةٌ شموليةٌ بحيث يطرأ على كلّ كائنٍ حيٍّ في حياته الدنيوية، فهذه المرحلة من الحياة فانية وتبعاً لذلك سيفني كلّ ما فيها، إذ أكّد الخالق البارئ تبارك شأنه على هذه الحقيقة في آياتٍ عدة منها:

-«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»(1).

-«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ»(2).

-«وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ*كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(3).

الموت حقٌّ وهو حتمٌ محتومٌ، ولكن من ذا الذي يقبض الأرواح؟ أشار القرآن الكريم إلى أنّ الله تعالى وملك الموت وسائر الملائكة يقومون بقبض الأرواح، وذلك في الآيات الآتية:

-«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»(4).

-«قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»(5).

««وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ»(6).

ص: 242


1- سورة آل عمران ،الآية 185.
2- سورة الزمر، الآيتان 30 و 31 .
3- سورة الأنبياء، الآيات 34 و 35.
4- سورة الزمر، الآية 42.
5- سورة السجدة، الآية 11 .
6- سورة الأنعام، الآية 61.

هذه الآيات في الحقيقة ليست متناقضةً في دلالاتها من حيث المتولّي المباشر لقبض الأرواح، إذ قد يقوم الله العزيز القدير بهذا الأمر مباشرةً بحقّ بعض عباده، ويوكل بعضهم الآخر إلى ملك الموت وسائر الملائكة، ومن البديهي أنّ قبض الروح في جميع الأحوال إنّما يتمّ بأمرٍ منه تبارك شأنه؛ لذا يستند إليه هذا الفعل من منطلق مبدأ التوحيد في الأفعال.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ملك الموت لا يقبض جميع الأرواح بنمطٍ واحدٍ، فهو يستلّ روح المؤمن براحةٍ وطمأنينةٍ في حين يزهق روح الكافر بمشقّةٍ وعذابٍ، فقد قال تعالى في كتابه العزيز:

-«الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(1).

- «وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ »(2).

كلنا يعلم بأنّ غالبية الناس يخشون من الموت ولا يرغبون بالتخلّي عن الحياة الدنيوية، ذلك لأسباب عديدة، منها عدم فهمهم لحقيقة الموت وتصوّر كونه فناءً وعدماً، أو بسبب الخوف من سوء العاقبة إثر أعمالهم السيّئة وتنصّلهم عن أحكام الشريعة، أو أنّ الدافع لذلك حبّ الدنيا وملذّاتها الفانية؛ والآيات الآتية تطرّقت إلى ذكر جملة من هذه الأسباب : «وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»(3).

ص: 243


1- سورة النحل ،الآية 32 .
2- سورة الأنفال، الآيتان 50 و 51.
3- سورة البقرة، الآيات 94 إلى 96.

وروي عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «كان للحسن ابن عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهما )صديقٌ، وكان ماجناً فتباطأ عليه أياماً؛ فجاءه يوماً فقال له الحسن (علیه السلام) :كيف أصبحت؟ فقال : يا ابن رسول الله، أصبحت بخلاف ما أُحبّ ويحبّ الله ويحب الشيطان فضحك الحسن (علیه السلام) ثمّ قال : وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن أُطيعه ولا أعصيه، ولست كذلك؛ والشيطان يحبّ أن أعصي الله ولا أُطيعه ولست كذلك؛ وأنا أحبّ أن لا أموت ولست كذلك، فقام إليه رجلٌ فقال : يا ابن رسول الله ما بالنا نكره الموت ولا نحبّه؟ قال: فقال الحسن (علیه السلام): إنّكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب»(1).

لا شكّ في أنّ غاية الله تعالى من وراء خلقة الإنسان في الحياة الدنيا ثمّ قبض روحه كي ينتقل إلى عالمٍ آخر، هي ابتلاؤه واختباره كي يميز الخبيث من الطيّب؛ لذلك وفّر له كلّ سبل الهداية والصلاح في الحياة الدنيا صيانةً له من الانجرار وراء وساوس الشيطان، فقد قال في كتابه الكريم : «تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ »(2).

لقد شرّع الله عزّ وجلّ التوبة لعباده المذنبين بغية تمكينهم من الرجوع إلى فطرتهم السليمة وتشويقهم على الإعراض عن كلّ ما يبعدهم عن الحقّ والحقيقة، ولكنّ هذا الندم يجب أن يتمّ أثناء الحياة التي يتمكّن الإنسان فيها من ارتكاب المعاصي، لذلك فهو غير ناجعٍ في لحظة نزع الروح، حيث قال تعالى:

-«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا»(3).

ص: 244


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 6، ص 129.
2- سورة الملك، الآيتان 1 و 2 .
3- سورة النساء، الآيتان 17 و 18.

-«وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ *آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ»(1).

لحظة مفارقة الروح للبدن تبدأ عندما تنتاب الإنسان سكرات الموت، ففي هذه اللحظة يستعدّ للانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ من حياته ويغادر الدنيا إلى الأبد رغماً عنه، حيث قال سبحانه :

-«وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ»(2).

-«كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ *وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ»(3).

ومن ناحيةٍ أخرى، هناك نمط آخر من الموت، ألا وهو الموت الاجتماعي الذي يعني فناء الحضارات والأقوام واضمحلالها، إذ أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة في آياتٍ عديدةٍ، منها قوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ »(4).

لمّا كان الموت حقاً وفرضاً مفروضاً لا محيص منه، يجب على الإنسان أن يكتب وصيّته عند شعوره باقتراب أجله، وهو ما أكّد عليه القرآن الكريم في الآيتين الآتيتين:

-«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»(5).

ص: 245


1- سورة يونس الآيات 90 إلى 92 .
2- سورة ق الآية 19.
3- سورة القيامة، الآيات 26 إلى 30 .
4- سورة الأعراف ،الآية 34 .
5- سورة البقرة، الآية 180 .

- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ »(1).

المنزل الثاني: القبر والبرزخ :

بعد أن تفارق روح الإنسان جسده المادي، تأتي مرحلة الدفن وعالم البرزخ الذي هو عبارة عن حياةٍ جديدةٍ.

صحيحٌ أنّ الجسد يدفن تحت التراب في قبر يكون مثواه الأخير في الحياة الدنيا، لكنّ المقصود من عالم البرزخ والحياة في القبر غير هذا الاستقرار البدني، فهو عالم متوسط بين الحياة الدنيا وقيام الساعة، لذا حتّى وإن تلاشت أجساد بعض الناس لأيّ سبب كان ولم تدفن في قبرٍ من ترابٍ فهي في الواقع تستقرّ في قبرٍ برزخيٍّ.

الكتاب الحكيم من ناحيته تطرّق إلى الحديث عن القبرين المادّي والبرزخي، والفقهاء بدورهم ساقوا أبحاثهم الفقهية على صعيد أحكام القبر المادّي، في حين أنّ علماء الفلسفة والكلام انصرفوا إلى بيان حقيقة القبر البرزخي وما تواجهه الروح فيه من شقاءٍ أو نعيمٍ. من جملة الآيات التي تضمّنت مفاهيم حول القبر المادّي، ما يأتي:

-«قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ *مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ *مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ *ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ *ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ»(2).

-«وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.»(3).

ص: 246


1- سورة المائدة، الآية 106 .
2- سورة عبس، الآيات 17 إلى 22 .
3- سورة فاطر ، الآية 22 .

ومن جملة الآيات التي أشارت إلى عالم البرزخ الذي يتلو الحياة الدنيا ويسبق الحياة الآخرة، قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »(1).

أكّد القرآن الكريم على أنّ المؤمنين في حياتهم البرزخية يكرمون بشتّى أنواع النعم والملذّات التي تشتهيها الأنفس، حيث قال سبحانه: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ »(2).

من الحقائق التي جاء بها الكتاب الحكيم أنّ الإنسان يموت مرّتين ويحيا مرّتين، فقد قال تعالى: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ »(3). . إذ بعد خلقته في الدنيا يطرق بابه الموت، وهذه هي الميتة الأولى، وأمّا الميتة الثانية فتتحقّق في نهاية الحياة البرزخية بعد النفخ في الصور نفخة الموت التي يُصعق إثرها كلّ من في السماوات والأرض (النفخة الأولى) إلّا من شاء الله سبحانه. وبالنسبة إلى الحياتين اللتين أشار إليهما القرآن الكريم ،فهما الحياة البرزخية والحياة الأخروية التي تبدأ بعد نفخة الحياة النفخة الثانية لإحياء من صُعق في النفخة الأولى؛ فقد قال العليّ القدير في كتابه الكريم: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ »(4).

عالم البرزخ له مواقف وأوصاف خاصّة تميّزه عن عالمي الدنيا والقيامة، ومن

ص: 247


1- سورة المؤمنون، الآيتان 99 و 100 .
2- سورة آل عمران ،الآيات 169 إلى 171 .
3- سورة غافر، الآية 11.
4- سورة الزمر، الآيتان 68 و 69 .

جملتها سؤال القبر الذي تم التأكيد عليه في عددٍ من الروايات، فقد روي عن الإمام عليّ بن الحسين (علیهما السلام) حديث طويل جاء فيه : « ... أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنّكم إليه ترجعون فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خيرٍ محضراً وما عملت من سوءٍ تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه.

ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفولٍ عنه !

ابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك وكأن قد أُوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى منزل وحيداً فردّ إليك فيه روحك واقتحم عليك فيه ملكاك منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك.

ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولّاه؛ ثمّ عن عمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته، فخذ حذرك وانظر لنفسك وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار، فإن تكُ مؤمناً تقيّاً عارفاً بدينك متّبعاً للصادقين موالياً لأولياء الله ؛ لقّاك الله حجّتك ...»(1).

وقد أشارت بعض الروايات إلى أنّ سؤال القبر يواجهه صنفان من الناس، وهما المؤمنون حقاً والمعاندون غاية العناد، فقد روى أبوبكر الحضرمي عن الإمام محمّد الباقر (علیه السلام) أنّه قال: «لا يُسأل في القبر إلّا من مُحضّ الإيمان محضاً، أو مُحضّ الكفر محضاً، فقال الحضرمي له : فسائر الناس؟ أجاب :« يُلهى عنهم »(2).

ضغطة القبر هي من مختصات عالم البرزخ الأخرى، وهناك عدد من الأحاديث التي تؤكّد على هذه الحقيقة وفيها ما أشار إلى أنّها تعمّ بعض المؤمنين أيضاً، وقد تمّ تبريرها بأنّها كفّارة لما أضاعوه من نعم الله تعالى في الحياة الدنيا، ونوّه بعضها على عدم

ص: 248


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 6، ص 223.
2- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار ، ج 6، ص 235.

شمولها للمؤمنين الخلّص. روي عن الإمام الصادق عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما يأتي:« ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم»(1).

المنزل الثالث: القيامة :

حينما تحلّ ساعة الحساب في يوم القيامة ينتقل الخلق من عالم البرزخ إلى عالم جديد له خصوصياته الفريدة التي تميّزه عن سائر العوالم فقد قال العزيز الحكيم في كتابه الكريم: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ»(2).

قبل ذلك اليوم المصيري تحدث وقائع مدوّية في الكون، كزلزلة الأرض زلزلةً عظيمةً وانشقاق السماء وانفطار القمر، فيتغيّر إثر ذلك النظام الحاكم حيث تخرج الأرض أثقالها وتتلاشى جبالها لتصبح كثيباً مهيلاً ويندرس كلّ ما فيها ويكون كالسراب، وتسجّر البحار ولا يبقى فيها كائن حي، فيتناثر كلّ ما في هذه الأرض في الفضاء وكأنّه عهنٌ منفوشٌ؛ ويختلّ نظم المجرّات الكونية فينطفئ نور نجوم السماء وشموشها التي يفوق حجمها كواكب المنظومة الشمسية أضعافاً مضاعفةً وتتصادم مع بعضها وكأنّ عاصفةً هوجاء أزاحتها عن مداراتها الثابتة طوال ملايين السنين؛ ويجمع الله تعالى الشمس والقمر مع بعضهما، فالسماء التي جعلها في الحياة الدنيا كالسقف الشديد تتزعزع أركانها ويختل نظمها الدقيق فتنشق وتطوى كطيّ السجل وقبل ذلك تأتي بدخان مبين بعد انصهار أجرامها وتحوّلها إلى حممٍ ملتهبةٍ.

في هذه الأوضاع المزلزلة ينفخ في الصور النفخة الأولى (نفخة الموت) فيعمّ الرعب والندم في النفوس ومن ثمّ لا يبقى كائن حيّ في الوجود ولا يبقى أثر للحياة في عالم الطبيعة إلّا من خلصت أعماله وتنزّهت روحه ممّن عرف الله حقّ معرفته

ص: 249


1- للاطلاع أكثر ،راجع :المصدر السابق، ص221.
2- سورة محمد ،الآية 18.

وأدرك أسرار الوجود واستحوذت على نفسه محبّة الربّ القدير بكلّ ما للكلمة من معنى؛ وبعد ذلك تبدأ مرحلة جديدة ويلج الخلق في عالم لم تطؤه أقدامهم من قبل وهو عالم البقاء الأبدي الذي يشرق فيه النور الإلهيّ العميم بعد أن ينفخ في الصور النفخة الثانية ( نفخة الحياة)، فيكتنفهم ذهولٌ شديدٌ ويحشرون إلى بارئهم كأنّهم جرادٌ منتشرٌ ويتصوّرون أنّهم لم يلبثوا في عالم البرزخ إلّا ساعة أو يوماً أو بضعة أيامٍ.

في هذا العالم الجديد تنكشف الحقائق وتتجلّى الحكومة الإلهيّة الشاملة لكلّ من أنكرها في الحياة الدنيا ويسود الصمت والاضطراب وكأنّ القلوب قد بلغت الحناجر ولا يفكّر أيّ مخلوق إلّا بنفسه وبما قدّمه في حياته الأرضية بحيث يفرّ من أقرب مقربيه وأحبّ الخلق لديه، فهو لا يطيق ولداً ولا أمّاً ولا أباً ولا عشيرةً، إذ لكلّ واحدٍ منهم حينئذ ما يغنيه؛ فتنقطع سلسلة الأنساب والأرحام والعلاقات التي ارتكزت على المصالح والنزوات الشيطانية لتتحوّل إلى عداء شديد وحسرة وندم مؤرّق يكدّر النفس أيما تكديرٍ (1).

الآيات القرآنية كثيرة على هذا الصعيد، ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثال لا الحصر : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ *وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ *وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ *وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ *وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ *وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ *وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ *وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ *وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ *وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ *وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ *وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ *عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ »(2).

ص: 250


1- للاطلاع أكثر على علائم القيامة ،راجع: محمد تقي مصباح، آموزش عقاید (باللغة الفارسي)، ج 3، ص 86 إلى 88، استناداً إلى سورة الزلزلة الآيتان 1 و 2؛ سورة الحاقّة، الآية 14 ؛ سورة الكهف الآيات 8 و 47 و 99؛ سورة المزمل، الآية 14 ؛ سورة المعارج، الآيتان 8 و 9؛ سورة طه الآية 105 ؛ سورة القيامة، الآيتان 8 و 9؛ سورة الانفطار، الآية 2؛ سورة الطور ،الآية 1 ؛ سورة الرحمن ،الآية 37 ؛ سورة الأنبياء، الآية 104 ؛ سورة الفرقان ،الآية 25 ؛ سورة الزمر، الآيتان 68 و 69 ؛ سورة الأنعام، الآيات 21 إلى 38 ؛ سورة النمل ،الآيات 87 إلى 89 ؛ سورة إبراهيم، الآيتان 21 و 48 ؛ سورة ق ،الآيتان 20 و 44 ؛ سورة القارعة ،الآية 4 ؛ سورة يس ،الآية 51 ؛ سورة الروم، الآية 56 ؛ سورة هود، الآية 105؛ سورة عبس ،الآيتان 34 و 37 ؛ سورة البقرة، الآية 166.
2- سورة التكوير، الآيات 1 إلى 14.
المنزل الرابع: النَّفخ في الصور:

النَّفخ في الصور هو أحد المنازل الأخرى في الحياة بعد الممات، وهناك مرحلتان له الأولى قبل البعث والحساب (نفخة الموت)، والأخرى عند حدوث وقائع القيامة ( نفخة الحياة).

النفخ في اللغة بمعنى إخراج الهواء من الفم، ونفخ النافخ في المزمار أو القصب ونحوهما ليخرج صوتاً؛ والصور هو قرن الحيوان أو ما يسمّى اليوم (بوق) ويبدو أنّ المراد من النفخ المشار إليه في القرآن الكريم (النفخ في الصور) هو ذلك الصوت الرهيب الذي يصدر قبل قيام الساعة والحساب فيُصعق على إثره الأحياء، ومن ثمّ يصدر مرّةً أخرى لتبعث فيهم الحياة ليحشروا في عالم القيامة والحساب؛ لذلك هناك تعابير قرآنية عديدة أشارت إليه منها الصيحة، الصاخّة، الناقور، الزجرة، الراجفة ، الرادفة.

الآيات الآتية تطرّقت إلى وصف هذه الحقيقة:

-«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»(1).

-«وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ *فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ *وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ *قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ *إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ»(2).

-«فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ *يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»(3).

ص: 251


1- سورة الزمر، الآية 68 .
2- سورة يس ،الآيتان 48 إلى 53 .
3- سورة عبس، الآيات 33 إلى 37 .

-«يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ *أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ *يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ *أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً *قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ *فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ»(1).

-«فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ *فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ *عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ»(2).

المنزل الخامس :الحساب :
إشارة

الموقف الآخر من منازل الآخرة حساب الناس على أعمالهم، لذلك أطلق عليه (يوم الحساب)؛ حيث قال تعالى في كتابه الكريم: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ »(3).

وقد أكّد أمير المؤمنين (علیه السلام) على أنّ الإنسان في ذلك اليوم منقطع الأعمال ولا يواجه إلّا ما فعل في حياته الدنيا، فقال: «ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت، ولكلِّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإنّ كلّ ولدٍ سيلحق بأمّه يوم القيامة، وإنّ اليوم عملٌ ولا حسابَ، وغداً حسابٌ ولا عملَ»(4).

یوم الحساب هو في الحقيقة محكمةٌ تتمّ فيها متابعة أعمال العباد بكلّ تفاصيلها وجزئياتها تحت إشراف مليكٍ عادلٍ مقتدرٍ، ففي ذلك اليوم تقام محكمة العدل الإلهيّ التي لا يُظلم فيها أحدٌ مثقال ذرّةٍ بحيث لا تبقى للإنسان أيّة ذريعةٍ للاعتراض على الحكم الصادر .

ص: 252


1- سورة النازعات، الآية 6 إلى 14.
2- سورة المدثر، الآيات 8 إلى 10 .
3- سورة ص ، الآية 26 .وقد أشير إلى يوم الحساب في الآيتين 16 و 53 من نفس هذه السورة، والآية 41 من سورة إبراهيم، والآية 67 من سورة غافر .
4- الشريف الرضي ،نهج البلاغة ،الخطبة رقم: 42.

مع أنّ الله سبحانه عالمٌ بجميع أعمال عباده وبمصيرهم، لكنّه يجمعهم في يوم الفصل ويحاسبهم بنفسه كي ينالوا جزاءهم العادل فيثيب المحسنين إكراماً لإحسانهم ويعاقب المسيئين جزاءً لعصيانهم ، فقد قال في كتابه الكريم :

-«وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ»(1).

-«إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ»(2).

كما أكّد سبحانه على أنّ الحقائق في ذلك اليوم ستنكشف للخلق ولا يمكن لأحدٍ أن يشكّك بالحقّ أو أن يدّعي الباطل لدرجة أنّ نفس الإنسان تذعن بما اقترفت وكفى بها حسيباً حينما تنظر إلى صحيفة أعمالها، فقد جاء في الكتاب الحكيم: «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا *اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا »(3).

إذن، هكذا يتمّ الحساب وكلّ إنسانٍ يشاهد سجلّ أعماله بصغيره وكبيره محضراً أمامه وقبل أن يصدر الحكم الإلهيّ بشأنه فإنّ نفسه تحاسبه ولا يبقى له أيّ مجال للاعتراض على حكم الله العادل.

الآيات التي أشارت إلى كيفية الحساب على صنفين:

الصنف الأوّل: آيات أشارت إلى أنّ الإنسان سيحاسب على جميع أعماله بجميع جزئياتها، ومنها ما يأتي:

-«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(4).

ص: 253


1- سورة الرعد ،الآية 40.
2- سورة الشعراء، الآية 113 .
3- سورة الإسراء، الآيتان 13 و 14.
4- سورة النحل، الآية 93 .

-«إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(1).

الصنف الثاني آياتٌ أشارت إلى أنّ الإنسان سيحاسب على بعض أعماله، منها:

-«ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»(2).

- «وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ »(3).

-«وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ»(4).

وهناك كثير من الروايات التي أكّدت على أنّ الإنسان في يوم الحساب سيُسأل عن عمره فيما أفناه وعن رزقه كيف اكتسبه وأين أنفقه، كما يسأل عن القرآن والعترة والصلاة، وما إلى ذلك؛ ومنها الرواية الآتية:

عن رقية بنت إسحاق بن موسى بن جعفر ، عن أبيها (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربعٍ: عن عمره فيما أفناه وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت»(5).

هناك سؤال يطرح على هذا الصعيد، وهو : هل أنّ الله تعالى يحاسب جميع بني آدم من دون استثناء، أو أنّ هناك من يثاب خير الثواب دونما مساءلةٍ وحسابٍ؟

ص: 254


1- سورة الزمر، الآية 7 .
2- سورة التكاثر ،الآية 8.
3- سورة الزخرف، الآية 19.
4- سورة النحل، الآية 56 .
5- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 7، ص 258.

الآيات المباركة على ثلاثة أقسام ودلالاتها على هذا الموضوع كالآتي:

1)جميع الناس الذين أرسل إليهم الأنبياء يحاسبون من دون استثناءٍ.

-«فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ *فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ *وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ»(1)..

2)المجرمون والظالمون يُسألون عمّا اقترفوا في الحياة الدنيا.

-«وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ *هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ *وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ»(2).

3)المؤمنون الصابرون ينالون ثواب إيمانهم وصبرهم من دون حساب.

-«أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ *قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(3).

- الأسس الأربعة في محكمة العدل الإلهيّ:
إشارة

هناك أربعة مقوّمات أساسية يرتكز عليها الحساب عند حشر الناس في يوم القيامة و شروع محكمة العدل الإلهيّ لمجازاة الناس على ما فعلوا من خير وسوء، وهي الكتاب (صحيفة الأعمال) والميزان والشهود وتجسّم الأعمال.

ص: 255


1- سورة الأعراف ،الآيات 6 إلى 9.
2- سورة الصافات، الآيات 20 إلى 24.
3- سورة الزمر، الآيتان 9 و 10.
أوّلاً: الكتاب

أكّد القرآن الكريم في مواطن عديدة على تخصيص صحيفة أعمالٍ لكلّ إنسانٍ، إذ تكتب فيها أعماله بحذافيرها صغيرةً كانت أو كبيرةً، لذلك سمّيت هذه الصحيفة كتاباً؛ وهناك آياتٌ صرّحت بأنّ المؤمن يحمل كتابه بيمينه والكافر يحمله بشماله أو يؤتاه وراء ظهره .

فيما يأتي نذكر مضامين ودلالات الآيات المباركة ودلالاتها على هذا الصعيد:

1)تدوّن في الكتاب كلّ أعمال الإنسان التي بدرت منه طوال حياته الدنيوية وكأنّه ملفٌّ أدرجت فيه معلوماتٌ كاملةٌ.

-«إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»(1).

2)الكتاب في يوم القيامة ناطقٌ.

-«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ *وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

3)الكتاب شامل لجميع أعمال الإنسان بصغيرها وكبيرها من دون أن يستثني شيئاً منها .

-«وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ *وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ»(3).

4)لكلّ كتاب كاتبان مكلّفان بمراقبة الإنسان طوال حياته وتدوين كلّ ما يبدر منه.

ص: 256


1- سورة يس ،الآية 12.
2- سورة الجاثية، الآيات 27 إلى 29.
3- سورة القمر، الآيتان 52 و 53 .

- «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(1).

5)لكلّ إنسانٍ كتاب مختصٌّ بأعماله وفي يوم القيامة إمّا أن يحمله بيمينه أو بشماله.

-«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ *فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ *إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ»(2). «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ *وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ *يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ *مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ *خُذُوهُ فَغُلُّوهُ *ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ»(3).

6)الذين يحملون كتابهم بيمينهم يكون حسابهم هيّناً يسيراً، في حين الذين يؤتونه من وراء ظهورهم فيحاسبون حساباً صعباً عسيراً.

-«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا *وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ *فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *وَيَصْلَى سَعِيرًا»(4).

ثانياً: الميزان :

الله العادل المقسط لا يظلم مثقال ذرّةٍ، لذلك وضع الميزان في يوم الحساب بالعدل والقسط ليوفّى المحسنين ثواب إحسانهم ويطال المسيئين عقاب إساءتهم، فالقيامة محكمة العدل الإلهيّ التي ينال بنو آدم فيها جزاءهم العادل، ومن ومن البديهي أنّ كفّة أعمال المؤمنين ترجح على الكفّة الأخرى بعد امتلائها بالأعمال الحسنة، في حين أنّ كفّة أعمال المعاندين ليست كذلك وهي خفيفة لا ترجح وكأن لم يوضع فيها شيءٌ.

ص: 257


1- سورة ق ،الآيتان 17 و 18 .
2- سورة الحاقة، الآيات 18 إلى 21 .
3- سورة الحاقة، الآيات 25 إلى 31.
4- سورة الانشقاق، الآيات 7 إلى 12 .

ومن الآيات المباركة التي تطرّقت إلى هذا الأمر :

-«وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ»(1).

- «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ »(2).

-«وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ»(3).

ثالثاً: الشهود :
إشارة

لا ريب في أنّ محكمة العدل الإلهيّ تمتلك مقوّمات المحاكمة العأدلة جميعها، ومن جملة ذلك حضور شهود يشهدون على أعمال الإنسان، لذلك وصف الكتاب الحكيم يوم القيامة بأنّه: «يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ»(4).

نستشفّ من القرآن الكريم أنّ الشهود في يوم القيامة على صنفين، هما:

(1شهودٌ محيطون بأعمال الناس.

يشهد على الإنسان في يوم القيامة كلّ من أحاط بأعماله، لذا سوف يشهد عليه الله تعالى والأنبياء (علیهم السلام) والنبيّ الخاتم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأمة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها أمّةٌ وسطٌ والملائكة والأرض التي حدث عليها العمل، كما ستشهد عليه صحيفة أعماله أيضاً .

ص: 258


1- سورة الأنبياء، الآية 47.
2- سورة المؤمنون، الآيات 102 إلى 104.
3- سورة الأعراف ،الآيتان 8 و 9.
4- سورة غافر، الآية 51 .

ومن الآيات التي تدلّ على هذه الحقيقة:

-«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(1).

-«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(2).

-«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ *يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(3).

-«يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا»(4). نعم ،إنّ الأرض و کلّ ما فیها سينطق في يوم القيامة ويشهد على ما ارتكبه البشر من أعمال، لذلك فمن يشكّ في هذه الحقيقة نقول له : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»(5).

-«وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(6).

2) أعضاء بدن الإنسان وجوارحه.

جميع أعضاء بدن الإنسان سوف تشهد عليه في يوم الحساب وتقرّ بما بدر منه حتى جلده سينطقه العزيز القدير فيعترف بما اقترف صاحبه، ذلك كي لا تبقى له أية ذريعةٍ لإنكار أعماله السيئة؛ والآيات المباركة خير دليل على هذه الحقيقة:

ص: 259


1- سورة الحج، الآية 17.
2- سورة البقرة، الآية 143 .
3- سورة الانفطار، الآيات 10 إلى 12 .
4- سورة الزلزلة ،الآيتان 4 و 5.
5- سورة الإسراء، الآية 44.
6- سورة الكهف، الآية 49.

-«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ »(1).

-«وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ»(2).

رابعاً: تجسّم الأعمال:

لقد أكّدت التعاليم الدينيّة على أنّ أعمال الإنسان سوف تتجسّم أمامه في يوم القيامة فتبدو ظاهرةً له بحذافيرها كما فعلها تماماً.

الثواب والعقاب في يوم الحساب منوطان بما فعله الإنسان إبّان حياته الدنيوية، أي إنّهما نتيجة لهذه الأعمال، لذلك حينما يريد الله تعالى مجازاة الإنسان فهو يجسّم له كلّ ما بدر منه ويظهره أمام عينيه كما صدر في الدنيا فيكرمه على كل عمل حسن ويعاقبه على كل فعلٍ مشينٍ .

لا شكّ في أنّ النيّة أساسٌ لكل عمل يقوم به الإنسان، وقد تؤدّي إلى ترسيخ بعض الأعمال الحسنة أو القبيحة في النفس فتأنس بها لتصبح فيما بعد ملكةً ثابتةً تسوق الإنسان نحو النعيم أو الجحيم؛ وهذه الملكات سوف تظهر على حقيقتها في يوم الحساب.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الآيات القرآنية عدّت الثواب والعقاب بأنّهما عين أعمال الإنسان التي بدرت منه في الدنيا، في حين أنّ آياتٍ أخرى عدّتهما نتيجةً لأعماله

ص: 260


1- سورة النور، الآيتان 24 و 25 .
2- سورة فصلت، الآيات 19 إلى 22.

الدنيوية؛ وهذا الاختلاف في الوصف ربّما يكون ناشئاً من أنّ العمل تارةً يصدر إثر ملكةٍ نفسانيةٍ، وفي هذه الحالة سيكون ثوابه أو عقابه مطابقاً له - عينه - وتارةً أخرى لا يصدر من منطلق كونه ملكةً نفسانيةً، لذلك يصبح الثواب أو العقاب نتيجةً له.

قال الله الحكيم في كتابه الكريم:

- «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(1).

-«وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(2).

-«يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا *هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ *أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ *اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).

وهذا الحديث يدلّ بوضوح على تجسّم الأعمال في يوم القيامة:

روى أبو بصير عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «استقبل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟

فقال يا رسول الله مؤمنٌ حقاً.

فقال له رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : لكلّ شيء حقيقةٌ، فما حقيقة قولك؟

فقال: يا رسول الله عزّفَتْ نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ هواجري وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة، وكأنّي أسمع عٍواء أهل النار في النار.

ص: 261


1- سورة الزلزلة ،الآيات 6 إلى 8.
2- سورة الكهف، الآية 49.
3- سورة الطور، الآيات 13 إلى 16.

فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : عبدٌ نوّر الله قلبه؛ أبصرتَ فاثبتَّ.

فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك.

فقال: اللّهمّ ارزق حارثة الشهادة.

فلم يلبث إلّا أياماً حتى بعث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سريةً، فبعثه فيها فقاتل فقتل تسعةً أو ثمانية، ثمّ قتل »(1).

كما روي عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قوله : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوّر له عمله في صورةٍ حسنةٍ، فيقول له ما أنت؟! فو الله إنّي لأراك امرئ الصدق فيقول له: أنا عملك. فيكون له نورٌ أو قائدٌ إلى الجنّة.

وإنّ الكافر إذا خرج من قبره صُوّر له عمله في صورةٍ سيّئةٍ وبشارةٍ سيّئةٍ، فيقول: من أنت؟! فو الله إنّي لأراك امرئ السوء. فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخل النار»(2).

المنزل السادس: الصّراط:

الصّراط هو أحد المزايا التي يختصّ بها عالم القيامة، ويوصف بأنّه جسرٌ فوق جهنّم يمرّ عليه جميع الناس، حيث قال تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا *ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا»(3).

الأحاديث المباركة بدورها تطرّقت إلى الحديث عن هذه الحقيقة الثابتة وأشير فيها إلى أنّ بني آدم ليسوا سواءً في عبوره، فالمؤمنون حقاً لا يواجهون أيّة صعوبةٍ في ذلك

ص: 262


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 22، ص 126.
2- محمدي الريشهري، ميزان الحكمة ،الحديث رقم: 2139 نقلًا عن كنز العمّال.
3- سورة مريم ،الآيتان 71 و 72 .

في حين المعاندون سيعانون الأمرين عليه ومنهم من لا يعبره مطلقاً فيسقط في قعر جهنّم، ونكتفي هنا بذكر الروايتين الآتيتين:

قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أثبتكم قدماً على الصراط ، أشدّكم حبّاً لأهل بيتي »(1).

قال الإمام الصادق (علیه السلام) : «الناس يمرّون على الصراط طبقاتٍ، والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف فمنهم من يمرّ مثل البرق، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ حبواً، ومنهم من يمرّ مشياً، ومنهم من يمرّ متعلّقاً قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً»(2).

المنزل السابع: الجنّة وجهنّم والأعراف :
إشارة

آخر موقفٍ من مواقف الآخرة هو تقسيم الناس بين الجنة والنار بصفتهما منزلين أبديين فالجنّة هي دار النّعيم الإلهيّ التي يحظى السعداء فيها بشتّى المكارم المادّية والمعنوية، وجهنّم هي دار السعير التي يعذب فيها المعاندون عذاباً أليماً ولا يرون فيها برداً ولا سلاماً.

نستشفّ من بعض الروايات أنّ الجنّة وجهنّم موجودتان الآن، وهذا الأمر مدعومٌ بمسألة تجسّم الأعمال.

القرآن الكريم أشار إلى وجود جنّتين ونارين حيث يُسعد المؤمنون في الجنّة البرزخية قبل أن يكرمهم الله تعالى بالجنّة الأخروية بعد يوم الحساب، كما هناك نارٌ برزخيةٌ يعذّب فيها المجرومون قبل دعهم في نار جهنّم بعد يوم الحساب.

هناك عدد من الآيات في الكتاب الحكيم أشارت إلى الجنّة والنار في يوم القيامة، ومن جملتها الآيات 26 من سورة يس و 46 من سورة غافر و 133 من سورة آل

ص: 263


1- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 8، ص 69.
2- المصدر السابق، ص 64 و 65.

عمران و 21 من سورة الحديد و 100 من سورة التوبة؛ في حين سائر الآيات التي تطرّقت إلى النعيم والعذاب بعد الممات قد أشارت إلى الجنة والنار في عالم البرزخ .

وفيما يأتي نسلّط الضوء على مضامين الآيات التي تحدثت عن الجنة والنار الأبديتين:

أوّلاً: الآيات التي تحدثت عن جهنّم الأبدية

هناك كثير من الآيات التي تضمّنت كلاماً حول جهنّم وصفاتها وما سيجري على المعذّبين فيها، فبعض هذه الآيات وصف جهنّم وتحدّث عن طبيعتها وهيئتها من قبيل أبوابها وطبقاتها، وبعضها الآخر تحدّث عن نوع العذاب الجسماني والنفسي الذي يطال أهلها، في حين هناك آياتٌ تطرّقت إلى بيان صفات المعذّبين فيها والذين سيخلّدون بين أطباقها إلى الأبد.

نذكر فيما يأتي آياتٍ ومباحث مقتضبةً حول التصينف المذكور:

1) وصف جهنّم ( طبيعتها وهيئتها):

-«إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ *وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ »(1).

-«فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ»(2).

- «إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا»(3).

2) العذاب البدني الذي سيواجهه المعذبون في جهنّم:

-«إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الْأَثِيمِ *كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الْحَمِيمِ»(4).

ص: 264


1- سورة الحجر، الآيتان 42 و 43.
2- سورة النحل، الآية 29 .
3- سورة النساء ،الآية 149 .
4- سورة الدخان، الآيات 43 إلى 46.

-«هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ *لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ *لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ »»(1).

-«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا»(2).

3)العذاب النفسي الذي سيواجهه المعذبون في جهنّم:

-«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(3).

-«إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ»(4).

-«إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا»(5).

4) المعذّبون في جهنّم :

مسألة الخلود في الحياة الآخرة هي إحدى المواضيع المطروحة للبحث في ضمن المباحث المتعلّقة بالجنّة وجهنّم، ونستلهم من تعاليمنا الدينيّة أنّ أهل الجنة مخلّدون فيها أبد الآبدين، في حين الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى جهنّم، إذ لا يخلّد فيها كل من وردها، بل هناك من يُخرج منها بعد حين ويبقى الآخرون مخلّدين بين أطباقها إلى الأبد.

هذه المسألة أثارت كثيراً من النقاشات بين علماء الكلام والعقائد، وكلّ فرقةٍ دينيّة اتخذت موقفاً تجاهها، وفيما يأتي نذكر بعض تلك المواقف:

ص: 265


1- سورة الغاشية، الآيات 1 إلى 7.
2- سورة النساء ،الآية 56 .
3- سورة الحج، الآية 57.
4- سورة المجأدلة ،الآية 5 .
5- سورة الفرقان ،الآيتان 12 و 13.

الخوارج كانوا يعتقدون بأنّ مرتكب الكبائر من الذنوب كافرٌ ومن ثَمَّ سوف يخلّد في جهنم إلى الأبد.

- طائفةٌ من المعتزلة عدّوا مرتكب الكبائر فاسقاً ومع ذلك فقد ذهبوا إلى القول بأنّه خالدٌ في جهنّم.

- علماء الشيعة من أمثال الشيخ المفيد (1) يرون أنّ الكافر فقط يخلّد في جهنم إلى الأبد، والمراد هنا الكفر العقائدي (الإلحاد)، وليس الكفر الفقهي (عدم العمل بالأحكام الشرعيّة).

- المرجئة نحوا منحىً متطرّفاً وقالوا بأنّ المؤمن مهما كان ذنبه كبيراً فهو لا يعاقب بتاتاً (2).

5)الخالدون في جهنّم:

هناك عدد من الآيات المباركة ذكرت صفات المعاندين الذين سيخلّدون في نار جهنّم إلى الأبد، ويمكن تصنيفهم كما يأتي:

أ - المكذّبون بآيات الله تعالى:

-«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ»(3).

ص: 266


1- للاطلاع أكثر ، راجع :الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات.
2- ما ذهب إليه المرجئة يتعارض بشكل صريح مع قوله تعالى : «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . سورة الزلزلة ،الآيات 6 إلى 8.
3- سورة الأعراف ،الآيتان 36 و 37.

ب - المعادون لله ورسوله :

-«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ *أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ»(1).

ج - العصاة والمتمرّدون على الحقّ:

-«إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا *حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا»(2).

د - الظلمة والطغاة

- «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ »(3).

ه - الأشقياء:

-«يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ *فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»(4).المقصود من الشقاء هنا هو الشرك والكفر كما هو مضمون الآية 109 من نفس هذه السورة.

و - المجرمون:

-«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ *وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ *وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ»(5).

ص: 267


1- سورة التوبة، الآيتان 62 و 63 .
2- سورة الجن، الآيتان 23 و 24 .
3- سورة يونس ،الآية 52.
4- سورة هود ،الآيات 105 إلى 107.
5- سورة الزخرف، الآيات 74 إلى 77 .

ز - الغارقون في المعاصي والآثام طوال حياتهم:

-«وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1).

ح - الغارقون في الشرك والقتل وارتكاب الكبائر :

-«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا»(2).

ط - العامدون في تجاهل أحكام القرآن الكريم والمعرضون عنه:

-«كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا *مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا *خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا»(3).

ي - الذين خفّت موازينهم:

-«وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ»(4).

ك - أكلة الربا ممن يعلمون بحرمة ذلك:

-«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(5).

ص: 268


1- سورة البقرة، الآيتان 80 و 81 .
2- سورة الفرقان ،الآيتان 68 و 69.
3- سورة طه، الآيات 99 - 101.
4- سورة المؤمنون، الآية 103 .
5- سورة البقرة، الآية 275.

ل - قاتل النفس المؤمنة عمداً :

-«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(1) . هذه الآية المباركة تدلّ في ظاهرها على تخليد كلّ من يقتل مؤمناً متعمداً من دون تحديد ما إن كان كافراً أو غير كافر، لكن يمكن تقييد دلالتها بالأحاديث التي أكّدت على أنّ الخلود في جهنّم مختصّ بالكافرين فحسب.

إضافةً إلى الآيات المذكورة أعلاه، هناك آيات عديدة أخرى أشارت إلى المعذّبين في نار جهنّم وبئس المصير من دون أن تصرح بخلودهم أو عدم خلودهم فيها، ويمكن تلخيص دلالاتها كما يأتي:

-اتّباع الشيطان (سورة الأعراف، الآية 18).

-الركون إلى الظلمة. (سورة هود، الآية 113).

-الظّلم . (سورة الكهف، الآية 29).

-حبّ الدنيا والإعراض عن الآخرة. (سورة الإسراء، الآية 18)

-اكتناز الذهب والفضّة وعدم انفاقهما في سبيل الله . (سورة التوبة، الآية 34)

-الفرار من الزحف (سورة الأنفال، الآية 16)

-ترك الصلاة وعدم إطعام المسكين ومجالسة عبيد الدنيا والتكذيب بيوم الدين. (سورة المدّثر، الآيات 43 إلى 46 )

-عدم دفع الزكاة (سورة فصّلت، الآية 7)

-أكل مال اليتيم بغير حقٍّ. (سورة النساء، الآية 1)

ص: 269


1- سورة النساء، الآية 93.

-الكفر بنعمة الله. (سورة إبراهيم، الآيتان 28 و 29 )

-التطفيف في الميزان (سورة المطفّفين، الآيات 1 إلى 7)

-الإسراف والتبذير. (سورة غافر ، الآية 43)

-الغيبة والسخرية بالآخرين . (سورة الهمزة، الآيات 1 إلى 4 )

-ارتكاب الجرائم. (سورة مريم، الآية 86)

-تجاهل يوم الدين. (سورة الجاثية، الآية 34)

لا ريب في أنّ الحكمة من الخلود في جهنّم تتّضح لنا فيما لو تمعنا بالعلاقة التكوينيّة الموجودة بين الذنوب والعقاب الأخروي، فالإنسان الذي أصبح الكفر ملكةً نفسانيةً ملازمةً له سيتحوّل باطنه إلى واقعٍ شيطانيٍّ لا يمكن أن يتبدل أبداً؛ وهذه الحالة سبب لبقائه معذّباً إلى أبد الآبدين لكونه يتجرّع الكأس التي ملأها بالسمّ القاتل بيديه وبمحض اختياره .

ثانياً: الآيات التي تحدّثت عن الجنّة الأبدية:
إشارة

إنّ الجنّة دار القرار والطمأنينة للصالحين والمؤمنين، ويمكن تقسيم الآيات المباركة التي تحدّثت عنها في ضمن ثلاثة أقسام، فهناك آياتٌ وصفتها وذكرت طبيعتها وهيئتها، وهناك آياتٌ أخرى تحدّثت عن مختلف النعم الجسمانية والمعنوية التي سيحظى بها سكانها، في حين أنّ عدداً منها تطرّق إلى العوامل التي تجعل الإنسان مستحقّاًّ لدخولها .

وفيما يأتي نسلّط الضوء على هذه الأقسام بشكل موجزٍ:

1) وصف الجنة (طبيعتها وهيئتها):

ص: 270

ذكرت مجموعة من الأوصاف للجنة في القرآن الكريم، ونكتفي هنا بذكر بعض الآيات في هذا الصدد:

-«وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ »(1).

-«هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ *جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ»(2).

-«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(3).

-«سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(4).

2) النّعم الجسمانية والمعنوية التي سينالها المخلّدون في الجنّة:

هناك كثير من الآيات المباركة التي تحدّثت عن شتّى أنواع النّعم الجسمانية والمادّية التي سينالها سكنة جنّة الخلد، فقد ذكرت أشياء رائعة يتمنّاها كلّ إنسان من قبيل الحدائق الغنّاء والظلال الوارفة والقصور العظيمة والأرائك المريحة ومختلف أنواع الأطعمة والأشربة اللذيذة والثياب الناعمة والخدم والحور العين والأزواج المطهرة، و ما سوى ذلك من فضائل جمّة ونعم ممّا لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت.

أمّا الآيات التي أشارت إلى اللذّة المعنوية في جنّة الخلد فقد أكّدت على أنّ المؤمنين سينالون غاية المحبّة والاحترام ويعيشون بوئامٍ وسلامٍ آمنين من كلّ شرٍّ ومكروهٍ،

ص: 271


1- سورة الزمر، الآية 73 .
2- سورة ص، الآيتان 49 و 50.
3- سورة الرعد، الآيتان 23 و 24 .
4- سورة الحديد، الآية 21.

ويجالسون أمثالهم من الصلحاء الأوفياء من دون أن ينتابهم أيّ هاجس يؤرّق أذهانهم، وسيحظون بمقام القرب الإلهيّ الذي وعدوا به من قبل.

وفيما يأتي نذكر بعض الآيات التي تمحورت حول ما ذكر :

*آيات النعيم واللذة المادّية والجسمانية:

-«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1).

-«يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ *وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ *وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *وَحُورٌ عِينٌ *كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ »(2).

- «وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ *فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ *وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ *وَظِلٍّ مَمْدُودٍ *وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ *وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ *وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ *إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً *فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا »(3).

-«يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »(4).

-«وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *ذَوَاتَا أَفْنَانٍ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ /مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ»(5).

ص: 272


1- سورة النساء، الآية 13.
2- سورة الواقعة، الآيات 17 إلى 23.
3- سورة الواقعة، الآيات 27 إلى 37.
4- سورة الصف، الآية 12.
5- سورة الرحمن، الآيات 46 إلى 54.

-«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1).

-«وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ *وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ»(2).

-«أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا»(3).

-«ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ *يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »(4).

* آيات النعيم واللذّة المعنوية:

-«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(5).

-«وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(6).

-«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ»(7).

ص: 273


1- سورة البقرة ،الآية 25 .
2- سورة الطور ،الآيات 22 إلى 24.
3- سورة الكهف، الآية 31 .
4- سورة الزخرف، الآيتان 70 و 71.
5- سورة الرعد ،الآيتان 23 و 24 .
6- سورة يونس ،الآية 25 .
7- سورة الدخان ،الآية 51 .

-«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا»(1).

-«لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا *إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا»(2).

-«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(3).

-«فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(4).

3)الشروط اللازم توفّرها لدخول جنّة الخلد :

أ-الإيمان والعمل الصالح.

-«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(5).

ب - التقوى.

-«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا»(6).

ج - عدم اتّباع أهواء النفس

-«وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(7).

د - عدم التأنّي في المبادرة إلى الخير والطاعة.

-«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ *فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(8).

ص: 274


1- سورة النساء، الآيتان 69 و 70.
2- سورة الواقعة، الآيتان 25 و 26 .
3- سورة القيامة، الآيتان 22 و 23 .
4- سورة السجدة، الآية 17.
5- سورة البقرة، الآية 82.
6- سورة مريم، الآية 63.
7- سورة النازعات، الآيتان 40 و 41.
8- سورة الواقعة، الآيات 10 إلى 12.

ه- الصبر.

-«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(1).

و - الاعتقاد بالله والاستقامة.

-«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(2).

ز - إطاعة الله ورسوله.

-«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »(3).

ح - الإخلاص في العمل.

- «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ *أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ *فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ *فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(4).

ط - الصدق .

-«قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(5).

ص: 275


1- سورة الرعد، الآيتان 23 و 24 .
2- سورة الأحقاف، الآيتان 13 و 14.
3- سورة النساء، الآية 13.
4- سورة الصافات، الآيات 40 إلى 43.
5- سورة المائدة، الآية 119 .

ي - موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه.

-«لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(1).

ثالثاً: الأعراف:

فضلاً عن الجنّة وجهنّم ،أشار الكتاب الحكيم إلى الأعراف في الآيات الآتية: «وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ *وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ»(2).

نستشفّ من هذه الآيات أنّ الأعراف مقامٌ مرتفعٌ واقعٌ بين الجنّة وجهنّم، ويقف فوقه أشخاصٌ يشرفون على أصحاب النعيم والجحيم، لذا يمكن وصف هذا المكان بالآتي:

1) مكانٌ مستقلٌّ عن الجنّة وجهنّم.

2) أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنّة والنار، ولهم علم بمصير كلّ إنسان نظراً للكمال المعنوي والدرجات العليا التي بلغوها.

3)الأنبياء والأولياء والصلحاء في كلّ أمةٍ هم من أهل الأعراف.

***

ص: 276


1- سورة المجادلة، الآية 22 .
2- سورة الأعراف ،الآيات 46 إلى 48.

40.الرجعة :

إشارة

عقيدة الرجعة هي إحدى المعتقدات الهامّة بين أتباع مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ،(1) وقد أشير إليها في القرآن الكريم والروايات بهذا اللفظ وبألفاظ أخرى من قبيل الإياب والحشر.

- معنى الرجعة :
أوّلاً: المعنى اللغوي :

كلمة (رجعة) مصدر مشتقٌّ من (رجع) ، وعرّفها علماء اللغة بالآتي:

الخليل بن أحمد الفراهيدي: «رجع: رجعت رُجوعاً، ورجعته يستوي فيه اللازم والمجاوز، والرَّجْعَةُ (المرّة الواحدة)»(2).

محمد بن مكرم بن منظور : «الرجعة (المرّة من الرجوع) »(3).

الزبيدي: «فُلانٌ يُؤْمِنُ بالرَّجْعَةِ، بِالْفَتْح: أي بالرجوع إلى الدُّنيا بعد الموتِ ... يُقال: لَهُ على امْرَأَتِه رِجْعَةٌ ورَجْعَةٌ ، بالكسْرِ وَالْفَتْح، وَهُوَ عَوْدُ المطلّق إِلَى مُطَلَّقَتِه، وَيُقَال أَيضاً طَلَّقَ فُلانٌ فلانةَ طَلاقاً يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ والرَّجْعَةَ ... وجاءَ فلان برِجْعَةٍ حَسَنَةٍ، أَي بشيءٍ صالحٍ اشتراه مكانَ شيءٍ طالح، أَو مَكَان شيءٍ قد كانَ دُونَه»(4).

الراغب الأصفهاني: «الرُّجُوعُ : العود إلى ما كان منه البدء، أو تقدير البدء مكاناً

ص: 277


1- نتقدّم بالشكر والامتنان للسيد رودبندي زاده الذي قدّم لنا يد العون في مجال استقراء آراء العلماء المسلمين حول عقيدة الرجعة.
2- الخليل بن أحمد الفراهيدي، العين، ج 1، ص 225.
3- محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، ج 8، ص 114.
4- الزبيدي تاج العروس، ج 11، ص 156 .

كان أو فعلاً أو قولاً، وبذاته كان رجوعه، أو بجزء من أجزائه أو بفعلٍ من أفعاله . فَالرُّجُوعُ : العود، والرَّجْعُ: الإعادة، و(الرَّجْعَةُ) و(الرَّجْعَةُ) في الطلاق وفي العود إلى الدنيا بعد الممات، ويقال : فلان يؤمن بالرَّجْعَةِ»(1).

الجوهري: «فلانٌ يؤمن بالرَجْعَةِ، أي بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت. وقولهم : هل جاء رَجْعَةُ كتابك، أي جوابه. وله على امرأته رَجْعَةٌ ورِجْعَةٌ أيضاً، والفتح أفصح. ويقال: ما كان من مَرْجُوعِ فلانٍ عليك أي من مردودٍه وجوابه. والرَجْعَةُ: الناقةُ تباع ويُشْتَرَى بثمنها مثلها، فالثانية راجعَةٌ ورجيعة. وقد ارْتَجَعْتُها، وتَرَجَّعتُها، ورَجَّعْتُها. يقال: باع فلانٌ إبله فارْتَجَعَ منها رِجْعَةً صالحةً بالكسر ، إذا صرف أثمانها فيما يعود عليه بالعائدة والصالحة»(2).

ثانياً: المعنى الاصطلاحي :

الرجعة بصفتها عقيدةً من معتقدات الشيعة الإماميّة لها معنى اصطلاحي، لكنّ بعض علماء الكلام تطرّقوا إلى إثبات إمكانية تحقّقها من دون أن يذكروا معناها الاصطلاحي كالفضل بن شاذان والشيخ الصدوق؛ في حين أنّ بعض الأعلام ذكروا لها تعريفاً حينما تناولوها بالشرح والتحليل كالشيخ المفيد والسيّد المرتضى وأبي الصلاح الحلبي والشيخ الطوسيّ والشيخ الطبرسي وعبد الجليل القزويني.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ جميع علماء الكلام من الإماميّة يعتقدون بإحياء بعض الموتى قبل حلول القيامة وفي عصر ظهور الإمام المهدي (علیه السلام).

- معارضو الرجعة :

احتدمت النقاشات بين علماء الإماميّة وبين منكري عقيدة الرجعة، لذلك تصدّوا إلى بيان طبيعتها وأثبتوا ضرورة تحقّقها، ومن جملتهم الفضل بن شاذان الذي ردّ على منتقديها بالقول: «وقال الجزرى في أسد الغابة: (قال أبو نعيم: اختُلف في وقت ذكر

ص: 278


1- الحسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، المفردات في غريب القرآن، ص 342.
2- إسماعيل بن حماد الجوهري ،الصحاح ، ج 3، ص 1216 - 1217.

الرجعة) ، ورأيناكم عبتم عليهم شيئاً تروونه من وجوه كثيرةٍ عن علمائكم وتؤمنون به وتصدّقونه، ونحن مفسّرون ذلك لكم من أحاديثكم بما لا يمكنكم دفعه و لاجحوده فلا تستقيم إلّا بتكلّفٍ وتجشّمٍ »(1).

ثمّ نقل روايةً عن أهل السنّة حول الموضوع، وهي: «ورويتم عن يزيد بن الحبّاب عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك قال : لمّا مات زيد بن خارجة، نافست الأنصار في غسله حتى كان بينهم منازعةٌ، ثمّ استقام رأيهم على أن يغسّله الغسلتين الأولتين الذين كانوا يلون غسله، ثمّ يدخل عليه من كلّ فخذٍ سيّدها فيصبّون عليه الماء صبّةً واحدةً - يعني في الغسلة الثالثة - قال أنس: فأدخلت فيمن دخل، فلمّا ذهبنا لنصبّ عليه الماء، تكلّم فقال : مضت اثنتان وبقيت أربع، يأكل غنيّهم فقيرهم فارضوا لرضاهم لكم ، أبو بكر الصدّيق ليّنٌ رحيمٌ بالمؤمنين، عمر شديدٌ على الكفّار لا يأخذه في الله لومة لائم، عثمان ليّن رحيمٌ فاسمعوا له وأطيعوا فإنّكم على منهاج عثمان . ثمّ خمد صوته فإذا اللسان يتحرّك والجسد ميّتٌ »(2).

كما نقل عن محمد بن عبيد الطنافسي عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي ما يأتي: «إنّ قوماً أقبلوا من الدفينة(3) متطوّعين أو قال: مجاهدين، فنفق حمار رجلٍ منهم فسألوه أن ينطلق معهم ولا يتخلّف، فأبى فقام فتوضّأ ثمّ صلّى، ثمّ قال: اللهم إنّك تعلم أنّي قد أقبلت من الدفينة مجاهداً في سبيلك ابتغاء مرضاتك، وإنّي أسألك أن لا تجعل لأحدٍ عليَّ منةً وأن تبعث لي حماري. ثمّ قام فضربه برجله، فقام الحمار ينفض أُذنيه، فأسرجه وألجمه، ثمّ ركب حتى لحق أصحابه، فقالوا له: ماشأنك؟ قال: شأني أنّ الله بعث لي حماري. قال محمد بن عبيد: قال إسماعيل بن أبي خالد: قال الشعبي: فأنا رأيت حماره بيع بالكناسة »(4).

ص: 279


1- الفضل بن شاذان، الإيضاح، ص 382 .
2- المصدر السابق ،ص 389 و 390 ؛ ابن عساكر تأريخ مدينة دمشق، ج 3، ص224.
3- منطقة تقع بين مكّة والبصرة.
4- المصدر السابق ،ص 420 - 423 ؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 6، ص 170 ؛ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ،امتناع الأسماع، ج 5، ص 284.

وبعد أن نقل نقل عدداً من الروايات على هذا الصعيد ذكر مؤاخذةً على منكري الرجعة قائلاً: «ولسنا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، ولكنّا نعجب أنّكم إذا بلغكم عن الشيعة قول عضّتموه وشنّعتموه وأنتم تقولون بأكثر منه، والشيعة لا تروي حديثاً واحداً عن آل محمّد أنّ ميّتاً رجع إلى الدنيا كما تروون أنتم عن علمائكم، إنّما يروون عن آل محمّد أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال لأمته : ( أنتم أشبه شيءٍ ببني إسرائيل، والله ليكوننّ فيكم ما كان فيهم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه). وهذه الرواية أنتم تروونها أيضاً وقد علمتم أنّ بني إسرائيل قد كان فيهم من عاش بعد الموت ورجعوا إلى الدنيا فأكلوا وشربوا ونكحوا النساء وولد لهم الأولاد، ولا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، فإن شاء أن يردّ من مات من هذه الأمة - كما ردّ بني إسرائيل - فعل، و إن شاء لم يفعل»(1).

- إمكانية تحقّق الرجعة :

استدلّ الفضل بن شاذان وسائر علماء الكلام الإماميّة بقدرة الله المطلقة لإثبات إمكانية تحقّق الرجعة فهو تبارك شأنه ذو قدرةٍ غير متناهيةٍ ومن الهين عليه إحياء الموتى في الحياة الدنيا، حيث قال: «ولا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، فإن شاء أن يردّ من مات من هذه الأمة - كما ردّ بني إسرائيل - فعل، وإن شاء لم يفعل»(2)، وقال أيضاً: ولسنا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، ولكنّا نعجب أنّكم إذا بلغكم عن الشيعة قولٌ عضّتموه وشنّعتموه وأنتم تقولون بأكثر منه»(3).

أمّا السيّد المرتضى فقد ساق البحث في إطار موضوعي الجواهر والأعراض، وتطرّق إلى بيان تفاصيله بطريقةٍ فلسفيّةٍ لإثبات قدرة البارئ جلّ وعلا في إحياء الموتى، فهو يعتقد بأنّه تعالى قادرٌ على إيجاد الجواهر بعد الموت في أيّ زمن شاء، كما

ص: 280


1- الفضل بن شاذان، الإيضاح، ص 425 و 426.
2- المصدر السابق ،ص 426 .
3- المصدر السابق، ص 425 .

قسم الأعراض إلى قسمين؛ حيث قال: «إعلم أنّ الذي يقول الإماميّة في الرجعة لا خلاف بين المسلمين، بل بين الموحّدين في جوازه؛ وأنّه مقدور لله تعالى، وإنما الخلاف بينهم في أنّه يوجد لا محالة، أو ليس كذلك.

ولا يخالف في صحّة رجعة الأموات إلّا ملحدٌ وخارج عن أقوال أهل التوحيد لأنّ الله تعالى قادر على إيجاد الجواهر بعد إعدامها، وإذا كان عليها قادراً، جاز أن يوجدها متى شاء .

والأعراض التي بها يكون أحدنا حيّاً مخصوصاً، على ضربين :

أحدهما : لا خلاف في أنّ الإعادة بعينه غير واجبةٍ، كالكون والاعتماد وما يجري مجرى ذلك .

والضرب الآخر : اختلف في وجوب إعادته بعينه، وهو الحياة والتأليف .

وقد بيّنا في كتاب الذخيرة أنّ الإعادة بعينها غير واجبة إن ثبت أنّ الحياة والتأليف من الأجناس الباقية، ففي ذلك شكّ، فالإعادة جائزة صحيحةٌ على كلّ حالٍ »(1).

- إثبات تحقّق الرجعة :

علماء الكلام الإمامية، بمن فيهم الفضل بن شاذان والشيخ الصدوق والشيخ الطبرسي وأبو الفتوح الرازيّ وقطب الدين الراوندي والسيّد ابن طاووس، استندوا إلى حديثٍ مرويٍّ عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأجل إثبات أنّ الرجعة أمر ضروريٌّ سيتحقّق في الحياة الدنيا، فقد شبّه صلوات الله عليه أمته بالأمم السالفة. كما تمسّكوا ببعض الآيات القرآنية التي تضمنت هذا الموضوع من قبيل الآيات 83 من سورة النمل و6 من سورة الإسراء و 11 من سورة غافر و 39 من سورة النحل و 56 من سورة البقرة و 55 من سورة النور و 6 من سورة القصص و 77 من سورة المؤمنون. وأيضاً استدلّوا عليها بالأخبار التي تنصّ على عودة النبيّ عيسى بن مريم (علیهما السلام)، والسيّد المرتضى بدوره لجأ إلى إجماع العلماء لأنّه لا يعتقد بصحّة خبر الواحد.

ص: 281


1- الشريف المرتضى ،رسائل المرتضى، ج 3، ص 135 و 136.

وقد ذكرنا في المبحث السابق أنّ الفضل بن شاذان أكّد على تحقّق الرجعة واعترض على أهل السنّة الذين أنكروها بحديث نقلوه في أهمّ مصادرهم الحديثية عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ونبّههم على أنّهم أولى بهذه العقيدة من الشيعة لأنّهم نقلوا أحاديث عدة حول إحياء الموتى في الدنيا في حين أنّ الشيعة لم ينقلوا في مصادرهم حديثاً واحداً في هذا الصدد. ومن جملة أحاديث أهل السنة التي نقلها والتي أشرنا إليها في المبحث السابق هو الحديث المروي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أنتم أشبه شيء ببني إسرائيل، والله ليكوننّ فيكم ما كان فيهم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه»، (1)وقد خاطبهم قائلًا: «علمتم أنّ بني إسرائيل قد كان فيهم من عاش بعد الموت ورجعوا إلى الدنيا فأكلوا وشربوا ونكحوا النساء وولد لهم الأولاد»(2).

وفي كتاب (مختصر إثبات الرجعة)، نقل الفضل بن شاذان عشرين روايةً لإثبات تحقّق الرجعة، بما فيها الرواية الآتية المروية عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «قال الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهما السلام) لأصحابه قبل أن يقتل بليلةٍ واحدةٍ: إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال : يا بنیَّ إنك ستساق إلى العراق تنزل في أرض يقال لها عمورا وكربلاء، وإنك تستشهد بها وتستشهد معك جماعة ... فابشروا بالجنّة، فو الله إنّما نمكث ما شاء الله تعالى بعد ما يجري علينا، ثمّ يخرجنا الله وإياكم حين يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم وعليهم السلاسل والأغلال وأنواع العذاب والنكال ... »(3) .

كما نقل العلّامة المجلسيّ الرواية الآتية عن الإمام محمّد الباقر (علیه السلام) بإسناد الفضل بن شاذان عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إذا ظهر القائم ودخل الكوفة، بعث الله تعالى من ظهر الكوفة سبعين ألف صديق، فيكونون في أصحابه وأنصاره» (4). كذلك نقل

ص: 282


1- نقل هذا الحديث في مختلف مصادر أهل السنّة، وبما فيها: البخاري ،صحيح البخاري ، ج 4، ص 144 - ج 8، ص 151 ؛ الترمذي، سنن الترمذي، ج 4 ،ص 135 ؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 1، ص 128 - 129 - ج 4، ص 461؛ المتّقي الهندي ، كنز العمّال، ج 11، ص 230 - ج 11، ص 170 - ج 1، ص 211 و ص 183.
2- الفضل بن شاذان، الإيضاح، ص 426.
3- نقلًا عن مجلة تراثنا ،العدد 15 ص 208 و209.
4- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 53، ص 104.

الرواية الآتية عن الفضل بن شاذان أيضاً عن الرضا (علیه السلام) أنّه قال: «من أقرّ بتوحيد الله ...»، وساق الكلام إلى أن قال: «وأقرّ بالرجعة والمتعتين، وآمن بالمعراج والمسألة في القبر والحوض والشفاعة وخلق الجنة والنار والصراط والميزان والبعث والنشور والجزاء والحساب، فهو مؤمن حقاً وهو من شيعتنا أهل البيت»(1).

ومن الأدلّة التي تمسّك بها الشيخ الصدوق لإثبات الرجعة، الروايتان الآتيتان:

- حدثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثني يعقوب بن يزيد عن محمّد بن الحسن الميثمي عن مثنى الحنّاط قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «أيام الله عزّ وجلّ ثلاثة، يوم يقوم القائم، ويوم الكرّة، ويوم القيامة»(2).

علي بن أحمد بن عبد الله، عن أبيه عن جده عن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن عمرو بن شمر عن عبدالله قال قال الصادق (علیه السلام) :«من أقرّ بستة أشياء فهو مؤمن : البراءة من الطواغيت والإقرار بالولاية والإيمان بالرجعة والاستحلال للمتعة وتحريم الجرّي و ترك المسح على الخفّين»(3).

أمّا الشيخ المفيد فقد اعتمد على الآيتين 47 من سورة الكهف و 83 من سورة النمل لإثبات وجود حشرين، أحدهما عام ويجمع الله تعالى فيه جميع الناس من دون استثناء وموعده في يوم القيامة (الحشر الأكبر)، والآخر خاصٌّ (حشر الرجعة) يجمع الله فيه بعض الناس وموعده في الحياة الدنيا قبل قيام الساعة، والثاني هو المراد في عقيدة الرجعة التي يؤمن بها الشيعة.

والآيتان هما:

ص: 283


1- المصدر السابق ،ص 121 .
2- الشيخ الصدوق، الخصال، ص 108 ؛ معاني الأخبار، ص 365 و 366.
3- الشيخ الصدوق ،صفات الشيعة، ص 29.

-«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا»(1). هذه الآية تشير إلى الحشر الأکبر في یوک القیامة.

- «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ»(2).هذه الآية تشير إلى الحشر الخاص في الرجعة.

نستشفّ من هاتين الآيتين أنّ الحشر على نوعين، عامٌّ و خاصٌّ ؛ وبما أنّ الحشر العامّ الذي يحدث في يوم القيامة لا يتخلّف عنه أحدٌ من الناس ويتمّ فيه الحساب النهائي للأعمال، فذلك يعني أنّ حشر الرجعة (الخاصّ) الذي يجمع الله فيه فوجاً من كلّ أمةٍ لا يحدث في اليوم الموعود ( يوم القيامة)، ومن ثَمَّ فهو من الأحداث التي تقع في الحياة الدنيا، ومن هذا المنطلق لا يمكن تفسيره إلّا بالرجعة التي يعتقد بها أتباع مذهب أهل البيت (علیهم السلام)(3).

كما استدلّ هذا العالم الفذّ بالآية الحادية عشرة من سورة غافر لإثبات تحقّق الرجعة، وهي قوله تعالى: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ »(4)، إذ فسرّ الإماتة والإحياء مرّتين بالإحياء بعد الموتة الأولى في الحياة الدنيا والإحياء في الحياة الآخرة عند قيام الساعة، والأوّل هو الرجعة بعينها، و فنّد رأي من ذهب إلى غير هذا التفسير بالقول: «وللعامّة في هذه الآية تأويل مردود، وهو أنّ المعنى بقوله « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ »أنّه خلقهم أمواتاً ثمّ أماتهم بعد الحياة. وهذا باطلٌ لا يجري على لسان العرب، لأنّ الفعل لا يدخل إلّا على ما كان بغير الصفة التي انطوى اللفظ على معناها ومن خلقه الله مواتاً لا يقال إنّه أماته، وإنّما يقال ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة. كذلك لا يقال أحيا الله ميّتاً إلّا أن يكون قد كان قبل إحيائه ميّتاً، وهذا بيّن لمن تأمّله .

ص: 284


1- سورة الكهف، الآية 47.
2- سورة النمل، الآية 83 .
3- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 32 - 33.
4- سورة غافر، الآية 11.

وقد زعم بعضهم أنّ المراد بقوله « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ »الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمساءلة، فتكون الأولى قبل الإقبار والثانية بعده. وهذا أيضاً باطلٌ من وجه آخر، وهو أنّ الحياة للمساءلة ليست للتكليف فيندم الإنسان على ما فاته في حاله وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم المرّتين يدلّ على أنّه لم يُرد حياة المساءلة، لكنّه أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم على تفريطهم، فلا يفعلون ذلك فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك»(1).

السيّد المرتضى بدوره استدلّ بإجماع الإماميّة لإثبات تحقّق الرجعة، إذ أجمعوا على هذه العقيدة اعتماداً على كلام المعصومين (علیهم السلام)، أي إنّ هذا الإجماع يكتسب حجّيته من حجّية كلامهم ؛ قال : «والدلالة على صحّة هذا المذهب أنّ الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدورُ لله تعالى غير مستحيل في نفسه، فإنّا نرى كثيراً من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلةً غير مقدورةٍ . واذا أثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور، فالطريق إلى إثباتها إجماع الإماميّة على وقوعها، فإنّهم لا يختلفون في ذلك، وإجماعهم - قد بّينا في مواضع من كتبنا - أنّه حجّةٌ لدخول قول الإمام (علیه السلام) فيه، وما يشتمل على قول المعصوم من الأقوال، لا بدّ فيه من كونه صواباً »(2).

-أهل الرجعة :

باعتقاد علماء الكلام الإماميّة فإنّ الرجعة في الحياة الدنيا بعد الموت لا تشمل الناس قاطبةً، وإنّما ترجع فئتان منهم فقط، الأولى تشمل ذوي أعلى مراتب الإيمان كالأنبياء والأولياء الصالحين، والثانية تشمل ذوي اعلا درجات الكفر والنفاق؛ وقد أشارت الروايات إلى أسماء بعض الأشخاص الذين سيرجعون، ومنهم النبيّ عيسى بن مريم والإمام عليّ والإمام الحسين (علیهم السلام) وكذلك مرتكبو جريمة كربلاء الأليمة

ص: 285


1- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 33 .
2- الشريف المرتضى ،رسائل المرتضى، ج 1، ص 125 و 126.

وعائشة وخمسة عشر شخصاً من قوم النبيّ موسى (علیه السلام) وأصحاب الكهف ويوشع بن نون وسلمان الفارسي وأبو دجانة الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر وأصحاب الإمام المهدي (علیه السلام) وشيعته وأعداؤه.

وقد رأى بعض العلماء - من أمثال المحقّق القزويني - أنّ الرجعة تشمل الأمم السالفة فقط (1).

صنّف الشيخ المفيد أهل الرجعة في فئتين: «وأقول: إنّ الراجعين إلى الدنيا فريقان، أحدهما من علت درجته في الإيمان وكثرت أعماله الصالحات وخرج من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات، فيريه الله عزّ وجلّ دولة الحق ويعزّه بها ويعطيه من الدنيا ما كان يتمناه. والآخر من بلغ الغاية في الفساد وانتهى في خلاف المحقّين إلى أقصى الغايات وكثر ظلمه لأولياء الله واقترافه السيئات ... »(2). . وأكّد على هذا التصنيف بتخصيصٍ أدقّ في كتابٍ آخر بعد أن ذكر روايةً عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)، وقال: «إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من مُحضّ الإيمان محضاً أو مُحضّ الكفر محضاً، فأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب»(3).

وقد أكّد على أنّ الرجعة تشمل أمّة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ممّن نالوا أعلى مراتب الإيمان ومن الذين اتّصفوا بالكفر والنفاق، ولا تعمّ أبناء سائر الأمم السالفة، قال: «والرجعة إنّما هي الممحّضي الإيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأمم الخالية»(4).

ص: 286


1- عبد الجليل القزويني، كتاب النقض، ج 2، ص 305.
2- الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، ص 78 .
3- الشيخ المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص 90.
4- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 35.
- الهدف من الرجعة :

المعتقدون بالرجعة أكّدوا على أنّ الغاية منها إقامة العدل في الدنيا والانتقام من أعداء الله تعالى وإحياء دين الحق وتأسيس حكومة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) الذين هم خلفاء النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الأرض ليراها أعداؤهم بأمّ أعينهم وينعم فيها المؤمنون فيعيشون تحت ظلّها بعزّة وكرامة، أي إنّ الله تبارك وتعالى سيريهم حقيقة حكومة الحقّ التي وعدهم بها وسيثبت لهم قدرته المعصوم على إقامة حكومة عدلٍ وصلاحٍ لا يعاني في كنفها أيّ إنسانٍ من ظلمٍ ولا حيفٍ.

قال الشيخ المفيد واصفاً الرجعة: «... فينتصر الله تعالى لمن تعدّى عليه قبل الممات ويشفي غيظهم منه بما يحلّه من النقمات؛ ثمّ يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من دوام الثواب والعقاب، وقد جاء القرآن بصحّة ذلك وتظاهرت به الأخبار والإماميّة بأجمعها عليه إلّا شذاذاً منهم تأوّلوا ما ورد فيه مما ذكرناه على وجهٍ يخالف ما وصفناه»(1).

كما أكّد على أنّ أحد أهدافها هو تمكين المؤمنين للثأر من أعدائهم الذين ظلموهم وسلبوا حقوقهم جوراً وعدواناً، قال: «والرجعة عندنا تختصّ بمن مُحضّ الإيمان ومُحضّ الكفر دون ما سوى هذين الفريقين، فإذا أراد الله تعالى على ما ذكرناه أوهم الشيطان أعداء الله عزّ وجلّ إنّما ردّوا إلى الدنيا لطغيانهم على الله فيزدادوا عتوّاً، فينتقم الله تعالى منهم بأوليائه المؤمنين ويجعل لهم الكرّة عليهم فلا يبقى منهم أحدٌ إلّا وهو مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب، وتصفو الأرض من الطغاة ويكون الدين لله تعالى »(2).

ص: 287


1- الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، ص 78.
2- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 36 .
- الشبهات التي أثيرت حول الرجعة :
إشارة

كما هو متعارف، فقد بادر منكرو الرجعة إلى طرح شبهات حولها كما هو الحال بالنسبة إلى سائر معتقدات الإماميّة الحقّة، لكنّ علماءنا تصدّوا لها بالنقد والتفنيد، وعلى رأسهم السيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ وفيما يأتي نتطرّق إلى ذكر فحوى هذه الشبهات ونقضها :

* الشبهة الأولى : الرجعة ضربٌ من الإعجاز والإعجاز من مختصّات الأنبياء (علیهم السلام):
إشارة

ذهب بعض علماء المعتزلة إلى استحالة تحقّق الرجعة في الحياة الدنيا لكونها ضرباً من الإعجاز، وقد مكّن الله تعالى الأنبياء فقط على الإتيان بالمعجزات بغية إقناع الناس بصحّة رسالتهم وحقانية نبوّتهم؛ وبما أنّ النبوّة ختمت بعد سيّدنا محمد بن عبدالله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فليس من الممكن تحقّق الرجعة حينئذٍ.

-تحليل الشبهة ونقضها :

ردّ الشيخ الطوسيّ على هذه الشبهة بإلغاء تخصيص الإعجاز بالأنبياء، فقال: «وقالت المعتزلة : ( لا يجوز أن يكون ذلك إلّا في زمان نبيٍّ، لأنّ المعجزة لا يجوز ظهورها إلّا للدلالة على صدق نبيٍّ، تكون له آيةً). وقد بيّنا فساد ذلك في غير موضع، وأنّه تجوز المعجزات على دينٍ من الصادقين: من الأئمة والأولياء وإن لم يكونوا أنبياء»(1).

*الشبهة الثانية: الرجعة وازعٌ لارتكاب المعاصي :
إشارة

عالم الكلام المعتزلي أبو القاسم البلخي ذكر مؤاخذةً على الرجعة معتبراً إياها واحدةً من المغريات التي تحفّز الإنسان على ارتكاب المعاصي، حيث قال إنّ العاصي

ص: 288


1- الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن ،ج 1 ص 255 - ج 2، ص 283.

يفعل ما يشاء لأنّه يعلم برجوعه في الحياة الدنيا مرّةً أخرى فيؤمل على التوبة حينها، و الله تعالى يقبل توبة عباده في الحياة الدنيا وهذا يعني أنّ الاعتقاد بالرجعة يستلزم القول بكون الله عزّ وجلّ رغّب العباد على ارتكاب الذنوب والآثام. ونصّ كلامه: «لا تجوز الرجعة مع الإعلام بها، لأنّ فيها إغراء بالمعاصي من جهة الاتّكال على التوبة في الكرّة الثانية»(1).

-تحليل الشبهة ونقضها :

الشيخ الطوسيّ فنّد هذه الشبهة بالاعتماد على كلامٍ لأحد علماء المعتزلة البارزين، وهو عليّ بن عيسى الرماني (296ه - 384ه) الذي قال: «هذا ليس بصحيح من قِبَل أنّه لو كان فيها إغراء بالمعصية، لكان في إعلام التبقية إلى مدةٍ إغراءٌ بالمعصية؛ وقد أعلم الله تعالى نبيّه وغيره إبليس أنّه يبقيه إلى يوم يبعثون، ولم يكن في ذلك إغراء بالمعصية وعندي أنّ الذي قاله البلخي ليس بصحيح، لأنّ من يقول بالرجعة لا يقطع على أنّ الناس كلّهم يرجعون، فيكون في ذلك اتّكال على التوبة في الرجعة، فيصير إغراءً، فلا أحد من المكلّفين إلّا ويجوز أن لا يرجع، وإن قطع على الرجعة في الجملة، ويجوز أن لا يرجع ؛ فكفى في باب الزجر »(2). وأضاف الشيخ الطوسيّ قائلاً : «وأما قول الرماني (إنّ الله تعالى أعلم أقواماً مدّة مقامهم)، فإنّ ذلك لا يجوز إلّا فيمن هو معصوم يؤمن من جهة الخطأ، كالانبياء ومن يجري مجراهم في كونهم معصومين؛ فأما من ليس بمعصوم فلا يجوز ذلك، لأنّه يصير مُغرى بالقبح، وأمّا تبقية إبليس مع إعلامه أن يستبقيه إلى يوم القيامة، ففيه جوابان :

أحدهما : إنّه إنّما وعده قطعاً بالتبقية بشرط ألّا يفعل القبيح، ومن فعل القبيح حقّ اخترته عقبه، ولا يكون مُغرى.

ص: 289


1- الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 255.
2- الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 255.

والثاني : إنّ الله قد علم أنّه لا يريد بهذا الإعلام فعلاً قبيحاً، و إلّا لما كان يفعله، وفي ذلك إخراجه من باب الإغراء.

وقد قيل:« إنّ إبليس قد زال عنه التكليف، وإنّما أمكنه الله من وسوسة الخلق تغليظاً للتكليف وزيادةً في مشاقّهم ، ويجري ذلك مجرى زيادة الشهوات أنّه يحسن فعلها إذا كان في خلقها تعريضُ للثواب الكثير الزائد»(1).

* الشبهة الثالثة: الرجعة والتكليف :
إشارة

عندما يرجع الله تعالى من كُتبت عليه الرجعة في آخر الزمان، فهو آنذاك يكون قد مرّ بمرحلةٍ في قبره أزيحت فيها الحجُب المادّية التي تغشى أبصار الناس في الحياة الدنيا بحيث شاهد الثواب والعقاب الحقيقيين اللذين يترتّبان على الأعمال الحسنة والسيئة، لذلك لا يبقى له وازع كي يرتكب المعاصي مرّةً أخرى خشيةً من العذاب الأليم الذي لمسه بالعيان، أي إنّه يضطرّ إلى عدم فعل أيّ ذنبٍ ويبادر إلى فعل الخير.

قد يقال إنّ هذا الأمر جبرٌ في الأفعال (جبر بالمعنى الفلسفي)، لكنّه في الحقيقة ليس كذلك لكونه جبراً نفسياً ناشئاً من دوافع الإنسان، أي إن الدوافع النفسية تصبح بشكل بحيث لا ترغب الإنسان بفعل المنكر ومن ثَمَّ فهو يبادر إلى فعل الخير وترك الذنوب من منطلق الخشية من العذاب الأليم الذي شاهده في حياته البرزخية؛ وهذا الأمر لا بدّ من أن يستوجب رفع التكليف عمّن تشمله الرجعة لكونه لا يمتلك الدافع لارتكاب المعاصي.

- تحليل الشبهة ونقضها :

السيّد المرتضى ناقش هذه الشبهة وردّ عليها بقوله : «وقد بيّنا أنّ الرجعة لا تنافي التكليف، وأنّ الدواعي متردّدة معها حين لا يظنّ ظانٌّ أنّ تكليف من يُعاد باطلٌ،

ص: 290


1- المصدر السابق.

وذكرنا أنّ التكليف كما يصحّ مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة، فكذلك مع الرجعة، لأنّه ليس في جميع ذلك مُلجئٌ إلى فعل الواجب والامتناع من فعل القبيح»(1).

إذن، لما كان أهل الرجعة مخيّرين في أفعالهم، فلا مانع من كونهم مكلّفين.

*الشبهة الرابعة: الرجعة والتوبة :
إشارة

هذه الشبهة متفرّعةٌ على القول بتكليف جميع أهل الرجعة، إذ لو كانوا مكلّفين فذلك يستدعي قدرة العصاة والمتجبّرين على الرجوع إلى صوابهم والتوبة إلى الله تعالى معلنين ندمهم على ما اقترفوه من آثام وجرائم ، لذا قد تشملهم رحمته الواسعة لأنّه يقبل التوبة من عباده؛ في حين أنّ الإماميّة لا يقولون بتوبتهم رغم اعتقادهم بتكليفهم آنذاك.

- تحليل الشبهة ونقضها :

تطرّق السيّد المرتضى إلى الردّ على هذه الشبهة بالقول: «فإن قيل: فإذا كان التكليف ثابتاً على أهل الرجعة، فتجوّزوا ثبوت تكليف الكفّار الذين اعتقدوا النزول استحقاق العقاب .

قلنا : عن هذا جوابان، أحدهما أنّ من أُعيد من الأعداء للنكال والعقاب لا تكليف عليه، وإنّما قلنا إنّ التكليف باقٍ على الأولياء لأجل النصرة والدفاع والمعونة. و الجواب الآخر أنّ التكليف وإن كان ثابتاً عليهم، فتجوّزون بعلم الله تعالى أنّهم لا يختارون التوبة، لأنّا قد بيّنا أنّ الرجعة غير ملجئة إلى قول القبيح وفعل الواجب، وأنّ الدواعي متردّدة، ويكون وجه القطع على أنّهم لا يختارون ذلك ممّا علمنا وقطعنا عليه من أنّهم مخلّدون لا محالة في النار»(2).

ص: 291


1- الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، ج 1، ص 126.
2- الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، ج 3، ص 137.

وقال العلّامة محمّد باقر المجلسيّ على هذا الصعيد: «الظاهر أنّ زمان الرجعة ليس زمان تکلیفٍ فقط، بل هو واسطة بين الدنيا والآخرة، بالنسبة إلى جماعةٍ دار تكليفٍ وبالنسبة إلى جماعةٍ دار جزاءٍ ؛ فكما يجوز اجتماعهم في القيامة، لا يبعد اجتماعهم في ذلك الزمان»(1).

* الشبهة الخامسة: الرجعة والتناسخ :
إشارة

أهمّ شبهةٍ طُرحت حول عقيدة الرجعة ،هي تشبيهها بفكرة التناسخ، إذ عُدّت نمطاً من أنماط التناسخ الذي هو باطل باعتقاد الشيعة الإمامية؛ ومن ثمّ يترتّب على القول بها حدوث تناقضٍ عقائديٍّ صريحٍ.

- تحليل الشبهة ونقضها :

تصدّى علماء الكلام الإماميّة لهذه الشبهة بغية إثبات أنّ الرجعة ليست ضرباً من التناسخ، فقد أكّد السيّد المرتضى على أنّ الإماميّة يعدّون التناسخ باطلاً جملةً وتفصيلاً بحيث عدّ القائلین به كافرين بالتعاليم الإسلامية الحقة، حيث قال: «ولا اعتبار بقول طائفةٍ من أهل التناسخ بخلاف ذلك، لأنّ أصحاب التناسخ لا يُعدّون من المسلمين ولا ممّن يدخل قوله في جملة الإجماع، لكفرهم وضلالهم وشذوذهم من البين»(2).

ص: 292


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 25، ص 108 و 109 .
2- الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، ج 1، ص 425.
نتیجة البحث:

نستنتج ممّا ذكر حول عقيدة الرجعة بأنّها من المسائل العقائدية التي يمكن إثباتها بالدليل في مختلف الشرائع، ناهيك عن أنّها لاتتعارض مع أيٍّ من المعتقدات الدينيّة، وأمّا الشبهات التي أُثيرت حولها فهي عقيمةٌ وليس من شأنها تفنيدها.

لو تتبّعنا تأريخ علم الكلام وأمعنّا النظر في البحوث التي طرحت للنقاش فيه حول هذه العقيدة، لوجدنا أنّ بعضهم صوّر الرجعة بنحو يختلف عن دلالتها الحقيقية على وفق آراء الشيعة الإماميّة وهو أمرٌ تسبّب في فسح المجال لبعض المعارضين في إثارة شبهاتٍ حولها.

ص: 293

المصادر والمراجع

1.ابن خلدون ،عبدالرحمن ،مقدّمة ابن خلدون ،ترجمه إلى الفارسية: محمد پروین گنابادي ،منشورات علمي و فرهنگي، طهران.

2. ابن سينا ،الإشارات والتنبيهات ،منشورات الكتاب، قم، 1377 ق.

3 .ابن سينا ،التعليقات ،قم، منشورات بوستان کتاب، 1379 ش .

4.ابن سينا، ،الشفاء، الإلهيّات، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405 ق.

5. ابن سينا ،رسالة منطق، دانشنامه علائي، منشورات جامعة بوعلي سينا، همدان، 1383 ش.

6. ابن سينا، والطوسيّ، نصير الدين ،شرح الإشارات والتنبيهات ،منشورات البلاغة، قم، 1375ش.

7. ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،بدون تاريخ .

8. ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، منشورات أدب الحوزة، قم، 1405 ق.

9.أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلاميّة، القاهرة، بدون تاريخ .

10. أحمدي، أحمد، نظرية بداهة مبدأ الهوهويّة [ بالفارسية: نظريه بداهت اصل هوهویت]، طهران، 1389 ش.

11. إدواردز ،بول، براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، نقله إلى الفارسية: على رضا جمالي نسب، ومحمد محمد رضائي ، منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، قم، 1371 ش.

12.أرسطو منطق أرسطو، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، القاهرة .

13. آرون ريمون المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ،نقله إلى الفارسية: بقر برهام، منشورات انقلاب إسلامي، 1370 ش.

14.أسس الفلسفة المسيحية؛

15. الأشعري، أبو الحسن ،الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق: عبّاس صباغ، دار الأنصار، مصر، 1397 ق.

16. الأشعري، أبو الحسين اللمع، تحقيق: عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي مسرور ، دار الكتب الحديثة ،القاهرة 1960م.

17. أمين ،أحمد، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1351 ق.

ص: 294

18.الإيجيّ، عضد الدين ،شرح المواقف، منشورات الشريف الرضي ، قم ، 1370 ش.

19 . باربور، إيان ،العلم والدين نقله إلى الفارسية: بهاء الدين خرمشاهي، منشورات دانشکاهي، طهران، 1362ش.

20. البحراني، السيّد هاشم ،البرهان في تفسير القرآن، منشورات مؤسسة إسماعيليان، قم، بدون تاريخ .

21.البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، المكتبة العصرية، بيروت، 1389 ق.

22. بدوي، عبد الرحمن ،موسوعة الفلسفة ،منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،1996م.

23. بشيري، أبو القاسم، مقالة : الاغتراب [ بالفارسية از خود بيگانگي]، مجلة معرفت، العدد 91، ص 72.

24.بطرسون ،مايكل، العقل والإيمان الدينيّ ،نقله إلى الفارسية: أحمد نراقي وإبراهيم سلطانين، منشورات طرح نو ، طهران 1376ش.

25. البغدادي، عبد القاهر ،أصول الدين ،دار الكتب، بيروت، لبنان.

26.البغدادي ،عبد القاهر ،الفرق بين الفرق ،نقله إلى الفارسية : محمد جواد مشکور ؛منشورات إشراقي، 1367 ش.

27. البغدادي، عبد القاهر ،مقالات الإسلاميين، منشورات دار الفكر، بيروت، لبنان .

28.بلانتينغا ،ألفن ،فلسفة الدين، الله والاختيار والشرّ، نقله إلى الفارسية: محمد سعيدي مهر ،منشورات مؤسسة طه الثقافية، 1376ش.

29. بوبر، كارل ،الحدس والإبطال ،منشورات شرکت سهامی انتشار، طهران، 1375 ش.

30. بوبر، كارل، منطق الكشف العلمي، نقله إلى الفارسية: أحمد آرام، منشورات سروش، طهرا،1370 ش.

31. بيش، إدغار ،فكر ،فرويد نقله إلى الفارسية: غلام علي توسّلي ،منشورات كتابفروشي سينا، 1332ش.

32. التفتازاني ،سعد الدين ،شرح المقاصد، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. .

33. التفتازاني ؛سعد الدين ،مختصر المعاني ،منشورات مكتبة إسلامي، بدون تاريخ.

34. تنهائي، حسين، مدخل إلى المدارس والنظريات في علم الاجتماع ، منشورات مرندیز، گناباد، 1374 ش .

ص: 295

35.توسّلي ،غلام حسين ،نظريات علم الاجتماع ،منشورات سمت ،طهران 1369 ش .

36. تیلیخ (تیلیش)، بول ،حيويّة الإيمان، نقله إلى الفارسية: حسين نوروزي، منشورات حکمت ،طهران.

37. جعفري، محمد تقي ،ترجمة نهج البلاغة وتفسيره ،منشورات دفتر نشر فرهنك إسلامي، طهرا، 1373 ش .

38. جهانگيري ،محسن ،ترجمة فرانسيس بيكون ومؤلّفاته ،منشورات شركة انتشارات علمي و فرهنگي طهران 1369ش.

39.الجوادي الآملي، عبد الله، ،أضواء على براهين إثبات الله ،منشورات إسراء، قم، 1385 ش.

40. الجوادي الآملي ،عبدالله الشريعة في مرآة المعرفة، منشورات مرکز فرهنگي رجا، طهران، 1372 ش .

41.الجوادي الآملي، عبدالله ،الهداية والضلال في القرآن الكريم ،منشورات إسراء، قم، 1386 ش.

42.الجوادي الآملي، عبد الله ، تحرير تمهيد القواعد، منشورات الزهراء، طهران، 1372ش.

43. جوادي، محسن، مدخل إلى الإلهيّات الفلسفيّة، منشورات معاونية أمور الأساتذة والدروس للمعارف الإسلامية، قم، 1369 ش.

44.جید شارل و جيست ،شارل تاریخ المذاهب الاقتصادية، نقله إلى الفارسية: سنجابي، جامعة طهران.

45. جيلسون ،إتيان ،العقل والوحي في القرون الوسطى ،نقله إلى الفارسية: شهرام پازوكي ،پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1371 ش.

46. جيمس، وليام، البراغماتية [بالفارسية: پراگماتیسم]، نقله إلى الفارسية: عبدالكريم رشيديان، منشورات آموزش انقلاب اسلامي، طهران، 1370 ش.

47. حسين زاده، محمد، أسس المعرفة الدينيّة، منشورات مؤسسة الإمام الخميني، قم، 1379 ش.

48.حسین زاده ،محمّد ،فلسفة الدين ،منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، قم، 1376 ش.

49. حسين زاده ،محمد ،نظرية المعرفة، منشورات مؤسسة الإمام الخميني، قم، 1377 ش.

50. الحليّّ ،الحسن بن يوسف ،كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ،منشورات مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ق.

51.الحلّي ،الحسن بن يوسف ،مجموعة رسائل كشف الفوائد في شرح القواعد، منشورات مكتبة المرعشيّ النجفيّ، قم.

ص: 296

52. الحلّيّ، جمال الدين، أنوار الملكوت في شرح الياقوت، تحقيق: محمد زنجاني، منشورات الرضي ،قم، 1373 ش.

53. خرمشاهي ،بهاء الدين ،الله في الفلسفة ،منشورات پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1384 ش.

54. خسروپناه ومهدي عبداللهي، ماهية الكلام الجديد [بالفارسية: چيستي كلام جديد]، فصليّة« اندیشه نوين ديني».

55. خسروپناه، عبد الحسين، الكلام الجديد، مرکز مطالعات و پژوهشهای فرهنگی حوزه علمیه قم، 1379 ش.

56.خسروپناه ،عبد الحسين ،المسائل الكلاميّة الجديدة وفلسفة الدين ،منشورات جامعة المصطفى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، قم، 1388 ش.

57. خسروپناه، عبدالحسين، توقعات الإنسان من الدین، پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامي 1381 ش .

58. خسروپناه ،عبدالحسين ،دراسة في التيّارات المضادّة للثقافة ،منشورات التعليم والتربية الإسلامية ،قم، 1389ش.

59. خسروپناه ،عبدالحسین ،مبادئ علم الكلام ومصادره، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم.

60. خسروپناه، عبد الحسين ، مقالة «قابلية الدين للقراءات، دراسة في الُبنى التحتيّة »، مجلة قبسات ،العدد 23 .

61. الخميني، السيّد روح الله ، آداب الصلاة، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، طهران، . 1380 .ش

62. الخميني ،السيّد روح الله، حديث جنود العقل والجهل ،مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1377 ش .

63. الخميني، السيّد روح الله ، شرح الأربعين حديثاً، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران 1375 ش .

64.الخميني، السيّد روح الله ، صحيفة الإمام ، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1375 ش .

65.الخوارزمي، تاج الدين، شرح فصوص الحكم، منشورات مولی، 1368ش.

66. داوري اردكاني ،رضا ،المطهّريّ وعلم الكلام الجديد ،في ذكرى العلّامة الشهيد المطهريّ

ص: 297

[بالفارسية: يادنامه استاد شهید مرتضی مطهري]، ج 2، سازمان انتشارات و آموزش انقلاب إسلامي، 1363 ش.

67 . دائرة معارف التشيع، ج 2، مدخل «الإيمان».

68. دريابندري ،نجف ،آلام اللاانتمائية [بالفارسية : درد بي خويشتني]، منشورات پرواز، 1369 ش.

69. ديفيس ،ستيفين، مقالة عكس تيّار الإيمان اللاواقعيّ النسخة المترجمة للفارسيّة، مجلّة كيان ،العدد 52 ، ص 45 .

70. ديلمي، أحمد، دليل النظام ؛ دراسات في الطبيعة والحكمة ،منشورات معاونية أمور الأساتذة والدروس للمعارف الإسلامية، قم، 1376 ش .

71. دیورانت ،ویل ،مباهج الفلسفة ،نقله إلى الفارسية : عباس زرياب، سازمان انتشارات و آموزش انقلاب إسلامي.

72.الرازيّ ،فخر الدين ،التفسير الكبير، بدون تاريخ .

73. راسل ،برتراند ،الدين والعلم (النسخة المترجمة للفارسية )، منشورات كتابفروشی دهخدا ،1353 ش .

74.رجبي، محمود، معرفة الإنسان، منشورات مؤسسة الإمام الخميني، قم، 1379 ش.

75. رفیع بور، فرامرز ،تشريح المجتمع [العنوان بالفارسية : آناتومي جامعه]، منشورات شركة سهامي انتشار طهران 1378 ش .

76. ریشنباخ ،هانس ،ظهور الفلسفة العلمية، نقله إلى الفارسية: موسى أكرمي، منشورات شركة انتشارات علمي و فرهنگي، طهران، 1371 ش.

77. زيتلن، إيرفينغ، مستقبل مؤسّسي علم الاجتماع ،نقله إلى الفارسية: غلام عباس توسلي ،منشورات قومس ،طهران 1373 ش .

78.سالاي ،فیلسیان ،فرويد والفرويديّة [ النسخة المترجمة إلى الفارسيّة ] ، نقله إلى الفارسية : إسحاق وكيلي ،طهران 1355 ش .

79. السبحانيّ، جعفر، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ،منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1409 ق.

80. السبحانيّ، جعفر، كليات في علم الرجال، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام) للتعليم والبحوث، قم 1390 ش.

ص: 298

81. السبحانيّ، جعفر، مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم، 1375 ش.

82. السبحانيّ، جعفر، مفاهيم القرآن [ النسخة الفارسيّة : منشور جاويد]، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم، 1375 ش.

83. السبزواري، هادي بن محمّد، أسرار الحكم، مطبوعات ديني، قم، 1383 ش.

84.السبزواري، هادي بن محمّد ، شرح المنظومة، منشورات ناب، طهران، 1369 ش.

85. ستور، أنطوني ،فرويد، نقله إلى الفارسية: حسن مرندي ،منشورات طرح نو، طهران، 1375 ش .

86.سروش، عبد الكريم ، مقالة الصراطات المستقيمة بالفارسية، مجلّة كيان، العدد 36 ،ص 9.

87 . سروش ،عبدالکريم، الصراطات المستقيمة [ النسخة الفارسية بعنوان: صراط هاي مستقيم] ،منشورات مؤسسة الصراط الثقافية طهران 1376ش.

88. سروش، عبدالكريم، القبض والبسط في الشريعة [ النسخة الفارسية بعنوان: قبض وبسط تئوريك شریعت] منشورات مؤسسة الصراط الثقافية ،طهران 1368ش.

89 .سروش ،عبدالکریم ،بسط التجربة النبوية ،منشورات مؤسسة الصراط الثقافية، طهران، 1378ش.

90 .سروش ،عبدالكريم ،معرفة العلم الفلسفيّة، منشورات مؤسسة الصراط الثقافية، طهران، 1388ش.

91. سليماني، عسكري، نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله ،منشورات بوستان کتاب، قم.

92. السهروردي ،يحيى بن حبش ، حكمة الإشراق، منشورات پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1373 ش .

93. السيوريّ، المقداد، إرشاد الطالبين إل نهج المسترشدين ،مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405 ق. .

94. شاكرين ،حميد رضا ،براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون ها سبرز ،منشورات مؤسسه فرهنگي دانش و اندیشه معاصر، 1385.

95. شبّر ،السيّد عبدالله ،حقّ اليقين ،منشورات علمي طهران ،1334 ش .

96. شریف، میان محمد، تاريخ الفلسفة في الإسلام ،نقله إلى الفارسية: نصر الله جوادي، إسماعيل سعادت، منشورات مرکز نشر دانشگاهي، 1370 ش.

97. الشهرستاني ،عبد الكريم ،الملل والنحل ،منشورات الرضي، قم، 1367 ش.

ص: 299

98.الشيرازيّ ،صدر الدين ،الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1419 ق.

99. الشيرازي ،صدر الدين ،الشواهد الربوبيّة ،تصحيح: سيد جلال الدين الآشتياني، منشورات جامعة مشهد، 1346 ش.

100. الشيرازيّ، صدر الدين ،تفسير القرآن الكريم، منشورات مولی، طهران، 1380 ش.

101.الشيرازيّ ،صدر الدين ،مجموعة الرسائل الفلسفيّة ،تحقيق وتصحيح: حامد ناجي اصفهاني ،منشورات حکمت طهران ،1375 ش.

102.الشيروانيّ، عليّ ، دراسات الفطرة الإنسانية في الإلهيّات الفطرية، منشورات معاونية أمور الأساتذة والدروس للمعارف الإسلامية، قم، 1376 ش.

103.صادقي ،هادي ،مقالة: مواجهة مع ماكي في مقالته الشرّ والقدرة المطلقة ،مجلة كيان ،السنة 3 العدد 17 .

104. صبوري ،منو تشهر ، مبادئ علم الاجتماع، منشورات ني طهران.

105. الصدر، السيّد محمّد باقر ،اقتصادنا ،دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1400 ق.

106.الصدوق (ابن بابويه)، محمّد بن عليّ، الأمالي، منشورات أرمغان طوبى.

107.الصدوق (ابن بابويه)، محمّد بن عليّ ،التوحيد منشورات جامعة المدرسين، قم.

108.الصدوق (ابن بابويه)، محمّد بن عليّ ،علل الشرائع ،منشورات مؤمنين، قم، 1382ه ش.

109.الطباطبائي، محمّد حسين ،الشيعة في الإسلام ،منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، 1348ش.

110.الطباطبائي، محمّد حسين ،الميزان في تفسير القرآن ،منشورات مؤسسة إسماعيليان، 1394ش.

111.الطباطبائي، محمّد حسين، نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1364 ش.

112. طهماسبي ،عليّ ،الهاجس الأخير، منشورات یادآوران طهران، 1379 ش.

113. الطوسيّ، محمّد بن الحسن، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد، منشورات دار الأضواء، بيروت، 1986م.

114.الطوسيّ، محمّد بن الحسن ،الرسائل العشر، منشورات مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1414 ق.

115.العاملي، الحرّ، وسائل الشيعة، المكتبة الإسلاميّة، طهران، 1403 ق.

ص: 300

116.العاملي، زين الدين ،حقائق الإيمان، تحقيق: مهدي الرجائي، مكتبة المرعشي النجفي .

117.عبودیت، عبدالرسول ،النظام الفلسفيّ لمدرسة الحكمة المتعالية [ بالفارسية : درآمدي به نظام حکمت متعالیه ]،منشورات سمت ومؤسسة الإمام الخمينيّ، 1386 ش.

118. العروسيّ الحويزيّ، عبد علي بن جمعة، تفسير نور الثقلين، مطبعة العلمية، منشورات نور الثقلين، قم، بدون تاريخ .

119.العشّاقي الإصفهانيّ، حسين، براهين الصديقين، قم، 1387 ش.

120.علم الهدى، السيّد المرتضى ،الذخيرة في علم الكلام ،مؤسسة النشر الإسلامي، 1400 ق.

121.غاردييه، لوي ،مقال «الإيمان في الموروث الإسلامي»، ترجمه إلى الفارسية كامران فاني ،مجلة كيان العدد 52 ، ص 18 .

122. الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ.

123.الغزالي، أبو حامد، جواهر القرآن، منشورات المركز العربي للكتاب، دمشق، 1411 ق.

124.غيدنز، أنطوني، دوركايم نقله إلى الفارسية : يوسف اباذري، انتشارات خوارزمي ،طهران 1367 ش .

125.الفارابي، محمّد بن محمّد، إحصاء العلوم، انتشارات علمي و فرهنكي، طهران.

126. الفارابي، محمّد بن محمّد، المنطقيات ،مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1408 ق.

127.فرامرز قراملكي، أحد ، موقف العلم والدين في خلق الإنسان، منشورات مؤسسة آراية الثقافية، 1373 ش.

128.فروغي، محمّد علي، مسيرة الحكمة في أوروبا، انتشارات زوار ،طهران 1366 ش.

129.فروم، إريك، الدين والتحليل النفسيّ، نقله إلى الفارسية: آرسن نظريان، منشورات پویش.

130. فروید، سيغموند ،التحليل النفسي للجميع، نقله إلى الفارسية هاشم رجبي، منشورات کاوه.

131.فروید، سيغموند ،الطوطم والمحرّم، نقله إلى الفارسية : ایرج پورباقر، منشورات آسیا ، 1362ش.

132.فروید، سيغموند ،مستقبل وهم ،نقله إلى الفارسية: هاشم رضي، منشورات كاوه، 1340 ش.

133.الفيض الكاشاني، محسن ،المحجة البيضاء ،انتشارات اسلامي، 1373 ش.

ص: 301

134.الفيض الكاشاني، محسن، تفسير الصافي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1402 ق.

135.قرائتي، محسن، تفسير النور، مرکز فرهنکي درسهايي از قرآن 1376 ش .

136.القوشجي، علي بن محمّد، شرح تجريد الاعتقاد، الطبعة الحجرية.

137.القونويّ، صدر الدين، إعجاز البيان في تأويل القرآن، منشورات بوستان کتاب، قم.

138. القيصريّ الروميّ، داوود، شرح فصوص الحكم باهتمام سید جلال الدين الآشتياني ،انتشارات علمي فرهنكي، 1357ش.

139. کابلستون، فردريك، تاريخ الفلسفة، انتشارات علمي فرهنكي، 1375ش.

140. کارناب ،رودلف، مدخل إلى فلسفة العلوم، نقله إلى الفارسية : يوسف عفيفي، مركز نشر دانشگاهي طهران، 1369 ش.

141.الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي، انتشارات علمیه اسلامیه، بدون تاریخ .

142.کمپاني ،فضل الله ،ماهيّة الدين ومنشأه ،منشورات فراهاني ،بدون تاريخ .

143.کوهن، توماس، بنية الثورات العلميّة، نقله إلى الفارسية: سعید زیباکلام منشورات سمت.

144.لازي، جون ،مدخل تاريخيّ إلى فلسفة العلم، نقله إلى الفارسية :علي ،پایا ،منشورات سمت 1389 ش .

145.اللاهيجيّ ( الفيّاض)، عبدالرزاق، شوارق الإلهام، مكتبة الفارابي، طهران، 1401 ق.

146. ماكي، مقالة الشرّ والقدرة المطلقة، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان، السنة الأولى ، العدد3.

147.مجتهد شبستري ،محمّد ،هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة [ بالفارسية: هرمنوتيك كتاب وسنّت]، منشورات طرح نو، طهران، 1375 ش.

148. المجلسيّ، محمد باقر، بحار الأنوار، انتشارات الوفاء، بيروت، 1983م.

149.مزلو، إبراهام، الدوافع والشخصيّة، نقله إلى الفارسية: أحمد رضواني، منشورات آستان قدس رضوي مشهد 1372 ش.

150.مصباح اليزدي ،محمّد تقي ،المنهج الجديد في تعليم الفلسفة (النسخة الفارسية)، منشورات سازمان تبليغات إسلامي، طهران، 1373ش.

151.مصباح اليزدي، محمد تقي ،دروس في العقيدة الإسلامية (النسخة الفارسية)، منشورات سازمان تبليغات إسلامي، طهران، 1364 ش.

152.مصلح ،علي أصغر، تاريخ الهيومانيزمية ورؤية هايدغر بشأنها، مجلة نامه فرهنك، السنة الرابعة، العدد 4 .

ص: 302

153.المطهّريّ، مرتضى، الأعمال الكاملة (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران، 1378 ش.

154.المطهّريّ ،مرتضى ،التوحيد (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران، 1374ش.

155.المطهّريّ، مرتضى ،الدوافع نحو المادّيّة (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا.

156.المطهّريّ، مرتضى ،العدل الإلهيّ (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران، 1377 ش.

157. المطهّريّ، مرتضى ،العدل الإلهيّ ، مرتضى المطبوع ضمن الأعمال الكاملة .

158.المطهّريّ ،مرتضى ،الفطرة (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران 1369ش.

159.المطهّريّ، مرتضى، حول الجمهورية الإسلامية مرتضى [ النسخة الفارسية: پيرامون جمهوري إسلامي]، منشورات صدرا، طهران، 1384ش.

160.المظفّر ، محمد رضا ،المنطق، تعليقات :غلام رضا الفياضي ،مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1421 ق.

161.المعتزلي، القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، الدار المصرية ، القاهرة.

162.المعتزلي، عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة ،تحقيق :عبد الكريم عثمان، انتشارات وهبة، بیروت، 1408 ق.

163.معين، محمّد، فرهنگ فارسي، مؤسسة انتشارات امير كبير، طهران، 1371 ش.

164.المفيد، محمّد بن محمّد ،النكت الاعتقاديّة، دار المفيد، بيروت، 1414 ق.

165.مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل، منشورات مدرسة أمير المؤمنين، مطبوعات هدف، قم.

166. مکارم الشيرازيّ، ناصر، نفحات القرآن [ النسخة الفارسيّة پیام قرآن] منشورات مدرسة أمير المؤمنين، مطبوعات هدف ،قم، 1373 ش.

167. النراقيّ، محمد مهدي، أنيس الموحّدين، تصحيح: القاضي الطباطبائي، منشورات الزهراء، طهران، 1363 ش.

168.نصري، عبد الله ،أسس معرفة الإنسان في القرآن الكريم، منشورات مؤسسه فرهنگي دانش و اندیشه معاصر، 1379 ش .

169. النوري، ميرزا حسن، مستدرك الوسائل، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1404 ق.

170. نوس، جون بي، أديان الإنسان، نقله إلى الفارسية: علي أصغر حكمت، منشورات آموزش انقلاب إسلاميّ، طهران.

ص: 303

171. هاميلتون، مالكولم، علم الاجتماع الدينيّ، نقله إلى الفارسية: محسن ثلاثي، مؤسسة تبيان للثقافة النشر، طهران 1377 ش .

172.هيك، جون، فلسفة الدين ،نقله إلى الفارسية :بهرام راد ،انتشارات الهدى ،طهران 1372ش.

173. هيك، جون ،مباحث التعددية الدينيّة ،نقله إلى الفارسية: عبد الرحيم كواهي ،مؤسسة تبيان للثقافة النشر، طهران 1378 ش .

174.وینرایت ،ویلیام، مقالة : قضيّة الشرّ ، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان، السنة 3 ، العدد 17 ، ص 34 .

175. يثربي، يحيى ،العرفان النظريّ، منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، قم، 1372 ش.

176.يحيى بن الحسين ،رسائل العدل والتوحيد، دار الهلال 1971 م.

177. E.Robertson. The Sociological Interpretation of Religion Oxford: Black well, 1976)

178. F.Copleston, A History of philosophy. V.

179. G. Patrovic, "Alienation", The Encyclopaedia of Philosophy, Paul

Edwards (ed), New York, Macmillan Publishing, 1972, Vol.1.

180. Herbert, Nick, Quantum Reality: Beyond the new Physics (New

York: Doubleday, 1985).

181. M.Weber. The sociology of Religion London: Methuen.1965.

182. Routledge, Encyclopaedia of Philosophy, Religious Pluralism, Gen-

eral Editor: Edward Cralg, London and New York, 1998, Vol. 8.

183. W. James, The varieties of Religious Experience. New York: Col-

lier Macmillan 1961.

ص: 304

هذا الكتاب

"الإمامة " قضيّة مطروحة على بساط

البحث منذ القرون الإسلامية الأولى، وهي

نقطة الخلاف المركزية بين الفريقين، من

الشيعة وأهل السنة.

وقد ألّف في القرون الأولى المخالفون لنظرية

الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية كتباً في

الردّ على الإمامة، وكتب علماء الإماميّة

أيضاً مصنّفات تدافع عن هذه النظرية.

المرة الإسلام للدراساتت الاشتر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 305

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.